? المنهج التعليمي دائر بين الجانب التربوي ذي المنحى العاطفي ، والجانب المعرفي ذي المنهج الفكري ، والمفترض تكامل الجانبين معاً خاصة لمراحل التعليم ما دون الجامعة ، لكن بعض القضايا تحتاج تكثيفاً لأحد هذين الجانبين ، وقضية الوطنية والمواطنة تحتاج لتكثيف الجانب العاطفي فيها الذي يجعل الناشئ يشعر أن وطنه هو بيته ، هو أهله ، وأن تفريطه بحقه تضييع لملكه ولأهله وبيته ، لنأخذ مثلاً هذه الطرفة التي يقال فيها: إن مدرساً في بريطانيا كان يستخدمها في تدريس طلابه في مادة الجغرافيا ؛ حيث كان يربط ذلك بحركة بريطانيا الاستعمارية ، مثلا يقول: هذه الدولة استعمرها أجدادكم وأعطوها وأخذوا منها ، وهذه الدولة لم تستعمرها بريطانياً ولذا فهي تنتظركم مستقبلاً …
ويحسن بنا في مجال (العاطفة) أن نعي اللون العاطفي الذي يبنيه الإسلام في نفوس المسلمين من خلال ربط المسلم بقضايا الوجود الكبرى ، أمانة العبودية، والخلافة في الأرض ، والسيادة على الكون حيث تتراجع بعناصر أخرى تبدو لدى غير المسلم لها اعتبارها مثل الأشياء الفلكلورية ، والمقتنيات الحفرية معدنية وفخارية ونحوها حيث تبدو تافهة لدى المسلم ، ويعتبر الانشغال بها تلهياً بالذي هو أدنى عن الذي هو خير ولهذا فإن تكريس الوطنية ومن ثم المواطنة من خلال هذه الأشياء وضع للأشياء في غير مواضعها الصحيحة وإيراد للإبل في غير مواردها .
? لا بد لتبني التربية مواطنة إيجابية لدى الناشئة من الارتباط بالواقع القائم ارتباطاً معرفيا ، وحركياً.
• لابد من التشريع للمتضمنات العملية للمواطنة ، في المشاريع التنموية ، في الجندية ، في الرعاية الاجتماعية ... إلخ .
• ثم لا بد من التعريف بهذه المتضمنات وبأنظمة الدولة ومؤسساتها بما يجعل الناشئ يعايش وطنه .
• ومثل ذلك الارتباط الميداني - زيارات - مثلاً - لإمارة المنطقة ، لبعض المؤسسات - أفلام عن خطط التنمية الوطنية .
• أيضاً كشف العطاء وتمجيده ، سواء كان عطاء الدولة للشعب ، أو كان عطاء المواطنين لوطنهم على أن يكون صادقاً.
• هناك جانب مهم في هذا الشأن يتمثل في التعامل غير الواقعي مع متغيرات الزمن ، إننا نتحدث كثيراً عن الأمن في بلادنا وتفوقه على كل بلاد العالم وربما نقارن بما كان قبل توحيد المملكة من النهب والسلب والقتل ، ونذكر الصورة المثالية في الأمن حيث يظل الكيس في البرية شهوراً لا يمسه أحد نتيجة الانضباط الأمني ، مع أننا ندرك أن هؤلاء الشباب يعيشون ، وضعاً ليس بهذه الصورة وأن سرقات السيارات والبيوت ، وعجز الاجهزة عن ضبط كثير من هذه الحالات ، وكثرة ظاهرة القتل موجود ويدركه هؤلاء .
إن المنطق السليم يقضي بأن نعترف بأن الأوضاع قد تغيرت وتعقدت وتوسع المجتمع ، وأن نبين إيجابية الأجهزة الأمنية في الحدود المعقولة والصحيحة ، حتى لا تنغلق العقول عن قبول التبريرات والأمجاد التي نذكرها لهم .
? المواطنة والولاء للأمة المسلمة :
هل (المواطنة) في منظورها الإسلامي أو بتعبير أوضح هل اجتماعية المسلم في إطار دولته مناقضة لولائه لأمته الإسلامية ووحدتها ؟
أو حتى مُشغلة عن السعي لها ، أو ما دون ذلك أنها لا تمثل بعض وسائل تحقيقها؟ إننا حينما نتجاوز الصراع بين المتقابلات المفترضة (مجتمع - أمة - مثلاً) وعندما نتحرر من ردة الفعل تجاه معطيات العصر الوافدة نجد أن المعاني التي يجمعها كونها آداب مجتمع متجانس ، أو حقوقاً لمواطنين في بلد واحد مثل :
• النظرة الإنسانية للآخرين في كرامتهم الأولية ، فضلاً عن أخوتهم الإسلامية .
• صيانة حقوق الناس دماءً وأعراضاً وأموالاً وبيوتاً .
• حفظ الممتلكات العامة والمنافع المشتركة من التدمير أو الإتلاف .
• التعاون المشترك بين الدولة والرعية على تحقيق المصالح الشرعية لأهل البلد.
• تحقيق الدولة للعدالة والشورى ، وتطبيق الشريعة في شؤون الحياة .
• التزام المواطنين بالبيعة لحاكمهم المسلم وطاعته في غير معصية الله .
• الدفاع عن الوطن والاستشهاد في سبيل الله ذوداً عنه ودفعاً لأهل الشر عن احتلاله .
• صيانة المكتسبات الشرعية في تطبيق الإسلام ودعمها والارتقاء بها ... إلخ.
نجد أنها مطالب شرعية قررها الدين قبل دعوات الداعين لها كفاراً أو مسلمين، فهي دائرة بين واجبات بنص القرآن والسنة ، وبين مطالب تقتضيها المصالح الشرعية ، وكلها وسائل مدعمة لمطلب وحدة الأمة إذا ما قامت مثل هذه (المواطنة) في مجتمعات المسلمين ، والتقصير في شيء منها هو تعويق لوحدة الأمة وتحقق وجودها الأفضل .(49/205)
إن من أسباب النظرة التخوفية من مسائل المواطنة ، ومن الاهتمام بقضايا المجتمع الذي يعيش فيه المسلم حدة مواقف القوميين ودعاة الوطنية الضيقة الذين تحولت عندهم إلى عصبية منافرة للإسلام وإلا فإن أولئك الدعاة الرافضين للوطنية والقومية بمفاهيمها العلمانية الغربية يعلنون أنهم لا ينكرون ما للأهل والعشيرة والأوطان من حقوق في رقاب أهلها؛ يقول المودودي بعد دحضه فكرة القومية الوطنية المنابذة للدين (ولكن لا يوهمنك ما قلنا إلى الآن أن الإسلام قد نفى كل العلاقات المادية والإنسانية بين أبناء النوع البشري وقطعها قطعاً باتاً . كلا ، فإنه قد أمر بصلة الرحم وشدد في النهي عن قطعها ، وأمر بطاعة الوالدين وبرهما والإحسان إليهما ، وأجرى الوراثة بين ذوي الأرحام وفضل ذوي القربى على غيرهم في الصدقات والبذل والإنفاق ، وأمر بالذود عن الأهل والمال والبيت، وأمر بقتال الظالم ، وقال : من قتل دون ماله وعرضه ، فهو شهيد ، وأمر بالبر لكل إنسان بدون الاعتبار بدينه ، والإحسان إليه وحسن التصرف معه في جميع شؤون الحياة . ولا يمكن أن يستخرج من أي حكم من أحكامه أنه ينهى عن خدمة الوطن وحفظه أو عن مسالمة الجار غير المسلم وبره ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة 8 .
فكل هذا من الاعتبارات الفطرية للعلاقات المادية وقد أباحها الإسلام وحث عليها المسلمين) (30) .
وقد يكون من أسباب التخوف أيضاً ما استقطب القوميون العرب إليه الإسلاميين في مواجهة الأولين لتيار الصحوة الإسلامية وهو مشكلة الأقليات غير المسلمة في بعض المجتمعات الإسلامية، والتلويح بها في وجه المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية بحجة أن في هذا هضماَ لحقوقهم وتفريقاًَ بين أهل الوطن الواحد، وهو الاستقطاب الذي على الرغم من وضوح عدم صدق القوميين في طرحه لأن دعوتهم القومية لم تراع حقوق الأقليات غير العربية ولم تكترث بها بل دعا بعضهم إلى إدماجهم بالقوة -على الرغم من ذلك - فقد انساق مجموعة من الكتاب الإسلاميين معهم فصارت قضية المواطنة لديهم محصورة في (حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي). ومع أننا لا نشك في حسن نواياهم ولا في جدية كثير من الاجتهادات التي قدموها في هذا المجال إلا أن هذا الانسياق جعل قضية المواطنة محصورة في فهم كثير من الناس في قضية الأقليات غير المسلمة ، ثم إنه شغلهم عن القضية الأصل وهي حقوق الأكثرية الساحقة وهم المسلمون الذين يبلغون أحياناًَ التسعين أو الخمسة والتسعين أو الثمانية والتسعين أو حتى المئة في المئة في بعض الدول كالمملكة العربية السعودية مثلاً.
وقد يكون التخوف آتياً من اللفظ الذي ارتبطت به هذه القضايا وهي لفظ (المواطنة) حذراًَ من تصور الوطن نفسه مصدر تلك الحقوق بجعله إلها مشرعاً بديلاً ، والحق هنا أن الوطن مجرد وعاء يجمع الناس ويتبادلون في إطاره تلك الحقوق والواجبات ، أما مصدرها فهو شيء آخر ؛ فلسفة ، أو دين ، يعيشه أفراد ذلك المجتمع ؛ فالمواطنة في الغرب ترتد إلى الفلسفة الليبرالية التي يمثل فيها الفرد وحدة مستقلة ، لحقوقها الاعتبار الأعلى وأهمها الحرية التي ينبغي أن تصان ما لم تكن خطراً على حريات الآخرين ، وعلى هذا تقوم النظم الديمقراطية ، أما في الإسلام فمصدر الواجبات والحقوق المتبادلة في المجتمع المسلم هو الإسلام بما وضعه من قيم خلقية ، وأحكام تعاملية بين الأفراد أو بين الحاكم والمحكوم .
أما تصور أن المواطنة تعني إقامة نمط من العلاقات الخاصة في وطن محدد يؤدي إلى انعزاله عن أمته الإسلامية وهمومها فهذا غير صحيح ؛ إذ إن موجهات الإسلامية التوسعية أسرة فعشيرة فمجتمعاً فأمة تمنع هذا ، بل أكثر من ذلك تجعل واجبات وحقوق الدائرة الأدنى صاعدة بالناس نحو ما فوقها من دوائر ، والتكامل البنائي الإسلامي في مجتمعَينِ من مجتمعات المسلمين يؤدي تلقائياًَ إلى تماثلهما ومن ثم تقاربهما وتوحدهما في المسار الحضاري ، وهذه أوربا بقومياتها الوطنية الضيقة استطاعت أن تذيب ما بينها من جليد وأن تتوحد شيئاً فشيئاًَ (31).
والله الموفق ،،،
الهوامش
1- أبو الحسن الندوي - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين212 .
2- المصدر السابق .
3- انظر محمد العدناني - معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة 725.
4- مفهوم المواطنة في الدولة القومية. على الكواري - مجلة المستقبل العربي عدد 2 - 2001 ص 66.
5- ما كيفر تكوين الدولة نقلاً عن الكواري - مصدر سابق (117) .
6- هاني لبيب في تعليق على كتاب (مبدأ المواطنة) المستقبل العربي مايو 2000 ص 245 .
7- انظر عبد الوهاب الأفندي - إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية- مجلة المستقبل العربي - عدد 2 -2001 ص 152 .
8- وقد تابعه على ذلك بعض المفكرين العرب - انظر الأفندي مصدر سابق 144.
9- الأفندي مصدر سابق 145.
10- المواطنة في زمن العولمة - السيد يس 21.(49/206)
11- رواه البخاري ومسلم والترمذي - جامع الأصول 6/561-564 والذي قبله رواه البخاري ومسلم - جامع الأصول 6/537.
12- فتح القدير للشوكاني 2/329.
13- أخرجه البخاري ومسلم ، جامع الأصول 6/547 .
14- رواه البخاري صحيح البخاري كتاب الإيمان 1/20.
15- أخرجه الترمذي مفرقاً وجمعه صاحب جامع الأصول قال محققه حسن 6/563.
16- السلوك الاجتماعي في الإسلام - حسن أيوب - 366.
17- حديث صحيح أخرجه الترمذي وأبو داود - جامع الأصول 6/669 .
18- رواه البخاري والترمذي - جامع الأصول 6/568 .
19 - متفق عليه وهو عند البخاري في كتاب الجنائز 2/70 ، وكتب السلوكيات الاجماعية تبسط هذه الحقوق المتبادلة كثيرا- انظر مثلاً السلوك الاجتماعي في الإسلام - حسن أيوب - الطهر العائلي - عبد الرحمن الزنيدي .
20- رواه مسلم والترمذي وغيرهما - جامع الأصول 1/498 .
21- رواه مسلم - الإمارة - فضيلة الإمام العادل .
22- قال في جامع الأصول أخرجه الجماعة إلا الموطأ 8/420.
23- فتح الباري - ابن حجر العسقلاني 3/357 .
24- رواه البخاري - كتاب الأحكام الباب الأول .
25- فتح الباري 13/113 .
26- رواه البخاري ومسلم وغيرهما - جامع الأصول 4/54.
27- انظر محمد المبارك - نظام الإسلام - الحكم والدولة 86 .
28- رواه البخاري ومسلم وغيرهما - جامع الأصول 11/569 .
29- رواه البخاري ومسلم وغيرهما - جامع الأصول 4/546.
30- أبو الأعلى المودودي - طائفة من قضايا الأمة الإسلامية 32 .
31- المواطنة ومفهوم الأمة الإسلامية - عبد الرحمن الزنيدي- بحث تحت النشر - 29-31.
================(49/207)
(49/208)
هل خدعهم حسن الصفار ؟!
تعليقة على الندوة التي ألقاها حسن الصفار في أحدية راشد المبارك بتاريخ 5/صفر/1422هـ،
تحت عنوان : "السِّلم الاجتماعي".
سليمان بن صالح الخراشي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
يأسف المسلم كثيراً عندما يجد بعض المثقفين المنتسبين لأهل السنة لازالوا منخدعين بقضية التقريب مع الشيعة، متوهمين إمكانية تحقيق هذا التقارب، متجاهلين الجهود القديمة الضائعة التي بذلت لتحقيق هذه الغاية من آخرين غيرهم، لكن دون جدوى.
والسبب أن جميع من ولج هذا الباب وتمنى الأماني من خلاله يغفل عن (عقيدة) راسخة في دين الشيعة؛ هي عقيدة التقيه التي ينقلون عن أئمتهم في تعظيمها قولهم: "لا إيمان لمن لا تقية له"(1)! أو قول أحدهم: "التقية من ديني ودين آبائي"(2)
والتقية تعني في اصطلاح القوم موافقة أهل السنة في الظاهر -عندما تكون الغلبة لهم- أي لأهل السنة-، ومخالفتهم في الباطن.
ولا زال الخلوف منهم يمارسون هذه العقيدة كما تلقوها من أسلافهم، ولا زال بعض مثقفينا ينخدع بهم ويجري خلف سراب التقارب(3) رغم افتضاح هذه العقيدة وانكشافها، ورغم المكايد المتتالية منهم لأهل السنة على مر العصور.
ومن آخر ما اطلعت عليه في هذا المجال انخداع ثلة من مثقفينا بأحد رموز الشيعة المعاصرين في بلادنا؛ وهو المدعو (حسن الصفار)، حيث قام الصفار -هداه الله- بإلقاء محاضرة عن (السِّلم الاجتماعي) في ندوة راشد المبارك بالرياض في يوم 5/صفر 1422هـ(4). ملخصها: أن الإسلام يدعو إلى السِّلم، وأنه لا استقرار ولا أمن إلا بهذا السلم، لكافة أفراد المجتمع مهما كانت دياناتهم أو مذاهبهم! فالواجب -في نظره- أن يكف كل فريق عن الآخر ولا يفرض عليه مذهبه أو توجهه، إنما يعيش الجميع في وئام وتعاون! (5) ثم يختم محاضرته بقوله: "ولا يصح أبدًا أن تُترك الساحة للجهات الساذجة أو المغرضة لتذكي أوار الفتن والخلافات، وتسمم الأجواء بالكراهية والحقد.." (6)
وكل هذا الذي سبق لا يهمني الآن!؛ لأن الرجل ما دام يظن أنه وطائفته في مرحلة ضعف في هذه البلاد وأن الغلبة والسلطة ليست لهم فإنهم لابد حينئذٍ سيدندنون حول مفاهيم "السلم" و"التسامح" ..الخ ! (7)؛ لأن هذه المفاهيم تمكنهم -في حال انتشارها- من الحفاظ على مكاسبهم دون مخاوف أو مصاعب(8) إنما الذي يهمني ولأجله أنشأت مقالي هذا: هو ما جاء في المداخلات التي تلت المحاضرة؛ حيث سئل الصفار عن مسألة سب الشيعة للصحابة -رضي الله عنهم-، فأجاب: "لو رجعنا إلى ما ورد في مذهب أهل البيت، الإمام علي في خضم معركة صفين يمر على جماعة من أصحابه يسبون معاوية وأهل الشام، فيقف عليهم ويقول: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين … إلى أن يقول الصفار: والعلماء الواعون المخلصون يحاربون هذا الأمر، ولكن كما في الكثير من المجتمعات غالباً ما يكون أمر الشارع، وأزمة الرأي العام ليسا بأيدي الواعين المخلصين، بل بأيدي من يستفيدون من هذا الأمر لتكريس مواقعهم ونفوذهم. ولكن في العصر الراهن هناك العديد من علماء الشيعة، بل أكثر علماء الشيعة، يصرحون بهذا الأمر، ويدعون أبناء الشيعة إلى تجاوز هذه السلبيات الخاطئة والمفرِّقة.
والاحتجاج بما في بعض كتب الشيعة، ليس احتجاجاً تاماً، لأننا نعترف بأن في تراثنا أخطاء وثغرات، ونقاط ضعف. الآن كأمر واقع، هناك ثورة، هناك معارضة لمثل هذه التوجهات، وتنقية لمثل هذه التوجهات، نأمل أن نوفَّق جميعاً لتجاوز هذه الأخطاء والثغرات، وأن نستفيد من "أهل البيت" ومن صحابة الرسو صلى الله عليه وسلم . وبالمناسبة، كتاب الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين علي بن الحسين، وهو كتاب معروف ومنتشر بين الشيعة، فيه دعاء من الأدعية حول الصحابة، في الثَّناء على أصحاب الأنبياء ومدحهم، والصلاة عليهم، والاستغفار لهم، والإقرار بفضائلهم. وهذا هو المنهج السليم الصحيح الذي سار عليه أئمة "أهل البيت" ونأمل أن يوفقنا الله جميعاً للسير على هذا المنهج" انتهى(9)
هذا ما قاله الصفار في ندوة راشد المبارك، واستطاع من خلاله أن يخدع الحاضرين من أهل السنة، ويُظهر نفسه أمامهم بأنه متضايق من هذا الأمر، ويوهمهم بأن هذا الفعل الشنيع -وهو سب الصحابة رضي الله عنهم- مخالف لما يسميه مذهب آل البيت الذين يتابعهم فيه !
فهل كان الصفار صادقًا في قوله هذا ؟! أم أنها عقيدة (التقية) التي لا زالوا يخدعون بها سُذج أهل السنة مهما بلغت شهاداتهم؟! للأسف فالجواب هو الثاني، حيث لا يعدو الأمر مجرد "تقية" تشربها الرجل من مذهبه، واتخذها منجاة ومهربًا أمام الإحراجات؛ ليظهر بمظهر المثقف المعاصر الراقي الذي لا يتابع العامة في جهالاتهم وبدعهم.
فإذا كان هذا صنيع واحدٍ من مثقفيهم -كما يقال-، فما ظنك بمتعصبيهم و"أئمتهم" ؟!
والآن : انظر إلى الوجه الآخر الحقيقي للصفار من خلال مقطعين من بعض محاضراته وندواته بين مريديه -هداهم الله- حيث عدم الحاجة إلى عقيدة "التقية" !(49/209)
يقول الصفار -وأنقل كلامه كما هو بلهجته الدارجة- : "إذًا أول سمة من سمات التاريخ الشيعي؛ هي سمة العطاء، هي سمة العمل، هي سمة النشاط. وكان الشيعة في كل العصور، في عصور الخلفاء، حتى في عصر الخليفة أبي بكر وعمر، لم يكن الشيعة جامدين، وإنما كانوا يعملون؛ حتى استطاعوا أن يفجروا الثورة الكبرى في عهد عثمان، وأن يأخذوا الخلافة والحكم إلى الإمام علي. فيه مشكلة: كثير من الناس لا يعرفون أن الثورة التي حدثت على الخليفة عثمان إنما كانت بتخطيط شيعي، وقد شارك فيها عمار بن ياسر، بل كان هو المخطط لها عمار بن ياسر. إنما لأن معاوية جعل مقتل عثمان كقميص ضد الإمام علي وحارب الإمام علي بتهمة قتل عثمان، الإمام علي بشكل طبيعي ما كان إلَهْ يد مباشرة في العمل في قتل عثمان، كذلك الشيعة يتبرؤن من هذه القضية حتى لا يأخذها السنة مستمسك عليهم، وإلا فالشيعة هم الذين قتلوا عثمان جزاهم الله خيرًا"(10) !!!
ويقول الصفار في كلام واضح صريح مبيناً عقيدته تجاه بقية الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- : "ولذلك إحنا الشيعة إذا تشوفوا: نكره أبو بكر وعمر وعثمان. كثير من الشباب يقولوا: وش بينا فيهم، صحابة الرسول، صاحبوا الرسول وماتوا. في الواقع إحنا نحقد عليهم، ونبغضهم، ونلعنهم؛ لأنهم كانوا يعني بداية انحطاط الأمة"(11) !!
قلت: هذا ما فاه به الصفار في حق كبار صحابة نبينا صلى الله عليه وسلمممن زكاهم الله واصطفاهم لصحبة نبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يذكرنا بقوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) فقد أخرج الله ضغينة هذا الرجل رغم تخفيه خلف شعارات "الوحدة" و"المواطنة" وإنكار بدع قومه.. الخ الأكاذيب. فهل يفيق بعض مثقفينا بعد هذا ويعلمون أن متعصبي الشيعة ومدعي الثقافة بينهم إنما هما وجهان لعملة واحدة، وأنهما يلتقيان جميعاً على العداء لأهل السنة، ولكن الخلاف هو في الوسيلة و"التكتيك" ! وإذا كان ثمة خلافات فهي يسيرة جدًا لا تؤثر في التقاء الفريقين على أهداف واحدة محددة. وأنصح هذه الطائفة المتفائلة بإمكانية التقارب مع الشيعة بقراءة ما كتبه من سلك هذا الطريق قبلهم من أهل السنة ثم عاد بخفي حنين؛ رغم تقديمه كثير من التنازلات، يجدون هذا في كتاب الدكتور القفاري "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
وأما شباب الشيعة -هداهم الله- فأنصحهم مخلصاً أن يتبرؤا من البدع والانحراف الذي وقع فيه أسلافهم، فلا يكونوا ممن قال الله فيهم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (12)، وأن يلحقوا بدعوة الكتاب والسنة قبل أن يفجأهم الموت وهم على هذه العقيدة الباطلة التي نسبوها زورًا إلى آل البيت -رضي الله عنهم- وهم منها برآء. وأنا لست بصدد بيان ما هم عليه من انحراف، ولكني ألفت نظرهم إلى قضية مهمة قد يغفلون عنها وهي تغنيهم عن كثير من الحوارات والمناظرات، وهي: إن كان عليًا -رضي الله عنه- يعتقد كفر الصحابة -رضي الله عنهم- أو وجوب بغضهم وعداوتهم -كما يزعمون- فلماذا لم يُصرح بذلك ويبينه للناس، ويتبعه بالعمل ؟! ولماذا اختار طاعتهم ومبايعتهم والقتال معهم -وهم بحسب زعمكم منافقون؟!
يلزمكم أمران أحلاهما مر:
الأمر الأول: أن عليًا -رضي الله عنه- كان جبانًا رعديدًا، وحاشاه من ذلك؛ فسيرته تشهد بخلاف هذا. وأنكم لشجاعتكم أقدمتم على ما لم يُقدم عليه. وهذا ينقض كثيرًا من تراثكم في بيان شجاعة علي -رضي الله عنه- وما نسجتموه عن تلك الشجاعة من أقاصيص وخرافات هو في غنىً عنها.
الأمر الثاني: أنه كان على منهاج واحد هو وإخوانه من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، يحبهم ويحبونه، ويرى طاعة من ولاه الله أمره منهم، وهذا ما يخالف عقيدتكم الباطلة القائمة على الغل لصحابة نبينا صلى الله عليه وسلمممن قال الله تعالى في وصفهم: (ليغيظ بهم الكفار). فهل ترضون بأن تكونوا منهم؟!
أسأل الله أن يهدي شباب الشيعة إلى الحق(13)، وأن يوفقهم لنبذ انحرافات قومهم، وأن يسخرهم ويستعملهم في نصرة دعوة الكتاب والسنة بين أهاليهم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------------------
[1] الكافي للكليني (2/218). نقلاً عن رسالة الدكتور ناصر القفاري: "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة" (1/331).
[2] السابق (2/219).(49/210)
[3] وأفكار التقريب مع أهل البدع أو الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم هي من الأمور الخيالية التي لا توجد إلا في الأذهان، وهي تسلخ المسلم من دينه رويدًا رويدًا؛ حتى يكتشف في النهاية أنه كقابض كفيه على الماء. فلا الآخر عاد إلى الحق أو كف عن معاداة أهله، ولا هذا المتنازل سلم له دينه. وانظر رسالة: "الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر" للباحث محمد إدريس عبد الصمد، لترى نماذج من الردة المعاصرة عن دين الإسلام التي وقع فيها بعض من يسمون بالمفكرين في سبيل إرضاء اليهود والنصارى والالتقاء معهم على أهداف مشتركة -زعموا!-، ولكنهم في النهاية خابوا وخسروا، ولم يأبه الكفار لهم، بل واصلوا زحفهم على بلاد المسلمين وعقولهم، واتخذوا من أولئك مطية لهم في هذا الغزو والزحف.
[4] ثم طبعتها دار الساقي في كتاب، 2002م. وعنه أنقل.
[5] أما الواجب في نظر دعاة الكتاب والسنة فهو أن يرجع أهل البدع إلى دينهم ويتركوا مخالفاتهم ويكونوا صفًا واحدًا مع إخوانهم.
[6] ص 70.
[7] كما في كتبه: "التعددية والحرية في الإسلام" ، "الوطن والمواطنة"، "التنوع والتعايش"، "التطلع للوحدة".
[8] ومن أخطر ما قال: قوله في كتابه "التطلع للوحدة، ص9": "إذا ما شعر كل المواطنين في أي بلد إسلامي متنوع الإنتماءات بالمساواة، وتكافؤ الفرص، وإتاحة المجال للمشاركة السياسية، والتداول السلمي للسلطة؛ فإن ذلك سيكون أفضل حماية للوحدة في ذلك البلد"!
فالرجل يمهد لطائفته لاستلام السلطة في بلاد التوحيد! ولكن من يضمن لنا أنها ستُتداول بعد ذلك؟!
وقارن حاله بحال النصيريين في سوريا حيث انضموا إلى حزب البعث واستغلوه، وتسلقوا من خلاله إلى الحكم في بلاد الشام؛ ثم كشروا عن أنيابهم بعد ذلك، واتضحت طائفيتهم لكل أحد.
انظر شيئاً من خططهم في سبيل تحقيق هدفهم: في كتاب "الصراع على السلطة في سوريا" للدكتور نيقولا وس فان دام، سفير هولندا في مصر.
فاعتبروا يا أولي الأبصار !
[9] السابق ، ص 91 - 92.
[10] استمع إلى كلام الصفار من خلال موقع "البرهان" على شبكة الإنترنت www.alb r han.com ، قسم "مشاهد وصوتيات".
[11] المصدر السابق. وانحطاط الأمة لم يبدأ إلا منذ دخل فيه بقية المجوس وأحدثوا دين الرفض، وجعلوه خنجراً مسمومًا في ظهر الأمة، لو كنت تعقل.
[12] وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده، كما يتبع الطفل في الدين أبويه وسابيه وأهل بلده. ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت، ولا يكون ممن (إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا). فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسولل إلى عادته وعادة أبيه وقومه؛ فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد" (الفتاوي 20/225).
[13] وقد بدأ كثير منهم -ولله الحمد- في السنوات القريبة يتبرؤن مما كانوا عليه، ويلتزمون بالدعوة السلفية الصحيحة بعد أن انقشعت عنهم غشاوة الجهل. أسأل الله أن يثبتهم على الحق وأن ينفع بهم.
==============(49/211)
(49/212)
مؤتمر بكين .. خطوة باتجاه مجتمع التحلّل العالمي
ماجد بن جعفر الغامدي
نبذة تاريخية:
تشهد سراديب الأمم المتحدة استعدادات مكثفة لعقد مؤتمرها الدولي في شهر آذار (مارس) المقبل احتفالاً بمرور عشر سنوات على وثيقة بكين الخاصة بالمرأة، وهي الوثيقة التي تدعو إلى فتح الطريق على مصراعيه للإباحيّة الجنسيّة، وإطلاق الحرية التامة للحمل خارج إطار الزواج والإجهاض وزواج المثليين، وهدم الأسرة بأركانها الفطرية.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم إرساؤه عام 1948م يمثل البذرة الأولى لمرجعية "أيدلوجية المرأة الجديدة" التي طرحت موضوع "الأسرة والمرأة قضية عالمية" منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن ضجيج القضايا السياسية والاقتصادية على دول العالم الثالث في هذا الوقت غطّى على الجانب الاجتماعي والثقافي المتصل بالأسرة والمرأة والأحوال الشخصية؛ فمنذ عام 1950م حاولت الأمم المتحدة عقد الدورة الأولى لمؤتمراتها الدولية حول المرأة والأسرة بعنوان " تنظيم الأسرة"، لكن الحكومة المصرية في العهد الملكي قاومته بقوة، وأخفق المؤتمر الذي كان يترأسه ماركسيٌّ صهيوني، ثم عاودت الأمم المتحدة مرة ثانية تطلعها في بناء المرجعية النسوية الجديدة، فعقدت مؤتمراً في المكسيك عام 1975م، ودعت فيه إلى حرية الإجهاض للمرأة، والحرية الجنسية للمراهقين والأطفال، وتنظيم الأسرة لضبط عدد السكان في العالم الثالث، وأخفق هذا المؤتمر أيضاً، ثم عُقد مؤتمر في "نيروبي" عام 1985م بعنوان: "استراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة" ثم كان مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية الذي عُقد في سبتمبر 1994م، وأخيراً كان مؤتمر المرأة في بكين الذي عُقد عام 1995م تحت عنوان: "المساواة والتنمية والسلم"، وهو المؤتمر الذي ختمت به الأمم المتحدة القرن الماضي، وانتهت إلى الشكل النهائي للمرجعية الجديدة والبديلة التي يُراد فرضها على العالم والتي تهدف بكلمة واحدة إلى "عولمة المرأة". وتعتبر جميع المؤتمرات السابقة إرهاصات حقيقية لما يصبون إليه من رسم أيدلوجية موحّدة للمرأة في جميع أنحاء العالم .. ثم كانت الولادة لطفلهم الأشقر الجميل(مؤتمر بكين) الذي طالما قد حلموا به وهاهم في طور الاعتناء البالغ فيه حتى يكبر ويترعرع ويفرضوا سيادته على العالم .
أبرز دعوات مؤتمر بكين :
وبعد هذه اللمحة التاريخية الخاطفة فما أبرز أفكار "مؤتمر بكين"؟ بعد العودة إلى نص الوثيقة الختامية لمؤتمر بكين، والوثيقة المعدّة لمؤتمر بكين والتي تقع في (177) صفحة و (362) مادة تجد الوثيقة تدعو إلى نزعات متعددة وتتضمن هذه النزعة فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية ( من ذكر إلى أنثى ومن أنثى إلى ذكر أو أن يختار أن يكون بينهما؛ لأن الوثيقة تقرّ الاعتراف بالشواذ) ولك أن تتخيل ما يتبع ذلك من تغيير في الأدوار المترتبة على الفرد، ومن ثَمَّ الاعتراف رسمياً بالشواذ والمخنثين، والمطالبة بإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان، ومنها حقهم في الزواج وتكوين أسر، والحصول على أطفال بالتبني أو تأجير البطون .
وتطالب الوثيقة بحق المرأة والفتاة في التمتع بحرية جنسية آمنة مع من تشاء وفي أي سن تشاء، وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي، مع تقرير الإباحية الجنسية، وإلزام جميع الدول بالموافقة على ذلك، مع المطالبة بسن القوانين التي يُعاقب بها كل من يعترض على هذه الحرية، حتى ولو كان المعترض أحد الوالدين، وهذا استدعى كذلك الدعوة لتقليص ولاية الوالدين وسلطتهما على أبنائهما، حتى ولو كانت تلك الممارسات في داخل البيت الذي تعيش به الأسرة، فللفتاة والفتى أن يرفع الأمر إلى السلطات التي ستلزم بسن قوانين تعالج أمثال هذه الشكاوى؛ فالمهم هو تقديم المشورة والنصيحة لتكون هذه العلاقات (الآثمة) مأمونة العواقب سواء من ناحية الإنجاب أو من ناحية الإصابة بمرض الإيدز .
وتطالب الوثيقة الحكومات بالاهتمام بتلبية الحاجات التثقيفية والخدمية للمراهقين ليتمكنوا من معالجة الجانب الجنسي في حياتهم معالجة إيجابية ومسؤولة، وتطالب بحق المراهقات الحوامل في مواصلة التعليم دون إدانة لهذا الحمل السِّفَاح، فالوثيقة تدعو إلى سن قوانين للتعامل مع حمل السّفاح، لتكون وثيقة دخول الحامل للمستشفى هو كونها حاملاً دون أدنى مساءلة حول حملها بغير زوج، ثم تخيير الفتاة بين رغبتها في الإجهاض، أو إن شاءت أن تبقيه فتلزم سلطات الرعاية الاجتماعية برعايتها، وإن لم ترد تربيته فتدفع به لدور الرعاية .
تحليل لعبارات الوثيقة :
ولا تتحدث "وثيقة بكين" عن الزواج من حيث إنه رباط شرعي يجمع الرجل والمرأة في إطار اجتماعي هو الأسرة؛ وإنما ترى أن الزواج المبكر يعوق المرأة، ومن ثَمَّ فهي تطالب برفع سن الزواج وتحريم الزواج المبكر.(49/213)
وبالتأمل والتحليل لبعض ألفاظ الوثيقة نجدها تخاطب المرأة الفرد، وليست المرأة التي هي نواة الأسرة؛ فالمرأة العاملة هي المرأة المعتبرة. أمَّا المرأة العاملة داخل البيت ـ ربة الأسرة ـ فيُنظر إليها باعتبارها متخلفة وخارج السياق الدولي الجديد؛ لأنها لا تمارس عملاً بمقابل، ولأنها ربطت نفسها بالزوج والأولاد والأسرة، ولذا فعبارة: "الأمومة" لم ترد سوى ست مرات؛ بينما كلمة "جندر" والتي تعني نوع جاءت ستين مرة، وجاءت كلمة "جنس" في مواضع كثيرة جداً.
وأما كلمة "الزَّوج" لم تذكر ولا مرة، لأن الوثيقة لا تعترف بالزواج وتعتبره جناية على المرأة، وتسمي العملية الجنسية بين الزوجين بِ (الاغتصاب الزوجي).
وذُكر بدلاً من "الزوج" كلمة أوسع وأعم Pa r tne r ، أي الزَّميل أو الشَّريك؛ فالعلاقة الجنسية علاقة بين طرفين تدين لكل منهما استقلاليته الجنسية، والحقوق الإنجابية حقوق ممنوحة للأفراد والمتزوجين على السواء .
ولم ترد كلمة "الوالدين" إلا مصحوبة بعبارة "أو كل من تقع عليه "مسؤولية الأطفال مسؤولية قانونية" في إشارة إلى مختلف أنواع الأسر المثلية ( ذكر وذكر أو أنثى وأنثى أو حتى الشواذ)؛ لأن الوثيقة تعترف بهذه الأسر المثلية وتدعو إليها.
والمثير أن تستخدم الوثيقة كلمة (المساواة) للتعبير عن إزالة الاختلافات بين الرجل والمرأة حتى ولو كانت اختلافات بيولوجية، وتستخدم (التنمية) للتعبير عن الحرية الجنسية والانفلات الأخلاقي، وتستخدم كلمة (السلم) لمطالبة الحكومات بخفض نفقاتها العسكرية، وتحويل الإنفاق إلى خطط التخريب والتدمير للأيديولوجية النسوية الجديدة؛ إذ تلزم مقررات بكين الحكومات المحلية بتنفيذ الأهداف الاستراتيجية للنظام العالمي الجديد فيما يتصل بإقرار الأيديولوجية النسوية الجديدة، وذلك بمساعدة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي .
هذه هي المفردات الجديدة والمقررات التي يسعى النظام العالمي الجديد لفرضها أيديولوجية كونية على العالم. وبالطبع فإنه يستهدف من وراء ذلك ضرب مواطن القوة في الحضارات المختلفة معه .
كيف تعامل العالم مع الوثيقة ؟
وإن من يتأمل في تلك المقررات بعين العقل والبصيرة فإنه لا يكاد يصدق أنه يوجد ثلاثة أشخاص من البشر قد يتفقون عليها ويقرونها لشناعتها وخطرها، بل لو حُدثنا عن أنها في أمة سابقة لاعتبرناها أمراً عجباً، والمرء يعجب أعظم العجب
عندما يتيقن أن تلك المقررات والدعوات تتداعى دول عدة لإقرارها ... دولٌ نالت حظاً كبيراً من فهم السنن الكونية في هذه الحياة ... وهاهم يشاهدون أعظم العبر وأبلغ النذر في خطئهم، و خطر دعواتهم الإباحية بما رأوه من الأرقام المتصاعدة لصرعى الأمراض الجنسية التي أُعيوا أن يجدوا لها طباً أو شفاءً ...
فكيف تعمى بصائرهم عن وهاد السفاح و مزالق مخالفة الفطرة ؟!
ولكن ذلك العجب يتلاشى حين نتأمل قول أصدق القائلين وأحكم الحاكمين والخبير بما في صدور العالمين؛ إذ قال سبحانه: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) [سورة الفرقان:44] وإنه لعارٌ على الإنسانية إلى قيام الساعة أن يكون فيهم من تُبجل إنجازاتهم وتُعدد مخترعاتهم مما فتح الله به عليهم ثم ينتكسون تلك الانتكاسة الكبرى في هدم الأخلاق وإلغاء الكرامة الإنسانية وإهدار معالمها .
والطامة الكبرى أن وثيقة بكين التي أصبحت "مقررات بكين" وقّعت عليها (183) دولة لتصبح أساس المرجعية الكونية البديلة، والتوصيات والوثائق التي توقع عليها الدول والحكومات الأعضاء في الأمم المتحدة تعتبر ملزمة لها، كما أن الأمم
المتحدة تقوم بكل هيئاتها ومؤسساتها بتنفيذ ما جاء في توصيات هذه المؤتمرات الدولية ووثائقها، بما في ذلك المراقبة والمتابعة لمدى التزام الدول والحكومات بها، كما أن المنظمات غير الحكومية الممثلة في الأمم المتحدة تمثل قوة ضغط في
دولها لمراقبة التزام هذه الدول بقرارات الأمم المتحدة وتوصياتها ومتابعة ذلك، وهي في هذا تشبه "جواسيس للأمم المتحدة" في دولها .
ولا تكتفي الأمم المتحدة بذلك وإنما تعقد مؤتمرات مع الأطراف الحكومية والمنظمات غير الحكومية كل سنة أو سنتين باسم مؤتمر السكان أو التنمية أو غيرها من الشعارات البرّاقة، وذلك للتأكد من الالتزام الحكومي بالمرجعية الكونية البديلة والخضوع للنظام العالمي الجديد، وهكذا حتى يأتي موعد المؤتمر الدولي القادم للمرأة في آذار (مارس) من عامنا الجديد 2005م، أي بعد عشر سنوات من مؤتمر بكين، أي أن هناك آلية دولية لها طابع الفرض والإلزام والمتابعة تتدخل في الشؤون الداخلية للدول لتطلب منها الالتزام بما وقّعت عليه، وهذه الآلية يمكن أن تمارس الإرهاب بفرض العقوبات الدولية على الدول التي ترى الأمم المتحدة أنها غير ملتزمة، كما أن هذه الآلية تمارس الإغراء بمنح معونات أو قروض أو ما شابه، إذا التزمت بمقررات الشرعية الجديدة .
وفي الدول العربية :(49/214)
وفي الأحوال الشخصية للمرأة في سوريا فقد تم إصلاح عدة قوانين مدنية في الثلاثين سنة الماضية بهدف تحقيق المساواة بين الذكور والإناث، ولكن العديد من هذه الإصلاحات لم تُطبّق؛ لأن التقاليد الاجتماعية تمنع تطبيق القوانين التشريعية أو الوضعية، وفي أعقاب مؤتمر بكين شكلت الحكومة "اللجنة الوطنية لمتابعة شؤون المرأة ما بعد بكين"، وتتولى هذه اللجنة إعداد تقارير للأمم المتحدة حول تقدم سوريا نحو المساواة بين الجنسين، وترفع التوصيات إلى الحكومة السورية حول هذه المسألة .
ومن ثَمَّ فإن ما يجري في مصر أو المغرب أو الأردن بشأن تغيير قوانين الأحوال الشخصية أو العقوبات هو جزء من الالتزام بالأجندة الدولية التي وافقت هذه الدول عليها في المؤتمرات الدولية، وليس تعبيراً عن حاجة داخلية لشعوب هذه الدول؛ فحق المرأة في فسخ عقد الزواج، وحقها في السفر هي وأولادها بلا قيود، وحقها في المواطنة الذي يستخدم ستاراً لمساواتها مع الرجل في الإرث والطلاق وعدم الخضوع لسلطة ـ أي رفض القِوامة ـ وإقامة علاقات ود وصداقة خارج نطاق البيت والعائلة، كل هذه القضايا كانت مطروحة باعتبارها جزءاً من أجندة دولية للتسليم بالدخول في طاعة النظام العالمي الجديد، والإقرار بالالتزام بالأيديولوجية النسوية البديلة.
الإسلام عائق في تنفيذ الوثيقة :
كما أن خطر هذه الأيديولوجية البديلة يتمثل أيضاً في اقتحام مناطق كان يُنظر إليها باعتبارها خاصة أو شخصية، ويُنظّم أوضاعها بشكل أساسٍ الدين والتقاليد والأعراف المحلية والثقافات الخاصة، أي أن الاقتحام والهدم لهذه الأيديولوجية ينال مناطق متصلة بالهوية والثقافة والوجود، وهي محور الكيان الإنساني والوجود البشري، ويقف وراء هذه الأيديولوجية فكر شيطاني يريد أن يجعل من الأخلاق فوضى ومن الفاحشة شيوعاً وذيوعاً .
وبالنسبة للحضارة الإسلامية فلا يزال الدين الإسلامي يمثل مرجعية للناس ونظاماً لحياتهم خاصة في مسائل الأسرة والأحوال الشخصية وفي مسائل الفكر والثقافة والاعتقاد، وهو ما يزعج الأمم المتحدة والغرب؛ إذ إن المسلمين يمثلون ملياراً ونصف مليار نسمة تقريباً، والعالم الإسلامي بإمكاناته وثرواته وأهله يهدد النظام العالمي الجديد بفقدان سيطرته عليه ما بقي الإسلام حاكماً للجوانب الاجتماعية والثقافية وللهويّة؛ ولذا لا بد من تسديد الضرب إلى الصميم للقضاء على الهوية الإسلامية، وعلى النظم الاجتماعية التي أثبتت أنها القلعة التي حمت العالم الإسلامي من السقوط والانهيار، وهكذا فإن الصراع مع الغرب انتقل من السياسي والاقتصادي إلى الديني والثقافي والاجتماعي المتصل بالهوية والوجود؛ وهو ما يتطلب وعياً جديداً وأدوات جديدة؛ كما يتطلب يقظة ومقاومة في صميم الأيديولوجية وتستمد الأيديولوجية الجديدة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة حيث تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع "لا طبقي"؛ بينما ترى الأيديولوجية الحديثة أن اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل "الأسرة" والأمومة في نظر "الماركسية الحديثة" تمثل السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة .
وتمثل توصيات المؤتمرات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات العالمية المرجعية العالمية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها "أيديولوجية نسوية" لها قوة الأيديولوجيات السياسية التي عرفها القرن الماضي ثم انهارت وخبت وماتت .
وكما كان يحدث بالنسبة للأيديولوجيات السياسية والفكرية فإن الأيديولوجية النسوية الجديدة يُراد لها أن يكون معتنقوها في كل العالم وفي كل الدول والشعوب وفي كل الأعمال؛ فإنها الوسيلة الجديدة لغزو العالم وشعوبه، وهي الدين الجديد الذي يُراد للعالم أن يتوحّد خلفه ويدين به، ويريد أن يفرض هذا الدين والأيديولوجية بالقوة على العالم كله بحيث تكون هناك قوة عالمية واحدة ومرجعية كونية واحدة وإنسان عالمي واحد، وتنهار كل الحدود والقيود والحصون أمام هذه القوة العالمية الجديدة والمنفردة بحيث تصبح إرادتها ورغباتها ومصالحها مُسلَّماً بها ومُرحَّباً بقدومها بلا أي عوائق من الدين أو اللغة أو اللون أو الجنس أو القومية أو الثقافة. أي أن المرجعية الكونية الجديدة هي بديل لكل ما عرفته الأمم والأجناس البشرية من ثقافات وتاريخ وصراعات وأفكار؛ بحيث يغدو كل هذا ذكرى بلا قيمة ولا معنى، وتصبح القيمة والمعنى في المرجعية الكونية البديلة والجديدة التي يتحوَّل فيها البشر جميعاً عبيداً للإله الذي قررها، وهو النظام العالمي الجديد.
الشرائع السماوية ترفض الانحلال :(49/215)
ومع تقديم الوثيقة وإلزام الدول بتنفيذها فهم على علم تام بما سيحدث لها من معارضات؛ فقد ربطوا هذه الانحرافات التي يُروّجون لها بالديمقراطية والازدهار، وذكروا أنهم سيُجابهون أياً من "رجال الدين" ممن تسوِّل له نفسه الاعتراض على هذه المطالب، أو رفض تعديل التَّعاليم الدِّينية كي تتماشى مع مخططهم؛ ولذلك فقد أشارت الوثيقة بوضوح إلى أن الدين يقف عائقاً أمام تحقيق هذه المقررات، فناشدت الوثيقة المؤسسات الدينية لكي تساعد على تحويل مقررات مؤتمر بكين إلى واقع بمعنى أن تصبح المؤسسات الدينية إحدى أدوات المرجعية الكونية الجديدة التي يتبناها النظام العالمي ويسعى لفرضها على العالم .
وأما عن ردات الفعل الدينية فقد حدث ما تنبأت به الوثيقة؛ لأن كثيراً مما أتت به وثيقة بكين لا يقرّ به العاقل وجميع الشرائع السماوية ترفضه تماماً. فالأزهر الشريف أبدى رفضه لمقررات المؤتمر، بل وحتى الكنيسة الشرقية والفاتيكان انزعجوا من المؤتمر واعترضوا على بنوده، وقد صدر بشأنه قرار من هيئة كبار العلماء بالسعودية، وقرار من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وكلاهما برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ومما ذكر ابن باز في بيانه بعد أن تحدّث أنه اطلع عليه كاملاً وعلى مقرراته فقال:" والآن يأتي مؤتمر بكين، وقد تبنّت مسودة الوثيقة المقدمة للمؤتمر من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة على مبادئ كفرية، وأحكام ضالّة في سبيل تحقيق ذلك، منها: الدعوة إلى إلغاء أي قوانين تميز بين الرجل والمرأة على أساس الدين، والدعوة إلى الإباحية باسم: الممارسة الجنسية المأمونة، وتكوين الأسرة عن طريق الأفراد، وتثقيف الشباب والشابات بالأمور الجنسية، ومكافحة التمييز بين الرجل والمرأة، ودعوة الشباب والشابات إلى تحطيم هذه الفوارق القائمة على أساس الدين، وأن الدين عائق دون المساواة... إلى آخر ما تضمنته الوثيقة من الكفر، والضلال المبين، والكيد للإسلام وللمسلمين، بل للبشرية جمعاء، وسلخها من العفة، والحياء، والكرامة؛ لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين، ومن بسط الله يده على أي من أمورهم- أن يقاطعوا هذا المؤتمر، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين، وأن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذا الغزو الفاجر، وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين" ا.هـ
وقد قامت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل بإصدار تقرير يوضح التصور الإسلامي لما ورد في "وثيقة بكين" وسُمي بـ "التقرير البديل"، وهو يرفض إجمالاً: كل ما يدعو إلى الحرية الجنسية والإباحية، وكل أنواع العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة، وكان لهذا التقرير أصداء واسعة خاصة بعد أن تمّ توزيعه في بعض المؤتمرات التي عُقدت وطرحت الرؤية الإسلامية للمرأة بشكل جلي واضح، وكيف أن الإسلام حفظ لها كامل حقوقها ورفعها عن الدنس والرجس .
تود الزانية لو أن النساء كلهن زواني:
وأما هذه المجتمعات الغربية والتي قد شرعت مسبقاً في تنفيذ هذه القوانين الشاذة فقد عاد ذلك بالنكبات المتتابعة عليهم، وزادتهم تمزقاً وفرقة، وهنا لغة الأرقام تتحدث؛ فالإحصاءات والبيانات التي تصدر تباعاً من داخل المجتمعات الغربية تؤكد ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر. تقول بعض المصادر الأمريكية: إن هناك حوالي مليون فتاة أمريكية من المراهقات يحملن كل عام ( خارج الزواج )، وأن حوالي300))ألف منهن دون سن الخامسة عشرة، وأن (400) ألف منهن يقدمن على الإجهاض .
كما تؤكد الدراسات العديدة الصادرة عن أشهر ثلاثة باحثين أمريكيين في السلوك الجنسي وهم ( كنزي و جونسون و ماستر ) أن 50% من الذكور الذين تمت دراسة حالتهم قد مارسوا الجنسية المثلية - والعياذ بالله - كما تؤكد دراسات أخرى أن مليون ونصف امرأة وفتاة يمارسن السحاق، وإلى غيرها من الأرقام المخيفة والمفجعة، والمنبئة بخطر داهم على هذه المجتمعات ذات الشهوات الحيوانية إن هم استمروا على فحشهم .
وها هو العالم الغربي في أوروبا يواجه حالة من العقم، إذ أدّى الانحلال الأخلاقي والشذوذ إلى عدم تعويض الأجيال العجوز بأجيال جديدة من المواليد، كما أن مؤسسة الأسرة تواجه الانقراض هناك، حيث ترتفع نسب الطلاق والامتناع عن الزواج، كما ترتفع نسبة الأولاد غير الشرعيين، وترتفع نسب الإلحاد، والمثير أن ذلك كله يتناسب تناسباً طردياً في حالة الدول ذات الوضع الرفاهي الأعلى، وفي أمريكا حيث يتمرد المهاجرون من آسيا والشرق الأوسط ودول أمريكا اللاتينية على برامج تنظيم الأسرة، وهو ما يحافظ على إبطاء شيخوخة المجتمع الأمريكي، وأظن أن الدمار الذي أصاب الغرب يريد أن يشاركه فيه العالم كله خاصة المسلمين ـ كالزانية التي تودّ أن لو صار الجميع مثلها .
إذن:(49/216)
إن الإنسان: الرجل، والمرأة، والأطفال، والأسرة هم المقصودون بالهجمة العالمية الجديدة وهم المقصودون بالمرجعية الكونية البديلة للنظام العالمي الجديد، وعلى عالمنا الإسلامي أن ينتفض ويستيقظ؛ فإن وجودنا مرتبط بمدى ارتباطنا بكلمة: "مسلمين" اسماً وفعلاً؛ وإلاَّ فالاستبدال كما قال ـ تعالى ـ: (وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). [سورة محمد: 83].
وما ينبغي علينا أن نفعله لمواجهة هذا الخطر الذي يهدّد كياننا الأسري يتلخّص في: إعطاء المرأة كامل حقوقها التي منحها إياها الإسلام، والنظر إليها نظرة الإسلام الصحيحة؛ فالقصور الموجود حالياً في مجتمعاتنا الإسلامية هو الذي أوجد فيها ثغرات نفذوا إلينا من خلالها، وإنها مسؤولية دينية علينا نحن المسلمين، وهي المبادرة تجاه الإنسانية لإنقاذها من هذا التيه والانفلات والفوضى الجنسية التي تفرضها عليها الصهيونية العالمية؛ فنحن لو أنصفنا المرأة، وأعطيناها كامل حقوقها في الإسلام نكون قد أعطينا للإنسانية النموذج الأمثل الذي يُحتذى به .
وفي هذا السياق فإن الجدير بأمة الإسلام أن تفيق من غفوتها، وتقوم من كبوتها، وألاّ تغتر بتلك الدعوات الآثمة، وأن تحذر من أن يُمّرر عليها ذلك من خلال الوسائل الإعلامية التي تخدم توجهات تلك المؤتمرات عبر زمرة الفن الرخيص وتجار الغرائز، وليحذر أولئك المهرولون في ركابهم من أن يكونوا شؤماً على أمة الإسلام بما قد تتلقفه قلوبهم من تلك الأباطيل؛ فيوحي إليهم الشيطان بإحلاله في بلاد الإسلام، وخاصة وسائل الإعلام في بلاد الإسلام والإعلاميين والمثقفين الذين يرومون التحديث والتجديد؛ فإن كثيراً منهم قد طالت معاناة الأمة من إفكهم و تلبيسهم وهرطقاتهم التي يتلقفونها من الشرق والغرب، ويودّون إحلالها بين المسلمين بدلاً من شريعة رب العالمين بدعواتهم التي راموا من ورائها تغريب الأمة وتغريرها، وعمدوا من خلالها لتحريض المرأة ودعوها لنبذ العفة والفضيلة، وتباكوا على المتمسكين بالوحيين ورموهم بالتهم والأباطيل، والتي بدت في كتاباتهم، وفي لحن القول مما تنطق به أفواههم، فالعودة العودة إلى حياض النجاة، والتمسك بشرع خالقنا فبه فلاحنا ونجاحنا بإذن ربنا .
=============(49/217)
(49/218)
فصل الدين عن الدولة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة عن الكنيسة، من القضايا المسلَّم بها في الفكر الغربي السياسي، ومن ثم في الفكر السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية. ودعاة فصل الدين عن الدولة قد يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية، وبالديانة النصرانية؛ لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمراً لازماً لكل دولة حديثة، ويسوِّغون هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة، وما دام المواطنون في الدولة الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد، بل تتقاسمهم أديان متعددة، وقد يكون بعضهم ملحداً لا يؤمن بدين؛ ففي التزام الدولة بدين واحد من هذه الأديان افتئات على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان الأخرى أو المنكرين لها كلها لأنه:
- يفرض عليهم ديناً لا يؤمنون به.
- ويحرمهم من ممارسة الدين الذي اختاروه إما كله أو بعضه.
- ويحرمهم من حقهم في شغل بعض الوظائف الكبيرة كرئاسة الدولة، وقد يكون سبباً لخلافات ونزاعات عميقة تفقد الدولة معها الاستقرار اللازم لتطورها.
ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما يريدون من قِيَم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات.
هذه الصورة للعلمانية التي حرصت على أن أجعلها براقة كأشد ما يريد المدافعون عنها أن تكون، تنطوي على افتراضات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. ومن ذلك:
أولاً: أنها تفترض أن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان؛ لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة، أي إذا كان الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماسَّ بينهما، وأن دعاة الدولة الدينية يقحمون الدين في مجال غير مجاله، ولذلك يضرون به وبالدولة.
فهل هذا الافتراض صحيح؟ إنه لا يكون صحيحاً إلا إذا كان الدين محصوراً بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية، وبعض أنواع السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بالجماعة، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة، لكن الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة: اليهودية والنصرانية والإسلام؛ فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين، وفي العلاقات الأسرية، والاجتماعية، وفيما يحل أكله وشربه، وما يحرم، وهكذا. وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة.
كيف حل الغربيون هذا الإشكال؟ حلوه بنوع من المساومة: فهم قد أخذوا بعض القيم النصرانية وجعلوها قوانين للدولة، وهم يجعلون اعتباراً كبيراً لقيمهم الدينية في سياستهم الخارجية، ولا سيما في معاملة الإسلام. لكنهم في الجانب الآخر تركوا أشياء من دينهم، وساعدهم على ذلك تاريخهم المليء بتحريف الدين إما في نصوصه أو في تأويله، ثم جاءت في العصور الأخيرة حركات فكرية تحررية أذاعت القول بأن ما يسمى بالكتاب المقدس ليس كلام الله ـ تعالى ـ، وأنه من كتابة بشر عاديين تأثروا بالجو الثقافي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، ولذلك فإن ما قرره هذا الكتاب في مسائل مثل الشذوذ الجنسي ينبغي ألا ينظر إليها إلا على أنها قيم مجتمعات سابقة. هذا كلام لا يقوله السياسيون والحكام فحسب، وإنما يقوله كثير من رجال الدين، والمختصين بدراسته، لكن حتى هؤلاء المتحررون يشعر الكثيرون منهم الآن أن العلمانية لم تعد محايدة بين الأديان، بل صارت هي نفسها ديناً يدافع عنه أصحابه ويحاربون به النصرانية، وأذكر أن أحدهم قال لي في أحد المؤتمرات ناصحاً: لا تُخدَعوا كما خُدِعنا، فتظنوا أن العلمانية موقف محايد؛ بل هي الآن دين، أو كما قال ذاك الناصح.
فكيف تُحَل هذه المشكلة بالنسبة لأناس كالمسلمين يرون أن القرآن كلام الله ـ تعالى ـ لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما صح من سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم هو أيضاً وحي الله؟
وكيف إذا كان دينهم لا يقتصر على ما ذكرنا من أمور تدخل في نطاق الدولة، بل يتعداها إلى أخرى هي من أخص خصائص الدولة؟
ماذا يفعل هؤلاء؟ لا خيار لهم بين الحكم بما أنزل الله ورفض العلمانية، أو الحكم بالعلمانية والكفر بما أنزل الله تعالى.
إن أكثر ما يتعلل به دعاة العلمانية في بلادنا هو اختلاف الأديان في البلد الواحد. يقولون: بأي حق تفرض على أناس ديناً غير دينهم، وقِيَماً ليست قيماً لهم؟ ماذا إذا لم يكن في البلد إلا مسلمون، أو كان غير المسلمين أفراداً قلائل؟ لماذا يفصل هؤلاء بين دينهم ودولتهم؟(49/219)
وحتى لو كان المنتسبون إلى غير الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى يمثلون نسباً كثيرة، فإن العلمانية ليست هي الحل العادل؛ لأن أصحاب هذه الديانات إما أن يكونوا في السياسة علمانيين، وإما أن يكونوا ممن يريد للدولة أن تستمسك بعقائده وقيمه وتدافع عنها. فإذا كان من الفريق الأول يكون المسلمون قد تنازلوا عن دينهم بينما هو لم يتنازل عن شيء؛ لأن العلمانية هي مبدؤه سواء كان هنالك مسلمون أو لم يكن. أذكر أنني قلت ذات مرة لبعض الجنوبيين المثقفين عندنا في السودان: إنكم لا تعترضون على الحكم إذا كان اشتراكياً كما كان الحال في أوائل حكم الرئيس نميري ، ولا تعترضون عليه إذا أقر الرأسمالية أو الليبرالية؛ لأنكم تعتقدون أن الدين لا دخل له بهذه المسائل، فلماذا إذن تعترضون على الحكم الإسلامي؟ إن الإسلام لا يفرض عليكم ديناً بالمعنى الذي حصرتم الدين فيه، أعني العبادات والأحوال الشخصية، فلماذا لا تعاملون جانبه السياسي معاملتكم للاشتراكية والرأسمالية؛ لأنه يعطيكم أكثر مما تعطيكم إياه العلمانية؟
يقول أنصار العلمانية في الغرب وفي البلاد الإسلامية: إن هذا قد يكون صحيحاً؛ لكنكم في الحكم الإسلامي تفرقون بين الناس بسبب دينهم، فتمنعون غير المسلم من أن يكون رأس دولة، وأقول لهم دائماً: ولكن العلمانية هي الأخرى تفعل ما نفعل. إنها تشترط على الإنسان أن يكون علمانياً لكي يكون رأس دولة، تشترط عليه أن يؤدي القسم للولاء لدستور يفصل الدين عن الدولة، أي أنها تشترط على المسلم أن يعلن كفره بجزء من دينه. وإذا فعل هذا عن اعتقاد كان كافراً خارجاً عن الإسلام، وإذن فكما أن الإسلام يشترط في رأس الدولة المسلمة أن يكون دائناً بدين الإسلام؛ فإن العلمانية تشترط في رئيس دولتها أن يكون دائناً بدينها، فما الفرق؟
يقولون: لكن العلمانية ليست ديناً. ونقول هذا في مفهومكم أنتم. أما في لغتنا العربية، وديننا الإسلامي، فإن كل ما يلتزم به الإنسان من عادات وتقاليد، ومن باب أوْلى من قيم وعقائد، هو دينه، سواء كان مبنياً على إيمان بالله أو كفر به. ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شددت لها وضيني
أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟
أما... أما يقيني؟
فإذا كان دوام الحل والارتحال ديناً فما بالك باعتياد معتقدات وقيم وسلوك؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ عن سيدنا يوسف: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله {يوسف: 76}. يعني ما نسميه نحن الآن بقانونه؟ العلمانية ليست إذن حلاً لبلد يكون فيه المسلمون أغلبية، بل ولا حتى أقلية معتبرة؛ إذ إن ما تطلبه العلمانية من المسلمين إنما هو التخلي عن دينهم من أجل دين العلمانيين.
المصدر مجلة البيان
==============(49/220)
(49/221)
ماذا تريدُ أن تعرفَ عن " حزبِ اللاتِ ؟ حقائقٌ مهمةٌ
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
إن للإعلامِ درواً كبيراً في الرفعِ من النكراتِ ، والحطِ من الجبالِ الشامخاتِ ، وقد طار الإعلامُ بالعمليةِ التي يطلقُ عليها تبادلُ الأسرى ، وهي في حقيقتها ضحكٌ على الدقونِ كما يقولُ العامةُ ، ولا شك أن حزبَ اللاتِ نجح في استغلالِ هذا الحدثِ إلى درجةِ أن شريحةً كبيرةً من أهل السنةِ انخدعوا بالزخمِ الإعلامي الذي صاحب العمليةَ ، فقاموا يكيلون المديحَ لحزبِ اللاتٍ ، والعجب أن التبادلَ المزعومَ كان رفاتُ موتى بعددٍ من الأسرى غالبهم تنتهي مدةُ حكمهم بعد أشهرٍ قليلةٍ .
وبما أن الكلامَ كثر بخصوصِ حزبِ اللاتِ فقلتُ : أشاركُ بشيءٍ يبينُ حقيقةَ " حزبِ اللاتٍ " ، ووجدتُ مقالاتٍ نشرت في مجلةِ " البيان " بعنوان " حزبُ اللهِ ... رؤيةٌ مغايرةٌ ... أصولٌ وجذورٌ " في الأعدادِ 142 ، 143 ، 145 ، 146 ، وهي بقلمٍ : عبد المنعم شفيق .
وسأضعها على حلقاتٍ متتابعةٍ لكي لا يمل القاريءُ من طولها
أسألُ اللهَ أن ينفعَ بها ، وأن يكونَ التفاعلُ معها بالشكلِ المطلوبِ .
حزبُ اللهِ ... رؤيةٌ مغايرةٌ ... أصولٌ وجذورٌ
عبد المنعم شفيق
( المديح ) الإعلامي الضخم كان سبباً في رسم صورة خيالية عن حزب الله . كيف ولماذا تم ( التحول ) من ( الانتظار ) إلى قوافل ( الثوار ) ؟
( الوهابيون رجس من عمل الشيطان ، سننتقم من الوهابيين ، لن تمر هذه الجريمة دون عقاب )
كانت هذه عبارات مكتوبة ومحمولة على لافتات في تظاهرة أخرجها ( حزب الله ) في الجنوب اللبناني عقب اتفاق الطائف الذي كان من أسباب وقف الحرب الأهلية التي كانت تدور في لبنان .
في المظاهرات تخرج الكلمات دائماً من القلب ، منطوقة أو مكتوبة .
على جانب آخر كانت هناك كلمات أخرى خرجت من القلب كذلك ترسم صورة أخرى مغايرة .
فيقول أخو العشيرة عن الحزب : إنهم صفوة الصفوة ، وطليعة الأمة ، ومرشدوها ، وباعثو دينها وحضارتها ومجدها ، ومعلموها ، ورساليوها ، وأنبياؤها ) [1] إن المقاومة الإسلامية في لبنان تمثل لنا ضوءاً باهراً في الأفق المعتم ، وصوتاً جسوراً وسط معزوفة الانكسار ، وقامة سامقة تصاغر إلى جوارها دعاة الانبطاح والهرولة ، إنهم يدافعون بهذا الدور البطولي الذي يقومون به عن شرف الأمة العربية وعن الأمل في أعماق كل واحد فينا ، إنهم يرفعون رؤوسنا عالياً ويرصِّعون جبين أمتنا [2] .
إن حزب الله يقوم بدور رائد في إيقاظ الأمة وتقديم الدليل على قدرتها لصد العدوان [3] .
فالمقاومة الإسلامية لحزب الله واحدة من أبرز معالم نهضة الأمة وأكبر دليل على حيويتها [4] .
لماذا حظيت المقاومة الإسلامية في لبنان بهذا القدر الهائل من التضامن الشعبي العربي والإسلامي ؛ بل من كل المستضعفين في العالم ؟
وهل يتحول الطرح السياسي والحضاري لتلك المقاومة إلى أيديولوجية للمحرومين في كل مكان في العالم في مواجهة النمط الحضاري والقيمي الغربي الذي يهدد العالم بأسره ؟
لماذا نجحت المقاومة اللبنانية في أن تصبح طليعة لكل قوى التحرر العربي على اختلاف مشاربها الدينية والطائفية والسياسية والطبقية ؟ !
وبصيغة أخرى : لماذا نجحت المقاومة اللبنانية في الخروج من مأزق الطائفية الضيق إلى رمز للتحرر لكل إنسان مسلماً كان أم مسيحياً عربياً أم عالمياً ، أبيض أو أسود ؟
لماذا كانت المقاومة وحزب الله بالتحديد هي الجزء الحي في النسيج العربي الذي اهترأت الكثير من أجزائه وأطره الفكرية والتنظيمية ؟ [5]
صورتان متناقضتان تثيران أسئلة كثيرة عن قصة الحقيقة ، ولا يُخفي بعض الناس شدة الحيرة التي تنتابه مع هذه الصور المتباينة الشديدة التنافر ؛ فبين مُسلَّمات عقدية راسخة ، وأصول مستقرة ، وبين واقع ضاغط على الفكر والشعور ، تضطرب الرؤى وتحار العقول .
وحزب الله في لبنان جزء من قصة طويلة وصراع مرير ، والحديث عنه وعن حقيقته وأهدافه أمر ضروري في وقت بدأ فيه تحول كبير في دور الحزب ، بعد أن تحقق جزء كبير من أهدافه ، وكذلك في وقت بدأت فيه ( عودة الروح ) لمسار السلام السوري واللبناني ، والذي يمثل ( حزب الله ) ورقة تفاوضية هامة فيه ؛ بيد أن المسألة متشعبة شديدة التعقيد فرضتها عوامل شتى ؛ لذا كان من المهم استعراض التفاصيل وتفاصيلها .
لبنانُ أي أرضٍ أي دولةٍ ؟(49/222)
لن نذهب في التاريخ بعيداً ، وإنما سنذكر صورة منه ، أو نتيجة لصراعه وأحواله في لبنان ، فقد قامت الدولة اللبنانية على ركيزة أساسية هي ( الطائفية ) ، وولد الاستقلال والميثاق في أحضانها ، وورث الاستقلال نهجاً يجسد التفسخ الوطني في إطار علاقات سياسية تعمل على إبقاء هذا الأمر واستمراريته . هذا النهج السياسي وقف عائقاً أمام تطوير الواقع الطائفي ومحاولة تجاوزه ، وحمل الاستقلال معه كل أمراض التخلف والتعصب والتفرقة ؛ لأن أبطاله لم يعملوا على استئصال الرواسب وإقامة الوطن على قاعدة الانتماء إليه ؛ بل اكتفوا بوحدتهم الفوقية وتركوا التشتت الطائفي في القاعدة ؛ فقام لبنان على قاعدة تعدد الطوائف المتعايشة على أرض واحدة تقتسم المغانم فيما بينها .
إن الاستقلال والدستور قد قاما على ركيزتين أساسيتين هما . تجميع الطوائف وتجميع المناطق ؛ وشتان ما بين التجميع والانصهار . لقد استبدلت الوحدة الوطنية كما هو الحال في الدول الأخرى بوحدة الطوائف المتعايشة ، ورعت دولة الاستقلال المؤسسات الطائفية لتوسع نشاطاتها ولتزيد من انقسام المواطنين .
ففي الحقل التربوي بقي لكل طائفة مؤسساتها التربوية لتلقن المواطنين ثقافات مختلفة ، وعلى الصعيد التنظيمي السياسي صار لبعض الطوائف مجالس مِلّية تحولت إلى مؤسسات سياسية تسهم في السلطة بدرجة أو بأخرى .
وعلى الصعيد السكاني بقيت المدن الكبرى ذات طابَع طائفي ؛ وعلى الرغم من احتوائها على اختلاط سكاني من مختلف الطوائف إلا أنها تمتعت بغالبية سكانية من طائفة معينة ، أو تضمنت أحياء سكانية لكل طائفة ، أو لكل مذهب حي يجمع أبناء المذهب نفسه ، وهذا الأمر قد سهَّل فيما بعد الانقسام الجغرافي ؛ حيث هجَّرت كل منطقة الأقليات الموجودة فيها من الطوائف الأخرى ؛ مما جعل السلطة عبارة عن حكم بين مختلف الأطراف ( الطوائف ) لا سلطة دولة بيدها المبادرة والقرار الذي تستطيع فرضه على الجميع .
في لبنان ازدواجية سلطوية . قامت سلطة الدولة وتساكنت جنباً إلى جنب مع سلطة الطائفة ، وكثيراً ما أذعنت سلطة الدولة إلى سلطة الطائفة البارعة في توظيف التمايزات الدينية لأغراض سياسية .
والطائفة هنا تلعب دور الحزب السياسي المُدافِع عن مصالح الأفراد ، وتحل مشكلة انتماء الفرد طالما أنه لا توجد أطر أخرى أكثر فعالية لتنظيم حياته وضمان توازنه المادي والنفسي ، وهكذا يندفع الفرد إلى أحضان الطائفة ؛ فالتخلي عنها يبدو كأنه ضياع لآلية التضامن الأسري والعائلي إذا لم يسنده ظهور مؤسسات تضامن جماعي نقابي ومدني أعلى ، كما يعني العزلة للأفراد ، ويعني الاغتراب النفسي والاجتماعي كذلك .
لقد عجزت الدولة اللبنانية عن بناء الإطار الفكري والسياسي والإداري والاقتصادي الذي يوحد الأمة ويبني إجماعاً ؛ إنها لم تمتلك رسالة اجتماعية تسمح لها بأن تكون دولة الأمة لا دولة الجماعات وبدلاً من أن ترتفع باعتبارها مؤسسة سياسية وسلطة . فوق التمايزات والتناقضات انخرطت هي نفسها بفعل طبيعة بنيتها وتركيبتها العصبية في التناقضات التي أخذت تمزقها ، أو بالأحرى تبرز تمزقها الداخلي المستور بأيديولوجيا الوفاق والتعايش .
لقد اعترفت الدولة القانونية في لبنان بتعدد القوى السياسية ، ومنحتها حق التنافس الحر حتى بلغ حد الفوضى المسلحة ؛ فالتدريب والتسلح غير المشروع ، وقيادة الجيوش غير النظامية ، وتخريج دفعات من الميليشيات اللبنانية كان يتم في احتفالات علنية تنقلها الصحف اليومية تحت سمع الدولة وبصرها .
إن نشوب الحرب بهذه الضراوة والشراسة ، وقدرتها على الاستمرار لأعوام طويلة ما كان يمكنها لولا وجود ميليشيات قد أنشئت أصلاً لأن لها دوراً يُنتظر أن تلعبه .
وإثر الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين داخل الأراضي اللبنانية منحتهم الدولة حق الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات الخارجية عليهم بدلاً من أن تكون هي المسؤولة عن حماية كل من يقطن داخل حدودها سواء بالطرق السلمية أو بالقوة ؛ فالدولة عادة كل دولة تقدم نفسها مركز استقطابٍ وحيد لممارسة العنف القانوني في المجتمع ؛ فعنف الدولة له أساليبه . أي قانونيته . لكن الدولة اللبنانية بتركيبتها الضعيفة سلطوياً قد سمحت لنباتات العنف اللاشرعي أي الخارج عن إطار الدولة أن تنمو على جوانبها ، ومهدت للاحتراب بين اللبنانيين عندما وقفت شاهد زور من استعداداتهم للحرب ، وهي بتركيبتها الطائفية الحساسة لم تستطع التعامل مع القضية الفلسطينية كما تعاملت معها سائر الدول العربية ، فمهّدت بذلك لحرب الآخرين على الأرض اللبنانية .
حتى الأحزاب التي تؤكد أنها غير طائفية من حيث المبدأ والغاية ، وتلك التي ترفع شعار العلمنة والديموقراطية والمساواة لا تفلت من فخ الطائفية إلا قليلاً . والظاهرة البارزة التي نشأت في ظل الحرب هي تعدد الأحزاب والمنظمات والحركات بشكل لم يسبق له مثيل . واللافت للنظر أن إمعان الأحزاب والمنظمات في تحديد هويتها الطائفية ربما كان لاستقطاب أكبر عدد من الأتباع أو لإبراز خصوصيتها .(49/223)
وفي جميع الأحوال انخرطت تلك الأحزاب في لعبة الطائفية نفسها التي استخدمها الإقطاع السياسي لإحكام سيطرته وتثبيت مواقعه . أما الأحزاب العلمانية فإن كلاً منها قد اتخذ صبغة القطاع الطائفي الكانتون الذي يوجد داخل حدوده .
وحددت الأحزاب والميليشيات مناطق نفوذ لها ، وأخذت تثبت مواقعها داخلها ؛ واعتباراً من عام 1984م أخذت الخطوط الفاصلة بين مناطق النفوذ تتضح ؛ ففي بيروت وضواحيها وفي جزء من جنوب لبنان هناك سيطرة لقوات أمل الشيعية وحلفائها ، وفي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض مناطق البقاع والهرمل هناك سيطرة لقوات حزب الله الشيعية ، وفي بيروت الشرقية وضواحيها وبعض مناطق الجبل هناك سيطرة للقوات اللبنانية المارونية على جزء منها ، وسيطرة فئة من الجيش اللبناني على الجزء الآخر في عام 1990م ، وفي الشوف سيطرة لقوات الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزية وحلفائها ، وفي الشمال سيطرة لقوات المرَدة المارونية المعادية للقوات اللبنانية ، وفي أقصى الجنوب هناك الحزام الأمني الذي صنعته إسرائيل بينها وبين جنوب لبنان ، يسيطر عليه ( جيش لبنان الجنوبي ) المدعوم من قِبَلِ إسرائيل .
فماذا بقي للدولة وسط هذه . البانوراما السلطوية . حتى تسيطر عليه ؟
من جهة أخرى ، شكلت الطائفية أفق الدولة اللبنانية الذي استوحت منه تصوراتها للمجتمع والكون ونمط الوجود ، وللتنظيم الاجتماعي ، والتوزيع البيروقراطي ، كي تجند لا جيشاً عقلانياً عسكرياً واحداً وجيشاً مدنياً منظماً واحداً البيروقراطيين وموظفي الدولة بل جيوشاً طائفية مرتهنة لجماعاتها المتنطعة والمتوجهة عقلياً وعاطفياً نحو الذات الطائفية المنغلقة .
( ثم بدأ طرح إلغاء الطائفية السياسية ؛ لأنها سبب البلاء ، ولأنها تمنع الانصهار الوطني ، وتحقيق المواطنة الحقة . والمطالبون بإلغاء الطائفية السياسية أغلبهم في مواقع طائفية بعضها شديد العصبية ؛ فالأحزاب المطالبة بإلغاء الطائفية أحزاب طائفية بتركيبتها ، وبدهي أن المطلب الصادر من موقع طائفي هو طائفي أياً كان التعبير اللفظي عنه ، ومطلب إلغاء الطائفية يعني تحديداً : استبدال ديمقراطية عددية تعني سيطرة على الحكم والإدارة بحكم العدد أو بحكم ما يظن من غلبة عددية بالديمقراطية الإصلاحية المركبة المعقدة أساساً للعيش المشترك اللبناني . [6]
هذا الواقع المأزوم والمَرَضِي مثَّل مرتعاً خصباً لأحلام كل طائفة في السيطرة وفي لبنان خصوصاً لا تمثل قوة الطائفة إلا بمددها الخارجي وتبعيتها الدينية والسياسية والمالية . وكانت الطائفة الشيعية التي يمثلها ( حزب الله ) سياسياً وعسكرياً موضوع حديثنا من تلك الطوائف التي أرادت أو بالأصح أريد منها أن تحقق الحلم بتكوين دولة تقوم على تبني المذهب الجعفري الاثني عشري منهجاً ونظاماً ؛ فلبنان أريد به أن يكون . إما دولة نصرانية عربية بميول غربية وسط تجمع مسلم ضخم ، وإما دولة شيعية عربية بميول فارسية وسط تجمع سني ضخم كذلك .
والدولة الأولى : النصرانية لعل لها حديثاً آخر ، أما المراد الآخر فلا بد من الوقوف فيه أولاً على بعض المرتكزات ؛ حتى تتضح الصورة من بداياتها وصولاً إلى منتهاها .
لبنان وإيران قصة العلاقة :
حين استولى الصفويون على حكم إيران ، في مطلع القرن السادس عشر ، وجعلوا من التشيع الإمامي دين الدولة والأمة ، وحصنوا إيران به بإزاء الفتح العثماني ( التركي السني ) كان التشيع يذوي ويتلاشى ، إنْ في مدارس النجف أو في مدارس خراسان ، فعمد الشاه إسماعيل إلى استقدام علماء من جبل عامل جنوب لبنان لتدريس الفقه الإمامي ، فكان منهم :
( بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن عبد الصمد ، 953-1031هـ ) الذي أصبح شيخ الإسلام في أصفهان في عهد الشاه عباس الكبير ، والمحقق الكركي علي بن الحسين ابن عبد العالي العاملي ، ت940هـ - 1533م الذي قَدِم النجف ثم رحل إلى بلاد العجم لترويج المذهب ، والسلطان حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي الذي مكنه من إقامة الدين وترويج الأحكام ، وكان يُرغِّب عامة الناس في تعلم شرائع الدين ومراسم الإسلام ، ويحثهم على ذلك بطريق الالتزام ، وكان أن جعل في كل بلدة وقرية إماماً يصلي بالناس ويعلمهم شرائع الدين ، وبالغ في ترويج مذهب الإمامية ؛ بحيث لقبه بعضهم بمخترع مذهب الشيعة . [7]
ومنطقة جبل عامل أو عاملة في قلب جنوب لبنان كانت أهم مرجعية شيعية في العالم بين القرنين الميلاديين الرابع عشر والسادس عشر ، ومع بداية هذا التعاون مع الدولة الصفوية أُبيد الآلاف من السُنّة من العامة والعلماء ؛ ففي تبريز العاصمة وحدها كان السُنّة فيها لا يقلون عن 65% من السكان ، وقد قتل منهم في يوم واحد 40ألف سني ! ! كما أُجبر الألوف على التحول القسري إلى مذهب الإمامية [8] كما كانت هناك مؤامرات عديدة وتعاون مع قوى غربية على إسقاط الدولة العثمانية ، وهي من الأمور غير الخافية عبر التاريخ [9] .(49/224)
وقد استهوت التجربة الصفوية الشيعية ( المضطهدين ) في العراق وجبل عامل جنوب لبنان والبحرين ، وذهب العلماء بالخصوص ليدعموا تأسيس الدولة الشيعية ( الصفوية ) الوليدة [10] .
ونستطيع أن نتجاوز حقبة زمنية بعيدة حتى نصل إلى صورة قريبة تبين تلك العلاقة الحميمة والوطيدة التي يحاول نفر من الناس فصلها وتزييف الواقع ووقائعه .
فقد قيل لـ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله : إن دور حزبه لن ينتهي ؛ لأنه حزب مستورد من الخارج ، (سوريا أو إيران) فقال : لنكن واضحين ونحكي الحقائق : الفكر الذي ينتمي إليه ( حزب الله ) هو الفكر الإسلامي ، وهذا الفكر لم يأت من ( موسكو ) أيام الاشتراكية ولا من ( لندن وباريس ) ولا حتى من ( واشنطن ) في زمن الليبرالية ، هو فكر الأمة التي ينتمي إليها لبنان ، إذن نحن لم نستورد فكراً ، وإذا كان من يقول : إن الفكر إيراني . أقول له : إن هذه مغالطة؛ لأن الفكر في إيران هو الفكر الإسلامي الذي أخذه المسلمون إلى إيران، وحتى هذا الفكر خاص بعلماء جبل عامل . اللبنانيون هم الذين كان لهم التأثير الكبير في إيران على المستوى الحضاري والديني في القرون السابقة ؛ أين هو الاستيراد ؟ هذا الحزب كوادره وقياداته وشهداؤه لبنانيون [11] .
وفي إحدى الاحتفالات التأبينية التي تقام في لبنان قال إمام جمعة مسجد الإمام المهدي الشيخ حسن طراد : إن إيران ولبنان شعب واحد وبلد واحد ، وكما قال أحد العلماء الأعلام : إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً وعسكرياً [12] .
وفي مناسبة تأبينية أخرى قال الناطق باسم حزب الله ذاك الوقت إبراهيم الأمين : نحن لا نقول : إننا جزء من إيران ؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران [13] .
ويقول محمد حسين فضل الله المرشد الروحي لحزب الله : إن علاقة قديمة مع قادة إيران الإسلامية بدأت قبل قيام الجمهورية الإسلامية ، إنها علاقة صداقة وثقة متبادلة ، ورأيي ينسجم مع الفكر الإيراني ويسير في نفس سياسته [14] .
ويقول حسن نصر الله : إننا نرى في إيران الدولة التي تحكم بالإسلام والدولة التي تناصر المسلمين والعرب . وعلاقتنا بالنظام علاقة تعاون ، ولنا صداقات مع أركانه ونتواصل معه ، كما إن المرجعية الدينية هناك تشكل الغطاء الديني والشرعي لكفاحنا ونضالنا [15] .
ويُؤَمِّن على كلام أمين الحزب مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والإفريقية ، د . محمد صدر فيقول : إن السيد حسن نصر الله يتمتع بشعبية واسعة في إيران كما تربطنا به علاقات ممتازة [16] .
وقد حذر علي خامنئي مرشد الثورة من إضعاف المقاومة الإسلامية وقال : إنه يجب التيقظ ومنع الأعداء من ذلك ، إن شعلة المقاومة يجب أن لا تنطفئ ؛ لأن أولئك الأبطال واجب على إيران مساعدتهم [17] .
فهكذا يتبين الترابط المتكامل بين إيران الثورة وحزب الله وشيعة لبنان ، فقد أصبحت إيران الأم الرؤوم والمحضن الدافئ والمرعى الخصيب والنموذج الذي يتطلع إليه عموم الشيعة ؛ فهي القبلة الدينية والسياسية لهم .
المنتظرون إلى متى ! ؟
نتعرض هنا لقضية مهمة حول ( التبديل ) الكبير الذي حدث في عقيدة ومنهج الشيعة الاثني عشرية والذي حوَّلهم من طائفة على هامش التاريخ بفعل ( نظرية الانتظار ) ، بعد دخول محمد بن حسن العسكري السرداب وغيابه على حد قولهم إلى طائفة ثورية تريد تغيير العالم كله ومواجهة قوى الاستكبار في العالم وإنارته بالإسلام ( الصحيح ) ، وتطهير الأرض من رجس يهود ! ! وقد كان لحزب الله نصيب وافر من هذه الشعارات الرنانة والمواجهة المدَّعاة .
وتقوم نظرية ( الانتظار والتَّقِيَّة ) على تحريم الثورة والإمامة والجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة ؛ فقد تأثر الفكر السياسي الشيعي تأثراً كبيراً بنظرية وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري داخل السرداب ، واتسم لقرون طويلة بالسلبية المطلقة ؛ وذلك لأن هذه النظرية قد انبثقت من رحم النظرية الإمامية التي تحتم وجود إمام معصوم معيَّن مِنْ قِبَلِ الله ، ولا تجيز للأمة أن تعيِّن إماماً أو تنتخبه ؛ لأنه يجب أن يكون معصوماً ، وهي لا تعرف المعصوم الذي ينحصر تعيينه من قِبَلِ الله ؛ ولذلك اضطر الإماميون إلى افتراض الإمام الثاني عشر ، بالرغم من عدم وجود أدلة علمية كافية على وجوده .
وقد كان من الطبيعي أن يترتب على ذلك القول بانتظار الإمام الغائب ، تحريم العمل السياسي ، أو السعي لإقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة ، وهذا ما حدث بالفعل ؛ حيث أحجم النواب الخاصون بالإمام عن القيام بأي نشاط سياسي في فترة الغيبة الصغرى ، ولم يفكروا بأية حركة ثورية ، في الوقت الذي كان فيه الشيعة الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولاً في اليمن وشمالي إفريقيا وطبرستان .(49/225)
لقد كانت نظرية انتظار الإمام الغائب بمعناها السلبي المطلق تشكل الوجه الآخر للإيمان بوجود الإمام المعصوم ، ولازمة من لوازمها ؛ ولذلك فقد اتخذ المتكلمون الذين آمنوا بهذه النظرية موقفاً سلبياً من مسألة إقامة الدولة في عصر الغيبة ، وأصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج المهدي الغائب .
وقد نسبوا إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله عز وجل . يعنون به خروج الغائب المنتظر ، وجعلوا الانتظار أحب الأعمال إلى الله ، والمنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان [18] .
وبالرغم من قيام الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع الهجري ، وسيطرتها على الدولة العباسية ، فإن العلماء الإماميين ظلوا متمسكين بنظرية الانتظار وتحريم العمل السياسي ، وقد قال محمد بن أبي زينب النعماني (توفي سنة 340هـ) في كتابه الغيبة : ( إن أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره ، لا من خلقه ولا باختيارهم ؛ فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ورد مورد الظالمين والمنافقين الحالِّين في ناره ) .
( كل راية تُرفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله ) .
( كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة ) .
( واللهِ لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به ) [19] .
وجاء في كتاب بحار الأنوار عن المفضل بن عمر ابن الصادق أنه قال : يامفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة ، لعن الله المبايع والمبايَع له ) [20] .
وكما أثَّرت قضية الإمامة والولاية فكذلك أَثَّرتْ نظرية ( الانتظار ) على موضوع حديثنا ، العمل الثوري ( الجهاد ) فتعطل ، وكان مُحرَّماً .
وقد نتج عن الالتزام بنظرية الانتظار ، وتفسير شرط الإمام المُجمَع عليه في وجوب الجهاد أنه الإمام المعصوم أن تَعَطَّلَ الجهاد في عصر الغيبة ؛ فقد اشترط الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط في وجوب الجهاد اشترط ظهور الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره ، ولا يسوغ لهم الجهاد دونه ، أو حضور مَنْ نصَّبه الإمام للقيام بأمر المسلمين ، وقال بعدم جواز مجاهدة العدو متى لم يكن الإمام ظاهراً ، ولا مَنْ نصَّبه الإمام حاضراً ، وقال : ( إن الجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم ، وإن أصاب لم يؤجر وإن أصيب كان مأثوماً ) .
واعتبر ابن إدريس : ( أن الجهاد مع الأئمة الجُوّار أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم ، إن أصاب لم يؤجر وإن أُصيب كان مأثوماً ) ، وقال : ( إن المرابطة فيها فضل كبير إذا كان هناك إمام عادل ولا يجوز مجاهدة العدو من دون ظهور الإمام ) .
وصرح يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع بحرمة الجهاد من دون إذن إمام الأصل ، و ( أن وجوبه مشروط بحضور الإمام داعياً إليه أو من يأمره ) .
وبالرغم من قيام الدولة الشيعية الصفوية تحت رعاية المحقق الكركي الشيخ علي بن الحسين ، فإنه رفض تعديل الحكم في عصر الغيبة ، وحصر في كتاب (جامع المقاصد في شرح القواعد) وجوب الجهاد بشرط الإمام أو نائبه ، وفسَّر المراد بالنائب بـ ( نائبه المنصوص بخصوصه حال ظهور الإمام وتمكنه ، لا مطلقاً ) .
وأغفل الشيخ بهاء الدين العاملي بحث الجهاد في كتابه : (جوامع عباسي) وفسر سبيل الله في عصر الغيبة ببناء الجسور والمساجد والمدارس .
ولا يذكر أحدٌ من العلماء المعاصرين - كالكبايكاني والشاهرودي والخونساري والخوئي والقمي والشريعتمداري الذين يعلقون على العروة الوثقى - لا يذكرون شيئاً عن الجهاد أو تفسير كلمة سبيل الله به .
ومن هنا - وإذا استثنينا عدداً محدوداً جداً من الفقهاء الذين شككوا في تحريم الجهاد ، وربطه بالإمام العادل المعصوم - يكاد يكون إجماع الفقهاء الإمامية عبر التاريخ ينعقد على تحريم الجهاد ، بمعنى الدعوة للإسلام والقتال من أجل ذلك ، وخاصة لدى العلماء الأوائل منهم [21]
وقد قال الخميني : في عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر عجل الله فرجه الشريف يقوم نوابه وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه في إجراء السياسات وسائر ما للإمام عليه السلام إلا البدأة بالجهاد [22] .
فهكذا كانت هذه النظرية ( العقدية ) والسياسية عائقاً كبيراً أمام الشيعة الإمامية في الانطلاق إلى تحقيق عقيدة الثأر الكربلائية ، والانتقام ممن قتل الحسين - رضي الله عنه - وإن كان هذا الموقف ظاهرياً يُخفي خلفه أحلاماً توسعية فارسية [23] ؛ فقد بدأ الانقلاب على البدعة ببدع أخرى ؛ ولكنها هذه المرة تساعد على الخروج من هذه الشرنقة القاتلة التي وضعوا أنفسهم فيها بعد أن ضاقت عليهم بدعتهم وقال قائلهم :
اللهم طال الانتظار وشمت بنا الفجاروصعب علينا الانتظار [24] .
الأطوار المنسوخة [*] :(49/226)
والمنهج الشيعي مر بأطوار يختلف بعضها عن بعض بشكل كبير ؛ فبعد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري بغير ولد اضطرب الشيعة وتفرق جمعهم ؛ لأنهم أصبحوا بلا إمام ، ولا دين لهم بلا إمام ؛ لأنه هو الحجة على أهل الأرض ، وبالإمام عندهم بقاء الكون ؛ إذ ( لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ) وهو أمان الناس ( ولو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله ) ولكن الإمام مات بلا عقب ، ولم يحدث شيء من هذه الكوارث ، فتحيرت فرق الشيعة واختلفت ، فادعت طائفة منهم أن الحسن له ولد غائب حفاظاً على المكاسب الأدبية والمادية ، وأن له نواباً هم الواسطة بينه وبين الناس ، وكانوا أربعة ، وكانوا يجمعون الأموال من الناس لإيصالها لهذا الغائب ، وكانت لهم الطاعة ، فلهم ما للإمام ، ولقولهم صفة القداسة والعصمة ، وهم مخولون كذلك بالتشريع ، ثم كان أن توفي رابع النواب ، ولم يوص بنائب خامس بعده ، وأخرجوا مرسوماً موقعاً من الإمام الغائب يقول فيه . ( أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله ) .
فانتهت بذلك ما تسمى الغيبة الصغرى وبدأ تطور جديد بتفويض أمر النيابة عن الإمام المنتظر إلى رواة حديثهم وواضعي أخبارهم بعد النواب ، وقد أفاد هذا التطور الشيعة في تخفيف التنافس على منصب البابية وبدأت الغيبة الكبرى [25] .
وكل هذا العنت كان لربط الناس بأحلام مستمرة عن قيام دولة شيعية ، وكلما اقتربت مرحلة التخدير النفسي من النهاية ، بدأ تطور آخر وأحلام أخرى حتى لا يتفلت الناس من هذه البدع وإن كان هذا قد حدث بالفعل مع نهاية كل مرحلة وبداية كل تطور جديد .
وكانت نظرية ( ولاية الفقيه ) التي تنازل فيها الفكر الإمامي عن شرط العصمة والنص في الإمام ، وسمح بالنيابة الواقعية للفقهاء عن الإمام ، والتي تسمح لهم بممارسة القضاء وتوجب التقاضي إليهم ، وهو ما كان محرماً عندهم من قبل ، وفتح باب الاجتهاد الذي كان محرماً كذلك ، والقول بالقياس ، وانسحبت أشكال التطور أو ( التبديل ) على كافة محرمات ( نظرية الانتظار ) كالعمل المسلح ( الثورة ) والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة ؛ فقد طالت غيبة الإمام وتوالت القرون دون أن يظهر ، والشيعة محرومون من دولة شرعية حسب اعتقادهم ، فبدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي تداعب أفكار المتأخرين ؛ فهذا الخميني يقول : ( قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام ، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة ، فهل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون ؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج ؟ القوانين التي صدع بها نبي الإسلام r وجهد في نشرها ، وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً ، هل كان كل ذلك لمدة محدودة ؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً ؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ .
ثم يقول : ( إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام ، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها ، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف ) [26] .
ويقول : ( وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام حال غيبته ، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر ؛ فإذا أجمعوا أمرهم كان في ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة منقطعة النظير ) [27] .
وإذا كانت حكومة الآيات والفقهاء لا مثيل لها في العدل كما يقول فما حاجتهم بخروج المنتظر إذاً ؟ وهو يرى أن ولاية الفقيه الشيعي كولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : ( فالله جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً ومن بعده كان الإمام ولياً ، ومعنى ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع ) ثم يقول : نفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه ، بفارق واحد هو أن ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم ؛ لأن الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية ) [28] .
( وإن معظم فقهائنا في هذا العصر تتوفر فيهم الخصائص التي تؤهلهم للنيابة عن الإمام المعصوم ) [29] .
هذا الانقلاب يعتبر نسخاً لكل ما انبنى عليه دين الإمامية ، أو على حد قول من قال : إن الخميني أخرج ( المهدي المنتظر ) عند الروافض [30]
من الانتظار إلى الثوار :
والفكر السياسي الإمامي هو فكر ثوري بطبيعته ، وانتقامي من نشأته إلى منتهاه ، وكما يقول قائلهم .(49/227)
الشيعة هم التيار الثوري على مدار تاريخ المسلمين ، لديهم عقدة ذنب متأصلة منذ مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء على يد زبانية يزيد بن معاوية ثاني حكام الدولة الأموية ، عقدة سببها أنهم تخلوا عن الحسين الذي خرج يطلب الإمارة ، وخذلوه ؛ بل وسلمه نفر منهم إلى عدوه اللدود ، ليمثل بجثته ويسبي أهله وذويه ، وقد أتاح لهم الزمن ( عدواً جديداً ) ! ! يعوضون في جهاده وقتاله والثأر منه ما اقترفوه في كربلاء ؛ وبالفعل هم يقاتلون بكل الهموم والآلام والأحزان والاضطهاد الذي جثم على صدورهم طيلة ما يقرب من 1300 سنة ، يجاهدون ضده بعقيدة متماسكة وشعار حاد ( كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء ) ، وإذا لم تكن الدماء قد جرت في كربلاء دفاعاً عن الحسين ، فلتَسِلْ أنهاراً يغسلون بها العار عن الأرض ويستعيضون بها عن الشرف الضائع [31] .
وتمت المبالغة في تحويل نظرية : ( الانتظار ) السلبية إلى نظرية ثورية ، كما قال عبد الهادي الفضلي : إن الذي يُفاد من الروايات في هذا المجال هو أن المراد من الانتظار هو وجوب التمهيد والتوطئة بظهور الإمام المنتظر . وإن التوطئة لظهور الإمام المنتظر تكون بالعمل السياسي عن طريق إنارة الوعي السياسي والقيام بالثورة المسلحة ! ! [32] .
وإن كانت الدولة النبوية في المدينة التي أقامها المصطفى صلى الله عليه وسلم هي أمنية الأماني التي يُسعى لتحقيقها باعتبارها أنموذجاً ومثالاًَ يُقتفى أثره ويُرجى الوصول إلى صورته فإن هذا النموذج لم يكن هو المثال والهدف الذي يسعى إليه الإمامية ؛ بل كان مثالهم دائماً وحتى يظهر مهديهم المنتظر هذه ( المصيبة ) الكربلائية التي هي دائماً ماثلة أمامهم .
( فالأمة الحسينية أمة متصلة قوام اتصالها بـ ( المصائب ) المتعاقبة عليها ، ومواقف الثورة الكربلائية التي لم تنقطع ، هناك تدرك تماماً أنك تعرفهم فرداً فرداً منذ آلاف السنين ، قاتلت معهم وقاتلوا معك ، واستشهدتم سوياً في كربلاء ، هناك تدرك تماماً أن المهدي ليس بعيداً وأنه في مكان ما على الجبهة ) [33] .
وإذا غدا استمرار الثورة ودوامها من بعد حدوثها إنجاز الثورة الأعظم أوجب تجديد الإعجاز كل يوم ، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ ، ولا يُرتب تجديد الإعجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية بين كربلاء وبين ظهور المهدي ، إلا إظهار الدلائل على قيام الثورة ، وحفظ معناها ، والحؤول بين هذا المعنى وبين الاضمحلال والضعف . ولا يتم ذلك إلا بالإقامة على الحرب وفي الحرب . وينبغي لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة ، ولو طالت قروناً ؛ لأنها تؤذن بتجديد العالم كله ، وبطيِّ صفحة الزمان [34] .
فلم تكن الحرب بضواحي البصرة وعلى ساحل شط العرب إلا مقدمة حروب كثيرة أوكلت إليها القيادات الخمينية الشابة التمهيد لـ ( فَرَج ) المهدي صاحب الزمان من غيبته الكبرى ، ولبسطه راية العدل على ( الأرض ) كلها ، وتوريثه ملك الأرض للمستضعفين [35] .
وهذا المفهوم الثوري المستمر كان له في الحركة السياسية الشيعية اللبنانية نصيب وافر ؛ فقد ترجمه خطباء الحركة الخمينية بلبنان وينقلونه إلى ( اللبنانية ) ، أو الكلام السياسي اللبناني ، بعبارة ( الحالة الجهادية ) أو ( الثورية أو الإسلامية ) ، وهي تعني الخروج من كل أشكال الإدارة التي تمتُّ بصلة إلى الدولة ومؤسساتها وقوانينها عامة ، وإلى كيانها الحقوقي خاصة .
لذا يحرص أبناء ( حزب الله ) على استمرار التشرذم والتجاذب والتخبط حرصهم على حدقات عيونهم . ويرفعون هذه الحال إلى مرتبة المثال .
ويخاطب محمد حسين فضل الله جمهور المصلين في مسجد بلدة النبي عثمان قائلاً : وعلينا أن نخطط للحاضر والمستقبل ؛ لنكون مجتمع حرب ! !
ويضيف الخطيب : إن الحرب هذه ( مفروضة ) ، شأن كل الحروب التي يحل خوضها للإماميين ، ولا يحل لهم خوض غيرها [36] ، والحرب ( المفروضة ) هي النظير الإيراني لحرب التطويق السو . ياتية . فكلُّ ما يوقف توسع أصحاب مجتمع الحرب عدوانٌ عليهم .
بين بداية القرن ونهايته :
كانت الحالة الدينية السياسية الشيعية في بداية هذا القرن الميلادي حالة منكمشة إلى حد ما ، وكان هناك تهميش واضح للشيعة باعتبارهم ( طائفة ) ، وكان ذلك التهميش الذي عاناه ( جبل عامل ) والشيعة عامة خلال فترة الانتداب على لبنان ، وفترة بناء الدولة والاستقلال حال دون احتلال مواقع في الدولة تسمح أو تدفع بالمشاركة في سباق ادعاء رموز تاريخية مؤسسة لها من الطائفة الشيعية [37] .
وعلى مستوى الحالة الدينية ، فقد ضعف دور العلماء وعزف الشيعة اللبنانيون عن العمامة أي طلب العلم الشيعي الديني وانزوى المسجد ، وقد شهد أحدهم على هذا الواقع فقال : فهذه القرى العاملية لا تذكر اسم الله تعالى في ليل ولا نهار ، برغم سخاء المهاجرين على بناء المساجد وكان يوجد وقتها 1920 1930م ما يزيد على الأربعمائة مسجد بين مسجد كبير وصغير [38] .(49/228)
وتزامنت هذه الحالة الرثة والهامشية مع تغيرات عالمية ضخمة ، فكان سقوط الخلافة العثمانية ، وبدايات الدعوة إلى القومية العربية عقب الدعوة الطورانية التركية ، والحرب العالمية الأولى ، ثم كانت الدولة البهلوية ( العلمانية ) وكانت هذه الظروف وغيرها مجتمعة أدت إلى أن كانت بدايات النهضة الحديثة للشيعة الإمامية التي انتهت في 1979م ، بقيام الجمهورية الإسلامية ورغبة في قيام جمهوريات أخرى على غرار المثال الأم .
وبين هذه النهضة في بداية القرن وقيام الدولة وسعيها إلى إنشاء دول أخرى ، خاصة في لبنان كانت هناك جهود كبيرة لذلك ، وكان ( حزب الله ) مرحلة من مراحل ينبغي أن نقف عليها .
أما كيف كانت بدايات النهضة السياسية والدينية الشيعية اللبنانية على يد موسى الصدر وفضل الله وغيرهما ؟ وكيف أصبحت ( الطائفة ) الشيعية رقماً مهماً في الحسابات اللبنانية ؟ وكيف صنعوا ( قوافل الانتحاريين ) ؟ فهذا وغيره موضوع حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله .
تابع
----------------------
(1) وضاح شرارة دولة حزب الله ، ص : 339 دار النهار ، بيروت ، ط/1 /1996م .
(2) فهمي هويدي ، جريدة الأهرام 30/3/1999م .
(3) د حلمي القاعود جريدة الشعب ، 9/3/1999م .
(4) مجدي أحمد حسين ، وانتصرت المقاومة ، ص 7 ، مركز يافا للدراسات والأبحاث ، القاهرة ، ط/1/1966م .
(5) د محمد مورو ، الجهاد في سبيل الله ، حزب الله نموذجاً ، ص 62 ، مركز يافا للدراسات والأبحاث ، القاهرة ، ط/1/1966م .
(6) انظر : د فاطمة بدوي ، الحرب ، المجتمع والمعرفة ، الحرب الأهلية وتغير البنى الاجتماعية والعقلية في لبنان ، ص 99 118 ، دار الطليعة ، بيروت ، ط/1/1994م وانظر : ألبير منصور ، الانقلاب على الطائف ، ص 51 57 ، دار الجديد ، بيروت ، ط/1/1993م .
(7) وضاح شرارة ، دولة حزب الله ، ص 31 32 ، وانظر : أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي الشيعي ، ص 378 385 ، دار الجديد ، بيروت ، ط/1/ 1998م ، وانظر : تجربة الإسلام السياسي ، أوليفيه روا ، ترجمة نصير مروة ، ص : 162 ، دار الساقي ، ط/2/1996م .
(8) انظر : تاريخ الصفويين وحضارتهم ، بديع جمعة أحمد الخولي ، ص 55 ، دار الرائد العربي ، وأحمد الكاتب ، مصدر سابق ، ص 378 ، وعبد الله الغريب ، وجاء دور المجوس ، ط/6/1408هـ .
(9) انظر : محمد العبدة ، مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية ، ص 77 ، 125 ، وانظر : د وجيه كوثراني ، المسألة الثقافية في لبنان ، الخطاب السياسي والتاريخ ، ص 83 88 ، منشورات بحسون الثقافية ط/1/1404هـ .
(10) أحمد الكاتب ، مصدر سابق ، ص 379 .
(11) مجلة المقاومة ، العدد 40 ، ص 29 ، وهي مجلة شهرية تصدر في مصر ، تعنى بشؤون وأخبار حزب الله ، يصدرها د رفعت سيد أحمد مركز يافا للدراسات والأبحاث . (12) جريدة النهار اللبنانية11/12/1986م .
(13) جريدة النهار 5/3/1987م .
(14) حلقات الإسلام والكونجرس ، الحلقة 38 ، ص : 46 د أحمد إبراهيم خضر ، نشرت في مجلة المجتمع الكويتية ، العدد 955 .
(15) مجلة المقاومة ، العدد 27 ، ص 15 16 .
(16) جريدة الشرق الأوسط ، عدد (7482) 9/2/1420هـ 24/5/ 1999م .
(17) جريدة الحياة ، العدد (13252) ، 6/3/1420هـ 20/6/1999م .
(18) بحار الأنوار ، محمد باقر المجلسي ج/52/122 .
(19) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي الشيعي ، ص 271 272 .
(20) المصدر السابق ، ص 276 ، وراجع د موسى الموسوي ، الشيعة والتصحيح ، ص : 9 50 ، 61 65/1408هـ .
(21) انظر : أحمد الكاتب ، مصدر سابق ، ص 292 299 .
(22) تحرير الوسيلة للخميني ، ج/1/482 .
(23) انظر : عبد المنعم شفيق ، ويل للعرب( مغزى التقارب الإيراني مع الغرب والعرب) ، ص : 108- 131 ، مكتب الطيب ، القاهرة ، ط/1/1420هـ .
(24) انظر : د ناصر عبد الله القفاري ، أصول مذهب الشيعة ، ج/ 2/847 ، 892 897 ، ط/1/1414هـ .
(*) شهدت الساحة الشيعية اللبنانية أنماطاً من هذا النسخ ، فقد نسخت حركة أمل ، حركة المحرومين، ثم جاءت أمل الإسلامية لتنسخ بشكل جزئي حركة أمل ، ثم جاء حزب الله لينسخ ما سبق، كل ذلك في فترة زمنية لا تجاوز عشر سنوات ، وهذا ما سنراه في الحلقة القادمة إن شاء الله .
(25) انظر : د ناصر عبد الله القفاري ، أصول مذهب الشيعة ، ج/ 2/847 ، 892- 897 ، ط/1/1414هـ .
(26) الحكومة الإسلامية ، ص 26، 27 .
(27) المصدر السابق ، ص 48 ، 49 .
(28) المصدر السابق ، ص 51 .
(29) المصدر السابق ، ص 113 .
(30) د ناصر القفاري ، أصول مذهب الشيعة ، ج3 ، ص 1169 .
(31) مجلة المقاومة ، العدد (35) ، ص 16 .
(32) في انتظار الأمام/ص : 57 ، 67 .
(33) دولة حزب الله ، ص 287 .
(34) المصدر السابق ، ص 276 .
(35) المصدر السابق ، ص 231 .
(37) انظر : د وجيه كوثراني ، مصدر سابق ، ص 79 .
(38) دولة حزب الله ، ص 177 .
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
================(49/229)
(49/230)
شبهات الطابور السادس والرد عليها ( المجموعة الأولى )
للشيخ/ فيصل الجاسم
تهذيب واختصار سليمان بن صالح الخراشي
كتب الشيخ فيصل الجاسم - وفقه الله - كتابًا قيمًا بعنوان ( كشف الشبهات في مسائل العهد والجهاد ) ، تعرض فيه لشبهات الطابور السادس في تجويزهم قتل المعاهدين والمستأمنين ، وتجويزهم غدر المسلم بالدول الكافرة والقيام بعمليات التفجير والقتل على أراضيها التي دخلها بأمان منهم .
وقد أحببت نقل رده على شبهات الطابور السادس في هذه المسألة ؛ لتكون مجموعة أولى في الرد على شبهاتهم .. يتلوها إن شاء الله مجموعات أخرى في مقدمتها شبهاتهم في تجويز قتل رجال الأمن ؛ كما حصل مؤخرًا منهم .. نسأل الله لهم الهداية .
قال الشيخ فيصل :
-( الشبهة الأولى : أن حاكم المسلمين لا يصح عهده للكافرين ولا أمانه لهم إلا إذا كان يحكم بكل الشريعة . فإن ترك الحكم ببعض الشريعة وحكم بغير ما أنزل الله فلا يصح عهده ولا أمانه ؛ لأنه كافر فلا تعصم بعهده ولا بأمانة دماء الكافرين .
وهذه الشبهة هي عمدة شبههم التي يدندنون حولها . وهي تدل على جهل واضح بالكتاب والسنة ونصوص الأئمة . وإليك الرد على هذه الشبهة من عشرة أوجه :
( الوجه الأول ) : أن العلماء الثقات في هذا العصر اختلفوا في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله فمنهم من قال بأنه لا يكفر إلا إذا استحل ذلك ، كما نص على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث قال : " أما القوانين التي تخالف الشرع فلا يجوز سنها ، فإذا سن قانوناً يتضمن أنه لا حد على الزاني أو حد على السارق أو لا حد على شارب الخمر ، فهذا قانون باطل ، وإذا استحله الوالي كفر لكونه استحل ما يخالف النص والإجماع ، وهكذا كل من استحل ما حرم الله من المحرمات المجمع عليها فهو يكفر بذلك " [1]
وقال في رسالة " حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها " :
" القسم الثاني : من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها ، أو ليعين غيره على ذلك ، مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك ، فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام ، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم ، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب " الصلاة " وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة " الرسائل " [2]
واختار بعضهم كفره ولو لم يستحل ذلك . ( انظر رسالة الشيخ عبدالرحمن المحمود : الحكم بغير ما أنزل الله ) .
وعلى هذا فإننا لو تنزلنا وقلنا بترجيح قول من كفر الحاكم بغير ما أنزل الله من غير استحلال ، فإن المسألة تبقى مسألة خلاف بين أهل العلم ، كما اختلفوا في تارك الزكاة والصيام والحج .
والقاعدة النبوية التي أصلها محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم تقرر بأن مسائل الخروج وما يترتب عليها من إبطال العهود والمواثيق لا تكون إلا على كفر لا يختلف فيه المسلمون ، وهو الذي وصفه بقوله " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " أي حجة واضحة بينة لا يختلف فيها عالم .
أما أن نلزم الناس بالأحكام المترتبة على كفر الحاكم بناء على ترجيحنا للقول بكفره ، فهذا من الضلال المبين .
والحكم على الحكام والأئمة في مسائل الكفر والإيمان المختلف فيها يختلف عن الحكم بها على آحاد الرعية .
( الوجه الثاني ) : أن يقال لا أقل من أن ينزل من حكم بغير ما أنزل الله من الحكام منزلة الخوارج ، من حيث اختلاف العلماء في كفرهم ، وظاهر الأحاديث يدل على كفر الخوارج ، ومع ذلك أمضى العلماء عهود الخوارج وأمانهم وأجازوا دفع الزكاة إليهم إذا غلبوا .
قال ابن عمر : " تدفع ـ أي الزكاة ـ لمن غلب "
ونص على ذلك أحمد رحمه الله
بل إن العلماء نصوا صراحة على صحة صلحهم للكفار وعهدهم .
فقال سحنون : " وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز " [3]
وقال محمد بن الحسن : " وأمان الخوارج لأهل الحرب جائز كأمان أهل العدل " [4]
وهذا في حق الأمان الذي يكون من آحاد الرعية ، فكيف بالعهد العام للكفار الذي لا يكون إلا من الحاكم ؟!
ولا أعلم أحداً من العلماء أبطل صلح الخوارج لأهل الحرب ، بل ولا صلح من لم يختلف في كفرهم كالعبيديين وكثير من دول الرافضة المارقة كالسامانيين والبويهيين .
ذلك لأن صلح الكافر للكافر جائز .
قال أحد علماء الدعوة النجدية " الدرر 10/338 " : " يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم بالكتاب والسنة والاعتبار " .(49/231)
( الوجه الثالث ) : أننا لو فرضنا كفر الحاكم بغير ما أنزل الله مطلقاً واتفاق العلماء عليه ، لم يكن هذا دليلا على بطلان عهده وأمانه للكفار؛ ذلك لأن الكافر يُعصم دمه بالأمان الصريح الصحيح وبالأمان الفاسد ـ الذي هو شبهة أمان ـ وبالهدنة الصحيحة وبالهدنة الفاسدة تغليباً لحقن الدماء ، ولئلا يترتب عليه الصد عن سبيل الله ، لأن قاعدة الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات .
والقاعدة في هذا أن كل ما ظنه الكافر أماناً عصم به دمه ولم يستبح لأجل الشبهة .
يدل عليه ما رواه سعيد في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل ـ أي ظناً أنه أراد الأمان ـ فقتله لقتلته ".
وقال أحمد : " إذا أشير إليه ـ أي الكافر ـ بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو أمان " [5]
وقال ابن جزي في القوانين الفقهية : " ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يرده فلا يقتل " .
وقال شيخ الإسلام : " ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم " [6]
وقال أيضاً : " هذا الكلام الذي كلموه صار به مستأمناً ، وأدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان ، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر ، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه " [7]
وقال السرخسي : " وذلك لما بين أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي" [8]
ومن شبه الأمان التي تعصم بها دم الكافر : أن يؤمنه كافر بين المسلمين ظنه الكافر المؤمن مسلماً ، أو علمه كافراً إلا أنه ظن أن أمانه يصح ، وعلى هذا نص الأئمة . فقد روى ابن وهب بإسناده كما في المدونة في " باب أمان المرأة والعبد والصبي " أن عمر رضي الله عنه بعث كتاباً إلى سعيد بن عامر وهو يحاصر قيسارية فقال فيه : " وإذا أمنه بعض من تستعينون به على عدوكم أهل الكفر فهو آمن حتى تردوه على مأمنه أو يقيم فيكم ، وإن نهيتم أن يؤمن أحد أحداً فجهل أحد منكم أو نسي أو لم يعلم أو عصى فأمن أحداً فليس لكم عليه سبيل من أجل أنكم نهيتموه فردوه إلى مأمنه إلا أن يقيم فيكم ، ولا تحملوا إساءتكم على الناس فإنما أنتم جند من جنود الله " .
وقال ابن وهب في المدونة : " وقال الليث والأوزاعي في النصراني يغزو مع المسلمين قالا : لا يجوز على المسلمين أمان مشرك ويرد إلى مأمنه " [9]
وقال الشافعي في الأم في باب " الأمان " : " وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أم لم يقاتلوا لم نجز أمانهم ، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أم لم يقاتل لم نجز أمانه ، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز وننبذ إليهم فنقاتلهم ".
ومن ذلك أيضاً أن يقدموا إلينا في هدنة فاسدة كأن يعقدها غير الإمام ، أو على قول هؤلاء أن يعقدها حاكم كافر ظنه الكفار مسلماً ، فإنه تعصم دماؤهم بهذه الهدنة الفاسدة للشبهة .
قال الفتوحي رحمه الله في المعونة في كتاب الجهاد : " متى جاء الكفار في هدنة فاسدة بأن يتولى عقدها غير إمام أو نحو ذلك من فساد الهدنة معتقدين الأمان ردوا آمنين إلى مأمنهم " [10]
وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على عصمة دم الكافر بأمان كافر مثله للشبهة مع كون الكافر المؤمن من عامة الناس ، فكيف إذا كان الذي أمنهم أو صالحهم هو حاكم المسلمين الذي عاهده الكفار على أنه مسلم فبان كافراً ، فلئن تعصم بعهده وأمانة دماء الكافرين ولو بالشبهة من باب أولى ؟!
( الوجه الرابع ) : أن الأمان والعهد إنما عقده الحاكم لمصلحة المسلمين عامة ، فرد أمانه وعهده وإبطاله يترتب عليه الضرر على المسلمين .
( الوجه الخامس ) : أن يقال : إننا لو أبطلنا عهد الحاكم بغير ما أنزل الله ، ولم نعصم به دماء الكافرين ، فإن هذا يستلزم إبطال كل ماباشره الحاكم أو نائبه مما يشترط في مباشرته الإسلام ، كالأنكحة ، وولاية جمع المال وتفريقه ، والقضاء ، وغير ذلك ، إذ لا فرق بين عهده للكافرين وبين سائر عهوده وعقوده ، وهذا يترتب عليه من الفساد ما يكفي تصوره في بطلانه .
( الوجه السادس ) : أن القول ببطلان عهد الحاكم بغير ما أنزل الله ، للكفار ، يستلزم أن يكون الكفار فقهاء محققين لمسألة الحكم بغير ما أنزل الله وأنها كفر ، ثم يعملون تحققها في هذا الحاكم بخصوص ، لئلا يقدموا على الصلح والأمان فيقدموا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين ، ثم تستباح دماؤهم وأموالهم ! وهذا بين الفساد والبطلان .
( الوجه السابع ) : أن إبطال عهد وصلح الحاكم بغير ما أنزل الله للكفار واستباحة دمائهم بذلك يستلزم الصد عن سبيل الله ، والتنفير عن الإسلام ، لأنهم يظنون أنهم يعاهدون حاكماً مسلماً ، وأن دماءهم قد عصمت بالعهد ، وكل قتل لهم بعد ذلك يعدونه غدراُ وخيانة ، ولا يتصور منهم أن يقلبوا التفصيل الذي يذكره من يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً .(49/232)
( الوجه الثامن ) : أن العهود التي يعقدها الحاكم بغير ما أنزل الله مع الكفار قد رضي أهل الحل والعقد بها ، وهم وجهاء الناس ومجالس الشورى ونحوها بل وعامة الشعب ، فلم يستقل الحاكم بغير ما أنزل الله بهذه العهود والمواثيق .
كما أن الذين يباشرون تأمينهم من إعطاء الفيزة وختم الدخول هم آحاد المسلمين وهم راضون بتأمينهم ، فكيف تستباح دماؤهم بعد ذلك ؟!
( الوجه التاسع ) : أن إبطال العهود التي يعقدها الحكم بغير ما أنزل الله مع الكفار وكذا أمانه قول باطل ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا نص إمام . وهو قول محدث لا سلف له .
( الوجه العاشر ) : أن نقول إننا لو قدرنا كون من يحكم المسلمين كافراً بما هو أوضح من مسألة كفره بالحكم بغير ما أنزل الله ، كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو عابداً لصنم ونحو ذلك ، فإن هذا لا يقتضي أيضا اعتبار عهده وأمانه منتقضاً ، واستباحة دماء من أمنهم وعاهدهم ، وذلك لأن من يعيش تحت حكومته وولايته من المسلمين يعتبرون مستوطنين ، والمستوطن يلزمه من الحقوق ما لا يلزم المستأمن والمعاهد .
يوضحه : أن المسلم الذي يدخل بلاد الكفار بأمان منهم لا يحل له التعرض لهم بنفس ولا مال بالإجماع ، مع كون الأمان الذي عصم دماءهم وأموالهم مؤقتاَ ، فلأن لا يحل له التعرض لهم ولا لمن في بلادهم وهو مستوطن لها من باب أولى وأحرى ، وذلك من أجل عهد المواطنة الذي أصبح مستوطناً به بلادهم ، وهذا العهد وإن لم يكن مكتوباً باللفظ إلا أنه معلوم بالمعنى ، وهذا لا يستريب فيه من عرف رائحة العلم .
ولا تعارض بين هذا وبين ما ورد من جواز الخروج على الحاكم المرتد أو الكافر إذا كان بالمسلمين قوة كما في الحديث : " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " ، وذلك أن الخروج على الحاكم حال كفره يعد من باب الجهاد في سبيل الله بعد دعوته وإنذاره ، بخلاف قتل المستوطنين والمعاهدين والمستأمنين ، فإنه من الفساد والفوضى والغدر والخيانة لا من الجهاد والدعوة ؛ لأنه قتلٌ في حالة أمن ونقض للعهد .
الشبهة الثانية : هي قولهم : إننا مكرهون على الصلح والعهد ومضطرون إليه ، ومن اضطر لصلح أو ألجئ إليه لم يصح صلحه.
والجواب عنها : أن المقدمتين باطلتان .
أما الأولى : وهي أننا مكروهون فليس بصحيح وذلك لأن الكفار قد قدموا ابتداء بطلب من البلاد الإسلامية ، وبرضاهم ، ألجأهم إلى ذلك الواقع لا الكفار .
وأما المقدمة الثانية وهي أن صلح المكره لا يصح ؛ فهي باطلة من ثلاثة أوجه :
" الوجه الأول " أن هذا قول لم يقله أحد من أهل العلم فيما أعلم .
" الوجه الثاني " أن الهدنة لا تكون غالباً إلا في حال ضعف من المسلمين ، بل لا تكون صحيحة بلا خلاف إلا في مثل هذه الحالة ، لأن عامة أهل العلم على إبطال الهدنة في حال قوة المسلمين إذا لم يكن فيها مصلحة .
والنصوص الشرعية قد ذهبت إلى أبلغ من هذا ألا وهو جواز دفع المال للكفار للكف عنا إذا لم يكن بنا قوة ، يدل عليه هم صلى الله عليه وسلم بإعطاء غطفان وحلفائها في غزوة الأحزاب شطر ثمار المدينة على أن يرجعوا ، وعلى هذا نص عامة أهل العلم .
" الوجه الثالث " أنه لا يتصور إكراه على الهدنة والصلح إلا والمسلمون في غاية الضعف ، فإنه إذا كان يحرم قتل المعاهد في حال قوة المسلمين ومنعتهم ، فلأن يحرم قتلهم والمسلمون في حالة ضعف من باب أولى ؛ لأنه ذريعة حينئذ إلى استئصالهم حيث لا قوة لهم .
الشبهة الثالثة : أن صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فقتلهم هو وسيلة لإخراجهم .
والرد عليها من وجوه :
( الوجه الأول ) : أن المراد بمنع اليهود والنصارى من جزيرة العرب إنما هو استيطانها والإقامة الدائمة بها ، لا الدخول مدة معينة بالعهد أو الأمان .
قال النووي في المنهاج : " ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز " [11]
وقال القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية : " وما سوى الحرم منه ـ أي الحجاز ـ مخصوص من سائر البلاد بأربعة أحكام :
إحداها : لا يستوطنه مشرك من ذمي ولا معاهد [12]
وقال ابن قدامة في المغني : "ولا يجوز لأحد منهم سكنى الحجاز "[13] وهذا باتفاق أهل العلم .
( الوجه الثاني ) : أنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز دخول المعاهدين والمستأمنين والذميين الحجاز التي هي أخص جزيرة العرب ، وإنما اختلفوا في مدة مقامهم .
فكيف يقال بمنعهم من دخول غير الحجاز بغير نية استيطان أو إقامه ، بل وقتلهم لأجل بذلك ؟
( الوجه الثالث ) : أن جزيرة العرب مختلف في تحديدها ؛ فمن أهل العلم من يحدها من بحر القلزم " الأحمر " غرباً وبحر العرب جنوباً وخليج البصرة " الخليج العربي " شرقاً واختلف أصحاب هذا القول في شمالها وهو المشهور من مذهب مالك وقول أبي حنيفة .
ومنهم من يحدها بالحجاز إلى تبوك وهو قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه ورواية عن مالك وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، واستدلوا على ذلك بأن عمر رضي الله عنه لم يخرجهم من اليمن وتيماء ،فعلى هذا القول تكون الكويت والأحساء ونجد ليست من جزيرة العرب.(49/233)
( الوجه الرابع ) : أن يقال إنه لو صح أن المراد بالحديث عدم جواز دخولهم جزيرة العرب مطلقاً ، لم يكن إخراجهم منها عن طريق القتل بعد أن أعطوا العهد ، بل يكون الإخراج على طريقة عمر رضي الله عنه .
( الوجه الخامس ) : أن الإخراج منوط بالحاكم لا بآحاد الرعية ، كالحدود والجهاد وغير ذلك فلا يُفتئت عليه فيها.
الشبهة الرابعة : أنهم يوردون على ما ذكرته في المسألة الثالثة " من عدم جواز غدر المسلم بالكفار إذا دخل بلادهم بأمان " بأنهم يكيفون ما حصل في بلاد الكفار من خطف للطائرات وتدمير للمباني على أنه من باب أحد أمرين :
الأول : من باب التبييت والتترس .
الثاني : أنهم أئمة الكفر ، الذين لا تحقن دماؤهم بعهد ولا أمان لقوله تعالى : " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " " التوبة 12 " وكما حصل لكعب بن الأشرف اليهودي لما أظهر له محمد بن مسلمة رضي الله عنه الأمان ثم قتله .
والجواب على هذه الشبهة ما يلي :
أما التصوير الأول وهو أنه من باب التبييت والتترس فالرد عليه من وجوه :
( الوجه الأول ) : أن التبييت ـ وهو الإغارة على الكفار ليلاً دون إنذار ـ ورمي الكفار في حال التترس ـ وهو تحصن الكفار بالمسلمين أو بمن لا يقتلون كالنساء والصبيان ـ إنما يكون في قتال كفارٍ محاربين ، ليس بيننا وبينهم عهد ولا أمان ، وقد بلغتهم الدعوة .
كما أغار صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون
وسئل صلى الله عليه وسلم " عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال : "هم منهم " متفق عليه.
وأما إن كانوا معاهدين أو مستأمنين ، فلا يجوز تبييتهم ، ولا رميهم وهم متترسون بمن لا يجوز قتله في الحرب .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : " وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين ولا اعتقدوا أنهم قد أومنوا " [14]
فإن قال قائل :إن أمريكا قد نقضت العهد بقتال المسلمين في أماكن كثيرة ، فجاز تبييتهم والإغارة عليهم .
فالجواب أن يقال ـ بعد التنزل مع الخصم والقول بانتقاض عهدنا مع الكفار بقتالهم لبعض المسلمين الذين ليسوا تحت ولايتنا مع كونه باطل [15] ـ : إنهم وإن نقضوا العهد العام ، وهو الهدنة والصلح ، فإن العهد الخاص ، وهو أمانهم لمن دخل بلادهم به لم ينتقض ، كما لو دخل محارب منهم بلادنا بأمان في حال حربنا مع قومه ، فإنه آمن بما أعطي من الأمان الخاص وقومه محاربون ، فكذلك المسلم إذا دخل بلادهم بأمان منهم ، لا يحل له تبييتهم ولا الإغارة عليهم ، ما لم ينقضوا هذا الأمان الخاص ، برفع السلاح عليه ونحو ذلك .
فلا بد إذاً أن يفرق بين الأمان العام وهو العهد والصلح ، وبين الأمان الخاص وهو عقد الأمان لآحاد الأفراد ، فبطلان أحدهما لا يستلزم بطلان الآخر .
فإن بطل الأعم وهو العهد لم يبطل الأخص وهو الأمان ، والعكس صحيح .
لذلك يبطل أمان المستأمن منهم إذا دخل بلادنا إذا ما نقضه بسبنا أو سب ديننا ، ولا يستلزم هذا بطلان العهد العام الذي بيننا وبين قومه لو كان .
ولا يبطل عهد المستأمن إذا دخل بلادنا به ببطلان عهد قومه معنا بحربنا فتأمل .
( الوجه الثاني ) : أن العلماء مختلفون في رمي الكفار إن تترسوا بذرا ريهم ونسائهم .
فمن أهل العلم من منع رميهم في هذه الحال إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ، كأن كان في الكف عن قتالهم انهزام المسلمين ، أو يخشى من استئصال قاعدة الإسلام ، وهذا هو مذهب الإمام مالك والشافعي .
ومن أهل العلم من رخص في رميهم حال التترس بنسائهم وذراريهم مطلقاً سواء كانت الحرب ملتحمة أو كانت غير ملتحمة ، بشرط أن يقصد الرامي المقاتلة لا النساء والذرية .
( الوجه الثالث ) : أن تبييت الكفار ورميهم حال التترس إنما يكون بأمر ولي الأمر ، أو من وكله على إمرة الجيش ، لا أن يفعله من شاء من الرعية ، لأنه افتئات على الحاكم .
قال الفتوحي في المنتهي في فصل " الغزو بغير إذن الإمام " : " ويحرم غزو بلا إذن الأمير "
وهذا مذهب السلف قاطبة .
قال الفتوحي في المعونة : "" فان دخل قوم " لهم منعة أو لا منعة لهم " أو أحد ولو عبداً دار حرب بلا إذن من الإمام " فغنموا "فغنيمتهم فئ" تصرف مصرف الفئ على الأصح لأنهم عصاه بافتياتهم على الإمام لطلب الغنيمة ، فناسب حرمانهم كقتل الموروث ".
وقال كل من الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ وحسن بن حسين آل الشيخ وسعد بن حمد بن عتيق ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ في رسالة إلى الإمام عبد الرحمن بن فيصل " الدرر 9/94 " : " ورأينا أمراً يوجب الخلل على أهل الإسلام ، ودخول التفرق في دولتهم ، وهو الاستبداد من دون إمامهم ، بزعمهم أنه بنية الجهاد ، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو ، وبذل الذمة للعامة ، وإقامة الحدود ، أنها مختصة بالإمام ومتعلقة به ، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته ... " .(49/234)
ولا يقول قائل إنهم إنما فعلوا ذلك بإذن ولي أمر دولة مسلمة يدينون له بالطاعة غير الدولة التي دخلوا باسمها وبجواز سفرها ، وذلك لأن دخول المسلم إلى بلاد الكفار على أنه من بلد معين وبجواز سفر ذلك البلد ، ثم هو يدين بالطاعة والولاء لدولة أخرى ، التي لو علم الكفار أنه منهم وفي طاعتهم ما أدخلوه بلادهم وما أمنوه ، يعد من الغدر والخداع والكذب .
( الوجه الرابع ) : إننا لو تنزلنا مع هؤلاء وقلنا بصحة تكييف ما حصل على أنه من باب التبييت أو التترس ، فإن هذا لا يخرجه عن كونه محرماً أيضاً في ظل هذه الأوضاع ، لما يترتب عليه من المفسدة ما هو أعظم ، كتسلط الكافرين على المسلمين وتسيير جيوشهم إلى بلاد المسلمين ، واتخاذ ما حصل ذريعة وحجة لضرب كل ما هو إسلامي من دعاة وجهات دعوية وخيرية وغير ذلك ، بل والسعي في تغريب المجتمعات وتعديل المناهج بما يناسب مصالحهم .
وأما ما يتعلق بالتصوير الثاني وهو قولهم بجواز دخول بلادهم بأمان ثم التسلط على قتلهم ، لأنهم أئمة الكفر الذين قال الله فيهم : " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " " التوبة 12 " مستدلين بقصة قتل محمد بن مسلمة وأصحابه رضي الله عنهم لكعب بن الأشرف اليهودي بعد أن أظهروا له الأمان .
فالرد على هذه الشبهة من وجوه :
( الوجه الأول ) : أن أئمة الكفر الذين أخبر الله عنهم في الآية أنهم " لا أيمان لهم " أي لا عهود لهم قسمان :
القسم الأول : الذين نقضوا العهد بعد عقده ، فهؤلاء يجوز قتالهم من غير إنذار ، كما فعلت قريش في عهد صلى الله عليه وسلم لما نقضوه بمعاونة بني بكر على خزاعة فغزاهم صلى الله عليه وسلم من غير إنذار .
ألا ترى ما ذكره الله عز وجل في الآية من الشرط بقوله " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم " ؟
فعلى هذا القول : كل من نقض عهده من الكفار فهو إمام في الكفر ، يجوز تبييته والإغارة عليه من غير إنذار ، فإن كان العهد عهداً خاصاً وهو الأمان فلا ينتقض إلا بنواقضه خاصة ، لأن بطلان العهد العام لا يستلزم بطلان العهد الخاص ، وهو الأمان كما بينت سابقاً .
فالذين دخلوا بلاد الكفار بأمان لا يكون الكفار في حقهم أئمة في الكفر إلا إذا نقضوا هذا الأمان خاصة ، دون العهد العام ، فكيف يحل قتلهم واستباحتهم على أنهم أئمة الكفر ، وهم لم ينقضوا الأمان الخاص الذي أعطوهم إياه .
القسم الثاني : هم من صدر عنهم من الجراءة على الدين ما يبيح دماءهم بكل حال ، بحيث لا يحقنه عهد ولا صلح ولا ذمة ، وهم الذين سبوا الرسو صلى الله عليه وسلم وطعنوا فيه ، ككعب بن الأشرف حيث هجا رسول ا صلى الله عليه وسلم فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " ، فقام محمد بن مسلمة بعد أن استأذن صلى الله عليه وسلم بأن يقول شيئاً فأذن له ، ثم حصل من القصة أن أظهر محمد بن مسلمة رضي الله عنه لكعب بن الأشرف الأمان ثم قتله ، والقصة مشهورة .
قال شيخ الإسلام في توجيه قتل محمد بن مسلمة لكعب بن الأشرف بعد أن أظهر له الأمان : " لكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً ، وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان ، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر ، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه ، وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله ، ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمن ولا عهد .. إلى أن قال : لأن قتله حد من الحدود وليس لمجرد كونه كافراً حربياً ... فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة بطريق الأولى " [16]
ولذلك لم يأمر صلى الله عليه وسلم بقتل أحد من الكفار المعاهدين له من اليهود وقريش لما صالحوه ، مع شدة مكرهم بالإسلام وأهله ، وإنما أمر بقتل من آذى الله ورسوله ، وأهدر دماءهم ، فلم تحقن بعهد ولا أمان .
قال شيخ الإسلام : " وهذه كانت سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره "[17]
والفرق بين القسم الأول من أئمة الكفر وهم الناكثون للعهد بغير طعنٍ في الدين ، والقسم الثاني وهم الطاعنون في الدين : أن الأولين إذا لم يصدر منهم إلا مجرد النكث جاز أن يؤمنوا ويعاهدوا ، وأما الطاعنون في الدين فإنه يتعين قتالهم ولا تحقن دماؤهم بعهد ولا أمان ولا ذمة .
ولذلك اختار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أن أئمة الكفر في الآية هم الطاعنون في الدين المؤذون لرسول ا صلى الله عليه وسلم دون الناكثين فقط بغير الطعن ، وهو القول الثاني في الآية .
فقال شيخ الإسلام في تفسير الآية : " وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه ، وإنما صار إماماً في الكفر لأجل الطعن ، فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك وهو مناسب ، لأن الطعن في الدين أن يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه ، وهذا شأن الإمام ، فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر "[18](49/235)
فعلم بذلك أن الأئمة في الكفر الذين أمرنا بقتالهم ، إما أن يكونوا هم الناكثين للعهد بغير الطعن وهؤلاء إنما يقاتلون من غير إنذار شريطة أن لا يحدث بعد نقضهم للعهد السابق أمان أو عهد جديد .
وإما أن يكونوا هم الطاعنين في الدين ، وهو الوصف المناسب كما قال شيخ الإسلام ، وهؤلاء لا تعصم دماؤهم بعهد ولا أمان .
فعلى المعنى الأول وهم الناكثون للعهد بغير الطعن ، فإن الذين دخلوا بلاد الكفار بأمان ثم خطفوا وقتلوا قد حصل منهم بعد نقض الكفار للعهد ـ بقتال بعض المسلمين كما يزعمون ـ ما تعصم به دماء الكفار وهو أمانهم للكفار من أنفسهم بدخولهم بلادهم ، وهو عهد جديد مجدد لعصمة الدماء حصل بعد العهد المنقوض ، فلم يحل لهم الغدر بهم .
وأما على المعنى الثاني وهم الطاعنون في الدين . فإن الكفار الذين غدر بهم في بلادهم لم يحصل منهم فيما نعمله ما يعتبر طعناً في الدين وسباً لرسول ا صلى الله عليه وسلم وأذى له ، وإنما فعلوا ويفعلون ما كان يفعله المشركون من قريش من حرب للمسلمين ، وإعانة لأعداء الله من اليهود وغيرهم ، وليس هذا هو الطعن الذي لا ينفع معه عهد ولا أمان ، وذلك أن قريشاً كانت تحارب صلى الله عليه وسلم وتصد عن سبيل الله وتحرض عليه ، وتجمع له الجموع وتقاتله ، ومع ذلك كله فقد عاهدهم ووفى لهم ، وحقن دماءهم بالعهد والأمان كما كان في صلح الحديبية ، وكما دخل أبو سفيان المدينة بعد الصلح ولم يتعرض له صلى الله عليه وسلم مع أنه كان قبل إسلامه من أعظم المحرضين على قتال صلى الله عليه وسلم والساعين في الصد عن دينه ، وإنما أهدر صلى الله عليه وسلم دماء المؤذين له الطاعنين فيه فلم تحقن بعهد ولا أمان ولا ذمة .
( الوجه الثاني ) : أننا لو فرضنا أن قادة الكفار هم من الطاعنين في الدين الذين هم أئمة في الكفر ؛ فإن هذا إنما يبيح دماءهم خاصة بحيث لا يحقنها عهد ولا أمان ، دون دماء غيرهم ممن لم يطعن في الدين ولم يسب النبي صلى الله عليه وسلم
يدل عليه أن صلى الله عليه وسلم لم يستبح من دماء الكفار المعاهدين إلا من ثبت عنه الأذى والطعن في الدين خاصة دون غيره من الكفار ، ولذلك نجد أن الذين أهدر صلى الله عليه وسلم دماءهم لأجل ذلك معدودون ؛ ككعب بن الاشرف وابن أبي الحقيق والجارية ، ولم يفعل ذلك مع باقي اليهود أو المشركين .
قال شيخ الإسلام : " وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه " كما سبق .
أما من كان من عامة الكفار فإنه يحقن دمه بالأمان الذي دخل المسلم بلادهم به ، فالذي حصل في بلاد الكفار من تدمير وقتل كان الضحية فيه ليسوا أئمة الكفر وإنما عامة الناس ، فهو كما لو قتل الصحابة رضي الله عنهم بعض اليهود ممن لم يطعنوا في الدين بحجة أن كعب بن الأشرف طعن في الدين ، وهذا لم يكن ، بل لم يقتل إلا الطاعن دون غيره من المعاهدين .
( الوجه الثالث ) : إننا لو تنزلنا وقلنا بجواز مثل هذا الفعل ، فإنه كما ذكرنا لا يكون إلا بإذن الإمام ، فلا يفتئت عليه فيه .
( الوجه الرابع ) : أنه يترتب عليه - على التنزل بصحته - من المفاسد العظيمة ما يربو على مصلحته . وهو ما حصل فعلاً ) .
-----------------------
المراجع :
1- مجموع فتاوى ومقالات ( 7/119 ) .
2- السابق ( 2/326) .
3- الذخيرة للقرافي
4- السير الكبير / باب النفل من أسلاب الخوارج
5- المعونة " كتاب الجهاد/باب الأمان "
6- الصارم المسلول ( 294 ) .
7- السابق ( 94 ) .
8- شرح السير / باب ما يكون أماناُ ممن يدخل دار الحرب والأسرى وما لا يكون أماناً.
9- باب أمان المرأة والعبد والصبي
10- باب الهدنة
11- كتاب الجزية
11- الفصل الرابع عشر / فصل تعريف الحجاز
12- كتاب الجزية / مسألة نقض العهد
13- الصارم المسلول ( 94 ) .
14- انظر ص 36 من أصل الرسالة ( الوجه الثاني ) .
15- الصارم المسلول ( ص 94 ) .
16- السابق ( ص 19 ) .
17- السابق ( ص 22 ) .
18- السابق ( 22 ) .
================(49/236)
(49/237)
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
محمد بن شاكر الشريف
لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً ، ترعاه السوائم من كل لون وجنس ، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر ، والغضب ، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال ، فيجد الجهل و الجور والحيف في تناول الأمور الشرعية ، لكن هذه الحالة التي يكاد يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام تزداد أكثر وأكثر ، ويزداد حرها ولهيبها اللافح ، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط ، والحيف ، والجور ، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس ، أومن جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس .
وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية ، أو حفاظاً على منصب زائل ، أو دفعاً لمضرة متوهمة ، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو الرغبة في عمل ما يسمونه » مصالحه « مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل الله ، أو إنهاء أزمة معه ، أو الحصول على ما يسمونه » بعض المكاسب « من مثل السماح بدخول الانتخابات ، أو إصدار مجلة ، أو غير ذلك .
وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات ، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك» المساومات « على حساب الإسلام ، وعلى حساب أحكامه ، وشرائعه ومناهجه وثوابته ، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه » المساومات « لأصحابها ، وسوف تعزلهم ، وفي النهاية سوف تلفظهم ، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك ، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ 30/2/ 1415 ص5 العدد 11494 من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة ، لها رصيدها ، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي .
ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين :
الموضع الأول : قول بيان الجماعة : (إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة ، ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين ، وإن عقيدتهم ، وفكرتهم من حيث النقاء والأصالة لا تشوبها شائبة ، كما إن مناهجهم واضحة ، ومتميزة من حيث اعتمادها على الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ) .
ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى صوابه من خطئه ، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً ، ينبغي أن يقوم عليه أي عمل إسلامي ، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام .
إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام ، لابد أن يلقى الترحيب والإشادة ، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام ويعيشون له ، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل ، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم للمضي فيه قدماً ، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور .
الموضع الثاني : فقد جاء في بيان الجماعة أن » الشريعة الإسلامية أباحت لغير المسلمين حرية العقيدة ، والعبادة ، وإقامة الشعائر ، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى « ..
ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها » ترى أن المواطنة ، أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة ، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة ، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات ، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى » الجماعة « أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ، ومديرين ، ووزراء ، ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه ، وتماسكت عناصره « ، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن يكون الذي كتب تلك الفقرة ، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها ؟ !
شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به .
أولاً : هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد .. إلى آخر ما قال البيان ، مع العلم أن » غير المسلمين « وهو التعبير الذي آثر بيان الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة الأبقار ، وكل كافر أو مشرك .(49/238)
فأين نجد تلك الإباحة في » الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح ، الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة ، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي ، وإنما الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب : اليهود والنصارى وما سواهما من الكفار ، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب ، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول في الإسلام { لا إكراه في الدين } أما » الإباحة « فلا ، وفرق كبير بين » الإباحة « وبين عدم الإكراه ، فإن » المباح « هو الذي يستوي فيه الأمران : الفعل أو الترك ، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال : إن الشريعة أباحت ذلك ؟ !
لكن لنقل : إن بيان الجماعة لم يقصد » الإباحة « بالمعنى الوارد في أصول الفقه ، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه » غير المسلم « على ترك دينه والدخول في الإسلام ، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه .
ثانياً : لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب ، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم ، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان لأهل الكتاب فقط ، أو لجميع الكفار ؟
إن مقتضى » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من » أهل الذمة « فيلتزموا بأحكام » أهل الذمة « ، » ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون « أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة : 29] .
وأما سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -المؤيد من ربه ، والذي لا ينطق عن الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه : » اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله .... . ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .. « [1]
فالكتاب والسنة « يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون ، وذلك التزام بأحكام » أهل الذمة « .
وأما » الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ، فارجع إليه وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام » أهل الذمة « المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام ، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة إلا إذا خضع لأحكام » أهل الذمة « ، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على أنفسهم وأهليهم وأموالهم .
وعلى هذا فقول بيان الجماعة : » إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة « ، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ، بل جاء مناقضاً لكل ذلك .
إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح » أهل الذمة « والأحكام المرتبطة به قد انتهى ، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة ، وكفنه ودفنه في ثياب » المواطنة والجنسية « لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة ، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات .
فيا أصحاب البيان : خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة وأحكامهم ، ماذا تفعلون بهذا ؟ أتقولون : إن بيانكم نسخ تلك الأحكام ؟ ! وهل يملك أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع ، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه ؟ !
وربما قد يعجب بعض القراء ، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون :
(ياعم : أين أنت الآن ، وفيم تتكلم ، وعن أية جزية أو صغار ، وأين هذا الجهاد الذي تتحدث عنه ، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار ، ونحن الذين في الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون) .
وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام :
أولاً : أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي ، وإنما هو نصوص الشرع وأقوال أهل العلم ، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه .
ثانياً : أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً ، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها ، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف والتبديل ، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت ، أما النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله ؟ !(49/239)
وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب ، فلا أقل يا أخي من أن نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل) .
ثالثاً : ونمضي مع البيان حيث يذكر : » وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات « وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في الحصول عليه ، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار ، فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها !
لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى يكون كلامه هو الشاهد عليه ، يقول بيان الجماعة : » وبمقتضى هذه المواطنة وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ، ترى (الجماعة) أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ومديرين ووزراء .
لقد أصبحت » المواطنة « في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً ، وقاعدة تُفَرّع عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل ، فها هو ذا يقول : » وبمقتضى هذه المواطنة« ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام الشرعية ألا وهو قوله : » وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده «
فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان : » (المواطنة « ) وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده « هل تصلح تلك الحجج ، لمعارضة الأحكام الشرعية الثابتة !!
وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع أصول ثابتة يرجع إليها ، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى « دون أن يذكر » اليهود « وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ » أهل الكتاب « باتفاق أهل العلم ، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان « التي استندتم إليها لإخراج اليهود من تولي المناصب ؟ ! وما النصوص الشرعية من » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود والنصارى ؟ ! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود ، وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود ، لكن أقول لك يا أخي : لا تخشَ شيئاً ، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام ، ولم يعد بين المسلمين واليهود حروب ، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك ، وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك : » وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن يتولوا .... « إلى آخر ما جاء في الفقرة ، بل وأضف البقية الباقية من غير المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان : طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية حلت محل مفهوم أهل الذمة ، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية ؟ !
إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة :
رئيسها مسلم ، ورئيس وزرائها يهودي ، والوزراء خليط من المسلمين واليهود والنصارى ، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً ، حتى تكون هناك عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى ! !
وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه ، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء رئاسة الدولة .
أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك ، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء عليهم ، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة ، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله ورسوله منه .
ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق ، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة ، وإن كان المرء ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة ، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام الذي يقال عنه : مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه ، بل إن الرجل المسلم العامي صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام الذي ذكرتموه ، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه ، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى الشارع المسلم ، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة .
يقول الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم .. } [المائدة : 51](49/240)
يقول ابن كثير رحمه الله : » ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } « أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود والنصارى ، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين) ، إذا كنتم لا توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية : » عن عياض الأشعري أن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر ، وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟
فقال : إنه لا يستطيع ، فقال عمر أجنب هو ؟ قال : لا ، بل نصراني ، قال :
فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... } ، قال أبو موسى : والله ما توليته وإنما كان يكتب ، فقال عمر رضي الله عنه : أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ ! ، لا تدنهم إذ أقصاهم الله ، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله ، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله « [2] فانظروا كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج على ذلك بالآية المذكورة ، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط ، بل تجعلونه رئيساً للوزراء ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا .
يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة » ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه وتماسكت عناصره « ، وإني لأتعجب : هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات ، وهل من الممكن أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين ؟ ، الشيء الغريب والعجيب في آن :
أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه ؛ لأن هذا الكلام يعنى أن ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً ، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها ، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين ، وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك تجاه النصارى ، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول ، لكن عليك ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم ، فما أظن أن أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك .
ثم أقول : وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً ، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم ؟ ! ألم تسمعوا عن » الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة ، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك النسيج المزعوم .
ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية « وهو يحذر فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه ، إنه كتاب » اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم « فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.
على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك ، فلا علينا أن نسمعكم بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب ، أومن غيرهم ، و تحول بين المسلم وحدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد .
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : منكراً على المسلمين ما يقع منهم من مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى ، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول : » لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جُحْر ضب تبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ « [3]، قال ابن حجر رحمه الله : » قوله : قال فمن : هو استفهام إنكار ، والتقدير : فمن هم غير أولئك « [4]
ويقول - صلى الله عليه وسلم - » من تشبه بقوم فهو منهم « [5] قال ابن تيمية : » إسناده جيد وأقل أحواله : أنه يقتضي تحريم التشبه بهم « وقا صلى الله عليه وسلم : » إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم « [6] ولا يُكَمّل رد السلام ، بخلاف المسلم الذي يقال له : وعليكم السلام ورحمة الله ، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد ، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه ، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره .
وفي النهاية أقول لأصحاب البيان : ما الغرض ، ومن المستفيد ، ومن يرتضي ذلك البيان ؟(49/241)
فإن كان الغرض أن يرضى عنكم » الأسياد « المحليون أو غيرهم ، فأنا أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام ، ولو تنازلتم عن أمور كثيرة ، فلن يرضوا عنكم ، كما قال تعالى : { ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [البقرة : 120 ] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن الإسلام ، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها .
وأما المستفيد ، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة ، وبالتالي رواج الأباطيل بينها ، وسهولة انقيادها للطواغيت .
وأما الرضا ، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين ؛ لأنه لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة .
وأخيراً فلي رجاء : هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق خير له من أن يكون رأساً في الباطل ، آمل ذلك ، لا سيما أنكم إناس مسلمون تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم ، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم ، لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة ، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم وأحاديثهم .
والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم .
________________________
(1) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ح/1731 .
(2) تفسير ابن كثير 2/108 ، فتح الباري 13/196 .
(3) البخاري كتاب الاعتصام بالسنة باب/14 ، ح/7320 .
(4) فتح الباري 13/201 .
(5) أبو داود 4/314 ، مسند أحمد 3/142 وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني .
(6) البخاري كتاب الاستئذان باب 22 ، ح/6258 .
================(49/242)
(49/243)
الرد على حمزة المزيني في تعليقه على بيان المشايخ حول المرأة
عبد الرحمن بن صالح السديس
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ؛ ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ، وصلى الله وسلم على من بعثه الله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فقد اطلعت على المقال الذي كتبه الدكتور حمزة بن قبلان المزيني في جريدة الوطن في عددها (1763) الصادر في يوم الخميس الموافق 22/6/1426هـ
تعليقا على البيان الذي أصدره عدد من العلماء ، وطلبة العلم في بلدنا العزيز ، ورأيتُ الدكتور ـ هداه الله ـ متعاليا في رده ، جريئا على الكلام فيما لا يحسن ، معجبا برأيه ، قد تجاوز الحدود في رد أمور الشرع ، ولمز حملته ، واتهامهم بما هم منه براء ، واقعا في أقبح مما عاب عليهم ؛ فرأيت أنه من المفيد كشف بعض ما احتوى عليه مقاله ، وإلقاء الضوء على شيء من حاله ، ومحله من العلم = ليرى مَن اغتر به شيئا من أمره ، وليهلك من هلك عن بينة .
* صدّر الدكتور حمزة مقاله بمحاولة الطعن ، واللمز على أصحاب البيان بأنهم يبجلون أنفسهم بكتابة فضيلة الشيخ ، و فضيلة الشيخ الدكتور ..الخ
قلت: لا يخفى على الدكتور ، ولا القارئ أن تلك العبارة لم يكتبها الموقعون أنفسهم ، وإنما يحصل الاتفاق الإجمالي على البيان ، ويقوم من قام بتنسيق البيان بوضع أسمائهم ، ووظائفهم ، وما يستحقونه من ألقاب .. وليس في هذا تزكية للنفس .
وبما أن العلم دين ، والناس لا تقبله من غير أهله جرى ذكر هذه الأوصاف المستحقة لهم ليعرف الناس ممن صدر هذا البيان و"قد علم كل أناس مشربهم" .
وحاول الدكتور أن يظهر شيئا من التقدير لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله الجبرين ، وأنه يشك أنه يرضى بمثل تلك التزكية .. إلا أن هذا التقدير الغريب اختفى لما بدأ الموضوع ، وبدأ اللمز والهمز لكتاب البيان ، وتجهيلهم ، ورميهم بالتقليد .. وغيره !
* لابد من التفريق بين رأي فقهي (لعالم فقيه) ـ وليس لغيره ـ اجتهد فرأى جواز قيادة المرأة للسيارة ، وبين رأي عامي يهذي بما لايدري ، أو شهواني يتباكى على أيام كادت أن تجمعه بالمرأة القاعة الواحدة ! قد سخر قلمه ، وجهده ليرى المرأة متبرجة سافرة .
ولا يخفى أن الكلام في البيان منصبا على النوع الأخير ، وهذا التفريق الواضح تجاهله الدكتور حمزة ، وجعل الكلام منصبا على قسم واحد = ليستدر عطف القارئ ، ويتهم هؤلاء المشايخ بتلك التهم.. ولا يخفى أن هذا تلاعب بالكلام ، وخروج عن حد الإنصاف .
* طغى على مقال الدكتور التهويل ، والاتهام .. ، وانظر هذا المقطع من كلامه :
كيف يجرؤ الموقعون على البيان على وصف بعض مواطنيهم السعوديين، وغيرهم من المسلمين الذين لا يرون رأيهم، بـ"الإفساد" و"الإلحاد"؟ و"النفاق"؟ أيستحق الأمر هذا الشطط كله؟ وتشهد هذه الجرأة على أن البيان قد تجاوز حدود التعبير "السلمي" عن الرأي إلى الوقوع في أشد المحذورات وهو التكفير أو ما يؤول إلى التكفير.اهـ
قلت: على هذا الكلام عدة مآخذ :
أولها: انتزاع هذه العبارات عن السياق التي ذكرت فيه مشوش على فهم معناها الذي سيقت لأجله ، فإنزالها على المخالف للرأي الفقهي كذب على البيان ، وكاتبيه .
ثانيها: استغرب في رد الدكتور استخدام وصف (مواطنيهم السعوديين) فهل يرى الدكتور أن المواطنة السعودية تزكية لحامليها ، وأنه لا يوجد مواطن سعودي مفسد ، ولا مجرم ؟!
ثالثها: وصف الدكتور حمزة التكفير أو ما يؤول إليه بأنه (أشد المحذورات) لا يخلو من أمرين :
1- إما أن يكون الدكتور يعلم أن التكفير أو ما يؤول إليه = ليس بأشد المحذورات ، ومع ذلك يستخدم هذا اللفظ ! فيكون في التعبير: كذب ، وتهويل.
2- وإما أن يكون لا يعلم ! فيكون هذا الدكتور جاهلا بمراتب الذنوب ، وعدم معرفته بأبسط أمور التوحيد .
* قال الدكتور : وإذا كان هذا هو خطاب "العلماء وطلبة العلم" فكيف نلوم الشباب الأغرار الذين يتتلمذون عليه فيصل بهم الأمر إلى أنواع ودرجات أخرى من التطرف الذي يمكن أن يَنتج عنه ما نشهده الآن من انتهاك لأمن الوطن وسفك الدماء المعصومة؟ اهـ
قلت: لما عجز الدكتور عن الرد العلمي جاءت محاولة الاستعداء الساذجة على الموقعين بمثل هذا الكلام .
وجهود هؤلاء الفضلاء الموقعين على البيان في نشر الخير ، والوسطية ، والعلم النافع ، لا تخفى ، وهؤلاء الفضلاء ، وغيرهم من أهل العلم هم أول من قام ضد الأفكار المنحرفة من طرفي التطرف في هذا البلد .
* قال الدكتور : ويقوم البيان في حقيقته على مفهوم "الفرقة الناجية" التي يوحي هؤلاء بأنهم يمثلونها. فمع أن الرأي المخالف لما يرونه في مسألة قيادة المرأة للسيارة يراه عدد كبير لا يستهان به من علماء المسلمين في الوقت الحاضر خارج المملكة، وفي المملكة كذلك، إلا أن الموقعين على البيان يرون أنهم هم الوحيدون الذين على الحق أما الآخرون فضالون مضلون.اهـ(49/244)
قلت: هذا المقطع من المقال هدفه التهويل والتشنيع .. ، ويدل على أن الدكتور (قد) لا يفهم معنى الكلام الذي يستخدمه !
"الفرقة الناجية" يا دكتور = "أهل السنة والجماعة" ؛ فكل من كان من أهل السنة والجماعة على اعتقادهم = فهو من الفرقة الناجية ، وليست المسألة في فرعيات فقهية ! وسبق أن بينت الفرق بين خلاف فقهي من عالم فقيه ، وبين شهواني متطفل على العلم.
ثم زعم الدكتور: أن قيادة المرأة يجوزها عدد كبير من علماء المسلمين .. الخ
قلت: هذا إدعاء بلا برهان ، ولم تستطع أن تسمي واحدا من هؤلاء الكثير ! لا في الداخل ولا في الخارج !
ولمعارضك أن يدعي: عكس قولك !
ثم لا بد أن تعلم يا دكتور أن العامي في (الشرعية) واجِبُهُ أن يسأل علماء بلده ، ولا يخرج عن أقوالهم بالتشهي ، كما قد تقرر في علم الأصول .
ثم قول الدكتور : وغيرهم ضالون مضلون .. الخ
قلت: تنزيل هذا على المخالف في الرأي الفقهي كذب عليهم ، وتنزيله على الشهواني الداعي للرذيلة = حق مبين.
وإن كان الدكتور استفاد جواز قيادة المرأة للسيارة من وجود قيادتها في غير بلدنا المحروس. فلا يبعد أن يأتينا ـ غدا ـ الدكتور ، أو غيره بجواز الخمر ، أو الرقص ، أو الأضرحة التي يتبرك بها ، وتدعى من دون الله .. فلا يخفى أنه لا يكاد يخلو منها بلد من بلاد المسلمين ، ويوجد عدد ليس بالهين من علماء المسلمين يجوزونها !
* وصف الدكتور: لفكر علمائنا بأنه مغرق في محليته .. الخ
قلت: يجهل الدكتور أو يتجاهل أن مسائل الخلاف تدرس للطلبة في المساجد ، وفي الجامعات ، ولا تكاد تخلوا حلقة علم من ذكر الخلاف بين العلماء قديما وحديثا ، وهذه كتب علمائنا المعاصرين ، ومواقعهم ، ومواقع طلبة العلم ناطقة بعكس زعم الدكتور.
* قال الدكتور: أما السند الفقهي الوحيد الذي يقوم عليه البيان فهو "قاعدة سد الذرائع".
والملاحظ أن الموقعين على البيان لم يستندوا في تأصيل هذه القاعدة إلا على ابن القيم.
ويبعث هذا على التساؤل عن السبب الذي صرفهم عن النظر فيما يقوله علماء آخرون.
ويؤكد هذا الاقتصارُ ما يتصف به المشتغلون بالعلوم الشرعية في بلادنا عموما من الاكتفاء بما يقوله عالم واحد وعدم النظر إلى آراء غيره. وهو دليل على غلبة التقليد على هؤلاء مما يوقعهم دائما ضحية لقصر النظر للأمور. أما لو نظر الموقعون على البيان إلى ما يقوله علماء آخرون لوجدوا آراء أخرى. اهـ
قلت: هذا المقطع من أعجب ما عنده ! وقد كشف لنا مشكورا عن مدى اطلاعه ، وخبرته في العلم الشرعي .
قد لا أبالغ إن قلت: إن كثيرا من المبتدئين في العلم يعرفون أن مسألة "سد الذرائع" مسألة أصولية كبيرة دل عليها : الكتاب ، والسنة ، والعقل ، وقد تكلم فيها العلماء ، وأصلوها أن يُخلق ابن القيم بقرون .
وهذا المسالة الكبيرة مدونة في كتب : (أصول الفقه) ، وكتب (القواعد الفقهية) وما يتبعها من كتب (الفروق) ، وكتب (مقاصد الشرعية) ، وجاءت عرضا في كتب (التفسير) ، و(شروح الحديث) ، و(الفقه) وقد أفردت بعدد من المؤلفات(1).
قال العلامة الشاطبي في الموافقات 3 /219: .. وهو أصل متفق عليه في الجملة ، وإن اختلف العلماء في تفاصيله ، فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة.
وذكر العلامة القرافي في الفروق 3/406: أن اعتبار سد الذرائع في الجملة مجمع عليه .
وقد ذكر الشاطبي في الموافقات 2/360-364 قرابة العشرين دليلا لهذه القاعدة .
وقبله سرد شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان الدليل على بطلان التحليل ص285 -297 : ثلاثين دليلا لهذه القاعدة ، ثم قال:
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط ، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه ، أو منصوص عليه ، أو مأثور عن الصدر الأول شائع عندهم .
و سرد تلميذه العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين 3 / 137 -159: ما ذكر شيخه ، وزاد عليه حتى أوصلها إلى تسعة وتسعين دليلا .
وليس المقصود هنا تفصيل القاعدة ، وبيان أحوالها ، والاستدلال لها ، وإنما بيان أن الدكتور قد خل الذهن منها عندما ظن أن الاعتماد على ابن القيم فيها .
وهذا قرار من مجمع الفقه الإسلامي برقم : 92 ( 9/9) بشأن (سد الذرائع) :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1- 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1- 6 نيسان (أبريل) 1995م ، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع سد الذرائع ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ، قرر ما يلي :
1- سدّ الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته : منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات .
2- سدّ الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط ، وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام .
3- سدّ الذرائع يقتضي منع الحيل إلى اتيان المحظورات ، أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية.
4- والذرائع أنواع :(49/245)
الأولى مجمع على منعها : وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، أو المؤدية إلى المفسدة قطعاً ، أو كثيراً غالباً، سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أم واجبة . ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد .
والثانية مجمع على فتحها : وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة .
والثالثة مخلتف فيها : وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة ، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها .
5- وضابط إباحة الذريعة : أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته .
وضابط منع الذريعة : أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة - قطعاً - أو كثيراً ، أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة. اهـ
مجلة المجمع (العدد التاسع ، مجلد 3 ، ص 5) وينظر: قرارات وتوصيات المجمع ص209
وبهذا العرض السريع المختصر يتبين أن الدكتور يتكلم فيما لا يعرف ، و يَتَّهِم وينازع أهل العلم بغاية من الجهل {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}
* قال الدكتور في إثبات من خالف في سد الذرائع : ومن ذلك ما أورده السهيلي عن هذه القاعدة (الروض الأُنُف، ص175 : "... ولم يجعل الشافعي الذريعة إلى الحرام أصلاً ، ولا كره شيئاً من البيوع التي تتقى فيها الذريعة إلى الربا ..الخ
قلت: وهذا من إبداعات الأستاذ الجامعي الرائعة التي يحسد على ابتكارها ، واكتشافها !
ما هو الروض الأنف ؟ ومن هو السهيلي مؤلفه ؟ وكيف توصل الدكتور لهذا النقل المهم الذي خفي على العلماء ؟!
كتاب الروض الأنف: شرح لكتاب السيرة النبوية لابن هشام .
يعني: الكتاب في السيرة النبوية ، وليس من كتب الأصول التي هي محل بحث هذه المسألة.
ومؤلف الكتاب هو: أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي المالكي النحوي .
والكتاب مطبوع في سبعة مجلدات بتحقيق عبد الرحمن الوكيل .
وهنا وقع للدكتور أمور عجيبة :
أولها: أنه ينقل الرد في مسألة أصولية كبيرة من كتاب في السيرة النبوية.
ثانيها : أن أبا القاسم السهيلي ـ رحمه الله ـ مؤلف الكتاب أشتهر باللغة ، والأخبار ، كما وصفه من ترجم له (2)، ومعلوم أنه يرجع في كل فن إلى أهله.
ثالثها: أن أبا القاسم مالكي المذهب ، والدكتور ينقل عنه كلام الإمام الشافعي ، وكتب الشافعي ، وأتباعه في الأصول قد ملأت السهل ، والجبل !
رابعها : أن الدكتور يعزو إلى الروض الأنف هكذا : ص175 .
في أي المجلدات أيها الأستاذ الجامعي ؟! ثم ظهر لي أن الدكتور اعتمد في إخراج هذه المعلومة على برنامج إلكتروني وجد بها هذا الخلل ، فهو يظهر الكتاب في مجلد واحد ! ، ولذا كان عزوه إلى ص175 ! والموضع الصحيح للكلام المنقول في الروض الأنف 3/313 ، وبهذا يتبين أن الأستاذ لا يعرف كتاب الروض الأنف ولا رأته عيناه ! أهكذا يحسن الاعتراض أيها الأستاذ الجامعي؟!
* قال الدكتور: كما تقوم "قاعدة سد الذرائع" على ادعاء علم الغيب ذلك أن من يقول بها يجزم بأن نتيجة أمر ما ستكون على شكل معين ، مع أنه لا يعلم الغيب إلا الله. أما نتائج أي أمر فلن تتضح حتى يحدث ذلك الأمر. اهـ
قلت: كان الأولى بالدكتور أن تستحي من هذا الإيراد الغث ! المخالف للعقل ، والشرع يا دكتور أخفي عليك أن كل عاقل يستدل بمقدمات الأمور على نتائجها ؛ أخفي عليك أن دول الغرب والشرق التي يريد (البعض) جاهدا إلحاقنا بها أنشأت ألوف المراكز للدرسات والأبحاث = لتحقيق ما تقدر عليه من هذه القاعدة !
ولك أن تعلم أن هذا الإيراد المفحم من ابتكارات الدكتور التي لم يسبقه إليها أحد من علماء المسلمين ، ولا عقلاء العالمين قديما ولا حديثا .
* قال الدكتور: ويتمثل سوء الظن بالناس في فقرات البيان الأخرى. فيخوِّف البيانُ من أن قيادة المرأة للسيارة ستؤدي حتما إلى التبرج والسفور وخلع الحجاب الخ .
قلت: هذا واقع من حال الناس اليوم مع عدم القيادة ، ولعلك تسمع ، أو تطلع على التقارير الكثيرة التي أشارات للأعداد الكبيرة لحالات الخلوة المحرمة ، وحالات الفجور .. وغيرها ، و هذا المقبوض عليه فكيف ما خفي؟! ، وهذه أمور ظاهرة لا ينكرها إلا مكابر .
و لنا عبرة بحال المرأة في دول العالم.
* قال الدكتور: فقد خوِّف الناس من المفاسد التي ستترتب على البرقيات وتعليم الأولاد والبنات والتلفاز والهاتف والصحون اللاقطة للإرسال الفضائي ودمج تعليم البنات بتعليم الأولاد، وأمور أخرى كثيرة.
قلت: بعض هذه الأمثلة كلام القصد منه التشنيع ، ولم يمنعه أحد يعتد به من أهل العلم ، فهذا نوع من الكذب .
ومنها ما لا توافق على نتيجته ، فالذي يرى أن القنوات الفضائية لم يكن لها أثر سيئ علينا = فهو مطموس على قلبه لا يعرف المعروف من المنكر .
* قال الدكتور: أما احتجاج البيان بضعف المرأة وقلة حزمها وقصر نظرها فينبع من النظرة الدونية للمرأة في الثقافة المحلية التقليدية.
قلت: هل يفهم من هذا أن الدكتور حامل لثقافة (غربية) غير تقليدة ؟ ربما !(49/246)
وفي كلامه مغالطة ظاهرة ؛ فالمرأة بلا شك أضعف من الرجل ، و شرع الله سبحانه القوامة عليها ، وعدم سفرها بلا محرم .. ، لضعفها ، والمحافظة عليها ، وليست المسالة نظرة دونية ، و هذا الكلام المرمي على عواهنه من الدكتور فيه لمز مبطن للشرع المطهر.
{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى } {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
والحق أنها نظرة فطرية مصلحية شرعية ، والنظرةُ الدونيةُ نظرةُ مَن يريدها لعبة لنزواته ، وشهواته ، وليست نظرة من يريد صونها من افتراس السباع.
* ثم ختم المقال بكذبة لطيفة ! فقال: ليس هدفي من هذا المقال الانحياز إلى أحد الطرفين ، بل لتبيين أن حجج معارضي قيادة المرأة للسيارة التي تلبَّس بغطاء شرعي لا تعدو أن تكون دليلا آخر على إغراق بعض المنتسبين إلى العلوم الشرعية في بلادنا في التقليد وعدم المعرفة بالواقع وتأسيس الآراء على سوء الظن بالمسلمين وكيل الاتهامات لهم والنظرة الدونية للمرأة.
قلت: قد بينت أن لم تفهم ولم تعرف مسألة سد الذرائع ، ولا تدري أين تكلم عنها العلماء ، وأنت لا تعدو أن تكون عاميا في مسائل العلوم الشرعية ، قد تحليت بما لم تعط كلابس ثوبي زور ، وفرض العامي في علوم الشرع أن يسأل أهل العلم كما أرشده ربه { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} لا أن يتعالم ، ويتطاول على حملة العلم ، ويتهجم عليهم بلا وازع ولا حياء .
وأختم كلامي بنقول عن بعض أهل العلم تبين مكان هذا الدكتور ، وأمثاله فيما يتكلمون به ، ومدى جنايتهم على العلوم وأهلها :
قال العلامة ابن حزم الظاهري في مداواة النفوس ص67: لا آفة على العلوم ، وأهلها أضر من الدخلاء فيها ، وهم من غير أهلها ، فإنهم يجهلون ، ويظنون أنهم يعلمون ، ويفسدون ، ويُقَدِّرون أنهم يصلحون.
وقبله قال الإمام الشافعي في الرسالة ص 41 : فالواجب على العالِمِين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا ، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به ، وأقرب من السلامة له إن شاء الله .
وقال العلامة ابن رجب في الحكم الجديرة بالإذاعة ـ المجموع 1/248ـ :
وقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " . فأمَر اللهُ ورسولُه بالرد على من خالف أمر الله ، ورسوله ، والرد على من خالف أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمّن عرف ما جاء به الرسول ، وخَبَره خبرة تامة .
قال بعض الأئمة : لا يؤخذ العلم إلا عمّن عرف بالطلب .
وأمر الرسو صلى الله عليه وسلم نوعان :
أمر ظاهر بعمل الجوارح ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، ونحو ذلك .
وأمر باطن تقوم به القلوب ، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه ، والصبر على بلائه .
فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عَرَفَ الكتاب ، والسنة ، ومن لم يقرأ القرآن ، ويكتب الحديث لا نقتدي به في علمنا ، فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء عن الرسول = فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب ، وفيمن يقول على الله ما لا يعلم ، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم بل ينتقص به ، وقال : أنا وارث حال الرسول والعلماء وارثون علمه ، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله ، والتكذيب بالحق لما جاء به { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذّب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له ، منقاد لهواه وجهله ، ضال مضل ، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله ، ثم اتبعه ، فإن من لا علم له بحاله فمن أين يكون وارثه ؟
ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد ، وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل ، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله ، وله نصيب من الذل ، والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم
يا لله العجب ، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا ، ولم يعرفه الناس بها ، ولا شاهدوا عنده آلاتها = لكذبوه في دعواه ، ولم يأمنوه على أموالهم ، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة ، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول ، وما شوهد قط يكتب علم الرسول ولا يجالس أهله ولا يدارسه ؟
فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه ، ويحكمونه في أديانهم ، يفسدها بدعواه الكاذبة ؟ اهـ
قلت: سبحان الله كأنهم إنما قالوها عنه !
وأختم تعليقي هذا بكلمة أعجبتني للأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي الشيخ الأستاذ الدكتور صالح المرزوقي في اللقاء الذي أجري معه في جريدة المدينة في عددها (15416) 2/6/1426هـ ، عندما قيل له :
ينادي البعض بإلغاء قاعدة ''سد الذرائع'' لأن لا وجود لها في هذا العصر المتطور، فهي قاعدة قد انتهى زمنها والعمل بها الآن نوع من التخلف والرجعية. ما رأي فضيلتكم؟(49/247)
ما أظن يا أخي الكريم أحدا من علماء الشريعة يقول بهذا القول ، وإذا كان يقول به أحد من عامة أفراد المجتمع الذين ليسوا من أهل العلم الشرعي = فهؤلاء لا يؤبه بقولهم في الأمور الشرعية ؛ لأن لكل تخصص أهله ..
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه: عبد الرحمن السديس
الرياض24/6/1426هـ
------------------
(1) مثل :"سد الذرائع وتطبيقاته في مجال المعاملات" للشيخ الدكتور عبدالله بن بيه .
" سد الذرائع عند الأصوليين والفقهاء " الدكتور خليفة با بكر .
"سد الذرائع " لمحمد البرهامي .
"قاعدة سد الذرائع وأثرها في تطبيق الأحكام" لسعد السلمي .
"سد الذرائع في مسائل العقيدة على ضوء الكتاب و السنة" لعبدالله الجنيدي .
"سد الذرائع و أثره في الفروع الفقهية" للهادي بن الحسين شبيلي .
"سد ذرائع الزنا للمحافظة على النسل" لمحمود صالح جابر .
"سد ذرائع الابتداع في مسائل الاعتقاد" لعبداللطيف الحفظي .
وعشرات المقالات في المواقع الإسلامية ، و الصحف.
(2) وفيات الأعيان 3/143، و نكت الهميان 187 ، والديباج المذهب 150، وشذرات الذهب 6/445.
===============(49/248)
(49/249)
الفيدرالية .. الخطر القادم !
نعم.. نعم للإسلام لا أميركا ولا صدام
[ في ظل رائحة التقسيم والتفتيت التي فاحت من كل مكان يصبح حديث المسئولين والإعلاميين العراقيين عن أهمية الفيدرالية ومحاسنها استخفاف بالعقل والدين والوطن ]
بقلم: عبد الله الرشيد
1426هـ - 2005م
بسم الله الرحمن الرحيم
? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ?
مقدمة
الحمد لله حمداً يبلغ رضاه ، وصلى الله على أشرف من اجتباه وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه ، وبعد ..
فقد دفع اليَّ أحد مشايخنا الفضلاء كراساً بعنوان : " تصورات عن الفدرالية في العراق .. الاسباب والمنطلق " للسيد واثب العامود ( وهو على ما يبدو من أهالي محافظة البصرة ) فقرأته قراءة سريعة ، فلما وصلت الى ( النظريات المحتملة في شكل النظام الفيدرالي في العراق وخصائص كلٍ منها ص 13 ) تعجبت من طرح الرجل وأفكاره وتصوراته حول بلده الذي غاب عنه دهراً !
فالرجل يؤسس لفيدرالية تفتيتية قائمة على تبريرات طائفية ( وقد قمنا بالرد عليه في ص 32 وما بعدها ) ، فهو يستعمل لغة طائفية متشنجة يكرهها العراقيون ، انظر إليه وهو يقول في ( ص4) : " وقد عانى أبناء المناطق الجنوبية ما عانى من التفريق الطائفي حيث أصبح مواطن المنطقة الجنوبية ( البصرة - العمارة - الناصرية ) من أفقر المواطنين " .
وكأن ابناء الحلة أو ديالى أو الانبار من أغنى الأغنياء ؟!
ثم يواصل فيقول ( ص5 ) : " فكانت جميع الوظائف تقوم على اساس طائفي مغاير لمعتقدات الأغلبية الا الوظائف الخدمية والمدنية " ثم يربط بشكل ظالم بين أهل السنة والنظام البعثي السابق فيقول في نفس الصفحة : " وما ان نجحت ما تسمى بثورة 14 تموز بقيادة عبد الكريم قاسم وحل الأمل في نفوس الناس بالتحرر من قسوة الحكم الطائفي السني في الجنوب " .. الى قوله : " وكان صدام ونظامه بكل أطرافه نظاماً طائفياً صريحاً حاقداً ومستأصلاً للجذور " !
وهي لهجة تصعيدية طائفية في وقت يدعو فيه العقلاء الى التهدئة والنأي بالخطاب الوطني عن المفردات العنصرية والطائفية ، ثم اننا نسأل الأخ العامود عن مراده ( بكل أطرافه ) ونقول له : هل أنت واثق من هذا العموم ؟ لاسيما وان صاحبنا يكثر من استعمال ألفاظ العموم ( جميع .. ) و ( كل .. ) !
وعندما تحدث عن سياسة توزيع الثروة في زمن النظام البائد قال كما في ( ص6 ) بأن الحكومة السابقة كانت " توزع الثروات على أسس طائفية أو عنصرية أو جغرافية .. " وهي عبارة مطاطة لأنها مشتملة على ( أو .. أو .. أو ) وبهذا فكل الاحتمالات مفتوحة !
وبما أن الحقيقة هي غير ما ذكر وبالغ فيه كثيراً ، وكأن إقناع الجماهير الشيعية بالفيدرالية لا يمكن أن يتم إلا على جسر من المبالغات في الحديث عن طائفية النظام السني السابق على حد تعبيره!
فتهييج المشاعر الطائفية من خلال التركيز على ( عقدة الماضي ) أصل عند القوم على ما يبدو .
ولأن الحقيقة لا بد أن تظهر أبى الله إلا أن تظهر على لسانه هو وبعد أسطر مما سبق ، فها هو يشير الى ظلم الشيعة الذين في السلطة لإخوانهم فيقول ( ص6 ) : " فكان الشيعي أشد قسوة على الشيعي " وقال ( ص5 ) : " .. فلم يكتب التاريخ تعيين أي محافظ أو مدير شرطة ومدراء الدوائر الآخرين من نفس أبناء المحافظة نفسها وقد يكون قدير ( كذا ) على اضطهاد أبناء تلك المحافظة ولو كان ينتمي لهم طائفياً " !
وقال عن طبيعة النظام السابق ( ص9 ) : " .. من خلال عائلة وجماعة حاكمة " وهذا عين الصواب ، فالنظام السابق شئ وأهل السنة شئ آخر ، وقال مؤكداً هذه الحقيقة ومتناقضاً مع نفسه ( ص9 أيضاً ) : " وإنما طغت الاعتبارات الشخصية والقرابية والحزبية " وقال في ( ص11 ) : " بحيث أصبحت ممارسة السلطة خاضعة لقيود ذاتية وشخصية وليست خاضعة للدستور والقوانين " أ.هـ ، لا الطائفية كما زعم قبل ذلك .أقول : لما وقع الرجل في مغالطات مكشوفة في موضوعة الفيدرالية وطائفية النظام البعثي العفلقي السابق ، كان لزاماً علينا أن نرد هذه التقولات وهاتيك التصورات ، لا سيما وأن هناك جمعاً من المفكرين والحزبيين والإعلاميين من يروج لفيدرالية الجنوب ويدعو اليها بحماسة مفرطة ، فالواجب الشرعي والوطني يقتضي بيان الأمر على جليّته ليحيى من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة .
وقد جعلت البحث في مقدمة ومطلبين وخاتمة :
تحدثت في المقدمة عن الأسباب والدواعي لكتابة هذا البحث .
والمطلب الأول : خصصته لبيان أن النظام السابق لم يكن نظاماً سنياً طائفياً .
والمطلب الثاني : جعلته لب البحث وشامته وفيه ناقشت ( المشروع الفيدرالي المقترح للعراق والمدون في مواد مسودة الدستور ) نقاشاً مستفيضاً نقلت فيه أقوال أهل الاختصاص مع تعليقات يسيرة تعرفها في مواضعها .
وأما الخاتمة - رزقنا الله حسنها - فقد ذكرت فيها الحل للخروج من هذا المأزق الخطير .
والله أسأل أن يفتح به مغاليق القلوب والابصار ، وأن ينفع به كاتبه وقارئه وطابعه وناشره انه ولي ذلك والقادر عليه .(49/250)
المطلب الأول : صدام وأهل السنة ( هل كان النظام السابق نظاماً طائفياً ؟ )
إن بعض وسائل الإعلام " ومنها قناة العراقية " و " الفيحاء " و "الأنوار" و" الفرات " وبعض الناس في مجلس الحكم الانتقالي سابقاً والجمعية العمومية لاحقاَ والسيد واثب العامود حالياً ( وهو عضو مجلس محافظة ) كانوا قد أثاروا قضية الطائفية، و أرادوا أن يربطوا بين النظام السابق والمذهب السني ، وزعموا انه كان نظاما طائفيا بغيضا بل ومتعصبا باتجاه الشيعة ولأسباب مذهبية وهذه المغالطة قد سمعناها تتكرر على الألسنة مراراً في وسائل الإعلام - ووردت بعض الإشارات لها في مشاريع مسودة الدستور !!- فلزم البيان والإيضاح لإظهار الحقيقة في هذه القضية المهمة وان كنا نكره الخوض في مثل هذه الأمور فنقول : إن النظام البعثي السابق لم يكن نظاماً إسلاميا وبالتالي لم يكن نظاما سنيا لان التسنن فرع عن الإسلام ، ويتبين هذا من وجوه :
( الوجه الأول) إن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب علماني معروف ، والعلمانية لاتقوم على أساس ديني أبدا ، ومؤسس البعث رجل علماني منحدر من أصول مسيحية مستنبت في التربة السورية وهو " ميشيل عفلق " ، كما أن عامة مفكري حزب البعث ليسوا من المسلمين كشبلي العيسمي والياس فرح ونحوهما . ومن ثم فان الأيدلوجية السياسية المتبعة في الحكم لحزب البعث تقوم على أساس الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة .
( الوجه الثاني ) لم يفرق النظام السابق في تعامله مع الآخرين بين السنة والشيعة ، فقد وقع الاضطهاد والظلم على الفريقين سواء بسواء ، فقد اعدم النظام البعثي الكافر عددا من رجالات أهل السنة ودعاتهم ومنهم الشيخ عبد العزيز البدري والأستاذ ربيع كمونة ورفاقه ، والشيخ محمود العزاوي ، والأخ فايز البغدادي ، والشيخ تلعة الجنابي وغيرهم ..
أما الإعدامات التي نفذت بحق الضباط من أهل السنة فحدث عنها ولا حرج ، وعامتها لأسباب أمنية وسياسية .
أما الاعتقالات والإيداع في السجون لأسباب أمنية فأمر عجيب وهو اشهر من أن يذكر ، فاعتقال الإخوان والسلفيين كان مفتوحا على طول الخط ، ولم يتورع النظام السابق عن تعذيبهم وإرهابهم بشتى أنواع التعذيب التي كانت متبعة في سجون الأمن العامة والمخابرات العامة مما يعرفه جميع العراقيين ، وهذا مثبت بالمستندات والأوراق الرسمية وشهادة الشهود ، وكثير من الناس مات تحت وطأة التعذيب ، فكيف يقال بعد ذلك بان النظام البعثي الصدامي السابق كان طائفيا أو سنيا ؟!
وفي هذا الصدد يقول الدكتور سلمان الظفيري : " بعد مجيء البعثيين عملوا على مصادرة الحريات، فقلَّ النشاط الإسلامي السني، ولا سيما بعد إغلاق كلية الدراسات الإسلامية عام 1975م وإلغاء الحلقات العلمية كحلقة الشيخ عبد الكريم المدرس في مسجد القادرية، وكذلك إلغاء المدرسة الآصفية في بغداد، وإلغاء منصب المفتي عام 1976م وهي سنة وفاة أخر مفتي للعراق، وإلغاء كلية الإمام الأعظم وتأسيس كلية شرعية مختلطة ومسيسة، وكانوا قد أجبروا الأستاذ الشيخ عبد الكريم زيدان على وقف نشاط الإخوان المسلمين في العراق وحل التنظيم " .
[ اليقظة السنية المعاصرة في العراق ( ص 2) ] .
( الوجه الثالث ) كما انه لم يميز بين السنة والشيعة فيما يتعلق بالامتيازات والمكاسب الوطنية أو المصلحية فمن كان بعثياً موالياً لصدام حصل على شيء من المكاسب من أي دين كان ومن أي طائفة كان ، ومن لم يكن بعثياً موالياً لصدام حرم من كل ذلك وضيق عليه في معيشته وعمله .
وما وقع على الإسلاميين من أهل السنة في زمن النظام البائد من " التهميش المعيشي والاقتصادي " حقيقة ثابتة لا يماري فيها إلا جاهل مغرض !!
فقد اتبع النظام معهم " سياسة التضييق والتجويع والحرمان " ولم يسلم من ذلك إلا من كان موسراً بالوراثة أو ناشطاً في التجارة أو ممن قدم شيئاً من التنازلات !!
والخلاصة : إن صداماً ( وهو راس النظام السابق وقائده ) لم يكن مسلماً متمذهباً ولا سنياً ولا طائفياً بحالٍ من الأحوال، وانما هو من أصول سنية ـ على التسليم بان أصوله كذلك ـ وإلا فان هناك من يشكك بإسلامية أصوله أو عربيتها !!
وما وقع على السنة من الظلم هو شبيه بما وقع على الشيعة منه وإلا فان الشيعة قد ظلموا اكثر من غيرهم ، وهناك طائفة ثالثة قد ظلمت اكثر من الشيعة " وهم الأكراد " وهم من أهل السنة عموما ..
ونحن لا ننكر وقوع بعض " الحلقات الطائفية " أو " الانحياز المذهبي" من قبل بعض المسؤولين في الدولة أو في بعض الممارسات لاسباب معقدة ومتداخلة تارة لمصلحة أهل السنة وتارة لمصلحة الشيعة بحسب مناطق النفوذ المذهبي في الوسط والجنوب ( وهذا في الظاهر لبعض المتوهمين وإلا فان اللاعب الوحيد والمستفيد الأوحد هو نفس النظام ) ، إلا أن هذا لا يبرر مطلقا وصف النظام بالطائفية أو انه كان يعتمد الأسلوب الطائفي في الحكم !
والحق انه ما من دين أو عرق أو طائفة أو مذهب أو فكر أو جامع أو حسينية أو كنيسة أو شجر أو ماء في العراق إلا وامتهن واهدرت كرامته أو قيمته !!
* اعتراضات والرد عليها :
فان قيل :(49/251)
1. انه كان يحظى بتأييد علماء أهل السنة .
2. إن المقاومة الحالية للاحتلال محصورة بالمثلث السني مما يشعرك بولائهم للنظام السابق
3. منع الشيعة من ممارسة شعائرهم وطقوسهم المذهبية الخاصة دليل على طائفية النظام .
4. إن هيكل النظام الأساسي كان من أبناء السنة ولم يكن من أبناء الشيعة !
5. قمع الانتفاضة الشيعية في الجنوب عام 1991م بوحشية ودموية دليل على ذلك أيضا .
والجواب عن هذه الإشكاليات وباختصار شديد :
فأما (1) فيجاب عنه بالنفي فالمؤسسة السنية - في الجملة - كانت تعارض النظام إلا أنها أدركت عجزها عن الإطاحة به إذ لا سبيل إلى ذلك إلا بإفناء المسلمين وتمزيق البلد ، وهذا لا ينفي وقوف بعض المتمشيخين إلى جانبه وولائهم لصدام إما لمصلحة دنيوية عاجلة وإما لاعتقادهم عدم كفره ، وانه أولى من مجيء الأجنبي إلى البلاد كما هو حاصل اليوم وهذا كان رأيا لبعض علماء الشيعة أيضا وهم معروفون فلا موجب للتسمية وهذه في جملتها " حالات فردية " لا تمثل التوجه العام لدى أهل السنة ولا الشيعة حتى !
وأما (2) فيمكن القول بان المقاومة الحالية - باستبعاد الجماعات التي تفجر في أوساط المدنيين - هي " مقاومة إسلامية جهادية وطنية " منطلقها الجهاد في سبيل الله تعالى وهدفها طرد الاحتلال وهي لا تمت إلى النظام السابق بصلة ، وهي لا تهدف إلى إعادته إلى السلطة لأنها كانت قد اكتوت بناره في السابق ، ولأنها كانت تكفره ولا تعترف بشرعيته وهذا يظهر من مواقعهم على الانترنيت ومن بياناتهم ، واكبر دليل على هذا أنها لم تقف إلى جانب النظام خلال الحرب عليه لبغضها له ولعدم إمكان اللقاء معه ، هذا هو الإطار العام للموضوع ، أما إمكانية وجود بعض الأفراد ممن يوالى النظام ويدافع عنه فأمر وارد ضمن التصور الجزئي إلا أنهم لا يشكلون وزناَ ثقيلاً في المقاومة الحالية .
أما (3) فيجاب عنه بعدم خصوصية الشيعة ، فقد دأب النظام المخلوع على طمس معالم الهوية الإسلامية لأهل السنة فمنعهم ـ وغيرهم ـ من التمثيل السياسي وتشكيل الأحزاب والجمعيات العلمية والخيرية ، ومنعهم من ممارسة كثير من شعائرهم الدينية ( وما محاربة اللحى والثوب القصير إلا حلقة في هذا المسلسل ) ، وحال بينهم وبين الاتصال ببقية المؤسسات السنية في العالم الإسلامي وفرض عليهم عزلة مذهبية رهيبة ـ لاسيما بعد الأزمة السياسية التي خلفتها حرب الخليج عام 1991م ـ الأمر الذي لم يصب الشيعة بمثله خلال تلك الفترة لا سيما بعد ضعف النظام وانكشاف الحدود مع إيران وانفتاحه عليها اقتصاديا وسياسيا إلى حد ما !!
وكان النظام يحارب بشكل محموم الناشطين من الدعاة إلى الله ، ويحارب الذين يدعون إلى الإصلاح والى تحكيم الشريعة الإسلامية ويتهمهم بـ : " تسييس الدين " و " التكفيرية " وهذا أمر يعرفه الممارس !
فهذه النقطة دليل على انغلاقية النظام ومدى حنقه على الإسلام وأهله لاسيما الدعاة من أهل السنة وليست دليلا على طائفيته كما يزعم البعض !
وأما (4) فيمكن القول بان هؤلاء وان كان بعضهم قد انحدر من أصول سنية ومن عائلات سنية ضعيفة التدين غالباً إلا انهم بصعودهم إلى المراكز العليا في النظام والحزب قد فقدوا انتماءهم القديم وصاروا " صداميين " إلى النخاع والبحث في كفرهم كان يشغل بال العاملين من أهل السنة ، وعامة أولئك البعثيين لا يقيمون وزنا للشريعة الإسلامية فضلا عن المذهب أو الطائفة ، فرئيسهم المعظم ومعبود هم الأكبر هو " صدام " أو قل إن شئت " المصلحة الشخصية " !!
ثم إن النظام كان يعتمد عليهم لعصبتهم القبلية القوية ، ولم يكن يخصهم بالتقريب فقرب إليه الشيعة واليزيدية والصابئة والنصارى _ ولو وجد اليهود لقربهم إليه ! _ فالمعيار عنده " الولاء لشخص الرئيس " لا غير .
ثم إن " الكادر الحزبي المتقدم " و" القاعدة الشعبية من الذيول " وهي أدوات أساسية للنظام الهيكلي للحزب ، وظهر قوي يعتمد عليه النظام في الميدان وفي الأزمات لرفع التقارير ورسم الموقف وللبطش والتنكيل بالمعارضين خصوصا في مناطق الجنوب إنما هي في اغلبها من " أبناء الشيعة " وهذا لوحده كفيل بإسقاط الشبهة من أساسها ، فأي طائفية هذه التي يتحدث عنها القوم ؟!
ثم إن القرآن الكريم لم يفرق بين الرئيس والوزير والجنود في اصل المؤاخذة فالكل في الوزر سواء وفي الحكم مشتركون قال تعالى : (ً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)[القصص: من الآية8].
وأما (5) فيجاب عن ذلك بان ما فعله بالأكراد ـ وهم من أهل السنة في العموم ـ أبشع و اشد وحشية وهمجية ، فهناك اكثر من ( 250 ) قرية كردية قد أبيدت تماما وقصف أهلها من الشيوخ والنساء والأطفال بقنابل ( النابالم ) وبعضها بالغازات الكيماوية السامة ، وهذه قضية إسلامية سنية إنسانية ولا تخص الأكراد وحدهم ، فهل يعقل بعد هذا بان يقال إن : ( علي كيماوي وقصي وطه الجزراوي وأياد فتيح الراوي وسلطان هاشم وعبد حمود وسواهم من المجرمين ) كانوا من أهل السنة ومن قادة أهل السنة ؟!!
سبحانك هذا بهتان عظيم .(49/252)
وأخيرا فان العقلاء توحدهم الجراح والمصائب لا أن تكون موجبا لمزيد من الفرقة والاختلاف والتدابر ، وإيذاء " صدام المجرم " حجاج هذا الزمان للسنة والشيعة في القديم ينبغي أن يوحدهم في الجديد .
المطلب الثاني : مناقشات في الفيدرالية
يصول اليوم في الساحة السياسية اشكال من الفرسان وكما يقول المثل ( كل واحد راضي بعقله ) ومنهم من ينظر للفدرالية وكأنه يخطط لقطعة ارض، لا مصير دولة وشعب فتجد بين الفرسان الانتهازي الوصولي المشغول بإرضاء عجبه وانانيته ومكاسبه الدنيوية، فتراه يطل علينا من تلفاز النظام السابق المرتبط بالحزب يصرف علينا من الكلام ما لايغني ولا يسمن، واليوم ينظّر بما يناسب المقام والمصلحة، وهؤلاء أفرد لهم الامام ابو حامد الغزالي فصلاً في الاحياء ولاجدوى في خطابهم. وترى في الساحة فريقاً اكاديمياً مؤمناً بما قرأه في الكتب عن الفيدرالية واللامركزية الادارية قاصراً النظر عن النتائج والعواقب على ارض الواقع العراقي، وفريقاً يجد في الفيدرالية تحقيقاً لمصلحة متوهمة .
النظام السابق حرم طوائف الشعب من ممارسة العمل السياسي طيلة خمسة وثلاثين عاماً خلت ولذلك تجد الكثير منهم لايملك شيئاً من المعرفة والدراية والحنكة والتجربة وبعد النظر للمناورة السياسية وتحديد المواقف.
[ عزيزي الفدرالي تمهل ، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات (ص1 ) بتصرف ].
* مفهوم الفيدرالية
تبدو الفيدرالية اليوم من القضايا الأكثر إثارة للجدل في الواقع العراقي إذ أن قليلاً من العراقيين يملكون فكرة واضحة عن ما تعنيه الفيدرالية، ويرى المختصون إن إشكالية فهم الفيدرالية لدى المواطن العراقي باتت تشكل تحديا خطيرا إذ كيف سيقرر العراقيون مستقبل بلادهم من خلال صناديق الاقتراع اذا كانوا لايدركون الفيدرالية كمفهوم ؟!
ومع هذا ذهب آلاف من الناس وصوتوا ( بنعم ) على مشروع الفيدرالية الذي تضمنه الدستور وهم بعد لم يدركوا خطورة الأمر ، ولم يعرفوا الفيدرالية من أصلها !!
ومن اجل إيضاح الفكرة هنا لابد لنا من إدراك الفيدرالية كمفهوم يقوم على أساس انه نظام سياسي عالمي يوجد فيه مستويان حكوميان يحكمان نفس المنطقة الجغرافية ونفس السكان، واصل الكلمة قادم من كلمة لاتينية (فيدير) وتعني الثقة.
ليست "الفيدرالية" بكلمة عربية ومن أصل اللغة، وإنما كلمة دخلت قاموس هذه اللغة وغيرها (الكردية والتركمانية والسريانية..الخ) في العراق، ، في فترات مختلفة، وأصبح يجري تداولها بعد انتفاضة آذار 1991 .
وهي تترجم عادةً بكلمة "الإتحاد" كأقرب عبارة لها ،وهي في الحقيقة ، تعني شكلاً محدداً من أشكال الإتحاد.
وتقوم الدولة الفيدرالية على أساس وجود حكومتين حكومة مركزية وحكومات موجودة في وحدات سياسية صغيرة تدعى بالأقاليم اوالولايات أو المناطق ،وهذه الوحدات الصغيرة تعطي بعض قوتها السياسية للحكومة المركزية لكي تعمل من اجل المواطن . وفي ظل هذا النوع من النظام تقع على الحكومة المركزية مسؤولية البت بالأمور التي تتعلق بالدولة مثل الإشراف على الجيش وعقد المعاهدات ... الخ من الأمور التي تمس سيادة الدولة، وبمعنى آخر تعني توزيع صلاحيات الدولة أفقياً أي جغرافيا بين الاتحاد المؤلفة منها او عموديا بين السلطة الفيدرالية وهي أعلاها وسلطات الأقاليم الاتحادية وبهذا تؤسس الدولة بطرقتين إما عن طريق اتحاد مناطق مختلفة لم تكن تشكل دولة واحدة وبقرار جماعي منها لكي تشكل دولة لامركزية أي دولة فيدرالية للاستجابة الفعلية إلى الواقع القومي او الجغرافي والاقتصادي والتاريخي.
أما الكونفدرالية فهي نظام تتحد فيه دولتين او أكثر وفقا لمعاهدة يتم بموجبها تشكيل هيئات مشتركة في شتى المجالات لتوحيد سياسة الدول الأعضاء مع احتفاظ كل دولة بشخصيتها الدولية .
[ الفيدرالية في العراق وإشكالية الفهم الغامض ، سهيله عبد الانيس (ص 1-2 ) بتصرف ].
فالفيدرالية نظام سياسي يفترض تنازل عدد من الدول أو القوميات،الصغيرة في أغلب الأحيان،عن بعض صلاحياتها وامتيازاتها واستقلاليتها لمصلحة سلطة عليا موحدة تمثلها على الساحة الدولية وتكون مرجعها الأخير في كل ما يتعلق بالسيادة والأمن القومي والدفاع والسياسة الخارجية .
والفيدرالية السمة الأساسية في الأنظمة الحديثة التي تعمل على حل مشكلاتها القانونية والتنظيمية والسياسية التي تعقد بفعل التبادل الاجتماعي والعلاقات الدولية. فهي على الصعيد الداخلي تسعى لتنظيم أمور الدولة الداخلية، بهدف تسيير العمل والوظائف وتوزيعها مابين السلطات المركزية والسلطات المحلية، بحيث تحترم السلطة الفيدرالية
المصالح الخاصة للقوى المؤلفة للدولة الأم، ومقابل تنازلها عن صلاحيات الأمة العامة .
وعلى الصعيد الخارجي تلجأ الدولة الفيدرالية إلى رسم علاقاتها الدولية لصالح مجموع الوحدات والكيانات التي تتكون منها .(49/253)
فالفيدرالية إذن تتعلق بالنظام السياسي وبالنظام الإداري وبتقسيم صلاحيات السلطة الحاكمة وتنظيم العلاقات فيما بينها ، وتأمين انسجامها لتمنع تغلب طرف على طرف آخر ، فتحصر قرارات الدولة الفيدرالية المركزية بالقمة ، وتترك الأمور المحليّة للسلطات الإقليمية ، والسلطات المحلية بدورها لا تخرج عن نطاق صلاحياتها ، فهي لا تشرع للقضايا التي تتعلق بالدولة المركزية ، رغم أنها تشارك في المؤسسات التي تعالج الأمور القومية ، وتنظم هذه المؤسسات الصلاحيات وتوزعها بشكل يؤمن استقلالية الوحدات المكونة للسلطة الفيدرالية ويضمن لها المشاركة الفعالة في القرارات المركزية والمصيرية
وفي القرن العشرين ارتبطت ظاهرة الفيدرالية بمبادئ الدفاع عن حقوق الأقليات والأثنيات القومية والدينية الصغيرة بالتوجه نحو إضعاف مفهوم الدولة المركزية.
فتكثر الأنظمة الفيدرالية حيث يكثر التنوع القومي والأثني والديني . فهي مطبقة في كل من الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل والمكسيك وسويسرا والاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وأستراليا والهند واندونيسيا وغيرها من الدول .
وقد اختلف مفهوم الفيدرالية وكيفية تطبيقها من دولة إلى أخرى. وبما إنها مفهوم سياسي يتعلق بالنظام السياسي والسلطة، وبما أن الديمقراطية ، والتمثيل السياسي وتقرير المصير، هي من المقومات الأساسية للفدرالية فإنها بذلك دائماً عرضة لسوء الفهم والتطبيق، ومعيارها الوحيد هو _ ما يسمى _ بالديمقراطية واحترام المصالح والسيادة للدولة والقوميات.
ويكاد مفهوم الفيدرالية يترادف مع قول الفيلسوف (جفرسون) في القرن الثامن عشر" الدولة التي تحكم جيداً هي التي تحكم أقل" فالتجاوب مع الحاجات القومية والإقليمية، هو معيار آخر للفدرالية.
ومن هنا فأن الدول الفيدرالية تكاد تكون النقيض للإمبراطورية التي تتميز بمركزية شديدة وبسيطرة المركز على الأطراف .
والفيدرالية على أنواع ودرجات متفاوتة في الأشكال والصيغ التطبيقية، إذ تتراوح ما بين وحدة مطلقة أو الاتحاد ما بين مجموعات متمايزة تماماً، وتتمتع بحرية كبيرة تكاد تصل حتى الى الانفصال .
ومسيرة تكوّن الفيدرالية نفسها تتبدل من دولة إلى أخرى ، فبعض الفدراليات، بدأت من وجود مجموعات وقوميات سياسية متفرقة، تعاقدت على تبني سياسة مشتركة، فعقدت فيما بينها وحدة فدرالية لتتخذ قرارات مصيرية مشتركة ، بينما فدرالية أخرى بدأت كدولة مركزية موحّدة تفرقت إلى وحدات وقوميات متميزة ومنفصلة نسبياً سعياً إلى التمتع بحرية في قراراتها واكتفت بإقامة علاقة فدرالية مع مجموعاتها الموحدة.
وغالبية الدول الفيدرالية تعتمد نظام فصل السلطات. والتمثيل الشعبي في الدول الفيدرالية يكون عادة على مستويين يتجسدان في نوعين من المجالس التمثيلية :
مجالس منتخبة مباشرة من الشعب، ومجالس أخرى لها صفات فدرالية موحدة.
المجالس الأولى تعكس المصالح ووجهات النظر المحليّة المختلفة للدول المؤلفة للكيان الفدرالي وللوحدات الإقليمية السياسية وتسهر على القرارات التشريعية للمجلس الثاني (الممثل للسلطة الفيدرالية المركزية) لكي تحمي كياناتها ومواطنيها ضد أية إجراءات فدرالية فوقية أو مضرّة بمصالحها. والأمثلة كثيرة على الدول الفيدرالية في العالم ويمكن الإطلاع على طريقة عملها وتنظيمها بالرجوع إلى النظام السياسي والدستوري فيها .
[الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق ، د عبد علي محمد سوادي ( ص 1-7 ) بتصرف/ شبكة النبأ المعلوماتية ] .
* صور الفيدرالية ، ومميزات الدولة الفيدرالية
يذكر رجال القانون أن الدول الفيدرالية تكونت إما من اتحاد كيانات مستقلة، أو من كيانات تنفصل من جسد دولة واحدة كبيرة، ثم تعقد العزم على الاتحاد ضمن صيغ قانونية واجتماعية جديدة. وهي كالتالي:
1- اتحاد ولايات متقاربة: تنشأ الدولة الفيدرالية من إتحاد ولايتين أو عدة ولايات متقابلة تشترك شعوبها في ملامح اجتماعية وجغرافية وتاريخية، فتتنازل كل واحدة عن بعض سلطاتها الداخلية، وعن سيادتها الخارجية، ثم تتوحد ثانية لتكون الدولة الفيدرالية على أساس الدستور الفدرالي، مثال الولايات أو الإمارات المتحدة: الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 والاتحاد السويسري عام 1874 وجمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 واتحاد الأمارات العربية عام 1971.
2- تفكك دولة كبيرة: تنشأ الدولة الفيدرالية من تفكك دولة كبيرة بسيطة، يعاني سكانها من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، كاختلاف اللغة والعادات والثقافات والموارد والثروات، فيعمل شعبها على المطالبة باستقلال تام عن سيطرة الحكومة المركزية، وتقرير مصيرها دون تدخل من الآخرين، ثم تعمل الولايات المفككة على تشكيل دولة واحدة هي الدولة الفيدرالية، وفق نظام إداري فدرالي. مثال الدولة الفيدرالية الناشئة عن تفكك دولة بسيطة هي المكسيك 1857 والأرجنتين 1860 والبرازيل سنة 1891 وتشيكوسلوفاكيا سنة 1969.
تتميز الدولة الفيدرالية عن غيرها من الدول البسيطة بأمرين:(49/254)
1- الدولة الفيدرالية دولة مركبة: تتصف الدولة الفيدرالية بأنها دولة مركبة من أجزاء متميزة، وهذا التركيب هو الذي يميز الدولة الفيدرالية عن الدولة البسيطة ، حيث تتكون الدولة الفيدرالية من دولتين أو أكثر، أو من إقليمين أو أكثر، يكون لكل منهما نظامه الخاص، واستقلاله الذاتي، مثل أن يكون لكل ولاية أو إقليم دستور خاص، برلمان خاص، حكومة خاصة، وقوانين خاصة، وعسكر خاص، وموارد خاصة، ولغة خاصة بها.
2- الدولة الفيدرالية دولة واحدة: تتصف الدولة الفيدرالية بأنها دولة واحدة، كالدولة البسيطة تماما، من حيث وجود دستور اتحادي واحد، وحكومة اتحادية واحدة، وبرلمان اتحادي واحد، ومحكمة اتحادية واحدة، وجيش اتحادي واحد .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث (ص 3 ) ] .
* أشكال الفيدرالية
وتأخذ الفيدرالية ثلاثة أشكال للحكم :
اولاً : شكل الارتباط الإداري .
ثانيا: شكل الارتباط السياسي .
ثالثاً : شكل الارتباط السياسي القومي _ العرقي_ الاثني .
ماهية الفروقات بين الحكم الذاتي والفيدرالية :
1. أن شكلي الحكم والفيدرالية يأخذان صيغة وحدة سياسية إدارية إقليمية .
2. يدون قانون الحكم في مواثيق تشريعية خاصة , بينما الفيدرالية يتم تدوينها كحقوق دستورية في دستور الدولة المركزية .
3. كلا شكلي الحكم الذاتي والفيدرالية يتم ممارستهما في أطار وحدة الدولة المركزية.
4. يحدد الدستور صلاحيات الحكومة الفيدرالية المركزية وكل ما تبقى من صلاحيات تمنح لحكومة الإقليم الفيدرالية.
[ الفيدرالية خطوة أولية على طريق الحل السلمي للقضية القومية ، ماجد لفته العبيدي ، موقع بحزاني للحوار ( ص 5 ) ] .
* ضمانات إنجاح الفيدرالية
الفيدرالية ليست لباساً جاهزاً r eady Made يستطيع كل شعب أن يلبسه ويتخذه زياً سياسياً ..
ينبغي أن يتزامن إدخال الأنظمة الفيدرالية مع القيام بإجراءات محددة وقوية المفعول تتخطى "شكلية" إعداد نصوص الدستور والقوانين لتكرّس "واقعا" دستوريا سليما يشمل الحفاظ على حقوق الإنسان وسيادة القانون في الدولة والعدالة والحرية.
لكن هذا يتطلب أيضا رغم عقد الاتفاق على قاعدة الأغلبية ضرورة احترام الأقليات الدينية والعرقية والاجتماعية ومعاملتها بروح التسامح.
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي " ،عارف حجاج ( ص5 / موقع قنطرة ) بتصرف ].
خلاصة تطبيق الفيدرالية في أي دولة، يعتمد على التالي:
- ضرورة وجود تعريف مستفيض للنهج الفيدرالي، ليتمكن الغالبية من الشعب من الوصول إلى قناعات ذاتية حول مدى صلاحية إقامة نظام فيدرالي في بلادهم.
- ضرورة عقد المؤتمرات والندوات العامة لتحديد المداليل العملية للنهج الفيدرالي الخاص بتلك الدولة.
- ضرورة وضع الضمانات الدستورية والإجرائية للحفاظ على وحدة الدولة أرضا وشعبا.
- منح الحرية الكاملة لأبناء الأقاليم في تحديد العلاقة الإدارية بين الإقليم والعاصمة بما يحقق الحد الأدنى من الانسجام في إدارة شؤون الأقاليم.
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث (ص 7 ) ].
ومن المهم أيضاً أن لا يكون المشروع الفيدرالي داخلاً ضمن (مؤامرات الهيمنة الأجنبية ) .
سويسرا نموذجاً :
إن 25دولة في العالم وبما يقرب من 45%من سكان العالم تعيش في ظل نظام فيدرالي ولعلنا نأخذ من التأريخ الحديث التجربة السويسرية , حيث كانت البداية الحقيقية في القرن الثالث عشر حين تشكل أول تنظيم إتحادي بين ثلاث محافظات , إنضمت إليها فيما بعد خمس أخري وذلك في عام 1291, وهناك بعض الدراسات تشير إلى أن السويسريين عرفوا ومنذ الألف الميلادي الأول المجالس البرلمانية في جميع المقاطعات السويسرية ,حيث ثمة برلمان لكل كانتون , له السلطة العليا ,وحق إتخاذ قرارات الحرب والسلم.
ومع هذا يجنح الكثير من المؤرخين إلى اعتبار الثاني عشر من شهر أيلول عام 1848البداية الحقيقية للنظام الفيدرالي بعد إتحاد ثلاثة وعشرين كانتونا , اشتركوا في صياغة الدستور الجديد , الذي حدد صلاحيات السلطات الاتحادية ( السياسة الخارجية , الدفاع , الحرات الفردية , العدل , المالية , الاقتصاد العام ) .
والكانتون يتألف من عدة كومونات .
عدد الكومونات في سويسرا ثلاثة آلاف وأثنين وعشرين وعدد السكان لكل كومون يتراوح بين 250 ألف نسمة الى 300 ألف نسمة .
وبفضل الوعي السياسي نجحت التجربة السويسرية وأصبحت مثالا يُحتذى به من قبل بعض الشعوب , ويذكر ( الكاتب علاء اللامي ) ان بلجيكا أوفدت سنة 1988وفدا كبيرا من البرلمانيين ورجال الدولة الى سويسرا ليدرس عن قرب هذه التجربة الفريدة والخصبة ويأخذ مايفيد المجتمع البلجيكي الذي يعاني أصلاً من صراع بين المكونين المجتمعيين له ( قومية الفلامون والفالون) .
اهم المرتكزات لهذه الفيدرالية في النموذج الغربي :
1. حرية الدين والمعتقد.
2. التسامح الديني.
3. منع الترويج لمذهب طائفي ضد مذهب آخر .(49/255)
4. منع فرض لغة على أخرى بالإكراه .
5. إعتماد المواطنة في التعامل واعتبارها مُثل عليا تؤهل ممن يلتزم بها للعمل في هيئات الدولة والسلطات الثلاث .
6. لايجوز الإعلان عن الهوية الدينية او القومية او اللغوية لأي إتحاد فيدرالي..
[ لا فيدرالية دون التطبيقات الديمقراطية الضرورية .رشيد كَرمة ، موقع بحزاني للحوار ( ص2-3 ) ] .
لاحظ أيها القاريء المرتكز السادس ينسجم مع قيم ومفاهيم المجتمع الغربي وهو يتعارض كلياً مع قيمنا ومفاهيمنا الإسلامية ، ولهذا لا يصلح تطبيق هذه النماذج كمستنسخات عن الأصل في المجتمعات العربية والإسلامية إلا إذا اختارت هذه المجتمعات والعياذ بالله طريقاً غير طريق الإسلام !
وهذه التطبيقات الديمقراطية الضرورية التي يتشدق بها دعاة الفيدرالية هل يمكن تطبيقها في العراق كما حصل في المانيا وسويسرا وأمريكا ؟!
لا أعتقد !
ثم من يصدق أن أمريكا عبرت المحيط لتقديم الديمقراطية على طبق من ذهب للمستضعفين من العراقيين أو للوارثين الجدد !!
يقول مايك وتني : " من السخف القول بأن إدارة الرئيس بوش ملتزمة بالديمقراطية في الشرق الأوسط " .
[ تقسيم العراق استراتيجية أمريكية ، الشرق القطرية 1/9/2005 ]
وهؤلاء الذين يحدثون الشعب كل يوم عن نماذج فيدرالية ناجحة نقول لهم : عندما تطلُّون علينا مروّجين لدعوتكم الجديدة وتذكروا لنا كيف ان اقواماً متفرقة اجتمعت في فدراليات كسويسرا والمانيا ويوغسلافيا والولايات المتحدة والإمارات العربية والاتحاد الهاشمي(1958) قد فاتكم أن تذكروا لنا مثالاً واحداً عن بلد صغير كالعراق لا تتجاوز مساحته مساحة كاليفورنيا وسكانه لايتجاوزون الخمسة وعشرين مليوناً وثرواته هائلة قائماً بمؤسساته ومكانته الدولية منذ عشرات السنين اختار ابناؤه تجزئته الى أقاليم فدرالية؟؟ هذا لم يحصل قط، شتان بين الفيدرالية كنظام سياسي وبين اللامركزية كنظام إداري فالفيدرالية لاتتبع اللامركزية الإدارية بالضرورة. هل تتعاملون مع قطعة ارض أم مع مجتمع بشري؟ أتريدون اعادة بناء العراق أم قلبه على البطانة وإعادة تفصيله من جديد على هواكم دون إدراك النتائج والآثار الخطيرة التي ستترتب على فعلكم ؟!
[ عزيزي الفدرالي تمهل ، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات ( ص3 ) ] .
إن الفيدرالية في جميع بقاع العالم حتي في مملكة جورج بوش لم تقم علي أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية بل علي أسس أخرى غير تلك والا لكان للهسبانك في الولايات المتحدة الأمريكية محافظات مستقلة بهم وكان للسود إقليم خاص بهم حيث تكاثرهم في الجنوب ولخمسة مليون مسلم أمريكي أيضاً إقليم يخصهم ويعملون علي تعديل الدستور الأمريكي حسب عقائدهم الدينية والعرقية وغيرها ..
ملحوظة : لا يوجد تناقض بين الفيدرالية والنظام المركزي أو الدولة المركزية في النماذج المذكورة ، وإنما هما تنظيم لإقامة علاقة اتحادية بين الأقاليم ودولة المركز، كما هو في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن فدراليتها قامت على أساس ديموغرافي وليس على أساس ديني أو عرقي.
وكذلك لا تتناقض الديمقراطية بحسب المفهوم الغربي مع النظام المركزي في تلك البلدان، إذ أن فرنسا دولة ديمقراطية وهي دولة نظام مركزي، ومثلها ايطاليا والهند وأكثر دول أوربا يحكمها النظام المركزي، ومع ذلك فإنها ديمقراطية المنهج والتوجه.
[ فدرالية تقسيم العراق، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات ( ص1 ) ] .
فلا مانع من إقامة نظام مركزي في العراق يطبق فيه مبدأ العدالة أو ما يسمى بالديمقراطية ( مع عدم تسليمنا بالمفهوم الغربي لها ) مع وجود ضمانات تحول دون الرجوع إلى مربع الديكتاتورية ، أو تطبيق ( اللامركزية الإدارية ) وهي أشكال تحول دون الانزلاق في المخطط الأمريكي !
* موقف العرب والأكراد والأقليات من الفيدرالية
تبنت القوى الكردية على وجه خاص ومنذ البداية فكرة الفيدرالية بهياكلها الجغرافية والإثنية. ومع أنها لم تتبن بصورة صريحة معلنة خيار الانشقاق عن الدولة إلا أنها لا تبدو مكتفية بمبدأ التوزيع التكميلي للسلطات بين الاتحاد وأجزائه داخل الدولة الاتحادية المشتركة.
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي ، عارف حجاج ( ص2 / موقع قنطرة ) ] .
هذا على عكس الحال لدى الأغلبية العربية (وداخل النخب السنية بطبيعة الحال) التي لم تبد حماسا في البداية لخيار الفيدرالية. إذ جاءت أولوياتها تنص على استعادة استقلال العراق وسيادته ووحدته الإقليمية في إطار دولة مركزية قوية.
وتوجد دلائل على أن القوى الرئيسية داخل المحور الشيعي تسعى إلى تبني نظام شبيه بنظام توزيع السلطة في لبنان وفقا للانتماء المذهبي .
ويبدو أن كثيراً من أتباع هذين المذهبين لو حصل توضيح دقيق للمشروع الفيدرالي وكان لابد من اختياره ضرورةً وبفرضٍ أمريكيٍ فإنهم يحبذون الخيار الفيدرالي المبني على قواعد إقليمية إدارية وليس على أسس دينية مذهبية ، ويصبح الأمر كما قال الشاعر :
إذا لم تكن إلا الأسنّة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها !(49/256)
[ موقف الأكراد والمحللين السوريين من الفيدرالية الكردية في العراق، وحيد تاجا ، موقع الاختلاف ثروة ، ( ص2 ) 20 آذار، 2004 بتصرف ]
أين المشكلة ؟
والمشكلة أن بعض القيادات الشيعية والكردية -وليست كل القيادات بدليل معارضة الزعيم الشيعي السيد مقتدى الصدر والشيخ جواد الخالصي- تروج لمخاوف بأن يعود حكم البعث وسيطرة السنة مرة أخرى، وترى بالتالي أن الحل يكمن في فيدرالية شيعية في الجنوب وأخرى كردية في الشمال يتوافر لهما الأساس القانوني (حق الإقليم في رفض تنفيذ قرارات المركز) والمعيشي (تقسيم الثروات)، غير أن هذا يعني على الأرض انفصال كل منهما فعلياً بدولة مستقلة حتى لو لم ينص الدستور صراحة على ذلك.
وكان المراهنون على وحدة بلادنا يعولون على طرح فكرة الفيدرالية في الشمال الكردي فقط المنفصل عمليا عن العراق منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وبشروط وتصورات معينة، ولكن يبدو أن المناقشات حول الدستور العراقي، إضافة إلى تسرب أنباء عن رغبة واشنطن في انسحاب مبكر من العراق للخلاص من دوامة القتل التي تطال جنودها كل يوم، وتعاظم قوة المقاومة العراقية -كل ذلك أدى للإفصاح أكثر عن نوايا الانفصال، ليس فقط بالأرض والثروة (النفط)، ولكن أيضا الانفصال عن العالم العربي _ أي من قبل الكورد _.
وقد قاد الطرح الكردي للفدرالية إلى تحرك المجموعات العرقية والطائفية الأخرى، فأعلنت ممثلة التركمان في مجلس الحكم الانتقالي " شن كول" ان الفيدرالية يجب أن تكون على أساس إداري وليس عرقيا وطالبت بأن تكون كركوك خارج الفيدرالية الكردية لان التركمان يشكلون الأغلبية الكبيرة فيها، وان وجودهم وجود تاريخي.
[ المصدر السابق ] .
بل إن الأمر لم يتوقف على ذلك، فقد زادت دعاوى الانفصال مؤخرا، وأصبحت أكثر وضوحا وصراحة تحت شعار الفيدرالية أو الحكم الذاتي، بعدما بدأت مجموعات عرقية أخرى -بجانب الشيعة والأكراد- تطالب وسط كل هذه الأجواء بالحكم الذاتي الكامل، مثل الآشوريين العراقيين المسيحيين، وغيرهم، وأطلق كل فريق محطات تلفزيونية خاصة وفضائيات تروج للفيدرالية بطرق ودعاوى شتى وتعتبرها أمرا واقعا!
حيث طالب المؤتمر الآشوري العام (الآشوريون نصارى يتحدثون الآرامية) الذي عقد في المدة من 5 - 7 آب 2005م بفيدرالية آشورية في سهل نينوى وسائر مناطق وجود الآشوريين بدعوى أن تعدادهم قرابة مليون إلى مليون ونصف، كما دعا إلى "حق العودة للمهجرين الآشوريين إلى قراهم ومساكنهم التي تركوها، وإدراج رمز آشوري تاريخي في العلم العراقي الجديد".
أيضا دعا الفيليون (وهم أكراد شيعة ينتشرون جنوب مدينة السليمانية مرورا بكركوك ومحافظة ديالي) بالاعتراف بحقوقهم، فيما طالب "الشبك" (وهم جماعة تضم في صفوفها خليطا من قوميات عربية وكردية وتركمانية) بالحفاظ على حقوقهم في الدستور الجديد، وعدم فرض الانتماء إلى القومية العربية عليهم، أو الكردية.
وكان من الممكن، بدلا من توسيع دائرة الفيدرالية الانفصالية بهذا الشكل، استرضاء أو احتواء المطالب الكردية خاصة بعد تعيين (جلال الطالباني) رئيسا لكل البلاد، بيد أن السيد عبد العزيز الحكيم أجج مشاعر أهل السنة وغيرهم بالدعوة إلى إنشاء كيان وحكومة فيدرالية في المحافظات الوسطى والجنوبية التسع ذات الأغلبية الشيعية، ما يعني تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية هي: كيان شيعي في الوسط والجنوب، وعربي سني في الغرب، وكردي في الشمال كما سيأتي بيانه.
وفي ذلك يقول صالح المطلك العضو في مجلس الحوار الوطني معلقا على مطالبة الشيعة بإقليم فيدرالي في الجنوب: "نتمنى ألا يأتي هذا اليوم. نحن نعتقد أن العرب في العراق بسنتهم وشيعتهم هم كيان واحد؛ لذلك فإن أي محاولة لإثارة موضوع طائفي لتقسيم العراق موضوع مرفوض كليا"، فيما قال عبد الكريم هاني الناطق الرسمي باسم المؤتمر التأسيسي العراقي المعارض: "إن هذا الطرح للأسف يؤدي إلى تمزيق العراق عرقيا وطائفيا ولا يخدم مصلحة البلد إطلاقا".
[ انظر : دستور العراق يمزق العراق! ، محمد جمال عرفة ، بتصرف ، موقع اسلام اون لاين / شئون سياسية ، 29/8/2005].
* بدايات المطالبة بالفيدرالية وإقرارها في العراق
إن أطروحة الفيدرالية في النسيج الاجتماعي العراقي أطروحة حديثة العهد، ظهرت شيئا فشيئا في فترة التسعينات من القرن المنصرم، وذلك بعد غزو دولة الكويت وانتفاضة آذار 1991، حيث تحررت منطقة شمال العراق ذات الأغلبية الكردية من قبضة السلطة المركزية في بغداد بدعم من قوات التحالف الدولية.
ففي 4/10/ 1992 اتخذ البرلمان الكردستاني قرارا بتبني النظام الفدرالي للعراق، الأمر الذي أثار جدلا واسعا من الناحية السياسية والفكرية حول الآثار المستقبلية المترتبة على العلاقات الاجتماعية للمكونات العراقية ودول الجوار.(49/257)
منذ تلك الفترة كان مبدأ الفيدرالية يطرح بين الحين والآخر من قبل القوى الكردية لاسيما الحزبين الكبيرين الديمقراطي والاتحاد الكردستاني في المحافل والمؤتمرات والندوات والتحالفات التي كانت تجريها المعارضة خارج العراق، كان منتهاها مؤتمر لندن وهو آخر مؤتمر تعقده المعارضة العراقية في المنفى، هذا فضلا عن الندوات الفكرية والثقافية التي تتبناها النخب المفكرة الداعية للفيدرالية العراقية.
بعد سقوط النظام السابق، أُقر قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت الفيدرالية، فقد جاء في المادة الرابعة: نظام الحكم في العراق جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب.
وفي المادة الرابعة والعشرين(أ) ـ تتألف الحكومة العراقية الانتقالية والمشار إليها أيضا في هذا القانون بالحكومة الاتحادية من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة، ومجلس الوزراء وبضمنه رئيس الوزراء، والسلطة القضائية....
وجاء في المادة الثانية والخمسين: يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية، ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق. إن هذا النظام سيشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسئولين المحليين في كل إقليم ومحافظة، ما يخلق عراقاً موحدا يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحررا من التسلط .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث ( ص 4 ) ].
* مبررات دعاة الفيدرالية
الداعون لتثبيت مبدأ الفدراليات في الدستور العراقي القادم، يرون أنه الشكل الأكثر ملاءمة لتعايش مكونات الشعب العراقي المختلفة، وأداة فعالة ومرنة لردم ثغرة التنمية المفوتة في بعض المناطق، وإحداث وتائر متسارعة لها، قارنين ذلك بين التوجه العالمي نحو اللامركزية كوسيلة للتنمية البشرية، وبين الموروث السياسي العراقي الذي حول مركزية الدولة إلى أداة لسيطرة مناطقية معينة، أخضعت باقي العراق لها كعصبية غالبة، مما اشعر أبناء المحافظات المهملة بالحيف والقهر والتغييب، وجعلهم متطلعين لفرصة الانفكاك من سيطرة المركز وظلمه التاريخي .
[ فدراليات العراق.. من أين وإلى أين ؟ ، جريدة الشرق الأوسط ، الثلاثاء 19 جمادى الثانى 1426 هـ 26 يوليو 2005 العدد 9737 ] .
ويقولون : أن تطبيق سياسة اللامركزية في أي بلد يحقق الكثير من المزايا، لعل أهمها: أنها ممارسة فعلية لمبدأ الاستشارية السياسية الذي يقوم على أساس اشتراك المواطنين لإدارة شؤونهم والمشاركة في صنع القرار بأنفسهم، وهذا ما يعبر عنه في السياسات الحديثة "بالديمقراطية" فإن النظام الديمقراطي السياسي يمنح الفرد السلطة عن طريق الآخرين الذين يمنحونه هذه السلطة، ولذلك فهي ذلك النظام الذي يستطيع من خلاله المواطنون تحقيق أهدافهم، عن طريق الحكم بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب .
وبالتالي، فأن نقل السلطات إلى المحليات، ومنح المحافظين كافة السلطات والمسؤوليات دون الرجوع إلى سلطة مركزية في العاصمة، واختيار المحافظين من أبناء المحافظات، أو ما أشبه من الوحدات الإدارية أو الحكومات المحلية، هو تطبيق عملي للاستشارية بمفهومها الشامل لما في ذلك النظام من توافر للمبادئ التي تكفل له أعلى درجة من الاستشارية التي تستمد السلطة في صنع القرار من أبناء الشعب مباشرة بالمحافظات دون الرجوع إلى السلطة المركزية.
ونظام اللامركزية الإدارية كما هو مطلوب بالنسبة إلى المجال السياسي، كذلك هو مطلوب بالنسبة إلى سائر المجالات كالمجال الاقتصادي، فإن هذا النظام يعد دعامة أساسية لنهوض الاقتصادي والاجتماعي للمحافظات أو الحكومات المحلية، أو ما أشبه ذلك من خلال الاهتمام بالتنمية الإقليمية، وتطوير أداء الخدمات، وتحقيق برامج الأمن الغذائي، وما أشبه ذلك من سائر ما يكون مقوماً للحكم الشعبي، فإن هذا النظام هو في الحقيقة أقدر على التعرف على الاحتياجات الحقيقية لكل محافظة وتنسيق العمل داخلها، وتوجيه الجهود نحو إشباع رغبات واحتياجات المواطنين، والتيسير عليهم، والبدء في مرحلة جديدة من العمل لزيادة الإنتاج لتحقيق النمو والتقدم والرخاء .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث ( ص 5 ) ].(49/258)
ويقولون : إن الفيدرالية في العراق ضرورة ملحة اليوم وغداً . ويجب الاعتراف بالاختلافات والتباينات بين الشعوب العديدة والتي تقطن داخل الأسوار نفسها . لا يمكن اليوم فتح الأحضان إلى آخرها أمام خرافة العيش المشترك الذي يكون في أغلب حالاته عيشاً مشتركاً إجبارياً برعاية الفروع الأمنية التي ترسم سياسات بلداننا وفاقاً لموازينها ونحن المواطنون إنما كائنات غريبة وكأننا من كوكب آخر . إن أدوار الدولة/ الأمة التي فرضت التناغم والتجانس الإثني والثقافي والديني بغية قيامها على أسس صلبة ومتينة قد ولى وإلى غير رجعة وذلك بفعل مناخات العولمة التي تسبب جزء من عملياتها كثورات الاتصالات والمعرفة التقانية في تصاعد خطاب الاثنيات أينما كانت في العالم . لا مكان في عالمنا الحالي لدولة تقوم على جماعة مهيمنة تهدر كل مرافق الدولة ومؤسساتها وتحول خيراتها إلى مجرد حطب لموقدها .
[ هل الفيدرالية الكردية رعب نووي ؟ ، مصطفى اسماعيل ، موقع الحوار المتمدن ] .
* نصيحة إلى الفيدراليين ( قبل المناقشة )
أنت أيها الفيدرالي بحاجة إلى:
* نظام ديمقراطي برلماني يمارس فيه السكان دوراً فاعلاً في التشريع والرقابة على أجهزة الدولة ومرافقها بالتنسيق مع الصحافة، ومن خلال هذا البرلمان والدستور يجري تحديد نوع الفيدرالية لمنطقة كردستان وحدودها وأبعاد علاقتها بالعراق الأم.
* تشكيل لجان مختصة في الإدارة والاقتصاد من عراقيين وأجانب لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة.
* خصخصة المشاريع والشركات العامة التي كانت عبئاً على الدولة وتشجيع المستثمر الأجنبي مع إلزامه بمشاركة رأس المال العراقي وإعطاء الاولولية في العمل والاستخدام للعراقيين بضمان إنجاح المشاريع والتورع عن سرقة المال العام !
* السعي لاسترداد قاصة النفط وتحرير العراق من الديون.
* تفعيل دور مكاتب العمل والتشغيل والتأهيل في وزارة العمل وتشجيع مكاتب العمل الأهلية ووضع الضوابط لها.
* تفعيل دور المفتش المالي والمفتش الإداري والمفتش العدلي من العناصر الكفوءة والنزيهة.
* إعادة النظر في تركيبة الجهاز القضائي وإعادة تأهيله وخاصة المواقع المتقدمة منه وتطهيره من العناصر الكسولة والمشغولة بنفسها والمتشبعة بالبيروقراطية والفاقدة لعمق النظرة بعد أن عايش خمسة وثلاثين عاماً من ارهاصات النظام السابق وضمان الرقابة الشعبية البرلمانية على هذا الجهاز.
* تشكيل مجلس يضم ممثلين عن كافة الوزارات له شخصية معنوية لإعادة بناء العراق بوضع دراسات عن أوضاع البلد وحاجاته وإمكانياته وتدرجها في الأهمية والأولوية من الشمال إلى الجنوب والإشراف على تنفيذها بعد رصد نسبة من الميزانية السنوية التي يقرها البرلمان لأغراض هذا المجلس.
* اعتماد شعار الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن انتماءاته الحزبية او العرقية.
[ وانظر:عزيزي الفدرالي .. تمهل ، موقع جريدة البصائر، قسم المقالات ( ص2-3) ]
* الفيدرالية المذهبية
قال السيد عبد العزيزالحكيم، ان «هناك خمسة مواضيع رئيسية نؤكد عليها في الوقت الحاضر، وهي الدستور والأمن والإعمار وتشكيل إقليم الجنوب والوسط». وأضاف: «نحن نؤكد على ضرورة إقامة إقليم واحد في جنوب ووسط العراق لوجود مصالح مشتركة بين ساكني هذه المناطق». وقال الحكيم بخصوص الفيدرالية : « نحن نعتقد بأنه من الضروري تشكيل إقليم في الجنوب » .
وقال هادي العامري، زعيم «منظمة بدر» التابعة للمجلس الأعلى : «الفيدرالية يجب أن تكون في جميع العراق. يحاولون منع الشيعة من التمتع بفيدراليتهم».
[ جريدة الشرق الأوسط الجمعة 07 رجب 1426 هـ 12 أغسطس 2005 العدد 9754] .
وعلق الأستاذ احمد الربعي وهو سياسي كويتي معروف على مطالبة السيد عبد العزيز الحكيم بفيدرالية شيعية بقوله : " آخر ما كنا ننتظره من شخصية بحجم عبد العزيز الحكيم هي هذه الدعوة الخطيرة لإقامة فيدرالية شيعية في العراق. وأسوأ مناسبة يقال فيها هذا الكلام هي مناسبة كبيرة وهي استشهاد آية الله محمد باقر الحكيم ذلك الرجل الذي ضحى بروحه من اجل العراق وليس من اجل مشروع فيدرالية شيعية!!
وكان آخر ما كنا نفكر فيه ان يكون مشروع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق هو دولة طائفية مقسمة على أساس طائفي وعرقي!!
هل مثل هذه الأطروحات هي البديل الذي كان يحلم فيه العراقيون. هل كان من الضروري أن تقدم كل التضحيات ضد حكم الدكتاتورية والإرهاب والطائفية لتنتهي هذه التضحيات بمشروع انتحاري جديد يعيد العراق الى المربع الأول.
يقول أمين عام منظمة بدر، الجناح العسكري للمجلس الأعلى إن «على الشيعة المضي قدما في إقامة فيدرالية في الجنوب وإلا سيندمون على ذلك». فسبحان الله ما هي هذه الدولة ـ الحلم او هذا الكانتون الذي سيحقق أحلام الشيعة، وبأية مواصفات حضارية يمكن أن تقوم دولة للشيعة او للسنة او للأكراد في العراق!!(49/259)
لقد عانى العراق من العبث الذي مارسه صدام وبعده الإرهاب الدولي داخل في العراق .. ويعاني العراق من بعض غلاة ومتطرفي الاكراد الذين يريدون فيدرالية طائفية موزعة على أساس جغرافية القومية بديلا للفيدرالية الديمقراطية التي ضحى الأكراد من أجلها. وتأتي دعوة الأخ عبد العزيز الحكيم لتشكل لكل محبي العراق ردة عنيفة عن مشروع العراق الديمقراطي.
ندعو السيد عبد العزيز الحكيم، الذي نحبه ونحترمه، إلى إعادة النظر في هذه الأطروحات الجديدة التي تشكل في النهاية مشروعا انتحاريا ربما يتم بنوايا طيبة.
ونقول للأخ عبد العزيز الحكيم إننا لم نخف على العراق منذ سقط صدام، لم نخف عليه من الإرهاب الأسود، ولا من الخلافات السياسية. ولكننا نخاف الآن فعلا على العراق من اطروحات التقسيم ومشاريع الانتحار التي نتمنى أن يعود عنها السيد الحكيم وغيره من السياسيين العراقيين من كافة الطوائف ".
[ مشروع انتحاري في العراق ،احمد الربعي ، جريدة الشرق الأوسط ، السبت 08 رجب 1426 هـ 13 اغسطس 2005 العدد 9755 ] .
وبعضهم يستحسن فكرة إقامة فيدرالية في الجنوب ولكن بعيداً عن الأسس الطائفية وفي ذلك يقول منذر الفضل : " فان مشروع إنشاء فيدرالية كجزء من الإقليم العربي في جنوب العراق لا يعد وجودها كيانا طائفيا ولا نريده كذلك و لا يمكن اعتباره تقسيما للعراق إذ ليس الاتحاد الفيدرالي الاختياري تقسيم للعراق و ما مقولات تأسيس الدولة الشيعية في الجنوب بعد سقوط النظام إلا محض خرافة وفهم خاطئ في التفكير والاستنتاجات لان في الجنوب يعيش العديد من العرب السنة والعديد من النصارى والصابئة وغيرهم مما يوجب الابتعاد كليا عن طروحات طائفية او عرقية في هذا المجال .
ولهذا نعتقد أن هذا المقترح يجب أن يتخذ شكلا أخر أي أن هذه المنطقة من الجنوب يجب أن تأخذ شكلا دستوريا وقانونيا في صورة فيدرالية وتؤسس حكومة إقليم لها يديرها أبناء المنطقة بمشاركة واسعة وتعددية سياسية ووفقا للقانون ويكون لهم وللكرد (( ولغيرهم من الأقليات المتآخية)) حق المشاركة في سلطة المركز السياسي أيضا لان النظام الفيدرالي هو نمط إداري لا مركزي من الناحية السياسية وأسلوب تعددي في إدارة الدولة العراقية بما يحقق العدالة والمساواة والمشاركة الفاعلة في إدارة الدولة إقليميا ومن حق حكومة كل إقليم المشاركة مع سلطة المركز في إدارة الدولة العراقية وهو حق ثابت لكل العراقيين إذ لا يعقل بعد الآن تصريف و إدارة شؤون الدولة العراقية من شخص واحد فقط يديرها وفق هواه ودون حسيب ولا رقيب يدخلها في حرب ويورطها في أخرى ويمارس أبشع صنوف العدوان والإرهاب ضد الشعوب العراقية ( لاحظ : هؤلاء يستخدمون لفظ الشعوب العراقية لا الشعب العراقي لغاية لا تخفى على اللبيب ! ) ... ثم ما الذي يمنع من وجود أكثر من حكومة فيدرالية في مناطق العراق , في الجنوب , وفي الوسط وفي الغرب وفي غيرها من مناطق العراق مادامت أسس الحكم الفيدرالي واضحة وتقوم على الاتحاد الاختياري .
و لا يمكن أن نقبل القول أن الفيدرالية أو الكيان الذي يقوم في غرب العراق مثلا هو كيان طائفي ؟ فالعلاقة بين الأقاليم الفيدرالية تحكمها قواعد دستورية وحين نص قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وقرار مجلس الأمن رقم 1546 على ان العراق الجديد سيكون شكله فيدراليا تعدديا وديمقراطيا لم يتم الدخول في التفاصيل لهذا الأمر وهو متروك للعراقيين في اختيار المناسب للمستقبل بقرار من المؤسسات الدستورية القادمة " .
[ الفيدرالية في جنوب العراق ، منذر الفضل ، موقع الحوار المتقدم ، ( ص 4-5 ) ] .
وبعضهم أبعد النجعة كما تقول العرب وطرح تصوراً غريباً لشكل الفيدرالية التي يريدها لبلده بعد أن قضى طرفاً من عمره في لندن ! ، فهو يريد تقسيم العراق إلى خمسة أقاليم :
1. إقليم الشمال : ويضم ( السليمانية واربيل ودهوك ونينوى ) .
2. إقليم الجنوب ويضم ( البصرة وميسان والناصرية ).
3. إقليم الشرق ويضم ( كركوك وصلاح الدين وديالى والكوت ) .
4. إقليم الغرب ويضم ( الانبار والنجف والمثنى ) .
5. وإقليم الوسط ويضم ( كربلاء والحلة والقادسية ) .
وتبقى بغداد حسب تصوره إقليم منفرد وعاصمة الدولة الاتحادية ، ويحتج على ذلك بقوله : " في هذا النظام تذوب فيه ( كذا ! ) آثار ونزعات العرقية والطائفية ، ويعبر عن وحدة وامتداد الراضي لكل إقليم ، ويكون أقوى رباط وحفاظ على وحدة العراق الجغرافية ، وهناك تجانس اجتماعي في مكونات هذا النظام " .. مع أنه اعترف في نهاية المطاف بصعوبة السيطرة على الوضع الإداري في مثل هذه الأقاليم الكبيرة !(49/260)
ولم يكتفِ بهذا ( التصور الخيالي ) بل راح يحلق بعيداً ففاجأنا بتصوره ( الرابع ) حول ما سماه بـ : " نظام فدرالية المحافظات ، وفيه تكون كل محافظة فدرالية بحد ذاتها وهنا تتكون الدولة الفدرالية من 18 فدرالية تتمتع بجميع حقوق الحكم اللامركزي أو الحكم الذاتي ضمن حكومة اتحادية واحدة ، وفي مثل هذه الحالة تكون الوحدة الوطنية أكثر التزاماً وتماسكاً ، والتنافس الوطني أقوى " .. ثم رجع وقال : " ولكن ستكون بعض المحافظات أقوى اقتصادياً من البعض الآخر ... ولا نعتقد قبول وموافقة إخواننا الأكراد "
[ انظر : تصورات عن الفيدرالية في العراق ، الدكتور واثب العامود ( عضو مجلس محافظة البصرة كما كتب على غلاف كراسه ! ) ، (ص14 ) ] .
ولا أدري هل يملك هؤلاء قراراً بابوياً يقسمون بلاد الرافدين كما يشتهون ، أم أنها مجرد تصورات وأحلام واجتهادات فردية ينقض بعضها بعضاً ، وتفتقر إلى مقومات الواقعية لاسيما إذا قرأنا عبارته عن ( التجانس الاجتماعي بين أهل النجف والانبار وضمهما في فيدرالية واحدة ) ، أو ضم كركوك _ مثار النزاع _ إلى صلاح الدين وديالى والكوت هكذا بجرة قلم !!
أما عن ( فدرالية المحافظات ) فلا أملك إلا أن أقول : بمثل ذلك فلتقر عيون الأمريكان !!
المحللون السياسيون والوطنيون والإسلاميون وبعض المفكرين الغربيين يتخوفون من تفتيت العراق وتجزئته إلى ثلاث مناطق رئيسة ، والعامود يقترح على أمريكا تجزئته إلى 18 منطقة تتهارج فيما بينها !
ثم انه يخلط خلطاً عجيباً بين الحكم الذاتي واللامركزية الادارية والفيدرالية ، فهل قصده التلبيس أم أنه فعلاً ممن لا يعلم الفرق ؟!
نرجوا أن تكون عموداً في الحق يا دكتور واثب !
* وشخصيات سنية تطالب بالفيدرالية أيضاً !
" ففي موقع " دار الحياة " يوم 6/5/2005 نقرأ أن " الشيخ فصال الكعود " محافظ الأنبار يرغب في إقامة إقليم فيدرالي تعددي لمناطق غرب العراق تضم محافظات الموصل وتكريت والأنبار . ويقول : " نحن مع الفيدرالية في عراق واحد وإقرارها ضرورة لأنها ستدفع الأقاليم إلى التسابق لتحسين وضعها الاقتصادي والأمني ".
ولا أدري هل الضرورة يحددها الكعود أم التشريع الإسلامي وإجماع الأمة ؟!
ثم ما الذي يحمل هؤلاء على التهالك على المشروع الأمريكي وهم يزعمون أنهم من جملة أهل السنة !
إن هذا المصطلح ( أهل السنة ) مصطلح شرعي فلا يدخل فيه إلا من يقول بأصولهم العقدية والمنهجية ، ويلتزم بالرأي الاجماعي أو الأغلبي لعلمائهم ومرجعياتهم لا سيما مع ظهور البرهان وتحقق المصلحة الشرعية والوطنية .
* موقف بعض القوى الشيعية من الفيدرالية ( الشيخ الخالصي نموذجاً )
نص الحوار على قناة الجزيرة مع الشيخ جواد الخالصي ومهدي خوشناو :
" غسان بن جدو ( مقدم الجزيرة ) : إن قضية الفيدرالية قضية أساسية، قضية مصيرية وغير قابلة للتراجع مطلقاً، هل أنتم تتبنون أيضاً هذا الخيار أم لا؟
جواد الخالصي: من الذي سيقرر هذا؟ مصير بلد أو شكل من أشكال الإدارة في البلد من الذي سيقرره؟ يجب أن يقرره الشعب العراقي.
غسان بن جدو: كيف؟
جواد الخالصي: خلال الانتخابات ووجود ممثلين لهذا الشعب، انتخابات حرة وحقيقية، يُشكل مجلس تأسيسي سيقرر وحدة العراق وأشكال الإدارة..
غسان بن جدو[مقاطعاً]: أنتم هل مع الفيدرالية أم لا؟
جواد الخالصي: إذا لا يؤدي إلى التقسيم، ولا يتم تحت حراب الاحتلال، فهو موضوع قابل للدراسة، على أن تكون فيدرالية إدارية.
غسان بن جدو: بمعنى.
جواد الخالصي: بمعنى ليست فيدرالية مؤسسة على أساس تقسيم قومي للعراق يؤدي إلى انفصال كما حصل في الاتحاد السوفيتي وفي يوغسلافيا.
غسان بن جدو[مقاطعاً]: الكرد يعتبرون الانقسام لهم ثقافة خاصة..
جواد الخالصي: كردستان مقسمة أيضاً، سنجعلها ولايتين إذا أرادوا، كما حصل فعلاً.
غسان بن جدو: مقسمة تقصد يعني منطقة الطالباني.
جواد الخالصي: السليمانية وأربيل، فإذا أردنا أن نجعلها فيدرالية إدارية.. فستشمل الجميع، الكرد في أماكنهم، والعرب في أماكنهم، والتركمان في أماكنهم، كما يحصل في كثير من دول العالم المتقدمة، لا تبنى الفيدرالية على أساس التقسيم العرقي الذي قد يؤدي إلى التطهير العرقي كما حصل في يوغسلافيا.
غسان بن جدو: كيف.. كيف ترى هذه النقطة سيد مهدي في أربيل؟
مهدي خوشناو: في العالم فيدرالية على أساس قومي أو عرقي، أرجو من السيد أن يراجع الأطلس السياسي، فمقاطعة (الكيبك) في كندا، الذين يتكلمون بالفرنسية يتمتعون بفيدرالية قومية، وهذا لا يتعارض مع انتمائنا العراقي، وهذا إلحاح وتأكيد من طرف شعبنا الكردي بعراقيتنا وارتباط مصيرنا بكافة الشعوب العراقية وهذا لا تعني.. لا تعني..(49/261)
جواد الخالصي: للأخ العزيز وللإخوة الآخرين في كل مكان: نحن لا نريد ( أن ) نخادعهم كما خادعهم صدام حسين، حين قدم لهم الحكم الذاتي، وأباد كردستان، يوم أُصيبت كردستان بالقذائف، نحن كنا مع الشعب الكردي، نحن كنا في حلبجة، كنا في مناطق القتال وضد النظام الفاشي ونحن نتكلم معهم الحقيقة، الحقيقة هي أنهم _ أي الأكراد _ جزء من أمة هي أمة الإسلام، وجزء من شعب هو شعب العراق وليس الشعوب العراقية كما تفضل به.
غسان بن جدو[مقاطعاً]: لكن ليس بالضرورة أن تفرض عليه، هو.. حتى العراقي يقول الشعوب العراقية ولا يتحدث عن الشعب العراقي.
جواد الخالصي: لن.. لن أفرض عليه، أنا لا أقول شعوب عراقية، أنا أقول الشعب العراقي، ولن أفرض عليه شيئاً، أنا أقول: إذا كانت هنالك فيدرالية إدارية تريد أن تنتقل بالعراق إلى شكل جديد من أشكال الإدارة، يجب أن يؤخذ بهذا رأي الشعب العراقي ككل، وأنا شخصياً لست متشنجاً ضد هذا الفرض، حين يكون فرضاً حراً ديمقراطياً صحيحاً، على فرض الديمقراطية التي يقولونها، أما أن يُفرض هذا الأمر بهذه الكيفية وبشكل لعبة سياسية فهذا لا يقبله أحد ولا يؤدي إلى نتيجة، صدام قال: سأعطيكم كل شيء، ولم يعطهم إلا الدمار، لأن صدام فاشي " انتهى الحوار .
* وآخرون رفضوا الدستور المُنَظِّرِ للفيدرالية
والموقف منه هو أيضا ليس موضع إجماع من العراقيين أنفسهم، ومن العرب.. بل وحتى في الداخل الأمريكي. فعلى سبيل المثال، تقف شرائح واسعة من النسيج العراقي من مختلف التلاوين والطوائف ضد هذا المشروع.
فهناك الأحزاب السياسية القومية تقف علنا ضد المشروع، وترى فيه شرعنة للاحتلال واعترافا بنتائجه. وهناك أيضا هيئة كبار علماء السنة، وعناصر المقاومة الوطنية.. وهي عناصر، أيا يكن موقف السعداء بالاحتلال منها، فإنها تفعل فعلها على الأرض وتقض مضاجع المحتلين، وتدفع بقوى العدوان إلى الخلف. وهناك أيضا، التيار الصدري. وهو تيار يحسب حسابه، ويتواجد في معظم المدن العراقية في الوسط والجنوب. وإضافة إلى ذلك، فإن هناك علماء كبار من الطائفة الشيعية يقفون بحزم في مواجهة هذه الخطوة يأتي في المقدمة منهم آية الله الحائري وآية الله البغدادي ، والشيخ محمد جواد الخالصي، الأمين العام للمؤتمر التأسيسي العراقي. وقد برز عدد منهم في الفضائيات العربية وأدانوا الاحتلال وإفرازاته، واعتبروا التصويت على الدستور هو الأخطر من بين تلك الإفرازات. فها هو الشيخ الخالصي يقول بوضوح في مقابلة له في فضائية الجزيرة: "نحن نعارض هذه المُسودة لأنها ناتجة من عملية سياسية رفضناها منذ البداية، لأنها قامت على رغبة خارجية لا تمثل إرادة شعبنا ونرفض أن يقال إن هنالك فئة واحدة من العراقيين تعارض هذه العملية ثم تعارض هذه المُسودة، هنالك عراقيون في كل أنحاء العراق يعارضون هذا المشروع الخطير الذي يمس سيادة البلد ويمس وحدة البلد".
وقال أيضا: "إن الكلمات الواردة في الدستور ليست جيدة وفيها الكثير من المغالطات ومن الألغام الخطيرة المستقبلية، والحديث عن المساواة بين المواطنين ليس جديدا. إنه موجود في كل دساتير المنطقة وفي الدستور العراقي منذ العشرينات، فهل هذا جدير ليكون مصدر إلهام في هذا الشأن؟
النقطة الأخرى الخطيرة في هذه القضية هي أن هذا الدستور يجري في خلال وضعه انتهاك خطير لحقوق الإنسان في العراق، فمن الآن بدأت القضية.. العبارات حتى لو كانت جميلة فإن الممارسات خطيرة ومتعددة وثقيلة. الانتخابات السابقة جرت في ظل تدمير مدينة عراقية اسمها الفلوجة وقبلها دمرت النجف وقبلها دمرت مدينة الصدر في بغداد والأزمة مازالت مستمرة ( كما حصل لاحقاً تدمير القائم وتلعفر وراوه وغيرها من المدن العراقية ) وانتهاكات حقوق الإنسان تجري".
وعلى الصعيد العربي، انبرى العشرات من الكتاب والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، لإدانة هذه الخطوة باعتبارها إسفينا في خاصرة الأمة العربية، ومحاولة استعمارية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. والمقالات في هذا الاتجاه هي بالعشرات ( بل المئات ! ).
أما على صعيد الإعلام الأمريكي، فحسب ما ورد في جريدة الشرق الأوسط بعددها الصادر في 24 أغسطس 2005 وجهت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية انتقادات لاذعة إلى مسودة الدستور العراقي، واعتبرت أنها "لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم". وقد خصصت هذه الجريدة افتتاحيتها في 23 أغسطس للتعليق على مسودة الدستور العراقي. ولم توفر بانتقاداتها إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش التي "لأسباب سياسية" حسب تعبير الصحيفة" فرضت "مهلة زمنية تعسفية" لتقديم مسودة الدستور. واعتبرت أنها "لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم" .
[ حول الفيدرالية والدستور العراقي ، يوسف مكي ، التجديد العربي 7/9/2005 ] .(49/262)
والخلاصة هنا : شطب الهوية العراقية أولاً، ومن ثم الولوج في مكيدة إيقاظ نوّم الفتن، المؤدية، كما يؤمل منها، إلى الاحتراب الأهلي، وذلك ببث الروح في غوائل هذه الفتن المطلة برأسها والمتجسدة في الشقاقات الطائفية والمذهبية والعرقية، وذلك عبر الفدرلة، والمحاصصات، وإغراءات كعكة تقسيم الثروة... أي تحويل العراق من ثم إلى مزارع فسيفسائية تابعة لا تملك في واقعها ما يبشر بأن تقوم لهذا البلد قائمة. ولعل أفضل ما نعت به هذا الدستور، والذي عارضته شريحة واسعة من العراقيين يمثلها أكثر من 19 من الأحزاب والقوى، هو ما أطلق عليه بعض العراقيين: "دستور الفصل الطائفي والعنصري"، ويمكن أن نضيف والأمركة المستدامة أيضاً!
[ دستور الفصل الطائفي ومخططات الأمركة المستدامة ، عبد اللطيف مهنا ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قسم المقالات ، 16/10/2005 ]
* مساوئ النظام الفيدرالي ( أسباب رفض أهل السنة وكثير من القوى الوطنية للفيدرالية المزعومة )
[ لا... للفيدرالية... فالغرباء لا يحق لهم تمزيق وحدة العراق ]
الرافضون للمشاريع الفيدرالية هم تحديدا المقاطعون للانتخابات والتصويت على مسودة الدستور في المراحل السياسية السابقة لأسباب شرعية معلومة، ويقف وراءهم المحيط العربي والإسلامي الذي يخشى على وحدة العراق وهويته العروبية والإسلامية ، وعلى وقوعه فريسة للنفوذ الإيراني، وهو كلام واقعي يتفق معه كثير من أبناء الشعب العراقي.
[ فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري ، جريدة الشرق الأوسط ، الأحد 16 رجب 1426 هـ 21 أغسطس 2005 العدد 9763 ، بتصرف ] .
تنبيه : العروبية مغايرة تماماً للقومية العربية ، فدعاة المحافظة على الهوية العروبية ليس بالضرورة أن يكونوا من أنصار الفكر القومي الذي نظّر له ساطع الحصري في القرن المنصرم .
• والأسباب الداعية إلى الرفض تتلخص بالآتي :
أولاً : نظام الحكم في الإسلام هو نظام وحدة وليس نظاماً اتحادياً ..
الإسلام يفرض الوحدة بين البلاد الإسلامية ويحرم الاتحاد بينها ، والنظام الصحيح للحكم هو نظام وحدة ليس غير فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " ، لدلالة الشرع عليه وتحريم ما سواه ويقول : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" .
فالحديث الأول يقرر تحريم تجزئة الدولة ، ويحث على عدم السماح بتقسيمها ومنع الانفصال عنها ولو بقوة السيف ، والحديث الثاني يقرر تحريم جعل الدولة دولاً فلا يسمح بوجود غير خليفة واحد .
وهكذا فالاتحاد الفيدرالي من حيث الأصل حرام قطعاً فكيف إذا علم أنه يتم وفقاً لمشروع صليبي في المنطقة لخدمة أمريكا وإسرائيل .
فالاتحاد الفيدرالي ليس وحدة خاصيته الاحتفاظ بالكيان ، لأنه في واقع مثل العراق يكون مدعاة للتنازع والاختلاف وما يتبع ذلك من الانشقاقات والتصدعات في البناء الداخلي نظراً للاختلاف حول سلطات الأقاليم من جهة وتوزيع الثروات مع هذا التباين من جهة أخرى كما سيتم توضيحه في النقاط التالية ..
وأول خطوات النظام الفدرالي انتخاب برلمان اتحادي ، ووضع دستور اتحادي تحدد فيه الشؤون المراد أن تتوحد بين دول الاتحاد أو أقاليمه ، فقد ينص على توحيد التشريع القضائي ، أو على القوانين الإدارية ، أو على السياسة الخارجية أو الاقتصادية، أو توحيد الجيش،وقد ينص على توحيد هذه الأمور كلها أو بعضها أو زيادة عليها وقد ينص على توحيد أجهزة الدولة مع بقاء الكيانات كالولايات المتحدة الأمريكية ، أو ينص على بقاء أجهزة الدولة وتوحيد بعض الشؤون كاتحاد الجمهوريات السوفياتية سابقاً وهكذا يحدد الدستور نوع الاتحاد ويقر هذا الدستور من قبل البرلمان الاتحادي ، ومن برلمان كل دولة أو إقليم من دول أو أقاليم الاتحاد إن كان هناك برلمانات ، فتمارس الدولة الاتحادية الصلاحيات التي حددها الدستور فقط ، وتبقى باقي الصلاحيات لكل دولة أو إقليم على حدة تمارسها كما تريد ، فتبقى كل دولة أو إقليم كياناً متميزاً محتفظاً بكيانه لا سيما بعد هذه الصلاحيات الإدارية الواسعة التي ضمنها الدستور الجديد محل الخلاف .
هذا هو واقع الاتحاد الفيدرالي ، ولذلك فإلغاء جوازات السفر بين دولتين أو الوحدة الاقتصادية بين دولتين ، أو توحيد مناهج التعليم ، أو توحيد التشريع هذه كلها ليس لها علاقة بالاتحاد الفيدرالي . فقد تحصل بين الدول دون اتحاد فيما بينها . وكذلك ليس من الاتحاد الفيدرالي في شيء أن يقرر البرلمان أو البرلمانات أو المؤتمرات أو المشيخات قيام مثل هذا الاتحاد فيما بينها ، لأن مثل هذا القرار ليس إلاّ مجرد تعبير عن رغبة فقط . والمهم تقرير دستور يحدد نوع الاتحاد ودولته وصلاحياته .(49/263)
وعليه فإن الشرع الإسلامي لا يجيزه بين المسلمين مطلقاً مهما كان نوع الاتحاد ، لأن نظام الحكم عند المسلمين نظام وحدة ، لا نظام اتحاد . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن السيادة في الإسلام للشرع ، فهو الذي يقرر نظام الحكم والتشريع والمال ، فلا خيار لأحد في تقرير شيء منها ، ثم إن أحكام الشرع واحدة لكل مسلم ، فلا يصح أن يختلف حكم الشرع في بلد عن بلد ، فلا يجوز اختلاف التشريع . ومالية المسلمين واحدة ينفق عليهم من بيت مال المسلمين بغض النظر عما إذا كانت لبلادهم واردات أم لم تكن . والجهاد فرض على المسلمين فيجب أن ينفروا للجهاد إذا غزيت أي بلد من بلدان المسلمين لاسيما إذا عجز أهل ذلك البلد عن القيام بأعباء الدفع والجهاد ، فكيان المسلمين كيان واحد جبراً ، وتشريعهم وأموالهم وكل شيء يتعلق بالحكم واحد لا يجوز أن يتعدد ، فنظام الحكم ونظام الحياة عندهم نظام وحدة ، لا نظام اتحاد . وعليه فالإسلام يوجب نظام الكيان الواحد ، لا نظام اتحاد الكيانات المتعددة ، وهو يُحرِّم الاتحاد ، ويوجب الوحدة ويوجب الحرب لتحقيقها " .
[ الفيدرالية والكونفدراليه ، موقع إذاعة العقاب ، 9 ايلول 2005م ، بتصرف ] .
هذا رأي فقهي معتبر وهو ينظر إلى الموضوع من حيث الحكم الأصلي ، فان حصل عارض أو ضرورة فمع القول بعدم شرعيتها إلا أن لها ما يقننها في التشريع الإسلامي عملاً بقاعدة (الضرورات) وهي تقدر بقدرها ، ومن هنا لا يجوز لأي جماعة إسلامية أو حزب إسلامي أن يدعو إلى النظام الفيدرالي ابتداءً لما بيناه من الحرمة ، ولكن إن وقع قدراً فالمسلمون مأمورون حينئذٍ بتخفيف ودفع المفاسد ما أمكن وهذا باب واسعٌ يترك البت به لهيئة علماء المسلمين والمجامع الفقهية في العالم العربي والإسلامي.
فنظام الدولة في الإسلام من حيث الأصل يقوم " على نبذ كل ما من شأنه إضعاف أعمدة وبنيان الدولة والانتماء الوطني ولو بشكل ظاهري بحت.
من هنا لاحت المركزية على أنها نظام الحكم الأمثل بالنسبة للحكام إن لم نقل حتى الذي لا بديل له، لا سيما وأن المركزية تؤدي إلى تسهيل وتفعيل استخدام آليات المراقبة تجاه شعوبهم وفيما يختص بمواجهة أخطار التهديد من الخارج ".
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي، عارف حجاج ( ص3 / موقع قنطرة ) ] .
فلو كانت الدولة مركزية قوية سيادية وطبق فيها ( النظام العادل ) الذي يضمن للجميع حقوقه وحرياته ضمن آليات تحول دون الاستبداد والاستئثار بالسلطة على نحوٍ يتعارض مع القواعد الإسلامية ، فان ذلك هو الأمثل والأليق بقواعد الشرع الداعية إلى الوحدة لا الاتحاد !
ثانياً : ينفرد العراق.. أو ما اصطلح على تسميته بحضارة مابين النهرين . بأنه الأرض الوحيدة في الدنيا , التي احتضنت ست حضارات مشرقة. كلُ حضارةٍ حفرت في أديم الأرض لتاريخها. وصدرت للبشريةِ أعظم العلوم والفكر والقوانين. فالسومريون هم أول من أوجد الكتابةَ وعلم الرياضيات. وخلفهم الأكديون الذين انبهروا بالسماء وما حوته من علوم الفلك. ثم جاء البابليون... وكانت مسلة حمورابي أول تشريعٍ دنيوي يحاكي الدساتير الحديثة، لما جاءت به من قوانين وتشريعاتٍ سبقت كل قوانين الأرض ( الوضعية ).
وفي عصر نبوخذنصر بنيت الجنائن المعلقة. لتكون شاهداً على تقدم العراقيين في هندسة البناء والري. ثم تلاهم الكلدانيون فالآشوريون الذين بسطوا سيطرتهم على العالم القديم، فكانوا أول من اخترع العجلةَ، فامتد نفوذهم إلى النيل غرباً وآخر بلاد فارس شرقاً. ويوم اكتسح الاسكندر المقدوني الشرق، احتفى به الفرس وطلبوا منه أن يلتقي بسفراء الدنيا في عاصمة العالم القديم وقتذاك بابل. فاستغرب الاسكندر ان تكون هناك عاصمةٌ للدنيا غيرُ عاصمة بلاده أثينا. وفي بابل دس الفرس السم كعادتهم للإسكندر وقتلوه، حيث تم حرق جسده ونثر رماده في نهر الفرات. ولما وفدت آخر الحضارات إلى العراق... وفي عصر الإسلام وهي الدولة العباسية. حيث أصبحت بغداد آنذاك قبلةُ شعوب الأرض لتكون حاضرة الدنيا, عادة تفد الأجناسُ والملل من مختلف أنحاء العالم إلى المدن الشهيرة والتي يطبق اسمها الآفاق. وهكذا قُدِّرَ أن تسكن أرض العراق أجناسٌ ما زالت باقيةٌ حتى يومنا هذا ، ومنها ما زالت باقيةٌ ولكن بأعدادٍ قد لا تزيد عن الألفين أو ثلاثة آلاف. احتفظت بتركيبتها وحتى بطقوس أديانها. وهذا يفسر كثرة الأعراق والأديان والملل في العراق اليوم.
ولعل أكراد العراق من هذه الشعوب التي سكنت الأطراف الشمالية الشرقية من العراق. قادمةٌ من مناطق القوقاز وغيرها، وبتأثير الدولة الصفوية العنصرية التي حكمت العراق ردحاً من الزمن أيام ضعف الدولة العباسية، دانت أقوامٌ بالمذهب الصفوي، وساد هذا المذهب الأطراف الشرقية من العراق وما لبث أن توغل إلى العمق العراقي.(49/264)
نخلص إلى القول... هل يعطى الحق لمثل هذه الأعراق أو الملل أن تعتبر الأرض التي وفدت إليها أرضها بالتقادم. وتطالب باقتطاعها لتشكل عليها وطناً قومياً لها ؟ طبعاً لا... فالعراق أرضٌ قديمةٌ قَدمَ التاريخ. تكاد أن تكون حدودها موثقةٌ. ولم يحدث أن اتهم العراق بأنه ابتلع شبراً من أراضي الغير. لهذا فإن إثارة مشاريع الفيدرالية والتقسيمات، سيجلب إلى المنطقةِ كارثةً هي في غنىً عنها. ولعل دولة الشعوب الإيرانية ستكون المتضرر الأول من تقسيم العراق ، لإنها هي الأخرى خليطٌ من الأعراق والملل والأديان والأجناس، تنفرد بقيادتهم الأمة الفارسية القومية العنصرية، والتي لا يزيد عدد سكانها على الـ 25 مليون نسمة، مقابل 15 مليون كردي في الشمال الغربي لها الملاصق للعراق ، فيما تشكل الشعوب العربية والتركمانية والبلوشية والاذربيجانية بقية الدولة .
إذن... لا جدوى من الفيدرالية. فالغرباء لا يحق لهم تمزيق وحدة العراق.
[ لا للفيدرالية ، طلال معروف نجم ، موقع اذاعة العقاب 1/3/2005م ] .
ثالثاً : إن المشروع الأميركي لبناء (النموذج الديمقراطي المشع) في العراق، وهو الحجة الرسمية المتبقية للدعاية الأميركية بعد تهافت وانهيار الذرائع الأخرى، قد ينتهي إلى تحقيق الحلم الصهيوني في تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية وعرقية متناحرة حتماً، هي شمال كردي ووسط سني وجنوب شيعي ( أو الى أكثر من ذلك كما يحلو للدكتور واثب العامود في تصوراته عن الفيدرالية حتى غدا العراق ثوباً يختلف الخائطون في تفصيله كلٌ على هواه !! )، وهو ما سبق أن حذرنا منه مراراً وتكراراً وتخوف منه الكثيرون غيرنا ممن يحدوهم الأمل بألا تنتهي كارثة غزو واحتلال العراق إلى كارثة أعظم، وهي تفتيت وتقسيم هذا البلد العربي الكبير والعريق وإدخاله في دوامة حرب أهلية لا يعرف أحد متى يمكن لها أن تنتهي.
[ انظر : مصير العراق في ظل صدمة الفيدرالية وشبح التقسيم ، عبد المالك سالمان ، ( ص 1-5 ) بتصرف].
كلنا نذكر أن الحديث عن تقسيم العراق لم يكن وليد الساعة، بل بدأ منذ سنوات عدة، ومن أوائل من بدأ بتعميم تلك الفكرة هم الصهاينة، حيث كان ما ذكره وزير الخارجية الأمريكية السابق الصهيوني هنري كيسنجر حول ضرورة تقسيم العراق يمثل أنصع مثال على التدخل المباشر للصهيونية العالمية والداعمين لها من اليمين الأمريكي.
كما تبعت تصريحات الصهاينة من اليمين المتطرف الأمريكي حول تقسيم العراق دعوات مماثلة من قبل مستشارين في الإدارة الأمريكية ممن يشاركون في وضع ستراتيجات أمريكا العسكرية والسياسية. فقد دلتنا التجارب الخاصة بالسياسة الأمريكية في العقود القليلة الماضية أنه حين تكون الإدارة الأمريكية قد قررت المضي فيما نصحها به مستشاروها، تبدأ علامات ما ستقوم به الولايات المتحدة بالظهور على سطح الأحداث، وبشكل خاص في وسائل الإعلام الصهيونية المرتبطة باليمين الفاشي الأمريكي، وهذا ما حدث بالضبط حين بدأت دعوات تقسيم العراق بالظهور علناً. وبمتابعتنا لما كتبه الإعلام الصهيوني الأمريكي مؤخراً، وجدنا الكثير منه حول هذا الموضوع، وكان أبرز ما نشر عن تقسيم العراق في الآونة الأخيرة هما مقالين جديرين بالتوقف عندهما. أولهما كتبه «جون يو»، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي والباحث في منظمة اليمين المتطرف الإجرامية المعروفة بإسم Ame r ican Ente r p r ise Institute، في صحيفة «لوس أنجيليس تايمز» إقترح فيه تقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق/أقاليم. علماً بأن «جون يو» هذا هو نفسه من إقترح على الإدارة الأمريكية مسبقاً بذر الشقاق بين فصائل المقاومة الوطنية العراقية من خلال إنشاء فصائل مقاومة وهمية تقوم بأعمال إجرامية بحق المواطنين العراقيين الآمنين الهدف منها تقليص الدعم الشعبي الواسع للعمليات النوعية التي تقوم بها المقاومة ضد قوات الإحتلال
.. وما شاهدناه على الأرض بهذا الخصوص، وبالذات في الأشهر القليلة الماضية كان خير دليل على ما كان «جون يو» قد إقترحه على الإدارة الأمريكية المتصهينة والموغلة في عنجهيتها وغطرستها وجبروتها.
والمقال المهم الثاني هو ما كتبه رجل القانون الأمريكي «ألان توبول» في نفس الأسبوع الذي نشر فيه «جون يو» مقاله عن تقسيم العراق. و«توبول» هذا عمل هو الآخر على مدى أربعين عاماً مستشاراً للإدارات الأمريكية ومنها إدارة بوش الحالية، حيث يعتبر واحداً من كبار منظري الستراتيجية العسكرية والسياسية لليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية.
وقد كان ما كتبه «توبول» مؤخراً في موقع Milita r y.com الخاص بالجيش الأمريكي هو دعوة الإدارة الأمريكية إلى تقسيم العراق تماماً بنفس الأفكار والأسلوب التي دعى إليها"جون يو" كما نقلنا عنه ذلك آنفاً وهو يدل علة وجود توجه استراتيجي .(49/265)
فعلى سبيل المثال، ذكر كلا الكاتبين بالتوافق، أو بالصدفة (لنسمها ما شئنا) أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 كانت هناك 74 دولة مستقلة فقط، في حين أن عدد الدول المستقلة الآن هو 193 دولة !!! وهنا حاول هذان الكاتبان توجيه الأنظار إلى أن زيادة هذا العدد من الدول المستقلة !!! إلى 196 دولة سيكون حقيقة واقعة بعد تفتيت العراق إلى ثلاث دويلات. كما ذكرا وبكل وقاحة الدور الأمريكي بتفتيت الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وعدد من دول أوربا الشرقية الأخرى مثل تشيكوسلوفاكيا (التي نتج عن تفتيها جمهوريتين تحملان الآن إسمي التشيك وسلوفاكيا)، على سبيل المثال. وينتهي كاتبا المقالين بالاعتراف أن أمريكا تسعى الآن وبكل قوتها إلى تفتيت العراق.
[ انظر : تقسيم العراق هدف أمريكي ـ صهيوني مسبق التحضير ، محمد العبيدي ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قسم المقالات 1/9/2005 ] .
لم تكن المفاجأة في إصرار الأكراد على رفع سقف مطالبهم القومية، لتأكيد وترسيخ النزعة الرامية كهدف استراتيجي إلى تحقيق انفصال كامل لإقليم الشمال وتكوين دويلة كردية هناك، حيث بلغت هذه المطالب حداً غير مسبوق مثل المطالبة بجعل اللغة الكردية لغة رسمية موازية للغة العربية في العراق ككل، وليس في منطقة كردستان فقط، وكذلك المطالبة بوجود تمثيل كردي دبلوماسي مميز داخل السفارات العراقية بالخارج بأسلوب يكرس فكرة (الدولة داخل الدولة) تمهيدا لانتهاز أية فرصة قريبة مثل اندلاع اضطرابات في العراق أو نشوب حرب أهلية للمسارعة إلى إعلان استقلال كردستان، وهو ما تكرس عبر الإصرار على عدم حل الميليشيات المسلحة الكردية (البشمركة)، حتى بعد الاتجاه إلى بناء جيش وطني اتحادي جديد للعراق بعد جلاء الاحتلال الأميركي.
وهو الأمر الذي يعكس نية مبيتة للانفصال في أية لحظة، وقد جاءت المظاهرات الحاشدة التي تم تنظيمها في الأيام أخيرة في عدة مدن كردية في شمال العراق من قبل الأكراد والمطالبة بوضوح بضرورة انفصال كردستان ومنحها حق تقرير المصير لتحقيق استقلال الأكراد لتؤكد هذه النوازع الانفصالية، وأن الأكراد يركزون كل جهودهم من أجل تكريس فكرة انجاز الطلاق النهائي مع الدولة العراقية.
وقد ظهر ذلك جلياً خلال مداولات كتابة الدستور العراقي الجديد، فقد أصر الأكراد على رفض إعطاء أي هوية عربية للدولة العراقية، ورفضوا بشدة قبول أن العراق البلد والكيان هو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وطالبوا باعتبار العرب في العراق فقط (أي السكان العرب) هم فقط من يشكلون جزءاً من الأمة العربية في أول الامر ثم عدلت المادة لتُصيِّر من العراق عضواً فاعلاً ومؤسساً في الجامعة العربية وملتزماً بميثاقها !
وسخرت البيانات السياسية والخطابات الإعلامية للأكراد في الفترة الأخيرة من فكرة (الأخوة العربية - الكردية) وأكثر من ذلك فقد كثف الأكراد جهودهم من أجل انتزاع منطقة كركوك وضمها إلى إقليم كردستان بحجة أن غالبية سكان كركوك هم من الأكراد وأن العرب هناك يشكلون الأقلية وطبعا الهدف الأساسي هو الاستحواذ على ثروات كركوك النفطية التي تحتوي على معظم النفط العراقي في الشمال.
وبالرغم من أن هذه المطالب الكردية كانت شبه معلومة من قبل، إلا أن المفاجأة كانت في درجة الإلحاح عليها ومحاولة الأكراد استغلال الموقف والظروف الناجمة عن الاحتلال الأميركي للعراق، لمحاولة فرض واقع جديد يقود فعلياً لانفصال كردستان وفرض ذلك على بقية أجزاء العراق.
لكن المفاجأة الأعظم جاءت من الجنوب العراقي، عندما أظهرت قيادات سياسية شيعية، لأول مرة فكرة فصل جنوب العراق وطالبت بإنشاء إقليم شيعي في الجنوب والوسط العراقي يضم 9 محافظات ليكون إقليما شبه مستقل على غرار إقليم كردستان في الشمال، وواكب ذلك المطالبة أيضا بالاستحواذ على نفط الجنوب أسوة بمطالب الأكراد بالاستحواذ على نفط الشمال العراقي في كركوك وما حولها، وجاءت صيغة الفيدرالية لتشكل حصان طروادة الذي يمكن من خلاله تنفيذ مخطط تقسيم العراق على أساس عرقي (الأكراد في الشمال) وطائفي (الشيعة في الجنوب)، على أن يترك للسنة العرب في الوسط أن يتدبروا أمرهم حيث لا توجد اكتشافات نفطية ذات بال في مناطق الوسط حول بغداد وفي غرب العراق على الحدود مع الأردن وسوريا.
ولا يمكن فصل محاولات تقسيم العراق على هذا النحو على أساس عرقي وطائفي (الشمال الكردي، والجنوب الشيعي)، عن واقع التوزيع الطبوغرافي للثروة النفطية العراقية المكتشفة حتى الآن والتي تتركز في الشمال والجنوب.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لو أن الثروة النفطية العراقية تتركز في إقليم الوسط وحول بغداد حيث تتركز غالبية السنة العرب، كانت سوف تظهر مثل هذه المطالب الانفصالية لأكراد الشمال وشيعة الجنوب؟!
الأمر المؤكد هو أن الإجابة ستكون بالنفي، بل على العكس من ذلك ربما رأينا أهل الشمال والجنوب يزايدون على أهل الوسط من السنة العرب في التمسك بوحدة الدولة العراقية.(49/266)
أما السبب الآخر المرجح لانفجار هذه المطالب الانفصالية المتدثرة بعباءة الفيدرالية (في الشمال والجنوب) فيمكن القول انه ناجم عن تأثير القوى الإقليمية وفي مقدمتها "إسرائيل".
فـ"اسرائيل" تطمح إلى إضعاف العراق وتفتيته لأسباب تاريخية وسيكولوجية تتعلق بمخاوف الصهاينة المتجددة من عقدة تدمير "الدولة العبرية" عن طريق غزو قادم من المشرق العربي، وبالتحديد من العراق على غرار محنة السبي البابلي لليهود في التاريخ القديم عندما أطاح البابليون العراقيون بمملكة "اسرائيل" القديمة وجروا الأسرى اليهود في سلاسل إلى العراق القديم ، ولكن هذه المرة تحت ظلال الإسلام والجهاد .
ومازال شبح الهجوم العراقي الزاحف من الشرق لتدمير "اسرائيل" من جديد يشكل هاجسا قائما في الوعي واللاوعي السياسي لقادة "اسرائيل".
ولذلك فمن هذا المنظور التاريخي يعتبر الصهاينة أي تفتيت أو تمزيق أو إضعاف للعراق بمثابة إبعاد لشبح تهديد مصير "الدولة العبرية" عبر غزو عراقي (بابلي) جديد.
ومن المنظور الاسترايتيجي العسكري المعاصر، فقد ظلت "اسرائيل" تخشى دوما من توحيد الجبهة العسكرية العربية والتي قاعدتها (التحالف أو الوحدة بين سوريا والعراق)، واعتبرت ذلك دوما يشكل خطرا جسيما على مصير "اسرائيل".
وقد كانت "اسرائيل" في غاية السعادة عندما استفحل واحتدم الصراع بين جناحي حزب البعث في دمشق وبغداد أبان حكم كل من الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين، وقد أدى ذلك إلى فشل محاولات توحيد القوة العسكرية العراقية والسورية في مواجهة "اسرائيل".
ولهذا ترغب "اسرائيل" في ألا تقوم للعراق قائمة مرة أخرى بحيث يظل احتمال التقارب العسكري السوري - العراقي أمرا غير ممكن، وليس بعيدا عن هذا التفكير الاستراتيجي الصهيوني قيام بول بريمر الحاكم الأميركي السابق للعراق بعد احتلاله بحل الجيش العسكري العراقي ، فقد جاء هذا القرار الأميركي من جانب بريمر (بالحل المفاجيء) للجيش بمثابة خدمة مباشرة للمخططات الصهيونية تجاه العراق.
والإصرار الكردي، الآن، على بلورة كيان قابل للانفصال في أية لحظة في شمال العراق وإعلان قيام دولة أو دويلة كردية هناك، لا يمكن وضعه فقط في سياق الطموحات القومية الكردية التاريخية المعروفة، التي قوبلت دوما بحسابات المناوأة من قبل المحيط الإقليمي، حيث لا تقبل أية دولة من الدول التي يوجد بها كثافة سكانية كردية بفكرة قيام دولة مستقلة للأكراد في أي منها خشية أن تؤدي إلى انفصال الأقاليم الكردية في تلك الدول وهي: (تركيا، إيران وسوريا وبالإضافة إلى العراق).
وفي خضم تداعيات المشهد السياسي في العراق منذ الغزو الأميركي للعراق، هددت تركيا بوضوح بأنه لو قامت دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فإن تركيا سوف تقوم باجتياح الشمال العراقي لإجهاض هذا التهديد للأمن القومي التركي.
لكن الأمر المؤكد أن الأكراد في شمال العراق يحظون بتأييد غير محدود من جانب "اسرائيل"، التي تدعم فكرة قيام كيان كردي مستقل في شمال العراق يكون حليفا للدولة العبرية ويتناغم معها في مناهضة أحلام القومية العربية في المنطقة أو الأصولية الجهادية المتنامية .
والوثائق تشير إلى صلات تاريخية وثيقة بين الأكراد و"اسرائيل" منذ الستينيات حيث لعبت "اسرائيل" دوراً أساسياً في دعم التمرد الكردستاني في شمال العراق وإمداده بالأسلحة منذ عهد الزعيم التاريخي للأكراد الملا مصطفى البارزاني والد مسعود البارزاني أحد القطبين الكبيرين في زعامة الأكراد في الوقت الراهن بالإضافة إلى جلال الطالباني.
وقد أدت هذه التطلعات "الاسرائيلية" إلى اقامة كيان كردي حليف في شمال العراق إلى الاصطدام مع السياسة التركية وإضعاف علاقات التعاون الاستراتيجي بين تركيا و"اسرائيل" منذ الغزو الأميركي للعراق.
وقد كانت الدوائر الاستراتيجية التركية أول من تحدثت عن تغلغل "اسرائيلي" واسع النطاق في كردستان في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، وهو الأمر الذي أماط عنه اللثام بشكل سافر الكاتب الصحفي الأميركي الشهير سيمور هيرش بعد ذلك في مجلة (النيويوركر).
وفي تقديرنا أن الدعم الاستراتيجي اللامحدود الذي تقدمه "اسرائيل" لفكرة انفصال كردستان العراق وإقامة كيان كردي مستقل في شمال العراق بحيث لا يعود العراق دولة إقليمية كبيرة ذات وزن وثقل استراتيجي، هو أحد الأسباب القوية وراء إصرار الأكراد على أن يتضمن الدستور العراقي الجديد فكرة إعطاء الأكراد حق تقرير المصير بعد ست أو ثماني سنوات (على غرار نموذج جنوب السودان أو استلهاما منه).
فالأكراد يشعرون أن "اسرائيل" ستقف بقوة إلى جانب قيام دولة كردية في شمال العراق، وستعمل على توفير الدعم الأميركي لهذه الدويلة الجديدة رغم المعارضة التركية الجلية لها.(49/267)
وفي تقديرنا، أن الأكراد بإصرارهم على الانفصال وتكريس فكرة الحق في تقرير المصير عبر الفيدرالية، والمطالبة بإجراء استفتاء على ذلك بعد عدة سنوات وهم واثقون من الانفصال بدليل أن استفتاءاً نظم في كردستان إبان الانتخابات الأخيرة أظهر فيه نحو 98% من الأكراد رغبتهم في الاستقلال والانفصال عن العراق، وهم إنما يرتكبون خطيئة تاريخية ويراهنون مرة أخرى الرهان الخطأ عبر توهم أن "اسرائيل" ستكفل لهم الحماية عندما تتحول دويلة كردستان في شمال العراق إلى كيان خاضع للحماية أو الوصاية الصهيونية.
إن الأكراد مطالبون بإعادة التفكير جيدا في قراءة الخريطة (الجغرا سياسية) الإقليمية، ومعرفة أن إقامة دولة كردية سيفتح عليها نيرانا إقليمية لا تنتهي وستجد تحالفاً ايرانياً سورياً تركياً عراقياً ضد هذه الدولة مما سيدخلها في دوامات صراع لا تنتهي.
كما أن على الأكراد استشفاف الدروس المستفادة من الغزو الأميركي للعراق، فأميركا بعد أن تدبر سيناريو خروج غير مهين من العراق، لن تفكر في العودة إليه ثانية، فلا يتوهم الأكراد أن قوات أميركية سوف تهبط في جبال كردستان مرة أخرى من أجل حماية الدولة الكردية المستقلة.
إن الرهان الحقيقي والخيار الاستراتيجي التاريخي لأكراد العراق هو في الحفاظ على روح التلاحم والأخوة الكردية ـ العربية في إطار أخوة الإسلام العظيم فهو الرابطة العظيمة التي ستبقى فوق كل حسابات سياسية مؤقتة أو أطماع ومطامح اقتصادية زائلة، وعليهم الاستفادة من حقيقة أن العراق هو أكثر دولة منحت الأكراد حقوقا ثقافية وسياسية وقومية في كل المحيط الإقليمي واعترف لهم بالحكم الذاتي الواسع الصلاحيات، وهو ما يمكن ترسيخه عبر تأكيد ذلك في دستور يحفظ وحدة العراق ولا يقود إلى تفكيكه أو تقسيمه، كما كشفت عن ذلك المداولات بشأن الفيدرالية في إطار الدستور الجديد.
وإذا كان النظام السابق قد عطل بنود قانون الحكم الذاتي للأكراد فانه بالإمكان الآن وأثناء صياغة دستور جديد أن يكفل تفعيل ذلك القانون ويضمن تطبيقه.وهنا لابد من القول أن هذه الحقوق الممنوحة للقومية الكردية هي ليست منحة أو منّة من أحد،فالكرد مواطنون عراقيون أصلاً لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم في هذا الوطن، وهي لا تقل عن حقوق وواجبات العراقيين العرب أو بقية طوائف المجتمع العراقي.ولا أحد يستطيع أن ينكر مواقفهم الوطنية في انجاز استقلال العراق ، وما قدموه من تضحيات في إطار الحركة الوطنية لا تقل شأناً عمّا قدمته باقي القوميات الأخرى المتآخيه دون تمييز أو تفريق فالجميع شركاء في هذا الوطن وان معيار المفاضلة يكمن في التعبير عن الولاء له والانتماء إليه .
لقد بات المصير العراقي مهددا ليس فقط بتأثيرات المشروع الاستعماري الأميركي والذي يتعرض للفشل بفعل المأزق الذي خلفته المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، ولكن أيضا بفعل المخططات والأطماع الاستراتيجية للقوى الإقليمية، وهو ما زاد من مخاطر تعاظم حدوث سيناريو شبح التقسيم العرقي والطائفي في العراق.
لكن أي محاولة لتكريس واقع هذا التقسيم عبر الدستور الجديد الذي مرر بارادة امريكية بعد أن رفضته محافظات( الانبار/ الموصل / صلاح الدين / ديالى / السماوة / الديوانية ) بأغلبية ساحقة، سوف تقود إلى نشوب حرب أهلية طاحنة لا سامح الله أو الى مزيد من الوهن والمشاكل والاضطرابات ولو لم يكن على شكل حرب أهلية مفتوحة لأننا ما زلنا نثق بوعي العراقيين من أن ينزلقوا اليها .
فأهل السنة في العراق لن يقبلوا بسيناريو التقسيم، وسيتلقون فيما لو خرج الأمريكان من العراق دعما عربيا غير محدود، ولن يقبلوا بفكرة استئثار أكراد العراق بنفط كركوك والشمال وشيعة الجنوب بنفط البصرة والجنوب العراقي [ نتألم كثيراً عندما نضطر الى ذكر هذه التسميات الطائفية ، لكنه واقع مفروض اليم علينا مواجهته بروح متألقة ] ، كما لن يقبلوا بفكرة انهيار (الدولة العراقية الموحدة).
وإذا لم يتدارك أكراد وشيعة العراق _ ومنهم الدكتور العامود ! _ مخاطر السير في سيناريو تقسيم العراق عبر فكرة الفيدرالية، فإن الرهان على إمكانية أن تحمي أميركا النزعات الانفصالية بعد انسحابها من العراق سيكون رهانا خاسرا وعقيما ووخيم العواقب، وقد يفتح أبواباً من الجحيم لا أحد يستطيع التنبؤ بمساره أو تداعياته الخطيرة والتي لن تنتهي حتما بنجاح سيناريو التقسيم.
إن قدر العراقيين هو العيش معا في إطار دولة موحدة تحترم وتصون التنوع الثقافي والعرقي والطائفي، وتكفل تقاسم ثروة العراق النفطية وثرواته الأخرى في إطار من العدالة والمساواة، وإزالة أخطاء الماضي في هذا المجال، وذلك في إطار نظام العدالة التعددي وليس في سياق محاصصة عرقية وطائفية لن تقود إلا إلى دمار وخسارة الجميع.
وعلى القيادات السياسية في العراق أن تتحلى بروح المسؤولية التاريخية والوطنية وتنظر ببصيرتها إلى الأفق البعيد، إلى ما بعد خروج قوات الاحتلال الأميركي، فلا مستقبل إلا في إطار العراق الموحد أما الرهان على مؤازرة قوى خارج العراق فلن يكون مصيره إلا الفشل.(49/268)
فالعراق الموحد الحر القائم على التعايش بين الثقافات والانتماءات وتعميق التآلف والوحدة الوطنية والمنتمي لروابطه التاريخية المتمثلة في العروبة والإسلام هو الطريق الوحيد لبناء العراق العصري الذي يتطلع إليه كل العراقيين على مر السنين.
[ انظر : مصير العراق في ظل صدمة الفيدرالية وشبح التقسيم ، عبد المالك سالمان ، ( ص 1-5 ) بتصرف].
رابعاً : وفق المقاييس والمعايير الموضوعية نلاحظ إن مطلب الفيدرالية كما طرحت مشروعه وتصر عليه القيادات الكردية وأكثر القيادات الشيعية هو أقرب إلى الكونفدرالية واتحاد دولتين ذات سيادة منه إلى الفيدرالية بين أقاليم دولة واحدة ، مما يثبت عدم ملاءمته لظروف شعبنا وتطلعاته المستقبلية .
وهي لا تعني المطالبة بها في ظل الظروف التي يمر بها القطر سوى تقطيع كيان العراق الجغرافي وتمزيق أواصر وحدته الوطنية وإضعاف عوامل هيبته السياسية ، فخطورتها تكمن في إن الدول الفيدرالية إذا ما تفككت لأي سبب كان مستقبلاً فإنها ستنقسم إلى كيانات ودول جديدة على أساس المقاطعات الفيدرالية المكونة لها سابقاً وهذا مالا يرضاه كل مواطن عراقي غيور .
[ الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق ، د عبد علي محمد سوادي ( ص 8-9 ) بتصرف/ شبكة النبأ المعلوماتية ] .
خامساً : المشروع المطروح للفيدرالية، والذي فصل في عدد من مواد مسودة الدستور، يضع نهاية للكيان الوطني العراقي ولهوية العراق العربية، ويدعو إلى تقسيم طائفي للعراق. وهذا المشروع يهدد كل الكيانات الوطنية العربية الكبرى، التي لا تخلو جميعها من تعددية إثنية أو دينية.
ما يشهده العراق اليوم هو تطور غير مسبوق في تاريخ الجماعات العربية الوطنية منذ ولادتها قبل زهاء قرن من الزمان. لم يسبق أن وقفت قيادات سياسية تدعي الحديث باسم كتلة رئيسة من كتل الجماعة الوطنية، كما تقف القيادات الشيعية العراقية، لتطالب بكيان منفصل لهذه الكتلة.
ويجب ألا يخطئ أحد في مطالب بعض القيادات الشيعية العراقية؛ فهي مطالب انفصال بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فالفيدرالية الشيعية تشمل كل محافظات جنوب العراق، من بغداد إلى البصرة؛ وما توفره مواد مسودة الدستور على صعيد توزيع الثروة، ومنح الكيانات الفيدرالية (حقوق حفظ الأمن والتشريع والتمثيل الدبلوماسي)، يؤسس لتقسيم فعلي يمكن أن يتحول إلى تقسيم نهائي ورسمي في المستقبل.
في العراق، ستفتح الفيدرالية الشيعية الباب لتطهير طائفي دموي؛ فلا الجنوب شيعي خالص ولا الوسط والشمال سنيون خالصون. بل إن الوجود السني في الجنوب، لاسيما في مناطق البصرة والكوت والناصرية والحلة والصحراء جنوب الفرات، هو وجود كثيف وعميق الجذور. ذلك أن التحول إلى التشيع بين العشائر الجنوبية هو ظاهرة حديثة نسبياً، لا تتجاوز القرن إلى القرنين من الزمان، وهذا التحول لم يكن مكتملاً.
وإذا أخذنا التوجهات الطائفية الحالية لدى بعض القوى الشيعية السياسية في الاعتبار، فلنا أن نتصور أن الفيدرالية ستقود حتماً إلى تطهير طائفي في الجنوب. ولعل القمع الأمني الدموي الذي تعيشه منطقة المدائن وجوارها ليس إلا محاولة لكسر الحزام السني جنوب بغداد، يحركها تصور لربط الكيان الشيعي في الجنوب بالكتلة الشيعية في العاصمة. التطهير الطائفي في الجنوب سيؤدي إلى تطهير طائفي في الوسط والشمال، لاسيما في مناطق بلد وتلعفر وكركوك، وإلى صراع دموي في بغداد.
بيد أن التقسيم الطائفي لن يقتصر على العراق. فمن دول الخليج إلى شمال شرق السعودية، أي في الجوار العراقي نفسه، حيث توجد أقليات عربية شيعية، لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد انفجارات طائفية متلاحقة.
بل إن مؤشرات التوتر الطائفي تكاد تكون واضحة تحت سطح الوضع البحريني السياسي. سيكسر الانفجار السني-الشيعي في العراق والخليج حرمة الجماعات الوطنية العربية، وقد يبث حياة جديدة في مشاريع تقسيم إيران وتركيا إلى كيانات قومية، وتأسيس كيان علوي في سوريا وجنوب تركيا، وتقسيم السعودية إلى كيانات شيعية ونجدية وحجازية، وإقامة كيان بربري في المغرب العربي، وهكذا.
هذه المنطقة من العالم تربطها أواصر ثقافية وسياسية وتاريخية، وليس ثمة حدث أو متغير كبير في إحدى مناطقها يمكن عزله عن بقية المناطق. والفيدرالية الطائفية في العراق هي حدث وتطور كبيران في واحد من أهم بلدان المنطقة وأكبرها.
ما يدفع القيادات الشيعية إلى المطالبة بتأسيس كيان شيعي هو مزيج من المصالح الضيقة، والشعور المتزايد بعدم قدرتها على التحكم في العراق كله، والتغافل عن تاريخ العراق والقوى الحاكمة لتاريخه الطويل ، وفي حين من الضروري عدم تجاهل الدعم الذي يجده مشروع الفيدرالية من العراقيين الشيعة في الجنوب، لا تنبغي المبالغة في هذا الدعم أو في إمكان استمراره.(49/269)
ففترات الحروب والاحتلالات الأجنبية وعدم الاستقرار السياسي والمعاشي هي بطبيعتها فترات خوف جماعي وشعور متزايد بالحاجة إلى الحماية واعتزال مصادر الاضطراب والقلق. ومشروع الفيدرالية الشيعية يؤسس الآن على هذا الخوف الجمعي، وعلى وعود وهمية بالاستقرار الانفصالي والرفاه.
لإفشال هذا المشروع يجب أن تتضافر جهود عراقية وعربية معاً؛ جهود سنية وشيعية على السواء. ينبغي كشف وتعرية التوجهات الطائفية الشيعية التي تهدد وحدة الجماعة والأمة، والتوجهات الطائفية السنية الوافدة أو المحلية التي تستخدم عصا التخويف لشيعة العراق. ينبغي إدراك المخاطر التي يحملها هذا المشروع الانقسامي على مستقبل العراق والعراقيين، وعلى مستقبل المنطقة ككل، بكل تنوعها الطائفي والإثني.
كما ينبغي التصدي للأساطير التاريخية التي يجري توظيفها من أجل تسويغ مخطط يوشك أن يأخذ العراق والمنطقة إلى حقبة طويلة من الموت والدمار.
[ انظر : الفيدرالية وتفكيك الجماعة الوطنية العراقية ، بشير موسى ، موقع المعرفة ، الثلاثاء 9/8/1426 هـ - الموافق13/9/2005 م ، بتصرف ] .
سادساً : الموارد في الدولة الفيدرالية بحسب الدستور الجديد : إن الدستور تحدث عن مركزية توزيعها، الا انه قصر ذلك على الموارد المستثمرة حاليا وسكت عن التي ستستكشف لاحقا، وهذا ما سيكون بذرة لنزاعات مستقبلية. الا انه قبل ذلك يجب ان يكون حرصا حقيقيا على هذه الموارد، اذ ما لم يحدث توقف او تقليل فعلي للتخريب الذي يلحق بأنابيب النفط وشبكات الطاقة والبنى التحتية بسبب الاعمال المسلحة، فلن يكون هناك من العائدات والموارد ما يستحق اقتسامه.
[ مسودة الدستور العراقي: ملاحظات أولية ، جريدة الشرق الأوسط ، الأحد 23 رجب 1426 هـ 28 اغسطس 2005 العدد 9770 ] .
من ناحية أخرى : طالب خبراء عراقيون بتعديل الدستور لتفادي انعكاسات سلبية على الصناعة النفطية , منهم الوزير السابق السيد غضبان , وقد وجهوا الرسالة المفتوحة الى رئيس الجمعية الوطنية ( حاجم الحسني ) للاعتراض على فقرات الدستور .
المواد الدستورية قسمت نفط العراق اجمالا على جغرافيا , بحيث يصبح كل جزء جغرافي له دفع سياسي وفق ما تكون حصته في الكعكة بصورة عامة.
فعليه التنافس بين الاقاليم اصبح مبرمجا وفق توزيع القرار الاقتصادي السياسي.
هنا وجب طرح سؤال مهم : هل ان هذا التنافس سيكون سلبياً ام ايجابيأ؟ لكي تتصدى الجمعية الوطنية بقرارات تشريعية تمنع السلبية وتبقي على الايجابية.
من اخطر سلبيات تلك المنافسة بين الأقاليم هو التنافس من اجل الحصول على المستثمر الأجنبي. أي كل إقليم من الأقاليم يقدم نفسه الأرخص بين الأقاليم لكي يجذب المستثمر.
السلبية الأخرى, هي ضعف الموقف التفاوضي بالنسبة للحكومة الاتحادية أمام شركات النفط العملاقة منها الأجنبية والوطنية.إذا كان للحكومة الاتحادية حق النقض , (كما لرئيس الولايات المتحدة),على أي عقد من عقود النفط التي تبرمها الفدراليات, قد تم دفع البلاء المحتمل.وحلت محله مصلحة الشخص العراقي, ذلك يتم بتوقيع الحكومة الاتحادية على العقد المقدم من قبل الشركات ,التي تقدم أكثر لكل جنسية عراقية أي الى خزينة الحكومة الاتحادية. هنا يصبح التنافس بين الأقاليم من مصلحة الحكومة الفيدرالية بما فيها قوتها التفاوضية أمام المستثمر.
[ انظر : هل ضيع دستورنا الفدرالي نفطنا؟ الدكتور لطيف الوكيل ، موقع بحزاني للحوار ( ص 1-2 ) ] .(49/270)
أيضاً ومما له علاقة بالموارد ما طرحته بعض الأطراف العراقية خلال مناقشات الدستور حول موضوع تقاسم المياه او حق التحكم بها من قبل بعض الأقاليم الفيدرالية. وكانت مشكلة المياه قد برزت بشكل حاد في الثلث الأخير من القرن الماضي، عندما بدأت تركيا في إقامة سدود ضخمة علي نهر الفرات ـ أكبرها سد اتاتورك ـ مما ادى الي خفض نسبة المياه المتدفقة نحو سوريا والعراق الي درجة خطيرة، وارتفاع نسبة التلوث في النهر وميزت تركيا ـ وهي الدولة الوحيدة في ذلك ـ بين الأنهار الدولية والانهارالعابرة للحدود للهروب من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأنهار مثل اتفاقية هلسنكي »1966« وإعلان فيينا عام 1978 اللذين نصا علي عدالة توزيع واستثمار المياه، وامتناع الدول عن تحويل مجري النهر او إنشاء خزانات او سدود علي مجري النهر من شأنها خفض حصة دولة اخري، واعتبرت نهري دجلة والفرات انهارا عابرة للحدود وليس انهارا دولية وكان أول من أثار قضية المياه في العراق في الفترة الحالية هم الأكراد الذين طالبوا بحق استثمارها من قبل ادارة الاقاليم الفيدرالية اخذين في الاعتبار تعدد مصادر المياه في الشمال العراقي »كردستان« وارتفاع نسبة تساقط الأمطار بها إضافة الي كثافة تساقط الثلوج بكمية وفيرة، وهو ما يؤدي الي تشكيل العديد من الينابيع والروافد التي تصب بمجملها في دجلة وتشكل احد اهم مصادره ومنح الأقاليم الفيدرالية حق التصرف بالثروة المائية سيؤدي الي مقايضة المياه مع بقية أقاليم العراق بأثمان اقتصادية وسياسية عالية القيمة في المستقبل.أما ادارة الثروة النفطية فهي بدورها موضوع حساس فعوائد النفط هي الأساس في الحياة الاقتصادية للدولة العراقية، وسلطة القرار في إدارة هذه الثروة غير واضحة في الدستور، فمركز القرار غامض، وهناك تداخل بين سلطات الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات وهو ما قد يؤدي الى بروز مشاكل ونزاعات وصراعات في المستقبل بين المحافظات والأقاليم حول استثمار الثروة النفطية، وحول الآبار المنتجة للنفط والتنقيب والاستكشاف .
[ دستور العراق.. خطوة للأمام أم للخلف ، حسين عبد الرازق ، جريدة الوفد المصرية ، السبت 29 أكتوبر 2005] .
نحن نخشى من انتخاب مجالس أقاليم يسيطر عليها بعض الأفراد وعوائلهم بصورة مستديمة ليتحكموا في مقدرات الإقليم المالية ومشاريعه وعقوده مع الشركات المحلية والأجنبية ويمضي الوقت وتضخم الأموال ويسيطر هؤلاء على الأجهزة الإدارية والقضائية والأمنية وتبرز مع الوقت رموز استبداد تتحكم بالإقليم مدى الدهر تحت واجهة الديمقراطية والفيدرالية وتتحول الأجهزة الى جزء من هرم استبدادي غير معلن يخدم القمة. هل فكرتم في كيفية توزيع الثروة القومية للوطن العراقي على الإقليم؟ أهي حصص سيجري الاتفاق عليها عشوائياً في المجالس ام هي مستلزمات اقتصاد دولة تفرض نفسها بالأرقام والدراسات السنوية المتغيرة؟ اذا قلت بحصة للإقليم فهذا يعني ان منتسب الإقليم سينتفع بمشاريع وخدمات حصة إقليمية فضلاً عن المنافسة في الانتفاع بحصة إقليم آخر كبغداد مثلاً (ياكل من جهتين)، ومن جهة أخرى فإنه تكريس للطائفية وإشعال فتيلها بهذا الشكل سيقود الى مغادرة السني للإقليم الشيعي ومغادرة الشيعي للإقليم السني بعد استحالة التنافس الحياتي في الإقليم.
إن اللعبة لن تنطلي على احد إذ أن مشروع التقسيم لازال قائما وحاضراً بقوة ليس عبر الفدراليات فحسب بل عبر موضوع تقاسم الثروات فهو التقسيم الحقيقي للبلاد أيضاً ، حيث ان توزيع الثروة حسب الأقاليم او المحافظات يلغي تماما ملكيتها القومية للعراق الموحد الذي سيكون مجرد كيان هش يتلاعب بمصيره أمراء الطوائف وسراق الثروات والمتحكمين بها ، لذا فالكل الآن يريد حصته الأكبر منها لإيجاد الأرضية المادية لحالة التقسيم فيما بعد ، فان بدا ظاهريا انهم قد يتنحون مؤقتا عن موضوع التقسيم العاجل للعراق عبر جغرافيته التي وضعوا لها خصوصيات مصطنعة فإنهم يمضون في تقيسمه عبر قاعدته المادية وثرواته القومية الأمر الذي سيحول مسألة التقسيم الى واقع حال عبر التنازع على الثروات والاقتتال من اجلها ولا يتطلب الأمر عندها اي جهد لعملية التقسيم إذا ما أريد لها أن تقر يوما ما لا سامح الله.
[حقيقة تقسيم العراق.. ولعبة الدستور ، موقع جريدة البصائر / قسم المقالات ( ص3 ) ] .(49/271)
سابعاً : من الناحية الشكلية أو القانونية لا تتناقض الفيدرالية مع وحدة الدولة وسيادتها , ولكن من الناحية الفعلية, وفي الشرط العراقي خاصة , نرى حالة غريبة بالنسبة للتجارب الفيدرالية المؤسسية التي تمت في العالم , وهذه الغرابة تتمثل في أن الفيدرالية قد قامت في البلدان القارية أو البلدان الواسعة والممتدة الكبيرة انطلاقا من المقسم إلى الأكثر توحيدا , في حين أنها تتم الآن في الشرط العراقي من الموحد إلى المقسم , وتتضاعف هذه المشكلة مع حقيقة أن مفهوم فدرلة العراق او تحويله الى فدرالية يرتبط باضعافه كدولة في محيطه الاقليمي , وهنا نتذكر كيف ان فرنسا , وهي الدولة الام في نموذج الدولة الأمة , قد اشترطت تقسيم المانيا أو جعلها فدرالية بعد الحرب العالمية الثانية كي تقضي على قوتها داخل المجال الأوروبي في تلك الفترة , بالطبع المانيا استطاعت أن تعيد حضورها وان تنسق مع الفرنسيين وان يشكلا معا قاطرة الاتحاد الأوروبي لاحقا الأمر الذي يعجز العراق عنه .
أضف أن الفيدرالية في العراق مطروحة اليوم على أساس اثني وإذا قامت على هذا الأساس فانها لابد ان تفرز حروبا اثنية واقوامية ومذهبية لايستطيع احد ان يتكهن بنتائجها ولكن الفدرلة الاثنية شيء والفدرلة المناطقية الجغرافية شيء اخر, فالمجتمع العراقي مايزال في طور استكمال هويته الوطنية وتدعيمها وهذا يحتاج الى الانتماء الى دولة واحدة موحدة .
[ موقف الأكراد والمحللين السوريين من الفيدرالية الكردية في العراق ،وحيد تاجا ، موقع الاختلاف ثروة ، ( ص3 ) ، 20 آذار، 2004 ]
ثامناً : الفيدرالية شكل إداري لا يرقى الى الحل السياسي , ويمكن استخدامه كوسيلة لبسط النفوذ السياسي لهذا الحزب أو ذاك على صعيد السلطات المحلية تمهيدا لفرض ديكتاتورية مقنعة برداء ديمقراطي براق !!
تاسعاً : إن تكوين دولة فدرالية ثلاثية تقوم على أساس طائفي وقومي في الشمال والجنوب والوسط، سيؤدي إلى إيجاد مناطق إدارية تملك نوعاً من الاستقلال الذاتي خاصة بالأقليات الأخرى داخل الدولة (كانتونات) .
وبذلك يتمزق العراق ويقطع لتحقيق الأهداف المشتركة للتحالف الأمريكي الصهيوني مع اطماع بعض دول الجوار، وهذا بالاساس هدف صهيوني إذ أن الصهاينة كانوا أول من أطلق فكرة إن العراق دولة مصطنعة، وان تركيبتها الاساسية التي تبلورت عام 1920 كانت تركيبة خاطئة ولا بد من اعادة صياغته وفق تقسيمات طائفية وعرقية.
فقد تحدث بها المؤرخ الاسرائيلي (بيني موريس) في لقاءات للاذاعات الأمريكية قبل الحرب على العراق قائلاً ((بان العراق دولة مصطنعة رسمها الانكليز وخلط فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة ان تتعايش مع بعضها))
كما تحدث عنها المؤرخ اليهودي الأمريكي (برناردلويس) معتبراً أن العراق هو دولة مصطنعة، وان احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه إلى عدة دويلات بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية.
ونشرت مجلة (كيفونيم الإسرائيلية) مقالاً للمنظمة العالمية الصهيونية بالقدس (العدد 14 شباط 1982) جاء فيه عرض لاستراتيجية إسرائيل في الثمانينات لتقسيم وتفتيت وتجزئة الدول العربية إلى اقاليم جغرافية متباينة على أساس عنصري أو ديني، وأعطت الأولوية إلى تفكيك العراق الذي يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل.
وقد علق عليه الفيلسوف الفرنسي المسلم (روجيه غارودجي) قائلاً: (وفي هذا النص كشف واضح للأساليب التي تنوي إسرائيل إتباعها من أجل التدخل المنظم والعام ضد أنظمة الحكم في جميع البلدان العربية بغية تفكيكها وتفتيتها مما يتجاوز نطاق كل الاعتداءات السابقة، ومشروع بمثل هذه الضخامة تؤيده الولايات المتحدة الأمريكية تأييداً غير مشروط وغير محدود..)) ! [ ملف إسرائيلي، دراسة للصهيونية الاساسية، ص 160-163 ] .
[ وانظر : فدرالية تقسيم العراق ، موقع جريدة البصائر ، قسم المقالات ( ص3) ] .
الخلاصة : إن مشروع الفيدرالية في العراق نقيض لرابطة الدين والدم واللغة والثقافة والمصالح والأهداف المشتركة، وقد يؤدي إلى حروب أهلية وفتنة كبرى لا يعلم مداها إلا الله ، وسيخسر العراقيون جميعاً كما خسرت الأمة من قبل في اتفاقية (سايكس بيكو) المشؤومة سنة (1916) التي مزقت امتنا شر ممزق، وقطعت أوصالها وأصبحت فريسة للاستعمار تلتهمها بكل شراهة ووحشية ببدعة القوميات والموالاة والتبعية، ولا زالت تعيش آثار هذه المؤامرة الاستعمارية وتئن من وطئتها ذليلة في دويلات صغيرة وضعيفة ترزح تحت وصاية الاستعمار وهيمنته إلى يومنا هذا.
إن هذه الرؤية التجزيئية للمجتمع العراقي تعبر عن هوس تحكمه العواطف وردود الأفعال وضيق الأفق والمزايدات السياسية وقوى الاحتلال وأذنابه لنحر العراق وأهله بيد جزار كافر صليبي، ولكن بعض الساسة لم يستفيدوا ويعتبروا بحوادث التأريخ ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ? [البقرة : 7].
[ السابق ( ص4) ] .(49/272)
الرافضون يرون بانها صيغة تجميلية للتقسيم أو التفكيك وأنها ستكون مجالا لنفوذ دول الجوار، فيما صرح سكنة المناطق الغربية بمخاوفهم بأن تظل لهم الصحراء، اذ ان النفط سيكون في اقليم الجنوب وكركوك، هذا اضافة لمصادمة الفيدرالية لطبيعة شكل الدولة والامة في الاسلام لهذا فالخلاف جوهري وحقيقي وهذه الهواجس تظل مشروعة ، اذ ان كل الحروب والنزاعات انما تنشب على ما هو أقل من ذلك .
* السياسة الأمريكية في التفكيك والتقسيم
الخطط الأمريكية:
لم تكن الخطط الأمريكية الساعية إلى تقسيم دول العالم الإسلامي ومن بينها العراق وليدة الوقت الحاضر، بل هي مشاريع حاضرة في مراكز الأبحاث الأمريكية وأذهان السياسيين الأمريكيين منذ القديم، حتى أن 'هنري كيسنجر' أحد أشهر السياسيين الأمريكيين كتب في مذاكرته: 'من يريد السيطرة على الأمة العربية والإسلامية عليه أن يدمر إرادة الأمة العراقية فهي الحلقة الرئيسية فيها'، وفي الثامن من مارس العام الماضي [عام 2004] أعلن هنري كيسنجر عبر برنامج حوار [Ha r t Toke] في هيئة الإذاعة البريطانية [BBC] أن العراق يسير باتجاه مصير يوغسلافيا السابقة, ودعا كيسنجر في مرات عديدة بعد احتلال العراق إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب.
وفي عدة لقاءات مع 'بول بريمر' إبان توليه الحكم الأمريكي للعراق أكد أن مشروع الفيدرالية هو من الأولويات التي تسعى واشنطن لتحقيقها في العراق، وبالتأكيد فإن هذه الفيدرالية لا يقصد منها في حقيقة الأمر إلا تقسيم العراق .
أولاً: تعريفات:
التقسيم السياسي للدول؛ مصطلح معروف ومتداول ومعناه ظاهر للأفهام. أما التفكيك؛ فنعني به: سعي قوة خارجية إلى سلب قدرة نظام ما على نَظْم القوى السياسية الداخلية - عرقية أو طائفية أو سياسية - في عقد واحد ينبثق من عقيدته السياسية.
وبمعنى آخر؛ فإن التفكيك مرادف لانفراط العقد الداخلي، وتداعي مركزية النظام وسيطرته على القوى الداخلية. وينبغي الانتباه إلى أن التفكيك بهذه الوضعية لا يماثل الانهيار، بل هو مرحلة سابقة عليه، وفي حال نجحت القوة الخارجية في إحداثه؛ فإنها يمكن أن تحافظ على الاستقرار الداخلي بإعادة تركيب القوى الداخلية وفق نظم خاص بها.
ثانياً: الأهداف الأمريكية في العالم الإسلامي:
لماذا تريد الولايات المتحدة أن تفكك أو تقسم الدول الإسلامية؟ الإجابة عن ذلك تتضح من خلال خمسة أهداف، اثنان منها يتعلقان بالدولة الصهيونية، ويتحددان وفق مصالح دينية وسياسية مختلطة، وهذه الأهداف هي غاية ما يريده الأمريكيون، وليست أهدافاً مرحلية:
1 - تدشين القوة الأمريكية كإمبراطورية معاصرة تسيطر على دول العالم التي لا تعتنق الحضارة الغربية.
2 - ضمان أن تفقد الدول الإسلامية أي قدرة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو ثقافية على مواجهة أو تهديد أمن «إسرائيل» وسلامتها، والفقد هنا ينبغي أن يكون شاملاً ودائماً.
3 - التهيئة لدولة «إسرائيل» الكبرى وإقامتها وفق الحدود والتعاليم التوارتية، أو قوة «إسرائيل» العظمى وفق الحدود الحالية، وفي النطاق العربي والإسلامي.
4 - يتعلق بالإرهاب؛ الوصول بالدول الإسلامية إلى حالة العجز الكامل عن تخريج حركات إسلامية «متطرفة وإرهابية» حسب المفهوم الأمريكي، عن طريق إصابة الشعوب بالعقم الديني والثقافي والسياسي؛ بما يقلل من أي احتمال لانبعاث إسلامي يهدد المصالح الأمريكية.
5 - ضمان استمرار الدول الإسلامية مصدراً مأموناً للمواد الأولية وفي مقدمتها البترول، وسوقاً استهلاكية مفتوحة للمنتوجات الأمريكية.
ثالثاًً: التفكيك السياسي وليس التقسيم؛ هو المرحلة المقبلة (على رأي البعض ) :
تقسيم بعض الدول الإسلامية هو وسيلة ـ أمريكية ـ وليس غاية، والغاية ما ذكرناه سابقاً، وإن كان التقسيم وسيلة جذرية لتحقيق المقصود؛ إلا أنها تبقى غير عملية في كل وقت لأسباب كثيرة:
- هناك دول إسلامية غير قابلة للتقسيم؛ من حيث عدم وجود تمايز عرقي أو طائفي داخلها.
- كثير من الدول القابلة للتقسيم لا يشترط أن يتوفر فيها عوامل أساسية ـ مُحفزة ـ؛ توفرت في النموذجين العراقي والأفغاني ـ الأكثر عرضة لخطر التقسيم ـ؛ مثل القمع الداخلي، وتمايز الأقليات جغرافياً، أو حتى توفر معارضة سياسية ناشطة ذات مطالب انفصالية واضحة.
- في بعض الحالات، مثل السودان، يكون التقسيم مطلباً مرفوضاً، فقد أبدى جون جارانج ذو التبعية الأمريكية( في وقت سابق ) رغبة واضحة في الحفاظ على وحدة السودان، وهذا يعني أن تقسيم الدين يأتي في مرتبة متقدمة على تقسيم الدولة في المفهوم الأمريكي.
- التقسيم بدون إعدادت مسبقة قد يؤدي إلى حالة من الفوضى يعتبرها الأمريكيون المجال الخصب لنشأة الحركات «الإرهابية» في زعمهم؛ حيث تكثر الكيانات ذات السيطرة المركزية المحدودة، كما أنه يتطلب تغطية عسكرية مكثفة قد لا تتوفر في ظل التجربتين الأفغانية والعراقية، كما أن الدول الغنية بمواردها مثل العراق؛ لن يستقيم الانتفاع بثرواتها في ظل فوضى سياسية وعسكرية.(49/273)
- لا توجد سيناريوهات مقنعة إلى الآن لتنفيذ انتقال تعسفي من مرحلة الدولة الواحدة إلى كيانات متعددة، وهو ما يقوي الحاجة إلى مرحلة انتقالية تحقق جل فوائد التقسيم دون التعرض لمفاسده.
وكان التفكيك السياسي - بدون احتلال عسكري - هو المرحلة الملائمة للواقع الإسلامي، وخاصة أنه أسلوب يناسب الدول كافة؛ كونه: يتضمن ليس فقط الدول ذات التمايز العرقي والطائفي؛ بل ذات التمايز السياسي والقبلي أيضاً، كما أنه يوفر القوة العسكرية لمناطق أخرى، ولا يسبب التورط فيه أزمات داخلية أمريكية.
لكن في المقابل يبقى التفكيك مرحلة انتقالية لما بعدها، يعني التقسيم إلى دول وكيانات صغيرة، أو إعادة رسم الحدود بين الدول الحالية. وننبه إلى أمر مهم، وهو أن الأمريكيين لا ينظرون في هذا الصدد إلى أي دولة بوصفها واقعاً، وإنما بوصفها قدرة؛ بمعنى أنه قد تكون دولة ما حليفة لهم في الوقت الحالي، وهذا واقع، ولكن الدولة نفسها بوصفها قدرة تصنف خطراً محتملاً على المصالح الأمريكية لمجرد كونها إسلامية، واحتمالات التفكيك والتقسيم تعنى - فقط - بقدرة الدولة، وليس واقعها، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير كثير من المتناقضات في الأداء السياسي الأمريكي، بل والأوروبي مع دول مثل تركيا والسعودية.
رابعاً : آلية التفكيك السياسي في الدول الإسلامية:
تملك الولايات المتحدة أوراق ضغط كثيرة على الدول الإسلامية، بعضها للأسف سُلمت من قِبَل هذه الدول عن طواعية؛ لذا تبقى المسؤولية موزعة بين طغيان الأمريكيين، وتخاذل المسلمين.
ويمكن بلورة مراحل التفكيك السياسي وصوره في النقاط الآتية:
أ- القوة العسكرية:
وهي الوسيلة الآكد في هذا المجال، ولكن الإشكالية الأزلية في العمل العسكري ليست هي تحقيق المكاسب، وإنما الحفاظ عليها بعد ذلك، وفي العراق وأفغانستان يمكن تلمس الخطوات الإجرائية التي قامت بها الإدارة الأمريكية: إيجاد المسوِّغ لضربة عسكرية ـ تنفيذ عملية احتلال قوية وسريعة ـ إقامة نظام سياسي داخلي صوري، على رأسه زعماء لهم صلة بالمخابرات الأمريكية أو وجودها العسكري ؛ لذا فتش دائماً عن المعارضين المدعومين أمريكياً، فهم رؤساء المستقبل.
وبعد ذلك يؤسس الأمريكيون توازناً داخلياً يكون الوجود الأمريكي العسكري حجر الزاوية فيه، بل يتحول ـ كما في العراق ـ إلى مطلب لفئات كثيرة داخلياً وخارجياً، وقد مر بنا كيف أن بعض الإسلاميين يطالبون أمريكا بعدم الرحيل قبل أن تستقر الأوضاع، وهذه قمة البراعة السياسية الأمريكية، والتي تكتمل بكون الانسحاب الأمريكي في حال تحققه يعني تدشين مرحلة التقسيم فعلياً على أرض الواقع، وبأيدي العراقيين أنفسهم، يعني بأسلوب ديمقراطي، وهو ما يتجنب كثيرون الخوض فيه، وإلا فماذا يمكن أن يحدث لو قرر الأمريكيون الانسحاب فوراً من أفغانستان والعراق؟ وهو ما ينقلنا إلى سؤال أصعب: هل بقاء الأمريكيين في هذه المرحلة أفضل أو انسحابهم؟ ومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل هي الفتنة التي وقع فيها بعض الإسلاميين في العراق ـ كما سبق ـ، والسر يكمن ليس في معرفة الجواب؛ بل في تحديد السؤال الصحيح.
ب- التفريغ السياسي:
هناك مفهوم سياسي يمكن أن نطلق عليه «تزاحم القوى»، يمكنه تفسير ديناميكية التوازن بين القوى السياسية الإقليمية والمحلية، ومن ثَمَّ تفسير طريقة التفكيك السياسي لأي دولة، ويفيد هذا المفهوم أن: منطقة النفوذ التي تتنازل عنها قوة دولية أو إقليمية أو محلية ـ جبراً أو طوعاً ـ لا تبقى أبداً فارغة، بل تُشغل على الفور من قِبَل قوة أخرى فاعلة؛ لكي يتحقق التوازن وفق الوضع الجديد.
وهذا المفهوم يستخدم ـ بتوسع ـ من قِبَل الأمريكيين في إحداث تفريغ سياسي داخل الدولة الإسلامية المستهدفة عن طريق ممارسة ضغوط على نظامها السياسي الحاكم؛ بحيث يتخلى عن بعض نفوذه، وفي مقدمة ذلك العقد الذي تنتظم فيه القوى السياسية المحلية؛ بحيث تحدث خلخلة سياسية تتيح للأمريكيين الدخول كشريك رئيس في اللعبة السياسية الداخلية، ويُستخدم النفوذ الأمريكي من قِبَل أطراف مختلفة في تدعيم مواقفهم في مواجهة النظام الحاكم، ويعاد رسم الخريطة السياسية من جديد بعد إضافة الشريك الأمريكي.(49/274)
ويمكن فهم الأمر بطريقة أخرى، فمن المفترض أن أي دولة لها أهداف استراتيجية كبرى يكون العمل على تحقيقها مهمة النظام الرئيسة، وهذه الأهداف مثل: تحقيق الاستقرار والتقدم، والتحول إلى قوة إقليمية، والحفاظ على الوحدة الداخلية، وتطوير القوات المسلحة، ونصرة القضايا العربية، ومنها أيضاً حماية النظام لنفسه، وهو أمر معتبر، والذي يحدث أن الضغوط الأمريكية ـ ومنها إشاعة مخططات التقسيم وترويجها ـ تؤدي تدريجياً إلى اختزال الأهداف الاستراتيجية للنظام، حتى لا تترك له غاية إلا حماية نفسه، وذلك يعني فراغاً سياسياً داخلياً كبيراً لا بد أن تشغله قوى أخرى، ويعني أيضاً سهولة توجيه النظام لخدمة المصالح الأمريكية، والمتأمل في حال أغلب الدول الإسلامية يلحظ بسهولة أنه لم يعد لها أدوار خارجية مؤثرة، وتآكل دورها الإقليمي إلى حد كبير، وطرأ خلل واضح على مفهوم العلاقة بين الدولة والنظام؛ متمثلاً في سؤال: هل النظام يحفظ الدولة، أو أن الدولة تتولى حماية النظام؟
ج- تحفيز الأقليات:
كثير من الدول الإسلامية ذات تمايز عرقي أو طائفي أو قبلي، ويعتبر وجود الأقليات أحد عوامل التوتر وعدم الاستقرار الدائمين في أي دولة، ومدخل رئيس لأعدائها في محاربتها. وتحرص أجهزة المخابرات الأمريكية على ترسيخ علاقات قوية مع جميع الأقليات في الدول الإسلامية، في السر والعلن، حسب كون المعارضة خارجية أو داخلية، وتعتبر الأقليات أحد وسائل الضغط السياسي لخلخلة النظام في الدولة وإضعاف مركزيته، ويمكن تقسيم الأقليات باعتبار تأثيرها إلى: أقليات ناشطة، وأقليات نائمة، والأولى تتميز بحركة سياسية قوية، ومطالب واضحة، وعلاقات راسخة مع الأمريكيين، ويصل نفوذها في بعض الدول درجة مواجهة السلطات، والاتصال بالمسؤولين الأمريكيين عند حدوث أي أزمة، ويصح أن يطلق عليها دولة داخل الدولة، ومثل هذه الأقلية تصبح عنصراً مهماً في تفكيك الدولة، وفسح المجال للنفوذ الأمريكي.
أما الأقليات النائمة؛ فليس لها مطالب واضحة، ولا نشاط سياسي قوي، ويحاول الأمريكيون في الفترة الأخيرة الاتصال بممثلين لهذه الأقليات في دول مختلفة، والعمل على إيقاظها وتحفيزها، للاضطلاع بدور مستقبلي.
د- العد التنازلي:
وهو مرحلة متقدمة من الضغط السياسي، تصبح فيها الأزمة مع الأمريكيين أزمة وجود، بالنسبة إلى نظام الدولة الإسلامية بالطبع، وتعطي الإدارة الأمريكية تحذيرات واضحة، ومهلة محددة أحياناً لتنفيذ المطالب.
وقد تعرضت لهذا الأسلوب بالتحديد أربع دول إسلامية (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا)، في اثنتين منها (أفغانستان، العراق) وصل العد إلى الصفر، وفي واحدة منها (ليبيا) تدارك النظام نفسه وأوقف العد على الطريقة الأمريكية، وفي الأخيرة (سوريا) يبدو الحال متأزماً، وخاصة أن الخيارات الأمريكية كثيراً ما تحصر الدولة المهددة بين: سُمٍّ وسيف، وفي النموذج السوري؛ جاء الهجوم «الإسرائيلي» قرب دمشق ليعلن بصراحة أن لا قابلية لوجود دولة البين بين؛ فإما التحول إلى نموذج صدام الرافض وتحمل العواقب، وإما التحول مائة وثمانين درجة بطريقة درامية.. كما فعل القذافي.
هـ- الشرعية التاريخية:
يعتقد الغربيون بقوة في قدرة المرجعية التاريخية على التأثير في الواقع، وبصفة عامة؛ فإن أي قوة سياسية في أي بلد تتخذ من إحدى نقاط التاريخ محوراً ومرجعية لها، ففي مصر ـ مثلاً ـ يرى الليبراليون أن فترة حكم الوفد والانتخابات الديمقراطية فترة ذهبية، ويرى الناصريون أن فترة حكم عبد الناصر ينبغي أن تكون مرجعاً محورياً للأمة كلها، والإسلاميون يتخذون من الخلافة العثمانية أقرب مرجعية تاريخية لهم، وتسعى كل قوة إلى العودة بالواقع لمطابقة مرجعيتها التاريخية، ويتسلل الأمريكيون من هذه الرؤية التاريخية؛ لتسويغ تفكيك بعض الدول الإسلامية، حيث تفترض أن وضعاً ما في التاريخ المعاصر لهذه الدولة هو وضع طبيعي، ويكون هذا الوضع عادة تفكيكياً قبل التوحد، فتعتبر هذه المرحلة من التاريخ هي المرجع، وأن الواقع ينبغي أن يدور لمطابقتها مرة أخرى، ولا شك أن ذلك سوف يكون لحساب أطراف دون أخرى.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية استخدام هذه المرجعية التاريخية في كل من أفغانستان والعراق، عن طريق الملك ظاهر شاه، والشريف حسين.
و- الضربات العسكرية الخاطفة:(49/275)
دشنت الحكومة (الإسرائيلية) أسلوباً جديداً في هذا المجال، وذلك بضربتها الجوية الخاطفة لمخيم «عين الصاحب» في سوريا، وهذه الخطوة ربما يكون الدافع الرئيس لها هو النيابة عن الإدارة الأمريكية المتورطة عراقياً في معاقبة بعض الدول المشاغبة، لكن بأسلوب «الأنماط الحاكمة» الأمريكي الذي سبق الحديث عنه، وبذلك تكون هذه الضربة نمطاً حاكماً لما يليها بالصورة الآتية: ضربة لمخيم فارغ ـ ضربات داخل دمشق لمراكز الفصائل الفلسطينية ـ ضربة جوية للمفاعل الإيراني ـ ضربات جوية لتحييد القدرة النووية الباكستانية، وقد تستغرق هذه التتابعية أشهراً أو سنوات، لكن ما يهمنا هنا أن هذه الضربات تنشئ نوعاً من الاضطراب السياسي الداخلي؛ لأن النظام المستهدف يتم ضربه دون أن يقدر على الرد؛ لأنه يعلم أنه يُستدرج إلى حتفه، ومن ثَمّ تتزايد حالة الاحتقان الداخلي، وتضعف سيطرة النظام.
وهذا الأسلوب يعتبر حلاً بديلاً ـ أو مؤقتاً ـ للخطة الأمريكية الأصلية، والتي سربها الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك المرشح الأمريكي الديمقراطي لانتخابات الرئاسة القادمة، في كتاب له؛ أنه بلغته معلومات منذ عام 2001م، وقبل هجمات سبتمبر، بوجود خطة أمريكية لاحتلال خمس دول بعد العراق؛ هي: سوريا وليبيا ولبنان والصومال وإيران.
وتبقى قدرة الأمريكيين والإسرائيليين على إيجاد المسوّغات لتوجيه مثل هذه الضربات عاملاً محدداً، ويلاحظ مؤخراً أن هناك نشاطاً غير معتاد في توجيه باقة متنوعة من الاتهامات لمختلف دول المنطقة، وهذا بدوره يثير حالة من القلق والتوقعات غير المرغوب فيها.
[ انظر ما تقدم في : الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم " ، احمد فهمي ، مجلة البيان ( ص 1-10 ) بتصرف ] .
* ما يخشى على العراق
في كتابه الشهير المسمى "ليفياتان"، وصف الفيلسوف توماس هوبز " دولة بدائية " نظرية لا تقوم على "سلطة مشتركة" (حكومة)، وإنما تكون فيها "الحرب قائمة بين كل الأفراد وضد كل الأفراد" من مواطنيها. و"بطبيعة الحال، يكون لكل شخص فيها الحق في كل شيء.
إن العراق ما زال بعيداً عن تحقيق الاستقرار، بل ليس هناك ما يدعو إلى القول بأن العراق يمكن أن يعرف استقراراً من خلال العمل وفق البرامج السياسية والعسكرية الحالية .
ويرى هوبز أنه لا يمكن التخلص من "الدولة البدائية" إلا من خلال إقامة حكومة قوية تتمتع بالسيادة وتكون قادرة على كبح التنافس الجامح القائم بين الأفراد. ولكن العراق ليس له مثل هذه الحكومة القوية حتى ولو كان مدعما بحوالي 140ألف جندي أمريكي من أحسن القوات تدريباً وتجهيزاً وفاعلية.
فهل بإمكان العراق أن يتحرر من "الدولة البدائية" القائمة فيه حالياً؟ وما البرامج الجديدة والسياسات، إن وجدت، التي يمكنها أن تقيم حكومة قوية، تكون قادرة على إنهاء الخوف والشكوك التي يعيشها كل عراقي اليوم؟ ويبقى الجواب متوقفاً على تحقيق إجماع وطني بين صفوف العراقيين، وتحويل إحساس التهميش والخسارة لدى السنة العرب إلى شعور بالفاعلية والاندماج. وإذا أتيحت فرصة لدمج العرب السنة كشركاء كاملي الحقوق ضمن إطار عقد ثابت حول الحكم، فلا مناص من أن يبدأ القادة العراقيون وحلفاؤهم الأمريكيون مفاوضات مع جماعات المتمردين ( على حد وصفه ) الأكثر صلابة وتزمتاً والتي تنشط في العراق حالياً، وإذا تمت مثل هذه المفاوضات، فقد يكون من الممكن صياغة عقد حكم جديد يقنع المتمردين بالالتحاق بالمسار السياسي.
[ العراق يقترب من حالة "الدولة البدائية" الكاتب: كينيث كاتزمان / مركز الامارات للبحوث والدراسات ] .
" وتشير بعض الدراسات الي ثلاثة اخطار تهدد العراق :
ـ خطر الحرب الأهلية : واذا لم يكن العراق حاليا في اتونها، فهو عند مداخلها او علي حافتها وهذه الحرب قد تمتد الي العالمين العربي والإسلامي وخصوصا دول الجوار، والحرب الأهلية لا تبدأ بين السنة والشيعة او بين العرب والأكراد او بين الأكراد والتركمان، بل بإشعال فتنة يقوم بها متطرفون ومندفعون من هذا الفريق او ذاك بدعم من مغامرين وطامعين لتنتهي بحرب الجميع ضد الجميع بعد ان تبدأ بتفجير جامع او حسينية او مقر او اغتيال او تصعيد واستقطاب طائفي او اثني وبشكل مستمر فيؤدي هذا الى الفلتان وعدم السيطرة ، ( الأمر الذي لا نتمنى حصوله ، وربنا الرحيم يدفع عنا وان راهن تجار الطائفية على الحرب وأوقدوا نارها ).
? كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ? [المائدة : 64] .
ـ خطر التقسيم : فبعد حرب أهلية طاحنة طائفية واثنية شديدة الشراسة، يصبح قبول الامرالواقع لا مفر منه، لدرجة ان استمرار القتل والتفجير والتطهير قد يفرض مطلب او شرط التقسيم باعتباره أحسن الحلول السيئة بحيث يمكن التحكم والتأثير في الأجزاء المتشظية سواء من جانب ايران في الوسط والجنوب (الشيعة) او من جانب تركيا في كردستان في الشمال.(49/276)
ـ خطر اتجاه العراق بعيدا عن محيطه العربي وغرقه في محلية وعراقية ضيقة : مثلما يدعو البعض حاليا الي مفهوم الامة العراقية، بحسن نية او من دونها، وادارة الظهر الي كل ما يمت للعروبة بصلة، خاصة اللغة العربية فلا يمكن ان يبقي العراق موحدا من دون هوية العراق القومية ولغته الرسمية العربية.[ دستور العراق.. خطوة للأمام أم للخلف ، حسين عبدالرازق ، جريدة الوفد المصرية ، السبت 29 أكتوبر 2005] .
" الولايات المتحدة الامريكية تسير على نهج التفتيت وشرذمة المجتمع في العراق. انها تفعل ما فعلته في التسعينات في رواندا عندما تركت الملايين من الناس عرضة لتصفيات عرقية وحشية لم تر البشرية لها مثيل من قبل. الفرق انها اليوم مسؤولة مباشرة عما "يمكن ان" يحدث من مذابح في العراق مقارنة برواندا التي وقفت فيها امريكا متواطئة مع لوردات الحرب الاثنية من قبائل الهوتو الذين امروا بقتل مئآت الالاف من المدنيين التوتسي. امريكا اليوم تهئ لرواندا اخرى في العراق من خلال محاولة امرار دستور (الدولة الفيدرالية) .. والتأجيج المذهبي الحقير بين صفوف الجماهير " .[ انهم يخططون لرواندا جديدة في العراق ، عصام شكري ، موقع الحوار المتمدن ، بتصرف ]
الخاتمة
الحَل
العراق منذ القديم يشكل وحدة جغرافية سياسية واحدة من عهد حمورابي قبل الميلاد مرورا بعصر الخلفاء الراشدين والي الدولة الاموية ثم العباسية والتي دامت 800 عام وجاءت بعدها دول ودول مرورا بالدولة العثمانية وانتهاء بجمهورية العراق التي احتلها الغزاة عام 2003.
[ تقسيم العراق نموذجا في المنطقة العربية ، محمد صالح المسفر، القدس العربي 30/8/2005 ].
أن العراق لم تكن به مشكلة في يوم ما فيما يتعلق بوجود نقص في موارده أو شحّة في ثرواته الأمر الذي يؤدي إلى الفتن والاقتتال كما يحصل في بعض الدول، بل إن محنته تتمحور بحق في طبيعة أنظمة الحكم التي أساءت استخدام مصادر السلطة والثروة بعيداً عن كل ما يمت إلى مبادئ العدل والأنصاف بصلة، وافتقاره إلى مؤسسات مدنية رصينة كان آخرها النظام الشمولي السابق والذي حوّل العراق بشعبه وأرضه وثرواته إلى ممتلكات تعود إلى عائلته وأقطاعات توزّع على عشيرته فأساء بالنتيجة إلى نفسه ولكل العراقيين بمختلف مذاهبهم.
ولم تكن من أولويات مشاكل المجتمع تلك الفسيفساء المتجانسة من القوميات والأديان، كما لم يكن الإنسان العراقي- حينما يكون متحرراً من الاعتبارات الحزبية والعشائرية والنعرات الانفصالية- حسّاساً تجاه التنوع العرقي أو الطائفي إذ طالما تعايش الجميع لمئات السنين تحت خيمة العراق الواحد، وتسنم مقاليد السلطة وتبّوء المناصب الرفيعة سواء في الإدارة أم في القضاء أفراداً من قوميات مختلفة، ولم يكن ذلك مثار جدل أو مدعاة مشكلة.
وإذا كان الخطاب السياسي لمن كانوا يسمون أنفسهم مسبقاً بالمعارضة كان يستند على أساس رجم الحكم المستبد الدكتاتوري وإدانة ممارساته القمعية مما يستوجب الآن أن يعاد تفكيكه وتعاد صياغته لأن النظام السابق أصبح في ذمة التأريخ، كما وأن الظلم والاضطهاد الذي مارسه النظام السابق قد تم توزيعه بعدالة على جميع أطياف المجتمع العراقي بدون استثناء ويشهد قادة الأكراد أنفسهم بنزوح أعداد كبيرة من العوائل من مناطق الجنوب والوسط باتجاه الشمال هرباً من بطش الأجهزة القمعية للنظام السابق، أي أن الموقف من المعارضين لم يكن في الجنوب أقل منه وحشية عما هو في الشمال أو الوسط.لهذا يجب على القوى الوطنية العراقية الالتفات إلى مستقبل العراق من منطلق الحفاظ على هويته وبلورة ثوابته وعدم السماح بجني مكاسب يتم الحصول عليها في عراق محتل ،وأن لا تكون الفيدرالية والمطالبة بمدينة كركوك الغنية بالنفط وترحيل العرب منها أساس للمساومة لأن من شأن ذلك الأضرار بالمصلحة النهائية للعراق الواحد الذي يتطلب الآن مقارعة العصبية القبلية أو التطرف الديني والطائفية والعنصرية والنزاعات الانفصالية التي تقف وراءها أطراف عديدة وإنما يجب إلغاؤها من قاموسه .(49/277)
لم يكن العراق ليصل إلى هذا المفترق الخطير لولا الديكتاتورية التي أدت إلى الاحتلال، ولولا أن المشاعر الدينية طغت على الشعور الوطني المشترك، ولولا أن استشراء التعصب الطائفي لمتهوري السنة والشيعة دمّر إمكان التوحد بعدما أعلى شأن الماضي على المستقبل ، واستمد زاده الفكري من تواريخ التفرقة بدل الوحدة ، لذلك فإن العراق اليوم أمام تحدٍ كبير يحاول عقلنة النزعات الطائفية السنية والشيعية المتفجرة والقومية الكردية الناهضة من قمع تاريخي، لترويضها جميعاً في إطار ولاء عراقي يصعب أن نسميه هوية جامعة بل مجموعة قوانين وتوجهات ذات مرجعية ثقافية وتاريخية مشتركة وذات مضمون تعددي حضاري ولا نجد معيناً على ذلك أفضل من ( الاسلام ) بمفهومه الواسع مظلة لاستيعاب الجميع . هذا هو تحدي العراقيين، إنه تشكيل هوية جديدة ليست عربية خالصة ولا عراقية خالصة ولا مذهبية خالصة ، إنها خلاصة تأخذ من كل شيء بطرف، بل إنها تسوية حول هوية جديدة لا تزال بحاجة إلى تحديد ، يكون منطلقها دين الله العالمي والخاتم لسائر الاديان الا وهو الاسلام بسماحته وعدله .
تنبيه : هذا الكلام لا يتعارض مع الأحتفاظ بالخصوصية المذهبية ، أو معقد الولاء والبراء في العقيدة الاسلامية .
إذا كانت الفيدرالية أرقى نظام سياسي تم التوصل إليه في العالم حتى اليوم، فإنها فيما يعني العراق تبدو مدخلاً إلى أسوأ التطورات التي واجهها شعب من الشعوب. ذلك أن العراق الواقع تحت الاحتلال الأمريكي من جهة، والساقط في قبضة الإرهاب من جهة أخرى يجد نفسه، رغم الجهود الجبارة التي تبذلها قواه السياسية الرئيسة، فريسة رغبة جامحة تتمثل بالديمقراطية القسرية عبر تنظيم فيدرالية تشكل صيغة للتعايش بين فئات المجتمع الرئيسة؛ أي الأكراد والسنة العرب والشيعة وهي في جوهرها تفتيت أو تقسيم أو اضعاف للبلد الواحد .
في ظل هذا الوضع يعاني العراق مأساة يومية يدخل العنف الانتحاري والتفجير العشوائي بين المدنيين فيها عاملاً غامضاً في الحسابات السياسية النهائية لطرفي المعادلة. ذلك أن اختباءه خلف عناوين المقاومة، ونزعته التكفيرية، واستهدافه الشيعة بالقتل تجعل منه عنصراً مشجعاً للطرف المتعصب للفيدرالية، فينزع إلى مزيد من التجزئة تحت ستار "الوحدة الممكنة" واستحالة استعادة التعايش السابق!
[ وانظر : العراق الجديد... هوية تحتاج إلى تحديد ، الكاتب: بشارة نصار شربل ، ( 1-3 ) بتصرف ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ] .
هذا وان كنا نجزم بأن كثيراً من هذه العمليات انما تقوم بها ( مخابرات الدول الشيطانية ) بالتنسيق - ربما - مع حفنة من الشذّاذ والمرتزقة !
ما المطلوب لإبقاء العراق موحدا؟
الجواب ببساطة يتركز في شقين: الاول، جعل وحدة العراق مصلحة للجميع. والثاني، اتفاق اطرافه ومكوناته على مشروع وطني. اذ لا يكفي ان نضع الضوابط الدستورية ضد الانفصال، بل الاهم ان يشعر الكردي ان مصلحته هي البقاء ضمن العراق، وان يكون هناك قبول وتبنّ للمتغيرات السياسية الجديدة، حيث ان الذي جرى عند سقوط النظام في نيسان 2003، هو ان جزءا من العراق اختار المقاومة ورفض عمليا المشروع السياسي لارتباطه بالاحتلال ، في حين ان اجزاء العراق الاخرى فضلت الدخول في اللعبة السياسية في سباق محموم على المكاسب السياسية يسمونها ( استحقاقات وطنية ) !
ان من يقولون بالفيدرالية ويسبّبون ذلك بالمشكل الامني، يريدون ان يحصروا خيار العنف وتبعاته بمن تبناه، وان تنأى المناطق التي فضلت السلم بنفسها عن ذلك لتشرع في التنمية، كما هو جار في اقليم كردستان، اذ الى متى تظل البصرة مثلا التي تنتج 80% من نفط العراق المصدر، وتلتقي عندها انهره وهي عطشى لماء صالح للشرب، والبصرة رئة العراق البحرية الوحيدة مصابة بذات الرئة بسبب الفقر والحرمان !
لذا، فإن الذين يرفضون الفدراليات يجب ان لا يكتفوا بالرفض، اذ يكفي اضاعة سنتين ونصف السنة من عمر العراق وثرواته ودماء ابنائه. ان من يتصدى ويدعي تمثيل من قاطعوا الانتخابات عليه ان يكون كذلك على الارض وليس في الفضائيات وكواليس المساومات السياسية .
[ فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري ، جريدة الشرق الأوسط ، الاحد 16 رجب 1426 هـ 21 اغسطس 2005 العدد 9763 ، بتصرف ] .
وكما قلنا سابقاً : لإفشال هذا المشروع يجب أن تتضافر جهود عراقية وعربية معاً؛ جهود سنية وشيعية على السواء. ينبغي كشف وتعرية التوجهات الطائفية الشيعية التي تهدد وحدة الجماعة والأمة، والتوجهات الطائفية السنية الوافدة أو المحلية التي تستخدم عصا التخويف لشيعة العراق. ينبغي إدراك المخاطر التي يحملها هذا المشروع الانقسامي على مستقبل العراق والعراقيين، وعلى مستقبل المنطقة ككل، بكل تنوعها الطائفي والإثني.
فلا مانع من رفض الفيدرالية ومسودة الدستور وكل ما له صلة بالاحتلال ومع ذلك يكون هناك اعداد جدي على مستوى القوى السنية وسائر القوى المناهضة للاحتلال للدخول في العملية السياسية من باب ( اختيار أهون الشرين ) ..(49/278)
قال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ? [هود : 88].
عبد الله الرشيد
abd_al r asheed@yahoo.com
1 شوال 1426 هـ
3 / 11 / 2005 م
الموضوع …رقم الصفحة
المقدمة …2
المطلب الأول : صدام وأهل السنة ( هل كان النظام السابق طائفياً ) …5
اعتراضات والردود عليها …7
المطلب الثاني : مناقشات في الفيدرالية …11
مفهوم الفيدرالية …"
صورالفيدرالية ، ومميزات الدولة الفيدرالية …15
أشكال الفيدرالية / الفرق بين الحكم الذاتي والفيدرالية …16
ضمانات انجاح الفيدرالية …17
اهم مرتكزات الفيدرالية في النموذج الغربي …19
موقف العرب والاكراد والاقليات من الفيدرالية …21
بدايات المطالبة بالفيدرالية واقرارها في العراق …24
مبررات دعاة الفيدرالية …25
نصيحة إلى الفيدراليين ( قبل المناقشة ) …28
الفيدرالية المذهبية …29
وشخصيات سنية تطالب بالفيدرالية ايضاً ! …34
موقف بعض القوى الشيعية من الفيدرالية ( الشيخ الخالصي نموذجاً ) …35
وآخرون رفضوا الدستور المنظر للفيدرالية …37
مساوئ النظام الفيدرالي ( أسباب رفض أهل السنة وكثير من القوى الوطنية للفيدرالية المزعومة ) …39
السياسة الأمريكية في التفكيك والتقسيم …64
ما يخشى على العراق …72
ثلاثة اخطار تهدد العراق …73
خاتمة : الحل …75
ما المطلوب لإبقاء العراق موحدا؟ …78
================(49/279)
(49/280)
أمريكا والطائفية !
"تتحدث السياسات والأفكار الأمريكية المطروحة على الساحة العربية من خلال الإعلام وعبر أبواق الولايات المتحدة عن المساواة وحقوق المواطنة والعلمانية وفصل الدين عن الدولة وما شابه ولكن الممارسة الأمريكية الفعلية في واقع الأوضاع السياسية في الوطن العربي تكذب هذا الزعم وتشير إلى أن أمريكا تنطلق في هذه الممارسات من موقف يكرّس الطائفية والمذهبية والعنصرية في أشد صورها تخلفاً.
كما تكشف هذه الممارسات عن أن أمريكا توجّه دعاوى العلمنة ونبذ الدين إلى الأغلبيات الإسلامية وحدها بينما تتوجه إلى الأقليات الدينية غير المسلمة بفكر التكتل الطائفي والحشو والتعبئة والتعبير عن الهوية وفق أسس دينية محضة تتمحور حولها ذاتية وكيان تلك الطوائف وصولاً بعد ذلك إلى هدف الاستقلال والانفصال والانعزال عن الوطن الواحد إسلامي الهوية.
وقد ترنحت هذه السياسة المتناقضة التي تمثل أحد أبرز جوانب ما أصبح يعرف بازدواجية المعايير في المواقف الأمريكية إلى حد أنها وصلت في العراق إلى تقسيم المسلمين إلى طائفتين أو ديانتين متصارعتين هما السنّة والشيعة وذلك عندما لم تجد أقليات مسيحية ذات وزن عددي يسمح بإجراء لعبة الطائفية معها كما لم تجد أي ديانات أخرى بنفس الغرض.
ويدل هذا على أن الاعتماد على القسمة الطائفية كأساس لتحقيق أهداف السياسة الأمريكية قد أصبح أمراً أصيلاً عند ساسة الولايات المتحدة وصانعي قرارها.
وهكذا وبين يوم وليلة كما خُيّل للناس وجدنا القيادات والمراجع الشيعية المشهورة وذات الأتباع تتحدث وتتصرف كما لو كانت تمثل ديناً مستقلاً عن الإسلام وهو دين يبحث عن الاستقلال وتحقيق الكيان بمعزل عن باقي أهل العراق من السنّة عرباً أو أكراداً، واستمراراً لمخطط التأصيل الطائفي الذي تزكيه أمريكا وجدنا في العراق نمطاً شاذاً من أنماط التقسيم يضاف إلى نمط التقسيم الطائفي ألا وهو التقسيم العرقي الذي يسري على أبناء طائفة دينية معينة ليزيد من إضعافهم. بينما لا يسرى على أبناء الطائفة الأخرى بل يسري العكس منه تماماً فلكي يتحول السنّة في العراق إلى أقلية، بالغ في الإقلال من حجمها وفرض عليها وداخلها وحدها التقسيم بين عرب وأكراد وهو تقسيم قائم على أسس لغوية وعرقية وجغرافية وبالتالي تحول الحديث إلى الأكراد كأمة قائمة بمفردها وأساس هويتها هو القومية العرقية واللغوية، وليس الدين أو المذهب [السنّي] أما أهل السنة [العرب] من العراقيين فقد تحولوا إلى كيان يتم تحديد هويته ليس على أساس القومية اللغوية أو القبلية الطابع وإنما على أساس المذهب الذي تحول في عرف الدعاية الأمريكية إلى ما يشبه الدين القائم بذاته وليس إلى المذهب الفقهي الأكثر شيوعاً بين المسلمين.
وبهذا التحديد التعسفي للعرب السنّة [بعد فصل الأكراد السنّة عنهم على الأساس والأرضية القومية] تحول هؤلاء إلى أقلية ضئيلة يقدرونها بحوالي 20% من سكان العراق ويزيد من تقليل أعدادهم أنهم عزلوا عن سائر عرب العراق [من الشيعة] وهم يشكلون على أساس هذا التعريف القومي [العروبة] الأغلبية الكبرى والساحقة من العراقيين.
وعلى الجانب الآخر فإن تعريف الشيعة أو تحديد هويتهم على أساس ديني / مذهبي / طائفي بحت لم يدخل معه ـ كما في حالة السنّة ـ تقسيماً عرقياً قومياً آخر يؤدي إلى تفتيته. وبالتالي فلم يشر أحد إلى انقسام الشيعة في العراق بين ذوي الأصول العربية وهم الكثرة الساحقة وذوي الأصول الفارسية وهم أقلية ضئيلة، وحدث العكس تماماً حيث جرت عملية إدخال أعداد كثيفة للغاية من العرب [الإيرانيو الجنسية والقومية واللغة] إلى العراق لكي يدخلوا ضمن أعداد الشيعة العراقيين ويكثروا من هذه الأعداد. وفي هذه الحالة ومع الرغبة ذات الطابع الطائفي في إظهار الشيعة كدين يدين به الغالبية الساحقة من شعب العراق جرى التغاضي عن الانقسام العرقي أو القومي هذا داخل صفوف الشيعة بينما لم يجر التغاضي عن الانقسام القومي داخل الصف السنّي [عرب/ أكراد] لأن النية مبيّتة لإضعاف كيانهم والإيحاء بأنهم في هيئة العرب السنة ليسوا سوى أقلية ضئيلة فرضت نفسها بالقوة والقهر على سائر العراقيين [الشيعة والأكراد والأقليات الدينية الضئيلة الأخرى] وقد حان أوان إعادتهم إلى حجمهم الحقيقي وتسليم الحكم والسلطة والثروة إلى الأغلبية الحقيقية.
إن هذا التوجه الطائفي الواضح هو الذي يحكم السياسة أو الإستراتيجية الأمريكية في العراق بل وفي المنطقة كلها".
[ انظر: أمريكا والطائفية ، د. محمد يحيى ، موقع مفكرة الاسلام ، تقارير رئيسية ، 26 نوفمبر 2005 م] .
لماذا فشلت أمريكا بإثارة الحرب الأهلية في العراق ؟(49/281)
لفت انتباهي حقيقة أن كل محاولات الفتنة لم تنجح بحمد الله رغم كثرتها وقوتها أحيانا - أقصد حين يُقتل عدد كبير من الشيعة مثلا - فكنت أقول أن كل هذه المحاولات كانت ستنجح فعلا لو أنها انطلت على أهل العراق .. لكنها لم تنطل عليهم بفضل الله وكرمه !ولا أخفيكم أن ذلك أثار دهشتي .. مع إعجابي طبعا ولكنني فكرت كثيرا في الأمر فرأيت أن عدم نجاح كل هذه المحاولات يعود لأحد أمرين:إما أن جهود المخلصين العاملين على درء الفتنة أكبر من كل جهود العاملين على زرعها - مع أن كل وسائل الإعلام بيد العاملين على زرعها - فانتصر المخلصون ..أو - وهو ما أرجحه حقيقة - أن أهل العراق يرون الحقيقة بأعينهم ويعلمون أن أمريكا وأعوانها هم من وراء زرع الفتنة الطائفية ويعلمون يقينا أن أمريكا هي وراء التفجيرات القذرة ..وأنهم لا يعانون من هذه الطائفية بشكل حقيقي على الأرض وإنما هو أمر من نسج الإعلام ..
وآخرون يعتقدون بأن أمريكا قد تنجح في اثارة الفتنة الطائفية :
الإنسان محتوى وترجمته مواقفه أفعالا واقولا ويبدو ان كثير من الناس الذين يتحدثون عن الإخوّة الشيعية السنية حالمون لان هناك مشكلة ربما لم يدركوها حتى الآن تتلخص في ان الكمّاش ((كمّاش الفتنة)) ذو فكين أمريكيين ومع إيماني التام بان الشيعة المستقلين وقبلهم السنة المستقلين يرفضون هذه الفتنة شكلا وموضوعا فإنني أُدرك ان الكمّاش ينجح تدريجيا بتسويغها في الفئتين وللإضاءة أكثر لابد من تقرير حقيقة تتلخص في ان الفكين ألزرقاوي والأحزاب السنية المشبوهة من جهة وقوات بدر والأحزاب الشيعية المشبوهة من جهة أخرى بيد أمريكية تحركها بنجاح كبير فيما يُسرّّع الفتنة ويزيد من حجمها والإعلام الأمريكي كله تقريبا حتى الصليب الذي لا يخضع لأمريكا يهمهه كثيرا أمر هذه الفتنة وأذكّر بالكتاب الأبيض البريطاني والآن اسأل عن سر إصرار جماعة ألزرقاوي على إضفاء طبيعة طائفية مع كثير من الشخصيات السنية على هذه الحرب القذرة وسر ترحيل كثير من السنة في جنوب الوطن وانخراط كثير من الشيعة وبدفع من الأحزاب المأجورة في سلك الشرطة والحرس الوطني زيادة على ربط سنة اليوم بأمية الأمس البعيد وبعثية الأمس القريب مع علم الجميع بان القضية مقلوبة تماما فان معظم المدن الشيعية كانت مقفلة لحزب البعث وان كل وان كل المحاولات لإسقاط النظام ألبعثي كانت سنية إذا ما استثنينا المحاولة الشعبانية التي تآمر بوش الكبير مع صدام لإحباطها وعود على بدء من خرج على علي "عليه السلام" ومن قتله ومن غدر بالحسين "عليه السلام" ومن قتله ثم ليتابع كل منصفي سيرة أهل البيت" عليهم السلام" ولينظر بدقة من المسئول مباشرة عما حل بهم في حياتهم وعن التشويه الذي لحق بهم حتى الآن
هل يُسر أهل البيت ان تقف الأحزاب مرتدية زيهم إلى جانب الصليبية ضد إخوانهم في الدين؟
ان الحرب الأهلية في تصوري توشك ان تقوم من سجون الحكومة العراقية ومعتقلاتها حيث الظلم الذي يفوق محاكم التفتيش وحيث الطبيعة الطائفية لهذا الظلم الذي يفرض على كل معتقل ان يخرج طائفيا زرقاويا على الرغم من انفه وفي تفاصيل ذلك ما يدمي القلوب ويقرح الجفون ولا يخفى على الحالمين أمره.
[الحالمون ، محمد أمين ، موقع اذاعة العقاب ، 22/9/2005].
سادساًً : تغييب الصوت العاقل والمعتدل ولغة التفاهم والحوار العلمي والوطني واستبدالها بلغة الرصاص وقطع الرؤوس ، وهذا أحد عوامل تفاقم الوضع الطائفي في العراق وهو تصدر الامعات ونفعيي الاحزاب والوصوليين والمرضى نفسياً والحاقدين والغرباء وبعض المرجعيات المشبوهة للساحة العراقية وسيطرتها تماماً على مقاليد الأمور في البلاد وفي المقابل جرى تهميش واقصاء وقتل المثقفين والوطنيين والمعتدلين وبعض المراجع العاقلة والحريصين على مصلحة البلد ، ففرغت الساحة وضعف الصوت الوسطي الهاديء وعلت أصوات الغوغاء والهمج الرعاع وسادت لغة العنف التهديد وشراء الضمائر والاقلام بالاموال والمناصب والرشى ، فباض هذا التوجه وعشعش وفرخ في بلادنا وتحول بمرور الوقت الى ما يشبه ( عصابات المافيا ) تخرس كل صوت يقف في وجهها إن بالترغيب أو الترهيب .
سابعاً : المناسبات الدينية الشيعية ، لا شك أن مقتل سيدنا الحسين بن علي عليه السلام وجمع من أهل بيته وأصحابه في واقعة كربلاء حادثة محزنة والجرح الذي خلفته في قلوب المسلمين لا يقل عمقًا وألمًا عن الجروح التي خلفها مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم عمر وعثمان وعلي سلام الله عليهم أجمعين.
بالإضافة إلى هذه المآسي فقد شهد تاريخ الأمة حوادث مأساوية أخرى كثيرة قتل فيها خلفاء ورعايا من أبناء الأمة الإسلامية بطرق وحشية قل مثيلها، وذلك خلال الهجمات والغزوات البربرية التي تعرض لها المسلمون على يد المغول والتتر والصليبيين والصهاينة.ولو راجعنا التاريخ لوجدنا أن أعداد النساء والأطفال والشيوخ الأبرياء من المسلمين الذين قُتلوا في كل غزوة من هذه الغزوات يفوق مئات أو آلاف المرات عدد الذين قتلوا بواقعة كربلاء. ومع ذلك لم نجد من ينصب لهم مأتمًا ليحيي ذكراهم.(49/282)
ومن هنا يتبين أن إحياء ذكرى واقعة كربلاء بهذا الشكل الذي نراه ونسمعه في كل عام وبهذه الطريقة المقززة للنفس فهي ليست مجرد إحياء ذكرى وإنما هناك أهداف أبعد مما يتخيله البسطاء من الشيعة وسائر المسلمين الذين غلبت عليهم العاطفة والغفلة وعدم الدراية والمعرفة بالدسائس التي حاكها أعداء الإسلام وما زالوا يحيكونها من خلال هكذا مناسبات.
فلو كان هذا الأمر فيه منفعة للمسلمين لما توانى عنه علماء الأمة ومجاهدوها الذين نراهم اليوم يبذلون أقصى جهدهم للوقوف في وجه المخططات الخبيثة التي تستهدف النيل من المقدسات الإسلامية عاملين كل حسب طريقته التي تتناسب مع الزمان والمكان. بينما نجد المدعين للإسلام يشغلون الناس في إحياء ذكرى حوادث الانشقاق والصراعات الداخلية المؤسفة التي مرت بها أمتنا قبل ألف وأربعمائة عام لزرع الكراهية بين المسلمين وتوسيع شق الخلاف بينهم؛ لتمكين الصليبين والصهاينة من تحقيق أهدافهم.
وهذا منهج خطه الصفويون قبل أكثر من خمسة قرون تقريبًا عندما دخلوا في حربهم مع الدولة العثمانية بالتحالف مع الصليبيين بهدف إضعاف المسلمين وإسقاط دولتهم.
لقد جعل الصفويون التركيز على المسائل الخلافية أحد أهم نصوص المنهاج التربوية لمذهبهم المسمى جزافًا بالمذهب الجعفري؛ حيث عملوا على إظهار أهل السنة بمظهر المعادي لآل البيت وإطلاق تسميات 'النواصب' و'المعادون' عليهم. وقد باتت هذه المسميات يتغذى بها [الشيعي] منذ نعومة أظافره من خلال استماعه للخطب والإرشادات التي تقدم له في المناسبات المتعددة التي ابتدعها الصفويين لنشر ثقافتهم وترسيخها في أذاهن أتباعهم.
وقد قسموا هذه المناسبات إلى شقين: شق يسمى الأفراح، والآخر يسمى الأحزان.
فأما مناسبات الفرح والتي من أبرزها ما يسمى بعيد الغدير , نسبة إلى موقع 'غدير خم' محط رحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من حجة الوداع, حيث اتخذها الصفويون على أنها المناسبة التي تم فيها تنصيب الإمام علي بن أبي طالب خليفة من قبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
أما المناسبة الأخرى فهي ما يسمى بعيد 'فرحة الزهراء'، وهو يوم استشهاد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد فيروز أبو لؤلوة المجوسي.
هذا إضافة إلى ما يسمى بعيد مولد الإمام المهدي المنتظر، وغير ذلك من المناسبات التي ابتدعت لترسيخ ثقافة الكراهية ضد أهل السنة وخلق الشقاق بين المسلمين في العراق وغير العراق.
أما المناسبات الحزينة فمن أهمها مقتل سيدنا الحسين في وقعة كربلاء، بالإضافة إلى 'وفاة الزهراء السيدة فاطمة' رضوان الله عليهم أجمعين.
وهناك مناسبات عديدة أخرى حيث ـ وكما هو معروف ـ إن هناك اثني عشر إمامًا للشيعة، ولكل منهم مناسبة فرح ومناسبة حزن، يتم الاحتفال بها على مدار السنة.
ولكن على الرغم من اختلاف هذه المناسبات إلا أن الخطاب فيهن واحد، وهو قائم على سب العرب والمسلمين وتكفير ولعن الصحابة بدعوى سكوتهم على مقتل أئمة الشيعة على يد الخلفاء الأمويين والعباسيين. وقد أنشأت جراء هذا الخطاب أجيال شيعية متشنجة ومعادية لأبرز الصحابة والخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين ولكل ما هو سني. قد طال هذا العداء حتى المساجد والجوامع السنية؛ حيث نجد أن طهران العاصمة الإسلامية الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها مسجد واحد لأهل السنة، هذا ناهيك عن تدمير عدد كبير من مساجد أهل السنة في مدن إيرانية كبرى كمدينة 'مشهد' عاصمة إقليم 'خراسان'.
وهذا العداء كما سبق وقلنا منشأه النصوص والمناهج الثقافية التي وضعها الصفويون مستغلين حادثة كربلاء كأحد أهم الحوادث السوداء في تاريخ الأمة لإذكاء روح الفتنة وزرع الأحقاد بين المسلمين.
لقد أفهم الشيعي أن أهل السنة معادون لآل البيت، وأن للحسين ثأرًا عند السنة، والشيعة هم أصحاب الثأر، ولهذا فإننا كثيرًا ما نسمع ونشاهد رفع الشيعة شعار 'يا لثارات الحسين'، وهي كلمة تردد باستمرار على ألسنة خطباء المجالس الحسينية، وتكتب على اليافطات السوداء، ويحملوها الصبية والشبان الشيعة المغفلون وهم يسيرون بها في المواكب ومسيرات اللطم ومهرجانات شق الرؤوس [التطبير]، خصوصًا في مثل هذه الأيام دون أن يعرفوا أبعاد هذه الشعارات وما هي مقاصد واضعيها.
نقرأ في سيرة الحسين سلام الله عليه أنه كان يبكي يوم كربلاء حزنًا على قاتليه الذين سوف يدخلون النار بسببه، وهذا قمة الخُلُق والإنسانية. إذن فطالما كان الحسين يتعامل هكذا مع خصومه فلماذا يجعل مدعيّ حب الحسين ذكرى مقتله وسيلة لنشر البغضاء والعداوة بين المسلمين المحبين للحسين؟!!(49/283)
واللافت للنظر أيضًا أنه في مثل هذه الأيام يكثر الشيعة من القول بشعار 'هيهات من الذلة' المنسوب لسيدنا الحسين، ويجعلونه في مقدمة الشعارات التي ترفع في هذه المناسبة. فإذا كان المقصود من هذا الشعار هو عدم الرضوخ والذلة للغازي والمحتل والظالم للمسلمين فإن هذا الشعار أصبح لا معنى له اليوم، بدليل أن الغزاة يسرحون ويمرحون في ديار الإسلام، وهذه حوزة النجف العلمية التي تتزعم مرجعيته الشيعة في العالم وتسير مواكب اللطم وشق الرؤوس نراها تحاط بدبابات الغزاة والظلمة من الصليبيين الذين انتهكوا حرمة المقدسات الشيعية في العراق قبل غيرها، فأين إذن شعار 'هيهات من الذلة'؟!!
هذا وناهيك عن أن الغزاة لم يقف عدوانهم عند انتهاك المقدسات الدينية فقط، بل إنه بلغ قتل النفس المسلمة وانتهاك الأعراض والنواميس وتدمير البيوت والممتلكات وذلك كله أمام مرأى ومسمع أرباب الحوزة وخطباء المجالس الحسينية الذين يعتلون المنابر في عاشوراء محرضين الناس على الفتنة والكراهية.
لقد بات معلومًا أن المقصود من وراء شعار 'هيهات من الذلة' لا يعني عدم الذلة والرضوخ للحاكم الظالم أو المستبد كما يحاول دهاقنة المذهب الصفوي ترويج ذلك، وإنما المقصود منه هو عدم قبول الشيعة لنظام يحكمه سني، حتى وإن كان هذا الحاكم عادلاً؛ فانتمائه إلى أهل السنة يستوجب رفع شعار 'هيهات من الذلة' في وجهه.
لذلك نرى أن أحياء ذكرى واقعة كربلاء بما هي عليه من هذا السلوك والأساليب والثقافة ما هي إلا عاملاً اساسياً لرفد مشاعر الكراهية الطائفية في الوسط الشيعي لأهل السنة ، ونحن ندعو الشيعة لأن يستبدلوا هذه الثقافة بثقافة أخرى لنشر الوحدة والتآخي بين المسلمين؛ لكي يتحقق هدف الحسين الذي خرج من أجله، ويندثر بذلك فكر أعدائه من الصهاينة والصليبيين والصفويين.
[ انظر: دعوة لالغاء ذكرى عاشوراء ، صباح الموسوي ، موقع مفكرة الاسلام ، تقارير رئيسية ، 9 فبراير 2006 م بتصرف يسير
===============(49/284)
(49/285)
مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي
محمد بن شاكر الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده الرسول الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . أما بعد:
«فليس دين زال سلطانه إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وهيه ـ ضعفه ـ أثر»(1). كلمة حكيمة من عالم خبير، لها ما يصدِّقها من شواهد التاريخ البعيد والقريب على السواء، وهي من جهة أخرى تبين الترابط الوثيق بين حفظ الدين وبين السلطان ـ النظام السياسي ـ؛ إذ السلطان حارس، وما لا حارس له فهو ضائع، أو يوشك أن يضيع.
في أواخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وأواخر الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، نشبت معركة فكرية كبرى، تزعمها أحد الشيوخ(2)، أنكر فيها أن تكون هناك علاقة بين الإسلام والسياسة أو الحكم، أو أن الدين يتدخل في إدارة الحياة، ورأى أن الدين مسألة روحية فقط، وهو علاقة بين الإنسان وربِّه ولا يتعدى هذا الإطار، وعلى إثر ذلك انتفض العالم الإسلامي، وقام علماؤه يردُّون على الشيخ ويبينون زيف رأيه وضلاله (3)، وقد بيَّن أهل العلم فيما كتبوه علاقة الإسلام بالحكم، وأنه يشمل بنظره أمري الدنيا والآخرة.
وقد قيَّض الله لجهود هؤلاء العلماء النجاح، فإنها تمثل الحق الذي جاءت به نصوص الشريعة، وقد تمثلت مظاهر النجاح في عدة أمور:
1 ـ عُقدت محاكمة في الأزهر من قِبَل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر، وعضوية أربعة وعشرين عالماً من كبار العلماء، وبحضور علي عبد الرازق نفسه، وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه، ثم خلصت الهيئة إلى الحكم التالي: «حكمنا ـ نحن شيخ الأزهر ـ بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء: بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء»(4)، كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية (العدل) بالإجماع بفصله من القضاء الشرعي(5).
2 ـ ضَعُفَ هذا الصوت النشاز بدرجة كبيرة، وانكسر الشيخ حتى إنه رفض إعادة طبع الكتاب مرة أخرى حينما عرض عليه ذلك، وهو الذي كان وعد في كتابه بمواصلة البحث في الموضوع.
وهناك من يزعم ـ من محبي الشيخ ـ أنه قد تراجع قبل وفاته عما تضمنه كتابه السابق، فإن كان هذا التراجع صحيحاً؛ فلله الحمد على ذلك، وإن كان غير صحيح فهو على الأقل يدل على عدم اقتناع محبيه بما ذهب إليه.
3 ـ اضطرار بعض مَنْ ناصر الشيخ في رأيه السابق؛ لأن يعلن تراجعه عن رأيه في أن الإسلام رسالة روحية فقط، والإ قرار بأن الإسلام يرعى الدين والدولة معاً(6).
4 ـ اضطرار كثير من أصحاب ذلك التصور إلى عدم الإفصاح الصريح عن تصوراتهم، والتخفي وراء بعض العبارات الإسلامية، بل إظهار أنفسهم بأنهم في الصف المعادي للعلمانية، وأنهم من المؤيدين للمقولة المشهورة: «إن الإسلام دين ودولة»، والاكتفاء في ترويج مذاهبهم بالدس في العبارات، وإن كانت حقيقة مواقفهم لا تخفى على الناقد البصير.
وإذا كان الاتجاه العلماني ـ الذي يقوم على فصل الدنيا عن الدين، ومنع قيومية الدين على الحياة ـ قد هُزم في مجال الأفكار والتصورات وبناء النظريات؛ فإن هذا لم يمنع أن يكون هو المتغلب حقيقة على الواقع السياسي في الأغلب الأعم من ديار المسلمين، فقد ألغيت الخلافة منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، وتفككت أوصال دولها، وصارت تركيا ـ مركز دولة الخلافة ـ دولة قومية علمانية، تنص على ذلك في دستورها، وتحمي علمانيتها بالحديد والنار.
وكذلك فإن الكيانات السياسية التي نشأت على أنقاض الخلافة المهدَّمة؛ هي أيضاً من حيث الواقع والممارسة دول علمانية، وإنْ نصَّ بعضها في دستور البلاد على بعض الألفاظ التي قد توهم خلاف ذلك؛ مثل «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع» أو «المصدر الرئيس» أو نحو من ذلك، فإنك لا تكاد تجد غير تلك العبارة في أي من مواد الدستور مما يثبت صلته ونسبه للإسلام، بل تجد فيه ما ينص على أن الدولة ديمقراطية، أو قومية، أو اشتراكية، ونحو ذلك من تلك الأمور.
وإذ توقفت المعركة الفكرية عند حد هزيمة الفكر العلماني في نفيه لعلاقة الإسلام بالحكم والسياسة، وقبول غالبية هذا الاتجاه بتلك النتيجة ولو ظاهرياً على الأقل (وإن كان يحاول تطويقها والالتفاف عليها من خلال دروب ومسالك متعرجة)؛ فإننا لسنا بحاجة في هذه الدراسة الموجزة للتدليل على فساد النظرية العلمانية في علاقة الدين بالسياسة(7)، ويكفينا الحديث عن النظام السياسي الإسلامي نفسه، فنعرّفه، ونبيّن شكله وحدوده، وإدارته للدولة، وأهم خصائصه، ولا شك أن الحديث عن تفاصيل النظام السياسي الإسلامي؛ يحمل في طياته رداً بليغاً على أصحاب النظرية العلمانية في علاقة الإسلام بالحكم والسياسة.
منهج البحث:(49/286)
النظام السياسي في الإسلام هو نظام أقامته الشريعة، وطبَّقه المسلمون في واقعهم، وقد جرى البحث على أن تتناول موضوعاته طبقاً للمصطلحات الإسلامية نفسها ولطريقة أهل العلم في عرضها في مصنفاتهم، وإذا لاحظنا غياب النظام الإسلامي الحقيقي لأعصر خلت من كثير من دول المسلمين، مما ترتب عليه غربة المصطلحات المستعملة في هذا الشأن؛ فقد يكون من الأوفق ـ مع التزامنا بالمنهج المتقدم ـ أن نقرِّب هذه المصطلحات بلغة العصر، كما نعقد بعض الموازنات بين ما عندنا من الحق وما عند غيرنا من الباطل لتقريب الصورة وتوضيحها؛ مما قد يترتب عليه استعمال بعض المصطلحات من تلك المنظومة السياسية المغايرة.
خطة البحث:
وقد جاء البحث في مقدمة وتمهيد وقسمين.
أما المقدمة: فهي التي بين أيدينا.
وأما التمهيد: فيشمل مبحثين: الأول في تعريف النظام السياسي الإسلامي، والثاني عن التنظيمات الإدارية في النظام السياسي الإسلامي.
وأما القسم الأول: فهو عن أحكام الخلافة وما يتعلق بها.
وأما القسم الثاني: فنتناول فيه بعض المسائل المتعلقة بإدارة الدولة.
وأما الخاتمة: فنتناول فيها مستقبل النظام السياسي الإسلامي في عالمنا المعاصر.
وهذا أوان الشروع في المقصود، نسأل الله من فضله التوفيق والسداد والعون على تحصيله.
المبحث الأول
تعريف النظام السياسي
يُعرَّف النظام السياسي إما باعتباره لقباً، وإما باعتبار الألفاظ المكوَّن منها.
تعريفه باعتبار ألفاظه:
السياسة (لغة) القيام على الشيء بما يصلحه، وسست الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها، وسُوِّس الرجل: إذا مُلِّك أمرهم، والسُّوس: الرياسة، يقال: ساسوهم سوساً، وإذا رأَّسوه قيل: سوَّسوه وأساسوه، والسياسة فعل السائس، يقال: هو يسوس الدواب: إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته(8).
والسياسة بهذا البيان لفظة عربية أصيلة(9)، والسياسة لغة لا تنحصر فيما يتعلق بالدولة وأمور الحكم، وإنما هي القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول ـ بما يصلحه فيجلب له المنافع أو الأمور الملائمة، ويدفع عنه المضار أو الأمور المنافية، ويتحدد لفظ السياسة بما يضاف إليه، فإذا أضفنا السياسة إلى الرعيَّة كان معنى ذلك القيام على شؤون الرعيَّة ـ من قِبَل ولاتها ـ بما يُصلح تلك الشؤون، ووسيلة ذلك الأمر والنهي والإرشاد، إضافة إلى الترتيبات الإدارية والنظامية التي تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية وجلب المنافع لهم ودفع المضار عنهم، يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن «العلم بالسياسة»: «علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها»(10).
والسياسة نوعان: سياسة عقلية؛ يكون تدبير مصالح الرعية فيها موكولاً إلى العقل البشري، وتُسمّى أيضاً سياسة مدنية. وسياسة شرعية؛ يكون تدبير مصالح العباد فيها بمقتضى النصوص الشرعية، وبما دلت عليه أو أرشدت إليه، أو استنبطه العقل البشري مما يحقق مقاصد الشريعة(11).
وقد استخدم الفقهاء لفظ «السياسة» في مصنفاتهم وأرادوا منها عدة معان:
1 ـ الأحكام الشرعية المتعلقة بأداء الأمانات في الولايات والأموال، والحكم بالعدل في حدود الله وحقوقه، وفي حقوق الآدميين(12).
2 ـ ما يسنّه ولاة الأمر مجتهدين فيه ـ من الأمور التي تكون الرعيَّة معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يرد بذلك نص ما دام أنه يحقق المقاصد الشرعية، ولا يخالف أدلة الشرع التفصيلية(13)، وهو ما يعني العمل بالمصالح المرسلة.
3 ـ التعزيز والزجر والتأديب(14).
ونخلص من كل ما تقدم إلى أن السياسة كلمة يدخل تحتها ـ في اصطلاح علماء الإسلام ـ مجموعة من الأحكام الشرعية، سواء منها ما يثبت بدليل خاص أو باجتهاد، يؤدي العمل بها إلى جلب الخير والصلاح لجماعة المسلمين وإلى دفع الشر والفساد عنهم، ولم تكن تعني الاقتصار على الأحكام المتعلقة بالدولة الإسلامية؛ من حيث شكل الدولة أو نوعها أو طبيعة السلطة فيها ومصدرها وكيفية ثبوتها وانتقالها، وشروط القائمين على رأس الدولة والجهة التي لها حق تعيينهم أو عزلهم، والحقوق والواجبات المتبادلة بين الحكام والمحكومين، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالدولة.
لكنه حدث في العصر الحديث نوع من التخصيص لمدلول لفظ «السياسة»، ولم يعد يُفهم منه اصطلاحاً ما قدمناه سابقاً، وإنما صار يُفهم منه ما يتعلق بحكم الدول، وقد وردت عدة تعريفات للسياسة في الاصطلاح المعاصر؛ منها: «السياسة: معرفة كل ما يتعلق بفن حكم دولة وإدارة علاقاتها الخارجية»(15).
«السياسة: علم الدولة..، وتشمل دراسة نظام الدولة، وقانونها الأساسي، ونظام الحكم فيها، ونظامها التشريعي .. كما تشمل هذه الدراسة النظام الداخلي في الدولة، والأساليب التي تستخدمها التنظيمات الداخلية ـ كالأحزاب السياسية ـ في إدارة شؤون البلاد أو للوصول إلى مقاعد الحكم»(16).
وهناك اختلاف في تعريف السياسة في الاصطلاح المعاصر، حتى إنه ليصعب صياغة تعريف واحد يوافق عليه الجميع، إلا «أن هناك قدراً متيقناً متفقاً عليه لتحديد مدلول السياسة، ألا وهو أنها تتعلق بالسلطة في الدولة»(17).
تعريف النظام:(49/287)
النظام لغة: الخيط الذي يُنظم به اللؤلؤ، وكل خيط يُنظم به لؤلؤ أو غيره فهو نظام، ونظام كل أمر ملاكه، والنَّظْم: نظمك الخرز بعضه إلى بعض في نظام واحد، كذلك هو في كل شيء حتى يقال: ليس لأمره نظام؛ أي لا تستقيم طريقته، وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته، والنظام: العقد من الجوهر والخرز ونحوهما، والنظام: الهدي والسيرة، وليس لأمرهم نظام؛ أي ليس لهم هدي ولا متعلق ولا استقامة، وما زال على نظام واحد؛ أي عادة(18).
يتبين بما تقدم أن لفظ «النظام» يُطلق لغة على الأشياء المضموم بعضها إلى بعض، كما يطلق على الشيء الجامع لتلك الأشياء؛ على أن يراعى في ذلك الضم: الترابط الذي ليس فيه تنافر، والاستقامة التي لا يصحبها عوج، والاطراد الذي لا يعتريه خُلْف، وبذلك يمكننا القول بأن النظام: هو مجموع الأشياء المترابطة المتناسقة المتآلفة التي يكون لها ثبات واطراد.
فإذا أردنا تعريف النظام السياسي بالنظر إلى لفظه؛ قلنا: هو مجموعة الخطوات أو الإجراءات المتناسقة التي يتم من خلالها تدبير الأمور وتسييرها بطريقة صالحة. وإذا أردنا تعريفه بالنظر إلى أنه لقب على كيفية حكم الدولة؛ قلنا: هو مجموعة الأحكام وما ينتج عنها من هيئات أو مؤسسات وتنظيمات متعلقة بالدولة الإسلامية من حيث إقامة الدولة وإدارتها والمحافظة عليها وتحقيق غايتها(19).
فيدخل في إقامة الدولة الأحكام المتعلقة بنَصْب الخليفة؛ من حيث حكم توليته وشروطه وواجباته وحقوقه وكيفية اختياره، وصفات من يختاره، وكيفية انتقال السلطة وموجبات ذلك، وحدود صلاحياته.
كما يدخل في إدارتها: الأحكام المتعلقة بالسلطة؛ من حيث أنواعها، ومصدرها،والقيود التي ترد عليها، وأحكام الوزارة و الولايات وتقسيم البلدان، وإنشاء المرافق العامة، وأحكام الشورى، وصفات من يتولون المناصب العامة، ويدخل في ذلك الحديث عن وضع أهل الذمة في النظام السياسي، وكذلك وضع المرأة.
كما يدخل في المحافظة عليها وتحقيق غايتها الأحكام المتعلقة بالعمران والتنمية، وحقوق الرعية وواجباتها، كما يدخل في ذلك الأحكام المتعلقة بأمن المجتمع؛ من حيث الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصب القضاة وإقامة الحدود، والرقابة والمتابعة (الحسبة)، كما يدخل في ذلك أحكام العلاقات الخارجية، وكل ذلك يتضافر معاً ليكون وحدة واحدة هي النظام السياسي الإسلامي.
وهذا التقسيم الذي أوردته إنما هو تقسيم اجتهادي، وإلا فقد يدخل شيء مما ذكرته في موضع ما، تحت موضع آخر، أو يدخل في أكثر من موضع لارتباطه وتشعبه، ويدخل تحت ما تقدم جزئيات وفرعيات كثيرة تمثِّل في مجموعها أحكام النظام السياسي في الإسلام، وهذه الأحكام وما تعلق بها من تنظيمات أو هيئات مبثوثة في الكتب الشرعية، سواء منها ما يقتصر على الأحكام الخاصة بالنظام السياسي والتي عُرفت باسم «الأحكام السلطانية»(20)، أو ما يتعرض للأحكام الشرعية كلها؛ مثل كتب الفقه والتفسير وشروح الحديث النبوي الشريف، وهناك طائفة كبيرة من هذه الأحكام في الكتب التي تقدم وصايا خُلقية أو إدارية للوزراء والأمراء، وكذلك كتب الخراج.
المبحث الثاني
في التنظيمات الإدارية في النظام السياسي الإسلامي
التشريع في الإسلام ـ تحليلاً وتحريماً، تصحيحاً وإبطالاً، في أفعال الناس وأقوالهم واعتقاداتهم ـ إنما هو لربِّ الناس الذي خلقهم ورزقهم، والذي يبعثهم من بعد موتهم ليحاسبهم عما قدَّموا في حياتهم الدنيا، والناس بمعزل عن التشريع، سواء كانوا جماعة أو هيئة أو حتى أمة ودولة، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً، وأقوال العلماء في ذلك واضحة جداً(21).
وهناك أمور ليست من التشريع، وإنما هي من التنظيم والترتيب الذي بها ينتظم العمل ويحقق الأهداف المرجوة منه، فهذه لا حرج فيها ما دام أنها لا تخالف الشريعة في شيء(22)، وهذا النوع من الترتيب والتنظيم أو التنظيم الإداري لا تستغني عنه أمة من الأمم، سواء كان ذلك في عصر التقنية المتقدمة، أو في الأعصر التي سلفت.
لكن هذه التنظيمات والترتيبات الإدارية قد لا يظهر الاحتياج إليها دفعة واحدة، بل قد يظهر في زمن دون زمن؛ ارتباطاً بكثير من العوامل التي تؤثر في ذلك إيجاداً وعدماً، ولذلك فإن النظام السياسي الإسلامي لم يعتن بإيجاد تلك التنظيمات قبل الحاجة إليها، في الوقت الذي يعمل على إيجادها كلما حدث ما يستوجب وجودها، وهذه التنظيمات الإدارية أو المرافق يدل عليها الشرع؛ إما بالدلالة المباشرة عليها، وإما بالدلالة على أصل ترجع إليه، وإما بالبراءة الأصلية التي تقتضي أن الأصل في المنافع الإباحة إلا ما منع منه الدليل، فمثلاً قد تكون الدولة صغيرة، كدولة المدينة المنورة في أول أمرها، ثم تتسع الدولة وتكبر بالفتح، فتحتاج حينئذ أن تُقسَّم إلى وحدات إدارية ليسهل ضبطها وإدارتها، ويستتبع هذا التقسيم وجود ولاة وقضاة وأئمة وشرطة لكل قسم من الأقسام، ويحتاج ذلك إلى تنظيم وترتيب لم تكن إليه حاجة من قبل التقسيم.(49/288)
وكذلك أمور الجيش، فالجيش قديماً كان لكل مقاتل فيه سلاحه الخاص به، وكان مقدوراً على إحضار السلاح وصناعته بمجهود يسير، ومع التطور المذهل في أنواع الأسلحة وتقنيتها والاحتياج إلى التدريب عليها قبل استعمالها، إضافة إلى استحالة قدرة الأفراد على صناعتها أو حتى شرائها، ثم الاحتياج إلى صيانتها وتحديثها، يصبح وجود جيش ثابت منظم ومدرب من الأمور التي لا غنى عنها للقيام بفريضة الجهاد طلباً ودفعاً، ومع وجود الجيش الثابت تظهر الحاجة إلى التنظيم؛ كتقسيم الجيش إلى وحدات أو أفرع، كل فرع له سلاح يستخدمه، ثم وجود هيئة مسؤولة عن التدريب وأخرى عن الصيانة،وقس على ذلك أموراً كثيرة.
فهذه أمور لم ينظِّم الإسلام الجانب الإداري منها المتعلق بالخبرة البشرية وبتطورات الحياة وتقدُّم الإنسانية في معارفها؛ لأن هذا الجانب هو بطبيعته متغير متطور بتطور البشرية، وإنما بيَّن الشرع ما يتعلق بذلك من الحلال والحرام والصحيح والباطل، وأطلق في كيفيات التحقيق والتنظيم والترتيب وإنشاء المرافق المتخصصة التي تخدم تلك المجالات مع الالتزام بأحكام الشريعة وقواعدها ومقاصدها، وهذا لا شك أنه من طبيعة الدين الصالح لكل زمان ومكان، المُصلح لكل زمان ومكان؛ أن لا يُلزمهم بكيفيات تنفيذية يرتبط صلاحها أصلاً بالبيئة التي يُطَّبق فيها، وإذا كانت الشريعة قد أطلقت الكيفيات في مثل تلك الأمور؛ فإن وضع كيفية لذلك ومحاولة جعلها كيفية عامة غير مرتبطة بالزمان والمكان؛ هو أمر مخالف للإطلاق الذي جاءت به الشريعة وقامت عليه تلك الكيفية، وذلك أن غالب الكيفيات إنما هي نتيجة اجتهاد قائم على تحقيق المصلحة في زمان محدَّد ومكان محدَّد، فلا يمكن عدُّه اجتهاداً ملزماً لجميع الأعصار والأمصار، ولكن هذا لا يمنع من وضع نظام يكون محقِّقاً للمصلحة؛ على أن يرتبط دوام ذلك النظام بتحقيق المصلحة، فإذا تغيرت الظروف أو الأحوال التي بني عليها ذلك الاجتهاد؛ أمكن تغيير تلك التنظيمات أو الكيفيات إلى أخرى جديدة تحقق المصلحة نفسها، ونؤكد في هذا الخصوص أن هذا تغيير في الكيفيات والتنظيمات المبنية على تحقيق المصلحة، وليس تغييراً في الأحكام الشرعية، فإن الحكم الشرعي ثابت لا يتغير(23)، وإنما الذي يتغير في هذه الحالة هو الطريق إلى تحقيقه في الواقع، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «والله ـ تعالى ـ لم يحصر طرق العدل وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدلُّ وأظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وقيام الناس بالقسط؛ وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقصد»(24).
ضوابط التنظيم الإداري أو كيفيات التنفيذ:
كيفيات التنفيذ أو تنظيم العمل لا تجري هكذا مطلقاً من القيود، بل نحن هنا أمام أحكام شرعية ثابتة يجب أن تكون حاكمة وحاصرة لكيفيات التنفيذ، وهناك ضوابط شرعية لا بد من مراعاتها في اعتماد الكيفيات أو التنظيمات، وهي:
1 ـ أن تكون محقِّقة للمقصود الذي من أجله وُضعت.
2 ـ أن لا تخالف قاعدة من القواعد الشرعية أو مقصداً من مقاصد الشريعة.
3 ـ أن لا تخالف دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية.
4 ـ أن لا يترتب عليها مفسدة تربو على المصلحة التي تحققها(25).
القسم الأول
من أحكام الخلافة وما يتعلق بها
المبحث الأول: من أحكام الخلافة:
1 ـ تعريف الخلافة وأهميتها:
الخلافة هي أهم مؤسسة في النظام السياسي الإسلامي، فكل المؤسسات الأخرى أو الهيئات فيه تابعة لها، وقد بلغ من أهميتها أن النظام السياسي الإسلامي نفسه سُمِّي بها، فنقول: النظام السياسي الإسلامي، أو نقول اختصاراً الخلافة، وهذا الاسم قد جاء به النص الشرعي، فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : «تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ..» الحديث(26). وقا صلى الله عليه وسلم : «خلافة النبوّة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه، من يشاء»(27).فقد سمَّى الرسو صلى الله عليه وسلم النظام السياسي الذي قام بعده باسم «الخلافة».
والخلافة نظام سياسي تتحقق فيه أحكام كثيرة، أبرزها:
1 ـ أن يكون القائم عليه (الخليفة) مستوفياً للشروط الشرعية فيمن يسند إليه.
2 ـ أن يُسند إليه ذلك المنصب بطريقة شرعية (كما سنذكر لاحقاً).
3 ـ أن يقيم الشريعة بين الرعية، ويحرس الدين من الزيادة فيه أو النقص منه.
4 ـ أن يقوم بسياسة دنيا المسلمين وتحقيق مصالحهم ملتزماً في ذلك بأحكام الشريعة.(49/289)
وقد عرف أهل العلم هذا المنصب الجليل، فقال الماوردي: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»(28)، وقال إمام الحرمين: «الإمامة: رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا»(29).«وكلام سائر علماء العقائد والفقهاء من جميع مذاهب أهل السنّة لا يخرج عن هذا المعنى»(30). ومن هذه التعاريف يتبين أن الخلافة تجمع بين الدين وسياسة الدنيا، ولا تفصل بينهما كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، وعقد الخلافة لمن يقوم بها في الأمة ممن استوفى شروطها واجب بالإجماع(31).
وقد ذكر أهل العلم الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الخليفة، وهي ـ كما ذكرها الماوردي ـ: «الشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة، والثانية: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها، والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض، والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو، والسابع: النسب، وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه»(32)، وهي شروط متفق عليها في الجملة بين أهل العلم، وإن كان بعضهم يُعبِّر بألفاظ مختلفة لكنها تحمل المضمون المتقدم نفسه(33)، وهذه الشروط المتقدمة إنما هي شرط استحقاق المنصب، وأما تولي المنصب فيضاف له شرط آخر، وهو الموافقة عليه واختياره من أهل الاختيار(34).
2 ـ ألقاب القائم على رأس النظام ودلالتها:
يُلقَّب القائم على رأس النظام السياسي في الإسلام بعدة ألقاب؛ منها «الخليفة»، «الإمام»، «الأمير»، وقد جاءت النصوص الشرعية بكل ذلك(35).
دلالات الألقاب:
لقد اختار الإسلام لرأس النظام السياسي ألقاباً تعبر عن توجهات النظام، وتكشف عن حقيقته وأهدافه، فلفظ «الخليفة» يعني أنه ليس ملكاً مطلق المشيئة والإرادة في إدارة الدولة كيف شاء أو أنه يُخلد في منصبه، أو أنه ورثه وراثة، بل هو خليفة خلف من سبقه في قيادة الأمة كما سيخلفه من يأتي بعده، كما يعني أنه يعمل فيما استخلف فيه وفق الغاية والمقصد من نصبه واستخلافه، واللفظ بعد ذلك يشع منه التواضع ولين الجانب وترك التكبر والتعالي على الناس. ولفظ «الإمام» يعني القيادة والقدرة، كما يعني المبادرة، فالإمام قدوة لغيره في العمل بالشريعة والتمسك بها والدعوة إليها، والإمام قائد، فإن الناس تؤمّه وتقصده وهي له متابعة، كما أن الإمام يبادر ويتقدم على غيره فيكون أولهم ولا يكون آخرهم؛ لأن حق الإمام التقدُّم وليس التأخر، والإمامة تعني أن السلطة والقيادة ليست مقسَّمة بينه وبين آخرين بحيث يُستقل بها عنه، سواءً كانوا أفراداً أو جماعات أو هيئات، واللفظ يشع منه بعد ذلك معاني الهيبة والجلال والتوقير. ولفظ «الأمير» يُبرز الجانب الوظيفي في العمل، فهو أمير يأمر وينهى ويُلزم، وعلى الرعية الطاعة والموافقة في الإطار المشروع.
وهكذا فإن الألفاظ الثلاثة تتعاون وتتآزر فيما بينها لتعطي الصورة الكاملة لهذا المنصب العالي والمكانة الجليلة للقائم على رأس النظام السياسي. فكلمة الإمام تُبرز وتوضح حصر القيادة العليا للأمة كلها في الإمام، بينما كلمة الخليفة تُبرز بقوة جانب الاتباع للشريعة في إدارة شؤون الأمة، وكلمة الأمير تُبرز الجد والحزم والهمة في مباشرة الأمور، وهكذا تتعاون هذه الألفاظ لتبين أن منصب رئاسة النظام السياسي في الإسلام منصب كبير، تجتمع فيه القيادة العليا للأمة مع الهيبة والجلال والاحترام والوقار المصحوب بالجد والحزم، وهي قيادة ليست مطلقة بمقتضى نظر الخليفة المجرد مما يظهر له أنه يحقق المصلحة، بل هو مقيد في ذلك باتباع الشرع؛ يدور معه حيث دار، كما أن الهيبة والحزم ليست مع الرعب والفزع ولكن مع التواضع ولين الجانب.
3 ـ نشأة الخلافة:
الخلافة لم تنشأ في الإسلام نتيجة لعقد اجتماعي بين أفراد الشعب؛ يعبِّر عن الإرادة الشعبية في إقامة سلطة تحكم المجتمع وتحقق مصالحه(36)، وإنما نشأت الخلافة نشأة شرعية تستمد سلطانها وأحكامها من الشريعة التي أنشأتها، والدليل على ذلك أمور، منها:
الأول: الأدلة الكثيرة التي تتحدث عن الخليفة والخلافة وحقوقه وواجباته، والتي سقنا بعضاً منها في هذا البحث، ما يبين أن الشرع هو الذي أنشأ الخلافة وأعطاها مصطلحاتها الخاصة بها، وبين حقوقها والتزاماتها.
الثاني: أن المسلمين لم يسبق لهم عهد بهذا النوع من الحكومات، كما أنه لم يكن موجوداً في حواضر المدنيات المعاصرة كفارس والروم حتى يُقال قلَّدوا غيرهم في ذلك، فإذا لم يكن عند المسلمين سابقة في ذلك لا من داخلهم ولا من خارجهم؛ فما بقي إلا أن يكونوا أخذوا ذلك من دينهم.(49/290)
الثالث: مبادرة أصحاب الرسو صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، وهم أعلم الأمة بدين ربها وأفقههم فيه، إلى اختيار من يخلف رسول ا صلى الله عليه وسلم في قيادة الأمة بعد وفاته، حتى إنهم قاموا بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم بعدُ لم يدفن، وهذا دليل على أن ضرورة إقامة الخلافة كانت أمراً معلوماً سابقاً لم يحتج منهم إلى تفكير ودراسة وتشاور. والحوار في سقيفة بني ساعدة بين الصحابة غداة اجتمعوا هناك لم يكن حول أصل الموضوع، وإنما كان حول: مَنْ أحق الناس بهذا المنصب بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ ولم يُؤْثر عن واحد منهم كلمة في مناقشة أصل الموضوع؛ مما يعني أن ذلك كان عندهم معلوماً.
الرابع: أن العباس ـ رضي الله عنه ـ عمَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ طلب من علي بن أبي طالب أن يسأل رسول ا صلى الله عليه وسلم ـ وهو في مرض الموت بأبي هو وأمي ـ: فيمن يكون الأمر ـ الخلافة ـ بعد وفاته؟(37) وهذا وأمثاله يبين أن ضرورة قيام الخلافة كان معلوماً فاشياً بين الصحابة، ومن الذي يكون أعلمهم بذلك غير رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟!
ويتبين مما تقدم أن الخلافة نشأت مباشرة عقب وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم بدون انقطاع، وأن الشرع هو الذي أنشأها بالدلالة عليها والأمر بها، ولم يُقمها الناس من تلقاء أنفسهم لجلب المصالح ودرء المفاسد.
4 ـ طرق إسناد الخلافة لمن يستحقها:
الشخص الصالح لتولي الخلافة هو من تتوافر فيه شروط الصلاح لذلك ـ كما أسلفنا ـ، ولا بد من التأكد من توفر هذه الشروط قبل إسناد الخلافة إليه، فتحقق الشروط مناط استحقاق الخلافة، وعملية التأكد من توفر هذه الشروط في الشخص تُسمَّى تحقيق المناط، وعلى ذلك فدَوْر أهل الاختيار الذين يختارون الخليفة هو تحقيق المناط في الشخص، وإذا وجد أكثر من شخص تتحقق فيه تلك الشروط فتكون هنا المفاضلة بينهم على أساس مَنْ منهم تتحقق فيه الشروط بصورة أكثر من الآخرين، ويكون في الوقت نفسه أكثر مناسبة من غيره لظروف العصر، وبالتالي تُعقد له البيعة ويولى أمر الخلافة، وعلى ذلك فتحقيق المناط يُتطلب فيه أمران:
الأول: النظر في الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يراد جعله خليفة، وهذه مرجعها إلى الشرع؛ إذ هو الذي يحددها.
الثاني: النظر في وجود هذه الشروط وتحققها في آحاد الناس، وهذه تُعلم من المعرفة بالشخص وأحواله، فذلك نوع من الاجتهاد في التحقق من وجود المناط في آحاد الأشخاص(38). ومن البيّن أن طرق الكشف عن وجود المناط في آحاد الأشخاص قد تتعدد وتتباين وتكون كلها صالحة محققة للمقصود، ولا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يوجد إلا طريق واحد لتحقيق المناط، فإن تحقيق المناط تؤثر فيه عوامل كثيرة، منها طبيعة المناط نفسه من حيث الوضوح أو الخفاء، ومنها طبيعة الباحث نفسه من حيث العلم والخبرة، ومنها طبيعة الظروف المحيطة بالموضوع، لهذا كله فقد يختلف تحقيق المناط من بيئة إلى بيئة ثانية، ومن زمن إلى زمن آخر، بل قد يختلف في الزمن الواحد باختلاف الظروف المحيطة، من غير أن يؤثر ذلك على الحكم الأصلي؛ لأن الذي يتغير هو جهد الإنسان في الكشف عن المناط، أما وجود المناط نفسه فلا بد من تحققه في جميع الحالات، وهذا يفسر تعدد طرق التولية التي حدثت في فترة الخلافة الراشدة.
وقد عرف التاريخ السياسي للخلافة الراشدة عدة طرق في اختيار الخلفاء الراشدين، وهي:
أ ـ الاختيار بواسطة أهل الاختيار (الحل والعقد): وهو أن يختار أهل الاختيار رجلاً ممن تتوفر فيه الشروط المطلوبة، وذلك بعد البحث وتقليب الآراء، ثم الاتفاق بعد التشاور فيما بينهم على الشخص المناسب ومن ثم مبايعته، ولا يضر ما يحدث من نقاش واختلاف في هذه الحالة في أول الأمر فذلك شيء لا بد منه، وإنما العبرة بالنهاية حتى يتفق أهل الاختيار، وقد حدث هذا في تولية أبي بكر رضي الله عنه، حيث اجتمع كبار الصحابة منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد بن عبادة، وبعد محاورات تخللتها بعض التباينات في وجهة النظر وقع الاتفاق على أبي بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وتمت بيعته، وهو والله حقيق بها، وكذلك كان الأمر في بيعة علي رضي الله عنه(39).(49/291)
ب ـ الاستخلاف: وهو أن يحدد الخليفة العدل إذا حضرته مقدمات الوفاة شخصاً بعده للخلافة ممن تتوافر فيه شروطها، وممن يسرع الناس إلى قبوله وبيعته، وذلك بعد أن يستشير أهل الحل والعقد فيما رأى من ذلك، كما حدث ذلك في تولية عمر رضي الله عنه، حيث اختاره أبو بكر الصديق، وعمر هو عمر.. فضائله معروفة مشهورة، وهو أفضل الأمة بعد صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر، تتوفر فيه شروط الصلاح لمنصب الخليفة على أعلى درجاتها، ومع ذلك فإن أبا بكر - رضي الله عنه- لم يولِّه بمجرد ذلك، بل شاور في ذلك كبار الصحابة، واستمع لرأيهم، وقد أقر كل من استشارهم أبو بكر بفضل عمر - رضي الله عنه - وصلاحه لذلك، غير أن بعضهم أشار إلى ما في عمر من غلظة، وقد بيّن لهم أبو بكر - رضي الله عنه - أن عمر هو أفضل المسلمين الموجودين على الإطلاق، وأن شدته ستخفّ كثيراً بعد أن يصير الأمر إليه (وقد كان)، وعلى ذلك تمت البيعة لعمر رضي الله عنه (40).
ج ـ أن يجعل الخليفة الأمر بين جماعة ممن يستحقونها: وهو أن يحدِّد الخليفة العدل إذا حضرته مقدمات الوفاة عدداً من الأشخاص الذين تتوفر فيهم صفات الخليفة وممن لهم مكانة ومنزلة عند الناس؛ بحيث يسرعون إلى الموافقة على أيٍّ منهم ومبايعته، على أن يختاروا من بينهم واحداً للخلافة، كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ حين حضرته مقدمات الوفاة، حيث جعل الأمر في ستة أشخاص هم: عثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وهم الذين توفي رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. وقد كان طلحة إذ ذاك غائباً، وعرض عليهم عبد الرحمن أن يخرج منها ويختار لهم منهم واحداً فرضوا، وقد اجتهد عبد الرحمن في ذلك، وأخذ يستشير في ذلك المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وأمراء الأجناد، حتى يقول عبد الرحمن في ذلك: «إني قد نظرت في أمر الناس؛ فلم أرهم يعدلون بعثمان»، وحينئذ بايع عبد الرحمن عثمان بالخلافة، وبايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(41)، قال النووي - رحمه الله -: «إن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت ـ وقبل ذلك ـ يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه، فإن تركه فقد اقتدى ب صلى الله عليه وسلم ، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر، وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة، وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة، كما فعل عمر بالستة، وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة»(42).
ففيما تقدم من الطرق السابقة نجد قاسماً مشتركاً بينها جميعاً، يتمثل في أمرين:
الأول: توافر شروط استحقاق الخلافة في الشخص المختار لذلك.
الثاني: موافقة أهل الاختيار (الحل والعقد) عليه.
وعلى ذلك فكل طريقة للاختيار يتحقق فيها هذان الأمران ـ من غير مخالفات شرعية ـ فهي طريق مقبول شرعاً، وليس يتحتم الأخذ بكل التفاصيل الواردة في الطرق السابقة دون غيرها مما يحقق الأمرين المشار إليهما، فقد كان يكفي في عصر الصحابة - رضي الله عنهم - مثلاً أن يدور عبد الرحمن بن عوف بنفسه على المهاجرين وأصحاب الفضل والسابقة في الإسلام من الأنصار وأمراء الأجناد؛ ليتعرف آراءهم فيمن يختارون ويقدمون، ويرون أنه أحق بالخلافة، لكن هذه الطريقة العملية التي اتبعها عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وإن كانت محققة للمقصود في زمنه فليست واجبة وجوباً عاماً تشمل عموم الزمان والمكان؛ لأنه لم يأت نص يُلزم بها، وإن كانت اجتهاداً موفقاً ومسدداً من الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ في زمنه.
5 ـ واجبات الخليفة:
على الخليفة واجبات شرعية كثيرة كغيره من المسلمين، ولكن هناك واجبات خاصة به بمقتضى ما تكلفه من قيامه بهذا الأمر، وخلاصتها الحفاظ على الدين وحراسته، وتحقيق مصالح المسلمين الشرعية والدنيوية ودرء المفاسد عنهم، وقد فصّل ذلك الماوردي - رحمه الله - فقال:«والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين.
والرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله ـ تعالى ـ عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوِّض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال.(49/292)
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح»(43).
وتحت هذه الواجبات العامة تفصيلات كثيرة، كما تحتاج إلى تنظيمات وترتيبات لتحقيق تلك الواجبات على النحو المرضي، ومن مسؤولية ولي الأمر القيام بهذه الواجبات واستحداث ما تحتاج إليه من تنظيمات وترتيبات ـ على الشروط السابق ذكرها في ضوابط التنظيم ـ(44).
6 ـ حقوق الخليفة على الرعية:
وإزاء هذه المسؤولية المكلف بها الخليفة؛ فإن الشريعة جعلت له على الرعية حقوقاً؛ حتى تكون هذه الحقوق معينة له على تحقيق واجباته ومقاصد الخلافة، قال الماوردي:«وإذا قام الإمام بما ذكرته من حقوق الأمة؛ فقد أدى حق الله ـ تعالى ـ فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة؛ ما لم يتغير حاله»(45).
7 ـ البيعة:
يتم عقد الولاية للخليفة عن طريق البيعة، وفيها يتم بيان وإعلان العلاقة بين المسلمين والخليفة، حيث يكون من الخليفة العهد على الالتزام بالكتاب والسنّة وقيادة الأمة في أمورها كلها بهما، ويكون من المسلمين العهد على السمع والطاعة والنصرة ما دام الخليفة محافظاً على عهده قائماً بالتزاماته، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق، ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»(46)، وكتب عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في بيعته: «إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنّة الله وسنّة رسوله ما استطعت»(47)، وفي بيعة عثمان ـ رضي الله عنه ـ بايعه عبد الرحمن ابن عوف والمسلمون «على سنّة الله وسنّة رسوله والخليفتين من بعده»(48).
المبحث الثاني:
أهل الحل والعقد:
أهل الحل والعقد هم الجماعة من الناس الذين يُناط بهم اختيار الخليفة ومبايعته، وهو تدبير سياسي إسلامي غير مسبوق سواء في لفظه أو في وظيفته، قد استنبطه أهل العلم من السوابق التي جرت في خلافة الراشدين، فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ قد عقد له البيعة كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وعمر لما استخلفه أبو بكر استشار فيه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وعثمان لم يعقد له عبد الرحمن حتى دار على المهاجرين وأفاضل الأنصار وأمراء الجند الذين كانوا بالمدينة وأخذ موافقتهم عليه، وكذلك علي لما جاءه بعض الناس يريدون منه البيعة قال: «إن بيعتي لا تكون خفيّاً ولا تكون إلا على رضا المسلمين»، فبايعه الصحابة في المسجد، وبايعه طلحة والزبير وهما من العشرة المبشرين بالجنة.
ويطلق بعض أهل العلم على تلك الجماعة لفظ «أهل الاختيار»، كما يُطلق عليها أحياناً لفظ «أهل الشورى»(49)، وأحياناً ثالثة «أهل الاختيار والعقد»، وينبغي أن تتوافر في هذه الجماعة شروط تؤهلهم وتعينهم على صواب الاختيار، وقد أجمل الماوردي هذه الشروط بقوله: «فأما أهل الاختيار؛ فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:
أحدها: العدالة الجامعة لشروطها، والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها، والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف»(50).
وهذه الشروط هي بالنسبة إلى أهل الحل والعقد أنفسهم، وهناك شرط آخرمنظور إليه من قِبَل المسلمين؛ وهو أن يكونوا ممن يسرع الناس إلى موافقتهم وقبول اختيارهم(51)، وهذا يؤدي بنا إلى التعرف على مكانة هؤلاء في مجتمع الناس، وذلك أن الناس لا تسرع إلى موافقة وقبول اختيار إلا من تعلمه وتراه بارزاً مشهوراً مشاركاً في مصالح الناس، وعلى ذلك فإن أهل الحل والعقد ليسوا مجرد أُناس عاكفين على العلم والمعرفة منقطعين عن الناس وعن واقع الحياة، فإن هؤلاء أكثرهم مجهول بالنسبة لعموم الناس، فالخامل ـ وإن كان عالماً ـ الذي لا ذكر له ولا جهد في حركة المجتمع أنَّى ينتبه الناس له؟!(49/293)
وأما العدد الذي تنعقد به بيعتهم؛ فليس لذلك حد معلوم؛ إذ لم يثبت بذلك نص، والمتيقن منه في ذلك أن حصول الإجماع ليس شرطاً في ذلك، كما أن الواحد والاثنين اللذين يعقدان من غير مشورة المسلمين لا يصلح ذلك منهما، وقد استعرض أبو المعالي الجويني كل الأقوال الواردة في ذلك، وخلص إلى القول: «فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة»(52)، وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنّة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بُويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاًًًً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم، بحيث يصير ملكاً بذلك ... فمن قال إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضر فقد غلط»(53).
وإذا كانت وظيفة هذه الجماعة على ما هو مسطور في كتب الأحكام السلطانية، هو اختيار الإمام، فإنه من الممكن أن يضاف لها وظيفة أخرى تناسب ذلك أيضاً، لا سيما أن حدود الولايات وصلاحياتها يؤخذ من لفظ التولية والعرف والأحوال(54)، وهذه الوظيفة المضافة لها تعلق بالإمامة، وقد دلت عليها النصوص الشرعية، وهي وظيفة المتابعة والمراقبة لأعمال الخليفة والجهاز التابع له؛ بغرض الحفاظ على التزام النظام السياسي بالشرع وعدم الخروج عليه، وهذه الوظيفة نجد أسانيدها الشرعية في الكثرة الكاثرة من أدلة القرآن والسنّة التي تطلب من المسلمين القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن الحفاظ على شرعية النظام والتزامه من الأمور البالغة الأهمية، ولما كان أهل الاختيار بالوصف الذي ذكرناه عن أهل العلم؛ كان إضافة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجانب السياسي إليهم من أنسب الأشياء.
ويصير مرادنا بأهل الحل والعقد: هم الجماعة من الناس الذين تتوافر فيهم الشروط المطلوبة، وتكون وظيفتهم اختيار الخليفة، ثم المتابعة والمراقبة لالتزام النظام بالشريعة، واتخاذ الموقف الشرعي المناسب بناء على نتائج المتابعة والمراقبة، فيقوم أهل الحل والعقد في هذه الحالة بمهام «الحسبة» ولكن في الجانب السياسي. ولذلك قال إمام الحرمين ـ عندما تحدَّث عن موجبات عزل الخليفة ـ: «فإن قيل: فمن يخلعه؟ قلنا: الخلع إلى من إليه العقد»(55).
تنظيم مؤسسة أهل الحل والعقد:(49/294)
في كثير من الأحيان يظن كثير من الناس أن تحديد الصفات ونحوها ليس كافياً في انضباط الأمور، وإنما لا بد من وجود نظام محدد مرتب بخطوات محددة، ومثل هذا التنظيم والترتيب هو الذي يعوَّل عليه في تحقيق الأمور من غير تلاعب بها أو تحايل عليها، وقد يبدو هذا في ظاهره صواباً، ولكن المشكلة الحقيقية ليست في عدم التنظيم، وإنما تكمن في عدم الرغبة في العمل والتقيد بالصفات أو الضوابط التي تذكر في مثل هذه الأمور، وعند وجود الرغبة في ذلك؛ فإن الأمور ستمضي على النحو المرغوب حتى من غير وجود نظام مكتوب مسطور. وكلما ضعفت الرغبة احتيج إلى التنظيم، وكلما قويت لم يحتج إليه، وهذا يفسر أن أموراً كثيرة كانت تجري في الصدر الأول بدون هذا التنظيم على وجه أحسن وأفضل مما جرى تنظيمه فيما بعد، على أنه ليس هناك ما يمنع شرعاً من تحديد طريق عملي يتم من خلاله التوصل إلى تحديد أهل الحل والعقد، كأن يقال إن الصفات التي ورد ذكرها في حق أهل الحل والعقد ممكن تحقيقها في الواقع؛ بأن نقول إن درجة العلم تتحق بالحصول مثلاً على درجة الأستاذية أو ما يناظرها، وإن أمراء الأجناد حالياً هم ولاة الأقاليم والعواصم وقادة أفرع الجيش، وإن وجوه الناس هم رؤساء القبائل الكبرى، والقضاة، والدعاة المشهورون، ورؤساء الجامعات، ومديرو الشركات الكبرى، والمتميزون في تخصصاتهم التجريبية والإنسانية من أساتذة الجامعات ومَنْ في حكمهم، (والعدالة شرط لا بد من تحققه في الجميع) .. وهكذا، ويصير بموجب هذا النظام أمكن تحديد أهل الحل والعقد. ولا شك أن هذا اجتهاد قد يُعارض فيه من يُعارض، لكنه على الأقل قدم تصوراً محدداً لتكوين مؤسسة أهل الحل والعقد انطلاقاً من المنظومة الإسلامية، وليس من منظومة فكرية أخرى مغايرة، إضافة إلى أنه ليس من اللازم أن يحدث إجماع في كل المسائل المجتهد فيها، وأخيراً نقول: والباب مفتوح لمن يأتي باجتهاد أفضل منه يحقق ويحدد أهل الحل والعقد، ولكن بشرط أن يكون ذلك من خلال المنظومة الإسلامية وبوسائلها، وينبغي أن يكون لهذه المؤسسة رئيس أو أمين أو مدير ينظم عملها الداخلي من حيث الاجتماعات وأوقاتها، ومن حيث إعداد وتجهيز الأمور التي تحتاج إلى بحث وتبادل الرأي وهكذا .
طريقة عملية لاختيار الخليفة:
وبعد أن قدمت هذه الدراسة تصوراً في كيفية تحديد أهل الحل والعقد، نقدم طريقة عملية لقيام مؤسسة أهل الحل والعقد باختيار الخليفة.
المرحلة الأولى: تقوم جماعة من هذه الهيئة (وهم العلماء والقضاة والدعاة) بتصفح أحوال الناس واختيار عدد (وليكن اثني عشر رجلاً) ممن يصلحون للخلافة ممن تتوافر فيهم الشروط المطلوبة.
المرحلة الثانية: يعقد اجتماع موسع لمؤسسة أهل الحل والعقد، ويعرض عليهم المرشحون، مع بيان مسوِّغات ترشيح كل واحد ومؤهلاته التي أهلته (وفق نظام محدد من قِبَل المؤسسة).
المرحلة الثالثة: تتم المداولات والمشاورات لمدة لا تزيد عن ثلاثة أيام في جو من السرية لاختيار أحد هؤلاء المرشحين، ويبايعه الجميع بالخلافة البيعة الخاصة، ثم يُعلن للناس للبيعة العامة، وإذا حدث خلاف بين الأعضاء ولم يتفقوا على شخص واحد؛ كان الترجيح في ذلك بالأكثرية؛ إذ لا مرجح في هذه الحالة غير ذلك، وهو أمر معتد به شرعاً إذا لم يكن مرجح غيره(56).
وهذه تمثل خطوطاً عامة، وفيما رُوي من تفاصيل تعيين عمر ـ رضي الله عنه ـ للستة وما حدث بعد ذلك حتى تمت البيعة لعثمان؛ ثروة ضخمة في هذا المجال يمكن الاستفادة منها في إيجاد تفصيلات كثيرة متعلقة بهذا الشأن، وهي تمثِّل تفصيلات مفيدة قابلة للتحقيق في عصرنا الحاضر؛ إضافة إلى أنها من داخل المنظومة الإسلامية.
قال الماوردي: «فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة؛ فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته»(57).
طرق معاصرة في الاختيار لا تصلح إسلامياً:
قد يرى بعض الناس أو أكثرهم ـ بفعل الدعاية الضخمة للنظام الديمقراطي ـ أننا يمكن أن نأخذ بطريقة الانتخاب في اختيار الصالح للإمامة.
ومجمل هذه الطريقة تقوم على:
1 ـ أن يتقدم شخص واحد أو أكثر؛ إما بصفته الفردية، وإما عن طريق الأحزاب (حسب الأنظمة المعمول بها في كل بلد) طالباً من الناس اختياره ليكون رئيساً للدولة.
2 ـ يقوم الطالب أو الطالبون للرئاسة (عن طريقهم وطريق أعوانهم) بالدعاية، وإظهار محاسنهم، وإبراز أخطاء الآخرين.
3 ـ بعد فترة من بداية التقدم لطلب الرئاسة والدعاية لذلك؛ يتم الاختيار من قِبَل الشعب ممن له حق الاختيار، وهو كل مواطن بالغ عاقل (حسب شروط الانتخابات التي ينظمها القانون في كل بلد).(49/295)
4 ـ يفوز برئاسة الدولة وحكم الشعب فترة زمنية محددة من يحصل على أكبر عدد من المؤيدين؛ أي الأغلبية (سواء كانت الأغلبية النسبية أو الأغلبية المطلقة؛ حسب النظام الانتخابي في كل بلد).
هذه الطريقة قد تكون في مظهرها الخارجي طريقة منظمة، وقد يُخدع بها كثير من الناس، لكن هذه الطريقة غير مقبولة شرعاً لأنها لا تحقق الشروط التي تحدثنا عنها قبل ذلك؛ أولاً: لمخالفتها للأدلة الشرعية، وثانياً: لحصول مفاسد فيها تضيِّع الهدف منها؛ إذ ليس المطلوب الوحيد أن تكون الطريقة محددة منظمة، بل المطلوب الأكبر أن تكون مؤدية لتحقيق الغاية المرجوة منها من غير ترتب فساد عليها.
أولاً: مخالفة تلك الطريقة للأدلة الشرعية:
فقد وردت النصوص بالمنع من طلب الإمارة، ولو خالف المسلم وطلبها؛ فإن النصوص قد جاءت بعدم موافقته على ذلك، فالمنع جاء من جهتين؛ من جهة طلبها، ومن ناحية الموافقة لمن طلبها(58). وأما مخالفتها في تحديد من إليهم الاختيار؛ فهي تُدخل في ذلك رعايا الدولة كلهم بما فيهم من المسلمين، والفاسقين، والكفار، والرجال والنساء، وهذا مخالف لإجماع أهل العلم، فإن أهل الذمة (المواطنين الكفار) لا يدخلون في اختيار الخليفة، وكذلك إجماع أهل العلم على عدم دخول النساء في الاختيار(59). وهذا التحديد لأهل الاختيار في الطرق المعاصرة ناتج من طغيان الفكر الديمقراطي القائم على أن السيادة للشعب، وأن القانون ما هو إلا مظهر للإرادة الشعبية، وانطلاقاً من هذا الفكر يصبح كل مواطن في الدولة (مسلم أو كافر) له نصيب في السيادة، وبالتالي فإن حقه في اختيار الحاكم حق أصيل، وهذا التصور العلماني الذي تقوم عليه الديمقراطية مباين مباينة تامة لدين الإسلام، حيث التشريع فيه لله الواحد القهار، وعلى ذلك أدلة كثيرة جداً من الكتاب والسنّة(60).
ثانياً: اشتمال هذه الطريقة على المفسدة التي تذهب بالغاية منها:
ثم إن هذه الطريقة تشتمل على مفاسد كثيرة تُضيع الفائدة التي تُطلب تحققها، ومنها:
1 ـ إمكانية تزوير الانتخابات في هذه الطريقة نظراً لاتساع رقعة الأرض وكثرة أعداد الناس الذين يحق لهم المشاركة في ذلك، وتنوع الحالات الإيمانية لهذه الأعداد الغفيرة من أقصى درجات قوة الإيمان إلى أضعف الدرجات.
2 ـ إمكانية شراء الذمم المتبادلة بين الناخب وبين الطالب للمنصب، حيث تعقد بينهما صفقة بمقتضاها يمنح الناخبون موافقتهم له، وهو يعطيهم عند فوزه بالمنصب الامتيازات التي تم الاتفاق عليها، وقد تكون هذه الصفقة بين الطالب للمنصب وبين أفراد الناخبين، كما تكون بينه وبين دوائر انتخابية بكاملها، وفي هذه الحالة فإن إمكانيات الدولة تسخر لمصالح الأفراد الشخصية ـ وليس لمصالح الأمة ـ سواء كانوا طالبين للمنصب أو كانوا ناخبين.
3 ـ وجود الدعايات الضخمة الكثيرة، والتي لا تخرج في أغلب الأحيان عن زخرف القول الباطل الذي يقلب الأمور رأساً على عقب فيصور الحق باطلاً والباطل حقاً، فلا يكون الاختيار في هذه الحالة اختياراً حقيقياً، وإنما هو اختيار موجَّه بحسب قوة الآلة الإعلامية لطالبي المناصب.
4 ـ عزوف كثير من الناخبين عن المشاركة في الاختيار - كما تدل على ذلك الوقائع الكثيرة حتى في البلاد التي يقال عنها إنها مهد هذا النظام -؛ مما يجعل الاختيار غير معبِّر عن حقيقة رأي الجماعة، بل هو يعبِّر عن رأي المجموعة النشطة في هذا المجال، وهي التي لها مصلحة مباشرة في هذا الأمر، أو تريد الحصول على مصلحة مباشرة منه.
5 ـ نظراً للدور الكبير الذي تقوم به الآلة الإعلانية في هذا المجال، وما يترتب على ما تزينه الدعاية من فوز أشخاص وإخفاق آخرين، فإنه تكون نتيجة لذلك تكلفة مالية ضخمة تفوق في أغلب الأحيان القدرة المالية لطالب المنصب؛ مما يدفعه بعد الحصول على المنصب إلى تعويض ذلك بكل طريق ممكن.
6ـ كل طالب للمنصب له فريق معاون يعمل معه ليل نهار، وفي حالة الفوز فإن طالب المنصب يعمل على مكافأة هذا الفريق بما تتيحه له صلاحياته أو قدرته على التدخل والتأثير في الأمور.
7 ـ عزوف كثير من العناصر الجيدة والفاضلة عن المشاركة في مثل ذلك؛ لما ترى من الفساد وضياع الهيبة والمروءة في ذلك؛ مما يترتب عليه حرمان الأمة من العناصر التي هي في حاجة إليها، بينما يتقدم من ليس فيهم كبير غناء.
والنظام الإسلامي ـ بحمد الله تعالى ـ منزه عن كل هذه المخالفات والعيوب، حيث لا يسمح فيه للناس بطلب المناصب، وإنما يرشحهم لذلك أهل الحل والعقد، وهم من أفاضل الناس ومن المشهود لهم بالعلم والصلاح والمكانة الأدبية بين الناس؛ لذا فإنه ينتفي في حقهم ما لا ينتفي في حق الآخرين، وكل ما يوجد من خطأ في حقهم؛ فهو في غيرهم أضعاف مضاعفة، وكل ما عند غيرهم من خير؛ فهو فيهم أضعاف مضاعفة.
وكل ما يمكن أن يتصور من قصور في ذلك؛ فهو منغمر في جانب المصالح العظيمة المتحققة من ذلك، ونحن مطالبون عند التعارض ـ إن وجد ـ بتحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، والطريقة الشرعية المتقدمة كفيلة بأن تأتي بأفضل الناس علماً وديناً وكفاءة وقدرة على العطاء والتحمل.(49/296)
مهام أهل الحل والعقد:
مما تقدم يتبين أن لأهل الحل والعقد في النظام السياسي الإسلامي وظيفتين أساسيتين هما:
1 ـ اختيار الخليفة من بين من يصلح للخلافة.
2 ـ القيام بأمور الحسبة في المجال السياسي(61).
والقيام بأمور الحسبة في الجانب السياسي يتناول أمرين مهمين:
الأول: المتابعة والمراقبة لأعمال الخلافة والتصرف الذي يأمر به الشرع في ذلك، وهو مستفاد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: وهو مترتب على الأول، وهو عزل الخليفة إن فعل ما يتوجب ذلك، وهو مستفاد أيضاً من التسمية نفسها بـ «أهل الحل والعقد»، فالعقد يعني مبايعة الإمام الصالح للإمامة، والحل يعني عزل الإمام متى خرج عن حد الصلاح للإمامة، واللغة المستخدمة تدل على ذلك؛ فالعقد نقيض الحل، والعقد: العهد، والعقد اللزوم والعزم والإبرام، والحلُّ من حلَّ العقدة يَحُلُّها حلاً: فتحها ونقضها فانحلت(62).
وقد أومأ النص الشرعي بتكوين جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذات ولاية لها قدرة ومنعة للقيام بهذه الفريضة؛ من غير أن يتعارض ذلك أو يتداخل مع قيام الفرد المسلم بتلك الفريضة بمقتضى إيمانه، قال الله ـ تعالى ـ في بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات اللازمة شرعاً التي تلازم المؤمنين في كل أحيانهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71] .وأما تكوين الجماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أرشد إلى ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104]. قالت طائفة من أهل العلم إن «من» في قوله {مِّنكُمْ} تبعيضية فيكون المراد على ذلك «ولتكن جماعة من المسلمين»، وقالت طائفة أخرى إن «من» هنا بيانية فيكون المراد، «ولتكونوا جميعاً أمة».
وهنا ملاحظة مهمة في بيان حقيقة هذه الفريضة كشفت عنها ألفاظ الآية، وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد دعوة للحض على فعل الخير وترك الشر؛ بل هو أمر ونهي، والأمر والنهي حقيقة لا يكون إلا ممن يقدر على الإلزام به، وهذا يستدعي أن تكون لهذه الجماعة سلطة تمكنها من ذلك، وهو معنى أنها ولاية ذات قدرة ومنعة، ولذلك فقد فرقت الآية بين هذا العمل وبين الدعوة إلى الخير، ففرقت بينهما في سياق واحد؛ مما يدل على تغايرهما وإن كانا يعملان في دائرة واحدة، فقال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104]، وقد وجدت هذه الجماعة في الدولة الإسلامية باسم «الحسبة»، وقد تحدثت كتب الأحكام السلطانية وغيرها عن صفات والي الحسبة وأعوانه واختصاصاتهم وصلاحياتهم وغير ذلك من الأمور المتعلقة بها. وقد نشأت الحسبة كأي تدبير تنظيمي على حسب الحاجة إليها، ثم مع الاتساع وتطور الحياة وتشابك المصالح حيناً وتعارضها حيناً آخر؛ أخذت الحسبة تتطور في وسائلها تبعاً لذلك، ولكن في إطار محكوم لا تخرج عنه، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والهدف المحافظة على المجتمع في العقائد والعبادات والسلوك والمعاملات.
كما نشأت أيضاً ولاية المظالم والتي كانت من مهامها «النظر في تعدي الولاة على الرعية، فيتصفح عن أحوالهم ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم إن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا»(63)، والحسبة في الجانب السياسي كانت موجودة في التاريخ الإسلامي بل لا يكاد يخلو منها عصر من العصور، لكن كما تم تنظيم ذلك في جانب العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات؛ فإنه يكون من الأوفق، خاصة في عصرنا، أن يتم أيضاً تنظيم الحسبة في الجانب السياسي من خلال هيئة تُعنى به وتقوم عليه، وذلك لتحقيقه وليس لتعقيده؛ من غير أن يكون في ذلك قيد على آحاد المسلمين بالقيام بالحسبة في هذا الجانب، وليس في ذلك إحداث أو ابتداع؛ إذ ذلك من قبيل الطرق العملية لتنفيذ الأحكام الشرعية، وقد تقدم الكلام عن ذلك بما أغنى عن إعادته. وقد بيّن شيخ الإسلام أن ترك فعل شيء لعدم وجود المقتضي لفعله؛ لا يعد فعله بعد ذلك بدعة إذا قام المقتضي لفعله، وذلك مثل جمع المصحف، وتدوين الكتب ونحو ذلك(64).
وأهل الحل والعقد ـ بصفاتهم التي تقدم ذكرها ـ هم أليق فئة تناط بها مهام الحسبة في الجانب السياسي. ويمكن لأهل الحل والعقد أن يتابعوا ويراقبوا مؤسسة الخلافة وما ارتبط بها من المعاونين، كالوزراء وأمراء الأقاليم ونحوهم، لضمان تقيدهم بالشريعة وعدم الخروج عليها، فمن ذلك مثلاً:
1- متابعة التشريعات واللوائح والتنظيمات التي يصدرها الخليفة أو من يعاونه.
2- متابعة قيام الخليفة وأعوانه بواجباتهم الملقاة على عواتقهم.
3- متابعة علاقة الدولة بالعالم الخارجي، من حيث حالة الحرب أو العهد أو الذمة، وغير ذلك من الأمور التي يتابع فيها أهل الحل والعقد انتظام الأمور في الدولة الإسلامية والتزامها بأحكام الشريعة.(49/297)
وليس لأهل الحل والعقد أن يتدخلوا في أعمال الخليفة؛ إنما عليهم المراقبة والمتابعة والتأكد من جريان الأمور على الوجه الشرعي المطلوب، ولهم أن يستعينوا في عملهم بمن يحتاجون إليه من العلماء والفقهاء والقضاة وأصحاب الاختصاصات في المجالات التقنية الدنيوية.
وليس لأهل الحل والعقد ولاية على الخليفة، بل هو له الولاية عليهم، وهم فيمن يبايعه على السمع والطاعة، وعليهم أن يطيعوا الخليفة فيما يأمرهم به؛ مثلهم في ذلك مثل باقي الرعية، إلا أن يأمرهم بعدم المتابعة والمراقبة، فذلك لا يجوز؛ لأنهم يؤدون واجباً شرعياً، والخليفة لا يملك عزل واحد من أهل الحل والعقد ما دام قائماً بواجباته من غير إخلال بها.
اختلاف أهل الحل والعقد مع الخليفة
1- إذا فعل الإمام شيئاً أو أصدر لائحة أو تنظيماً، ورأى أهل الحل والعقد أن ذلك ليس بصواب؛ فإن كان هذا في مسائل الاجتهاد ولا يقطعون بصواب اجتهادهم وبطلان اجتهاد الخليفة؛ فإن لهم أن يراجعوه في ذلك ويشيروا عليه بما يرون أنه الأفضل، فإن رجع إلى رأيهم فبها ونعمت، وإن أصر على اجتهاده فله ذلك؛ لأن هذا من حقوق ولايته، وعليهم أن يطيعوه فيه إن كان في مسائل القضاء أو الحكم أو السياسة، وأما إن كان في مسائل الفتيا؛ فإن مسائل الفتيا لا إلزام فيها من أي طرف، قال صاحب شرح الطحاوية: «وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة؛ يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه»(65).
2- إذا رأى أهل الحل والعقد أن ما اختاره الخليفة فيه مخالفة واضحة، وأن ما تمسك به الخليفة إنما هي أقوال ضعيفة عند أهل العلم لا ينبغي التعويل عليها، ولم يمكن تقديم حل يرضى عنه الطرفان؛ فإن الحل في ذلك يكون عن طريق المحكمة، وقرارها ملزم للطرفين، والأصل في ذلك قوله- تعالى-: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ويُستشهد لذلك بالمحكمة التي تكونت للفصل بين الخليفة علي ـ رضي الله عنه ـ وبين بعض الأمة (معاوية رضي الله عنه) ومن معه.
3- إذا كان ذلك الفعل أو اللائحة أو النظام مخالفاً لدين الإسلام مخالفة يقينية؛ فإن أهل الحل والعقد يُنبهونه، ويُبيِّنون له مخالفة ذلك لدين الإسلام؛ فإن استجاب فبها ونعمت، وإلا أصدرت محكمة مشكَّلة لهذا الغرض حكماً ببطلان ذلك، وفي مثل هذه الحالة يبطل العمل بذلك ويصبح لاغياً كأن لم يكن(66).
4- إذا لم يقبل الخليفة بحكم المحكمة في ذلك؛ فإن هذا يعد منه خروجاً على القواعد الدينية، ومخالفة صريحة للغاية التي نُصب من أجلها، وهي حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وفي هذه الحالة فإن أهل الحل والعقد يصدرون حكماً بعزل الخليفة، وبصدور هذا الحكم يفقد الخليفة منصبه وما يترتب عليه من حقوق وصلاحيات، ولا تجب له على أحد طاعة، ويستأنف أهل الحل والعقد عقد الخلافة للصالح لها(67)، وينبغي نشر العلم بين الناس بهذه الأمور حتى يعلموا ما عليهم وما لهم.
موجبات خروج الخليفة عن الخلافة:
قال الماوردي: «والذي يتغير حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جرح في عدالته، والثاني نقص في دينه»(68).وفي الأحوال التي تندرج تحت ما تقدم تفصيلات كثيرة، اتفق في بعضها أهل العلم واختلفوا في البعض الآخر، وموضع تفصيل ذلك المطولات، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الأمور المتفق عليها، فمن ذلك: ردة الخليفة وخروجه عن الإسلام، فإنه يخرج بذلك عن الخلافة، ومنه الجنون المطبق، ومنه ظهور الخبل في العقل والعته في الرأي، واضطراب النظر اضطراباً لا يخفى دركه، ومنه وقوع الخليفة في الأسر وبُعْد تَوَقُّع خلاصه.
والأسر نوعان: أسر الجسد وهو الأسر الحسي، وأسر الإرادة والتصرف وهو الأسر المعنوي، وهو ما يسميه الماوردي بالحجْر، وهناك ما هو أشد فساداً من أسر الإرادة، ألا وهو أن يكون الخليفة منفذاً في المسلمين أوامر الكفار وإرادتهم، فإذا كان الخليفة واقعاً تحت تأثير الكفار منفذاً لأوامرهم؛ فإن هذا يخرجه عن حد الصلاح للخلافة؛ لأنه لا ينبغي أن يكون للكافرين سبيل على المؤمنين، وهو بهذا قد جعل لهم أعظم السبيل.
وقد يكون الخليفة صاحب دين وأمانة ولكنه ضعيف يتبين ضعفه من عدم قدرته على ضبط الأمور، ومن تأخر أحوال بلاد المسلمين في أثناء خلافته تأخراً بيناً واضحاً، فإذا تبين عدم قدرته على سياسة الدولة وانتشر فيها الخلل، وخيف بسبب ذلك انفراط عقد الدولة؛ فإنه ينبغي والحالة هذه أن يُعزل عن الخلافة، ويستأنف أهل الحل والعقد الاختيار - على ما تقدم ذكره - لمن هو أقدر على ذلك، والوجه في ذلك أن تصدر محكمة مشكّلة لذلك حكماً بعزل الخليفة وخروجه عن حد الخلافة أولاً، ثم تبدأ إجراءات عقد الخلافة لمن يستحقها ويصلح لها ثانياً.
وقد يحدث في مثل هذه الحالات أن يستظهر الخليفه بجنده الذين تحت إمرته؛ فما العمل في مثل ذلك؟(69)(49/298)
ولهذا الأمر حل وقائي وآخر علاجي؛ أما الوقائي: فهو نشر العلم بين الناس بهذه المسائل وتعليمها لهم، ووضع النظام الذي يبين خروج الخليفة عن الصلاح لمنصبه، وتفهيم الأمة أن صدور الحكم من المحكمة بعزل الخليفة يُفقده جميع صلاحياته ولا ينبغي لأحد طاعته، وإذا فهم الناس ذلك وحرصوا عليه وتمسكوا به أمكن عزل ذلك الخليفة وتعيين بدل له من دون أية مشاكل أو اضطراب. لكن قد يحدث أن يبلغ الخليفة في الظلم والطغيان أن يمنع أهل الحل والعقد من مزاولة أعمالهم، وقد يسجنهم، وقد يمنع المحكمة من الانعقاد، ويستعين على ذلك كله بالجند الذين يغدق عليهم الأعطيات،وفي هذه الحالة يظهر الحل العلاجي.
وقد افترض إمام الحرمين تلك الحالة وقدَّم لها الحل الذي نوجزه فيما يلي، يقول عن الخليفة: «فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفاً ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور؛ فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، وذلك أن الإمامة إنما تُعنى لنقيض هذه الحالة، فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضية الزعامة والإيالة، فيجب استدراكه لا محالة، وترك الناس سدى ملتطمين متقحمين لا جامع لهم على الحق والباطل؛ أجدى عليهم من تقريرهم اتباع مَنْ هو عون الظالمين، وملاذ الغاشمين، وموئل الهاجمين، ومعتصم المارقين الناجمين.. فأقول: إن عسر القبض على يده الممتدة، لاستظهاره بالشوكة العتيدة، والعدد المعدة، فقد شغر الزمان عن القائم بالحق، ودفع إلى مصابرة المحن طبقات الخلق ..فإن تيسر نصب إمام مجتمع للخصال المرضية والخلال المعتبرة في رعاية الرعيَّة؛ تعين البدار إلى اختياره، فإذا انعقدت له الإمامة، واتسقت له الطاعة على الاستقامة، فهو إذ ذاك يدرأ من كان، وقد بان الآن أن يُعَدَّ درؤه في مهمات أموره؛ فإن أذعن فذاك، وإن تأبى عامله معاملة الطغاة، وقاتله مقاتلة البغاة..وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية دهياء، وإراقة دماء، ومصادمة أحوال جمة الأهوال، وإهلاك أنفس ونزف أموال؛ فالوجه عندي أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به؛ بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُقدَّر وقوعه في روم الدفع؛ فيجب احتمال المتوقَّع له لدفع البلاء الناجز، وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون على ما الخلق مدفوعون إليه؛ فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع..»، إلى أن يقول: «ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك؛ أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته، وفشا احتكامه واهتضامه، وبدت فضاحته، وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الإسلام، ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة؛ فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأُبيدوا، وكان ذلك سبباً في ازدياد المحن وإثارة الفتن، ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسباً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه؛ فليمض في ذلك قدماً، والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح، وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع.. فإن قيل: قد قدمتم أن وجه خلع الإمام نصب إمام ذي عدة؛ فما ترتيب القول في ذلك؟ قلنا: الوجه خلع المتقدم ثم نصب الثاني يدفعه دفعه للبغاة كما سبق تقريره. فإن قيل : فمن يخلعه؟ قلنا: الخلع إلى من إليه العقد»(70).
القسم الثاني
في إدارة الدولة
المبحث الأول: فيمن يستنيبهم الخليفة:
الخليفة بحسب المنزلة التي أحلَّه الله بها هو صاحب الولاية العامة في الدولة الإسلامية، والولاية تعني ممارسة السلطة، والخليفة شخص واحد، وحاجات الدولة كثيرة فلا يقدر على القيام بها بنفسه، فيحتاج لذلك أن يستعين على ولايته بمن يصلح لها من المسلمين، فيوليهم الولايات التي بمقتضاها تنتظم الأمور وتتحقق الأهداف. والولاية لما كانت تعني ممارسة السلطة على الرعيَّة؛ فإنه لا يتولى أحد هذه الولايات إلا من قِبَل تولية الخليفة له، وهذه الولايات تكثر وتتشعب بحسب أوضاع الدولة وأحوالها، وبحسب التطور في حياة المجتمعات، وظهور أنماط جديدة من المعاملات لم تكن من قبل، لكن كل هذه الولايات على تعددها تنقسم إلى أربعة أقسام كما ذكرها الماوردي، حيث يذكر أن ما يصدر عن الخليفة من ولايات لخلفائه أربعة أقسام:
القسم الأول: من تكون ولايته عامة في الأعمال العامة، وهم الوزراء؛ لأنهم يُستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص.
القسم الثاني: من تكون ولايته عامة في أعمال خاصة، وهم أمراء الأقاليم والبلدان؛ لأن النظر فيما خُصُّوا به من الأعمال عام في جميع الأمور.
القسم الثالث: من تكون ولايته خاصة في الأعمال العامة، وهم كرئيس القضاة، ونقيب الجيوش، وحامي الثغور، ومستوفي الخراج، وجابي الصدقات؛ لأن كل واحد منهم مقصور على نظر خاص في جميع الأعمال.(49/299)
القسم الرابع: من تكون ولايته خاصة في الأعمال الخاصة، وهم كقاضي بلد أو إقليم أو مستوفي خراجه أو جابي صدقاته، أو حامي ثغره، أو نقيب جنده؛ لأن كل واحد منهم خاص النظر مخصوص العمل، ولكل واحد من هؤلاء الولاة شروط تنعقد بها ولايته ويصح معها نظره»(71).
والولايات الواقعة في هذه الأقسام التي ذكرها الماوردي وتسمياتها؛ مرتبطة بزمانها وخاضعة لحاجة الدولة إليها، ولذلك فهي تقل وتكثر من زمن لآخر، وقد تظهر ولايات لم تكن موجودة من قبل، كما قد تقسم ولاية كانت موجودة من قبل إلى عدة ولايات؛ نظراً لاتساع هذه الولاية في الوقت الحاضر، وهذه التقسيمات والتنويعات التي كانت والتي تكون فيما بعد؛ إنما تعبِّر عن حاجات الدولة في العصر التي هي فيه، ولذلك فإننا لا نجد هذه التقسيمات زمن خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بينما نجد أن الأمر في خلافة عمر قد اتسع فأضاف بعض التنظيمات لحاجة الدولة إليها، فدوَّن الديوان ـ رضي الله عنه ـ وهكذا.
وينبغي أن يُعْلَم أن ما يستفيده المتولي بالولاية من اختصاصات ليس له حد معلوم في الشرع، وإنما يستفيد ذلك من لفظ التولية ومن الأحوال والعرف(72).
والشروط التي ينبغي توافرها في أصحاب هذه الولايات نوعان:
أولاً: شروط عامة (لكل ولاية)؛ هي: البلوغ والعقل والعدالة.
ثانياً: شروط خاصة، وهي شروط متعلقة بكل ولاية؛ إذ لكل واحدة شروط تناسبها، فالشروط المطلوبة في ولاية القضاء تختلف عن الشروط المطلوبة في ولاية الجيش أو الخراج مثلاً.
وقد عرف التاريخ السياسي للمسلمين نوعين من الوزارة: وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ، وفي الأولى ينيب الخليفة عنه من يفوِّضه في تدبير الأمور برأيه وإمضائها على اجتهاده فيما فوَّضه فيه. وفي الثانية: فإن الوزير في تصرفه مقصور على رأي الخليفة وتدبيره، والوزير في هذه الحالة وسط بين الخليفة والرعية يؤدي أمره وينفذ عنه ما ذكر.
ولكل واحدة شروطها، وشروط وزارة التفويض كشروط الخليفة خلا شرط النسب، بينما الأمر في وزارة التنفيذ أخف(73).
وإذا أناب الخليفة أو فوَّض في تدبير الأمور؛ فإن هناك أمرين ينبغي مراعاتهما:
الأول: يختص بالمفوَّض، وهو إطلاع الخليفة على ما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد؛ لئلا يصير بالاستبداد كالخليفة.
الثاني: أن يتصفح الخليفة أفعال المفوَّض وتدبيره الأمور؛ ليقر منها ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه، لأن تدبير الأمة إليه موكول، وعلى اجتهاده محمول(74).
المبحث الثاني: الشورى:
عندما يُشْكِل الأمر في قضية ما، أو عندما تتعدد الحلول لمشكلة ما، أو عندما لا يكون المرء قادراً على اتخاذ القرار السليم في القضايا التي تعرض له، أو يريد التأكد من صواب القرار الذي أداه إليه اجتهاده، أو يريد التوصل إلى الإيسر والأنسب من الحلول الصالحة المتعددة؛ فإنه يلجأ إلى من يعتقد أن لديه المقدرة على القيام بذلك مع الأمانة والصدق فيما يشير به، ويطلب منه أن يعاونه برأيه في ذلك، وقد يطلب المستشير ذلك من فرد أو من مجموعة من الناس مجتمعين أو منفردين. وقد يكرر الاستشارة في الأمر الواحد، وقد يكتفي بإشارة أول من يشير عليه. وعرض الآراء وتقليبها ممن يحسنون ذلك في مثل تلك الأحوال، واختبارها لمعرفة كنهها، واستخراج أفضلها وأنفعها وأيسرها؛ هو ما يعرف بالشورى ويراد منها.
والأدلة على مشروعية الشورى كثيرة؛ منها قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى} [الشورى: 38]، وهي دالة على سلوك المؤمنين الحميد فيما يتعاطونه من أمورهم، وهي أعم من أن تكون قاصرة على ما يتعلق بنظام الحكم أو المسائل السياسية، وقد دلَّت سنّة الرسو صلى الله عليه وسلم العملية على كثرة مشاورته لأصحابه، فشاورهم في مسائل عامة تتعلق بالجهاد كما في غزوة بدر وأُحد وغيرهما، كما شاور بعضهم في خاصة نفسه في أمر عائشة ـ رضي الله عنها ـ الحَصَان الرَّزَان في قصة الإفك، وغير ذلك من الأمور الكثيرة. وشاور خلفاؤه الراشدون من بعده، وجاءت آثار السلف في الحض على ذلك والترغيب فيه، والناظر في المجتمع الإسلامي في الصدر الأول يجد أن المشاورة كانت أمراً فاشياً وسلوكاً حميداً عند عامة المسلمين، يتبعونه في أمورهم العامة والخاصة، والوقائع بذلك كثيرة جداً(75).
والشورى في المسائل العامة التي تتعلق بالأمة أو جمهورها أو طائفة كبيرة منها أَوْلى من الشورى في المسائل الخاصة التي تتعلق بأفراد أو مصالح جزئية؛ لأن الأولى خطرها عظيم ونفعها كبير، ولذلك كانت الشورى في المسائل المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي ـ الذي يمثِّل السياج الواقي للإسلام ودولته ـ أَوْلى بكثير من غيره، ولا يستغني ولي الأمر عنها في إدارته لشؤون ولايته إدارة حسنة.
مجالات الشورى:
هي الحدود التي تعمل فيها الشورى؛ أي بيان الأمور التي يجب أو يجوز أو لا يجوز أن تكون محلاً للشورى، ومجالها قسمان: قسم عام، وقسم خاص.
فأما القسم الخاص: فهو متعلق بطالب المشورة، فقد يشاور في بيع أو في شراء أو علاج أو سكن أو غير ذلك من الأمور.(49/300)
وأما القسم العام: فهناك أكثر من قول لأهل العلم في ذلك، فمن ذلك: أنها في أمور الحرب، ومنها أنها في أمور الدنيا، ومنها أنها في كل أمر ليس فيه نص قاطع، والصواب أن الشورى تغطي تلك المجالات كلها مما لم يأت فيها نص شرعي، وأما الأمور التي وردت فيها نصوص شرعية حتى إن كانت غير قطعية؛ فلا تكون الشورى فيها إلا بمعنى بيان المقصود من تلك النصوص والوصول إلى الفهم الصحيح لها، ولا يمكن بحال في ظل حكم الشرع أن يتم تجاوز النصوص والاعتماد على الشورى المجردة.
حكم الشورى:
تعدد الآراء في الشورى هو من طبيعة الشورى؛ إذ لولا ذلك لم تكن هناك حاجة إليها، ولم يكن لها فائدة ترجى منها؛ إذ فائدتها تظهر من استخراج ما عند المستشارين من آراء وأفكار وتصورات.
والمناقشات والمداولات التي تتم في هذا المجال قد تسفر عن عدة احتمالات متباينة، فقد يتفق المستشارون كلهم على قول واحد في المسألة المعروضة وتجتمع كلمتهم عليه، وهذا قليلاً ما يحدث، وكثيراً ما يحدث أن تتعدد الآراء فلا يتفق الناس على قول، وهذا التعدد في الآراء له أكثر من صورة، فقد ينقسم المستشارون على قولين أو ثلاثة أو أكثر، وقد تتساوى أعداد القائلين بكل قول، وقد تختلف بحيث يكون بعضها أكثر من بعض، وقد يحدث أن يكون الفرق في الأعداد بين الأقوال كبيراً، وقد يكون قليلاً، وإزاء كل هذه الاحتمالات الممكنة يبرز السؤال: ما القاعدة التي يجب من خلالها حسم تلك التباينات وإصدار القرار؟
وهنا أمران: حكم المشاورة نفسها، وحكم العمل بما أدت إليه:
أما حكم المشاورة: فالذي عليه عامة علماء السلف أن الشورى مندوب إليها ليست بواجبة، والذي عليه عامة المعاصرين أن الشورى واجبة(76). ويفصِّل بعض المعاصرين فيرى أن الشورى تجب في بعض المسائل، بينما لا تجب في بعض المسائل الأخرى(77).
وأما حكم العمل بما أدت إليه الشورى: أو «ما القاعدة التي يجب أن تُحسم بها مداولات أهل الشورى؟» أو «هل الشورى ملزمة أو معلمة؟»، والذي عليه جمهور علماء السلف أن ولي الأمر لا يجب عليه ترك رأيه لرأي أهل الشورى أو غيرهم، حتى قال صاحب شرح الطحاوية: «وقد دلَّت نصوص الكتاب والسنَّة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة؛ يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه»(78)، والذي عليه أكثر المعاصرين أن ولي الأمر يجب عليه أن يترك رأيه لرأي أغلبية الشورى(79)، ويفصِّل فريق ثالث فيرى أن هناك من المسائل ما ينبغي على ولي الأمر أن يترك رأيه فيها لرأي الأمة أو الشعب، بينما هناك نوع آخر لا يجب عليه فيه ذلك(80).
ونحن في هذه الدراسة ننظر إلى الشورى من عدة زوايا، ومن خلالها يتضح حكمها:
فمن زاوية وضوح المسألة أو خفائها؛ فإننا نقسّم الشورى إلى ثلاث مجموعات:
1- ما تجب فيه المشاورة: وهو كل ما يراد اتخاذ قرار فيه تتعلق به مصالح الأمة، ولم يتضح وجه الصواب فيه لولي الأمر، فهذا تجب المشاورة فيه، حتى يقدم على بصيرة من أمره. ولا يعرض الأمة أو مصالحها للخطر بالإقدام على جهل.
2- ما تجوز المشاورة فيه أو تستحب: وهو كل ما يراد اتخاذ قرار فيه، ووجه الصواب واضح لولي الأمر، فإنه يجوز لولي الأمر المشاورة فيه - إذا لم يكن من الأمور التي لا تحتمل التأخير - تشوّفاً لمزيد من العلم والاطلاع حول الموضوع؛ تمشياً مع قول القائل: «رَأْيُنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، و «من جاءنا بأحسن مما قدرنا عليه أخذنا به».
3- ما تحرم المشاورة فيه: وهو ما تبيَّن فيه حكم الشرع بإيجاب أو تحريم أو إباحة فلا يمكن المشاورة فيه، لقضاء الله ورسوله في ذلك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. ولا تكون الشورى فيه إلا في كيفية التنفيذ، إذا كان هناك أكثر من طريقة لتنفيذه.
ومن زاوية النظر إلى طبيعة الشورى ووظيفتها: فإن طلب الشورى إنما هو للمعاونة والمساعدة وليس للإلزام، فإن طالب الشورى يريد ممن يشاورهم أن يعينوه لا أن يُلزموه برأيهم، وهو الذي يحدد كيف يفعل ذلك، وعلى ذلك فإن ولي الأمر هو الذي يحدد كيف يشاور؟ أيكون ذلك فردياً؛ بمعنى أن يستشير كل فرد على حدة، أم جماعياً بمعنى أن يجمعهم معاً ويعرض عليهم ما يريد، أم يستخدم هذا حيناً، وذاك حيناً آخر، وهذا في مسائل، وذاك في مسائل أخرى؟ وهل لذلك عدد ثابت، أو يستشير فرداً في حالة وأفراداً في حالات أخرى؟ وهل يلزم لذلك تكوين مجلس يُعرف بمجلس الشورى أو لا؟ وهل لهذا المجلس إذا عمل اجتماعات دورية أو أنه ينعقد عند الاستدعاء؟ وإذا كانت له اجتماعات دورية؛ فكم مرة يجتمع في السنة مثلاً، وأين، ومتى؟ والطريقة التي يتم تبادل الرأي فيها بين المجتمعين، وإلى أي مدى يؤثر غياب بعض أهل الشورى في قرارهم؟ وهل لذلك نصاب محدد؟ ونحو ذلك من الأمور، إنما يحددها من يستشير؛ لأنه الطالب للمعاونة والمساعدة.(49/301)
ومن زاوية دخول الموضوع في صلاحيات الخليفة؛ فإننا نقسم ذلك إلى قسمين:
1- أمور يتولاها بمقتضى ولايته وهي داخلة في صلاحياته، فإنه ينفذها ويقوم بها على الوجه الذي يرى أنه يحقق مقاصد الولاية، ولا يجب عليه أن يستشير في ذلك إلا إذا لم يدر وجه الصواب من الأمور المشكلة ولم يترجح له شيء فيها، فأما تسييره لأمور الدولة وإصداره للتعليمات التي تنظِّم ذلك، وعمل اللوائح والنُّظُم التي يضبط بها أمره، واختياره لمعاونيه، وتوليته للولاة على الأقاليم أو غيرها، وتحديد صلاحياتهم ومحاسبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر، ونحو ذلك من الأمور التي تدخل في صلاحياته، والتي يشار إليها في الفكر السياسي الوضعي بأنها «السلطة التنفيذية»؛ فإنه يعمل ذلك انطلاقاً من صلاحياته، ولا تجب عليه الاستشارة في ذلك، وإن كنا نقول: الاستشارة في هذه الأمور وما جرى مجراها - إذا لم يترتب عليها تعطيل للأمور - فيها خير كبير، ولن يعدم المستشير أن يستفيد خيراً إذا أحسن اختيار من يستشيره.
2- أمور لا يملك التصرف فيها بمقتضى ولايته، فهذه لا يملك أن يمضيها إلا بموافقة أهلها على ذلك، ولذلك أمثلة: ففي غزوة بدر الكبرى لما أراد الرسو صلى الله عليه وسلم ملاقاة المشركين ـ بعد نجاة قافلة مكة ـ استشار من معه في القتال، فوافقه على ذلك المهاجرون، لكن الرسو صلى الله عليه وسلم لم يكتف بذلك وقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس!»، وهو يريد بذلك الأنصار، وذلك أن البيعة التي أخذها عليهم في مكة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة، وإنما كانت قاصرة على أن يمنعوه وهو في ديارهم مما يمنعون منه أنفسهم، ولم يُفرض الجهاد في ذلك الوقت فرضاً عاماً، فكان خروج الأنصار إلى القتال في غزوة بدر خارجاً عن حد البيعة، كما لم يكن هناك إلزام من الشرع بذلك؛ لذلك أصرَّ الرسو صلى الله عليه وسلم على معرفة رأي الأنصار وموافقتهم على ذلك، فقال له سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ لما فطن أن رسو صلى الله عليه وسلم يقصدهم بقوله: «أشيروا عليَّ أيها الناس!»:«لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم! وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت..»، إلى أن قال: «والله! لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك»، فسُرَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشَّطه ذلك، ثم قال:« سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»(81). وفي غزوة حنين، عندما قسم الرسو صلى الله عليه وسلم على المسلمين غنائمهم التي أفاءها الله عليهم؛ جاء وفد هوازن مسلماً تائباً وسألوه أن يمن عليهم بما غنمه المسلمون منهم من السبايا والأموال، ولما كانت هذه قسمة قد وقعت ووصلت أصحابها بمقتضى القسمة الشرعية، ووضع أصحابها يدهم عليها وصارت ملكاً لهم بذلك؛ لم يكن لرسول ا صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منهم ما استحقوه بحكم الشرع إلا بموافقتهم؛ لذلك عرض عليهم r ذلك وندبهم إليه، وبيَّن لهم أن من طابت نفسه برد ذلك عليهم فليرده، ومن لم تطب نفسه فإن الرسو صلى الله عليه وسلم يعوِّضه عن ذلك من أول ما يفيء الله على المسلمين، «فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيلُُ ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا. فقال الناس: قد طيبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»(82)، فهنا أيضاً شاور رسول ا صلى الله عليه وسلم أصحاب الشأن وعمل على رأيهم؛ لأنهم هم أملك بذلك.
ومن زاوية نطاق الشورى أو مجالها: فإنها تنقسم إلى نوعين: مسائل دينية، ومسائل دنيوية، فالمسائل الدينية يُعمل فيها بمقتضى الدليل الشرعي، ولا التفات لمن خالف ذلك من كثرة أو قلة، «وإذا استشارهم؛ فإنْ بيَّن له بعضهم(83)ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنّة رسول صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين؛ فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك؛ وإن كان عظيماً في الدين و الدنيا»(84). وإن كان عدد المخالفين كبيراً.
وأما المسائل الدنيوية التابعة للمصالح؛ فإنه يشاور فيها ويكثر من الاستشارة، ويعمل بما يؤديه إليه اجتهاده بعد مشاورة أهل الاختصاص في ذلك.
ومن زاوية تحمُّله مسؤولية قيادة الدولة والواجبات الملقاة على عاتقه: فإن من حقه أن يستشير من يراهم أهلاً لذلك ولا يُفرض عليه أحد، كما أن من حقه أن يأخذ بالرأي الذي يراه محققاً لما أُنيط به من واجبات، وهذا الحق يقابله من وجه آخر حق أهل الحل والعقد في الاحتساب عليه إذا أساء في هذا الجانب.
صفات أهل الشورى:(49/302)
ينبغي لولي الأمر أن لا يشاور إلا من تتوافر فيه الصفات التي تؤهله لذلك، سواء كانوا جماعة أو أفراداً، لأن في مشاورة من لا يستحق تشويشاً على الحق والصواب، وقد ذكر أهل العلم صفات أهل شورى الخليفة، فمن ذلك:
1- التكليف: أي يكون مسلماً بالغاً عاقلاً، فلا يكون غير المسلم أو الصغير غير البالغ أو المجنون غير العاقل من أهل شورى الأمير ومجلسه.
2- العدالة: وهو أن يكون قائماً بالأركان والواجبات، متجافياً عن الكبائر والآثام العظام، وهي صفة يظهر منها غلبة دين المسلم على الشبهات والشهوات، فالاستجابة للشبهات تجر إلى الوقوع في البدع والضلالات، والاستجابة للشهوات تجر للوقوع في الفسق والمعصية والمجاهرة بهما، والعدالة من سلم من كليهما من البدع المضلة والمعصية المهلكة، فالعدل هو المسلم الذي ملك قلبه وجوارحه فأدى الواجبات، وترك الكبائر المحرمات، ولم يمل بقلبه إلى بدعة، أو يجاهر بمعصية، يتحكم في هواه؛ فهو مأمون وقت الغضب والرضا، بعيد عن مواضع التهم.
3- العلم والخبرة: اللذان يُتوصل بهما إلى الصواب،قال ابن خويز منداد المالكي:«واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أُشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتّاب والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها»(85).وقال البخاري:«وكان القرَّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً»(86)، وكان أبو بكر إذا أعياه أمر «دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم»(87).
4- الرجولة: فهذا النوع من الشورى المتعلق بأمور الدولة يتطلب الخبرة الواسعة والاختلاط بالحياة العامة، والتحدث إلى الرجال وتبادل الآراء معهم، وهذه أمور النساء عنها بمعزل، وقد قال الله ـ تعالى ـ للنساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33].كما قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]. وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم :«ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»(88).فالأصل قرار المرأة في البيت، والأصل قوامة الرجال عليهن، والأصل أيضاً أن الرجال أكمل عقلاً وديناً من المرأة، وإن كان هذا لا يمنع من وجود نساء عالمات أمينات لهن جودة رأي وفضل من رجاحة العقل، وقد يُشرن بالرأي الفائق الحُسن الذي لا يوجد عند كثير من الرجال، كما فعلت أم سلمة - رضي الله عنها - حينما أشارت على صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية بحلق رأسه أولاً حتى يقتدي به الصحابة ويمتثلوا أمره، لكن ليس هذا هو الأصل، وإنما الأصل ما ذكرناه أولاً، ولذلك جاء في الحديث: «كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران..»(89)، وفرق كبير بين أن تشير المرأة على زوجها أو أبيها أو أخيها أو أحد من محارمها الذين يجوز لها مخاطبتهم والجلوس إليهم والتحدث معهم، وبين مخالطتها للرجال الأجانب والجلوس معهم للتباحث وتبادل الآراء، والتي قد يطول فيها الأخذ والرد حتى تُعقد لذلك جلسات متعددة قد تطول وقد تقصر، تضطر فيها المرأة إلى التخلي عن وظيفتها الحقيقية التي لا يسد مسدها أحد، إضافة إلى المفاسد التي قد تتعرض لها وهي في غنى عنها والمجتمع كذلك.
5- الأمانة والقوة: صفتان مترابطتان لا بد منهما لمن تُسند إليه الأمور المهمة، وقد وردتا في القرآن في أكثر من موضع لتدل على هذه الحقيقة، فعندما طلبت ابنة الرجل الصالح من أبيها استئجار موسى ـ عليه السلام ـ قالت في حديثها عنه فيما قصه الله علينا: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، وعندما أراد عفريت من الجن أن يأتي لسليمان ـ عليه السلام ـ بعرش ملكة سبأ قال فيما يدعم به طلبه: {وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39]. وقال الله ـ تعالى ـ في حق جبريل ـ عليه السلام ـ في تزكيته له:{ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «20» مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20 - 21]. والقوة هنا ليست قوة الأبدان؛ وإنما قوة القلب ورباطة الجأش والثقة بالله والتوكل عليه في الصدع بالحق من غير تهيب ولا وجل، والإشارة بما يراه حقاً وصواباً، وإن خالفه الأكثرون، فلا يهاب قوة المخالف، ولا كثرة عدده، وقد «كانت الأئمة بعد صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم»(90).قال ابن حجر - رحمه الله -: «وأما تقييده بالأمناء؛ فهي صفة موضحة ؛ لأن غير المؤتمن لا يُستشار ولا يُلتفت لقوله»(91).
الأسس التي تُبنى عليها أحكام الشورى في الجانب السياسي في الإسلام:
تنطلق أحكام الشورى من عدة أسس، أمكن حصرها فيما يلي:
1 ـ مرجعية الكتاب والسنّة.
2 ـ مسؤولية الخليفة المباشرة عن حراسة الدين وسياسة الدولة به.
3 ـ الاشتراك في المصلحة المبتغاة من الشورى.
4 ـ الاشتراك في المسؤولية عن بلوغ الحق ونشره والعمل به.(49/303)
5 ـ عدم وجود حكم شرعي ملزم في المسألة موضع الشورى.
6 ـ عدم انحصار إدراك الحق والصواب في شخص واحد ولو كان أعلم أو أفقه أهل الأرض.
7 ـ عدم القدرة على الإحاطة التامة بالأمور كلها من قِبَل الفرد.
تنظيم شورى الخليفة:
ليس هناك ما يمنع في الشرع من أن يقوم الخليفة بتنظيم الشورى الخاصة به في مجلس شورى أو نحو ذلك، فيختار له من يثق فيهم ممن تتوفر فيهم صفات أهل الشورى، ويحدد عددهم، ويضع لهم التعليمات والضوابط التي تضبط العمل، ويستعين المجلس بمجموعات متخصصة في الأمور الفنية نظراً لتشعب التخصصات، واستحالة أن تحيط مجموعة صغيرة بجميع التخصصات، وأن تكون هناك متابعة ومراقبة شرعية من المجلس نفسه للتأكد من عدم مخالفة الاقتراحات للقواعد أو الأحكام الشرعية، ثم تُعرض الاقتراحات المختارة على الخليفة فيتدارسها معهم أو مع وزرائه ومعاونيه، ويعمل بما يرى أنه الأفضل من الاقتراحات المتقدمة، ويبقى بعد هذا كله حق الاحتساب من المتابعة والمراقبة لأهل الحل والعقد، سواء في اختيار أهل الشورى، أو في اختيار الاقتراحات للعمل بها، وإذا اختلف أهل الحل والعقد مع الخليفة أو أهل شوراه؛ فإن العمل في ذلك على ما تقدم ذكره(92).
بين الشورى والديمقراطية:
نظراً لطغيان الفكر الديمقراطي وعلو صوته انطلاقاً من مركز القوة الذي تمثِّله الدول العاملة به؛ فإن كثيراً من المسلمين ـ وخاصة العصرانيين ـ يحاولون بكل ما أوتوا من قوة أن يثبتوا أن الإسلام دين ديمقراطي، أو أنه دين يدعو إلى الديمقراطية، أو على الأقل دين لا يعارض الديمقراطية بل يقبلها ويعتد بها، ويتسولون الدلالات من هنا ومن هناك، وقد تشبثوا في ذلك بأشياء كثيرة من أهمها «الشورى»، ونحن نعرض هنا ـ في إيجاز يتناسب مع حجم البحث ـ للديمقراطية كما يراها أصحابها، ثم نقرر بعد ذلك أين الديمقراطية من الإسلام؟
الديمقراطية كلمة يونانية قديمة تعني حكم الشعب، لما كانت الدولة ناتجة من الوجود الجماعي للأفراد؛ كان الشعب المصدر الطبيعي لنشأة الدولة ودواعي وجودها، واستقر الفكر الديمقراطي على الإقرار بأن الشعب صاحب المرجعية العليا، وأن إرادته هي القانون، وقد عبَّروا عن ذلك بقولهم: «السيادة للشعب»، والسيادة: سلطة عليا مطلقة بلا ند ولا شريك، متفردة بإنشاء الإلزام أمراً ونهياً وتصحيحاً وإبطالاً وعقوبة؛ في كل أمور المجتمع، فالشعب هو الذي يشرِّع القوانين عن طريق السلطة التشريعية، وهو الذي ينفذها عن طريق السلطة التنفيذية، وهو الذي يقضي ويعاقب الخارجين عن تشريعاته عن طريق السلطة القضائية.
وهناك عديد من الآليات التي يتبعها الفكر الديمقراطي لتحقيق هذه التصورات، والشورى مخالفة للديمقراطية في أصلها وفي آلياتها، فالشورى مسألة من مسائل الشريعة، والشريعة كلها مبنية على أساس توحيد الله وعبادته وحده وعدم الإشراك به، وأن الكتاب والسنّة هما الأصل والعصام اللذان يُرجع إليهما في الأمر والنهي والإيجاب والتحليل والتحريم والتصحيح والإبطال والجزاء وفي كل شيء، فالدين قائم على رجوع المسلم في كل شيء لكتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ وسنّة رسول صلى الله عليه وسلم ، والتي هي أيضاً مما أوحاه الله تعالى.
وبالمقابلة يتبين أن الديمقراطية كفرت بالله ربِّ العالمين آمراً ناهياً في شؤون المجتمع وإن لم تكفر به خالقاً رازقاً، وآمنت بالشعب ربّاً يُشَرّع فيأمر وينهى ويضع القوانين والتنظيمات حسب تصوراته الذهنية ومعارفه وخبراته، وهذه مسألة لا تمثل عند الديمقراطيين الحقيقيين سبّاً ولا هجاءً؛ إنما هي الحقيقة التي يقرُّون بها ويعترفون، فالديمقراطية تقيم نظاماً سياسياً علمانياً:«فالديمقراطي يمكن أن يكون بروتستانتياً أو يهودياً، ملحداً أو مؤمناً، ففيما يتعلق بالدين يمكن القول إن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في مجموعة من المعتقدات العلمانية الصرفة، فالمفهومات الديمقراطية لا ترتبط بالبواعث الدينية أو المضادة للدين، وأي نزاع بين الدين والسياسة الديمقراطية يمكن أن يحدث فقط عند إقحام التعاليم الدينية في الشؤون السياسية .. والديمقراطي ـ نظراً لمعتقداته السياسية ـ لا يقبل ولا يرفض أي تعاليم دينية»(93). وأما من حيث الآليات فقد عمد الفكر الديمقراطي إلى الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية - التنفيذية - القضائية)، وذلك منعاً للفساد السياسي أو الاستبداد، وللحفاط على حقوق الناس وعدم تعريض حرياتهم للخطر.
وأما الآلية المعتمدة للوصول إلى الحكم؛ فقد اعتمد الفكر الديمقراطي على النظام النيابي القائم على تعدد الأحزاب، حيث يرشح الأفراد أنفسهم أو ترشحهم الأحزاب التي ينتمون إليها، ويتقدمون للشعب عارضين أفكارهم ورؤاهم طالبين من الشعب أن يمنحهم موافقتهم، وتعد الأحزاب الحائزة على أغلبية موافقة الشعب هي الأحزاب المعبِّرة عن الإرادة الشعبية، وهي المخوَّلة حق ممارسة السيادة لأنها تمثل صاحب السيادة.(49/304)
وبالنظر إلى الديمقراطية من حيث أصلها ومن حيث آلياتها من المنظور الشرعي؛ نجد أنها باطلة. وبالنظر إليها من داخلها؛ نجد أنها غير مستطيعة لتحقيق ما أقامت نفسها لأجله، ومن هنا يأتيها البطلان من داخلها أيضاً، فإذا كانت الآليات المطبقة في الفكر الديمقراطي هي لتحقيق العنصر الأساس وهو السيادة للشعب؛ فإنا نقول إن السيادة في الحقيقة إنما هي لطائفة قليلة جداً جداً بالنسبة لمجموع الشعب، وهي تمثل النخبة السياسية، وبيان ذلك من وجوه عدة فمن ذلك: وجود عدة أحزاب يتقاسمون أصوات الناخبين؛ مما يجعل الأصوات موزعة على عدة اتجاهات، ومنها عزوف كثير من الناس عن المشاركة في الانتخابات، وهو الذي يُعبَّر عنه بـ «اللامبالاة السياسية»، وهي ظاهرة واضحة، ومنها أن قوانين الانتخابات تحدد شروطاً لمن يحق له المشاركة فيها، وهي تُخرج عدداً كبيراً من الناس لعدم بلوغهم السن الانتخابي، أو لارتكابهم بعض الجرائم، أو لكونهم لا يتمتعون بحق المواطنة في الدولة التي يقيمون فيها. ومنها أن هناك أصواتاً باطلة.
ومن هنا يتبين أن الحزب الفائز في الانتجابات بالأغلبية هو في حقيقته أقلية بالنسبة لمجموع الشعب، ويزداد هذا الأمر وضوحاً عندما تكون الأغلبية الفائز بها أغلبية ضئيلة قد تصل أحياناً إلى 51 % أو 52 % (94)، فكيف يكون هؤلاء معبرين عن الشعب بينما هناك 48 % يخالفونهم ولا يوافقونهم؟ حتى الحزب الفائز لا يشارك في الحكم جميع أعضائه، وإنما تشارك في السلطة التشريعية منه نخبة لا تزيد في أكثر البلدان عن خمسمائة فرد من الشعب الذي قد يزيد تعداده عن مائة مليون فرد.
وإذا تجاوزنا ذلك فلنا أن نقول:
أ- إن هذا التمثيل أو النيابة عن الشعب في السيادة أمر لا يمكن تحقيقه ولا التحقق من حصوله، فإذا كانت السيادة تعني إمضاء إرادة الشعب؛ فكيف يمكن التنازل عن الإرادة؟ وكيف يمكن معرفة إرادة كل فرد عند كل موضوع أو عند كل تشريع حتى يمكن القول بأنه تنازل عنها؟ وعلى ذلك فإنه يستحيل القول بأن ما يبديه النواب في المسائل المعروضة في المجلس النيابي إنما هو تعبير عن إرادة الناخبين.
ب- ثم إنه من حيث تعدد الأحزاب الممثلة في المجلس النيابي لا تكون هناك إرادة واحدة، بل عدة إرادات متعارضات، وقد يكون الفارق في العدد بينها قليلاً، فأي تلك الإرادات يُعَدُّ معبِّراً عن الإرادة الشعبية؟!
ج- والدستور وهو أعلى وثيقة قانونية في الدولة، وهو الذي يحدد المسؤوليات والاختصاصات، ويقسم السلطات، ويبين النظام السياسي والتوجه الاقتصادي وغير ذلك، المفترض فيه أنَّ وضعه على هذا النحو إنما جاء من قِبَل الإرادة الشعبية، وإذا صدق هذا على الدستور عند وضعه أول مرة ـ وإن كان لا يصدق في الحقيقة ـ فإن الدساتير تظل تحكم البلاد حتى بعد انقضاء الجيل الذي وضعها انقضاء تاماً، ومعنى هذا أن الأجيال اللاحقة تُحكم بإرادة شعبية لجيلٍ قد صار جيفاً تحت التراب.
د- قد يحدث أن يتم الرجوع إلى الشعب مباشرة لأخذ رأيه في موضوع ما عن طريق الاقتراع أو الاستفتاء، وهذا الرجوع ينافي تفويض الشعب للمجلس النيابي ليكون معبِّراً عن الإرادة الشعبية، ثم إن هذا الرجوع رجوع صوري لا قيمة له حقيقة؛ إذ إن مشكلات الدولة الحديثة ذات تعقيدات كبيرة تحتاج إلى طابع فني تخصصي بالدرجة الأولى، ولا يتمكن الأفراد العاديون ـ وهم أغلبية الناخبين ـ من تقدير هذه الأمور تقديراً حسناً، أو فهمها فهماً جيداً، وعلى ذلك فإن موافقتهم عليها أو معارضتهم لها تُعَدُّ مجرد مسايرة للأمر السائد بين الناس، والذي يقوم الإعلام الموجّه بدور كبير في إيجاده، وبالتالي فليس هناك قدرة حقيقية على الاختيار الحر، وقد يحاولون التغلب على ذلك بأن تتم صياغة الاستفتاء أو الاقتراع على أشياء محددة شديدة العمومية من غير دخول في تفصيلات فنية، لكن لنا أن نقول: وما قيمة الموافقة أو المخالفة لمثل ذلك؟!
وبالنسبة لآلية الفصل بين السلطات فالملاحظ عليها عدة أمور:
1 ـ أن هذه الآلية إنما هي حل ضمن إطار المشكلة التي تعاني منها الأنظمة الوضعية جميعها؛ ألا وهي غياب المرجعية العليا خارج النطاق البشري.
2 ـ أن هذه الآلية إنما هي حل وقتي للمشكلة؛ لذا لم تبق على حالتها التي ظهرت عليها أول مرة، بل أخذت تتطور وتتنقل من صورة لأخرى.(49/305)
3 ـ أن التطور الحاصل في الأنظمة السياسية المعاصرة؛ قد جعل هذه الآلية من مخلَّفات الفكر السياسي ولم يعد لها في الواقع إلا وجود شكلي ـ وإن كانت تظهر بشكل أوضح في النظام الرئاسي ـ، وأن كل الأنظمة المعاصرة تتجه الآن إلى جعل السلطة التنفيذية في موقع أعلى من السلطة التشريعية ـ رغم أنها المعبِّرة عن الإرادة الشعبية ـ، وهذا هو الواقع فـ «إذا كان مبدأ فصل السلطات يقضي لأول وهلة بأن يعمل البرلمان مستقلاً عن الحكومة؛ فإن حقائق الأشياء تبدو عند الفحص الدقيق في صورة مغايرة، فالحقيقة أن الحكومة (السلطة التنفيذية) تتحكم في عمل البرلمان (السلطة التشريعية) إلى حد كبير»(95)، «وفي جميع أنحاء العالم تلعب الحكومة دوراً هاماً في تشكيل المجالس النيابية، سواء شُكِّلت هذه المجالس عن طريق الانتخاب الخالص أو عن طريق الجمع بين الانتخاب وبين التعيين»(96)، ولم تستطع الأنظمة الديمقراطية التي تبنت هذه الآلية بصورة قوية (النظام الرئاسي) أن تستمر على ذلك، واضطرت في نهاية الأمر إلى إيجاد نوع من الاتصال والتعاون بين السلطتين(97).
وبالنظر إلى النظام الانتخابي القائم على أن الفائز بالأغلبية في الانتخابات هو الذي يُشكِّل الحكومة (السلطة التنفيذية)؛ فإننا نجد ـ والحالة هذه ـ أن أغلبية المجلس النيابي (السلطة التشريعية) والحكومة (السلطة التنفيذية) ينتميان إلى حزب واحد، وهنا لا يكون الفصل بين السلطات أكثر من مجرد حبر على ورق، فيكون أكثر هَمِّ نواب حزب الأغلبية الدفاع عن الحكومة وتصرفاتها، كما أن النواب في تشريعاتهم إنما يراعون توصيات الحكومة في ذلك، والتي يتم الاتفاق عليها في الاجتماعات في مقار الأحزاب، فالفصل هنا صوري إلى حد بعيد، وقد تعارض أحزاب المعارضة أو الأفراد المستقلون في المجلس، وقد تسأل وتستفسر لكن الأمور تُقضى في هذه المجالس بالأغلبية، وعند أخذ الأصوات؛ فإن الأغلبية ستعطي رأيها لحزبها انطلاقاً من مبدأ الالتزام الحزبي، وعلى ذلك فالمراقبة هنا شكلية إلى حدود بعيدة، والهدف المتوخى من الفصل بين السلطتين ـ وهو الحفاظ على حقوق وحريات المواطنين ـ يضيع باندماج السلطتين كما هو الواقع.
والسلطة يناظرها في الشرع لفظ «الولاية»، فالسلطة القضائية يناظرها: ولاية القضاء، والسلطة التنفيذية يناظرها: الخلافة وما يتفرع عنها من ولايات، وليس في الإسلام سلطة تشريعية أي ولاية تشريعية، وبإخراج التشريع من البشر يُحافظ فعلاً على حقوق الشعوب وحرياتها، فمهما كان التشريع محققاً للإرادة الشعبية؛ فهو لم يخرج عن أن جعل الناس عبيداً لمن وضع هذا التشريع، وأما التشريع في الإسلام فهو لله ربِّ العالمين، يحكم في خلقه بما يشاء، فهو خالقهم ورازقهم، وهو يحييهم ويميتهم ويحاسبهم، ولذلك فهو الذي يُشرّع لهم.
والإسلام فيه الاجتهاد المنضبط المعتمد على الأدلة الشرعية ـ تحقيقاً لعبودية الناس لرب العالمين دون ما سواه ـ والقدرة على الاجتهاد فضيلة من الفضائل؛ من اكتسبها بشروطها فهو من أهلها لا يُحجز عنها ولا يُمنع منها حاكماً كان أو محكوماً، ومن لم يكن لذلك أهلاً حيل بينه وبين الاجتهاد، يستوي في ذلك المسلمون جميعهم.
والقضاء في الإسلام ولاية داخلة في صلاحيات الخليفة، فيجوز له أن يقضي ـ إذا كانت تتوفر فيه شروط القضاء وهو الأصل ـ، كما يجوز له أن يفوِّض أو ينيب غيره في ذلك ممن تتوفر فيهم شروطه، ومع أن القضاء ولاية تابعة للخليفة؛ لكنه لا يجوز له أن يقضي برأيه بل بما في الشريعة من أحكام، كما لا يجوز له التدخل في عمل القاضي الذي ينيبه في القضاء، فلا يحق له أن يلزمه بالقضاء بمذهب معين، ولا يحق له أن ينقض حكمه ولو خالف اجتهاد الخليفة ما دام أنه لم يخالف كتاباً أو سنّة أو إجماعاً، ولا يحق له أن يعزله عن القضاء إلا بسبب يستوجب العزل، ولذلك اتفق أهل العلم على أن الإمام لو ولَّى قاضياً القضاء بشرط أن يقضي بمذهب معين؛ فإن هذا الشرط باطل لا يجب الوفاء به، وفي فساد تلك التولية وجهان:
وجه يقول: الشرط باطل والولاية غير صحيحة.
والثاني يقول: الشرط باطل والولاية صحيحة، ويقضي القاضي بما يؤديه إليه اجتهاده(98)، وبهذا يظهر الاستقلال التام للقضاء الإسلامي.(49/306)
وأما بالنسبة لآلية الأحزاب فقد أخفقت في تحقيق المبدأ الأساس في الديمقراطية وهو تحقيق السيادة الشعبية، ذلك أن الحزب الفائز ولو كان يتمتع بأغلبية مطلقة في المجلس النيابي، ولا تكاد توجد أحزاب أخرى تشاركه ـ وهذا من النادر بل المستحيل في ظل الانتخابات الحرة ـ؛ فإن الذي يدير الحزب هو الهيئات الرئاسية للجان الحزب بجانب رئاسة الحزب العامة، «فهي التي تحدد موقفه من مشاكل الدولة، ثم تحدد لممثلي الحزب في البرلمان خطة يسيرون عليها؛ بحيث لا يحيد عنها إلا من التزم الاستقالة من حزبه، وهكذا يصبح النائب ممثلاً لحزبه لا للشعب أجمعه»(99). وفي حالة عدم تمكن الأحزاب من الأغلبية المطلوبة التي تمكنهم من تشكيل الحكومة؛ فإن الأحزاب تلجأ إلى إقامة ائتلاف بين عدة أحزاب لتحقيق الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، ويحدث في هذه الحالة تنازلات من الأحزاب لتكوين ذلك الائتلاف؛ بحيث لا تكون الرؤية النهائية للائتلاف معبِّرة عن رؤية حزب على الانفراد، وفي هذه الحالة فإن الائتلاف يكون ضعيفاً هشاً، ويتعرض للابتزاز السياسي من بعض أحزاب الأقلية، فيوافق الائتلاف على طلبات أو تصورات أحزاب الأقلية ـ وإن لم يكن مقتنعاً بها لتفادي سقوطه ـ، وعليه فإن الحكومات تصبح أسيرة لدى أحزاب الأقلية؛ إذ تملك هذه الأحزاب أن تمنح الحكومة ثقتها فتبقيها في الحكم، أو ترجح كفة المعارضة فتسقط الحكومة؛ مما يعني أن بضعة نواب هم المتحكمون حقيقة في السلطة، وهذا أيضاً فشل في تحقيق سيادة الشعب، وقد حاول الفكر الديمقراطي أن يتغلب على هذه الصعوبة باللجوء إلى نظام الحزبين، حيث تتبلور القوى السياسية في المجتمع حول حزبين كبيرين؛ مما يمكن أحدهما باستمرار من الحصول على الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، لكن هذا الحل يؤدي إلى أن يكون كل حزب وكأنه مكوَّن من مجموعة من الأحزاب الصغيرة فيما يعرف بالأجنحة، وقد تحتدم الخلافات بين تلك الأجنحة عند بعض القضايا المهمة فتؤدي إلى تفتيت الحزب، وقد يحدث أن يسيطر قادة الحزب على تلك الخلافات بتغليب بعض الأجنحة على بعض، فيسقط بذلك شعار حرية النائب في التعبير عما يراه صواباً.
من خلال ما تقدم يظهر الفرق بين الشورى وبين الديمقراطية، ويتبين أن دعوى بعض الناس بأن الإسلام دين ديمقراطي أو أن الديمقراطية هي تطبيق عصري للشورى؛ دعوى باطلة عارية عن الصواب.
الخاتمة
مستقبل النظام السياسي الإسلامي في عالمنا المعاصر
كان ما تقدم بعض الأحكام والمؤسسات والمعالم الرئيسة المتعلقة بنظامنا السياسي، ويحق لنا أن نتساءل بعد الغياب الطويل له: ما مستقبل نظامنا السياسي في تلك الأوضاع المعاصرة؟ نستطيع أن نرصد هنا العديد من التحديات والمعوقات التي تواجه عودة النظام السياسي الإسلامي مرة أخرى إلى الواقع، ويمكن تقسيمها إلى تحديات خارجية ومعوقات داخلية.
فمن التحديات الخارجية:
1- تميل كفة ميزان القوى في العالم إلى المعسكر المعادي للإسلام ميلاً كبيراً، وهذه القوى ترفض بشدة عودة النظام السياسي الإسلامي مرة أخرى، بل هي التي سعت بكل قوة حتى تمكنت من إسقاط الخلافة العثمانية وتفتيتها إلى دول متفرقة.
2- رياح العولمة التي بدأت تهب بكل قواها على بلاد المسلمين، والتي تحاول أن تصهر المسلمين مع غير المسلمين في نسق ثقافي وفكري واجتماعي واحد، وتذويب الخصوصيات والقضاء على الهويات.
3- حرص المعسكر المناوئ للإسلام على نشر أفكاره وثقافته المتعلقة بالنظام السياسي، وتصدير نسقه الديمقراطي من حيث التصورات والآليات، ومحاولة فرض ذلك بالقوة سواءً بالتهديد أو باستخدامها.
ومن المعوقات الداخلية:
1- سيطرة الأنظمة العلمانية على كثير من بلاد المسلمين، وموالاتهم للمعسكر المعادي للإسلام لاشتراكهما في الهدف.
2- جهل الكثير من أبناء الأمة بأحكام النظام السياسي في الإسلام.
3- انهزامية كثير من أبناء الأمة واغترارهم بالنظم المعاصرة.
4- قلة بل ندرة المؤلفات المعاصرة ذات الأصالة في النظام السياسي الإسلامي؛ إذ جل - إن لم نقل جميع - ما هو مكتوب في ذلك إنما هو متأثر - على درجات متفاوتة فيما بينها -بالفكر الديمقراطي وما يقدمه من حلول ومؤسسات في إدارة الدولة وحل الإشكالات بين الحكومات والمعارضة.
5- قلة الكتب المنشورة مما دوَّنه الفقهاء القدامى، إضافة إلى أن الحلول التنظيمية التي تقدمها تلك الكتب إنما تعالج أوضاع العصر الذي كتبت فيه.
6- ضعف عناية الدعاة بمسائل هذا الباب.
ومستقبل النظام السياسي متوقف على قدرة المسلمين على التغلب على التحديات والمعوقات، وليس من الواضح أن يتم في المنظور القريب التغلب على تلك التحديات والمعوقات إلا أن يحدث شيء غير عادي، ولكن هذا لا يمنع من البداية والثبات على العمل حتى يؤتي ثماره، والخطوة الأولى في هذا المجال هي نشر العلم بذلك وإيصاله لفئات الشعب المختلفة؛ كل بالطريقة التي تناسبه، وهذا يعني أنه لا بد من الاستثمار في هذا الجانب، وقد يكون ذلك عبر الوسائل التالية:
1- بناء المواقع على الشبكة العالمية المتخصصة في هذه المسائل.(49/307)
2- طباعة الكتب التي تبيّن تلك القضايا من المنظور الشرعي الصحيح.
3- العناية بذلك الجانب في المحاضرات وخطب الجمعة والدروس.
4- توزيع الأشرطة التي تخدم ذلك المجال.
5- إقامة الندوات والحوارات في المسائل المتعلقة بذلك النظام.
وعندما ينتشر العلم بتلك المسائل ويقوى بين الناس؛ فإنه ستظهر خطوات أخرى تلي تلك الخطوة، والله الموفق لكل خير
===============(49/308)
(49/309)
الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية
نشر يوم 06- 12- 2006
"محمد بن شاكر الشريف
مقدمة:
منذ عهد الاستعمار الحديث الذي حل في ربوع المسلمين، الذي سموه زوراً وبهتانا بـ (عصر التنوير) بدأت تطرق آذاننا ألفاظ لمسميات لم نسمع بها من قبل ذلك نحن ولا آباؤنا، من ذلك كلمة «الدولة المدنية» التي يبشر القائلون بها والداعون إليها، بأن كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الاستبداد السياسي إلى التخلف التقني، إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات، أن كل ذلك سيزول بمجرد أن تتحول دولنا إلى دول مدنية.
ولما كانت المنافع المعلقة على هذا التحول منافع كبيرة يحرص كل إنسان يريد الخير لأمته ومجتمعه على الحصول عليها، كان لا بد لنا من معرفة مدلول هذا اللفظ حقيقةً قبل قبوله والدعوة إليه، حتى لا نذهب إليه ثم يتبين لنا ما فيه من الفساد العريض، لكن بعد أن يكون قد فاتنا القطار. فماذا تعني الدولة المدنية؟
هل يراد بالدولة المدنية: التعليم الحديث واستخدام التقنية المعاصرة في شتى مناحي الحياة، والإدارة الحديثة، والتوسع في العمارة وإنشاء الطرق السريعة؟ قد يكون هذا بعض المطلوب، لكن هل هذا هو المطلوب أو كل المطلوب؟ وهل يكفي أم لا بد من شيء آخر؟ وهل الشيء الناقص يعد جوهرياً أو ثانوياً؟ ولما كان الحديث طويلاً متشعباً لكثرة المتكلمين في ذلك فقد لا نتمكن من إيراد كل ما قيل في الموضوع، لكننا نأمل أن تكشف لنا هذه الورقة عن حقيقة ذلك الأمر.
< الدولة المدنية في التراث الإسلامي:
بالتقليب في كتبنا السابقة التي تحدثت عن الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية لا نجد لهذا المصطلح وجوداً مع أن مفرداته: «الدولة» و«المدنية» هي من مفردات لغتنا، مما يتبين معه أن المصطلح مستورد من بيئة غير بيئتنا ـ وهذا في حد ذاته ليس عيباً، لو أنه كان لا يحمل مضموناً مخالفاً لما هو مقرر في ديننا ـ وعليه فإن محاولة البحث عنه في تراثنا لن تجدي شيئاً، وعلينا أن نبحث عن معناه في البيئة التي ورَّدته إلينا، ثم ننظر في معناه في تلك البيئة: هل يناسبنا فنقبله، أم يتعارض مع ديننا فنرفضه؟
ولعل هذا ما دعا بعض الكتاب إلى القول: «بما أن مصطلحات الدولة المدنية، والدينية (الثيوقراطية)، و(الأوتوقراطية) مصطلحات نشأت في الغرب أساساً، فلا بد قبل أن نسعى إلى تطبيقها على واقعنا، أو نقرر رفضها وقبولها اجتماعياً ودينياً، أن نستوعب معانيها كما هي في الثقافة التي أنشأتها، وأي منها يتعارض مع الإسلام ويتفق معه»(1).
لكن عدم وجود المصطلح نفسه في تراثنا، هل يعني أن المضمون الذي يحمله ـ سواء بالسلب أو الإيجاب ـ لم يكن موجوداً أيضاً؟
الدَّوْلة تعني في اللغة الغَلَبة، والغلبة يترتب عليها سلطان للغالب على المغلوب، ومن هنا يمكن القول إن العامل الأساس في تعريف الدَّولة هو السلطان أو السلطة، فإنه راجع إلى أصلها اللغوي، وفي كثير من كتب القانون الدستوري يعرِّفون الدولة عن طريق بيان أركانها دون الحديث عن ماهيتها، وأركان الدولة كما يجيء في هذه الكتب ثلاثة: ركن جغرافي يطلق عليه لفظ (إقليم) وهو متمثل في قطعة محددة من الأرض، وركن إنساني يطلق عليهم (شعب) وهو متمثل في مجموعة من الناس تعيش في هذا الإقليم، وركن معنوي يطلق عليه (السلطة العامة المستقلة ذات السيادة) وهو متمثل في الحكومة التي تملي إرادتها على ذلك الإقليم وما حواه من مخلوقات أو موجودات، وهذا الركن الأخير يتفق مع المعنى اللغوي في الدلالة على الدولة.(49/310)
وإذا كان كثير ممن كتب في السياسة الشرعية يقتصرون في كلامهم على ما يتعلق بالدولة في ديار الإسلام، ولا يتعدون ذلك إلى تفسير تنوع الدول، فإننا نجد ابن خلدون ـ رحمه الله تعالى ـ يقدم تفسيراً في ذلك حيث يبين أنه نظراً لاختلاف الإرادات والمقاصد بين الناس وملوكهم؛ فقد يجر ذلك إلى هرج وتقاتل، فكان لا بد للتغلب على هذا الاحتمال من «أن يُرجَع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة، وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم، وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 62]» ثم يبين أنواع السلطة في الدولة فيقول: « فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبُصَرَائها كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرِّعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة». فهو يفرق هنا بين سياسة عقلية وهي الأشبه بما يدعونه الدولة المدنية، وبين سياسة دينية، ثم يقدم ـ رحمه الله تعالى ـ أصول التنوع الكامل للدول فيقول: «إن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغَرَض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأُخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»(1) فكانت الدولة عنده ثلاثة أنواع:
ـ دولة قائمة على حمل الناس على مقتضى الغرض والشهوة، وهي ما يمكن أن نطلق عليه: (الدولة المستبدة) أو (الديكتاتورية).
ـ ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، وهي ما يمكن أن نطلق عليه (الدولة المدنية).
ـ ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (الدولة الإسلامية) أو (الشرعية).
< الدولة المدنية في الثقافة الغربية:
الدولة المدنية: «هذا مفهوم مترجم ومعرب من الثقافة الغربية الحديثة، ويقصد به الدولة التي تستقل بشؤونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة؛ فالدولة المدنية هي التي تضع قوانينها حسب المصالح والانتخابات والأجهزة والتي في نفس الوقت لا تخضع لتدخلات الكنيسة»(2). والكنيسة في الغرب كانت هي راعية الدين والممثلة له؛ فاستقلال الدولة المدنية عن تدخل الكنيسة ووضعها للقوانين حسب المصالح، معناه عند القوم استقلالها عن الدين(3)، وهو ما يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
ويقول كاتب آخر: «فمن الناحية التاريخية إذا رجعنا إلى أصل اصطلاحها الغربي، نجد أن للدولة المدنية مفهوماً فلسفياً ـ سياسياً، مناقضاً للدولة الدينية (الثيوقراطية)، والتي يتأرجح مفهومها (نظرياً) بين حكم رجال الدين، وتحكيم الدين نفسه في السياسة؛ بغضِّ النظر عن طبيعة من يحكم به! ويتمثل مفهومها عملياً بتنحية الدين عن السياسة مطلقاً؛ باعتبار الدين هو مجموعة قوانين إلهية مميزة للدولة الدينية... فكانت الدولة المدنية بمبدئها الرافض لتدخل الدين في السياسة دولة علمانية.. وأنها تمثل عبر التاريخ سواء في الشرق أو الغرب عند دعاتها إطاراً سياسياً للعلمانية قابلاً لتوظيف أي اتجاه فلسفي إيديولوجي في الحياة؛ بشرط تنحية الدين عن السياسة»(4). «الحكومة المدنية في الفضاء المعرفي الغربي تعني تنظيم المجتمع وحكمه بالتوافق بين أبنائه بعيداً عن أي سلطة أخرى سواء دينية أو غيرها، أي إن شرط (العلمانية) أساسي في تلك الحكومات»(5).
وإذا رجعنا إلى الوراء ثمانين سنة إلى أول من أدخل هذه المصطلحات إلى بيئتنا أو من يُعد من أولهم نجد الكلام نفسه حيث يقول: «طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائماً على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئاً أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان»(1)؛ فالدولة (الزعامة) المدنية عنده هي دولة (زعامة) لا دينية.
والمتابع لما يُكتَب هذه الأيام عن الدولة المدنية يمكنه رصد اتجاهات أربعة في بيان ما تعنيه الدولة المدنية، كلها تدور حول ما تقدم من معنى، سواء بالموافقة عليه أو المخالفة له.
الاتجاه الأول: وهو يمثل مَنْ قَبِل هذا المصطلح كما جاء من الغرب:
وهذا الاتجاه يمكن تقسيمه إلى فئتين:
فئة قبلت اللفظ ومفرداته لكن لم تصل به إلى غايته، أما الفئة الثانية فقد وصلت باللفظ إلى غايته وصرحت بأن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.(49/311)
الفئة الأولى: فإذا ذهبنا إلى مَنْ قَبِل هذا المصلح في بيئتنا العربية لننظر كيف تلقوه عن الغرب وكيف يفهمونه، فإننا نجد من يقول مبيناً خصائص هذه الدولة: «والدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون»(2)، ومن يقول: «الدولة المدنية هي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد... إلخ، وليس علماء الدين بالتعبير الإسلامي أو (رجال الدين) بالتعبير المسيحي»(3).
ومن يقول: «الدولة المدنية هي دولة المؤسسات التي تمثل الإنسان بمختلف أطيافه الفكرية والثقافية والأيديولوجية داخل محيط حر لا سيطرة فيه لفئة واحدة على بقية فئات المجتمع الأخرى، مهما اختلفت تلك الفئات في الفكر والثقافة والأيديولوجيا»(4). لكن هذا الكلام إذا أُخذ مفصولاً عن لواحقه فقد لا يتبين منه شيء؛ فهو كلام محتمل يسهل التخلص من لوازمه، لذا لو رجعنا إلى تفصيلات الكلام فإنها تكشف كثيراً من هذا الإجمال أو الغموض؛ ففي تفصيلات الكاتب الأول، نجده يضع الدولة المدنية في مقابل ما يسمونه بالإسلام السياسي، وهو ما يعني أن علاقة هذا المصطلح بالإسلام ـ في فهمهم ـ ليست علاقة توافق، وإنما هي علاقة تعارض.
والحقيقة أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى إسلاماً سياسياً وإسلاماً غير سياسي؛ فتلك مسميات ما أنزل الله ـ تعالى ـ بها من سلطان؛ فالإسلام هو الدين الذي رضيه رب العباد للعباد، بما فيه من عقائد وعبادات وتشريعات ومعاملات، فتقسيم الإسلام إلى سياسي وغير سياسي ونحو ذلك من المصطلحات، وقبول ما يزعمون أنه إسلام غير سياسي وينعتونه بالإسلام المعتدل، ورفض ما يسمونه بالإسلام السياسي وينعتونه بالإسلام المتشدد، هو مُناظِر لفعل المشركين من قبل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهماـ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّؤوهُ أَجْزَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ»(5).
يقول الكاتب المذكور: «فالخوف على الدولة المدنية قائم، والسؤال عن مستقبلها مطروح، في عدد متزايد من الدول التي يتنامى فيها دور حركات الإسلام السياسي»(6)، ويعلق على محاولة الملك فؤاد ملك مصر ـ بعد سقوط الخلافة في تركيا ـ أن يجعل من نفسه خليفة فيقول: «عندما أغرى سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 الملك الراحل فؤاد بأن يحمل اللقب الذي بات بلا صاحب، لم يكن واضحاً حينئذ لكثير من المصريين مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث في طبيعة الدولة إذا نجح فؤاد في تنصيب نفسه خليفة، لم يدرك الخطر على الدولة المدنية إلا قسم في النخبة السياسية والثقافية. ولكن هذه النخبة في مجملها كانت مؤمنة بأن الخلط بين السياسة والدين هو نوع من الشعوذة التي تسيء إلى كليهما، على نحو ما أبلغه الزعيم الوطني الراحل مصطفى النحاس بعد ذلك بسنوات إلى مؤسس جماعة (الإخوان) حسن البنا»(7)، ويقول أيضاً: «وسجل التاريخ لرجال مثل علي عبد الرازق وطه حسين وعبد العزيز فهمي وغيرهم، دورهم المقدر في حماية الدولة المدنية»(8).
ومعروف ماذا كان دور (علي عبد الرازق) الذي يعد أول من أنكر علاقة الدين بالحكم أو السياسة، وأنكر أن تكون خلافة الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ خطة دينية، وكذلك دور طه حسين التغريبي وغيره ممن ذكرهم الكاتب أو أشار إليهم، وهذا الاعتراف يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية، وإن كان بعض الناس يفضل استخدام لفظ المدنية على العلمانية من أجل الخداع والمراوغة.
ويقول الكاتب الثاني: «نريد أن نتجاوز التسميات إلى المضامين، أي أن المضمون للفكرة هي: قيام الدولة على أساس مدني، وعلى دستور بشري أياً كان مصدره، وعلى احترام القانون، وعلى المساواة وحرية الاعتقاد» ويزيد الأمر تفصيلاً فيضيف: «نقبل وننادي وندعم الدولة المدنية الحديثة القائمة على سلطة الشعب في التشريع، وكما ورد بالنص في برنامج حزب الوسط الجديد في المحور السياسي (الشعب مصدر جميع السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام) وهذا المبدأ يتضمن حق الشعب في أن يشرِّع لنفسه وبنفسه القوانين التي تتفق ومصالحه.. ويؤمنون بأساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات بكافة أشكالها ومنها السياسية بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم على أساس المواطنة الكاملة، ويؤمنون بالتعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية»(1).
ويقول الكاتب الثالث: «في الدولة المدنية يضع الإنسان قوانينه التي تنظم حياته لكونه أعرف بأمور دنياه، ويستمد من قوانين دينه القوانين التي تنظم علاقته بربه، ليكون مؤمناً لا يمنح لنفسه الحق أن يكون مدعياً لامتلاك الحقيقة ومفسراً وحيداً لمفاهيم الدين، مما يجعل الدولة كهنوتية تخضع لحكم الكهنوت وليس لحكم القانون»(2)، فالدولة المدنية في فهمه تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة، وحصر الدين في المفهوم العلماني الذي يقصر الدين على الشعائر التعبدية في معناها الضيق(3).(49/312)
وإذا كان الكاتبان الأول والثاني من دولة، والثالث من دولة أخرى فإن هناك كاتباً آخر من دولة ثالثة يردد المقولة نفسها؛ فعلى بُعد ما بينهم من المسافات وافتراق الديار وحَّدت بينهم الأفكار، فيقول: «إن مصدر السلطة في الدولة المدنية هو الأمة والشعب؛ فالأمة باب الشرعية الوحيد لها... وللسلطة في الدولة المدنية ثلاثة أنواع مستقلة عن بعضها تمام الاستقلال، ولكل منها مؤسساتها واختصاصاتها، وهي: السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية... والمواطنة في الدولة المدنية حق لكل من توافرت فيه شروطها، بغض النظر عن دينه وعرقه، ومن حصل عليه كفلت حقوقه باسم القانون، فلا طبقية ولا طائفية ولا عنصرية»(4).
وهناك من يقابل بين الدولة المدنية والدولة البوليسية فيزعم أن كل دولة ليست مدنية هي دولة بوليسية قائمة على القمع والظلم بغض النظر عن أي انتماء عقدي، وكلامه هنا يعني أن الدولة الإسلامية دولة بوليسية لا يمكن القبول بها؛ لأنها ـ من وجهة نظره ـ ليست دولة ديمقراطية، فيقول: «والدولة المدنية: نقيض الدولة العسكرية، وكل حكم سلطوي قمعي لا يقوم على الأسس الديمقراطية، هو حكم بوليسي سواء كان متسمياً باسم الدولة الدينية أو بغيره من الأسماء التي مهما تنوعت فإن السلطة التي تحتكر الحكم عن طريق فئة واحدة وفكر واحد هي سلطة لدولة بوليسية استبدادية متخلفة... ليس هناك دولة دينية، وإنما دولة مدنية أو دولة بوليسية؛ لأن الدولة المدنية كفيلة باحتضان كل الأديان والأفكار، أما الدولة البوليسية فإنها دولة لا تقبل الآخر وتستعدي التعدد والتنوع مرة تحت مظلة الحكم العسكري المعلن ومرة تحت مظلة الحكم الديني، وكلاهما حكم بوليسي لا علاقة له بمبادئ الدين»(5)، فكل حكم لا يقوم على الأسس الديمقراطية ـ عنده ـ هو حكم بوليسي استبدادي متخلف، سواء كان يستمد مرجعيته من الإسلام أو من غيره.
الفئة الثانية: وهناك من يصرح تصريحاً دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ أن الدولة المدنية تعني الدولة العلمانية؛ فهذا كاتب يقول في مقال له بعنوان: لماذا ننادي بالدولة العلمانية؟: «ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة، وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة... إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل وحالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة والكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها ومن ثَم الاختلاف المرير حولها»(6)، وهذا كاتب آخر يقول: «لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية؛ لأن العقيدة، أية عقيدة كانت لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في المجتمع المدني... إلى أن يقول: وأخيراً نؤكد أن الدولة المدنية العلمانية الليبرالية الدستورية ليست شكلاً مجرداً وإنما هي مضمون يساهم في تقدم المجتمع بكل مكوناته وقومياته وأديانه»(1). وهذا كاتب آخر يضع الشروط الأساس لبناء الدولة المدنية فيقول: «استكمال بناء الدولة المدنية الحديثة بما يتطلب من خلو المجال العام من كل الإِشارات والرموز الدينية، حتى يصبح من الرحابة إلى الحد الذي يسع فيه كل المختلفين. وأن تجري السياسة على أساس المصلحة، وأن يكون التشريع تعبيراً عن تنوع الأمة»(2).
< الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا:
يحلو لكثير من الكتاب في هذا الموضوع من أصحاب الاتجاه التغريبي المقابَلة بين ما يسمونه دولة مدنية، ودولة ثيوقراطية؛ أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة والقداسة، ويذكرون ما في الدولة الثيوقراطية من المثالب والعيوب والآفات، ويُسقطون ذلك على الدولة الإسلامية، وهذا ليس من المنهج العلمي الذي يتبجح به هؤلاء؛ فإن هذا اللفظ (ثيوقراطية) ليس من الألفاظ العربية، وهو لم يأت في أي كتاب من كتب المسلمين؛ فكيف يحاسبوننا عليه؟ وهل هذا إلا كمثل من يتهم غيره بتهمة من عند نفسه ثم يحاسبه عليها وهو لا يعلم بها؟ فإذا كانت الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا أو مفرداتنا، لم يَجُز لأحد أن يحاكمنا إليها، ومن أراد فليلجأ إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا حتى يكون النقاش علمياً.(49/313)
إن الدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا نعلم عن وجودها إلا ما كان في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح؛ حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية؛ فهذه خبرة نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد؛ فما الذي يدعو هؤلاء إلى محاكمتنا إلى لفظ ليس من عندنا ولا يحاكموننا إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا الثابتة في كتب أعلام هذه الأمة؟ وهل هذا إلا دليل على أن هؤلاء يحاكمون تاريخنا وهم في الوقت نفسه ينظرون إلى تاريخ الغرب النصراني نظرة إكبار وإعجاب؟ وهو يعني اختزال الخبرة السياسية في العالم كله في الخبرة الغربية؟ وهذا في منتهى التبعية واحتقار الذات. يقول أحد الكتاب: «ثقافتنا الإسلامية لم تعرف دولة مدنية وأخرى دينية؛ فهذا التقسيم أفرزته حركة التنوير في الغرب المناهضة لسلطة الكنيسة المطلقة، والتي كانت تمثل نمط السلطة الدينية غير المرغوب فيها، وهو المعنى الذي يعنيه مصطلح (ثيوقراطية) الذي هو نظام حكم يستند على أفكار دينية في الأساس مستمدة من المسيحية واليهودية، وتعني حكماً بموجب الحق الإلهي المزعوم، وهو نظام كان له وجود في العصور الوسطى في أوروبا، نتجت عنه دول دينية مستبدة؛ ولكننا في الشرق الإسلامي لم نعرف هذا اللون من الحكم؛ فليس في الإسلام مؤسسة دينية كالكنيسة، التي فيها التراتيبية المعهودة بين رهبانها ولا يجب أن يسمح بقيامها(3).
لقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب، ما يحاول هؤلاء بافتراء واضح أن يلصقوه بأمة المسلمين، فقال ـ تعالى ـ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وقد بين أهل التفسير أن تلك الربوبية كانت في استقلال الأحبار والرهبان بالتشريع حتى إنهم ليُحِلُّون ما حرم الله ـ تعالى ـ ويحرِّمون ما أحل الله ـ تعالى ـ وهذا لم يكن بحمد الله ـ سبحانه ـ في أمة المسلمين.
الاتجاه الثاني: وهو يمثل من حاول المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام.
يرى هذا الاتجاه أن المسألة هينة وأنها مجرد اصطلاح، والاصطلاح لا مُشَاحَّةَ فيه كما يذكر أهل العلم، وعلى ذلك فهم يقررون أن الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة،: «إن الدولة مدنية لا دينية، أما مصدر الدستور والقانون فيها فحتماً هو الكتاب والسنة وموروث الأمة فقهاً وفكراً، والدولة المدنية في عصرنا هي دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها»(4). وهذا لا شك فيه محاولة للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة بلا خلاف بين أحد من الأمة؛ إذ لم يدَّعِ أحد أن للأمة أن تشرِّع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة من دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، لكن هذا الكلام في الحقيقة يحمل التناقض في ثناياه؛ إذ كيف نقول عنها إنها لا دينية ثم نقول في الوقت نفسه إن دستورها هو الكتاب والسنة؟ فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين، وكون دستورها الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض، وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح؛ فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمال مستقر مناقض للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوصف الدولة في الإسلام سبباً في اللبس وخلط الأمور؛ لأن هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحاً مجرداً وإنما صار اصطلاحاً مُحَمَّلاً بالدلالات التي حَمَلَها من البيئة التي قدم منها.
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة؛ فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا إلى جمعها، كما يمثل نوعاً من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مسوغ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال.(49/314)
ومما هو مقبول في العقل السليم أن الكلمة ذات المعنى الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسداً فإنه يُعْدَلُ عنها إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد، وهذا الأمر المعقول قد أرشد إليه القرآن حينما قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104]، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ـ عليهم لعائن الله ـ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا. يُوَرُّون بالرعونة»(1). وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «في هذه الآية دليلان: أحدهما ـ على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض... الدليل الثاني ـ التمسك بسد الذرائع وحمايتها... والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع»(2).
الاتجاه الثالث: وهو يمثل من يرى أن الدولة المدنية هي جوهر الإسلام وحقيقته.
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن مصطلح الدولة المدنية تعبير عن حقيقة الإسلام وجوهره؛ «فالدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة، تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة ـ مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها ـ أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم، بل كل مواطن، أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكراً، أو ضيَّع معروفاً، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأى كفراً بَوَاحاً عنده من الله برهان»(3). لكن أصحاب هذا الاتجاه لم يقدموا شيئاً يدعمون به تلك المقولة؛ فمن حيث اللفظ؛ فإن هذا المصطلح جديد، فلا يمكن البحث عنه في التراث الشرعي للتدليل على تلك الفرضية، ومن حيث المعنى فإن هذا المعنى المذكور لا يوافق عليه جميع القائلين بالدولة المدنية الموافقين عليها، فضلاً عن اشتمال هذا المصطلح لمضامين مناقضة للعقيدة والشريعة.
على أن هناك ممن يدعي هذه الدعوى لا يقدم مشاريع وأطروحات واضحة مفصلة تبين بها تلك المسألة، بعيداً عن الكلام المجمل الذي يمكن صرفه إلى عدة معانٍ محتملة غير قاطعة في المراد منها.
الاتجاه الرابع: رفض هذا المصطلح لما اشتمل عليه من مفاسد ولعدم الحاجة إليه:
يرى هذا الاتجاه أن الدولة المدنية التي يجري الحديث عنها هي دولة علمانية، «هذا الاصطلاح (الدولة المدنية) هو مطاطي ينكمش في أحسن حالاته ليحاكي الغرب في كثير من مناهجه السياسية في الحكم مع الحفاظ على بعض الخصوصيات، ويتمدد حتى يصل إلى أصل استعماله دولة علمانية صرفة»(4)، «ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ... ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية، ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت. وكل حكم سوى حكم الله هو طاغوت»(5).
وفي هذا الجانب يتفق هذا الاتجاه مع الاتجاه الأول ولكن بفارق جوهري كبير، وهو أن الاتجاه الأول لا يظهر منه رفض واضح لعلمانية الدولة المدنية، بل منهم من يصرح بعلمانيتها ويدعو إلى ذلك، وأما هذا الاتجاه فيظهر منه الرفض الواضح لعلمانية الدولة ويحذر منها، ويرى أن الدين والعلمانية نقيضان لا يجتمعان معاً. وأما الاتجاه الثاني فيحاول أن يوائم بين الأمرين فيقبل شيئاً من هؤلاء وشيئاً من هؤلاء، وأما الاتجاه الثالث فهو يجعل الدولة المدنية من صميم الإسلام.
ومن هنا يتبين أن القابلين لهذا المصطلح مختلفون فيما بينهم فيما يظهر من كلامهم، فإن كان اختلافهم هذا حقيقياً، فهو دليل منهم على غموض هذا المصطلح وعدم وضوحه، واشتماله على كثير من الأمور التي يناقض بعضها بعضاً؛ فهم مدعوون لتنقيته من تلك التناقضات، واللائق بمثل هذا المصطلح في هذه الحالة تركه وعدم التعويل عليه، والبحث ـ إن كان لا بد ـ عن مصطلح آخر بريء من هذه التناقضات والغموض الذي يحيط به.
(1) مسفر بن صالح الوادعي، مقال على موقع العربية بعنوان: لا تثقرطوها ولا تؤقرطوها.
(1) مقدمة ابن خلدون، ص 169 ـ 170، ط دار الشعب.
(2) د: محمد عابد الجابري، جريدة الوطن الأحد 16/4/1427 العدد (2053).
(3) الكنيسة في الغرب تجاوزت حدوها حيث تسلطت على قلوب الناس، وكانت تعاملهم وكأنها هي الإله أو الرب، فتُدخل في الرحمة من يطيعها، وتطرد من الرحمة من يتمرد على أوامرها، فكأنها المتصرفة في الجنة والنار تُدخل من تشاء الجنة، وتُدخل من تشاء النار.
(4) إدريس أبو الحسن، عضو منظمة كُتِّاب بلا حدود، موقع مجلة العصر.
(5) د: سليمان الضحيان، جريدة الوطن الإثنين 24 ربيع الآخر 1427هـ الموافق 22 مايو 2006م العدد (2061) السنة السادسة.(49/315)
(1) الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، ص 90، الطبعة الأولى عام 1343هـ 1925م.
(2) وحيد عبد المجيد، موقع جريدة الغد 91666 http://www.alghad.jo/?news=.
(3) أبو العلا ماضي، وكيل مؤسسي حزب الوسط، مجلة الهلال بتاريخ 1/1/2005.
(4) سامي اليامي، موقع تنوير www.kwtanwee صلى الله عليه وسلم com/a r ticles/ r eada r ticle.php?a r ticleID=879.
(5) أخرجه البخاري، باب إتيان اليهود النبي، رقم (3651).
(6) وحيد عبد المجيد، موقع جريدة الغد 91666 http://www.alghad.jo/?news=.
(7) المرجع السابق.
(8) المرجع السابق.
(1) أبو العلا ماضي، وكيل مؤسسي حزب الوسط، مجلة الهلال، بتاريخ 1/1/2005.
(2) سامي اليامي موقع تنويرwww.kwtanwee صلى الله عليه وسلم com/a r ticles/ r eada r ticle.php?a r ticleID=879.
(3) العبادة في المفهوم الشرعي هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الأقوال والأفعال والتصرفات، لكن هؤلاء ظنوا أن العبادة هي فقط العبادات المعلومة كالصلاة والصوم ونحوهما، لذلك أقروا بها، ولو علموا أن العبادة في المفهوم الشرعي تشمل حياة الإنسان كلها لما قالوا بذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
(4) مسفر بن صالح الوادعي، موقع العربية، الثلاثاء 30 مايو 2006م، 04 جمادى الأولى 1427هـ
http://64.233.167.104/sea r ch?q=cache:oDa--ISKjssJ:www.ala r abiya.net/A r ticles/
(5) سامي اليامي، موقع تنويرwww.kwtanwee صلى الله عليه وسلم com/a r ticles/ r eada r ticle.php?a r ticleID=879.
(6) د عبد الله المدني، موقع جريدة المؤتمر http://www.inci r aq.com/Al-Mutama صلى الله عليه وسلم
(1) خالد يونس خالد، موقع تنوير471http://www.kwtanwee صلى الله عليه وسلم com/a r ticles/ r eada r ticle.php?a r ticleID=، ورقة قدمها الكاتب إلى مؤتمر الدولة المدنية ضمن سلسلة مؤتمرات دعم الديمقراطية في العراق التي عُقدت في لندن خلال الفترة 24 ـ 31 يوليو/تموز 2005 والمنظمة من قبل لجنة دعم الديمقراطية.
(2) سامح فوزي http://www.islamonline.net/A r abic/politics/2005/06/a r ticle20.shtml.
(3) عبد الله فراج الشريف، ملحق الرسالة بجريدة المدينة، السبت 6 من محرم 1424 هـ، وهو منشور على موقع الشيخ سعد البريك.
(4) عبد الله فراج الشريف، ملحق الرسالة بجريدة المدينة، السبت 6 من محرم 1424 هـ، وهو منشور على موقع الشيخ سعد البريك.
(1) تفسير ابن كثير (1/373).
(2) تفسير القرطبي (2/57).
(3) د: يوسف القرضاوي موقع الملتقى، وما ذكره من تفاصيل الحكم في الإسلام لا يُنازعَ فيه، لكن من الذي قال إن الدولة التي عرفها المسلمون في تاريخهم كانت دولة مدنية، وهم لم يسمعوا بهذا المصطلح ولا عرفوه؟
(4) الشيخ سعد البريك، على موقع الشيخ.
(5) د: عبد الله الصبيح، من مقال على موقع الإسلام اليوم، وانظر جريدة الوطن بتاريخ 25/4/1427 العدد (2062).
مجلة البيان: العدد 229 (أكتوبر 2006).
العدد 14، نوفمبر 2006"
عناصر الدولة المدنية:
لكن لو كان لنا أن نتجاوز ما تقدم كله وندخل في التفاصيل بعيدا عن الوقوف عند حد التعريفات، فما عناصر الدولة المدنية؟ وما علاقة ذلك بالإسلام؟
يدور الحديث عن عناصر الدولة المدنية حول عدة محاور تقول: "فطبيعتها تتلخص في وجود دستور يعبر عن قيم ومعتقدات وأعراف المواطنين في الدولة، وفي الفصل بين السلطات الثلاث الآنفة الذكر ، وفي اكتساب الحقوق على أساس المواطنة، وعدم التمييز بين المواطنين لا بسبب المذهب أو الطائفة أو الثقافة أو العرف، وفي كفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، واحترام التعددية والتنوع"
من خلال ما هو مطروح من المداخلات والمساجلات يتبين أن هناك عدة عناصر منها:
وجود دستور مكتوب: والدستور هو أعلى وثيقة قانونية في الدولة وهو المرجعية النهائية لجميع القوانين والأنظمة، فكل ما خالفه من أفعال أو تصرفات فهي موصوفة بالبطلان المطلق، وكل قانون أو تنظيم يسن مخالفا للدستور، هو باطل ولا تترتب عليه النتائج التي تغياها القانون أو التنظيم، وكل ما خالف الدستور فيجب نقضه وإلغاؤه
وقد يختلف الناس في شأن تدوين دستور، وهل هناك حاجة إلى ذلك لتحديد الحدود والالتزامات والحقوق والواجبات بين مختلف فئات المجتمع، وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أم يُكتفى بما هو موجود في النصوص الشرعية؛ وبما هو موجود في القضايا الإجماعية، والمعلوم من الدين بالضرورة؛ لوضوحه في الدلالة على ما يراد منه.(49/316)
والخلاف في ذلك سائغ وهو خلاف في الفقهيات وليس في العقائد، يحكم عليه بالصواب أو الخطأ، ولا يحكم عليه بالحق أو الباطل، أو بالإيمان أو الكفر، ولا يمكن أن يُمنع الخلاف في ذلك بين الناس إلا في ظل القهر والاستبداد، وليس هذا هو جوهر القضية، وإنما جوهر القضية ما الأساس الذي يدون عليه الدستور إذا قيل بتدوينه؟ هل هو الكتاب والسنة وما دلا عليه بوجوه الدلالات المعتبرة، وفق القواعد الشرعية المنضبطة، أو الأساس هو العقل والمصلحة، والخبرة والتجارب، ولا شك أن الخلاف في هذا غير سائغ، وهو خلاف عقدي يحكم عليه بالحق أو الباطل أو بالإيمان أو الكفر، وليس خلافا فقهيا يحكم عليه بالصواب أو الخطأ.
إمكانية تداول السلطة: المراد بالسلطة في هذا الكلام الحكومة، بما لها من حقوق وما عليها من واجبات وتبعات، وهي بلا شك في كل الأنظمة سواء الإسلامية وغير الإسلامية لها شروط ومواصفات، ينبغي تحقيقها والتحلي بها، والمشكلة لا تكمن في تداول السلطة، فقد قال عمر رضي الله تعالى عنه الخليفة الثاني: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ..ثم قال عندما قدم المدينة: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا" ، فعمر رضي الله تعالى عنه يبين أن البيعة أي تولية السلطة لا تكون إلا بمشورة المسلمين، ويحذر الناس ممن يبايع من غير مشورة، ويبين أن هذا غصب لأمور الناس، ثم يبين أن من فعل ذلك فلا ينبغي مبايعته هو أو الذي بايعه، وقد قال ذلك في المدينة النبوية في خطبة الجمعة أمام الصحابة كلهم بمن فيهم من الفقهاء والعلماء، فلم يعترضه أو ينكر عليه أحد، فدل ذلك على أن هذا هو المعروف لديهم.
وعندنا من الواقع العملي أن السلطة تولاها بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم أبو بكر وهو من بني تيم ثم تولاها عمر وهو من بني عدي ثم تولاها عثمان وهو من بني العاص ثم تولاها علي وهو من بني هاشم رضي الله تعالى عن الجميع، فالسلطة انتقلت وتداولها المسلمون وفق الشروط والمواصفات التي دلت عليها الأحكام الشرعية، ولم يحتكرها أحد ويقصرها على نفسه، لكن ليس من معنى تداول السلطة أن يُحدد وقت معين لولي الأمر يفقد بها صلاحيته لولاية الأمر حتى يجدد اختياره من جديد.
والمشكلة الجوهرية مع أنصار الدولة المدنية في هذه المسألة تكمن في الشروط والمواصفات التي ينبغي توافرها فيمن يُولى الأمر، وليس في تداولها، فهل من شروط الحاكم عندهم أن يكون مسلما، أم يجوز أن يكون كافرا شقيا ما دام أنه يتمتع بصفة المواطنة؟ وهل يشترط عندهم أن يكون صالحا تقيا أم يجوز أن يكون فاسقا عصيا لرب العالمين ؟ وهل يشترط عندهم أن يكون رجلا أم يجوز أن تكون امرأة؟
لكن أهمية الحديث عن تداول السلطة عند كثيرين تنبع من أن السلطة في عرفهم صارت مغنما من المغانم وليست مغرما، لذلك يطالبون بنصيبهم من هذا المغنم، ورضي الله تبارك وتعالى عن عمر عندما رفض أن يعهد بالأمر من بعده لمن يهمه أمره، وقال: لا أتحملها حيا وميتا، والتداول لا يمثل قيمة جوهرية في الفقه السياسي الإسلامي، وإنما القيمة تكمن في قدرة ولي الأمر على القيام بمهامه على الوجه الأحسن، فإذا كان ولي الأمر قائما بما يجب عليه، محققا للمقصود من نصبه من غير إخلال أو تقاعس عن القيام بمهامه وواجباته، فليس هناك معنى معقول لإخراجه عن السلطة بزعم تداولها، وفي الجهة المقابلة فإنه متى تقاعس ولي الأمر عن القيام بواجباته، ولم يكن نصبه محققا للغرض المقصود منه فإن الشريعة لا تأمر بالإبقاء عليه واستمراره في منصبه، بل يوعظ وينصح ويوجه فإن استقام وإلا فالعزل طريقه
الاعتراف بالآخر: ما المراد بالاعتراف به؟ الاعتراف بوجوده، أم الاعتراف بحقوقه التي كفلتها له الشريعة، أم الاعتراف بواجباته التي أناطتها به الشريعة، أم الاعتراف بأنه على دين يخالف دين الإسلام، أم الاعتراف بأن له الحق في أن يدعو بين المسلمين إلى دينه، وأنه يحق له إقناعهم بالتحول إليه.(49/317)
ونقول: الاعتراف بالموجود لا حاجة له، فنفس وجوده دليل عليه وهذا من البدهيات لا يحتاج إلى اعتراف، وأما الاعتراف بحقوقه وواجباته وفق الشريعة فلم يعارض في ذلك أحد ممن يؤخذ عنه العلم، ولا ينبغي أن يعارض في ذلك أحد، وأما الاعتراف بأنه على غير دين الإسلام فهذا من أساسيات الإسلام، فكل من لم يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهو على غير دين الإسلام، ما بقي إلا شيء واحد وهو أن يكون الاعتراف بالآخر يعني الاعتراف بحقه في أن يدعو المسلمين إلى دينه، أو أن يُمكنوا من بناء أماكن لعبادتهم في أمصار المسلمين التي لم يكونوا بها من قبل، بل مصَّرها المسلمون، لكن نحن نسألكم هل هناك أدلة تدل على ذلك؟ وإذا لم تكن هناك أدلة تدل على ذلك، بل كانت الأدلة تدل على عكسه، كانت المطالبة به على أساس أنه من مواصفات الدولة المدنية، قدحا في تلك الدولة لأنها تقوم على مخالفة الشرع.
قبول الديمقراطية: وقد تقدم الحديث عنها في مقال سابق فلا مسوغ للإعادة : ، لكنا نقول لقد أثبتت حوادث الأيام أن الديمقراطية في تلك الدول التي تزعم ريادتها في هذا المجال مجرد شعار أجوف، فلقد شنت أمريكا الدولة الديمقراطية ومعها بريطانيا الدولة الديمقراطية أيضا، وبالتحالف مع عدة دول ديمقراطية أيضا، حربا ظالمة على العراق بزعم وجود أسلحة دمار شامل في تلك البلد، ثم تبين بعد ذلك أن هذه الأخبار كانت ملفقة حتى إن وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول اعترف بذلك، فماذا كانت النتيجة هل اعترفت أمريكا وبريطانيا وذيولهم بالخطأ، وندموا على ما فعلوا وقدموا تعويضات لهذا الشعب، الذي قتل منه بسبب هذه الحرب الهمجية أكثر من مائتي ألف مواطن.
لقد اعترضت طوائف كثيرة من شعوبهم على تلك الحرب غير الأخلاقية فما أصغوا إليهم، ثم أين سيادة القانون التي يدعونها، وهم قد خالفوا القانون الدولي الذي يلزمون به الدول الأخرى، وذلك بالتدخل في شئون دولة مستقلة من غير تفويض من (المجتمع الدولي)! بذلك، والأغرب من ذلك أن الأمم المتحدة نفسها قامت على أساس غير ديمقراطي، حيث هناك خمسة دول كل دولة منهم تملك تعطيل أي قانون أو مشروع حتى لو وافقت عليه دول العالم كلها، فأين الديمقراطية في ذلك؟، أم إنها احتكار للقرار الدولي، فلو وضع صوت دولة من هذه الدول في كفة وبقية العالم في كفة لرجحت كفة هذه الدولة، فما أشد هذا الظلم وأقساه على النفوس الأبية، وكم ذقنا من مرارته كثيرا، فها هم اليهود يعتدون على إخواننا الفلسطينيين ويقتلون منهم في سيناريو شبه يومي، فلو قدر أن ضمير العالم صحا لهذا الظلم الشنيع، وأخذ قرارا بالإدانة مجرد قرار لا يترتب عليه شيء في الواقع، وجدنا أمريكا تعترض عليه، بما لها من هذا الحق غير (الديمقراطي) فيصبح كأنه لا شيء.
الحفاظ على حقوق الإنسان: الناس لهم حقوق كثيرة كفلتها لهم الشريعة ينبغي أن يمكنوا منها، ولا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين حقوقهم التي منحها الله لهم، ولا يفعل ذلك إلا جبار عنيد، فالحقوق ممنوحة من الله تعالى لم تمنحها الطبيعة ولم يمنحها الحاكم، وفي هذا أعظم صيانة لهذه الحقوق، ومن هذه الحقوق أن الكافر لا يكره على الدخول في دين الإسلام، بل يعرض عليه الإسلام فإن قبله ونطق الشهادتين دخل في الإسلام، وإن أبي وأصر على البقاء على دينه فلا يكره ولا يجبر على تغييره، وكل ما يطلب منه في هذه الحالة أن يفي بعقد الذمة الذي بينه وبين الدولة المسلمة ولا ينقضه، وهذا أمر مقرر، وكل ذلك لا خلاف عليه بيننا وبين من يقبل به سواء كان من أدعياء الدولة المدنية أم من غيرها.
لكن هل من الحقوق أنه يجوز للمسلم أن يغير دينه إلى اليهودية أو النصرانية أو إلى لا دين؟ هذا محل خلاف بيننا وبين دعاة الدولة المدنية، هم يرون ذلك حقا له، وأنه لا حد في الردة، وأن المرتد هو الشخص الخارج على النظام فهذا الذي يجب قتله، ومن غير كبير خوض في التفاصيل فإن كل مسألة من تلك المسائل قد يستغرق الكلام فيها حيزا كبيرا، فنقول: أنتم لستم أول المسلمين، ولا أنتم صحبتم رسول ا صلى الله عليه وسلم وفقهتم عنه، كما أن الإسلام لم يكن معطلا قبلكم حتى جئتم أنتم تطبقونه، فخبرونا مَن مِن أهل العلم الذين يرجع إلى أقوالهم عند الخلاف، قال بهذا القول، فإذا لم تستطيعوا-ولن تستطيعوا- أن تثبتوا أن أحدا من أهل العلم بدين الله تعالى قد سبقكم بما تقولون، فقد أحدثتم في دين الله تعالى، وقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" وهو حديث متفق عليه أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث وفي رواية: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".(49/318)
على أن هناك حادثتين تتعلقان بهذا الموضوع يحسن بنا إيرادهما تبين أن الكلام على حقوق الإنسان والدندنة حوله ليس في حقيقته أكثر من تمكين فئات الأقلية من التحكم في الأكثرية، تحت ضغط الدول المدنية الكبيرة وتأثيرها على متخذي القرارات في الدول الضعيفة، فقد حدث أن امرأة نصرانية في مصر اهتدت إلى أن الإسلام هو دين الحق فأسلمت، لكن الذين يتكلمون عن حقوق المواطنة هاجوا وماجوا ومن ورائهم ضغط الدول المدنية الكبيرة حتى سَلَّمت الدولة المصرية المرأة المسلمة إلى الكنيسة لتعتقلها داخل الدير، وقد يضغطون عليها هناك تحت ظروف الاعتقال فيردونها إلى الكفر مرة أخرى، فجعلت منها دولة داخل الدولة، ولم نسمع أي نكير من أي دولة مدنية كبيرة أو صغيرة على هذا الاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان، ولو قارنت هذا بما حدث من رجل أفغاني ارتد عن دين الإسلام حينما قدم للمحاكمة، كيف قام العالم النصراني كله يدافع عن حقه في اختيار الدين الذي يريده، وأن محاكمته على اختياره هو اعتداء على حقوق الإنسان، وضغطوا على حكومة ذلك البلد حتى خرج في أقل من ثمانية وأربعين ساعة من أمام المحكمة التي يحاكم بها، ليسافر معززا مكرما لاجئا إلى بلد نصراني
السماح بالحريات: الحرية مطلب تحرص عليه النفوس الأبية التي تأنف أن تكون ذليلة أو تابعة لبشر مثلها، ولا ينبغي أن يحجر على الإنسان ويمنع من حريته التي كفلتها له الشريعة، لقد كان الاختلاف المذهبي أحد أبرز مظاهر حرية الرأي عند المسلمين، فرغم أنه خلاف في فهم الدين والعمل، فإنه لا جبر ولا إكراه على القبول برأي لا يرضاه الإنسان، ولكل إنسان الحق في الاحتفاظ برأيه والعمل به ما دام رأيه لا يصادم النصوص الشرعية ولا يخالف القواعد المرعية، ويحق للمسلم التمسك برأيه ولو كان في مواجهة رأي الخليفة، وهناك نماذج وأمثلة كثيرة حدثت في تاريخ المسلمين.
فالخلاف في الرأي والتصورات ظاهرة إنسانية لا يمكن نفيها ولا القضاء عليها، والخلاف ليس مقصورا على المسلمين فكل أصحاب المذاهب الأخرى يختلفون، ولكن بفارق مهم جدا وهو أن المسلمين لهم مرجع يرجعون إليه جميعا، يكون لهم ضابطا يعصمهم من تحول الخلاف في الرأي إلى افتراق وتشتت بين أفراد الأمة وانقسامها إلى طوائف وشيع وأحزاب، بعكس المذاهب الأخرى فليس لهم مرجع يرجعون إليه غير ما تهديهم إليه عقولهم وغير ما يظنون منفعته وفائدته، وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان متقلبا لا يستقر على رأي أمدا طويلا، ضرورة قصور علم الإنسان وجهله، فما كان حقا وصوابا عندهم اليوم قد يرونه غدا خطأ وضلالا ، لكن هل من حرية الرأي أن يعيب المسلم أو غير المسلم الدين ويقدح في الشريعة؟ فالمسلم مطالب بأن يعظم شعائر الله وأن يعظم حرمات الله فمخالفة ذلك ليس من حرية الرأي، بل من الخروج على الدين الذي ينبغي أن يحاسب عليه من فعله، وهل من الممكن تحت زعم عدم التضييق على الإبداع والمبدعين أن يترك لهم الحبل على الغارب فيعيثون في أخلاق الأمة وعقيدتها وشعائرها فسادا؟، وأما غير المسلم فلا يطالب بذلك مثل المسلم، فإن عدم إسلامه يعني طعنه في دين الإسلام، لكن لا يقبل منه إظهار ذلك بين المسلمين، والإعلان به، أو الدعوة إليه.
وهكذا لو ذهبنا نعدد كثيرا من تلك الأمور التي يعدونها من عناصر الدولة المدنية، فقد لا نجد اختلافا عند الكلام المجمل، ولكن المحك الحقيقي عند ذكر التفصيلات حيث يظهر الاختلاف، فمثلا مَنْ من الناس لا يريد العدل ولا يطالب به؟، لكن ما هو العدل ؟ هذا يختلف باختلاف كل أمة، فما يكون عدلا عندك قد يكون ظلما عند الآخرين، فأمريكا اليوم مثلا ترى من العدل والحق أن يقوم اليهود بضرب الفلسطينيين في غزة بالطائرات والمدافع من أجل فك أسر الجندي اليهودي المأسور، بينما ترى أن محاولة الفلسطينيين فك أسراهم من الظلم الذي ينبغي أن يعاقبوا عليه.
وبكلام مجمل: نقول لدعاة الدولة المدنية والمبشرين بها
- هل ما تذكرونه عن الدولة المدنية من حيث معناها وعناصرها، دل عليه ديننا وشريعتنا بأي نوع من الدلالات المعتبرة عند أهل العلم؟ فإن قلتم: نعم دل على ذلك، قلنا: أين هي النصوص التي تتحدث عن ذلك وما وجه دلالتها؟، وإن قلتم: لم تدل على ذلك النصوص وإنما دلت على خلافه، قلنا: لا حاجة لنا فيما يخالف شرعنا، وإن قلتم: إن النصوص لم تدل على اعتباره كما أنها لم تدل على إلغائه، فاجتهدنا نحن في ذلك من باب المصالح المرسلة، قلنا: لستم أنتم من أهل الاجتهاد، فليست لكم أية دراسات مقدرة في الشريعة، وكل علم له رجاله المتخصصون فيه، وهذه بدهية من بدهيات العلوم، ومن تكلم في غير فنه أتى بالأعاجيب، وإن قلتم: نحن لا يعنينا الاتفاق أو الاختلاف مع الأحكام الشرعية، والذي يهمنا هو ما نرى فيه المصلحة، قلنا: إذن فقد خلعتم بذلك ربقة الإسلام من أعناقكم(49/319)
-أنتم في ظاهركم تقرون وتعترفون أن الله تعالى هو خالق هذا الكون العجيب بسماواته العظامن وأراضيه الشاسعة، وخالق الحياة كلها، والذي أحكم هذا الكون إحكاما يحار فيه أولو الألباب، مقرين بعلم الله تعالى وحكمته وعظمته، أفتستكثرون على الله تعالى أن ينزل على عباده ما يهديهم في شئون حياتهم، أم تظنون أن الله تعالى خلق الخلق ورزقهم من المال والبنون، ثم تركهم يديرون حياتهم بغير بغير هداية منه ورشاد، ألم يقل الله تعالى منكرا على من يريد أن يستقل ويضع بنفسه ما يحكم به مجتمعه [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}
- ما الذي يدعوكم للمطالبة بالدولة المدنية، وما الذي يحملكم على التضحية بدين الأمة، وما المكاسب التي ترونها في التمسك بالدولة المدنية، وهي ليست في الدين، وهل هناك ما يدعو إلى استخدام هذا الاسم المشتمل على قضايا مقبولة، وقضايا تتعارض مع الدين، ولماذا العدول عن اسم الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية، ما الذي تنقمونه من هذه التسمية، هل تشتمل على قضايا غير مقبولة؟، إن كانت هناك ممارسات غير مقبولة وقعت من بعض المسلمين أو حكامهم، فهل هي مقبولة إسلاميا؟ بمعنى آخر: هل هي من نواتج التمسك بالإسلام أو من نواتج البعد عنه والخروج عليه؟، وإذا كانت من نواتج البعد عنه والخروج عليه فلماذا تلصقونها به، وتحملونه ما هو منه بريء
- هناك من يحاول أن يبين أن الدولة المدنية هي دولة المؤسسات، وأنها لا تعارض الدين ولا تعاديه... إذا قلتم هذا فلماذا تأبون وصفها بدولة إسلامية أو شرعية أو شرعية أو دينية، ولماذا التركيز على أنها دولة مدنية، وهل كانت الدولة التي أقامها رسول ا صلى الله عليه وسلم دولة مدنية أو دولة إسلامية، وكذلك الدولة التي أقامها خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهلم جرا
- هناك من يقول نريد دولة مدنية بمرجعية إسلامية، إن هذا القيد في حد ذاته يمثل اتهاما حقيقيا للدولة المدنية من قبل دعاتها، فإن هذا الكلام يبين أن المرجعية الدينية ليست من صفات الدولة المدنية ولا من خصائصها وأركانها، وإلا لما احتاج هذا المتكلم إلى إضافة ذلك القيد.
- والدولة المدنية لم تمنع السلطة من تفسير القانون حسب ما تهوى، واعتبر ذلك بما حدث من احتجاز أمريكا الدولة المدنية الكبرى لأكثر من أربعمائة مسلم في معتقل بخليج جوانتنامو مخالفة بذلك القانون الأمريكي والقانون الدولي واتفاقيات الأسري بجنيف، بل وصل الأمر أكثر من ذلك حيث التنصت على مكالمات الأمريكيين أنفسهم بدون سند قانوني وكل ما قدمته الإدارة من تفسير في ذلك أن الوضع خطير وأنه لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بتلك الطريقة وهذه دعاوى لا يعجز أحد عن تقديمها فماذا فعلت الدولة المدنية إزاء ذلك؟
وأخيرا: إن المشكلة الحقيقية التي تحياها مجتمعاتنا لا تحل بمجرد إقرار لفظ أو نفيه، فهناك كثير من الدول العربية التي تقول عن نفسها إنها دولة مدنية ولم يخرجها ذلك عن حالة التخلف التي هي سمة لكثير من مثل هذه المجتمعات، إن المشكلة الحقيقية تكمن في انفصال العمل عن القول، وأن كثيرا من النخب الحاكمة تتعامل مع الحكم وكأنه تركة من حقها أن تفعل به ما تشاء، في ظل غياب رقابة شعبية ورسمية حقيقية قادرة على الفعل، ولو ولت النخب الحاكمة وجهها شطر شرع الله تعالى لأفلحت وأنجحت، ولقادت مجتمعاتها من حالات التخلف الراهنة في أغلب الميادين، إلى مدارج العلا، ائتوني على مدار التاريخ الإسلامي كله في البلاد التي حكمها الإسلام، بدولة تمسكت بالإسلام حقا، ثم لم تكن متقدمة على نظرائها في أغلب المجالات.
شبهات والجواب عنها:(49/320)
من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم أو محاسبته: فيقولون كون الدولة إسلامية أو شرعية أو دينية يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم، إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية، ونحن نقول لهم: أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فأتوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين مَنْ مِن الحكام ادعى هذه المنزلة؟، ومَنْ مِن أهل العلم قال بشيء مثل ذلك؟، وأمامكم سير الخلفاء حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضا، بل حتى في أشد المواقف حُلكة كان الناس يراجعون ولاة أمورهم أو يعترضون عليهم، فهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه عندما أراد قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة الرسو صلى الله عليه وسلم عارضه عمر، وقال: كيف تقاتل الناس ..الحديث ، فلم يمنعه أبو بكر من ذلك، ولم يقل له-كقول البطالين-نحن في زمن حرب، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، بل بَيَّن له بالدليل صواب موقفه، حتى اقتنع عمر رضي الله عنهما بذلك، وهذا عبد الله بن عمر يختلف مع خالد بن الوليد رضي الله عن الجميع وهو أميره في غزاة غزاها معه، ويمتنع من تنفيذ ما أمر به، لمخالفة خالد باجتهاده للسنة الصحيحة، فلما بلغ رسول ا صلى الله عليه وسلم الأمر لم يعنف عبد الله على عدم طاعته لخالد، بل قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين ، ولو قدر أن هناك أحدا من الولاة منع من ذلك لعد عند الناس ظالما مما يعني أن الثقافة الشعبية لا تقبل مثل هذا الادعاء.
ومن الشبهات أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين: وهذا مجرد ادعاء عار عن الدليل كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام، تدحض ذلك، أما إذا كانت هناك حالات فردية يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يسلم من ذلك أحد سواء في معاملته مع هو من أهل دينه أو مع من يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله.
ومن الشبهات: أن يقال أن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم: وهذا أيضا ادعاء لا يعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي، والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم يهمهم أمر الأمة كلها، فهم من اجل ألا يحمل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة بأن تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات،والرجوع في ذلك كله إلى عقول الناس وخبرتهم، وهذا من أغرب أنواع الظلم إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك الكثير من أمور دينهم
ومن الشبهات: أن يقال إن تعبير الدولة الدينية قد أسيء استخدامه في العصور المظلمة من تاريخ الغرب مع كنيسته، ولا نريد استخدام لفظ مُحمَّل بمثل هذه الدلالات، حتى لا نحمل أوزار أمور لسنا المسئولين عنها، ويقال إن ما يذكر هنا ليس راجعا إلى اللفظ نفسه إنما راجع إلى سوء استغلاله، ولو ترك استعمال لفظ صحيح لا يحتمل أمورا خاطئة من أجل أن هناك من استعمله بطريقة خاطئة لم يكد يسلم لنا شيء، وهذا بعكس ما إذا كان الخطأ راجعا لاحتمال اللفظ نفسه أو لصلاحيته للدلالة على أكثر من معنى بعضها صواب وبعضها خطأ، فهذا الذي يمكن أن يقال فيه ذلك، على أنكم إذ أنكرتم هذا فقد وقعتم فيما تفرون منه، إذ إن لفظ الدولة المدنية لم يسلم من هذا الذي تذكرون، فإن أغلب حديث الناس عن الدولة المدنية أنها الدولة العلمانية، وبالتالي لا يصلح الانتقال إليه حتى لو قلتم لا نريد منه هذا المعنى، ولماذا لم تقولوا بالدولة الدينية وتقولون لا نريد منها المعنى الذي استقر في أذهان الغرب، أليس هذا أولى؟ أو تبحثوا عن مصطلح آخر يحقق ما تأملونه من خير من غير أن يكون حاملا لتلك الدلالات الفاسدة، فقد كان بإمكانكم أن تختاروا مثلا مصطلح الدولة الإسلامية، أو مصطلح الدولة الشرعية أو الدولة الراشدة، أو الصالحة، أو أي مصطلح لا يحمل البذور الفاسدة.(49/321)
ومن الشبهات: أن حقوق المواطنة لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل دولة لا تتخذ من الدين مرجعية لها، أي أن الدولة ينبغي أن تكون علمانية لا دينية وهي الدولة المدنية، أما المواطنة بمعنى الاعتراف لكل قاطن للدولة الإسلامية سواء كان من المسلمين أو كان من غيرهم بأنه مواطن فهذا لا ينازع فيه أحد، وكل واحد من مواطني الدولة الإسلامية له حقوق وعليه واجبات فكل إنسان له حق في العيش الكريم، وله حرمة سكنه وماله وعرضه، وله حق التكسب سواء عن طريق التجارة أو الصناعة أو الزراعة، وله الحق في أن يلقى معاملة عادلة لا ظلم فيها، وله حق التنقل والسكن في أي مكان يشاء، وله الحق في سرية مراسلاته، وله الحق في أن يبقى على دينه ولا يكره على تغييره، وله الحق في العبادة، وله الحق في أن يتناول ما يبيحه له دينه وإن كان محرما في شريعة الإسلام، وهذه الحقوق التي يعطاها المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية لا يعطاها كثير من المسلمين الصادقين في بلادهم التي يزعم قادتها أن دولتهم دولة مدنية، لكن هناك بعض الأمور التي يختلف فيها غير المسلم عن المسلم وهذا أمر لا غرابة فيه، ما دام إن هذا الاختلاف مقرر بالشرع الذي يؤمن به المسلمون، لكن الذي لا يمكن قبوله أن تختلف بعض أحكامهم انطلاقا من الهوى لا من الشرع، ومن أراد أن لا تختلف بعض أحكامهم المقرر اختلافها بالشرع، فهو شهادة منه على أن الالتزام بالدولة المدنية معناه مخالفة الشرع والخروج على أوامره.
وعندنا من النصوص الشرعية ما يحفظ حق هؤلاء بل يصير إيصال الحقوق لهم وعدم الانتقاص منها من الدين الذي ينبغي اتباعه، قال رسول ا صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه وحيه وأمره فيمن قتل ذميا بغير جرم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا" و عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمكَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ :الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ" ، وقد قال المسلمون لعمر رضي الله تعالى عنه: " أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ" ، وهذا عمر بعدما طعن وفي هذه الشدة وذلك الموقف العصيب لكن هذا لم يحل بينه وبين الوصاة بأهل الذمة، فقال أوصي الخليفة من بعدي: ".. وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ" ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل : شيخ كبير ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي ، قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه" ، وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنيا فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدقون عليه ، طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله"(49/322)
ومن الشبهات أيضا حيادية الدولة: حيث يرون أن الدولة المدنية دولة حيادية تجاه جميع الأديان في المجتمع، بينما الدولة الإسلامية لا تتمتع بهذا الحياد، "إن مفهوم الدولة المدنية هو باختصار يعني حيادية الدولة التام تجاه الأديان، وهو ينهل أساساً من مفهوم حرية العقيدة الذي جاء به الإسلام أولاً" ،. "علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد والمذاهب التي تدين بها مكونات شعبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها وسياساتها وخططها وتعييناتها - بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية والثقافية - منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة، وإن كانت عقيدة ومرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين وتمييز ضدهم وإخلال بمبادئ المساواة والعدالة والمواطنة، ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة" والحيادية تجاه الأديان تعني عدم ميل الدولة تجاه دين معين، وأنها تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، فلا تمدح دينا أو تدعو إليه، ولا تذم دينا أو تهاجمه،وهذه الحيادية التي يتكلمون عنها غير موجودة في واقع الأمر في الحقيقية في أي بلد من البلدان، وعندنا فرنسا التي تعد على رأس الدول المدنية كيف منعت النساء المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب، وهذه دولة الدنمارك وهي دولة مدنية كيف سخر رساموها من خير البرية r ، ثم هي من منظور آخر تناقض الإسلام مناقضة تامة، حيث سوت بينه وبين الأديان المحرفة كالنصرانية واليهودية وغيرها، ومن أغرب الغرائب أن يعمد هؤلاء الكتاب إلى المطالبة بتهميش عقيدة الأغلبية حرصا على عدم تهميش عقيدة الآخرين، أي عقل منكوس هذا الذي يقرر مثل هذا الكلام، ثم هذه الحيادية المزعومة ليست حيادية لأنها فقط أقصت الدين، وانحازت إلى العقل والخبرة والتجارب، والإسلام وإن كان لا ينكر دور العقل الذي هو مناط التكليف وكذلك دور الخيرة والتجارب لكن ذلك لا يمكن أن يكون عوضا عن الإسلام نفسه، أو يعارض به، وأما أن الإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه فهذا حق، لكن هذا لا يعني أبدا حيادية الدولة الإسلامية تجاه الإسلام، فإن من أهم واجبات ولي الأمر المسلم التي نص عليها أهل العلم باتفاق هي إقامة دين الله تعالى وتحكيم الشريعة، وسياسة الدنيا بالدين .
================(49/323)
(49/324)
إشكالية الأمة والوطن في الفكر الإسلامي
حوار: عبد الحي شاهين 3/9/1424
28/10/2003
أبرز نشوء الشرق الأوسط الحديث وظهور دوله السياسية بشكلها الحالي عدة قضايا إلى السطح؛ من أهمها العلاقة بين الإسلام والوطنية. وأصبح التوفيق بين الإسلام والوطنية قضية دينية وأيديولوجية وسياسية مازالت مطروحة للنقاش, وبينما لا يزال البعض يرى أن الإسلام والوطنية غير متوافقين, يؤكد آخرون أن الوطنية لم تعد فقط حقيقة واقعة وعملية, بل إنه قد تمت (أسلمتها) بطرائق متعددة كما في مصر وإيران والسعودية وأفغانستان وماليزيا وإندونيسيا , ومع استمرار المسلمين في القرن الحادي والعشرين في مناقشة الشكل الأمثل لتطبيق الإسلام على مستوى الدولة والمجتمع؛ فإن من المهم أن يفهم التطور التاريخي للتفاعل بين الإسلام والوطنية في الشرق الأوسط وخاصة في العالم العربي.
في هذا الحوار مع المفكر الإسلامي الدكتور (عبد الوهاب الأفندي) الباحث والمتخصص في الفكر السياسي الإسلامي, نلقي الضوء على كثير من الإشكاليات التي صاحبت ظهور مصطلحات الأمة والوطنية، وكيف تم تناولها من قبل الإسلاميين والليبراليين, والدكتور عبد الوهاب الأفندي هو صاحب آراء واضحة وقيمة في هذه القضايا, وقبل سنوات أصدر كتاباً أُثير حوله الكثير من الجدل في الأوساط الأكاديمية والبحثية أجمل فيه آراءه حول الدولة الإسلامية وماهيتها , وكان بعنوان (who needs an Islamic State? ) . وهنا نص الحوار....
* عند الحديث عن مفهوم الأمة والوطن يلاحظ أن غالبية النصوص الفكرية والسياسية المعاصرة في العالم العربي والإسلامي، يغشاها الكثير من الالتباس والتوتر فيما يتعلق بهذين المفهومين ونطاق كل منهما.. فما السبب؟
أهم مصدر للالتباس هو أن الوطنية أو القومية مفهوم غربي في الأساس، بينما مفهوم الأمة مفهوم إسلامي، ويتعلق مفهوم الأمة أصلاً في الإسلام بالرابطة الأخوية الدينية بين المؤمنين، وهي رابطة طوعية اختيارية، وينطلق منها مفهوم الجماعة باعتبارها رابطة تضامنية لحمتها الالتزام بالقيم الإسلامية وتطبيقها في واقع الحياة والترويج لها.
وبالمقابل فإن الرابطة الوطنية هي رابطة تعاقدية ليس لها محتوى سابق على التعاقد نفسه، وهي إن كانت طوعية نظرياً إلا أنها أصبحت في عصرنا هذا إجبارية في الواقع، لأن الإنسان يولد وهو مرتبط بهوية وطنية معينة يصعب عليه استبدالها.
وفي هذا الإطار تصبح الرابطة الوطنية القومية هي أشبه بالرابطة القبلية أو العرقية في السابق. وهناك تطابق بين الاثنين في أحيان كثيرة، كما هو الحال في الهوية الروسية أو الفرنسية أو الأيرلندية وغيرها من الروابط التي تتطابق فيها الهوية الوطنية والعرقية. ويسعى مبدأ تقرير المصير الذي قام عليه النظام العالمي الحالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى خلق أكبر قدر من التطابق بين الهويتين.
وهذا مصدر التباس آخر في الأدبيات العربية؛ لأن الحركة القومية العربية الحديثة تؤكد على الهوية العربية الشاملة، وتربط بين مبدأ تقرير المصير والوحدة العربية، ولهذا تستخدم الأدبيات العربية مفهوم الوطنية على خلاف الاصطلاح العالمي الذي يطابق بين الوطنية والقومية. فالدولة القومية هي نفسها الدولة الوطنية، ولكن العرب ابتدعوا مصطلح "الدولة القطرية" للدلالة على الدول العربية المتفرقة، بينما يستعمل مصطلح القومية للدلالة على الرابطة العربية الشاملة.
من الممكن أن يقال إذاً: إن جزءًا من الالتباس سببه الخلاف الأيديولوجي بين التيارات المختلفة في العالم العربي، وإصرار كل تيار على استخدام المصطلحات طبقاً لتوجهاته الإيديولوجية.
مهما يكن فيمكننا إذًا أن نشير إلى مفهوم الأمة بمعناه الإسلامي، باعتباره الرابطة التي تجمع كل المسلمين، وإن كان البعض يستخدم هذا المصطلح كمرادف للرابطة القومية أو الوطنية، كما يقال "الأمة العربية" أو "الأمة المصرية" وهو مقبول لغوياً لأن تعبير "الأمة" تاريخياً كان يحدد بقولنا " الأمة الإسلامية" أو " أمة الإسلام" . أما الرابطة الوطنية فهي تلك الرابطة التعاقدية التي تعقد بين مواطني دولة واحدة على أساس الحد الأدنى مما يجمعهم.
* هل كان للغرب الاستعماري أي تأثير في الحد من أو تعزيز أفكار القومية والوطنية في العالم الإسلامي؟
التحدي الغربي أثّر بقوة في الاتجاهات الفكرية الإسلامية حتى قبل مرحلة الاستعمار؛ فقد بدأت بعض التيارات تتأثر بالمفاهيم الغربية في هذا المجال منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وكان المنطلق في كل هذا الشعور يضعف موقف الأمة الإسلامية تجاه الغرب، والسعي لخلق توازن يعيد للأمة اعتبارها. وقد رأت النخب الحاكمة والمفكرة أن نقطة البداية تكون بتقوية الدولة اقتصادياً وعسكرياً عن طريق إدخال العلوم الغربية الحديثة وتطبيق الإدارة المدنية الأوروبية. وهذا بدوره أدى إلى إدخال أفكار مثل القومية كأساس لتنظيم المجتمع وتحديد علاقته مع الدولة.(49/325)
وقد كان لهذا أثر سلبي على الوحدة الإسلامية؛ لأنه أدى من جهة إلى إدخال وتبني مفاهيم تفرق ولا توحد، حيث حاول الأتراك إدخال ما سموه بـ"الرابطة العثمانية" لتوحيد شعوب الإمبراطورية على اختلاف أديانها وأعراقها، وعندما فشل هذا المسعى قاموا بإدخال مفهوم الطورانية، وهو مفهوم يقوم على الرابطة العرقية التركية، وقد سبب هذا أزمة؛ لأن كثيراً من شعوب الإمبراطورية وعلى رأسها العرب رفضوا فرض هذه الهوية المصطنعة عليهم، وقد أدى إلى ثورات مثل "الثورة العربية الكبرى" ( 1916-1918م) وتفتيت الدولة العثمانية.
وفي هذه الظروف تم أيضاً تبني مفهوم القومية العربية كرد فعل على فرض "التتريك" على شعوب الدولة العثمانية، وأيضاً لاستيعاب العرب المسيحيين الذين لا تشملهم الرابطة الإسلامية، ولكن تبني الرابطة العربية مقابل الإسلامية أدى إلى خلق مشاكل جديدة لم تكن تطرح في الإطار القديم، وعلى سبيل المثال؛ فإن الأكراد والبربر وغيرهم من المسلمين غير العرب وجدوا أنفسهم في حالة إقصاء بسبب اعتماد الهوية العربية بدلاً عن الهوية الإسلامية التي كانت توحد العرقيات المختلفة في السابق.
جرت محاولات لتفادي هذه المعضلة بالاعتماد على هوية جديدة، مثل الهوية العراقية أو اللبنانية أو الجزائرية. ومعروف أن الوحدات السياسية القائمة هي نتاج مباشر للحقبة الاستعمارية التي قسمت الدول الإسلامية على أسس تخص القوى المستعمرة، وقد لا يكون لها علاقة بواقع تلك الدول. وهذه مشكلة لم تعان منها الدول العربية والإسلامية وحدها، وإنما دول أخرى تعرضت للاستعمار في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا تزال تواجه صراعات حول الهوية بهذا السبب.
ولا يعني هذا أن الهويات الجديدة "مصطنعة"؛ لأن كل هوية هي في الواقع مصطنعة، ولكنها تواجه تحديات أكثر في الحفاظ عليها، بما يفرض ذلك من تنازلات ومساومات لاستيعاب التوجهات والمصالح والهويات المختلفة في القطر الواحد.
* لكن ما يلاحظ أن الطرح الإسلامي في كافة تجلياته الكلاسيكية والمعاصرة لم يكن منشغلاً بإشكالية المواطنة أو الأمة بعكس التيار الليبرالي الذي تبنى هذه الإشكالية في كثير من مرجعياته. فما قولكم؟
كما ذكرت.. فإن مصطلح المواطنة هو مصطلح غربي يعود في أصوله إلى الفكر الإغريقي والروماني، حيث كان يشير إلى ساكن المدينة المتمتع بكامل الحقوق السياسية فيها، مقابل المحرومين من هذا الحق وعلى رأسهم النساء والعبيد والأجانب. وقد تطور مفهوم المواطنة في روما الإمبراطورية ليشمل أعدادًا من النخب من خارج المدينة، ولكنه أفرغ من مضمونه السياسي، بحيث أصبحت للمواطن حقوق مدنية دون المشاركة الكاملة في السلطة كما كان الحال سابقاً.
وقد تطور مفهوم المواطنة في الفكر السياسي الحديث ليشمل العضوية الكاملة في المجتمع السياسي وما يرتبط بها من حقوق مدنية وسياسية غير قابلة للتصرف. وارتبطت هذه المفاهيم ارتباطاً وثيقاً بالتوجهات الليبرالية ومنظريها، حيث أكدت المدارس الفكرية الليبرالية على دور الفرد وحقوقه، فارتبطت المواطنة بالنزعة الفردية والحقوق الديمقراطية المعروفة اليوم.
وهذا يجعل من الطبيعي أن تكون التيارات الليبرالية العربية هي التي تتبنى الترويج لمفهوم المواطنة؛ لأن هذا يمثل لب الفكر الليبرالي وجوهر أطروحاته. وبالمقابل هناك النقد الماركسي المعروف للطرح الليبرالي للمواطنة الذي يرى فيه طرحاً أجوف؛ لأن المواطنة الليبرالية تمنح حقوقاً شكلية لعجز الفقراء والمحرومين عن ممارستها عملياً.
إشكالية المواطنة فرضت على الفكر الإسلامي الحديث بسبب واقع التجزئة والتحديات الخارجية التي فرضت وحدة الشعوب الواقعة تحت الاستعمار حتى تتصدى له جماعياً. وقد سعى الفكر الإسلامي إلى استيعاب هذه الحقائق منذ القرن التاسع عشر، حيث طرح السيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في "العروة الوثقى" مفهوم الجامعة الشرقية التي تجمع كل شعوب الشرق المهددة بالاستعمار، بما في ذلك اليابان والصين. وقد سعى الأفغاني كذلك لاستثارة حماس المصريين والهنود بالإشارة إلى التاريخ العريق لهذه الشعوب وإنجازاتها الحضارية. ولكن الفكر الإسلامي يواجه إشكالاً في هذا الخصوص كونه معني أساساً بالجماعة الإسلامية ومشاكلها، فالدولة الإسلامية، محور التفكير الإسلامي الحديث هي أساساً دولة المؤمنين. ولكن واقع الدولة الحديثة فرض على الفكر الإسلامي التعامل العملي والنظري مع حقيقة وجود مواطنين غير مسلمين في كل الدول الإسلامية الحديثة تقريباً ، هذا إضافة إلى وجود طوائف مسلمة تختلف مذهبياً، مما يحتم أن تستوعب أية دولة عناصر لا تؤمن بالطرح الإسلامي الذي تتقدم به هذه الحركة أو تلك.(49/326)
وقد بذلت الحركات وبذل المفكرون الإسلاميون جهوداً مكثفة للتعامل مع هذا التحدي أشرت إليها باستفاضة في مقالتي المنشورة بمجلة "المستقبل العربي" (العدد 264، فبراير 2001). ولكن هذه الاجتهادات لم تبلغ بعد حد الاستجابة الحاسمة لهذه الإشكالية، حيث ما يزال قبول الإسلام بحق المواطنة لغير المسلم تحكمه النظرة التقليدية التي كانت تستند إلى وجود الدولة الإسلامية المقتصرة على المسلمين، وتعتبر غير المسلمين "ضيوفاً" ينبغي أن تحسن معاملتهم دون أن يكون لهم من الأمر شيء.
*هل يمكن تحقيق قدر من التوافق بين الإسلام والوطنية؟
الفكر الإسلامي يواجه إشكالات عميقة في مجال التوفيق بين المواطنة والمفاهيم الإسلامية السائدة. نظرياً بالطبع لا يوجد ما يمنع هذا التوفيق، فالإسلام اعترف اعترافاً كاملاً بالروابط القبلية والعرقية والإقليمية، واعتبرها أساساً لتنظيم حياة المجتمع المسلم؛ بل إن الروابط القبلية والأسرية لها مكانها في صميم القانون الإسلامي كما في أحكام الميراث والقصاص والزكاة وغيرها. وقد ظل المسلمون حتى عصرنا هذا ينتسبون إلى قبائلهم ومدنهم وبلدانهم دون غضاضة.
ولكن الرابطة الأساسية التي قام عليها الفكر الإسلامي والممارسة الإسلامية التقليدية تقوم على المطابقة بين الأمة والدولة. فمفهوم المواطنة في الفكر الحديث يقابله مفهوم المسلم في الفكر الإسلامي التقليدي. فكل فرد نطق بالشهادتين أصبح مسلماً، وبالتالي عضواً كامل العضوية في الأمة الإسلامية وشريكاً كامل الشراكة في الجماعة السياسية، نظرياً على الأقل؛ فالمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وأمرهم شورى بينهم، ولا وتوجد بينهم أسس للتفرقة على أساس اللون أوالعرق أو المنشأ.
عملياً بالطبع لم تطبق هذه المفاهيم دائماً، ولكن الإشكال الذي نشأ حديثاً جاء من انتهاء المطابقة بين الأمة والجماعة السياسية، فالحدود الجغرافية الحديثة حالت بين المسلمين والمشاركة في وحدات سياسية خارج وطنهم، بينما ضمت هذه الحدود جماعات من غير المسلمين أصبح لها حق المشاركة الكامل في القرار السياسي حسب الأعراف الحديثة.
وقد حاولت الدولة الإسلامية منذ عهد التنظيمات في الدولة العثمانية والدستور الإيراني الأول عام 1905م التعامل مع هذا الواقع. ونجد مثلاً دستور الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم ينص بوضوح على حرمان المسلمين غير الإيرانيين من المشاركة السياسية، بينما يتيح هذه المشاركة لليهود والنصارى وجماعات أخرى غير مسلمة، وفي هذا بالطبع مخالفة للمفاهيم الإسلامية التقليدية التي تحرم التفرقة بين المسلمين، ولكن هذا واقع أصبح التعايش معه مفروضاً على الدول والجماعات. إلا أن هذه الاجتهادات كانت مجرد تكريس للواقع، ولا تعبر حتى الآن عن اجتهادات ناضجة ومؤسسة تأسيساً واضحاً على المفاهيم والقيم الإسلامية.
*في العالم الإسلامي الآن صور متعددة لاستيعاب مفاهيم الوطنية والأمة, ما تشخيصكم لأبرز هذه النماذج (السعودية، ماليزيا، إيران ، مصر، إندونيسيا)؟
نبدأ بالنموذج الإيراني الذي تحدثنا عنه؛ فهو قد بدأ في مطلع القرن الماضي بالسعي لتأطير هوية إيرانية تستوعب التعددية الدينية: (سنة وشيعة وآخرين)، والعرقية: ( فرس، أكراد، عرب، تركمان، أذريين.. إلخ.)، ولكن الذي غلب على هذه الهوية كان الطابع الشيعي دينياً والفارسي قومياً وثقافياً.
وفي عهد حكم (آل بهلوي) تم التركيز على المركب القومي الفارسي على حساب الشيعي، فيما قلبت الثورة الإسلامية هذه الصيغة وأعطت الأولوية للهوية الشيعية. وهذا بدوره يخلق إشكالاً لأن هناك قطاعاً كبيراً من المسلمين الإيرانيين هم من غير الشيعة، مما يعني إقصاءهم عملياً عن المشاركة السياسية. هذا إضافة إلى وجود كثير من الإيرانيين الشيعة لا يقبلون إيديولوجية الحكم القائمة على مبدأ ولاية الفقيه. إضافة إلى ذلك؛ فإن الخطاب الرسمي الإيراني الذي يغلب التركيز على الهوية الشيعية يستبطن اعتزازاً بالهوية الفارسية مما يجعله يواجه مشكلة مركبة.
السعودية لا تواجه مشكلة تعددية عرقية، ولكنها واجهت وتواجه تعددية قبلية وإقليمية ومذهبية لم يتم استيعابها بصورة كاملة في إطار الهوية الرسمية. التوجه الديني للدولة السعودية صهر الهويات الإقليمية والقبلية ولكنه عمق الخلاف المذهبي..، هناك الآن اعتراف بوجود هذه المشكلة عبر الحوار الذي ترعاه الدولة الآن للتقريب بين القوى المختلفة، ولكن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك.
في مصر نجد هوية مصرية تعتمد على التاريخ المشترك وقوة الدولة المصرية وعدم وجود الانقسامات القبلية والعرقية. ولكن هناك أيضاً التباين الديني بين المسلمين والمسيحيين، وهو ما لم يتم تجاوزه بعد على الرغم من المحاولات المتتابعة لتشكيل هوية وطنية ليبرالية كانت الغالبة أمام الصراع ضد الاستعمار، أو لتشكيل هوية قومية عربية تربط مصر بمحيطها العربي.
ماليزيا لها وضع متميز ينبع من تعدديتها الدينية والعرقية، وقد نجحت إلى حد ما في صياغة هوية متميزة تقوم على عقد اجتماعي أساسه الديمقراطية والتكامل الاجتماعي.(49/327)
إندونيسيا ما تزال تواجه مشاكل التعددية الإقليمية والعرقية.
ولكن المشكلة الأكبر التي تواجه صياغة الهوية في كل هذه الدول هي غياب مساحة الحوار والتعامل السلمي الحضاري الذي يتيح إمكانية التوافق على كلمة سواء وفق اتفاق الحد الأدنى على ما يجمع ويحفظ المصالح المشتركة.
*المتتبع لتاريخ ظهور فكرة الوطنية في أدبيات الفكر السياسي في تجلياته المختلفة يلاحظ أنها كانت ليبرالية، ثم انتقلت إلى خطاب طاغٍ لدى التيارات العروبية؛ فهل ستحملها سنة التطور إلى وطنية إسلامية؟
الذي يحكم صياغة الهوية هو الإطار الذي تتحرك فيه الجماعة السياسية، إضافة إلى النظرة للتحديات السياسية القائمة والأطر الإيديولوجية المتاحة للتعامل معها.
في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان التحدي هو مواجهة التخلف الاقتصادي والتقني والسياسي الذي كان يهدد الدول الإسلامية في استقلالها؛ بل ووجودها. وهكذا رأينا نشأة الهوية الإيرانية والتركية والعثمانية والمصرية تحت قيادة نخب كانت تتهم الحكام وقتها بالمسؤولية عن التقصير. وهكذا رأينا الثورة الدستورية في إيران وثورة عرابي في مصر وحركة العثمانية الفتاة وتركيا الفتاة وثوراتهما ثم "الثورة العربية الكبرى." وقد قدمت هذه النخب خطاباً للهوية ركز على الأمة (في القطر المعني) ووحدتها وحقوقها في مواجهة الحكام، وحددت الهوية في إطار العدالة التي قامت فيها. الخطاب العروبي كان تطويراً للخطاب الليبرالي، إضافة إلى أنه كان استجابة لتحديات مقاومة الطغيان التركي ثم الاستعمار الغربي. وأخيراً استجابة للتحديات المتمثلة في قضايا التنمية وإسرائيل والجزائر وغيرها. فكما تأثر الخطاب في المرحلة الأولى بالفكر الليبرالي المهيمن في الغرب، وفكرة القومية القائمة على تقرير المصير للكتل القومية؛ فإن الحركات اللاحقة تأثرت بالفكر الاشتراكي والراديكالي والتحرري.
الفكر الإسلامي عبّر عن صحوة إسلامية استعادت فيها النظرة الإسلامية زمام المبادرة بعد أن زالت سطوة الانبهار بالنماذج الخارجية. ولكن الملاحظ أن الصحوة الإسلامية قامت في نفس الإطار القائم والمتمثل في الدولة القومية. ولكن هذا الإطار خلق مشكلات للفكر الإسلامي لم يستطع بعد تجاوزها كما أسلفنا؛ لأن الدولة القومية تجمع في إطارها جماعات غير مسلمة وقوى مسلمة تختلف حول تفسير المرجعية الإسلامية أو ترفضها كلية، وهذه القضية يمكن حلها إذا قام إجماع في بلد معين حول رؤية إسلامية للهوية والمواطنة، وهناك تقدم في الفكر الإسلامي باتجاه طرح من هذا القبيل، ولكن هذا الهدف لم يتحقق بعد.
* إذًا كيف تُقيم وتقرأ الأفكار التي قدمها منظرو التيار الإسلامي المعاصر حول قضايا المواطنة والأمة, وماطرح من حلول بشأن إشكالاتها؟
أحيل هنا مرة أخرى إلى المقالة التي أشرت إليها في مجلة "المستقبل العربي". ويمكن أن نقول تلخيصاً هنا إن الطرح الإسلامي شهد تطوراً باتجاه الاعتراف بالدولة القومية كإطار للجماعة السياسية، والقبول بحق الآخرين في عضوية هذه الجماعة.
ولكن الطرح الإسلامي لم يتوصل بعد إلى صيغة تعطي هؤلاء الآخرين حق المساواة الكاملة في المواطنة.
من جهة أخرى؛ فإن المسؤولية في حسم هذه القضية لا تقع على الفكر الإسلامي وحده، لأن القضية قضية حوار بين شركاء في المواطنة.
* في رأيكم هل كان استيعاب قيم الحرية والعدل والمساواة في الجانب العملي للدول العربية والإسلامية موازياً لاستيعاب مشروع الوطنية السياسي؟
إن أحد أهم الأسباب في تعثر تطور مفهوم واضح وقابل للتطبيق لقضية المواطنة هو مجافاة النظم القائمة لقيم الحرية والعدل والمساواة. فأصل فكرة المواطنة هو العضوية الكاملة في الجماعة السياسية على أساس المساواة الكاملة، ووفق نظام يتيح للجميع المشاركة الفاعلة في تسيير أمورهم. النظم القائمة في العالم الإسلامي مع استثناءات قليلة تحصر المشاركة السياسية الحقيقية في فرد واحد أو فئة حاكمة تعامل الآخرين كرعايا عليهم فقط السمع والطاعة. فبعض الدول تقسم المواطنة درجات، ولكن في واقع الأمر هناك مواطن واحد هو الحاكم، فرداً أو فئة، بينما لا يتمتع الآخرون بأدنى حقوق سياسية.
الفكر الإسلامي الحديث أغفل التركيز على قضية الحرية والمشاركة السياسية، رغم أن التاريخ الإسلامي وقيم الإسلام ركزت على قضية المساواة بين المسلمين ومسؤوليتهم التضامنية عن شؤون الأمة، ولكن الفكر الإحيائي الإسلامي بحسب تجلياته في فكر الحركات الإسلامية أو ممارسات الأنظمة التي تنادي بالإسلام قام على مفهوم الوصاية من قائد أو فقيه أو أمير يكون هو الواسطة بين الله والناس، والأمين على تطبيق الشريعة بمعزل عن الأمة.
وهذا فهم أقرب إلى الشرك، لأنه يعطي الحاكم قداسة وعصمة لا مكان لها في الإسلام، ويغفل دور الأمة ليس في الرقابة على الحاكم فقط، وإنما في المشاركة الكاملة الفاعلة في إدارة شؤون المجتمع عبر الشورى والنصيحة واستنباط الأحكام وردع الخارجين عليها.(49/328)
هناك إذاً حاجة إلى مراجعة الفكر الإسلامي والابتعاد عن التعلق بأوهام الإمام المعصوم، حاضراً كان أو غائباً، والنظر في كيفية بناء مؤسسات تتيح للأمة مجتمعة أن تكون الوصية على نفسها، وهذا يستتبع معاملة كل المؤمنين على قدم المساواة وابتداع مؤسسات تكرس هذه المساواة وتستجيب لقيم الشريعة التي تحيل الكل راعياً ومسؤولاً عن رعيته
===============(49/329)
(49/330)
سراييفو:المجلس الأوربي يبحث مشاكل المواطنة والحوار
الإسلام اليوم / سراييفو … … … … …1/5/1428
… … … … …18/05/2007
انطلقت في عاصمة البوسنة والهرسك ـ سراييفو ـ أعمال الدورة السابعة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. الذي يناقش هموم .. المواطنة والاندماج.. والأهداف المستقبلية للاندماج، والمواطنة والاندماج.. القواعد والضوابط.
وقد استقبل السفير السعودي في البوسنة والهرسك الأستاذ فهد الزيد فضيلة الشيخ سلمان العودة ـ المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم ـ ، الذي وصل إلى العاصمة سراييفو مشاركاً في الدورة السابعة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ورحب الشيخ عبد العزيز العقيلي، مدير مركز فهد الإسلامي في الجلسة الافتتاحية بالحضور، وبيّن في كلمته أن مدّ جسور التواصل مع الآخرين ضرورة عصرية، ووجود المجلس الأوروبي في أوروبا أمرٌ مهم يرسم للمسلم المعاصر هناك طريقًا رحبًا، يفهم من خلالِه دينَه، وكيفية تعايشِه مع الآخر.
و ألقى كلمة المجامع الفقهية فضيلة الشيخ علي عبد الباقي أمين عام مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وبيّن أن وحدةَ الصفِّ هي الأساس الذي يجب أن يهتمَّ به العلماء؛ لأنهم القوة الحقيقية في أيِّ مجتمع، ودعا الجميع أن يكونوا قدوة يمثلون الإسلام عمليًّا.
ومن جانبه أكد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن الإسلام يرحِّب بالحوار والتفاهم مع كلّ الأديان، إلا مع من يساند من ظلمنا، ويعتدي على حرماتنا لحين أن يتبرأ من ذلك، وينبثق الحوار مع الآخر من الرحمة العالمية التي تميز بها الإسلام، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين".
وأوضح القرضاوي أن المسلمين لا يحبون الحرب، ويكرهونها، وقد كُتبت عليهم؛ ليحافظوا على وجودِهم، ويدافعوا عن أنفسِهم، يقول تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم".
وبيّن فضيلته أن الذي يوجد الإرهاب هو المظالم، التي تقع على الناس، دون أن يجدوا من يدفعها عنهم.
وشدّد القرضاوي على أن المجلس الأوروبي أُسِّسَ؛ حتى لا يترك المسلمين في أوروبا نهبًا للجهلة ,وأدعياء العلم، لافتًا إلى أن أكثر ما يؤتى منه المسلمون الآن من قِبَل الجهلة.. لذا كان لا بدّ من وجود المجلس الذي يُبصِّر المسلمين بدينِهم.
وفي كلمتِه التي ألقاها رئيسُ اتحاد المنظمات الإسلامية، الأستاذ شكيب مخلوف بيّن أن المجلسَ استمر للآن عشر سنوات حافلة بالجهود العلمية، مبينًا أن هناك تحديات تواجه المسلمين، منها: هُوية الشباب التي بدأت تذوب في المجتمعات، وتحدي تعزيز الأسرة المسلمة، وتحدي التشويه الذي يواجه الجميع.
وقد شهِدت الجِلسة الافتتاحية حضورَ ممثلين عن الطائفة اليهودية بالبوسنة، والطائفة الكاثوليكية، والطائفة الأرثوذوكسية.
هذا وقد أصدر المجلسُ بياناً يدين فيه بشدة استمرار الفتنة بين الفلسطينيين، خصوصاً بعدَ المُصالحة التاريخية، التي عُقِدت بين حماس وفتح بجوار بيت الله الحرام، وطالب المجلس القيادات الفلسطينية بالمحافظة على عِصمةِ الدم الفلسطينيّ وحرمتِه، وعلى وحدة الموقف ضدّ الاحتلال الصِهْيَوني .
كما يناشد جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي المبادرة بكسر الحصار المفروض على شعبنا الفلسطيني الصامد، مما يساعد على تخفيفِ الاحتقانِ الداخلي، وعلى فرض الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية على المجتمع الدولي .
وقال المجلس في البيان : "لقد شعرنا بالأمل عندما سمعنا بتوقف الصدامات المسلحة، ونحن نطالب الطرفين بإلحاح، بوضعِ حلٍّ دائم يمنع تجدُّد الاشتباكات مهما كانت الأسباب، ويضمن معالجةَ الخِلافات بالأسلوب الأخوي السِلمي، مذكرين بقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم وساءت مصيراً)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض".
هذا وقد تضمنت الدورة مجموعة من المحاور، أهمها: المواطنة والاندماج.. الإطار الشرعي، والواقع الأوروبي مسرحًا للمواطنة، والأهداف المستقبلية للاندماج، والمواطنة والاندماج.. القواعد والضوابط.
ومن ضمن البحوث المُقدَّمة في المجلس بحث في (الإطار العَقدي والمقاصدي للمواطنة والاندماج) من إعداد الدكتور يوسف القرضاوي، وبحث في (الولاء بين الدين وبين المواطنة)من إعداد الدكتور عبد الله بن بيّة، وبحث في ( التجربة التاريخية للاندماج من خلال مدرسة الغازي خسرو) من إعداد الدكتور مصطفى تسيريتش، وبحث بعنوان (دور الحوار في المواطنة والاندماج) من إعداد الشيخ راشد الغنوشي.(49/331)
يُذكر أن اللقاء التأسيسي لـ(المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) قد عُقِدَ في مدينة لندن ـ في بريطانيا ـ في الفترة: 21 - 22 من ذي القعدة 1417هـ، الموافق 29 - 30 من شهر آذار (مارس) 1997م، بحضور ما يزيد عن خمسة عشر عالمًا.. وكان ذلك تلبيةً لدعوة من قِبَل (اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا)، وقد تميّزت الدورة الحالية باكتسابِها أهمية خاصة، حيث كانت احتفالية من المجلس بمرور عشر سنوات على إنشائِه، حقّق خلالَها سبع عشرة دورة، بدأ أولاها في البوسنة، وكانت السابعة عشرة أيضًا بها.
==============(49/332)
(49/333)
المشروع السياسي للإخوان في سوريا بين التوفيق والتجديد
محمد أبو رمان 30/2/1426
09/04/2005
كانت جماعة الأخوان المسلمين من أقوى وأوسع الجماعات السياسية حضورا وانتشارا في سوريا إلى أن دخلت في صدام دموي مع السلطة، ودفعت ثمن ذلك بالتشريد والسرية والضعف داخل سورية وخارجها. ولم يصدر عن جماعة الأخوان السورية منذ تلك المصادمات -في بداية الثمانينات- أية رؤى سياسية نقدية للمرحلة السابقة، وشهد النشاط السياسي للجماعة جمودا على المستوى الفكري والعملي إلى أن عادت إلى الحركة والنشاط قبل سنوات قليلة، وأخيرا أصدرت كتابا بعنوان "المشروع السياسي لسورية المستقبل" يتضمن رؤية الجماعة الإصلاحية في سورية.
المشروع الجديد يمثل إنتاجا جديدا للعديد من مبادئ الجماعة المعروفة المستمدة من مرجعيتها الإسلامية وشعارها المعروف " الحل الإسلامي" من ناحية. وتطويرا لرؤاها السياسية تجاه العديد من القضايا من ناحية أخرى. والمشروع وإن كان في الجانب السياسي قد خرج من عنق الزجاجة وتجاوز حالة التردد التي وقفت عندها الجماعة حينا من الدهر في حسم موقفها من الكثير من القضايا السياسية إلا أنه بقي في الجانب الاقتصادي متسمرا عند حدود المبادئ النظرية واللغة الإنشائية التي لا تحمل أي أرقام حقيقية أو حلول عملية واقعية لمشكلات الاقتصاد السوري، كما افتقد المشروع العديد من العناصر المهمة أبرزها القراءة التحليلية للحالة السياسية في سوريا على الصعيد الإقليمي والعالمي، كما خلا من أية إشارة إلى المصالحة مع النظام السوري والعودة إلى النشاط العلني.
على العموم هناك الكثير من المفاهيم السياسية الجديدة التي يمكن التقاطها في المشروع، والتي تمثل تطورا في الفكر السياسي ليس على صعيد التنظير وإنما القبول بمفردات سياسية كانت الحركة تتردد بالقبول بها سابقا، وفي مقدمة ذلك الممارسة الديمقراطية فالمشروع يبين أن الإصلاح السياسي وإقامة الحكم العادل هو المدخل الحقيقي والأساسي لكل أنواع الإصلاح الأخرى، وأن مبادئ الحكم الدستوري في الدولة الحديثة تنسجم في مجملها مع تعاليم الإسلام في الشورى ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ويقبل بالتعددية السياسية في المجتمع "..وإذا كان الإسلام يكفل للناس حرية اختيار عقيدتهم الدينية فمن باب أولى أن يكفل لهم حرياتهم السياسية..". أما الدولة الإسلامية التي تتحدث عنها أدبيات الجماعة وترفعها في شعاراتها فيبين المشروع أن المقصود بها " دولة مدنية تتميز برجعيتها الإسلامية المتفتحة".
ومن أبرز المبادئ السياسية التي تضمنها المشروع مبدأ تعاقدية السلطة، وأن الأمة هي مصدر السلطات، وتداولية السلطة والمؤسسية والإقرار بالمبدأ التمثيلي بصيغته المعاصرة، والانطلاق من حق المواطنة؛ في هذا السياق "يرى الأخوان أن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها قد حلت محل مفهوم (أهل الذمة) وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة، والمساواة التامة، في ا لحقوق والواجبات السياسية والمدنية التي يكفلها الدستور وتنظمها القوانين، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية (زواج وطلاق ومواريث..) والحقوق الدينية محفوظة طبقا لعقيدة كل مواطن". كما يعترف المشروع بحقوق المرأة السياسية وبدورها وحقها في تولي المناصب السياسية والقضائية وإن كان يبتعد عن الجدل الذي ساد في الآونة الأخيرة في أوساط فكرية إسلامية من تولي المرأة منصب "الرئاسة في الدولة الإسلامية" ومن مسألة "قتل المرتد" والقضايا المرتبطة بالحدود والعقوبات.
كما يتضمن المشروع توضيحا للأسس الفكرية والعقدية التي تتأسس عليها وتنطلق منها مبادرة جماعة الأخوان المسلمين، ومن الواضح أن المشروع قد استند إلى منهج توفيقي بين العديد من المبادئ والأسس الإسلامية وبين مفردات وقواعد الحياة السياسية الديمقراطية. ولعل القيمة الحقيقية لهذا المشروع وما تضمنه من قضايا وأفكار ومبادرة الأخوان المصريين -في هذه اللحظة التاريخية- أنه يقفز بنا من مرحلة التردد إلى حسم الموقف السياسي والفكري والعملي من العديد من القضايا الأمر الذي قد يساعد على وجود قواسم مشتركة بين القوى السياسية العربية الداعية إلى الإصلاح السياسي مما يشكل دفعا جديدا وضغوطا داخلية أكبر على النظم العربية لتقدم استجابة أفضل وتنازلا أكبر أمام المشروع الإصلاحي الداخلي
000000000000000
(( قلت : وهذا المشروع يتناقض في كثير مما حواه مع ثوابت الإسلام فلا يقبل ))
================(49/334)
(49/335)
مؤتمر لندن .. بين دعاة الوسطية والتطرف
القاهرة / عاصم السيد 9/5/1427
05/06/2006
شهدت العاصمة البريطانية لندن مؤخرا المؤتمر الدولي الأول للوسطية الإسلامية، في بريطانيا تحت شعار "ارتباط بالأصل واتصال بالعصر"، بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمركز العالمي للوسطية الإسلامية بالكويت.
وكانت وزارة الأوقاف الكويتية قد نظمت في 21 مايو 2005 مؤتمراً دولياً في الكويت حول خطر التطرف في المجتمعات الإسلامية شارك فيه مفكرون وشخصيات من مختلف البلدان الإسلامية، وحمل المؤتمر عنوان (الوسطية منهج الحياة).
وقد حضر المؤتمر العديد من الشخصيات الدينية والفكرية والإعلامية البارزة، مثل د. محمد سليم العوا، والشيخ عبد الله بن بيه، والشيخ عبد الستار أبو غدة، ود. صلاح الصاوي، والشيخ محمد الحسن الددو، والشيخ عبد الله الجديع، والشيخ على القرة داغي، والشيخ أحمد الراوي، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية، وعشرات الشخصيات البارزة.
وتناولت جلسات الحوار، التي امتدت على مدى ثلاثة أيام مجموعة محاور، تلخصت أساساً في مبادئ العقيدة في ضوء الوسطية، وأصول فقه الأقليات في بلاد الغرب، والعلاقات الإنسانية في ضوء الوسطية، والوسطية بين واجب المواطنة في أوروبا وحفظ الهوية الإسلامية، ودور المرأة في الأسرة والمجتمع، والوسطية عبر بوابة الإعلام.
حاجتنا لترسيخ مفهوم الوسطيّة
يتفق العلماء والمثقفون المنصفون أن الدين الإسلامي يعارض التطرف الديني والغلو والتعصب والأفكار التكفيرية، ويحترم التعددية الثقافية والدينية والحضارية، وينبذ العنصرية.
والإسلام تميز منذ فجر دعوته في العهد النبوي بالتوسط والاعتدال والسماحة واليسر، ودفع الحرج والمشقة سواء في العقيدة أو العبادة أو الأخلاق والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ فهو دين الحنيفية السمحة.
الوسطية في التصور الإسلامي، هي المنهج الوحيد الذي يصلح لأن يكون البديل عن منزلق الإفراط وهاوية التفريط، واعتماد الوسطية في الرؤية والفكر والمعالجة ينبغي أن يتداعى له أهل العلم والفكر والرأي ، والرد على محاولات تفريغ الإسلام من محتواه، وتعطيل رسالته، أو تشويهها، في مقابل التصدي لنزعات التشدد، والتطرف والغلو التي كان لها دور ملموس في التعمية على صورة الإسلام النقية.
ويؤكد العلماء المسلمون أن من أسباب التعصب تضخيم الذات والجهل والتخلف المعرفي، إضافة إلى غياب أخلاقيات التعامل مع المخالف.
والعوامل التي تؤدي إلى التطرف والتعصب متداخلة منها ضعف البصيرة بحقيقة الدين، مما ينتج عنه التفريط والتسيّب، وينتج عنه في نفس الوقت التشدّد والغلوّ.
وحتى يكون تناولنا لقضية الوسطية تناولاً سليماً، فإننا نرجع أسباب الإرهاب إلى غياب الحريات والدساتير ووجود الحاكم المستبد وشيوع الظلم في المجتمعات، وليس هذا فقط، بل هناك أسباب عديدة أدت إلى استفحال الإرهاب في العالم.
إن ما يفعله الغرب المسيحي من أفعال، وما يتخذه من مواقف ضد العرب والمسلمين ممتدة عبر عشرات بل مئات السنين، وكان أقربها تلك الرسوم المسيئة، يدعم ما يقوله كثير من المسلمين أن التطرف وُلِد مع الغرب الصليبي، وأن نشوء حركات إسلامية مغالية ما هو إلا رد فعل لإصرار الغرب على معاداة ديننا الإسلامي الحنيف وفرض رؤيته علينا.
الوسطية ومواجهة الاحتلال والهيمنة
إن الفكر الوسطي يرى أن الإسلام يعترف بالتعددية الدينية والدولية، ويلتزم بالعهود مهما اختلفت العقائد، كما يلتزم بالتسامح والتعايش مع الملل الأخرى على أساس المعاملة بالمثل، كما يتعاون مع الدول الملتزمة بالعدالة والسلام. ولكن بالنسبة للمعتدين والمحتلين فإن الواجب الديني والقانوني هو التصدي لهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
فالممارسات الاستعمارية الصهيونية في فلسطين المحتلة، وكذلك ممارسات الاستعمار الأمريكي في العراق وأفغانستان، ومشاريعه في الهيمنة والسيطرة على العالم الإسلامي، تؤثر بشكل مباشر في ملايين من العرب والمسلمين.
كما أن سياسات الهيمنة الأجنبية في المنطقة العربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ترسخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وتسكت عن ممارساته المتحدية للشرعية الدولية، بل وتدعمه ماديًا وعسكريًا، وتحول دون قيام الأمم المتحدة بدورها في مواجهة العدوان، وتعتمد معيارين في مواقفها؛ تثير الغضب والنقمة وتدفع الشباب العربي والإسلامي إلى اللجوء للفكر المتطرف، ومن ثم ممارسة العنف في مواجهتها.
وإذا كنا لا نجوّز قتل المدنيين، إلا أننا ندرك أن غياب العدالة، والاعتداء على سيادة الناس واستقلالهم، وتدمير منازلهم وتجريف مزارعهم، والعدوان على مساجدهم، هو الدافع الرئيس لهذا النوع من العمل.
ولا نستطيع أن نتحدث في مثل هذه الأجواء عن الوسطية المعتدلة، فلا وسطية مع الاحتلال والهيمنة والاستيلاء على مقدرات الأمة وقتل أبنائها.(49/336)
فالمقاومة حق مشروع لتحرير الأرض والعرض، والوقوف في وجه مخططات الأعداء الرامية إلى إذلال الأمة.
نحن نقبل الآخر، فهل يقبلنا الآخر؟ هل يقبل الآخر وجود وسطية، ودعاة لها، أم أنهم سعداء بانتشار الغلو؛ لأنه يحشد القوات للقضاء على خصومهم الفكريين نيابة عنهم؟
توصيات هامة
وقد أكد البيان الختامي لمؤتمر الوسطية أن الوسطية مفهوم أصيل في الإسلام، وسمة بارزة من سمات الأمة الإسلامية، وهي ليست قيمة عرضية أو نتاجاً لظرف طارئ. وما يشهده الإسلام اليوم من تشويه حضاري لصورته إنما هو بسبب غلو يقع فيه بعض المنتسبين إليه، أو تقصير يؤدي إلى التحلل من ثوابت الدين، لذلك يجب إحياء مفهوم الوسطية وضبط معاييرها وتجلية مستلزماتها فهماً وسلوكاً.
وأوضح البيان أن الوسطية تقدم منهجاً متوازناً، مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة العصر، جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح، محافظاً في الأهداف، متطوراً في الوسائل، ثابتاً في الكليات، مرناً في الجزئيات، منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان.
وشدد البيان على أن الوسطية هي منهج في فهم الإسلام يقوم على الإقرار بحق الاختلاف المشروع في ظنيات الأحكام وموارد الاجتهاد وفروع المسائل وتحقيق المناط، وهو من باب الرحمة والتوسعة والتيسير على الأمة ورفع الحرج عنها.
واتفق المشاركون على أن الوسطية ليست مذهباً جديداًَ يلزم الناس برأي واحد، بل هي إعمال لفقه الائتلاف ورعاية لحق الاختلاف المنضبطة بأحكامه وآدابه.
وأكد البيان على اعتماد منهج القرآن والسنة القائمين على اليسر والوضوح في بيان العقيدة وتحريرها من المباحث الكلامية والفلسفية والخلافات التاريخية، إلى جانب ترسيخ حقائق الإيمان بآيات الكتاب المسطور والكون المنظور، والتركيز على إبراز أثرها على السلوك.
وأوصى البيان بضرورة مراعاة خصوصيات الوجود الإسلامي في أوروبا، وما يقتضيه من نظر فقهي يأخذ بعين الاعتبار الاستقرار الذي آل إليه حال المسلمين في الغرب. فمن مقتضيات الوسطية تفعيل فقه الأقليات المسلمة في بلاد الغرب الذي لا يُعدّ فقهاً مبتدعاً، إنما هو إبراز الأصول والقواعد الفقهية الموجودة في تراثنا الفقهي والأصولي، وأكد البيان على ضرورة الوحدة بين المسلمين في الأخذ بثوابت دينهم ونبذ الاختلاف المذموم، مع التسامح فيما هو خلاف تحتمله أدلة الشريعة وأنه لا إنكار فيما اختلف فيه أهل العلم.
واتفق المشاركون على تحرير بعض المفاهيم الإسلامية في ضوء مبدأ الوسطية، ومنها مفهوم الجهاد الذي يعني في النصوص الإسلامية الثابتة جهاد النفس، وجهاد السلوك، وجهاد الدعوة، وجهاد عمل الخير، كما يعني القتال لرد العدوان وفق الشروط والضوابط الشرعية. وأوصى المشاركون في المؤتمر بالاعتراف بأن التعددية والاختلاف بين البشر من سنن الله في خلقه، وأن الإسلام يدعو إلى التعارف والتعاون والتعايش، مع احترام الخصوصيات الدينية والثقافية لجميع الشعوب والحضارات.
وأوضح البيان أن الوفاء بمقتضيات المواطنة في أي دولة يقيم فيها المسلم لا يتعارض مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، وأن المسلمين مدعوون للقيام بواجبات المواطنة، والمساهمة في حياة المجتمع، وخدمة الصالح العام، والمساهمة في أمن البلاد واستقرارها، مع العمل على تفعيل ما تكفله لهم القوانين ومواثيق حقوق الإنسان.
وأكد البيان على مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع، وأن الإسلام بوسطيته الربانية كفل لها حقوقها، وقرر مساواتها بالرجل، والتكامل في الوظائف بما يحقق التوازن الأسري والسعادة الإنسانية.
وأشار البيان إلى أن الإعلام بتعدد وسائطه، وسعة تأثيره في عصرنا الحاضر يحتاج من المسلمين اهتماماً كبيراً من حيث الانفتاح على وسائل الإعلام بخطاب إسلامي معاصر، قوي المضمون، ذي أسلوب جذاب.
ومن هنا تتأكد الحاجة إلى ضرورة إنتاج برامج ثقافية وإعلامية ودعوية بالتعاون مع المؤسسات الإسلامية القائمة في أوروبا، من أجل ترسيخ مبدأ الوسطية بين المسلمين: فهماً وفقهاً وممارسة للتعريف بالإسلام، وتفعيل جسور التواصل والحوار الحضاري في إطار المجتمعات الأوروبية
================(49/337)
(49/338)
مجلس الإفتاء يوصي مسلمي أوروبا بالاندماج الإيجابي
…الإسلام اليوم / سراييفو
…3/5/1428 2:28
20/05/2007
أوصى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته السابعة عشرة بمدينة سراييفو، المسلمين في أوروبا بالاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم، والعمل على تحسين صورة الإسلام عن طريق الالتزام بقيمه ومبادئه العظيمة وإقامة البرامج التي تعرف بالإسلام وقيمه الحضارية.
كما طالب المجلس في اجتماعه الذي استمر في الفترة من الخامس عشر حتى التاسع عشر من شهر مايو، أصحاب القرار ومؤسسات المجتمع المدني الأوروبي بالسعي للقضاء على أشكال التمييز ضد المسلمين والتي يلمسونها في الغرب
وأكد المجلس الذي انعقد برئاسة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وبحضور أغلبية أعضائه وعدد من الضيوف والمراقبين، على أهمية إقامة دورات وبرامج تعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي والتفاعل المثمر.
وجرى افتتاح أعمال الدورة - التي وافقت مرور عشر سنوات على تأسيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث- بحفل كبير عقد في (مركز الملك فهد الإسلامي) وشارك فيه إضافة إلى أعضاء المجلس عدد كبير من الضيوف، من علماء البوسنة والمشيخة الإسلامية فيها، وعدد من العلماء من بلاد شتى.
واشتمل الحفل على عدد من الكلمات لبعض الضيوف والحضور رحبت بالمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث وأشادت بدوره المهم وإنجازاته للمسلمين خلال السنوات العشر المنصرمة من عمره.
وختم بكلمة رئيس المجلس سماحة الدكتور يوسف القرضاوي، بين فيه ما للمجلس من دور كبير في تبصير المسلمين في أوروبا بدينهم، وما قدمه خلال السنوات العشر من أعمال لتحقيق هذا الغرض. كما تعرض في كلمته إلى عموم رسالة الإسلام، وما للحوار مع غير المسلمين من الأثر في بناء علاقات تقوم على التعايش السلمي بين المسلمين وبينهم، خصوصاً أهل الكتاب، الذين يلتقون مع المسلمين في أصل الإيمان بالله، ومبادئ الأخلاق، والعدل. بل دعاهم إلى العمل مع المسلمين في إطار هذه الكليات المشتركة.
ثم توالت أعمال المجلس لهذه الدورة، حيث بدأت بندوة علمية حول موضوع (المسلمون في أوروبا: المواطنة والاندماج)، عُرض فيها ثمانية عشر بحثاً في هذا الموضوع، وتخللت العروض مناقشات وتعقيبات واسعة.
وقد توزعت البحوث على خمسة محاور تمثل أولها في "الإطار الشرعي للمواطنة والاندماج" ، فيما اهتم المحور الثاني بالواقع الأوروبي كمسرح للمواطنة، واهتم المحورين الثالث والرابع بالأهداف المستقبلية للاندماج والمواطنة، وقواعد وضوابط الاندماج، في الوقت الذي ركز فيه المحور الخامس على سُبُل الاندماج وآلياته.
ثم تتابعت أعمال هذه الدورة، لتتناول بعض ما ورد المجلس من استفتاءات، وصدرت عنه الفتاوى بخصوصها.
وبناء على ما جرى استعراضه ومناقشته في هذه الدورة، أصدر المجلس عددا من القرارات جاء أهمها في أن الصواب صحة المواطنة في غير ديار الإسلام سواءٌ للمسلم الأصلي أم المتجنس.
وحول تحديد مفهوم الاندماج ومقتضياته قرر المجلس ضرورة الموازنة بين مقتضيات الاندماج ومقتضيات الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والدينية، كما قرر تشكيل لجنة من أعضائه لمتابعة ملف الاندماج سواء للمسلمين أم للجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني.
وأقر المجلس أن الحساب الفلكي وسيلة علمية لإثبات دخول الشهور القمرية، مطالبا المسلم المقيم في بلاد الغرب أن يسعى للمحافظة على شخصيته الإسلامية في محيطه الذي يعيش فيه مهما كان صغيراً.
وأجاز المجلس كشف العورة من أجل العلاج باعتباره ضرورة، كما أجاز المحاورة عبر الانترنت بين الشاب والفتاة بضوابط شرعية.
وأقر المجلس في دورته السابعة عشر استعمال الرسم لغرض التعليم جائز، حيث أن الشريعة أباحت استعمال اللعب التي هي على هيئة التماثيل للأطفال، للتسلي واللعب، فإباحتها لغرض التعليم مصلحة هي أرجح في الاعتبار من الإباحة للعب.
وحرم المجلس الزواج المؤقت؛ لما فيه من خروج عن الأصل، ولما فيه من شبه بالنكاح المؤقت المعروف بـ(نكاح المتعة) المحرم شرعاً، كما أنه يجعل المرأة سلعة رخيصة. وفي هذا اعتداء على كرامة الإنسان واستغلال لظروف أصحاب الحاجات.
وأفاد المجلس أنه لا يجوز لمسلم أن يقبل هدية فيها شيء محرم في دينه، ومنه الخمر، فإن فعل فإنه لا يجوز له أن يملكه؛ لأنه حرام لا يُمْتَلك ولا يُتَقَوَّم عليه، فلا يحوز استعماله أو استغلاله أو التصرف فيه بالبيع أو الهبة.
وأفتى المجلس بعدم دخول المال الذي يودعه المستأجر عند مالك العقار في حساب أموال الزكاة، كما أفتى بعدم جواز عمل الرجل في مجال إنقاذ الغرقى في أحواض السباحة المختلطة التي تظهر فيها عورات النساء .
وأجاز المجلس - الذي يرأسه الشيخ القرضاوي- استخدام مخدر قوي لتنويم المريض المصاب بأنواع معينة من السرطان لتخفيف ألمه , بشرط عدم استعمال المقادير الزائدة من المنومات التي قد تسبب الوفاة(49/339)
واختتم المجلس دورته بعدد من التوصيات يتمثل أهمها في الالتزام بالقوانين الخاصة بحقوق المواطنة وواجباتها، والالتزام بالقوانين واللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية، وتجاوز العادات والتقاليد الموروثة المسيئة للإسلام في شيء.
كما أوصى المجلس بالنهوض بالدعاة والعاملين بين المسلمين وتأهيلهم ليكونوا قدوة حسنة في تحقيق التفاعل الإيجابي وإعداد نخبة تتقن لغة الحوار مع الغرب للحديث عن الإسلام وتقديم صورته المشرقة للغرب، وإقامة المراكز الإسلامية المتكاملة التي تشمل إلى جوار المسجد: المكتبة والنادي الثقافي والاجتماعي والرياضي والمطعم وغير ذلك من الإمكانات، وقيامها بأنشطة مختلفة دعوية وثقافية واجتماعية ورياضية، مع التركيز على أنشطة الاندماج مثل انخراط الأبناء في تنظيمات الكشافة، وأسبوع التعريف بالإسلام.
وحث المجلس على المشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني والأنشطة البيئية والاجتماعية في الحي والمدينة وعلى مستوى الدولة، وبناء العمل المؤسسي، والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية والحزبية، وتشكيل لجان حقوقية قانونية للدفاع عن حقوق الأقليات ومناهضة التمييز العنصري.
ودعى المجلس مسلمي الغرب إلى السعي إلى الاعتراف الرسمي بالإسلام كدين، وبالمسلمين كأقلية لها حقوقها التي كفلتها الشرائع والدساتير والمواثيق، على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، مؤكدا على ضرورة المشاركة السياسية بناء على قراراته في الدورات السابقة.
وأفرد المجلس توصيات خاصة لأصحاب القرار ومؤسسات المجتمع المدني تتمثل في فتح قنوات الاتصال مع الأقليات المسلمة على جميع المستويات، وإقامة برامج ودورات لتعريف المسلمين بالقوانين السائدة والحقوق والواجبات، وفتح باب العمل والدراسة أمام المسلمين ومعاملتهم كغيرهم من الأقليات دون تحيز، وتنبيه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لتبني الموضوعية في تناولها لقضايا الإسلام والمسلمين.
كذلك أوصى المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بما اعتاد أن يوصي به ويؤكد عليه من مراعاة الحقوق كلها، وأن يعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
وأوصى المجلس المسلمين عامة والمقيمين في أوروبا خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف.
واختتم المجلس بيانه بتقديم الشكر للمشيخة الإسلامية في دولة البوسنة والهرسك على استضافتها الدورة السابعة عسر للمجلس، كما شكر جميع من ساهم في إنجاح أعمالها.
=============(49/340)
(49/341)
اختطاف الوطنيّة
سامي بن عبد العزيز الماجد 24/8/1426
28/09/2005
الطاعة المفروضة للإمام بقيدها الشرعي دعامة ضرورية للمواطنة الصالحة، بيد أنها وحدها لا تضمن ذلك، فما أكثر الذين يُظهرون الطاعة، ويجدّدون البيعة كل حين، وهم أكذبُ الناس وطنيةً وأخونُهم لوطن. وفي الوطن من يتظاهر بالطاعة ويدعو الناس إلى الوطنية ويمتحنهم فيها، وهو أفرغهم منها قلباً، وأكثرهم لها خوناً.
إن اختزال الوطنية في طاعة ولي الأمر مغالطة تمارسها المرتزقة عمداً، وهو أمر ممجوج مشوّه للوطنية، يُشعر الناس أنهم مجرد عبيد لأسياد، يؤدُّون ولا يأخذون.
إن غاية ما تحققه الطاعة ـ بصورتها المشروعة الكاملة ـ أن تعالج صلة المحكوم بالحاكم، ولكنها لا تعالج صلة المجتمع بعضه ببعض، ولن تصحح العلاقة بين المواطنين أنفسهم. وهذه الصلة الأخرى بين المحكومين أنفسهم لا بد من مراعاتها لتحقيق المواطنة وتعزيز الوطنية، فكم من مطواعٍ لإمامه غشوم مع أهله وجيرانه!! وكم من معظم شأن الإمام وسلطانه مستخفٍّ بحرمات الناس، مقتات على حقوقهم، متربص بهم قالة السوء والوشاية تزلّفاً وارتزاقاً، وفي زمن العجائب يُقدّم هذا الغشوم الفتّان أنموذجاً للمواطنة الحقة! وليس له من مؤهلاتها إلا طاعته المطلقة لولي الأمر غير عابئٍ بما سوى ذلك من مقتضيات المواطنة!
ليست الوطنية أداء حقوق الراعي وتعظيمَ حرمته وحده، ولكنها أداء ـ كذلك ـ لحقوق الرعية وتعظيمٌ لحرماتها.
لقد اختُطِفتْ الوطنية،وابتدُعِتْ لها معايير شكليّة، وفُتن الناس فيها فتوناً، وامتُحنوا بما لم يُمتحنوا به من قبل، فأصبح تعليق الصور والوقوف للعلم محكًّا للمواطنة الصحيحة، فمن عظّم هذين فهو المواطن المخلص، ومن تحرّج منهما فوطنيّتُه مشكوكٌ فيها، ولو كان أميناً فيما أُؤتمن، مخلصاً فيما استُرعي، مطيعاً بالمعروف.
وهل خفي على هؤلاء المختطفين للوطنية أن أول من سيسقط في هذه المعايير هم علماؤنا وقضاتُنا؟! الذين ائتمنهم الإمام على الفتوى والقضاء، وارتضاهم لها، وارتضاها منهم، والذين لم يتركوا هذه المظاهر الشكلية إلا تحرّجاً وتأثماً. وإذا كان هؤلاء العلماءُ المفوَّض إليهم أمر الفتوى والقضاء غيرَ ملومين في هذا، فكيف يُلام مَن اقتدى بهم وصدر عن فتاويهم؟! ليس ثَمَّ إلا خياران: فإما أن تُعتبر فتواهم فلا يُؤاخذ من التزمها، وإما أن تُجرّد عن فتواهم صفة الرسمية وتُسقط عنهم ولاية الإفتاء. أمّا أنْ تُجعل لهم ولاية الفتوى، ثم يُلام من التزمها، فهذا مما لا يسوغ في العقول. ولماذا يستعظم هؤلاء المختطفون هذه المخالفة، وقد علموا أن مَن ترك هذه المظاهرَ الشكليةَ إنما تركها تأثّماً لا كرهاً أو استخفافاً؛ لفتوى تحرمها؟!
ومن عجيب أمر هؤلاء المختطِفين للوطنية تأكيدُهم في معالجة ظاهرة الغلو والإرهاب لأهمية المرجعية العلمية، بحيث يكون لها القولُ الفصل في الأمور العامة التي تعمّ بها البلوى، فإذا هؤلاء هم أول المسارعين لإسقاطها وانتزاع هيبتها، فيأخذون من فتاويهم ما يستحسنون، وينبِذون منها ما لا يهوَوْن، فهل يريدونها مرجعيةً مع حقِّ الانتقاء؟! وهل يريدون أن يجعلوا أنفسهم في حِلٍّ من التزامها واحترامِها؟! كيف سنربي شبابنا على احترام هذه المرجعية إذا كنا ندعوهم إليها ونتمرّد عليها بطريقة الانتقاء؟!
لقد وجدنا الدولة تتسامح في هذه المظاهر الشكلية لأجل تحرُّج الناس فيها، ولكننا بُلينا بأناس ليس لهم في الأمر ورد ولا صدَر، تمكّنوا أو مُكِّنوا في بعض وسائل الإعلامفاختطفوا الوطنية وصاغوا لها معايير شكلية ليمتحنوا بها وطنيةَ أناس قصداً وعن سابقِ ترصُّد، لتُلصق بهم تهمةَ خيانة الوطن وتؤلّب عليهم.
لقد اختُطفت الوطنية فأُخِذ بشكلياتها وقشورها وتُرك جوهرها ولبُّها، والعجيب أنك لو وعظت هؤلاء المختطفين للوطنية في بعض مظاهر التدين؛ كالحجاب وإعفاء اللحية وما شابه ذلك، لقالوا: هذه قشور ومظاهر شكلية، وحقيقة الدين وجوهره في القلب، وإنما العبرة بالإيمان والمعاملة! وبعضُ هذا حقّ ولا شك، ولكن لماذا لا تنسحب هذه النظرة على مسألة الوطنية؟! لماذا لا يزِنُون الوطنية بلبّها وجوهرها؟! ولماذا يمتحنون وطنية الناس بمعايير شكلية ويتناسون ما يحقّقه هؤلاء من لبّها وجوهرها؟! أما إنها (تصفية حسابات)، وما أخطر الأمر حين تُوظَّف الوطنية لتصفية الحسابات والوشاية والتحريض، فمآل هذا التوظيف احترابٌ داخلي ونزاع لا يرضى به إلا المتربصون الأعداء.
أين هؤلاء عن صور صارخة لخيانة الوطن، وما أكثرها؟! أليس من أعظم الخيانة أن يأتمن ولي الأمر رجلاً على ولاية فيخونَ الأمانة، ويستخفَ بالمسؤولية، ويوظِّفَها لمصالحه الشخصية؟! أليست هذه مخالفة لولي الأمر وخروجاً عن طاعته؟! وهل يشفع لهذا الخؤون تعليقه لصورة ولي الأمر وتزيّنه بها في مكتبه، وجعلُه النشيد الوطني وِردَه كلما أصبح أو أمسى؟! أليس من النفاق أن يستعلن الوطنية والطاعةَ ويستبطن الأثرةَ والخيانة؟!(49/342)
أين هؤلاء عن صورة أخرى من أعظم صور الخيانة للوطنية والوطن؟ أين هم عمن يستعدي على وطنه الأعداء نصرةً لمذهبه أو تشفّياً وتصفيةً للحسابات؟! وما يفيد الوطنَ أن يتظاهر هذا الخائن بالوطنية بمظاهرها الشكلية، وقد استعدى الأعداءَ بكتاباته المحرِّضة في صحفهم، والتي يتهم فيها مناهج التعليم والمؤسسات الدينية بالإرهاب.
وإذا كان مِن صور الاستعداء على الوطن استثارة الأعداء بالقتل والتفجير في بلادهم، فلماذا لا يُحسب من صورها ـ كذلك ـ الاستعداءُ بالكلمة الخبيثة والاتهام المحرّض؟! ومع أن هذا الاستعداء ظاهرٌ مفضوح إلا أنه غير معدود في صور الخيانة عند أولئك المختطِفين للوطنية!
فلماذا يغضّون طرفهم عن هذه الخيانة الصريحة؟! أليس من العجيب في زمن العجائب أن يُترك الحديث عن هذا الاستعداء قصداً على شهرته في الوقت الذي تُحسب من نقائض الوطنية أفعال شكلية محتملة!
=============(49/343)
(49/344)
التديّن والعسكريّة: إسرائيل والعرب
صالح محمد النعامي / فلسطين 19/7/1426
24/08/2005
ينقسم المتدينون في إسرائيل إلى تيارين أساسيين:
1- التيار الديني الأرثوذكسي: وهو التيار الذي توصلت مرجعياته الروحية مع مؤسس الدولة دفيد بن غوريون إلى اتفاق يقضي بإعفاء المنتسبين إليه من طلاب المعاهد والمدارس الدينية من الخدمة العسكرية، والتفرغ لدراسة الدين، مع العلم أن أتباع هذا التيار يشكلون حوالي 18% من اليهود في إسرائيل.
2- التيار الديني الصهيوني: وهو التيار الذي عدّ نفسه -منذ البداية- جزءاً لا يتجزّأ من الدولة، وعدّت مرجعياته الروحية الخدمة العسكرية ليس مجرد واجب تقتضيه المواطنة، بل فريضة دينية يتوجب القيام بها على أكمل وجه. ويشكل أتباع هذا التيار فقط (7-10)% من عدد اليهود، وذراعهم السياسي حزب "المفدال" الديني، وينتمي معظم المستوطنين إلى هذه الشريحة.
حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ظلت نسبة المتدينين الصهاينة في الهيئات القيادية في الجيش أقل من النسبة التي يمثلونها من حيث تعداد السكان. فحتى ذلك الوقت ظل القادمون من القرى التعاونية "الكيبوتسات" - التي تمثل قلاع العلمانية الإسرائيلية - ينفردون بالسيطرة على المواقع القيادية في الجيش، لدرجة أن الانتماء لـ (الكيبوتس) كان رديفاً للانتساب للوحدات المختارة في الجيش، مع أنه بمثل هذا الانتساب تُفتح الطريق أمام احتلال المواقع القيادية في الجيش والدولة مستقبلاً. لكن منذ ذلك الوقت حدث تغيّر دراماتيكي متلاحق ولافت للنظر ، فقد قلّت نسبة خريجي (الكيبوتسات) الذين يلتحقون بالوحدات المختارة بسبب تحلّل الكثير من هؤلاء من الإيمان بـ "واجب التضحية من أجل الدولة". في المقابل حدثت عملية عكسية تماماً، حيث كانت توجيهات المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني لأتباعها بأن عليهم أن يتوجهوا تحديداً للانخراط في الوحدات المختارة والسريات النخبويّة في الجيش، من أجل قيادة الجيش، وبالتالي التحكم في المشروع الصهيوني. الذي سهّل على الصهاينة المتدينين تحقيق هدفهم وهو وجود ما يُعرف بالعبرية ب "يشيفوت ههسدير"، وهي معاهد دينية عسكرية - يمولها الجيش - و ينضم إليها حصراً أتباع التيار الديني الصهيوني بعد تخرجهم من المدرسة الثانوية. يقضي هؤلاء ثمانية عشر شهراً في هذه المعاهد، يمارسون خلالها تعليمهم الديني، وفي نفس الوقت يؤدون الخدمة العسكرية، مع العلم أنه بعد تخرجهم منها يقضون ثلاثين شهراً إضافية في الخدمة العسكرية. يبلغ عدد هذه المدارس اثنتين وأربعين مدرسة يديرها الحاخامات، و يتم التشديد فيها على أن "الخدمة العسكرية والروح القتالية هي مهمة جماعية يفرضها الدين بهدف قيادة المشروع الصهيوني". من هنا كان كل طالب في هذه المدارس لا ينظر للخدمة العسكرية على أنه يؤدي خدمة إجبارية تنتهي بعد ثلاث سنوات، بل إنها بوابة واسعة لممارسة التأثير على مستقبل الدولة، وعلى عملية صنع القرار فيها. على الرغم من أن " يشيفوت ههسدير" يتم تمويلها من قبل الجيش، كذلك فإن مدراءها من الحاخامات يتلقون رواتبهم من خزانة الدولة، إلا أن نظام التعليم فيها مستقل تماماً، وتتحكم فيه المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني دون أي قدر من الرقابة على مضامين مناهج التعليم فيه، على الرغم من أن الخدمة العسكرية في إسرائيل إلزامية، إلا أن الانتساب للوحدات المختلفة داخل الجيش هو أمر اختياري وطوعي لكن بفعل التثقيف والتعبئة التي يتعرضون لها داخل "يشيفوت ههسدير"، فإن أتباع التيار الصهيوني الديني يتجهون للانتساب للوحدات المختارة، وسرايا النخبة في الجيش.
شيئاً فشيئاً أصبح معظم قادة الوحدات المقاتلة من المتدينين. ومعظم القادة والمنتسبين للوحدات المختارة مثل "سرية وحدة الأركان"، و "ايجوز"، "دوفيديفان" و "يسام"، هم أيضاً من المتدينين. ليس هذا فحسب بل إن المتدينين يحتكرون الخدمة فيما يُعرف بـ "سرايا النخبة" التابعة لألوية المشاة، فمثلاً 60% من القادة والمنتسبين لسرية النخبة في لواء المشاة "جفعاتي" هم من المتدينين.
تغلغل المتدينين الصهاينة في المواقع القيادية للجيش دفع الجنرال يهودا دونيدينان الذي كان مسؤولاً عن قسم "الشبيبة " في وزارة الدفاع للقول: إن أتباع التيار الديني الصهيوني أصبحوا يشكلون "العمود الفقري" للجيش.(49/345)
ولا يقتصر اندفاع المتدينين نحو المواقع القيادية في الجيش، بل أيضاً في الأجهزة الاستخبارية؛ فعلى الرغم من أنه لا يُعلن عن هوية الذين يخدمون في الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، إلا أن التسريبات الصحافية تؤكد أن المتدينين أصبحوا يمثلون ثقلاً متصاعداً داخل جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، وهو أكثر الأجهزة الاستخبارية تأثيراً على دوائر صنع القرار في الدولة. وما ينطبق على الجيش والمخابرات ينطبق على الشرطة وحرس الحدود. لا شك أن المعطيات السابقة يجب أن تدق ناقوس الخطر لدى دوائر صنع القرار في العالم العربي، إن كان ثمة من يلقي بالاً لما يحدث في إسرائيل؛ فاحتلال المتدينين المراكز القيادية في الجيش سيؤثر مستقبلاً بشكل كبير على طابع العلاقات بين إسرائيل مع العالم العربي. فالجيش الذي سيكون تحت قيادة المتدينين هو غير الجيش الحالي، على الرغم من أن معظم القادة الحاليين ذوو نزعات عنصرية متطرفة. الجيش تحت قيادة المتدينين سيدفع الحكومة إلى سياسات أكثر تصادماً مع العالم العربي، وذلك بفعل تأثرهم الشديد بالأفكار "الخلاصوية" التي توغل في نفيها للآخر العربي وازدرائه. القادة المتدينون سيخلطون بين متطلبات السياسة وتعليمات الحاخامات. فهاهو الحاخام مردخاي الياهو أكبر مرجعية روحية للتيار الديني الصهيوني، والذي يحرص كل القادة المتدينيين على تقبيل يديه و الحصول على "تبريكاته" يصدر فتوى مؤخراً تبيح إبادة الفلسطينين عملاً بالفريضة التوراتية التي تقول " اذكر عدوك وأبده "( معاريف 28-3-2005).
إن سماح النظام السياسي في الدولة العبرية للمتدينين بتقلد المواقع القيادية يثير في نفس كل عربي ومسلم المرارة بشكل خاص. ففي الوقت الذي توفّر فيه " إسرائيل " كل الظروف لمساعدة متدينيها على الارتقاء في سلم القيادة في الجيش والمؤسسات الاستخبارية على اعتبار أن هذا حق تكفله "المواطنة"، نجد أن الأمور تنقلب رأساً على عقب في كثير من بلدان العرب والمسلمين، حيث إن مظاهر التدين تحول دون الارتقاء في سلم القيادة، وفي بعض البلدان يُمنع المتدينون من الالتحاق بالجيش مطلقا ، وفي حال ضبطوا وهم يمارسون الشعائر الدينية يُطردون من الخدمة العسكرية ويقدّمون للمحاكمة.
إن هذه المقارنة مهمة جداً في معرفة أسباب الهزائم التي لحقت بالعرب في مواجهتهم مع دولة الاحتلال. ففي حين يصطفى النظام السياسي الصهيوني من يعتبرهم القادرين على تقديم أفضل الأداء في هذه المواجهة، تقوم الكثير من أنظمة الحكم في العالمين العربي والإسلامي بإقصاء كل من لديه مؤهلات الثبات والمواجهة، فقط لظن تلك الأنظمة أن ذلك يخدم مصلحتها ويضمن بقاءها. للأسف الشديد أنه في كل ما يتعلق بهذه القضية يتوجب علينا أن نتعلم من عدونا الذي يعرف كيف يستنفد كل الطاقات الكامنة في أبنائه وفق معايير موضوعية صرفة، إن كنا نريد أن تنقشع هذه الحقبة البائسة من تاريخنا بسرعة وإلى غير رجعة.
============(49/346)
(49/347)
معالم حول أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية
د. عصام أحمد البشير
مدخل :
بعد الاستعمار الأروبي لكثير من الدول الأفريقية نتجت الحدود الجغرافية المعرفة حالياً للدول.. والتي جمعت الناس علي أساس جغرافي بحت لا يراعي العقيدة أو الدين .. ونتج عن ذلك أن كل الدول الإسلامية (التي تسكنها أغلبية مسلمة ) بها نسبة متفاوته من الأقليات الدينية الأخري تختلف من دولة إلى أخري .. الأمر الذي يتطلب توضيح موقف الإسلام من غير المسلمين وأهل الكتاب خاصة .
أولاً : الإسلام وأهل الكتاب :
أولى الإسلام الكتابيين معلمة متميزة إذ أباح طعامهم ومؤاكلتهم {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم (1)} كما أباح مصاهرتهم والزواج منهم {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من والذين أوتوا الكتاب من قبلكم }وأعطاهم حرية الاعتقاد والعبادة والكسب.
وبالرغم من أن الإسلام يرى أهل الكتاب كفاراً { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} إلا أنه يفرق بين نوعين منهم :
1. المحاربين : الذين يعادون المسلمون ويقاتلونهم , وهؤلاء لهم أحكامهم التي تنظم العلاقة بهم وتبين طريقة معاملتهم حرباً , إذ لا عدوان ولا غدر ولا تمثيل بجثة و لاقطع لشجر ولاهدم لبناء ولاقتل لصبي أو امرأة ولا شيخ إنما يقاتل من يقاتل .
2. المسالمين أو المعاهدين : وهم الذين رضوا أن يعيشوا في ظل الدولة الإسلامية محتفظين بدينهم ولهم عهد مع المسلمين . وهذا العهد يمكن أن يكون مؤقتاً وهؤلاء يتم اليهم عهدهم إلي مدتهم ويمكن أن يكون عهداً دائماً مؤبداً, وهؤلاء هم أهل الذمة بمعني أن لهم ذمة الله ورسوله .
ثانياً : أسس التعامل مع المسالمين والمعاهدين من أهل الكتاب :-
إن التعامل مع المسالمين من أهل الكتاب من ثوابت إسلامية ترتكز علي اللآتي :
1. الاعتراف بأن الاختلاف بين بني البشر في الدين واقع بمشيئة الله تعالي , فقد منح الله الإنسان الحرية والاختيار في أن يفعل ويدع, أن يؤمن أو يكفر : {فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر }(2) .
والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب . كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة علم الناس ذلك أو جهلوه . ولهذا ينحصر دوره في البلاغ المبين قولاً وعملاً دون إجبار أو إكراه {ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً , أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }(3) .
2. وحدة الأصل الإنساني والكرامة الآدمية : انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالي :{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أنقاكم} , وقوله {ولقد كّرمنا بني آدم وحملناهم في البّر والبحر ورزقناهم من الطّيبات} . فالناس أكرمهم عند الله اتقاكم , أبوهم واحد , والرابطة الأنسانية بينهم قائمة شاءوا أم أبوا, هذه الرابطة تترتب عليها واجبات شرعية كالقيام للجنازة أيا كانت عقيدة صاحبها .. روى البخاري أن صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال: أليست نفساً (4) .
3. التعارف : لقوله سبحانه وتعالي {ياأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ,إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وكما ورد في الحديث (وأشهد أن
- كلهم - أخوة ) فالتعارف أساس دعا إليه القرآن , وضرورة أملتها ظروف المشاركة في الدار أو الوطن بالتعبير العصري , وإعمال لروح الأخوة الإنسانية بدلاً من إهمالها .
والروابط الاجتماعية بين البشر كثيرة , عبرت عنها الآية {قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} إذ حوت : الرابطة العائلية والرابطة القومية ورابطة الإقامة (الوطن) ورابطة المصلحة والرابطة الإسلامية .
4. التعايش : إذ إن حياة المتشاركين لا تقوم بغير تعايش سمح : بيعاً وشراء .. قضاء واقتضاء .. ظعناً وإقامة .. وتاريخ المسلمين حافل بصور التعامل الراقي مع غير المسلمين . وقد حدد الله سبحانه وتعالي أساس هذا التعايش بقوله {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} . إن غير المسلم إذا لم يبدأ بحرب , ولم يظاهر علي إخراج فما من سبيل معه غير التعايش الجميل الملتزم بالبر وهو جماع حسن الخلق , والقسط هو العدل والفضل والإحسان
5. التعاون : كثير من القضايا العامة تشكل قاسماً مشتركاً بين المسلمين وأهل الكتاب ويمكن التعاون فيها , من ذلك :-
أ. الإعلاء من شأن القيم الإنسانسة والأخلاق الأساسية فالعدل والحرية والمساواة والصدق والعفة كلها قيم حضارية تشترك فيها الأديان والحضارات وترسيخها في المجتمع في المجتمعات هدف مشترك يمكن التعاون عليه .(49/348)
ب. إيجاد القواسم المشتركة بين الاسلام والمسيحية والتركيز عليها والانطلاق منها نحو التعايش والتسامح والتواصل الحضاري .فأهل الكتاب من النصارى هم أقرب إلى المسلمين من غيرهم من اليهود والمشركين والملحدين والوثنيين .
ث. مناصرة المستضعفين في الأرض وقضايا العدل والحرية ومحاربة الظلم ومن ذلك اضطهاد السود والملونين في أميركا واضطهاد الأقليات الدينية وسائر الشعوب المقهورة في فلسطين وكوسوفا والشيشان ونحوه, فالإسلام يناصر المظلومين من أي جنس ودين . والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن (حلف الفضول) الذي تم في الجاهلية : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم , ولو أدعى به في الاسلام لأجبت)(5) .
ج. التعاون لمواجهة دعاة المادية الذين ينكرون الغيب ودعاة الإحاد الذين يجحدون وجود الله ودعاة الإباحية الذين يروجون للعري والتحلل الجنسي والشذوذ والإجهاض .
إن النقاط المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب كثير والأخطار التي تنهدهم معاً ليست قليلة .ويمكن أن تشكل هذه القواسم المشتركة منطلقاً للتعايش والتعاون .
ح. المجادلة بالتي هي أحسن في أمور الخلاف مع أهل الكتاب : لقوله تعالي {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وهذا النص القرآني عام في كل جدل يمكن أن يحدث بين المسلمين وأهل الكتاب وأولي ما يتبع حين فيه يكون عام في كل الجدال في أمر ديني فإنه يعصم من إيغار الصدر وأيقاد نار العصبية وزرع البغضاء .. إن عفه اللسان واجبة حتى مع المشركين {الاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم }.
خ. موقف الإسلام من أهل الكتاب هو موقف الداعي لذلك يجب أن يتأسس علي الرحمة فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وكساء عاريهم ولين القول لهم علي سبيل التلطف واحتمال إيذائهم في الجوار مع القدرة علي إنزاله بهم لطفاً لا خوفاً والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة , ونصيحتهم في جميع أمورهم , في دينهم ودنياهم , وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم , وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم , كل ذلك مما ندب إليه الشرع, لذلك ... تجوز الصدقة عليهم فقد ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه تصدق علي أهل بيت من اليهود , وتجوز زيارتهم وعيادة مريضهم , فقد روي البخاري عن أنس ان صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا وعرض عليه الاسلام فأسلم فخرج وهو يقول (الحمد الله الذي أنقذه بي من النار)
و. المسلم ليس مكلفاً أن يحاسب الكافرين علي كفرهم , أو يعاقب الضالين علي ضلالهم , فهذا ليس إليه , وليس موعده هذه الدنيا . وإنما حسابهم إلي الله في يوم الحساب , وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين , قال تعالي {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تحتلفون}(6) .
وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم , وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب , وأمرت لأعدل بينكم , الله ربنا وربكم , لنا أعمالنا ولكم أعمالكم , ولاحجة بيننا وبينكم , الله يجمع بيننا وإليه المصير(7) } وبهذا يستريح ضمير المسلم , ولايجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر وبين مطالبته ببره والإقساط إليه , وإقراره علي ما يراه من دين واعتقاد .
ثالثاً : مفاهيم يجب أن تصصح :
هنالك العديد من المفاهيم التي يجب أن تجلي بوضوح في العلاقة بأهل الكتاب مثل مفهوم موالاة من حاد الله , وأهل الذمة ,و الجزية ونحوها .
أ. الموالاة والمحاد ه :
إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهي عن موالاة غير المسلمين , وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله ولرسوله , غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلي عدواة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفة مثل :
1. النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة , وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحآد الله ورسوله , لذلك تكررت في القرآن عباره (من دون المؤمنين ) للدلالة على أن المنهي عنه هو المولاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته .
2. المودة المنهي عنها هي مودة المحادين الله ورسوله الذين {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين .
3. غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين .. فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب .
4. الإسلام يعلي من شأن الرابطة الدينية ويجملها أعلى من كل رابطة سواها ولكن ذلك لايعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجه كل غير مسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة .
(ب) أهل الذمة :(49/349)
الذمة في اللغة تعني العهد والأمان والضمان , وفي الشرع تعني عقداً مؤبداً يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية . وهذا العقد يوجب لكل طرف حقوقاً ويفرض عليه واجبات , وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم , بل هي منها عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديناً وامتثالاً للشرع , وإن كان بعضهم يتأذي منها فيمكن تغييره لأن الله لم يتعبدنا به وقد غير سيدنا عمر لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابه لعرب بني تغلب من النصارى الذين انفوا من الاسم وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة وإن كان مضاعفاً فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبو الاسم ).
ومما يجب إدراكه عن الذمة ما يلي :
*. فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتداء , وإنما هي مما وجده الإسلام شائعاَ بين الناس عند بعثة صلى الله عليه وسلم فأكسبة مشروعية , وأضاف إليه تحصيناً جديداً بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلي ذمة الله ورسوله والمؤمنين ,أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها . وبأن جعل العقد مؤبداً لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين .
*. الدولة الإسلامية القائمة اليوم تمثل نوعاً جديداً من أنواع السيادة الإسلامية لم يعرض لأحكامها الفقهاء السابقون لأنها لم توجد في زمانهم , وهي السيادة المبنية على أغلبية مسلمة لا على فتح هذه الدولة بعد حرب المسلمين لأهلها . وهذه الأغلبية مشاركها في إنشاء الدولة وإيجادها أقلية أو أقليات غير مسلمة , الأمر الذي يتطلب اجتهاداً يناسبها في تطبيق الأصول الإسلامية عليها وإجراء الاحكام الشرعية فيها , والابأس أن يكون عقد المواطنة بديلاًعن هذا المصطلح سيما والقوم في السودان أهل عهد .
(ث) الجزية :
وهي ضريبة سنوية علي الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال على الرجال البالغين القادرين .حسب ثرواتهم , والجزية لم تكن ملازمة لعقد الذمة في كل حال كما يظن بعضهم , بل استفاضت أقوال الفقهاء في تعيينها وقالوا إنها بدل عن اشتراك غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام , لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك في الدفاع عنها ,فعل ذلك سرقة بن عمرو مع أهل أرمينية سنة 22ه وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية وأبرمة مندوب أبي عبيدة بن الجراح وأقره أبو عبيدة فيمن معه من الصحابة , وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابي عبد الله بن أبي السرح على غير جزية بل علي هدايا تتبادل في كل عام وصالحوا أهل قبرص في زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم
غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية , ويسهمون في حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية . والصغار الوارد في آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .
رابعاً : حقوق وواجبات أهل الكتاب في الواقع المعاصر :
أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين , وعليهم من الواجبات مثل ما علي المسلمين إلا ما استثني بنص , قال الإمام علي كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا)
حقوق أهل الكتاب :
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1. حق الحماية من الاعتداء الخارجي والحماية من الظلم الداخلي (من آذي ذمياً فقد آذاني ومن أذاني فقد آذى الله ) فلا يصيبهم أذى في أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .
2. حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر , قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية شاباً ,ثم نخذله عند الهرم) .
3. حرية التدين {لا إكراه في الدين} ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية في دور عبادتهم .
يرى بعض الفقهاء المعاصرين (8) في شأن بناء الكنائس ما يلي :-
أولاً : علي غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية . ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلي فتنة واضطراب .
ثانياً : للآتي :
أ. قوله سبحانه وتعالي : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } يدل علي أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
ب. العهود التي أقامها الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصاري تضمنت الحفاظ علي دور عبادتهم , مثلاً
1. عهد الرسو صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وزملتهم وبيعهم
2. عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على الأمان على كنائسهم فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبها .
3. عهد سيدنا خالد بن الزليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم في أي وقت شاؤوا من ليل أو نهار , وإلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أعيادهم .(49/350)
ث. واقع حال المسلمين يدل علي جواز إقامة الكنائس في ظل الدولة المسلمة. روى المقريزي أن جميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خلاف .
ثالثاً : من علماء المسلمين من أجاز لأهل الكتاب إنشاء الكنائس والبيع وغيرها من المعابد في الأمصار التي فتحها المسلمون عنوة إذا أذن لهم الإمام بذلك بناء علي مصلحة رآها ,وقد ذهب لذلك الزيدية والإمام أبو القاسم من أصحاب مالك .
حرية العمل والكسب وحرية تولي وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما استثني بنص لعدم جواز تولي الكتابيين للوظائف التي تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التي هي , رئاسة الدين والدنيا وخلافة صلى الله عليه وسلم ولا يعقل أن يقوم بها غير مسلم , وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذي هو ذروة سنام الاسلام , والقضاء بين المسلمين الذي يقتضي العلم بشريعة الله والإيمان بها للحكم بين الناس والولاية على الصدقات ونحو ذلك .
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل في أمرين :
ضمان العقيدة : فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم , لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة والموادة ولا يصدهم عن ذلك مشاعرة العدواة والشنآن , وقال تعالي : {يايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين } {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
ضمان الجتمع المسلم بدستوره وسلوكه :
فالمجتمع الإسلامي مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها في كل الأمور، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين , فإذا قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدي ,وجد في المجتمع من يرده إلى الحق , ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر , ويقف بجانب المظلوم المعتدي عليه , ولو كان مخالفا له في الدين .
قد يوجد هذا كله دون أن يشكوا الذمي إلي أحد , وقد يشكوا ما وقع من ظلم . فيجد من يسمع لشكواه , وينصفه من ظالمة , مهمها يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس .
فله أن يشكو إلي الوالي أو الحاكم المحلي , فيجد عنده النصفة والحماية , فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى من هو فوقه .. إلى خليفة المسلمين وأمير المؤمنين , فيجد عنده الضمان والأمان , حتى لو كانت القضية بينة وبين الخلفية نفسه، فإنه يجد الضمان لدى القضاء المستقل العادل والذي له حق محاكمة أي مدعٍ عليه .
واجبات أهل الكتاب :
واجبات أهل الكتاب تنحصر في أمور معدودة هي :
1. أداء التكاليف المالية .
2. التزام أحكام القانو ن الإسلامي في المعاملات المدنية ونحوها .
3. احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم .
أداء التكاليف المالية : من جزية واخرج وضرائب وغيرها .وقد سبق الحديث عن الجزية . وأهل الكتاب في تكليفهم بالخراج والضرائب الأخرى سواء والمسلمين , فليس فيها شيء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والتجارات والأرضي المزروعة دون نظر إلي صاحب أي منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامي :
والواجب الثاني علي أهل الكتاب / إن يلتزموا أحكام الإسلام , التي تطبق علي المسلمين لأنهم بمقتضي العهد أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية , فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية .
فليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية , مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه , ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية , ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً من الجهاد والزكاة
كما عرفنا - رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم , وأن كان قد حرمه الإسلام, كما في الزواج والطلاق وأكل الخنزير وشرب الخمر . فالإسلام يقرهم علي ما يعتقدون حله , ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب .
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه , واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه , والنصراني الذي يأكل الخنزير ويشرب الخمر , لايتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها فقد أمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون , فإذا رضوا بالاحتكام إلي شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالي {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولأتتبع أهواؤهم }(9) .
مراعاة شعور المسلمين :
والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين , والذين يعيشون بين ظهرانيهم وأن يراعوا هيبة الدولة التي تظلهم بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة , ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينفي عقيدة الدولية ودينها , ما لم يكن ذلك جزءا من عقيدتهم كالتثليت والصلب عند النصاري , علي أن يقتصروا في ذلك علي أبناء ملتهم لا يذيعونه في أبناء المسلمين ليفتنوهم عن دينهم .(49/351)
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل لخنزير , ونحو ذلك مما يحرم في دين الإسلام . كما لا يجوز لهم أن يبيعوها لأفراد المسلمين , لما في ذلك من إفساد المجتمع الإسلامي وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب في نهار رمضان , مراعاة لعواطف لمسلمين .
خامساً : الفوارق بين طبيعة الدولة المعاصرة والقديمة .
أ. كانت الدولة في السابق تقوم علي أساس العقيدة الدينية في العصر الحديث تقوم علي أساس قومي أو علي أساس ديني قومي كما هو الحال في السودان حيث نص على أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات .
ب. كانت الدولة الإسلامية في الصدر الأول قوة سياسية وعسكرية راحجة , كما كانت قوة بشرية عددية مرجوحة . وأما الآن فقد انقلب الوضع إذ أصبح المسلمون قوة عددية راجحة .وقوة عسكرية مجروحة .
ج. كانت الحرب في السابق تجري دفاعاً عن العقيدة ضد خصوم الدين لذلك وقع عبؤها علي المسلمين وحدهم , لكن تجري الحرب دفاعاً عن أرض الوطن وأبناء الوطن وأبناء الوطن فُيلقى عبؤها على المسلمين وغير المسلمين من أبناء الوطن .
د. كانت الدولة الإسلامية في الصدر الأول دولة نافذة فقد كان المسلمون قوة سياسية وعسكرية تملك ان تقرر ما تراه دون معارضية دولية أو مهددات لأمنها القومي .أما اليوم فقد آلت أوضاع المسلمين السياسية والعسكرية - في الموزاين العالمية - إلى ضعف غير خاف حيث يخشى المسلمون من عدم استقرار الأوضاع في بلادهم بسبب عدم مساواة غيرهم بهم واستغلال القوى الخارجية الطامعة لهذا الأمر
خ. الدولة الإسلامية في السابق كانت تواجة أقلية محدوة من غير المسلمين تنازعها السيادة , أما اليوم فإن الأقلية لم تعد كذلك إذا نظرنا للتيار العالمي الذي تمثلة والجهات الأجنبية التي يمكن أن تنهض لنصرتها .
سادساً : التكيف الشرعي للواقع المعاصر :
يمكن القول (في ظل هذه الظروف الغالبة ) أنه يمكن الخروج من الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع . ومن هذه الاعتبارات :-
التكليف وفق الوسع والمستطاع (لاتكليف إلا بمقدور ) : لقوله تعالي {فاتقوا الله ما استطعتم(10) } {لايكلف الله نفساً إلا وسعها} . وقول صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (12) ) وقد أسلم النجاشي ملك الحبشة في زمن الرسو صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يستطع أن يقيم حكم الإسلام في مملكته لأنه لو فعل ذلك خلعه قومة ولم ينكر عليه الرسول الكريم .
2. ارتكاب أخف الضررين : والأصل فيه قول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة علي قواعد إبراهيم (13) ) فترك r ما يراه واجباً خشية أن تثور فتنة من التغير في بناء الكعبة وهم لم ترسخ أقدامهم في الإسلام بعد .
3. النزول من المثال المنشود إلي الممكن الموجود :
إن هنالك مثلاً علياً تعبدنا بها الشرع المسلم ليرنوا إليها المسلم بقلبه ويسعى إليها بحركته ولكن الواقع كثيراً ما يغلبه فيعجز عن الوصول إليها فيضطر للنزول عنها إلي ما دونها تحت ضغط الضرورة وعملاً بالممكن الموجود بعد تعذر الصعود إلي المثال المنشود . إن النزول إلي الممكن الموجود يدعونا إلي إعمال كثيرة من القواعد الأصولية مثل :
الضرورات تبيح المحظورات
الحاجة التي تنزل منزل الضرورة .. عامة كانت أو خاصة
لا ضرر ولأضرار .
رفع الحرج
عموم البلوى من موجبات التسير .
السياسة الشرعية القائمة على فقه الموازنات
اختيار الأيسر
فقد بين القرآن الله تعالي أقام أحكام شرعة علي اليسر لا علي العسر وعلي التخفيف لا التغليظ وعلي رعاية الظروف المخففة والضرورات القاهرة والحاجات الملحة . قال تعالي {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } , وقال تعالي {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } , { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } . ومن ثم أجاز الفقهاء للفرد المسلم وللمجتمع المسلم النزول للضرورات حتى لا تتعطل مصالح الخلق وتضيع حقوقهم ويذهب دينهم .
سنة التدرج :
ومن ذلك التدرج, فكل شيء يبدأ صغيراً ثم يقوى, فالإنسان لا يولد بالغاً عاقلاً بل يبدأ وليداً رضيعاً فصبياً فشاباً فكهلاً .. الخ .. وقد راعى الشرع هذه السنة في فرض الفرائض كما تدرج بهم في تحريم المحرمات رحمة بهم وتيسيراً وقد لا يستطيع الإنسان رغم طموحه الوصول إلي الأهداف الكبيرة مرة واحدة ولكنه الوصول إليها شيئاً بعد شيء وفق قدراته وظروفه .
ومن ثم وإذا نظرنا إلي واقعنا وما نحن فيه من ضعف وإلي واقع أعدائنا وما يملكون من قوة نري حال الضعف علينا مما يجب أن نرفضه في حال القوة وقد قال تعالي { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } فأشار سبحانه إلي أن الضعف من أسباب التخفيف وأن كان علي المسلم أن يتطلع أبداً إلي القوة والمؤمن القوي خيرُ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .(49/352)
وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة ونماذج , ففي سيرة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو الذي أحيا سنن الهدي وأقام معالم الدين ونشر معاني الخير مما لا يجهله أحد ولاينساه التاريخ ولكنه لم يستطع أن يفعل كل ما يريد بدليل أنه لم يعد الخلافه شورى كما هو الأصل في الإسلام ويخرجها من بني أمية , فقد قال له ابنه
عبد الملك : وكان شاباً تقياً متحمساً , قال له يوماً : يا أبت ما لي أراك متباطئاً في إنفاذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو غلت بي وبك القدر في سبيل الله .
يريد الابن المتحمس أن يجعل أبوه الإصلاح المنشود ولا يبالي بما يحدث بعد ذلك من عواقب ما دام ذلك في سبيل الله .
فقال له الأب الحكيم : لا تعجل يا بني فان الله تعالي ذم الخمر في القرآن في آيتين ثم حرمها في الثالثة وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جمله فيدفعوه جملة فيكون وراءه فتنة. فاستصحابا لكل ذلك ومع تقدير لمل قرره الفقهاء من الحق الموافق لواقعهم في منع لستحداث الكنائس فان الأمر الذي يمكن أن يصار إليه هو السماح بذلك وفق ضوابط تحددها الدولة منعاً من إقامتها لغير ضرورة وصوناً للمجتمع المسلم من أن تتغير ملامحه أو تستفز مشاعره مما يكون وراءه فتنة عظيمة خاصة وأن آراء الفقهاء في ذلك واضحة جلية مما يجعل منها مادة لدى بعض الجماعات المتشددة للإثارة والتشكيك في مصداقية الدولة و توجهها الحضاري أو إثارة العوام في إزلتها بالقوة .
1- سورة المائدة / آية 5
2- سورة هود / الآية / 118
3- البخاري كتاب الجنائز , باب من قام الجنازة يهودي - ح رقم 1229
4- سورة يونس /الاية/99
5- سيرة بن هشام , والكلام عن هذا الحلف ذكر في البداية لابن كثير باسناد صحيح , وفي دلائل البيهقي ورواه الحميدي ,وابن سعد عن طريق الواقدي .
6- سورة الحج / الآية / 69
7- سورة الشوري / الآية / 15
8- كالدكتور يوسف القرضاوي ولاستاذ محمد سليم العوا
9- سورة المائدة / الآية 49
10- سورة التغابن / الآية 16
11- متفق عليه
12- متفق عليه
(قلت : وفي بعض ما ورد في هذا البحث مخالف لقول جمهور السلف والخلف (علي)
================(49/353)
(49/354)
المواطنة في غير ديار الإسلام بين النافين والمثبتين
دراسة فقهية نقدية
إعداد
الدكتور/ صلاح الدين سلطان
المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ البحرين
عضو المجلس الأوربي
بحث مقدم
للدورة السابعة عشرة للمجلس - البوسنة
جمادى الأولى 1428 هـ / مايو 2007 م
تقسيم البحث
- المقدمة.
- المبحث الأول : المواطنة في القرآن الكريم والسنة النبوية .
تمهيد : المواطنة لغة واصطلاحا .
المطلب الأول : المواطنة في القرآن الكريم .
المطلب الثاني : المواطنة في السنة النبوية .
- المبحث الثاني : حكم المواطنة في غير ديار الإسلام بين المثبتين والنافين.
المطلب الأول: من يمنع الإقامة والمواطنة في غير ديار الإسلام .
المطلب الثاني : أدلة من يرى منع المواطنة في غير ديار الإسلام.
المطلب الثالث : من يرى صحة المواطنة في غير ديار الإسلام .
المطلب الرابع : أدلة من يرى جواز أو وجوب المواطنة في ديار غير الإسلام.
المطلب الخامس : مناقشة وترجيح .
الخلاصة.
المواطنة في غير ديار الإسلام من القضايا الشائكة التي تفرض نفسها على ذوي العلم والفقه أن يقدموا لها الكثير من الدراسات والأبحاث والفتاوى التي ترفع عنهم الحرج ، وتهيئ لهم فقهاً إصلاحيا مبادراً وليس فقهاً تسويغيا أو انعزالياً خائفاً متوجساً ، ذلك لأن المسلمين المقيمين في غير ديار الإسلام ليسوا عشرات الآلاف أو الملايين بل هم مئات الملايين (قرابة نصف مليار مسلم).
المقدمة
المواطنة لغة : من وطن وأوطن هو المنزل الذي يعيش فيه الإنسان ، ومحله الذي يأوي إليه واتخذه سكنا يقيم فيه .
قال الزمخشري : واطنته على الأمر وافقته وقال بن منظور المصري: واطن على الأمر : أضمر فعله معه، فإذا أراد معنى وافقه قال : واطأه وكذا قال الأزهري .
وجِذر المواطنة وطن قال الفيروزبادي : الوطن محركة ويسكن : منزل الإقامة ، ومربط البقر والغنم والجمع أوطان ، وأوطن أقام ، وأوطنه ووطّنه واستوطنه : اتخذه وطنا ، ومواطن مكة مواقفها ومن الحرب مشاهدها ، وتوطين النفس تمهيدها .
المبحث الأول : المواطنة معناها وحكمها .
والحق أن المعاني اللغوية التي ذكرها العلماء فيها ما يتعلق بالوطن من الجوانب التالية:.
* الإقامة في مكان ما سواء كانت إقامة دائمة أم مؤقتة ، وقد جاء في موسوعة مصطلحات جامع العلوم أن الوطن ثلاثة : الوطن الأصلي ـhometown، place of bi r th وهو مولد الرجل في البلد، وقيل ما يكون بالتوطن بالأهل أو بالمولد ، ووطن الإقامة tempo r a r y r esidence : وهو موضع ينوي أن يستقر فيه خمسة عشر يوماً فأكثر من غير أن يتخذ مسكناً ، ووطن السكن home r esidence: وهو موضع ينوي الإقامة فيه أقل من خمسة عشر يوماً.
* حب المكان الذي يقيم فيه الإنسان وهو ما أشار إليه الزمخشري
التوافق مع أهل هذا المكان أو المقيمين فيه ، وفيه معنى الموافقة من واطن ووطّن بمعنى ذلّ وخضع.
ولعل هذه المعاني تظهر فيما استقر عليه مجمع اللغة العربية في تعريف الوطن بأنه : مكان إقامة الإنسان ومقره ، وإليه انتماؤه ولد به أم لم يولد .
أما كلمة واطن بمعنى أن يعيش مع قوم في وطن واحد ففي المعجم الوسيط أنها محدثة،بمعني أنها جديدة في هذا الاستعمال.
المواطنة اصطلاحا : علاقة بين فرد ودولة يحددها قانون تلك الدولة ، وبما يتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة.
* مصطلح المواطنة يساوي مصطلح الجنسية في كثير من الدول.
* تعرف الجنسية بأنها : رابطة سياسية وقانونية بين الشخص ودولة معينة تجعله عضواً فيها وتفيد انتماءه إليها وتجعله في حالة تبعية سياسية لها.
*
* ليس ثمة اختلاف بينهما وإن كان لفظ المواطنة أقرب إلى الاستعمال اللغوي، والحقيقة المادية والمعنوية ، وكل دولة عندها في القانون الخاص تفضيل يختلف عن غيرها في حقوق وواجبات المواطنة ، تضيق وتتسع حسب مدى احترام وتقدير الإنسان.
المطلب الأول : المواطنة في القرآن الكريم .
* وردت مادة (وطن) في القرآن الكريم مرة واحدة في قولة تعالى: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ"(التوبة : 25) أي مواضع وأماكن كثيرة.
* ورد بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي أو هما معا كثيرا في كلمة الدار حيث ورد ثماني عشرة مرة بمعنى الوطن .
* من المعاني التي وردت بالمعنى اللغوي فقط قوله تعالى:" َفخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" (القصص : 81).
* ومما ورد بمعنى الوطن اللغوي والاصطلاحي
* قوله تعالى : "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ"(الحشر : 9).
2. "فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً" (الإسراء : 5).
3. "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ" (الممتحنة : 8).
4. "وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا" (الأحزاب : 27).(49/355)
وقد جعل القرآن الكريم الإخراج من الوطن (الديار) مثل القتل سواء بسواء يتضح ذلك من قوله تعالى :"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ" (البقرة : 84).
ثانياً : المواطنة في السنة النبوية :
* وردت أكثر من ثلاثين مرة وتعني المكان الذي يعتاده الإنسان ويتخذه محلاً سواء لعبادة أو سكن أو مشاهد للقتال أو الوطن الذي يعيش وينتمي إليه الإنسان بالمفهوم السياسي الشائع الآن.
* روى أحمد بسنده عن أبي سلمة الأنصاري أن رسول الله نهى عن نقرة الغراب (أي في الصلاة أثناء السجود خاصة) وأن يوطّن الرجل مقامه في الصلاة كما يوطّن البعير.
r
* روى البخاري في كتاب تفسير القرآن بسنده عن زيد بن ثابت أن أبا بكر قال له: "إن القتل قد استحر يوم القيامة بالقُرَّاء في كثير من المواطن".
* روى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "ولأن أكون قد قبلت هذه الثلاثة (أي الاكتفاء بثلاثة أيام كل شهر فقط) كان أحب إلي من أهلي ومالي ، لأن رسول الله ( علم ضعف عبد الله ابن عمرو عما وطّن نفسه عليه من الطاعات.
* روى أبو داود بسنده أن عثمان صلى بمنى أربعاً لأنه اتخذها وطناً . أي لم يصلٍ قصراً لأنها صارت له وطناً ومقاما.
المبحث الثاني : حكم المواطنة في غير ديار الإسلام.
{1} فتوى الشيخ يوسف الدجوى.
{2} فتوى الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل.
{3} فتوى الشيخ محمد سعيد البوطي.
{4} فتوى الشيخ محمد بن سعيد القحطان.
{5} فتوى الشيخ الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس.
المطلب الأول : من يمنع الإقامة والمواطنة في غير ديار الإسلام.
(1) آيات النهي عن موالاة الكافرين منها ما يلي :.
* قوله تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة:51).
المطلب الثاني : أدلة من يرى منع المواطنة والتجنس بغير ديار الإسلام .
أولا :من القرآن الكريم :.
* قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة:1).
(2) آية النساء التي توجب الهجرة عند الاستضعاف:
قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً " (النساء : 97، 98).
يتبع أولا : من القرآن الكريم :.
عن جرير بن عبد الله أن رسول الله قال: "أنا برئ ممن يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا يا رسول الله : ولم؟ قال: لا تتراءى نارهما".
ما رواه أبو داوود وغيره بسندهم عن سمرة بن جندب أن النبي قال: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله" ، وفى رواية " لا تُساكنوا المشركين ، ولا تجامعوهم ، فمن سَاكنهم أو جامعهم فهو مثلهم".
وقد استدل عدد من العلماء بهذه الأحاديث على كفر أو فسق من يقيم بين المشركين.
r
r
ثانيا :من السنة النبوية :.
ثالثا :الإجماع على منع الإقامة بين المشركين :.
قول الباحث سليمان توبولياك في رسالة عن الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي بإجماع علماء الأمة على المنع .
* أن المسلم سيضطر إلى الخضوع لغير حكم الله عز وجل.
* الجنسية والمواطنة بين غير المسلمين تكثير لسوادهم وأحد مقومات وجودهم وأسباب قوتهم ، وهو جزء من الولاء لدولتهم .
رابعا :الأدلة العقلية على كفر أو فسق المواطنة في غير ديار الإسلام .
3. أن المسلم المتوطن في غير ديار الإسلام ملزم بالخدمة العسكرية ، وقد تشن هذه الدول حربا على المسلمين فيضطر إلى المشاركة معهم.
4. من الناحية التعليمية يخضع المتجنس لأنظمة تعليمية تقوم على أساس الكفر والضلال.
رابعا :الأدلة العقلية على كفر أو فسق المواطنة في غير ديار الإسلام .
* أن الامتيازات التي يحصل عليها المتجنس لا تكون إلا بعد كفره بالله تعالى.
6. انتماء المسلم إلى جنسية بلد أو دولة غير مسلمة مع الإقامة فيها محرم حرمة ذاتية.
رابعا :الأدلة العقلية على كفر أو فسق المواطنة في غير ديار الإسلام .(49/356)
7. الإقامة أو التجنيس يؤدي ـ حتما ـ إلى أن تتخطف الأولاد التيارات الجانحة عاجلا أو آجلا ، إلى الجنوح السلوكي والتربوي.
8. يؤدي إقامة العلماء وتوطنهم بالغرب إلى حالة نزيف عقلي وفكري للأمة الإسلامية.
رابعا :الأدلة العقلية على كفر أو فسق المواطنة في غير ديار الإسلام .
( 1 ) الشيخ محمد رشيد رضا.
( 2 ) الشيخ المراغي.
( 3 ) الشيخ العلامة : يوسف القرضاوي.
( 4 ) الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق.
( 5 ) المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
( 6 ) الشيخ طه جابر العلواني رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية سابقا.
( 7 ) د.عبدالكريم زيدان.
( 8 ) الشيخ محمد علي التسخيري.
المطلب الثالث : من يرى صحة المواطنة في غير ديار الإسلام .
( 9 ) عدد من الباحثين في دراسات علمية متخصصة في فقه الأقليات :
* د.شريفة آل سعيد.
* الباحث عمار منذر قحف.
* الباحث سليمان توبولياك.
* د. أحمد شلبيك.
أولا : الأدلة من القرآن الكريم :-
* قوله تعالى :"فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " (النحل:36). ورد الأمر بالسير في الأرض ثلاث عشر مرة.
2. مناط آية سورة النساء.
3. قولة تعالى :" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 110) .
المطلب الرابع : أدلة من يرى صحة المواطنة في غير ديار الإسلام .
* قولة تعالى :" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 110) .
* قولة تعالى : " وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ " (المزمل: 20).
هذه الآية وأترابها مما يفيد عالمية الإسلام توجب مايلي:.
* أن رسالة الإسلام يجب أن تصل لكل أهل الأرض في أي مكان منها.
* والرسولل قد قبض ونحن حملة رسالته من بعده .
* من الدعوة على بصيرة أن نكون على علم بما يلي :.
* رسالة الإسلام التي سنحملها للناس .
* واقع القوم الذين ندعوهم.
* لغة القوم.
* الطرائق المتعددة للدعوة العملية والقولية.
* متابعة هذه الدعوة.
r
* قوله تعالى : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " (سبأ 28).
ثانيا: الأدلة من السنة النبوية والآثار:.
روى البخاري بسنده عن عطاء بن أبى رباح قال : "زرت عائشة مع عبيد الله بن عمير فسألتها عن الهجرة قالت : "لا هجرة اليوم ، إنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله وكان المؤمنون يفرون بدينهم إلى رسول من أن يفتنوا ، أما وقد أفشى الله الإسلام فحيثما شاء رجلٌ عَبَد ربه ، ولكن جهاد ونية".
الحديث السابق فيه أمور يجب التوقف عندها, أهمها:
* "لا هجرة" مقصود بها واقعة حال تخص عصر النبوة.
* الحديث يقر المقصد من الهجرة إلى الله تعالى ورسوله أنها ترتبط ليس بالمكان وإنما بمقدار التمكين الذي يراه المسلم لدينه ودعوته.
* الاستنفار إذا كان للحرب والقتال فهو أيضا للدعوة إلى الله عز وجل.
r
من هذه الأدلة في القرآن الكريم والسنة النبوية ننتهي إلى صحة المواطنة في غير ديار الإسلام سواء كان مواطناً أصلياً أو طلب الجنسية ليكون مواطناً من رعايا دولة غير إسلامية , وإن كان هناك تفصيل آخر في شروط هذه المواطنة أو طلب الجنسية والتي تدور أغلبها حول مدى تحقيق المقاصد الشرعية للفرد والأسرة والجماعة المسلمة ، وأمة الإسلام سواء في دينها أو نفسها أو نسلها أو عرضها أو عقلها أو مالها .
وهذه تحتاج إلى بحوث متخصصة أخرى .
هناك لغة مكررة في خطاب إخواننا الذين كفّروا أو فسقوا من طلب الجنسية والمواطنة في غير ديار الإسلام باستعمال متكرر لعبارات "الدولة الكافرة ، بلاد الكفر ، الإقامة بين الكفار، ..." والحق أنه من الأولى مراجعة هذا الخطاب الحاد.
المناقشة والترجيح .
أولا :
المستوى الأول : المراجعات المنهجية
ولعلي هنا أقترح أن نعيد فهم ما يلي :
* لغة القرآن الكريم عبر رسالات الأنبياء جميعاً.
* لغة صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين سواء في مكة أو المدينة.
* ما فعله كثير من الصحابة ومنهم سيدنا عمر رغم شدته في صلح الحديبية وغيرها.
* ما كتبة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في بحثه خطابنا الإسلامي في عصر العولمة, وانتهى إلى جوانب منهجية ضرورية في لغة الحوار هي :
* يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل .
* يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة .
* يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية .
* يدعو إلى الجد والاستقامة ولا ينسى اللهو والترويح .
* يتبنى العالمية ، ولا يغفل المحلية .
* يتبنى المستقبل ، ولا يتنكر للماضي .
* يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة .(49/357)
* يدعو إلى الاجتهاد ولا يتعدى الثوابت .
* ينكر الإرهاب الممنوع ويؤيد الجهاد المشروع .
* يصون حقوق الأقلية ولا يحيف على الأكثرية .
* ينصف المرأة ولا يجور على الرجل .
لا يصلح استعمال لغة القطع في الظنيات:
يوجد بشكل متكرر استعمال لغة القطع في مقام الاجتهاد الذي يقوم كله على الظن, وتحول الفقيه من الاجتهاد الظني إلى الحكم القطعي فهذا خروج عن ضوابط وخصائص الاجتهاد.
ثانيا:
ثالثا: لغة الإجمال دون التفصيل لا تتوافق أيضاً مع النظر الفقهي السديد:
(الحكم بالجملة بحرمة أو كراهة الإقامة والمواطنة في كل الديار غير الإسلامية).
رابعا: عزل النصوص عن بعضها أو سياقها.
ومن الأمثلة على ذلك ما يلي :
* آية الممتحنة الأولى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ...."
وتركوا الآية التي تكملها من السورة نفسها " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ...."
2. إلحاح على الآيات الداعية إلى قتال المشركين كافة مثل قولة تعالى "وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً...."دون ذكر للآية نفسها من سورة الممتحنة السابقة التي تحث على البر والقسط معهم.
3. هناك إلحاح كثير على أن الجهاد هو القتال ، وهذا قد يكون بعض الحق في معنى الجهاد لكن لا يجوز أن نتغافل عن أول آية نزلت في الجهاد في قوله تعالى :"فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً"(الفرقان52).
4. هناك عزل آيات الولاء عن النصوص الكثيرة التي تبيح التعامل مع أهل الكتاب بيعا وشراء، طعاما وزواجاَ، مما يعني أن الولاء الذي جعلوه مجرد وجود علاقة مع غير المسلم نوع من الفسوق أو المروق من الدين ، وهو خلاف نصوص التوصية خيرا بأهل الذمة، وحسن التعايش مع الجيران ، والأقارب
ثانيا : المراجعات التفصيلية
القضية الأولى : ارتباط المواطنة بالولاء والبراء :
لقد رأيت غلواً في الشرق والغرب في قضية الولاء يحتاج حقيقة إلى مزيد من الدراسات والأبحاث العلمية الدقيقة لتحرير هذه القضية الشائكة ، من مظاهر هذا الغلو في الجانبين ما يلي:-
1. هناك من صححوا جميع الأديان، وطالبوا بفتح العلاقات دون حدود مع أي إنسان بصرف النظر عن دينه أو لغته أو ....، وقد تزايدت هذه الدعوة في أمريكا على سبيل المثال بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م
2. هناك على الجانب الآخر من اعتبروا أن أي مستوى من التعامل مع غير المسلم هو نوع من الولاء الذي يفسق صاحبه أو يكفر حسب مستوي التشدد لدى هؤلاء, ومن الأمثلة ما يلي :-
* ما جاء في كتاب :"رسالتان في أهل الذمة".
* ما جاء في كتاب : "أحكام أهل الذمة".
* ما جاء في كتاب : "الجنسية في الشريعة الإسلامية" تحت عنوان مخاطر التجنس.
بعد هذا العرض يبدو جليا أن هناك غلوا لدى الجانبين ، فلا يمكن أن تكون الأديان الأخرى الآن صحيحة بعد أن قطع القرآن بتحريفها ، وحسم القضية في قوله تعالى : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران:85) ، كما لا يجوز أن يكون التعامل مع غير المسلم مثل التعامل مع أخي في الإسلام مع وجود أخوة إنسانية عامة ، وأخوة وطنية لكن تبقى أخوة الإسلام أقوى الأواصر لقوله تعالى :"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ "(الحجرات:10) .
وأيضا يجب أن يكون لكل مسلم موقف من الدول التي تظلم الشعوب الضعيفة مهما كانت جنسية هذا المسلم من أهل هذه البلد أو غيرها.
أما الجانب الآخر من الغلو فهو يجافي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية التي بعث بها صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.
وصار من فرائض الإيمان أن يكون كل مسلم ومسلمة داعية إلى الله تعالى, وأول شروط الدعوة هي البصيرة بخصائص الرسالة والمدعوين وفنون توصيل الرسالة.
وفقا لقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أن يكون فهم آيات الولاء والبراء على نحو يسمح دائما بالتعامل الراقي مع غير المسلمين حتى يروا في سنن الإسلام فيطمعون فيه ، وأية أحكام تخالف ذلك هي ضد مقاصد الشريعة ، وخصائص الإسلام.
وبحكم أن هذه قضية محورية في الحكم بالحل أو الحرمة عند الفريقين فإنني أحب أن أضعها موضع التحرير الفقهي كما يلي:
إذا جمعنا آيات الولاء مع النصوص الأخرى خاصة السنة التطبيقية فسنجد أن هناك تعاملاً قويا في جوانب عديدة في حياة النبي ( وأصحابه تفيد أن الولاء لا ينفي التعامل الذي فيه التراحم والبر والإحسان والتلاقي والتهادي والمداينة والمداهنة والمشاركة المالية والعمل معهم أو لديهم أو يعملون لدينا والعلاج عندهم أو يعالجون لدينا وتوضح ذلك الأدلة التالية :-
1. ضرورة التراحم مع أي إنسان:
ما رواه البخاري بسنده عن جرير بن عبد الله قال قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (لا يرحم الله من لا يرحم الناس).
2. جواز التهادي بين المسلم وغير المسلم:(49/358)
ما رواه البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي قال : (غزونا مع النبي ( تبوك وأهدى ملك آيلة للنبي ( بغلة بيضاء وكساه بردا).
3. جواز التعامل المادي مشاركة ومداينة ومراهنة:
ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن رسول ا صلى الله عليه وسلم : (أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول ا صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها).
4. جواز العمل مع غير المسلم أو لديه أو العكس أن يعمل غير المسلم معنا أو لدينا :
ما رواه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها : (واستأجر النبي ( وأبو بكر رجلا من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية ، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم أسفل مكة ، وهو طريق الساحل).
5. جواز العلاج لديهم :
ما رواه أبو داود بسنده عن سعد بن أبي وقاص ( قال : (مرضت مرضا أتاني رسول الله ( يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال إنك رجل مفئود ، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليدلّك بهن).
أعتقد أن معنى الولاء المحرم مع غير المسلم ينحصر في ثلاث خصائص مجتمعة لا منفردة هي:-
1. الحب القلبي للمشركين وبغض المسلمين .
لقوله تعالى :"هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ" [آل عمران : 119].
2. الطاعة لغير المسلمين فيما لا يرضي الله تعالى .
لقوله تعالى يصف حال المنافقين في غزوة بني النضير:" وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا" [الحشر : 11].
3. نصرة غير المسلمين على المسلمين.
لقوله تعالى عنهم أيضا :"لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " [الحشر:11].
أما آحاد هذه الشروط الثلاثة فليس من الولاء لما يلي : -
* الأصل أن يحب الرجل زوجته غير المسلمة (الكتابية) وأن يحبها أبناؤها وأقاربها مادامت غير محاربة لله ورسوله ولدينه .
* إذا أطاع المسلم غير المسلمين فيما يخالف الشرع من باب الهوى أو طاعة الشيطان أو تقليد العرف الغالب أو..... ، وهو يعتقد صحة الشرع الحنيف فهذه لا تخرج أبداً من الملة لأنه مثل تارك الصلاة تشاغلاً وتكاسلاً وليس منكراً لفرضيتها .
* أن من ساعد غير المسلمين ضد المسلمين جبناً وخوراً وضعفاً وهوانا فلا يحكم بكفره.
القضية الثانية : الاستدلال بأحاديث ضعيفة عن البراءة ممن يقيم بين المشركين :
لا يكاد باحث في قضية المواطنة بغير ديار الإسلام أو الهجرة إليها أو أخذ جنسيتها إلا ويورد هذين الحديثين:.
* روى النسائي والترمذي وأبو داود بسندهم عن جرير بن عبد الله بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين قالوا : يا رسول الله ولم ؟ قال : لا تراءى ناراهما.
* روى البيهقي والترمذي بسندهما عن سمرة بن جندب:" من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم.
أولا : مناقشة الحديثين سنداً:
1. حديث "أنا برىء ممن يقيم بين ظهراني المسركين" اختلف العلماء في مدى صحته.
2.حديث "من جامع المشرك وسكن معه كان مثله" مروي عن سمرة بن جندب بطريقين فيهما ضعف شديد.
ثانيا : مناقشة الحديثين متنا:
1. إذا عرضنا متن الحديث على صريح القرآن ، وصحيح سنة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام فلن نجد فيهما ما يقوى أمام معارضة ثوابت الإسلام.
2. لو صح ـ جدلاً ـ هذان الحديثان سنداً ـ وهو ما لم يحدث ـ فإن معناهما لا يمكن حمله إلا على أنه خاص بوقت الهجرة الواجبة إلى المدينة ممن لا يجدون حرية في التعبد.
أورد بن قدامة المقدسي أقوال العلماء في مدى وجوب الهجرة فيقول :
والناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها : من تجب عيه وهو قادر عليها ، ولايقدر على إظهار دينه ، ولا يتمكن من إقامة واجبات دينه ، فهذا تجب الهجرة عليه .
الثاني : من لا هجرة عليه لعجزه عنها لمرض أو إكراه أو ضعف ، فهذا لا هجرة عليه .
الثالث : من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها ويتمكن من إظهار دينه ، فتستجب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم ، ولا تجب عيه لإمكان إقامته واجب دينه بدون الهجرة.
من استعراض أدلة المثبتين والنافين أستطيع أن أحدد رؤيتي فيما يلي : -
* الأصل في الأشياء الإباحة وعليه فإن من حق أي مسلم أن يقيم ويستوطن ويعيش ويتجنس بأي جنسية لأي بلد في الأرض ، وهذا وفقاً لذلك الأصل العام الذي يدخل عليه التخصيص والتقييد كما هي عادة العموم الذي يخصص غالباً .(49/359)
* يقترن بهذه المواطنة ما يحقق المقصد العام من وجود الإنسان في هذه الحياة وهي عبادة الله وأن يكون خليفته في أرضه ، فأي مكان يوفر له أداء شعائره ومناسكه وثوابته فهو مكان تصح الإقامة فيه.
* يقترن بذلك أيضاً أننا أمة يجب أن تنفتح على الناس ،ولذلك كانت السياحة بهذا الدين ، وتبليغه كل إنسان على وجه الأرض واجبا شرعيا يلزم أن يسعى المسلمون إلى تحقيقه بكل الوسائل المشروعة التي تساعد عليه .
يتغير هذا الحكم العام فيحدث له تخصيص وفقاً للمساس بالثوابت الشرعية ، عقيدة وأخلاقاً وتشريعاً ، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان والانسان.
والإنسان نفسه يتغير من إحكام الهوى إلى انفلاته ، ومن القوة إلى الضعف ، وقد يتغير عكس ذلك أيضاً ، ولابد أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه في تحديد مدى شرعيتة الاستيطان في مكان دون آخروفقاً لمعيار تحقيق مراد الله من الإنسان أن يكون عابداً له داعياً إليه مجاهداً في سبيله، عامراً لأرضه ، محسناً إلى خلقه فإن وجد أن إقامته في غير ديار الإسلام تساعده على تحقيق ذلك عاش بها واستوطنها ، وأعطاها من الحب والولاء بالقدر الذي لايمس أصول دينه.
وإن وجد أن الفتن قد تزاحمت والنفس قد تغيرت ، آنئذٍ يجب أن يسارع بنفسه وأهله وعياله إلى تغيير مقامه ، وأن يستوطن أرضاً أخرى ، ويتحدد مدى الوجوب والاستحباب في الهجرة والانتقال وفق حجم المخاطر التي تحوط الضروريات الست " الدين والنفس والعرض والنسل والعقل والمال".
ولذا لاتزال الهجرات طردية وعكسية من البلاد الإسلامية ، إلى الدول الغرب ، والبلاد غير الإسلامية ، ولكن قوماً يفعلونها كحركة دنيوية لتحسين المعايش المادية وآخرون يتحركون لإعمار حياتهم الدنيوية والأخروية ، والأمر كما قال سبحانه :"قل كلٍ يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً " (الإسراء:84) .
الخلاصة
* المواطنة هى علاقة بين فرد ودولة يحدد قانون تلك الدولة واجبات وحقوق فى تلك الدولة وتتسع وتضيق الحقوق حسب مدى تقدير الإنسان في دولته .
* المواطنة فى القرآن والسنة تأتى بالمعنى الاصطلاحى ، بلفظ الدار ، ويصل الاعتزاز بالمواطنة إلى اعتبار الإخراج منه قهراً يساوي القتل فى الإسلام.
يتبع الخلاصة
* هناك عدد من العلماء أفتوا بحرمة طلب الجنسية أو المواطنة فى غير ديار الإسلام وذهبوا إلى تكفير أو تفسيق من يفعل ذلك ، وعموم أدلتهم تستند إلى الولاء والبراء والخضوع لأحكام غير الإسلام طواعية، والفتن التي يتعرض لها الأولاد خاصة والأسر عامة ، ويستدلون بنصوص صحيحة لا تدل على مقصودهم حيث تنتزع من سياقها , أو تهمل بقية النصوص فى موضوعها ، أو يعتمدون على فتاوى لها ظروفها التى تغيرت فى واقعنا الآن .
يتبع الخلاصة
* الحق أن الولاء المحرم يعنى حب غير المسلمين وبغض المسلمين ، وطاعة غير المسلمين مخالفة لشرع الله ، والنصرة لهم ، وهذه المعانى مجتمعة لا تتوفر فى كثير من صور المواطنة الأصلية أو المواطنة بالتجنيس .
* هناك مفاسد فى الإقامة فى غير بلاد الإسلام ، لكن هذه المفاسد لم تعد قاصرة على هذه الديار ، ويحتاج الأمر إلى الاجتهاد المقاصدى فى مدى تحقيق شرع الله فى حياه المسلمين ، خاصة فى وجوب نشر الدعوة ، والخروج إلى الناس جميعاً بهذا المنهج .
يتبع الخلاصة
* أتوافق مع أكثر العلماء الذين يرون صحة المواطنة الأصلية أو بالتجنس ، حيث تدل على ذلك نصوص الأمر بالسير والضرب فى الأرض للدعوة أو للتجارة أو التعليم ، ووجوب نشر الإسلام فى الأرض كلها ، ووجوب حماية المصالح الضرورية بالهجرة إذا تعرض المسلم للفتنة فى بلاده .
يتبع الخلاصة
* أى مسلم فى بلد غير مسلم يجب أن يعتز بالمواطنة ، ويستشعر المسئولية عن إصلاح بلده ، والوفاء لها بحق البناء والتعمير ، وليس التخريب والتدمير ، بشرط أن يكون ذلك من خلال التزام الثوابت الإسلامية .
* على كلٍ إذا تيقن المسلم المقيم فى غير ديار الإسلام أنها دار فتنة له أو لأسرت فيجب عليه أن يغادرها إلى بلد يأمن فيه على دينه وعرضه .
"ربَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً "
[الكهف : 10]
=============(49/360)
(49/361)
العلاقة بين المواطنة والإسلام
حسن شلبي *
وحول تحديد حقوق المواطنة التي حددها الإسلام، يجب علينا أن نبرز مبدأ الإسلام في المواطنة، حيث إنه ضَمن لنا نعمة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات".
وعرف د."عمارة" "المواطنة" على أنها "الاعتراف بالآخر وقبوله، والمساواة معه في الحقوق والواجبات"، مشيرا إلى أن "المواطنة لم يعرفها العالم قبل مجيء الإسلام".
إن الإسلام في فلسفته، في هذه القضية ينطلق من مبدأ هام "هو التمييز بين حقوق الله وحقوق العباد، العقائد هي من حقوق الله، فلا ينبغي التمييز على أساسها.
لعل السؤال الأكثر تداولا في مجال الإصلاح، عربيا وإسلاميا يدور حول مفهوم المواطنة، باعتباره أحد أهم المفاهيم الأولية، الذي تتأسس عليه الدولة الحديثة، فالمستشرق "برنارد لويس" يؤكد أن مفهوم المواطنة غريب تماما عن الإسلام، ويؤكد أن هذا الغياب، يمثل حقيقة تاريخية وثقافية مميزة للفكر الإسلامي.
على الرغم من مجانبة "لويس" للحقيقة في مجمل آرائه المتعلقة بالإسلام، فإننا نجد له أنصارا ومؤيدين في العالم العربي والإسلامي، إذ يتفق بعض الباحثين والمفكرين العرب، على غياب مفهوم المواطنة في الإسلام. فالمفكر المصري "سمير أمين" يؤكد أن "المساواة القانونية لم تكن سمة من سمات الأنظمة التقليدية العربية أو الشرقية"، ويميل إلى هذا الرأي المفكر الجزائري "محمد أركون"، الذي يؤكد على أن مفهوم الجماعة السياسية في الإسلام، يخلو من أية محاولة لتطوير "سياق للمواطنة كشرط ضروري ليس لنشوء حكم القانون فحسب، بل لظهور المجتمع المدني الذي يستطيع السيطرة على سلطات الدولة".
إن تحيز لويس اللاتاريخي أعماه عن رؤية مصطلحات إسلامية، تكافئ مفهوم المواطنة الذي نشأ وتطور في الغرب, فقد اقترن هذا المفهوم بالفصل بين دائرتين من دوائر الحياة, وهما: "الدائرة العامة" و"الدائرة الخاصة"، حيث يدخل في دائرة الحياة العامة كل المعايير والقوانين والمؤسسات، التي تتوسل بها الدولة في تنظيم علاقات الأفراد رعاية للصالح العام، ويدخل في دائرة الحياة الخاصة كل ما اختص به الأفراد من حريات وحقوق، لا تطاولها سلطة القانون ولا تخضع لنظام المجتمع.فالمواطنة تتحدد في سياق نظرية في العدل، تقوم على الفصل الحداثي بين الدائرتين، فمن مقتضيات هذه النظرية، أن يتمتع أفراد المجتمع الحداثي بالمساواة القانونية، من أجل النهوض بواجب المشاركة في تدبير الشأن العام، بغض النظر عن اختلافهم في الخيارات والانتماءات، التي تعتبر جزءا من الحياة الخاصة، فقد استقر لدى منظري الفكر السياسي عموما، والأمريكيين منهم خصوصا، أن هناك موقفين متباينين من النظرية الخاصة في العدل، التي تتأسس عليها المواطنة، يشدد الأول على التفريق بين المواطنة والأخلاق، وهو موقف "الليبراليين" وأشهر ممثليه فيلسوف الفكر السياسي الأمريكي "جون رولز"، ويرى هؤلاء أن المواطنة جملة من الحقوق الفردية تحددها نظرية العدل، وضعت خارج نطاق الأخلاق.
فالأفراد قاموا بتحديد مبادئ هذه النظرية السياسية، حفظا لمصالحهم بعد أن تجردوا من القيم والأغراض والأوضاع والأدوار، التي تخصهم، من أجل الحصول على حقوق متساوية مع غيرهم، على اعتبار أن الرؤية الأخلاقية شأن خاص كالعقيدة الدينية. أما نظرية العدل التي توجبها المواطنة فشأن عام، ولا يخفى أن هذه النظرية على الرغم من توسعها المادي، تجاهلت كليا اعتبار الأخلاق مؤثرة في الحياة العامة.
أما الموقف الثاني: فيقوم على أساس الجمع بين المواطنة وأخلاق الجماعة، ويمثل هذا الاتجاه فئة من المفكرين السياسيين المعاصرين، الذين يطلق عليهم "الجماعانيين" وأشهر ممثليهم الفلاسفة الأمريكيون: مثل "ميكائيل صاندل" و"شارلز تايلور" و"ألسدير ماك انتاير"و "ميكائيل ولتزر"، ويرى هؤلاء أن المواطنة لا توجد إلا مقترنة بموقع من المواقع داخل المجتمع.
فكل مواطن يرتبط بتاريخ وتراث مخصوصين، والقيم الثقافية هي جزء من هذه الثقافة المخصوصة، ولذلك يجب تأسيس الحقوق التي يتمتع بها هذا المواطن على القيم، التي تأخذ بها الجماعة، وبهذا تصبح الأخلاق هي الأساس الذي تقوم عليه الحياة العامة. وعلى الرغم من استيعاب هذه النظرية لدائرتي الحياة العامة والخاصة للمواطن، فإنها لم ترتق إلى رتبة يتحقق بها تحصيل أعلى القيم الروحية، واكتفت النظرية بالعادات الثابتة التي تتوارثها الجماعة.
المحاولات التجديدية، في الخطاب الإسلامي الجديد، لمفهوم المواطنة غفلت عن بناء المواطنة على أساس النظر الأخلاقي، وهو الأمر الذي أفقدها تماسكها وانسجامها مع المنظور الإسلامي، فقد اتجه المفكرون الإسلاميون المتأخرون، إلى التأكيد على اعتبار المجتمع الإسلامي هو قاعدة الولاء وأساس العمل السياسي.(49/362)
"فالمودودي" و"سيد قطب"، رفضا الحلول الوسطية وأكدا على ضرورة اقتصار المجتمع على المسلمين، وطبقا لهذه الرؤية لا توجد مشكلة مواطنة لغير المسلمين، لأن الدولة هنا تنشأ من قبل المسلمين ولأجلهم فقط. أما بالنسبة لغير المسلمين فبإمكانهم العيش كأقليات تحميها الدولة، ويعتبر الدكتور "فتحي عثمان" من أوائل المفكرين الذين أعادوا النظر في المفهوم من خلال التأكيد على ضرورة التسامي فوق التصنيفات والطبقات القديمة، التي يشير إليها مصطلح "أهل الذمة"، وقبولهم كمواطنين يتمتعون بجميع الحقوق على أساس، إقرار نوع من التبادلية والتعاون الدولي الذي تفرضه العولمة في هذا المجال.
وقدم عدد من المفكرين الإسلاميين مقاربات مماثلة "كفهمي هويدي" و"طارق البشري" و"سليم العوا" و"أحمد كمال أبو المجد الغنوشي" وغيرهم. فيرى هويدي ضرورة تجاوز الصيغ والمفاهيم التقليدية، بسبب التطورات الحديثة بالاعتماد على المبادئ الأساسية للقرآن والسنة، كما طور العوا أطروحة تعتمد على التضاد بين ما أسماه "شرعية الفتح" و"شرعية التحرير", فالدولة الإسلامية الحديثة ظهرت إلى الوجود نتيجة صراع التحرير، الذي ساهم فيه غير المسلمين بصورة مساوية للمسلمين، ولذلك فهم يستحقون حقوقا كاملة كمواطنين، فالصيغ السابقة لم تعد قابلة للتطبيق، أما الغنوشي فيرى أن غير المسلمين قد يصبحون مواطنين في حالة قبولهم بشرعية الدولة الإسلامية، إلا أنهم لا يتسلمون مناصب رئيسية في الدولة، أما طارق البشري فينطلق من التمييز الذي أقامه الماوردي بين منصبي "وزير التفويض" و"وزير التنفيذ"، ويرى أن الدولة الديمقراطية الحديثة لا تتوفر على منصب، ولو كان رئيس الدولة يملك سلطة مطلقة، ولذلك لا بد أن تكون جميع المناصب في الدولة الإسلامية الحديثة متاحة للمواطنين غير المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
*باحث شرعي
================(49/363)
(49/364)
السنة النبوية في المواطنة والوحدة الوطنية
للدكتور / محمد عمارة
المواطنة: مفاعلة اي تفاعل بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه وهي علاقة تفاعل، لانها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات فلابد لقيام المواطنة ان يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمن بها وينتمي اليها ويدافع عنها، بكل مافي عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة والارض التي تمثل وعاء الهوية والمواطنين.. وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من اعداء هذا الوطن.
وكما أن للوطن هذه الحقوق علي المواطن، فإن لهذا المواطن علي وطنه وشعبه وأمته حقوقا كذلك من اهمها المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب اللون أو الطبقة أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعل الامة والشعب جسدا واحدا.. وإذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية، بسبب التمييز علي أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت وعلي اساس العرق بسبب الحروب القومية وعلي أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء وعلي اساس اللون في التمييز ضد الملونين .. فإن المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات.. قد اقترنت بالاسلام، وتأسيس الدولة الاسلامية الاولي في المدينة المنورة علي عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم فالإنسان في الرؤية الاسلامية هو مطلق الانسان.. والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم.. والخطاب القرآني موجه اساسا الي عموم الناس. ومعايير التفاضل هي التقوي المفتوحة ابوابها امام الجميع..
المواطنة والإسلام
ولقد وضعت الدولة الاسلامية فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الاولي لقيام هذه الدولة في السنة الاولي للهجرة.. ففي أول دستور لهذه الدولة تأسست الامة علي التعددية الدينية، ونص الدستور الصحيفة علي أن 'اليهود امة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. وان لهم النصر والاسوة مع البر من اهل هذه الصحيفة.. ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم..'
هكذا تأسست المواطنة، بالاسلام، في الدولة الاسلامية، عندما جمعت الامة أهل الديانات المتعددة، علي قدم المساواة، لاول مرة في التاريخ.. وعندما بدأت العلاقات بين سلطة الدولة الإسلامية علي عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم وبين المتدينين بالنصرانية نصاري نجران سنة 10 ه قررت لهم الدولة الاسلامية بالعهود الموثقة كامل المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، وكان الشعار هو: 'لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين'.. ولقد نص العهد الذي كتبه رسول ا صلى الله عليه وسلم لنصاري نجران ولكل النصاري عبر الزمان والمكان علي 'أن لنجران وحاشيتها، وسائر من ينتحل النصرانية في أقطار الارض، جوار الله وذمة محمد رسول الله، علي أموالهم وأنفسهم وملتهم.. وبيعهم، وكل ما تحت ايديهم.. ان احمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان ومواطن السياح.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الاسلام من ملتي.. لأني أعطيتهم عهد الله علي أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما علي المسلمين، وعلي المسلمين ما عليهم، حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم..' وعندما اباح الاسلام زواج المسلم من الكتابية اليهودية والنصرانية اسس ذلك علي شرط احترام عقيدتها الدينية احتراما كاملا.. ولابد في الزواج من رضا الاهل.. ولقد جاء في عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم لنصاري نجران عن هذا الزواج: ' ولا يحملون من النكاح شططا لا يريدونه، ولا يكره أهل البنت علي تزويج المسلمين.. لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم.. إن أحبوه ورضوا به.. وإذا صارت النصرانية عند المسلم فعليه أن يرضي بنصرانيتها، ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها والاخذ بمعالم دينها، ولا يمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها علي شيء من امر دينها، فقد خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله، وهو عند الله من الكاذبين'.
بل لقد بلغت آفاق المساواة في حقوق المواطنة الي الحد الذي نص فيه عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم الي النصاري علي مساعدة الدولة الاسلامية لهم عند الحاجة في بناء دور عبادتهم وترميمها.. وجاء في هذا العهد والميثاق النبوي: 'ولهم إن احتاجوا الي مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم إلي رفد (أي دعم وإعانة) من المسلمين وتقوية لهم علي مرمتها، أن يرفدوا علي ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم علي مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله لهم، ومنة لله ورسوله عليهم..'
الولاء للوطن(49/365)
وحتي في المسائل المالية والاقتصادية مثل الخراج والضرائب نص عهد رسول الله للنصاري علي أنه 'لا يجار عليهم، ولا يحملون إلا قدر طاقتهم وقوتهم علي عمل الارض وعمارتها وإقبال ثمرتها، ولا يكلفون شططا ، ولا يتجاوز بهم أصحاب الخراج من نظرائهم..'
وكل حقوق المساواة في المواطنة، التي قررها الاسلام لغير المسلمين في الدولة الاسلامية 'لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين.. وحماية الانفس والدماء والاموال والاعراض واماكن العبادة والحريات' هي في مقابل الولاء الكامل للوطن والانتماء الخالص للمجتمع والدولة والامة وهي واجبات علي كل المواطنين ، المسلمين منهم وغير المسلمين.. وفي تقرير هذه الواجبات نص عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم فقال: 'واشترط عليهم أمورا يجب عليهم في دينهم التمسك والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينا لأحد من أهل الحرب علي أحد من المسلمين في سره وعلانيته، ولا يأوي منازلهم عدو للمسلمين، ولا يساعدوا أحدا من أهل الحرب علي المسلمين بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وأن يكتموا علي المسلمين، ولا يظهروا العدو علي عوراتهم..'
كذلك نص عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم للنصاري علي الحرية الدينية.. فجاء فيه: 'ولا يجبر أحد ممن كان علي ملة النصرانية كرها علي الاسلام (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت: 46 ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذي المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد..'.
المساواة بين الجميع
بل إن هذه المساواة الكاملة في حقوق المواطنة وواجباتها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، وعلي المسلمين ما عليهم، حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم' لم تقف بها الدولة الاسلامية عند أهل الكتاب اليهود والنصاري وإنما شملت حتي المتدينين بالديانات الوضعية من المجوس وغيرهم فبعد فتح فارس عرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه الامر علي مجلس الشوري مجلس السبعين وقال : نحن نعرف حكم اليهود والنصاري.. فماذا عن حكم هؤلاء المجوس؟.. فوثب عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قائلا: 'اشهد أني سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: ' سنوفيهم سجنة أهل الكتاب' فعاملت الدولة الاسلامية طوال تاريخها أهل الديانات الوضعية المجوس .. والزرادشت.. والبوذيين. والهندوس معاملة أهل الكتاب، التي قررت مبادئها مواثيق رسول ا صلى الله عليه وسلم .. لغير المسلمين في الدولة الاسلامية..
وإذا كانت المواطنة وحقوقها قد عرفها الغرب علي أنقاض الدين، بعد انتصار العلمانية علي الكنيسة الغربية.. ولذلك جاءت مواطنة علمانية.. فإن الاسلام هو الذي انشأ المواطنة، وشريعته هي التي قررت حقوقها، وبذلك ضمنت القداسة لهذه الحقوق، حتي لا تكون 'منحة' يسمح بها حاكم ويمنعها آخر.. وبعبارة رسول ا صلى الله عليه وسلم 'فمن خالف عهد الله وعصي ميثاق رسوله فهو عند الله من الكاذبين'.
كذلك ، قرر الإسلام في دستور دولة المدينة أن الشريعة الاسلامية كما هي ضامنة للحقوق والواجبات في المواطنة فإنها هي المرجع عند الاختلاف.. فنص هذا الدستور علي 'أنه ماكان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الي الله وإلي محمد رسول الله'..
*****
هكذا أبدع الاسلام الدين والدولة والحضارة كامل المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، قبل أربعة عشر قرنا.. عندما كانت الدول والحضارات الاخري لا تعترف بالآخر.. فالمواطنون في أثينا كانوا هم الرجال الاحرار الملاك الاشراف من اليونان، ومن عداهم برابرة ليست لهم أية حقوق.. وكذلك كان الحال عند الرومان.. لكن الإسلام هو الذي قرر وقنن وطبق كامل المساواة بين الرعية والامة في الدولة الاسلامية، في تكافؤ الفرص.. وفي حرمة الانفس.. والدماء.. والاعراض.. والاموال.. والعقائد.. والحريات.. ولذلك فتحت الابواب الواسعة أمام مختلف الملل والنحل والمذاهب فشاركوا في بناء هذه الحضارة الاسلامية وصنع التاريخ الاسلامي.
وإذا كانت السنة النبوية هي البيان النبوي للبلاغ القرآني.. فإن هذه العهود النبوية التي قننت حقوق المواطنة وواجباتها هي 'سنة نبوية قولية'، تحولت بالتطبيق الي 'سنة عملية' ايضا.. وأمام هذه السنة النبوية لا مجال لاي اجتهاد يخالفها، بصرف النظر عن مقام صاحب الاجتهاد المخالف..
لقد شهد التاريخ الاسلامي آراء مختلفة إزاء غير المسلمين في المجتمعات الاسلامية.. وكانت كثير من هذه الآراء ثمرة لظروف سياسية.. ومخاطر خارجية.. لكن يظل الإسلام هو كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ففيهما الحكم العادل في قضية المواطنة والوحدة الوطنية، التي قررها الاسلام.
- - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثامن عشر ... 2
الدعوة إلى الوطنية ... 2(49/366)
(49/367)
معبودات جديدة؛ الوطن ... 2(49/368)
(49/369)
فرية؛ "الدين لله والوطن للجميع": ... 3(49/370)
(49/371)
الإسلام والوطنية المزعومة ... 3(49/372)
(49/373)
إنما الوطنيون؛ إخوة ... 5(49/374)
(49/375)
البُعدُ الوطني عند الوطنيين ... 7(49/376)
(49/377)
الوحدة الوطنية ... 11(49/378)
(49/379)
الأمة الإسلامية وأخطار القطرية عليها ... 16(49/380)
(49/381)
الدفاع عن عقيدة الموحدين ورد باطل المفسدين في تعبيد الناس للـ"وطنية" ... 21
وتشويه معنى البيعة الشرعية وإمامة المسلمين ... 21(49/382)
(49/383)
الوطنية وإحياء الآثار الجاهلية ... 29(49/384)
(49/385)
وقفات مع عمرو خالد ... 33(49/386)
(49/387)
مخلفات "سايكس بيكو" ... 39(49/388)
(49/389)
الفرق المبين بين توحيد المرسلين وتوحيد الوطنيين ... 48(49/390)
(49/391)
الوحدة الوطنية ستار كاذب للهجوم على الإسلام في مصر ... 53(49/392)
(49/393)
المسلمون في أمريكا بين الوطنية والخوف ... 57(49/394)
(49/395)
لهفي على الإسلام ... وقلبي على ديني ... 59(49/396)
(49/397)
الوطنية في الإسلام ... 64(49/398)
(49/399)
حول مقولة؛ "حب الاوطان من الايمان" ... 74(49/400)
(49/401)
حكم حضور احتفالات النصارى ... 76(49/402)
(49/403)
تأتيهم أوامر بأن يخطبوا عن الأعياد الوطنية فما العمل ؟ ... 77(49/404)
(49/405)
الوحدة الوطنية ... 78(49/406)
(49/407)
حكم الاستماع إلى الأناشيد الوطنية ... 83(49/408)
(49/409)
الوطنية وحب الوطن والدفاع عنه ... 84(49/410)
(49/411)
حكم الاستماع إلى الأغاني الوطنية والرياضية ... 85(49/412)
(49/413)
حكم خياطة الأعلام الوطنية ... 86(49/414)
(49/415)
الحجاب والثقافة الوطنية ... 87(49/416)
(49/417)
الوطنية في الإسلام ... 87(49/418)
(49/419)
من القومية إلي الوطنية ... 94(49/420)
(49/421)
السلطة الوطنية ... 98(49/422)
(49/423)
الوطنية والقومية والعصبية والإسلام ... 104(49/424)
(49/425)
دعاة التخريب لا دعاة التجديد ... 107(49/426)
(49/427)
إن الحكم إلا لله ... 111(49/428)
(49/429)
قولهم : يا وطن أنت الأول والأخير ... 116(49/430)
(49/431)
إطلاق كلمة الأجنبي على المقيم بغير بلده... ... 117
مخاطرها ومحاذيرها ... 117(49/432)
(49/433)
الأغاني الثورية... رؤية أخلاقية شرعية ... 119(49/434)
(49/435)
شروط جواز غناء المرأة أغاني دينية أو وطنية ... 119(49/436)
(49/437)
اختطاف الوطنيّة ... 120(49/438)
(49/439)
الإنسان والوطن ... 123(49/440)
(49/441)
صورة المرأة مكشوفة الوجه للبطاقة الشخصية...نظرة شرعية ... 126(49/442)
(49/443)
حول بطاقة المرأة ... 127(49/444)
(49/445)
أهم العوامل في عدم الاتحاد بين المسلمين ... 138(49/446)
(49/447)
عنصرية جديدة أفرزتها الجاهلية الحديثة ... 139(49/448)
(49/449)
حكم العمل بعزف الأناشيد الوطنية ... 140(49/450)
(49/451)
وطن أم وثن ... 142(49/452)
(49/453)
الشغب الرياضي ... 143(49/454)
(49/455)
حب الوطن بين الحقيقة والإدعاء ... 148(49/456)
(49/457)
المشروع التغريبي إذ يحمله الصحويون ؟! ... 150(49/458)
(49/459)
تحتاج إلى جهدٍ جماعي ... 162(49/460)
(49/461)
حقائق كشفها الزور ... 166(49/462)
(49/463)
طمس الحقائق ... 177(49/464)
(49/465)
حافظوا على هذا الوطن .. ... 181(49/466)
(49/467)
حذاري من المزايدين على حبّ ( الوطن ) !! ... 183(49/468)
(49/469)
المختصر في حكم الأعياد المحدثة ... 186(49/470)
(49/471)
دعوة إلى إعادة النظر في الأهداف والمنطلقات ... 210(49/472)
(49/473)
الإسلام والمواطنة ... 212(49/474)
(49/475)
المواطنة والهوية ... 215(49/476)
(49/477)
المواطنة والإصلاح ... 221(49/478)
(49/479)
أهل الذمة والولايات السياسية ... 232(49/480)
(49/481)
فن خلط الأوراق يا أهل القبلة الحنيفية.. ... 246(49/482)
(49/483)
اعتراف آخر لـ ( طه العلواني ) بفشل تقديم التنازلات للعلمانيين ..! ... 250(49/484)
(49/485)
فلسفة المواطنة ... 252(49/486)
(49/487)
هل خدعهم حسن الصفار ؟! ... 279(49/488)
(49/489)
مؤتمر بكين .. خطوة باتجاه مجتمع التحلّل العالمي ... 285(49/490)
(49/491)
فصل الدين عن الدولة ... 295(49/492)
(49/493)
ماذا تريدُ أن تعرفَ عن " حزبِ اللاتِ ؟ حقائقٌ مهمةٌ ... 299(49/494)
(49/495)
شبهات الطابور السادس والرد عليها ( المجموعة الأولى ) ... 318(49/496)
(49/497)
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ ... 334(49/498)
(49/499)
الرد على حمزة المزيني في تعليقه على بيان المشايخ حول المرأة ... 344(49/500)
(50/1)
الفيدرالية .. الخطر القادم ! ... 355(50/2)
(50/3)
أمريكا والطائفية ! ... 425(50/4)
(50/5)
مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي ... 433(50/6)
(50/7)
الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية ... 484(50/8)
(50/9)
إشكالية الأمة والوطن في الفكر الإسلامي ... 512(50/10)
(50/11)
سراييفو:المجلس الأوربي يبحث مشاكل المواطنة والحوار ... 521(50/12)
(50/13)
المشروع السياسي للإخوان في سوريا بين التوفيق والتجديد ... 524(50/14)
(50/15)
مؤتمر لندن .. بين دعاة الوسطية والتطرف ... 526(50/16)
(50/17)
مجلس الإفتاء يوصي مسلمي أوروبا بالاندماج الإيجابي ... 531(50/18)
(50/19)
اختطاف الوطنيّة ... 535(50/20)
(50/21)
التديّن والعسكريّة: إسرائيل والعرب ... 538(50/22)
(50/23)
معالم حول أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية ... 541(50/24)
(50/25)
المواطنة في غير ديار الإسلام بين النافين والمثبتين ... 555(50/26)
(50/27)
العلاقة بين المواطنة والإسلام ... 572(50/28)
(50/29)
السنة النبوية في المواطنة والوحدة الوطنية ... 575(50/30)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (19) كشف الشخصيات
الباب التاسع عشر
كشف الشخصيات
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب التاسع عشر
كشف الشخصيات(51/1)
(51/2)
رجال اختلف فيهم الرأي\\ من أرسطو إلى لويس عوض \\
أنور الجندي
(1) لطفي السيد
وأكذوبة أستاذ الجيل
خلفت لنا الفترة مسلمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سحب كثيرة من سحب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل لطفي السيد فإلى أى مدى كان هذا اللقب صحيحاً بالنبة لمنشيء حزب الأمة مترجم أرسطو والخصم الخصيم للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعاً.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعاناً شديداً وخدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملا من عوامل القداسة إلى سنيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكما جازماً على شخصية ما يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقى الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل.
أولا: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواء الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.
ثانيا: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار وويلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغيره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية المتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية "مقالاته في الجريدة خلال شهري إبرايل ومايو 1913 ) وقد رد عليه عبد الرحمن البرقوقي مصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذه الاتجاه.
ثالثا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم فى طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911 وكتب في هذه المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع : لا سياسة العواطف" مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى إلتزام الحياد المطلق فى هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر فى سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاطفة بل وطعنا جارحا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته .
رابعا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحتلة ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الاراضى المصرية فيكون لها الحق فى التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطانى الذى أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطراً على سياسة البلاد وساحقاً لكرامتها ومغتصباً لثروتها وحياتها يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه.
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر وقال: لو بقي اللورد كرومر عاماً واحداً فى منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته" نشر هذه الجريدة فى نفس اليوم الذى ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا، وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باقى إلى الأبد.
سادسا: رسم لطفي السيد خلال عمله فىالجريدية (1908 - 19149 منهجا للحياة الاجتماعية والسياسية والتوبوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبى والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة ماكرة خادعة هى "مصر للمصريين" وقاوم بهذا الفكر ذلك الاتجاه الأصيل الذى كان يحمل لواءه دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامى النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو ( التى ترجمت من الفرنسية ) (السياسة الكون والفساد. الأخلاق) ، وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مرتجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة فى دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معصري هذه الفترة.
(الأستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق لا يزال حيا يرزق).
ثامنا: بالرغم من دعوة لطفى السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان الحريات العامة يقول الأستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في حياة لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذى كتب مطالبا بالدستور مدافعا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية. كيف يشترك فى وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.(51/3)
تاسعاً: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان "الذين وصفهم بأنهم" أصحاب المصالح الحقيقية وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته لشئ.
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القاريء العربى المثقف دون أن نقدم حكما على لطفى السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذه الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التى حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ فى مصر جيلا جديداً يسير فى ركب الاستعمار معجبا به مقدراً له ومحبا ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذى يعمل بالتعاون مع الاستعمار ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعا من أبناء الطبقة التي أنشأها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر فى المستقبل القريب .. وكان حريصا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب فى نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم وسلمها لهذا الجيل الذى كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمى وقد تشكل حرب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسن عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبدالرحيم الدمرداش والطرزى وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها إلى كرومر الذى يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في 21 سبتمبر 1907 برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التى جمعوا لاه فى ذلك الوقت مبلغ 30 ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة فى 9 مارس 1907 تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة الوطنية خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهايج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلى: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها فى مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.
وقد أعلنت بريطانيا تحديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والدعة في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يهمهم بأنهم خياليون مغالون فى الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون فىيإطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التعبية فى التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع للقانون الوضعي ولمفاهيم العرب فى التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تماما بين مصر وبين جيرانها عرباً ومسلمين وبين الفكر والثقافة فى مصر وبين الفكر الإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد فى دعوته هذه ينتقض أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي فى التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذى كان فى هذه الفترة خصيصا الدين والأخلاق.(51/4)
يقول ألبرت حوراني: " إن الانطباع القوي الذى نتركه قراءة مقالات لطفي السيد التى نشرها في الجريدة "وهي كل ثروته للفكرية" هو الاندهاش من الدور الصغير الذى لعبه الإسلام فى تفكير رجل تتلمذ على "محمد عبده" لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقى للمجتمع. وفى هذا يقول لست مما يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكنى أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ تتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا نرى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول : وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التى تؤدى إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله، بقدر ما تدور حول الشروط التى تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن للمفاهيم التى أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم الفكر الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولا: تفكير كونت ، ورينان ، وبلى ، وسبنسر ، ودور كايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيا: تفكير جوستاف لوبرن الذي يقول بفكره الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابتة بثبوت بنيته الجسدية.
ويقول الحورانى: إن لطفي السيد يحدد فكرة الأئمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الأحرار على عناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون فى الأصل واللغة والدين.
سعد زغلول
دعوة صريحة إلى الكتاب المؤرخين:
انشروا مذكرات سعد زغلول المخطوطة لتشكفوا حقيقة هذه الشخصية الخادعة ولتضعوه فى مكانه الصحيح من تاريخ مصر.
إن الحقائق تكشف عن دور سعد زغلول فى:
أولا: تجميد اللغة العربية وإتاحة الفرصة للغة الانجليزية بوزارة المعارف.
ثانيا:- بعث قانون كرومر للمطبوعات لمحاكمة الصحفيين والكتاب الوطنيين.
ثالثا:- التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر العربية.
سعد زغلول
كان من أهم الأسئلة فى ندوة الاعتصام ما قدمه عدد من الشباب استفساراً عن صحة ما نشر عن تاريخ سعد زغلول من فصول في إحدى الصحف اليومية ومدى تطابق هذا مع واقع التاريخ ومن خلال نظرة إسلامية صحيحة.
ولا ريب أن شخصية سعد زغلول هي واحدة من أكثر الشخصيات العمل الوطنى فى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه لا يمكن دراستها، ألا يفهم الاطار السياسى الذي يدأ منذ أن احتلت بريطانيا مصر وواجهت الحركة الوطنية التى قاومت النفوذ الاجنبي بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد وعدد من المجاهدين الذين عملت القوة البريطانية على تصفيتهم وإقصائهم وتقديم جيل جديد من أصحاب الولاء للنفوذ البريطاني وفي مقدمة هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي.
هذه المرحلة السابقة لظهور هيئة الوفد المصري التي قادها سعد زغلول لها أهميتها في الكشف عن الدور الذي قام به سعد زغلول في معارضة الحركة الوطنية وكبح جماحها، وتقديم رجالها للمحاكمة كما فعل فى محاكمة فريد وهو وكبير الحقانية، وكذلك دوره في تجميد اللغة العربية وهو وزير المعارف واتاحة الفرصة للغة الانجليزية، وكذلك دوره فى إعادة بعث قانون المطبوعات القديم الذي كان كرومر قد أجاره ثم أوقفه وذلك لمحاكمة الكتاب والصحفيين الوطنيين بأقصي العقوبات، هذه الصفحة لسعد زغلول يجب أن تدرس قبل أن يقدم على المسرح كزعيم وطني بعد الحرب العالمية الأولى.
ولقد اختلفت حول سعد زغلول كتابات المؤرخين والباحثين، فوضعه كتاب الوفد وأصحاب الولاء لحزبه موضع لقداسة "وفى مقدمة هؤلاء الأستاذ العقاد". وشف عن حقيقته مؤرخو الحزب الوطني " وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن الرافعي"، وجاءت كتابات كثيرة بعد ذلك فتضح سعد فى حجمه الصحيح، وكان فى مقدمة ذلك تلك الدعوة الصريحة الموجهة إلى المؤرخين والكتاب والباحثين أن ينشروا مذكرات سعد زغلول التى كتبها بخط يده فإنها هي وحدها القادرة على أن تقدم للناس بغير ولاء ولا خصومة حقائق هذه الشخصية ودورها وعملها وحقيقتها من خلال كتابات صاحب المذكرات نفسه، تلك التي كتبها بكل حريته وإرادته خلال فترة تزيد على ثلاثين عاما من أكتوبر 1897 إلى 1926، وتضم مراحل عضوية الجمعية التشريعية وتولية الوزارة وفترة المنفي وفترة رئاسة الوزارة وتضم ثلاثاً وخمسين كراسة فقد كان يسجل الأحداث يوما بعد يوم عقب وقوعها مباشرة.(51/5)
تكشف هذه المذكرات عن أشياء كثيرة:
أولا: علاقة سعد بالإنجليز:
يقول عن اللورد كرومر: كان يجلس معى الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أنور منها فى حياتي السياسية (مذكرات سعد زغلول كراس 28، ص1516)ن والمعروف أن كرومر في تقاريره السنوية كان حريصاً على أن يذكر أنه يعد جيلا جديداً من الشباب المصرى المتفرنج الذى يعجب بالغرب ويحرص على التفاهم مع الاستعمار البريطاني وقبول العمل معهم.
ومن هنا كانت صلة كروم بسعد زغلول عن طريق صهره "مصطفى فهمى" الذى كان أول رئيس وزراء بعد الاحتلال، والذى قضى في الحكم ثلاثة عشر عاماً، وكان أثير الإنجليز محبوباً عندهم، وقد أصهر إليه سعد زغلول فأعد نفسه ليكون أول وزير مصري. ولعل من الحقائق العجيبة أن اللورد كرومر عام 1907م أعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلا القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال، وكان فى هذا العام قد ألف حزب الأمة، وأصبح لطفي السيد هو حامل لواء "الجريدة" وسعد ناظر المعارف ، وقد سخر كرومر فى خطبة الوداع الذى أقامها له رجال حزب الأمة من أولياء النفوذ الأجنبي من المصريين جميعاً، ولم يمدح فى خطابه إلا رجلا واحداً، هو سعد زغلول.
ومن هنا نجد سعد زغلول يكتب فى مذكراته أثر استعفاء كرومر من منصبه في 11/4/1907 وكان يجلس في منزله مع كل من حسن باشا عاصم ومحمود باشا شكرى عندما تلقوا خبر الاستعفاء فقال: أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هو لها ( كراس 6 ص 240) وكتب في موضع آخر يقول: "قد امتلأت رأسي أوهاماً وقلب خفقاناً وصدري ضيقاً" (كراس 6/246).
ويقول لورد كرومر في تقريره السنوي عن تعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف " لم يكن السبب الرئيسي في تعيينه كما يظن أحياناً أنه استياء من الحالة التى كانت تسير عليها مصلحة المعارف العمومية فلا زالت قاصرة في أن توفر أية بادرة لتغير جذري في السياسية التعليمية، إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالاصلاح في مصر".
وقال كرومر:" كما أن سعد من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم "جيروند" الحركة الوطنية المصرية، والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر، الأمل الذى جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية.
وكان سعد في مقدمة الداعين لإقامة حفل لتوديع اللورد كرومر وكتب في مذكراته يعلن ضيقه بالذين انتقدوا كرومر عقب استعفائه، وقال: إن صفاته قد اتفق الكل على كمالها "كراس6/245"، وأشار إلى علاقة غورست خليفة كرومر به وأنه لما زاره قام فأوصله إلى باب حديقة دار الوكالة البريطانية.
ثانيا: أخلاقيات سعد
وتكشف المذكرات أخلاقيات سعد ومواقفه المتعددة من الحياة الاجتماعية: وأبرز هذه الجوانب علاقته بالقمار وقد كتب فيها طويلا فقال في "كراس 26 - ض1390"، " كنت أتردد بعد عودتي من أوربا على الكلوب "أي نادى محمد على" فملت إلى لعب الورق، ويظهر أن هذا الميل كان بداية المرض فإني لم أقدر بعد ذلك أن أمنع نفسي من التردد على النادي ومن اللعب وبعد أن كان بقليل أصبح بكثير من النقود وخسرت فيه مبلغا طائلا.
وقد بدأ ذلك حوالى 1901، فقد كتب في إبريل 1913، يقول: كنت قبل 12 سنة أكره القمار واحتقر المقامرين وأرى أن اللهو من سفه الأحلام واللاعبين من المجانين ثم رأيت نفسى لعبت وتهورت في اللعب وأتى عليّ زمان لم أشتغل إلا به ولم أفتكر إلا فيه ولم أعلم إلا له ولم أعاشر إلا أهله حتى خسرت فيه صحة وقوة ومالا وثروة "مذكرات سعد كراس 3/129".
وكتب خلال زيارته لأوربا صيف 1908 " أفطر مع الست والباشا "أي مصطفى فهمي" وحسين "ابن محمود صدقي" في الساعة تسعة وبعد أن نتمشى مع الباشا قليلا نعود إلى البيت لتلعب البوكر مع الست وحسين إلى الساعة ثمانية ونتمشى قليلا ثم نعود لنلعب البوكر إلى الساعة 11 مساء وقد انفعل أثناء اللعب عند الخسارة وصادف أن الزهر كان يعاكس وكان زهر حسين سعيد ولكن مع ذلك كسبت ولم أخسر غير أن حارق كانت من طريقين: طريقي وطريق الست "كراس 24 ص1300 - 1301".
ويتساءل سعد عن الأسباب التى دفعته إلى المقامرة فيكتب ما يلى:
أريد أن أعرف ما أريد حتى أتمكن من معالجة نفسي من هذا الداء، هل أريد بسطة في الرزق، أنه يقبضه في الكثير الغالب، هل أريد سعة في الجاه، أنه يضيقه بما يحط من القدر في نفوس الناس، هل أريد تناسي آلام تتردد على النفس عند خلوها من الشغل وهو كثير، لا أشعر بهذه الآلام، ويقول: ما كنت أصغى لنصائح زوجتي ولا أرق لتألمها من حالتى ولا أرعوى عن نفسى، وأشار إلى توباته المتعددة، وعودته عنها فيقول: وقد بخيل لي أن كتابة هذه الخواطر وتسجيل هذه الواردات مما يساعد على الاستمرار في ارتكاب هذا الإثم، كأن النفس تجد في هذه الاعترافات المكتوبة والاشمئزازات المرسومة، فضيلة تكفها عن الإنصاف بها وعن الإقلاع عن نفس الرذيلة أو أن الاعتراف كفارة عن الذنب المقترف والجريمة المرتكبة ترجيحا.(51/6)
ويقول: إلى أوصى كل من يعيش بعدي من لهم شأن في شاني أني إذا مت من غير أن أترك اللعب أن لا يحتفلوا بجنازتي ولا يحدوا على ولا يجلسوا لقبول تعزية ولا يدفنوني بين أهلي وأقاربي وأصهاري، بل بعيداً عنهم وأن ينشروا على الناس ما كتبته في اللعب حتى يروا حالة من تمكنت في نفسه هذه الرذيلة وبئست العاقبة. الكراسة 28 ص 1571":
وتفيض مذكرات سعد زغلول بالتفاصيل المسهبة التى تبين هدى سيطرة هذه الغواية عليه ومحاولة الإقلاع عنها وللتخلص منها وعودته إليها المرة بعد المرة فقد وردت تفاصيل ضافية في الكراسات 3 و 28 و 29 و 30 في اثنى عشر موضعا من هذه الكراسات.
وقد أشارت المذكرات بوضوح إلى أثر القمار في حياة سعد وخاصة حياته الاقتصادية كما يشير إلى ذلك الدكتور " عبد لخالق لا شين"، فقد وقع سعد الذي يقتني الضياع الواسعة تحت طائلة ديون كثيرة مما دفعه عام 1910م إلى أن يبيع الضيعة التي اشتراها بناحية قرطسا "بحيرة" لقاء اثنى عشرة ألف جنيه: يقول : " بعت هذه الأطيان وذهب كل ثمنها أدراج الرياح فلم استفد منه فائدة" كما باع الضيعة الأخرى بدسونس ومطوبس عام 1918 بمبلغ 16 ألف جنيه وصاع كل إيرادات سعد في مدى عامين وكانت 3000 جنيه مرتب النار " الوزير" و 1500 جنيه إيجارات باقي أطيانه وأصبح مدينا بمبلغ 6550 جنيها وبذلك بدد سعد الكثير من ممتلكاته يقول في مذكراته "25 مارس 1912":
أصبحت منقبض الصدر، ضائق الذرع، ولم أنم ليلى بل بت وله تساورني الهموم والأحزان وأتنفس الصعداء على فرط منى من اللعب وضياع الأموال التى جمعتها بكد العمل وعرق الجبين وصيرورتي إلى حال سيئة".
وهكذا أجهر القمار على ثروته التى كونها من المحاماة وكانت لا تقل عن 400 فدان و 18 ألف جنيه فضلا عما ورثه من صهره مصطفى فهمي: الذى كان يملك 648 فدانا، و 8600 جنيه وألف أردب قمح وألقي جنيه مواشى وكانت صفية زغلول الى أطلق عليها "أم المصريين" واحدة من ثلاث بنات خلفها مصطفى فهمي جلاد شعب مصر ثلاثة عشر عاما.
وبعد فهل هذا وحده ما تكشفه مذكرات سعد زغلول التى تطالب بطبعها وإذاعتها لترسم صورة حقيقية لهذه الزعامة التى اختلف فيها الرأى فرفعها بالهوى والصداقة والولاء السياسي لبعض الناس إلى قداسة وبطوله وخفضها آخرون بالخلاف السياسي إلى مكان آخر، وما نريد أن نظلم أحداً ولكنا تطالب بالكشف عن الحقائق عن طريق الوثائق وما يمكن أن توجد وثيقة أشد صدقا من مذكرات كتبها الرجل عن نفسه.
ومن خلال المذكرات تتكشف أشياء كثيرة خطيرة ومثيرة.
3 قاسم أمين
كانت حركة تحرير المرأة قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم اليت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعا في الآداب العامة وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وعرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت هدى شعراوي فاحتضنها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن قربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين "صفية زغلول" وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر " هدى شعراوي" التى دعت بعض الأقلام التى تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لها والحقيقة أنه لكي نعرف خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئا مهما هو أن كتابا ظهر في مصر عام 1894 " أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر والنفوذ الأجنبي يدعى "مرقص فهمي" تحت عنوان "المرأة في الشرق" صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة الأساسية للنفوذ الأجنبي الذى تدرس على ضوئه حركة قاسم أمين وهدى شعراوي. ذلك أنه لما تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب " تحرير المرأة" فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض وما يزال يظن سلامتها ونقاءها وبعدها عن الهوى وتحررها من أي خلفية موحية.
فما هي هذه الخلفيات لذلك الحدث الخطير؟!
أولا: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في 4 مايو 1927 مقالا:
فقال فيه: إن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركير "المصريين" ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. قلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية .. فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا بها .. ثم استطرد يقول " وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامعين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعا:(51/7)
وقد أشير على جريدة المقطم - وهي لسان الانجليز في مصر في ذلك الوقت - أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء فاسم في هذا الاتجاه، ودفاعه عن الحجاب. واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه .. وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في " الرواق العباسي " بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله . وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
* * *
ثانيا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالا في مجلة الحديث "الحلبية" عام 1939 وأشار إلى هذا الحادث فقال:
"أنه ظهر كتاب للدوق دار كير يطعن فيه على المصريين طعنا مراً، ويخص النساء بأكبر قسط منه .. إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع .. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه.
ويستطرد فارس نمر يقول:
وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذى رد فيه على "دوق دار كير" لم يكن في صف النهضة النسائية التى كانت تمثلها الأميرة نازلى .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلا على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة.. ولما ظهر كتابه هذا ساء ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول. ورأوا فيه تعريضا جارحاً بالأميرة نازلي، وتشاوروا فيما بينهم في الرد، واتفقوا أخيراً أن أتولي الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاء به خاصا بالمرأة وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظرة قضاة محكمة الاستئناف؛ ورأوا فيه مساسا بهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجوا الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إلى ذلك.. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة.. وذات مساء حضرت إلى صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن.. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع .. وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه .. فلما رأي ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها .. فبنت الدهشة عليها، وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثا حاولت أن أقفل باب الحديث في هذه الشأن وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الاضطراب والجد والعنف .. فلما اطلعت على ما جاء به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده .. لأنه توسط في هذا الموضوع .. ومرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو الأميرة .. فقبلت اعتباره ثم أخذت يتردد على صالونها .. وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه .. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذى كان الفضل فيه للأمير نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب".
انتهى كلام فارس نمر.
ثالثا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى، وكشفت هذا السر الذي ظل خافيا زمنا طويلا ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة:
غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق .. وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له إلى صحيفة "الظاهر" التى كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه عن رأيه، وأعلن أنه كان مخطئا في "توقيت" الدعوة إلى تحرير المرأة.. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر" في أكتوبر 1906.
قال قاسم أمين:
"لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الافرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزق ذلك الحجاب .. وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولاتهم . ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختيرته من أخلاق الناس.. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معنهن إذا خرجن حاصرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتى .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحاما في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعا .. أنني أرى أن الوقت ليس مناسبا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذى قصدته من قبل".(51/8)
ومعنى كلام قاسم أمين أمير هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته "التى جاءت استدراجا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى:" أنها لم تكن قائمة على أسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق.. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل "رتيبة كروم" أن يتخفف من هذه التبعة.. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. ومما يروى أن صديقا عزيزاً زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك !! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته .. فقال له صديقه : ألست تدعو إلى ذلك؟! إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك .. فأطرق قاسم أمين صامتا .. ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى:
أن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم خاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن.
ونعت الدكتورة بنت الشاطش ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة. تقول بنت الشاطئ:
"إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم.. وهم يوهموننا أننا نعمل ويعملون معنا لحسابنا.. ذلك أن الرجال وثبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم.. ولكنهم كذبوا في هذا المزاعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ:
"إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا.. وأعني به إنحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما تسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد .. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن .. أما الأبناء فتركوا لخدم .. وقد نشأ هذا الإنحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة .. وبلغ من سواء ما وصلت إليه أن نادت مناديا بحذف نون النسوة في اللغة كأنما لأنوثة نقص ومذلة وعار .. وأهدر الاعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا عن يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج".
انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ.
***
أما ما هي ملابسات زعامة هدي شعرواي للحركة النسوية فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين.. أحدهما والدها محمد باشا سلطان والآخر زوجها على باشا شعراوي.
أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبد العزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام التاريخ":
إنه كان من أعلام الثورة العرابية. ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديو والانجليز، حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير، وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه: "الأستاذ الإمام محمد عبده"، جـ1 ص 258، 259، عن الدور الذي لعبته محمد سلطان في خدمة مخابرات الانجليز في سبيل الوصل إلى معسكر العرابيين في التل الكبير وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد والإسماعيلية لمعاونة الجيش الإنجليزي الزاحف والإيقاع بجيش عرابي معلناً الثقة في الجيش الغازي ومطمئنا الأهالي على حياتهم، وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد، بل يستهدفون تأديب العصاة.
وتابع سلطان نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي، ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية ويدعى سعود الطماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة، بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضى على كل معاونة شعبية لحركة عرابي، ورافق "ولسلي" قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان.
كما كانت الأموال التى أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان "راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسية رقم 2".
وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي، ودخل سلطان القاهرة مزهوا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه، وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضا للأضرار التي لحقت به ثم عينه رئيسا لمجلس شورى القوانين.
ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة 1884 ، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير".(51/9)
هذه هي خلفية الحياة الإجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتى تزوجت وهي في الرابعة عشر من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي "سعد زغلول و عبد العزيز فهمى" بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالى للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعرواي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء.
وقد وجدت السيدة هدى شعرواي الفرصة سانحة للتبريز خاصة وأن السيدة صفية زغلول ابنة مصطفى فهمى الذى حكم مصر بالحديد والنار خلال أول الاستعمار البريطاني ثلاثة عشر عاماً وزوج سعد زغلول والمساماة بأسماء الاضداد " أم المصرين" تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت تفتح مجالا جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة 1919.
ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية ووجدت فيها طيراً سميناً فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التى كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء، والتى كانت تستهدف بأحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم خلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار.
والمعروف أن هدى شعرواي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي، بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة رزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التى كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك أموال سلطان باشا التى دفعت ثمنها الثورة العرابية، وكان في مقدمة هؤلاء إبراهيم الهلباوي باشا محامي دنشواى والشيخ محمد الأسمر الشاعر .. وقد استطاعات أن تجند بعض الشباب، وأن ترسل بهم في بعثات تعليمية خاصة على حسابها إلى أوربا/ ومنهم من عمل في الصحافة من بعد، وحمل لواء الدعوة إلى تقديس هدى شعراوى، ودعا إلى تلك الأفكار التى تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته:
" لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك على الله، والمعروف أن السيدة هدى شعراوى لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي المرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأسرة ولم تكن تتحرك في هذا الإطار .. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى .. وذلك فقد شجعت أسباب الزنة والأزياء والمودات المستحدثة. وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية وذات الولاء الماركسى والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهم أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف:
إنه لم يكن عجبا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعرواي الأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها، وإن يردد في عام 1923 نفس المبادئ التى نادى بها مرقص فهمى من قبل، وتورط فيها قاسم أمين .. ولما كان داة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوى بإقامة تمثال لها.. والهدف هو دعو هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم.
(4)
طَه حسَين
عميد الأدب العربى الذى مازالت مؤلفاته تحمل سموم الاستشراق
وتهاجم الإسلام والقرآن
عن مجلة الاعتصام - نشرت جريدة المجتمع الكويتى، بعددها رقم 177 بتاريخ 13 من ذي القعدة سنة 1393 ( 1973/ ، مقالا مطولا كشفت فيه عن كثير من الحقائق التي لابد لأبناء الجيل الإسلامي الحالي، أن يعرفوها، حتى لا ينخدعوا بالدعاوات الكاذبة التى ملأت الآفاق في رثاء طه حسين، وتمجيده في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام، وداعية للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
وفيما يلي بعض ما تضمنه المقال المذكور من وقائع، وفيها الكفاية لإدراك الحقيقة.
استطارت في صحف البلاد العربية كلمات عجلى ومرات سريعة خاطفة حاولت أن تسد فراغاً صحفياً على وجه العجلة فلم تتمكن من أن تراجع التاريخ أو تنثبت من الوقائع، وربما صاحب ذلك هوى من شأنه أن يتعارض مع الحق، وربما كانت كتابات بعض المتصدرين في مجال الصحافة ممن لم يحسنوا مراجعة الآثار المكتوبة حول القضايا المثارة ومنهم من شهد السنوات الأخيرة فنشأ طفلا يرى "طه حسين" رجلا كهلا تحيطه هالة، أو تدرس كتبه في الجامعات أو يشرف على بعض المؤسسات الثقافية واللغوية فظن هؤلاء - وبعض الظن إثم - أن الرجل له تاريخ مشرف جديد بأن يشاد به ويرثى ولقد حوت كتابات الكتاب الكثير من الخطأ ومن الهوى، ومن عجب أي بعض المؤمنين لحق بمن كتبوا عن الإسلام أو هاجموا بعض خصومة أمثال لويس عوض وسلامة موسى وغيرهم يسقطون في هوة الخداع إزاء طه حسين وهو أشد خطراً من هؤلاء جميعا وأبعد أثراً.(51/10)
ولسنا الآن في مجال الحديث عن موقع طه حسين من الأدب العربي أو الفكر الإسلامي فذلك أمر له من بعد دراسات ومراجعات ولكننا تقف عند حد تصحيح بعض الأخطاء التى تضمنتها هذه المراثي التى أعادت الرجل حيا بعد أن مات موتا معنويا منذ عشر سنوات عندما توقف عن الكتابة وداهمه المرض الذى كان حفيا بأن يفسح له سبيل العودة إلى الله ولقد كان يتردد في هذه السنوات بل كان الدكتور نفسه يقول:
إنه لا يسمع من الإذاعة غير القرآن المرتل وكان بعض السنج من الناس يقول: لقد تاب الرجل وأناب.
وكذلك قالوها يوم اصدر كتابه "على هامش السيرة" ولكن الفهم السليم للإسلام يدعونا إلى أن تتحرز من مثل هذه المظاهر الكاذبة وأن نتعمق مفهوم التوبة في الإسلام وهو مفهوم يفترض على صاحبه أن يرجع عن كل ما خالف به أصول الإسلام أو حقائق القرآن وأن يعلن على ذلك على الملأ وأن يحجب مؤلفاته التى نشر ذلك من قبل بل وعليه أن يصحح ذلك ويوضحه وأمامنا مثلان:
مثل في القديم هو أبو الحسن الأشعرى" حين خرج عن فتنة الاعتزال إلى ضوء السنة الصحيحة فإنه لم يلبث أن وقف في المسجد الجامع بعد الصلاة على كرسى وأعلن توبته بل وخرج من ملابسه وقال: لقد خرجت من الأثم الذي كنت فيه كما أخرج من ثوب هذا وألقى إلى الناس بمؤلفاته الجديدة التى يعارض بها قديمه الذى خرج عنه وأمامنا الدكتور محمد حسين هيكل الذى أعن في مقدمة كتابه "منزل الوحى" أنه قد خاض في شبابه لجج النظريات وكان مخطئا حين حاول أن يختار لبني وطنه فكر الغرب أو منهج الفرعونية وأنه عاد إلى الحق حين تيقن أن الإسلام هو المنطلق الوحيد للمسلمين إلى النهضة. فهل فعل طه حسين شيئا من ذلك إذا كان حقيقة قد تحول، نحن نعتقد أن طه حسين لم يتحول حتى مات عن مفاهيمه الأولي وأنه أصر على فكره إصراراً كاملا حتى حين كتب إسلامياته المتعددة وأن المراجعة الدقيقة لهذه المؤلفات تكشف عن أنها تحول في المظهر أو كما يقول الغربيون أن طه حسين غير جلده، أو أنه حسين سقط في نظر الناس بعد كتاب "الشعر الجاهلي" إنما أراد أن يعود إليهم كاسبا ثقتهم بالكتابة عن "هامش" السيرة وكانت خدعة أخرى كشفها صديقه ورفيقه على الطريق في المرحلة الأولي الدكتور هيكل حين قال إن إحياء الأساطير في هامش السيرة خطر على السيرة نفسها لأنه يعيد إليها ما حررها منه علماء المسلمين أربعة عشر قرنا وحرصوا على حمايتها منه وقال عنها مصطفى صادق الرافعي إنه تهكم صريح.
لقد خدع طه حسين الكثيرين بكتاباته الإسلامية ولكن هذا الخداع لم يطل فقد كشفه كثيرون في مقدمتهم محمود محمد شاكر الذي كشف فصولا متعددة عن "الفتنة الكبرى".
* * *
من أبرز ما يحاول الذين رثوا طه حسين أن يثبتوه أن طه حسين في مؤلفاته وكتاباته كان خصماً سياسياً الذين هاجموه, وألبوا عليه وأن ما أورده في كتبه لم يكن على هذا النحو من الخطر في مهاجمة الإسلام.
وذلك هو أسلوب الاستشراق في مواجهة الأمور وهو نفسى أسلوب طه حسين الذي كان إذا أراد أن يهاجم الإسلام هاجم الأزهر وإذا أراد أن يرد عادية خصومه قال إنما يهاجمون حزبه السياسي ولقد حرص طه حسين حين اشتدت الحملات عليه عاما بعد عاما بعد كتابه الشعر الجاهلي أن ينفصل من معسكر الأحرار الدستوريين وأن يلجأ إلى معسكر الوفد حتى يحتمي به.
وقد أكسبه ذلك سناداً ضخماً أعانه ليس فقط على الاستمرار في الحركة - ولكن مكنه من توصيل إلى ضربة أخرى وجهها إلى الفكر الإسلامي تلك هي كتابه: "مستقبل الثقافة " وكذلك فقد استفاد طه حسين من السياسة فهي التي حمته من العزل ومن المحاكمة ومن أشياء كثيرة، بل هى التى كانت تسهل له أن ينتقل بالرغم من مواصلة كشف أساليبه - من منصب أستاذ الجامعة إلى عميد كلية الآداب إلى مدير الجامعة إلى وزير المعارف.
وإذا كان رثاة طه حسين يريدون حقاص أن يصدقوا الناس ويقولوا لهم أن طه حسين عندما كان في حزب الأحرار الدستوريين - قد هاجم سعد زغلول بأكثر من "مائة مقال" في خلال سنوات "1922 - 1927" حتى وفاته فلما تحول طه حسين إلى الوفد بعد ذلك كتب عن سعد زغلول وخطب يرفعه فوق هامة الدهر دون أن يحس بالخزي أو الخجل ودون أن يرى ابتسامات السخرية من سامعيه وقارئيه لكذبه فى الأولى وفي الآخرة وتضليله وغشه.
وتردد مراثي طه حسين عبارات تقول أنه أضهد ككل أصحاب الرسالات فأى نوع من الاضطهاد شهده طه حسين. هل اعتقل ليلة واحدة في أي عهد هل قدم للمحاكمة مرة واحدة هل عذب؟ هل حيل بينه صيف واحد وبين السفر إلى فرنسا حتى في أشد أيام أزمة الشعر الجاهلي . لم يحدث ذلك قط وإنما كان ذلك من لغو القول وباطله.
إن طه حسين كان يعرف أنه في حماية قوى كبرى ربما ليست ظاهرة ولكنها تختفي وراء الأحزاب، وراء عدلي وثروت، وتلتمس أسلوبها إلى ذلك بالعطف على الكفيف والرحمة بالمجنون. كما قال سعد زغلول للأزهريين : هبوا أن رجلا مجنوناً قال ما قال، وماذا علينا إذا لم يفهم البقر!!(51/11)
ويردد أصحاب المرائي أن لطه حسين حياة حافلة بالنضال ولكنه أي نضال، لقد بدأ طه حسين حياته في محيط حزب الأمة الذي أنشأه كرومر وفي أحضان لطفي السيد داعية الولاء للاستعمار البريطاني تحت اسم مصر للمصريين وعدو الجامعة الإسلامية والعروبة والشريعة الإسلامية واللغة العربية وتعليم أبناء الفقراء.
ولقد لقى طه حسين في حياته "عبد العزيز جاويش" وبيئة الحزب الوطني ولكنه سرعان ما أعرض عنها، لأنها ليست ممهدة الطريق ولأنها كانت تحمل مفاهيم النضال والجهاد، وكسب صلته بأصحاب البيوتات وفي مقدمتهم آل عبد الرزاق الذى كان أثيراً لدى عطفهم ومعونتهم ولما عاد من أوربا اندمج في حزب الأمة المجدد تحت اسم "الأحرار الدستوريين" ولم يدخل الوفد إلا بعد أن فقد الحزب أمانته للأمة وانصهرت فيه العناصر اليسارية والشيوعية.
أما أخلاقه التى يشيدون بها فهى تنجلى صراحة في موقفه من اساتذته الذين عاونوه في أول الحياة والذي شقوا له الطريق فلم يلبث أن هاجمهم في عنف وصلف واحتقار، بل وعارض مفاهيمهم الأصلية: وفي مقدمة هؤلاء الشيخ المهدى ومحمد الخضرى وأحمد زكي باشا وأعلن أنه يرفض المنهج الذى رسمه الشيخ محمد عبده.
وقد سجل جميع الباحثين في سيرته وفي مقدمتهم أولياء الثقافة الغربية من أمثال إسماعيل أدهم أحمد أنه لم يكن عالما ولا صاحب منهج، وأنه صاحب هو وغرض وأن ذلك الطابع يسود كل انتاجه.
أما مفاهيمه العامة فقد أثار الدنيا حين أعلن أن العرب استعمروا مصر كالرومان وحرقت مؤلفاته في ميدان عام في دمشق، وقال أن مصر جزء من حضار البحر المتوسط، وهاجم المجاهدين من أهل المغرب في رسالته وصور استعمار فرنسا خدمة عظمى تقدمها لهم فرنسا. وكان له موافقة في معارضة العروبة والرابطة الإسلامية في دعوته إلى تمصير اللغة وإلى تمصير الأدب، وكلها دعاوى زائفة مشبوهة.
وكانت دعوته إلى الحضارة الغربية فاسدة لأنه لم يأخذ فيها بأسلوب الحيطة أو أسلوب العلم بل كان حريصا على أن تنصهر مصر والبلاد العربية في هذه الحضارة على النحو الذى صوره حين قال " أن نقبل من الحضارة ما يحمد منها وما يعاب وما يجب منها ما يكره".
كان داعية الفناء في الغرب تحت خدعة زائفة ظل يروجها وكانت موضع سخرية الناس لسذاجتها وهي قوله: أننا لن نستطيع أن نساوى الغرب إلا إذا سرنا سيرته، وكيف يمكن ذلك وقد سارت تركيا ومع ذلك سخر منها الغرب لأنها عجزت عن أن تقدم شيئا في مجال العلم وما زالت عالة عليه بعد أن فقدت شخصيتها الإسلامية.
ويكذب أو يخدع أولئك الذين يقولون أن طه استوعب ثقافة التراث أو أنه نقل ثقافة التراث أو أن وجهته في الكتابات الإسلامية كانت خالصة لوجه الله أو العلم أو الحق ذلك أن طه حسين قد أراد أن يتخذ من التراث منطلقا إلى تحقيق جانب من رسالته، تلك هي إثارة الشبهات والروايات الباطلة، والتقليل من جلال أبطال الإسلام، وتصويرهم بصورة رجال السياسة في الغرب المسيطرين على مطامع الحكم ومطالب الحياة، ولا يستطيع أن يفهم التراث أو يقدمه المسلمين في هذا العصر إلا رجال آمنوا بالإسلام دينا ونظلم حياة وعمرت قلوبهم تلك الأمانة للإسلام والغيرة على معطياته ومنجزاته. أما طه حسين فقد عاش حياته كلها يسخر بعظمة أمة الإسلام وبما في صفحاتها من بطولات ويفسرها طبقا للمذهب الاجتماعي الفرنسي، المتصل بالتفسير المادي للتاريخ القائم على الجبرية وهو مذهب ينكر عظمة النفس الإنسانية وجلال الروح ومكانة المعنويات - كان طه حسين كذلك في أول ما كتب "ذكرى أبي العلاء" وظل كذلك إلى آخر ما كتب "مرآة الإسلام والشيخان".
وكل ما يحاول الإغرار أن يجمعوه من آرائه عن القرآن أو الإسلام أو التاريخ فإنما يقدم إليه مفهومه الباطل فيجعله هباء منثوراً، فهو لا يرى في القرآن أكثر من أنه كتاب بلاغة" ولا يرى في البطولات إلا أنها من نتاج البيئة، ولا يرى في النبوة إلا أنها قدرة رجل عظيم استوعب فكرة عصره، فهو لا يؤمن بالنبوة، وذلك واضح من كتاباته ومن مراجعات الباحثين لآثاره وهي كثيرة ومقدمتها كتاب غازى التوبة ومحمد محمد حسين والرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وكاتب هذه السطور.
إن طه حسين مع الأسف لم يكن يؤمن بشئ، كان ساخراً وكان مشككاً وكان متقلباً ولقد كدت أكتب عبارة "أولها حرف ر".
وآية ذلك أنه ألقى العمامة في البحر عندما ركب السفينة أول مرة إلى أوربا في مشهد درامي، تمثيلى، وأنه كان يقول القول وينقضه فقد أعلن إمارة العقاد للشعر ثم سحب ذلك في سنواته الأخيرة، أما قدره العلمى فقد كشف عنه سكرتيره البير بيزان وسكرتيره زكي مبارك وظهر ذلك واضحاً في سقطات فاضحة.(51/12)
من مثال قوله:" وقد وقعت بين القيسية واليمانية معركة "مرجرات" ثم اتضح من بعد أنها "مرج راهط" ولكن هكذا يكتبها المستشرقين وقد أشار زكي مبارك إلى ذلك في دعاية ساخرة حين قال : أن طه حسين دخل حديقة المستشرقين بالليل ليسرق ثمرة أو ثمرتين فصادفته هذه الثمرة المعطوبة" ولا شئ يستطيع أن يحمى طه حسين من شبهة الاتصال بالصهيونية أو اليهودية العالمية في مجال الفكر وربما عن طريق آخر بالإضافة إليهما، ولذلك قصة طويلة لها وقائعها الثابتة والأكيدة والمتصلة طوال حياته منذ أعلن عن عدم وجود إبراهيم إسماعيل عام 1926 إلى أن صير مديراً لدار الكتاب المصري 1946 وبين ذلك تاريخ طويل يمكن أن يروى في مقال متصل ويؤيده ما قاله شارل مالك في رثاء طه حسين.
هناك سؤال لماذا انقلب إسلاميا داعيا إلى التراث؟
والإجابة السريعة قبل إيراد التفاصيل هي محاولة تمكينه من أن يكون مرجعا إسلامياً يستغله للتبشير والاستشراق في السنوات الخمسين القادمة ولذلك فقد حولوه من مغايظة الجماهير إلى إرضاء الجماهير، إرضائها بالخداع والزيف.
وكلام عن الإسلام كله بمفهوم الإسلام الغربي المسيحي: أنه علاقة بين الله والإنسان، عبادة، لاهوت وليس أكثر من ذلك ، وطه حسين يعتنق ما كان يعتنقه فولتير ورينان غيرهما من التفرقة بين الإيمان بالقلب والكفر عن طريق العقل. هذه الإزدواجية التى يعرفها الغربيون ويفخرون بها، وتعتنقها بعض الفضائل المضللة من توابع المستشرقين في البلاد العربية ممن لا قيمة لم ولا وزن وممن لن يتبقى لهم آثار ولا أعمال.
إن طه حسين بالعمل فى مجال الإسلاميات منذ أصدر هامش السيرة 1933 ونشره في الرسالة كان يفتح صفحة جديدة وأخيرة في تاريخه وتاريخ الفكر الإسلامي هي صفحة تقديم البديل من أجل القضاء على الأصيل ومع الأسف فقد شارك هيكل والعقاد وانكشف أمرهم عام 1939 حين قاله لهم إمام كبير:
" بيننا وبين الإسلام أن تؤمنوا بأن الإسلام نظام حكم وفهم مجتمع، فصمتوا صمت القبور. استطاع طه حسين من خلال كتاباته الإسلامية أن يصور الروابط بين الصحابة على نحو مؤسف ردئ، وكان قد أعلن من قبل في رده على العلامة: رفيق العظم احتقاره التاريخ كما اتخذ في بعض الشعراء الماجنين دلالة على فساد القرن الثاني الهجرى الحافل بأعلام المسلمين في الفقه والعلم والتصوف والأدب والفكر كله.
لقد تحول طه حسين في أساليبه يخوض معركة أشد خطراً، هي معركة تزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي، وقد جرى في ذلك مع منهج الاستشراق الذى تغير في أواخر الثلاثينات حين تحول من مهاجمة الإسلام علانية إلى خداعه بتقديم طعم ناعم في أوائل الابحاث ثم دس السم على مهل ومن خلال فقرات وكان هذا هو أسلوب الاستشراق اليهودي الماكر.
وقد استخدم طه حسين هذا المنهج ببراعة ونجح فيه. فلم يكن طه حسين يؤمن بالدين ولا بالتراث ولا بعظمه هذه الأمة ولا بأمجادها الإسلامية ولا بحركة اليقظة فيها، ولقد تهدمت كل أعماله قبل وفاته وخذلته كل الكتابات الجديدة والإيجابية عن الشعر الجاهلي وعن ابن خلدون، وعن مفهوم العروبة المرتبط بالإسلام وعن هزيمة الفرعونية وعن اندحار دعوته إلى الغض من شأن الأزهر.
سلامة موسى
محاولة إعادة سلامة إلى الحياة محاولة خاسرة وقد باءت بالفشل الذريع. سلامة موسى الرجل الذي لم يعرف في تاريخه الطويل موقف يدعو فيه لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني وقد سقطت جميع آرائه وكشف حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
لقد كانت كل كتابات سلامة موسى وأفكاره في حقيقتها جماع خيوط المخطط الماسوني التلمودي بباطله وهدمه وأخطاره ولقد عرف أن سلامة موسى كان يلفظ الإسلام والمسيحية معاً وهو الذي أضاف إلى قائمة الرسل والأنبياء فرويد وماركس ودارون ولينين.
كان السؤال الهام في الندرة عن تلك الظاهرة الخطيرة التى حاولت بها بعض الجهات طرح كتب سلامة موسى في السوق مرة أخرى بأعداد كبيرة، ونشرت عديداً من كتبه ما عدا كتابه " اليوم والغد" الذي قال بعض أصحاب الولاء أنهم أن يعيدوا طبعه والسر أن هذا الكتاب يكشف حقيقة سلامة موسى، ودعوته المسمومة، والشعوبية والماركسية جميعاً.
والحق إن كتابات سلامة قد تجاوزها الزمن، ولم تعد تمثل أى عطاء ثقافي بعد أن سقطت كل هذه الدعاوى التى روجها الاستشراق والتغريب في الثلاثينات والأربعينات.. شأنه في هذه شأنه في هذا شأن طه حسين ومحمود عزمي وعلىعبد الرازق ومن تبعهم أمثال حسين فوزى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم.
والواقع أن النفوذ التغريبي لا يمهد ولا يتوقف عن غاياته وإن بدأ أنه يغير جلده بين حين وآخر ليخدع أجيالا جديدة بتلك السموم التى قدمها على أيدى عملائه ثم تكشف زيفها.
دعا سلامة موسى إلى استعمال العامية وهدم العربية، وجدد الدعوة لويس عوض في مصر ويوسف الخال وأنيس فريحة في الشام وكانت النتيجة هي الفشل المحقق.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية وجدد الدعوة بعده كثيرون ولم يصلوا إلى الشئ.(51/13)
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية، وجدد الدعوة إلى إبطال حكم من أحكام الدين وذلك بشأن ميراث المرأة، وقد لنه الباحثون دراس قاسياً مريراً.
دعا سلامة موسى إلى الماركسية وقد كشفت الأيام زيف دعوته وفساد جهته.
والحقيقة أن سلامة موسى لم يكن إلا رجلا يحمل الغرب فيذروه في وجهه الناس حقداً وكراهية لهذه الأمة أن يتحقق لها امتلاك إراداتها وخدمة لكل التيارات الحاقدة عليها والكارهة لها، ولقد كان الكاتب في هذه الفترة يعرف بأنه ماركسي أو غربي أو داعيا لفرنسا أو انجلترا ولكن سلامة موسى كان يعمل لكل هذه الجهات عن طريق الماسونية والمخطط الصهيوني الذى كان يحتضن كل فكر هدام.. فكان ينثر من كنانته كتابات عن "دارون" ومذهبه، وعن "فرويد" ومذهبه، وعن إقليمية مشوبة بالفرعونية، وعن العامية مشوبة باللاتينية ويحتضن كل كتاب هذه السموم من "ولكوكس" إلى " ماركس" ويدعى ويناقض دعوته بمدح الخديو إسماعيل، وموالاة الاستعمار البريطاني ولا ريب فقد تخرج سلامة موسى من مدرستين:
من مدرسة تربية أبناء العرب الذين يقعون في فخاخ القوى العظمى فقد ذهب سلامة موسى إلى بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت الباكر وجند لهذه الغاية، أما الأخرى فقد كان تابعا لمدرسة شلبى شميل، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، ويعقوب صروف هذه المدرسة التى كونها التبشير في بيروت، ثم قذف بها إلى مصر والبلاد العربية فتولت مقاليد الصحافة والثقافة وحملت حقدها الوافر على الإسلام والخلافة الإسلامية، واللغة العربية، وتاريخ الإسلام وسيرة الرسو صلى الله عليه وسلم .
إن هناك وقائع خطيرة كاشفة لحقيقة سلامة موسى بعد أن فضحه أصحاب دار الهلال الذى كان يعمل عندهم، ويتصل من ورائهم ببعض الجهات ليشي بهم " إبريل 1931 - مجلة الدنيا الجديدة" وقد نشرت الزنكفراف خطاباته التى يقول فيها لمسئول:
"فإنا أكتب لسعادتكم وإرادة الهلال تهيئ عدداً خاصا من المصور لسعد زغلول تستكتب فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة .. لأن الإكبار من ذكر سعد. وتخصيص عدد له هو في الحقيقة أكبار من شأن الوفد ودعوة إليه إني مستعدة الدعوة للمعاهدة فهل لي أن انتظر معاونتكم".
كتب هذا أبان وزارة اليد الحديدية التى شكلها محمد محمود، وتاريخ الخطاب 22 أغسطس 1939 وهو لا يزال في دار الهلال ما يزال يتقاضى مرتبة منها، ويدخلها كل يوم يبتسم في وجه أصحابها، ويظهر لهم الود والإخلاص وفي الوقت نفسه يدس لهم، ويتجسس عليهم، ويرسل التقارير إلى وزارة الداخلية.
ثم عاد يتمسح بالوفد "إبريل 1931" فكشفت دار الهلال هذه الوثيقة وقالت:" أنت تتمسح اليوم بأعتاب الوفد، وتتعلق زعماء الوفد .. إن لدى دار الهلال البرهان القاطع على تلونك وغدرك".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد .. فقد أرسل خطابا "نشرت صحف دار الهلال" صورته الزنكفرافية موجها إلى الأستاذ حسين شفيق المصري في 3 نوفمبر 1930 هذا نصه".
عزيزي حسين:
بعد التحية: تعرف الخصومة بينى وبين السوريين "أي أصحاب دار الهلال" فأرجو أن ترسل لي خطابات على لسان سوري وقح يشتمني فيه بإمضاء اسكندر مكاريوس أو غيره من الهكسوس .. وأنا في إنتظار الخطاب.
أخوك سلامة موسى
وقد علق الأستاذ شفيق المصرى على هذا يقول:
كان يريدنى أن أزور خطابا، وأن افترى على أمة، وأن انزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم يغر الصداقة والمودة.
هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر له كل شئ لا أن يظن بى ما ظن من الجهل والحمق .. وهو يدعوني إلى كتابة ذلك الكتاب الذي اشتمه فيه بتوقيع رجل برئ لا ذنب له إلا أن في الدنيا رجالا لا يحاسبون ضمائرهم، ولا يرون أبعد مما بين أنوفهم وجباههم.
* * *
بل ويذهب سلامة موسى إلى أبعد من ذلك فيقول:
"ومما يدل على أن حركتنا الوطنية بأيدي ناس غير قادرين على الاضطلاع بها أن الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها.. فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون أسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوربا إلا مكرهين.. وقد أدرك مصطفى كمال الذى لم تنجب بعد نهضتنا رجلا مثله ولا ربعه ولا يعرف مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالإنسلاخ عن آسيا، والانضمام إلى أوربا، ولم يمنع من استعمال السيف في هذا".
ويقول:
"هذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التى اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق.. ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية ويقول:(51/14)
"وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة الشباب، وبعثرة لقواهم .. وكيف يمكننا أن نعتمد على جامعة دينية بينما فى العالم نظرية تقول: أن الإنسان لم يكن راقيا فانحط كما تقول الأديان. بل هو كان منحطا فارتقى، تعنى بها نظرية التطور بل كيف يمكن لإنسان مستنير قرأ تاريخ السحر والعقائد أن يطلب منه أن يخدم جامعة دينية، إن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شنيعة".
ويقول :
"لا عبرة بما يقال من أن الإسلام أمر بالشورى فإن خطب جميع الخلفاء نثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظراً بابويا بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الاشياء يعد دستوريا".
ويقول:
"إن أكبر تجربة اجتماعية رآها العالم هي الشيوعية الروسية الحديثة وظهور الشيوعية هو بمثابة حاجز بين الماضي والمستقبل فهي تفصل الاثنين فصلا واضحا وهي على ما فيها من نقائض لليوم وعلى ما ينال الناس البعيدين عنها من الرعب فإنها ستكون بذرة لجملة أنظمة اجتماعية في المستقبل".
وهكذا تحوى كتابات سلامة موسى كل السموم التى علموه أن يثيرها في أفق العرب والمسلمين يوما بعد يوم، علموه أن الاشتراكية هي الهدام الأكبر للمسلمين وازدراء كل ما هو عربي، والدعاية للشيوعية، وكذلك الدعاية للإباحية.
يقول سلامة موسى:
"ليس من مصلحة الإنسان أن يعيش في قفص من الواجبات الأخلاقية، يقال له هذا حسن فاتبعه، وهذا سئ فاجتنبه".
وعلموه الدعوة إلى التبعية للغرب وللاستعمار.
يقول سلامة موسى أيضا:
"أجل يجب أن نرتبط بأوربا، وأن يكون رباطنا بها قويا نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اكتشافات واختراعات وننظر الحياة نظرها، ونتطور معها تطورها الصناعي، ثم تطورها الاشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجرى وفق أدبها بعيدا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها.
هذا هو سلامة موسى الذي يريدون أن يحيوه مرة أخرى ويجددوا فكره. هذا الفكر الذي تجاوزه المسلمون والعرب اليوم وإن كانوا قد خدعوا به هناك يوم كان دعاة التغريب تعوى كتاباتهم بالسموم!!
إن كل ما قدمه سلامة موسى عن الماركسية والفرويدية والدارونية هي كلمات مجمعة قد جاوزها البحث العلمي الآن، وكشف زيفها فقد ظهر الآن فساد ما دعا إليه دارون وتبين أن وراء إذاعة دعوتها ونرها كانت التلمودية التى تريد أن تقول أن الإنسان حيوان لتمهد لفرويد اليهودي نظريته في الجنس وكانت الماركسية والفرودية والداروينية من أدوات الفكر الصهيوني. الذي حاول أن يؤسس مدرسة في البلاد العربية والإسلامية. كما دعا إلى البهائية التى عرفها في لندن سنة 1910 عندما اتصل بجماعة الدهريين ولم يدع كتابا لم يقرأه وكانت معظم مؤلفاتهم في نقض الأديان السماوية - على حد تعبيره - ولا بد أنه اتصل بمحافل الماسونية، وتعلم فيها فإن كل اتجاهه كان ماسونياً تلمودياً ولم تعرف حقيقته إلا بعد أن ترجمت بروتوكولات صهيون إلى اللغة العربية عام 1948، وأن كل محاولاته وخططه كان ثمرة هذه التبعية الماسونية التلمودية وقد أشار كثيرون إلى أنه لم يكن مسيحياً صادقاً وإنما كان ولاؤه لفرويد وماركس.
وقالوا الشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئا وكل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.
ولا ريب أن دعوة سلامة موسى إلى وحدة الأديان هي من مفهوم البهائية وأن اهتمامه بالسلطان "أكبر" الهندي الذي أجرى هذه التجربة داخل في دعوته كذلك دعوته إلى وحدة الوجود، ومذهب "سبينورا" في وحدة المادة، والقوة والروح والجسد هي من طريق خطة الواضح، وكذلك فهو يرى أن حرق جثمان الميت أطهر وأنظف !!
وقد تمنى سلامة موسى أن يحرق جسده بعد موته، وقد عمل على نشر آراء تولستوي وغاندي لأنه تحاول مواجهة مفهوم الإسلام الجامع ومفهوم الجهاد وحتى ديانته المسيحية فإنها لم تسلم من هجومه وهو يعتقد أنها حجبت عن عقول الناس نور الثقافة اليونانية وحريتها، وأن هذا الحجب والحجر ظل ألفا وخمسمائة سنة حتى بدت بشائرالنهضة الأوربية التى كان أساسها الخروج عن سلطان الكنيسة وأطباقها على النفس والعقل البشريين، والعودة إلى أسس الثقافة اليونانية وحريتها.
وقد بشر بدين جديد دعا إليه ودخل هذا الدين في عقيدته أنه دين البشرية كما يسمه وهو ما دعا إليه أوجست كونت ويرى أن دين البشرية بذرة من ديانة بوذا وهو دين لا يدعو إلى الإيمان بالله، أو الخلود في العالم الثاني، ولا ريب أن هذا الاتجاه الذي استكمله بأنبياء آخرين آمن بهم هم ماركس وفرويد يوحي بماسونيته وولائه التلمودى الصريح، كذلك فإن دعوته إلى العالمية هي دعوة الصهيونية العالمية التي تريد هدم الأمم المسلمة في مرحلة ضعفها واحتوائها للسيطرة عليها وتذيبها في أتون الأممية.
ولا ريب أن حملة سلامة موسى على اللغة العربية العظمى، والشعر والأدب العربي هي دعوة مبطنة للحملة على الإسلام والقرآن وهي الدعوة التى حمل لواءها لويس عوض من بعد وتؤكد دعوته في مجموعة موالاة الدعوة الشعوبية التى ترمى من وراء القضاء على العرب وكيانهم إلى القضاء على الإسلام باعتبار أن تلك هي قاعدته الأساسية.(51/15)
قد كانت أصدق كلمة لباحث معاصر أنه لم يعرف لسلامة موسى مقال وطني واحد دعا فيه إلى تحرير مصر من الاستعمار البريطاني.
إن محاولة إعادة سلامة موسى إلى الوجود محاولة باطلة فقد سقطت آراؤه جميعا وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
ما هو رأي مصطفى صادق الرافعي في سلامة موسى؟
يقول الاستاذ مصطفى صادق الرفعي:
رأيي في سلامة موسى معروف لم أغيره يوماً، فإن هذا الرجل كالشجرة التي تنبت مراً. لا تحلو ولو زرعت في تراب من السكر. ما زال يتعرض لي منذ خمس عشر سنة. كأنه يلقي على وحدي أنا تبعة حماية اللغة العربية وإظهار محاسنها وبيانها، فهو عدوها وعدو دينها وقرآنها ونبيها. كما هو عدو الفضيلة أين وجدت في إسلام أو نصرانية.
دعا هذا المخذول إلى استعمال العامية وهدم العربية. فأخزاه الله على يدي، ورأيته أنه لا في عيرها ولا نفيرها. وأنه في الأدب حائط لا قيمة له. وفي اللغة دعي لا موضع له. وفي الرأي حقير لا شأن له فلما ضرب وجهه عني هذه الناحية وافتضح كيده دار على عقبيه واندس إلى غرضه الدنئ من ناحية أخرى. فقام يدعو إلى "الأدب المكشوف" فأخزاه الله مرة أخرى ولم يزد بعمله على أن انكشف هو. فلما خاب فى الناحيتين. اتجه الشارع الثالث فانتحل الغيرة على النساء والإشفاق عليهن. وقام يدعو المسلمين إلى إبطال حكم من أحكام دينهم وإسقاط نص من نصوص قرآنهم ظنا منه أنهم إذا تجرأوا على واحدة هانت الثانية. وانفتح الباب المغلق الذى حاول هذا الأحمق فتحه طول عمره من نبذ القرآن وترك الإسلام وهجر العربية كأن إبليس لعنه الله قد كتب على نفسه "كمبيالة" تحت إذن وأمر "سلامة موسى" إذا محيت العربية أو غير المسلمين دينهم أو أبطلوا قرآنهم. فكانت البدعة الثالثة أن يدعو المسلمين جهرة إلى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث. فأخزاه الله.
ثم قام هذا المفتون يدعو إلى الفرعونية. ليقطع المسلمين عن تاريخهم. وظن أنه في هذه الناحية ينسيهم لغتهم وقرآنهم وآدابهم، ويشغلهم عنها بالمصرولوجيا، والوطنولوجيا. ثم أتم الله فضحه بما نشره أصحاب دار الهلال.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تحت عنوان:
سلامة موسى ليس بشئ إن لم يكن دجالا !!
بضاعته بضاعة الحواة والمشعوذين وله حركاتهم وإرشادتهم وأساليبهم يزعم نفسه أديباً، وتعالى الأدب عن هذا الدجل. ويدعى العلم، وجل العلم أن يكن هذا دعاؤه، ويحاكي الملاحدة ليقول عنه المغفلون أنه واسع الذهن، وليتسنى له أن يغمز الإسلام ويبسط لسانه في العرب، والحقيقة أنه لا أديب ولا عالم، وإنما هو مشعوذ يقف في السوق، ويصفر ويصفق ويصخب، ويجمع الفارغين حوله بما يحدث من الصياح الفارغ، والضجة الكاذبة.
لقد آن لمن تعنيهم كرامة الأدب أن يقتلعوا هذه الطفيليات، وأن يطهروا من حشراتها ونباتها رياضه، وأن يقصو عن مجاله هؤلاء الواغلين الذين يتخذون اسمى ما في الدنيا وأجل ما في النفس طبولا لهم، ويتذرعون بالتهجم على الدين -على دين واحد في الحقيقة- وعلى العلم والفلسفة والأدب لنيل ما يستحقون، ويفسدون عقول الناس، ويبلبلون خواطرهم بما يغالطونهم فيه ويخادعونهم".
على عبدالرازق
كتاب الإسلام وأصول الحكم
ليس من تأليفه وإنما هو من تأليف المستشرق اليهودي مرجلبوت كان هدف الكتاب ضرب الإسلام في عقيدة من أكبر عقائده، وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام مجتمع. ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجه نظر الاستشراق اليهودي التلمودي الهدام.
وكان الكتاب لعنة على علي عبد الرازق فقد أصاب حياته بالظلام والغربة، فمات الكتاب قبل أن يموت وانطوت صفحته وهو حي، ومازالت قوى التغريب تعيد طبع الكتاب ونشره مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب شعوبيون أو شيوعيون يضللون الناس ويخدعونهم بأسمائهم وألقابهم لإحياء فكرة مسمومة.
صادر القضاء الكتاب وأصدرت هيئة كبار العلماء قرارات بإدانة المؤلف بعد زعم أن نظام الحكم في عهد صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام وموجب للحيرة.
كان السؤال في الندوة عن دعوى على عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم" التى ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها والحديث عنها بوصفها أسلوباً من أساليب العمل لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإٍسلام بوصفه دينا ومنهج حياة، ونظام ومجتمع.
ويتقول الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبيون على أن في الإسلام مذهبين أحدهما يقول بأن الإسلام دين ودولة والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحى ويضعون على عبدالرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول.(51/16)
والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد. وهو الرأي الأول وأن ما ذهب إليه على عبد الرزق عام 1925 لم يكن من الإسلام في شئ ولم يكن على عبد الرازق نفسه إماما مجتهداً وإنما كان قاضيا شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم "التجديد" ودعى على عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وعدم مقوماته وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجما إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التى يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.
أما الكتاب نفسه فان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية هو المستشرق "مرجليوث" الذي تقضى الصدف أن يكون صاحب الأصل الذى نقل عنه طه حسين بحثه عن "الشعر الجاهلي" والذى أطلق عليه محمود محمد شاكر "حاشية طه حسين على بحث مرجليوث" ويمكن أن نطلق الآن اسم "حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث" وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم "الإسلام والخلافة في العصر الحديث".
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب "الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم"، على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التى حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظ الإسلامية واجهت كتاب على عبد الرازق المنحول، وفندت فساد وجهته وأخطائه فإن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه. مع مقدمات ضافية يكتيبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم. وهم يجدون في هذه المرحلة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى ولن يجديهم ذلك نفعا فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقموه في صفحات براقة مزخرفة وأساليب خادعة كاذبة.
أول من كشف حقيقة الكتاب
إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ "محمد بخيت" الذى رد على الشيخ على عبدالرازق في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" وهو واحد من الكتب التى صدرت في الرد عليه حيث قال:
"لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس منه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزى إلى يوم القيامة" وقد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال الماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه إن هذا الكتاب كان شؤما عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من "هيئة كبار العلماء" ظل منفياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة ، فقد كان الكتاب أشبه باللعنة على حياته كلها.
ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة لأن بلاده "بريطانيا" كانت في حرب مع تركيا وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها والنصوص في الكتاب قاطعه بأنه كان موجها ضد الخلافة العثمانية. فإنه يذكر الاسم "السلطان محمد الخامس" الخليفة في ذلك الوقت الذى كان يسكن قصر يلدز" وهناك نص على جماعة الاتحاد والترقي" وهي التي كانت تحكم تركيا. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى. ويقول أن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين. وكان السلطان عبدالحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم: أي الاتحاديون أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد ورجح الدكتور الريس أن مرجليوث اليهودي الذى كان أستاذاً للغة العربية في اكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التى كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور الريس في كتابه "النظريات السياسية في الإسلام"، وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة والقدرة على التمويه. كما يتصف بالالتواء. وهذا الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبدالرازق. ومعروف أن الشيخ على عبدالرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين فلابد أنه كان متصل بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه. وكذلك "توماس أرنولد" الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتابا عن الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص. وقد نقدناه "يقول الدكتور الريس" في كتابنا "النظريات السياسية الإسلامية".(51/17)
والقصة تتلخص في أنه أبان الحرب العالمية الأولى والحرب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الدينى ضد بريطاني ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها. وكان بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتابا يهاجهم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه. هذا إن لم يفترض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذى اتصل به حينما كان في انجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التى كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التى تحارب الإسلام فأخذ الكتاب فترجم إلى اللغة العربية. أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التى تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه ظنا منه أنه يكسبه شهرة. ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب " السياسة" جريدة من أسموا أنفسهم، حزب الأحرار الدستوريين" وهذا هو الذي فهمه "أمين الرافعي" فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ على عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقا باسم " الاستاذ المحقق" والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتا لذلك. وهناك قرائن أخرى.
أولا: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة 1924. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس وقيل في الهامش أنه كتاب في عهده. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانيا: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه. فيذكرهم بضير الغائب ولا يقول عندنا أو العرب. أو نحو ذلك كما يقول المسلم عادة.
ثالثا: يكرر الشيخ عبد الرازق "عيسى وقيصر مرتين" ويكرر هذه الجملة التى يسميها الكلمة البالغة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعا: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام، وشنوا الحرب على المسلمين. فيدافع عنهم. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حربا من أجل الدين. ولكن نزاعا في ملوكية ملك ولأنهم "رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر " وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر أو ليست هي وحدة المسلمين حكومة الإسلام والمسلمين. ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل كأنه رجل عادي. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم. فضلا عن الشيخ. في الكلام عن الصحابة وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل.
خامسا: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفا في الكتب العربية. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والداو والدوران. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشهبة ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة "اضرب واهرب" رجل سياسى متمرن في المحاورة والمخادعة. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشيرية، وليس هو أبدا الأسلوب العربي الصريح. فضلا عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين فى الأزهر. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادسا: ولم يعرف عن الشيخ على عبد الرازق - من قبل - أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف .. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظمائه رجاله. ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب "أي في السياسة والتاريخ" بل كل ما كتب من قبل كان "كئيبا" في اللغة أو في علم البيان وهذا كل انتاجه في أربعة عشر عاما بعد تخرجه من الأزهر، ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاما لم يكتب كتابا آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.(51/18)
سابعا: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذى رواه فضيلة المفتى الشيخ محمد بخيت نقلا عن كثيرين من أصحاب الشيخ على عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين .. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن.. والظاهر أنها محشورة حشراً مجموعات في مكان واحد وأبيات الشعر التى استشهد بها. كما كتب المقدمة التى زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915، وذلك ليغطى المفارقة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامنا: كانت هناك أسباب ودوافع مختلف دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد. كما فعل غير من قبل .. ونحن نعرف أن مسألة مألوفة في الشرق .. ولا سيما في النقل من الكتب الأجنبية.
وفي مثل هذه المسائل بالذات. فإن هذه الحالة أسهل. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي. ولكن الدافع الذاتي إنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور.
من تقرير هيئة كبار العلماء في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"
والخلاصة أنه إذا رجعنا إلى هدف الكتاب الحقيقى وجدناه يتمثل في الحقائق التالية كما فصلها تقرير هيئة كبار العلماء.
أولا: جعل المؤلف الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا مع أن الدين الإسلامي على ما جاء به صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات الإصلاح أمور مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا، وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
ثانيا: زعم أن الدين لا يمنع من جهاد صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك. لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
ثالثا: زعم أن نظام الحكم في عهد صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام، أو اضطراب أو نقص، وموجباً للحيرة.
رابعا: زعم أن مهمة صلى الله عليه وسلم كان بلاغا للشريعة. مجرداً من الحكم والتنفيذ.
خامسا: انكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد لسلامة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
سادسا: أنكر أن القضاء وظيفة شرعية. وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا من الخلافة.
سابعاً: زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده -رضى الله عنهم- كانت لا دينية. وهذه جرأة لا دينية.
وهكذا تتكشف تلك المؤامرات الخطيرة التى استغلها الاستشراق وبعض التغريبيين خصوم الشريعة الإسلامية للقول بأن هناك رأيين: بينما لا يوجد غير مفهوم واحد . هو أن الإسلام دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. وأن ما قال به على عبد الرازق هو وجهة نظر الاستشراق الصهيوني التلمودي الهدام .. وأنه ليس رأي أي مجتهد أو عالم أو إمام في الإسلام. وأن على عبد الرازق لم يكن إلا مضللا أو مخدوعا.
(7)
سَاطع الحصري
سقطت نظرية ساطع الحصرى فيلسوف القومية العربية، لأنها قامت على أساس التفسير الغربي للتاريخ، ففصلت العروبة عن الإسلام وهو أول من جعل العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني، وهو أول مسئول عن التعليم العالي التركي في الوزارة التى شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة وأول من صرح بأن قومية إسرائيل تقوم على الدين وأن الإسلام دين تعبد وينكر أنه نظام حياة ومجتمع، والحقيقة أنه ما ذنب العروبة والإسلام إذا كان ساطع الحصرى غربي الفكر والذوق أعجمي النطق يتجاهل أن لغتنا لغة فكر وعقيدة وأن ديننا يجمع بين المادة والروح بين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة.
حدثني الدكتور مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف، وهو رجل صادق مؤمن، أنه في خلال عمله زار الأستاذ ساطع الحصرى في سويسرا ورأي السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري دعوته إلى طعام للغداء فلما قدم مع الدكتور الوكيل حياة السفير المصري فقال:
"مرحبا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام" وقد عجب الرجلان من ساطع الذى رد في عنف وحدة:
"عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك .. أنا لاييك".
وكلمة "لاييك" تعنى أن صاحبها علماني أو لا دينى.
* * *(51/19)
ما نزال ندوة الاعتصام تركز على تاريخ الإسلام والعرب المعاصر وعلى الأعلام البارزين: سعد زغلول، لطفي السيد، ساطع الحصرى إلخ وقد أحرز ساطع الحصرى شهرة وافرة في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية باعتباره "فيلسوف القومية العربية، حيث روج لنظرية خطيرة كانت بعيدة الأثر في حجب مفهوم العروبة الأصيلة المرتبطة بالإسلام فكراً وعقيدة، وبالعالم الإسلامي تكاملا وإخاء .. لقد كان دعاة حركة اليقظة في البلاد العربية يرون أن الجامعة الإسلامية قائمة بين العرب والمسلمين "فرساً ودركاً" بعد زوال الدولة العثمانية. ولكن ساطع الحصري كان من أوائل الدعاة إلى فصل العرب عن المسلمين بمفهوم القومية الغربي الوافد الذي طرحه في أفق الفكر السياسي العربي. وهذا يرجع إلى أن ساطع الحصري كان ثمرة من انضج ثمار المدرسة الاتحادية التركية، وأكبر الدعاة الذين نقلوا مفهوم القومية الطورانية التركية إلى أفق العروبة التي كانت ترتبط بمفهوم الإٍسلام في العلاقة بين الشعوب التي جمعها التوحيد والقرآن ونبوة صلى الله عليه وسلم والفكر الإسلامي الأصيل.
لقد كان ساطع الحصري مديراً للتعليم في الدولة الاتحادية التي حكمت تركيا بعد إسقاط السلطان عبد الحميد بمفهوم العلمانية بالطورانية.
وقد تعلم في مدرسة الاتحاديين، وآمن بفلسفتهم، ونقل فكرهم ومضامينهم إلى العرب، وذلك في سبيل تمزيق الوحدة الإسلامية الجامعة عرباً وتركاً وفرساً، وخلق أسلوب القوميات والاقيلميات التى تقوم على الصراع والاستعلاء بالجنس والعنصر.
وهو أول من حمل لواء العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني. وقد كان فلاسفة الفكر القومي التركي من الاتحاديين تلاميذ الفلسفة الوضعية متشبعين بالنزعة الطورانية العدوانية. وقد استمد ساطع الحصري مفهومه للعروبة من مفهوم القومية الغربية، والنظرية التى طبقها الاتحاديون في تركيا. فقد ركز على اللغة والتاريخ وعزلهما عن الفكر الإسلامي الجامع ككل كما ركز طه حسين على الأدب وعزله من وحدة الفكر الإسلامي.
ونظرية ساطع الحصري التى روجت لها بعض الأحزاب السياسية العربية قد اثبتت خلال أكثر من ثلاثين عاما فشلها الذريع، وعجزها عن العطاء، لأنها فرغت مفهوم العروبة من قيمه وتاريخه وعناصره الأخلاقية والروحية وجعلته مفهوماً مادياً خالصاً.
وقد اعترف ساطع الحصرى بأن إسرائيل قومية تقوم على الدين ورفض اعتبار الإسلام مقوماً بوصفه دينا. ذلك أن مفهوم ساطع الحصري للإسلام ناقص، فهو يراه دينا لاهوتياً وليس ديناً ومنهج حياة ونظام مجمتع على النحو الذي يؤمن به دعاة العروبة الإسلامية.
لقد فهم الإسلام على أنه "عين عبادي" كما فهم الأوربيون المسيحية، ولم يفرق بين الدين بعامة والإسلام، ولم يفرق بين العصر والبيئة والجذور الثقافية التي يختلف فيها عن مفهوم القومية في أوربا. ولقد كان مفهومه العروبة ناقصاً. فلم يصل إلى مفهوم العروبة المترابط مع الإسلام. هذا الترابط الجذري الذي لا سبيل للانفكاك عنه.
ويرى كثير من الباحثين أن ساطع الحصري لم يعايش المناخ العربي قبل أن يضع مجموعة آرائه، وأنه استهدي بمناخ البلقان والنظرية الألمانية في حركته القومية التي رفع فيها شعار اللغة في مواجهة الدولة العثمانية المتحرر منها. وأنه كان حاقداً على الترك حقد المحافل الماسونية التى احتضنت الاتحاديين ووجهتهم وجهتها، ودفعتهم إلى الدعوة إلى الذئب الأغبر كرمز لها بدلا القرآن.
وقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميات "ماكس مولر" "وتوردو" وهما فيلسوفان يهوديان قصداً من وراء نظرية اللغة إلى إحياء القومية اليهودية.
وقد اعتبر ساطع الحصري اللغة أساس القومية، وعارض نظرية الأرض التى دعا إليها أنطون سعادة دون أن يتنبه إلى أن الفكر لا اللغة هو مصدر الوحدة.
وقد أجرى ساطع الحصري الجدل حول عديد من النظريات الأوربية في القومية دون أن يواجه جوهر المفهوم العربي الإسلامي المصدر والجذور. هذه الجذور التى تجعل من العسير فصل اللغة عن الفكر واعتبارها مقوماًَ منفصلا، أو الاعتماد على نظرية بقاء اللغة أو ضياع اللغة مع أن الأساس هو بقاء للعقيدة والفكر الذى يحمى وجود الأمة الحقيقى.
والواقع أن ساطع الحصري كان غربي الفكر أساساً بل وغربي الذوق أعجمي النطق، وأن تركيبه الثقافي والاجتماعي يحول بيته وبين تبنى نظرية عربية أصلية مستمد من واقع الأمة العربية وكيانها، وذاتيتها وقيمها التى لا تنفصل فيها اللغة والتاريخ عن الفكر نفسه. وفي ذلك مغالطة أو جهل. ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أمة فحسب ولكنها في نفس الوقت لغة فكر وعقيدة فإذا كان العرب وهم مائة مليون يتحدثون بها فإنها لغة العقيدة والفكر لألف مليون من المسلمين مرتبطين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك التراث الضخم من الفقه والعلم والتاريخ. وأن اللغة لا تنفصل عن الفكر وأن تاريخ العرب لا ينفصل عن تاريخ الإسلام.(51/20)
ومرجع ذلك إلى أن ساطع الحصري نشأ - كما ذكرنا - في بيئة الاتحاديين الأتراك الذين كانوا صنائع للفكر الغربي، والذين نشأوا في أحضان المنظمات الماسونية، وحملوا لواء الإيمان بالفصل من الدين والمجتمع، وفهموا الإسلام فهما غربيا على أنه دين لاهوتي.
وعلى هذا الفهم الخاطئ القاصر قامت نظرية ساطع الحصري التى لمعت تحت تأثير الخداع والأهواء حتى أن بعض دعاة الماسونية في العالم العربي راح يفسر عن طريقها تاريخ الإسلام كله فيرى أنه تاريخ قومي عنصري عربي. ومن ثم وجهت عبارات الحقد والخصومة إلى الأمة الإسلامية، وهذا هو الثمرة الحقيقية التى تهدف إليها حركة الغزو الثقافي والتغريبي من طرح هذه النظرية القومية، الإقليمية الضيقة العدوانية الوافدة. بديلا عن المفهوم الأصيل للعروبة في إطار الإسلام كما كان يفهمه شكيب إرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد المبارك.
هذه النظرية المضطربة التى خدع بها ساطع الحصرى الكثيرين، والتى سايرها كثير من المثقفين قبل أن يعرفوا سمومها العميقة. فلما عرفوها هاجموها وكشفوا زيفها.
والنظرية مضطربة من أساسها. ولو كان ساطع الحصرى حسن النية لصحح موقفه من فهم الدين فهما غربيا لا تركيا وفهم الإسلام بمعناه الجامع بين العقيدة ونظام المجتمع. لقد اعتمد أساس نظرية مفهوم الدين اللاهوتي بمفهوم أوربا والغرب للدين، ولذلك عجزت النظرية عن أن تنجح في إطار الفكر الإسلامي، بل إن كل العناصر التى عالجها كانت عناصر البيئة الغربية في مواجهة الصدع بين الجامعة المسيحية الأوربية وبين القومية الإقليمية والتي كانت وراءها اليهودية الصهيونية لتمزيق هذه الوحدة والسيطرة على كل قطر على حدة. وهو نفس ما أرادته بالنسبة للجامعة الإسلامية التركية التى وقفت أمام دخول الصهيونيين إلى فلسطين وموقفهم من السلطان عبد الحميد واضح معروف.
إن كل التحديات التى تعالجها نظرية القومية الوافدة لا توجد أساساً في المناخ الإسلامي. هذا فضلا عن اختلاف مفهوم "العروبة" عن مفهوم القومية في الغرب فضلا عن اختلاف مفهوم الإسلام عن مفهوم الدين بصفة عامة.
ومصدر خطأ ساطع الحصرى أنه عجز عن فهم أبعاد الفكر الإسلامي وأعماقه، وعلاقة العرب بالإسلام، وعاش في مؤلفاته خادماً لنظرية القومية الأوربية الوافدة التى قدمها النفوذ الأجنبي من بين ما قدم ليحطم الوحدة العربية الإسلامية الجامعة بعد أن عجز عن فرض الإقليميات القائمة على التاريخ القديم كالفرعونية والفينيقية والأشورية والبابلية.
وذلك أنه لما رأي هذه المحاولات تتهادى ورأي أن العرب يتجهون إلى الوحدة أراد أن يفرغ هذه الوحدة من مضمونها العقائدي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والآخرة إلى مفهوم اقتصادي مادي صرف، وبذلك فشلت نظرية القومية الوافدة كما فشلت مناهج التعليم الغربي، والقانون الوضعي وأسلوب التنظيمات السياسية الليبرالية وغيرها.
ولقد وقف ساطع الحصرى في وضوح موقف الخصومة والحقد والتعصب على الإسلام كلما عرض له، وقد تجاهله طويلا في أبحاثه كأن العرب لم يعرفوه خلال تاريخهم الطويل. وكانت محاولاته للفصل بين اللغة العربية والفكر الإسلامي من ناحية. وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام محاولة ساذجة. ثم كشف نفسه وأسقط مكانته كاملة حين اعترف بالقومية اليهودية القائمة على الدين، بينما عارض عنصر الدين في فهم القومية العربية وإن كانت كلمة "دين" لا تؤدي معنى الإسلام حين يكون البحث حول العروبة.
وقد ثبت أن ساطع الحصرى قد خدم بدعوته وفكره مفاهيم الماسونية والنظرية القومية الوافدة التى كان النفوذ الغربي حريصا على تلقينها العالم العربي. وهي ليست إلا صورة مفهوم الإقليمية اللبنانية والمعروف أن ساطع الحصري كان من أعمدة وزارة المعارف في تركيا منذ أوائل حكم الاتحاديين في تركيا العثمانية إلى أن انتهت الحرب الأولى. وإنه كان من أخطر الموجهين للبرامج التربوية والتعليمية في العراق. حيث عمد إلى فصلها عن الإسلام فصلا تاماً. وكان دوره أشبه بدور الدكتور طه حسين في التعليم المصري.
لقد حاول ساطع الحصرى أن يقيم "فكراً عروبياً إقليميا". منفصلا عن الإسلام في روحه ومضامينه وشريعته. ولقد تجاهل أعماق الأثر الذي تركه الإسلام في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ وتجاهل أثر القرآن الكريم في اللغة العربية وفي العرب، ومدى ترابط ذلك إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة بالأمة الوسطى الحنيفية السمحاء التى جاء بها إبراهيم عليه السلام فربطت هذا العالم الوسط "عالم العرب والإسلام" بروابط تاريخية وثقافية عميقة دعمتها الأديان السماوية التى نزلت في أرض الرافدين، وختمتها رسالة الإسلام العالمية التى نزلت في الجزيرة العربية.
(8)
محمد التابعي
الرجل الذي أنشا صحافة البحث وراء أسرار البيوت والذي نقب عن خفايا الأسر والأعراض، وهو الرجل الذى دعا رجاله الثورة إلى ديكتاتورية الحزب الواحد وحرض على الدعاة إلى الله بالقتل والإبادة.(51/21)
انتهت حياة الرجل الذي كان له أكبر الأثر في إنشاء الصحافة الهزلية: الكاريكاتير الساخر، والبحث خلف أسرار الناس والتطلع إلى ما وراء الأبواب المغلقة. ذلك هو الأستاذ محمد التابعي الذي تصدر هذا الفن في الصحافة المصرية الحديثة منذ عام 1926م حينما تولى إصدار مجلة "روز اليوسف" مع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة هذا المجلة، ثم انفرد بهذا الفن حين أصدر مجلة "آخر ساعة" عام 1934 وكانت فنون الكاريكاتير السياسي والسخرية قد بدأها "سليمان فوزي" صاحب "الكشكول" التي كانت تحمل على حزب الوفد حملات قاسية مما دعا مكرم عبيد إلى اقتناص محمد التابعي ليحمل لواء هذا الفن للدفاع عن الوفد بنفس أسلوب الصحافة الهزلية والكاريكاتير والسخرية من كل القيم والإيغال في مهاجمة كل الأخلاقيات واقتحام أسوار الأسر والبيوت لابتداع فن الخبر الاجتماعي المثير الذي كان سلاحاً قاسيا في ضرب السياسيين القدامى ورجال الأحزاب بعضهم ببعض.
وقد بلغ الأستاذ محمد التابعي بإشرافه على مجلة روز اليوسف قمة التعريض والهجاء والنقد اللاذع عن طريق الخبر والكلمة والصورة.
وقد بدأ التابعي عمله في الصحابة ناقداً مسرحياً ثم تحول إلى التعليق السياسي وعندما حُوكِمَ وصدر الحكم عليه بالحبس سنة أشهر مع إيقاف التنفيذ لم يكن ذلك في سبيل الدفاع عن حقوق وطنيه وإنما كان من أجل مقالات عن مقالات عن مغامراته في أوربا تحت عنوان "ملوك وملكات أوربا تحت أجنحة الظلام". يقول الصحفي محمد على غريب: إنه لما كانت توجد مجلة الكشكول وقد تخصصت في مهاجمة سعد زغلول ولقيت الرواج العجيب، لذلك صح الرأي في أن تصبح روز اليوسف مجلة سياسية واستطاع التابعي أن يجهز على مجلة الكشكول وقد عرف أسلوب التابعي بالسخرية القاسية والدعاية العنيفة.
ويعد محمد التابعى صاحب هذه المدرسة التى سارت عليها من بعد كل صحف الكاريكاتير في مقدمتها روز أليوسف، وأخبار اليوم.. ويعد مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس من تلاميذ هذه المدرسة العتيدة. وقد تعود التابعي كما كتب على أمين في آخر ساعة ألا يعود من الخارج إلا ليحزم حقائبه لرحلة جديدة حتى إنه لم يكن يستقر في مصر أكثر من شهرين في السنة فيقضى الشتاء في سان مورتز والربيع في باريس ومونت كارلو، والصيف بين رأس البر والاسكندرية وإيطاليا، والخريف في القاهرة ليستريح من عناء رحلات الشتاء والربيع والصيف، وإنه يوما في جزيرة كابري ويرها في مونت كارلو وإنه يسافر ومعه أكثر من عشرين حقيبة ملابس الصيف والشتاء والربيع والخريف وملابس الصبح والضحى وبعد الظهر والمساء والليل وإنه ينزل في الجناح الملكي لفندق سوفرنيا.
وقد دمغ القضاء المصري صحافة الكاريكاتير الهزلية هذه في كثير من المحاكمات التى قدم لها التابعي بأنها "تنشر فاحش القول وسقطه وإنها غالت في الاقذاع في الناس، والبحث وراء أسرارها في تعريض وتلميح، وإن أصحابها يغمسون أقلامهم في السموم القاتلة والتصادير الخلاعية التى كان لها أسوأ الأثر في قرائها من الشباب المراهقين. وكان التابعي حريصاً على فضح أسرار الأسر والبيوت وكشف خفاياها وأعراضها لحساب الخصومة الحزبية.
هذا هو الأثر الأول والضخم في حياة محمد التابعي الذى نماه من بعده وطوره اتباعه وتلاميذه وحواريوه بكل الدول الصحفية تقريباً والذى كان ولا يزال بعيد الأثر في الصحافة المصرية الحديثة. وما كتابات إحسان عبد القدوس التى ينشرها بالأهرام هذه الأيام عنا ببعيد.
أما الأثر الثاني في حياة محمد التابعي فهي موقفه الخطير فى التحريض على الدعاة في سبيل الله ورجال الدعوة الإسلامية كراهية في تطبيق الشريعة الإسلامية، وعملا على تدمير القوى المؤمنه التى تحمل لواء الدعوة إلى تحرير الحياة الفكرية والاجتماية من التحريض على الفساد والشهوات والصور العارية والقصص الماجنة وغيرها من الأساليب التى كان يعمل لها أصحاب التابعي وتلاميذه وهم يبثون في ثنايا كتاباتهم ذلك اللون الخطير الذي أريد به إفساد شباب الأجيال وتدميرهم وانحلالهم.
وقد وقف التابعي مرتين موقف التحريض على "جماعة الإخوان المسلمين" في محاولات الحل الذى تعرضت له مرتين عام 1949م وعام 1954 . وفي كل مرة كان قاسيا على أهل القرآن، متهما إياهم بكل نقيصة، محرضا عليهم بالقتل والسحق والإبادة حتى لا يجد قلما أو لساناً ينقد تصرفه الفاسد ودعوته الضالة.(51/22)
أما الأثر الثالث الذى يوضع في ميزان أعماله عند الحساب فهو دعوته الحادة المسمومة إلى ديكتاتورية "الحزب الواحد" وتنكره لكل أساليب الديمقراطية والنظم التي تسمح بالرأي الآخر أو وجهة النظر الأخرى.. وقد غالى التابعي في الدعوة إلى الحزب الواحد وأغرى به حكام مصر في فترة من أدق فترات التاريخ السياسي كان المصريون يتطلعون فيها إلى نظام دستوري يحقق الشورى والعدل، فإذا به يظاهر دعوة الدكتاتورية القابضة على الرقاب والعقول والنفوس فكانت تلك هي آخر كلماته التى عارضه فيها أقرب الناس إليه وتلميذه الأثير "مصطفى أمين". ثم أصابت التابعي على أثر ذلك ضربة القدر التى لا تتخلف إزاه كل ظالم ومدمر لقيم هذه الأمة وأخلاقها.
(9، 10)
مدحت وأتاتورك
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
"الرد على عبد الحميد الكاتب"
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية ولماذا يوصف عمل مصطفى كمال أتاتورك بإسقاط الخلافة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة" أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!
وقد نسى هؤلاء وأولئك حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم : "إن أول دينكم نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام يجرانه على الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الارض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته، وما ينطق عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذى جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية "حدثا" خطيراً لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية، وقد كان مصدراً لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملا ضروريا بعد أن فسد الدعوات الإقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولابد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
معلومات مسمومة:
ولست أدرى لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة مضللة انتشرت زمناً وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التى تدحضها؟
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!!
والحقيقة أن الرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي" هم عملاء النفوذ الاجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب ورصفها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديا مثل "مدحت" أو رجل هو من الدونمة أصلا مثل "أتارتورك" إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلا بتزييف "صفحة الدولة العثمانية" والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!(51/23)
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أريد بها القضاء على النظام الإسلامي وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلا أعلى للتقدم والتجديد ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عاماً لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذى جاءت ثورة إيران اليوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلها أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وإن الذين حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي "شرقية وغربية" سبيلا للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم، فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية والحيلولة دون امتلاك المسلمين لإرادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو امتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
مدحت باشا:
إن الصورة التى رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلا قومياً ولكنه كان واحداً من قوى المؤامرة التى أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفاً لدى السلطان عبدالحميد الذى كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافية الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيداً في الحقيقية، لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإٍسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذى دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإٍسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذى كان عاملا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد "هرتزل" عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من تمثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته .. وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير. فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه "خاطرات جمال الدين"، يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التى عجلت به. وهي قوله:" يا مسلمى العالم اتحدوا" وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية "العرب والترك" تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعاً شديداً. فقد مضى بخطى حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقية هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون إسقاط الدولة. كان ذلك فهم أحرار العثمانين والعرب جميعا، وقد كان هذا ممكناً لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين أعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
وحدة إسلامية وليست عنصرية(51/24)
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدول العثمانية لم تكن علاقة استعمار. فإن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.
زيف ما في كتب الموارنة واتباعهم:
ولاشك إنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون" عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانها من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدول العثمانية وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى الباحث المنصف أن يرجع إلى الإضافات الجديدة التى ظهرت بعد الخمسينات والتى تكشف فساد ما كتبه جرجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل بيهم، وعبد الله التل، والعقاد وخليفة التونسي وعجاج نويهض وتوفيق بروه فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التى ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم. لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت إلى العربية، فلماذا هذا التزييف يحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
حقيقة أتاتورك :
إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهداً ولا مصلحاً، وإنما كان تتمة الاتحاديين. لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني. فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفى ماليتها ووجودها. وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغرب، وينقلها نقلة واسعة من دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضى على الإسلام تماماً، ومعاهدته السرية المعروفة التى عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدى دوره كاملا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم. أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفا، وأن غيره هو الذى قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.
ولقد كان أتاتورك عميلا غربيا كاملا، وعميلا صهيونيا أصيلا، وقد أدى دوره تماما. وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التى تركت آثارها من بعد العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرؤا الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى. وذلك دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة لفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم "هاملتون جب" إن العرب لم يقعوا في براثن هذه التجربة التى خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلا منه رئاسة الدولة التركية. وكان كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التى يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. لقول توينبى إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شئ إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.(51/25)
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعى المدعون شيئا جديداً ولكنه كان حلقة في المؤامرة التى بدأها مدحت وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وهو عمل ضمن مخطط يرمى إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، ودعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس. وهم عناصر الأمة الواحدة التى جمعها القرآن وقادها صلى الله عليه وسلم وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربى في كتابه "حاضرالعالم الإسلامي قبل أربعين عاما" وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية " ودورها الذى قامت به في وجه الصليبية الغربية.
أما صيحة العناصر والأجناس التى حاول كاتب أخبار اليوم يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية. أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليمية والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التى كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.
ولا ريب أن الأسلوب الذى اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التى استطاعت أن تحمى وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة بإسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصراً عسكرياً أو سياسياً وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذى فتح الطريق إلى كل شئ، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال. وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذى لم يكن إلا عميلا من عملاء الخيانة لحسابه الصهيونية العالمية، والنفوذ الغربي، والشيوعية أيضا فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام.
ولا شك أن الضربة الذى وجهها أتاتورك إلى الخلافة الإسلامية قد فتحت صفحة خطيرة في تاريخ الإسلام الحديث، وأن الذين فرحوا لذلك من كتاب يكتبون باللغة العربية سوف يرون أنهم كانوا غير بعيدي النظر في فهم الأمور، وأنهم استعدوا ذلك الفرح من مشاعر حافلة بالحقد والكراهية للإسلام، وأن الخلافة الإسلامية عائدة لا محالة، وأنها هي العنوان الحقيقي للجامعة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وأنه لا سبيل إلى نهضة المسلمين إلا بقيام الخلافة الإسلامية. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعندها ستنكس روؤس الظالمين.
المعاهد السرية
التى عقدها أتاتورك والتى سميت بشروط كرزن الأربعة:
ينص بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 المعروفة بشروط كرزن الأربعة على ما يلى:
أولا - قطع كل صلة بالإسلام.
ثانيا - إلغاء الخلافة الإسلامية.
ثالثا - إخراج أنصار الإسلام من البلاد.
رابعا - اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.
غاندي
غاندي سرق الحركة الوطنية من المسلمين. والهندوسي الهندي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل وللشاة.
وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال منادياً بمهادنة السلطة وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوى ولقنوها لنا في الشرق هي التعامى عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.
كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التى تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزاً للمصريين أبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمد إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة نحى بها المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1957 التى قادها المسلمون كان حريصاً ألا يتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظلت تحكم الهند أكثر من خمسمائة عام مرة أخرى بعد أن أسقط دولتهم ..(51/26)
والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و " لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدما واضحا في هذا المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في لكنؤ (بمباوي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطنى العام وسموه المجلس الملى الوطنى الهندى العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات "وهم لا يريدون من كلمة الأقليات غير المسلمين" وفي عام 1916 تنبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد على، شوكت على .ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918، أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان "المسلمون والهندوس" على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعمالء الفريقين.
وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسية المسلمين، فاجتمع زعماءهم في لكنؤ بدعوة مولاى عبد البارى رئيس علماء أفرنجى محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية. فأطلق هذه الجماعة "جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين" وتأسست جميعة الخلافة في بومباي "18 فبراير 1920" برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجى خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعرفون في الهند. ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسى الأشهر في تقريره الذى قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.
كان "غاندى" إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعاً في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تأليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في الناتال وجنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولدى "خوجندى" وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبة للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوى هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافية مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وتدبوه السعى إلى ذلك فقام وطاف الهند على حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بالانضمام إلى الكونجرس "المؤتمر الوطني" الذى تأسس لملاحقة المسلمون، وانتزع حقوقهم في الهند. فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازاً على الثقة في "غاندي" وعقد الكونجرس اجتماعا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس ولما تلى عليهم القانون الأساسى اقترحوا تعديل المادة التى تقول باصلاح حالة الهند إلى عبارة "استقلال الهند" فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا باجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة "البريطانية" لهذا التغيير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون. واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان "الأمة الهندية" وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره "مؤتمر جمعية الخلافة" فأعلن موافقته أيضا بالاجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندى خطيبا وقال، إن اتحاد الهندكة مع المسلمين يبقى متينا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها. ورد عليه أبو الكلام آذاد فقال:
"إن كان غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دمائه وليعلم غاندى أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا على الله عز وجل وعلى أنفسهم".(51/27)
وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسولم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب النياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الانجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادك محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتداداً عظيما ليس له مثيل. فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء لأن السجون لم تعد تسع المعتقلين. وخطب اللوردريدنج "الحاكم العام" في كلكتا فقال:
إننى شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدرى ماذا أصنع فيها.
ومن هذا السياق تستطيع أن تصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغاً ما بلغ من النشاط السياسى لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع زعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالا فعليا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن. فكان الوطنيون يرفعون قضياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث إرتباك شديد في الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلا من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندى، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندى على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد قال لغاندى:
"إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعماءها فلو أسرعنا وأجبناكم إلى طلباتكم، وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستعدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولا لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإنى أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتصل في الاعتراف لكم بالاستقلال".
وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على "مولانا محمد على" كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة .. يقول في هذا التعليق:
"أن ما فهمته الحكومة كان مخالفاً لمرادى" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد على لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سرياً لايطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير السحرى الذى كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
"إن محمد على تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التى ارتكبها".
وأنهم محمد على من المسلمين بالتراجع، ورمى بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفه إلا حين مؤتمر الخلافة في كراتشى "أغسطس 1920" حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انقباض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء: شوكت على، حسين أحمد، كثار أحمد، بير غلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعاً إلى المحكمة المخصوص للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملا بقرار المؤتمر السابقة وامتنوعا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد على، سيف الدين كنشلو منشوراً بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة "أحمد أباد" سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية التى ستقرر الإفراج عنهم، ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس "ديسمبر سنة 1920" حضر غاندي وقال:
"بما أن الزعماء يعتقلون، ولا سبيل للمداولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فاقترح عليكم تعيينى رئيسا للمؤتمر، وتخويلى السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحاً من الاجراءات".(51/28)
فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تتنبه إلى ما كان يغمره هو من المقاصد التى قد لا تنفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتى. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندى للحكيم أجمل خان:
"إن إعلان الاستقلال في الظروف الواهنة غير مناسب".
وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسيحيون كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 اجتمع الكونجرس تحت رئاسة غاندى في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذى يصر فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتى فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إراداتهم في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين. وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندى، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين:
هذا هو النص الذى أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبى عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندى بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندى الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.
هذا هو غاندي في حقيقته التى لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتى أخفيت عنا تماماً خلال تلك الفترة التى كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي ويدعون بدعوته إلى الاستسلام النفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف. وهذه هي الفلسفة التى استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيراً في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة أبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني ولذلك فإن هذه الصفحات التى ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندى يجب أن لا تخدعنا كثيراً فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفاً وقسوة في معاملة مسلمى الهند، وقد كانت أنديرا غاندى ابنة نهرو أبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملا على الحد من تعداد المسلمين في الهند. فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التى يراد بها تغطية حقيقة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحركة البريطانية وأدخل أمثال محمد على وشوكت على وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب الحركة الوطنية بالتآمر من أيديهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة. وذلك للعمل لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرير من نفوذ غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
(12)
زكي نجيب محمود
كان السؤال في الندوة عن مخططات التغريب والعزو الثقافي في هذه المرحلة لمواجهة حركة اليقظة الإسلامية، وانكشاف مخططات الاستشراق والتبشير، وافتضاح كل خيوط المؤامرة التى جند لها عدد كبير من التغريبيين بقيادة "المعلم" طه حسين. ثم تحطم كل هذه المخططات قبل رحليه.
والحقيقة أن النفوذ الأجنبي قد غير جلد طه حسين وحاول أن يقدم مخططاً جديداً لقيادات جديدة بعد أن هلك هذا التغريبى الكبير ووضع أمر ذلك في عدة خطوات اتخذت بسرعة لتغطية الفراغ .. منها عقدة مؤتمر ثقافي مغلق في الكويت ضم مجموعة من اتباع الاستشراق والتغريب، واليساريين، وأتباع الفلسفة المادية. وكان على رأسهم "زكي نجيب محمود" و " محمد النويهي" لمواجهة الموقف بعد وفاة ذلك الزعيم الصنم الذى كان يمر في السنوات الأخيرة من حياته بمرحلة الاحتضار.
وكذلك كلف المستشرق "جاك بيرك" بالطواف في البلاد العربية . ودول الإمارات لإلقاء محاضرات من طه حسين في محاولة لاستعادة الثقة به بعد أن تحطمت هذه تماماً نتيجة للأبحاث الى كشفت عن دخيلته وخاصة ما كاتب محمود محمد شاكر ومحمد نجيب البهيتى وكاتب هذه السطور.(51/29)
كذلك فقد حاولت جريدة الأهرام في عهد هيكل أن تجمع في نطاقها مجموعة كبيرة من دعاة التغريب أمثال توفيق الحكيم الذى وصف إسرائيل بأنها دولة متحضرة. وحسين فوزى الذى تنكر لعروبته واعتز بفرعونيته ورضى لنفسه أن يجعل درجة الدكتوراة من جامعات العدو. ونجيب محفوظ الذى عرف بتلمذته لزعيم التغريب سلامة موسى وهي ما تزال تحتفظ بهم إلى اليوم بعد أن أضيف إليهم أنيس منصور ويوسف إدريس.
وقد بدأ في السنوات الأخيرة أن الأضواء كلها قد ركزت تماماً على الدكتور زكي نجيب محمود كقائد لهذه الكتيبة التغريبية وقد مهد الدكتور لذلك بأن أعلن أنه أعاد النظر في التراث الإسلامي "وأسماء العربي" في محاولة لخداع البسطاء ولتغطية ماضى طويل في الفكر المادي كانت قمته كتاب المعروف "خرافة الميتافيزيقا" أي بمعنى صريح اتهام مفهوم الغيب الذى جاء به الإسلام بأنه خرافة. وإنكار كل ما سوى المحسوس والمعفول متابعة في ذلك للمذهب الفلسفي الذى اعتنقه طوال حياته مقلداً في ذلك فيلسوفاً أوربياً مادياً ملحداً ينكر الأديان المنزلة ويفاخر بأنه يمثل مدرسته "أوجست كونت" وفي طريق كسب الأنصار والتقرب إلى الشباب الواعي المثقف يتحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الإيمان بالله وعن الإيمان باليوم الآخر، وعن أعلام التراث: الغزالى وغيره. وذلك كله محاولة لإلقاء حاجز بين الماضى والحاضر وإحراز الثقة التى تمكنه من بث مفاهيمة وآرائه.
ونحن لا نتهم أحداً في عقيدته ولا تتعقب العورات ولا نلتقط ما نتكشف عنه السرائر من وراء الوعى ولكننا نقرر بدأءة بأن المنهج الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود معارض لمفهوم الإسلام الصحيح من جوانب عديدة وخاصة بالنسبة لتلك القضية الكبرى التى يثيرها في كل كتاباته وهي مسألة العقل والعقلانية فالإسلام لا يعطى العقل هذا السلطان المطلق كله، ولا يقر مثل هذا المعنى. وإنما يرسم للعقل طريقا كريماً في ضوء الوحى. والعقل في الإسلام مناط التكليف ولكنه ليس حكماً على كل شئ ذلك لأن العقل أداة تصلح إذا صلح تكوينها وتفسد إذا فسد تكوينها. وهي إن اهتدت بالوحى أضاءت وأشرقت عليها أنوار الفهم. أما إذا اهتدت بالفكر البشري فإنها تكون بمثابة أداة تبرير لكل شر ولكن أهواء النفس.
فالعقلانية بالمعنى الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود نظرية مادية صرفة ومرفوضة تماماً. وإذا كان هو وجماعة المستشرقين والتغريبيين يعتزون من التراث بالجانب الخاص بالمعتزلة فإن هذا الاعتزاز لا يمثل إلا إنحرافاً في مفاهيم الفكر الإسلامي. فالمعتزلة خرجوا عن مفهوم الإسلام الجامع المتكامل بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدنيا والآخرة. وأعلوا مفهوم العقل. فانحرفوا وتحطموا وحكمت عليهم الأمة كلها بأنهم خرجوا عن مفهوم الإسلام الصحيح حين دعوا إلى خلق القرآن واستعدوا الخلفاء على المسلمين والعلماء. وقد هزمهم الله شر هزيمة على يد الإمام أحمد بن حنبل، وأعاد للإسلام مفهومه الأصيل الجامع.
والموقف نفسه يقفه الإسلام بالنسبة للدعوة إلى التصوف كمنطلق وحيد لهم الحياة والأمور من خلال الحدس والروحانيات وحدها ولقد كان هو زكي نجيب محمود في دراساته في التراث مع ذلك المفهوم العقلاني الذى انحرف عن مفهوم الإسلام الجامع، والذى استمد مادته من الفلسفات اليونانية الوثنية المادية، والالحادية الإباحية التى غامت سحابتها على الفكر الإسلامي ثم انقشعت تحت تأثير أضواء المفهوم القرآنى الأصيل.
كذلك فإن مفهوم الدكتور زكي نجيب محمود للألوهية مفهوم ناقص وقاصر لا مفهوم الإسلام "على النحو الذى أورده في مقاله في الهلال".
لقد مرت البشرية بمراحل كثيرة في فهم الألوهية ناقصة ومنحرفة وجاء الإسلام بالمفهوم الجامع الحق فلم يعد هناك مجال لإعادة ترديد هذه المفاهيم بعد مرور أربع عشر قرنا على نزول دعوة التوحيد الخالص.
إن الذى يقبله شباب الإسلام اليوم من الباحثين هو مفهوم الله الحق لا مفهوم الآلهة كما فهمه الوثنيون أو المعددون، أو المشركون الذين كانوا يؤمنون بالله خالقا ولا يؤمنون به مصرفاً للأمور كلها .. وقد جاء الإسلام ليكشف هذه الحقيقة وحدها، ويدعو إليها وهي: "إسلام الوجه لله".(51/30)
أما مفهوم الإيمان بالله على النحو الذى كتب عنه الدكتور زكي نجيب محمود فهو عرفه المشركون ولم يقبله منهم الإسلام. ولعل من أكبر الخطأ عرض مفهوم أرسطو وأفلاطون في الألوهية ومحاولة تفسيره بمفهوم الإسلام مع أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك بل إن القرآن الكريم دحض كثيراً من مفاهيم أرسطو وأفلاطون والفلسفات اليونانية والوثنية والعنوصية لنقضها وقصورها. وخاصة ما ادعاه هؤلاء من أن الله تبارك وتعالى يدير ظهره الكون ولا يعلم الجزئيات، وأن المادة خالدة إلى غير ذلك من تلك التفاهات بل إن مفاهيم أرسطو وأفلاطون للألوهية تدخل تحت ما أسموه "علم الأصنام" فكيف يقدم هذا المفهوم الشباب المسلم اليوم على أنه مفهوم الألوهية الحقة؟! ولقد كشف علماء المسلمين منذ وقت بعيد فساد مفاهيم الفكر البشرى ونقصه. وكيف أنها منحرفة . وكيف أن الله تبارك وتعالى يعلم الأمور كلها " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس".
وأن هذا الكون ليس مخلداً، ولا باقياً وأن له نهاية كما كانت له بداية، وأن الله تبارك وتعالى يمسك هذا الكون لحظة بعد لحظة ويديره ساعة، وأن كل ما يقوله الفلاسفة هراء.
والمسلمون يعلمون أن الكتب المنزلة حرقت وغيرت مفهوم الألوهية الحقة "الله رب العالمين" فنسبه البعض إلى أنفسهم وقالوا: إنه رب الجنود وربهم وحدهم. وقال الآخرون بأن لله ولداً وكذبوا "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه".
وليس مفهوم الألوهية صحيحاً ولا كاملا إلا فى الإسلام وحده. مفهوم إسلام الوجه لله: "إياك نعبد وإياك نستعين".
وقد حاول الفكر البشرى أي يزيف مفهوم الألوهية الحقة. وأخطأت الماسونية حين قالت:" المهندس الأعظم" وهناك انحرافات الباطنية والماديين والوجوديين ودعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد على النحو الذى عرف عن كثيرين. وهناك مفهوم الإسلام بوصفه ديناً لاهوتياً. والحقيقة أن المطلوب ليس إثبات وجود الله تبارك وتعالى ولكن المطلوب معرفة حقيقة هذا الوجود بعيداً عن هذه المفاهيم المنحرفة ويستتبع الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان بشريعته.
ولكن الدكتور زكي نجيب محمود لا يلبث أن ينتقص من شأن هذه الشريعة وبصفها بأنها قاصرة ومجافية للعصر ويطالب بتخطيها في سبيل تحقيق المعاصرة، وهو يقبل بالحضارة الغربية كما كان يقبل بها سلفه طه حسين "حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب" فما عرف عنه أنه دعا المسلمين إلى أخذ العلوم مثلا دون أسلوب العيش ولكنه يدعو إلى شئ غريب هو أن المسلمين ليس لهم فلسفة حياة وهو ادعاء باطل وظالم.
فكيف يمكن أن يقال لأصحاب القرآن الذى وضع منهجاً للحياة والمجتمع غاية في الاحكام جربته الشعوب والأمم ألف عام فأقام فها حياة الرحمة والعدل والإخاء البشري. كيف يمكن أن يقال لهذه الأمة إنها لا تمتلك منهج حياة. وكيف يقبل وهو العقلاني الصحيف هذا المنهج الذي يعيش الغرب سواء الغرب الليبرالى أم الماركسى في ذلك الخضم العفن الفاسد المتآكل من الشهوات والإباحيات والانحراف والتحلل والغربة بشهادة كتاب الغرب والشرق على السواء.
وكيف يغض وهو الأمين على الكلمة عن أزمة الحضارة وأزمة الإنسان الغربي. وقد قرأ عشرات من الكتابات آخرها ما كتبه "سلجوستين" ودمغ به حضارة لغرب التى يكبرها زكي نجيب محمود وحسين فوزي وتوفيق الحكيم. ويفخرون بها ويغوصون بأقلامهم في تلك الحمم من الدماء والعفن والفساد. وهم يقولون لا إله إلا الله على الأقل وراثة، ويرون كيف يقدم الإسلام ذلك المنهج النقى الطاهر الأخلاقي الكريم الذى يرفع من قدر الإنسان. وكيف يحق لأمة تحمل لواء القرآن "ألف مليون مسلم" أن تتخلى عن رسالتها في تبليغ كلمة الله الحق إلى العالمين وتنصهر في بوتقة الأممية والحضارة المنهارة التى تمر بآخر مراحلها.
وهل من الأمانة أن يدعو هؤلاء أمتهم إلى هذا وهم روادها، والرائد لا يكذب أهله ولا يغشها. إن مسئولية القلم وريادة الفكر هو أضخم المسئوليات عند الله تبارك وتعالى يوم الحساب. وقد كان أولى بهم جميعاً أن يصدقوا أمتهم النصح ويدعونها إلى أن تقميم حضارة الإسلام مجددة في إطار "لا إله إلا الله" والأخلاق والرحمة والإخاء الإنساني وأن يلتمسوا أسلوب العيش الإسلامي ليقدموا للبشرية نموذجاً جديداً نقيا تتطلع إليه النفوس والأرواح اليوم بعد أن عم الفساد البلاد الغربية كلها من جديد. ولن يكون غير الإسلام وسوف يدمغهم التاريخ بأنهم كانوا رواداً غير مؤتمنين على الأمانة. وسوف تكتب أسماؤهم في سجل الذين عجزوا عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينصحوا لأمتهم وهم الذين عاشوا حياة الغرب، وعرفوا فساد مناهجه وأساليب حياته، وعرفوا أن هذه الأمة الإسلامية الكريمة على الله أعز من أن تسحق في أتوان الشهوات وأن تدمر بأيدى أبنائها ودعاتها الذين تلمع أسماؤهم وتخدع الناس شهرتهم.
إن الدكتور زكي نجيب محمود قد أخطأ الطريق حين فهم التراث الإسلامى ذلك الفهم الذى جعله يكرم أمثال "ابن الراوندى" "ومزدك"، و"مانى"، و"الحلاج"، و"الباطنية"، و"الشعوبية" و"إخوان الصفا" وتلاميذهم.(51/31)
كذلك فهو مؤمن بمجموعة من المسلمات الخاطئة من عصارة مفاهيم الفكر البشري الوثني المادي فضلا عن أن إيمانه بالعلم والعقل وحدهما وهو في مفهوم الإسلام قصور شديد عن المفهوم الجامع.
وإني لأسأل الدكتور زكي نجيب محمود: هل يؤمن بالوحي؟ هذا هو مقطع المفصل بيننا وبينه. وإذا كان يؤمن به فلماذا لم يعلن فساد منهج كتابه "خرافة الميتافيزيقا" ولماذا لا يؤمن بهذا الوحى الذى جاء به القرآن شريعة ومنهج حياة؟
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود قد تراجع عن، خرافة الميتافيزيقا" وغيرها من آرائه. أليس من الشجاعة أن يعلن ذلك صراحة حتى يستطيع أن يكسب إلى صفه بعض الناس.
إن محاولة اقتعاد مكان طه حسين اليوم هو أمر مضيع. فقد انتهى ذلك العهد وصحا الناس وخطت حركة اليقظة الإسلامية خطوات واسعة فكشفت عن فساد تلك النظريات والأطروحات الزائفة التى قدمها الآباء العتاة الذين كانوا يستقبلون أبناءنا في الجامعات الأوربية وهم من اليهود أمثال مرجليوث ودور كايم غيره.
أما قول الدكتور زكي نجيب محمود أن الثقافة الإسلامية في العصر العباسى قد اغترفت ثقافات الدنيا بغير حساب فهو قول باطل. لقد وقفت الثقافة الإسلامية موقف التحليل والغربلة لكل ما ترجم، وأخذت منه ما وجدته صالحاً ومطاباق لمفهوم التوحيد الخالص. أما ما عدا ذلك فقد رفضته وشنت عليه حربا عنيفة، وأخرجت دعاته من طريق الفكر الإسلامى فأطلقت عليهم اسم "المشاؤون المسلمون" إعلانا لتبعيتعم المشائين اليونانيين، ولم تقبل منهم ما جاءوا به.
وأعلن المسلمون أن منهج اليونان أو منهج العنوصية الشرقية كلاهما باطل وأن للإسلام منهج خاص مستقل كما نفعل نحن اليوم إزاء ما يقدمه التغريبيون من فكر الشرق والغرب مما هو ليس مقبولا في الإسلام بحال.كذلك فإن نظرية زكي نجيب محمود بالتوفيق بين المترجم الوافد الغربي وبين المجدد من التراث الإسلامي "وهو ما يسميه بالعربي استنكاراً" هذه نظرية ليست متسحدثة بل هي نظرية طه حسين وهيكل والزيات وغيرهم. وهي نظرية اتضح بطلانها. أما ما تعارفت عليه اليقظة الإسلامية فهى أن يقوم أساس إسلامي أصيل من مفهوم الإسلام الجامع "بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع" وفي ضوئه يحاكم التراث كله والوافد كله، ولا يقبل إلا ما يزيد هذا المنهج قوة وعماً مع الاحتفاظ بأسلوب العيش الإسلامي "عقيدة وشريعة وأخلاقا" ودعوى زكى نجيب محمود بالمواءمة مرفوضة. فالمسلمون على استعداد التضحية بالتقدم المادي في سبيل الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي هي في حقيقتها ليست معوقة للتقدم المادي ولكنها حائلة دون فساد الحضارة الغربية وزيفها وانحلالها الذى يود هؤلاء القوم إغراق هذه الأمة فيه والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(13)
سارتر
وعبد الرحمن بدوى
جرى التساؤل في الندوة حول نظرية الوجودية بعد أن هلك سارتر وما هي الآثار التي تركتها على جبين الأدب العربي والفكر الإسلامي؟
والواقع أن نظرية الوجودية قد نفقت قبل هلك سارتر بوقت طويل وإن حاول هذا الشقي أن يمد من عمرها بانتمائه في السنوات الأخيرة إلى الشيوعية واحتضانه لقضايا الصهيونية إذ هو نصف يهودي كما كان يطلق عليه عباس العقاد لأن أمه يهودية. وقد خدع بعض البلهاء من المصريين حتى أعدوا له زيارة ليحصلوا منه على تصريح يخدم القضية الفلسطينية بعد أن نقلوه إلى خيام اللاجئين في غزة . فما أن غادرها حتى كشف عن هويته الصهيونية اليهودية وأعطى الماركسيين الذين احتفلوا به درساً كشف عن عمالتهم هم، ومكره هو والذين رافقوه ومع هذه اللطمة القاسية فإن كتاباً مصريين وعرباً ما زالوا يذكرون سارتر ويتحدثون عنه ويشيدون بمذهبه وبما يسمونه الوجودية العربية التى قادها عبدالرحمن بدوى وكان لها على فترة طويلة أعواناً.
وكات كتب سارتر تظهر في باريس بالفرنسية وفي بيروت بالعربية في وقت واحد. وربما ندم بعض الكتاب عن تبعيتهم لسارتر، وأحسوا أنهم أخطأوا الطريق بعد أن قرأوا ما كتبه "جاك بيرك" مثلا حين قال:
"إن سارتر عقل كبير ولكنه مع الأسف يفتقر إلى الذكاء السياسى وليس من الضروري أن يكون العقل الكبير عقلا سياسيا ولكن المشكلة عند سارتر أنه يريد أن يكون سياسياً فيما يجابه من التيارات اليسارية ومنها الشيوعية بنوع من العقد النفسية .. ومن المؤسف أن سارتر الذى يبقى معظم فلسفته على فهم الآخر لا يفهم الآخر ولا يحس به . لم يستطيع سارتر أن يتغلب على ما أحيط به من الدعاية والتضليل الصهيوني. فاعتبر إسرائيل "صيحة" وقلب القصة فاعتبر إسرائيل "مدعى عليها" وقد بلغت الدعاية الصهيونية به أن يقلب الحقيقة التاريخية في أوربا كلها . إنهم ينفون أن يكون الوجود الصهيوني استعماراً.
ويردد كثير من أنصار سارتر فشل سارتر وكيف تبخرت مفاهيمه التى ضللت الشباب العربي ردحا من الزمن، وكيف انقشع بريق اسمه فظهرت الوجودية فلسفة للفوضى والانحلال، وكيف هوجمت فلسفة سارتر من كلتا النزعتين الرأسمالية والشيوعية ورفضوا مفهومه عن الحرية ووصفوها بأنها حرية فوضوية ومن ثم حاول سارتر أن يتقرب إلى الشيوعيين وتراجع عن كثير من آرائه السابقة.(51/32)
وفي مصر تقدم عبدالرحمن بدوى برسالة دكتوراه عن "الزمان الوجودي" ورأس الحفل الدكتور طه حسين واشترك مع المستشرق بول كراوس وأعلن طه حسين أن عبد الرحمن بدوى أول فيلسوف وجودي مصري، وقد قدم بدوي الفكر الوجودي وترجم كل المصطلحات الوجودية الشاقة وترجم كتاب سارتر الضخم: "الوجود والعدم".
ولم يلبث عبد الرحمن بدوى أن اختفى وطوته الموجة التى تطوى كل المذاهب الضالة والمنحرفة، وكشف الفكر الإسلامي عن آصالته في أنه يرفض كل ما ليس متصلا بقيمه الأساسية مهما بدأ يوماً وله بريق أخاذ.
لقد كان فلسفة سارتر شؤماً عليه. فقد أضفت عليه ظلال مظلما ما زال يلاحقه.
وقدكان عبد الرحمن بدوي قبل سارتر تابعاً للفلسفات الباطنية والمحسوية يحييها ويرد إليها الروح، ويقدم شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام ويشيد بأمثال الرواندي والحلاج وغيرهما من الزنادقة. وإلى جانب ذلك فقد قدم في الفلسفة الإسلامية الجانب الصوفي المتصل بوحدة الوجود والحلول وأشاد بالسهروردي وابن عربي وابن سبعين: تلك الشخصيات الضالة التى عمل استاذه الأول ماسينون" على إحيائها. وكان طه حسين هو صاحب الدعوة إليها في الأدب العربي منذ أعادة انبعاث "إخوان الصفا" وكما سقط الفكر الباطني سقط الفكر الوجودي وانهارت تلك الصروح على رؤس أصحابها {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أمن أسس بنيائه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}.
وإذا كان الأدب الغربي قد عرف وجودية كيركجارد، وكامي، وسارتر، فإن ذلك كله مستمد من أصول أصيلة فيه تقوم على فكرة الخطيئة المسيحية، أما في الفكر الإسلامي فإن محاولة زكي نجيب محمود عن المنطق الوضعي وفؤاد زكريا عن الفلسفة الماركسية وعبدالرحمن بدوي عن الفلسفة الوجودية هي محاولات ضالة باطلة سرعان ما لفظها الفكر الإسلامي صاحب الصرح الشامخ القائم على فكرة التوحيد الخالص والإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
وقد ذابت محاولات إحياء الفلسفة الصوفية التى قام بها "ماسنون" أربعين عاماً بإحياء الحلاج لأن المسلمين عرفوا طريقهم إلى التوحيد الخالص . فقد اسقطت حركة اليقظة محاولات إحياء الفلسفة، والتصوف الفلسفي، والكلام ، والاعتزال، وجعلته ركاماً حين أحيت "المنهج القرآني" الأصيل حيث بدت كل محاولات الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين وكأنها مقدمات موقوفة انطوت صفحتها حين برز نور المفهوم القرآني: مفهوم أهل السنة والجماعة على نفس النسق الذى واجه المشائين القدامي أمثال ابن سينا والفارابي. وقد تكشفت نزعتهما إلى الباطنية الإسماعيلية في الأخير بعد أن خدع بهما الكثيرون، وحين يتنادى باسمه اليوم بعض غلمان المستشرقين فإن الأمر لا يخدع أحداً ذلك أن الحقائق التى تكشفت قد ردت كبار الكتاب عما خدعهم به البريق الخاطف.
يقول أنيس منصور:
"من الضروري أن نفلت من جاذبية شخص كبير لتجد نفس ومعك حريتك. لقد وقعنا في غلطة حين تأثرنا بأستاذنا عبد الرحمن بدوى ذلك أن كثيراً مما رآه رؤيته هو والذي وجده شاتا كان مشكلته هو والذي أحبه كان مزاجه هو ولكن في السنوات الأخيرة عاودت قراءة الفلسفة من ينابيعها التى أفزعنا منها عبد الرحمن بدوى فلم أجدها كذلك.
وهكذا تبين أن هذه الهالة كانت باطلة، بل إن أنيس منصور يبشرنا بأن سارتر عندما مات قال على فراش الموت: لا شئ ، كل شئ عدم.
ويستطرد أنيس منصور قائلا: سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد كانت آخر كلماته لا شئ. أي لا فائدة من أي شئ. فهى يرى أن الوجود والعدم لهما نفس القوة ولهما نفس المعنى. فهي كالليل والنهار لا ينفصلان، ولا تعرف على أي شئ أجاب سارتر لآخر مرة بكلمة لا شئ، ولا فائدة، لا معنى، لا هدف، كل شئ عدم، أو كل وجود عدم، أو كل موجود معدوم.
* * *
وهكذا يندم أنيس منصور على أنه تابع هذا الفكر الضال أكثر من عشرين عاماً من عمره قضاها في تحسين هذا الفكر وزخرفته وتقديمه إلى الشباب في عشرات من الكتب التى طبع منها مئات الألوف لتخدعهم عن الحقيقة ولتزيف لهم الواقع ولتردهم عن الفم الأصيل. عندما كتب مقالاته عن رحلته إلى الأراضى المقدسة، وكان عليه أن يعلن انسحابه من كل هذه المفاهيم والعقائد، وأن يصحح موقفه أمام قرائه خلال هذه السنوات الطويلة. واليوم يصف فلسفة الوجودية بأنها فلسفة المقابر، لأن سارتر تحدث عن الموت والدمار والخراب، والوحدة والقلق والفزع، والخوف والغثيان والعدم، والتقت كل هذه المعاني السوداء في قلمه وفي خياله. هناك وجودية ملحدة عند سارتر وكامي وهيدجر واسبرز وأونامونو. ووجودية مؤمنة عند جابريل مارسيل، وبرديالف، وجاك مارتيان.
وكان حقا على أنيس منصور أن يقرأ الفكر الإسلامي الأصيل ويعرف زيف الوجودية جملة بمفهوم الانطلاق من الضوابط والحدود والقيم التى رسمها الدين الحق، وأن يعلم أن نظرية الوجودية كما جاء بها سارتر إنما كنت تمثل تحدياً خاصاً مر بالشعب الفرنسي بعد سقوطه في قبضة ألمانيا إبان الحرب. هذا السقوط الذى كشف كما قال زعيمه "بيتان" عن انهياره الأخلاقي العاصف.(51/33)
ولما كانت الصهيونية العالمية هي التى صنعت هذا بالثورة الفرنسية فإنها قدمت سارتر على جميع أجهزة الإعلام والدعاية لتفتح صفحة أشد عنفاً من الانهيار الخلقى والاجتماعي. تلك التى صنعتها فلسفة سارتر بظهور جماعات الوجوديين الذين تشكلوا في الغرف المظلمة والحوارى الضيقة وتحت أسطح العمارات ليمارسوا أسوأ صور الجنس ويعلنوا احتقارهم للمجتمع. ومنهم نشأت بذرة "الهيبية" التى تعم الآن العالم كله.
ولقد كان أخطر ما في الدعوة الوجودية إنكار الله تبارك وتعالى والسخرية بالأديان واعتبار الإيمان بالله عائقا كبيراً عن حرية الإنسان وأن أثر التعاليم الربانية على الإنسان جد خطير لأنه يضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات. فالوجودي لا يؤمن بوجود الله "تبارك وتعالى" ولا يؤمن بنظام خلقى يسود على الإنسانية. الإنسان عندهم حر ومسئول أمام نفسه فحسب . لا أمام الله. وهكذا تجد سارتر يدعو إلى الحرية المطلقة من كل قيد!!
ولقد جاء سارتر إلى مصر ترافقه سيمون دي بوفوار، التى قالت لنساء مصر في صراحة تامة: نحن نريد أن نحطم "قوامة" الرجل ودعت إلى حياة زوجية محررة من "العقد الشرعي" كحياتها هي مع سارتر، ولقد كشفت إحدى المرافقات لسارتر خلال رحلته إلى مصر في الفترة الأخيرة خفايا كثيرة في الزيارة اللعينة. فأشارت إلى أن
"رفيق" سارتر وسيمون كان رجلا يهودياً "كلود لانزمان"، وهو الذى وجه الزيارة على النحو الذى أرادته الصهيونية. وقد أشارت إلى أن كتاب اليسار استقبلوا سارتر بتقدير بالغ كان موضع دهشته هو أساساً. وذلك مثلا حين كتب أحد الشيوعيين مقالا عنوانه "سارتر ضمير العصر" وكان سارتر يتساءل بعدها "أنا ضمير العصر كله؟!
أنا لست حتى ضمير نفسى" ثم يطلب ضاحكا من لاتومان أن يتحمل عنه بعض هذه الألقاب.
وتقول الكاتبة :" لقد سمع ورأى. ولكنه لم يتأثر فيه أنمله بما سمع ورأى.
"ولقد كان استقبالنا لسارتر أشبه بمظاهرة. وكان كلامنا معه أشبه بالصدى في وادى مهجور. إلا أن الصهيونية كانت أذكى منا وأكثر دقة في قيادته إلى أهدافها. فقد دست "كلود لانزمان" بفكره الصهيوني المغلف بطبقة مزيفة من الفكر التقدمي التضليل. دسته على سيمون في وقت كان فيه سارتر يتأرجح بين وجوديته والشيوعية فاستطاعت سيمون بتأثير من "لانزمان" أن تسوق سارتر إلى أن يخرج عن قاعدته ويسير وراءها منوما أو كالمنوم. فانبهر بما قدم إليه فترة. قبل أن يعود إلى قواعده سالماً. وقد رأينا كيف كان لانزمان يقف في الظل وراء سارتر في كل زياراته ليسمعه صوت "هرتزل" واضحا مجلجلا وهو يهمس به إليه.
كان هذا في مارس 1967 وفي نوفمبر من نفس العام اكتملت الصورة. فقد منحت إسرائيل شهادة الدكتوراة الفخرية لسارتر في سفارة إسرائيل بباريس بحضور عدد من المثقفين الفرنسيين على رأسهم سيمون وفرانسواز جيرو وزيرة الثقافة الفرنسية، وأذاع التلفزيزن الفرنسى كلمة سارتر التى قال فيها:
"إن قبولي لهذه الدرجة العلمية التي اتشرف بها له مدلول سياسي في القبول يعبر عن الصداقة التى أحملها لإسرائيل منذ نشأتها.
هذا سارتر الذي كتب "المسألة اليهودية" وهو الذي زار إسرائيل وأشاد بها، وهو الذي شارك في المظاهرات، ووقع البيانات المويدة لإسرائيل. وقد قبل سارتر الدكتوراة الفخرية منالجامعة العبرية بينما رفض من قبل كل الجوائز التى أهديت له بما فيها جائزة نوبل.
وكان سارتر قد قام بزيارته لإسرائيل قبل حرب 1967 ببضعة شهور. وما لبثت نذر الحرب بعد عودته إلى فرنسا أن بدت في الأفق في مايو 1967 فسارع سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين الآخرين إلى إصدار بيان في تأييد إسرائيل التي سيدمرها العرب. ولكن إسرائيل بدأت بالهجوم، واحتلت من الأرض ، وقتلت من العرب ودمرت. فلم يراجع سارتر نفسه، ولم يعدل موقفه إلا بعد أن اشتعل النضال الفلسطيني بعد الهزيمة، وامتدت نيرانه إلى بعض العواصم الأوربية.
وبعد فلقد سقط فكر سارتر قبل أن يذهب لأن دعوته هي نوع من هوى النفس. وهي مواجهة لتحد عاشه في عصره. ولكن الزمن يتحول ، والفكرة التي تكون اليوم استجابة لوضع معين .. فإنها سرعان ما تسقط مع تحولات الزمن والبيئات. ولذلك فغن الوجودية لم تستطع أن تكون مذهباً قائماً أو مستمراً . وهكذا كل الأيدلوجيات البشرية التى صنعها الفلاسفة. وظنوا أنهم قد استطاعوا حل مشاكل عصرهم. ذلك أن هناك منهجاً واحداً: هو الذى يستطيع أن يحل مشاكل الإنسان في كل العصور والبيئات. ذالك هو منهج الله الحق "لا إله إلا الله".
(14)
لويس عوض
*توفيق الحكيم يرى عزل مصر عن البلاد العربية وتحويلها إلى فندق سياحي عالمي للوافدين العرب تقدم لهم كرم الضيافة من المتعة والراحة.
*لويس عوض يحاول تحطيم دور مصر الرائد في مواجهة الفكر العربي وموقفها التاريخي من الإعصار التتري والحروب الصليبية.
*كراهيتهم الإسلام ثابتة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكن بتدو في التصرفات وطريقة معالجة القضايا والمشاكل.(51/34)
*طه حسين يقول في تمجيد الفرعونية وإعلاء شأنها على الإسلام: إذا كان الإسلام سيقف حجر عثرة في طريق مصريتنا الفرعونية لنبذناه.
*كان الإسلام وما يزال روح المجتمعات الدولية ومهد الحضارات الإنسانية ووقود الحركات الوطنية والتحررية.
*لا غرو فالإسلام هو الذى صنع الشخصية المصرية منذ أربع عشر قرناً والإسلام اعتنقه المسلمون ديناً واعتنقه غير المسلمون حضارة وثقافة وعادات.
دارت التساؤلات حول يوميات كتاب الصحف اليومية وما أثاره لويس عوض وتوفيق الحكيم والسيد ياسين من وجوه النظر حول علاقة مصر بالتاريخ الغربي والإٍسلامي، وبالدولة العثمانية والغرب، ومحاولة تصوير مصر على أنها شخصية فرعونية غارقة في الوثنية أو منحازة إلى الغرب. وتتجاهل هذه الدراسات أن الإسلام هو الذي صنع الشخصية المصرية منذ أربعة عشر قرناً وأن التاريخ وعلماء التاريخ قد أعلنوا بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح .. سواء منهم الغربيون أو العرب، أنه قدحدث انقطاع حضاري جب كل ما كان قبل دخول مصر في الإٍسلام، وأن تاريخاً ضخماً طويلا استمر أكثر من ألف سنة من تاريخ اليونان والرومان في هذه المنطقة من الشام إلى مصر إلى أفريقيا كل هذا التاريخ بقرائه ولغاته ومفاهيمه وقيمه قد أصبح في خبر كان بعد دخول الإٍسلام بقرن واحد فقد اعتنقت المنطقة كلها الإٍسلام .. اعتنقه المسلمون دينا واعتنقه غير المسلمين حضارة وثقافة وعادات". وقد أشار كرومر إلى هذا المعنى حين قال: إن المسلمين والمسيحيين يضدرون عن أخلاقي واجتماعي واحد مع طول التأثر.
ولكن إخواننا ينسون هذه الحقيقة الواضحة ويناقشون الشخصية المصرية على أنها منعزلة لم يصنعها القرآن أو الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو اللغة العربية، وينسون أن المنطقة كلها هجرت لغاتها القديمة بعد قرنين من دخول الإسلام إليها، كذلك فقد كان الإسلام ولا يزال روح المجتمعات وشارة الحضارة ووقود الحركات الوطنية والتحريرية، ولقد كان الدعوات إلى الإقليمية والقوميات واحدة الفكرة والمنهج .. ولذلك سرعان ما عجزت عن تحقيق أشواق النفس العربية الإٍسلامية. وستظل هذا الظاهرة الإسلامية الفكرية والاجتماعية أساساً مكيناً وحصناً حصيناً للشخصية المصرية ما عاشت .. لأنها عميقة الجذور من ناحية ولأنها منصهرة فيها انصهاراً عضوياً يعجز خصوم الإسلام عن القضاء عليه.
إن الدكتور لويس عوض لا يستطيع أن يخرج عن التفسير الفرعوني الوثني الذى سار عليه كل كتاباته وعرف به ومن ثم فقد أصبح في تقدير الباحثين غير منصف ولا راغب في معرفة الحقيقة الخالصة لوجه الحق وحده.
ولقد جاءت تساؤلات عن محاولات توفيق الحكيم في تحييد مصر عن البلاد العربية وعزلها، والدعوة إلى جعلها فندقاً عالمياً سياحياً يقدم للوافدين من كل مكان المتعة والترفيه، وكان في ذلك مشاركاً للدكتور لويس عوض في تحطيم دور مصر العالمي الذى عاشت تقوم به في مواجهة التيارات الغازية والغزوات الطامعة التى واجهت عالم الإسلام، وكان لها دورها الخطير في رد هذه الغزوات وحماية عالم الإسلام وحماية الغرب نفسه كما حدث في الإعصار التتري وفي الحرب الصليبية وفي الاستعمار الغربي الحديث، وسوف يكون لها دورها الخطير في دفع الغزوة الصهيونية ووقاية المسلمين والعرب منها..
ولا ريب أن دعوة توفيق الحكيم تصدر عن مفهوم بعيد أشد البعد عن الانتماء العربي الإسلامي .. ولقد كان توفيق الحكيم طوال حياته يفخر بذلك معليا شأو العنصرية في حديثه عن مصر، كارهاً لطابع مصر العربي الإسلامي .. وبالرغم من أن الدكتور طه حسين أعلى من شأن الفرعونية على الإسلام حتى قال قولته المشهورة: "إذا كان الإٍسلام يقف حجر عثرة أمام مصريتنا وفرعونيتنا لنبذناه" بالرغم من هذا فإن الدكتور طه حسين يرى أن رأي توفيق الحكيم في العرب أشد تحاملا وتعصبا من رأي كثيرين من متعصبة المستشرقين أمثال رينان ودوزى. ولعل التقارب في الرأي بين توفيق الحكيم ولويس عوض يرجع إلى مصادر الثقافة الغربية الواحدة التى تأثر بها كلاهما في فترة كانت البعثات الأجنبية سواء إلى فرنسا أو إلى انجلترا تستهدف سحق مقومات هذه الأمة وإلقائها في أتون الإقليمية فهي كراهية مشتركة للعروبة والإسلام، وهو ممتدة إلى اللغة العربية وإلى القرآن وهي مبثوثة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكنها تبدو في التصوف وفي تناول القضايا.(51/35)
وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد لخص تفسير القرطبي وظن بعض الذين يأخذون بظواهر الأمور أنه في الطريق للتعرف إلى الإسلام إلا أنه لم يلبث أن كشف عن تلك المحاولة المسمومة التى ترددها طائفة معروفة الآن باسم طائفة الخادعين المسلمين بالحديث عن الشريعة الإسلامية وذلك حين ردد ما كان يقوله منذ سنوات عن تطوير الشريعة الإسلامية وهي دعوة يحمل لواءها من وقت بعيد: محمد النويهي وعبد الحميد متولى ومحمد أحمد خلف الله وآخرون بهدف تذليل الشريعة لتبرير أوضاع المجتمعات الحديثة وفي مقدمتها الربا وعلاقات المرأة والرجل خارج نطاق الزواج، واحتواء الشريعة الإسلامية ونصوصها في داخل القانون الوضعى على النحو المسموم الذى دعا إليه عبدالرازق السنهوري منذ سنوات وهي دعوى ممتدة يغذيها النفوذ الأجنبي ليحول بها دون تطبيق المجتمعات الإسلامية للشريعة الإسلامية أو عدوتها إلى طريق الأصالة، ومن أهم هذه المحاولات المسمومة: القول بتغير الأحكام مع تغير الزمان " وهو قول محدود جداً يتصل بالفرعيات ويعتمد في ذلك على نص للشيخ محمد عبده الذي يعتمد عليه الماركسيون وأعداء الشريعة لا يمثل الإمام المجتهد ولا المتخصص في هذا الأمر، وإنما هي اجتهادات كان لها وضع وظروفها في وقت كانت الشريعة الإسلامية تضرب بالسياط على أيدى كروم في مصر وليوق في المغرب وهي لا تمثل اجتهاداً يمكن الأخذ به ، كذلك الخطأ الذى وقع فيه على عبد الرازق حين أراد أن يصف الإسلام بأنه دين روحاني ويلغى نظامه الاجتماعي إلغاء تاماً وتلقف بعض المستشرقين هذه النصوص الزائفة التى لم يعتمد فيه على كتاب أو سنة لضرب الإسلام. كذلك هناك ما يثار من شبهة الشبهات والتغيير ومحاولة وضع العقيدة في مكان الثبات والشريعة في مكان المتغير وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه. وأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت خالصة ثابتة صالحة لكل العصور والبيئات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد دحض الدكتور عبد المنعم النمر شبه توفيق الحكيم هذه التى ما زال يرددها منذ سنوات حين قال له : كان الحكيم يريد أن يجعل كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الإنسان خاضعا للتغيير بتغير المجتمع وراثة، ومن هنا تهب ريح الخطأ في التفكير، بل والخطر أيضا على شريعة الله إذ معنى ذلك ومؤداه لو قبلناه أن لنا أن نبيح الزنا والخمر والرقص متى قبل المجتمع ذلك ونتحلل من عقوبات السرقة والحرابة والزنا ومن كل شئ حرمه الله ورسوله لو قبل المجتمع ذلك !! وهذا اتجاه خطير يهدم الشريعة ويزلزل كيانها لأنه يجعلها تابعة وخاضعة لهو الناس وما يتجهون إليه في حياتهم في أي مكان وفي أي عصر والله تبارك وتعالى يقول لرسوله:{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تبع أهواء الذين لا يعلمون}.
ونقول أن الجماعة ينتدبون أحدهم فترة بعد فترة ليثير القضية ثم ينظرون ثمة ليعود آخر إلى إثارتها وكل همهم أن يخرج المجتمع الإٍسلامي العربي والمصري من شريعة الله إلى قبول الربا والرشوة والتساهل في أمر العرض واستعراض المرأة لمفاتن جسدها ومراقصة الأجانب. وهكذا.
الحقيقة أن قضية المرأة تأتي في المقام الأول من عملية تحطيم المجتمع، وهي تهدف إلى تدمير الأسرة وتعاون على ذلك قوى كثيرة منها القصة والمسرحية والأغنية والصورة العاربة وبعض كتاب اليوميات الذين يزينون التيارات التى تهدم المجتمع ممثلة في بعض الروايات الجنسية والكرة والرقص.
وتجرى الصحف لاهثة وراء تفاهات يسمونها نصراً للمرأة سواء في مجال الرقص أو الغناء أو قيادة السيارات وكلها أمور لا أهمية لها تستهدف إخراج المرأة من مكانها الحق ووضعها الصحيح. وتلك مجموعة أخرى من الكتاب لها صلاتها بالروتاري والليونز ومخططات الهدم والتدمير.
سجلت صفحات الدكتور لويس عوض أحقاداً وسموماً بالغة الخطر عمقة الأثر:
(أولا) من أخطرها حملته على اللغة العربية الفصحى ودعاواه الكاذبة في مواجهتها كراهية الإسلام والقرآن، وقد كان من أخطرها كتابه "مدخل إلى فقه اللغة العربية" التى حاول فيه الادعاء بأن العرب جاءت من القوقاز، وأن اللغة العربية لغة آرية ليس لها أي تميز خاص وقد خاض في شبهات حول الإعجاز القرآني وغير على نحو مضلل.
(ثانيا) موقفه من الشعر العربي وهجومه على الأصالة واحتضانه لشعراء التفعيلة من أمثال: صلاح عبد الصبور وأدونيس والسياب وغيرهم ودعوته إلى تحطيم عامود الشعر وكسر بلاغة اللغة العربية وهي دعوى قديمة ما زال يرددها ويجددها.
(ثالثا) موقفه المتعددة من التراث الإسلامي والفكر الإسلامي وهي مواقف توحى بالشبهة في سلامة البحث وعلميته، والالتجاء إلى أفكار المستشرقين ومتابعتهم وكراهية أمة العرب والإسلام، والتى تكشف عن أحقاد دفينة.
وقد واجهه كثير من المفكرين وكشفوا زيفه، وفي مقدمتهم الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أسمار وأباطيل".
محتوى الكتاب
الموضوع الصفحة
1- لطفي السيد
2- سعد زغلول
3- قاسم أمين
4- طه حسين
5- سلامة موسى
6- على عبد الرازق
7- ساطع الحصرى
8- محمد التابعي
9-10- مدحت وأتاتورك.
11- غاندي
12- زكي نجيب محمود
13- سارتر وعبدالرحمن بدوى(51/36)
14- لويس عوض
===================(51/37)
(51/37)
الرد على عبد الهادي الباني وشيخه أمين شيخو
وفي فتاوى الزحيلي :
أنا وبعض الإخوة من تلامذة أحد تلاميذ الشيخ عبد الهادي الباني وقد سمعنا الكثير عن أن عقيدة شيخنا فاسدة وأنه معتزلي. وقد بدأت بعض أقوال الأستاذ تثير شكوكنا كالقضاء والقدر وتصنيف المنتمين إلى دين الإسلام لتصنيفات أنت على علم أكيد بها. فهل نبقى مستمرين عند هذا الأستاذ أم ننقطع عنه؟ مع العلم بأننا نشعر بتحسن على يديه وخاصة من الجانب الروحي؟
إذا ثبت صحة ما تنقلون عن هذا الشيخ فاعتزلوه أثابكم الله ونفعكم بعلوم المعتدلين الثقات من هذه الأمة ، أما الفائدة الروحانية فاقتصروا عليها أو خذوها عن غيره.
--------------
الرد الشرعي على محمد أمين شيخو وتابعه عبد الهادي الباني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي نَزّل كتابًا عربيًّا غير ذي عوج يهدي للتي هي أقوم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين من أكرمه ربه بالحكمة وجعل قوله فصلاً لا يتبع فيه الهوى.
أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياة الدين ولولا ذلك لقال من شاء ما شاء ولم يكن لأهل الفساد رادع ولا لأهل الضلال قامع.
وقد ذمّ ربنا تبارك وتعالى إهمال القيام بهذا الواجب فقال عزَّ وجلَّ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة/79،78] وذمّ الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يقم بهذا الفرض فقال فيما رواه ابن حبان في صحيحه: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليهم ولا يغيّروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا".
ولذلك أنكر سيدنا عليٌّ وابن عباس وابن عمر وشُعبة وسفيان وأبو حنيفة والشافعيّ ومالك وأحمد وابن المبارك وغيرهم على أهل الضلال ورَدُّوا على أهل البدع غير متوانين ولا متهاونين فإن هذا الأمر إذا تُرك تخلو الساحة لأهل الفساد فيحاولون نقض عرى الدين عروة عروة.
ومحمد أمين شيخو رجل كردي الأصل كان من الشرطة ـ أي الجندرمة ـ أخذ يومًا الطريقة النقشبندية من أحد المشايخ فنقله وهمه من حال إلى حال وظن أنه بمجرد ذلك صار إمام العصر وعلامة الأوان الذي لا يحتاج إلى دراسة كتب العلم ولا يرضيه شافعيٌّ ولا حنفيٌّ ولا مالكيٌّ ولا حنبليٌّ فصدرت منه دعوات لإحياء دين الباطنية وهدم دين الإسلام. وكان لا يجرؤ على إعلان دعوته ومذهبه فكان يدرّس من يخدعهم في بيته ولا يجرؤ على إظهار عَوارِ مذهبه في المساجد والمنتديات، لكن تهاونُ علماء دمشق في التحذير منه في حياته ومن خلفائه وأتباعه بعد موته سمح لفتنته بالتوسع ولمريديه بالجهر بأفكاره بل طبعوا كتبه مؤخرًا وقاموا بنشرها فظهر فيها ما كان خافيًا من فضائحه وانكشف الغطاء تمامًا عن حقيقة دعوته ومقدار خطرها على الدين والأمة وعرفنا بوضوح سبب مثابرة شيخنا على التحذير من محمد أمين شيخو على مرّ السنين فكان لا بد من الانتهاض لدفع هذا الشر وقمع هذه الفتنة ولذلك جمع بعض تلاميذ الشيخ عبد الله الهرري بإشارته ردًّا على ما قاله محمد أمين شيخو وتلميذه عبد الهادي الباني يتضمن نقضًا إجماليًّا وتفصيليًّا لشذوذاتهما.
ولا تظن أيها القارئ أننا سنورد كل مقالات محمد أمين شيخو المخالفة لعقيدة الإسلام فإن ذلك كثير جدًّا يخرج بالرد إلى حد التطويل البالغ إذ لا تكاد تخلو صحيفة من كتبه من ضلالة أو أكثر لكننا سنختار ذكر بعضٍ منها يدلّك على حاله كما يدل عنوان الكتاب على ما في طيّه مع رد إجماليّ عليه ورد تفصيلي في مسئلة المشيئة والقدر ليهتدي بهذا الرد من أراد أن يسلك طريق الأنبياء عليهم السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من الضلال وأهله: سميناه "الرد الشرعي على محمد أمين شيخو وتابعه عبد الهادي الباني". وعلى الله اعتمادنا وإليه تفويضنا واستنادنا.
مقدمة فيها بيان نشأة محمد أمين شيخو ومشربه مع ردّ إجماليّ عليه
محمد أمين شيخو رجل نشأ جاهلاً، ودونك سيرته التي سجلها له تلميذه عبد القادر الديراني نقلاً عن شيخه يتضح لك منها جليًّا أنه لم يقصد العلماء ليتعلم منهم ولا قعد في حلقهم ليدرس في كتبهم وإنما هو نشأ بعيدًا عن التعلم لا يعرف أصول العقيدة ولا أصول الفقه ولا فروعه ولا التفسير ولا الحديث ولا اللغة ولا النحو ولا الصرف، مولعًا بالزعامة منذ صغره فهو يلف حوله صبيان الحيّ ليتزعمهم (انظر سيرته ص/25 وص/40 وص/55) ويحلم بأن يصير ضابط شرطة ينقاد الناس لأوامره (السيرة ص/27) وقد سعى خلف الزعامة والظهور الدنيوي سعيًا حثيثًا فارتكب ما يعتقده حرامًا ليكتسب رضا رؤسائه كلعب "الشَّدَّة" مع النساء الأجنبيات ليكون التقرير المرفوع إلى رؤسائه مدحًا وثناء في حقه (السيرة ص/115) وادعى النسب الشريف من غير إثبات واحد على ذلك (السيرة ص/7)
وقد حاول أن يبرر هذه الأعمال بأعذار لا تقوم لها قائمة عند النظر والتدقيق كزعمه أن المرأتين اللتين لعب معهما الشدة كانتا أختي جمال باشا حاكم بلاد الشام وقتذاك وبنتها وكان يحرسهما في إحدى رحلاتهما فعشقته البنت وتبعته إلى مخدعه وحاولت إغواءه وكان هو لا يكلمها ولا ينظر إليها فخاف من نتيجة ذلك فلعب معهما بالشَّدَّة ووعد الأم بأنه سيتزوج ابنتها (كذا!!) ثم بعد وصولهما إلى اسطنبول وتقديم تقرير الرحلة رجع عن كلامه اهـ.
قلت: انظر رحمك الله إلى هذه الأكذوبة التي لا يصدقها حتى الأطفال الصغار وقل لي من يفعل هذا هل يدفع عن نفسه الضرر بذلك أم يجلب لنفسه زيادة عداوة من قبل الطبقة الحاكمة ويقوي داعي الانتقام في صدورهم وقد كانوا بزعمه قادرين على ذلك بسهولة. والأنكى من ذلك أن أتباعه يفرحون بهذه القصة بل ويقارنون بين قصته هذه وقصة سيدنا يوسف ويجعلون ما فعله من الاحتيال والإخلاف بالوعد والمعصية
مشابهًا لما فعله سيدنا يوسف من الاستعصام بالتقوى والصراحة في رفض المعصية والقوة في التوكل على الخالق القهار، بل ويجعلون قول الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [سورة يوسف/3] عنوانًا للفصل الذي يوردون فيه هذه القصة! فإنا لله وإنّا إليه راجعون.
هذا إن كان يومًا حرس هاتين المرأتين أو خدمهما وإلا فما يسبق إلى الذهن عند الاستماع إلى قصته هذه أنه رأى بنت أخت جمال باشا يومًا فوقعت بقلبه وتعلق بها خياله وتمنى أن يرتبط بها بوسيلة من الوسائل لكن أنّى لمثله ذلك لا سيما وهي تركية من أهل الحكم وهو كرديّ من العامة.
سرد بعض سخافاته
وما ذُكر إن هو إلا نموذج واحد لقصصه وادعاءاته التي لا يُشَمُّ منها إلا حب الظهور وفرط الغرام في الرئاسة وادعاء الأهمية والرفعة فاستمع إليه يدّعي بلا خجل أنه أسَر وحدَه بمعاونة شرطيّ واحد سبعين مجرمًا مسلحين من أعتى المجرمين كانوا في اجتماع لهم (السيرة ص/127) وأنه تقابل ليلاً مع ضَبُعٍ كالحمار في الكبر فصرخ في وجه الضبع قائلاً "ورصاص" فربض الضبع على الأرض ساكنًا وقعد هو يدخن سيجارته مقابله وكلما حاول الضبع النهوض صرخ به فقعد ثانية وهكذا ساعات إلى طلوع الفجر حين وضحت الرؤية فأطلق عليه الرصاص فقتله (كذا) (السيرة ص/89) وأنه في صغره اتخذ كلبًا له كالحصان يسرجه ويسابق به الخيل راكبًا عليه فيسبقها (السيرة ص 34-35)!!! وأن أخاه سليمًا هو الذي أوقف زحف الجيش اليوناني إلى اسطنبول عقب الحرب العامة الأولى (السيرة ص 258)!!! وأن محمدًا تفوق في الرماية على رامي الجيش الألماني كله وتعلم أسلوبه وأتقنه في لحظة (السيرة ص 102) !!! وهو الذي بسط الأمن في ربوع دمشق بل وكل سوريا (السيرة ص 14) وأنه هو الذي منع تنفيذ حكم الإعدام بأربعة ءالاف جندي عثماني وأبطل القانون الذي كان سيعدم به نحو أربعين أو خمسين ألف جندي ءاخر (السيرة 171 وما بعدها) أي نصف الجيش في ذلك الوقت!
وأنه هو الذي سلم قلعة عنجر بما فيها من سلاح للثوار (السيرة 375 وما بعدها)! وأنه هو الذي بسط الأمن في جبل الشيخ ومحيطه وقمع فساد الدروز والنصارى حتى استتب الأمن ونشطت الزراعة وغرقت أسواق دمشق بالمنتجات الزراعية والرخاء بسبب ذلك (السيرة 405) وأنه هو الذي واجه جمال باشا والي الشام كلها في ذلك الوقت فلما أراد نفيه من سوريا تجمع الضباط الأتراك كلهم وقدموا استقالاتهم تضامنًا معه (كذا) (السيرة 110) وغير ذلك من أعمال مجيدة بزعمه لا تجدها أيها القارئ مسطورة في كتاب ولم يشر إليها مع أهميتها وخطرها مؤرخ لا سوري ولا فرنسي ولا غير ذلك ولا تسمع عنها من أحد ممن عاصروا تلك الفترة إلا من أتباع محمد أمين شيخو نقلاً عما سمعوه منه فقط من غير أن يذكر اسمًا لمكان أو اسمًا لشخص يُستطاع بواسطته السؤال للتأكد من صحة قصة واحدة من هذه القصص وكل ذلك بخطط وترتيبات ضعيفة لا تُقْبل.
ولم يكن سلك الشرطة هو الباب الوحيد الذي حاوله محمد أمين شيخو للوصول إلى الشهرة والزعامة بل اتفق مع أهل الإجرام وتزعمهم فدعا عددًا كبيرًا من عُتاتهم وأقلُّهُمْ قتل خمسة أشخاص ظلمًا واعتداء وبعضهم ضعف ذلك وبعضهم أكثر من هذا فجمعهم حوله وأنفق عليهم المال (ولا أدري من أين أتى به في وقت كان هو عاطلاً عن العمل بعد انحلال الدرك العثماني) وجعل بيته مأواهم ومجتمعهم وجلب لهم ما يرغبون فيه من ورق "الشدّة" وغير ذلك وصار يتجول في الأحياء بصحبتهم يحكم بواسطتهم بحسب ما يسوقه إليه رأيه على من شاء بضرب أو حتى قتل وإهدار دم في وقت انتشرت فيه الفوضى في البلاد بحيث صار زعيمَهُم الأعلى الذي ليس لمن خالفه سبيل إلا الهرب من دمشق كلها والاختفاء عن الأعين (السيرة من ص 239 إلى ص 256).
لكن الظاهر أنه لم يكن عند محمد أمين شيخو من المؤهلات ما يجعل قادة الشرطة يسعون له في الترقية بحيث انه ظل طيلة فترة خدمته في سلك الشرطة العثمانية برتبة ملازم ثانٍ (رغم كل بطولته المزعومة) وظل طول فترة خدمته في الشرطة الفرنسية برتبة ملازم أول (رغم كل تزلفاته وزعمه أن قادة الفرنسيين كانوا يعتقدون أنه الحارس لدولتهم ورجلهم الذي يقوم بخدمتهم بكل إخلاص) (السيرة من 381 و390 و396 و411 و412)
فلم يصل عن طريق الشرطة إلى ما أمله من الرفعة والعلو في الأرض فشرع يفكر في طريق ثان يوصله إلى مراده فزين له قرينه أن يتخذ الدين ستارًا والمشيخة سلمًا ليصير بذلك بارزًا بين الناس مقصودًا من العامة له حشم وخدم وكلمة وأتباع. لكن أنّى له ذلك وهو مفلس من العلم ليس له فيه يدٌ ولا باعٌ وتصرفاته تصرفات الجهال ليست مضبوطة على وفق أحكام الشريعة وقوانينها فهو يضرب فتاة في الثانية عشرة من عمرها بحجر كبير فيكاد يشدخ رأسها لأنها شقت باب بيتها وكانت كاشفة عن وجهها (هذا مع العلم أنه لا يحرم على المرأة كشف وجهها) ورأسها وكان يكفي أن يعبس في وجهها أو يوبخها لترجع إلى داخل البيت وتغلق الباب (السيرة ص 56) وهو يضرب الشرطيّ المخلص الوفي الذي يعمل تحت إمرته حتى يدمي وجهه ويكسر سِنَّيْن من أسنانه ليخيف أفراد الشرطة المشاغبين! (السيرة ص 328) وهو يصادر قصرًا من أصحابه ويأخذه ظلمًا من مالكه ليجعله مقرًّا له في ناحية جبل الشيخ (السيرة ص 412)، وهو يلجأ إلى المندل ليعرف من سرق سجادة من بيته ويتهم بريئًا بناء على قول العرّاف بل ويهينه ويمدده أرضًا ليضربه مما يحمله على الإقرار بالسرقة وهو لم يرتكبها (السيرة ص 211).
قلت: كيف يتفق دعوى الولاية والإرشاد واستعمال أعمال الكهان، لأن الضرب بالمندل من أعمال الكهّان والرسولل قال: "لا تأتوا الكهّان" وهذا دليل على أنه جاهل بأصول الشريعة والعقيدة وأحكام الشرع. وهو يسب زوجته المنكسرة الوديعة ويغتابها ويكرر ويقول رائحتها مقرفة (السيرة ص 192) ليفرح أمه على زعمه!
والعجيب أن أتباعه يفرحون بمخازيه هذه ويسجلونها مفتخرين بها بل ويعتقدون أنها من مناقبه التي ترفعه بزعمهم إلى مرتبة لم يبلغها أحد من البشر لا نبيّ ولا غير ذلك، فها هو عبد القادر الديراني يقول في مقدمة تفسير شيخه صراحة بأن شيخه "علم في أصول الدين أمورًا جهلتها البشرية قاطبة وأنها حيرت أفهام علماء وفلاسفة اليونان والرومان والجبرية والمعتزلة وعلماء فلاسفة الإسلام ـ كما يسميهم ـ واليهود والمسيحيين" اهـ (التأويل ج2/ ص 5)، بل إنه يعمد إلى الشعر الذي قيل في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
وأجمل منك لم تر قط عين * وأكمل منك لم تلد النساء
فيغير الشطر الأول منه ويجعله في شيخه قائلاً "وأذكى منه لم تر قط عين" ويضعه عنوانًا لفصل من مناقب شيخه بزعمه وذلك في الصحيفة المائتين والتاسعة والثلاثين من سيرته ويغير الشطر الثاني ليصير "وأصلح منه لم تلد النساء" ويجعله عنوانًا للفصل التالي في الصحيفة المائتين والسابعة والأربعين من تلك السيرة ويرفع شيخه بذلك إلى مرتبة تعلو حتى على مرتبة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأبشع بهذا كفرًا وأشنع به!
ولم يصل هذا الديراني ومن لحقه إلى هذا الحضيض في الضلال إلا لأن شيخهم محمد أمين شيخو جعل همه تعظيم نفسه في عيون أتباعه حتى اعتقدوا أنه أكمل بني البشر وأعظمهم كيف لا وهم يعتقدون أنه اتصف بصفات الله عز وجل واكتسب من نبعوت الخالق جل وعلا وسيأتي بيان ذلك بحَوْلِ الله تعالى.
وقد سلك محمد أمين شيخو مسلك الباطنية والتزم مذهبهم وادعى أنه يعرف حقيقة معاني الآيات وأنه حصّل ذلك بمجرد الفيض لا بالتعلم فصار يفسر القرءان كما يشتهي ويحمّل الآيات المعاني التي يريد من غير اعتبار أي مرجع سوى رأيه فصار أتباعه عبيدًا له لا يجدون الصواب بزعمهم إلا في كلام شيخهم ولا يحيدون عنه قِيد أَنملة سواء ذكر دليلاً على ذلك أم لا فإذا قال لهم إن مياه الينابيع والأنهار ليست من ماء المطر النازل من السماء وإنما يخرج من مصارف تتصل بالمحيط المتجمد الشمالي وبالقارة القطبية الجنوبية (انظر كتاب مصادر مياه الينابيع في العالم لأمين شيخو) صدقوه، وإذا قال بأن نهر العاصي يجري من الجنوب إلى الشمال ليس لأن منبعه في الجنوب أعلى من مصبه في الشمال بل لأن ماءه يأتي من المحيط المتجمد الجنوبي (انظر كتاب مصادر مياه الينابيع في العالم لأمين شيخو) اعتقدوا بذلك بل وظنوا أن شيخهم بزّ علماء الطبيعة وفاقهم في علمه ومعرفته واكتشافاته!
ولا تنسَ أن محمد أمين شيخو ما كان يدرّس في المساجد وإنما كان يلقي ترهاته للمعتقدين به في مجالس خاصة لذا تراه يلعب بهم كما يريد فتارة يقول إن أكل ءادم وزوجِهِ من ثمر الجنة معناه أن نفس ءادم كانت تحيط بجسده فصارت نفسه كلها تذوقًا من غير أن يدخل شىء من الثمر إلى داخل ءادم ومن غير استعمال فم أو يد في ذلك (الكتاب المسمى عصمة الأنبياء ص 63) وهذا تكذيب لقول الله تعالى: {وعصى ءادمُ ربَّه فغوى} [سورة طه/121] ولقوله تعالى لآدم وحوّاء: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة الأعراف/22] ومعلوم أن معصية ءادم هي أكله من تلك الشجرة التي نُهِيَ عنها ثم تاب فتاب الله عليه، وكان ذلك معصية صغيرة لا خسّة فيها ولا دناءة. وتارة يقول لهم: شديد العقاب معناه دومًا معك بعد العمل يعاقبه (أي العمل لا الشخص) بما يلزمه ليشفيك ويطهرك! (التفسير ج2/ ص177) وتارة يزعم أن الشفاعة معناها أن الله يخاطب النبي قائلاً له يا لطيفًا (التفسير ج2/ ص 181) لا أن النبي يشفع في الآخرة (التفسير ج2/ ص 184)
وهذا تكذيب لقول الله تعالى: {مَن ذا الذي يشفعُ عنده إلا بإذنهِ} [سورة البقرة/255] ولقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا أوّل شافع وأوّل مشفّع" ولقوله :"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وغير ذلك من النصوص الكثيرة في هذا الباب. وتارة يقول إن الشجرة معناها المادة (التفسير ج2/ ص 189) لا النبات المعروف الذي له ساق وهذا تكذيب لقول رسول الله: "ما في الجنة شجرة إلا وسَاقُها من ذهب"، ويزعم أن أبواب السماء معناها السمو النفسي (التفسير ج2/ ص 202)، وأن الألواح التي نزلت على موسى عليه السلام هي في صدره! (التفسير ج2/ ص 241) وأن معنى خُوار العجل أن النفس تميل إليه وتستحليه! (التفسير ج2/ ص243) وأن معنى قول الله تعالى: {أن طهّرا بيتي} [سورة البقرة/125] أي طهّرا يا إبراهيم ويا إسماعيل قلبيكما (التفسير ج1/ ص97) وأن الصفا معناه صفاء نفسك والمروة هي الرؤية النفسية (التفسير ج1/ ص 113) وأن الشّعرى (الشعرى نجم كان يعبده الجاهليون) معناه المشاعر (السيرة ص 93) إلى ءاخر ما هناك من تُرَّهات لا يقول بها إلا مارق ولا يصدقها إلا سخيف لا تستند إلى برهان ولا تقوم على دليل إلا قول محمد أمين شيخو المجرد. وهذا تمامًا ما صبا إليه محمد أمين شيخو وعمل له بل هي مخالفة للغة العرب وللشرع معًا كما لا يخفى ذلك على أي مسلم بل وعلى من له أدنى إلمام باللغة العربية فهو باطني وإن لم يصرح كبعض الباطنية وذلك أن الباطنية تحرف النصوص عن المعاني التي يعرفها علماء الشرع فيخالفون اللغة واصطلاح علماء الإسلام وهذا تمامًا ما فعله محمد أمين شيخو.
وهو في هذا خالف قاعدتين اثنتين ينبغي لمن ابتُلِيَ بمواجهة أمثاله من المنحرفين أن يبقيهما من باله على ذُكرٍ القاعدة الأولى: أن ردَّ النصوص كفر فما جاء صريحًا في القرءان والسنة بحيث لا يخفى على عالم ولا جاهل من المسلمين، إن أنكره منكر أو ادعى أن له معنى غير المعنى المجمع عليه عند المسلمين فإنه يكفر كما نص على ذلك النسفيّ وغيره من العلماء، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أفهم صحابته أمرًا وأجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام بلّغهم معناه مبيَّنًا وشرحه لهم بجلاء ثم تلقاه عنهم التابعون بإجماع ثم أتباع التابعين ثم مَن بعدهم على هذا الوجه بحيث لا يخفى ذلك على عالم ولا جاهل، لا يكون بعد ذلك ردُّ هذا المعنى والتمسكُ بأي معنى ءاخر إلا تكذيبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كفر.
والقاعدة الثانية أن العرب كان في لغتهم حقيقة ومجاز لهما قواعد معروفة عندهم مشهورة فما خرج في تفسير القرءان عما كانوا عليه فهو مردود لا يسمى تفسيرًا بل هو تحريف.
وهذا الرجل أعني محمد أمين شيخو خرج على القاعدتين المذكورتين وخالفهما فردَّ النصوص وفسّر كلمات القرءان بمعانٍ لا تقبلها لغة العرب ولا توافق عليها لا حقيقة ولا مجازًا فهو فضلاً عن جهله بعلوم الشريعة عاميٌّ من حيث اللغةُ لا يحسن قواعد العربية وتكفي نظرة سريعة في كتبه لإدراك ذلك بسهولة، فانظر إليه يجزم المنصوب وينصب المرفوع (كما سترى عند نقل بعض كلامه الآتي إن شاء الله) ويقول "ديوس" بالسين بدل الثاء (التفسير ص 34) ويقول "على طول" بمعنى دائمًا (التفسير ج2/ ص37 و 340) ويقول يا محمدًا بالنصب والتنوين بدل يا محمدُ بالضم من غير تنوين (التفسير ج2/ ص273) ويستعمل كلمة "الواطي" بمعنى الخسيس (التفسير ج2/ ص197) وهي لا وجود لها في لغة العرب، وقد يؤنثها أحيانًا فيقول "واطية" (التفسير ج2/ ص 243)، ويسمي الله "العاطي" (التفسير ج2/ ص334) وقصده المعطي فإن كلمة العاطي لا توجد في اللغة العربية إلا في العامية المعوجّة، ويفسر قوله تعالى: {من يهد اللهُ} [سورة الأعراف/178] بقوله: من يهدي نفسه إلى لا إله إلا الله (التفسير ج2/ ص 264)، مع أنه لا يخفى على أصغر الطلاب أن لفظ الجلالة فاعل هنا فيكون المعنى "الإنسان الذي يهديه الله" من غير خلاف بين اثنين من اللغويين أو المفسرين، ويقول شوال أي شال للحج (التفسير ج2/ ص 315) ويقول حضرة الله (كما في مقدمة الجزء الأول من تفسيره ومواضع أخرى كثيرة) . مع أن حضرة الشخص هي المكان القريب منه والله موجود بلا مكان كما هو معلوم، إلى غير ذلك من كلمات لا تدل إلا على جهل محمد أمين شيخو العميق بلغة العرب فكيف يُقبل بعد ذلك من مثله أن يُقْدِمَ على تفسير كتاب الله تعالى؟!
كيف وقد أجمع المفسرون سلفهم وخلفهم على أن معرفة اللغة الأصلية التي نزل بها القرءان شرط في تفسير القرءان. ولم يكن المتقدمون قبل أن يفشو اللحن وينتشر بحاجة إلى تعلم النحو، لأن لغة القرءان هي كانت لغتهم التي يتحاورون بها فيما بينهم، لكن بعد فشو اللحن يُشترط أن يكون الشخص عارفًا بتلك اللغة بواسطة دراسة النحو واللغة وإلا فلماذا وضع علماء الإسلام كتب النحو وكتب اللغة؟ ولو كان الأمر على مثل منهج محمد أمين شيخو وأتباعه بأن تفسير القرءان إنما يكون بطريق الفيض الذي يفيض من قلوب المشايخ على المريدين لما كان لعمل علماء الإسلام معنى، بل منهج محمد أمين شيخو وأتباعه هذا فيه إهدار لقيمة ما درج عليه علماء الدين من تعلم النحو واللغة حتى يصل أحدهم لتفسير القرءان.
والمفسرون الذين سبقوا بقسميهم الصوفيين وغير الصوفيين عندهم معرفة اللغة العربية شرط من غير خلاف.
إنما الصوفيون منهم من فسّر تفسيرًا إشاريًّا لا يناقض اللغة ولا أحكام الشرع أما هؤلاء فقد خالفوا الفريقين وما عملهم هذا إلا إلحادًا وتحريفًا للدين، فلو كان يجوز تفسير القرءان للشخص بما يخطر له من غير موافقة للغة العربية لما قال ربنا تبارك وتعالى: {قرءانًا عربيًّا} [سورة يوسف/2] بل ولما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم/4] فإنه لو كان تفسيره على غير وفق لغتهم وكلامهم لما كان بلسانهم ولا كان مبيَّنًا لهم.
ومما يدل على أن معرفة معنى الكلمة من القرءان على مقتضى اللغة الأصلية شرط للتفسير، وأنه لا يكتفي بكون الشخص وليًّا مكاشَفًا صاحبَ فيض في ذلك، ما ثبت أن عمر رضي الله عنه قال في هذه الآية: {وفاكهةً وأبًّا} [سورة عبس/31] عرفنا الفاكهة فما الأبّ، مَهْ يا عمر اهـ أي لا تتكلف القول فيها. أورده الحافظ ابن حجر في شرح البخاري.
وهذا عمر رضي الله عنه ثاني أفضل أولياء أمة محمد وشهد له الرسول بأنه من أهل الكشف وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "قد كان فيمن قبلكم من الأمم أناس مُحَدَّثون فإن كان في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب" اهـ. ومعنى محدّثون أي ملهمون، فإذا كان عمر أحجم عن تفسير هذه الكلمة لأنها لم تكن معروفة في لغة قريش التي هي لغته ولم يعرفها فلم يهجم على تفسيرها بل كفّ عن تفسيرها، فما لمحمد أمين شيخو الذي هو ليس من أهل لغةٍ من لغات العرب لا لغة قريش ولا لغة قيس ولا لغة تميم ولا لغة ربيعة ولا سائر لغات العرب التي كانت زمن نزول القرءان يفسر كلمات القرءان بتفسير بعيد عن موافقة اللغة العربية وقوانين الشريعة؟!
وقد فتح هذا الرجل بفعله هذا للناس باب فوضى في القول بالقرءان فغدًا يأتي ءاخر مثله يفسر القرءان على طريقته بما يراه ثم ءاخر ثم ءاخر فأين الدين بعد ذلك؟ والفوضى قبيحة لا تصلح في أمور الدنيا فكيف في أمور الدين.
وقد صدق الأفوه الأودي حين قال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فقد بان كذب هذا الرجل في منهجه وأقواله على مشايخ النقشبندية أوائلهم وأواخرهم فإن سيرته بعيدة عن سيرتهم فلا يُعرف فيهم أحد سلك مسلك هذا الرجل فليس له فيهم قدوة، وإنما هو شاذ انتسب إليهم بلا حقيقة. ولم يدَّع أحد منهم أن علم الدين يتلقى من قلوب مشايخهم من الشيخ إلى المريد بالتسلسل، فإن كانوا صادقين فليذكروا لنا واحدًا من مشايخ النقشبندية متقدميهم أو متأخريهم هو على ذلك، بل محمد أمين شيخو أخذ الطريقة من الشيخ أمين كفتارو والد الشيخ أحمد الذي توفي منذ مدة ثم المعروف بأنه انحرف عنه، فإذا كان الشيخ أمين كفتارو رحمه الله لم يكن عنده ما أظهره هذا المنحرف ولا عند من فوقه إلى شيخ الطريقة النقشبندية محمد بهاء الدين شاه نقشبند ومن فوقه من رجال السلسلة عند النقشبندية كلّهم ليس عندهم ما أظهره هذا الرجل، فكيف يدّعي بعد ذلك أنه شيخ نقشبنديّ، بل هو مخالف لهم كلّهم.
ودونك أيها القارئ سير أكابر النقشبندية وتراجمهم تجدهم جميعًا بلا استثناء قد طلبوا علوم الشريعة واللغة من عقيدة وفقه ولغة ونحو من المشايخ وقرؤوا كتب العلم عليهم ولم يقولوا العلم يأتي إلى قلوبنا بالفيض من قلوب مشايخنا. بل هذا الشيخ خالد النقشبندي رضي الله عنه وهو ممن نصَّ على ولايته هذا الزائغ في كتبه ومدحه مدحًا بليغًا (انظر الكتاب المسمى درر الأحكام في شرح الأركان ص 32)، أقول: هذا الشيخ خالد رضي الله عنه قد قرأ كتب النحو ومتن الزنجانيّ من الصرف وكتاب المحرر للرافعي في الفقه وغير ذلك من كتب العلم، حتى قرأ كتب الحساب والهندسة والهيئة وغيرها وأجيز برواية الحديث بل رحل شرقًا وغربًا في طلب العلوم الشرعية ودرس على السيد عبد الكريم البرزنجيّ والملا صالح والملا إبراهيم البياريّ والملا عبد الرحيم الزياريّ المعروف بملا زاده ولم يقل إن العلم يأتيني بالفيض من قلوب مشايخ النقشبندية (انظر ترجمة محمد خالد النقشبندي في إرغام المريد للزاهد الكوثري وفي مقدمة جالية الأكدار لمولانا خالد).
فالحقيقة يا محمد أمين شيخو أنك إنما جئت بدين جديد ودعواك ودعوى أتباعك الإسلام دعوى كاذبة إذ لو كنتم على الإسلام ما خالفتم خلَف المسلمين وسلفهم، بل قد اعترف بعض أتباعك وهو بيروتيٌّ من ءال كبريت أن طائفتكم مخالفة لسائر فرق النقشبندية قائلاً: إن كل فرق هذه الطريقة على ضلال إلا طريقتكم فهل بعد هذا شك في خروجكم عن الدين وشذوذكم عن سبيل المؤمنين؟!
وعبارة الديراني المذكورة ءانفًا والتي سطرها في مقدمة الجزء الثاني من كتاب شيخه المسمى "تأويل القرءان العظيم" تشهد أيضًا بهذا إذ فيها التصريح بأن ما جاء به محمد أمين شيخو في مسئلة القدر لم يسبقه إليه نبيٌّ ولا وليٌّ ولا عالم ولا فيلسوف ولا أي مسلم أو كافر! فهل أصرح من هذا في بيان انفرادهم وشذوذهم؟! هذا ومسئلة القدر هي أحد أركان الإيمان الستة فكيف جهلها من قبله من المسلمين وأوتي هو علمها من بين جميع الناس؟!
بل إن قوله هذا فيه تضليل لكل المسلمين وقد اتفق العلماء على أن من قال قولاً يؤدي إلى تضليل المسلمين فهو كافر قطعًا اهـ، ذكره القاضي عياض المالكيّ والإمام النوويّ وصاحب الأنوار الأردبيليّ الشافعيان وملا عليّ القاري الحنفيّ وغيرهم.
ولمولانا الشيخ خالد النقشبندي أكثر من مؤلف في بيان القدَر (فرائد الفوائد بالفارسية وجالية الأكدار والعقد الجوهري كلاهما بالعربية) فعلى زعم مدّعِي المشيخة هذا وأتباعِهِ لم يكن الشيخ خالد يعرف القدَر، بل لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليّ ولا سائر العشرة ولا ءال البيت ولا باقي الصحابة ولا الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد ولا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه ولا الأشعري ولا الماتريدي يعرفونه حتى جاء "الدركي" الذي لم يولد قبله ولا بعده مثله على زعمه فعرفه! فأعظم بهذا جهلاً وكفرًا.
والحقيقة أن كل المذكورين من علماء الإسلام بَيَّنوا أنه لا يحصل في هذا العالم شىء ولا توجد حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله تعالى كما بيّن ذلك مولانا خالد في مؤلفاته أيضًا، ومحمد أمين شيخو وطائفته على خلاف ذلك يكذّبون في هذا الله والرسولل وإجماع الأمة كما سترى ذلك واضحًا إن شاء الله تعالى في أثناء الرد عليهم في هذه المسئلة فلذلك قالوا ما قالوا.
ثم من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه القرءان قرأه على مشركي مكة ودعاهم إلى الإيمان بما فيه ولم يفهموا من ذلك إلا أنه يدعوهم إلى الاعتقاد بما تدل عليه الآيات وبما يأتيهم به من السنة على حسب ما تدل عليه لغتهم، فكان جوابهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إن كانت دعوته صدقًا وما فهموه منه على مقتضى لغة العرب حقًا فليظهر الله على يده معجزة فأظهر الله تعالى معجزات على يديه فكان ذلك من الله تصديقًا لصحة ما جاء به أي لصحة ما دعاهم النبيّ إليه على حسب ما يُفهم من لغتهم،
فمن تجاهل ذلك وخرج في تفسيره للكتاب والسنة عن ما تقتضيه لغة العرب في ذلك الوقت فهو مهدر لقيمة المعجزة ولقيمة الدليل العقليّ، بل مقتضى كلام مثل هذا الرجل أنَّ المعجزة لا دلالة لها لأن كلَّ أحد يفسّر حينئذٍ الكلام الذي حصلت المعجزة لتصديقه على هواه فلا يبقى للمعجزة معنى ولا مدلول وفي هذا إبطال الدين والنبوة والشريعة وهو مراد أمين شيخو فَتَنَبَّهْ.
زد على ذلك أن معنى كلام محمد أمين شيخو أن النبيّ لم يبين للمسلمين حقيقة ما أنزل الله عليه مع أن الله تعالى أمره بذلك في القرءان ونهاه عن ضد ذلك كما قال ربنا عزَّ وجلَّ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل/44]. فأقبح برأيٍ غايته نسبة التقصير في التبليغ وإخفاءِ الأحكام إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفوق ذلك فإن منهج محمد أمين شيخو مهدر لمعنى "الرسول" و"الرسالة" إذ لو كان يوحى إلى الرسول بما لا يفهمه الناس الذين أرسل إليهم ولو كان يكلمهم بما يخرج عن مقتضى لغتهم،
لما كان في إرساله إليهم معنى ولكان ما يبلغهم إياه عبثًا إذ ليس ما يفهمونه هو المراد حقيقةً، والله تعالى حكيم منزه عن العبث ولا تخرج أفعاله عن مقتضى الحكمة. وليس المسلمون من التماوت والغباء بحيث يسلمون لمثل هذا القول من محمد أمين شيخو أو يتبعونه فيه بل لا يقبله الطفل المميز فيهم.
وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [سورة المائدة/67] ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ كل ما أوحى الله إليه من النصوص والتفسيرات والآيات والأحكام فلذلك نصّ ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والنحل على كفر من زعم أن النبيّ بلّغ فقط ظاهر الشريعة وأن لها باطنًا يخالف ذلك الظاهر اهـ كيف لا وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة/3] ومحمد أمين شيخو يزعم أن كمال دين الشخص متوقف على سماع تأويلاته فقارن كلامه بكلام الله تعالى ثم احكم عليه بما يستحق.
بل لو قيل لأتباع محمد أمين شيخو مثلاً إن قول شيخكم بأن ألواح موسى كانت في صدره إنما كان يريد به أن يقول لكم "أنا جاهل فلا تأخذوا بأقوالي فهذا هو مقصده ومراده من كلامه" فماذا يقولون عندئذ؟ إن وافقوا فيلزمهم ترك كلامه وإن لم يوافقوا لم يكن أمامهم إلا أن يقولوا "إن كلام شيخنا لا يحتمل هذا المعنى على حسب ما يتكلم الناس وتجري عليه قواعد اللغة" قلنا عندئذ فإن كنتم لا تجيزون تفسير كلام شيخكم إلا بناء على ما تقتضيه اللغة وتوافق عليه صونًا له عن أن يصير عبثًا لا مدلول له ولعبة بيد من يشاء، فبالأوْلى أنه لا يجوز تفسير القرءان إلا بناء على ما تقتضيه اللغة وتوافق عليه قواعدها، وتفسيره بناء على هذه القواعد يسقط كلام شيخكم نهائيًا، فكلامه ساقط على كلا التقديرين فكيف تتمسكون به بعد ذلك؟
وهذا مما لا جواب لهم عليه بإذن الله
الرد عليه في مسئلة القدر
والآن بعد هذه المقدمة المجملة نفند بعون الله ضلالة محمد أمين شيخو في مسئلة المشيئة والقدر (لو أردنا ذِكر كل ضلالاته لزادت على ألف كما عددناها) تفصيلاً بما يظهر مخالفتها للقرءان والسنة وإجماع الأمة قاصدين بذلك الذبّ عن حوزة الدين وفضح المنافقين.
ثم نتبعه إن شاء الله تعالى بذكر ضلالاته الأخرى أو قسمٍ منها ولو على سبيل الإيجاز مع رد يُلقِمُ كلَّ من ينتصر لهذا الرجل الحجرَ ويُخرس ألسنة الحمقى من أتباعه ويَقِي عامة المسلمين فتنتهم ويحميهم من ضررهم بإذن الله سبحانه وتعالى وبه العصمة والتوفيق.
وقد بلغنا أن جماعة عبد القادر الديراني تكفر جماعة عبد الهادي الباني وبالعكس، وأنهم يتنافسون على الدنيا والمناصب، فهذا يدل على فساد كلتا الفرقتين.
من ضلالات محمد أمين شيخو قوله :"إن الله لم يشأ حصول المعاصي والشر وإن العباد اختاروا ذلك بغير مشيئته سبحانه".
هذه الضلالة هي أُسُّ ضلال محمد أمين شيخو وانحرافه فإنه فكّر بذهنه القاصر فتخيل له أن الشرور والمعاصي لو كانت تحصل بمشيئة الله وأنه لو كان الله خالقًا لأفعال العباد لكان الله ظالمًا، فقرر في نفسه أنّ الله شاء السعادة لكل العباد وأنه سبحانه وتعالى لم يقدّر في الأزل حصول الشرور والمعاصي، لكن عقيدته هذه مصادمة للنصوص الصريحة في القرءان والحديث والتي تفيد أن الله هو الذي شاء وقدر وخلق كل ما يحصل في هذا العالم ومصادمة لإجماع علماء الأمة جميعًا على هذا، فبدل أن يتراجع عندئذ عن هذه الضلالة ويعودَ إلى الحق غلبه العُجْبُ فزعم أنه لا يشترط في تفسير القرءان التقيد باللغة ولا بقوانين الشريعة المنقولة إلينا ولا بأقوال أئمة الدين وإجماعهم، فقام لذلك بتفسير القرءان على خلاف قواعد التفسير المعتمدة بل زعم أن كل من قبله على الإطلاق لم يفهموا هذه النصوص ولا عقلوا معنى القدر ولا عرفوا معنى الإيمان به.
وهذه الضلالة قادته إلى ضلالات أخرى واحدة بعد واحدة، ولذلك سنعرض عقيدة محمد أمين شيخو وخيالاته في هذه المسئلة جملة بعد جملة مع الرد عليها بإذن الله نقطة بعد نقطة ـ إذ هي كما ذكرنا أساس ضلاله ـ ثم نتعرض لعشرات من ضلالاته الأخرى المتفرعة عن هذه الضلالة مع رد موجز على بعض منها حتى يكون أمره وأمر طائفته واضحًا أشد وضوح، وليقوم المؤمنون بالتحذير من هؤلاء الضالين وقمع فتنتهم بقدر الوسع وبكل ما تصل إليه الطاقة صونًا لدين الله تعالى.
يَدَّعي محمد أمين شيخو بأن الله تعالى لم يعلم في الأزل بكفر الكافرين وأنه إنما علم بذلك بعد حصوله منهم (وذلك في الكتاب المسمى "عصمة الأنبياء" (ص/35) فإنه يقول فيه بالنص فالله تعالى لما نادى الخلق في عالم الأزل بكلمة: {ألستُ بربكم} [سورة الأعراف/172] وأجابوه جميعًا بكلمة بلى نظر تعالى إليهم فعلم ما كمن في نفوس أولئك الذين نظروا إلى شهواتهم...إلخ.)، رءاه في صدورهم فعلمه واشتهر ذلك على ألسنة جماعته وأن الله يعلم الشىء بعدما ينويه الإنسان وأن هذا معنى وهو عليم بذات الصدور. قال محمد أمين إن الله خلق الإنسان وجاء به لهذه الدنيا ليسعده ويفيض عليه من بره وكرمه دنيا ءاخرة (هكذا لفظه) لكن الإنسان لما جاء وأُعطي اختياره حاد عن طريق سعادته وكسبه...إلخ اهـ.
قلت: قوله هذا أوَّلاً فيه نسبة العجز إلى الله وفيه أن الله مغلوب والقرءان الكريم يقول: {واللهُ غالبٌ على أمرهِ} [سورة يوسف/21] أي تنفذ إرادته في كل شىء لأنه لو كانت تنفذ إرادته في بعض الأشياء ولا تنفذ في بعض لما قال {واللهُ غالبٌ على أمرهِ} وهو مخالف لقوله تعالى {إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيم} [سورة البقرة/220] لأن العزيز هو الغالب الذي لا يُغْلب.
وكلامه تكذيب للآية: {قال ربي بما أغويتني} [سورة الحجر/39] الآية فيها تصريح أن إبليس نسب الغَواية إلى الله، ولو كان كاذبًا لرَدَّ عليه القرءانُ ولو كان كما يقول محمد أمين شيخو لذكر الله مع هذه الجملة تكذيبه لإبليس بأنه ما أغواه، وهذا من محمد أمين شيخو تكذيب لقول الله تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} [سورة الأنبياء/23] يريد من سخافته أن يحاكم الله.
وفوق هذا فيه نسبة الجهل إلى الله تعالى، ويردّه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة: {وهو بكلّ شىءٍ عليم} وقوله فيها {واعلموا أن الله بكلّ شىءٍ عليم} وقوله تعالى فيها أيضًا: {واللهُ بكلّ شىءٍ عليم}. ويكفي في رده أيضًا قول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} وقوله تعالى في سورة النمل: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75)} وقوله تبارك وتعالى: {وكلّ شىءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مبين} [سورة يس/12] وقوله تبارك وتعالى: {وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [سورة القمر] وثبت في أكثر من حديث مما رواه البخاريّ والترمذيّ والبيهقيّ وغيرهم أن الله تبارك وتعالى قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة أمر القلم فجرى على اللوح المحفوظ فكتب بقدرة الله كل ما يحدث إلى يوم القيامة اهـ، وصحّ عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك رُفعت الأقلام وجفت الصحف" اهـ وهوحديث معروف ذكره النووي في أربعينه ويحفظه صغار طلبة العلم فضلاً عن العلماء.
بل قد ثبت في ما رواه الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يومًا وفي يده كتاب فيه أسماء أهل الجنة كلهم وكتاب ءاخر فيه أسماء أهل النار كلهم، وأخبر عليه الصلاة والسلام عن كل من الكتابين أنه لا يزاد فيهم ولا ينتقص، فقالوا ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: "إنّ عامل الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عَمِلَ أي عَمَلٍ ـ أي قبل ذلك ـ وإنّ عامل النار يختم له بعمل النار وإن عمل أيَّ عمل" اهـ. (أما محمد أمين شيخو فينكر كلام رسول الله عليه السلام ويرده فهو يقول في تفسيره في الصحيفة الرابعة والعشرين منه "يقولون هذا للجنة وهذا للنار هذا خلاف العدالة الإلهية وخلاف ما أنزل الله" انتهت عبارته بنصها جازاه الله بما يستحق)
ولذلك كله أجمع المسلمون على أن الله تعالى علم في الأزل بكل ما يحصل من العباد خيرًا كان أو شرًا لم يختلف في ذلك اثنان منهم، كما قال الطحاويّ في كتابه ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة كلهم "وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم" اهـ. وهذا هو الذي يُحَتّمُهُ العقلُ أيضًا لأن الله لو لم يكن عالمًا في الأزل بما يحصل من العباد من الكفر والمعاصي لكان جاهلاً بها، والجهل نقص والنقص مستحيل على الخالق سبحانه وتعالى كما قال في سورة الملك: {ألا يعلم من خلَق وهو اللطيف الخبير}.
2ـ ثم يقول محمد أمين شيخو: إن المخلوقات كلها لما خلقها الله كانت متساوية متماثلة في الذات والصفات طاهرة لا تفاضل بينها ولا أعطى الله تعالى أحدًا منها مزية على غيرها اهـ (ص/13 من سيرته وص/76 من تفسيره ج2 وص/13 من كتابه المسمى عصمة الأنبياء).
قلت: فعلى زعمه كانت روح رسول الله عليه الصلاة والسلام مساوية لروح إبليس وروح موسى عليه السلام مساوية لروح فرعون وأرواح المؤمنين مساوية لأرواح الحشرات والبهائم والديدان لا يتفاضل أيٌّ منها على غيرها بشىء وكفاه بهذا خزيًا.
ـ وقال: ثم إن هذه النفوس ـ التي خلقت متساوية ـ تتفاوت بعد ذلك بحسب سعيها كما قال في تفسيره (ص/16 من تفسيره ج2): يقولون الله خلق هذا للسعادة وهذا للشقاء وهذا القول كذب بل خلقهم مثل بعضهم البعض وكلٌّ وسعيه واجتهاده اهـ. يعني بذلك أنهم يسعون على حسب مشيئتهم استقلالاً عن مشيئة الله فعلى زعم محمد أمين شيخو الله لم يكتب على إنسان الشقاء (ص/24 من تفسيره ج2) ولم يشأ لأحد أن يَضِلّ ولا يوجد ثمة أمر مبرم على الإنسان (التفسير ج2 ص/349) بل كلُّ من شاء لنفسه الهداية يهديه الله (ص/152 وص/264 من تفسيره ج2) ومن يريد لنفسه الضلال يضله (ج2 ص/105 من تفسيره) فمشيئة الله بزعمه تابعة لمشيئة العبد ومرتبطة بسلوك العبد للقوانين (ج2 ص/144 من تفسيره) فانوِ النية الحسنة كي توفق إلى كل حسن وطيب وتنل (هكذا مجزومة في الأصل) سعادة الدارين (السيرة ص/141) واصدق في طلب الوصول إلى الحق يهدك الله (ج2 ص/130 من تفسيره) أما الله تعالى فإنه أراد أن يدخل الكل الجنة (ج1 ص/169 من تفسيره) اهـ.
قلت: يزعم محمد أمين شيخو إن النفوس في الأصل متساوية في المزايا والصفات ثم تفاضلت بعد ذلك بسعيها فلنا أن نسأل محمد أمين شيخو وأتباعه بماذا حصل هذا التفاضل وكيف تَرَجَّحَ سلوك درب التقوى عند نفس ودرب الضلال عند أخرى؟
إن قالوا: من غير ترجيح مرجّح فقد ضارعوا الدهرية ولحقوا بالملاحدة لإنكار وجود الله تعالى، وإن قالوا: بترجيح مرجح فقد رجعوا إلى قولنا إن الهداية والضلال بمشيئة الله تعالى وتقديره وخلقه وإن مشيئة العبد للهداية أو للضلال تابعة لمشيئة الله تعالى، ولا يقدرون بناء لأصلهم أن يقولوا بأن النفس التي اختارت التقوى وفعلت ذلك لمزية فيها لأنهم أثبتوا تساوي كل النفوس في الأصل فبطل قولهم وثبت فساده. على أن شاهد الوجود يدل على بطلانه أيضًا فكم من شخص أراد أن يهتدي وسعى لذلك فلم يصل إلى الهدي لأن الله تعالى لم يكتب له ذلك، فانظر إلى كثير من النصارى واليهود والبوذيين والهندوس وغيرهم يريدون أن يكونوا على الصراط المستقيم مرضيين عند الخالق يفعلون ما يفعلون ونياتهم نيل رضا الله سبحانه لكنهم مع ذلك يحيون على الضلال والزيغ ويموتون على ذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى في القرءان الكريم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [سورة الكهف]، وهؤلاء الخوارج شهر عنهم أنهم أرادوا الحق واجتهدوا للوصول إليه لكنهم أخطأوا طريقه فلم ينفعهم ذلك وهلك منهم كثير من غير التوبة فقتلهم سيدنا عليّ وأبادهم في معركة واحدة ولم ينجُ منهم إلا نحو تسعة أشخاص وكان قال قبل المعركة: "لا يُقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة" اهـ ومأواهم في الآخرة النار، فهذا سعى وسلمان الفارسيّ سعى لكن الله شاء لسلمان الهداية فوصل بسعيه إلى الإيمان بفضل الله ورحمته وقضائه وقدره ولم يشأ لأولئك الهداية فلم يصلوا إلى الإيمان وذلك بعدل الله وقضائه وقدره أيضًا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال ابن عطاء الله السكندريّ الشاذليّ في لطائف المنن: "إذا أراد ـ أي الله ـ أن يضل عبدًا لم ينصره عقل ولم ينفعه علم. قال الله سبحانه: {وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا} [سورة المائدة/41]" اهـ.
ولو شاء الله لكل الناس السعادة والجنة كما يزعمون ولو كان لم يشأ لهم إلا الخير والإحسان كما صرح محمد أمين شيخو مرارًا وتكرارًا لكان الله خلق الناس والجن كلهم في الجنة ولم يجعل في نفوسهم أيّ استعداد للشر ولا أيّ انسياق خلفه وهو قادر على ذلك، بل لما خلق إبليس أصلاً كما قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: "لو شاء الله أن لا يُعصى لما خلق إبليس" اهـ.
فأنت ترى أن كلام محمد أمين شيخو ضعيف ركيك متهاوٍ متهافت ليس عليه شمة من دليل ولا قبس من نور ومع هذا يزعم أتباعه أنه أتى فيه بما لم يسبقه إليه نبيّ ولا وليّ بل يزعمون أنه وحيٌ (كما قدم الديراني للجزء الأول من تفسير شيخه بقوله "تنزيل من حضرة الله ورسوله" عامله الله بما يستحق) فسبحان الذي يقسم العقول.
ولشدة أهمية هذا المبحث يحسن أن نتوسع شيئًا ما في إيراد الأدلة النقلية من القرءان والسنة وإجماع علماء الأمة على رد مقالة محمد أمين شيخو الشنيعة ورد كفره وكفر من وافقه فيها أو في أصلها فنقول بعون الله:
إن الله جلّ ثناؤه قدّر المقادير كلها في الأزل قبل خلق السموات والأرض كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [سورة القمر] فأخبر أن كل شىء خلقه إنما هو بحسب ما قدَّره قبل أن يخلقه، فَوُجِدَ المخلوق على ما قَدَّرَ الله عزّ وجلّ وشاء وعلم، فمن أطاع الله تعالى فبمشيئة الله وعلمه وتقديره وخلقه وتوفيقه ومن عصاه سبحانه فبمشيئة الله وعلمه وتقديره وتخليقه وخِذلانه، فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار كما قال ربنا تبارك وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [سورة الشمس] فمن فجَر فإنما يَفْجُر بمشيئة الله ومن اتقى فإنما يتقي أيضًا بمشيئة الله وإنما الفرق أن الطاعة تحصل برضا الله وأمره والمعصية ليست برضا الله ولا بأمره ولا بمحبته وإن كان كلٌّ منهما بقضائه وقدره وعلمه ومشيئته كما ثبت في حديث مسلم عن عمران بن الحصين أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قُضيَ عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: "لا، بل شىء قُضي عليهم ومضى فيهم"، قال: ففيم العمل إذن؟، قال: "من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين فييسره لها وتصديقُ ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [سورة الشمس] اهـ.
والآيات التي تدل على أن ما يحصل من العباد خيرًا كان أو شرًّا إنما هو بمشيئة الله وخلقه كثيرة، فقد قال ربنا عزّ وجلّ: { وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً (8)} [سورة الحجرات] فلولا أن الله حبّب الإيمان إلى المؤمنين ما ءامنوا، ولولا أنه خلقه فيهم ما اطمأنت به قلوبهم فهو الذي يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله، وهو معنى كلمة أجمع المسلمون على قولها "لا حول ولا قوة إلا بالله" أي لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله كما روى أبو يعلى تفسير هذه الكلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد قويّ ولذلك قال ربنا تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [سورة المائدة/41] وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [سورة الأنعام/125] وقال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء} [سورة الأنعام/88] {وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [سورة الرعد] فأخبر ربنا تبارك وتعالى أن الاهتداء بخلقه وأن الإضلال بخلقه وأن من شاء الله له الإيمان ءامن ومن شاء له الغَواية غوى كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [سورة القصص/56].
وقد حَرَّفَ قوم معنى هذه الآية فجعلوا الضمير في قوله تعالى: {مَن يَشَاء} عائدًا على العبد فقالوا إن معنى الآية أن من شاء لنفسه الهداية يهديه الله عزَّ وجلَّ، ومرادهم بهذا أن ينفوا أن الله شاء حصول الضلال من قسم من العباد.
قلنا: ما ذكروه تأباه فصاحة القرءان ويأباه أدنى من له ذوق بلغة العرب ويرده ويكذبه ما ذكرناه من الآي وقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن موسى عليه السلام أنه قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء} [سورة الأعراف/155] ففي هذه الآية بيان واضح أن الله تعالى هو أضل بتلك الفتنة وهي عبادة بني إسرائيل العجل في غَيبة موسى إلى الطور، والآية صريحة في أن الله من أراد أن يهديه هداه، وأن من أراد الله أن يضله يجعل صدرَه ضيقًا وهؤلاء عكسوا المعنى فالضمير في قوله {ومن يردْ أن يضله} [سورة الأنعام/125] أي الضمير المستتر الذي هو فاعلُ "يُضِلُّ" المقدّر هو عائِد إلى الله ليس إلى العبد كما تزعم هذه الفرقة أي أن الله تعالى من أراد هو أي الله أن يهديه يشرح صدره أي صدر العبد للإسلام ومن يرد أي من يرد الله أن يضله أي الله يجعل صدره ضيقًا حرجًا.
---------------(51/37)
يامن تكتب ولا تباهي بالكلام وتحسب أنك ناجي من هول وأثام
تذكر أن لحوم العلماء مسمومة وأتقي الله وتذكر أنك لو تكلمت وطعنت عالم من علماء أمة الحبيب في كلام غير صحيح أو انك لست متأكد من صحته أو في سبيل الأنتقام فرتقب من الله عقابا لأنهم أولياء الله ومن يعاد وليا من أولياءه فقد نال غضبا من الله لما لا تكتب مقالة لأحد علماء الأمة يفيد الناس لما لا تأتي بموضوع يكون لك فيه أجرا للناس لما تكتب عن العلماء أترك العلماء وتذكر أن الله لا ينسا أحد فهو من حفظ دينه ولو أن أحدا اراد بهذا الدين شيئا فتذكر أن الله لن ينساه وهو من يتولى أمره ولا تهلك نفسك في سب وشتم العلماء وتقع في غضب من الله فكل كلمة أنت محاسب عنها يوم القيامة وكأنك نسيت كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة الا سوء عملهم)) وفي حديث أخر (( أترك عنك أمر العامة وعليك بخاصة نفسك)) فعليك بنفسك واترك عنك أمر الناس فأنت لن تحاسب عنهم وأنا على ما أعلم ان الشيخ محمد أمين شيخو قد توفي من زمان بعيد وأنت الأن تكتب عنه وتطعن في علمه وأنت لم تجلس معه أو تفهم منه فكيف تحكم عن شخص مات وتكتب عنه الأن وان كان لايجب ان تحكم على شخص في الحياة حتى تجلس معه وتسمع منه وأنت تكتب عن شخص قد توفي فاتقي الله في أولادك ولا تتبع شتم العلماء واحذريا أخي كل الحذر من انتقاد علماااااء الأمة وهذه نصيحتي لك وان كنت لا أعلم عن هذا الشيخ شيء ولكن موضوعك سبب حيرة وشك في نفسي فأحببت ان انصحك وأدلك على شيء افضل من الذي تفعله
وأتمنى من ادارة الموقع أن يحذف موضوعه من الموقع لأنه حجة عليه وليس معه .
والسلام عليكم ورحمة الله
-------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلاة وسلاما على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين .
كم من ظالم تعدى وجار , فما راعى حقوق الله والأهل ولا الجار , بينا هو يعقد الأصرار حل به الموت , فحل من حلته الأزرار ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) .
تقول مات فهل ماتت مخالفاته معه ؟ وتقول عالم وانت تقر أنك لا تعرفه ؟ وتحكم على الكاتب بانه لا يباهي وكأن الله قد أطلعك على ما في قلبه !!
اعلم أنه ليس بيننا وبينه ثأر , لم يقتل لنا أما أو أبا إنما نحن عاملون بما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : مُر بالمعروف وانه عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما للمتمسك فيها بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين"، قال أبو ثعلبة رضي الله عنه: "قلنا يا رسول الله منا أو منهم"، قال: "بل منكم" رواه الترمذي في جامعه،
فقد حضنا وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر بالمعروف وعلى النهي عن المنكر فمن أشد المنكرات، البدع الاعتقادية، فيجب على المسلمين المستطيعين أن ينكروا البدع الاعتقادية التي تخالف عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجب الإنكار على أصحاب هذه البدع وهذا في الإسلام حكمه من أفرض الفروض فكما أن التحذير من الذي يغشك في الطعام أمر واجب في الاسلام فإن التحذير ممن يغشك في الدين أوجب في الإسلام وهذه طريقة السلف الصالح.
أما أنت , أما رأيت ثوثيق الكلام في ردود الكاتب ؟ أم أنك لم تتعب نفسك الا في قراءة العنوان ؟
أنظر هنا مثلا :
إقتباس
يَدَّعي محمد أمين شيخو بأن الله تعالى لم يعلم في الأزل بكفر الكافرين وأنه إنما علم بذلك بعد حصوله منهم (وذلك في الكتاب المسمى "عصمة الأنبياء" (ص/35) فإنه يقول فيه بالنص فالله تعالى لما نادى الخلق في عالم الأزل بكلمة: {ألستُ بربكم} [سورة الأعراف/172] وأجابوه جميعًا بكلمة بلى نظر تعالى إليهم فعلم ما كمن في نفوس أولئك الذين نظروا إلى شهواتهم...إلخ.)، رءاه في صدورهم فعلمه واشتهر ذلك على ألسنة جماعته وأن الله يعلم الشىء بعدما ينويه الإنسان وأن هذا معنى وهو عليم بذات الصدور. قال محمد أمين إن الله خلق الإنسان وجاء به لهذه الدنيا ليسعده ويفيض عليه من بره وكرمه دنيا ءاخرة (هكذا لفظه) لكن الإنسان لما جاء وأُعطي اختياره حاد عن طريق سعادته وكسبه...إلخ اهـ.
ألا ترى أن هذا الذي تصفه بالعلم يصف ربنا بالجهل والعياذ بالله تعالى ؟ أفلا تغضب لربك ؟
واني لأعجب لقولك :
إقتباس
فكل كلمة أنت محاسب عنها يوم القيامة وكأنك نسيت كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة الا سوء عملهم)) وفي حديث أخر (( أترك عنك أمر العامة وعليك بخاصة نفسك))
فلأي شىء لا تقول ان محمد أمين شيخو محاسب على ما قاله وافتراه وتكتفي بوصفه بالعالم !
وأما قولك :
إقتباس
وان كان لايجب ان تحكم على شخص في الحياة حتى تجلس معه وتسمع منه وأنت تكتب عن شخص قد توفي
فإنا نطالبك بالدليل عليه إلا ان كنت تزعم ان جيش المسلمين في مؤتة قد سمعوا الكفر من كل فرد من المائتي الف محارب لهم !
ارحم نفسك واقرأ الموضوع قبل أن تتكلم .
والله من وراء القصد
-------------
اولا يااخي احب ان اقول لك انك حكمت على هذا العالم من خلال كتاب الشيخ عبد القادر الديراني وبدأت تأخذ الكلام وتأول وتصدر الأحكام على طريقتك الخاصة ولربما أن تلميذه لم يعطيه حقه وأنا قرات كتاب عبد القادر الديراني ولما انتهيت منه شعرت كم كان هذا العالم جليلا بل و يستحق كل الخير.
لما لم تضع كتاب الشيخ عبد القادر الديراني كما هو كلمة بكلمة وحرف بحرف لما أخذت تقتبس وتأول من عندك وهذا ماجلعني أشعر أن غايتك هي تشويه سمعت هذا العالم رحمه الله وأحسن مثواه وجعل الجنة مأواهولربما الشيخ عبد القادر لم يعطه حقه في كتابه هذا فالله أعلم ماكان هذا العالم وكيف كانت صفاته وأخلاقه.
ومما قرأت من بعض مقالتك الساذجة مايلي وسأرد على كلامك بكلامك حتى يعلم كل الناس كم أنك لاتدرك شيء من مقالتك التي كتبتها ولا تفهم ولا تدرك ماتقول سامحك الله وهداك
قلت في بداية المقال:
ومحمد أمين شيخو رجل كردي الأصل كان من الشرطة ـ أي الجندرمة ـ أخذ يومًا الطريقة النقشبندية من أحد المشايخ فنقله وهمه من حال إلى حال
ومن ثم قلت:
محمد أمين شيخو رجل نشأ جاهلاً، ودونك سيرته التي سجلها له تلميذه عبد القادر الديراني نقلاً عن شيخه يتضح لك منها جليًّا أنه لم يقصد العلماء ليتعلم منهم ولا قعد في حلقهم ليدرس في كتبهم وإنما هو نشأ بعيدًا عن التعلم لا يعرف أصول العقيدة ولا أصول الفقه ولا فروعه ولا التفسير ولا الحديث ولا اللغة ولا النحو ولا الصرف
أنت ياأخي تنتقد نفسك بنفسك في هذين الموضوعين ففي الموضوع الأول قلت أنه أخذ الطريقة النقشبندية عن أحد المشايخ (وأنا قرات ان هذا الشيخ هو محمد أمين كفتارو والد الشيخ
أحمد كفتارو رحمهم الله وأحسن مثواهم) وفي الموضوع الثاني قلت أنه كان جاهلا ولم يقصد العلماء ليتعلم منهم ولاقعد في حلقهم ليدرس في كتبهم.
من هنا اقول لك انك تكتب من غير فهم ولا تدبير وأنك من بداية موضوعك وافتراءك على هذا العالم رحمه الله وقعت في الفخ فعندما تنتقد اكتب وتدبر ماتكتب ولا يكن همك هو الكلام فقط واحذر كل الحذر أن تكون ساذجا في مقالاتك وكلاماتك.
--------------
بسم الله الرحمن الرحيم
أما قولك بأن صاحب المقال تناقض حينما قال بأنه أخذ الطريقة النقشبندية ثم صرّح بأنه لم يأخذ العلم من أهله، فلا تناقض حقيقي إلا ما توهمته أنت
وذلك أن الفتوى والمشيخة لا تكون بأخذ الطريقة إنما تكون بأخذ علم الدين من عقيدة وأحكام وفروع، ثم بعد ذلك يزيد في العلم عبر التعلم حتى يصل إلى درجة المفتي
أما زعمك التناقض مرة أخرى في قول صاحب المقال أنه أراد السمعة والبروز فلجأ إلى المشيخة ثم صار يدرّس عن طريق الخفية والسر، فلا تناقض أيضًا فكم من بارز بين عديد من الناس لا نعرف نحن اسمه وهويته
فهو -كسائر أهل الضلال- يبدأ متخفيًا ثم يظهر للعامة بعد أن قويت شوكته وصار له أتباع يدافعون عنه وينافحون
أخيرًا، حرمة الغيبة لا تعني حرمة التحذير من أهل الضلال والسوء، فقد استثنى العلماء بعض الأحوال من الغيبة المحرمة فقالوا:
تظلّم واستعن واستفتِ حذّر -- عرّف واذكرنَّ فسقَ المجاهر
فالتحذيرُ ممن حرّف الشريعة وأفتى بالباطل واجبٌ على المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إلى متى ترِعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس" رواه البيهقي
ولكن لا نعجب من جهلك في مثل هذا الأمر وقد تصدّرت للدفاع عن شخص مثل محمد شيخو
---------------
يا أخ عصفور، أنت تسمي المدعو محمد أمين شيخو عالما دون بيّنة سوى أنك مغتر به، وبكل حال سوف أضع بيان ما اشتبه عليك فهمه في مقالة الأخ كاتب الموضوع:
أولا ليس على كاتب المقال أن يضع لك حرفيا كامل نص كتاب الديراني، بل جل ما يفعله هو أن يقتبس ما يخالف فيضع الرد عليه، والرد قام على صريح ما ورد من منقولات عن المدعو محمد أمين شيخو، فلم نتأول الكلام كما نشاء بل كما تقتضيه اللغة العربية التي كُتِبَ بها، ولكن أخشى أنك أنت من تريد تأويل صريح اللفظ بما لا يحتمل من معنى.
وانظر معي يا أخ عصفور كيف أشكل عليك والتبس على فهمك أن تدرك معنى قول الكاتب: "أخذ يومًا الطريقة النقشبندية من أحد المشايخ فنقله وهمه من حال إلى حال" وقوله: "لم يقصد العلماء ليتعلم منهم ولا قعد في حلقهم ليدرس في كتبهم وإنما هو نشأ بعيدًا عن التعلم لا يعرف أصول العقيدة ولا أصول الفقه ولا فروعه ولا التفسير ولا الحديث ولا اللغة ولا النحو ولا الصرف" فقمتَ -أنتَ- واعترضت على الكاتب واتهمته بالتناقض وتساءلتَ كيف يزعم أنه أخذ الطريقة عن أحد المشايخ ثم اتهمه بأنه لم يطلب العلم ولم يجلس في حلقة تدريس واحدة، والجواب الشافي الذي ما كان ليحتاج منك إلى الجهد لتدركه أن مجرد أخذ الطريقة من شيخ من مشايخ النقشبندية لا يعتبر طلبا للعلم وإنما طلبا للطريقة، والفرق بيِّنٌ واضح وذلك أن الوِرْدَ الذي يأخذه المريد من شيخ الطريقة يكون عبارة عن أذكار مخصوصة ولا يكون بابا من أبواب أصول الاعتقاد ولا من أصول الفقه.
وءاخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
----------------
الفكر الإعتزالي الحديث - {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}
جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبدعتين :
الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل فهو يخلق أفعاله بنفسه وممن دعى إليها غيلان الدمشقي الذي قتله هشام بن عبد الملك بسبب مقولته تلك.
الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافرا ولكنه فاسق فهو في منزلة بين المنزلتين وهذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة.
ثم فصل المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول:
1. التوحيد: ومعناه عندهم أن الله منزه عن الشبيه والمماثل ولا ينازعه أحد في سلطانه, وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها استحالة رؤية الله يوم القيامة وأن الصفات ليست شيئاً غير الذات وأن القرآن مخلوق لنفيهم عن الله صفة الكلام.
2. العدل: أي أن الله لا يخلق أفعال العباد ولا يحب الفساد بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وأن الله لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره وأنه ولي كل حسنة وبرئ من كل سيئة وذلك لخلطهم بين إرادة الله الكونية والشرعية.
3. الوعد والوعيد: أي أن الله يجازي المحسن إحساناً والمسئ سوءاً ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب.
4. المنزلة بين المنزلتين: أي إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المزلتين بين الإيمان والكفر وهذا هو قول واصل بن عطاء.
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد قالوا بوجوب ذلك على المؤمنين لنشر دعوة الإسلام كلُّ بحسب استطاعته ولذلك فالخروج على الحاكم المسلم إذا خالف وانحرف عن الحق واجب عندهم.
6. الجذور الفكرية والعقائدية: هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعطم اليهودي, وقيل إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات.
وقيل إن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد موروداً للفكر الإعتزالي إذا أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية, ونفي القدر عند المعتزلة ظهر على يد معبد الجهني وغيلان الدمشقي قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنوسيه وقد تأثر المعتزلة بالفلاسفة اليونانيين وبالأخص في موضوع الذات والصفات كأمثال ( أنباد قليس) و(أرسطوطاليس) وهذا مبين في كتاب الملل والنحل لابن حزم وغيره من العلماء.
7. الفكر الإعتزالي الحديث: يحاول البعض في العصر الحديث إحياء فكر المعتزلة البائد فألبسوه ثوباً جديداً وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي..... الخ
فقام البعض منهم بإنكار المعجزات المادية كما فعل الشيخ الماسوني محمد عبده في تفسير لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري, وأهم مبادئهم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة وأخطر ما في هذا الفكر الإعتزالي محاولة تبديل الأحكام الشرعية كعقوبة المرتد وفرضية الجهاد والحدود والحجاب وتعدد الزوجات والطلاق والإرث وغيرها حيث طلبوا تحكيم العقل في هذه الموضوعات.
ومن دعاة الفكر الإعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة والمرأة الجديدة السيد الذي أطلقوا عليه لقب أستاذ الجيل وطه حسين الذي أسموه عميد الأدب العربي وفي القارة الهندية ظهر السير أحمد خان وهو يرى أن القرآن فقط لا السنة أساس التشريع وأصل الربا البسيط ونفى شرعية الجهاد وغيره وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحل زواج المسلمة بالكتابي وأصل الاختلاط.
ومن هؤلاء أيضاً أحمد أمين صاحب كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام ومحمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور والدكتور حسن الترابي في السودان وفهمي هويدي ومحمد عمارة وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا وفي بلاد الشام يوجد عبد الهادي الباني حيث كان من تلاميذ الشرطي أمين كفتارو وبعد وفاته جعل لنفسه منهجاً خاصاً وأصبح لديه من الطلاب الحظ الوافر.
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، و أنطق نبيه بالحق فما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، و بين له مهمته فقال و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم للقرآن مبيناً
و بعد فيمكن أن نرجع جميع المفردات التي أخطأ وزل فيها المدعو عبد الهادي الباني إلى أصول رئيسية هي :
1. عدم التقيد بالمنهج العلمي المتمثل بالقواعد الأصولية و اللغوية في فهم النصوص ، مما نشأ عنه تأويلات باطلة لكتاب الله وسنة رسول الله صلة الله عليه وسلم و قلب للمعاني و الأحكام .
2. عدم اتباع المنهج العلمي المتمثل بعلم مصطلح الحديث و تراجم الرجال في قبول و رفض الحديث ، مما نشأ عنه رفضٌ للحديث الصحيح وكُتُبِه واعتمادٌ على كثير من الأحاديث الموضوعة " فالبخاري و مسلم في نظره يحوي أحاديث تطعن بالأنبياء و الصحابة " .
3. الاعتماد على الأحلام كمصدر من مصادر الأحكام
كل ذلك نشأ عنه الأخطاء التالية :
1- أخطاء في العقيدة :
إنكار القضاء و القدر .
الله سبحانه لا يعلم الغيب المستقبل في نظرهم .
النبوة كسبية .
إنكار علم القراءات .
مرتكب الصغائر كمرتكب الكبائر لا فرق بينهما .
إنكار معراج النبي صلى الله عليه وسلم .
إنكار جواز النسخ فضلاً عن وقوعه .
عبد الهادي الباني هو المهدي المنتظر " لأنه رأى رؤيا مفادها أنه يقود فرساً و يسلم زمامها إلى المسيح ، و الفرس هي الأمة الإسلامية" .
وكل ما ورد من أحاديث فيما سبق فلا أصل له وكل ما نزل من آيات فمؤول .
2- أخطاء في كثير من الأحكام التي اتفقت عليها كلمة الأمة وكان مصدرها الحديث الصحيح أو نصوص القرآن الصريحة :
· إنكار مشروعية رجم الزاني المحصن .
· إنكار حادثة شق الصدر .
· إنكار قتل اليهود لأنبيائهم " قتلهم قتل شريعتهم " .
· إنكار قصة تأبير النخل .
· إنكار قصة سحر النبي صلى الله عليه و سلم .
· إنكار إشارة الحباب بن المنذر على النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة بدر بالنزول عند أدنى ماء .
· إنكار إشارة سلمان الفارسي على النبي صلى الله عليه و سلم بحفر الخندق في غزوة الأحزاب .
· رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ و يكتب .
· حرمة رؤية الأخت من الرضاع .
· السخرية من علم القراءات .
3- أخطاء في التفسير :
· أي حكم لا يتماشى مع عقله يمكن قلبه إلى الضد عن طريق قراءته بلهجة فيها استفهام استنكاري مثل :
× ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ؟
× ما كان لهم الخيرة ؟
× فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ؟
× ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً ؟
· تأويلات فاسدة فيها خروج عن الحقيقة إلى المجاز بلا دليل :
× و أنه هو رب الشعرى......................... أي الشعور
× شجرة الزقوم .................................. هي الدنيا
× والنجم إذا هوى ................................ النجم هو محمد صلى الله عليه وسلم
× لا يدخلون الحنة حتى يلج الجمل في سم الخياط الجمل هو النفس المتكبرة
4- منهجه في دعوته :
· الطعن في علماء المسلمين جميعهم .
· الطعن في كتب التفسير فهي في نظره و ضعها يهود و فرس .
· الطعن في كتب الحديث فهي تحوي في نظره الكثير من الطعن في الأنبياء و الرسل و الصحابة
· الطعن في كتب العقيدة فهي في نظره عقائد زائغة .
· اتباع منهج التوسم الذاتي في تصحصح الأخبار .
· تأويل النصوص و المحكمات من القرآن والسنة .
· مدح نفسه فكثيراُ ما يخصص درسه للحديث عن كمالاته فهو كامل مكمل لا يخطئ و لا ينسى و هو على الحق في كل كلمة و حركة و سكنة و هو المهدي المنتظر و هو خليفة الله في الأرض المقدس المنزه عن النقائص
· من ترك جماعته فهو ضال فاسق .
· إشعال الغرور في نفوس طلابه فهم فقط على الحق لا سواهم .
· العيش على أكتاف المريدين فهذا يأتي بالخبز و آخر بالحليب و ثالث يدفع فواتير الكهرباء و الماء و الهاتف و ذاك يذهب إلى المؤسسة ليأتي بالسكر و الرز وهناك من يخلع له نعليه و يحمل له عكازه و إذا كنت في حال ضيق و فتور فقدم بين يدي نجواك للشيخ هدية .
· من أقواله في عقيدة القضاء و القدر موجهاً خطابه لعلماء المسلمين ( روحوا غسلوا إيديكم و الله النجاسة أنضف من هيك معتقدات ) ، ( اليهود و النصارى عقيدتهم أحسن من عقيدة المسلمين اليوم ) ( هي كلها عقائد يونانية و فارسية دخلت لعند المسلمين و إجا هادا الرازي المازي كتبها ) يقصد الإمام الفخر الرازي .
================(51/38)
نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي
سليمان بن صالح الخراشي
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن باز إلى حضرة الأخ الكريم الدكتور حسن الترابي وفقه الله لما فيه رضاه آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..... أما بعد :
فأشفع لمعاليكم بهذا نسخة من الرسالة الواردة إلي ممن سمى نفسه (عبد البديع صقر ) صاحب مؤسسة الإيمان، المؤرخة في 24/11/1400هـ راجيًا من معاليكم بعد الاطلاع عليها التكرم بالإفادة عن صحة ما نسب إليكم فيها من الآراء ؛ لنعرف الحقيقة والشبهة التي أوجبت لكم هذه الأقوال إن صحت نسبتها إليكم ؛لمناقشتكم فيها على ضوء الأدلة .
ونسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل
إنه خير مسؤول . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد :
فهذه نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي - هداه الله - ، الذي أثر على كثيرين من محبي الإسلام في هذا الزمان ، سواء في بلده ( السودان ) ، أو في بلاد أخرى ، فاغتروا بفكره الحركي وتناسوا لأجله جميع انحرافاته الخطيرة - كما سيأتي - ، فلم يعرجوا عليها أو يناصحوه في شأنها إلا قليل منهم لم يرضوا لأنفسهم أن يغشوا الأمة أو يغرروا بشبابها ، مجاملة له أو خشية على انقسام الحركة الإسلامية - كما يقال - .
وقد آثرت جعل هذه النظرات تعريفا للقارئ بأهم الردود التي صدرت في التنبيه على أخطاء الترابي وانحرافاته ، من خلال تهذيب المهم منها ؛ ليكون شباب الإسلام على علم بها ؛ فيتجنبوها ويرشدوا من وقع فيها ؛ ولعلها تكون موقظة لبعض الدعاة عندنا الذين سبق لهم ثناء وتزكية للترابي ! أن يراجعوا موقفهم . وهذا العمل مساهمة مني في ( تصفية ) الساحة الإسلامية في هذا الجانب ؛ تمهيدًا لعودتها - إن شاء الله - أمة متحدة ذات عقيدة واحدة .. وما ذلك على الله بعزيز . فأقول مستعينًا بالله :
تعريف بالدكتور الترابي :
وُلد د. حسن عبد الله الترابي سنة 1932 من عائلة دينية من الطبقة المتوسطة، وتتلمذ على يد والده، شيخ طريقة صوفية أقلية، فحفظ القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات، وتعلم علوم اللغة العربية والشريعة في سن مبكرة على يد والده، وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان.
تزوج الترابي من وصال الصديق المهدي شقيقة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي زعيم حزب الأمة.
تدرج في سلك التعليم حتى حصل على إجازة الحقوق من جامعة الخرطوم، ثم على الماجستير من جامعة بريطانية في 1957، ثم الدكتوراة من السوربون الباريسية في 1964، وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية مما أثر في فكره - كما سيأتي - .
وبعد عودته إلى وطنه تولى الترابي عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم .
أصبح الترابي الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامية لدى تشكيلها. وعن هذه الجبهة انبثقت جماعة الإخوان المسلمين في السودان، واعتُقل ثلاث مرات خلال السبعينيات، في ظل نظام الرئيس جعفر نميري، ومع ذلك شغل في 1979 منصب النائب العام، وأيد الترابي قرار نميري إقرار الشريعة الإسلامية في 1983، وبعد سقوط نظام نميري في 1986، شكّل الجبهة القومية الإسلامية .
انفصل الترابي عن جماعة الإخوان ، وتصاعدت الخلافات بينهم نظرًا لخروجه عن نهج الجماعة وطريقتها في الدعوة والتربية ، وانحرافاته التجديدية ! التي خرج بها عن إجماع المسلمين ؛ مما أدى بهم إلى التشهير به والرد عليه .
في يونيو 1989، تحالف الترابي مع الفريق عمر البشير، لقلب الحكومة المنبثقة عن انتخابات ديموقراطية بقيادة صهره زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، وطبع اتجاه الترابي السياسة الخارجية للسودان على خلفية دعم المدّ القومي الإسلامي؛ بهدف التحرر من الهيمنة الأميركية الصهيونية. وفي أبريل 1991، أسس المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي نُصِّب أمينًا عامًا له، ليشكل منبرًا للقضايا الإسلامية، وعقد المؤتمر الذي يضم حركات وتنظيمات إسلامية من العالم أجمع دورتين في ديسمبر 1993، وفي أبريل 1995 في الخرطوم .وفي فبراير 2000، أغلقت السلطات مقر المؤتمر.
انتُخب الترابي رئيسًا للمجلس الوطني (البرلمان) في 1996 و1998، لكن علاقاته توترت مع البشير، الذي عارض هيمنته على المؤتمر الوطني، الذي حلّ محل الجبهة القومية الإسلامية التي تم حلها في 1989، وتحول في ما بعد إلى حزب سياسي بموجب قانون التوالي السياسي، الذي أتاح تشكيل أحزاب سياسية، وبدأ العمل به مطلع 1999.
ووجه البشير الذي تتلمذ على يد الترابي ضربة قاصمة لأستاذه مع إقصائه عن رئاسة المجلس الوطني وحله في 12 ديسمبر 1999، وإعلان حال الطوارئ وتعليق بعض مواد الدستور. وجاء القرار بعد 48 ساعة من تصويت النواب على تعديلات هدفها الحد من صلاحيات رئيس الدولة.(51/39)
وفجّر القرار الصراع على السلطة بين الرجلين، وداخل المؤتمر الوطني. وبدأ العد العكسي للتحالف بين قطبي السلطة في السودان. ووافق الترابي في 23 يناير 2000 على مقترحات المصالحة والتعايش مع البشير، مكتفيًا بمهام تنظيمية داخل الحزب، بعيدًا عن مقاليد الحكم، مع اتجاه البشير للتقارب مع جيرانه العرب والأفارقة، وأبعد أنصار الترابي عن المناصب الحكومية مع تشكيل الحكومة، وتعيين حكام جدد للولايات في 24 يناير 2000.
من تآليفه :
1 - الصلاة عماد الدين .
2 ـ المشكلة الدستورية.
3 ـ الإيمان
4- المصطلحات السياسية في الإسلام.
5- ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية.
6- الصحوة الإسلامية والدولة القطرية في الوطن العربي.
7 - خصائص الحركة الإسلامية المعاصرة.
8 - تجديد أصول الفقه الإسلامي.
9- المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع .
( المرجع : مجلة المجتمع ، العدد 136 - موقع اسلام اون لاين - موقع قناة الجزيرة - مع إضافات يسيرة ) .
ملخص ردود العلماء والدعاة على الترابي :
1- رد الدكتور مفرح بن سليمان القوسي :
قال - حفظه الله - في كتابه " الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية " ( ص 226 - 233 ) :
( الدكتور حسن عبد الله الترابي : وهو من أبرز الإسلاميين العقلانيين الذين تبنوا الدعوة إلى التحديث في الفكر الإسلامي المعاصر لمواكبة التطور ومواءمة ظروف العصر ، وذلك في كتبه وأبحاثه ومحاضراته وندواته داخل بلده السودان وخارجها : فنجده يدعو إلى إحداث فقه جديد يلائم واقع المسلمين الجديد ، ويكشف عن بعض ملامح الفقه الذي يريده ، فيقول : " ونحن أشد حاجة لنظرة جديدة في أحكام الطلاق والزواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة ، ونبني عليها فقهنا الموروث ، وننظر في الكتاب والسنة مزودين يكل حاجات عصرنا ووسائله وعلومه ... "
ويصف عصر الصحابة بأنه عصر طغيان الفرد وعصابات الفكر ، فنراه يقول : " إن الصحابة عاشوا عهداً للبشرية تضعف فيه وسائل الاتصال المادية بين الناس ، ويسود فيه طغيان الفرد وعصابات الفكر "
ويدعو إلى الانطلاق والانفلات وترك المحافظة على منهج السلف الصالح في الأخذ بالأحوط والأسلم والأضبط ، ويرفض الدعوة إلى الاعتدال ، فيقول : " واقرأ إن شئت لمتأخرة العلماء تجدهم يؤثرون الأسلم والأحوط والأضبط ... وهذه الروح في تربيتنا الدينية لا بد من أن نتجاوزها الآن ، ولا نتواصى اليوم بالمحافظة ، بل لا ينبغي إطلاقاً الدعوة إلى الاعتدال ، لأننا لو اعتدلنا نكون قد ظلمنا ، ولو اقتصدنا نكون قد فرطنا .... ، وإني لا أتخوف على المسلمين كثيراً من الانفلات بهذه الحرية والنهضة "
ويدعو إلى تجديد الفقه وأصوله ، فهما غير مناسبين _ في نظره _ للوفاء بحاجات المسلمين المعاصرة لما يلي :
1- لأن الفقه مؤسس على علم محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع .
2- ولأنه فقه تقليدي لا رسمي ولا شعبي .
3- ولافتقار كتب الفقه إلى إرشاد المسلم إلى ما يجب عليه اتباعه في أمور التجارة والفن والسياسة ، حيث يقول : " قد يعلم المرء اليوم كيف يجادل إذا أثيرت الشبهات في حدود الله ، ولكن المرء لا يعرف اليوم كيف يعبد الله في التجارة والسياسة أو يعبد الله في الفن ، كيف تتكون في نفسه النيات العقدية التي تمثل معنى العبادة ، ثم لا يعلم كيف يعبر عنها عملياً بدقة "
4- ولأن مقولات نظرية عقيمة لا تلد فقهاً البتة بل تولد جدلاً لا يتناهى ونظر مجرد كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل ، حيث يقول : " لابد أن نقف وقفه مع علم الأصول تصله بواقع الحياة ، لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريداً حتى غدت مقولات نظرية عميقة لا تكاد تلد فقهاً البتة بل تولد جدلاً لا يتناهى " ويقول تحت عنوان " حاجتنا لمنهج أصولي " : " .... لكن جنوح الحياة الدينية عامة نحو الانحطاط وفتور الدوافع التي تولد الفقه والعمل في واقع المسلمين أديا إلى أن يؤول علم أصول الفقه- الذي شأنه أن يكون هاديًا للتفكير - إلى معلومات لا تهدي إلى فقه ولا تولد فكراً ، وإنما أصبح نظراً مجرداً يتطور كما تطور الفقه كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل ، وقد استفاد ذلك العلم فائدة جليلة من العلوم النظرية التي كانت متاحة حتى غلب عليه طابع التجريد والجدل النظري العقيم ، وتأثر بكل مسائل المنطق الهيليني وبعيوبه كذلك " ويكثر الترابي في كتبه ومحاضراته من ترديد عبارات : " الأنابيش " و " الفقه التقليدي " و " علم الأصول التقليدي " و "
القياس التقليدي " و " نظام الإسلام التقليدي " ، وما شابه ذلك من العبارات التي توهم القاري بأن الفقه الإسلامي والعلوم الإسلامية شيء من العادات والتقاليد ، وليست ديناً مستنداً إلى أدلة ومبنياً على أصول شرعية .(51/40)
ويركز كثيرًا على التوسع في مفهوم الأصول التي أصلها العلماء والأئمة المتقدمون ، ويصر على تسمية كل أصل بذلك ، فيقول مثلاً : " الأصول الواسعة " و " القياس الواسع " و " الاستصحاب الواسع " و " الاجتهاد الحر " ويتهم الترابي _ وهو بصدد تبرير دعوته إلى تجديد الفقه وأصوله _ الفقهاء المسلمين بالانغلاق وضيق الأفق ، وبأن الحياة العامة وشؤون الاقتصاد والسياسة تدور من حولهم وهم لا يشعرون ، ومما قاله بهذا الشأن قوله : " إن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيراً من قضايا الحياة العامة ، إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة ، ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيداً عنهم ولا يأتيهم إلا المستفتون من أصحاب الشأن الخاص في الحياة ... والنمط الأشهر في فقه الفقهاء والمجتهدين كان فقه فتاوى فرعية ... ، فالفتاوى المتاحة تهدي عادة الفرد كيف يبيع ويشتري ، أما قضايا السياسة الشرعية الكلية وكيف تدار حياة المجتمع بأسره إنتاجاً وتوزيعاً ، استيراداً وتصديراً ، علاجاً لغلاء المعيشة أو خفضاً لتكاليفها ، هذه مسائل لم يعن بها أولياء الأمور ، ولم يسائلوا عنها الفقهاء ليبسطوا فيها الفقه اللازم " واتهمهم كذلك بإغفال حق طاعة ولاة الأمر في كتبهم ومصنفاتهم ، فنراه يقول : " إن أصول القرآن الكريم تجعل لولاة الأمر حق الطاعة من بعد طاعة الله والرسولل ، ولقد سكت الفقهاء عن هذا الحق ، فلا نكاد نجد له أثراً البتة في كتب أصول الفقه أو أصول الأحكام "
كما اتهمهم بأنهم احتكروا الدين واتخذوه سراً من الأسرار حجبوه عن الناس ، وأصبحوا بذلك وسطاء بين العباد وربهم ، أو سلطة مركزية تستبد بأمر الاجتهاد الذي يرى فتح بابه لكل الناس بما فيهم العوام ، فنراه يقول : " اتسم فقهنا التقليدي بأنه فقه لا شعبي ، وحق الفقه في الإسلام أن يكون فقهاً شعبياً ، ذلك أن التحري عن أمر الدين الذي ليس من حق طائفة أو طبقة من رجال الدين ، وأن الإسلام لا يعرف التدين الذي يحتكره رجال ويتخذون الدين سراً من الأسرار يعكفون عليه ، يحجبونه عن الناس ويصبحون - من أجل ذلك السر المحجوب عن الناس - وسطاء بين العباد وربهم ، أويصبحون سلطة مركزية يستبدون بأمر الاجتهاد دون الناس "
ويعد الترابي ( أهلية الاجتهاد ) شيئاً نسبياً وإضافياً ، وأنها جملة مرنه ليس لها ضوابط ولا شرائط ، وأن الجمهور هم الحكم في تمييز الذي هو أعلم ، متخذين من أعرافهم مقاييس لتقويم المجتهدين والمفكرين ، فنراه يقول تحت عنوان(أهليةالاجتهادوإطاره):
" تقدير أهلية الاجتهاد مسألة نسبية وإضافية ، ولكن بعض الكتاب المتنطعين في الضبط والتحفظ يتوهمون أنها درجة معينة تميز طبقة المجتهدين من عامة الفقهاء ، وما الاجتهاد إلا وظيفة في استعمال العلم والعقل يتربى عليها المتعلم ويترقى نضوجاً ورشداً ، وتتفاوت فيها طبقات المفكرين الذين ينبغي أن يعمر بهم المجتمع المسلم ، فإذا عنينا بدرجة الاجتهاد مرتبه لها شرائط منضبطة ، فما من شيء في دنيا العلم من هذا القبيل ، وإنما أهلية الاجتهاد جملة مرنة من معايير العلم والالتزام تشيع بين المسلمين ليستعملوها في تقويم قادتهم الفكريين ... وقد ينظم المجتمع أحياناً ضوابط شكلية مثل الشهادات ليكون حمل شهادة الجامعة مثلاُ أمارة لأهلية بدرجة معينة ، وحمل الشهادة الأعلى إيذاناً باستحقاق ثقة أعلى وهكذا ، وربما يترك الأمر أمانة للمسلمين ليتخذوا بأعرافهم مقاييس تقويم المفكرين . ومهما تكن المؤهلات الرسمية فجمهور المسلمين هو الحكم وهم أصحاب الشأن في تمييز الذي هو أعلم وأقوم ، وليس في الدين كنيسة أو سلطة رسمية تحتكر الفتوى " . ولذا يدعو إلى الاحتكام إلى عوام الناس _ ولو كانوا جهالاً _ لضبط الاختلاف والتفرق بين المذاهب!(51/41)
ويرفض الترابي قياس الفقهاء والأصوليين المعروف والمنضبط بضوابط وشروط دقيقة ، لأن تلك الضوابط والشروط _ في نظره _ قيود وضعها مناطقه الإغريق ثم اقتبسها الفقهاء عنهم ، ويدعو إلى قياس فطرى حر _ على حد تعبيره _ ، فنراه يقول تحت عنوان ( نحو أصول واسعة لفقه اجتهادي ) : " يلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناء على النص المحدود ، وإنما لجأنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية ، فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجاتنا بما غشيه من التضييق انفعالاً بمعايير المنطق الصوري التي وردت على المسلمين مع الغزو الثقافي الأول الذي تأثر به المسلمون تأثراُ لا يضارعه إلا تأثرنا اليوم بأنماط الفكر الحديث " ، ويقول أيضاً تحت عنوان ( القياس المحدود ) : " القياس _ كما أوردنا تعريفاته وضوابطه الضيقة في أدبنا الأصولي _ لا بد فيه من نظر حتى نكيفه ونجعله من أدوات نهضتنا الفقهية ،وعبارة القياس واسعة جدا ؛ تشمل معنى الاعتبار العفوي بالسابقة ، وتشمل المعنى الفني الذي تواضع عليه الفقهاء من تعدية حكم أصل إلى فرع بجامع العلة المنضبطة إلى آخر ما يشترطون في الأصل والفرع ومناط الحكم ، وهذا النمط المتحفظ من القياس يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي فيضيفون الحكم إلى الحادثة المستجدة ، ومثل هذا القياس المحدود ربما يصلح استكمالاً للأصول التفسيرية في تبين الأحكام والآداب والشعائر ، ولكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقه الإغريق ، واقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام "
وينحى الترابي في تجديد " الإجماع " منحى لم يقل به أحد من قبل ، ولم يخطر ببال عالم من علماء المسلمين القدامى أو المعاصرين ، حيث يصور " الإجماع " بصورة الاستفتاء أو التصويت من قبل عامة الناس على أمر من الأمور ، وذلك على غرار ما تطرحه الدولة في الأنظمة الغربية على الناس من مسائل لأخذ آرائهم فيها ، فنراه يقول بعد تأكيده على ضرورة الاتفاق على مناهج أصولية موحدة : " وتعود تلك المناهج الموحدة إلى مبدأ الشورى الذي يجمع أطراف الخلاف ، ومبدأ الإجماع الذي يمثل سلطان جماعة المسلمين ، والذي يحسم الأمر بعد أن تجري دورة الشورى فيُعمد إلى أحد وجوه الرأي في المسألة فيعتمده ، إذ يجتمع عليه السواد الأعظم من المسلمين ، ويصبح صادراً عن إرادة الجماعة وحكماً لازماً ينزل عليه كل المسلمين ، ويسلمون له في مجال التنفيذ ولو اختلفوا على صحته النسبية " ويقول أيضاً : " يمكن أن نرد إلى الجماعة المسلمة حقها الذي كان قد باشره عنها ممثلوها الفقهاء ، وهو سلطة الإجماع ، ويمكن بذلك أن تتغير أصول الفقه والأحكام ، ويصبح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم ، وتصبح أوامر الحكام كذلك أصلين من أصول الأحكام في الإسلام " ويقول كذلك : " يمكن أن نحتكم إلى الرأي العام المسلم ونطمئن على سلامة فطرة المسلمين حتى ولو كانوا جهالاً في أن يضبطوا مدي الاختلاف ومجال التفرق " !!
ولم يقتصر الترابي في دعوته إلى التجديد على التشريع فقط ، بل تعداه إلى مجال الاعتقاد ، حيث يرى أن قضايا الاعتقاد مسائل فكرية ، وأن الفكر يتغير بتغير الزمان والمكان ، فالعقيدة إذن متجددة ومتغيرة ، وعلى المسلمين أن يختاروا ما يناسبهم من المناهج بحسب الظروف والملابسات التي يعيشونها ، فنراه يقول : " ولما كان الفكر الإسلامي في كل قرن فكراً مرتبطاً بالظروف القائمة فلا نصيب من خلود بعدها إلا تراثاً وعبرة ، سواء في ذلك فقه العقيدة أو فقه الشريعة " ويؤكد ذلك ما يروى عنه أنه قال في محاضرة ألقاها بجامعة الخرطوم بعنوان ( تحكيم الشريعة ) : " إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم _ كما يجوز للمسيحي _ أن يبدل دينه " !!
2 - رد الدكتور محمد رشاد خليل :
كتب الدكتور محمد رشاد خليل ثلاث مقالات في مجلة المجتمع ( العدد : 587 - 588 - 589 ) للرد على نظرية الترابي في التطور ، وقد تطرق فيها إلى نشوء هذه النظرية عند الغربيين ، وأسباب ذلك .. إلا أنه لم يكمل مقالاته تلك بعرض أقوال الترابي والرد المباشر عليه . وقد انتقيت منها الآتي : يقول الدكتور رشاد :
( قرأت مقال د. حسن الترابي في العدد 573 من المجتمع فشعرت بقلق ، وأردت أن أعرف المزيد عن فكره فجاءني بعض الأخوة ببعض كتاباته ومحاضراته زادتني معرفة بفكره ، وزادتني قلقاً : وفكرت في الرد ثم تريثت لعل الله يكفيني ذلك ، ثم خرجت علينا المجتمع في عددها رقم 584 بلقاء معه مصحوباً بدعوة للمناقشة والحوار ، فرأيت أن المواجهة قد وجبت .(51/42)
ولقد كنت منذ زمن أرصد تسلل الفكر التطوري إلى كتابات المسلمين ، وأرصد معها كلمة التطور حتى في كتابات الذين لا يؤمنون بهذا الفكر ، وكنت أشعر بالقلق من جراء هذا الاستعمال الذي أشاع هذا المصطلح ومهد لقبوله عند المسلمين بقصد وبغير قصد .
عندما قرأت كتابات الدكتور حسن ومحاضراته عرفت ان الأمر قد أخذ منعطفاً خطيراً ، وأن التصدي للتصحيح بالمناقشة أصبح واجباً لأن الأمر في كتابات الدكتور حسن لم يعد مجرد تسلل يتلصص على استحياء ، ولم يعد مجرد خطأ لغوي قاد إليه التساهل و إنما أسفر كمنهج محدد وكدعوة صريحة .
ولقد كانت البلوى على فداحتها أمراً محدود الخطر طالما أن دعوى التطور لم تتجاوز كتابات العلمانيين الذين يدقون لها الطبول منذ أمد بعيد ...
وكان الأمل معقوداً على الدعاة المسلمين المتسلحين بمنهج الإسلام أن يتصدوا لهذه الدعوى بالقول والعمل ، وأن يوقفوا مدها، وأن يعيدوا بناء عقول المسلمين وحياتهم على أساس من هدى الإسلام ومنهجه الخالص ...
أما وقد انتقلت عدوى التطور إلى صفوف الدعاة المسلمين وأصبح بعضهم يبشر بمنهج التطور في صفوف المسلمين فإن البلوى قد تحولت إلى خطر داهم يحتاج إلى المواجهة والتصحيح.
وإذا كان الدعاة المسلمين سيستسلمون للضغط الذي لا نشك في عنفه من الفكر العلماني الإلحادي ، ويحاولون تطويع الإسلام والمسلمين باسم التجديد ، فإن معنى هذا كما يقول الدكتور محمد كامل حسين : أن حصون الحركة الإسلامية سوف تهدم من الداخل ، وأن الأمل الذي يعقده المسلمون عليها لتخليصهم سوف يتحول إلى سراب .
... وخلاصة القول فإن فلسفة التطور بجميع أشكالها القديمة والحديثة هي فلسفة مادية استبعدت الإله الخالق تماما من حسابها في تفسير العالم ، وهي تصر بلا هوادة على تفسير الكون والحياة والإنسان والمجتمع تفسيرا ماديا خالصا ، مستبعدة تماما تدخل أي عامل من خارج هذا العالم المادي .
وعلى هذا الأساس فهي تفسر الدين والأخلاق على اعتبار أنهما ظاهرتان اجتماعيتان لا تفسران إلا من خلال حركة المجتمع في وسطه المادي والثقافي الخاص به ..... ) .
ثم ذكر تطور حركة التطور في الغرب وأسباب ظهورها.
3- رد الأمين الحاج محمد أحمد :
رد الشيخ الأمين الحاج على الترابي بكتابين مهمين : الأول " مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي " ، والثاني " الرد القويم لما جاء به الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب المهين " .
وقد لخصت كتابه الأول في الآتي : يقول الحاج :
( هذه مناقشة هادئة لبعض أفكار أحد دعاة التجديد من العصرانيين وهو الدكتور حسن عبد الله الترابي ، في ضؤ الكتاب والسنة ، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة ، زادها الله تشريفاً وتعظيماً ومهابة ورفعة .
- ( من الآثار السيئة لفكر دكتور الترابي التجديدي الدعوة إلى التقارب الديني ، بين النصارى واليهود والمسلمين ؛ حيث يقول الترابي : ( إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا ، وإننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية ، التي تجمعنا مع المسيحيين ، بتراث التاريخ الديني المشترك ، وبرصيد تأريخي من المعتقدات والأخلاق ، وإننا لا نريد الدين عصبية عداء ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد ) هذه الدعوة شبيهة بالدعوة الماسونية التي هدفها الأول إبعاد الدين عن الحياة ، واليهود والنصارى ليس لهم دين إنما هي مجموعة انحرافات ، وإنما الخاسر الأول والأخير هو المسلم ، صاحب الدين الحق ) .
- ( كذلك من الآثار السيئة لعدم وضوح الرؤية في جانب العقيدة وعدم تحديد الهوية ، وعدم الالتزام بمنهج السلف ، موالاة الشيعة والدعوة إلى التقارب معهم وفتح المجال لهم ، بإنشاء مراكز ثقافية ، وإقامة الاحتفالات الدينية ، وتمكينهم من الاتصال ببعض مشايخ الصوفية وشباب الحركة الإسلامية ، وفتح قنوات اتصال بين هؤلاء وبين السفارة الإيرانية وإيران لحضور بعض الاحتفالات وللقيام ببعض الزيارات ، وتوزيع بعض النشرات والكتيبات ، كل هذا ليزول الحاجز النفسي بين أهل السنة وبين سابي الصحابة ، ومكفريهم ، ولاعني الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وفي كل ذلك ضرر بليغ وفساد كبير للإسلام وللمسلمين ) .
( كذلك من الآثار السيئة لفكر حسن الترابي ـ وهو ناتج عن عدم وضوح الرؤيا في الجانب العقدي أيضاً وبسبب الفراغ الروحي لدى الحركة الإسلامية السودانية ـ فتح المجال للمتصوفة ؛ وذلك برعاية مجلس التصوف وقيام مؤتمر للصوفية تحت شعار " الذكر والذاكرين " وحضور الحوليات والموالد ، وزيارة رجال الطرق ، وإكرامهم ، وإعزازهم ، وفتح المجال في الإذاعة والتلفزيون للمديح المليء بالشركيات ، والمصحوب بالآلات الموسيقية ، وتمجيد الصوفية في كثير من اللقاءات الرسمية ) . ثم ذكر الحاج انحرافات الترابي في مجال المرأة : تجويزه مصافحتها للأجنبي ، تجويزه الاختلاط ، تجويزه سفرها دون محرم ، تجويزه تقلدها للإمامة العظمى !! ، تجنيدها وتدريبها عسكريًا في الجيش ! ، تجويزه عملها سكرتيرة للرجال . تجويزه للموسيقى ، رده للأحاديث الصحيحة التي لا توافق عقله ) .(51/43)
أما كتابه الثاني ( الرد القويم .....) فقد لخص فيه محاضرة الدكتور جعفر شيخ إدريس التي رد بها على الترابي بعنوان ( العلمانية في ثياب إسلامية ) ، ثم ذكر أهم انحرافات الترابي . وقد لخصتها في الآتي :
( 1- إباحته للردة ، وعدم إقامة الحد على المرتد .
2- قوله عن سلمان رشدي : " لو كان عندنا في السودان لما حكمنا عليه بالردة "
3- زعمه أن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً الكفر الإعتقادي !! إنما كفرهم من قبيل الكفر العملي .
4- يدعو إلى توحيد الأديان على أساس الملة الإبراهيمية وتحت راية الحزب الإبراهيمي !
5- يزعم أن أبا البشر حواء وليس أدم !
6 - لا يؤمن بنزول عيسي عليه السلام آخر الزمان !
7- استعماله للألفاظ القبيحة مع أنبياء الله عليهم السلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم ؛ كقوله بأن : " يونس شرد " " وإبراهيم كان " يبحث عن ربه " أو قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الرسو صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا يوح إليه ، ما حيفسر القرآن لهذا اليوم : لأنه لا يعرف هذا اليوم " ! ، وكقوله عن ابن عباس رضي الله عنهما " ابن عباس زروه " .
8 - زعمه أن الصحابة ليسوا عدولاً كلهم.
9 - قوله عن حديث " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم .. " بأنه : " يأخذ فيه برأي الطبيب الكافر ، ولا يأخذ فيه بحديث الرسو صلى الله عليه وسلم " !
10 - إنكاره لجهاد الطلب !
11 - إنكاره لعصمة الأنبياء ! وحصره العصمة في عصمتهم من الناس فقط .
12-إباحته للغناء ، وتضليله الشباب بقوله : إن الاشتغال بالغناء والموسيقى عبادة !! ( كما في رسالته : حوار الدين والفن )
13- زعمه أن العقيدة لا ينبغي أن تكون سلفية ! ) .
4 - رد الدكتور محمود الطحان :
رد الدكتور محمود على الترابي بكتاب عنوانه " مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين " ، قال فيه مبينًا المآخذ على حركة الترابي التجديدية :
( - اتصافها بالعمومات من غير تمثيل :
اتسمت هذه الحركة بسمة الكلام العام من غير تمثيل ، وهذه سمة تدل على أنه ليس هناك مشكلة واضحة تحتاج إلى حكم جديد ، وإلا لضرب بها المثل ، وأما الكلام العام ، فهو دعوى تحتاج إلى بينة )
( - سلوكها طريق المغالطة ، واصطياد الرعاع .
لقد سلكت هذه الدعوة في عرض ما تريد من أفكار طريق المغالطة والغوغائية وذلك بغية اجتذاب الرعاع من الناس ، ومن ليس لديهم القدرة على المناقشة العلمية المبنية على اطلاع واسع على التشريع الإسلامي ، والثروة الفقهية العظيمة التي خلفها سلف الأمة العظيم . وإلى القاري بعض الأمثلة على ذلك :
المثال الأول : يقول الدكتور الترابي : " قد يعلم المرء اليوم كيف يجادل إذا أثيرت الشبهات في حدود الله ، ولكن المرء لا يعرف كيف يعبد الله في التجارة أو السياسة ، أو يعبد الله في الفن ، كيف تتكون في نفسه النيات العقدية التي تمثل معنى العبادة ، ثم لا يعلم كيف يعبر عنها عمليا . وليس ثمة من مفت يُفتك كيف تسوق عربة أو تدير مكتباً ! ولكن الكتب القديمة تفتك حتى كيف تقضي حاجتك ! "
إن هذا الكلام لا يحتاج إلى أي تعليق ، حتى يدرك من لديه إلمام قليل بكتب الفقه الإسلامية التي يعبر عنها ب " الكتب القديمة " فساد هذا الكلام ، ومخالفته الواضحة للواقع ، وافتراءه على الكتب الإسلامية القديمة
فهل صحيح أن كتب الفقه القديمة تفتي الذي يرجع إليها كيف يقضي حاجته وكيف يتطهر ، ولا تفتيه في أمور التجارة والسياسة ؟ إذن أين أبواب البيوع والرهن والتجارة والإجارة والسَلم والقرض والربا والصرف وما إلى ذلك من الأبواب التي تفتي في موضوع التجارة الداخلية والخارجية الموجودة في كل كتاب فقه قديم ؟ وأين أبواب الإمامة الكبرى ، وأبواب الحظر والإباحة ؟
أما كيف يعبد المسلم الله في الفن ، فربما لا يجد الإنسان الفتوى الصريحة فيها داخل كتب الفقه القديمة ، لأننا ما ندري ما حدود الفن الذي يقصده الدكتور الترابي الذي يعبد المسلم الله به !! أهو الرقص والغناء ، أو الموسيقى أو التمثيل أو ... ؟! لأن كلمة الفن كلمة غامضة بالنسبة لنا نحن علماء المسلمين ، ما ندري ماذا يدخل فيها .
ومع هذا فإن كتب الفقه القديمة نجد الفتوى في حكم الغناء والسماع والموسيقى وأخذ الأجرة عليها . ينظر في هذا أبواب الكراهية والاستحسان ، أو أبواب الحظر والإباحة في جميع كتب الفقه القديمة من جميع المذاهب الفقهية المتبوعة ) .
( - نظرتها السوداء إلى كل قديم من الفقه وأصوله ، والصحابة والسلف : إن الناظر في هذه الحركة تبدو له في مواضع كثيرة مما قاله أصحابها أنهم ينظرون نظرة سوداء إلى كل قديم ، سواء كان فقها أو أصول فقه ، وسواء كان صحابة أو سلفا) .
( - اعتبارها العقيدة الإسلامية والأحكام الفقهية مرتبطة بالظروف القائمة في كل قرن ، وليست ثابتة :(51/44)
لقد اعتبر الدكتور الترابي الأفكار الإسلامية المتعلقة بالاعتقاد ، وكذلك الأفكار الإسلامية المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية ، أفكاراً غير ثابتة ، وأنها مرتبطة بالظروف القائمة في كل قرن ، لذلك فينبغي أن تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر ، وأنه لا نصيب لها من الخلود والبقاء . وهذا ما قاله في هذا الصدد : " وإذا كان الفكر الإسلامي في كل قرن فكراً مرتبطاً بالظروف القائمة ، فلا نصيب من خلود بعدها إلا تراثاً وعبرة ، وسواء في ذلك فقه العقيدة ، أو فقه الشريعة ".
وهذه أفكار في منتهى الخطورة ، إذ تجعل الأفكار الإسلامية أفكاراً هشة جدا ، مردها وارتباطها الوحيد هو الظروف ، فتتلون بحسب الظروف التي تحكمها . وليست هي الحاكمة والمهيمنة .
وهذه الفكرة الخطيرة يكثر من تردادها الدكتور الترابي في محاضراته ونشراته ، وهي فكرة تثير الريب والتساؤلات ، وتجعل الدين ألعوبة للحكام ) .
( - وصفها بأن الفقه كان تقليدياً ، لا رسمياً ، ولا شعبياً وأن الفقهاء وسطاء بين العباد وبين ربهم) .
( - تشبيهها الفقهاء برجال الكنيسة ، وتشبيهها الفقه الإسلامي بالفقه الإنجليزي )
( - اعتبارها أنه من حسن حظها ظهورها في بلد ضعيف الثقافة الإسلامية :
وإن مما يثير العجب والدهشة في هذه الحركة أنها تعتبر ضعف الثقافة الإسلامية في مكان ظهورها من حسن حظها . وأنه نعمة لا نقمة ! فقد قال الدكتور الترابي : " من حسن حظنا في السودان أننا في بلد ضعيف التاريخ والثقافة الإسلامية الموروثة ، وقد تبدو تلك لأول وهلة نقمة ، ولعلها ببعض الوجوه نعمة ! إذ لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم الإسلام المتجدد " !
هكذا يا دكتور ترابي ، من حسن حظك وحظ دعوتك أنك تقول ما تريد باسم الإسلام وباسم تجديده في بلد ضعيف الئقافة الإسلامية ، وتعلل ذلك بأنه لكي لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم ما تسميه ب " الإسلام المتجدد "!
( - عيبها على العلماء القدامى إيثارها الأحوط . ودعوتها للتفلت وعدم المحافظة :
الأمر الخطير في هذه الحركة أنها تعيب على العلماء القدامى إيثارهم في بعض المسائل الخلافية الأحوط والأسلم والأضبط ، ثم تدعو إلى الانطلاق والانفلات وترك المحافظة على طريقة سلفنا الصالح في طريقة البحث ، وفي التطبيق ، حتى إن الدكتور الترابي لا يرضى بالدعوة إلى الاعتدال ، وإنما يريد الدعوة إلى الانطلاق والحرية بدون تحفظ ) .
( - اعتبارها أهلية الاجتهاد جملة مرنة ، وأن الجمهور هو الحكم في ذلك : تعتبر هذه الحركة أن أهلية الاجتهاد شيئ نسبي وإضافي ، وأنها جملة مرنة ليس لها ضوابط ولا شرائط ، وأن الجمهور هم الحكم في تمييزالذي هو أعلم ، متخذين من أعرافهم مقاييس تقويم المجتهدين والمفكرين ، ولنسمع إلى الدكتور الترابي ماذا يقول : " فإذا عنينا بدرجة الاجتهاد مرتبة لها شرائط منضبطة ، فما من شيئ في دنيا العلم من هذا القبيل ! وإنما أهلية الاجتهاد جملة مرنة من معايير العلم والالتزام ، تشيع بين المسلمين ليستعملوها في تقويم قادتهم الفكريين ! " ثم يقول : " وقد ينظم المجتمع أحياناً ضوابط شكلية مثل الشهادات ، ليكون حمل شهادة الجامعة أمارة لأهلية بدرجة معينة ، وحمل الشهادة الأعلى إيذانا باستحقاق ثقة أعلى ، وهكذا ، وربما يترك الأمر أمانة للمسلمين ، ليتخذوا بأعرافهم مقاييس تقويم المفكرين .
ومهما تكن المؤهلات الرسمية ، فجمهور المسلمين هو الحكم ، وهم أصحاب الشأن في تمييز الذي هو أعلم وأقوم ، وليس في الدين كنيسة أو سلطة رسمية تحتكر الفتوى " ويقول أيضاً : " وتقدير أهلية الاجتهاد مسألة نسبية وإضافية ، ولكن بعض الكتاب المتنطعين في الضبط يتوهمون أنها درجة معينة تميز طبقة المجتهدين من عامة الفقهاء " هكذا بكل بساطة ، أهلية الاجتهاد جملة مرنة ، والحكم فيها إلى عامة الناس ! متى كان هذا ؟ في أي علم من العلوم أو الفنون الأخرى ؟ أيجوز أن تكون كلمة " عالم بالقوانين والدساتير " كلمة مرنة ، والحكم فيها لعامة الناس وجمهورهم ؟ أيجوز أن تكون كلمة " عالم كبير ، أو خبير بالطب وجراحة القلب " كلمة مرنة ، والحكم فيها للجمهور ؟ .. وهكذا في جميع العلوم والفنون . فإذا كان لا يجوز ذلك في العلوم والفنون الأخرى ، فلم يجوز في العلوم الشرعية وحدها ، ويسمح أن يدعيها كل دعي ويمتطي صهوتها كل غبي ؟!
( - أبرز الأصول التي دعا الدكتور الترابي إلى تجديدها :
إن من أبرز الأمور التي دعا الدكتور الترابي إلى تجديدها في علم أصول الفقه الإسلامي ما يلي :
1- الإجماع
2- أمر الحاكم
3- القياس
4- الاستصحاب
1- أما الإجماع : فقد نحا الدكتور الترابي في تجديده نحواً لم يسمع به أحد من المسلمين ، ولم يخطر ببال عالم من علماء المسلمين القدامى أو المعاصرين !! وكل من يقرأ تصويره للإجماع الجديد الذي يقترحه ، لا يتردد لحظة أنه الاستفتاء أو التصويت من قبل عامة الناس على أمر من الأمور الذي تطرحها الدولة في الأنظمة الغربية على الناس ليأخذوا رأيهم .(51/45)
يقول الترابي : " فإذن يمكن أن نحتكم إلى الرأي العام المسلم ، ونطمئن إلى سلامة فطرة المسلمين ، حتى ولو كانوا جهالا في أن يضبطوا مدى الاختلاف ومجال التفرق "
ويقول أيضاً : " .. ويدور بين الناس الجدل والنقاش حتى ينتهي في آخر الأمر إلى حسم القضية ، إما أن يتبلور رأي عام ، أو قرار يجمع عليه المسلمون ، أو يرجحه جمهورهم وسوادهم الأعظم " هكذا صار الإجماع ـ بعد تطويره وتجديده ـ عند الدكتور الترابي ، جدلاً ونقاشاً بين الناس ـ كل الناس ـ وتصويتا في نهاية الأمر ، فما صوت له جمهورهم وسوادهم الأعظم كان حكماً لا زماً ينزل عليه كل المسلمين !
سبحان الله ! متى كان عامة الناس يرجع إليهم في الأمور العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى بحث ؟ وهل جدل العامة ونقاشهم مبني على أصول علمية ، أم هو لغط وسفسطة ، كل يتكلم كما يحلو له ؟ أليست هذه غوغائية ؟ أليست هذه الطريقة التي اكتوينا بنارها من بعض الحكام والدكتاتوريين الظالمين ؟ فإنه كلما أرادوا شيئاً أتوا بمشروع ، وطرحوه للتصويت عليه من قبل عامة الناس ، أو الشعب ، ليأخذوا عليه الموافقة ، ثم يصبح قانوناً ملزماً ).
( 2- وأما أمر الحاكم ـ أو ولي الأمر ـ فقد اهتم به الترابي كثيراً ، وأولاه من العناية ما يلفت النظر ، وتهجم على الفقهاء والأصوليين القدامى بحجة أنهم أغفلوا حق الحاكم في التشريع وإصدار الأحكام ، ودعا بإصرار إلى إعادة هذا الحق إليه )
( 3- وأما القياس ، فإن الدكتور الترابي لا يريد به قياس الفقهاء والأصوليين الذي له ضوابط وشروط ، وإنما يريد قياساً حراً فطرياً عفوياً ، ليس له أية ضوابط أو قيود ، لأن هذه الضوابط والقيود ـ في زعمه ـ من وضع مناطقه الإغريق ، ثم اقتبسها عنهم الفقهاء ) .
( 4- وأما الاستصحاب ، فإنه وان كان لا يأخذ به فقهاء المسلمين ، ولا يعتبرونه أصلا ً من الأصول يبنون عليه الأحكام الفقهيه ، إلا أن الدكتور الترابي يعتبره أصلاً مهماً ، لكن لا يريده استصحاباً عادياً ، وإنما يريده " استصحابا واسعا " فيقول : تحت عنوان " الاستصحاب الواسع " : " وإذا جمعنا أصل الاستصحاب مع أصل المصالح المرسلة تتهيأ لنا أصول واسعة لفقه الحياة العامة في الإسلام " . فالدكتور الترابي يركز على التوسع في مفهوم الأصول التي أصلها العلماء والأئمة الأقدمون ، ويصر على تسمية كل أصل بذلك . فيقول : " الاستصحاب الواسع " و" القياس الواسع " و" الأصول الواسعة " . وهكذا
وهذا أمر خطير ، إذ يجعل هذه المسميات غير محددة المفهوم ، تتسع لكل تصور ، ولكل ما يخطر بالبال أنه مصلحة ، مع أن المصلحة هي التي اعتبر الشارع أنها مصلحة . وإلا لصار الدين دين مصالح مبنية على اعتبار العقول البشرية ، لا على النصوص السماوية ، وصارت أحكامه أشبه بالقوانين الوضعية التي لا يلحظ فيها الأجانب المصلحة المتبادرة ، ولو كانت مفسدة في الحقيقة والنتيجة ) .
( - وأخيراً لا بأس بذكر بعض الأمثلة من فتاوى تجديدية تمخضت عنها الحركة التجديدية وأفتى بها الدكتور الترابي وهي :
1 - عدم معاقبة المرتد عن دين الإسلام ، وأنه ليس في الردة شيئ .
2- عدم رجم الزاني المحصن .
3- ليس على شارب الخمر حد معين ، وإنما عليه تعزير يعود لرأي الإمام .
4- يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج باليهودي والنصراني !
وغيرها من الفتاوى التجديدية المعاصرة ، وأكثرها النص فيها صريح والإجماع منعقد على خلافها ).
5 - رد أحمد بن مالك :
رد عليه بكتاب " الصارم المسلول على الترابي شاتم الرسول " صلى الله عليه وسلم وانتقده في عدة أمور ؛ هي :
( 1- تنقصه للأنبياء وافتراؤه عليهم - عليهم السلام - .
2- تنقصه للصحابة - رضي الله عنهم - .
3 - إجازته التوارث بين المسلم والكافر !
4 - انكاره حد الردة ، وحد الرجم للزاني المحصن .
5 - دعوته للرقص !! وقوله بأنه : " تعبير جميل يصور معنى خاصًا لما تنطوي عليه النفس البشرية من شعور .." !
6 - دعوته للاختلاط . ) .
6 - رد الأستاذ فريد الثبيت :
رد عليه ضمن كتابه " دعوة الإخوان المسلمين في ميزان الإسلام " . وقد لخص بعض انحرافاته من رد الطحان ، وكتاب " الصارم المسلول .. " .
7 - رد الأستاذ عبدالفتاح محجوب ابراهيم :
رد عليه بكتاب عنوانه " الدكتور حسن الترابي وفساد نظرية تطوير الدين " .وهو عبارة عن مناقشة ما جاء في كتابيه " تجديد الفكر الإسلامي " و " المرأة بين تعايم الدين .. " . وميزة هذا الرد أنه ذكر في ملحقه خطاب الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - الذي وجهه للترابي يسأله عن صحة ما نسب إليه من انحرافات ، ورد الترابي ( المراوغ ! ) عليه .
وقد ذكر الأستاذ عبدالفتاح أن اثنين من السودانيين ردا عليه أيضا بكتابين ؛ هما :
8 - " نقض ديني لدعوة الترابي التجديدية " لمحمد أحمد حامد . و :
9 - " القضيب المصقول " لعلي زين العابدين . ولم أطلع على الكتابين .
10 - رد الشيخ علي حسن عبدالحميد :
تعرض الشيخ علي الحلبي للترابي في كتابه " العقلانيون أفراخ المعتزلة العصريون " ، حيث قال :(51/46)
- ( إني أستغرب من ( بعض ) من له منزلة في نفوسنا ممن ( ما يزال ) يصف الترابي بـ ( المفكر ) و ... ( الداعية )!!
فهل ( هؤلاء ) يجهلون حقيقة الترابي وفكره ؟! أم أنهم ( يعرفون ) ، لكنهم يرجحون المصلحة التي توهمتها عقولهم في ذلك بالسكوت عن بيان حقيقته ؟!
فإلى هؤلاء وغيرهم أسوق بعضاً من كلمات الترابي الدالة علي حقيقة فكره ، وأصل منهجه :
يقول ـ هداه الله ـ في كتابه : " تجديد الفكر الإسلامي " ( ص : 26 ) : " أما المصدر الذي يتعين علينا أن نعيد إليه اعتباره كأصل له مكانته فهو العقل ... " !!
ولقد أداه نظره ( العقلاني ) هذا إلى اعتبار الاكتفاء بالكتاب والسنة ( وهماً شائعاً ) فتراه يقول في الكتاب نفسه ( ص : 25 ) : " ومن المعوقات : هناك من يقول : بأن عندنا ما يكفينا من الكتاب والسنة وهذا وهم شائع ، إذ لا بد أن ينهض علماء فقهاء ، فنحن بحاجة إلى فقه جديد لهذا الواقع الجديد " !!
ما هو هذا الفقه الجديد ؟!
هل هو خارج عن الكتاب والسنة غير متصل بهما ؟!
أم صادر عنهما منبعث منهما ؟!
إن كان الأول ـ وهو ما يريده ـ فهو مردود مرفوض ! بل هو من أبواب الردة ، ـ نسأل الله العافية .
وإن كان الثاني ـ وهو ما وهمه ـ فهو إبطال لكلامه من أساسه ! بل انظر إلى تلك الباقعة العظيمة التي تقيأها هذا الترابي حيث يقول في محاضرة عنوانها " تحكيم الشريعة " ( مبيحاً ) الردة عن الإسلام : " وأود أن أقول : إنه في إطار الدولة الواحدة ، والعهد الواحد : يجوز للمسلم ـ كما يجوز للمسيحي ـ أن يبدل دينه " !! والعياذ بالله تعالى! ولقد أنكر الترابي ـ فيما أنكر بأسلوبه العقلاني الوافد ـ حد الرجم ، كما نقله عنه الدكتور محمود الطحان في كتابه " مفهوم التجديد بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين " ( ص : 31 ) وكذا صاحب كتاب " الصارم المسلول " ( ص : 12 ) ثم تراه ينتقد ( منهج السلف ) والمنتسبين إليه إعلاء لمنهجه ( العقلاني ) ( التجديدي ) بقوله : " ولكن يتسمي بالسلفية آخرون يرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين (!) فهم بحسن نية يتعصبون لذلك التاريخ ، وينسون أن مغزاه في وجهته لا في صورته ! ويقلدون السلف (!) لا في مناهجهم (!) وسننهم الأصولية (!) بل في شكل كسبهم المعين (!) ، ويعتبرون بالصحابة والتابعين حرف (!) أقوالهم وأعمالهم ، ويرون الاتباع لا في المضي على المنهج السالك قدماً (!) إلى الله بل في الموقف عند حد الأولين ومبلغهم ... " !!
كذا قال ! وهو كلام لا يسوى فتلة عقال !!
ولو أردت نقد ـ بل نقض ـ هذه الكلمة البتراء لخرج كتابنا عما وضع له ، لكني أكتفي بإيرادها ليعرف حقيقة هذا الترابي ( العقلاء ) حقاً ! بل انظر إلى قوله بعد ذلك مباشرة : " والغالب في الذين يرجعون إلى الصور السالفة في تطبيق الشريعة لا إلى مغزى أحكامها أنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم .. " !! لذلك ... أجاز ـ بانفتاحه على الحديث والجديد ـ الكفر بالردة عن الإسلام ـ كما سبق ـ !! وأنكر حد الرجم !! وجعل حد شارب الخمر " لا يتعدى الجلد بين عشرين وأربعين (!!) ولا يتعدى السجن نحو شهر أو أكثر من ذلك بقليل (!) وغرامة قليلة (!!) ) .
11 - رد الشيخ محمد سرور زين العابدين :
رد الشيخ محمد سرور على الترابي في كتابه " دراسات في السيرة النبوية " ، وفي مجلة السنة . فقال في كتابه السابق :
- ( حسن الترابي ونزول المسيح :
أنكر أستاذ الحقوق الدستورية في الجامعات السودانية الدكتور حسن عبد الله الترابي نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان ، فقلت له في مجلس ضمنا قبل أكثر من إحدى عشرة سنة : كيف تنكر حديثاً متواتراً ؟! قال : أنا لا أناقش الحديث من حيث سنده وإنما أراه يتعارض من العقل ، ويقدم العقل على النقل عند التعارض .
وقال أيضاً : هناك أحاديث قالها الرسو صلى الله عليه وسلم بصفته البشرية ، وهي ليست حجة رغم صحة أسانيدها ، وتوسع في ذكر نماذج من هذه الأحاديث .
ونادى بوجوب تجديد بعض كتب الأصول ، وفي محاضرة له في مؤتمر للطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية سئل عن الاجتهاد والتقليد فقال :
" هذه الشروط - أي شروط الاجتهاد - ليست منضبطة كشروط الدكتوراه والماجستير هنا في الولايات المتحدة الأمريكية " !
وتأكد لي أن الدكتور حسن الترابي لم يتراجع عن هذه الآراء، بل مازال يدعو لها ولما هو أشد خطورة منها . لقد سئل في المحاضرة التي أشرت إليها قبل قليل عن السنة والشيعة ، وعن الأسباب التي دعته إلى تأييد ثورة الخميني في إيران ؟ فكان مما قاله :
" ليس صحيحاً أن التراث السني والشيعي متباينان هذا التباين ، فكتاب الشوكاني دليل لنا رغم أنه شيعي زيدي ، وما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم ، فما يجمعهم 95 % وما يفرقهم 5 % !
وسئل : هل أنت على المذهب الشيعي ؟ فأجب : أنا لا أسمي نفسي شيعياً ولا سنياً .
سني وشيعي لا تعني أنه يتبع سنة الرسول أو لا يتبعها . معناها حزب سياسي ، ومرشح لكل حزب ، وأنا لا أصوت لهذا ولا لهذا .
وقال :(51/47)
أما القرآن فكلنا نتفق عليه ، أما أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم فنتفق على معظمها سنة وشيعة ، أما التراث السني والشيعي ففيه من الترهات والخرافات عند أهل السنة والشيعة ، وفيه فوائد .
ومضى الدكتور الترابي ـ في محاضرته ـ يتحدث في قضايا حساسة يحتاج طرحها إلى بحث شاق ، وعلم جم ، وإحاطة فعلية بأصول الإسلام وفروعه .
ولي على آرائه في هذه المحاضرة وغيرها ملاحظات أعرضها فيما يلي بشيئ من الإيجاز :
1- موقفه من نزول المسيح عليه السلام لا يختلف عن موقف الإصلاحيين ، وقد أشرت إلى فداحة خطئهم في الصفحات الماضية .
2- أما الأحاديث التي قالها الرسو صلى الله عليه وسلم بصفته البشرية ـ على حد زعم الترابي ومن سبقه إلى مثل هذا القول ـ فالعبرة فيها بكمال النهاية لا بنقص البداية ، وكمال النهاية في حديث تأبير النخل قول صلى الله عليه وسلم :
" أنتم أعلم بأمر دنياكم " ، ويكون هذا الحديث ناسخاً للحديث الأول .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :
" الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة . وأما العصمة في غير ما يتعلق بالتبليغ فللناس فيه نزاع : والقول الذي عليه جمهور الناس ـ وهو الموافق للمنقول عن السلف ـ إثبات العصمة من الإقرار على الخطأ والذنوب مطلقاً "
والمشكلة عند أصحاب هذا الرأي أنهم يعدون كل حديث يخالف أهواءهم من الأحاديث التي قالها r بصفته البشرية .
3- لا أدري كيف تكون شروط الاجتهاد غير منضبطة عند علماء الأصول ، وتكون شروط الدكتوراه والماجستير منضبطة في الولايات المتحدة الأمريكية ؟!
إن الذين يعرفون جامعات الولايات المتحدة يعلمون أن شهادات معظمها مزورة ، ولم تعد مقبولة حتى في بعض الدول المتخلفة
4- قال الترابي عن الشوكاني رحمه الله :
" فكتاب الشوكاني دليل لنا رغم أنه شيعي زيدي " ، وجوابنا على ذلك : كان الشوكاني زيدياً ، ثم اعتنق مذهب أهل السنة ، وتخلي عن مذهب الزيدية وعاش بقية عمره في صراع مع بني قومه ، وكتابه الذي فات المحاضر ذكر اسمه هو نيل الأوطار وهو من كتب أهل السنة ومراجعهم المهمة .
ومن جهة أخرى فهناك بون شاسع بين الزيدية ، والاثني عشرية الأمامية التي يدين بها زعيم الثورة الإيرانية [ آية الله الخميني ] ، ولا أدري كيف اختلطت الأمور على الدكتور الترابي ووقع بمثل هذا الخطأ المؤسف ؟!
5- زعم الترابي أن السنة والشيعة يتفقون على 95 % من أصول الإسلام وفروعه ... ليته أخبرنا كيف توصل إلى هذه الإحصائية التي تشبه إلى حد كبير نتائج انتخابات الرؤساء العسكريين في دول العالم الثالث !!
ويبدو أن حسن الترابي ـ هداه الله ـ سمع ذكر هذه النسبة من دعاة التضليل الشيعة الذين يسمون أنفسهم دعاة التقريب بين المذاهب ، أو أن الأمور التبست عليه فظن أنه ليس هناك من فروق تستحق الذكر بين الزيدية والإمامية الاثني عشرية .
وكان من أبسط الواجبات عليه قبل أن ينتهي إلى هذه النتائج المؤسفة أن يعود إلى أمهات الكتب الشيعة الأمامية الإثني عشرية أمثال :
الكافي للكليني ، وفصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب للطبرسي ، و وسائل الشيعة للحر العاملي ، وروضات الجنات في أحوال العلماء والسادات للموسوي الخونساري ، وتفسير الصافي للكاشاني ، والخصال للصدوق ، وتنقيح المقال للمامقاني ، والاستبصار فيما اختلف من الأخبار للطوسي .
ومن أهم كتبهم الحديثة : المراجعات للمدعو عبد الحسين شرف الدين ، وعقائد الإمامية للدكتور محمد رضا مظفر ، وواقع الشيعة لمحمد المهدي الشيرازي ، و أبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين .
بل من أبسط الواجبات على المحاضر أن يعود إلى كتب زعيم الثورة الإيرانية الخميني ومن أشهرها : تحرير الوسيلة ، والحكومة الإسلامية . لو عاد المحاضر إلى هذه المراجع المهمة عند الشيعة الإمامية لعلم علم اليقين أننا نختلف معهم اختلافاً لا لقاء بعده . ومن أهم الأمور التي نختلف معهم فيها :
- القرآن الكريم : فهم يعتقدون أن لهم قرآنا غير قرآننا يسمى مصحف فاطمة ، وليس فيه من قرآننا حرف واحد
- السنة : فالرافضة لا يؤمنون بصحة أي حديث عند أهل السنة ولو كان متواتراً إلا إذا رواه أئمتهم . وليس أئمتهم من آل البيت وإنما من الآيات والمراجع الذين أشربوا حب الكذب وأسموه تقية .
- يعتقد الرافضة كفر أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم إلا خمسة أو سبعة
- يؤمن الرافضة بعصمة أئمتهم الإثني عشر من الخطأ والزلل ... ومثل هذا الاعتقاد يتعارض مع المفاهيم الديمقراطية التي ينادي يها الترابي ويزعم أنها مفاهيم إسلامية !
- ومن الأمور الخطيرة التي يعتقدها أهل الرفض : التقية ، والرجعة ، وتعظيم المشاهد والقبور ، والقول بكفر أهل السنة ... وليس هذا اعتقاد فئة منهم وإنما هو اعتقاد جميع آيات ومراجع الإمامية الإثني عشرية .
فأين آل 95 % التي تجمع بيننا وبين الرافضة ؟!(51/48)
فإن قال الترابي : إن بين أهل السنة خرافيون يعظمون المشاهد والقبور ، قلت : ليس بين الشيعة من لا يعظم المشاهد والقبور ويحج إليها ، أما الخرافيون من المنتسبين لأهل السنة فأعمالهم تتعارض مع الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وليس عند الشيعة أدلة تتعارض مع تعظيم المشاهد والقبور .
6- من حق الترابي أن يكون شيعياً أو سنياً أو حيادياً كما يصور له عقله ، ولكن ليس من حقه القول : إن السنة لا تعني الالتزام بسنة المصطفي r ، وهو لا يملك دليلاً يدعم فيه قوله وهيهات له ذلك .
أما تصويره للسنه والشيعة بحزبين متنافسين وهو لا يريد أن يصوت لهذا الحزب أو لذالك ... فأمر مؤسف !! كيف لا يعترف الدكتور بجهله التام في عقائد الشيعة وأصولهم وتاريخهم ؟!
أهذا هو الاجتهاد الذي يتحدث عنه في محاضراته الآنفة الذكر ، وغيرها من المحاضرات السابقة واللاحقة ؟!
أهذه هي مفاهيم التجديد في أصول الفقه وغيره التي ينادي بها أستاذ الحقوق الدستورية الدكتور حسن الترابي ؟!
إنها جرأة والله لا يحسد عليها .
وبعد : هذه ملاحظات عن الدكتور الترابي وجدت نفسي مضطراً لذكرها خلال حديثي عن موقف الإصلاحيين من نزول عيسي عليه السلام في آخر الزمان ، وكم أتمني أن يشرح الله صدر الترابي للحق ويتراجع عن مثل هذه البدع التي يدعو لها وما ذلك علي الله بعزيز ).
وقال محمد سرور في مجلة السنة تحت عنوان " فكر الترابي " :
( كنت أعلم أن للترابي أفكاراً منحرفة عن النهج الذي كان عليه رسول الله وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد أشرت بالنقد إلى شيء منها في كتابي: "دراسات في السيرة النبوية" الذي صدر في طبعته الأولى [عام 1407 ه الموافق عام 1986 م].
وما كنت أجد فيما كان يقوله الرجل - رغم خطورته - شيئاً قد انفرد به، فمن قبله كان الشيخ محمد عبده وتلامذته ينكرون نزول المسيح عليه السلام، ويردون حديث الذبابة وغير ذلك من الأمور التي لا تستسيغها عقولهم، ومن هنا جاء اعتراضي في يوم من الأيام على من اتهم حسن الترابي بالزندقة، وكنت أرى أن في هذا الاتهام نوعاً من المجازفة التي لا ينبغي أن تصدر عن شيخ فاضل يقف على قدم راسخة من العلم والفضل والورع - ولا أزكي على الله أحداً -.
صرفتني المشاغل عن الترابي وأفكاره، وكان خلال هذه الفترة يتردد علي من يأتيني بكتاب له [رغم ندرة مؤلفاته] أو بخبر محاضرة من محاضراته وما ورد فيها من غرائب وتناقضات، وكنت أحاول سماع الشريط أو قراءة الكتاب، فلا أستطيع المضي معه أكثر من عشرات الدقائق لأنني لا أجد فيما يقول إلا فلسفة خالية من العلم الشرعي - وحتى من الوضوح - أو من التنظير السياسي الذي يستحق الاحترام والتقدير، ولا أريد أن أضيّع وقتي بشيء لا فائدة منه.
ثم بدأت أسمع أخبار معارك بين الترابي من جهة وبعض رفاق دربه من جهة أخرى، فلم أعرها أي اهتمام لأنها وإن أخذت في ظاهرها شكلاً منهجياً عقدياً، كانت في حقيقتها صراعاً حزبياً داخل الجماعة الواحدة، وهجمة شرسة من القيادة ضد كل من يتمرد على أنظمتها وتعليماتها، ولو كان محقاً من الوجهة الشرعية في المسألة التي يتمرد عليها.
وفي عام 1989 قاد بعض العسكريين انقلاباً في السودان، وتضاربت الأقوال في تحديد هوية الانقلابيين، فمن قائل إنه إسلامي، ومن قائل إنه كأي انقلاب عسكري، ولو كان إسلامياً لما أقدم على سجن شخصية إسلامية في حجم الدكتور حسن عبد الله الترابي. من جهتي لم أكن من المتحمسين لهذا الانقلاب، لا في بدايته عندما كان أمره غامضاً، ولا عندما خرج الترابي من السجن، وأكثر من القول في مجالسه الخاصة إنه انقلابنا وقادته أبناؤنا، وما كان سجني إلا بقصد التمويه.. لم أكن من المتحمسين لهذا الانقلاب، لأنني كنت أراه صدمة أخرى للذين يتطلعون ويتشوقون إلى عودة الأمة الإسلامية إلى كنف ربها، بعد الصدمة الأولى التي طبل لها الإسلاميون وزمروا، ثم كان من أمرها ما كان مما لم يعد يجهله أحد، ومما كان يزيد من قناعتي ويرسخها أن الذين يسوقون للصدمة الثانية هم أنفسهم الذين كانوا يسوقون للصدمة الأولى.
ثمة أسباب دفعتني إلى الاهتمام بثورة الإنقاذ في السودان:
منها: أن بعض من نحترم آراءهم، ونثق بمواقفهم كتبوا لمجلة "السنة" معترضين على صمتها، وعدم إعطاء حكم الإنقاذ حقه من التأييد والنصح.
ومنها: زيارات متكررة من إخوة سودانيين لنا، وبعضهم من الذين يشاركون في الحكم، وقدموا لنا صورة ناصعة البياض عن النظام الإسلامي في السودان.
ومنها: أن أحد الدعاة السلفيين الذين كانوا يعملون في صفوف القوات المسلحة في السودان - أيام نميري - حدثني عن عمر البشير قائد ثورة الإنقاذ، وذكر لي أمثلة عن تواضعه وصدقه وسلامة اعتقاده.
ومنها: تكالب قوى الكفر العالمية ضد السودان ونظامه الجديد، وهذا الذي تحدثت عنه في حلقتين من مجلة السنة تحت عنوان: "مؤامرة أمريكية صهيونية على السودان".(51/49)
هذه الأسباب مجتمعة جعلتني أتعاطف مع ثورة الإنقاذ، وأعيد النظر بمواقفي السلبية السابقة.. وبعد السؤال والبحث الجاد وجدت أن الدكتور حسن الترابي هو هذه الثورة: فكراً، وإدارة، وتخطيطاً، وسياسة، فرئيس الدولة ووزراؤه، ووكلاؤه لابد أن يعودوا إليه ويتلقوا التعليمات منه، وليس بينهم من يستطيع تجاوزه.. وهذا عندي يعني فتح ملف الترابي:
هل تراجع عن أفكاره ومعتقداته المنحرفة أم لا يزال متمسكاً بها؟، وهل يقدر أهمية قيام مثل هذه الدولة ووجوب التعاون والاستفادة من كافة الطاقات الإسلامية؟.
أوصلني فتح هذا الملف إلى نتائج أذهلتني، لاسيما وأن بعض المهتمين بالشأن الإسلامي وضعوا بين يدي ملفات نادرة عن فكر الرجل قديماً وحديثاً.
كان أحدهم يقول لي: إن الترابي يعتقد بأن اليهود والنصارى مؤمنون، ولا يصح القول بكفرهم، فكنت أستغرب ما أسمعه، وأتلقاه بحذر خشية أن يكون وراء ذلك صراع حزبي أو موقف شخصي، ولكن محدثي يسارع إلى تقديم الدليل بعد أن يلمح على وجهي علامات الشك والريبة فيما يقوله، وأمام الدليل القاطع تراني أبحث عما بقي لي من أمل فأقول:
لعل هذا الاعتقاد موقف شخصي، ولا علاقة لحكومة الإنقاذ به، فيأتيني الرد الذي لابد أن يكون المتحدث قد توقعه، وأعد الجواب عليه:
يا أخي: قول الترابي هو قول الحكم، ثم يحدثني عن المؤتمرات التي يعقدها النظام مع النصارى، وما يحدث فيها من شركيات لا تحتمل، حتى أن شيخاً من شيوخ الصوفية نهض في أحد هذه المؤتمرات، وصرخ بوجه محمد الأمين خليفة رئيس المجلس الوطني الانتقالي الذي كان يديره: كفى مروقاً عن الدين، ثم غادر قاعة المؤتمر، وقد تملكه الغضب.
وعندما ابتلعت هذه المسألة التي من الصعوبة بمكان ابتلاعها، لم يترك لي المتحدث الآخر فسحة من الوقت للتفكير بأمر هذه الدولة، وبأمر هذا الرجل الذي استطاع بذلاقة لسانه تضليل هذا العدد الكبير من الناس.. نعم لم يترك لي المتحدث الآخر فسحة من الوقت لالتقاط الأنفاس، فقال:
وصاحبك يؤمن بأن الإنسان من حقه أن يختار الدين الذي يريده، وتطمئن إليه نفسه، وينكر إقامة حد الردة.
فأجبته: كنت أسمع بهذا أيام حكم نميري.
فقال: هو صاحب هذا القول في نظام نميري، وفي نظام الإنقاذ، وهو الذي تولى سن هذا القانون وإقراره من قبل النظامين.
وما زال أصحابي يحدثونني عن البدع الكفرية التي ابتدعها هذا الرجل حتى وجدتني أمام رجل خطير مراوغ، يتلاعب بدين الله كما يحلو له، ولا يبالي بمخالفة صريح مدلول القرآن وصحيح السنة، وإجماع الأمة.
عندما وجدت متسعاً من الوقت عكفت على دراسة الملفات التي قدمها لي الإخوة الغيورون على دينهم، والملفات التي نملكها في محفوظات المركز، فوجدت أموراً لا يجوز لي السكوت عنها، وهذا هو الوقت المناسب - فيما أرى - للحديث عن فكر الرجل وعقيدته، وسيعلم القارئ الكريم بعد أن يفرغ من قراءة هذه الحلقات أنني لا أكتب انتصاراً للتلامذة على شيخهم، ولا أبغي الانتقاص من قدر الشيخ بسبب قضايا قابلة للاجتهاد في المفهوم الشرعي، وليس العلماني الذي يريده الترابي ومن نحا نحوه من المتنورين.
هذا، وقد عرضت في هذه الحلقة والتي تليها أهم أفكار الرجل، وأعرضت عن ذكر بعضها بسبب ضيق المجال، إلا أن الذي عرضته يكفي للحكم عليه، ثم علقت على كل واحدة منها متوخياً الاختصار، ومن الجدير ذكره أنني ما ذكرت قولاً من أقواله إلا وذكرت المصدر الذي اعتمدت عليه.
أولاً: إنكاره لحد الردة:
ينكر الترابي حد الردة، ويرى أن من حق أي مواطن في دولة الإسلام تغيير دينه إذا اقتنع بغيره، يقول في مقابلة له مع جريدة المحرر [العدد: 263، آب 1994]:
"نريد الحوار مع الغرب، لا نريد حرباً معه، نريد أن نحتكم معاً إلى ديموقراطية عالمية، أما في بلدي، فالأولى بي وأنا أدعو للحوار في مواجهة الآخر، أن أتحاور مع كل من حولي، مسلماً كان أم غير مسلم، وعربياً كان أم غير عربي، أتحاور معه وأترك له حرية أن يقول ما يشاء، ويسود بنتيجة الحوار هذا الرأي أو ذاك، وأزيد على كل هذا رأياً هو رأيي الشخصي:
حتى إذا ارتد المسلم تماماً وخرج من الإسلام ويريد أن يبقى حيث هو، فليبق حيث هو. لا إكراه في الدين.. لا إكراه في الدين.. وأنا لا أقول إنه ارتد أو لم يرتد فله حريته في أن يقول ما يشاء، شريطة أن لا يفسد ما هو مشترك بيننا من نظام".
ويقول أيضاً:
"وأود أن أقول: إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه.. أما الردة الفكرية البحتة التي لا تستصحب ثورة على الجماعة ولا انضماماً إلى الصف الذي يقاتل الجماعة كما كان يحدث عندما ورد الحديث المشهور عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، فليس بذلك بأس يذكر، ولقد كان الناس يؤمنون ويكفرون، ثم يؤمنون ويكفرون، ولم يطبق عليهم الرسو صلى الله عليه وسلم حد الردة".
وفي مقابلة له مع صحيفة "المستقلة" قال:(51/50)
"إذا كان الله سبحانه وتعالى وهب الإنسان الحرية [من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر]، ولو شاء الله لطبعنا تماماً على الإيمان كالجماد، كالحجر، كالسموات والأرض والجبال اللائي أشفقن من حمل أمانة الحرية، أشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، فما دام الله قد حمّل الإنسان أمانة الحرية يصبح الأمر بديهة من بديهيات الدين، تشهد بها آيات القرآن [لا إكراه في الدين] وحتى في أيام الرسو صلى الله عليه وسلم تحدث القرآن الكريم عن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا.. كان الناس يرتدون ويعودون ويخرجون وهكذا.
حديث المرتد حديث قصير جاء في سياق العلاقات الحربية، كان المسلمون يشفقون من المسلم إذا ارتد ورأوه في صف المقاتلين هنالك هل يعصمه إسلامه السابق من قتله إذا قدروا عليه في ميدان القتال، فقال لهم الرسو صلى الله عليه وسلم من بدل دينه وفارق الجماعة فاقتلوه. ولكن الناس انتزعوا هذا الحديث من أسبابه الخاصة، ونسخوا به أصلاً من أصول الدين هو حرية العقيدة. كيف لعاقل أن يتصور أن الله سبحانه الذي لم يكره أحداً يبيح لنا أن نكره أحداً على الإيمان؟.
وآيات حظر الإكراه شتى في القرآن وفي غالب سنن الرسو صلى الله عليه وسلم ، لذلك أنا لا أوافق على الرأي الشائع في حكم المرتد أبداً.
وفي إشارة منه على عدم احترامه للمصادر الشرعية يقول:
".. وهذه لا تحتاج إلى الرجوع إلى قول فلان ورد فلان على فلان. حرية العقيدة أصل من أصول القرآن، لكن أكثر المسلمين انقطعوا عن أصولهم تماماً، وبدأوا يأخذون عمن أخذ عمن أخذ عمن أخذ من الأصول!! وهذه واحدة من ظواهر التخلف عن دواعي الدين.
ويدرك الترابي [وما زلنا ننقل فقرات من مقابلته مع صحيفة المستقلة] أنه في شذوذاته هذه كمن يناطح قلعة شاهقة فيقول:
"فقد لا أكون أعلم الناس وأكثرهم زاداً من العلم، وقد لا يثق الناس باجتهادي بل يحسبون أن أهوائي قد تؤثر علي. ذلك أمر للناس، وهم يحكمون عليّ وعليك بمعاييرهم" (1).
تعليق:
قتل المرتد من المعلوم بالدين بالضرورة، ومما أجمع عليه أهل العلم، يقول ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين، وروي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد رضي الله عنهم، وغيرهم، ولم يُنْكَرْ ذلك، فكان إجماعاً" وقال أيضاً: "ومن اعتقد حِلَّ شيءٍ أُجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه، كفر" (2).
وهؤلاء هم الذين قصدهم الترابي بقوله: "لكن الناس انتزعوا هذا الحديث من أسبابه الخاصة، ونسخوا به أصلاً من أصول الدين هو حرية العقيدة".. أي أن الصحابة والتابعين وأئمة خير القرون المفضلة، وعلماء الإسلام في كل عصر ومصر انتزعوا الحديث من أسبابه ونسخوا به أصلاً من أصول الدين، ولم يكتشف هذه الحقيقة على مر العصور إلا رجل من الخرطوم اسمه حسن عبد الله الترابي!!.
إن ما ذكره الترابي في مسألة قتل المرتد ظاهر بطلانه عند المبتدئين من طلاب العلم فضلاً عن العلماء، وما هو إلا خليط من أقوال المستشرقين والمستغربين وكل الحاقدين على هذا الدين، وأحسب أن كبار هؤلاء ودهاتهم يترفعون فيما يكتبونه عن استهتار الترابي في كثير من كتاباته ومحاضراته عن الإسلام، ومن الأمثلة قوله في إحدى محاضراته: "لا إكراه في الدين" Full stop!!.
أهكذا يفسر القرآن؟، وهل من الأدب الشرعي وهو يخاطب عرب السودان في جامعة الخرطوم أن ينطق بهذه الكلمة الإنكليزية التي تعني بالعربية: نقطة انتهى.
انتهى!! لا تحاولوا ربط الآية بمثيلاتها، ولا تتطرقوا لأسباب النزول وأقوال علماء التفسير، والأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا المعنى.
انتهى!! هذه هي تعليمات الشيخ، وهكذا يتلقى المريد، وعلى هذا الأساس تقوم دولة ويسمونها إسلامية!!.
الدستور السوداني الذي اعتبرته حكومة الإنقاذ فتحاً عظيماً، أقر ما قاله الترابي - بطريقة لا تخلو من المراوغة - في هذا الشأن، ونص على حرية الاعتقاد، ومن باب أولى فقد ألغى حد الردة.. لهذا ولغيره فقد كان موضع انتقاد كثير من الدعاة في البلدان العربية، ولم يجدوا فيه ما كانوا ينتظرونه من حكومة الإنقاذ.
ثانياً: عقيدته في اليهود والنصارى:
قال الترابي:(51/51)
"إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلب الساعة، وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية، فنحن نعلم جميعاً أن الكثير من الحروبات التي شنت باسم الدين والاضطهاد الذي وقع باسم الدين كان الدين منه براء، لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها - رسالة الفضيلة والسلام - بحد السيف أو بالقنابل والمدافع، ونحن نقرأ تاريخ الحروب الصليبية التي شنت على الشرق فنراها حملات استعمارية، استخدم فيها بعض ملوك أوربا شعار الصليب واسم المسيحية ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيها جماهيرهم المؤمنة، ويمدهم بالموارد وبكنوز الشرق التي كانوا يسمعون بها، وكذلك جاءت الموجة المتأخرة من الاستعمار واستخدمت اسم الدين ودعاوى التبشير لتبسط نفوذها على الأرض والناس تتخذهم سلعة لتجارة الرقيق وسخرياً لتحقيق مآربها الدنيوية المفارقة لهدي الأديان جميعاً، ولقد جاءت الموجة الاستعمارية بعرقيتها وعنصريتها مخالفة لهدي الإخاء المسيحي الذي لا يرى فرقاً بين أبيض وأسود إلا بالتقوى" (3).
وقال: "إن البعد عن عصبية الدين، والتحرر من التعصب المذهبي، هو الباب المفضي إلى حوار حقيقي بين الأديان، فإذا ترك أهل الأديان التعصب كل لمذهبه وملته، وأقبل على دراسة الأديان بعقل متفتح، كان أحرى أن ينكشف له الأصل الواحد لهذه الأديان، واشتراكها في القيم الأساسية التي تدعو لها. وهذه هي دعوتنا اليوم: أن تقوم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندنا يطلق في القرآن يقصد به كل كتاب جاء من عند الله".
وإذن: يدعو الترابي إلى قيام جبهة أهل الإيمان (المسلمون، والنصارى، واليهود) على أساس الملة الإبراهيمية، وكان منذ القديم يطرح هذه الأفكار في منتدياته، يقول في مقابله له مع مجلة المجتمع (العدد: 736، تاريخ 8/10/1985):
"إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا، وإننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ المشترك وبرصيد تاريخي من المعتقدات والأخلاق، إننا لا نريد الدين عصبية عداء، ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد".
وفي مقابلة له مع المحرر [العدد 263، آب 1994] يقول:
"إنني لأعتقد أن النصراني أقرب إلي ممن ينافقني ويدعي الإسلام، ابتغاء مكسب، فالمنافق ديناً في الدرك الأسفل من النار، وفي الدرك الأسفل عندي من الانحطاط، أنا لا أريد أن أكره نصرانياً ولا حتى إفريقياً على أن يدخل في الإسلام بالإكراه. إنني أخسر بهذا ولا أربح شيئاً. بل إنني أنفتح على دعوته لي إذا شاء إلى النصرانية أو الإفريقية وأنا مطمئن إلى من تكون له عاقبة الدعوة والدار".
النفاق العملي والاعتقادي:
قوله: "ينافقني": أي يتودد إليه ويتقرب منه، ويظهر له خلاف ما يبطن، والترابي كان في الوقت الذي أجرى فيه هذه المقابلة مع "المحرر" الرجل الأول في النظام، وكان لابد من عودة رئيس الدولة - عمر البشير - إليه لعرض أموره عليه وأخذ التعليمات منه، وطلابه يعرفون كيف بطش بزملاء وأساتذة لهم من قبل، وسيكون مصيرهم كمصير مَنْ سلفهم إن لم يسترضوا شيخهم ويتوددون إليه بعبارات يعلمون أنه لا يستحقها، وهذا النوع من النفاق، اسمه "نفاق عملي"، وهو ليس أكثر من معصية وصاحبه لا يكفر، أما النفاق الذي يقود صاحبه إلى الدرك الأسفل من النار فهو "نفاق اعتقادي" ولا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، لأن محله القلب، ونحن نحكم على ظاهر أفعال المرء، ولسنا مكلفين بالبحث عما تكنه صدور الناس، وفي بعض الحالات قد نحكم على أنواع معينة من الناس - ومن خلال الظاهر - بالنفاق الأكبر، ومن الأمثلة على ذلك العلماني الذي يدعو إلى مذهبه ويؤذي الدعاة إلى الله ثم نراه يصلي في المناسبات العامة لتلتقط له الصور.
فهل كان الترابي يجهل الفارق بين هذين النوعين من النفاق: الاعتقادي والعملي؟ أم كان يخلط خلطاً متعمداً، ويستغفل عقلية المخاطبين بمقابلته مع صحيفة المحرر؟!.
أمر آخر لابد من الإشارة إليه ما دمنا في صدد الحديث عن النفاق، وذلك أن النفاق عند النصارى في بلادنا أظهر منه عند غيرهم لأنهم يكرهون ديننا، ويفضلون علينا إخوانهم نصارى أوربا وأمريكا، ولا يستطيعون البوح بذلك فيظهرون لنا خلاف ما يبطنون.
أما دعوة الترابي إلى الإخاء الديني وإلى تكوين جبهة أهل الإيمان [اليهود، والنصارى، والمسلمون] فقديمة مثل كثير من انحرافاته، وقد كان يلقى أعقاب كل محاضرة يلقيها من يحاول نصحه وإقامة الحجة عليه، فما يزيده ذلك إلا إصراراً وتمسكاً بما يدعو إليه، فإذا قيل له: ألم يقل الله جلَّ وعلا عن اليهود كذا وكذا - يذكرون له الآيات التي أنزلها الله بحقهم - أجاب: يهود اليوم ليسوا هم اليهود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم (عن مجلة الطالب السوداني)، وفي محاضرة له في جامعة الخرطوم أجاب: اليهود الذين أتحدث عنهم ليسوا صهاينة.(51/52)
وإذا قيل له: لقد أخبرنا الحق جلَّ وعلا في محكم كتابه بأن اليهود والنصارى كفار، أجاب: كلمة الكفر لا تعني الخروج عن الملة، وإنها بمعنى تغطية بعض الحق مثل المسلم الذي يقارف معصية، ثم يتوب منها.. ثم يمضي الترابي قائلاً: "بل سماهم الله في القرآن أهل الكتاب، فهم مؤمنون"، ولأنهم مؤمنون يشاركهم المسؤولون السودانيون - في دولة الترابي - في أعيادهم، ويسمحون لهم ببناء الكنائس وغير ذلك من الأنشطة دون حدود أو قيود.
وكتعليق عابر نقول: إن المسلمين الذين نالوا الحد الأدنى من ا لعلوم الشرعية يعلمون أن الترابي فيما يدعيه ويدعو إليه يُكذِّبُ قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم} [المائدة:17]. وقوله:{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة:73]، وقوله: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}[المائدة:18] ، وقوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحُ ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}[التوبة:30 - 31].
وإذن: لقد كفر اليهود والنصارى لأنهم كانوا يعتقدون بأن لله ولداً، وأنه ثالث ثلاثة، وهذا هو الكفر الأكبر.
وكفر اليهود والنصارى لأنهم زعموا بأن القرآن الكريم ليس كلام الله، وأنه سبحانه وتعالى لم يرسلمحمدا صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، ولهذا فقد أجمع علماء الملة على كفر اليهود والنصارى، وكفر من لم يكفرهم أو شك في كفرهم ما لم يكن معذوراً بجهله. والعذر بالجهل يزول بعد إقامة الحجة عليه، وليس من المعذورين بجهلهم من يدعو إلى هذه الضلالة من خلال المنتديات التي يحاضر بها أو المقابلات الصحفية التي يعقدها، ويسمع في هذه وتلك ردود العلماء فما تزيده إلا إصراراً على بدعته ودأباً في الدعوة إليها.
والمثير للدهشة أن هذا الذي ينادي إلى قيام جبهة أهل الإيمان على أساس الملة الإبراهيمية، هو نفسه الذي أوعز للقيادة العسكرية بحل التنظيمات الحزبية، وعندما كان زملاؤه في الجبهة القومية الإسلامية يطالبونه بعودة التنظيم لأنه هو الذي دبر الانقلاب العسكري، وليس الترابي وحده، كان يتهرب من الجواب، وعندما يضطر كان يقول لهم: هكذا يريد العسكريون، وإرادة العسكريين لا تخرج عن إرادته "رمتني بدائها وانسلت".
وهو نفسه الذي لم تصدر عنه أية مبادرة لإقامة جبهة إسلامية في بلده تشمل: أنصار السنة، والإخوان المسلمين بقسميهم، وبقية الجماعات الأخرى، مع أنه هو ودولته بحاجة ملحة إلى قيام هذه الجبهة، وإلى توحيد كافة الطاقات الإسلامية لتأخذ دورها المنشود في مواجهة أعداء الله على كافة الجبهات والمواقع. فكيف نصدق أن هذا الذي بطش بزملائه وإخوانه الدعاة واحداً بعد الآخر، ومن كان عنده أدنى شك فليذهب إلى قادة الجبهة القومية الإسلامية وليسألهم.. نعم كيف نصدق بأن هذا الذي لم يتسع صدره لجماعته يريد أن يوحد اليهود والنصارى والإسلام؟!.
وإذا قيل: إنها سياسة لكسب ود النصارى في السودان، والفاتيكان وأوربا وأمريكا. فالجواب: إن كسب ود هؤلاء لا يكون بقول يخرج قائله من ملة الإسلام.. ومن ثم فها هو لم يكسب ود أحد.
ثالثاً : إنكار نزول المسيح عليه السلام:
جاء في كتابه "قضايا التجديد.. نحو منهج أصولي":
"وفي بعض التقاليد الدينية تصور عقدي بأن خط التاريخ الديني بعد عهد التأسيس الأول ينحدر بأمر الدين انحطاطاً مضطرداً لا يرسم نمطاً روحياً. وفي ظل هذا الاعتقاد تتركز آمال الإصلاح أو التجديد نحو حدث أو عهد واحد بعينه مرجو في المستقبل يرد أمر الدين إلى حالته المثلى من جديد. وهذه عقيدة نشأت عند اليهود واعترت النصارى، وقوامها انتظار المسيح يأتي أو يعود عندما يبلغ الانحطاط ذروته بعهد الدجال قبل أن ينقلب الحال صاعداً بذلك الظهور، ولعلها تحريف للبشريات التي جاءت في الوحي القديم بمبعث عيسى ثم بمبعث محمد عليهما السلام.
وقد انتقلت هذه العقيدة بأثر من دفع الإسرائيليات إلى المسلمين. وما يزال جمهور من عامة المسلمين يعولون عليها في تجديد دينهم، وفشوها هو الذي أغرى كثيرين من أدعياء المهدية والعيسوية، وبعضهم تحركه نية صادقة للإصلاح والتجديد لكنه بتربيته الثقافية التقليدية وبتربية العامة الذين يخاطبهم لا يجد وجهاً لشرعية الخروج على القديم إلا بحجة المهدية النهائية، ولعل تلك العقيدة هي ألهت المسلمين عن القيام بعبء الإصلاح وأقعدتهم في كثير من حالات الانحطاط المستفز مرجئة ينتظرون مجيء صاحب الوقت".
تعليق:(51/53)
عقيدة نزول المسيح عليه السلام آخر الزمن ثابتة في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الصحيحة، ومنها صحيحا البخاري ومسلم، وعدّها كثير من أئمة الحديث من الأحاديث المتواترة، فابن حجر العسقلاني تتبع طرقها واحداً واحداً وأثبت بأنها متواترة، وذكر الشوكاني في توضيحه تسعة وعشرين حديثاً ما بين صحيح وحسن وضعيف منجبر، منها ما هو مذكور في أحاديث الدجال، ومنها ما هو مذكور في أحاديث المهدي المنتظر، وتنضم إلى ذلك أيضاً الآثار الواردة عن الصحابة فلها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك (4).
الترابي لم يسلك سبيل من سلفه ممن أنكر نزول المسيح، أعني لم يتعب نفسه في مناقشة الآيات والأحاديث النبوية وأقوال العلماء، ثم يقول رأيه فيها من الوجهة الشرعية، ومن جهة أخرى لم يستخدم ألفاظاً ومصطلحات شرعية، وإنما عبارات فلسفية وإنشائية، ومن الأمثلة على ذلك قوله: "وفي بعض التقاليد الدينية" فهذه التي يسميها تقاليد أحاديث نبوية صحيحة. وقوله فيما سماه إسرائيليات: "وفشوها هو الذي أغرى كثيرين من أدعياء المهدية والعيسوية"! فهل المتبع للقرآن والسنة المتواترة دعي أم الدعي من يتبع أهواء المستشرقين والمارقين؟!.
ومن جهة ثالثة ليس صحيحاً خلطه ما بين عقيدة المسلمين في نزول المسيح واليأس الذي يعتري بعضهم، فيقعدون عن العمل الدعوي منتظرين نزول المسيح، لا، ليس الأمر كذلك لأن المسلمين مأمورون شرعاً بالدعوة والجهاد من أجل أن يكون الدين كله لله، ومن ثم فهم لا يدرون متى ينزل المسيح والمهدي والدجال، بل المطلوب منهم محاربة كل دجال في جميع الأزمنة والأمكنة.
رابعاً : الاتحاد والفناء في ذات الله بالفن:
يقول الترابي: "والدين التوحيدي هو الذي يوحد الحرية من الذات إلى النظام مع الآخرين، فيحرر المؤمن من كل ما يستعبده في النفس والمجتمع ويخلصه لربه فيلتزم من تلقاء نفسه بأمر الله. ويتحد به ويفنى فيه، ولا يستشعر مجانبة ولا حرجاً. فالدين وحده هو الذي يجعل الفنان ملتزماً وهو صادق لا يلقى عليه الإلزام من خارج نفسه، فيكبته ولا يسمح لفنه بأن يتنفس ويعيش ويثمر أو يجعله منافقاً يعالج الصور الفنية تكلفاً متقطعاً من الإبداع الأصيل في ذات نفسه". ويقول عن الصوفية:
"فقامت الحركة الصوفية وهي تربية تثير الوجدان المؤمن، وتلتمس لطائف التعبير عن لطائف الأحوال، فأخذت من مادة الحياة الثقافية الواسعة كلمات تعبر به عن معانيها وما يعينها عن شعائر الذكر والعبادة، فكثر السماع عن الصوفية وراج الشعر الجميل ودخل التواجد في الذكر فكان الرقص وما يصاحبه من شعائر التصوف، لاسيما على الصعيد الشعبي إذ يغلب الشعور الإيماني على التصورات العلمية النظرية، ويحقق المؤمن من العوام ذاته المتدينة في حلقة ذكر راقص أو إنشاد شعر أو جلسة سماع بينما ينشغل الخاصة ويشبعون أنفسهم بالعلم والتفقه". وأضاف:
"المشكل الأكبر الذي يواجهنا اليوم في شأن الفنون هو التوجه بها إلى الدين، وهي شكل يضاهي شأننا مع السياسة والاقتصاد والعلم وكثير من مقاصد الحياة التي انقطعت عن الوجهة الدينية، ومرقت على الأطر الشرعية وشكلت قطاع حياة بجانب الدين ويجعل وجودنا في الدنيا مؤسساً على ثنائية إشراك غير مقبول: بعض شأننا لله وبعضه لسواه".
ويمضي في الحديث عن الأسباب التي تمنع من التوجه بالفنون إلى الدين، فيقول:
"منها أن فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا ولا يهيئنا لأن نتذكر الله بالجمال وصنعه ولا نعبده من خلاله. وذلك يستدعي تربية إيمانية تأصيلية في المجال الفني تجند له شروح العقيدة بوجه يدخل الفن فيها ومنهاجاً للسلوك الإيماني يحقق ذلك في واقع التدين، ولا تنفصل العقيدة الإيمانية عن صور التعبير الشرعي عنها".
وتحت عنوان: "الدين للفن" يقول:
"إن دين التوحيد الذي يسلم به الفن لله منهاج يسلك طريق العبادة بالفن من حيث يسقط اللا متدينون في الفتنة. فبالتوحيد يتخذ الإنسان الفن وسيلة إلى الله يأخذه بذات خصائصه دون كبت أو تعطيل ويسخره للعبادة، بل يرقى بطبيعته تلك ليرقى به قدر العبادة.. فلا بد إذن من اتخاذ الفن مادة لعبادة الله. فمن تلقائه يضل كثير من الضالين وبه يمكن أن يهتدي المهتدون، فمن أهمله ترك باباً واسعاً للفتنة الملهية عن الله والداعية إلى معاصيه، ومن أخذه بما ينبغي فتح باباً واسعاً للدعوة إلى الله بدفع جاذبية الجمال ولعبادته أجمل وجوه العبادة. فالغالب من الناس يقبلون على الفنون والجماليات ويمكن أن توافيهم داعية الدين، وسواء عظيم منهم آتاهم الله ملكة الإبداع الفني، ورباهم فيهم مجتمع مولع بالفنون، ولن تكتمل لهم حياة موحدة إلا إذا جعلوا نشاطهم الفني بعض تدينهم، ولم يشققوا حياتهم ويحيلوا الفن هامشاً لغواً فيها، أو يحيلوا الدين إلى زاوية معزولة" (5).
وعن الرقص يقول:
"الرقص كذلك تعبير جميل يصور معنى خاصاً بما تنطوي عليه النفس البشرية.. إلى أن قال: ولا ننكر أن في الغرب رقصاً يعبر عن معانٍ أخرى كريمة" (6).(51/54)
وفي المجال التطبيقي لهذه القناعة في الغناء والرقص أسس الترابي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات فرقة غنائية موسيقية مكونة من فتيان وفتيات سماها "نمارق"، وأحيت نمارق الترابي حفلات غنائية مختلطة، وفي مثل هذه الأجواء لابد من اختلاء الشباب مع الشابات، وهذا الاختلاء يقود حتماً إلى مفاسد كثيرة، وإثم ذلك كله في ذمة المفتي الدكتور في الحقوق الدستورية من جامعة السوربون حسن الترابي.
بين يدي وأنا أعد هذا البحث تقرير رفعه أحد الطلبة النشيطين في جامعة الخرطوم للمسؤولين عن تنظيمه في الجامعة يبيّن فيه أسباب استقالته من الجماعة الإسلامية التي يتزعمها الترابي، وكان مما جاء فيه:
"13 - (7) الدعوة الخبيثة لاقتحام مجال الفن وتسخيره لعبادة الله، مستغلاً جهل الناس بعلوم دينهم مزيناً دعواه بالفهوم الخاطئة والروايات الموضوعة عن الغناء والرقص والتمثيل.. مما أدى لظهور الذين يجيدون الغناء وقراءة النوتة الموسيقية أكثر من قراءة القرآن".
وفي موضع آخر من تقريره يقول:
"أصبحت قضية الغناء هي المشكلة التي تواجه الدولة الإسلامية المرتقبة، فكثر المتخصصون في الحديث عنه، وتكونت شعبة الموسيقى والمسرح لتعليم الفتيات النوتة الموسيقية قبل علوم الدين الأساسية، وتعددت الرسائل التي تناقش قضايا الفن والغناء والرقص في الوقت الذي يجهل فيه الناس علوم دينهم." (8). ولنا عودة إلى هذا التقرير مرة أخرى إن شاء الله.
تعليق:
1 - أُرْجِئ الحديث عما قاله الترابي عن الاتحاد والفناء في ذات الله إلى موضع آخر.
2 - عندما سمعت لأول مرة الحديث عن اهتمام الترابي بالفن، وأنه يعتبره قسماً من أقسام التوحيد والعقيدة الإسلامية، ظننت أن هذا القول صورة من صور التشنيع على الرجل، وذَكَّرْتُ المتحدث بالله، وعندما أصرَّ على قوله. قلت له:
ما علاقة الفن والرقص بالعقيدة، أوَ يقول ذلك عاقل؟!، وإن قاله كيف يقبل المسلمون الذين يتبعونه هذا القول؟، ثم يبقى قائله زعيماً ومنظراً لنظام إسلامي - كما يدعون - ، وأخيراً اقتنعت بما قاله محدثي، وعش رجباً ترى عجباً.
3 - اشتراكية الإسلام.. ديمقراطية الإسلام، هذا ما قيل قبل ستة عقود، ويقول الترابي اليوم: الفن الإسلامي.. الرقص الإسلامي.. ماذا سُيقال غداً: هل يقال علمانية الإسلام؟، أجل، لقد قال الترابي شيئاً من هذا كما سيأتي الحديث.
4 - إنني أعترف بأنه استفزني بقوله: "فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا"، ولهذا فهو يطالب بتربية إيمانية تأصيلية تعمل على إدخال الفن في صلب العقيدة!!، ترى من يخاطب هذا الرجل؟ لا أشك أنه سيندحر ويندحر معه رقصه وموسيقاه والوتر الذي تاب - حسب قوله - وتبقى لنا عقيدتنا سالمة من التغيير والتشويه والتبديل.
خامساً : الترابي: لست سنياً ولا شيعياً:
وعن موقفه من السنة والشيعة يقول:
"كنت أتحدث في مؤتمر مع مسلمين وعرب في المؤتمر العربي والإسلامي. قلت لهم: .. أنا لست سنياً ولا أدرك ما معنى السني والشيعي. إذا اختلفنا على مرشحين اثنين للخلافة الراشدة الثالثة، فصوت بعضهم لهذا وصوت آخرون لذلك. فتلك أمة قد مضت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، فهل نشق التاريخ الإسلامي إلى يوم القيامة.
كذلك المذاهب، ما أحسب أن مالكاً أو أبا حنيفة أو الصادق قد قدروا أنهم أسسوا مذهباً يستمر إلى يوم القيامة. لقد اجتهدوا ليومهم وربما حسبوا أن اجتهادهم لا يزيد على أن يستمر لسنوات، ثم يأتي مجتهدون جدد يجددون الدين ويواجهون مشكلات جديدة. لكنا بقينا أسرى اجتهادهم. حتى أهل الصوفية أرادوا أن يدخلوا معاني داخلية للدين لا معاني ظاهرية فقط، فاتخذناها طرقاً إلى يوم القيامة: كالقادرية، والنقشبندية، و … الخ. لهؤلاء جميعاً أقول: تعالوا نتوحد".
هذا ما قاله الترابي لصحيفة المحرر [في 1/8/94]، أما ما قاله في أحد مؤتمرات الطلبة العرب المسلمين في أمريكا:
"ليس صحيحاً أن التراث السني والشيعي متباينان هذا التباين، فكتاب الشوكاني دليل لنا رغم أنه شيعي زيدي، وما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم، فما يجمعهم 95% وما يفرقهم 5%.
وسئل: هل أنت على المذهب الشيعي؟ فأجاب: أنا لا أسمي نفسي شيعياً ولا سنياً، سني وشيعي لا تعني أنه يتبع سنة الرسول أو لا يتبعها. معناها حزب سياسي، ومرشح لكل حزب، وأنا لا أصوت لهذا ولا لهذا، وقال: وأما القرآن فكلنا نتفق عليه، أما أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم فنتفق على معظمها سنة وشيعة، أما التراث السني والشيعي ففيه من الترهات والخرافات عند أهل السنة والشيعة، وفيه فوائد" (9).
لمَ لا نحسن الظن بالرجل، ونصدق قوله: ".. ولا أدري ما معنى السني والشيعي"، وهذا الذي قاله ينم عن جهل واضح وفاضح.
فالناس يسألونه عن الشيعة الاثني عشرية، مذهب الخميني ورافضة إيران، وهو يجيبهم عن الزيدية، مما يدل على أنه لا يعرف الفرق بينهما.(51/55)
وكتاب الشوكاني الذي يبدو أنه سمع به ثم نسي اسمه هو: "نيل الأوطار"، ويعتبر مرجعاً من مراجع أهل السنة، والشوكاني كان شيعياً زيدياً، ثم أصبح سنياً وعاش بقية عمره ثم مات على عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم.
قوله إن الشيعة والسنة متفقون على 95% من الإسلام، لا يقبله أي سني يفهم دينه وعقيدته، وقل مثل ذلك في أي شيعي، ولا يقبله أيضاً أي مستشرق يحترم عقله وعقول الذين يخاطبهم فيما يكتب، وذلك لأن الشيعة يقولون أن عندهم قرآناً غير قرآننا ويسمونه مصحف فاطمة، وهو مثل القرآن ثلاث مرات. وسيظهره مهديهم، ولا يعتقدون صحة حديث إلا إذا رواه أئمتهم ومراجعهم، ولو كان هذا الحديث متواتراً عند أهل السنة، وفضلاً عن ذلك فهم يعتقدون عصمة أئمتهم، والترابي يشكك حتى بعصمة الرسو صلى الله عليه وسلم ، كما يعتقدون عقائد أخرى باطلة: كالرجعة، والتقية، وكفر الصحابة وردتهم لا يستثنون إلا خمسة منهم، فأين هذا الاتفاق على 95% من الدين؟.
وإذا كان الترابي قد اعترف بجهله في هذه المسألة الخطيرة فكيف يخوض ويفتي بها؟.
ومن جهة أخرى فإن حديثه مع "المحرر" جاء بعد عشرة أعوام، وهي فترة كافية ليتعلم، لاسيما وأنه يتعرض لمثل هذه الأسئلة في محاضراته ومجالسه العامة.. مع ذلك وبكل استهتار يكرر "للمحرر" إقراره بالجهل ويعيد الفتوى السابقة نفسها.
سادساً : الترابي والمرأة:
للترابي كتيب سماه "المرأة في تعاليم الإسلام" عرض فيه نصوصاً من الكتاب والسنة، ثم فهمها حسب طريقته التجديدية التي لا تخضع لضوابط شرعية، فليس لك أن تحاججه بالفقه وأصوله، ولا بعلم التفسير وأقوال أئمة التفسير. وهذا خلاصة ما انتهى إليه:
للمرأة أن تتخذ عقيدتها بغير إكراه، وهذا ما يدندن حوله كثيراً، وأرجو أن لا أكون قد أخطأت في فهم كلامه عندما أقول: من حق المرأة أن تتحول من الإسلام إلى النصرانية أو إلى غير ذلك من الأديان والمذاهب، وليس من حق زوجها أن يكرهها على العودة إلى الإسلام.
للمرأة أن تشهد مجتمعات المسلمين وندواتهم العامة، ولها أن تحاضر فيها.
وإذا كان من حق المرأة مثلها مثل الرجل أن تعتنق الدين الذين تقتنع به، فمن باب أولى من حقها أن تلبس ما تشاء في دولته الإسلامية، وسئل في إحدى محاضراته: ومتى تتدخل الدولة؟ فأجاب: إذا خرجت المرأة عارية.
يؤكد في مواضع متعددة من كتابه على جواز الاختلاط، فللمرأة أن تستقبل ضيوف الأسرة وتخدمهم، ولا عزل بين الجنسين في مجال العلم، ويجوز اعتزال الرجل [الأجنبي] والمرأة على مرأى وملأ من الناس، ولكن ينبغي كف البصر، عما يلتمس به المرء أو يجد الفتنة من المرأة، وليس كل النظر إلى المرأة محظوراً.
ويقول في موضع آخر من حديثه عن الاختلاط:
".. لكن الحياة الإسلامية موجهة إلى الله تعالى، ولئن أبيح فيها اتصال الرجال بالنساء، فإنما ذلك ابتلاء ينبغي للمسلم أن يتخذه مجالاً لعبادة الله وشكره، وأقل التقدير أن يأخذه بشكله المباح المشروع، ولا يجوز في الدين أن تتخذ علاقة الرجال والنساء سبباً لمتاع جنسي يلهي عن الله".
كيف يفتي بالاختلاط بين الجنسين على مختلف أعمارهم: في الجامعات، والندوات، وفرق الغناء والموسيقى، والاجتماعات الحزبية، ثم يطالب هؤلاء جميعاً باتخاذ الاختلاط مجالاً لعبادة الله وشكره؟!.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له * إياك إياك أن تبتل بالماء
للمرأة أن تختار الزوج، وترفض من تُكْرَه عليه وأن تفارق الزوج وهو راغم.
للمرأة أن تشارك في العمل السياسي والإداري على كافة المستويات، ومن ذلك مشاركتها في تنصيب القائمين بأمر الدولة انتخاباً ونصحاً.
لا سلطان للرجال على النساء إلا في إطار الزوجية، وهي علاقة تنشأ وتنحل برضى المرأة، وتقوم في الأصل على الشورى والإحسان، وليس للرجل فيها إلا قوامة الإنفاق، والأمر والتأديب بالمعروف، أما سلطان الوالدين فهو سواء على الأبناء والبنات.
يجوز للمرأة أن تعمل تاجرة في الأسواق العامة، حتى لو تعرضت لإيذاءات من الرجال السفهاء، بل ويجوز لها أن تتولى أمر السوق من قبل السلطة: كالإشراف، والإدارة، وغير ذلك.
الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن حكمهن ليس كحكم أحد من النساء، ولا يجوز زواجهن بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم فإن آية الحجاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة، ولم يتأثر بها وضع سائر المسلمات.
زعم أن خروج بعض الصحابيات في حروب الرسو صلى الله عليه وسلم ، دليل على وجوب تدريب النساء تدريباً عسكرياً، واستيعابهن في سلك الجندية [الدفاع الشعبي].
ولقد انبرى للرد عليه قاضي محكمة استئناف كردفان الخواض الشيخ العقاد، فعرض في رسالته القيمة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الدالة على عدم وجوب القتال على النساء، ثم عرض في الفصل الثاني الأحكام الفقهية ومذاهب الفقهاء في هذه المسألة، ونكتفي فيما يلي بعرض أقوال مقتضبة من هذه الرسالة، يقول الكاتب:(51/56)
"وهذا الموضوع المعني هو المتمثل في ظاهرة اهتمام الأوساط الرسمية بالبلاد، والشعبية الشبه رسمية - في هذه الأيام - بتدريب النساء تدريباً عسكرياً، وبذل الجهود المتواصلة لاستيعاب الفتيات في سلك الجندية - دفاع شعبي -، ومن ثمرات هذا الاهتمام ما نشاهده يومياً من استعراض الطوابير النسائية في الساحات العامة، أو في المعسكرات الخاصة، وسواء كان ذلك بالمشاهدة المباشرة، أو عبر شاشة التلفاز".
وبعد أن يؤكد بأن عدد الصحابة الذين شهدوا مع رسول ا صلى الله عليه وسلم مائة ألف ويزيدون يقول:
".. ثم نجد أن النساء اللواتي خرجن مع الغزاة في ذلك الحين لأغراض السقاية والرفادة والتطبيب، عشرة أو نحو العشرة من جملة هذا العدد الكبير، ولم يقاتل من بينهن إلا نزر يسير - اثنتان، أو ثلاث، بل قل أربعاً - فأين هذه المساواة في التكليف بحراسة الكيان العام للدين بالنسبة للنساء، مع الرجال، والتي ذهب يقررها الأستاذ الترابي في كلامه المتقدم؟..".
ويشير الشيخ العقاد بأنه لو حمي وطيس الحرب واشتعل أوارها لما خرجت هؤلاء الفتيات إليها "لكنها لم تزل مقصورة على المارشات العسكرية وارتداء الأزياء المحببة إليهن لما فيها من عنصر الحداثة والتجديد الذي تميل إليه نفوس كثيرة، ونفوس الفتيات إلى مثل ذلك أميل، بل وأحياناً تصل أسباب التشويق إلى امتطائهن صهوات الجياد، الأمر الذي لم يحدث لدى الصحابيات من قبل".
ويعود إلى التذكير بأن الصحابيات اللائي خرجن لشهود القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، خرجن في بوتقة أسرية وفي معية المحارم والأزواج، ولم يكن بينهن فتاة ناهد بكر غير ذات زوج على الإطلاق، ولم يخرجن كزميلات سلاح لا يربطهن بفصائل الجيش والجنود إلا هذه الصفة".
سابعاً : زندقة مكشوفة:
1 - في [17/4/1995] أجرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية مقابلة مع د. الترابي، وقرأتها باهتمام بعد أن ترجمها لي أحد الإخوة علني أجد فيها الحنكة والدهاء في مخاطبة الغربيين - كما يقول المعجبون به -، ولكن الترابي في نسخته الأعجمية هو نفسه الترابي في نسخته العربية، ونقدم فيما يلي أحد الأسئلة التي وجهتها إليه المجلة وجوابه عليها:
السؤال: ".. لكن لا يوجد تفسير موحد للشريعة، هل يجب قطع يدي ورجلي السارق؟، وهل جزاء المرتدين عن الدين القتل؟".
الأمانة تقتضي أن يبيّن لهم الحكم الشرعي ثم يستخدم عبقريته ومواهبه في إبراز عدل هذا الحكم وأحقيته وتفوقه على القوانين والأحكام الغربية، لكنه آثر إرضاء الكافرين على إرضاء رب العالمين، فقال:
"هذه الحدود لا تقام اليوم في السودان، لأن تفسيرنا للشريعة متطور أكثر مما هو عليه الحال في البلاد الإسلامية الأخرى. لا يوجد أحد قط في مؤتمرنا الشعبي الإسلامي يُحرِّم المرأة من حق توليها مناصب عامة في الدولة، أو ينكر لها الحق في تولي منصب رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء".
وفي مقابلة أخرى له مع صحيفة القدس العربي اللندنية [26 محرم 1421 الموافق 1/5/2000] قلل من شأن إقامة الحدود، وزعم أن "عامة المسلمين وعامة الفقهاء الذين يسمون أنفسهم علماء لا يحملون إلا التراث محفوظاً في أذهانهم، ظنوا أن الحدود هي الشريعة، فأول تطبيق كان لإشهار تطبيق الإسلام للناس ليفرحوا بذلك، ولم يكن ذلك صواباً.. ليس من الدين.. الكلمة نفسها وموقع هذه العقوبة.. الأحكام الجنائية الإسلامية ضئيل جداً فالناس تركوا غالب هذه الأحكام وتحدثوا في أربعة أو خمسة حدود أو دون ذلك".
ثم يشير إلى خوفه من ردة الفعل العالمية لو أقيمت الحدود فيقول:
"الآن لما قام القانون الجنائي الذي كان معداً أيام الحكم السابق في الجمعية التأسيسية، لكنه الآن نفذ من الواقع للإعلام العالمي والضغط العالمي.. الضغط العالمي شديد في مسألة الحدود هذه خاصة بعد قطع أو جلد زان أو مختمر إلا في البلاد التي يوازن الضغط أيضاً رخاء في الثروة عندها، كالبلاد الإسلامية التي تجاورنا شرقياً [يقصد السعودية].. فلأنهم يطمعون في ثرواتها يسكتون، حتى لو رأوا بأعينهم الحدود وكرهوها. أما هنا فإذا وجدوا فينا مشهداً من تلك المشاهد فيمكن أن يقيموا الدنيا كلها والقرارات العالمية كلها".
حديث الترابي مع "ديرشبيغل" ذكرني بمقابلة أجراها أحد الذين يهرفون بما لا يعرفون مع إحدى الفضائيات الأوربية، وكان موضوعها: مكانة المرأة وحقوقها في الإسلام، وأرهق المتحدث نفسه وهو يحشد ما يظنه أدلة يثبت من خلالها أن المرأة في الإسلام مثل الرجل سواء بسواء، ولعله كان يتوقع بأن المستمعين سيعجبون بطرحه، وفوجئ عندما أنهت المذيعة المقابلة وهي تقول: الحكم الشرعي في هذه المسألة معروف ومشهور، ولن تستطيع أنت ولا عشرات من أمثالك تغييره. وهكذا حال ومآل من أراد إرضاء الناس بسخط الله.(51/57)
الأنكى من ذلك كله أننا أمام دولة ترفع شعار الإسلام: عقيدة [طبعاً الفن من العقيدة]، وشريعة ونظام حياة.. ثم لا تقيم الحدود، وها قد مضى على قيامها عشر سنين دون أن تظهر منها أية بادرة تعرب فيها عن نيتها في إقامتها، مع أن الجبهة القومية أثناء الحكم الذي سبق انقلاب 1989، كانوا يتهمون بعض الأحزاب الحاكمة بالكفر لأنها كانت تراوغ في مسألة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ومنها إقامة الحدود.
وهاهو شيخ هذا النظام ومنظره يقول لمجلة "ديرشبيغل" الألمانية: إننا لا نقيم الحدود لأن تفسيرنا للشريعة متطور [وسيأتي الحديث عن هذا التطور]، وليس في قوله هذا أي اعتذار، ولا أي وعد بأنهم سيستدركون هذا النقص.
وفي مقابلته مع جريدة القدس يقلل من شأن إقامة الحدود. ويهاجم العلماء لأنهم لا يحملون إلا التراث محفوظاً في أذهانهم، ويعتقد أن بعض الأحكام مثل "الربا" تحتاج إلى اجتهاد جديد، والاجتهاد عنده مغاير للاجتهاد الشرعي، وقد رأينا من قبل إلغاءه لحد الردة.
ويستغرب الترابي كيف ترك الناس الاهتمام بأحكام الشريعة، وتحدثوا في أربعة أو خمسة حدود أو دون ذلك.
الناس الذين يقصدهم الترابي يهتمون بالإسلام كله، ويعلمون بأن الإسلام جاء ليحكم، وليكون الدين كله لله، قال تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) [المائدة: 44].
وقال: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في صدورهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) [النساء: 65].
أما الغرب الذي يخشاه فلقد حرك دول الجوار وبالأخص: أرتيريا، وأثيوبيا، وأوغندا، وقوات قرنق، وقدم لهم كل أنواع الدعم المادية والمعنوية، ومع ذلك كله فقد عجزوا عن تحقيق هدفهم في إسقاط نظام الإنقاذ، ترى أين عقيدة التوكل على الله؟ قال سبحانه وتعالى: ((الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله. والله ذو فضل عظيم)).
وقال تعالى: ((أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)).
وسواء كانت الحدود التي ألغاها الترابي حداً واحداً أو أكثر.. وسواء كانت الحدود التي أعرض عن تطبيقها رغبة أو رهبة حداً واحداً أو أكثر فيجب قتال هذا النظام إذا توفرت الاستطاعة كما قاتل أبو بكر الصديق صنفاً من أصناف المرتدين امتنعوا عن دفع الزكاة دون غيرها من أحكام الإسلام، وهذا ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن استبان لهم الدليل.
يقول الشيخ رشيد رضا ما موجزه:
"من المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً أن إباحة المجمع على تحريمه: كالزنا، والسكر، واستباحة الحدود، وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة". [تفسير المنار: 6/367].
2- نعود إلى حديث الترابي عن الاتحاد والفناء في ذات الله بالفن، وكان مما قاله فيما مضى من هذا البحث:
"والدين التوحيدي هو الذي يحرر المؤمن من كل ما يستعبده في النفس والمجتمع ويخلصه لربه فيلتزم من تلقاء نفسه بأمر الله، ويتحد ويفنى فيه. ولا يستشعر مجانبة ولا حرجاً" اه.
أصحاب هذا الاعتقاد يقولون: إن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق، ليس غيره ولا سواه، والاتحاد نوعان: اتحاد عام وهم الذين يعتقدون أن الكائنات المخلوقة متحدة في ذات الخالق، واتحاد خاص وهم الذين يقولون: إن الله هو المسيح بن مريم. قال تعالى: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم))[المائدة:17].
ودعاة الاتحاد العام أشد كفراً وزندقة من دعاة الاتحاد الخاص، يقول ابن القيم في نونيته:
حاشا النصارى أن يكونوا مثله * وهم الحمير وعابدوا الصلبان
هم خصصوه بالمسيح وأمه * وأولاء ما صانوه عن الحيوان
هل كان الترابي يفهم معنى الاتحاد والفناء في ذات الله، أم كان يلقي الكلام على عواهنه؟ هذا ما سوف نشير إليه بعد الانتهاء من عرض "فكر الترابي" إن شاء الله.
3 - يدعي الترابي أن في الإسلام جوانب كثيرة علمانية، قال في جريدة الراية القطرية [19/10/1986]:
"إن للإسلام جوانب علمانية كثيرة.. وإن العلمانية لا دينية سياسية.. ليس لأنها ضد الدين، ولكنها ليست من الدين في شيء.. كما أنها لا تريد أن تلغي دور الدين أو تهمله في الحياة عامة.. فلا شأن لها بذلك.. ولكنها نظرية أو مذهب أو عقيدة سياسية يحسن أن نسميها اللادينية السياسية".
4 - وعن الجهاد يقول:
"القتال حكم ماض، هذا قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث، في الواقع الحديث، ولا أقول إن الحكم قد تغير، ولكن أقول إن الواقع قد تغير، هذا الحكم عندما ساد كان في واقع معين، وكان العالم كله قائماً على علاقة العدوان، لا يعرف المسالمة، ولا الموادعة، كانت امبراطوريات، إما أن تعدو عليها أو تعدو عليك. ولذلك كان الأمر كله قتالاً في قتال، أو دفاعاً في دفاع - إن شئت -" (10).(51/58)
قوله هذا مخالف للقرآن والسنة والإجماع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السبب الذي ذكره حجة عليه وليس له لأن هذه الامبراطوريات - الدول الكبرى - ما زالت تعدو علينا، وتحرض حلفاءها في المنطقة ضدنا، وما أمر حرب الخليج الأولى والثانية عنا ببعيد، كما أن إسرائيل ما زالت تحتل فلسطيننا منذ أكثر من نصف قرن، وفي عام 1967 ابتلعت القدس ومعها أراض عربية تتجاوز ضعف المساحة التي ابتلعتها عام 1948.
وهو (الترابي) لا يجهل وجود هذه الامبراطوريات القوي في الدول الإفريقية المحيطة بالسودان، وسعيها الحثيث بالتعاون مع الأمريكان من أجل الإطاحة بنظام الإنقاذ.
ومن جهة ثالثة فقوله هذا يتعارض مع:
خروجه المسلح - ومعه المعارضة - على نظام جعفر نميري عام 1976، وكان يعتبر خروجه جهاداً في سبيل الله مع أن الجنود السودانيين الذين كان يقاتلهم مسلمون، ولم يكن هذا القتال من أجل تحكيم شريعة الله.
انقلابه العسكري عام 1989 الذي جاء بحكومة الإنقاذ.
قواته الشعبية المسلحة التي تقاتل المعارضة السودانية في جنوب البلاد وشرقها، ويشرف بنفسه على هذه القوات، وعلى الاحتفالات التي يسمونها "عرس الشهيد" فما بال الرجل يوقع نفسه في تناقضات ليس لها حدود؟.
5 - تطاوله على الأنبياء:
يقول عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم "ده شخص راق لكن ما تقولوا: معصوم ما يعمل حاجة غلط".
وعن إبراهيم عليه السلام قال:
"كان شاكاً في ربه عابداً للكواكب قبل البعثة".
وأن يونس عليه السلام غاضب ربه وظن أنه لن يقدر عليه، وأنه شرد من قومه.
وأن موسى عليه السلام اعترف بجريمته، وفي محاضرة أخرى قال: اعترف بخطيئته.
وفي موضع آخر زعم بأن الله سبحانه وتعالى لم يعصم رسولنا r إلا من الناس مستدلاً بقوله تعالى: ((والله يعصمك من الناس))[المائدة: 67].
ويقول أيضاً:
"هسع كلمة العصمة دي، الصحابة كانوا بيعرفوها، هسع لو جابوا الصحابة كلهم قعدوهم بيعرفوا عصمة النبي؟ وما عصمة النبي؟ يقولوا لهم النبي كذاب. يقولوا: كلا حاشا ما نبي كذاب، لكن ما بيعرفوا كلمة العصمة، دي كلمة عملوها المتكلمين".
6 - تطاوله عل أعلام الإسلام:
رأينا فيما مضى كيف أنكر عصمة الأنبياء، وسلك في إنكاره سبيلاً ملتوياً، وفي محاضراته الكثيرة يحوم دائماً حول إنكار عدالة الصحابة - رضوان الله عليهم -، يقول عن طائفة منهم:
"ابن عباس عندما زروه [ضبطوه] قال أخبرني الفضل بن عباس يطلع غلطان في إخباره أن الرسو صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وحاطب بن بلتعة (!) ارتكب خيانة عظمى، وعائشة كانت تقول: كذبوا [يعني نفراً من الصحابة] على رسول الله".
وفي موضع آخر يتهم الصحابة باتباع الهوى، يقول في هذا الشأن:
"إذا رأينا نأخذ كل الصحابة أو لا نأخذ، قد نجيء بعمل تنقيح جديد. نقول الصحابي إذا روى حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ فيه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً. وإذا روى حديثاً ما عنده فيه مصلحة نأخذ حديثه بقوة أكثر ويمكن تصنيف الصحابة مستويات معينة في صدق الرواية".
وزعم في موضع ثالث أن الاختلاط لم يكن مستنكراً ولا مستغرباً في حياة الصحابة، قال في محاضرة الديوم الشرقية:
"الصحابة كانوا يتعارفوا كلهم، زي ما بتعرف يقول ليك زينب أي الزيانب؟ في كم زينب يعرفوها، ما في مشكلة، .. لفت وشها برضو يعرفوها.. يغضوا النظر لمن البصر يعمل فتنة".
وفي محاضرة بعنوان (قضايا أصولية وفكرية) بالديوم الشرقية:
"الضوابط العملوها لتصحيح السنة إيش، جابوها من فين الضوابط العملها البخاري، من هو البخاري؟ بشر يخطئ ويصيب، وضوابطه قد تكون مقبولة أو غير مقبولة. فقد نجد معايير عملها البخاري ما صحيحة، لا تؤدي إلى الحقيقة، وقد نجد معايير أضيق من اللزوم، اللي بيدعي أنه صحيح في ضعيف فيه، حتى الليلة إذا وصل الناس أنه في خمسين حديثاً في البخاري ضعيف، إيه الفتنة الدينية اللي بتحصل لنا".
وقال في موطن آخر من المحاضرة نفسها مشككاً بعدالة الصحابة وبصحيح البخاري:
"لازم لمن تجي تقوم تمتحن ضوابطه [أي البخاري] لمن تجي وأنت مؤتمن البخاري.. المسلمين.. آه .. آه.. آه خلاص ما في شيء.. من وثقه فهو كذا.. ومن جرحه فهو مجروح.. ومن عدله فهو عدل.. كل الصحابة عدول ليه؟ ما شرك يشترك ذلك في كثير أو قليل. يمكن لنا اليوم عندنا وسائل كثيرة جداً، البخاري ما كان يعرفها!!" (11).
الأنبياء ليسوا معصومين، ولما كانوا كذلك فلا بأس من رد أقوالهم إذا كانت تخالف عقل الترابي ومن يرى رأيه.
والصحابة ليسوا عدولاً، ولا يختلفون عن غيرهم من الناس فيما يقولونه أو ينقلونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومصطلح الحديث يجب أن يجدد، وفي ظل هذا التجديد يصبح الترابي وأصحابه رقباء على الصحابة رضوان الله عليهم "فإذا روى الصحابي حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ عليه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً".
أما البخاري فيقول: من هو البخاري؟ وكأنه أراد أن يقول: إنه لا يختلف عني في شيء، ولا ينبغي أن يتفق أهل السنة على قبول كل ما ورد في صحيحه.(51/59)
إن الترابي ينسف بهذه الأقوال الخطيرة الإسلام من أساسه لأن أحاديث رسول ا صلى الله عليه وسلم لها قوة القرآن الكريم، والصحابة - رضوان الله عليهم - نقلوا إلينا القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فإذا كان بينهم الكذاب والخائن وكذا وكذا - حسب قول الترابي - فديننا كله موضع شك والعياذ بالله.. لا أدري لماذا لا يمنح أعداء الإسلام هذا الرجل جائزة نوبل؟.
7 - ألقى الترابي محاضرة بجامعة الخرطوم [في: 30/4/1995]، وقد احتوت على أهم آرائه في علم التفسير والمفسرين، وكان مما قاله: إن كتب التفسير عبارة عن حكايات وقصص وآراء شخصية لمؤلفيها، وسخر من بعض ما ورد فيها وخاصة في تفسير القرطبي، وأضاف بكل استهتار:
"الرسول بشر مثلنا يوحى إليه - ماحَيْفَسر القرآن لهذا اليوم، لأنه لا يعرف هذا اليوم".
ولأن الرسو صلى الله عليه وسلم لا يعرف هذا اليوم والترابي يعرفه إذن لابد من وضع تفسير بذلك، وقد وعد فيلسوف آخر الزمان بإنجاز هذه المهمة.
كانت هذه المحاضرة موضع استياء طلاب العلم، وأصر الشيخ محمد عبد الكريم على وضع الحق في نصابه، وبيان جهل هذا المدعي وخبثه، فرد عليه في محاضرة ألقاها بجامعة الخرطوم نفسها، وكانت أحد أسباب سجن الشيخ الفاضل لمدة سنتين، دون أن توجه إليه أية تهمة، ودون أن يحقق معه، مع أن النظام كان يدعي في تلك الفترة أنه ليس للترابي أية مسؤولية.
وعلمت من عدد من الدعاة السودانيين يستحيل تواطؤهم على الكذب أن الترابي ألقى محاضرة [بعد الإجراءات التي اتخذها رئيس الدولة ضده] أمام طالبات الجامعة، وقال فيها ما موجزه: تحدث المفسرون في كتبهم عن الحور العين فهل تصدقن ما زعموه، والذي أعتقده بأنكن الحور العين!!.
اللهم إنا نسألك السلامة في الدين والدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثامناً : الاجتهاد:
كلما سئل أو تحدث الترابي عن الاجتهاد في مفهومه الشرعي، كرر الأقاويل التي يرددها العلمانيون الذين يرون من حقهم الخوض في أخص معاني الدين والاعتقاد دون حسيب أو رقيب، وليس من حق أحد أن يحاسبهم على اجتهاد اجتهدوه!!
في مقابلة للترابي مع جريدة المحرر [1/8/1994] قال:
"وحين أذكر الاجتهاد فإنني أعتقد أنه واجب على كل فرد، وليس على العالم المزعوم أنه عالم. الكل مطالب بأن يتعاون ويتناصر في الاجتهاد، ويفتح باب حرية الرأي.." وهنا سأل رئيس تحرير الصحيفة:
هل أفهم من كلامكم هنا أن الحرية تعني الاجتهاد، كما يعني الاجتهاد الحرية؟ فأجاب: "نعم. نعم. والاجتهاد الحر ليس للعلماء فقط وبشروط معينة، بل لكل أحد لكل فرد. لابد من أن نجتهد معاً وجميعاً فيما هو محقق لمصلحة الجماعة.
إن نهضة الثقافة الإسلامية لا تنشأ من جهد علماء خمسة و عشرة. ولكن من نهضة الأمة كلها وصحوتها ومشاركتها. صحيح إن البعض يتقدم عادة فيعبر عن المجموع ومشاعره ومصالحه، ولكن المجموع يشارك".
هذا الاجتهاد الذي يراه الترابي حقاً للخاصة والعامة دون قيد أو شرط، هو سبب هذه الطامات الكبرى في عالمنا الإسلامي، فللزعماء حرمات لا يجوز الاقتراب منها، وللدساتير الأرضية قداسة لا ينبغي تجاوزها حتى في الدول الأوربية، أما الدين الإسلامي فليس له أية حرمة، والاعتداء عليه والطعن به حق مشاع لكل زنديق هدام، وعندما يعترض دعاة أخيار على ما يكتبه هذا الأديب أو ذاك الفيلسوف من موضوعات تطعن بأنبياء الله أو بركن من أركان ديننا الحنيف، يرتفع صوت العلمانيين ويشتد صخبهم منادين بإسكات هؤلاء الذين يريدون أن يعودوا بالبشرية إلى العصور الحجرية، وينهض ناس من أمثال الترابي مستنكرين مواقف الجامدين المقلدين الذين يريدون منع الناس من ممارسة حرياتهم في التعبير عن آرائهم ومواقفهم.
هؤلاء جميعاً - ومنهم الترابي - لا يجيزون لعامة الناس ممارسة مهنة ليس لهم أي علم بها كالطب والهندسة وغير ذلك، أما العبث في الدين فنعم، وأضيف ما قلته فيما مضى: إن ضحايا الترابي من إخوانه الذين مارسوا اجتهاداً يخالف اجتهاده أكثر من أن يحصيهم العد.
تاسعاً : الكرة جهاد في سبيل الله:
"أشاد الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي الإسلامي بما حققه فريقنا القومي للشباب والكبار وذلك من خلال اللقاء الذي جرى بين سعادته والأستاذ عدلان يوسف رئيس التحرير. وقال د. الترابي: إن الله غالب على أمره، ونحمد الله أن صفوف الكرة قد استوت مع صفوف الصلاة فكان النصر المؤزر، وقال د. الترابي: مما يُسرُّ له أنني سمعت بأن المعسكرات كانت على قدر عالٍ من الانضباط والتربية الروحية والدينية، وأن الكرة لم تعد الآن لعباً ولهواً، فهي جهاد في سبيل الله". [جريدة "الكورة" السبت 14 يناير 1995، الموافق 13 شعبان 1415 ه].
تعليق: زعم فيما مضى بأن قول الفقهاء: القتال حكم ماض. قد تجاوزه فكر الترابي وأصحابه أما لعب الكرة فهو جهاد في سبيل الله!!!، والفن [الرقص والغناء والموسيقى] من عقيدة التوحيد الإسلامية، وكل يوم وهو في زيادة.
عاشراً : حديث الذبابة:(51/60)
قال صلى الله عليه وسلم "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء".
ورد من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك.
1 - حديث أبي هريرة أخرجه البخاري 2/329، 4/2271، الدارمي 2/99، ابن ماجة (3505)، أحمد 2/398.
وفي رواية البخاري (فليغمسه كله).
2 - حديث أبي سعيد الخدري لفظه: "إن أحد جناحي الذباب سم، والآخر شفاء، فإن وقع في الطعام فامقلوه (12)، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء"، رواه أحمد 3/67، ابن ماجة (3504)، الطيالسي في مسنده (2188)، النسائي 2/193، وابن حبان في صحيحه (1244)، وصححه الألباني في الصحيحة 1/95، صحيح الجامع 1/205.
3 - حديث أنس بن مالك رواه البزار 3/329، 2866، الكشف، الطبراني في الأوسط 1/154. قال الشوكاني: قال الحافظ وإسناده صحيح، نيل الأوطار 1/66، وانظر الصحيحة 1/96.
تعرض الترابي لهذا الحديث في محاضرة له بجامعة الخرطوم بتاريخ 12/8/1982، فكان مما قاله: "في الأمور العلمية يمكن أن آخذ برأي الكافر، وأترك رأي النبي، ولا أجد في ذلك حرجاً البتة، ولا أسأل فيه أيضاً عالم الدين".
فهو في هذه المسألة لا يهتم بتخريج الحديث، وبيان صحته من ضعفه، ويكتفي برده لأنه لا يستقيم مع عقله وتفكيره، ومن جهة أخرى فالرسو صلى الله عليه وسلم حسبما يعتقد غير معصوم، ورأي الكافر عنده أصوب من رأي [وليس من حديث] رسول ا صلى الله عليه وسلم .. وكان يغنيه - لو تأدب بآداب الشرع - القول: إن نفسي تعاف الشراب إذا وقع فيه الذباب.
الحادي عشر : تطور الأصول والأحكام الشرعية:
يؤمن الترابي بفلسفة التطور في أصول الدين وأحكامه، يقول في كتابه قضايا التجديد:
"ما دام الدين - من حيث هو خطاب للإنسان وكسب منه - واقعاً في الإطار الظرفي، فلابد أن يعتريه شيء من أحوال الحركة الكونية. ولكنه - من حيث هو صلة وسبب للآخرة متعلق بالأزل الثابت - إنما يؤسس على أصول وسنن لا تتحول ولا تتبدل. وهو بهذا أو ذاك قائم على رد الشأن الظرفي المتحول إلى محور الحق الثابت، ورد العقل الزماني إلى المقصد اللانهائي، فحركة التحول الدائبة في ظرف الحياة توشك أن تحول الإنسان عن الحق المطلق، فيلزم ديناً من ثم أن تقع له أو منه حركة دائبة محاولة تصحيح وجهته وتقويم سيره لئلا ينحرف بتدينه الواقع عن سنة الله الواجبة".
ويقول أيضاً [مجلة المجتمع الكويتية، العدد: 573]:
"والدعوة للتجديد ليست دعوة للخروج على أصول الدين، إنما هي دعوة للتحري بمقتضى الدين في كل ظرف جديد للتعبير عن الدين وأحكامه وقيمه.. ولابد من منهج جديد.. وكذلك الفقه وتطور المجتمعات تستوجب فقهاً جديداً والدعوة سبقت إلى تجديد أصول الفقه. فلابد أن تتغير النظرة إلى الأصول، وإذا كانت الأصول الإغريقية في المنطق قد تغيرت كثيراً وقد كملتها أصول في المنهج العلمي الطبيعي والمنهج الاجتماعي، فعلى المسلمين أن يستعينوا بهذا ليسخروها في عبادة الله في مسائل الاجتهاد".
وهاهنا يبرز منهج الترابي العلماني بشكل ليس فيه أدنى لبس أو غموض، وذلك لأنه يتبنى نظرية التطور التي تقوم على استعمال المنهج العلمي [وما هو بعلمي] التجريبي، ويرى أن كل شيء في الدين قابل للتجديد والتطوير، ويستثني من ذلك كل ما له صلة باليوم الآخر، ومن هذا المنطلق جاءت دعوته إلى تجديد أصول الدين، وأصول الفقه، وأصول الحديث في كتيبات ألفها، ومحاضرات نشط في إلقائها في أماكن مختلفة.
ومن هذا المنطلق نفهم قوله الدائم لكل حكم شرعي يرده: كان هذا في عصر الرسول والصحابة والتابعين، وقد تغيرت الأحوال فلابد من تغير الحكم.
والترابي ليس أول الداعين لهذه البدعة، فقد سبقه كثيرون، ولكن معظمهم لم يكن بمثل صراحته.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن أقوال الترابي في الاجتهاد وتطور الأحكام وتغيرها، لا تلتقي بحال من الأحوال مع الاجتهاد وفق ضوابطه الشرعية، ولا مع القواعد الأصولية، مثل قاعدة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"، وقاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"، ولا اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
12 - رد الدكتور محمد عبدالقادر أبوفارس :
يعد الدكتور أبوفارس أحد أبرز قيادات جماعة الإخوان المسلمين في الأردن . وقد ساءه مسلك الترابي التجديدي الذي انحرف بالحركة الإسلامية عن منهج أهل السنة والجماعة ، فاضطر الدكتور للرد عليه ومواجهته بصراحة قلما نجدها في جماعة الإخوان المسلمين . فقال في كتابه " نظرات إسلامية في مصطلحات وأسماء شائعة " ( ص 60 - 64 ) :
( الترابي والترابيون :(51/61)
الترابي والترابيون : هم جماعة فتنوا بأفكار حسن أحمد عبد الله الترابي . وهو سوداني النشأة والحياة ، درس القانون وتخرج من الجامعة الفرنسية ( السوربون ) حاصلاً منها على درجة الدكتوراه في القانون . والترابيون هم الذين فتنوا به وأعجبوا به من السودان ومن غير السودان ، فله معجبون في الأردن وفي اليمن وفي الجزائر وفي سوريا وفي لبنان وفي تونس ، ومن أكثر البلاد تأثراً به نفر من الإخوان المسلمين الأردنيين ، إذ كانوا يستقبلون رسله في بيوتهم من شباب وشابات قطعن هذه المسافات الشاسعة بدون محارم ، بل كان شباب الإخوان الأردنيون يسألونهم عن ذلك السفر الطويل وحكمه بلا محرم ، فكانوا يقولون : " الفقه الشرعي يمنع ذلك أما الفقه التنظيمي فيجيز ذلك ، ونحن نتبع الفقه التنظيمي " !! وكانوا يجمعونهم في بيوتهم مع بعض الشباب والشابات من طلاب الجامعة الأردنية !
وكان إذا جاء أحد الترابيين احتفلوا به احتفاءً بالغاً وأكرموا وفادته ، وكانوا يدافعون عن الترابي وتصرفاته وتصرفات جماعته ، حتى ولو كانت تلاوة الإنجيل عند افتتاح مجلس الشعب !! ، وطرد المجاهدين الإريتريين من السودان أو الطلب منهم إلقاء السلاح وترك الجهاد إن أرادوا أن يبقوا على أرض السودان . وفي نفس الوقت يلقون قادة الإخوان في مصر بألسنة حداد ، وقد بلغ بأحد الإخوان الأردنيين المعجبين بالترابي والترابية وهو أول مدير مكتب نواب الحركة الإسلامية السيد عزام التميمي أن يدعو شباب الإخوان المسلمين في الأردن وغير الأردن لمبايعة الترابي ، فهو صنو الإمام حسن البنا . جاء هذا الكلام والرد عليه في جريدة الإخوان المسلمين (الرباط ) ، وفي جريدة ( اللواء ) بالبنط العريض الكبير : حسن الترابي صنو حسن البنا ، ليخرج شباب الإخوان من شرنقتهم ويبايعوا الترابي ، ولما اعترض كاتب هذه الأسطر وغيره ، أمام أحد أعضاء المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين في الأردن على هذا الكلام دافع عنه عضو المكتب بقوله : هذا رأي ولا ننكره على صاحبه ولا نمنعه ، ولما رد عليهم الدكتور الفاضل صلاح الخالدي شكلت له محكمة وحوكم على رده على الترابي المذكور .
وممن كان معجباً بالترابي كثير من إخوان اليمن وعلى رأسهم الشخص الذي كان مديراً للمخابرات اليمنية في عهد علي عبد الله صالح ، وكان حريصاً على أن تتغلغل جماعة الترابي في صف الإخوان المسلمين وتسيرهم على سياسة الترابي ، هذا ما سمعته منه ، أقول هذا للتاريخ وللحقيقة ، حتى يحيى من حي علي بينة .
وممن كان معجباً بالترابي أو مدافعًا عنه وعن أخطائه وانحرافاته الأستاذ راشد الغنوشي ، لأنه يشاغب على قيادة الإخوان المسلمين في مصر ويريد إيجاد تنظيم عالمي ودولي غير تنظيم الإخوان المسلمين ، وقد جاء بصحبة الترابي عام 1991 ليدعو الإخوان المسلمين إلى التخلي عن قيادة الإخوان الذي أكل الدهر عليها وشرب ، وهذا مسجل بالصوت والصورة لفضيلة الأستاذ راشد الغنوشي . فهل أدرك راشد الغنوشي خطأه وخطأ مسعاه ؟ آمل أن يكون قد تخلص من هواه وصلح مسعاه .
والترابي جريئ في غير حق على السنة النبوية وعلى الصحابة ، رضوان الله عليهم ، وعلى مخالفة إجماع المسلمين ، وجريئ على أهل السنة والجماعة ، وجاء بفكرة تجديد الدين ، والتجديد في أصول الفقه وفي علم الرجال ، ولم يحترم هذه الأمة ولا القواعد التي اتفقوا عليها ولا قواعد التعديل والتجريح كذلك . مع أنه خريج جامعة السوربون الفرنسية في الحقوق وشهادته الدكتوراة منها ، كما أن صهره الصادق المهدي يحمل شهادته الدكتوراه من جامعة اكسفورد البريطانية .
وأخذت تصدر عنه فتاوى وتصريحات تخرج عن الأدب مع الرسو صلى الله عليه وسلم ومع سنته الصحيحة ، من ذلك حديث الذبابة الذي رواه مسلم فقد قال : لو أخبرني طبيب كافر بأن الذبابة ليس في أحد جناحيها داء وفي الآخر شفاء لصدقت هذا الطبيب الكافر وتركت حديث صلى الله عليه وسلم ، وأجاز أن يستمر زواج المسلمة من غير المسلم مع أن الله تعالى يقول : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) [الممتحنة] ، فمن كانت مسلمة متزوجة غير مسلم أمر الله بتركها إياه وأمر المسلمين بالتعويض له عما فقد من زوجة مسلمة فارقته .
وفي إجابته على أسئلة مجلة ( دير شبيغل ) الألمانية حول تطبيق حد السرقة وحد الزنا ، قال : إن هذه الاحكام أصبحت تاريخية لا تناسب عصرنا ، ولن نقطع يد السارق ولن نعاقب الزاني العقوبة الواردة في القرآن ، هذا وقد رد عليه العلماء من السعودية والشام ومن غيرها . وكان يومها الرجل الأول فعلياً في نظام دولة الإنقاذ ، وكان الرجل في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين في السودان هو وأتباعه ، ولقد استطاع أن يكون على رأس الهرم في الجماعة السودانية ، وأخذ ينحرف بها عن خط الجماعة حتى فاصله مجموعة من الإخوان على راسهم الأستاذ السيد الصادق عبد الماجد والدكتور الحبر يوسف أستاذ في الجامعة للغة العربية والدكتور عصام البشير .(51/62)
وتدرج في الأمر حتى حل تنظيم الجماعة الذي كان يترأسه وشكل جبهة عريضة أوسع منه ، هي جبهة الميثاق ، ثم الجبهة القومية السودانية للإنقاذ وبموجب لوائحها وتنظيماتها ينضم إليها كل سوداني دون النظر إلى دينه ، مسلماً كان أو نصرانياً أو وثنياً .
وقام الضابط السوداني عمر البشير في مجموعة من الضباط وكلهم صرحوا بأنهم تلاميذ وأتباع حسن الترابي بانقلاب بمعرفة الترابي وموافقته ضد الديمقراطية التي أيدوها في السودان ، وسموها جميعاً ثورة الإنقاذ الوطني ، وحكومتها حكومة إنقاذ السودان . وأخيراً شكل مع البشير حزباً وحيداً هو حزب المؤتمر الشعبي الذي انتخب عمر البشير رئيساً له ، الأمين العام .
وقد قامت الثورة بزعامة الترابي الفكرية وتوجيهاته بإلغاء جميع الصحف وجميع الأحزاب وتأسيس جبهة الإنقاذ وهي الحكومة الوحيد المسموح به . وقام الترابي بسن دستور جديد للسودان ، ولم يعتبر الإسلام المصدر الوحيد للتشريع في السودان ، بل فرق بين جنوب السودان وشمال السودان . ونص الدستور على أن من مصادر التشريع في السودان العرف السوداني الجنوبي ، وهو عرف وثني وغالبية أهله الساحقة وثنيون وغير مسلمين . والحكم الشرعي أن أحكام الإسلام تطبق على جميع رعايا الدولة . وهناك في الإسلام أحكام تتعلق بالكفار تطبق عليهم ، وأحكام تتعلق بالمسلمين وتطبق عليهم ، ونظام الإسلام العام يطبق على الجميع ولا يحكم غير الإسلام أبداً .
وتولى الترابي رئاسة المجلس التشريعي . وسن من مشروعات القوانين . وأتباعه الذين يشكلون الأغلبية في المجلس ما يضيق على رئيس الدولة عمر البشير ، وما يوصل الترابي إلى رئاسة الدولة ، وهذا ما لا يرضي قائد الثورة البشير ، فحصل خلاف بين الترابي والبشير . فالخلاف بينهما كان على السلطة ولم يكن لله ولا لتطبيق شرع الله وأحكامه ، فأصدر البشير كرئيس للدولة حل المجلس وأبعد الترابي عن كل المسؤوليات هو وأتباعه .
وقد شكل الترابي حزباً جديداً سماه حزب المؤتمر الوطني الشعبي ، وأصبح هذا الحزب معارضاً للبشير وحكومته . وقد قام الترابي في يوم الثلاثاء الموافق : 20/2/2001 م بتوقيع مذكرة تفاهم مع قائد المتمردين جون قرن الذي كان الترابي يطلق عليه قائد المتمردين ، وعدو الإسلام والمسلمين ، ويعبئ الشباب على الجهاد لقتاله وقتال جيشه ، وقدم السودان مئات الشهداء من هذا الشباب المجاهد ، ولا يزال القتال مستمراً في جنوب السودان بين أتباع قرنق الكفار وبين الشباب السوداني المسلم المجاهد .
علماً بأن مذكرة التفاهم بين الكافر قرنق وحزب الترابي كانت ضد حكم البشير والتعاون لإسقاط حكمه .
وأذيعت بصوته وصوت قادة الحزب تصريحات تزكي جون قر نق وتقول : إن جون قر نق ليس عدواً للإسلام ، علماً بأنه صليبي حاقد على الإسلام و المسلمين ، وسمى جيشه الذي يقاتل به المسلمين الجيش الشعبي لتحرير السودان . واعترض بوضوح على التوجه نحو تطبيق الإسلام ورفض ذلك ، ويظهر جلياً من اسم جيشه : الجيش الشعبي لتحرير السودان بأن جيشه هدفه تحرير السودان وليس تحرير الجنوب . وفي ظرف مضى وصلت قواته قريباًَ من الخرطوم عاصمة السودان وهددت الدولة بالسقوط .
ولكن الله تعالى تدارك برحمته وفضلة فسخر شباباً مجاهداً يصد قرنق وجيشه ويدحره بعد أن سقط منهم شهداء كثيرون .
كما صرحوا بأن هناك ظلماً لجنوب السودان وتمييزاً لأهل الشمال في السودان على أهل الجنوب وطالبوا بإنصاف أهل الجنوب والانتفاع بخيرات السودان كأهل الشمال .
علماً بأن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا تقوم بدعم هذا الجيش وتزويده بالمساعدات المالية وغير المالية ، وهي التي ضربت السودان ومصنع الدواء المقام على أرضه .
يعلم الله أنني عرفت هذا الرجل والتقيته مرات عديدة ، وحاورته وحاورت أتباعه في أكثر من مكان وخرجت منذ تسعة عشر عاماً ونيفاً برأي ، وهو أن الرجل خطير وبراغماتي والأنانية عنده كبيرة وكثيرة ، وأن حب الزعامة والسيطرة قد تغلغلت إلى شغاف قلبه فأودت به وبجماعته إلى أحضان أعدائه ، وجعلته يعادي أقرب أتباعه ونصرائه في الجيش وفي الحكومة حتى رأس الدولة ، علماً بأني لا أقف مع فريق دون فريق آخر ، لأني لا أؤمن بالحكم العسكري ، وأيقنت بل كنت أصرح بوضوح في أكثر من مكان أن الرجل ليس بداعية إسلامي وليس صادقاً في دعوته إلى تطبيق الإسلام قبل أن يصل إلى الحكم ، وإنما يرفعه كشعار ليس إلا ، مما كان يغضب كثيراً من السذج ويناصبوني العداء لأني أقول رأيي واعتقادي في هذا الرجل الذي افتتن بنفسه وفتن غيره .(51/63)
وان كنت أنسى فلا أنسى قدوم الدكتور حسن الترابي والأستاذ راشد الغنوشي إلى المركز العام للإخوان المسلمين في عام 1991م ضمن وفد إصلاح في حرب الخليج قبل أن تبدأ ، وقد تكلم الاثنان فأساءا ولم يحسنا وأخطأا ولم يصيبا في بعض القضايا الحاسمة المتعلقة بالعمل الإسلامي وقيادة الإخوان المسلمين العالمية ، فاستأذنت المسؤول عن الجلسة لأناقش السيدين الترابي والغنوشي فيما أبديا من آراء فأذن لي وكان الأخ أبو ماجد المراقب العام للإخوان المسلمين ، فوقفت لأتكلم فوقف أحد الترابيين وهو نائب شعبة من الشعب وقال : لا تتكلم لا نريد أن نسمع منك ، عقليتك عقلية مخمجة ، وقام دكتور في الجامعة الأردنية أصبح وزيراً فيما بعد في أكثر من وزارة وأول وزارة شارك فيها الوزارة التي عقدت مع العدو اليهودي اتفاقية وادي عربة ، وكنت نقيبه لمدة سنوات ، وقال لي : اسكت لا تتكلم ، ووقف ثالث ورابع وخامس من الترابيين من إخوان الأردن يمنعني من الكلام ، فانقسم الإخوان إلى قسمين : قسم يطالب بإصرار أن أتكلم وقلة لا تريد أن أبين عوار آراء الترابي والغنوشي ، وقطعت الكهرباء عن المذياع ، وأمام هذا قلت درءاً للفتنه : أمتنع عن الكلام .
ومما يجدر ذكره أن أحد المعترضين على حقي في الكلام والمنافسة كانت حجته أننا جئنا بهما ليقولا ما قالا من آراء فإذا تكلم الدكتور أبو فارس خمس دقائق يمسح آراءهما ولا يبقي لها أثر في نفوس السامعين !! ) .
13 - رد الأستاذ محمد المليفي : وهو بعنوان " قصة الترابي الحقيقية " منشور على شبكة الأنترنت :
(1)
هل هذا هو النموذج الإسلامي الذي تريدوننا أن ننتهجه؟
هل هذه هي الدولة الإسلامية التي تريدون إقامتها؟
وإلى متى نقدم لشعوبنا الإسلامية تجارب فاشلة تريق ماء وجوهنا أمام العالم أجمع؟
كثيرة هي الأسئلة سواء من المشفقين أو المخذلين أو العلمانيين أو حتى من عوام الإسلاميين؟ وأغلبية هؤلاء تكمن الإشكالية لديهم وتتمحور في عدم تفريقهم بين التطبيق الخاطئ للإسلام وبين عظمة نظام الإسلام وشريعته وحدوده وروحه ونفسه00 وكم هي مشكلة يا معاشر السادة القراء عندما ينسب الفشل إلى الإسلام وليس إلى المسلمين!
قبل أيام اجتمع الدكتور حسن الترابي مع أنصاره بمنزله في الخرطوم وقال " إن عمر البشير يسعى لاسترضاء الغرب لتعطيل دين الله00 " وفي ختام حديثه قال إن الحركة الإسلامية اليوم مفصولة عن السلطة بسبب عملاء الغرب " وتصريح الترابي هذا يعني بعبارة أخرى أن البشير باع الدين من أجل الغرب وهي تهمة تحمل بين طياتها التكفير الصريح للرئيس عمر البشير!
وأما عن تصريحه القائل بفصل الحركة الإسلامية عن السلطة فهي تعني باختصار أن الحركة الإسلامية المفصولة هي أنا حسن الترابي وتفسيري هذا ليس اجتهاداً شخصياً مني بل هو تجسيد لعقلية ونفسيه الدكتور حسن ومشكلة الترابي ثقته المفرطة في نفسه فهو يرى من نفسه صاحب العقل الموسوعي الذي يتحدث ويعرف ويعمل كل شئ، فهو في عام 1977 كان المدعي العام الإشتراكي في حكومة النميري وترقى لكي يصبح الأمين العام للاتحاد الإشتراكي ، وهو قبل هذا التاريخ عدو لدود للنميري وكان لا يسيمه إلا الطاغوت العسكري الذي لا يطبق الشريعة00
والعجيب أنه كان من أقطاب الإخوان المسلمين في السودان وبعقله الموسوعي جرهم وراءه ليصبحوا جزءاً هامشياً من النظام العسكري الذي خرجوا عليه بسبب مروق النميري من الدين واعتباره طاغوتاً ولأنه يصلح لكل شئ فهو كما ترأس الاشتراكية كذلك ترأس الحركة الإسلامية بل وصار فقيهها ومفتيها ومنظرها العقائدي وينافس شيخ الختمية على المشيخة وينافس إمام المهدية السيد الميرغني على المهدية!
وبلمحة سريعة على شخصية الترابي وارتباطها بما آل إليه الأمر الآن يمكنني أن أترجم له سيرته الضبابية كالتالي:
بعد أخذ الترابي الدكتوراه في الحقوق الدستورية من جامعة السوربون بباريس 1962 لم يكن لديه في تلك الآونة أي علاقة بأي جماعة إسلامية وبدأت صلته مع الجماعات الإسلامية ومع الإخوان المسلمين بالذات في عام 1964 واللافت للنظر أن علاقته ظهرت مباشرة ومن غير مقدمات من خلال مشاركته في قيادة ثورة أكتوبر الشعبية ضد الحكم العسكري لإبراهيم عبود والتي انتهت بسقوط النظام العسكري وقيام حكم برلماني بديل، ومع أن الإخوان المسلمين كانوا قد بدءوا نشاطهم بالسودان منذ عام 1954 ولديهم من القيادات والرجال ممن هم أكبر سناً وخبرة من الترابي إلا أن الترابي تصدر طلائعهم وصار من قيادييهم وليست هي من عبقرية الترابي حتماً ولكن حمله لشهادة الدكتوراه في تلك المرحلة بالذات جعلت له من الوجاهة والألقاب العلمية التي فتنت أفراد الجماعة به0
وشخصية الدكتور الترابي كما أشرت في أول المقال بتشكيل هالة له بأنه الرجل الموسوعي والمرجعي جعلته يبدأ صراعاً داخل هيكل الإخوان المسلمون من جهة وحسن الترابي من جهة أخرى0(51/64)
حيث أنه كان يعمل في كل حركاته وسكناته على مفهوم التجديد الذي جعله عكازة له في كل عبثه واختراقاته سواء أكان على مستوى الجماعة واستخدام أفرادها ليكونوا تبعاً لفكره المنحرف وحكايا عقله دون منهج مدرسة الأخوان أو كان على مستوى العقائد والفقه والأصول كما فعل في كتابه تجديد أصول الفقه وهو كتاب بمجرد أن تتصفحه تدرك أنه تمييع وتحريف لأصول الفقه بل واقل انحراف فيه هو مهاجمته لأصلي القياس والإجماعي ودعوته الخرقاء لفتح باب الاجتهاد لكل مسلم0
كان الترابي في العام 1965 إلى 1969 زعيماً للإخوان المسلمين وهو ليس مقتنعاً بفكرهم! وأدل شئ على هذا تلك الحواجز التي صنعها مع التنظيم الدولي للجماعة وتأكيده على إقليمية القرار حيث أنه أدرى بالشأن الداخلي والأصلح لإخوان السودان من قيادات الخارج حتى تفجر الصراع بين تياري الإخوان هناك مما أفرز قطبين داخل الجماعة تيار العقل المفتوح " السياسيين " وتيار " التربويين " وقد أطلق عليهم الترابي لقب الإنكماشيين وهي حركة ذكية منه لينكمش أفراد الإخوان منهم فينكمشون إلى غير رجعة! ولقد تحدث الدكتور عبد الوهاب أفندي عن هذا الصراع في كتابه " ثورة الترابي " وكيف أنه حسن الصراع لصالحه بعد أن اقنع تيار السياسيين بضرورة دخول المعترك السياسي بكل تعقيداته مع القفز على المنهج التربوي وبناء الفرد الذي سيؤخرهم للوصول للسلطة وفعلاً نجح الترابي وتفلت الأفراد من قبضة التربويين من دون أن يستكمل بناؤهم وأصيب التربويون بالإحباط فبرزت إلى السطح ظاهرة الانسحاب إلى الظل متمثلة في استقالة أكثر من زعيم للحركة من رموز تيار التربويين وبذلك حسم الترابي الصراع لصالحه بعد استيلائه على أكبر كمية من عقول الأفراد وتطميعهم بكراسي السلطة0
ومن أمثلة استهتار الترابي بالتربويين هي دعوته للأوائل منهم الذي التحقوا بالحركة الإسلامية منذ الخمسينات إلى عشاء دسم في بيته بعد أن نجحت حركة الإنقاذ بالاستيلاء على السلطة عام 1989 وبعد انتهاء الوجبة قام بإهداء مصحف لكل واحد منهم وقال لهم لقد تعبتم كثيراً وكم هو جميل أن تتفرغوا الآن لقراءة القرآن!!
(2)
وما زالت جموع من المشفقين أو المخذلين يتساءلون هل هذا هو النموذج الإسلامي الذي تريدوننا أن ننتهجه؟ هل هذه الدولة الإسلامية التي تريدون؟ لنجيبهم بصوت جهوري من قال لكم إنه قد قامت دولة إسلامية أصلاً في السودان بعد؟
كل ما قام هناك وتشكل إنما هي دولة ترابية قامت على أفكار وأنقاض حسن الترابي.
وعودة إلى منهج الترابي الذي يرتكز على الغاية تبرر الوسيلة. فلقد أسس الترابي في العام (1965-1969) بالتعاون مع بعض المنتمين للتيارات إسلامية حزباً سموه (جبهة الميثاق الإسلامي) ولست الآن في معرض تفصيل أنشطة هذا الحزب ولكني أنوه على أن فكرة الترابي التي قامت على إنشاء هذا الحزب هي استيعاب كل المؤيدين لأطروحات حسن الترابي سواء من الجماعات الإسلامية أو من غيرها وبغض النظر عن توجهات وسلوكيات المنتمين للجبهة ليتحقق له أكبر عدد من المؤيدين وهو التجميع السلبي الذي يسمى في الدروس الحركية بالتجميع الكمي.
ولقد انتبه أحد قادة الأخوان آنذاك وهو الشيخ محمد صالح عمر لانحراف الترابي وانحراف هذه الجبهة التي أقامها فقام بإصدار بيان يعلن فيه انسحابه من هذه الجبهة التي يقود انحرافها الترابي! وعودة من جديد إلى تاريخ الترابي فلقد حدث انقلاب عسكري بقيادة الجنرال جعفر النميري عام 1969 وتولى الإمام المهدي وأنصاره من الطائفة المهدية مع الحركة الإسلامية مقاومة حكم النميري بإعلانهم الخروج على النظام الحاكم ولكن النظام العسكري قابل هذا التمرد بمنتهى العنف فقتل تلك المقاومة شر قتلة بقصفهم بالمدافع! وعلى أثر هذه المذبحة تشكلت في العام 1974 جبهة وطنية تضم حزب الأمة والحركة الإسلامية وجماعة الهندي وكان من بينهم صاحبنا حسن الترابي وفي عام 1976 غزت قوات هذه الجبهة الخرطوم بقصد الإطاحة بنظام النميري وبعد قتال استمر عدة أيام هزمت قوات النميري الجبهة وبسحق هذه القوات استقر حكم النميري ولم يعد خصومه قادرين على القيام بأي محاولة عسكرية. والذي يعنينا من هذا العرض أنه تمكن أحد الوسطاء السودانيين من إجراء مصالحة بين النميري وكل من صادق المهدي وحسن الترابي فلم يستمر المهدي بالمصالحة ولكن الترابي اندمج كلية في النظام بل واصبح وزيراً في البلاط النميري، وهو أمر ليس بمستغرب على الترابي لأنه سبق وقلنا أن منهجه باختصار الغاية تبرر الوسيلة وما دامت الغاية هي الوصول للسلطة فالأولى أن أسمى الجنرال جعفر النميري بفضيلة الشيخ جعفر النميري، ولعل البعض ممن هو على شاكلة الترابي يقول (اشعرفه هذا المليفي بالتكتيكات السياسية والتخطيط والرسم لبعيد) فأقول وما الذي ميّع الدين إلا أمثالكم ممن جعلتم المصلحة هي التي تحكم الدين، وحتى صار عندنا إسلامي اشتراكي وإسلامي ديموقراطي وإسلامي متنور وآخر متحرر وإسلامي منفتح وآخر منشكح!!(51/65)
وعموماً يجب أن يعرف الجميع أن النميري ليس بذاك الغباء كي يجعل من نوعية الترابي وزيراً عنده لأن النميري لم يضم الترابي إلى بلاطه إلا عندما وجد من طينته سلاسة في إعادة التشكيل حيث أن للنميري تجربة سابقة مع نموذج - نوعاً ما - يشابه الترابي وهو الرشيد طاهر بكر فلقد كان يعتبر من أحد كبار جماعة الإخوان المسلمين إذ كان فيما مضى المراقب العام لهم في السودان ولكنه أصبح فيما بعد من أعضاء الاتحاد الإشتراكي المؤيد للرئيس جمال عبد الناصر، فعلاً إنه نموذج صارخ للحديث النبوي الشريف ( يصبح مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) ولقد سبق أن نوهت في الجزء الأول من المقال أن قد الترابي صنع من نفسه تياراً داخل الإخون المسلمين لأنه الإخوان كانوا ممن صالحوا النميري آنذاك مصالحة شكلية مع بقاءهم في صف المعارضة ولكن الترابي تجاوزهم كلية في المصالحة مع النميري وأبرم لوحده اتفاقاً مع النظام وقد قبض ثمن هذا الاتفاق بتعيينه الأمين العام للاتحاد الإشتراكي!!! وهو - فعلاً - منصب يتوافق مع مشيخته وقيادته للحركة الإسلامية!!!
وعموماً إن دل هذا فإنما يدل على مدى انتهازية هذا الرجل وتناقضه الصارخ وحقيقته التي نكشفها للمخدوعين فيه! وانوه بشدة أن دخوله في الإتحاد الإشتراكي للنميري جاء في بداية سنة 1979 أي بعد سنتين فقط من المذبحة التي نفذها النميري في الإخوان المسلمين عندما شاركوا في انقلاب العقيد محمد نور في نهاية عام 1976 فتأملوا يا معاشر السادة القراء.
(3)
استعرضنا في المقالين الأولين تاريخ حسن الترابي السياسي الملئ بالتسلق والوصولية والدهاء ورغم أن ارشيفه عندنا حافل بالاعوجاج إلا أنى اشهد له انه يعتبر ظاهرة حركية لا يستهان بها ولديه من القدرات والمهارات ما يؤهله للقيادة ولكن ليس للحركة الإسلامية طبعاً وخصوصاً وأنها (مليانه) من القيادات المنحرفة!!
وبنهاية هذه الحلقات سوف استعرض لكم أهم وأخطر ما في هذه السلسلة التي أنهكت وأرهقت في كتابتها وقبل أن أبدأ بكشف انحراف حسن الترابي الفكري والعقدي استكمل ما بدأته باختصار من تاريخ الترابي.
استمر الترابي يتنقل ويتمرغ في أحضان السلطة النميرية من عام 1979 إلى عام 1985 والظريف حقاً هو ما يردده بعض المغفلين من أن للترابي حسنات في دخوله تحت بلاط النميري وهي سعيه لتشكيل لجنة لتعديل القوانين الإشتراكية كيّ تتماشى مع الشريعة الإسلامية ولقد هرعت لأتحقق من هذه اللجنة المزعومة التي لم يحركها إلا مظاهرات الإخوان المسلمين من أجل تطبيق الشريعة هناك فوجدت في كتاب التاريخ الإسلامي المعاصر لمحمود شاكر في المجلد ( 13) أن اللجنة التي شكلها ـ فضيلة الشيخ ـ النميري ! لإقامة الشريعة كانت على النحو التالي:
1- جعفر النميري رئيساً للجنة.
2- وجميع وزرائه في الدولة كوزير المواصلات والتجارة ووزير التعديل والزراعة وطبعاً كان الترابي من ضمن الجوقة لأنه وزير العدل ولكن من غير الأوقاف!
3- والمشكلة ليست في هؤلاء الوزراء الذين شكلهم النميري لكي تقام الشريعة الإسلامية النميرية ولكن المصيبة في باقي الجوقة الكريمة لأنه كان من بين الأعضاء أيضاً أخونا في الله (!!) جوزيف كوال وزير المالية والتخطيط ويبدو أنه سيتخصص في إقامة فرض الزكاة! وكذلك من بين الأعضاء صموئيل كيتوت، وكذلك وزير التربية الإقليمي فيليب أويوي، وصموئيل ريتري وزير القوى العاملة، ولا عجب لأن الشريعة التي ستخرج من تحت عمامة النميري لا يهم أن يكون أعضائها من هيئة كبار النصارى ! وعموماً يقال أن تعاطف النميري النسبي مع التيار الإسلامي آنذاك بسبب محاولات الشيوعيين الفاشلة للإطاحة به أعطى بحبوبة للإسلاميين للتوغل في النظام العسكري السوداني وكان من ثمراته خروج عدد كبير من الضباط الذي نفذوا انقلاب 1989 (جبهة الإنقاذ الوطني) ولكن قبل هذا الانقلاب طارت حلاوة الكرسي في 1985 من حسن الترابي بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالنميري وترأس الحكومة بعدها عبد الرحمن سوار الذهب وبقي الترابي بعدهم يرسم للوصول للسلطة من جديد خاصة بعد أن ذاق (عسيلتها) ولم يعد قادراً على الدخول بها مجدداً!! في العام 1989 قاد بعض العسكريين انقلاباً في السودان بقيادة الفريق عمر البشير وأوهموا الناس أن دكتور الحركة الإسلامية حسن الترابي لا علاقة له بهذا الانقلاب وزجوه بتمثيلية مضحكة في سجن (كوبر) مع بعض السياسيين ليخرج بعد أيام فقط ويعلن ويعترف أنه هو الذي خطط لانقلاب عمر البشير معللاً ذلك باتفاق بينهما على أن يذهب البشير للقصر الجمهوري وأن يذهب هو إلى السجن حتى لا يتم الكشف بأن الحركة الإسلامية هي وراء الانقلاب ليفاجأ الناس بعد أن يستتب الأمر لهؤلاء العسكريين بأن الذي يحكم السودان الآن هي الحركة الإسلامية أو بالأصح هو الدكتور حسن عبد الله الترابي.(51/66)
وبتسلم الترابي القيادة الفعلية من قادة الانقلاب بترؤسه المؤتمر الوطني انطبع في السودان نظاماً سياسياً ذا رأسين في تكوين القرار ومع أن الرئيس البشير قد خرج من رحم الترابي إلا أنهما ما لبثا أن تحولا إلى طرفي نقيض وكانت تلك الثنائية سبباً مباشراً في شل إصدار قرارات صحيحة في وقت صحيح، ومن المعلوم بديهياً وتاريخياً أن كل التجارب القيادية التي تقوم على الثنائية في القرار تنتهي إلى زوال أحد القطبين وكما يقول إخواننا المصريون (سفينة بربانين تغرق) .
ولست الآن بمعرض التفصيل ولكني أنوه بشدة وأقول ؛ لن يغير الله سنته في أرضه إرضاء لأحد ولن يكون أحد عند الله أكرم من نبي صلى الله عليه وسلم وهو أحب من خلق إليه ومع هذا ؛ شُج وجهه الكريم وكسرت رباعيته بأمي هو وأمي ولم يقم دين الله على أرضه إلا بإقامة الجهاد ومن دون أن يتنازل نبي الهدى عن قطرة واحدة من منهجه وصراط الله العظيم وحاشاه عليه السلام ذلك، إذن لن تقوم الدولة الإسلامية الحقة عن طريق الانقلاب، ولا عن طريق البرلمانات الوضعية، ولا عن طريق الديموقراطية كما حدث في نكبة إسلاميي الجزائر الذين أرادوا أن تقام الدولة الإسلامية عن طريق صناديق الإقتراع وهيهات أن يغير الله سنته ! ولا عن طريق المؤتمرات والبوفيهات المفتوحة والحوارات المدفوعة الثمن وبطاقات الدعوة المذهبة للمشاركة داخل قاعات الفنادق الفخمة وبرعاية الدولة أيضا!
إن محنة الحركة الإسلامية الرئيسية في السودان إنها جاءت إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري والمصيبة ليست في الانقلاب فحسب ولكن في الهم الأول للمشاركين فيه وهو تأمين موقعهم في السلطة.
في الحلقة القادمة بإذن الله سأبين لكم آخر انحرافات الترابي الدعوية والحركية مع تعرية منهجه العقدي والفكري ليعلم الجميع حقيقة هذا الرجل.
(4)
قصة الترابي الحقيقية وفضيحة معتقده!!
اليوم سأبين لكم نموذجاً واحداً فقط من تخبط الترابي الدعوى والحركي ومن ثم سأعري لكم معتقده الفاسد: بعد أن استتب الأمر للترابي في انقلاب 1989 أكثر الدكتور الترابي بقوله في مجالسه الخاصة والعامة وعبر القنوات الإعلامية أن هذا الانقلاب هو انقلابنا وأن قادته العكسريين هم أبناؤنا وتلاميذنا وما كان سجني إلا بقصد التمويه وأن قادة الانقلاب ما هم إلا ثمرة جهودنا وتربيتنا، وها هو الآن وبعد عشر سنوات عجاف من الانقلاب يصرح ويردد أن عمر البشير ما هو إلا خائن ومارق ومرتد ومن أزلام الغرب!!
ولكن هل فكر الترابي ملياً قبل أن يتهم صفوة تلاميذه بالخيانة والردة والسقوط تحت أرجل الغرب أن من يصفهم بهذه الأوصاف البشعة هم صفوة تلاميذه وثمرة تربيته؟!
ألا يدري أن هذه اللغة التي يتحدث بها تعني أنه رجل فاشل ولا يحسن اختيار مساعديه وأعوانه بل ويجهل أبسط معالم التربية والإعداد؟ علماً بأن الترابي ما فتئ يردد بين الحين ولآخر بأن الجماعات الإسلامية ومن دون استثناء وعلى رأسهم الإخوان قد فشلوا في إعداد وتربية أفرادهم، وتهمته هذه يلوكها منذ أكثر من ثلث قرن، ويأتي اليوم ليجسد للعالم أجمع نموذجه الترابي في الإعداد؟!
نعم يا معشر السادة لا تستغربوا إن قلت لكم أن نائب الرئيس عمر البشير والمسمى (علي عثمان طه) هو نفسه نائب الترابي في الجبهة الإسلامية! وكذلك رفيق دربه في العمل الإسلامي!
بل أن رفيقه هذا مع تلميذه البشير صار يسميها الآن هم وأنصارهم من أبناء الحركة الإسلامية مرتدين وخونة وعملاء للغرب! هكذا وبكل بساطة خلعهم من الإسلام فقط لأنهم اختلفوا معه ولا يريدون قيادته، وهل يوجد عاقل يقبل أن يقوده حسن الترابي؟
إن الترابي هذا الذي يظن بعض البسطاء أن له يداً في محاولة تطبيق الشريعة بالسودان هو نفسه الذي كان له اليد الطولى بتعديل الدستور السوداني وجعله دستوراً علمانياً بعد أن كان دستوراً إسلامياً! وهو نفسه الآن يعطي أوامره للمقاتلين ضد قوات قارانق ليفرغ مواقعهم كي يربك مجموعة البشير العسكرية وهو لا يهمه أن ينتصر قارانق على المسلمين ولكن الذي يهمه الآن وبالدرجة الأولى مصلحته الشخصية وإحكام سيطرته على الدولة ودحر ومسح كل من يخالف نهجه وانحرافه، وأقسم أن مثل هذا الرجل لا يهمه إسلام ولا دين ولكن ما يهمه حقاً هو أن تقوم إمبراطورية الترابي العظمى ولو على أنقاض السودان وجماجم أهلها!!
فضيحة العقيدة الترابية!!(51/67)
بدأ انحرافه العقدي منذ أن برز على الساحة الإسلامية كظاهرة حركية تستحق الدراسة، وأول انحراف بدأ به هو ترديده لانحرافات الشيخ محمد عبده وتلامذته من إنكار نزول سيدنا المسيح عليه السلام علماً بأن نزول المسيح على الأرض والذي يسبقه ظهور المهدي المنتظر ( عجل الله ولادته! ) يعتبر من ثوابت العقيدة عند المسلمين قاطبة بل وحتى بعض المسيحيين، لكن الترابي لا يقبل بهذا المعتقد بل هو يرد كل حديث صحيح لا يوافق عقله كحديث الذبابة الصحيح الذي رواه البخاري في باب الأطعمة وأصحاب السنن وليت انحرافه كان مقتصراً في هذه الجزئية، إذن لهان الأمر ـ مع أن إنكار نزول المسيح عليه السلام ـ ليس بهين ولكن مصيبتنا في الدين الجديد الذي اخترعه الترابي ونسبه للإسلام زوراً وبهتاناً ومن ذلك:
1- دعوته إلى قيام دين عالمي جديد!! ففي حوار مع جريدة الرأي العام من عددها الأول لها بعد شرائها من المساعيد أجرى الشيخ محمد العوضي حواراً مطولاً مع الترابي قال فيه " إنني أدعو إلى قيام الملة الإبراهيمية والتي ينطوي تحت لوائها كل الأديان السماوية " وقال كذلك في مؤتمر الأديان الذي عقد بالخرطوم بتاريخ 8/10/1994 " إنني أدعو اليوم إلى قيام جبهة أهل الكتاب وهذا الكتاب هو كل كتاب جاء من عند الله ".
2- إنكار الترابي لحد الردة في الإسلام! علماً يا معاشر القراء أن حد الردة هو مما علم من الدين بالضرورة ومن أنكره فقد كفر بمأنزل على محمد، فها هو يقول وينطق لسانه بجريدة المحرر العدد 263 بتاريخ 8/1994 ( في بلدي وأنا أدعو إلى حرية الحوار فإنني أترك للطرف الآخر أن يقول ما يشاء بل إنني أقول أنه حتى لو ارتد المسلم تماماً وخرج من الإسلام ويريد أن يبقى حيث هو فليبق حيث هو لأنه " لا إكراه في الدين "!! وأنا أقول ارتد أو لا ترتد فلك حريتك في أن تقول ما تشاء بشرط أن لا تفسد ما هو مشترك بيننا من نظام "!! ثم يقول " في إطار دولتنا الواحدة فإنه يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه "!! نعم يا اخوة شرط الترابي هو أن لا تفسد عليه نظامه أما حق الله فلا وجود له في قاموسه !
وصدق الله تعالى ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) .
3- وبإيرادي لهاتين الطامتين في معتقده الملئ بالانحراف يكفي ولكني أضيف وعلى السريع أن عقيدته باليهود والنصارى أنهم ليسواكفاراً وهو أيضاً يرى كما يرى منحرفي الصوفية بعقيدة الاتحاد والفناء بذات الله "0 وأما تحليله للغناء والرقص فهو متواتر عنه ومعلوم بل هو يرى أن الرقص والغناء لهما علاقة وطيدة بالعقيدة وعبادة الله حيث أن الغناء والرقص من وسائل التقرب إلى الله إذا نوى العبد ذلك لله!! ومن أراد التأكد فليقرأ كتاب " حوار الدين والفن " للترابي ص19 وأنوه أيضاً أن حسن الترابي في عام 1992 أنشأ الفرقتين الغنائيتين " نمارق " وفرقة " عقد الجلاد " فتأملوا يا سادة إسهامات زعيم الحركة الإسلامية في عالم الفن والطرب!!! ولكن عتبنا على الترابي شديد لأنه لم يساهم بعد في الفيديو كليب!!
4- وأما عن تحليله سفر المرأة من غير محرم وتجويزه تدريب الرجال للنساء والتحاقها بالعسكرية والتحاقها بالفرق الغنائية المختلطة واستخفافه بعلماء المسلمين القدامى وتجرئه على الفتيا فهذه كلها من آثار دعوته الجديدة وهو تجرأ كذلك على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعلى صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم وعلى السنة النبوية المطهرة، انظروا إلى كتاب مناقشة هادئة لبعض أفكار الترابي لمؤلفه الأمين الحاج في الصفحات 79و125و146 وما هذا الذي أوردته بإيجاز إلا غيض من فيض وسطر من قمطر وقطرة من بحر ضلاله!
وما يهمني الآن هو إخواننا المسلمين بالسودان والحركة الإسلامية هناك بأن يعيدوا توحيد صفوفهم مجدداً والكل يعلم أن هنالك صراعاً محموماً على القارة الأفريقية بين الدول التي كانت تستعمرها من جهة وأمريكا التي تريد أن تجعل لها نفوذاً من جهة أخرى، وكل هذا الصراع إنما هو على ثروات هذه البلاد الأفريقية.
فيا أيها المسلمون هناك ؛ تريثوا في التعامل مع ما يحدث الآن لينتصر الإسلام ويتطهر ممن يدعي الإسلام! ) .
14 - محاضرة " العلمانية في ثياب إسلامية " للدكتور جعفر شيخ إدريس : وقد لخصها الأمين الحاج في كتابه " الرد القويم .. " - كما سبق - .
15- صادق عبدالله عبدالماجد : في مقالة بمجلة المجتمع ( العدد 590) .
16- د . الحبر يوسف نور الدايم : في مجلة المجتمع ( العدد 591 ) .
نقولات عن الترابي : تشهد لما سبق :
هذه مجموعة نقولات مرت بي أثناء إعداد هذا البحث من كلام الترابي ؛ تشهد لما ذكره الرادون عليه :
يقول عن ثورة الرافضة في إيران : ( وحركة الإسلام شهدت تجارب شتي في التجديد بالمجادلة بالحسنى ، وفي التعرض للعدوان والفتنة من جراء ذلك . وهي اليوم تشهد تجارب جديدة في ثورة إيمان في النفوس تنقلب ثورة قوة في الواقع . ولعل أروع نماذجها في الثورة الإيرانية الإسلامية ) . ( الحركة الإسلامية والتحديث ، ص 76 ).(51/68)
ويقول : ( الثورة الإسلامية في إيران هي الحدث الأكبر في التاريخ السياسي الإسلامي المعاصر ) ( الحركة الإسلامية في السودان ، التطور والمنهج والكسب ، ص 278 ) .
- ويقول : ( بادرت الحركة تظاهر الثورة - أي الإيرانية - بتأييدها ) ( السابق ،ص295) .
ويقول : ( الثورة الإيرانية هو ذلك الحدث الذي استطاعت فيه قوى الإسلام رغم ضعفها البادي لكل المراقبين أن تغلب بإذن الله الفئة الكثيرة القوية ) ( مجلة المجتمع ، العدد 580 ) .
ويسميها : ( الثورة الإسلامية الظافرة في إيران ) . ( الحركة الإسلامية في السودان ، ص 130 ).
ويقول عن الخلاف بين السنة والشيعة :( هو في الأصول ليس ببعيد جداً ، سواء بعض النظريات والمعتقدات السياسية التي أحسب أن مسيرة التاريخ الإسلامي ستتجاوزه ) ( مجلة الإرشاد اليمنية ، محرم وصفر 1408هـ ).
ويقول عن دعوته : ( إن قيادة الحركة الإسلامية في السودان _ أقصد طبقة القيادة في السودان - خرجت من القطاع الحديث المستنير ، واستعدت لمواقف فكرية متحررة ومتجددة واجتهادية ) . ( الحركة الإسلامية في السودان ، ص 48 ).
- ( إن طبيعة الحركة وتربيتها تهيؤها للجرأة والإقدام في كل الأمور ) ، ( فلاغرو أن كانت مهيأة بتلك الروح لأن تكون متوكلة جريئة في الاجتهاد بغير تحفظ مفرط ، وفي ارتياد المذاهب الفقهية الحديثة ) ، ( الحركة الإسلامية في السودان ، التطور والمنهج والكسب ، ص 245 ).
( تجاوزت بفكرها الأطر المعروفة للتفقه والآثار المنقولة في الفقه ، وتجاوزت بحركتها الحدود المألوفة للإسلام ). ( السابق ، ص 246 )
- ولما سئل : ( قرأنا آراء نسبت لك اعتبرها البعض تطرفاً ، فهل تراجعتم عنها ؟ أم مازلتم متمسكين بها ؟ )
قال - معجبًا بنفسه !! - : ( أنا أجتهد كثيراً ... وكل المفكرين يجتهدون أيضاً ، فأنا واحد منهم .. إنني أشعر بأن المسلمين قد تخلفوا قروناً ، لذلك أشعر بتبعة وتكاليف التجديد الإسلامي الذي يقتضيه ذلك التخلف ) ( مجلة الإرشاد اليمنية ، محرم وصفر 1408 ) .
- ويقول عن الصحابة :( إن الاستعمال القرآني والسني للصحابة هو الصحبة الطويلة التي تمتعت بها فئة محدودة .. ) ( السابق ) .
ويقول عن المرأة : ( غالب المواقف التي يتذرع بها المحافظون ليست إلا أعرافاً إسلامية منحطة ) (السابق ) .
( أمر الزواج بين المسلمين وأهل الكتاب : فيعتبر جائزاً بنص الكتاب المسلم من الكتابية . وعكسه : غالب الفقهاء على غيره ، خشية الفتنة على المسلمة ، واعتبارات أخرى تقديرية استنبطت من النصوص ، لكن لا يوجد قطعي صريح ) !! (السابق ).
( إن واقع المرأة التقليدي لا يمثل الإسلام ) . ( مجلة المجتمع عدد 580 ) .
ويقول لامزًا دعوة الإخوان !! :( إنه النظر المتوكل المنفتح على إخوانه المسلمين ، يتجادل معهم ، ولا يتعلق على مدرسة دون أخرى ، ويظن أن الحق كله قد اكتشفه فلان أو فلان ، ومات به ، فانسد باب الحق بعد موته !) ( السابق )
( يقول مستخفاً بجماعة أنصار السنة في السودان : ( إنهم يهتمون بالأمور العقائدية وشرك القبور ، ولا يهتمون بالشرك السياسي ، فلنترك هؤلاء القبوريين يطوفون حول قبورهم حتى نصل إلى قبة البرلمان ) ( مجلة الاستقامة ، ربيع الأول ، 1408هـ ) ( عن : الطريق إلى الجماعة الأم ، ص 13 )
- ويقول عن جماعته : ( انشغل همهم الآن بالشرك الأخطر والأجرح والأصرح : الشرك السياسي الذي لا يؤمن بالله مالكاً ، بل يأتي بالقوانين الوضعية من الخارج ، والشرك الاقتصادي الذي لا يجعل المال لله ونحن فيه خلفاء ) ( جريدة السودان الحديث ، 16/يوليو/1994 م ).
أخيرًا يقول مادحًا تجديده !! وحركته !! :( قضى الله عز وجل أن يبتلى المسلمون حيناً بعد حين بالتقادم والجمود ، فيقيض لهم حيناً بعد حين مرحلة من مراحل التجديد .. وما من حركة تجدي دية إلا وقد واجهتها التقاليد الإسلامية التي هي صادقة في تدينها بموقف متصلب جداً يبلغ حد التكفير والتضليل ) ( المسلمون ، العدد 170 ) ثم شبه نفسه بابن تيميه والشيخ محمد بن عبد الوهاب !
- قلت : هذه أهم الردود التي رد بها العلماء والدعاة على أخطاء وانحرافات حسن الترابي ؛ جمعتها في مكان واحد لتكون ميسرة لمن يريد معرفة فكر هذا الرجل " الحركي " الذي لا يهدأ ؛ عسى أن تكون موعظة لغيره من دعاة الإسلام أن يتساهلوا كتساهله فيقعوا فيما وقع فيه .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
===============(51/69)
(51/70)
ايمانويل كانط
هذه مقتطفات من الفصل المخصص عن ايمانويل كانت في كتاب تاريخ الفلسفة الحديثة للفيلسوف المصري يوسف كرم
حياته و مصنفاته
قيل عن سقراط أنه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين : ما قبله و ما بعده ، و دعي ديكارت أبا الفلسفة الحديثة و اعتبر الحد الفاصل بين القديم و الجديد في تطور الفكر الأوروبي. كذلك نقول عن كنط إنه يشطر الفلسفة الحديثة نفسها شطرين . أجل لقد أخذ الشي الكثير عمن سبقوه ، من ديكارت إلى هيوم و روسو، و جرى في تيارهم ، و لكن تفكيره أدى به إلى وجهة جديدة شيطرت على القرن التاسع و لن تبدأ العقول بالتحرر منها إلا منذ عقخ قريب .
ولد كنط بكونجسبرغ من أبوين فقيرين على جانب عظيم من التقوى و الفضيلة ، ينتميان إلى شيعة بروتستانتية تدعى الشيعة التقوية pietisme تتمسك بالعقيدة اللوثرية الأساسية القائلة إن الإيمان يبرر المؤمن ، و ترى أن محل الدين الإرادة لا العقل ، و تعلي من شأن القلب و الحياة الباطنة ، و من ثمة تقول إن الإيمان الحق هو الذي تؤيده الأعمال ، و تعتبر المسيحية في جوهرها تقوى و محبة الله ، و تعتبر اللاهوت تفسيرا مصطنعا أقحم عليها اقحاما .
نشأ كنط على هذا المذهب و تشبع به في المنزل و المدرسة و الجامعة ، فكان لذلك أثره في توجيه فكره حتى كون فلسفة تميز تمييزا باتا بين صورة خالصة و مادة ، و حتى قال في وصف هذه الفلسفة :" أردت أن أهدم العلم (بما بعد الطبيعة ) لأقيم الإيمان ".
دخل في الثامنة إحدى المدارس التابعة للشيعة التقوية ، و أتم برنامجها في السادسة عشرة .... و بعد المدرسة انجه إلى كلية الفلسفة بجامعة مدينته يقصد دراسة اللاهوت ليصير قسيسا ، و لكنه عدل عن هذا القصد فيما بعد . تتلمذ لأستاذ بالكلية للرياضيات و الفلسفة من أتباع التقوية و من أتباع فولف ناشر فلسفة ليبنتز الموسومة بالعقلية ، فعرف بواسطته مؤلفات نيوتن ، فكانت عنصرا آخر هاما من عناصر فكره ، و لكنه حار بين التقوية و العقلية ، الأولى تشيد بالإرادة و العاطفة و الثانية تشيد بالعقل و العلم القياسي و تؤلف التقوى الحقة من" نور و فضيلة" و تعلن أن من الخطأ على السواء " الاعتقاج بأن المرء يستطيع أن يحب أخاه دون أن يخدمه ، و بأنه يستطيع أن يحب الله دون أن يعرفه " ، و في عام 1746 تقدم برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين ديكارت و ليبنتز في مسألة قياس قوة جسم المتحرك.
توفي والده فرأى أن يكسب رزقه بالتعليم في أسرة غنية ، و زال هذا العمل في ثلاث أسر على التوالي من أهل المنطقة قضى في ذلك تسع سنين لم ينقطع أثنااءها عن التفكير و التحصيل و نشر في نهايتها (1755) كتابا في " التاريخ العام للطبيعة و نظرية السماء . و في تلك السنة استطاع أن يستقر بكونجسبرغ و حصل على دجتين جامعيتين أولاهما برسالة في النار و الثانية برسالة في المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية : يقبل فيها دليل العلل الغائية علة وجود الله بدون تحفظ . ثم عين استاذا خاصا في الجامعة .
إلى ذلك الوقت كان تحت تأثير فولف و نيوتن ميتافيزيقيا و عالما طبيعيا ، ففي رسالة نشرها سنة 1755 دافع عن تصور ليبنتز للحرية و قال أن الارادة لا تشذ عن مبأ السبب الكافي و قي سنة 1758 نشر رسالة أيد فيها تفاؤل ليبنتز القائل أن الله لكماله خلق بالضرورة خير العوالم الممكنة . ثم بعد ذلك قرأ شفتسبري و هاتشيسون و هيوخم و قرأ روسو فتغير تفكيره تغيرا عميقا .
....
و كان تأثير هيوم أبعد مدى و قد قال كنط فيما بعد أن هيوم أيقظه من سباته الاعتقادي ( الدجماطيقي ) و كان ذلك برايه في مبدأ العلية بنوع خاص ، إذا كان قد قال إن مبدأ العلية ليس قضية تحليلية ، أي أن المعلول ليس متضمنا في العلة أو مرتبطا فيها ارتباطا ضروريا ، و أن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة .
سلم كنط بالملاحظة الأولى و لكنه فطن إلى أن التجربة لا تولد ضرورة بمعنى الكلمة و أن العلم قائم على مثل هذه الضرورة . و أن قيام العلم أمر واقع يمنع من قبول الشك و الاكتفاء بالتجربة فحسب ، فيجب أن يكون مبدأ العلية مبدأ أوليا في العقل و بفضله تتحول الالقضية التجريبية إلى قضية أولية كلية ضرورية ، و يجب إذن الفحص عن سائر المبادئ المطوية في العقل ة تعيين وظائفها في المعرفة العلمية ، و تلك هي الفكرة النقدية التي بنى عليها كنط فلسفته النقدية و لكنها لن تنضج عنده إلأا بعد زمن غير قصير .
نقائض النطق الخالص
هذه هي المتناقضات المشهورة عن كنط ، و لسنا نعلل شهرته بها إلا بأن الناس يذكرون الحديث قبل القديم ، فقد وردت كلها عند زينون الإيلي ، و عند أفلاطون في محاورة بارمنيدس على الخوصو و عند أرسطو في ردوده غلى حجج زينون الإيلي و في محاولة تدليل قدم العالم و عند فيلسوف انجليزي اسمه A r thu r Collie r نشر سنة 1713 كتابا بعنوان " الفتاح الكلي: يصدر فيه عن مالبرانش و يدعي التدليل على تناقض فكرة العالم الخارجي .
النقائض:
الأولى(51/71)
للعالم بداية في الزمان و هو محدود في المكان ----- ليس للعالم بداية و لا حد و لكنه متناه من حيث المكان و الزمان.
الثانية
كل جوهر فهو مركب من أجزاء بسيطة و ليس يوجد في العالم شيء إلا و هو بسيط أو مركب من أجزاء بسيطة ----- لا شيء مركب في العالم من أجزاء بسيطة و ليس يوجيد في العالم شيء بسيطو
الثالثة
العلية الطبيعية ليست العلية الوحيدة التي ترجع إليها جميع ظواهر العالم ، بل من الضروري التسليم أيضا بعليو حرة لتفسير هذه الظواهر --------- ليس هناك حرية ، و لكن كل شيء في العالم يحدث بموجب قوانين طبيعية
الرابعة
العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري سواء أكان جءا منه أو كان علة مفارقة له -------- ليس يوجد موجود ضروري سواء في العالم أو خارج العالم باعتبار علته .
------
من هنا يستنتح كنط أن الفهم و النظق متعارضان ، و هما مع ذلك يؤلفان عقلنا ، و يبدو هذا التعارض واضحا في القايس التالي :" حين يوجد المشروط توجد سلسلة شروطه بأكملها ، و المشروط موجود ، و إذن سلسة شروطه موجودة " . هذا الفياس غلط لأنه يحتوي على أربعة حدود :ففي المقدمة الكبرى الموضوع أي المشروط مأخوذ باعتباره موضوعا معقولا مستقلا عن شورط الحساسية أو الحدس ، و هذا هو الحال في القضايا جميعا ، و في المقدمة الضغرى المشروط مأخوذ طبعا باعتباره العالم الظاهري الماثل في حسنا و هذا هو الحال في نقائض القضايا . فبأي حق نستدل بحد أوسط ذي معنيين و ننتقل من الظاهرة إلى الشيء بالذات ؟
و نحن نلاحظ أولا أنه ما دام الغلط ناشئا من التردد بين معنيين فليس يصح القول أن العقل متناقض مع نفسه ، إلا بمعنى للعقل واسع يشمل الفهم و النطق و هو المعنى الذي أرادهع كنط في كتابه . فبقى مبدأ عدم التناقض مصونا ، لأن التعارض ههنا واقه بين قوتين مختلفتين لكل منهما وجهة خاصة ، و من شروط التناقض أن يكون الموضوع في المقدمتين واحدا بعينه . و نلاحظ ثانيا أن كنط يلزمنا مذهبه و يريدنا أن نؤمن بقوتين عقليتين متعارضتين و نستدل كاستدلاله . و لكننا نؤمن بعقل واحد ينظر إلى الأشياء نظرة واحدة ، و إذا حكمناه ي القضايا و نقائضها وجدناه يحكم بأن في كل تقابل إحدى القضيتين صادقة و الأخرى كاذبة فيرتفع التناقض بالفعل . و ها نحن نورد استدلالات كنط و نعقب عليها باحقاق قضية و ابطال أخرى .
التناقض الأول : القضية : للعالم بداية في الزمان ، و هو متناه او محدد في المكان " دليل الشق الأول أنه إذا لم يكن للعالم بداية كانت كل احظة مسبوقة بزمان غير متناه ، و هذا خلف لأن معنى اللانهاية في الزمان أن هنا سلسلة لا تتم أبدا . و دليل الشق الثاني أنه لو كان العالم لا متناهيا في المكان لاقتضت الاحاطة به جمع وحداته على التوالي في زمان غير متناه و لا يمكن عبور الزمان اللامتناهي كما تقدم . نقيض القضية : " ليس للعالم بداية و لا حد ، و لكنه متناه من حيث الزمان و المكان . دليل الشق الاول أنه لو كان للعالم بداية لكان تقدمها زمان متجانس ، و في مثل هذا الزمان تتساوى الآنات في عدم احتوائها ما يرجح وجود العالم على عدم وجوده فلم يكن العالم ليوجد أبدا . و دليل الشق الثاني أنه لو كان للعالم ح لكان هذا الحد خلائ أي لا شيئا و لا حدا فلم يكن العالم محدودا .
و نحن نسلم القضية مع تحفظ على الشق الأول و هو أنه لا يقام على هذا الشق برهان ضروري ، كما بينا في الرد على قول أرسطو بقدم العالم عرض موقف القديس توما الأكويني من هذه المسألة ، ثم مع تحفظ على الشق الثاني و هو أن حد العالم لا يتعلق بامكان احاطتنا به ، كما يذكر كنط ، بل بطبيعة المادة فإن للمادة الموجودة بالفعل سطحا بالضرورة و السطح محدود على ما يذكر أرسطو ، أما نقيض القضية فنقول عنه شقه الاول إن في الاستدلال عليه خطأ ، إذ أن هذا الاستدلال يعتمد على فكرة أن الزمان شيء متجانس سابق على العالم مستقل عنه ، و هذا غير صحيح لأن الزمان و هو عدد الحركة يوجد بوجود العالم المتحرك فإذا سلمنا أن العالم لم يوجد في الزمان لم تكن النتيجة المحتومة أنه قديم كما يريد الاستدلال بل إنه قد يكون قديما و قد يكون حادثا وجد مع الزمان أو أن الزمان وجد معه . و نقول عن الشق الثاني (" ليس للعالم حد") أنه إذا كان العالم محدودا كان حده سطحه الخارجي كما بينه أرسطو..
التناقض الثاني :(51/72)
القضية :" كل جوهر مركب ( أي الجوهر المادي ) فهو مركب من أجزاء بسيطة ، و ليس يوجد في العالم شيء إلا و هو بسيط أو مركب من أجزاء بسيطة ". ذلك بأنه لو كانت المادة مركبة إلى غير نهاية ، لكان تحليلها يستتبع انعدامها ، فلكي تبقى يجب أنن يقف التركيب عند حد ، أي أن تكون الجواهر مركبة من أجزاء بسيطة . نقيض القضية " " لا شي مركبا في العالم مركب ن أجزاء بسيطة ز ليس يوجد في العالم شيء بسيط ". ذلك بأن التركيب لا يمكن إلا في المكان بحيث يكون عدد أجزاء المركب مساويا لعدد أجزاء المكان الذي يشغله و لكن المكان لا يتألف من أجزاء بسيطة بل من أمكنة و الأجزاء الأولى اطلاقا لمركب ما هي بسيطة فيلزمنا القول أن البسيط يضغل مكانا ، أي أن البسيط مركب هذا خلف .
و نحن نرفض القضية و نحيل القارئ إلى ما قلناه في حجج زينون الإيلي و رد أرسطو عليها( كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية تأليف يوسف كرم ) .أما تحتجاج كنط بأنه لكي تكون المادة مركبة إلى غير نهاية يجب أن يقف التركيب عند أجزاء بسيطة ، فيرد عليه بأن اضافة البسيط إلى البسيط لا تنتج الامتداد فيجب وضع الامتداد أصلا كما يقول الدليل على نقيض القضية ، و نحن نسلم نقيض القضية
التناقض الثالث :
القضية العلية الطبيعية ليس العلية الوحيدة التي ترجع إليها جميع ظواره العالم بل من الضروري التسليم أيضا بعلية حرة لتفسير هذه الظواهر ذلك بأن كل ما يحدث بموجب العلية الطبيعية يحدث بعد حادث سابق يعينه و هكذا إلى غير نهاية ، فإذا لم يكن هناك سوى هذه العلية لزم القول بسلسلة لا متناهية من العلل لتعيين كل ظاهرة ، و لكن السلسلة اللامتناهية لا تتم أبدا فيجب أن تكون سلسلة العلل تامة أي متناهية ، و من ثمة يجب التسليم بعلية حرة قادرة على أن تبدأ سلسلة ظواهر تجري حسب القوانين الطبيعية .
نقيض القضية : ليس هناك حرية ، و لكن كل شيء في العالم يحدث بحسب قوانين طبيعية .
ذلك بأن كل بداية فعل تفترض في العلة حالة لا تكون فيها فاعلة ، كان فيها حالتان متعاقبتنا لا تربط بينهما علاقة علية ، و لكن لكل ظتهر علة ، فالحرية معارضة لقانون العلية .
تعليقنا :
هذا التناقض يتناول مسألة الخلق ، و نحن نسلم القضية ، و نلاحظ أن الدليل الذي يورده كنط في عين الدليل على القضية في التناقض الاول ، و أن هذا الدليل يقيم العلية على تناهي سلسلة العلل في الزمان على حين أن التناهي الذي يحتمه مبدأ العلية هو تناهي عدد ااعلل المترتبة بالذات أي المتوقف بعضها غلى بعض آخر ، كما بيناه في عرض برهنة القديس توما الأكويني على وجود الله .
و نحن نرفض نقيض القضية ، فإنه يغلط من وجهين : أحدهما أنه يفترض أن الله يشرع في الفعل في وقت ما ، و هذا تشخيص للزمان قبل وجوده ، و الوجه الآخر أنه يفترض في الله انتقالا من القوة إلى الفعل ، و هذا مخالف لماهية الله الذي هو فعل محض ، ف'ن حدوث العالم لا يعني أن الله فعل بعد أن لك يكن فاعلا ، بل إن العالم وجد بعد أن لم يكن موجودا ، فالعالم هو الذي يتغير بموجب ارادة آلهية قديمة ، و إذا كان مبدأ العلية يقضي بأن لكل ظاهرة علة ، فإنه لا يقضي بأن كل علة معلولة ، إذ أن التسلسل معناه عدم الوصول إلى علة أبدا و مناقضة مبدأ العلية .
التناقض الرابع :
القضية : العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري ، سواء أكان هذا الموجود جزءا من العالم أو علة مفارقة له " . و ذلك بأن العالم المحسوس سلسلة تغيرات ، و كل تغير فله شرط سابق في الزمان ، و كل ما كان مشروطا فهو يفترض جملة شروط بأكملها بحيث يقوم على الضروري . و هذا الضروري يجب أن يكون داخلا في العالم المحسوس لكي يعين سلسلة التغيرات ، و لو خارج العالم و خارج الزمان لما أمكن أن يكون أساسا للوجود الحادث .
نقيض القضية : " ليس يوجد موجود ضروري سواء في العالم أو خارج العالم باعتباره علته . الشق الأول يحتمل فرضين : أحدهما أن الموجود الضروري جزء من العالم ، فنضع بذلك بداية مطلقة لسلسلة تغيرات العالم خلافا لقانون العلية ، و الفرض الآخر أن الموجود الضروري هو سلسلة تغيرات العالم ( على ما يذهب إليه سبينوزا و غيره من أصحاب وحدة الوجود ) فتكون هذه السلسلة الحادثة في كل حلقة من حلقاتها ضرورية في جملتها ، و هذا خلف . و الشق الثاني يلزمنا القول بأن هذه العلة المفارة تبدأ سلسلة علل التغيرات في العالم و أنها في الزمان من ثمة أنها جزء من العالم ، و هذا مخالف للمفروض .
التدليل على هذا التناقض شبيه بالتدليل على التناقض الثالث ، و هو على كل حال أخص بالعلم الإلهي منه بالعلم الطبيعي و لكن طوائف المقولات أربع ، فيجب أن يكون هناك أربعة تناقضات !!!!(51/73)
و نحن نسلم أن العالم المحسوس يتعل بموجود ضروري لا للزوم بداية زمنية كما يذكر كنط بل للزوم بداية وجودية منطقية كما يذكر القديس توما الاكويني . و نرفض القول بأن المرموجود الضروري جزء من العالم ، إذ لو كان كذلك لما كان علة مطلقة أما نقيض القضية (" ليس يوجد موجود ضروري") فنرفضه ، إذ ليس يدلل عليه بتنافر بداية مطلقة مع مبدأ العلية ، و قد بينا على العكس أن مبدأ العلية يقتضي بداية مطلقة ، و ليس يلزمنا مذهب سبينوزا و يعتبر رد كنط عليه ردا صحيحا ، و ليس يلزم أن تكون العلة الأولى في الزمان جزءا من العالم لكي تبدأ سلسلة الظواهر الطبيعية إذ ليس فعلها حركة مادية .
و أخيرا
استدلال كنط ضد الدليل الطبيعي ( الكوزمولوجي الكوني ، الحدوث ، الامكان ) و الرد عليه
مذهب كنط :
الدلي الطبيعي يذهب من حدوث العالم أو أي شيء فيه كوجودي أنا على الأقل و ينتهي إلى موجود ضروري . فيعترض كنط بأن هذا الموجود الضروري ليس حتما الموجود الكامل أو الله ، بل قد يكون المادة أو العالم و أن نتيجة الدليل تعدل عند أصجابه هذه القضية : الكامل الضروي ، و هذا قول الدليل الوجودي الذي هو غلط .
الرد عليه :
و لكن كنط واهم همنا : الدليل الوجودي غلط لأنه يمضي من المعنى إلى الوجود العيني ، أما الدليل الطبيعي فليس غلطا لأنه يذهب من الموجود إلى الموجود ، و يقول إن الضروري كامل لا أن الكامل ضروري و إنما نصل إلى موجود ضروري لأن العلة الأولى يجب أن تكون موجودة بذاتها أي أن يكون وجودها عين ماهيتها ، و إلا لم تكن هي العلة الأولى ، و إنما نقضي بأن الضروري كامل لنفس هذا السبب فهذه القضية ليست مقدمة كما هو الحال في الدليل الوجودي ، و كنها نتيجة مبرهنه .
و يكرر كنط الأقوال التي ايد بها نقيض القضية في التناقض الرابع (انظر أعلاه) و أهمها أن مبدأ العلية يقضي بأن لكل ظاهرة علة لا بأن للعلل علة أولى ، ثم يقول إن مسألة العلية هاوية يتردى فيها العقل ، و إن العقل ليضطرب إذا اعتبر أن الآله الذي يقول به كعلة أولى لا يتطيع أن يجيب إذا سأل نفسه :" أنا الموجود منذ الازل من أين أنا ؟" إن الكمال المطلق لا يمحو مسألى العلية و لا يحلها
و نرد عليه : بل إنه يحلها و يمحوها . سأل موسى قائلا " ما اسمك ؟" فكان الجواب :" أنا الموجود " و لا جواب إلا هذا و قد يبنا أن فعم كنط لمبدا العلية ينتقض هذا المبدأ إذ أن عدم القوف عند حد في سلسلة العلل معناه عدم الوصو إلى علة بمعنة الكلمة ، أي علة غير معلولة ، و ترك السلسلة معلقة
=============(51/74)
(51/75)
الماركسي ( محمد شحرور ) .. وكتابه عن القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مادة جديدة أضفناها لموقع ( الكاشف ) ؛ وهي من كتاب الدكتور محمد فاروق الخالدي - وفقه الله - " التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين " ( ص 274-302) . ومن أراد الزيادة عن هذا الماركسي فعليه بكتاب " النزعة المادية في العالم الإسلامي " للأستاذ عادل التل ، ورد الشيخ عبدالرحمن حبنكة على شحرور " التحريف المعاصر " .
( 1 )
الكتاب والكاتب :
يعتبر هذا الكتاب من أضخم كتب التحريف المعاصر ، ومن أكثرها إثارة ، وقد رد على افتراءاته عدد من الكتاب والمفكرين المسلمين .
« حيث اختار الدكتور محمد بن ديب شحرور « سوري الجنسية » المذاهب الضالة ثيابًا تخيل للأغرار من أهل الأهواء والشهوات أنها مفهومات إسلامية ، وأن نصوص القرآن والسنة النبوية تدل عليها ، إذا قرئت قراءة معاصرة بأعين الفلاسفة المتعمقين .. »(1 ) .
وكان المهندس « شحرور » قد صيغ صياغة ماركسية ، حيث كان يسير في منهجه حسب أساليبها الفكرية وألفاظ كتبها ومصطلحاتها ، إذ اجتهد الكاتب أو من أملى الكتاب عليه أن يفسر القرآن وآياته بمنظار نظرية المعرفة عند الماركسيين ... وكان الهدف الأقصى هو العدوان على النصوص الدينية الربانية ، وإلغاء معانيها المشتملة على العقائد والأخلاق والشرائع والأخبار والأحكام الربانية إلغاء كليًا ، أو جزئيًا »(2 ) .
* كان في نظر الكاتب أنه لا بد من نظرية جديدة لإنهاض العرب والمسلمين ، تقوم على تلبيس الإسلام طاقية الماركسية ، بعد إدخال بعض التعديلات الجوهرية على الماركسية والإسلام ، وأن يغلف ذلك بالحريات التي أطلقها المبدأ الرأسمالي ، وألغتها الماركسية ، وأن يتهم الناتج بالعواطف القومية والوطنية ، حتى لا يبقى لنظريته لون أو طعم(3 ) .
** والضجة التي أثارها كتاب شحرور ، لم تحدث للقيمة التي يحملها الكتاب ، وإنما جاءت من خلال عنصر الإثارة المقصود ، ذلك أن الناس لم يعتادوا أن يسمعوا في حق الدين أقوالاً تصل إلى هذه الجرأة في مخالفة صريح الكتاب وصحيح السنة ، ونقض الإجماع ، والتعرض لشخصيات الصحابة بالهزء والسخرية ، وتسفيه علماء الأمة الإسلامية ، بهذه الطريقة المزرية ...
كما ساهم في هذه الإثارة المفتعلة ، الطريقة التي تناول فيها « شحرور » الآراء الفقهية الراسخة عند المسلمين ، وكانت مسألة خلق الإنسان وحجاب المرأة المسلمة موضع الإثارة المطلوب(4 ) .
* وقد كثرت الموضوعات المثيرة في كتاب « شحرور » حتى أن صاحب كتاب « النزعة المادية في العالم الإسلامي » يقول : لقد أحصيت في كتابه ما يزيد على ألف موضع يمثل انحرافًا عن المنهج الإسلامي(5 ) .
* لقد كان كتاب « د. شحرور » أشبه شيء بما جاء به أحمد خان الهندي ، وعلي عبد الرازق المصري ، من حيث مصادمتهم لأساسيات الدين الإسلامي ، وعنصر الإثارة في الصراع .
فقد دعا أحمد خان ، إلى الأخذ بمناهج الغرب وتطويع الإسلام ليتلاءم مع الحضارة المادية الغربية ، كما دعا على عبد الرازق ، إلى إسقاط نظام الخلافة ، واعتبر أنها نظام ليس له أصول ملزمة في الشريعة ...
وقد ظهر أن للاثنين صلات مريبة بالإنجليز آنذاك ، وتبعية للمستشرقين من اليهود والنصارى .
أما محمد شحرور فيظهر أن صلته كانت قوية بالماركسية والشيوعية ، عندما كان مبتعثًا إلى روسيا لدراسة الهندسة المدنية ما بين ( 1958 - 1964م ) .
وقد اكتمل تأثره بالمستشرقين خلال دراسته في إيرلندة « دبلن » ، لدراسة الماجستير والدكتوراه ما بين ( 1970م - 1980م ) في الهندسة المدنية أيضًا(6 ) .
* لقد درس « شحرور » الرأسمالية وعشق مبدأ الحريات المنبثق عنها ، و ( انصبغ ) بالواقع الظاهر لهذه الحريات ، بيد أنه لم يتعمق في المبدأ الرأسمالي وبطريقة تطبيقه بدقة ، ولو فعل ذلك لوجد أن الديمقراطيات الغربية بما فيها أمريكا ، هي أعتى ديكتاتورية وجدت على وجه الأرض ، وأن الدستور والقانون ، يضعه أصحاب رؤوس الأموال الصناعيون والبنكيون ...( 7) .
* كما أن الكاتب لم يدرس الإسلام كما يزعم ، بل درس الفلسفة الماركسية ، ولذا فقد أثرت على طريقة تفكيره ، وسيطرت على أحاسيسه ، وأصبحت عنده الأساس في إعطاء المفاهيم عن الإنسان والكون والحياة(8 ) .
* * *
ويبدو أن جماعة من اليهود هم الذين كتبوا هذا الكتاب ، ليضع الدكتور شحرور عليه اسمه ويدافع عنه .
يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة : بأنه التقى بصديقه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بمكة المكرمة ، وسأله عن كتاب الشحرور ، فذكر أنه اطلع عليه ، وأبان له عن رأيه في إسقاط الكتاب بإهماله ، وعدم الرد عليه ، لأنه أقل قيمة من أن يهتم له مفكر إسلامي .(51/76)
* فقلت له : يغلب على ظني أن جماعة من اليهود هم الذين كتبوا له هذا الكتاب ، فذكر لي ما نشره في كتابه : « هذه مشكلاتهم » ، فأنا أنقل من كتابه هذا ما يلي : قال : « زارني عميد إحدى الكليات الجامعية في طرابلس الغرب ، في أوائل عام / 1991م ، وأخبرني أن إحدى الجمعيات الصهيونية في النمسا ، فرغت مؤخرًا من وضع تفسير حديث للقرآن « كذا » ، ثم أخذت تبحث عن دار نشر عربية تنهض بمسؤولية نشره ، وعن اسم عربي مسلم يتبناه مؤلفًا له ومدافعًا عنه ... ولكنها لم توفق إلى الآن للعثور على المطلوب ، على الرغم من أنها لم تتردد في الاستعانة ببعض الرؤساء ، والمسؤولين العرب .. » .
ثم يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة : « يظهر أنها ظفرت بالمطلوب وتم طبع كتاب « الكتاب والقرآن - قراءة معاصرة » باسم الدكتور محمد شحرور سنة / 1992م(9 ) .
** والحقيقة أن هنالك غرابة وأكثر من استفهام ، إذ كيف يعلم الدكتور البوطي هذا ، ثم يساهم مع جودت سعيد في مرافقة « محمد شحرور » إلى المنتديات العامة وإلقاء المحاضرات في دمشق ؟!
وهل كان البوطي جادًا في ثني عزيمة « حبنكة » عن الرد على الشحرور ، لأن الكتاب ساقط متهافت ؟! .
ويبدو أن الكتاب على ضخامته ، وتلون الافتراءات فيه ، يحتاج إلى جمعية وكتاب متفرغين ليتمكنوا من القيام بهذه المهمة ، وليس من تأليف مهندس مدني !! .
( 2 )
الماركسية هي مصدر التفكير عند الكاتب :
لقد أجمع الكتاب الذين قرأوا كتاب الدكتور « محمد شحرور » ، على أن منطلقاته الأساسية في كتابه ، كانت تعتمد المنهج الماركسي ، مع أسلوب اللف والدوران الذي لا يخفي على أحد .
* فقد قدم شحرور فلسفة ماركس وإنجلز ولينين ، على أنها حقائق يجب التسليم بها والإيمان بمقرراتها ، دون مناقشة .
وبناء على ذلك فقد بنى أفكاره على أنه ليس في الوجود رب خالق ، وعلى أن الكون كله مادة تخضع للتطور الحتمي ، ضمن قانون صراع الأضداد في الوجود المادي ، وفي التاريخ المادي كذلك(10 ) .
ويزعم « د. شحرور » أن الحقيقة الموضوعية ، هي الأشياء المادية الموجودة في الأعيان خارج حدود الوعي ، وأن الحق هو الوعي المطابق لها ، كما تزعم المادية الماركسية ، وكما يزعم « سارتر » في فلسفته اليهودية(11 ) .
** ويركز « شحرور » على النزعة المادية ، ويحدد حدود المفهوم المادي بقوله : « العلاقة بين الوعي والوجود المادي ، هي المسألة الأساسية في الفلسفة ، وقد انطلقتا في تحديد تلك العلاقة ، من أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية »(12 ) .
وهذا المبدأ الذي أقربه شحرور ، هو عين المبدأ الذي يؤمن به « ماركس ولينين والماديون عامة » ، فهو بذلك يحاول أن يخرج الوحي من مصادر المعرفة ، وبناء على ذلك لا يعتبر الدين عند الشحرور مصدرًا للمعرفة .
لذلك فهو يعتبر أن الفلسفة أم العلوم ، جاء ذلك في قوله : « لا يوجد تعارض بين ما جاء في القرآن الكريم ، وبين الفسلفة التي هي أم العلوم » .
ثم تقول : « الكون مادي والعقل الإنساني قادر على إدراكه ومعرفته ، ولا توجد حدود يتوقف العقل عندها ... ولا يعترف العلم بوجود عالم غير مادي ، يعجز العقل عن إدراكه »(13 ) .
* ويؤمن شحرور بنظرية ( داروين ) في أصل المخلوقات ، ويرى أن البشر وجدوا على الأرض نتيجة تطور استمر ملايين السنوات ، حيث أن المخلوقات الحية بث بعضها من بعض طبقًا للقانون الأول للجدل ، وتكيفت مع الطبيعة ، وبعضه مع بعض طبقًا للقانون الثاني للجدل »(14 ) .
ويندد شحرور بمنكري نظرية داروين ، الذين يسميهم أصحاب الفهم المثالي للقرآن ، والذين يسخرون من نظرية ( داروين ) ، بزعم أنها غير علميه .. ويرى أن نفخة الروح في الإنسان هي الحلقة المفقودة في نظرية دارون حول الإنسان »(15 ) .
* يقول المهندس شحرور في كتابه :
« وخير من أول آيات خلق البشر عندي ، هو العالم الكبير ( داروين) فهل عرف داروين القرآن ؟!
أقول : ليس من الضروري أن يعرف ، فقد كان يبحث عن الحقيقة في أصل الأنواع ، والقرآن أورد حقيقة أصل الأنواع ، فيجب أن يتطابقا إن كان دارون على حق ، وأعتقد أن نظريته في أصل البشر في هيكلها العام صحيحة ، لأنها تنطبق على تأويل آيات الخلق »(16 ) .
** ويرى شحرور : أن الروح التي نفخها الله في آدم هي العطاء الفكري العلمي الذي أعطاه الله لآدم . ففضله على سائر الجنس البشرى الذي كان موجودًا في الأرض ، وتلك هي الحلقة المفقودة المنحدرة من سلالة القرود »(17 ) .
** ويقول الشحرور حول افتراءاته عن الروح :
« إذا كانت الروح هي سر الحياة ، فهذا يعنى أن البقر والأفاعي والسمك وكل الكائنات الحية ، من إنسان وحيوان ونبات لها روح ! وهذا غير صحيح لأن سبحانه وتعالى نفخ الروح في آدم ، ولم يقل : إنه نفخ الروح في بقية المخلوقات » !!(18 ) .
** ويبقى أن محاولة الجمع بين نظرية ( داروين ) المادية والمنهج الإسلامي باطلة بطلانا مطلقًا ، لانتفاء اللقاء بين المنهجين(19 ) .(51/77)
* ويزداد الشحرور انحرافًا في ضلاله وتحريفه ، فيزعم أن أئمة المتقين الذين هم عباد الرحمن ، الذين جاء وصفهم في سورة الفرقان هم أئمة العلم المادي ، أمثال : ماركس وداروين وإنجلز ، فقال : « وقد حدد لنا القرآن أن آيات الربوبية هي ظواهر الطبيعة ، لذا فإن صفة أئمة المتقين هي الإيمان بالمادية وبالعلم وبالعقل ... لذلك فإن أئمة المتقين في فرقان محمد صلى الله عليه وسلم- هم من أئمة العلم المادي ، وذوي التفكير العلمي البعيد عن الخرافة »(20 ) .
فمتى كان أئمة الكفر والفجور من اليهود أمثال لينين وماركس ، وداروين ، هم أئمة المتقين ؟! إن ذلك افتراء على العلم والحقيقة .
** لقد اختار الكاتب عنوان كتابه : « الكتاب والقرآن قراءة معاصرة » ليكون الانطباع الأول بأن مفهوم لفظ الكتاب « المصحف » غير مفهوم لفظ القرآن ...
وفي عنوان كتابه ما يشير إلى أنه كانت في الماضي قراءات ، بموجب فهمه للفظ « اقرأ » وستكون في المستقبل قراءات أخرى ، فنحن نعيش في عصر ، وعاش الناس قبلنا في عصور ، وسيعيش الناس بعدنا في عصور ، أي أن العصر هو أساس الفهم والإدراك عند الناس لإشباع غرائزهم وحاجاتهم العضوية ، وأن الواقع « المادي » مصدر التفكير ، ويختلف هذا الواقع من عصر إلى عصر ، على أساس أن العصر أساس في فهم الإسلام ، وليس الإسلام هو الأساس في حل مشاكل العصر ، فالإسلام يخضع للعصر ، وليس العصر هو الذي يخضع للإسلام »(21 ) .
* وبذلك يتضح لنا مصادر التفكير عند الكاتب ، بأنها مصادر الفلسفة الماركسية بذاتها ، تلك التي تقوم على ما يسمى بالمادية الديالكتيكية ، والمادية التاريخية .
فالمادية الديالكتيكية - الجدلية - هي الجانب الثابت في الماركسية ، أما المادية التاريخية ، فهي توسيع نطاق أفكار المادية الجدلية ، حتى تشمل دراسة الحياة في المجتمع ، وتطبيق هذه الأفكار على حوادث الحياة في المجتمع ، أي على دراسة المجتمع وتاريخه ، وهذا هو الجانب المتطور والمتغير في الماركسية .
وتعني المادية الديالكتيكية : أن الكون والإنسان والحياة مادة تتطور من نفسها تطورًا ذاتيًا ، فلا يوجد خالق ولا مخلوق ، وإنما هو التطور الذاتي في المادة( 22) .
** وسوف نلاحظ فيما يأتي من فقرات ، أن المنهج المادي الماركسي ، هو الذي يلف موضوعات الكتاب كلها ، تحت قشرة رقيقة مفضوحة من تشوهات وتصورات الكاتب عن الإسلام .
سواء في :
- نظرته للقرآن وتقسيمه إياه إلى كتب وأقسام .
- أو إلغاء دور النبوة والرسالة مع التفريق بينهما .
- و في شذوذات فقهية لم يقل بها أحد قبله ...
- أو في ضلالات عقدية عجيبة .
( 3 )
القرآن في المفهوم الماركسي في كتاب شحرور :
يدعى المهندس شحرور ، أن القرآن قد جاء نصًا ثابتًا ، وأن إعجازه يكمن في قابليته للتأويل ، وفي تحرك المعنى وفق مفاهيم العصور المتلاحقة ، وحسب الأرضية المعرفية التي يتوصل إليها الناس .
ويخادع الكاتب لتمرير فريته هذه ، بزعمه أن إعجاز القرآن يكمن في أن نصه جاء قابلاً لتأويلات مختلفة ، تتطور مع تطور الإدراك الإنساني في مختلف العصور ، ليصل إلى أن التشريعات في كتاب الله « القرآن » قابلة للتطور بالتأويلات الإنسانية ، وفي هذا نسف للدين من جذوره .
ثم يقول : ( لا بد أن يكون القرآن قابلاً للتأويل ، وتأويله يجب أن يكون متحركًا وفق الأرضية العلمية لأمة ما ، في عصر ما ، على الرغم من ثبات صيغته ، وفي هذا يكمن إعجاز القرآن للناس جميعًا دون استثناء) ؟!!(23 ) .
* ومن أغرب ما تفتقت عنه عبقرية الكاتب في تأويلاته الباطلة ، تقسيمه المصحف الشريف إلى أربعة أقسام :
1 - القسم الأول : القرآن :
وهو ما له حقيقة موضوعية خارج الوعي الإنساني ، وهو كلمات الله ، وهو الذي يشتمل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- .
2 - القسم الثاني : السبع المثاني :
وهو بعض الحروف المقطعة في أوائل السور ، وهى سبع آيات فواتح للسور .. وتفهم فهمًا نسبيًا حسب تطور المعارف للعصر .
وكل من القرآن والسبع المثاني .. تفهم فهمًا نسبيًا حسب تطور معارف العصر ، وليس لها معنى ثابت .
3 - القسم الثالث : أم الكتاب « كتاب الله » :
ويشتمل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم- ، وفيه الأحكام والشرائع والوصايًا والحدود ، بما فيها العبادات ، وهى الآيات المحكمات .
القسم الرابع : تفصيل الكتاب :
هو المشتمل على آيات غير محكمات وغير متاشبهات .
* لقد اخترع الكاتب هذا التقسيم العجيب الغريب لكتاب الله ، من عند نفسه ليمرر مفترياته على كتاب الله المنزل على رسوله ، كما يهوى أساتذته الملاحدة الماركسيون ، والباطنيون في تأويلاتهم(24 ) .
** وتحت عنوان : القرآن هو الكتاب المبارك( 25) قال شحرور :(51/78)
« أريد هنا أن أؤكد على نقطة في غاية الأهمية ، وهى أن القرآن كتاب الوجود المادي والتاريخي ، لذا فإنه لا يحتوى على الأخلاق ، ولا التقوى ولا اللياقة ولا اللباقة ، ولا تنطبق عليه عبارة !! « هكذا أجمع الفقهاء » .. إننا في القرآن والسبع المثنى غير مقيدين بأي شيء قاله السلف ، إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي ، والتفكير الموضوعي ، وبالأرضية العلمية في عصرنا ، لأن القرآن حقيقة موضوعية خارج الوعي فهمناها أم لم نفهمها ... » .( الكتاب والقرآن ) .
** « لقد ادعى المضلل أن الأحكام والتكاليف التي في المصحف ليست مما يطلق عليه لفظ « القرآن » ... بينما كان الرسول والمؤمنون المسلمون وسائر العرب ، يفهمون أن لفظة « القرآن » تطلق على كل الآيات الكلامية التي كانت تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم- والتي جمعت في المصحف ، واستمر كل الناس يفهمون هذا ، حتى جاء المحرف شحرور ، وادعى أن لفظة القرآن تطلق فقط على بعض آيات المصحف ، وهى الآيات التي تتحدث عن الوجود المادي والتاريخي »(26 ) .
** وله افتراءات عجيبة في تقسيمه لعنوان « أم الكتاب » ، إذ يقول : « إن مواقع النجوم ليست هي مواقع النجوم التي في السماء ، والتي هي من آيات الله الكونية العظمى ، بل هي الفواصل بين الآيات » ، وزعم أن لهذه الفواصل أسرارًا خاصة أقسم الله بها في قوله تعالى في سورة الواقعة « فلا أقسم بمواقع النجوم »(27 ) ، ومن ذلك قوله : « إن التسبيح في كتاب الله ، معناه صراع المتناقضين داخليًا الموجودين في كل شيء »(28 ) .
وهذه فكرة ماركسية يريد إسقاطها على معنى التسبيح الشرعي ، ومثل هذا في كتابه كثير .
( 4 )
ضلالات الكاتب حول النبوة والرسالة :
لقد فرق شحرور بين النبوة والرسالة ، وحاول جاهدًا إلغاء دور الرسول صلى الله عليه وسلم- في بيان ما أنزل الله عليه ، وكان يهدف إلى إلغاء دور الشريعة في حياة المسلمين .
* وقد حصر الكاتب الرسالة في الشريعة وأحكام العبادات والأخلاق والسياسة ، وهذه الأمور لا يوجد لها حقيقة موضوعية ، إلا إذا اختار الإنسان إيجادها بإرادته - كما يزعم - .
وقد فرق كذلك بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- ورسالته ، وادعى أن محمدًا لم يكن يعلم تأويل النصوص التي كان فيها نبوته ، والتي تتناول ظواهر الوجود المادي وقوانين الطبيعة .
وادعى أن تأويل النصوص التي اشتملت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- ، سيكون من قبل ورثة النبي ، وهم في رأيه :
الفلاسفة وعلماء الطبيعة وعلماء فلسفة التاريخ ، ( أي أئمة الفكر الماركسي ) ، ودارون وعصابته(29 ) .
** ويقول الشحرور : « إن العرب منذ البعثة إلى يومنا هذا ، اهتموا برسالته وهجروا نبوته ، ولكن اهتم بنبوته ، كل معاهد الأبحاث العلمية والجامعات في العالم ،، وكل الفلاسفة ، ابتداء من أرسطو ، مرورًا بكانت وإنجلز وهيجل وديكارت » (30 ) .
لقد كان الكاتب مفتونًا بهؤلاء الفلاسفة ، وبقادة الفكر الماركسي ، ويريد أن يجعلهم ، هم ورثة النبوة ، وهم القادرون على تفسيرها وفهمها .
إذ أن النبوة مربوطة عنده بالعلوم الطبيعية والتاريخية ، ويحصر الرسالة في العلوم الاجتماعية وعلوم الشريعة ، فيخرج بذلك أحكام الحلال والحرام من خصائص النبوة(31 ) .
وهذا افتراء على كتاب الله وعلى رسالة نبيه ، فالنبوة تشمل كل ما يوحى به الله إلى رسوله ، الذي اصطفاه ليجعله نبيًا ، والرسولل هو من يكلفه الله بحمل رسالة ما ، ليبلغها لمن أمره الله أن يبلغها لهم(32) .
** ولقد حاول الكاتب أن يلغى دور الرسول صلى الله عليه وسلم- في بيان ما أنزل الله عليه من خلال تقسيماته للقرآن .. فزعم أن الرسول هو مبلغ للنص الرباني فقط ..
ففي تأويله لقسم ما سماه « قسم القرآن » ، ادعى أن الرسول لم يكن عالمًا به ، وزعم مفتريًا أن تأويل هذا القسم ، هو من اختصاص الفلاسفة وعلماء الطبيعة وعلماء فلسفة التاريخ ..
وأن هذا القسم يخضع للمفاهيم النسبية الزمنية - كما يزعم - .
أما تأويل قسم « أم الكتاب » المشتمل على أحكام سلوك الإنسان في الحياة ، فادعى أن دور الرسول فيه ، دور مجتهد لأهل عصره فقط ، وليس مبينًا لما أنزل الله عليه ، فيما يخص سلوك الناس جميعًا(33 ) .
فألغى بتضليله هذا دلالات نصوص القرآن ، التي جاء فيها تكليف الرسول ، أن يبين للناس ما أنزل إليهم ، وفيها قوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )[ سورة النحل : الآية 44 ] .
** ويكرر الشحرور هذه المعاني الباطلة في كتابه ، فيعتبر أن الثورة والعمل الثوري هو أساس التطور ، وأن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم- خلال سيرته ، كان منطبقًا تمامًا على مفهوم الثورة وشروطها عند الماركسيين ، ولذلك تحقق له النجاح .
وزعم أن مضمون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم- كان اجتهادًا منه للظروف التي كانت في زمنه ، وكانت تصرفاته أمورًا مرحلية قابلة للتكيف والتغير بتغير الزمان والمكان وتطور الأمة .(51/79)
وزعم أن سنة الرسول لا يصح الاعتماد عليها كمصدر من مصادر التشريع ، بل يجب اعتبارها فصلاً من فصول حركة التطور الصاعد في ثورة اجتماعية ، يجب أن تتجدد أحكامها وشرائعها وأنظمتها ...
فالمجتهدون المعاصرون يجب عليهم - حسب زعمه - أن لا يلتزموا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم- ، وسمى عمل فقهاء المسلمين تحنيطًا للتشريع ، لأنهم لم يطوروا في الأحكام حسب الظروف الموضوعية ، مما أدى إلى تحنيط الأحكام وتجميد حركة التاريخ وإخماد الروح الثورية لدى العرب والمسلمين(34 ) .
* فالكاتب يقرر أن السنة النبوية ليست وحيًا من الله سبحانه وتعالى إلى نبيه ورسوله ، بموجب التعريف الخاطئ لفقهاء المسلمين للسنة : « كل ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو أمر أو نهى أو إقرار » .
ويقول : إن ما فعله النبي في القرن السابع في شبه جزيرة العرب ، هو الاحتمال الأول لتفاعل الإسلام مع مرحلة تاريخية معينة ، وهذا التفاعل ليس هو الوحيد وليس الأخير(35 ) .
* والحقيقة أن الرسول ما هو إلا مبلغ عن الوحي قال تعالى : ( إنما أنذركم بالوحي ) [ الأنبياء : 45 ] ، ( وما ينطق عن الهوى ( )[ النجم : 3 - 4 ] ، وبذلك تسقط استدلالات الكاتب في أن الرسول مجتهد فقط وأن السنة النبوية هي اجتهاد للرسول ، وتفاعل مرحلي بين الرسول وبين واقع الحياة في الجزيرة العربية وقت الرسالة ونزول الوحي .
وهذه فكرة من أخبث الأفكار المدمرة للعقيدة الإسلامية وللتشريع الإسلامي ، وهى وليدة النظرية التاريخية ( الماركسية ) ، التي عششت في ذهن الكاتب وسيطرت على دماغه(36 ) .
** وغاية الكاتب الأخيرة من كل هذه التحريفات الباطلة ، هو إلغاء دور الرسول ودور رسالته في حياتنا المعاصرة ، فقد جعل المطالبة بتطبيق الشريعة ، والسير بموجب تعاليم القرآن الكريم ، من الأخطاء الشائعة عند فقهاء المسلمين ، فقال :
« إني أنوه هنا بالخطأين الشائعين جدًا من قبل المسلمين وهما :
( أ ) المناداة بأن دستور الدولة القرآن .
(ب) خطأ المناداة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية »(37 ) .
* وغني عن التعريف هنا ، بأن رفض تحكيم الشريعة ، وإلغاء دور القرآن في حياة المسلمين ، كفر صريح ، قال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون )[ المائدة : 44 ] ، وقال جل وعلا : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا ( )[ النساء : 65 ] .
(5)
ضلالات الكاتب العقدية
الحقيقة أن كتاب المهندس شحرور ، جاء مليئًا بالضلالات العقدية ، من أوله إلى آخره ، وقد تحدثنا عن بعض تلك الضلالات في الفقرات السابقة ، ولكننا نريد هنا أن نلقى ضوءًا على تعرضه لبعض قضايًا العقيدة الإسلامية ، وتناوله إياها بالتحريف والتعطيل .
* فمن تحريفاته في مفهوم الشرك والتوحيد قوله :
« الشرك هو الثبات في هذا الكون المتحرك ، والوقوف ضد التطور وهذا شرك الربوبية ...
أما عدم تطوير التشريع ، وتثبيت مذهب أو مذاهب فقهية معينة ، فهذا هو شرك الألوهية .
فسكونية الفكر والفقه والتفسير ، هي من أوائل مظاهر الشرك الخفي عند العرب ، فالتخلف شرك ، والتقدم توحيد »(38) .
* فهو بذلك يحاول تسمية فقهاء المسلمين بالمشركين ، لالتزامهم بدلالات النصوص من الكتاب والسنة .
** ومن ضلالاته : تعطيله لأسماء الله تعالى( 39) :
فقد ابتدأ شحرور بحثه حول علم الله تعالى بالتساؤل .
« هل علم الله يقيني أم احتمالي ؟! » ثم أجاب عن ذلك بقوله : « نقول هو الاثنان معا »(40 ) .
* لقد جعل الكاتب أن الاختيار الإنساني الواعي سبب لعدم علم الله تعالى بكل شيء ، وأن الله لا يعلم احتمالات تصرف هذا الإنسان كلها من الأزل ، وإنما يعلمها عندما يفكر الإنسان بها أي بعد وجودها .
يلاحظ هنا : استبعاد الكاتب شمول علم الله لأعمال الإنسان ، وهذا التصرف يمثل انحرافًا خطيرًا في العقيدة ، فهو يقود إلى التكذيب بالقدر ، وتعطيل ركن من أركان الإيمان ، والكاتب لا يهاب أن يفعل ذلك عن تعمد وإصرار(41 ) .
وقد سبق إلى التكذيب بالقدر : غيلان الدمشقي ، وقتل بسبب ذلك ، كان الأوزاعي - رحمه الله - قد ناظره ، وأفتى بقتله (42) .
** ومن ضلالاته العقدية : تعطيله لصفات الله تعالى(43 ) .
وعلى رأسها « كلام الله تعالى » يقول شحرور :
« إن مفهوم كلام الله في القرآن يعني الوجود المادي » .
« فالوجود هو عين كلام الله ، وهو مخلوق غير قديم »(44 ) .
وهذا يعنى عند شحرور ، أن كلام الله مخلوق ، ويدخل كلامه هذا ضمن تعطيل صفات الله تعالى ، وهو رأي القدرية والمعتزلة .
وشحرور يأخذ برأي الغلاة من المعتزلة ، ويسير على منهجهم ويشيد بهم ، ويهاجم الفقهاء جميعًا كعادته ، فيعتبر أنه بانتصار الفقهاء على المعتزلة ، تم قصم الفكر الإسلامي العقلاني(45 ) .
والواقع أن شحرور يمثل كذلك الرأي الفلسفي في موضوع تعطيل صفات الباري عز وجل ، إذ أن الفلاسفة الماديين ، يعتبرون كلام الله هو الوجود المادي ، أو عين الموجودات(46 ) .
** ومن انحرافاته الضالة : التكذيب بالقدر(47 ) .(51/80)
ففي : « الأعمار والأرزاق » .
يقول شحرور : « لقد ظن الكثير أن عمر الإنسان ورزقه وعمله مكتوب عليه سلفًا ، وبذلك يصبح فاقد الإرادة ولا خيار له في أعماله وأرزاقه ، ويصبح العلاج والعمليات الجراحية بدون معنى ، ويصبح دعاء الإنسان دقة ضربًا من ضروب العبث واللهو »(48 ) .
* وهذه القضية التي ينكرها شحرور ، محسومة عند الأمة الإسلامية ؟ لأن فيها نصوصًا واضحة بينة ، من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ولكن شحرور يرفض هذه الأدلة ، ويكذب بالقدر ، في واضحة النهار ، مثله في ذلك مثل غيلان الدمشقي والجعد بن درهم وغيرهم من القدرية ، الذين هم مجوس هذه الأمة(49 ) .
** أما الأعمار فمقدرة بعلم الله تعالى ، ومحدودة ، قال تعالى : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلاً )[ آل عمران : 45 ] ، وبين تعالى أن سبب الموت هو انتهاء الأجل .قال جل من قائل : ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( ) [ الأعراف : 34 ] .
فالله سبحانه وتعالى هو الذي قدر الخلائق قبل إيجادها ، وهو الذي خلقها كما قدرها ، وهو الذي يملك الحياة والموت(50 ) .
* وأما الأرزاق : فلا تختلف عن قضية الآجال ، فالرزق بيد الله أيضًا ، الآيات القرآنية تبين هذه الحقيقة الناصعة بوضوح .
يقول تعالى في كتابه : ( قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله )[ سبأ : 24 ] .ويقول : ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر )[ الرعد : 26 ] .والله هو المتفرد بالرزق : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( )[ الذاريات : 58 ] .
* إن جلاء هذه الحقيقة ووضوحها ، يمثل أصلاً ثابتًا من أصول الاعتقاد ، وركنًا أساسيًا في العقيدة الإسلامية ، فيجب الإيمان بأن الله هو الرزاق ، وهذا من ضرورات الاعتقاد بأسماء الله الحسنى(51 ) .
ومن أنكر ركنًا من أركان الإيمان ( كالإيمان بالقدر ) أو أنكر أسماء الله وعطل صفاته ، فقد كفر بالله جل شأنه .
(6)
نزوات الكاتب الفقهية :
يرى الكاتب « شحرور » أن الفقه الإسلامي الذي فهمه الفقهاء بما فيهم الصحابة - رضي الله عنهم - هو من التراث ، وأن أولئك فهموًا الإسلام حسب شروطهم وظروفهم وواقعهم المادي فهما متفاعلاً ، مع ظروف القرن السابع ، في شبه الجزيرة العربية ، وهم رجال ونحن رجال ، ونحن أقدر منهم الآن على فهم واقع القرن العشرين ...
وحين استلم الفقهاء قيادة الناس ، تحت عنوان أهل السنة والجماعة ، كانوا سبب تخلف المسلمين ، وقتل الفكر الحر النقدي الذي تبناه المعتزلة(52 ) .
وحيث أن فقهاء المسلمين ليسوا من أئمة العلم المادي ، فقد حرموا كثيرًا مما أحل الله ، وأبقوا الأمة في حالة من الجمود والتأخر ، ولذلك لا يدخلون في زمرة أئمة المتقين حسب زعمه(53 ) .
* ويزداد « شحرور » في غيه ، عندما يقول : « إن الطرح الذي ينادى بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أساس أن الإسلام هو الموروث من كتب الفقه ، وأن حدود الله هي تشريع عيني ، هو طرح في فراغ ووهم ، لا يمكن أن يكتب له النجاح ، وهو من باب مضيعة المال والنفس والوقت ، علمًا بأن الدولة بدأت تنفصل عن الدين بمفهومه الموروث ... »(54 ) .
* يهاجم شحرور هنا الفقه الإسلامي الموروث ، ويدعو إلى نبذه ، ذلك الفقه الذي أهل الدولة الإسلامية العظمى للبقاء ثلاثة عشر قرنًا ، حتى أصابها الانحراف عن تطبيقه ، وتآمر عليه الملا حدة واليهود والنصارى من الخارج ، والمنافقون من الداخل ، فأسقطوا الدولة الإسلامية بالكيد والمكر والقوة المسلحة(55) .
* وقد أراد الشحرور بتحريفاته أن يصنع دينًا جديدًا ، فصار يبدل بأحكام الشريعة حسب هواه ، متخذًا لذلك حيلة التأويل والتعطيل لآيات الأحكام ، التي جاءت في كتاب الله تعالى .. وإن متابعته في تحريفاته في هذا الشأن يتطلب عدة مجلدات ، لذلك فسوف نقدم نماذج من تحريفاته فقط ، وقد جعل من نفسه إمامًا للمجتهدين المعاصرين ، فألغى أحكام الدين ، وهو يناقض دين الله لعباده زاعمًا أنه يستخرجه من كتاب الله بالتأويل الملائم لحاجات العصر(56) .
** النموذج الأول : تلاعبه في مفهوم الآيات المشتملة على ذكر حدود الله :
في الآيات ( 13 - 14 ) من سورة النساء ، في قوله تعالى : ( 57)
( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين ( )[ النساء : 13 - 14 ] .
* فقسم حدود الله إلى ثلاثة أقسام :
- القسم الأول : له حد أدنى وهذا يجوز الزيادة عليه ، وقد ضرب مثلاً على هذا القسم ، ما له حد أدنى من المحرمات من النساء اللاتي جاء في القرآن تحريم نكاحهن ، فقال : هذه المحرمات هي الحد الأدنى ولا يجوز النقصان عنه على أساس أنه اجتهاد ، ولكن يمكن الاجتهاد بزيادة العدد ، كتحريم بنات العم والعمة ، وبنات الخال والخالة !!
- القسم الثاني : له حد أعلى ، وهذا يجوز النقص منه ، وضرب مثلا له عقوبات السرقة والقتل ، فيجوز النقصان من قطع يد السارق مثلاً ، على أساس أنه اجتهاد ، ولكن لا يجوز الزيادة عليه !!(51/81)
- القسم الثالث : له حد أعلى وحد أدنى ، وهذا يجوز النقص من حده الأعلى والزيادة على حده الأدنى .وضرب مثلاً لذلك ، أحكام الميراث ، فالحد الأعلى ، هو ميراث الذكر الذي هو ضعف ميراث شقيقته الأنثى ، فيجوز الزيادة عليه ، ولكن لا يجوز النقص منه ، ويجوز إصدار قانون بإعطاء الأنثى أكثر من نصف ميراث شقيقها ، ولكن لا يجوز إعطاؤه أقل من نصف ميراثه !!
فهذا كفر صريح ، وتبديل لدين الله ، إذ جعل شحرور من نفسه شريكا لله عز وجل في بعض خصائص ربوبيته ، وهى أحكام شريعته لعباده(58 ) .
* فشحرور يرى هنا أن مفهوم السنة ، يعنى أن محمدًا - صلى اله عليه وسلم - اجتهد في الحدود بما يتلاءم مع ظروف شبه الجزيرة العربية في القرن السابع ، وهذا لا يعنى أبدًا أنه إذا طبق في موقف من المواقف الحد الأدنى ، أو الحد الأعلى ، علينا أن نلتزم بهذا الموقف أو ذاك وأن نستمر عليه إلى ( أن تقوم الساعة ) تحت شعار تطبيق السنة ، لأن هذا الموقف ليس له علاقة بالسنة(59 ) .
* النموذج الثاني من تحريفاته : ما أسماه بالفقه الجديد في موضوع المرأة :
وقد خبط ولفق في هذا الموضوع خبط عشواء .فأعطى نموذجًا عن آرائه هذه في عدة نقاط منها :تعدد الزوجات والإرث والمهر ، وحق العمل السياسي ، والعلاقات بين الرجل والمرأة(60 ) .
- ففي تحريفه حول تعدد الزوجات ، جعل الإذن هنا مقتصرًا عليه في حاله أن تكون الثانية فالثالثة فالرابعة من الأرامل أو المطلقات ، لا من الأبكار ، ومن شاء أن يتزوج أرملة أو مطلقة ولها أولاد ، فعليه أن يتحمل إعالة أولادها ، فيما يزعم ويفتري على دين الله(61 ) .
- ومن تحريفاته وضلالاته أنه زعمه أن نشوز الرجل هو الشذوذ الجنسي ، كما أن الرجل في نظره لا يملك حق طلاق زوجته(62 ) .
- ومن ذلك وقاحته فيما يتعلق بلباس المرأة وحدود عورتها .
فهو يرى أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة عريانين ، ثم قيدهما بحدود ونصحهما بتعليمات ، فكان للمرأة عورة في الحياة العامة والمجتمع ، وعورة أمام المحارم .
فأمام الأجانب ( غير المحارم ) للمرأة أن تظهر كل جسدها باستثناء الجيوب ، وجيوب المرأة (حسب فهمه الماركسي الإباحة ) هو كل ما له طبقتان أو طبقتان مع خرق ، وهى ما بين الثديين وتحتهما ، وتحت الإبطين ، والفرج والأليتين ، وما عدا ذلك فليس بعورة علمًا بأن الآية الكريمة ( يدنين عليهن من جلابيبهن )[ الأحزاب : 59 ] هي للتعليم وليست للتشريع6(63) !!
* أما أمام المحارم ، فالمرأة ليس لها عورة على الإطلاق ، فهي تجلس معهم كما خلقها الله عارية من كل شيء ، وأن الأب أو الأخ مثلاً ، إذا جلست ابنته أو أخته عارية أمامه في البيت ، لا يجوز له أن يقول لها : اذهبي والبسي ثيابك ، لأن هذا حرام ، بل يقول لها : هذا عيب .وكذلك الأمر مع سائر المحارم في نظره(64) !!!
وبذلك يكون الشحرور ، قد فاق أساتذته ( ماركس ولينين وفرويد ... ) في نشر الإباحية والتخلي عن الحياء والفطرة ، مع إلباس ذلك كله لبوس الإسلام .
* النموذج الثالث من تحريفاته : ما يتعلق بإباحة الربا(65) .
فقد زعم الكاتب أن الربا الذي يترتب على إقراض البنوك لذوي الفعاليات الاقتصادية ، الصناعية والتجارية ونحوها جائز ، بشرط ألا يزيد على ضعف رأس المال في السنة الواحدة ، وزعم أن هذا هو المقصود بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ( )[ آل عمران : 130 ] مع أن هذه الآية نزلت في أوائل العهد المدني لكف المؤمنين كفًا ابتدائيًا عن الربا ، بتحريم الأضعاف المضاعفة ، ثم نزل التحريم البات للربا قليلة وكثيرة في آيات سورة البقرة ، في أواخر العهد المدني في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون ( )[ البقرة : 278 - 279 ] .
* وأي ربا في البنوك العالمية يصل إلى ضعف رأس المال في السنة الواحدة ؟!
وهو بذلك يزعم أن معاملات البنوك الربوية في العالم كلها تطبق أحكامَا يجيزها الإسلام ، وهذا عدوان صفيق على كتاب الله تعالى(66) .
=================
الهوامش
(1) التحريف المعاصر في الدين : عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني ص15 / دار القلم - دمشق / 1418هـ/1997م .
(2) المرجع السابق ، ص25
(3) تهافت القراءة المعاصرة : د. منير محمد طاهر الشواف ص3 ، طبعة ، 1993م ، الناشر : الشواف للنشر والدراسات .
(4) النزعة المادية في العالم الإسلامي : عادل التل ، ص 299 ، دار البينة للنشر والتوزيع / 1415هـ / 1995م .
(5) المرجع السابق : عادل التل ، ص305
(6) النزعة المادية في العالم الإسلامي : عادل التل ، ص297
(7) تهافت القراءة المعاصرة : د. منير محمد الشواف ، ص13
(8) المرجع السابق ، للشواف ، ص12
(9) ينظر : التحريف المعاصر في الدين ، عبد الرحمن حسن حبنكة ، ص22 ، الهامش .
(10) التحريف المعاصر في الدين : الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة ، ص134 - 135(51/82)
(11) المرجع السابق ، ص139 وما بعدها .
(12) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة : المهندس محمد شحرور ، ص42 ، نشر مؤسسة سينا للنشر القاهرة ، ومؤسسة الأهالي في دمشق .
(13) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص43 ، وينظر : منهج التفكير المادي عند شحرور ، ص307 - 313 ، لعادل التل في كتابه : النزعة المادية في العالم الإسلامي .
(14) الكتاب والقرآن : محمد شحرور ، ص290
(15) المرجع السابق ، ص253
(16) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص106
(17) التحريف المعاصر في الدين : الشيخ عبد الرحمن حبنكة ، ص89
(18) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة : محمد شحرور ، ص156
(19) النزعة المادية في العالم الإسلامي : الأستاذ عادل التل ، ص315
(20) الكتاب والقرآن : محمد شحرور ، ص525 ، وينظر : التحريف المعاصر في الدين ، ص206 ، 207
(21) تهافت القراءة المعاصرة : د. منير محمد الشواف ، ص29 - 30
(22) تهافت القراءة المعاصرة ، ص30 - 31 ، للشواف .
(23) ينظر : التحريف المعاصر في الدين ، ص27 - 31
(24) ينظر : قراءة معاصرة للكتاب والقرآن : محمد شحرور ص80 - 81 ، والتحريف المعاصر فى الدين ص58 - 59
(25) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة : المهندس محمد شحرور ، ص91
(26) التحريف المعاصر في الدين ، ص69 - 70 ، بإيجاز .
(27) سورة الواقعة : الآية 75 ، وانظر التحريف المعاصر ، ص116
(28) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص291
(29) ينظر : الكتاب و القرآن ، محمد شحرور ، ص104 ، والتحريف المعاصر : عبد الرحمن حبنكة الميدانى ، ص87 - 88
(30) الكتاب والقرآن للمهندس شحرور ، ص84
(31) الكتاب والقرآن ، ص104 ، والتحريف المعاصر ، ص101 - 103
(32) ينظر التحريف المعاصر : عبد الرحمن حبنكة الميداني ، ص104 ، بإيجاز .
(33) ينظر : التحريف المعاصر ، ص125 - 126
(34) التحريف المعاصر في الدين ، ص212 - 214 ، عبد الرحمن حبنكة الميداني ، وانظر : الكتاب والقرآن ، محمد شحرور ، ص555 - 572 .
(35) تهافت القراءة المعاصرة : د. منبر الشواف ، ص20
(36) المرجع السابق للشواف ، ص462 - 463 ، وص469
(37) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة : محمد شحرور ، ص724
(38) الكتاب والقرآن قراءة معاصر ، 496
(39) النزعة المادية في العالم الإسلامي : عادل التل ، ص323 - 324
(40) الكتاب والقرآن : محمد شحرور ، ص386
(41) النزعة المادية في العالم الإسلامي : عادل التل ، ص324
(42) ينظر : لسان الميزان ، جـ4/492
(43) ينظر : النزعة المادية ، ص328 - 330
(44) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص256 - 257 ، وص259
(45) المرجع السابق ونفس الصفحة .
(46) النزعة المادية : عادل التل ، ص329
(47) ينظر المرجع السابق : ص332 - 342
(48) الكتاب والقرآن : محمد شحرور ، ص411
(49) النزعة المادية : عادل التل ، ص332 ، ( وقد قتل غيلان والجعد على يد ولاة المسلمين لكفرهما بسبب هذه المقالة ).
(50) السابق ، ص333 - 341
(51) ينظر : النزعة المادية في العالم الإسلامي42 عادل التل .
(52) تهافت القراءة المعاصرة : د. منير محمد الشواف ، ص21
(53) السابق ، ص27 ، د. الشواف .
(54) ينظر الكتاب والقرآن : محمد شحرور ، فصل أزمة الفقه الإسلامي ص575 - 588 .
(55) التحريف المعاصر في الدين ، ص219 ، الشيخ عبد الرحمن حبنكة .
(56) السابق ، ص193 - 194 ، بإيجاز .
(57) ينظر : الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص453 وما بعدها .
(58) التحريف المعاصر في الدين ، ص196 - 197
(59) تهافت القراءة المعاصرة ، ص23
(60) ينظر : الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، ص592 - 629 ، محمد شحرور .
(61) التحريف المعاصر في الدين ، ص233 ، الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني .
(62) السابق ، ص235
(63) تهافت القراءة المعاصرة ، للشواف ، ص24 - 25
(64) السابق للشواف ، ص25
(65) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة : محمد شحرور ، ص467
(66) ينظر : التحريف المعاصر في الدين ، ص199 - 201 ، عبد الرحمن حبنكة .
=================(51/83)
(51/84)
( الليبرالي الخائن ) : شاكر النابلسي .. ( حقائق عنه )
بسم الله الرحمن الرحيم
بمناسبة استكتاب " منتدى الندوة " لشاكر النابلسي ؛ فقد أحببت أن أذكر هنا شيئًا من أفكاره وتوجهاته من خلال كتبه ومقالاته ؛ لكي يعلم المسلمون حقيقة هذا المحتفى به عند أصحاب الندوة ؛ وحقيقة ليبراليتهم التي يريدون نشرها في مجتمعنا :
- شاكر النابلسي كاتب أردني من مواليد 1940م ، درس الآداب في مصر ، مكث زمنًا ليس بالقصير في المملكة العربية السعودية ؛ يكتب في بعض صحفها ؛ ويدعم الحداثيين السعوديين الناشئين ذاك الوقت من خلال كتبه النقدية ؛ ككتابه " نبت الصمت " الذي تهجم فيه كثيرًا على الدكتور عوض القرني ؛ لفضحه حداثيي هذه البلاد .
- توجهاته القديمة ماركسية ؛ كحال معظم الحداثيين ؛ إلا أنه سرعان ما أدار الوجهة تجاه الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ! أيضًا كحال بعض الماركسيين الذين يدورون مع الموجات العالمية ؛ غير آبهين بدينهم وأمتهم . ( ينظر في هذه التحولات الجذرية للماركسيين كتابًا مهمًا بعنوان " خيانة المثقفين " للدكتور عبدالحكيم بدران " وقد ذكر نماذج منهم ) .. فأصبح شاكر يصف نفسه بأنه ( باحث ليبرالي في الفكر العربي ) !! كما في كتابه ( الفكر العربي في القرن العشرين ، 2/696) .
- انتقل إلى أمريكا في السنوات الأخيرة ليخرج لنا تحت مسمى " الليبراليين الجدد " ! وهم قوم قد انسلخوا من دينهم وأمتهم ؛ وحتى عروبتهم كما سيأتي ، وأصبحوا مجرد طابور خامس للغازي الأمريكي ؛ يروجون لمشروعه ، ويمهدون العقول لقبوله ، ويدافعون عن جرائمه ؛ خابوا وخسروا . وقد بين خيانتهم كثيرون ؛ كما سيأتي .
- له مؤلفات عديدة ؛ من أهمها : فدوى تشتبك مع الشعر (دراسة في شعر فدوى طوقان) . رغيف النار والحنطة (دراسة في الشعر العربي الحديث) . الضوء واللعبة (دراسة في شعر نزار قباني) . مجنون التراب (دراسة في شعر محمود درويش) . نَبْتُ الصمت (دراسة في الشعر السعودي الحديث) . قامات النخيل (دراسة في شعر سعدي يوسف) . مذهب للسيف ومذهب للحب (دراسة في أدب نجيب محفوظ) . فضٌّ ذاكرة امرأة (دراسة في أدب غادة السمّان) . مدار الصحراء (دراسة في أدب عبدالرحمن منيف) . النهر شرقاً (دراسة في الثقافة الأردنية المعاصرة) . الزمن المالح (أوراق في جدلية السياسة والثقافة العربية) . عصر التكايا والرعايا (المشهد الثقافي للشام في العهد العثماني) . الثقافة الثالثة (أوراق في التجربة الثقافية اليابانية) . ثورة التراث (دراسة في فكر خالد محمد خالد) . الرجم بالكلمات (دراسة لمجموعة من المفكرين العرب المعاصرين) . الفكر العربي في القرن العشرين (1950 - 2000) (ثلاثة أجزاء) . النار تمشي على الأرض (شهادات في الحياة العربية) . قطار التسوية (دراسة لكافة مبادرات التسوية الفلسطينية) . محاولة للخروج من اللون الأبيض (أوراق في السياسة العربية) . وسادة الثلج (العرب والسياسة الأمريكية) . السلطان (دليل السياسة لحفظ الرئاسة) . سعودية الغد الممكن (بحث استشرافي تنموي) . طَلْقُ الرمل (أوراق في التنمية والثقافة الخليجية) .
- يقول في كتابه " الفكر العربي .. " ( ص 3/142-147) مبينًا أمنيته التي يرجوها : ( ونحن نتصور بأن يستمر تجاذب الأطراف على هذا النحو طيلة القرن الحادي والعشرين بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة العلمانية، مع يقيننا بأن التيار العلماني هو الذي سيتغلب في النهاية، ولنا في ذلك أسبابنا التالية : .. - ثم ذكر منها بفرح واستبشار - : إلغاء المحاكم الشرعية في معظم الدول العربية وإنشاء المحاكم المدنية بقوانين وضعية، وفي بعض الدول بقيت المحاكم الشرعية ولكن قُلصت صلاحياتها بحيث اقتصرت على النظر في القضايا التي لها علاقة بالدين كالزواج والطلاق والإرث ومسائل الوقف وخلاف ذلك - إلغاء إقامة الحدود والعقوبات الشرعية من رجم وجلد وتعزير وقطع رقبة في معظم البلدان العربية، واستبدالها بعقوبات مدنية موضوعة - زوال العهد العثماني رمز الدولة الدينية، وزوال الاستعمار الغربي الذي من أجله حوربت الدولة العلمانية - وأخيراً، فإن سقوط الاتحاد السوفياتي وانمحائه من الخارطة السياسية العالمية وانفراد أمريكا -والغرب العلماني إلى جانبها- في قيادة العالم والتأثير عليه سياسياً وعلمياً واقتصادياً، ووقوف أمريكا ضد الدولة الدينية ..، كذلك محاربتها ومعاقبتها ومطاردتها للجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط والأقصى قد شدَّ من ساعد التيار العلماني في العربي، وسوف يشدُّ من ساعده أكثر فأكثر في القرن الحادي والعشرين ويشجع الدولة العربية الحديثة على المزيد من التطبيقات العلمانية ) !! ( تلك أمانيهم ) ؛ وللعلم فقد قال هذا قبل الاستعمار الأمريكي للعراق !(51/85)
- كشف النابلسي عن وجهه القبيح كاملا في كتبه الأخيرة بعد استقراره في بلاد أسياده ؛ واختياره طريق الخيانة لأمته ، ورضاه بأن يكون مجرد بوق إعلامي بيد الأعداء ؛ ( يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) ؛ فأصبح " الخائن " لا يتورع في كتبه الأخيرة عن التطاول على الإسلام والقرآن وأحكام الشريعة مرددًا مقولات المستشرقين ؛ ومؤديًا بذلك دوره الجديد الذي اختاره له الأسياد . ولا مانع عند هذا " الليبرالي " المتأمرك أن يتقمص شخصيته الماركسية القديمة عندما يريد التطاول على الإسلام . وقد كفره الشيخ ابراهيم الخولي على قناة الجزيرة بسبب مقولاته الأخيرة وتطاوله على القرآن ومطالبته بحذف الآيات التي تعرضت لأسياده من اليهود والنصارى .
وفيما يلي أستعرض بعض أقواله في كتابيه الأخيرين : " المال والهلال " و " لولم يظهر الإسلام ماحال العرب الآن ؟ "
أما كتابه الأول " المال والهلال " فقد ألفه بنظرة ماركسية ابتغى من خلالها تشويه الإسلام ، وعزو جميع أحداثه منذ زمن صلى الله عليه وسلم إلى العامل الاقتصادي ! مقتاتًا على المستشرقين الحاقدين ، والماركسيين العرب الذين يرددون هذه الأفكار البائدة في كتاباتهم ؛ من أمثال حسين مروة وخليل عبدالكريم وسيد القمني وعبدالله العلايلي وغيرهم ممن حشا كتابه بالنقل عنهم . زائدًا عليهم ببجاحته في التصريح " بكفرياته " ؛ من تشكيك بالقرآن ولمز في رسول ا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام . وأعتذر للقراء عن نقل وقاحاته ؛ لأن هدفي أن يعلموا حقيقة الرجل وحقيقة من يلمعه .
يقول " الخائن " : ( فالقرآن الكريم، هو أهم مصدر تاريخي/ وعظي/ عجائبي/ أخلاقي لنا ولغيرنا من المؤرخين ومن الباحثين -حيث كان الكلام التاريخي المكتوب الوحيد الدال في صدر الإسلام المبكر-، من الصعب أن يكون مصدراً تاريخياً علمياً، لسبب بسيط جداً وهو أن الأخبار التي وردت فيه عن الماضي وعن حاضر القرآن غير موثّقة بتواريخ محددة، أو بمصادر تاريخية أخرى موثوقة تسندها، يستطيع المؤرخ أو الباحث معها اعتمادها، وبناء أحكامه واستنتاجاته على أساسها.
فالقرآن جاء على دفعات متفرقة، خلال مدة طويلة بلغت حوالي ثلاثة وعشرين عاماً، وتاريخ مجيء معظم آيات القرآن غير موثق تاريخياً باليوم والشهر والسنة والمكان المحدد، ، وترتيب القرآن توفيقي، لم يراعَ فيه تاريخ النزول ولا اتخاذ الموضوع ، ولا سيما أن في القرآن الكريم آراء متضاربة حول كثير من المواقف نحو الأحداث والأديان الأخرى، وعلى رأسها اليهودية ، وبالتالي فإن القرآن لم يكُ "كتاب تاريخ" بقدر ما كان كتاب "موعظة تاريخية" ) . ( ص 9-10 ) .
- ويقول مدافعًا عن أسلافه من مشركي قريش : ( من الصعوبات التي يواجهها الباحث في هذا الشأن، إشكالية أنه قد تمَّ التعتيم على تاريخ ما قبل البعثة المحمدية تعتيماً يكاد يكون تاماً على اعتبار "أن الإسلام يجبُّ ما قبله"، أي أن الإسلام يُلغي ما قبله، ولم يكُ بين أيدينا غير شعر ما قبل الإسلام (ق.س) ، وبعض روايات الإخباريين، وهذا هو حال صراع الأيديولوجيات في التاريخ، فكلما جاءت أيديولوجيا ألغت سابقتها، ورمتها بالجهل والتخلف والانحلال، وتصدرت هي واجهة التاريخ وحدها، وكان كل ما سبقها جهلاً وجهالة وسفهاً وسفاهة، ومن العهود البائدة، والأزمنة الفاقدة ) . ( ص 11) . وأي تاريخ كان عند الجاهليين يا جاهل غير عبادة الأوثان والنهب والسلب والحروب ووأد البنات الخ أمورهم الجاهلية التي ذكرت في القرآن نفسه ؟! فأين التعتيم المزعوم ؟! أم أنك لا تثق في كتاب ربك ، وتتهمه بظلم أسلافك الجاهليين ؟!
- التوجه لبيت المقدس سببه العامل الاقتصادي ! : ( وفي الجانب الديني الآخر، ربما يقرأ بعض القراء حادثة قرار الرسول التوجه إلى بيت المقدس في صلاته ودعائه كقبلة يرضاها طيلة خمس عشرة سنة من بدء البعثة قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة، قراءة عابرة من دون أن يخطر بباله أن الرسول منذ البداية، قرر أن يطعن قريشاً في خاصرتها التجارية الموجعة، وأن مكان هذا الطعن هو الذي سيؤدي بقريش في النهاية إلى الخضوع والاستسلام له، وهذا ما حصل وتمَّ بالفعل في ما بعد. فقرار الرسول أن يكون بيت المقدس، قبلة المسلمين طوال هذه الفترة، يعني أن تتحول أماكن العبادة من مكة إلى بيت المقدس، وتتحول معها بالتالي المواسم الدينية والتجارية التي تستمر أربعة أشهر (من بداية ذي القعدة حتى نهاية رجب) وما تدرها من دخل كبير، إلى بيت المقدس، وينصرف العرب عن مكة وينصرف معهم باقي المسلمين من غير العرب عن مكة ويتوجهون إلى بيت المقدس ) . ( ص 45-46) . حسنًا ؛ لكن فاتك أيها الماركسي الجاهل بأحكام دينك أن التوجه لبيت المقدس لا يعني أن تتحول المواسم الدينية إليها !! لأن الحج والعمرة باقيان في مكة مهما تغيرت القبلة !!(51/86)
- تحريم الربا سببه توجيه ضربة مالية لليهود !! : ( هل سكوت الإسلام الطويل عن تعاطي قريش الربا كان مرده إلى أن الإسلام كان لا يريد أن يُغضب قريشاً كثيراً ويُصيب تجارتها في مقتل ما، حتى لا تقاوم الإسلام أكثر فأكثر، وتؤذي رسوله أكثر فأكثر؟ والدليل على ذلك أن أول سورة مكية (سورة الروم) جاءت في شأن الربا، لم تُحرّم الربا، وإنما دعت بالحُسنى إلى إقراض المال للمحتاج ولوجه الله، علماً بأن مكة كان فيها كثير من المرابين من عرب ويهود أيضاً، وكان فيها ربا فاحش شأنه شأن ربا المدينة، وإن تحريم الربا هذا التحريم القاطع المانع المتأخر جداً، قد صدر في المدينة بعد هجرة الرسول إليها بزمن طويل، وبعد خصامه مع اليهود الذين كانوا من أكبر المرابين في المدينة. وهل كان تحريم الربا بعد الهجرة النبوية إلى المدينة بوقت طويل، وقبل وفاة الرسول بتسع ليال فقط، جاء بعد خلاف الرسول المالي الطويل مع اليهود، وكيداً باليهود ، وذلك بتوجيه ضربة مالية قوية لهم ) . ( ص 54-56) . قبل قليل تدعي أن جعل بيت المقدس قبلة كان " طعنًا لقريش في خاصرتها التجارية " ! وهنا " لا يريد إغضابها وإصابة تجارتها في مقتل " !! ما هذا التناقض ؟!(51/87)
- ترديده لمقولات المستشرقين القديمة : ( علينا أن نعلم جيداً أن جانباً من خلاف الرسول مع اليهود في المدينة وطردهم منها كان لأسباب مالية بحتة، برغم تأثير العقيدة اليهودية الواضح في العقيدة الإسلامية والذي كان أكبر من تأثير العقيدة المسيحية ) . ( هامش ص 55) . (لم يقاوم العرب الإسلام إلا عندما حاول فرض الدين بالقوة، وتهديد مصالحهم التجارية بإثارة الطبقات الدنيا على الطبقات العليا ) . ( ص 75) . ( يُقال إن الإسلام أخذ عدد الصلوات الخمس كل يوم عن الصابئة، فالصابئة كانوا يعبدون الكواكب السيارة الخمسة: المشتري والزهرة وزحل وعطارد والمريخ، وكان الصابئة يتوجهون لكل كوكب بصلاة في كل يوم، فيصبح المجموع خمس صلوات في كل يوم ) ( هامش ص 81) . ( وقد قضى هذه الفترة في التأمل والاستماع والدرس والتفكّر والتعلّم، وإن نصوص التوراة كانت بين يدي الرسول ومتوفرة لمن شاء القراءة والدرس، ولابد من أن الرسول في هذه الفترة كان قد اطلع على التوراة -أو قُرئت له- بإمعان، وفهمها وصدَّقها ) . ( ص 84) . ( كان الفاتحون المسلمون يعتبرون أن كل ما تمَّ فتحه بالسيف أصبح ملكاً خاصاً لهم، ولا سيما أن معظم البلاد المفتوحة أو التي خُطط لفتحها مستقبلاً كانت بلداناً غنية جداً بالثروات المنقولة والثابتة كالشام والعراق ومصر وبلاد فارس وغيرها، ومن هنا، اندفع المسلمون تجاه الفتح هذا الاندفاع الكبير والمثير في فترة زمنية قصيرة ) . ( ص 149-150) .( إن حروب الردة هذه لم تكُ كلها على أقوام ارتدت عن الإسلام وكفرت به، فقسم من هذه الطوائف والأقوام لم تكفر ولم تُلحد، ولم يكُ ما يستوجب حربها ومقاتلتها على ذلك النحو الشرس، وإنما تمَّ قتالها لا لأنها كفرت أو ألحدت، ولكن لأنها امتنعت عن أداء الزكاة وامتنعت عن التقيد بالنظام المالي الذي كان سائداً في عهد الرسول، وقد كان لهذا الامتناع أسبابه ومبرراته التاريخية). ( ص 161). (فلو لم يكُ الدافع لهذه الفتوحات السريعة والمتلاحقة، المال، لما حمل العرب السيوف وقاتلوا، ولدعوا إلى الإسلام بالحُسنى، ولأرسلوا الدعاة والهُداة والمبشرين به، من دون إرسال الجيوش والسيوف والمحاربين، أو لفتحوا ما فتحوا من بلاد وتركوا المال والسبايا والغنائم الأخرى لأهلها، فهم قد ذهبوا للتبشير بدعوة دينية وليس لنهب ثروات الشعوب الأخرى على النحو الذي جرى) . ( ص 162-163) . (يرى بعض المؤرخين أن الحضارة العربية الإسلامية قد شاخت بسرعة، وفي رأينا، إن سبب هذه الشيخوخة المبكرة للحضارة العربية الإسلامية يعود إلى ارتباط هذه الحضارة ومنها الاقتصاد بدين له ثوابته التي لا تتغير، فالإسلام كان في البدء ديناً ولم يك حضارة، ولكن ارتباط الحضارة العربية الإسلامية كان ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، في حين أن الحضارة العربية الإسلامية في حقيقتها لم تأت من النصوص القرآنية الإسلامية، ولكن من جهد البشر الذين دخلوا الإسلام من أجناس مختلفة، وبرغم ذلك فقد تمَّ ربطها بالإسلام كدين ذي ثوابت لا تتغير، ومن هنا جاءت الشيخوخة المبكرة للحضارة الإسلامية ) . ( ص 182-183) . ( ظهور معظم الصحابة بمظهر الأغنياء الحقيقيين الذين اغتنوا وأثروا بفضل الإسلام، كما سبق ، واغتنوا وأثروا بفضل التجارة، فلم تنقض ثلاثون سنة على ظهور الإسلام إلا وكان التاريخ يقدم لنا قائمة طويلة بأسماء أغنياء قريش الجدد الذين أثروا بفضل العطايا والهدايا والغنائم من الأنفال والفيء وخلاف ذلك، وكانت تلك القائمة الطويلة تشمل أسماء وتبين ثرواتهم التي تحققت خلال خمس عشرة سنة من تاريخ فتح مكة، من دون تجارة أو صناعة أو زراعة) . ( ص158) . ( نلاحظ أن الآيات التي لعنت اليهود (يهود المدينة على وجه الخصوص) وهي ثماني آيات -في سور البقرة والمائدة والتوبة- كانت كلها مدنية، وبعد أن اختلف الرسو صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بالذات على أمور مادية وعقائدية، وكان الرسول قبلها على وفاق مع اليهود، وأشركهم في أول دولة إسلامية أقامها في المدينة، في حين أن الآيات التي كرّمت موسى والكتاب والعقيدة اليهودية التي جاء بها كانت كلها آيات مكية قبل هجرة الرسول إلى المدينة ، وقبل خلاف الرسول مع يهود المدينة خاصة، علماً بأن اليهود كانوا في مكة ولم يلعنهم القرآن طيلة ثلاث عشرة سنة من بدء الدعوة الإسلامية في مكة وحتى سنة الهجرة إلى المدينة، ذلك أن الرسول لم يكُ على خلاف مع يهود مكة في ذلك الوقت كما صار عليه الحال بعد هجرته إلى المدينة ) . ( هامش ص 10 ) . وقد تركت كثيرًا من مخازيه ؛ كتطاوله على الصحابة رضي الله عنهم ؛ اكتفاء بما سبق .وللرد على هذه المقولات الاستشراقية التي يقتات عليها النابلسي وبيان تهافتها ؛ ينظر " تعقبات العلامة أحمد شاكر لدائرة المعارف الإسلامية " التي وضعها المستشرقون ، وكتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار " للمستشار سالم البهنساوي ، و كتاب : " افتراءات المستشرق كارل بروكلمان على السيرة النبوية " للدكتور غيثان جريس ، وكتاب " افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على(51/88)
التاريخ الإسلامي " للأستاذ عبدالكريم علي باز ، وكتاب " مركسة التاريخ النبوي " للأستاذ منصور أبوشافعي، وكتاب " المستشرقون والإسلام " لمحمد قطب .
أما كتابه الآخر " لو لم يظهر الإسلام .." فقد ابتغى من خلاله التقليل من شأن الإسلام ، والطعن والتشكيك في القرآن ، والدفاع عن أسلافه الجاهليين الذين ظلمهم الإسلام وطمس " حضارتهم " !! وإليك بعض أقواله ( الكفرية ) :
- ( إن الوثنية كعقيدة دينية لم تكن بتلك القوة التي صورها لنا القرآن ) . ( ص 39) . ( إن الإسلام عندما ظهر لم يصطدم مع المسيحيين المساكين البعيدين عن لعبة المال والسياسية ولم يتحارب معهم كما اصطدم وتحارب مع اليهود القابضين على زمام الاقتصاد المديني والذي كان سبب العداء بين المسلمين واليهود ) . ( ص 82) . القرآن طمس نثر الجاهلية - بزعمه - خشية ( أن يكون لهذا النثر من سحر البيان ما كان ينافس سحر بيان القرآن ) ! ( ص 96) . ( هذا الشعر القوي لم يظهر لنا ولم يصلنا وتم على ما يبدو طمسه ومنعه من التداول من قبل السلطة الإسلامية الجديدة حتى يكون القرآن هو البيان الساحر الوحيد في أيدي العرب في ذلك العهد ) !! ( ص 120) . أحاديث تحريم التماثيل : ( يميل بعض مؤرخي الفن العربي إلى أنها أحاديث غير صحيحة ) ! ( ص 133) . ( في صدر الإسلام كانت هناك حياة سياسية وكانت هناك أحزاب سياسية، ولكنها أحزاب نفعية.. الحزب الأموي النفعي ومن مؤسسيه في عهد الرسول أبو سفيان ومن قادته عثمان بن عفان ) ! ( ص 195) . ( من المعروف أن الإسلام وضرورة نشره بالقوة المسلحة دفع المسلمين إلى ارتكاب مجازر سياسية عنيفة ) ( ص 221) . عام الرمادة أثبت - كما يزعم - ( فشل الإدارة المالية لعمر بن الخطاب فشلاً ذريعًا ) ! ( ص 283وما بعدها ) .
====================
أما مقالاته في السنوات الأخيرة التي تُنشر في عدة صحف عربية في وقت واحد !! فأنتقي منها ما يزيد القارئ بصيرة بهذا " الخائن " ؛ وأذكر عنوان المقال بعد كل نقل ؛ مع تعليق يسير باللون الأزرق :
- لم يعد عداؤه لأهل الإسلام فقط : ( إن قسماً كبيراً من الإعلاميين الأردنيين ومن كتاب الأعمدة اليومية والأسبوعية هم من حركة فتح ومن الجناح الموالي لياسر عرفات. إضافة إلى وجود عدد كبير من البعثيين الموالين للنظام العراقي السابق والموالين للنظام السوري الحالي، ووجود عدد آخر من جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وبقية الجماعات الإسلاموية الأخرى . ومن هنا نرى أن الإعلام الأردني في معظمه هو مجموعات من الجزر الموبوءة من الأيديولوجيين القومجيين والسلفيين ) ( الملك عبد الله والإعلام الظلامي ) .
- كتب مستبشرًا بالانتخابات التي أقامها أسياده في العراق مقالا بعنوان : ( العراقيون يؤدون الأحد صلاة العيد! ) اضغط هنا
- الإرهاب لا علاقة له بإسرائيل : ( أن الإرهاب العربي - وليس الإسلامي - اليوم لا علاقة كبيرة له بسياسة (أمريكا) تجاه اسرائيل، ولا علاقة كبيرة له بالظلم الذي يحيق بالفلسطينيين من قبل اسرائيل ) . ( لا شك أن التعليم الديني الظلامي قد لعب دوراً كبيرا في هذه الأسباب، فغسل أدمغة التلاميذ والطلبة يومياً بالهوس بالماضي، وبالنرجسية الدينية) . ( أسئلة الأعراب في أسباب الإرهاب )
- الاستعمار له فضائل على النابلسي !! : ( فدساتيرنا العربية هي مقتطفات واسعة المساحة من الدساتير الغربية، وهي من صنع الاستعمار ومن فضائلة الكثيرة علينا) !! ( الإصلاح من الداخل دعوة طفولية ساذجة لتطييب الخواطر وتقليل المخاطر) .
- الفرح بتدمير الفلوجة على أيدي الصليبيين : ( صباح الخير يا فلّوجة.. صباح الخير يا مقبرة الارهابيين .. صباح الخير يا عدّامة المقاولين المرتزقة..صباح الحرية والآمان..صباح الخير والنماء..صباح الحب والرخاء..عندما انفلج صباح الحرية في الفلّوجة أمس، وتحررت الفلّوجة من حكم طالبان العراقي كما تحررت بالأمس كابول من حكم طالبان الأفغاني وهو حكم القرون الوسطى، لم نكن نتصور أبداً أن حكم طالبان العراقي يريد للفلّوجة الحمامة البيضاء أن تصبح "كابول القرون الوسطى" التي كانت تحت حكم طالبان الظلامي ) . (انفلاج الصُبح في الفلّوجة ) .(51/89)
- النابلسي يهنيئ بانتصار بوش ، ويذكر شيئًا من فضائله !! : ( مبروك للرئيس جورج بوش هذا النجاح الساحق في الانتخابات الرئاسية. ومبروك للحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الكونجرس بمجلسيه: النواب والشيوخ.وهذه أول مرة في تاريخ أمريكا يحقق الحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الرئاسة وفي الكونجرس معاً.وهذا النجاح الساحق هو نجاح للسياسة الأمريكية الخارجية وخاصة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق وأفغانستان ومحاربة الارهاب..إن الرئيس جورج بوش أعطى للعرب من الفرص والمبادرات والأفعال السياسية ما لم يعطه أي رئيس أمريكي سابق. فهو الذي أعلن تعهد بقيام دولة فلسطينية في عام 2005 وكان على العرب الأمريكيين أن يعيدوا انتخابه لكي يحقق ما وعد به، شرط أن يكون السياسيون العرب على مستوى المسؤولية لمثل هذا الوعد. وهو الذي حرر افغانستان من حكم القرون الوسطى المتخلفة، وأقام نظاماً سياسياً فيها،كانت أبرز مظاهره الانتخابات الأفغانية الحرة لأول مرة في أكتوبر 2004. وهو الذي حرر العراق من طغيان واستبداد الديكتاتورية، ولم يكن العراق وحده بمستطيع ذلك ولو امتدت به السنون. وهو الذي يجهز العراق الآن لانتخابات حرة في مطلع 2005 . وهو الذي يحارب الارهاب حرباً لا هوادة فيها في الشرق الأوسط دفاعاً عن مصالح أمريكا، وعن مصالح دول الخليج كذلك. وهو الذي سيحاول في ولايته الثانية نزع أسلحة الدمار الشامل من إيران وكوريا الشمالية كما فعل في العراق وليبيا. وهذه كلها انجازات في الشرق الأوسط لم يفعل مثيلاً لها أي رئيس أمريكي سابق ) . ( خيبة العُربان والإرهابيين في الانتخابات الأمريكية) .
- في مقاله ( سجن "أبو غريب"أقامته الديكتاتورية وفضحته الديمقراطية ) يحاول الخائن تلميع جرائم أسياده في العراق ، مخادعًا الناس بأنهم ديمقراطيون إنسانيون حضاريون !! عندما عاقبوا بمن قام بتعذيب العراقيين في أبي غريب ! أنصح هذا الخائن ومن قد يغتر به بقراءة كتاب " أمريكا وحرب الإبادة " لمعرفة جرائم الكاوبوي الأمريكي في معظم دول العالم ، وكتاب " أمريكا التي تعلمنا العدل .. " للدكتور فهد العرابي .
- في مقاله ( الإجابة على سؤال: لماذا دولة "الرسول" و"الراشدين" لا تصلح لنا الآن؟! ) يشوه النابلسي المتأمرك الدولة الإسلامية ويُنفر المسلمين منها ؛ ثم يختم مقاله بقوله : ( فمن أراد منكم أيها القراء أن يعيش في مجتمع يُطبّق مثل هذه الأحكام، فليصوت للجماعات الإسلامية والأحزاب الإسلامية في أول انتخابات تجرى في بلده ) .
- في مقالته ( المحافظون الجدد والليبرالون الجدد بين الواقع ومهاترات الغوغاء ) يدافع عن الصهاينة الأمريكيين الذين ينفذون تعاليم اليهود ومخططاتهم .
- وفي مقالته ( من هم الليبراليون العرب الجدد،وما هو خطابهم؟ ) أبان بوضوح عن حقيقة حاله في هذه الفترة ، وعن أهدافه ومن معه من حزب " الخونة " وإليك شيئًا منها : ( - المطالبة باصرار بالإصلاح التعليمي الديني الظلامي - تأكيد اخضاع المقدس والتراث والتشريع والقيم الأخلاقية للنقد العميق - اعتبار موقف الدين العدائي من الآخرين موقفاً جاء بناء على ظروف سياسية واجتماعية معينة قبل خمسة عشر قرناً، ولم تعد هذه الظروف قائمة الآن - اعتبار الأحكام الشرعية أحكاماً وضعت لزمانها ومكانها، وليست أحكاماً عابرة للتاريخ كما يدعي رجال الدين، ومثالها الأكبر حجاب المرأة، وميراث المرأة، وشهادة المرأة.. الخ - عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، - لا حرج من أن يأتي الإصلاح من الخارج، ولكن بالطرق الديبلوماسية، والمهم أن يأتي سواء أتى على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية - الايمان بالتطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء ) .. تكفيكم هذه لمعرفة مدى ما وصل إليه الرجل من مهانة وانسلاخ . - قبحه الله - .
============(51/90)
(51/91)
نصر حامد أبوزيد ... و ( الهرمنيوطيقا ) ..!
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه حلقة جديدة من حلقات " نظرات شرعية في فكرٍ منحرف " تتناول الدكتور نصر حامد أبوزيد ، أحد المفكرين المعاصرين ؛ من الذين جل بضاعتهم نقل ماعند الغرب من نظريات سلطوها على دينهم المحرف فهمشوه بها ؛ فأراد بنو جلدتنا من أمثال أبوزيد تطبيقها بالمثل على خاتم الأديان . ولكن : هيهات لهم ؛ فالله حافظ دينه ، ولكن المنافقين لا يفقهون .
ترجمته : من مواليد 1/7/1943م ، طنطا - محافظة الغربية ، حاصل على دكتوراه من قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، في الدراسات الإسلامية 1972 ، عين سنة 1995 أستاذًا بقسم اللغة العربية وآدابها نفس الكلية .
تلقى في سنة 1975 - 1977 منحة من مؤسسة فورد (!) للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وفي سنة 1978 - 1979 منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط ، جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية ، ومن سنة 1985 - 1989 عين في اليابان ، جامعة أوساكا للغات الأجنبية كأستاذ زائر ، أما في سنة 1195 وحتى هذه الساعة فيعمل كأستاذ زائر ( أستاذ دكتور ) في جامعة ليدن بهولندا . من مؤلفاته : " الإمام الشافعي وتأسيس الإيدلوجية الوسطية " ، " نقد الخطاب الديني " ، " البحث عن أقنعة الإرهاب " ، " التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة العلمية " ، " إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني " ، " مفهوم النص " ، " التفكير في زمن التكفير " ، " إشكاليات القراءة وآليات التأويل " .
رد عليه كثيرون : منهم : الأستاذ محمد جلال كشك في " قراءة في فكر التبعية " ، وعبدالصبور شاهين في " قصة أبوزيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة " ، و الدكتور رفعت عبدالمطلب في " نقض كتاب نصر أبوزيد ودحض شبهاته " ، والدكتور سيد العفاني في " أعلام وأقزام " ، والدكتور محمد سالم أبوعاصي في رسالته " مقالتان في التأويل - معالم في المنهج ورصد للإنحراف " ، و الدكتور عواد العنزي في رسالته " المعاد الأخروي وشبهات العلمانيين " - لم تُطبع بعد - .. وغيرهم . ومن أفضل من رد عليه وكشف حقيقة أفكاره : الأستاذ طارق منينه في رسالته " أقطاب العلمانية في العالم العربي والإسلامي " ، ومنه ألخص الآتي لأهميته مع إضافات :
فكرته : نادى أبوزيد بإخضاع القرآن لنظرية غربية مادية تنكر الخالق وتؤول الوحي الإلهي على أنه إفراز بيئوي أسطوري ، ناتج عن المعرفي التاريخي الغارق في الأسطورة .
اسم هذه النظرية « الهرمنيوطيقا » ، و « مصطلح الهرمنيوطيقا » مصطلح قديم بدأ استعماله في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني « الكتاب المقدس » .. يشير المصطلح إلى « نظرية التفسير » ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م وما زال مستمرًا حتى اليوم خاصة في الأوساط البروتستانتية . وقد اتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة ، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية ؛ كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفلوكلور.
والقضية الأساسية التي تتناولها « الهرمنيوطيقا » بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام ، سواء كان هذا النص نصًا تاريخيًا ، أم نصًا دينيًا .
من علماء « الهرمنيوطيقا » المفكر الألمانى شلير ماخر ( 1843م ) و « ويلهلم ديلش » ( 1833م - 1911 ) و « مارتن هيدجر » و « جادامر » . يقول نصر أبو زيد : « وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي ، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب ، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن » ، إشكاليات القراءة وآليات التأويل لنصر حامد أبو زيد ص49 ، وما قبلها .
يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري عن الهرمنيوطيقا : " هي مشتقة من الكلمة اليونانية "He r meneuin" بمعني يُفسِّر أو يوضِّح - من علم اللاهوت - حيث كان يقصد بها ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المعني بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة " - كما تزعم -
( للزيادة عن الهرمنيوطيقا يُنظر : " مدخل إلى الهرمنيوطيقا : نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر " للأستاذ عادل مصطفى . وللفائدة فإن مفكرو وفلاسفة الشيعة يحتفون كثيرًا بهذه الفكرة التي تخدم باطنيتهم وتأويلاتهم ! ؛ ولهم أبحاث كثيرة عنها ) .
لقد طالب أبوزيد بالتحرر من سلطة « النصوص » وأولها « القرآن الكريم » الذي قال عنه : « القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة »(1) . « لقد صار القرآن هو « نص » بألف ولام العهد »(2) « هو النص المهيمن والمسيطر في الثقافة »(3) « فالنص نفسه - القرآن - يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه »(4) .(51/92)
وقال مطالبًا بالتحرر من هيمنة القرآن : « وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها ، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا ، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان »(5) .
وهو نفسه ما فعلته أوروبا مع « الوحي » و « الدين » باعتبارهما إنتاج مجتمعات قديمة وبيئات ثقافية متخلفة ، وينقل « نصر أبو زيد » المعركة مع « الوحي » إلى ساحة العالم الإسلامي فيقول : « بأن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي »(6) ! .
ويقول « إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات »(7) .
سوف نستدعى دكتورًا علمانيًا يشترك مع د. نصر في « الإلحاد المشترك » هو د. على حرب ، وفقط سندعه يعلق على موقف د. نصر في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ « العلمانية » في عالمنا العربي والإسلامي ، سندعه يوضح لنا هدف د. نصر حامد أبو زيد . يقول حرب : « يستهدف أبو زيد ، بالنقد والتحليل ، خطاب الوحي ، بجعله مادة لمعرفة نقدية عقلانية ، شأنه بذلك شأن أي خطاب بشرى وأي إنتاج معرفي .. مستلهمًا موقف طه حسين الذي اعتبره أبو زيد الفدائي الأول في مقاومته للنظرة التقديسية إلى النصوص الدينية »(8) .
ويعلق على كتابه « مفهوم النص » بالقول : « كان أولى به أن يسمي هذا الكتاب « نقد النص » إذ هو يتناول فيه القرآن وعلومه تناولاً تحليليًا نقديًا .. أجل إنها لجرأة بالغة أن يتعامل باحثنا مع النص القرآني بوصفه « منتجًا ثقافيًا » ، أنتجه واقع بشري تاريخي »(9) !! .
إن د. على حرب نفسه كان قد طالب بالتحرر - أيضًا - من النصوص الدينية ومن وصاية الشريعة ! وهو يحب هذه الجرأة ! و يمدح هذه الطائفة العلمانية الجريئة في نقد الوحي القرآني من أمثال أركون وأبو زيد وأدونيس وغيرهم ويعتبرهم كما ذكر في الكتاب نفسه الذي علق فيه على كلام « نصر أبو زيد » المتقدم : نقاد الوحي والشريعة « أهل التذكرة » وأنهم « ذوى البصيرة ، أي ذوى الألباب »(10) !!
إن مشروع « نصر أبو زيد » ، هو وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيراتها للحياة والكون والإنسان والوحي والنبوة والغيب والعقيدة في المعنى القرآني فيصير القرآن ماركسيًا ينطق باسم ماركس وفلاسفة المادية الجدلية والهرمنيوطيقا ( نظرية تفسير مادية ) فيغير بذلك المفاهيم الرئيسة للقرآن ، ويلغي المعاني الحقيقية للسور والآيات ، ويطمس الحقائق الدينية التي رسخها القرآن وبينتها السنة .
وهو لا يفعل في معركته مع الإسلام وتاريخه وعلمائه المحدثين والقدامى إلا ما يفعله الماركسيون العرب إحياء للموقف اللينيني الذي وظف التراث في الصراع الأيديولوجي ، فلينين - كما يقول جورج طرابيشي - هو أول من دعا إلى التعاطي مع التراث بمنهج البضع والبتر من خلال مناقشاته في مطلع القرن مع الشيوعيون الروس ... فلينين .. لم يكن يهمه من التراث حقيقته التاريخية ، بل قابليته للتوظيف في الصراع الأيديولوجي »(11) .
إنه منهج الإسقاط الأيديولوجي ، الذي يستخدم القرآن للأيديولوجية المسبقة !
يقول طرابيشي [ العلماني ] : « منهج الإسقاط الأيديولوجي يتنطع أكثر من الفهم أو عدم الفهم ، فهو ينصب نفسه جراحًا يريد إخضاع التراث لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنه أورامه الخبيثة ، وتراءى لنا ، من وجهة نظر تاريخية ، أن قصب السبق في مداورة المنهج البضعي أو البتري يعود إلى المثقفين والباحثين الملتزمين بالرؤية الماركسية للعالم »(12) .
هذه « خبرة » طرابيشي من داخل الماركسية يقول عن نفسه : « فلقد كان لكاتب هذه السطور ، هو أيضًا طور ماركسي في تطوره الفكري »(13) ! . ولا يعنى ضبط طرابيشي هؤلاء الماركسيين متلبسين بالتلاعب بالتراث أنه معنا داخل الأسوار فهو أولا نصراني ثم ماركسي ثم أخيرًا فرويدي فاحش .
إن « القرآن » عند المستترين بالإسلام من المتلاعبين بالنصوص من فئة العلمانيين الذين اتخذت طريق الهدم من الداخل وسيلة لتهديم المجتمع الإسلامي ومقدساته الإسلامية إن « القرآن » عندهم « قالب وإناء » « فارغ » ، لاينطق بما أنزل به من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم- رسول الله وخاتم النبيين وإنما ينطق بأيديولوجياتهم المسبقة ، فهم يحاولون أن يجعلوه بحسب هذه الأيديولوجيات الحديثة ناطقًا رسميًا لهم وحسب ! يقول ما يقولونه ويتكلم بما يتكلمون به ، وهو عندهم كما قال « أبو زيد » و « على حرب » ينطق بكل المذاهب والفلسفات ؛ أي أنه ليس له معنى ثابت ، فمن شاء أن يجعله وجوديًا فلا حرج ، وماركسيًا لا مانع ، صهيونيًا ما المشكلة ، وجوديًا ما الاعتراض ، عبثيًا ما الخلل ؟!
هذا هو إعجازه عندهم ، يقول د. على حرب في وقاحة متناهية : « ليس إعجازه إذًا مجرد كونه ينطوي على تشريع أو تسنين ، وإنما كونه ينفتح على كل معنى بحيث يمكن أن تتمرأى فيه كل الذوات ( ! ) وأن تُقرأ فيه مختلف العقائد والشرائع »(14) .(51/93)
إذن : فأبوزيد يتهم الوحي بأنه ليس له مصدر سماوي مقدس ، وينفي عنه صفه الفوقية - إن صح التعبير - لأنه عنده خرج من الواقع ورجع إلى الواقع وليس هناك إلا الواقع ! وهو ينص على ذلك في قوله : « فالواقع أولاً والواقع ثانيًا ، والواقع أخيرًا »(15) !! الواقع فقط !!
وهو يظن أنه بهذه الاتهامات يستطيع أن ينزع صفة الوحي الإلهي عن القرآن ، ويظن أنه قد حطم بذلك الأسطورة الدينية وكشف عن حقيقة رموزها - والرموز بزعم الماركسية هي الله - تعالى عن قوله - ، الملائكة ، الجن ، الوحي ، الغيب ، اليوم الآخر ، وما إلى ذلك - إن النص التالي له يكشف لنا عن الأدوات التي يمكنه هو وغيره استخدامها بجانب فلسفة الهرمنيوطيقا في تحليل القرآن ، يقول : « يركز « بول ريكور » اهتمامه على تفسير الرموز ، وهو يفرق بين طريقتين للتعامل مع الرموز، الأولى هي التعامل مع الرمز باعتباره نافذة نطل منها على عالم من المعنى ، والرمز في هذه الحالة وسيط شفاف عما وراءه ( ! ) هذه الطريقة يمثلها « بولتمان » في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير . وهذه الطريقة يطلق عليها « ريكور » « Dymythologizing » والطريقة الثانية يمثلها كل من « فرويد » و « ماركس » و « نيتشه » وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به ، بل يجب إزالتها وصولا إلى المعنى المختبئ وراءها Dymystification إن الرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى ، بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معنى زائفًا ، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الصحيح . لقد شككنا فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحيًا يخفي وراءه اللاوعي ، وفسر كل من ماركس ونيتشه(*) الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة ووضعا نسقًا من الفكر يقضى عليها ويكشف زيفها ، وإذا كان تفسير الرموز عند بولتمان أو فرويد أو نيتشه أو ماركس ينصب على الرموز بمعناها العام اللغوي والاجتماعي فإن تعريف ريكور للرمز معبرًا عنه باللغة ، ومن ثم ينصب التفسير عنده على تفسير الرموز في النصوص اللغوية ، وهذه هي غاية الهرمنيوطيقا »(16) !! .
إذن فغاية الهرمنيوطيقا - التي هي نظرية في التفسير غربية المبنى والمعنى - تحطيم الأسطورة الدينية ، والرمز لا يعنى شيئًا قط ، وإنما هو وسيط شفاف - أو حقيقة زائفة - ينم عما وراءه من موروثات لغوية بيئية معرفية تاريخية أسطورية !
ينقل « نصر أبو زيد » هذه النظرية ، ليقوم بنفس الغاية التي توصل إليها هؤلاء الملاحدة مع الكتب اليهودية والمسيحية ، وبدل أن يكتفوا بإظهار أساطير القوم ، الأساطير التي أظهرها الإسلام من قبلهم ! ، أقبل نيتشه مثلاً وأعلن « أن الله قد مات » ! وقال ماركس بأن الحياة مادة ولا إله ! وغير ذلك من خرافات وترهات الماديين الماركسيين . وبهذه الأدوات حاول « أبو زيد » أن يتعامل مع « القرآن » وبهذه العيون الغربية التي كلما وجدت - أو قرأت أو سمعت ! - اسم الله اشمأزت منه ، اشمأزت منه قلوب الذين كفروا ، واعتبرته رمزًا لا يقول شيئًا ولا يعنى شيئًا إنما هو حقيقة زائفة أو نافدة نطل منها على معان مناقضة لحقيقتها تمامًا !
بهذه الموازين المادية التي تنفي وجود الله وتلغي عالم الغيب لصالح عالم الحس انتهج « نصر ابو زيد » طريقًا في تحليل القرآن وتفسيره أي بأفق الماركسية والمادية الجدلية والهرمنيوطيقا الجدلية . بهذه الموازين نظر إلى القرآن وآياته وإلى التفسير والمعاني المستنبطة منه ، ويؤكد على ذلك بقوله : « وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي ، نقطة بدء أصلية للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ، ونظرية الأدب فحسب ، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن ؛ لنرى كيف اختلفت الرؤى ( ! ) ، ومدى تاثير كل عصر - من خلال ظروفه - للنص القرآني »(17) .
إنه يجعل هذه الأدوات الإلحادية هي نقطة الانطلاق لتأويلاتها ، فينزع عن القرآن مضمونة باعتبار أن مضمون القرآن أسطوري غيبي ، ويعطيه دلالات ومضامين أخرى يزعم أنها الوعي بالتاريخ والعالم والنصوص !
يقول عن وعيه الجديد إنه : « وعي ينقل الثقافة ، كما نقل المواطن من حالة إلى حالة ، ومن مرحلة « الوعي الديني الغيبي الأسطوري » إلى مرحلة « الوعي العلمي »(18) .
وهو هنا يعطي للنظرية المادية التي تنكر الله سبحانه وتعالى وترفض الوحي ، يعطيها صفة « العلمية » و « الهيمنة » على القرآن ! ويريد أن ينقل الثقافة الإسلامية والحقائق الإسلامية إلى حالة أخرى مغايرة لها تمامًا ، حالة الوعي الماركسي والفرويدي اللعين ، والذي أدى في عالم الغرب إلى فصل الإنسان عن ربه وخالقه ومبدعه في نفس الوقت الذي أنزله إلى مرتبة الحيوان [ دارون ] وحلل نفسيته بأنها حيوان أشد ولوغًا في الجنس من الحيوان .(51/94)
إن هذا الوعي العلمي المتطرف في حكمه على الدين أدى إلى خلل كبير : « إن التصور الغربي للإنسان يشتمل على خلل أساسيين : الخلل الأول هو اعتبار أن الإنسان هو ذلك الحيوان الدارويني المتطور ، الذي قدمته نظرية دارون في القرن الماضي ، وما تزال تغذيه في كثير من مجالات الدراسة ، والدراسات الاجتماعية بصفة خاصة ، والخلل الثاني هو دراسة الإنسان بمعزل عن خالقه الذي أنشأه وأخرجه إلى الوجود »(19) .
وكان قد ادعى ماركس وفرويد ونيتشه وريكور وجادامر وشليرماخر وبولتمان وغيرهم كثير أن ليس للإنسان في ظل التطورات الفكرية والفلسفية الغربية الحديثة ، ليس له مرجعية خارج حدود نفسه ، أي إقامة الإنسان نفسه مرجعًا بدلاً من الله ، وراحوا ينظرون إلى الوحي الإلهي على أنه أسطورة ، ونقلها نصر حامد أبو زيد معركة ضارية مع القرآن عازلاً عنه مضمونه الحقيقي ومضيفًا إليه مضمونًا ماديًا بحتًا ، ماركسيًا في غايته ، ماديًا في نظرته ، مدعيًا أن ذلك هو التأويل الحقيقي المحترم للقرآن !! وأنه يؤمن بثوابت الإسلام !! تقول بروتوكولات حكماء صهيون : " لاحظوا أن نجاح دارون وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل ، وأن الأثر الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي ( غير اليهودي ) سيكون واضحًا لنا بكل تكيد " ! وليس هناك أوضح من ذلك التأثير غير الأخلاقي الذي جعل نصر أبو زيد يجلب تلك النظريات المادية ومضامينها الإلحادية ليغير بها معاني القرآن وحقائق القرآن وثوابت القرآن : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .
تطبيقات الهرمنيوطيقا :
نأتي هنا إلى تطبيقاته لهذه الفلسفة على القرآن وإعطاؤه مضامينها المجازية التي تنكر وجود الله وتنفي ما أثبته القرآن من حقائق . فالهدف من الهرمنيوطيقا هو - حسب قوله : « أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية ( ! ) وإحلال المفاهيم المعاصرة الأكثر إنسانية وتقدمًا ( ! ) ، مع ثبات مضمون النص ( ! ) . إن الألفاظ القديمة لا تزال حية مستعملة لكنها اكتسبت دلالات مجازية »(20) .
قلتُ : كيف يكون ثبات مضمون النص مع تغيير مضمون النص ؟!
وفي النص التالي يقدح في مضمون ما سماه النص ويقدح - ويسخر كذلك - في إيمان العالم الإسلامي المتمسك به - يقول : « بصورة الإله الملك بعرشه وكرسيه وصولجانه ( ! ) ومملكته وجنوده الملائكة وما زال يتمسك بالدرجة نفسها من الحرفية بالشياطين والجن والسجلات التي تدون فيها الأعمال والأخطر من ذلك تمسكه بحرفية صور العقاب والثواب(*) وعذاب القبر ونعيمه ومشاهد القيامة والسير على الصراط ... إلى آخر ذلك كله من تصورات أسطورية »(21) !! .
فهو يحذف وينفي هذا المضمون القرآني وهذه الحقائق القرآنية ويجعلها أسطورية !! وطبعًا لا يستسيغ ما سماه « ظاهرة الوحي » « ظاهرة النص » وفوقيته وثوابته التي نبذها منذ هنيهة ، فقد أنكر هذه « الحقائق » واعتبرها « مزيفة » .
الأدهى من ذلك ، هو أنه ادعى أن أساس « الوحي » ليس هو التنزيل السماوي ، وأنه ليس تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى الناس « وحيًا من الله » وإنما أساسه هو ما كان يعتقده العربي من إمكانية الاتصال بين البشر والجن - وقد قال بأن هذه الإمكانية أسطورية كما سيأتي بعد قليل ، بالإضافة إلى حضور وبروز ظاهرتي الشعر والكهانة في المعرفي / التاريخي عند العرب وارتباطهما بالجن : « لقد كان ارتباط ظاهرتي ( الشعر والكهانة ) بالجن في العقل العربي وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها »(22) !!
كل ذلك عند أبو زيد ظواهر اجتماعية ، أفرزها الواقع وطورتها الكهانة والشعر والوحي ، واخترعتها مخيلة الأساطير !
الوحي عنده هو « ظاهرة » في « الثقافة » والثقافة عنده إفراز ونتائج التطورات المادية والبنى الاقتصادية والاجتماعية !
فـ « ظاهرة النص » و « ظاهرة الوحي » و « ظاهرة النبوة » و « الظاهرة الدينية » - وهى أوصاف نصر أبو زيد - نتاج البيئة ، والنبوة عنده ليست ظاهر فوقية مفارقة(23) وإنما هي فاعلية خلاقة لم تتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية ، وهى آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة »(24) .
فظاهرة الوحي - بحسب وصفه للوحي وزعمه عنه - لم تكن غريبة عن الرسول فهو : « كان يعانى دون شك إحساسًا طاغيًا بالإهمال والضياع »(25) ولأنه - بحسب زعم نصر أبو زيد - لم يكن يعزل نفسه عن الواقع ولا عن استخدام إمكانياته وتطويرها لصالحه وما يدعو إليه فقد كرر في النص القرآني ، الذي يبدأ بـ ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) الفعل « خلق » ليعوض عن إحساسه بالإهمال الذي لقيه من المجتمع وليختلق له ربا !!(51/95)
يقول : « ولا شك أن إحساس محمد الذي تتوجه إليه هذه الرسالة - بأن ربه هو الذي خلق ، يتصاعد بذاته وبقيمته وأهميته ، ويداوي إحساس اليتم والفقر في أعماقه . ولأن محمدًا لا يعزل نفسه من الواقع وعن إنسان مجتمعه فإن النص يكرر الفعل « خلق » كاشفًا لمحمد عن تساؤلاته عن الإنسان »(26) « إن المتحدث إلى محمد بالوحي ليس غريبًا عنه »(27) ! .
فهو هنا يجعل النص من إنتاج محمد - صلى الله عيه وسلم - الذي لا يعزل نفسه عن الواقع ولذلك ، ولسبب إحساسه بالفقر واليتم ، كرر الفعل « خلق » في هذه السورة مرات ليشعر بأن له كفيلاً وعائلاً ووكيلاً .
وليس المتحدث بالوحي إلى محمد - صلى الله عيه وسلم - في فلسفة « نصر أبو زيد » المادية إلا محمد نفسه - صلى الله عيه وسلم - فالوحي ليس غريبًا عنه من هذا الوجه !
وبدلاً من معالجة هذه العزلة وهذا الإحساس باليتم والفقر بالدخول في عالم الكهانة والاتصال بالجن ، فإن محمدًا - صلى الله عيه وسلم - اتخذ وسيلة أخرى للتعبير عن نفسه فيما سمي « الوحي » هكذا يفكر نصر أبو زيد تقليدًا للملاحدة من الغربيين !
وقد طور هذا الوحي الواقع وأعاد صياغته من جديد بما يتلاءم مع ظروف النبي - صلى الله عيه وسلم - ! « إن النصوص وإن تشكلت من خلال الواقع والثقافة تستطيع بآلياتها أن تعيد بناء الواقع ولا تكتفي بمجرد تسجيله أو عكسه عكسًا آليًا مرآويًا بسيطًا »(28) . كل ذلك يتماشى مع فلسفة المادية الجدلية التي تدعى أن الواقع هو منشئ الوعي والدين والأخلاق وليس العكس ؛ وأن الوحي ما هو إلا من خيال الأنبياء ناتج عن ظروف الفقر واليتم والاضطهاد !
أخيرًا : يدعي الدكتور نصر أبو زيد أن : « اعتماد حل المشكلات على مرجعية النصوص الإسلامية من شأنه أن يؤدى إلى إهدار حق المواطن بالنسبة لغير المسلمين »(29) .
- إن فلسفة نصر أبوزيد تنتهج نهج الفكر الغربي في تطوير كل شيئ ؛ حتى عقيدة المسلمين ، وعنده أن تغيير العالم لا يتم حتى ينال التطوير عقائد المسلمين التي نزل بها الروح الأمين جبريل - عليه السلام - وحيًا قرآنيًا .
====================
: الهوامش
( 1 ) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص19
(2-3) مفهوم النص ، ص27
(4) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص16
(5) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية ص146
(6) مفهوم النص ، ص24
(7) المرجع السابق ويقول « الأوضاع والظروف التي أنتجت النص » نقد الخطاب الديني ، ص145
(8) نقد النص لعلى حرب ، ص201
(9) نقد النص ، ص200
(10) المرجع السابق ، ص24
(11) مذبحة التراث ، ص11 ، ولينين كان شديد الإنكار على اختصار الطريق بالقفز مباشرة إلى الهدف ! وقد رفض « نظرية الهجوم » التي وضعها الزعماء الشيوعيون الألمان الذين تسببوا في انهيار أكبر وأقوى الأحزاب الشيوعية في العالم أجمع وقتذاك - 24 آذار 1921 كانت بداية النهاية ! - ومن الأحزاب الشيوعية العربية من حذا حذوهم فانهاروا كالحزب الشيوعي العراقي الذي كان له تواجد قديم في الساحة السياسية ونفوذ في أوساط الشباب جعله أقوى الأحزاب لسنوات طويلة ، إلا أنه استعجل بعض الاستعجال في أعقاب ثورة 1958م ، وباشر التصفيات الدموية ضد أعدائه فسقط ، وكرهه الناس ، وأصبح حزبًا ثانويًا ، ودفع الثمن غاليًا ، كذلك الحزب الشيوعي السوداني كان قويًا ، فورطه هشام العطا سنة 1971م ، ورفع الرايات الحمراء فجأة ، فدفع ثمنًا باهظًا أيضًا ، وأطيح برؤوسه ، انظر المسار لمحمد أحمد الراشد ، ص231 - 233
(12) مذبحة التراث ، ص 11
(13) مذبحة التراث ، ص 11
(14) نقد النص ، ص87
(15) نقد الخطاب الديني ، ص130
(*) عن نيتشه يقول د. فؤاد زكريا « ففي رأيه بين الله والإنسان في الخلق تعارضًا ، ولا بد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان أن تزاح كل العقبات من طريقه » نيتشه ، ص46 ، وانظر ، ص133 ، ويقول « فلم يكن نقد نيتشه لفكرة الألوهية لا يدع مجالاً للشك في أنه تخلى تمامًا عن هذه الفكرة » ص133
(16) إشكاليات القراءة وآليات التأويل ، ص44 ، 45
(17) إشكاليات القراءة ، ص49
(18) النص ، السلطة الحقيقة 41 قبل ذلك قليلاً قال « إن خطاب التنوير فشل في إحداث التنوير » وذلك أنه لم يحدث وعي علمي - على نمط وعي أبو زيد - بالتراث !!
( 19) حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية ، ص51
(20) نقد الخطاب الديني ، ص133
( * ) ومع ذلك زعم أنه مسلم يؤمن باليوم الآخر [ الأهرام ] 19/6/1995 ، و [ المصور ] 23/6/1995 انظر التفسير الماركسي للإسلام ، ص53
( 21) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص135
( 22 ) مفهوم النص ، ص2
(23 ) المرجع السابق ، ص52
( 24 ) المرجع السابق ، ص63
( 25 ) المرجع السابق ، ص67
( 26 ) المرجع السابق ، ص67
( 27)المرجع السابق ، ص67
( 28 ) المرجع السابق ، ص69
( 29 ) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص143 ، وانظر أيضًا التفكير في زمن التكفير ، ص153
-------------
من كتاب التفسير الماركسى للاسلام للدكتور محمد عمارة
يقول فى مقدمة الكتاب ص6(51/96)
بدايات متابعتى لفكر الدكتور نصر ، وتعرفى عليه .. كانت قبل سنوات من قضية ((ترقيته)) الى درجة استاذ ،والاعتراض عليها ، وما ثار حول ذلك من ((عراك)) ...
فلقد ذهبت ، ذات مساء ، لاداء ((واجب العزاء)) ، فى وفاة احد المعارف ، وكان يجلس بجوارى الصديق العزيز ، والقطب الماركسى المعروف الاستاذ (محمود امين العالم) .وفى اثناء تبادلنا لاطراف من الحديث ، تقدم منا شاب لا اعرفه ، فحيانا وصافح الاستاذ (العالم) ، ثم صافحنى ، وانصرف عائدا الى مكانه ... وعلق الاستاذ (العالم) - وهو يحدثنى - ويشير الى هذا الشاب - معرفا اياى به - فقال : ((الدكتور نصر ابو زيد .. احسن من يحلل النص )) ..
ولما كانت شهرة الاستاذ (العالم) ، كناقد ادبى ، تنافس - بل وتتفوق على - شهرته ((كمنظر للماركسية)) ، ولانى لم اتوقع ان يطلق احد على القران الكريم مصطلح ((النص)) ، لشيوع هذا المصطلح فى حقل الابداع الادبى والدراسات الادبية - النص المسرحى .. والنص الروائى .. والنص الشعرى الخ - ... فلقد حسبت ان الدكتور ((نصر ابو زيد)) واحد من النقاد الجدد - الذين لم اتابع اعمالهم النقدية - فى حقل الادب الاداب والفنون .. ولانى خبير قديم بالماركسية والماركسيين - لغة .. وفكرا .. وممارسة .. واساليب عمل .. وانماط علاقات - فلقد ادركت - من حديث الاستاذ (العالم) عن الدكتور نصر - انه معه فى الموقع الفكرى والاتجاه الايدولجى ..
ومنذ ذلك التاريخ ، بدات التفت الى دراسات الدكتور نصر ، والتى لاحظت انه يخص بها ، اساسا ، الدوريات الماركسية واليسارية - ((قضايا فكرية)) .. و((ادب ونقد)) .. و((اليسار)) .. و((الاهالى)) ، فى مصر ،و((الطريق)) فى بيروت .. الخ ..
لكننى لاحظت ، ايضا ، اهتماماته الاساسية بظاهرة المد الاسلامى المعاصر ، وليس بقضايا النقد والتحليل للنصوص الادبية .. ولم اتوقف كثيرا عند هذه الملاحظة ؛ فالماركسيون العرب المعاصرون ، الا قليلا منهم - وخاصة بعد سقوط مشروعهم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى - قد احترفوا حرفة التصدى للمد الاسلامى المعاصر ، واقاموا لذلك جبهة ، او بالاحرى دخلوا لذلك فى الجبهة التى ضمت اعدائهم التارخيين ، من الامبرياليين .. الى الليبراليين .. الى نظم العسكر .. وحكومات وجماعات التبعية والعجز والفساد !! ..
لكن الامر الذى اثار القلق فى نفسى ، وفجر لدى العديد من علامات الاستفهام ، قد حدث عندما رايت - فى معرض القاهرة الدولى للكتاب - مؤلف للدكتور ابو زيد : ( مفهوم النص : دراسة فى علوم القرآن ) !! عند ذلك ، تذكرت حديث صديقى الاستاذ (محمود العالم) فى ليلة العزاء .. اذن ، ((فالنص)) الذى تخصص ((الكادر)) الماركسى الواعد - الدكتور نصر - فى تحليله، هو القرآن الكريم !! ..
وكان مبعث القلق ، والداعى لعلامات الاستفهام ، ان الماركسيين المصرييين والتنظيمات الشيوعية المصرية - وبخاصة تلك التى كان لها وزن ووجود فى الشارع المصرى - قد التزمت تاريخيا بفضلية الابتعاد عن التعرض للعقائد الدينية ، او التحليل للماثور الدينى ، بمناهج المادية الجدلية والمادية التاريخية .. وحتى فى ((مدارس الكادر)) - داخل التنظيمات الشيوعية - لم يكن يدرس الالحاد للاعضاء .. كانت تدرس المادية الجدلية والمادية التاريخية ، وكانوا يسربون الفكر المادى ليحل محل العقائد الايمانية بطرق غير مباشرة ، ويمرون سريعا على العبارات المباشرة التى تنكر الالوهية وتنتقد الدين ، فى اعمال ماركس (1818 - 1883) ، وانجلز ( 1820 - 1895 ) ، ولينين ( 1870 - 1924 ) ، وستالين ( 1879 - 1953 ) ...
واذا سئلوا عنها - وخاصة من الاعضاء الذين لم يلحدوا بعد - قالوا : انها خاصة بالدين المسيحى ، واللاهوت الرجعى للنصرانية الاوربية ، الذى تحول الى مبرر للاستغلال الطبقى فى المجتمعات التى كتبت فيها هذه الاعمال الفكرية ! ..
لقد تسائلت ، وانا اقلب صفحات كتاب الدكتور نصر ابو زيد : ( مفهوم النص : دراسة فى علوم القرآن ) : هل تخلى الماركسيون المصريون عن هذا ((الذكاء)) التقليدى ، وعن هذا ((الحذر)) التاريخى ؟! .. وهل تجاوزوا الخطوط الحمراء ، التى رسموها هم لانفسهم ازاء الدراسات الدينية ، فلم يعودوا يكتفون بنقد الجماعات الاسلامية .. بل ولا حتى مناقشة ((الفكر)) الاسلامى .. وانما غدوا يخضعون ((المقدس الاسلامى)) - وفى مقدمته القرآن الكريم - للتحليل الماركسى ؟! ..
يُضاف أيضًا :
1- قام الدكتور كامل سعفان بالرد على كتب نصر أبوزيد في رسالته : ( هجمة علمانية جديدة ) .
2- كتب نصر أبوزيد مقالا في كتاب قضايا فكرية التي يُشرف عليها الماركسي محمود العالم ، ( الكتاب الثالث والرابع عشر ) يدافع فيه عن نفسه ، ويرد على من رد عليه ؛ مستخدمًا أسلوب المراوغة ؛ مدعيًا أنه لايقصد بالخطاب الديني الذي ينقده : الكتاب والسنة ؛ إنما يقصد أقوال العلماء والشارحين لهما !!
قلة فى العلم(51/97)
الدكتور نصر ابو زيد ، يدرس ((الاسلاميات)) بقسم اللغة العربية - جامعة القاهرة .. ومشروعه الفكرى متخصص فى الاسلاميات .. فدراسته للماجستير كانت عن المعتزلة - الاتجاه العقلى فى التفسير - .. ودراسته للدكتوراه كانت فى التصوف - فلسفة التاويل عند ابن عربى - .. واكبر كتبه حجما هو فى علوم القرآن - مفهوم النص: دراسة فى علوم القرآن - .. وله كتاب عن الشافعى ، احد ائمة الفقه واصوله .. وحتى القضايا البلاغية - التى هى تخصصه الدقيق - فان مادة دراسته فيها وتدريسه لها ، هى الاسلاميات .. وهو ، ككثير من الذين يستلهمون الماركسية والمنهج المادى فى النظر والتفسير والتحليل ، وكمعظم الشيوعيين العرب - بعد سقوط المشروعين السياسى والاجتماعى للماركسية - قد كرسوا جهدهم للكتابة فى الاسلاميات او عن الاسلاميين ، كجزء من الجبهة العريضة التى تتصدى لنمو الظاهرة الاسلامية المعاصرة ..
وهذا الموقع الفكرى للدكتور نصر ، يججعل قارئه ((يدهش)) ، واحيانا ((يصدم)) ، لقلة علمه بامور لا يصح ان تغيب عن استاذ متخصص فى الاسلاميات ، وتيارات الفكر الاسلامى وتاريخ الاسلام .. ويزيد من مخاطر قلة العلم هذه - فى حال الدكتور نصر - الكثير من ((النرجسية ، والغرور)) ، وايضا ((الاجتراء)) الذى يوظف قلة العلم فى قلب الحقائق وتضليل القراء ! ..
ولما كان الانسان منا - وكل انسان - يكتشف اتساع مساحات جهله بقدر ما تزداد حصيلته من العلم ! .. فيدرك ابعاد قول العليم الخبير (وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً) - (وفوق كل ذى علم عليم) .. فان هذا الانسان - او هكذا يجب ان يكون - الذى يعرف تبعات الكلمة التى يخطها القلم - الذى يُضِلّ كثيرا ويهدى كثيرا!! - لا يجادل بغير علم .. ففارق بين الخطا الذى يرد عرضا ، لنقص فى المعرفة وقلة العلم ، وبين مواطن الجدل والتدافع الفكرى ، وهى التى يجب ان يتثبت فيها المرء عندما يسوق ((المعلومات)) ، لانها براهينه وبياناته فى معارك الجدل وميادين التدافع التى تؤدى الى اخطر النتائج ، فضلا عن ان العيون والعقول تكون مفتوحة تدقق وتفحص هذه ((المعلومات)) ..
لكن المدهش ان الدكتور نصر يفاجئ قارئه بقلة فى العلم وكثرة الاجتراء ، عندما يسوق ((الاخطاء)) فى معرض البرهنة والحجاج على ارائه التى يصارع بها خصوم هذه الاراء ! ..
واذا كان استقصاء هذه السمة من مؤلفات وكتابات الدكتور نصر ، هو مما يخرج هذه الصفحات عن افاقها .. فاننا نكتفى بنماذج لقلة العلم ، لا تليق باستاذ متخصص فى دراسة وتدريس الاسلاميات ..
1- فى كتابه (مفهوم النص : دراسة فى علوم القرآن) وهو الذى ملأه حتى تضخم ، بنصوص العلماء الذين كتبوا فى اسباب النزول ، يدهش المرء لقلة العلم والاجتراء على الحقيقة ، وتوظيف ذلك فى ((المغالبة الفكرية)) ، وذلك عندما يقرا قول الدكتور نصر : (( ان الحقائق الامبريقية المعطاة عن النص - اى القرآن - تؤكد انه نزل منجما على بضع وعشرين سنة ، وتؤكد ايضا ان كل اية او مجموعة من الايات نزلت عند سبب خاص استوجب انزالها ، وان الايات التى نزلت ابتداء - اى دون علة خارجية - قليلة جدا .. )) (1)مفهوم النص ص 109
فهو يوهم قارئه انه يصدر عن ((حقائق امبريقية)) - مستخلصة من دراسات واقعية وميدانية وتطبيقية - وان هذه الحقائق الامبريقية ((تؤكد)) ان كل ايات القران - الا القليل جدا - وقد روى لها سبب نزول ..
فاذا رجعنا الى تراث المسلمين فى احاديث وروايات وماثورات اسباب النزول ، فسنجد ان الذين دققوا فى هذه الروايات ، قد ثبت لديهم ان ما روى له اسباب نزول من ايات القران - البالغ عددها 6236 اية - لا يعدو 472 اية - اى 7.5% من ايات القرآن الكريم -!! .. ومعنى ذلك ان الحقائق الامبريقية تؤكد على ان اكثر من 90% من ايات القرآن قد نزلت ابتداء ودون اسباب نزول (2) .. فمن اين جاء الدكتور نصر بهذه الحقائق الامبريقية التى جعلته يقلب الحقيقة كل هذا الانقلاب ؟! ..
2- يعرف كل قارئ لاى كتاب فى السيرة النبوية ، وغزوات رسول ا صلى الله عليه وسلم انه فى غزوة بدر قد انزل جيشه فى موقع ، فساله الحباب بن منذر :
- يا رسول الله ، ارايت هذا المنزل ، امنزل انزلكه الله فليس لنا ان نتقدمه او نتاخر عنه ؟ ام هو الراى والحرب والمكيدة ؟
- فقال عليه السلام : ((بل هو الراى والحرب والمكيدة))
- فقال الحباب : يا رسول الله ، ان هذا ليس لك بمنزل ، فانهض بنا حتى ناتى ادنى ماء من القوم فننزله ، ونغور ما وراءه من القلب - الابار - ثم نبنى عليها حوضا ، فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون.
فاستحسن رسول ا صلى الله عليه وسلم ذلك من راى الحباب بن المنذر وفعله (3) .
فالحوار والمشورة كانا حول مكانين عند ماء بدر - بين مكة والمدينة - .. ولم يكونا مفاضلة بين هذا المكان عند ماء بدر وبين حفر الخندق !! .. ناهيك عن ان بدرا موقعة حدثت سنة 2هـ ، والخندق موقعة اخرى حدثت سنة 3هـ .(51/98)
لكن علم الدكتور نصر ابو زيد يخلط مالا يختلط على عامة قراء السيرة والمغازى ، عندما يتحدث عن ((منزل الحرب الذى اقترحه الرسول بدلا من حفر الخندق)) (4) !!
3- والدكتور نصر يخلط بين ((الصحابة)) ، وهم كل من ثبتت صحبته لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، وبين ((ملأ قريش)) ، وهم رؤساء قريش واشرافها الذين لم يدخلوا الاسلام فى معظمهم الا بعد فتح مكة .. فيتحدث عن ((سياسة الخليفة عمر ابن الخطاب ، الذى حظر على الصحابة مغادرة المدينة او الاقامة فى الامصار خوفا عليهم ان تفتنهم الدنيا او تشغلهم عن امور الدين)) (5)
ولو رجع الدكتور نصر الى الطبرى - وهو من مصادره - او الى شرح نهج البلاغة - الذى ينقل عن الطبرى - لوجد الحديث عن ان ((عمر قد حجر على اعلام قريش من المهاجرين الخروج فى البلدان الا باذن واجل))(6)
فالصحابة على عهد عمر ، كانت تتكون منهم الجيوش التى فتحت البلاد والامصار .. بل انهم هم الذين مصروا الامصار الاسلامية، على عهد عمر واقاموا فيها .. والحجر لم يكن على الصحابة ، وانما كان على قلة من ملأ قريش - سادتها واشرافها ورؤسائها - اولئك الذين خاف عليهم عمر ان تفتنهم الدنيا - .. وفى تعميم ذلك على الصحابة تعميم للغمز واللمز على هذا الجيل المؤسس للاسلام ودولته وحضارته . فضلا عن الخطا العلمى وقلة التدقيق ! ..
4- وتصل اخطاء الدكتور نصر النابعة من قلة العلم الى حد قلب الحقائق من النقيض الى النقيض . فمعروف ان الدولة العباسية قامت كانقلاب على التيار العلوى فى الثورة ضد الامويين .. فبعد ان كان الثائرون على بنى امية - بمن فيهم العباسيون - قد بايعوا لامام علوى ، هو النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحن (93 - 145هـ ، 712 - 762م) بالخلافة فى مكة ، انقلب الفرع العباسىعلى الفرع العلوى ، واغتال ابو مسلم الخرسانى (137هـ ، 754م) الذى كان يلقب فى اثناء تلك الثورة بـ ((امين آل محمد)) - ممثل الفرع العلوى ابا سلمة حفص ابن سليمان الهمدانى الخلال (132هـ ، 750م) ، والذى كان يلقب بـ (وزير آل محمد) ..
واذا كان ابو جعفر المنصور (95-158هـ ، 714-775م) هو المؤسس الحقيقى للدولة العباسية ، فلقد اسسها فى صراع مسلح ضد ثورات العلويين التى قادها النفس الزكية فى المدينة (145هـ ، 762م) ، واخوه ابراهيم بن الحسن (97 - 145هـ ، 716 - 763م) ، فى البصرة وما حولها .. فى ذات التاريخ (7) .. وهى الثورات التى استمر العلويون يقودونها - بقيادة زيدية - ضد بنى عباس (8)
يقلب الدكتور نصر هذه الحقائق راسا على عقب ، وذلك عندما يقول ((ومن المعروف - تامل الثقة والجراءة- ، ان الدولة العباسية تقاربت مع العلويين فى مرحلة نشاتها وتثبيت اركانها وذلك على اساس الانتساب المشترك الى (البيت النبوى) .. )) (9) !
----------------------------------------
(1) مفهوم النص ص 109
(2) انظر تحقيق السيوطى : اسباب النزول ، طبعة القاهرة سنة 1382هـ . والواحدى : اسباب النزول ، تحقيق السيد احمد صقر . طبعة القاهرة سنة 1969 م . وانظر الجدول الذى احصينا فيه الايات التى لها سبب نزول بكتابنا (سقوط الغلو العلمانى) ص 256 -261 طبعة القاهرة سنة 1995 م
(3) ابن عبد البر : الدرر فى اختصار المغازى والسير ص 113 تحقيق د. شوقى ضيف . طبعة القاهرة سنة 1966
(4) التفكير فى زمن التكفير ص 143 طبعة القارة سنة 1995
(5) الاتجاه العقلى فى التفسير ص 12 طبعة بيروت سنة 1993
(6) ابن ابى حديد : شرح نهج البلاغة جـ 11 ص 12، 13 طبعة الحلبى القاهرة
(7) تاريخ الطبرى جـ 7 احداث سنة 145هـ . طبعة دار المعارف القاهرة
(8) د. محمد عمارة : تيارات الفكر الاسلامى ص 116 ، 117 طبعة القاهرة ، سنة 1991
(9) التفكير فى زمن التكفير ص 172
==============(51/99)
(51/100)
المجرم ... علاء حامد .. ! ( قصته وقضيته )
للشيخ سليمان الخراشى
المصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
( بدأت قصة محاكمة علاء حامد على روايته ((مسافة في عقل رجل.. محاكمة الإله)) في 3 مارس، 1990م عندما كتب الأستاذ أحمد بهجت في ركنه ((صندوق الدنيا)) بجريدة الأهرام المصرية مقالاً تحت عنوان ((سلمان رشدي آخر))قال فيه: " وها هو سلمان رشدي آخر يظهر في مصر ، مؤلف روائي يزعم أن ما كتبه قصة امتزج فيها فيض الخيال بنبض الفكر ، اسم الرواية ((مسافة في عقل رجل)) أو ((محاكمة الإله)) واسم المؤلف ((علاء حامد)) وليس هناك اسم لدار النشر أو المطبعة.
وفي الرواية إلحاد وتطاول على الذات الإلهية وسخرية من الأنبياء والرسل واستهزاء بالجنة و النار وتكذيب صريح للكتب المنزلة وهجوم عليها.
والكتاب يبدأ برحلة مؤلفه إلى الجنة حيث يكتشف أنها جنة اللذًّة الحسية ، وهو يقابل آدم فيسخر منه ومن خطيئته ، ويقابل موسى ويأخذ عصاه ويضرب بها الجدول وهو يقول ((جلا جلا جلا)) ((كالحواة)) فلا الماء ينشق ولا العصا تلد حية ولا ثعبانا ولا حتى سحلية ، وهو يقابل نوح الذي جلس أمام حوض من الماء وقد صنع سفينة من الورق وراح يلعب بها في الماء ! وهو يلخص هذيانه وهراءه في نهاية الكتاب بقوله: " إن الطقوس الدينية تبدأ من الوقوف على حائط لتنتهي بالدوران حول مبنى وحتى لحظتنا هذه لم يتأكد للبشرية أن الله استجاب لدعوة إنسان وأرسل إلى جائع مائدة طعام أو أرسل إلى معدمٍ مليون جنيه ذهباً أو ورقاً ولا حتى مليون جنيه صفيحاً... لم يتأكد للبشرية على مدى ملايين السنين ما قيل عن معجزات الأنبياء والرسل وأعاجيب السحرة وخوارق العفاريت ، ولم يحدث في عصور النهضة حدث واحد يؤكد ما سبق أن توارثناه من عقائد بالية وخرافات مهلهلة ، لماذا توقف فجأة بعث الأنبياء والرسل ، لماذا لم تتكرر الخوارق ليرسل الله خروفاً مشوياً كما أرسل لإبراهيم ؟ لماذا توقفت الذات العلية عن إيفاد ملائكتها وبعث الأنبياء وقد أصبح الكفر سمة العصر ؟ فالكثرة الغالبة لا تدين الآن إلا بالعلم أما القلة القليلة التي تؤمن بالإيمان فهي في الحضيض وفي الوحل ، لماذا لا يرسل الله إليهم رسله ؟ ولسبب بسيط جداً لأن الله لم يُرسل في وقت من الأوقات رسلاً ولن يفعل فالرسل من صنع الناس ، والإنسان الذي يؤمن بالغيبيات هو إنسان مريض ، على المجتمع أن يقيم له مصحة نفسية يعالج بها" !!
هذا بعض ما يضُمُّه الكتاب من هذيان وتطاول على المقدسات ولا علاقة للكتاب بالأدب أو الفن ، إنما هو جريمة نضعها تحت نظر المجتمع و النيابة العامة ".
====================
و في 7 مارس، 1990م أرسل المستشار رفعت عبد المنعم إبراهيم رئيس هيئة النيابة الإدارية خطاباً إلى أ. أحمد بهجت نشره في بابه ((صندوق الدنيا)) يقول الخطاب: الأخ الفاضل العزيز الأستاذ أحمد بهجت ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ، فقد اطلعنا على ما ورد ببابكم اليومي ((صندوق الدنيا )) في جريدة الأهرام يوم السبت 3/3/1990م تحت عنوان((سلمان رشدي آخر)) ونود الإحاطة أنه بمناسبة التحقيق الذي أجرته النيابة الإدارية مع علاء حامد المفتش بالإدارة العامة للجان الطعن بمصلحة الضرائب في إحدى القضايا أثيرت واقعة تأليفه كتاباً بعنوان ((مسافة في عقل رجل)) تضمن مساساً شديداً بالمعتقدات الأساسية للمجتمع وعلى وجه الخصوص تلك المتصلة بذات الله سبحانه و تعالى وبالأديان السماوية و بالرسل و الأنبياء و البعث و اليوم الآخر مما يعد خرجاً على النظام العام للدولة و تحريضاً على الإلحاد و الانحلال ، الأمر الذي يشكل ذنباً تأديبياً قوامه الإخلال الخطير بواجبات الوظيفة و الخروج على مقتضياتها و ينطوي في ذات الوقت على جريمة عامة. ورغم ذلك فإن النيابة الإدارية لم تشأ أن تستقل بتقدير مدى خطورة ما تضمنه ذلك الكتاب فقامت في 31/10/1989م بالكتابة إلى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر للتنبيه بفحص الكتاب المذكور للوقوف على حكم الدين في ما ورد به و اتخاذ ما يلزم من إجراءات في شأن النُّسخ المتداولة منه بالأسواق على ضوء ما ينتهي إليه الفحص و إرجاء البَتِّ في مسؤولية مؤلف الكتاب إلى ما بعد ورود تقرير شيخ الأزهر الذي لم يرد بعد. رجاء التفضل بالإحاطة و تقبلوا و افر التحية و خالص التقدير. رئيس هيئة النيابة الإدارية مستشار رفعت عبد المنعم إبراهيم . وقد علق أ. أحمد بهجت على الخطاب قائلاً:"هذا هو الخطاب الذي وصل إليَّ من المستشار رفعت عبد المنعم إبراهيم ونحن نرجو من شيخ الأزهر أن يسارع ببيان موقف الأزهر من كتاب ينطوي على خروج على النظام العام للدولة وينطوي على خروج على الآداب العامة و ينطوي على دعوة للإلحاد و الانحلال ، وهو كتاب يُتادول في الأسواق".
====================(51/101)
وفي 14/3/1990م نشرت جريدة النور تحت عنوان ((سلمان رشدي المصري أمام المحكمة التأديبية... لجنة من علماء الأزهر لدراسة الكتاب)) تقول:" أحالت هيئة النيابة الإدارية برئاسة المستشار رفعت عبد المنعم إبراهيم ((علاء حامد)) مؤلف كتاب ((مسافة في عقل رجل)) إلى المحكمة التأديبية العليا ؛ وذلك لأن الكتاب تضمن مساساً شديداً بالأديان و المعتقدات الأساسية للمجتمع و به قدح في الذات الإلهية و الرسل و الأنبياء مما يعد خرجاً على النظام للدولة وتحريضاً على الإلحاد و الانحلال ، و إنه أسوأ من كتاب ((آيات شيطانية)) الذي أصدره الكاتب المارق سلمان رشدي. ومن ناحية أخرى صرح فضيلة الإمام الأكبر جاد الحق بأنه أصدر قراراً بتشكيل لجنة عليا من عدد من علماء مجمع البحوث الإسلامية لدارسة ما ورد بالكتاب ، وأضاف أن الأزهر سيتخذ إجراءً سريعاً و ذلك عقب انتهاء اللجنة من درا ستة وإعلان رأيها ".
وفي 21مارس 1990م نشرت جريدة ((الأخبار)) تحت عنوان: ((الأزهر يطالب بمعاقبة المؤلف المصري للآيات الشيطانية الجديدة)) تقول: " أكد مجمع البحوث الإسلامية على أن دستور مصر كفل حرية العقيدة و الفكر للشخص في ذاته بشرط ألا يتعدى هذا الفكر فيضر بالهيئة الاجتماعية أو بالأساس الاجتماعي للوطن و أشار إلى أن القانون لا يسمح بنشر الفكر إذا تضمن ما يهدم نظاماً من النظم الأساسية للمجتمع أو كان يزدري أحد الأديان السماوية أو يسئ إليها أو يضر بالوحدة الوطنية أو بالسلام الاجتماعي. جاء هذا في الرسالة التي أرسلها مجمع البحوث الإسلامية إلى النيابة الإدارية رداً على كتاب ((آيات شيطانية المصرية)) و الذي ألفه شخص يدعى علاء حامد و المحبوس حالياً على ذمة التحقيق الذي تجريه معه النيابة العامة حول هذا الكتاب ، و الذي صدر أمر بمصادرته. وأشار مجمع البحوث في رده على هذا الكتاب إلى أنه يعد ترويجاً و تحبيذاًً بالكتابة لآراء متطرفة و هدامة بقصد إثارة الفتنة و تحقير و ازدراء الأديان السماوية و أنبيائها و خاصةً دين الإسلام وكذلك الطوائف المنتمية لهذا الدين ولغيره من الأديان، كما دعا إلى ما يؤدي للإضرار بالوحدة الوطنية. وأضاف أن هذا الكتاب يمثل اعتداء من مؤلفه على الأصول الدينية للإسلام واتجه إليها بالازدراء واعتدى على القرآن وادعى أنه من صنع البشر ،كما تهكم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلى عدد من الأنبياء وتهكم بالرموز الإسلامية من علماء ، و شعائر ، وعقائد: وطالب الأزهر بمعاقبة مؤلف الكتاب طبقاً لأحكام قانون العقوبات المصري و الذي يحرم مثل هذا التصرف. وكانت النيابة قد صادرت أمس الأول 300نسخة من الكتاب بخلاف 400 نسخة معدة لتهريبها للمحافظات.
====================
وفي 31مارس 1990م نشرت جريدة ((الجمهورية)) تحقيقاً صحفياً كاملاً حول الكتاب و مؤلفه ، قالت في هذا التحقيق:" أثار صدور كتاب ((مسافة في عقل رجل)) الذي ألفه علاء حامد مدير تفتيش لجان الطعون مصلحة الضرائب عدة تساؤلات بعد قرار النيابة العامة بحبسه و قرار النيابة الإدارية بمحاكمته تأديبياً. الكتاب تهكم على الأديان السماوية و على الرسل و الأنبياء ، أنكر الأديان و العقائد الدينية بصفة خاصة ، ذكر المؤلف أنه مسلم بالميراث و لو ولد من صلب ملحد لأصبح ملحداً. وجاء بالكتاب: ما جدوى الأديان وقد ارتفعت هامات شعوب ملحدة إلى قمة الحضارة و انقلب الحال فأصبح الدين سبة في تواريخ الشعوب ، وإن جميع الرسالات ليست إلا من صنع البشر وإن أصحابها تداولوها بدعوى أنها إلهية وعلى هذا فتصبح صلة الرسل بالله صلةً افتراضية لا تدعمها حقيقًة ولا يسندها برهان. لقد عجزت الأديان عن تفسير علمي مقنع و أذابت العقل الإنساني في محلول حمضي مركز من الخرافات .كما أنكر المؤلف الرسل و الأنبياء و سخر منهم وبهم و تساءل ما هي هويتهم؟ ومن هم؟ أنكر أيضاً البعث و الحياة الأخرى وقال: إن الإله هو الناس و إن المعجزات خداع للبشر.وبهذا الكتاب أصبح مؤلفه مرتداً عن دين الإسلام ، ولكن هل يُطبق عليه ما يوجب على المرتد؟ وما هو العقاب الذي يوجبه الشرع و المجتمع؟ " . ص 61-65
تقرير الأزهر عن الكتاب :
قال التقرير: " إن الكتاب ينكر الأديان بصفة عامة ثم ينكر العقائد الدينية وينكر الإله ويكذب بالرسل ويزدريهم وينكر الكتب السماوية ويكذب بالإيمان بالقدر وبالعبث و الحساب و بالجنة و النار..
وبالجملة فهو ينكر العقائد الدينية ويزدري ورموزها وشخصياتها ويسخر منها ، ويدعو إلى قيام الهيئة الاجتماعية على نظام مادي بحت لا مكانة فيه للروحانيات ؛ أي أنه يدعو إلى هدم الأساس الاجتماعي لهذا الوطن وإلى تغييره وإذا قرأنا الكتاب وجدنا به ما يلي ((أنا... مسلم بالميراث.. لو ولدت من صلب ملحد لأصبحت مثله.. فلا اختيار لمسلم في دينه)) صدر المقدمة
((ثم لماذا يغير الإنسان عقيدته وقد فقد اهتمامه فالدين كمنهاج في الحياة))
((هذا ما حدا بكثير من العقلانيين إلى التساؤل عن جدوى الأديان))(51/102)
((ما جدوى الأديان ؟ وقد شدت الشرق إلى أحضان التخلف وقد ارتفعت هامة شعوب لا تؤمن بالأديان لقمة الحضارة ))
(( و انقلب الحال فأصبح الدين سبة في تاريخ الشعوب))
وفي سخريته بالعلماء - بصفتهم رموزاً للعلم الديني - قال: ((وبالنسبة لأساتذتنا المتعلمين إخوان شمهورش أصبح الدين في حد ذاته هدفاً يجنون من ورائه ثمرات المال والشهرة و السلطة ومتع الحياة ما ظهر منها وما بطن )) ومن عباراته التي يبث بها الشك في الدين قوله:
((أم أن تلك الرسالات ليست سوى صيغ بشرية آمن بها أصحابها ثم تداولوها بدعوى أنها إلهية ؟ و على هذا فتصبح صلة الرسل بالله صلة افتراضية لا تدعمها حقيقة ولا يسندها برهان)) وفي إنكاره وتعريضه وسخريته بالمسيحية والإسلام قال: ((عقيدة ترتبط بفكرة الخلاص والزهد والتثليث والأخرى ترتبط بفكرة الجنة التي شغف الناس بالاستشهاد من أهلها و النار التي وقودها الناس و الحجارة و إذا كان منطقياً ترغيب الأعرابي المتعطش للمال والجنس والطعام بالجنة التي تجري من حوله وفوقها وتحتها الأنهار بقطوفها الدانية وبنسائها الحور العين وخمرها المعتقة .. لم تعد تلك الأمور تهز وجدان الإنسان العصري... لم يعد هذا مقنعاً في عصر أصبح العقل فيه سيد الموقف ؛ ولذلك لم يبق أمام إقناع الإنسان سوى طريق واحد وعد في جنة أرضية واقعية يقطف ثمارها وهو حيٌ يرزق ، وأمة سلام يجد فيها متعه الحسية و العقلية والعاطفية.. لم يعد كافياً أن تكون حجة التحريم العبارة المأثورة ((هذه مشيئة الله)) لأنه حتى ولو كانت كذلك فلابد لها من تبرير مقنع و إلا وضعت كأي اجتهاد شخصي - ينقصه الدليل - في جعبة الخرافات))
وفي دعوته إلى ترك الفضائل التي دعت إليها الأديان قال: ((لقد باتت أخلاقيات العصر عامة و الشرق خاصة في حاجةٍ إلى مراجعة شاملة.. إلى تقييم جديد يضع الأمور في نصابها نقوم بموجب هذا التقييم إلى إعادة تبويب العلاقات الإنسانية... الحلال والحرام ؛ تبويباً يتأسس على أسس عصرية.. لا على ما توارثناه من تركة مثقلة بالخرافات و الخزعبلات )). وفي إنكاره الإله: ((نحن الحقيقة وما عدانا وهم.. نحن الحقيقة والحقيقة نحن.. وطالما أن الله حقيقة فلسنا سوى الله)). وفي زعمه أن الأديان خرافات قال: ((لقد عجزت الأديان عن تفسير علمي مقنع.. وأذابت العقل الإنساني في محلول حمضي مركز من الخرافات)) وفي إنكاره للرسل وسخريته بهم قال: (( أوليس من حقنا أن نسأل ونحن نصعد للقمر ونحن نصهر الخرافات لنقذف بها في بالوعات التاريخ القذرة: أليس من حقنا أن نسأل عن الرسل.. ما هم؟ وما هويتهم؟)) وفي دعوته للمذهب المادي العلماني قال: ((الإنسان الآن يريد بعثاً ، يضع الديانات في مكانها الصحيح:علاقة بين الإنسان وربه.. و المعاملات بين أفراد المجتمع)) .
====================(51/103)
وبعد هذه المقدمة التي أشار التقرير إلى بعض فقراتها وآرائها الخطيرة ينتقل إلى الموضوع الأصلي للكتاب وهو ((محاكمة الإله)) الذي جعله المؤلف في تمثيلية متخيلة وجعل نفسه قطب هذه التمثيلية فصوَّر نفسه إلهاً وأخذ يتصرف كما يتصرف الإله بين الخلق لينتهي من هذا كله إلى تقرير أن جميع المعتقدات في الإله وفي الرسل و الثواب والعقاب الدنيوي و الأخروي هي وهم من تصورات الناس على شبه ما تصور هو في نفسه أنه إله. ثم ختم التمثيلية التي صورها في صورة ((محاكمة إله)) بفصول خصصها للنقاش المباشر للعقائد الإسلامية و التنديد بها و السخرية منها ثم لعرض آرائه الشيوعية المادية. ويعرض التقرير شيئاً مما جاء في ثنايا هذه التمثيلية من خطايا المؤلف التي تزدري بالعقائد الدينة الإسلامية وتنكرها ثم تسخر من الرموز و المقدسات الإسلامية. فمن أمثلة سخريته بالجنة قال: (( أي جنَّة هذه التي يقطنها مجموعة من المرضى ؟)) وفي صفحة 32 يبث الشك في معتقد الجنة ويسخر منها ويعرض الحياة فيها صورة جنسية ساقطة ثم يقول (( إنها (أي الجنة) مستنقع للرذيلة وجنة المسكرات )). وفي صفحة 29 يقول عن المعجزات إنها خداع بصر وفي صفحة 31 ينكر البعث والحياة الأخرى. وفي صفحة 34، 35 يصف العلماء الإسلاميين بأنهم أصحاب خمر وشهوة وفي صفحة 36 يقول: ((آفة المجتمعات هي تلك الحثالة التي جعلت من الدين ستاراً تخفي خلفه كل الموبقات)) وفي صفحة 42 يقرِّرأنه إله وأن الإله هو الناس و الناس هم الإله ، والمعنى أنه لا إله إلا القدرة البشرية. وفي صفحة 52 يقول: ((كثيراً ما ساورني الشك في هوية هؤلاء الأنبياء لكني لم أستطع أن أعلن شكوكي خشية اللعنة)) وهو يسخر بآدم وبالأنبياء صفحة 56 ثم ينتقل فجأةً إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويتهكم به وبقول: ((الأمي الذي يعجز عن الكتابة و القراءة الأمي الذي لا يستطيع أن يميِّز بين الألف وكوز الذرة)) وفي صفحة 61يتهكم بموسى - عليه السلام - وبمعجزة العصى و ينكرها في حين أنها مذكورة في القرآن الكريم ، ويستمر في التنديد بموسى و معجزاته ويجري على لسانه تحقير للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه ((الرجل الذي يراد إظهاره في صورة الكمال بتضخيم أخطاء من سبقوه)) ويجري على لسان موسى ((كذلك أن اليهود في طريق الإجهاز على المسلمين أصحاب الأخلاق المنحطة)) ويقول: (( الملائكة خرافات دفنت من ثلاثة آلاف عام)) و الحضارة لا صلة بينها وبين الاعتقاد بوجود الإله ووجود الجنة والنار ، وإنه لا ارتباط بين الحضارة وهذه المعتقدات. ثم يقول: ((الإنسان ليس سوى نظرية مادية بحته جاء بالصدفة و سيموت بالصدفة و بموته يصبح مجرد ذكرى في أروقة الحياة ، فلا إله ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا جنُّ أزرق ولا أحمر ولا ملائكة بيضاء و الرسل ليسو سوى مجموعة من الدَّجَّالين والأدعياء...)) !!
ويقدم تقرير الأزهر الذي جاء في عشرين ورقة ((حجم الفلوسكاب)) نماذج متعددة للسقطات التي وقع فيها المؤلف مصحوبة بأرقام الصفحات التي وردت فيها. وينتهي إلى أن أمر هذا الكتاب لا يحتاج إلى تفنيد أو رد أو تعليق ؛ ذلك أنه هاجم العقائد و أنكر الأديان و الرسل والكتب السماوية و أن المؤلف قد قصد بكتابه هذا وما يحمله من آراء متطرفة هدَّامة إثارة الفتنة و تحقير و ازدراء الأديان السماوية و أنبياءها وبخاصة دين الإسلام و كذلك الطوائف المنتمية لهذا الدين ولغيره من الأديان ثم دعا إلى ما يؤدي إلا الإضرار بالوحدة الوطنية و السلام الاجتماعي ، وإن المؤلف قد اعتدى على الأصول الدينية للإسلام فاتجه إليها بالنقض و الازدراء و اعتدى على القرآن الكريم وادَّعى أنه من صنع البشر ، وتناول بالازدراء و التهكم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم و كذلك تهكم بالرموز الإسلامية من علماء و شعائر و عقائد فضلاً عن تهديده للسلام و الأمن الاجتماعي. و بهذا فإن المؤلف يقع تحت طائلة القانون و بخاصة أحكام المادة 161 من قانون العقوبات التي تتصدى لمثل هذا العمل حفاظاً على الأديان و على سلامة وأمن المجتمع.
وقد طالب التقرير في نهايته بمساءلة هذا الرجل طبقاً لهذه المادة و غيرها من المواد السابق ذكرها وعلى أساس من أحكام القانون ) . ص 90-94
( المرجع : " محاكمة سلمان رشدي المصري " للأستاذ أحمد أبوزيد . والنقولات موثقة بأرقام الصفحات أعلى ) .
===============(51/104)
(51/105)
عبدالله ثابت : قرد والقرود قليل !
بقلم الاخ فتى الادغال
حدّثتنا المِس الغيداءُ " اليزابيث روبين " وهي أصدقُ عندي وأوثقُ من جميعِ العقلانيينَ ، كما يعلّموننا هم دائماً ويُزعجوننا بهِ ، ويُريدونَ منّا أن نتصوّرَ الأمريكيينَ ، أنّهم عالمٌ ملائكيٌّ من جنانِ الدّنيا فكراً وعلماً وأدباً وسياسةً ، كما صنعَ توماس مور في : " جزيرة الخيالِ " ، وكابييه في : " رحلة إلى إيكاري " ، وغيرَها ، حدّثتنا فنكأت جِراحاً ، وبثّتْ وجداً ، وأبكتْ أعُيناً .
وتمنّيتُ لو استطعتُ بفتوى من أحدِ العقلانيينَ أن أدعوَ على هذهِ الحيّةِ الرقطاءِ - كما زعمَ أحدُهم لاحقاً - لفعلتُ إذن ، إلا أنَّ العقلانيينَ يُحرّمونَ علينا أن ندعوَ على أمريكا وقادِتِها ومفكّريها ، وأنَّ ذلكَ يقودُ للإرهابِ ويدعو على العنفِ ، ويؤسّسُ لخطابٍ إقصائيٍّ ممقوتٍ مع الآخرِ ، فعلى الرحبِ والسعةِ ، وطوعاً لكم سأكفُّ عن الدعاءِ عليها ، حتّى لو فضحتْ أباطيلكُم وأخرجتْ فضائحكم ، ومهما حاولتُم تكذبيها أو تزييفَ ما قالتُهُ ونشرتهُ .
فورَ قراءتي للكلامِ الذي بثّتهُ السنيورةُ الأمّورةُ " اليزابيث روبين " في مجلةِ " النيوزويك " الأمريكيّةِ ، عن المُفكّرِ المهّوي : عبدِ اللهِ ثابتٍ ، والذي تمنّى فيهِ أن يكونَ قرداً خليّاً ، يُمارسُ عادةَ الاستمناءِ وجلدِ عُميرةَ قدّامَ اللهِ وخلقهِ ، قرّرتُ أن أتوجّهَ إلى محلِ بيعِ الخضارِ والفاكهةِ ، لأشتريَ كيلو موز فاخر من واردِ الشربتلي ، وأهديهُ إيّاهُ بهذهِ المناسبةِ السعيدةِ ، وأوصيَ أحدَ محلاّتِ الطباعةِ أن يُجهزَ لي ورقةً كبيرةً فيها دعاءٌ لهُ وتعويذةٌ ، أن الله يجعل لهُ بكل خطوةِ موزة ، وأن يكفيهُ شرَّ العينِ والحسدِ .
وإن كنتُ أستبعدُ أن يقبلَ القردةُ بهِ عضواً في عالمِهم ، فهم ما زالوا على فِطرتهم السويّةِ ، وسلوكِهم الطبيعيِّ المُلائمِ لخلِقتِهم ، ولا أدلَّ على ذلكَ من رجمِهم للقردِ الذي زنى ، والحديثُ والخبرُ في صحيحِ البخاريِّ ، وهو أحدُ الأحاديثِ التي تصفرُّ وتزرقُّ عندَها وجوهُ العقلانيينَ ، وينفروا منها نفوراً شديداً ، ولا حرجَ عليهم في ذلكَ ، فالحديثُ - كما قالَ أحدُ الحفّاظِ الكِبارِ - لا يُحبّهُ إلا فحولُ الرّجالِ ، ويكرههُ وينفرُ عنهُ مخنّثوهم .
ونهايتها مع هذه العيّناتِ الوقحةِ ! .
ما لقيت - يا عبدَ اللهِ ثابت - إلا قرد تتمنّى أن تكونهُ ! ، يا أخي خل عندك طموح وأمل في الحياةِ ، وخل إيمانك ببهيميّتكَ أقوى قليلاً ، وتمنّى أن تكونَ مثلاً زرافةً - على الأقل رزّة شوي - ، فيلاً - راكد وثقيل ويملا العين - ، بقرةَ وحشٍ - عيونها تهبّل وخشتها تاخذ العقل - ، سيّدَ قشطةٍ - ينفع لمشاري الذايدي على فكرة - ، وإذا تضائلتِ الهمّةُ ونقصتِ العدّةُ فلا أقلَّ من أن تتمنّى أن تكونَ قطوةً تقفزُ وتجري من سطل زبالة لآخرَ - كما هو حالُك في كثرةِ تقلبّاتكَ الفكريّةِ حتى صِرتَ سلّةً تجمعُ أرذلَ الأفكارِ - ، أشرف لك من أن تصيرَ قرداً قذراً مُقرفاً ، تعافُ النفسُ منظرَ رؤيتهِ ، وعورتهُ باديةٌ لكلِّ من هبَّ ودبَّ .
قرد !! ، يا أخي وش هالمزاج والمود الغبي ! ، واللهِ إنّك ما تستحي .
يا ليت داروين درى عنّك ، كانَ انتحرَ مباشرةً من هولِ كلامكَ وصدمتهِ بهِ ، لأنّهُ كانَ يرى أنَّ الإنسانَ ترقّى عن عالمِ القردةِ ووصلَ إلى البشريّةِ ، وانتخبتهُ الطبيعةُ للبقاءِ لكونهِ الأصلحَ ، وإنت تبي تخرّب قاعدته وترجع به ملايين السنواتِ للوراءِ ، إلى عصورِ الطوطمِ والأحجارِ .
الحمدُ للهِ على النعمةِ ، لا وقرد يستمني بيدهِ ، ويُعاقرُ الرذيلة دونَ قيدٍ أو سترٍ ، يا ناس باللهِ عليكم وش هالتفكير الخُرافي ، اللي حتّى عبدةُ الشيطانِ ما فكروا يوصلون له ! ، ولا ويكتب أيضاً في جريدةٍ ، ومسوي نفسه شاعر ! ، يخرب بيت عدوّك وش تتغزّل فيه بشعرك إذا كنت أنتَ تريدُ الهبوطَ إلى بشاعةِ ووضاعةِ القردِ في الهيئةِ والخِلقةِ ؟ .
على فكرةٍ : القرودُ أنواعٌ كثيرةٌ ! ، ما حددتْ وش تبي منها : غوريلا ! شمبانزي ! ، وإن كنتُ أرى أنَّ حدّكَ منها نسناس ويخُب عليك ، أهو قردود صغيّر ، يؤدي الغرض ويفكّ أزمة الشعور البهيميِّ شوي .
سمِعنا عن رغبةِ ذكورٍ في التحوّلِ إلى عالمِ الأنثويّةِ ، وهذا مرضٌ معروفٌ ، وداءٌ يوجدُ- برغمِ بشاعتهِ - ما يُبرّرُ لهُ ، أو العكس ، أن تستفحلَ أنثى وترغبَ أن تصيرَ ذكراً ، أمّا أن ينحدرَ الإنسانُ من بشريّتهِ وفطرةِ اللهِ التي فطرهُ عليها ، ليُصبحَ قرداً يستمني بيدهِ ، فهذا أقسى درجاتِ العفنِ و الجنونِ التي عرفها البشرُ .
مُحاربةُ التديّنِ والفكرِ السلفيِّ عندَ هؤلاءِ المُرتزقةِ - كما هو ظاهرُ كلامِ بن ثابت - يبتدأ من عالمِ البهيميّةِ ، أن تتجرّدَ من نعمةِ اللهِ إيّاكَ أن جعلكَ بشراً سويّاً ، لتتحوّلَ إلى قردٍ ومسخٍ ، تتنقّلُ في الجبالِ وتقفزُ وتُهرّجُ ، وتُطلقُ العِنانَ للشهوةِ والنزوةِ ، ثمَّ تخرجُ على الأمّةِ في جبّةِ الناصحِ الأمينِ ، وأنتَ في نفسكَ أحقرُ من القردِ وأتفهُ من الضبعِ .(51/106)
ألا يوجدُ في العقلانيّةِ عُقلاءُ يكفّونَ عنّا عفنَ هذه الطائفةِ المهبولةِ ! ، واللهِ فشّلونا عند الأجانب ، يُصرّحونَ لهم بتصريحاتٍ غبيّةٍ وتوقعُنا في حرجٍ أمامَ العالمِ ، حينَ يعتقدونَ أنَّ هذه الفئةَ من الشبابِ الداجِّ يُمثلونَ حفنةً من التنويريينَ .
إذا كانَ هذا الساقطُ عبدُ اللهِ ثابت يتمنّى أن يكونَ قرداً ، فما هيَ أماني غيرهِ من رِفاقهِ ونُدمائهِ ، والقرودُ - دائماً - على أشكالِها تقعُ ؟ .
هذه هيَ النتيجةُ الحتميّةُ لكراهيِّةِ الكُتبِ الصفراءِ ، والفكرِ الأصيلِ الناصعِ ، أن تنتهيَ الشهامةُ والنبالةُ والشرفُ ، ويستعيضَ عنها صاحبُها بالتبعيّةِ والعمالةِ ، ثُمَّ يهبطَ من السموِّ الأخلاقيِّ والرّوحيِّ ، إلى النزوةِ البهيميّةِ والنّكسةِ النفسيّةِ .
حتّى أختصرَ المسافةَ أقولُ :
حُوربتِ القيَمَ والمثُلُ والدياناتُ في بلادِ الإسلامِ ، من قِبلِ الجيوشِ والجحافلِ ، وجثمَ الاستعمارُ على صدرِ الأمّةِ قروناً طويلةً ، وزرعَ عملائهُ وبثّ مفسديهِ ، ولم يقدرْ على أن يفعلَ شيئاً ، وهو يتملكُ الدّنيا بأسرِها ، ومعهُ رِجالٌ من المُستشرقينَ والمُستغربينَ أصحابُ علمٍ و دهاءٍ ومكرٍ وخُبثٍ ، فهل ستقوى حفنةٌ داجّةٌ ، مهزوزةُ الفكرِ ، عديمةُ التأصيلِ ، على المساسِ بقيمهِ وأسسهِ أو النيلِ منهُ ، حتّى لو كانوا من أبناءِ الإسلامِ ويتحدّثونَ باسمهِ ؟ .
لم يقوَ أساطينُ التنويرِ وعباقرةُ البحثِ من روّادِ النهضةِ أن يدفنوا روحَ الأمّةِ ، أو تمسّكها بدينِها ، فهل ستُجدي تخريفاتُ هؤلاءِ السوقةِ والغوغاءِ من دشيرِ وخمامِ العقلانيّةِ المزعومةِ ! .
لا تزالُ هذهِ الفرقةُ تسقطُ واحداً تِلوَ الآخرِ ، ابتداءً من صاحبِ المؤخرةِ الكريمةِ إيّاها الزقرت منصورِ النقيدانِ ، التي فاقتْ مؤخرتهُ شهرةً مُقدّمةَ ابنِ خلدونٍ ، مروراً بالمُترنّحِ أبي نتعةٍ مشاري الذايديِّ ، والمُفتي الجديدِ أبي ركبةٍ خالد الغنّامي ، وانتهاءً بصاحبِنا عبدِ الله ثابت ، والسقوطُ لا يكونُ بتهمٍ نُلفّقها ، أو أكاذيبَ ننشرُها افتراءً عليهم ، بل هو أمرٌ مشهورٌ مبثوثٌ ، فهم أقلُّ من أن يترصّدَ لهم النّاسُ ، ومثالبُهم ومخازيهم فاقتِ الحصرَ والعدَّ .
لقد نعى كِبارُ المثقّفينَ والمفكّرينَ العربِ مشروعَ التنويرِ والحداثةِ في العالمِ العربيِّ ، وأعلنوا هزيمتهم أمامَ الطبقةِ المُحافظةِ ، كما صرّحَ بذلكَ مُحمّد أركونُ - كبيرُهم الذي علمهم السحرَ - ، وصرّحَ بهِ تلميذّهُ البارُّ وميناءهُ الذي ينقلُ بضائعهُ : هاشم صالح ، وغيرُهم كثيرٌ ، فشلوا في تمريرِ مشروعِ النهضةِ والتنويرِ ، وهم من هم في البحثِ والفكرِ والعقليّةِ والمناظرةِ ، فهل ستنجحُ مساعي الـ zoo في إكمالِ المشروعِ النهضويِّ ، وبعثهِ من جدثهِ وضريحهِ ؟ .
إنَّ العقولَ الفارغةَ لبني عمّنا جعلتْ مشاريعهم في النهضةِ لا تتجاوزُ الغناءَ ، والسينما ، والركضَ وراءَ المرأةِ ، والتباهي أمامَ الفلاشاتِ والكاميرا ، وإشباعَ الفراغَ العاطفيَّ الذي عانوهُ في سنواتِ الحِرمانِ - بزعمهم - ، ولهذا تناقلوا في شغفٍ وشراهةٍ أفلامَ الفيديو فيما بينهم ، وارتكنوا إلى الوسائدِ يستمعونَ لأنغامِ أمّ كلثومٍ وفيروز ، ويُشاهدونَ أفلامَ الأبيضِ والأسودِ .
إي واللهِ إنَّ هذا هو ما حصلَ لهم ! .
الحمدُ للهِ أنَّ المِس " اليزابيث روبين " التي أرادوها عوناً صارتْ فرعوناً ، وقلبتْ لهم ظهرَ المجنِّ ، وأخرجتْ خبيئهم ، وأمتعتنا بقصصِهم المُخجلةِ ، وأحاديثِهم المُحزنةِ ، ولْيعلموا أنَّ الأمّةَ الآن أشدُّ نفرواً منهم ، وأكثرَ بعداً عن فكرهم وأشخاصِهم ، بعدَ هذه البوائقِ والبواقعِ ، هذا ما ظهرَ على السطحِ وطفا ، فكيفَ بما خفيَ واستكنَّ ؟ .
ماذا بعدَ حربِهم على السلفيّةِ والوهّابيّةِ ، ومُحاربتِهم لهذهِ البلادِ وحكّامِها ، ووقوعِهم في أعراضِ الصالحينَ من الدعاةِ والمُصلحينَ ، ونيلِهم من المناهجِ والهيئاتِ والمؤسساتِ الخيريّةِ ؟ ، ماذا بعدَ كلِّ هذا ؟ ، إلى أيِّ هاويةٍ يُريدونَ الوصولَ ؟ .
إنَّ النظرَ في سيَرِ هؤلاءِ يبعثُ على الاشمئزازِ والقرفِ ، ويحدونا على الشفقةِ والرحمةِ بهم وبمآلِ أمرِهم ، الآن عرفنا قيمةَ القرءانِ العظيمِ وكُتبِ السنّةِ ، تلكَ التي تُنيرُ القلوبَ وتملأ النفسَ إيماناً وأنساً باللهِ ، نعم لقد عرفَنا حقيقةَ ما كانَ يقولُهُ شيخُ الإسلامِ وغيرهُ : إنَّ في الدّنيا جنّةً من الأنسِ والرّضا والطمأنينةِ ، من لم يدخلْها ونزلَ إلى دركاتِ البهيميّةِ ومصافِّ الحيواناتِ ، لم يدخلْ جنّةَ الآخرةِ .
يا جماعة : واللهِ فاحتْ رائحتُكمُ العفنةُ ، وراجَ خبركم على القاصي والداني ، وأصبحتم هباءً منثوراً ، فعودا من حيثُ بدأتم ، أشرفُ لكم في الدّنيا ، وأتقى لكم عندَ ربّكم ، وأنجى لكم في الآخرةِ .
===============(51/107)
(51/108)
مناقشة أفكار عبدالله القصيمي (أيها العقل من رآك)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وجدت ملخصا لكتاب القصيمي المقصوم(عبدالله القصيمي)ورأيت أمراضه النفسية التي يعالجها ويعتلج منها
وأحببت أن أقف معه وقفات في كتابه أو فصل من كتابه (أيها العقل من رآك)
وحكم عقلك يامن فتنت به
هنا يبدأ كلامه وبعده بين قوسين كلامي
والله الموفق والهادي
إن احتمالات ثورة المغامر ضد الحاكم الفاضل أقوى من احتمالات ثورته ضد الحاكم الشرير. إننا قد نجرؤ على اصطياد الحيوان الفاضل أكثر من جرأتنا على اصطياد الحيوان المفترس.
(تلك هي خبايا النفس اللئيمة)
*
إذا كان الفساد لا يقتل فكيف يقتل النقد؟!
( يقتل النقد اذا كان فاسدا)
لو كان نبيٌّ مصابًا بالبَرَص، بُعِثَ إلى قوم من البُرْص، لكانت الإصابة بهذا الداء شرطًا من شروط الإيمان بالله!
(النبي امي ولكن الدين حث على التعلم)
إن المؤمنين بالله وبالأديان يصنعون ما قاله نهرو عن الهنود: "إنهم يعبدون البقر ولا يفعلون له ما يجب. ولو أنهم أعطوا البقر ما يريد ولم يعبدوها لكان احترامهم لها أفضل."
(وماقدروا الله حق قدره )اول مايريد الله منهم هو الايمان)
*
إنهم يتصورون الله قيصرًا أو زعيمًا ضالاً، ينشرح صدرُه للنفاق وقصائد الامتداح، ويفقد بذلك وقارَه.
(النفاق هو قول إظهار شيء وإخفاء شيء والمؤمنون يحبون الله ويحبهم ظاهرا وباطنا)
إن الدعاء والصلاة لله اتهام له. إنك، إذا دعوت الله، فقد طلبت منه أن يكون أو لا يكون. إنك تطلب منه حينئذٍ أن يغيِّر سلوكه ومنطقه وانفعالاته. إنك، إذا صليت لله، فقد رشوتَه لتؤثر في أخلاقه ليفعل لك طبق هواك. فالمؤمنون العابدون قوم يريدون أن يؤثروا في ذات الله، أن يصوغوا سلوكه.
(إذا كان هو الذي طلب منهم أن يدعوه ورتب إعطائهم ومنعهم في بعض الشيء على الدعاء فمافي ذلك شبهة)
*
إن الذي لا يعلم بوجودي لا يُعَدُّ مسيئًا إليَّ. ولكن المسيء هو الذي يعلم بوجودي ويعلن اعترافه بي، ثم ينسب إليَّ الشرور والنقائص.
(إن الذي تعلم وجوده وتتجاهله ليس بمسيء إذا نسب إليك الشرور والنقائص)
إن الشيخ الذي يملأ لسانه بالله وتسبيحاته، ويملأ تصوراته بالخوف منه ومن جحيمه، ثم يملأ أعضائه وشهواته بالكذب والخيانة والصغائر وعبادة الأقوياء، لهو أكفر من أيِّ زنديق في هذا العالم.
(ليس كل شيخ هكذا وفي السكوت عن القوي حكمة والدين فيه مرونةبحدود)
*
إن الإله، في كلِّ افتراضاته، هو سلوك، لا ذات فقط. فإذا لم يوجد سلوكُ إله فلن توجد ذات إله.
(أما سلوك الله وفعله فكل المخلوقات من أمره وأما سلوك العبد فالإيمان قول وعمل واعتقاد فمن فرق بينها فليس منه في شيء)
لقد وُجِدْنا، فأردنا وجودنا، ثم وضعنا له تفسيرًا عقليًّا وأدبيًّا.
(كيف وجدنا إذن؟)
*
إننا نحب حياتنا وأنفسنا بقدر ما نستطيع، لا بقدر ما نعرف. إننا لم نعرف شيئًا.
*(قدر مانستطيع هو قدرة وعمل ولابد لها من مؤثر وهو المعرفة فمن لايعرف شيئا لايعمل شيئا)
إنه لا يوجد منطق في أن نخلق المرض لكي نتعالج منه، أن نسقط في البئر لكي نناضل للخروج منها. وليست حياة الإنسان، في كلِّ أساليبها ومستوياتها، سوى سقوط في البئر ثم محاولة الخروج منها.
(إن الانسان لم يقذف بنفسه بل ولد في البئر فإن تمسك بحبال الدين خرج وإلا بقي بلامساعد)
إن جميع ما يفعله البشر ليس إلا علاجًا لغلطة وجودهم.
*
(الوجود ممر لامقر واختبار لاجزاء فمن الذي غلط غلطة إيجادهم إن لم يكن الله الذي أوجدهم لحكمته لاخطأ منه)
إن الإنسان هو وحده الذي تحدث عن الآلهة ودعا إلى الإيمان بها.
*
(ولكن لاتفقهون تسبيحهم)(هنيئا لك عشقك وبحثك عن حياة البهائم)
لقد خلق الإلهُ الإنسانَ لكي يعبده ويطيعه. ولكنه كان يعلم قبل أن يفعل ذلك أنه لن يعبده ولن يطيعه. فهل كانت رغبته في عبادة الإنسان له غير ناضجة، أم كانت خطته لتحقيق رغبته غير كافية؟
(خلقه وخلق له عقلا وأراه طريقين وأعطاه الخيار فهذا أنت قد مشيت في الطريقين بعقلك)
*
إن من أسوأ ما في المتديِّنين أنهم يتسامحون مع الفاسدين ولا يتسامحون مع المفكرين.
الفاسد يعلم من نفسه فسادهاأما المفكر فيظن أنه على صواب ويريد أن يغوي المهتدين)
*
إن المطلوب عند المتديِّنين هو المحافظة على رجعية التفكير، لا على نظافة السلوك.
*
(هذا انتقام ممن ردوا عليى كتبك الضالة وافتراء على الإنسانية)
إن افتراض أن العقائد القوية هي التي تصنع الأعمال الكبيرة غير صحيح. إن حوافز الإنسان، لا عقائده، هي التي تصوغ كلَّ نشاطاته.
(العقائد هي أول حافز يحفز الإنسان على العمل)
*
الإنسان، قبل تديُّنه، وجد أن من الصعب عليه أن يكون ملتزمًا بضوابط الحياة المثلى، فتديَّن لأنه وجد أن من السهل أن يكون معتقِدًا.
(التمسك بضوابط الحياة المثلى من العقيدة وتنقص بحسبه ولايدعي الكمال إلا مغرور)
أكثر الناس خروجا على التعاليم هم أقوى مَن وضعوا التعاليم. إن أفسق الحكام والمعلِّمين هم أقوى الناس دعوةً إلى الأديان والأخلاق.(51/109)
(النبي قام الليل حتى تفطرت قدماه ومن وضع قوانين لغيره على حسب أحوالهم فهم لن يدركوا لماذا لايماشيهم لأنه في فلك آخر إن أردت بذلك الله وهذا قياس مع الفارق وأي فارق!!)
*
لو كانت الفكرة تعني التقيُّد بها لما ابتكر الناس الأديان والمواعظ والأخلاق المكتوبة.
(الفكرة دعوة إلى التقيد وليست هي التقيد والمواعظ والأديان حاثة على التقيد)
*
لو كان الإيمان مُلزِمًا لكان مستحيلاً أن يوجد في التاريخ كلِّه مؤمنٌ واحد.
*
(من الإيمان الاعتراف بنقص الانسان وتقصيره والله يعفو عن التقصير)
الناس، في كلِّ العصور، هتَّافون على مستوى واحد من الحماس. هتفوا لجميع الحكام والزعماء والعقائد والنظم المتناقضة: هتفوا للإيمان بالله والإيمان بالأمجاد، للمَلَكية والجمهورية، للديمقراطية والدكتاتورية، للرأسمالية والشيوعية؛ هتفوا للعدل والظلم، للقاتل والمقتول.
((لكن الهتاف للحق يبقى والهتاف النفاقي في وقته ثم يزول))
إن الناس لا يؤمنون بالأفضل والأخلاق، بل بالأكثر صخبًا وتجاوبًا مع الأعصاب المتعبة.
*
(الأعصاب المتعبة من التعب والتعب من الجهد والعمل والعمل من الفكرة وهي الرذيلة او الفضيلة)
أنت تتكلم، إذن أنت تحاول أن تقول غير ما تقول، أن تقول غير نفسك، غير الأشياء التي تتحدث عنها.
*
(ككلامك هنا)
الناس لا يتحدثون عن الأشياء كما هي، بل كما يريدونها.
*
(إذن تشكيكاتك ومدح الناس لفكرك كله هذا باطل لأنك تتحدث عن الاشياء كماتريدهاوالناس كذالك)
إنك حينما تَصْدُق أحيانًا إنما تريد أن تهرب من الصدق.
(كصدقك هنا والصدق داخل في الاعتراف)
إن اللغة تعني دائمًا الفرار من معنى اللغة.
(ومعنى الفرار من اللغة باللغة يفر من الفرار عن اللغة إلى العودة إلى اللغة)
الناس لا يرحِّبون بالداعية ويتبعونه، ولا يؤمنون بالنبي ويرون معجزاته، احترامًا أو اقتناعًا أو رحمة، بل احتجاجًا وبحثًا عن صارخ متألِّم ليصرخوا وراءه، ليصرخ لهم وعنهم، ليصرخوا به.
*(هل بر الوالدين والتعلم والتعليم من الصراخ)
إن آلهة الإنسان وعقائده ومُثُله وأخلاقه هي مجموعة أخطائه اللغوية.
(إلا المسلم فقد عايش الحقائق والمعجزات فليس في خيال ولاتمنِّ)
إن الفرق بين الشيء ونقيضه يساوي الفرق بين رغبتنا فيه ورغبتنا عنه.
*(الرغبة في السوء رغبة كاذبة وكم جر الانسان على نفسه السوء برغبته في مايراه طيبا ثم جزع)
قتلي لعدوِّي عدل، وقتلُ عدوِّي لي ظلم. رأيي وديني صواب، ورأيُ المخالفين ودينُهم خطأ. هذا منطق كلِّ الأذكياء - وكلِّ الأغبياء.
*(وهذا أنت تفرض رأيك هنا وتخطّئ غيره)
إننا لا نعادي المخالفين لنا لأنهم ضد الفضيلة أو ضد الإيمان والحق، ولكن لأنهم ضدنا. إنهم مخطئون لأن إرادتهم ومصالحهم تُناقِض مصالحنا وإرادتنا.
*(إذا تمثلت الفضيلة بنا فمن هاجمنا فهو مهاجم لها)
إننا دائمًا نحن الوحدة القياسية للآلهة والمذاهب والناس وكلِّ الأشياء. إن كلَّ شيء يجب أن يُفسَّر بنا. حتى الآخرون الذين هم مثلنا، يجب أن يُفسَّروا بنا - وإلا فهم خونة ضالون.
( الحق واحد والقاضي واحد والخصمان اثنان فلابد أن تقف في طرف ومخالفك في طرف)
*
إن الخلاف بين الشعوب والأفراد ليس على المذهب والتفكير، ولكن على الكينونة والإرادة.
*
(إن الكينونة والارادة يحددها المذهب)
إن ما يصنعه الإنسان هو أعظم من الإنسان. إن أفكاره ومُثُله وعقائده هي دائمًا، وفي التاريخ كلِّه، أطيب وأنظف وأذكى منه - مع أنه خالقها.
(أترى الشوك في الورود وتعمى+أن ترى فوقه الندى إكليلا؟؟!!)
*
كم هو غير منطقي أن يكون المخلوق أعظم من الخالق، ثم لا يستطيع هذا المخلوق الكبير أن يغيِّر خالقه الصغير!
(إذن فليس بصغير والمخلوق ليس بكبير إن كان ماتقوله صحيح مع أن الاديان لم يخلقها الإنسان)
*
ما أعظم أن يصنع الإنسان نفسَه بالأسلوب الذي يصنع به حضارتَه وأدواتِها!
*(إن وسادك لعريض!!!إن الإنسان تبنيه أي تعاليم صحيحة والعبرة بالهدف لا بالوسيلة)
لقد كانت عبقرية الإنسان أن يخلق الأشياء على نموذج نقائصه، لا أن يخلق نفسه على نموذج نظرية مثالية ليصبح بلا نقائص، ليصبح شيئًا فوق نفسه.
*(تفرد الله بالكامل الذي تدعي الدعوة اليه بيد أنك هدمت القيم ولم تبن شيئا)
ما أعظم الفرق وما أطول المسافة بين أخلاق البشر النظرية وأخلاقهم السلوكية والنفسية!
* (هذا وقطع نصف المسافة كاف)
إن أشد الناس إيمانًا بالنظريات يتعايشون ويتلاءمون مع النظم المخالفة لنظرياتهم.
* (لاعلاقة بين التعاليم والتطبيق من طبق التعليمات نجى وإلا لم يفده ان الناس سيشتركون معه في العذاب)
إن النظرية هي تحويل الواقع إلى صورة فكرية. ولا يمكن تحويل النظرية إلى صورة مادية.
*مادام أنه واقع فقد كان وأهل النظريات كما قلت لايطبقونها وهذا تناقض منك وإن كانت النظرية من الواقع فمن الممكن أن تكون صورة مادية )
إن البشر لا يصنعون انفعالاتهم؛ إذن هم لا يصنعون أخلاقهم، لأن الأخلاق ليست سوى انفعالات قد حوَّلناها إلى تعبيرات أخلاقية.
(ولكن قد يتصرفون في انفعالاتهم)
*(51/110)
إن كلَّ تربية البشر الأخلاقية والاجتماعية الصالحة تعني تعليمهم نوعًا من السلوك، لا نوعًا من الشعور و الحب، لأن الشعور والحب لا يُعلَّمان.
*
(كثير من التعاليم والسلوكيات ماساعد عليها الا الحب ولكن المهم أن يمشي الكونه بانتظام بأي وسيلة بحب او غيره)
إن الأخلاق، في كلِّ العصور، هي إتقان فنِّ التكلف والكذب والتزوير. حتى الإحسان للآخرين والإشفاق عليهم هو عطف على الذات، لا عليهم.
(لامانع من ان يعطف الانسان على نفسه وعلى غيره في وقت واحد ومع هذا كل يرى الناس بعين طبعه)
*
إن من أعطاك فرصة أن تعرض إشفاقك عليه هو من أحسن إليك.
* (فرددت الإحسان إليه بعرض إشفاقك عليه)
إن الفرق بين الفاضل والرديء هو اختلافهما في تلاؤمهما مع الأشياء لاختلاف المستويات والظروف التي تواجههما والتي يعيشان فيها.
(ولكن هناك صفات تحفظ لهما محيطهما وإن اشتراكا في بعض الصفات النسببية)
*
إن الفضيلة هي أن يتوافق الإنسان مع الطبيعة - لا أن يتجنبها أو يخافها أو يعجز عنها أو يحرِّمها أو يعبدها.
* (إنه لن ينجو من اقتراحاتك فستقول له أنك منافق والمهم ان الطبيعة مسرح للاختبار ممر لامقر)
الرذيلة، في جميع أساليبها، هي أن يصطدم الإنسان بالطبيعة.
* (الكذب رذيلة مع انه اخبار بغير الواقع فليس فيه اصطدام بالطبيعة ومخالفة قوانين الطبيعة الموضوعة فيها العطب وموافقتها لاتسمى تجنبا للطبيعة والحياة)
إن الحياة حركة، لا تشريع. إنها لا تُتَعلَّم، بل تخرق التعاليم. أما الإنسان فهو آلة وحافز.
* (الحركة تبع للتشريع والتشريع مقنن لها)
إن الذين ينزعون إلى تقييد حياتهم بالمحرَّمات، تديُّنًا أو تغنِّيًا بالفضيلة، إنما يكشفون بذلك عما في أنفسهم من استعداد للهرب من الحياة.
(انت تقصد التفكير فقط وحريته و الهرب من الحياة هو اقتحام المحرمات فالزنا منه الايدز مثلا فالحرية قد تكون كحرية الطفل مهلكة)
*
الذين يحرِّمون على البشر سلوكًا أو شيئًا ما إنما يعنون أن يحرِّموا عليهم الذكاء والحرية والمقاومة.
*( إن الحرية قد تكون مهلكة فلها ضوابط وفرق بين الحرية والانحلال)
إن التحريم يعني أنه يوجد شيء فوق البشر؛ إنه دائمًا دلالة أليمة على أن الإنسان محكوم من بعيد.
* (هذا هو التهرب من الواقع والحياة))
إنه لولا رجال أصحاء جاءوا يبشِّرون بالحياة ويصنعونها ويمارسوها، جاءوا يدعون إلى مجد الأرض ويشيدوا بمجد الشهوة والغريزة بسلوكهم ومنطقهم، لما استطاعت الإنسانية أن تعبُر الصحراء الرهيبة الفاصلة بين البداوة والحضارة.
(الإسلام حث على التعلم وصناعة الحياة ولم يذكر الإيمان إلا قرنه بالعمل الصالح ومجد الحديد والشهوة فقط هو مجد البهائم والحدادين)
*
الفضيلة قدرة، لا فكرة.
* (هل هناك قدرة بلافكرة إنها فكرة ثم قدرة)
كيف يستوعب العقل البشري أن الآلهة تغضب على الذين يضحكون ويفرحون وترضى عمَّن يحزنون ويبكون؟!
* (بعض البكاء سببه المحبة والتتقصير مع المحبوب والضحك في الاختبار استهتار والاسلام دين ابتسامة مع الناس
وتقديس وخوف من الله وحب ورجاء)
أهل الأديان يريدون تحويل التاريخ كلِّه إلى مبكى بعد أن حوَّلوه إلى معبد. لقد ابتكروا خصاء الرجال ليفقدوهم كلَّ طموح إلى الحرية والتمرد والاستقلال والمقاومة، ليفقدوا حوافز المجد والغضب للكرامة عند فقدانهم الرغبة الجنسية.
(أين ذهبت الدولة الاموية والعباسية والعثمانية وامجاد الف سنة واكثر إن المعابد خرجت الحضارة)
*
إن الشهوات هي التي تغيِّر الأفكار وهي التي تخلقها. عواطفنا هي التي تحكم عواطفنا، وشهواتنا هي التي تحمينا من شهواتنا.
(عندك انت فقط)
عندما نشعر بفقدان الحماس لشهواتنا تفقد عقولُنا كذلك نشاطَها.
*(في الناس من شهوته تابعة لعقله وفيهم من عقله تابع لشهوته)
إن الفضيلة ليست شيئًا غير الشهوة. إن محاولة الحصول على الفضائل بإضعاف الشهوات كمحاولة الحصول على الشيء بإعدامه، كمحاولة تقوية الرؤيا بفقء العين.
* (مقدمات خاطئة يبني عليها كلامه الذيبناه قبلها فإن الإنسان قد يتصدق وهو لايريد والشهوات قد تعيق السعي إلى الفضيلة)
إن الله لم يخلق هذه الدنيا وهذا الكون إلا بحثًا عن السعادة لنفسه.
* (هذا إيمان منك بوجوده وعلى كل تقدير لادخل لك في ذات الله وهذه الفكرة السخيفة تدل على لإفلاسك وأنك طفل العقل وكلما مرت على قلبك العفن خاطرة دونتها)
الاستقامة والأخلاق نوع من الفن، شهوة وقدرة وإرادة وموهبة وذكاء وظروف تتلقى ذلك وتتعامل معه، تلوِّنه بلا قداسة أو نبوَّة.
( النبوة حثت عليها وأطّرتها)
الأخلاق معركة ينتصر فيها أقوى الأسلحة الضاربة. والمعارك إنما تصنعها وتفصل فيها الشهوات. فالأخلاق شهوات تلاءمت مع ظروفها.
(قد يتحلم غير الحليم لإيمانه بميزة الحلم وإن كان مع أحمق مثلك)
إن الأخلاق عند الإنسان وحكمَه على الأخلاق يتبدلان بتبدل وضعه الاجتماعي أو حالته النفسية أو صحته. إن أيَّ اختلال في إحدى غدده أو كبده يغير شعوره وتصوره وتفكيره واستجاباته الأخلاقية. إن الضعفاء يتصورون الأخلاق على غير ما يتصورها الأقوياء.(51/111)
(قد تتغير الانفعالات ويخرج الخلوق من طوره ثم يعود فلايقدح في اصل الأخلاق)
إن الذين لا يجيدون الابتسام قد ينتهون إلى تشريع البكاء والدعوة إليه كعبادة.
* * (من هو الضحوك القتال ومن هو الذي لايجيد الابتسام والصوفية دينك السابق ليست هي السلفية حتى تحكم)
إن صفات آلهة الإنسان موجودة في ذات الإنسان، لا في ذات الآلهة.
*(يعلم الإنسان منها ماعلمه الله ويبقى الكثير الذي لايعلمه)
إننا لا نستطيع أن نخرج من عبودية شهوة أو أن نردَّ طغيان شهوة إلا بشهوة أقوى.
*(إن الخوف ليس بشهوة)
ما أكثر المؤمنين الذين يرتكبون جميع ما يستطيعون من معاصٍ، معتمدين على التوبة في آخر المطاف، أو معتمدين على سعة المغفرة.
(لايقدح هذا في أصل الإيمان ولايكفرون من أي ذنب وكذلك خلقهم الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون لأن الاستغفار من أعظم العبادات فمن لم يذنب لايحس بلذة الاستغفار)
إن أية عقيدة لها تأثير على سلوكنا بقدر ما تستجيب لشهواتنا.
*(إلا الإسلام وهذا الحكم من تأثير الصوفية عليك)
أقوى الناس اشتهاءً للدنيا هم مَن أبدعوا أقوى الأوصاف وأكثرها تعريةً وفضحًا لشهوات الآخرة. لقد جاءوا بأبذأ الأساليب في التشويق إلى اللذات المنتظرة هناك. والذين كانوا شعراء في وصفهم لنساء الآخرة كانوا حتمًا شهوانيين جدًّا في أشواقهم نحو نساء الدنيا. لقد اشتهوا ما هنا فوصفوا كشعراء ما هنالك.
* ((الشهواني المطاع لن يلتفت إلى الاخرة ويصفها وكم من هؤلاء عاش ومات لم يتزوج والشهوات
موجودة وشرع الاسلام مايفرغها بطريقة منظمة ولاعيب في تحقيق الشهوة حتى لاتقول حرموا على أنفسهم اللذات وشرعو البكاء وهذا تناقض منك فما أكثر تناقضك .قبل قليل تقول حولوا التاريخ الى مبكى والان شهوانيون فياللعجب)
إن الشهوات هي الجياد الأصيلة التي رفعتْ جميعَ العظماء على صهواتها ليحتلوا أكبر أماكن التاريخ.
*(هنيئا لمن كانت شهوته المعالي )
إن تسليح الأفراد بالشهوات القوية كتسليح الجيوش بالأسلحة القوية: ليس لأيٍّ منهما فضيلة أو معنى إلا بذلك.
*(هذا نسف للمبادئ)
إن كلَّ إنسان أو شعب يفقد الحماس تصاب مواهبُه كلُّها بالعجز.
* (والحماس هو من اجل المبادئ)
إن أعظم شيء يتفوق به الإنسان على كلِّ ما في الوجود هو موهبة التحدي.
*(للجهل فقط)
يا شعوبًا أنهكها البحث عن الفضيلة! جربي البحث عن الرذيلة - فقد تجدين بها ما تفتقدين من فضائل.
*(لافض فو أبي نواس)
إن الله لا يريد أن نكون وحدنا مؤمنين، ويكون غيرُنا كافرين - يفعلون هم الشهوات والعبقرية المحرَّمة والإبداع والحياة، ونفعل نحن الفضائل للموت والطاعة والخوف؛ يفعلون هم الحضارة، ونفعل نحن المواعظ والأنبياء.
* (إن الله يريد من ا الخوف والطاعة والعمل والعبقرية والابداع وكلامك يدل على انك لاتعلم عن الاسلام شيئا ففهمته فهم الصوفي الضال)
إن العلم والحياة لا يصنعان الأخلاق، وإنما يصنعان القوة. إن القوة دائمًا ضد الأخلاق؛ لهذا لا ينتظر ازدهارُ الأخلاق مستقبلاً، بل نمو القوة الإنسانية.
(بالقوة تفرض الأخلاق)
*
إذا اتبعتُ الحقَّ واحترمتُه فليس لأني فاضل، وإذا اتبعت الباطل فليس لأني شرير، ولكن لأني في الحالتين إنسان. إني أفعل ذاتي دائمًا.
(إنسان شرير أو انسان فاضل بحسب مافيك من الأمرين)
نحن نسمي بطلاً كلَّ من لم يجد الفرصة لكي يكون نذلاً.
(ربما لأنه وجد الفرصة فلم يغتنمها)
*
الذين يفعلون الصواب لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق. كذلك الذين يفعلون الخطأ، لا يفعلونه لأنهم يحترمون المنطق. ليست الحضارة أو الأخلاق أو فقدها منطقًا أو فقدًا لمنطق. إنها قدرة أو فقد للقدرة. ليس أعظم الناس إبداعًا وحضارة وأخلاقًا هم أعظمهم منطقًا.
(فلماذا مجدت الغرب وشتمت العرب)
*
حينما نشتبك في مناقشات ومبارزات جدلية لا نستعمل في الحقيقة عقولنا، وإنما نستعمل أعصابنا وتوتراتنا - أيدينا من بعيد. إن من يقاتل بعقله إنما هو يقاتل بيديه اللتين أخفاهما وراء كلماته.
(حكمك على الناس بطبعك)
*
إنك، إذا استعملت منطقك ضد إنسان، فأنت تريد أن تقتله أو تسبَّه أو تهزمه، ولست تريد أن تعلِّمه. إنك حينذاك شاتم، لا معلِّم.
(المنطق عام ليس لأحد دون أحد فهو قانون عام)
*
أنا أفكر لأني أحيا، ولا أحيا لأني أفكر. أفكارنا دائمًا تعبير عنا، ولسنا تعبيرًا عنها. كلُّ جهاز يصنع عملَه، ولا يصنعه عملُه.
(كلام تظهر الترجمة عليه من الكتب الغربيةوالخباز يصنع الخبز ليكون خبازا)
*
الآلام قد تتحول إلى أفكار، لكن الأفكار لا تتحول إلى آلام. قد يصبح التشاؤم تفكيرًا، لكن لن يصبح التفكير تشاؤمًا. لو كانت الأفكار تصنع الناس لأمكن صنع أعظم الشعوب بإعطائها أعظم الأفكار. الشعوب العظيمة تبدع أفكارًا عظيمة، لكن الأفكار العظيمة لا تبدع شعوبًا عظيمة.
تتحول الافكار الى الام عند فشلها ومن الذي يصنع الشعوب الا الافكار واردت انت بكتبك ان تصنع شعوبا )
*(51/112)
إن الأنبياء لم يُبعَثوا إلى الناس والوحي لم ينزل عليهم لأنهم أفضل من الكائنات الأخرى، بل لأنهم أجرأ وأقدر على الادِّعاء والكذب باسم الكائنات البعيدة الصامتة.
* (الفأر يسمع الصوت القصير ولايسمع الصوت العالي وكل مافي الدنيا كذب وانت الصدق)
إن أشد الفلاسفة احتقارًا للعالم ولما فيه من آلهة وعظماء وشهوات لا يقل، في استمساكه بالحياة وقبوله للهوان فيها، عن أبسط الناس وأقواهم إيمانًا بحكمة الكون وثقة بأربابه الذين صنعوه ووضعوا فيه جميع أسرارهم وذكائهم ورحمتهم.
(إذن انت احد الكذابين هؤلاء على تعريف الكذب عندك)
*
إن الشيء، لكي يعيش وجودَه، لا يحتاج إلى مبرِّر، حتى ولا من نفسه. إن وجودَ الشيء مبرِّرُه.
* (هناك موجود وغير موجود وبينهما فرق فكيف وجد الموجود ووجد غير الموجود وانت تثور على حكمة الاله
وتسلم لوجودك ولمجرد وجودك لاتنازع فيه)
إنه محتوم وجودٌ أول ليس له أول. والأول بلا أول ليس مأخوذًا من شيء، ولا يمكن أن يكون علميًّا أو أخلاقيًّا.
* (صانع السيارة بعلمه لم تكن السيارة افضل منه لمجرد كونها اتت بعده من سببه)
لا فرق بين صنع قلم وصنع كوكب يُطلَق ليسير بين المجموعات الكونية الهائلة، حيث إن كليهما خاضع لقوانين محتومة.
* (عقل صانع القلم مصنوع)
إن معنى الوحدة القانونية معنى كبير. إن معرفة قوانين إحدى وحدات هذا الكون والسيطرة عليها تعطي الفكرة نفسها عن سائر الوحدات الأخرى المماثلة.
(من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب).
*
إن جميع المفكرين المؤمنين يرون أن الفكرة التي يجدونها مبثوثة في هذا الوجود هي أعظم البراهين؛ هي وحدها البرهان الدال على وجود الخالق المفكر المدبر لخلقه بالفكر والمنطق الأزلي. إنهم يرون أن الكون وُجِدَ وانتظم وبقي بالفكرة، وبها يبقى. وهم بذلك يعتقدون أن الفكرة سابقة الوجود لأن الوجود قد كان بها، ولم تكن هي به. إذن محتوم أن الفكر أبو الوجود. فلا شيء إذن فوقه ولا شيء محرَّم عليه.
(لايقصد بالفكر والفكرة فكرك وفكرتك وامثالك بل علم الله فليتك تحسن السرقة من المعتزلةبعض افكارهم)
*
نحن لا نستطيع أن نفكر أو نضع قوانين منطقية من غير وجود مادي نأخذ منه منطقنا وأفكارنا ونعكسها عليه ونحسبها به. فالمنطق والتفكير هما حركة المادة، هما حساب هذه الحركة. بل لا وجود لمنطق ولا تفكير، وإنما توجد مادة لها خصائص. إن إحساسنا بهذه الخصائص المادية هو ما نسميه منطقًا أو فكرة أو قصدًا مدبِّرًا.
(كثير من القوانين لاتعرفها)
*
منطق الإنسان هو منطق الإرادة كما ينبغي. أما منطق الكون فهو منطق الشيء كما هو.
(كما أراده الله)
*
إن الإيمان بالله يلوِّث الله ويُسقِط الكون والإنسان. أما الإيمان بالكون والإنسان فإنه يُسقِط الله. وأما الإيمان بالله والكون والإنسان فإنه يحقِّر الإيمان والذكاء
(الإيمان بالله مكون الكون قد دعانا إلى العلم بقوله(وقل رب زدني علما)
.
*
إننا لا نجد حتى اليوم ذلك الذي جرؤ على الاستمساك برأيه أو موقفه إذا كان يعيش فيه احتمال موت أو عذاب.
(كيف تنسى موقف الإمام أحمد بن حنبل على سبيل المثال)
*
إننا جميعًا أبطال - إذا كانت البطولة تعني في حسابنا الربح والشهرة.
(بل أبطال إذا أفنينا أعمارنا لرفعة دين الله وتطوير دنيانا على حسب أوامر دينه وكثير من أبطالنا ماتو في السجون والديون)
*
ليس البطل هو الذي يدخل معارك لا نهاية لها مع الخصوم، وليس من يخترع الخصوم اختراعًا. البطل هو الذي يكسب الحياة والحرية للإنسان. وإذا استطاع ذلك، بلا خصوم ولا خصومة، كان هذا هو النصر الذي تهتف له النجوم.
(لابد أن يكون هناك أعداء للحياة والحرية والإنسان فالبطل الذي يحميها من سيطرة العدو)
*
البطولة تصدر عن عقل متفوق آمن بأفكار متفوقة؛ وليس في الوجود كلِّه قوة أقوى من قوة الفكرة العظيمة.
* (قد قلت إن الفكرة لاتخلق شعوبا عن عظيمة)
إن قوة المواقف قد تكون مأخوذة من قوة الحياة، لا من قوة الأفكار؛ وقوة الأفكار مأخوذة من قوة الحياة وليس العكس.
* (قد قلت إن أنفعالاتنا هي التي تخلق مواقفنا وأخلاقنا فهي الحياة وهي تطبيق ماستطاع من الفكرة والفضيلة كماتعر عنها وتطبيقها هو بين الناس نسبي)
الأمم الكبيرة بأفكارها تجيء كبيرة بأخلاقها. فلذة الألم في سبيل الفكرة الكبيرة أكبر من الألم نفسه.
*(قد قلت إن الفضيلة لاتفعل من أجل أنها فضيلة بل هي هروب من الفضيلةوأنها فضيلة غير الفضيلة)
لا شيء يتفوق على إرادة الحياة غير إرادة الفكر.
(قد قلت إننا نحب الحياة بقدر مانستطيع لابقدر مانعرف وقد قلت إنه لايوجد صدق فكيف تنفيه عن الناس وتثبته لنفسك ..إن هذا احتقار حتى لمحبيك)
*
إن المنتحر تحت فكرة - أو بلا فكرة - لأكثر نبلاً وشجاعةً من أيِّ شهيد في أية حرب.
* شهيد الحرب هو إما تحت فكرة أو بلا فكرة وإن كان بلا فكرة فهو منتحر وإن كان بفكرة فهو شهيد
فلا ثالث للحالين إلا استغفالك للقراء)(51/113)
نحن نفاخر أهل الأرض في أننا وحدنا الموحِّدون الذين يعبدون إلهًا واحدًا، كبيرًا جدًا، لا نُشرِك به أحدًا. ولكن ما أكثر الأصنام التي نعبد، ما أكثر أصنامنا!
(وأولها فكرك المستنسخ المتسخ)
*
ليس الذي يصلِّي للشمس أو الوثن أو الأحجار أو الحيوانات أعظم شِركًا من الذي يصلِّي فكره واعتقاده ونظامه لأحد الموتى البعيدين عنَّا جدًّا.
(إن أفكارك المسروقة من فلاسفة القدماء أقدم من كثير من تعليماتمحمد صلى الله عليه وسلم
وإن قدم الشمس لم يغير من وهجها وحب الناس لها فالناس على خلقة واحدة والشمس لهم كلهم سواء في أهميتها)
*
لا توجد عقائد لو لم توجد عواطف؛ ولكن العواطف توجد بدون عقائد.
(العواطف غريزة وأخلاق والعقائد منظمة لها)
*
*
الدين، إن كان صِدقُه قد عُلِمَ بالعقل، فالعقل إذن صادق الحكم في رأي الدين، وله، إذن، أن يحكم عليه في كلِّ الأوقات، لأنه هو شاهده. ولو شككنا، مع هذا الافتراض، في العقل لكان هذا تشكيكًا في الدين نفسه على ما سبق.
* (إذا رأيت الأمير وجب إتباعه ولايجب أن تكون قائده لأنك علمت أنه قائد وهذه حجة المعتزلة القديمة الواهية
ثم إن المعجزات هي التي تفرق بين العقول السليمة والملوثة)
إن الذي يعرف الله ووجوده بعقله يجب أن يعرف بعقله كلَّ شيء.
(إذا عرف الله وجب أن يعرف أن الله علمه أشياء وغيب عنه أشياء إما اختبارا له وإما أنها لاتعنيه
ووجب أن يعرف أنه لايمكن أن يعرف كل شيء فيكون مثل الله و
إن الذي يرى أنه عرف الله_ ووجب عندها في نظره أن يكون يعرف كمايعرف الله _لم يعرف الله حق معرفته)
*
العقل لم يُستشَر في الأديان، وإنما أُخِذَتْ بالتلقين والتتابع. فالذين يولدون في أيِّ دين يكونون من أهله.
* (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه حتى يبحث عن الحقيقة ويختارها)
الناس يجدون أديانهم كما يجدون أوطانهم وأرضهم وبيوتهم وآباءهم؛ يجدونها فقط ولا يبحثون عنها أو يؤمنون بها أو يفهمونها أو يختارونها. (فأين ذهب إسلام الصحابة الذين أتاهم الإسلام وهم على جاهلية وكذلك إسلام الناس اليوم من الغربيين وغيرهم)
*
الناس في زماننا يعتقدون، ثم لا يفكرون، أو يفكرون فيما يجعلهم لا يفكرون.
* (هانحن نرد على شبهك بالعقل)
لو كانت الأديان خاضعة لحكم العقل لضاقت الخلافاتُ فيما بينها وتناقصتْ، أو لتداخلتْ وتوحَّدتْ كلُّها في دين واحد كالذي حدث في الموضوعات الصناعية والعلمية التي ابتكرها العقل؛ أو لوجدنا المؤمن يخرج من دين إلى دين بالسعة والسهولة التي ينتقل بها من فكر إلى فكر، من موضع إلى موضع.
*
(هنا الامتحان.ثم العقول لواتفقت لرأت الفضيلة رذيلة مثلما تراها)
الأديان لا تنتصر إلا في المعارك التي تتجنبها. فهي لا تحارب بالعقل ولا تحارب العقل، أي لا تدخل مع العقل في معارك حرة - ولهذا ظلت منتصرة!
(هذه مدرسة ابن تيمية على سبيل المثال وأنت تعجزعن فهم جداله مع الفلاسفة)
*
إن السماء، لو أرسلت لنا كلَّ أنبيائها ينهوننا عن الإيمان ويحرِّمون علينا كلَّ عبادة، لعصينا كلَّ الأنبياء وبقينا نؤمن ونصلِّي ونتعبد. فالعبادة استفراغ روحي، وعملية جنسية تؤديها الروح لحسابها، لا لحساب الآلهة.
* (الراحة فيها هي ثواب من الإله ومناجاته عين السعادة وأي شيء جنسي في العبادة ؟إذن لتعبد فرعون))
*
إن العقل الذي لا يتناقض هو العقل الذي قد مات. ولا يحتمل أن يثبت أيُّ إنسان حياته كلَّها على حكم واحد.
* (إما أن يسقط اتهامك عن المؤمنين أنهم متناقضون وإما أن تكون أثبت تناقضك وأن يكون منهجك بعد إسلامك نقيض للأول فأحد المنهجين خطأ..
والمتناقض يكون أحد حكميه خطأ فكيف يحكم في الألهة ويعرف كل شيء_كما فرضته على العقل قبل قليل
وهذا تناقض منك وأردت أن تحمي نفسك من تناقضاتك السابقة بهذه الفكرة الغبية)
العقل يتغيَّر لأنه شيء قوي. فالشيء القوي لا يثبت على حال. والقوي أكثر تغيُّرًا من الضعيف وغير الشيء. غير الموجود هو الدائم الثبات، لأنه لاشيء.
(ولكن الجبال ثابتة ولاينكر وجودها العقل وهي لاتتغير)
*
تناقُض العقل ليس ضعفًا فيه، لكنه يعني أنه يعمل في عدة ميادين وينظر إلى كلِّ الجهات. والعقل هو الذي يدرك تناقض العقل. فالتناقض وإدراك التناقض أسلوبان عقليان. وهو يدرك سخف العقل وهزائمه. العقل، ناقدًا ومنقودًا، هو كلُّ المعرفة.
*(العقل الذي حرت في تقديسه تعصى عليه أمور كثيرة ويعلم بعد أن لم يكن يعلم وينسى ويذكر)
الخرافة تدعو إلى الدوام؛ والخرافة أكثر دوامًا من الحقيقة.
(أبونا آدم فماهو الغول ومن يعرفه)
*
العقل عمل الوجود الحسي.
*
إذا حَكَمَ العقلُ فحكمُه أن يرى الحركة فقط ويفسِّرها.
*
الكونُ ومنطقُه هما الله ومنطقُه. ماذا لو طالب البشر حكَّامهم أن يحكموهم بمنطق الكون؟!
*
الآلهة لا تستجيب لمن يدعونها ويُصلُّون لها، إنما تفعل الواجب والحق. إذن لماذا تُدعى ويُصلَّى لها؟ وهل يُدعى النهر ويصلَّى له ليفعل ما هو فاعل؟!
*
أيُّ خالق هذا الذي يجعل مخلوقَه محتاجًا للعذاب والتلوث والمعاناة والأحزان ليكون مخلوقًا سعيدًا؟!(51/114)
* (لم يجعله محتاجا للعذاب بل اختبره به لأنه في دار اختبار وقد قلت _ فلذة الألم في سبيل الفكرة الكبيرة أكبر من الألم نفسه_لوكنت تعقل ماتقول)
إن الذي يصنع الشرَّ، وهو غير محتاج إليه ويستطيع أن لا يفعله، شرٌّ جدًّا من الذي يفعله وهو محتاج إليه وعاجز أن لا يفعله.
(الشر نسبي فهو من جهة المصيبة شر على الإنسان ومن جهة أنه عقوبة تكفر الذنوب في الدنيا أو ابتلاء يرفع الدرجات للعبد يكون خيرا)
*
الذي تكون شريعتُه فرضَ المثالية، كيف تكون حكمتُه الخروجَ على المثالية؟!
* (هو غير محتاج إلى مايكمله كالمخلوق المحتاج وهو الذي فرض الدين وليس كمخلوقاته ولايجب عليه بكون حكيما أن يخرك عن حمته لأنك لاتعلم شيئا بالنسبة إلى علمه)
كيف يعاقِبُ الإلهُ على فعل أشياء هو يفعلها - مع أن الناس يفعلونها بالشهوة والضرورة، وهو يفعلها بلا شهوة ولا ضرورة؟!
(أفكار أطفال فضحك الله بها فأنت كنت من الذين يعلمون أن أفعاله حكمة)
*
"إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك" - إذن كيف يغفر لمن ينكرُ وجودَه؟!
(إنكار وجوده أعظم من الشرك به وليس دون ذلك حتى يغفر له وهو من باب أولى واستدراكك غبي وفي غير محله وليس شيئا سوى أنه محاولة إيهام)
*
أليس الملحدون الذين يعيش على عبقريتهم المؤمنون أعظم فضيلة وتديُّنًا من المؤمنين الذين يعيشون دائمًا على ذكاء غيرهم وقوتهم؟
(الاتفاق في الرأي ليس تبعية))
*
الفاسق في عرف الدين، مهما كان نوع فسقه، ليس شريرًا كالمفكر المخالف في تفكيره.
* (لأ ن الأول مقر ويعود عن الفسق ولكن الثاني يغير الحقائق ويكون ربا لنفسه)
*
وهل عزاء الآلهة أن يذهب عصاتُها إلى مقابرها لكي يبلِّلوها بالدموع الكاذبة؟!
(كنت كاذبا في شطر عمرك الأول وفضحت نفسك هنا).
*
إنني أفضِّل الرجعيَّ المستقيم على المتحرِّر المنحل.
* (الإسلام لم ينه إلا عن الانحلال فكيف يكون رجعيا وكيف يكون هناك متحرر غير منحل)
ضمير الحضارة يبحث في المستقبل عمَّن يستقيم بلا عقيدة، لا عمن يعتقد بلا استقامة.
* (لاتوجد استقامة بغير العقيدة الإسلامية لأن العقائد الأخرى ليس فيها استقامة)
جميع الكائنات المعروفة لنا - عدا الإنسان - تعيش بالحقيقة - والإنسان وحده تقتله الحقيقة؟!
* (تقتله ليعيش وتعيش , والخرافة تقتله ليموت)
الحديث الشريف ليس إلا نقلاً للمجتمعات إلى المقابر، أو نقلاً للمقابر إلى المجتمعات، لكي تعيش فيها مواهبَها وتتعلم منها الخوفَ من التغيير
(كثرة التغيير والتحول تدور على حالات متعددة لابد أن تكون إحداها هي الصالحة فإذا دعي إلى التغيير دائما أخطأت الحالة الصالحة وقدم الحقيقة يزيدها رسوخا ولا يجعلها واهية).
*
ما حكم العقل والمنطق في حديث "الذين يفسرون القرآن بآرائهم إما أن يصيبوا أو يخطئوا؛ فإن أصابوا فقد أخطئوا، وإن أخطئوا فقد كفروا"؟
* (إن أصابوا فقد أخطأو في طريقة تفكيرهم لما اعتمدوا على عقولهم التي لاتدرك نفسها ولاماحولها
وهذا تحذير لمن أطلق العنان لعقله المهزوم)
إن أيَّ دين وثنيٍّ لأقرب إلى التوافق مع الدين الإسلامي من الأحاديث بعضها مع بعض - بل من الأحاديث نفسها مع الإسلام.
(لم تذكر مثالا على ماتعتقد لخوفك من الفضيحةوتريد أن تأخذ المغفلين بالصوت ويرد عليك كتابك في مشكل الحديث )
*
إن السجود الفكري هو المشرِّع لكلِّ أنواع العبوديات الأخرى.
* (فهذا أنت ساجد لأفكار من سبقوك من الغرب والشرق )
أيُّ إثم في أن يقول رجل صالح أنه سمع سحابتين تتحدثان بحماس وانفعال عن جمال الإسلام وأنه خير الأديان وأن أهله سيحكمون العالم؟!
(في عشرين سنة منذ نشأته قضى على كسرى وقيصر وعاش 1300سنة دولة واحدة تضعف وتقوى ولم يقض عليه اليوم تفرق أهله)
*
أنت مؤمن بإعجازه، إذن هو مُعجِز. هو مُعجِز لأنك مؤمن بإعجازه، ولست مؤمنًا بإعجازه لأنه مُعجِز. ليس مُعجِزًا لأنه مُعجِز، بل لأنك مؤمن بذلك.
* (فكيف آمن من لم يكن مؤمنا لما رأى معجزاته من علماء الفلك والطب وغيرهم)
الحديث تشريع وإلزام - ومع هذا حرام كتابتُه! هل معقول الجمع بين كون الشيء واجبًا وبين كون كتابته حرامًا؟!
(حرمت في أول الأمر لكي لاتشتبه مع القرآن صيانة له فليتك تقيئت كبدك قبل هذه الجملة التي دلت على مدى جهلك)
*
تحضَّر الإنسان خارج المحراب ولم يتحضَّر داخله.
*( لأن حضارته داخله بلغت الكمال)
الذين تغذوا بآثام الجاهلية كانوا أبطالاً في الإسلام أكثر ممَّن تغذوا بتقوى الإسلام.
أبوبكر وعلي والرسولل قبلهم كلهم لم يتغذوا بآثام الجاهلية وغيرهم كثير)
*
التحريم، في جميع صوره، ليس إلا مقاومةً للحياة.
(بل مقاومة للموت لأن الإسلام لم يحرم إلا مايضر الإنسان)
*
الغلطة الكبرى التي شاد عليها المحدِّثون أكثر أخطائهم هي اعتقادهم أن الرسول كان إلهًا.
* (بل اعتقادهم أن الله قال عنه أنه لاينطق عن الهوى وهو رحمة منه إذ علمهم مايصلح أحوالهم فحولهم من أذلة إلى ملوك في كل شيء ولو أنه تركهم وتفكيرهم لضاعوا إذ أنت وتناقضاتك أول الهالكين المهلكين للناس)(51/115)
هل يصدِّق خيالُ المؤمن أن الله يتنزَّل من عليائه ليكلِّف جبريل بالنزول إلى الأرض ليوحي إلى محمد بالأكل من ذلك الطعام، أو بلبس ذلك الثوب، أو بحب فلان وكره فلان، أو الأكل على الأرض، والنوم على الجانب الأيمن، وشرب الماء أربع جرعات، أو بوضع الخاتم في اليد اليمنى، أو بركوب الحمار؟!
*( (لم يأمره بذلك وإنما أمره وأمته بالأكل من الطيبات جميعا وستر العوارات وحب المؤمن وكره الكافر أما النوم على الجانب الأيمن فاسئل الأطباء عن فائدته ولو لم يكن من الشريعة لقلت إن الدين ناقص فلما رأيته كاملا مت بغيظك وشرب الماء ثلاث جرعات وليس أربعا واسأل وجرب والخاتم والزينة وكل شيء يستحب فيه التيمن فليس الخاتم وحده وركوب الحمار لم يؤمر به مع أنه كان من المركوبات التي لاينتقد الناس على ركوبها))
إذا كان ممكنًا أن يخاطبنا الله بواسطة ملاك فكيف لا يكون ممكنًا أن يخاطبنا بواسطة ذواتنا؟! كيف نسمع الله بواسطة الآخرين ولا نسمعه بواسطة أنفسنا؟!
* (وكلم الله موسى تكليما..ومن أنت حتى يكلمك إذن إنتفت الحكمة من خلق الخلق الاختبار وهذا تناقض منك تقول كيف يتكلم الله بأمور تافهة وتلزمه الان بأمور أتفه منها)
الذمُّ لا يعني دائمًا إلا الامتداح. فإذا ذممنا قومًا أو مذهبًا فنحن في الحقيقة نريد امتداح قوم أو مذهب آخر - نمدح هذا بذمِّ ذاك.
(لاتناقض ولكنك تجمع الأفكار التي لافائدة منها والتي هي معروفة حتى يقال إنك مفكر ذكي)
*
الجماهير هي دائمًا الأوعية الهائلة لأضخم الخرافات والأكاذيب العالمية.
* (فلماذا لم يتبعك أحد؟؟؟؟؟؟؟؟))
الجماهير دائمًا فراغ ينتظرون ملأه. إنهم دائمًا أتباعٌ يؤمنون بالنبي والرجال ويهتفون للبطل والمهرج.
* (الناس متفاوتون فمنهم مؤمن ومنهم كافر ومنهجك أكثر تلبية لرغباتهم الجنسية وهربا بهم من المسؤولية فلماذا لم تتبع))
*
إن الذين تعيش أبصارهم في السماء سيرون الشموس والنجوم والمجرات الهائلة. أما الذين يعيشون في ظلام الكهوف، مستملئين تصوراتهم بالتهاويل والأشباح وجثث الموتى، فهي لهم.
(الذين تعيش أبصارهم في السماء يتيهون ولايعرفون أبعادها ومن لم ينظر في السماء ليس من الواجب أن يكون ينظر في الكهف بل في الأرض الواسعة حيث أنها خلقت للإنسان ولم يخلق للسماء)
(إن نية الكذب لاتكون صدقا مهما كان الخبر صادق
(إذن زال اللبس عن حديث_ الذين يفسرون القرآن بآرائهم إما أن يصيبوا أو يخطئوا؛ فإن أصابوا فقد أخطئوا، وإن أخطئوا فقد كفروا"؟
وقد أوردته قبل قليل وهذا من تناقضاتك)
*
إن خفقة حذاء الشرطي يصافح بها الأرض لهي أقوى من طلعة ألف نبيٍّ في أيديهم ألف كتاب مُنزَل.
(هذه تغير الظاهر وتلك تغير الباطن فكيف آمنت الشعوب الغبية باللخرافة التي تزعمها ثم تقول أنها لم تؤمن)
هل الإيمان والعقائد أن تسلب إنسانًا بصره ثم تعاقبه إذا لم يرَ، وأن تعطي آخر بصرًا قويًّا ثم تكافئه لأن بصره قوي؟!
* (يعطيك الأسباب وانت المتصرف)
وبعد فقد رأيت هذا الغباء والتناقض من القصيمي المقصوم الذي يريد أن يأخذ القلوب بالصراخ
ويعيد كلامه المتذبذب في أكثر من موضع لقلة بضاعته فقد حذفت كثيرا من الكلام المكرر معناه
وكنت أظن أن عنده شيء من الشبه فإذا هو هذيان متناقض
أبرز شبهاته التي بثها:
أن الدين لو كان صحيحا لعمل أهله بتعاليمه ولم يتأخروا
ونسي قول القائل(أيذهب يوم واحد أن أسأته=بسائر أيامي وحسن بلائيا)
كان العرب في حالة أشد ذلا وضياعا من الحالة اليوم
ورفعتهم تعاليم الإسلام 1300سنة في ثلاث دول فقط
فهل الخطأ في التعاليم أم في مطبقيها؟؟؟!!!!!!!
ثم إنهم لازال عندهم قوة وغيرة لاتنظر إلى القادة وانظر إلى الناس عموما
فالنظرة اليائسة البائسة غير صحيحة
ثم هو يتهم كل الناس بالنفاق وان الدين وسيلة لتبرير شهواتهم وتفريغ شحناتهم
وهذا اعتداء فكري وتجبر وطغيان على العقول والناس جميعا
وهذه رسالة إلى من تتنازعه الشكوك
تخيل أنك قد وصف لك طريق في الصحراء
وقيل لك إذا أتاك الجبل الفلاني فاتجه معه شرقا
ثم سرت ورأيت الجبل ولكن قابلت أقواما شككوك في صحة طريقك.
إن العلامة الواضحة هي الجبل ولكن لن تجد أكثر من الإرشاد الأول لأن تكرير العاقل الموثوق به
للكلام لأجل المضللين الحمقى من الحمق
وترك التكرير اختبار للذكاء والثقة بالنفس وبالكلام الأول
تخيل أنك كذلك وأن المقصود هو اختبارك ومدى ثقتك بالعلامات الواضحة
إذن إذا اعترتك الشكوك فارجع إلى الكلام القطعي
إقرأ في معجزات القرآن
إقرأ في معجزات الكون
إقرأ في السماء
في الغدير
في الجبل
في السهل
إن آية واحدة تجدها في نفسك حقا لهي كافية في لطم الشبه كلها عن حوض قلبك
قف مع قصة فرعون العظيمة التي تناقلها الكون كله مؤمنه وكافره
من الذي شق البحر فانفلق لموسى
كيف نجى موسى وقومه المستضعفون من فرعون وجيشه أكثر من مليوني جبار وعتل
من الذي أوجد الوجود
هل أوجد نفسه
إن قلت نعم وقدست الوجود إلى أن يكون أوجد نفسه فلماذا توقف هذا الكون عن الإيجاد فلم يعد يوجد شيء آخر
ثم إن فكرة أن الوجود أوجد نفسه أبعد عن العقل من فكرة أن الله موجود(51/116)
وإذا فكرت ان الوجود موجود ولم يكن يوما غير موجود فاجعل هذه التي استطعت أن أن تخيلها على الله
لماذا تنسب الفعل إلى غير فاعل وقد نسب اصلا إلى فاعل
تأمل ولاتحاول أن تنكر ذلك للهروب عن المسؤولية
هدانا الله واياك
عبدالله القصيمي ... قصة إلحاد وحكاية ملحد
( مقال كتبته ما بين (1419- 1420هـ) يحكي قصة إلحاد عبدالله القصيمي ، ويحاول فهم الأسباب التي أدت إلى انحرافه وخروجه عن دائرة الإسلام ... هذا المقال هو مجرد محاولة للفهم لا غير ، لعلنا نصل من خلال هذه المحاولة إلى نتائج معقولة يمكن أعتبارها أسبابا يمكن الإطمئنان إليها في حدوث هذه الظاهرة الغربية من عالم نجدي ارتكس في حمئة الإلحاد !!!)
بيدي موضوع طالما تساءل عنه كثير من الناس، وأخذ الواحد منا يفكر فيه سواءً من أجل التطفل أو من أجل الحقيقة الغائبة والتي يبحث عنها !
لقد طرحت استفسارات كثيرة عن حقيقة (عبد الله القصيمي) وكيف تحول من رجل دين إلى ملحد هكذا دفعة واحدة ؟!
لقد أثار القصيمي حولة وأثناء حياته وبعد مماته آلاف علامات التعجب والاستفهام، فمن هو هذا القصيمي الذي أثار تلك الزوبعة ؟
( عبد الله القصيمي ... مفكر ... في سطور )
يتعجب البعض عندما يقرأ أو يسمع نبأ إلحاد رجل مثل الشيخ عبد الله القصيمي !
فمن عالم في الدين ينافح عنه ويناضل في سبيله إلى ملحد !
هل كان ملحداً في الأصل ؟ أو هل هو عالم أصلاً ؟
هناك أسئلة كثيرة يبحث الإنسان لها عن جوابا شافي في حالات كثيرة تشبه حالة القصيمي.
لقد كان عبد الله القصيمي طالباً للعلم ومتميزاً وكان منذ نعومة أظفاره وهو يشتعل ذكاءً ويتقد عبقرية، وشب مسلماً متديناً متحمساً للدين والدفاع عنه، ألف كثيراً من المؤلفات للدفاع عن الإسلام ونصر الدعوة السلفية والتصدي لأعداءها .
كان القصيمي يتمتع بذكاء وعبقرية وأسلوب ساحر جميل ، فهو كما يقال: أديب من الطراز الأول ومفكر من الدرجة الثانية .
يقول في حقه الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري :
(إن صحراء المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية أنجبت مفكراً مليح الأسلوب، أشهد أنه يتفنن في عرض دعاوى الفلاسفة والعلماء الماديين من أمثال بخنر وسارتر... القصيمي يتقن رسم الصور ويسرف في الخيال ويغني وينوح إنه فنان متمزق إنه أديب ساخر ساحر ).
ساهم القصيمي في الدفاع عن الاسلام فألف كتباً عديدة في الرد على الشيعة وألف كتباً تصدى فيها للملاحدة الذين يتصيدون في الأحاديث النبوية ويثيرون عليها إشكالات ظاهرية، وهكذا كان سجل القصيمي حافلاً بالملاحم والجهود في خدمة الإسلام .
كانت نشأة عبدالله القصيمي في الجزيرة العربية ، وفيها ترعرع وفيها رضع فكره، نشأ القصيمي حياة مأساوية كادحة بائسة عابسة يابسة، كان لها أشد الأثر في تكوينه الشخصي والمزاجي.
من هو هذا الملحد القصيمي المليح ؟
هو : أبو محمد عبدالله بن علي الصعيدي القصيمي أحد رجالات الدعوة الوهابية ومن المنافحين عنها، قال عنه الشيخ ابراهيم عبد العزيزالسويح النجدي :
(هو الذي لقب نفسه بالقصيمي وإلا فلا يعرف له نسب من جهة أبيه في القصيم ).
كتب القصيمي في مرحلته الأولى كتباً عديدة في خدمة الاسلام ومن أشهرها كتابه ( الصراع بين الإسلام والوثنية ) وهو كتاب في الرد على الشيخ الشيعي محسن الأمين الذي هاجم الدعوة السلفية وتهجم على دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وعلى حكامها من آل سعود.
وقد كتب من هذا الكتاب (الصراع ) جزئين وكتب في آخر الجزء الثاني عبارة ( تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث إن شاء الله ... عبدالله القصيمي - القاهرة )
ولكن القصيمي ألحد وانحرف فلم يكمل هذا الكتاب العظيم !
وقد قال لي من أثق به في المصادر والمخطوطات : أن الكتاب كامل وأنه طبع في هذين الجزئين.
أحدثت جهود القصيمي آثارا طيبة في نفوس العلماء والمفكرين المناصرين لدعوة الحق فقال في حقه فضيلة الاستاذ الشيخ حسن القاياني" مجلة المقتطف -العدد 10 فبراير 1947" :
(معسكر الاصلاح في الشرق، قلبه هو السيد القصيمي نزيل القاهرة اليوم، نجدي في جبته
وقبائه ، وصمادته وعقاله ، إذا اكتحلت به عيناك لأول التماحته، قلت : زعيم من زعماء العشائر النجدية، تخلف عن عشيرته، لبعض طيته، حتى إذا جلست إليه فأصغيت إلى حديثه الطيب أصغيت الى عالم بحر يفهق بعلم ديني واجتماعي، تعرفت إلى العلم النجدي القصيمي ، فجلست إليه مرة ومرة، ثم شاهدته كرة، فناهيك منه داعية إصلاح، أكثر ما يلهج به الشرق وأدواؤه وجهله ودواؤه،
لم أقض العجب حين شهدت القصيمي من عربي في شمائله ، ملتف في شملته ، يروعك منه عالم في مدرسته، كاد يحيلني شرقياً بغيرته الشرقية ، وقد بنيت مصرياً،حيا الله السيد القصيمي، ما أصدق نظرته إلىالحياة وأبعد مرماه في الهداية ).
وقال أيضاً في مدح القصيمي الاستاذ الجليل الشيخ (عبد الظاهر أبو السمح ) أمام المسجد الحرام وخطيبه ومدير دار الحديث بمكة :
ألا في الله ماخط اليراع .... لنصر الدين واحتدم الصراع
صراع لا يماثله صراع .... تميد به الأباطح والتلاع(51/117)
صراع بين إسلام وكفر .... يقوم به القصيمي الشجاع
خبير بالبطولة عبقري .... له في العلم والبرهان باع
يقول الحق لا يخشى ملاماً .... وذلك عنده نعم المتاع
يريك صراعه أسداً هصوراً .... له في خصمه أمر مطاع
كأن بيانه سيل أتيّ .... تفيض به المسالك والبقاع
لقد أحسنت في رد عليهم .... وجئتهم بمالا يستطاع
(الى آخر القصيدة ....... والقصيدة طويلة )
وقال في حقه - متأسفاً على إلحاده - الشيخ (ابن عقيل الظاهري ) :
( أرجو له في شخصه أن يهديه الله للإيمان قبل الغرغرة ، فتكون خاتمته حسنة إن شاء الله ، فإن هذا الرجل الذي ألف " الصراع بين الإسلام والوثنية " ممن يؤسف له على الكفر ).
هذا هو أبو محمد عبدالله القصيمي قبل أن يتحول من دائرة الإسلام الى خارجها، وقد ألف القصيمي مجموعة كتب قبل إلحاده ومجاهرته بذلك، ومنها :
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية . (وهو من أشهر كتبه قبل التحول )
(2) البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية .
( وهو كتاب يرد فيه على من يدعي جواز التوسل بالبشر )
(3) مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها .
( وهو كتاب يرد فيه على علماء المادة والملاحدة ، ويبين أن لا تناقض بين الأحاديث النبيوية والعلم الحديث ! )
(4) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم .
(5) شيوخ الأزهر .
(6) الثورة الوهابية .
(7) نقد كتاب (حياة محمد ) .
والسؤال المهم هو /
ما هو السبب الحقيقي وراء هذه الإنتكاسة لطالب علم متميز كان يرجى له أن يكون من العلماء والمفكرين الكبار ؟
هل كان السبب الحقيقي وراء إنتكاسته هو غروره ؟ هل هذا سبب مقنع ؟
هل كانت هذه الإنتكاسه فجأة وتكون بعلم الحساب إنتقال عكسي 180% ؟
أم هي عملية إنتقال بطيئة وبشكل تدرجي، ولم يظهر منها إلا نتائجها المخيفة والتي أعلن عنها صاحبها في كتابه ( هذه هي الأغلال ) ؟
أم أن الشك موجود عند غيره من العلماء ولكن القصيمي أبى الخنوع والركوع لسلطان الخرافة فأعلن الثورة وبدأ التمرد ؟
وعلى هذا يكون جميع العلماء شكاكا ! ويكون القصيمي أشجعهم فقط ؟!
هل كان القصيمي مقتنعاً فعلاً بإلحاده وببطلان الأديان ؟
أم هي ردة فعل عكسية حمقاء كانت نتيجة ضغوط نفسية متراكمة عند القصيمي ؟
وهل كان القصيمي مقتنعاً فعلاً - قبل إلحاده وأيام دفاعه عن الإسلام - بتدينه وإيمانه ؟
أم أنه في الأصل غير مقتنع !
بل كانت المسألة بالنسبة له ولغيره مسألة وراثة، والخروج عن الموروث عار والعار فضيحة ، والفضيحة حرمان، فالأفضل مغالبة الوساوس الشيطانية والركون الى التقاليد الموروثة ؟
هناك آراء متفاوته ومتضاربة أحياناً حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الظاهرة الإلحادية القصيمية المتمثلة في شخص (عبدالله القصيمي القصيمي ) !
ولا أزعم أنني سأحصل على نتائج يقنية أو حتى أولية.. فقط ما سأعمله هو محاولة الفهم والتقريب لا غير !!!
(الرأي الأول ) :
مفاده أنه يستحيل أن ينقلب متدين متمسك إلى ملحد مرة واحدة؛ كما يستحيل أن ينتقل البندول من أقصى اليمين إلى أصى اليسار دفعة واحدة، لا بد من التدرج ولا بد من الاستدراج .
وعلى هذه النظرية يكون القصيمي بدأ مخلصا لدينه موقناً لعقيدته، لكنه مع الزمن بدأ يتساقط أمام سلطان الشك وبريق الريب والزيغ ، وظلت بذرة الشك كامنة حتى استحكمت وتمكنت فيه جيداً فأعلن إلحاده، بعد أن اجتثت تلك البذور ما بقي في قلبه من إيمان !
يقول الأستاذ عبدالله بن علي بن يابس ( وهو صديق القصيمي وصاحبه في أسفاره ) محدثاً عن حالة القصيمي ما نصه :
(كان القصيمي منذ أكثر من خمسة عشر عاماً تقريباً ، يجادل في البديهيات الدينية ، حتى أشتهر بكثرة جدله في الأمور الضرورية، وحتى كان يجادل بعض جلسائه في وجود نفسه، وحدثني صديق حميم من العلماء الأفاضل قال: كان القصيمي يأتي إليّ منذ خمسة عشر سنة تقريباً ويصرح لي بأنه تعتريه الشكوك إذا جن الليل ، فيسخن جسمه ، ويطير النوم من أجفانه .
قال : وكان يجادلني في الله، وفي النبي محمد، وكان يمتلأ بغضاً له وأحتقاراً، وكنت أجيء لزيارتكم فأجده يقرأ في صحيح مسلم مع بعض الأخوان، فترجع نفسي قائلة : لعلها وساوس وليست عقائد).
فهذا الرأي يبين لنا أن القصيمي كان مع دفاعه عن الإسلام وأهله كانت تأتيه نوازع شيطانية ، ووساوس، فتكدر عليه صفو الحياة وتسخن جسمه النحيل، وتطير من عينيه النوم اللذيذ كل ذلك بسبب ما يجده في هذا الشك من ألم وشقاء وحسرة تجعله لا يتلذذ بنومه بل جسمه ينتفض ويسخن لذلك، ولكن الشك القاتل جندله صريحاً مسفوك الدم والعقل والروح في بلاط الإلحاد!!!
(الرأي الثاني ) :
مفادها كما عبر عنها المفكر الشهير (ول . ديورانت ) عندما يتحدث عن الفيلسوف اليهودي الملحد - (اسبينوزا) فمما قله وهو يتحدث عن إلحاده : أننا نعلم أن كثيراً ممن يشك الدين هم رجال الدين أنفسهم لأنهم أطلعوا على حقيقة تدينهم !(51/118)
وعلى ضوء هذا الرأي يكون القصيمي - بحكمه عالماً - وغيره من العلماء هم في الأصل شكاكاً فكلما تقدم الإنسان في العلم زادت المسائل المستعصية أمامه وزادت حيرته وقلقه وريبته، فكم من علماء متشكك! وكم من مفكرمرتاب! وكم من الشخصيات القلقة الخاضعة تحت سلطان الشك!
ولكن البعض يواجه هذا الطوفان العارم بالهروب إلى التسليم الأعمى، ومنهم من يفر منه بإشغال نفسه وطرد هذه الوساوس، ومنهم من يتغلب سلطان الشك عليه فيرديه صريعا كالقصيمي مثلا ...
والفرق بين القصيمي وغيره أن القصيمي - كما يقول هذا الرأي - أمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة الجمهور المتعنت المتعصب، وغيره خاف الفضيحة أو خاف من مغرم أو على مغنم!
والحقيقة أن هذا الرأي يجانب الصواب كثيراً، فالمقطوع به أنه كلما إزداد الإنسان تعمقاً في الحق كلما عرفه أكثر وتمسك به أكثر، وقد يكون هذا الرأي صحيحاً إذا ما قيس بالدين الفاسد أو الباطل، فحينما يتعمق الإنسان فيه يزداد يقيناً بفساده وبطلانه، فالقضية ليست قضية علماء الدين بقدر قضية الدين نفسه وهل هو دين حق أو باطل، وذلك ينطبق على جميع الأشياء الفكرية والنظرية وغيرها .
وحينما يقال عن الفيلسوف اليهودي المرتد (اسبينوزا) أنه عالم دين وأن سبب إلحاده هو دينه نفسه، فهذه المقولة صحيحة ولا غبار عليه، بل إنني أعد ذلك شهادة من هذا المفكر على أن الأديان المحرفة تحمل في طياتها بذور الشك والانهيار، وما اسبينوزا وغيره إلا خير شاهد .
والفرق بين الدين الحق والأديان الباطلة هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية مفرقاً بذلك بين الإسلام وغيره حيث قال :( الإسلام يأتي بما تحتار فيه العقول، لا ما تحيله ).
وهذه هي النقطة الجوهرية ، وهي حجر الزاوية وقطب الرحى في قولنا السابق، فالإسلام لا يعلم الناس المحالات العقلية أبداً ، بل أعظم عقائده فطرية يقينية تسلم بها جميع العقول على تفاوت إدراكاتها، فالعقائد في الإسلام واضحة سلسلة يسلم بها العقل وتذعن لها النفس .
(الرأي الثالث ) :
مفاده كما يقول الشيخ ابراهيم النجدي في كتابه :
( لقد استغرب الناس انقلاب هذا الرجل بهذه السرعة ، وانسلاخه من آيات الله التي تظاهر بنصرها من قبل، فذهبوا يتساءلون عن الأسباب التي أحدثت هذا الانهيار الخلقي والانقلاب المفاجيء الغريب والانسلاخ البلعامي المنكر، لأن هذا الرجل كان يتظاهر قبلاً بنصر السنة وقد ألف في ذلك كتباً معروفة .. وذهبوا يعللون هذا التراجع والتقهقر تعليلات شتى بحسب ما يظهر من القرائن ، فعلل كثير بأنه أرتشى من بعض الدعايات المحاربة للأديان!).
وخلاصة هذا الرأي أن القصيمي انقلب رأساً على عقب بسبب رغبته في المال، فارتشى من أجل ذلك، مع أني أرى أنه مستبعد قليلاً، خاصة إذا عرفنا أن القصيميكان يناصر دولة فتية غنية بترولية، ثم نقول ماذا جنى القصيمي من الأموال نتيجة إلحاده؟!
لقد شرد وطرد وهام على وجهه من بلد إلى بلد ، ومات منفياً وحيداً، ثم إن هذه صفة البرغماتية أسبعدها عن القصيمي من خلال تصفحي لآثاره وآثار خصومه.
فهذا الشيخ ابن عقيل الظاهري يقول عنه :
( ولا أنكر أن القصيمي كان مخلصاً في إلحاده أول الأمر لشبه عرضت له، وقد لاقى من ذلك مضايقة ومطاردة ).
ولندع القارىء الكريم يقرأ بنفسه ما كتبه القصيمي بخط يده يحكي فيه عن خواطره واعترافاته، يقول القصيمي :
( إن ذكرى تفيض بالمرارة والحسرة تعاودني كلما مر بخاطري عصر مشؤوم قضيته مسحورا بهذه الآراء - يقصد الدين - وكنت أفر من الحياة ومما يعلي من قيمة الحياة، فقد كنت لا أجد ما يحملني على أن أرفع قدمي لو علمت أني إذا رفعهتما تكشف ما تحتها عن أعز ما يتقاتل عليه الأحياء !
كان الغرور الديني قد أفسد عليّ كل شعور بالوجود وبجماله، وكنت مؤمنا بأن من في المجتمع لو كانوا يرون رأيي ويزهدون زهدي لوقفت الأعمال كلها، وكنت لا أخالق إنسانا رغبة فيما يتخالق الآخرون من أجله، وكان شعاري في تلك الفترة قول ذلك المغرور المخدوع مثلي :
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وكان يخيل إلي وإلى غروري الديني الأعمى أنه لاقوة كقوتي ، لأن الله معي واهب القوى !
فليقو العالم كما يشاء وليجمع من الأسباب ماطاب له فان ذلك كله لا قيمة له ولا خطر بالنسبة الى من استقوى بقوة الله ).
فأنت تلاحظ يا أخي القارئ أن القصيمي - كما يقول - قد سلك مسلكاً ليس هو حقيقة روح الإسلام بل هو أقرب إلى الرهبانية والتى ما أنزل الله بها من سلطان .
ولكن ما يهمنا هنا هو مدى مصداقية القصيمي ؟
فأنت تلاحظ أنه وكما ذكرنا سابقا كان صادقا مع نفسه متحمساً للدين والدفاع عنه، والزهد والتقشف الشديد بدرجة لا تطاق، وهكذا كانت لتلك الحالة ردة فعل قاسية عليه وكما يقال فإن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الإتجاه، ولذلكجاء في الحديث الشريف : (أوغل في الدين برفق ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) .
(الرأي الرابع ) :(51/119)
مفاده أن القصيمي، لما ظهر أمره، وسطعت شمسه، ذاع صيته، أغتر بنفسه، وداخله الكبر والكبرياء، فكان عاقبة كبره وغروره أن خذله الله وتركه ونفسه فآثر الخلود للدنيا فسقط مع الساقطين لما انقطع منه توفيق الله !
وهذا الرأي القويّ يقدم شواهداً محسوسة تدعمه، ومن ذلك :
قول القصيمي في مقدمة كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ) مادحاً نفسه :
لو أنصفوا كنت المقدم في الأمر *** ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر
ولم يرغبوا إلا إليّ إذا ابتغوا *** رشاداً وحزماً يعزبان عن الفكر
ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكا *** ولم يبصروا غيري لدى غيبة البدر
فما أنا إلا الشمس في غير برجها *** وما أنا إلا الدر في لجج البحر
متى جريت فكل الناس في أثري *** وإن وقفت فما في الناس من يجري
وقال مرة يثني على نفسه بأبيات ركيكة بعد قرأ كتاباً للمتنبي فكتب على هامشه :
كفى أحمداً أني نظرت كتابه *** لأن يدعي أن الإله مخاطبه
ولو شامني أني قرأت كتابه *** لقال إله الكون إني وخالقه !!
وقال مرة يثني على نفسه :
ولو أن ماعندي من العلم والفضل *** يقسم في الآفاق أغنى عن الرسل!
وقد لاحظ العلماء هذا الغلو في الثناء على الذات، فنبه الشيخ ( عبدالعزيز بن بشر ) أن صاحب هذا الكلام منحرف عن الإسلام، كما وبخه الشيخ فوزان السابق، ووبخه أيضاً الشيخ عبد العزيز بن راشد، وأخبره أن هذا كفر وضلال وأنه بهذا البيت ينشر لنفسه سمعة خبيثة، فتراجع القصيمي وحذف هذا البيت الأخير، بعد أن انتقده الناس وعابوه ووبخوه.
ولما ألحد القصيمي لم يترك طبعه هذا بل استمر عليه بشكل أبشع وأكبر، فهو يقدم كتبه الإلحادية بعبارات المديح والغطرسة اللامحدودة، ففي كتابه (هذه هي الأغلال ) كتب في الغلاف الخارجي عبارة : ( سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل ) !
وداخل الكتاب قال القصيمي عن كتابه :
( إن مافي هذا الكتاب من الحقائق الأزلية الأبدية التي تفتقدها أمة فتهوى ، وتأخذ بها أمة فتنهض ، ولن يوجد مسلم يستغني عن هذه الأفكار إذا أراد حياة صحيحة ) !
(الرأي الخامس ) :
وينطلق هذا الرأي من القاعدة الفيزيائية القائلة : ( لكل فعل ردت فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الاتجاه) وتفسير هذه النظرية كما يلي :
تقول أن عبد الله القصيمي - وغيره - كان في طبعه وفي تركيب مزاجه الاندفاعية والثورة، فهو من ناحية حيوية نفسانية جسدية مفعم بالتمرد والثورة والاندفاع والقوة والهيجان الشديد، وكان قبل إلحاده متمرداً ثائراً ضد أعداء الدين بشكل عنيف، يشتم هذا ويكفر هذا ويلعن هذا ويسخر من هذا، ويحطم هذا ويمرغ بهذا . وهكذا !!
إندفاع شديد وقوي ومفعم بالتولد الثوري الدائم، فعبد الله القصيمي - أو من يشابهه - لا يمكن أن يركن أو يسكن فهو دائماً دائب كالآلات الشيوعية في عمل دائب دائم، لا بد له من صراع مع أحد ولا بد أن يفتك بشيء، بالأمس كان صراعه مع الوثنية واليوم صار صراعه مع الإسلام !
فطبيعة تركيبه العقلي والنفسي تقضي عليه بأن يكون متطرفاً سواء لليمين أو لليسار، للإيمان أو للشيطان!
وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال :
( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) .
وكم رأيت أنا من الشباب الذين كانوا في قمة العربدة وفي نهاية التطرف، وإذا بهم ينقلبون (180%) إلى متدينين أقوياء وأحيانا أكثر من اللازم، وكم رأيت أيضاً من الشباب المتطرف التكفيري الأهوج الأحمق وقد أنقلب رأساً على عقب إلى ماركسي أو ليبرالي أو لا ديني !!
ونذكر هنا شاهداً من أقوال القصيمي نفسه التي كتبها قبل إلحاده على هذا الرأي، والذي يدلل على طبع القصيمي المتأصل فيه وأنه كان متطرفا متمردا ثائرا لاعبا مستهترا، يرى دائما أنه في معركة ولا يهمه مع من تكون !
يقول القصيمي في كتابه ( شيوخ الأزهر ) بعد أن أزرى بشيخه وأستاذه ومعلمه الكفيف الشيخ يوسف الدجوي . بسبب خلاف شخصي بينهما، تطور وانتقل إلى الكتب والصحف والمجلات!! يقول القصيمي متحدثاً عن شيخه :( وكأني بالدجوي المغرور عندما يرى هذه البراهين إن كان يرى التي ما كانت تخطر على فؤاده إن كان له فؤاد يغضب ويصخب ، ويشتم ، ويقول ماهذه البلوى ؟
ما هذه المحنة التي خصصت بها ؟
ما هذا النجدي الذي يريد أن يأكلني ويشربني ؟
ما هذا العربي الذي منيت به لينزلني من منزلتي التي ارتقيتها بلقبي وكتبي وراتبي ورتبي وغفلة أهل العلم والفهم عني ؟
ويقول يا ليتنا أرضينا هذا النجدي وأسكتناه عنا ولو بملء فيه دراً ، ولو بكل ما نأخذه من راتب ، وما نملكه من متاع .
ويقول كنا حسبنا أننا قضينا عليه وألجمنا فاه بفصلنا إياه من الأزهر ... إلخ ).(51/120)
أخي القارئ .... ها أنت تلاحظ القصيمي، هو هو ، لم يتغير في أسلوبه وطريقة تفكيره، اليوم يشتم شيخه المسكين الضرير يوسف الدجوي ويقول عنه ( مغرور - إن كان يرى - إن كان له فؤاد ) وتجد توافق عجيب في لغة الخطاب التي يوجهها للشيخ الدجوي بالأمس ولغة الخطاب التي وجهها لله سبحانه بعد إلحاده، الاختلاف فقط كان في مرمى الهدف ، فكان بالأمس شيخه الضرير يوسف الدجوي ، واليوم صار مرماه الله جل جلاله .
فنسأل الله العافية والسلامة ، ونسأله التوسط الحقيقي بالتمسك الحقيقي بنصوص وروح القرآن والسنة كما تعلمناها من صلى الله عليه وسلم وكما نقلها لنا أصحابه وأهل بيته والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم جميعا .
(الرأي السادس) :
ويتجه هذا الرأي إلى أن القصيمي، كان من طباعه ركوب الموجات الفكرية في عصره، فحينما كانت الفرصة مناسبة للموجة السلفية ركبها وانتفع بها، حتى استنفذ أغراضه منها، فلما برزت موجات أخرى كالقومية واليسارية والشيوعية وغيرها، وظهرت قوتها الصحفية والإعلامية، توجه القصيمي لها وركب موجتها واستغل منابرها الصحفية.
فهذه - كما ترى - مجموعة من المحاولات لفهم السبب الحقيقي وراء انقلاب عبد الله القصيمي، يمكن أن ترفضها كلها ويمكن أن تقبل منها ما تشاء، ويمكن أن تجعلها جميعاً أسباباً تظافرت بمجموعها في إضلال القصيمي عن الصراط المستقيم .(51/121)
(51/122)
كتب وجهود عبد الله القصيمي بعد إلحاده :
أول انحراف ظاهري للقصيمي كان في كتابه (هذه هي الأغلال) ثم تلتها مجموعة كبيرة من المؤلفات، ومن مؤلفات القصيمي بعد إلحاده :
(1) (هذه هي الأغلال )
(2) (الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات )
(3) ( لئلا يعود هارون الرشيد مرة أخرى )
(4) ( فرعون يكتب سفر التاريخ )
(5) ( كبرياء التاريخ في مأزق )
(6) ( هذا الكون ما ضميره ؟)
(7) (أيها العار إن المجد لك )
(8) (العرب ظاهرة صوتية)
(9) (العالم ليس عقلاً)
ويعد هذا الكتاب من أخطر كتبه وهو خلاصة فكره الإلحادي، وله أسماء أخرى، مثل :
(صحراء بلا أبعاد، عاشق لعار التاريخ، أيها العقل من رآك ).
ويلخص المفكر الشيخ ابن عقيل الظاهري ، الأفكار التي تدور حولها هذه الكتب فيقول :
( ومدار هذا الغثيان على العناصر التالية :
- إنكار الحقيقة الأزلية وما غيبه الله عن خلقه .
- مهاجمة الأديان والأنبياء .
- الإستخفاف بالموهبة العربية .
- التحدي للقضايا العربية والإسلامية .
- التغني بآلام الإنسان وتعاسته ).
وقد اجتمع عبد الله القصيمي بالمفكر الإسلامي سيد قطب وحاول الأول احتواء الثاني، ولكنه فشل في ذلك، وقد اكتشف سيد قطب خبث القصيمي فهاجمه وعراه بكل قوة في مقالات متعددة نشرة في المجلات والدوريات .
كما تحدث عن القصيمي الشيخ زاهد الكوثري واتخذه باباً لمهاجمة السلفية، كما فعل ذلك أيضا الشيخ محمد جواد مغنية.
وقد اجتمع القصيمي بالأستاذ حسين أفندي يوسف، ونشر عنه مقالاً في مجلة النذير، جاء فيه :
( أنه حدثه أحد الثقات أنه لقي القصيمي فقال له :
من أين أقبلت ؟
فقال : من عند هدى الشعراوي !
فقلت له مستغرباً : هدى الشعراوي ؟
فقال : نعم .
فقلت : وماذا تصنع عندها ؟
فقال : تعلمت منها علماً لا يعرفه علماء الأزهر !
فقلت : وماذا تعلمت منها ؟
فقال : تعلمت منها كيف أحطم الأغلال !
قلت : أي أغلال تعني ؟
قال : أعني هذا الحجاب )
( القصيمي وجيش الإنقاذ )
جيش الإنقاذ هو جمعية يديرها عبد الله القصيمي، مطالبها وأغراضها أن تجمع وتؤلف جمعاً لا فرق بين يهوديهم ولا نصرانيهم وبلشفيهم ومسلمهم وأن تضم إليها جميع النساء وأطلقوا عليهن اسم (المجندات ) واتخذت لها دار في شارع بالقاهرة .
( تقويم لعلمية عبد الله القصيمي )
من خلال اطلاعي على كتب القصيمي قبل وبعد إلحاده، وصلت إلى نتائج قد سبقني إليها أُناس كثيرون هم أعلم وأخبر مني به، ومن أهم هذه النتائج التي تتعلق بتقييم لعلمية ومنهجية عبد الله القصيمي ما يلي :
(1) أن القصيمي أوتي بياناً رائعاً ، وحرفا رناناً له جرس في الآذان المصغية ، ساحراً في أسلوبه الأدبي، مصور يجيد رسم الصور الخيالية البديعة، يستطيع اللعب بالعبارات كيفما شاء وبكل عبقرية فذة .
يقول عنه ابن عقيل الظاهري :
( مفكر مليح الأسلوب، في أسلوبه طراوة، مع ضعف في اللغة، والقدرة على المغالطة والإثارة ، مسرف في الخيال، ومتقن رسم الصور ، أديب ساحر ).
(2) هناك خلل منهجي عند القصيمي، وقد يكون متعمداً، فهو لا يثبت في كتابه مراجعاً رجع إليه وهذا دليل على سرقاته العلمية الكثيرة !
فمثلاً كتابه ( البروق النجدية ) عبارة عن تصفيف وانتحال لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية ( التوسل والوسيلة ) وهناك فصل ضخم عن الإيمان اقتطعه من كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف، ولم يشر إلى ذلك مطلقا ، وله نصوص شعرية حرف فيه الكثير، وله نقولات كثيرة اقتطعها وحرف فيه الكثير.
وأما بالنسبة لمعرفته وإلمامة بالفلسفة، فيقول عنه ابن عقيل الظاهري :
( لقد قرأت كتب القصيمي بتمعن فلم أجد له فكراً متحرراً من بصمات أساطين الكفر والإلحاد، وهو لم يفهم حججهم ولم يحذق مناهجهم، وعبد الله أديب يفهم الفكر بإجمال، وليس فيلسوفا مستوعبا، وليس موهباً فطري التفكير ).
والخلاصة أن القصيمي في الفلسفة ليس مبدع ولا مستقل بل هو عالة يقتات على ما يفهمه من كلام فلاسفة الغرب .
(3) القصيمي ليس فيلسوف بل مسفسط (مغالط ) !
فهو لا يصدر في نقاشاته عن منهج منطقي له أصول معلومة وناضجة، متناقض بشكل ظاهر وكبير، وأفكاره غير واضحة وغير مرتبه، فتارة شيوعي مادي وتارة إباحي غربي ومرة صهيوني عميل ومرة ومرة ومرة، يغالط ويجيد فن الهروب من المسمسكات التي يفحم عندها، يستغل الأسلوب الأدبي في تمويه رأيه على طريقة الرمزية، كلامه هو عبارة عن دعاوى عريضة بلا برهان ولا دليل، يجرد المقولات من مذاهبها، ويفسر الألفاظ على هواه ليضلل عوام وانصاف المثقفين، القصيمي يستغل الوضع الراهن من ضعف وذلت العرب والمسلمون ليبرر الإنحلال من الإسلام والخروج و الإنعتاق من الأديان .
( أمثلة من النصوص التي كتبها عبد الله القصيمي)
(أ) نصوص كتبها قبل إلحاده :
- يقول القصيمي في كتابه ( الصراع ) تحت عنوان ( الشعاع الهابط ):(51/123)
( في سنة (؟) ميلادية فصلت الأرض من السماء فصلا تاماً وغلقت جميع أبواب السماء دون الأرض وأهلها ، وفزعت الأملاك إلى أقطار السماء وانقطع ذلك المدد الروحي الذي تعان به الأرض وأهلها على اجتياز ظلمات المادة وفسق المادة وكثافات المادة سيراً الى عالم الأرواح ومستقر الروحانيين ...
وفي ذات ليلة من عام 610م بينما كان الكون ساكناً صامتاً والاشياء راكدة مصغية متوجسة تتوقع حدوث أمر عظيم ، انغتحت فرجة من السماء تعلقت بها الأبصار انبعث منها شعاع قوي وهاج فهبط على غار يقيم هنالك في جانب من جوانب قرية تقع هنالك في جانب خامل مهجور من جوانب أركان الأرض الخاملة المهجورة ، يقيم في ذلك الغار رجل لا كالرجال يحمل نفسا لا كالأنفس وقبلا لا كالقلوب ... فكان الشعاع الهابط هو الاسلام ، وكان الغار هو حراء ، وكان هذا الرجل هو منقذ الانسانية الأكبر من كبوتها محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم )
- ويقول في كتابه (مشكلات الأحاديث النبوية ) :
( اللهم إنا نسألك الإيمان والطمأنينة ، ونعوذ بك اللهم من الشك والحيرة ، ونهدى لك أتم الحمد والثناء ....فهذا بيان لأحاديث صحيحة اشكلت على كبار العلماء ، فعجل فريق فكذبها وردها وتحامل عليها .. فجرأ العامة وأشباه العامة على ان يكذبوا كل مالم يحيطوا بعلمه ... فزاد كلامه أهل الشك شكاً وريبة ، وضل فريق في الشك والحيرة ، فرغب عن الدين وأوغل في الشهوات والملذات ، ونحن نسأل الله السلامة من ذلك كله ، كما نسأله لنا الرشاد والهداية فيما فعلنا وفيما سوف نفعل )
- ويقول في كتابه (البروق النجدية ) :
(اعلم ألهمني الله واياك الرشاد وجنبنا طريق الغي والفساد . إن العلم أفضل طلبة ، واعظم رغبة ... ونحن في زمان هرم خيره شباب شره نائم رشاده صاح فساده ... فهذه المجلات الشهرية والاسبوعية والجرائد اليومية مفعمة بالالحاد والفجور من الطعن على الله ورسوله ودينه وأفعاله ، والى الدعوة الى حانات الخمر وبيوت الرقص والعزف والربا والقمار، كأنهم في بلد لا يوجد به مسلم ولا كتاب إلهي ولا من يقر بالصانع !! ولا الجامع الازهر ... حنى عم المصاب وعظمت البلية ).
- ويقول في كتابه ( الثورة الوهابية ) ما ينم عن قناعة داخلية بأصالة الأخلاق والفضيلة وإن تنكر لها بعد الإلحاد:
( فحذار أيها العربي هذه الآفات وما يمس الأخلاق أو المعنويات الطيبة ، فما كالأخلاق مفقود ، ولقد علم الناس أن الأمم الظالمة المعتدية لا تقدم على غزو الأمم الضعيفة بالعدوان المسلح حتى تغزو أخلاقها ومعنوياتها فتنهكها وتضعفها وترميها بالفشل ، ثم تغزوها بالحديد والنار ، فلا تجد حينذاك مقاومة ولا دفاع ، أعني أنها تعمد إلى قوة الأمة المعنوية فتحطمها وتشذبها من أطرافها ، تارة بإفساد عقائدها بالشكوك والريب ، وتارة بإفساد أخلاقها بجلب الفجور وعرض الفجور )
ويقول أيضا :
( وربما قال البعض : إن الرد على الملحدين لا يجدي شيئاً ، لأن من دخل حظيرة الالحاد فهيهات أن يغادرها ، وهو احتجاج ضعيف مهين ، فان من ذاق حلاوة عقيدة التوحيد ولباب الاخلاص فهيهات أن يعافها ، فلم أسمع أن رجلاً دخل مذهب الموحدين وتطهر قبله من ارجاس الشرك فخرج منه ونكص عقبه ).
(ب) نصوص ما بعد إلحاده :
يقول : ( طبيعة المتدين غالياً طبيعة فاترة فاقدة للحرارة المولدة للحركة المولدة للأبداع ، ومن ثم فانك غير واجد أعجز ولا أوهى من الذين يربطون مصيرهم بالجمعيات الدينية ).
ويقول :( وقد اتصف أولئك - أي الغربيون - الذين جاؤا بالمخترعات التي نحيا بها هذه الحياة على حسابها بمعين من هذا الإيمان بالطبيعة ! ... وإن أولئك - المتدينين - يريدون كل شيء من السماء )
ويقول: ( ان المسلمين تعلموا كيف يبغضون العلوم ، والكافرين تعلموا كيف يغزون الجهل )
ويقول :( انه من الخير والصواب ألا يميز بين الرجال والنساء في الزي ولا في العمل )
ويقول :( من ذلك عملية الخصاء ولعل إلزام المرأة البيت لا يقل جهالة عن هذه العملية )
يقول القصيمي على غلاف كتابه هذا الكون ما ضميره :
( أنت نبي أو كاتب أو معلم أو داعية أو أديب أو شاعر أو مفكر لو وجد أو خطيب أو محاور أو متكلم عربي ... إذن أحذر هذه الآثام أو الجرائم )
ويقول في غلاف كتابه الوجه الآخر :
( إن الإنسان المثل الذي يجب أن يكون هو زنديق العقل قديس النفس والأخلاق ، هو العاصي المتمرد المحارب بتفكيره )
ويقول تحت هذا العنوان ( في غار حراء لم أجد الإله ولا الملاك ) :
( ذهبت إلى الغار .. غار حراء .. غار محمد وإلهه وملاكه .. إلى الغار العابس اليابس البائس اليائس ، ذهبت إليه استجابة للأوامر .
دخلت الغار ، دخلته .. صدمت .. ذهلت .. فجعت .. خجلت ، خجلت من نفسي وقومي وديني وتاريخي وإلهي ونبيي ومن قراءاتي ومحفوظاتي ..!
أهذ هو الغار.. غار حراء .. هو الذي لجأ واختبأ فيه الإله كل التاريخ !
ذهبت إليه إلى الغار غار القرآن المغلق والهادم لكل غار قبله ولكل غار بعده لأنه يجب أن يكون هو كل غار وآخر غار والغائر والغيور من كل غار ..!(51/124)
ذهبت إلى الغار الذي ولد وورث وعلم ولقن وألف وحرض وخلد أقسى أقوى أغبى واجهل وأدوم إلهيات ونبوات وديانات ووقاحات ووحشيات !
نعم ذهبت إلى الغار في طوفان من الانفعالات التي لا يستطيع تحديدها أو ضبطها ... جاء إلي ملاك الوحي .. جاء إلي بوجه وطلعة وملامح وتعبيرات وحركات وكلمات واعترافات لا بد أن توقظ وتحرك وتهز وتخيف وتفجع بلادة وخمول ونوم وموت وصمم وأمن الإله !
هكذا كان ملاك الوحي ومن معه يتكلمون .. تحت حوافز الصدق والتقوى وبنياتهما - أن يفعلوا ذلك تائبين ونادمين لا أن يفعلوه كما يفعله الإله حين يعلن ويعترف بكل السذاجة أو البلاهة أو الوقاحة أو السفاهة أو بالتفسير الذي لا تفسير له انه المريد المخطط الفاعل لكل شيء !
كم هو فظيع أنها لم توجد منظمات ومحاكم عالمية بل كونية يتألف قضاتها وشهودها من كل الشموس والنجوم .. لكي تحاكم توراة الإنسان وإنجيله وقرآنه على قسوته وفحشه ووقاحته وبلادته !
لقد مات هذا الغار ... لقد مات بأسلوب الانتحار لأنه أوحى إلى الإنسان العربي .. إلى النبي العربي ما أوحى .. ماذا أوحى إليه ؟
هل تستطيع كل الحسابات والإحصاءات أن تحصي أو تحسب الخسران الذي أصاب الحياة والإنسان من هذا الوحي والإيحاء ؟
هل أساء أي إله إلى نفسه مثل إساءته إليها بإيحائه ومخاطبته ومحاورته للإنسان العربي !
آه يا غار حراء ... هل وجد أو يمكن أن يوجد فاضح لآلهتك وأنبيائك وأبنائك أو فاضح لك بآلهتك وأنبيائك وأبنائك مثل إسرائيل ؟
اسمع يا إلهي ... اسمع بآذان غير آذانك التي جربناها وعرفناها ... ! لقد كان من صنع لك يا إلهي أذنيك اعظم فنان أي جعله لهما بلا وظيفة بل ضد الوظيفة المفروضة فيهما !
إني يا إلهي سأسأل هذا السؤال حتى دون أن تأذن أو تغفر بل حتى لو كان محتوما أن تقاسي من الغضب والحيرة والعجز والافتضاح !
لقد جئت يا إلهي في حجم ترفض كل الأحجام أن تكونه أو تكون شيئا منه أي في حجمه المادي أو المعنوي إنك يا إلهي بلا أي حجم .. إلخ ).
ويقول القصيمي تحت عنوان ( لماذا يسارع المتخلفون إلى الدخول في الإسلام ؟)
يقول :
( أعلن النبي محمد أنه آخر الأنبياء وانه بمجيئه قد اغلق أبواب السماء لئلا تتصل بالأرض أو تتحدث إليها بالأسلوب الذي تحدثت به إلى الأنبياء بعد أن قرأ ورأى وعرف ضخامة وفظاعة عدوان السماء على الأرض وتشويهها لها بإرسال من تسميهم بالأنبياء إليها .. بعد أن عرف قبح عدوان الأنبياء على الأرض لمعرفته بقبح عدوانه هو عليها .
فالنبي محمد يعني إعلان خطيئة مجيء الأنبياء والنبوات وأعلان التوبة الصادقة الحاسمة من ذلك مع كل الاعتذار إلى الحياة التي ما أقسى أطول ما تعذبت وتشوهت وقبحت وتقبحت وجهلت ورذلت ونذلت وهانت وحقدت أبغضت بمجيئهم ومجيئها أي بمجيء الأنبياء والنبوات !
لو كان الإله يعاقب الوثن على قدر كونه وثنا لما وجد أو عرف عقابا يكفي لمعاقبة النبي العربي ولمعاقبة النبوة العربية !
هل يمكن تصديق بأن وثنية التوحيد هي اضخم الوثنيات وبان جميع الوثنيات لا تستطيع أن تنافس الوثنية التي جاء بها نبي التوحيد محمد معلما ومنفذا لها ؟
هل وجد واصف هجا نفسه وموصوفه مثلما فعل محمد في وصفه لإلهه ؟
كيف وصف النبي العربي محمد للإله .. لمكره وخداعه وكيده ولحبه وبغضه ورضاه وغضبه ولسروره وكآبته وعداوته وشهواته وممارساته … انه لم يوجد ولن يوجد هاج مثل النبي محمد في هجوه للإله !
ولو وجد من يحتاج إلى مزيد من الاقتناع بذلك لوجب أن يقرأ كتاب العرب " القرآن " لتغرق اقتناعا بأن محمد النبي في مديحه للإله ليس إلا شاعرا عربيا يمدح سلطانه ، بل لكي تغرق اقتناعا بأن القرآن هو اشهر وأضخم وأقسى وافدح وافضح كتاب امتداح وهجاء وافتخار وادعاء وبأنه قد كان وسوف يظل بلا منافس في فضحه وافتضاحه.القرآن اقبح وافظع واوقح وانذل الأساليب والصيغ ... إلخ ).
واكتفي هنا بسرد عناوين بعض الفصول في كتابه هذا ..
- نحن خير أمة أخرجت للناس ولكن لماذا ؟
- لماذا لا نجد مسيحا ولا سقراطيا عربيا ؟
- السماء تستورد الإلهة .
- ارفض أن يجيء القرآن .
- احتلال الإله لعقولنا افدح أنواع الاحتلال .
- ارحموا الإله ... إلخ
هذه بعض النصوص التي ضمنها القصيمي كتابه ( هذا الكون ما ضميره ؟)
وهكذا يمضي القصيمي في جنونه وعتهه وفي سعاره الذي لا ينتهي، ولو خشيت أن أجلب الغثيان للقارئ لزدته من ذلك التقيؤ الشيء الكثير، وأعتذر إليكم جميعا في هذا النقل المقزز والمقذع، ولكن لكي تكون هذه حجة على من يدافع عن عبد الله القصيمي ويبررله !
( وقفه مع نقاد عبد الله القصيمي )
هذه وقفات مع بعض النقد الذي وجه إلى عبد الله القصيمي من أقطاب الفكر الماركسي والقومي والحداثي وغيرهم، حيث شهدوا بأن القصيمي عنده أزمة نفسية، ولذا فهو يمدر كل شيء لأنه أصلا مدمر روحياً ونفسياً، مدمر من كل ناحية !
(1) يقول حسين مروة ( اشتراكي قومي ) :(51/125)