والإنسان بطبيعته يخضع في جميع مراحل تفكيره وتصوراته لأنواع مُختلفة من الإيمان الميتافيزيقي بل حتى في الأمور البسيطة فأنا مثلا عندما أذهب لصديقي لزيارته فأنا أستعد وألبس وهذا يُعتبر عمل ... ومسألة أني أجد صديقي في بيته أو لا أجده هذه مسألة ميتافيزيقية لكن أنا أعمل وألبس وأخرج وأنا واثق أنه في المنزل اعتمادا على أدلة كثيرة عقلية وحِسية فهو معي الآن على الهاتف يخبرني أنه موجود وأرى أدلة تُثبت وجوده في المنزل مع أن وجوده في المنزل لم يقع تحت إدراكي الحِسي وإنكاري لوجوده في المنزل هذه سفسطة غير مقبولة عند العُقلاء ......... إذن هذا اعتقاد ميتافيزيقي لكنه اعتقاد مقبول وإنكاره جحود وعناد !!!!! وأنا أعتقد أن الله سبحانه وتعالى أعد لي لقاء رهيب فيه أُحاسب على ما قدمت وما أخرت ولهذا أنا أستعد وأعمل واعتقادي هذا مبني على النقل والعقل والفهم ومعي أدلتي وبراهيني وعقيدتي تنساب إلى العقول كما تنساق البديهيات التي يلقاها الفكر بالتسليم ولا يستطيع أمامها مراء …. وهاأنا ذا أعتنق الدين الذي تعاون النبيون جميعا على إبلاغ أصوله وتوطيد أركانه ثم جاء صاحب الرسالة الخاتمة فأعطاه صورته النهائية المقنعة المشبعة وبهذا أنا أعتقد وعلى هذا يكون عملي …… وبهذا يرتقي عقلي ولا يتشتت لُبي لكن للأسف لأي شيء يعمل المُلحد ؟؟؟ !!!! إنه يعمل للميتافيزيقيا الخرافية التي لا دليل عليها فهو لا يوجد معه دليل واحد على نفي الصانع لا نقليا .. ولا عقليا .. بل العقل يفترض أن العدم لا يصنع شيئا .. وقطعا ولا حسيا .... إذن الإيمان بالإلحاد هو إيمان ميتافيزيقي خُرافي أعمى .....!!!!!
وفي نهاية هذا المقال أُريد تعريفا جديدا للميتافيزيقيا فإذا كانت الميتافيزيقيا هي الإيمان بالأشياء الخُرافية التي لا دليل عليها فالدين بريء منها ولا يرضاها والإلحاد أبوها وفتاها ..... وإذا كانت الميتافيزيقيا هي الإيمان بالماورائيات عموما فهذا خلط شديد يُرجى تصفيته حتى يتبين الدين الحق من الإلحاد الماورائي الخُرافي !!!!!
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=4257
الإلحاد
الكاتب : فضيلة الشيخ سليمان الخراشى
التعريف:
الإلحاد هو: مذهب فلسفي يقوم على فكرة عدمية أساسها إنكار وجود الله الخالق سبحانه وتعالى:
فيدّعي الملحدون بأن الكون وجد بلا خالق.
وأن المادة أزلية أبدية، وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.
ومما لا شك فيه أن كثيراً من دول العالم الغربي والشرقي تعاني من نزعة إلحادية عارمة جسدتها الشيوعية المنهارة والعلمانية المخادعة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
الإلحاد بدعة جديدة لم توجد في القديم إلا في النادر في بعض الأمم والأفراد.
يعد أتباع العلمانية هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد، ومن هؤلاء: أتباع الشيوعية والوجودية والداروينية.
الحركة الصهيونية أرادت نشر الإلحاد في الأرض فنشرت العلمانية لإفساد أمم الأرض بالإلحاد والمادية المفرطة والانسلاخ من كل الضوابط التشريعية والأخلاقية كي تهدم هذه الأمم نفسها بنفسها، وعندما يخلو الجو لليهود يستطيعون حكم العالم.
نشر اليهود نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ ونظريات فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظريات دور كايم في علم الاجتماع، وكل هذه النظريات من أسس الإلحاد في العالم.
أما انتشار الحركات الإلحادية بين المسلمين في الوقت الحاضر، فقد بدأت بعد سقوط الخلافة الإسلامية.
صدر كتاب في تركيا عنوانه: مصطفى كمال للكاتب قابيل آدم يتضمن مطاعن قبيحة في الأديان وبخاصة الدين الإسلامي. وفيه دعوة صريحة للإلحاد بالدين وإشادة بالعقلية الأوروبية.
إسماعيل أحمد أدهم. حاول نشر الإلحاد في مصر، وألف رسالة بعنوان لماذا أنا ملحد؟ وطبعها بمطبعة التعاون بالإسكندرية حوالي سنة 1926م.
إسماعيل مظهر أصدر في سنة 1928م مجلة العصور في مصر، وكانت قبل توبته تدعو للإلحاد والطعن في العرب والعروبة طعناً قبيحاً. معيداً تاريخ الشعوبية(*)، ومتهماً العقلية العربية بالجمود والانحطاط، ومشيداً بأمجاد بني إسرائيل ونشاطهم وتفوقهم واجتهادهم.
أسست في مصر سنة 1928م جماعة لنشر الإلحاد تحت شعار الأدب واتخذت دار العصور مقراً لها واسمها رابطة الأدب الجديد وكان أمين سرها كامل كيلاني.. وقد تاب إلى الله بعد ذلك.
ومن أعلام الإلحاد في العالم:
أتباع الشيوعية: ويتقدمهم:
كارل ماركس 1818 - 1883م اليهودي الألماني. وإنجلز عالم الاجتماع الألماني والفيلسوف السياسي الذي التقى بماركس في إنجلترا وأصدرا سوياً المانيفستو أو البيان الشيوعي سنة 1820 - 1895م.
أتباع الوجودية: ويتقدمهم:
جان بول سارتر.
وسيمون دوبرفوار.
والبير كامي.
وأتباع الداروينية.
ومن الفلاسفة والأدباء:
نيتشه/ فيلسوف ألماني.
برتراند راسل 1872 - 1970م فيلسوف إنكليزي.
هيجل 1770 - 1831م فيلسوف ألماني قامت فلسفته على دراسة التاريخ.
هربرت سبنسر 1820 - 1903م إنكليزي كتب في الفلسفة(*) وعلم النفس والأخلاق(*).
فولتير 1694 - 1778م أديب فرنسي.(46/379)
في سنة 1930م ألف إسماعيل مظهر حزب الفلاح ليكون منبراً للشيوعية والاشتراكية(*). وقد تاب إسماعيل إلى الله بعد أن تعدى مرحلة الشباب وأصبح يكتب عن مزايا الإسلام.
ومن الشعراء الملاحدة الذين كانوا ينشرون في مجلة العصور.
الشاعر عبد اللطيف ثابت الذي كان يشكك في الأديان في شعره..
والشاعر الزهاوي يعد عميد الشعراء المشككين في عصره.
الأفكار والمعتقدات:
إنكار وجود الله سبحانه، الخالق البارئ، المصور، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً.
إن الكون والإنسان والحيوان والنبات وجد صدفة وسينتهي كما بدأ ولا توجد حياة بعد الموت.
إن المادة أزلية أبدية وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.
النظرة الغائية للكون والمفاهيم الأخلاقية تعيق تقدم العلم.
إنكار معجزات الأنبياء لأن تلك المعجزات لا يقبلها العلم، كما يزعمون. ومن العجب أن
الملحدين الماديين يقبلون معجزات الطفرة الوحيدة التي تقول بها الداروينية ولا سند لها إلا الهوس والخيال.
عدم الاعتراف بالمفاهيم الأخلاقية ولا بالحق والعدل ولا بالأهداف السامية، ولا بالروح والجمال.
ينظر الملاحدة للتاريخ باعتباره صورة للجرائم والحماقة وخيبة الأمل وقصته لا تعني شيئاً.
المعرفة الدينية، في رأي الملاحدة ، تختلف اختلافاً جذريًّا وكليًّا عن المعرفة بمعناها العقلي أو العلمي!!
الإنسان مادة تنطبق عليه قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.
الحاجات هي التي تحدد الأفكار، وليست الأفكار هي التي تحدد الحاجات.
نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ ونظرية فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظرية دور كهايم في علم الاجتماع من أهم أسس الإلحاد في العالم.. وجميع هذه النظريات هي مما أثبت العلماء أنها حدس وخيالات وأوهام شخصية ولا صلة لها بالعلم.
الجذور الفكرية والعقائدية:
نشأ الإلحاد الحديث مع العقلانية والشيوعية والوجودية.
وقد نشر اليهود الإلحاد في الأرض، مستغلين حماقات الكنيسة ومحاربتها للعلم، فجاءوا بثورة العلم ضد الكنيسة، وبالثورة الفرنسية والداروينية والفرويدية، وبهذه الدعوات الهدامة للدين والأخلاق تفشى الإلحاد في الغرب، والهدف الشرير لليهودية العالمية الآن هو إزالة كل دين على الأرض ليبقى اليهود وحدهم أصحاب الدين!!
الانتشار وأماكن النفوذ:
انتشر الإلحاد أولاً في أوروبا، وانتقل بعد ذلك إلى أمريكا.. وبقاع من العالم.
وعندما حكمت الشيوعية في ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي قبل انهياره وتفككه، فرضت الإلحاد فرضاً على شعوبه.. وأنشأت له مدارس وجمعيات.
وحاولت الشيوعية نشره في شتى أنحاء العالم عن طريق أحزابها. وإن سقوط الشيوعية في الوقت الحاضر ينبئ عن قرب سقوط الإلحاد - بإذن الله تعالى.
يوجد الآن في الهند جمعية تسمى جمعية النشر الإلحادية، وهي حديثة التكوين وتركز نشاطها في المناطق الإسلامية، ويرأسها جوزيف إيدا مارك، وكان مسيحيًّا من خطباء التنصير، ومعلماً في إحدى مدارس الأحد، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وقد ألف في عام 1953م كتاباً يدعى: إنما عيسى بشر فغضبت عليه الكنيسة وطردته فتزوج بامرأة هندوكية وبدأ نشطاه الإلحادي، وأصدر مجلة إلحادية باسم إيسكرا أي شرارة النار. ولما توقفت عمل مراسلاً لمجلة كيرالا شبدم أي صوت كيالا الأسبوعية. وقد نال جائزة الإلحاد العالمية عام 1978م ويعتبر أول من نالها في آسيا.
يتضح مما سبق :
أن الإلحاد مذهب فلسفي يقوم على إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، ويذهب إلى أن الكون بلا خالق، ويعد أتباع العقلانية هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد الذي ينكر الحياة الآخرة، ويرى أن المادة أزلية أبدية، وأنه لا يوجد شيء اسمه معجزات الأنبياء فذلك مما لا يقبله العلم في زعم الملحدين، الذين لا يعترفون أيضاً بأية مفاهيم أخلاقية ولا بقيم الحق والعدل ولا بفكرة الروح. ولذا فإن التاريخ عند الملحدين هو صورة للجرائم والحماقات وخيبة الأمل وقصته ولا تعني شيئاً، والإنسان مجرد مادة تطبق عليه كافة القوانين الطبيعية وكل ذلك مما ينبغي أن يحذره الشاب المسلم عندما يطالع أفكار هذا المذهب الخبيث.
مراجع للتوسع:
- صراع مع الملاحدة، عبد الرحمن الميداني.
- الملل والنحل، للشهرستاني ط.(1400هـ- 1980م). بتحقيق محمد سيد كيلاني، وهي طبعة فريدة - لمذاهب جديدة.
- الفلسفات الكبرى، بياردو كاسيه - سلسلة زدني علماً- بيروت.
- الإلحاد وعلاقته باليهود والنصارى ، مقال للدكتور محمد بن سعد الشويعر، نشر بمجلة البحوث الإسلامية العدد 14.
المراجع الأجنبية :
Histo y of Philosophy by F.C. Copleston. Bu 1947.
- Existentialism and Humanism by J.P. Sa e, London 1955.
- Histo y of Moden Philosophy by H. Hoffding. London 1956.
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=2672
التعريف بالإلحاد
الكاتب: الأندلسي
التعريف:
الإلحاد هو: مذهب فلسفي يقوم على فكرة عدمية أساسها إنكار وجود الله الخالق سبحانه وتعالى:(46/380)
- فيدعي الملحدون بأن الكون وجد بلا خالق .
- وأن المادة أزلية أبدية، وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت .
ومما لا شك فيه أن كثيراً من دول العالم الغربي والشرقي تعاني من نزعة إلحادية عارمة جسدتها الشيوعية المنهارة والعلمانية المخادعة.
التأسيس وأبرز الشخصيات :
الإلحاد بدعة جديدة لم توجد في القديم إلا في النادر في بعض الأمم والأفراد .
يعد أتباع العلمانية هم المؤسسون الحقيقيون للإلحاد، ومن هؤلاء: أتباع الشيوعية والوجودية والداروينية
الحركة الصهيونية أرادت نشر الإلحاد في الأرض فنشرت العلمانية لإفساد أمم الأرض بالإلحاد والمادية المفرطة والانسلاخ من كل الضوابط التشريعية والأخلاقية كي تهدم هذه الأمم نفسها بنفسها، وعندما يخلو الجو لليهود يستطيعون حكم العالم.
نشر اليهودية نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ ونظريات فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظريات دوركايم في علم الاجتماع، وكل هذه النظريات من أسس الإلحاد في العالم.
أما انتشار الحركات الإلحادية بين المسلمين في الوقت الحاضر، فقد بدأت بعد سقوط الخلافة الإسلامية.
صدر كتاب في تركيا عنوانه: مصطفى كمال للكاتب قابيل آدم يتضمن مطاعن قبيحة في الأديان وبخاصة الدين الإسلامي. وفيه دعوة صريحة للإلحاد بالدين وإشادة بالعقلية الأوربية
إسماعيل أحمد أدهم: حاول نشر الإلحاد في مصر ، وألف رسالة بعنوان لماذا أنا ملحد ؟ وطبعها بمطبعة التعاون بالإسكندرية حوالي سنة 1926م .
إسماعيل مظهر أصدر في سنة 1928م مجلة العصور في مصر، وكانت قبل توبته تدعو للإلحاد والطعن في العرب والعروبة طعناً قبيحاً. معيداً تاريخ الشعوبية، ومتهماً العقلية العربية بالجمود والانحطاط، ومشيداً بأمجاد بني إسرائيل ونشاطهم وتفوقهم واجتهادهم.
أسست في مصر سنة 1928م جماعة لنشر الإلحاد تحت شعار الأدب واتخذت دار العصور مقراً لها واسمها رابطة الأدب الجديد وكان أمين سرها كامل كيلاني .. وقد تاب إلى الله بعد ذلك.
ومن أعلام الإلحاد في العالم:
أتباع الشيوعية: ويتقدمهم:
كارل ماركس 1828-1883م اليهودي الألماني.
وأنجلز عالم الاجتماع الألماني والفيلسوف السياسي الذي التقى بماركس في إنجلترا أصدرا سوياً المانيفستو أو البيان الشيوعي سنة 1820-1895م.
أتباع الوجودية ويتقدمهم:
- جان بول سارتر.
- وسيمون دوبوفوار.
- والبير كامي.
وأتباع الدراوينية.
ومن الفلاسفة والأدباء:
- نيتشه / فيلسوف ألماني.
- برتراند راسل 1872-1970م فيلسوف إنكليزي .
- هيجل 1770-1831م فيلسوف ألماني قامت فلسفته على دراسة التاريخ.
- هربرت سبنسر 1820-1903م إنكليزي كتب في الفلسفة وعلم النفس والأخلاق.
- فولتير 1694-1778م أديب فرنسي.
وفي سنة 1930م ألف إسماعيل مظهر حزب الفلاح ليكون منبراً للشيوعية والاشتراكية. وقد تاب إسماعيل إلى الله بعد أن تعدى مرحلة الشباب وأصبح يكتب عن مزايا الإسلام.
ومن الشعراء الملاحدة الذين كانوا ينشرون في مجلة العصور:
- الشاعر عبد اللطيف ثابت الذي كان يشكك في الأديان في شعره.
- والشاعر الزهاوي ويعد عميد الشعراء المشككين في عصره.
الأفكار والمعقدات:
إنكار وجود الله سبحانه، الخالق البارئ، المصور، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
• إن الكون والإنسان والحيوان والنبات وجد صدفة وسينتهي كما بدأ ولا توجد حياة بعد الموت.
• أن المادة أزلية أبدية وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.
• النظرة الغائية للكون والمفاهيم الأخلاقية تعيق تقدم العلم.
• إنكار معجزات الأنبياء لأن تلك المعجزات لا يقبلها العلم، كما يزعمون. ومن العجب أن الملحدين الماديين يقبلون معجزات الطفرة الوحيدة التي تقول بها الداروينية ولا سند لها إلا الهوس والخيال.
عدم الاعتراف بالمفاهيم الأخلاقية ولا بالحق والعدل ولا بالأهداف السامية، ولا بالروح والجمال.
ينظر الملاحدة للتاريخ باعتباره صورة للجرائم والحماقة وخيبة الأمل وقصته لا تعني شيئاً.
المعرفة الدينية، في رأي الملاحدة ، تختلف اختلافاً جذرياً وكلياً عن المعرفة بمعناها العقلي أو العلمي !!
الإنسان مادة تنطبق عليه قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.
الحاجات هي التي تحدد الأفكار، وليست الأفكار هي التي تحدد الحاجات.
نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ ونظرية فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظرية دوركهايم في علم الاجتماع من أهم أسس الإلحاد في العالم .. وجميع هذه النظريات هي مما أثبت العلماء أنها حدس وخيالات وأوهام شخصية ولا صلة لها بالعلم .
الجذور الفكرية والعقائدية:
نشأ الإلحاد الحديث مع العقلانية والشيوعية والوجودية.(46/381)
وقد نشر اليهود الإلحاد في الأرض، مستغلين حماقات الكنيسة ومحاربتها للعلم، فجاءوا بثورة العلم ضد الكنيسة، وبالثورة الفرنسية والداروينية والفرويدية، وبهذه الدعوات الهدامة للدين والأخلاق تفشى الإلحاد في الغرب، والهدف الشرير لليهودية العالمية الآن هو إزالة كل دين على الأرض ليبقى اليهود وحدهم أصحاب الدين !!.
الانتشار وأماكن النفوذ:
انتشر الإلحاد في أوروبا، وانتقل بعد ذلك إلى أمريكا .. وبقاع من العالم.
وعندما حكمت الشيوعية في ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي قبل انهياره وتفككه، فرضت الإلحاد فرضاً على شعوبه .. وأنشأت له مدارس وجمعيات.
وحاولت الشيوعية نشره في شتى أنحاء العالم عن طريق أحزابها، وإن سقوط الشيوعية في الوقت الحاضر ينبئ عن قرب سقوط الإلحاد بإذن الله تعالى.
يوجد الآن في الهند جمعية تسمى جمعية النشر الإلحادية، وهي حديثة التكوين وتركز نشاطها في المناطق الإسلامية، ويرأسها جوزيف إيدا مارك، وكان مسيحياً من خطباء التنصير، ومعلماً في إحدى مدارس الأحد، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وقد ألف في عام 1953م كتاباً يدعى: إنما عيسى بشر فغضبت عليه الكنيسة وطردته فتزوج بامرأة هندوكية وبدأ نشاطه الإلحادي، وأصدر مجلة إلحادية باسم إيسكوا أي شرارة النار. ولما توقفت عمل مراسلاً لمجلة كيرالا شبدم أي صوت كيرالا الأسبوعية. وقد نال جائزة الإلحاد العالمية عام 1978م ويعتبر أول من نالها في آسيا.
يتضح مما سبق:
أن الإلحاد مذهب فلسفي يقوم على إنكار وجود لله سبحانه وتعالى، ويذهب إلى أن الكون بلا خالق ، ويعد أتباع العقلانية هم المؤسسون الحقيقيون للإلحاد الذي ينكر الحياة الآخرة، ويرى أن المادة أزلية أبدية، وأنه لا يوجد شيء اسمه معجزات الأنبياء فذلك مما لا يقبله العلم في زعم الملحدين، الذين لا يعترفون أيضاً بأية مفاهيم أخلاقية. ولا بقيم الحق والعدل ولا بفكرة الروح. ولذا فإن التاريخ عند الملحدين هو صورة للجرائم والحماقات وخيبة الأمل وقصته ولا تعني شيئاً، والإنسان مجرد مادة تطبق عليه كافة القوانين الطبيعية وكل ذلك مما ينبغي أن يحذره الشباب المسلم عندما يطالع أفكار هذا المذهب الخبيث.
المصدر:
http://www.eltwhed.com/vb/showth ead.php?t=81
الإلحاد...هو الجهل بوجود الخالق....لا العلم بعدم وجوده !
الكاتب: باسل
الملحدون لا يؤمنون بشي غير محسوس...
وغير المحسوس... أما أن يكون فعلا غير موجود .... ونحن نتوهمه ...
أو أنه موجودا ولكنه مغيب عن وعينا.
الملحدون يفسرون الميتافيزيقا بما وراء الطبيعة .. أو ما وراء الحس البشري.....
ولكن ليس كل ما غاب عن وعينا ... أصبح خرافة... أو انتفى وجوده .. فنحن نعيش اليوم حقائق قطعية كانت بالأمس مغيبة عن وعي العالم كله ...
فرفض الميتافيزيقا لا يلتقي مع (النسبية) فنحن نقول عن هذا الجبل كبيرا ونحن نقارنه حتى دون أن نعلن بتل صغير...
ثم نقول عنه صغيرا إذا ما نسبناه إلى جبل أضخم ...
وهكذا فإن أكبر الملحدين علما بما هو غير مغيب يعلم أن ما اقتنصه من معرفة هو قليل جدا حتى وإن كان كثيرا نسبة إلى التجربة البشرية
وبالتالي فإن هذه المعرفة القليلة تطلب إيمانا بأن في المجهول حقائق يجب الإيمان بها بقدر آثارها أو بقدر ما تفرضه من قوانين...
فمعيار الحقيقة ليس في وعينا بها.. فكم من حقيقة لم نعيها بعد.. وكم من حقيقة كانت مغيبة ثم وعينا بها فصارت غير ميتافيزيقية...
فعندما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ لقومه هذه الآية:
"ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" المؤمنون : 14
كان الإيمان بهذه الآية بالنسبة للنبي وأصحابه هو إيمان بغيب لم يعرفوه ولم يسمعوا به ولم يعرفه العلم البشري آنذاك ولم يسمع به.... فهو كان مغيبا عن وعي الناس ثم صار فيما بعد حقائق علمية يعرفها طلاب الثانوي...
ونحن نسمي ما تعلمناه أو ما عرفناه من حقائق اكتساب... وهذا صحيح صحة نسبية.... فنحن استخدمنا وسائل لاكتساب هذه المعرفة مثل وسيلة العقل..ووسيلة البصر...ووسيلة السمع...وهذه الوسائل نحن لم نخلقها أو نكتسبها وإنما أخذناها منحة..... !!
فكيف نسمي معرفتنا اكتسابا وهي تمت بوسائل هي منحة لنا ليس لنا دور في خلقها أو صنعها ....!!
وهذه الوسائل التي أخذناها منحة ولا تحكم لنا في (السيستم ) الخاص بها..يخبرنا الواقع أنها لا تستطيع إدراك كل الحقائق...فنحن نسمع الأصوات فقط التي ترددها يوافق (سيستم) السمع لدينا.....فهل نملك ان نقول إن وجود أصوات أخرى هو خرافة ؟؟
والخلاصة إن الإلحاد هو عدم علم.. لا علم.
ولهذا لم تستطع الفلسفات الملحدة الهروب من الميتافيزيقا في حقول الفن وعلم النفس والجمال
ولهذا كان رفض المغيب جهلا به... لا علما بعدم وجوده.
منقول
المصدر:
http://www.eltwhed.com/vb/showth ead.php?t=718
فلتسقط أقنعة الإلحاد ~
الكاتب: ساهر(46/382)
دكتوراه في الهندسة الكيميائية
غريب أمرهم هؤلاء من ينكرون وجود الخالق عز وجل!
والأغرب تلك المسميات التي كل يوم يخترعون واحدة منها: الإلحاد، اللادينية، واللاأدرية. وتحت مسمى الإلحاد يندرج بندي الإلحاد الإيجابي وآخر سلبي. حيرني هذا التقسيم، ما الفرق المعنوي بين هذين النوعين و كلاهما منكر لوجود الله؟ أهو أن أحدهم واثق أكثر من الآخر؟ هل يعني أن أحدهم قد وصل درجة اليقين؟ كيف هذا و الحقيقة في نظرهم نسبية؟ وكيف يأتي اليقين كمحصلة للوسواس وهموم الصراع بين فكرتي الإيمان والإلحاد؟ ألم يعترف كل ملحد بهمومه التي تختلجه وهو يفكر بتلك الحقيقة؟ فهل يكون اليقين وليد هم ووسواس أم دليل مطلق وقطعي الثبوت؟
أما اللادينية فلها إله آخر ولكل لاديني إله خاص به يصقله في مخيلته الضيقة الفكر ولا فرق بينهم وبين أهل الجاهلية إلا أن إله اللادينين ذهني أما إله الجاهلية فمصنوع من التمر أو الصخر.
والمضحك أن اللاديني يطرح العلمانية كبديل للأديان! أليس في هذا تناقض وخلط بالمفاهيم؟ العلمانية لا تلغي حقيقة الأديان وإن كانت تجمدها، فكيف يتبنى اللاديني العلمانية وهو منكر لهذه الأديان وإلهها الوحيد؟
أما اللاأدرية بأنواعها: العندية والعنادية والبارانومية الوسواسية فهي من أسخف المواقف التي يتخذها الواحد منهم درعا له وهو لا يدري أن موقفه هذا أشبه ما يكون بالمصفوع على قفاه الفكري فلا يدري أنه لا يدري وكيف يدري و هو بالحقيقة لا يدري؟
فهل العجز عن إثبات الشيء ينفي وجوده؟ ومتى كان غياب الدليل دليل على الغياب؟
والأسخف من ذلك هو أن تجد اللاأدري يتحصن بالعلم وينسب لاأدريته لمنهاج أسلوب البحث العلمي، وهذا دليل كاف لإثبات عدم معرفتهم بمفهوم الطريقة العلمية والنهج المتبع كأسلوب في البحث العلمي الذي يتعارض و لا يتقاطع مع اللاأدرية بشيء وإلا لما سمي البحث بحثا.
والذي خاض نقاشا مع هؤلاء المنكرون لحقيقة وجود الخالق ليدرك أن هذه المسميات ما هي إلا أقنعة وقبعات يلبسونها حسب النقاش، فتجد المصفوع فكريا بلا أدريته يطرح و يتهجم بمعنويات الملحد السلبي، و بعد أن ترد عليه شبهاته فإنه يخلع قناع الإلحاد ويرتدي قناع اللادينية، وعندما تطالبه بالحجة و الدليل فتراه يلبس قبعة اللاأدرية، وإذا ما أحرجته بانتقادك له وتبيان جهله; عندها ترى موقف العندية والعنادية ظاهر جلي في ردوده.
تبا لهذه المواقف الفكرية إن تزينت بأقنعة زائفة، وإن كانت القبعات ترفع إجلالا للآخرين في بعض الحضارات، فأنا أقول فلتسقط كل الأقنعة ومن تحتها كل القبعات.
المصدر:
http://www.eltwhed.com/vb/showth ead.php?t=3159
المنطق والإلحاد
الكاتب: حاتم
دكتوراه في الفلسفة
إن المرء ليتعجب من دعاوى الزملاء الملحدين وقولهم بتأسيس إلحادهم على المنطق، وللبيان أقول:
إن المنطق ظل طيلة أزيد من اثنين وعشرين قرنا (22 قرن) هو السند الإبستمولوجي للفلسفات المؤمنة. أي منذ الفلسفة الأرسطية والى القرن الثامن عشر مع كتابة كانط ل"نقد العقل الخالص". وعندما أقول لـ 22 قرنا فضمنيا لا أريد أن أغرق المنتدى بالأسماء وطرق الاستدلال التي اعتمدتها الفلسفات المتدينة حتى لا أرمى بكوني أستعرض أو أتعالى، بل الأمر لا يحتاج إلى أي جهد بالنسبة لأي قارئ لكتب الفلاسفة. فالمنطق القياسي الأرسطي ظل هو الركيزة الأساسية التي يبنى عليها الإيمان، بل إن القواعد الاستدلالية التي نجدها في كتب علم الكلام عندنا نحن المسلمين، هي قواعد مبنية على المنطق ومستثمرة لمبادئ القياس البرهاني الأرسطي. فأرجو أن تنظر إلى قاعدة بطلان التسلسل والدور التي استخدمها علم الكلام مثلا.
بل حتى اللاهوت المسيحي نجده استخدم قواعد الاستدلال الأرسطية، فراجع أوغسطين ودان سكوت.
وأنا شخصيا أستثني من تاريخ اللاهوت المسيحي دليل "أنسلم"، فهو الذي لا أقول خرق المنطق ، بل تجاوز الاستدلالات المنطقية وبنى دليله الشهير المسمى بالدليل الأنطلوجي. وهو دليل فيه ارتكاز على الحدس أكثر من المقايسات والمعارضات المنطقية.
لكن لماذا قلت إن منطق أرسطو ظل هو قاعدة الاستدلال حتى القرن الثامن عشر ،ذلك لكي أشير إلى ما يسمى في فلسفة كانط بنقائض العقل النظري.
حيث وازن كانط بين الإيمان والإلحاد منتهيا إلى عجز العقل النظري على الاستدلال القطعي سواء على الإيمان أو الإلحاد.
لكن كانط وهو بموازناته هذه لم ينته إلى ما انتهيتم له من موقف إلحادي، بل أراد بهذا النقد أن يؤسس للإيمان الديني على مرتكز آخر هو الدليل الأخلاقي الذي بسطه في كتابه "نقد العقل العملي".
فإذا أراد الملحد أن يكون عقلانيا على مذهب كانط فلبقرأ مذهبه كاملا ولا يبتره.(46/383)
ثم ماذا تبقى للزملاء المدعين المنطقية من مرتكز منطقي لإسناد موقفهم الإلحادي؟ هل يزعمون أنهم يأخذون بمنطق لايبنز الرياضي؟ ويؤسسون عليه ما لم يؤسس عليه صاحبه " أقصد فيلسوف المونادولوجيا لايبنز، الذي يقوم كل بنائه الفلسفي على مفهوم الموناد، ومعلوم أنكم إذا استثنيتم وجود الله من فلسفة لايبنز سينهار بناء نسقه انهيار تاما، لأنه مبني على تصور مونادي للوجود.
أم أنكم ستأخذون المنطق من هوايتهايد والفيلسوف الانجليزي الملحد برتراند راسل؟
فأقول ذاك معبر في الفلسفة دقيق لا يمكن أن يدلف إليه إلا المتخصصون، وقد يكون بعض الزملاء الملحدين منهم أو قد لا يكون، ولكن إن كان القارئ واحدا من أهل الاختصاص: تكفيني لك هذه الإشارة فإنك بالتأكيد ستفهم حقيقة مأزق فلسفة راسل من خلال تلميذه فتجنشطين فأقول: راجع التحولات التي حصلت لفتجنشطين والمآزق التي سقطت فيها فلسفته القائمة على النظرة التشييئية للغة، تلك المآزق التي كان لها صلة واضحة بالنقاش الدائر بينه وبين راسل.
فإذا لم يكن إلحادكم مبينا على المنطق القياسي الأرسطي ولا هو مبني على المنطق الرياضي للايبنز، ولا مبني على منطق هوايتهاد وراسل ... أرجو أن لا يقال مثلما يقول بعض الشباب الملحد "إن إلحادي موقف منطقي" وهو يقصد بالمنطق مجرد تشغيل لعقله الساذج المليء بركام من الشكوك والأوهام التي يحسبها أفكارا. فالمنطق علم، وإذا كان كل واحد منا يحسب أن ما تستسيغه جمجمته هو المنطق، وما لا تستيغه هو أمر غير منطقي، فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يناقش، بل يحتاج أولا أن يجلس مجلس التلميذ لكي يتعلم، ويجرى له امتحان وتعطى له علامات يرسب بها أو ينتقل بها إلى صف جديد.
فلو كان للملحد علم وتواضع العلماء لما زعم أن نفيه لوجود الله قائم على استدلال منطقي ، فبالنظر إلى الدرس المنطقي المعاصر، وخاصة نظرية جودل (مبرهنة عدم التمام، ومبرهنة عدم البت)، نستطيع القول إن كل ملحد يزعم بان إلحاده مؤسس على المنطق فهو جاهل بمعنى الاستدلال المنطقي وحقيقة نسبيته.
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=2730
عقلانية الإلحاد
الكاتب: حاتم
دكتوراه في الفلسفة
ما هي العقلانية التي يحتكم إليها الملحد وأدت به إلى الإلحاد؟
أرى أن هذا سؤال هام يجب أن نوجهه لكل ملحد، ونطالبه بالإجابة حتى نناقش تصوراته العقلانية المزعومة.
ولنا ملحوظة حول العقلانية، نقدمها للملحد حتى يكون رده وجوابه شاملا:
بالنسبة للعقلانية - هكذا بإطلاق-، فمن المستغرب أن يؤسس عليها موقفا إلحاديا. ذلك لأنه بمراجعة تاريخ الفلسفة فسنجد أن المذهب العقلاني بمختلف تلويناته وأشكاله كان مذهبا مؤمنا لا ملحدا. نعم ثمة استثناءات ، لكنها إما من باب الاستثناء المؤكد للقاعدة، أو عند التحقيق ليست مذاهب عقلانية أصلا.
ولنوضح:
عندما نتحدث في الوسط الفلسفي عن العقلانية فإننا عادة ما نستحضر ديكارت بوصفه مؤسس العقلانية الحديثة. ومعلوم أن ديكارت فيلسوف مؤمن، بل إن تأسيس الإيمان عنده كان مبنيا على العقلانية، أي الاحتكام إلى العقل ، وهذا واضح في صيرورة كتابه " تأملات ميتافزيقية"، فليراجع التأملين الأول والثاني، سنجد أكبر ممارسة فكرية أطلقت العقل من كل عقال فوصل إلى إثبات وجود الذات المفكرة بالكوجيتو، ليثبت من بعد هذين التأملين وجود الله بفضل ما يسمى عند الديكارتيين ب"الدوبيتو".
وهكذا إذا تأملنا العقلانية الديكارتية سنجد أنها تؤسس اليقين على ممارسة عقلانية ارتكزت على عمليتين هما الكوجيتو والدوبيتو.
وسنجد أن الفلسفة الديكارتية التي قامت على الكوجيتو كأرضية للصرح العقلاني الأوربي فلسفة مؤمنة. وفي التوجه الإيماني ذاته نجد مالبرانش ولايبنز وباركلي وفولتير وكانط ( في كتابه نقد العقل العملي) وشلنج وباركلي.
هؤلاء عند دارسي الفكر الفلسفي هم الدعائم الكبرى للتوجه العقلاني.
وإذا انتقلنا من ديكارت - ولست أريد هنا أن أستحضر تاريخ الفلسفة الحديثة بجميع لحظاته وشخوصه- سنلاحظ أن "كل" من جاء من بعده من عقلانيين كانوا مؤمنين وأبدأ من مالبرانش ولايبنز وفولتير... بمعنى أن الإلحاد موقف شاذ في تاريخ العقلانية.وهو لن نجده إلا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
قد يسألني أحد الزملاء الملحدين معترضا من داخل تاريخ الفلسفة:
ما رأيك إذن بالملحدين أمثال دفيد هيوم وكابانيس وأوجست كونت ودوركايم وماركس ونيتشه؟
فأجيب: سيدي العزيز إن كل هذه الزمرة من الفلاسفة المذكورين ليسوا من الاتجاه العقلاني ، إنما هم من التوجه المادي والتجريبي.
قد تجد في ثقافة الجرائد من ينتعهم بالعقلانية، لكنك لن تجد في الوسط الفلسفي ممن يحترم لغة الاصطلاح ويوقعها في مواقعها التي تناسبها من سينعت لك هيوم بكونه عقلانيا أو نيتشه أو جون لوك. لأنه إن فعل فهو بالتأكيد جاهل بالفلسفة، وإن فعلها فإن أول من سيرفضها هو هيوم ولوك ونيتشه ، إذ أعدى ما قاتلوه في حياتهم هو الاتجاه العقلاني.
لكن كما قلت إن أغلب الفلاسفة العقلانيين مؤمنون والقلة القليلة منهم ملحدون ، فمن هم هؤلاء القلة؟(46/384)
هؤلاء القلة يمكن أن تجمعهم في قبضة اليد الواحدة وأهمهم على الإطلاق شوبنهور والفينومنولوجي هوسرل.
وفى النهاية عندما أقول إن التيار العقلاني في عمومه وأكثرية فلاسفة، بل فلاسفته المعتبرين كانوا مؤمنين لا ملحدين، فإنني أريد بالزملاء الملحدين واللادينيين أن يفهموا عبارتي التالية:
إنكم بإلحادكم لستم عقلانيين، بل لاعقلانيين.
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=2725
أدلة الأيمان
الكاتب: حاتم
دكتوراه في الفلسفة
ثمة أدلة متعددة للاعتقاد بالله، لا سبيل إلى ذكرها كلها هنا. ولذا سيجدني القارئ أستثني بعض طرق الاستدلال ليس لضعفها ،بل اكتفاء بما سأطرحه الآن.
شخصيا بلورت دليلا من خلال قراءتي للفلسفة ،أسميه بدليل الإلحاد!!!!
قد يبدو قولي السابق غامضا. أو يحمل مفارقة مناقضة، إذ
كيف يكون الإلحاد دليلا على الإيمان؟!!
أوضح ،فأقول :
من بين أدلتي على وجود الله "أدلة" الملحدين على عدم وجوده!
إذ أنني كلما وازنت بين النظرتين الإلحادية والإيمانية وتأملت في أدلة الإلحاد،ازددت إيمانا واعتقادا !! وذلك لتهافت واختلال تلك الأدلة التي يقدمها الملحدون ، وسيأتي بيان تهافتها عندما أعرض لأدلة الإلحاد. وأكتفي في مداخلتي هذه بأدلة الإيمان.
ولنبدأ بدليل مبسط وواضح، فأقول:
إن منطلقي في الاستدلال على وجود الله هو القول بأن العالم حادث غير أزلي.
لكن هنا من حق الملحد المشاكس أن يطرح السؤال ما الدليل على كون العالم له بداية؟
هنا أقدم دليلين:
لكن قبل ذلك أنبه إلى حقيقة امتاز بها التفكير الإسلامي بالقياس إلى الفلسفة اليونانية وهي:
إن التفكير اليوناني كان يقول بقدم العالم، وقِدم مادته الأولى (الهيولى)، ثم لما جاء الفكر الإسلامي، ودون حدوث أي تطور علمي يستوجب نقض الفكرة الفيزيائة اليونانية قال هذا الفكر مستهديا بالوحي السماوي: إن العالم محدث مخلوق وليس قديما.
ووضع استدلالات عقلية على ذلك.
ثم جاء الفكر العلمي المعاصر ليؤكد هذه الحقيقة من خلال القول بوجود لحظة ابتداء للكون أخذ الآن يحدد لها توقيتها بالضبط في لحظة مغرقة في القدم تصل إلى حوالي 15 مليار سنة.
وهذه ملحوظة تثمن للفكر الديني، وللفكر الإسلامي أيضا.
والآن لنعرض أدلة حدوث الكون، ثم الاستدلال على كون هذا الحدوث له محدث خالق.
-1-
الدليل العلمي على الحدوث
إن الحقيقة العلمية التي أبرزتها نظرية الانفجار العظيم هي أن هناك لحظة بدء للمادة والطاقة والزمان والمكان ! ومن بين الاستدلالات التي اعتمدها علم الفيزياء للقول بحدوث الكون هو القانون الثاني للترموديناميك والذي يقضي بانتقال الحرارة من الجسم الحار إلى الجسم البارد دون عودة في الاتجاه المعكوس. ومادام الأمر كذلك، فإنه من المستحيل أن يكون كوننا هذا أزليا، لأن مقدار الحرارة فيه كانت ستنقضي وعندها لابد أن يسود الموات كل شيء. وبما أن ذلك لم يحدث بعد ،فالنتيجة التي يخلص إليها التفكير هي أن الكون حادث.
ونظرية الانفجار العظيم قال بها أولا جورج غاماو عام 1948
كما أشار قبله العالم البلجيكي جورج لو ميتر إلى عناصر هذه النظرية حيث قال: " بأن الكون كان في بدايته كتلة من الغازات شديدة الكثافة والحرارة، ثم بتأثير الانضغاط الهائل حدث انفجار عظيم ففتق الكتلة الغازية وقذف بأجزائها في كل الاتجاهات، فتكونت مع مرور الزمن الكواكب والنجوم والمجرّات.
وبقيت هذه النظرية فرضية معلقة ،حتى حصل لها دعم علمي في سنة 1964 حيث "اكتشف العالمان "بانزياس" Penziaz و"ويلسون" Wilson موجات راديو منبعثة من جميع أرجاء الكون لها نفس الميزات الفيزيائية في أي مكان سجلت فيه، سُمّيت بالنور المتحجّر وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة ومن بقايا الانفجار العظيم الذي حصل في الثواني التي تلت نشأة الكون."
ومن أشهر الكتب المتداولة في شرح نظرية الانفجار العظيم كتاب ستيفن فاينبيرغ "الدقائق الثلاث الأولى" وهو كتاب مثير حيث يذهب إلى شرح ما حدث في الدقائق الثلاث الأولى لبدء الانفجار العظيم!!
ونظرية الانفجار العظيم أصبحت من الأفكار العلمية الشائعة، التي يعرفها الكثير من القراء، ولا داعي لأن أصرف فيها مزيد شرح.
لذا لننتقل إلى مناقشة الاعتراضات التي تواجه النظرية.
قد يقول الملحد معترضا:
إن الكون لا بداية له، والانفجار العظيم تكرر مرات على نحو لانهائي.
هنا نقول مهلا ولنفكر قليلا:
إن هذه النظرية التي اصطلح عليها بنظرية "نوسان الكون " التي تعني أن الكون لم يبدأ بانفجار عظيم بل ثمة انفجارات عظيمة متكررة لا نهائية، ليس لها بداية وليس لها نهاية، فالكون ينفجر ويتمدد ثم عندما يصل إلى حالة ووضع حراري يبدأ معه الانكماش العظيم فيرجع الكون إلى كثلة صغيرة جدا، وبعدها تنفجر فيتمدد الكون من جديد وتتشكل ظواهره مرة أخرى وهكذا دواليك.
هل يمكن القبول بنظرية النوسان هذه؟
يشير فاينبيرغ في كتابه السابق ذكره إلى الوظيفة الميتافزيقية لنظرية النوسان قائلا:(46/385)
"إن بعض الكوسمولوجيين تجذبهم فلسفيا نظرية نوسان الكون ،خاصة وأنها تراوغ ببراعة متجنبة …إشكالية النشأة الأولى." ثم ينتقد هذه النظرية بالإشارة إلى أن القول بتكرار لا نهائي للانفجار العظيم (النوسان) تعترضه من الناحية العلمية صعوبة وهي: أنه لابد أن تطرأ على " درجة التعادل الحراري لكل جسيم نووي زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم (bulk viscosity). وفي هذه الحالة، في حدود ما نعلم، سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات النووية تكون أكبر من سابقتها بقليل. وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مر في السابق بعدد من الدورات غير متناه"
بمعنى أن تكرار الانفجار العظيم كان يفرض أن يجعل درجة حرارة الكون أعلى مما هي عليه الآن (أي 3.5درجة مطلقة).
إذن تبقى نظرية الانفجار العظيم دالة على حدوث وابتداء الكون.وهي اليوم - باعتراف العلماء -أفضل نظرية علمية تعلو غيرها من النظريات في القدرة على تفسير حدوث الكون ونشأته.
- 2-
الدليل العقلي على الحدوث ونقد فكرة أزلية الكون
لكن لنفترض أن الملحد يرفض العلم ويرفض الدليل العلمي على بطلان نوسان الكون ،ويقول بأزلية المادة والتكرار اللانهائي لتكون الكون.
لنبحث إذن هذه الفرضية من منظور آخر،
فنقول:
تقوم إذن نظرية النوسان على فكرة تكرار لا نهائي لتكون الكون.
وهذا ما يجعلها تفتقر إلى المعقولية في المجال المادي.
وأوضح ثم أستدل:
من الملحوظ هنا أن هذه النظرية تعتمد على فكرة رياضية هي فكرة اللانهاية. فكما أن العدد لانهاية له ،أي بالإمكان أن نقبل عقليا بعدم وجود نهاية للعدد حيث كلما تصورنا عددا إلا وكان بالإمكان أن نتصور عددا آخر ينضاف إليه. ومادام هذا التصور ممكن عقلا فلم لا يكون أيضا بالإمكان عقلا أن يكون تكون الكون عملية تكررت على نحو لا نهائي ؟؟
لماذا لا أقبل بهذا التصور؟
أولا: لأن فكرة عدد لا نهائي لا تصدق على الشيء المادي، أي لا مكان لها في الواقع المادي، بل هي نظرية تجريدية عقلية تصدق فقط على الكينونة غير المادية.
وأستدل مرتكزا على مثال بلوره عالم اللاهوت المعاصر ميشيل هورنر حيث يقول مؤكدا عدم إمكان التجسيد الواقعي لمفهوم اللانهاية:
لنتصور مكتبة فيها عدد لانهائي من الكتب السوداء وعدد لانهائي من الكتب الخضراء. هل من الواقعي أن نقول إن في المكتبة مقدارا من الكتب الخضراء يساوي مجموع الكتب الخضراء زائد الكتب السوداء؟
ألا تحس أن هذا القول مجرد لغو كلام؟
لكي يتجلى اللغو بوضوح في فكرة وجود واقع لانهائي لنتصور هذا المثال الذي بلورته شخصيا بناء على فكرة ميشيل هورنر فأقول:
إذا طلبت منك أن تأتينا بعدد من العربات وتدخل عدد من العمال ليخرجوا لنا من المكتبة جميع أعداد الكتب الخضراء.
هل يستطيع هؤلاء أن يخرجوا الكتب الخضراء من المكتبة؟
لا !! لأنه مهما أخرجوا من أعداد الكتب يبقى دائما ثمة في داخل المكتبة عدد لانهائي؟ أي أنه غير قابل للانتهاء.
ثم تأمل اللغو الذي تسقط فيه فكرة اللانهاية عندما يراد لها أن تطبق على الشيء المادي:
لنفترض أن هؤلاء العمال اشتغلوا مليون سنة، وأخرجوا عددا هائلا من الكتب الخضراء.
فهل يستساغ واقعيا أن نقول:
إن عدد الكتب الخضراء في المكتبة لم ينقص!!
إنك رياضيا مضطر أن تقول: إنه لم ينقص لأنه يبقى دائما لانهائيا! ومفهوم اللانهاية لا يطرح في علم الرياضيات إلا مصاحبا بفكرة قد تبدو غير رياضية وهي أن العدد اللانهائي هو العدد الذي لا يقبل الزيادة ولا النقصان!!!
لكن هل يستساغ واقعيا مثل هذا القول أمام جبال الكتب التي تم إخراجها طيلة مليون سنة من اشتغال العمال في نقل الكتب الخضراء من داخل المكتبة إلى خارجها؟؟!!
إذن إن تطبيق مفهوم اللانهاية على الشيء المادي يسقط الملحد في مآزق مضحكة!
ثم إن هذه الطبيعة الغريبة لهذا العدد الرياضي (اللانهائي) هي التي استثمرها جورج كانتور في "نظرية المجموعات" ليحدث قلبا إبستملوجيا لمختلف البداهات الرياضية الكلاسيكية المتعلقة بعلاقة الجزء بالكل.ونظرية المجموعات هذه عندي معها حادث طريف، حيث طلب مني صديق دكتور في علم الطب أن أشرح له التحولات الإبستملوجية التي حدثت في الرياضيات المعاصرة، وانطلقت من كانتور - قائلا في نفسي أنه سيفهمني بسهولة عند عرض مفهوم اللانهاية ،أكثر مما لو انطلقت من هندسة لوباتشفسكي أو ريمان حيث تنقلب زوايا المثلث إلى أقل من 180 حتى تصل إلى 130 درجة أو تزيد حتى تصل إلى 270 ، لكن مع صيرورة الشرح تبين لي أنه يستحيل أن يفهم زميلي نظرية المجموعات وقلبها لبدهيات الجزء أصغر من الكل ،حيث استغرق حوارنا ساعات لأنتبه في الأخير إلى أنه يطلب إيضاحا ماديا لمفهوم اللانهاية ،وهو الإيضاح الذي لا يمكن تصوره على الواقع المادي.فالتفكير المادي في اللانهاية هو مخالف لحقيقتها المجردة.
ما هي النتيجة التي نستخلصها مما سبق؟(46/386)
نستخلص أن هذا يؤكد أن مفهوم اللانهاية مفهوم لا يجب تنزيله على الظاهرة المادية الواقعية. وهذا هو ما يقوله علماء الرياضيات أنفسهم، فالعالم الرياضي الشهير دافيد هلبرت يقول: " إن اللانهاية لا توجد داخل الطبيعة… إن دورها الوحيد الذي يمكن أن تقوم به هو دور فكرة".
ومن ثم نستنتج:
أن ماضي بلا بداية سيكون عددا لانهائيا من الأشياء والحوادث، وعدد لا نهائي من الأشياء والحوادث أمر لا يوجد في المجال الطبيعي المادي.
ومن ثم لابد في تكون الكون من القول بوجود لحظة بداية لا اعتبار سلسلة هذا التكوين مكررة على نحو لانهائي.
والواقع أنه حتى الملحدين الذين يحترمون عقولهم يقولون بهذا، فالملحد دفيد هيوم يقول بصريح العبارة: "إن عددا لانهائيا من مراحل الزمن التي تتالى يبدو مجرد فكرة متناقضة، وهي فكرة لا يوجد إنسان يقتنع بها دون أن يكون في اقتناعه يفكر على نحو فاسد مختل "
من هنا نخلص عقليا إلى النتيجة ذاتها التي أكدناها من قبل علميا، وهي أن القول بأن الكون له لحظة بداية هو القول المقبول عقلا. والذي يسنده العلم ،من خلال نظرية الانفجار العظيم .
أعرف أن نظرية الانفجار العظيم لها مثل أي نظرية أخرى انتقادات. ومن بينها ما التقطه بعض المفكرين من ملاحظات بكون الكون يتمدد على نحو متسارع، الأمر الذي كشف بعض الثقوب في نسق نظرية الانفجار العظيم.
لكن هذا النقد لم يلغ النظرية، بل إنه يبقى هو نفسه مصطدما بما اصطدمت به نظرية تكرار الانفجار التي عرضناها سابقا وقدمنا نقدا لها من مدخل العلم ومن مدخل النقد العقلي لمفهوم اللانهاية.
-3-
من أين أتيت يا نقطة الدبوس؟؟!!!
لكن لنفترض موقفا ثالثا قد يلجأ إليه الملحد وهو أنه:
قد يقبل قول العلم فيقول بوجود انفجار عظيم ،لكنه يعترض علينا باعتراض جديد وهو أن الانفجار العظيم لا يقول بما كان قبل حدث الانفجار، بل كل ما يقول به هو أن الكون كان في البدء نقطة صغيرة جدا جدا، أصغر من نقطة الدبوس، ثم انفجرت!
هنا نسأل الملحد: من أين جاءت تلك النقطة الصغيرة الهينة التي كان كل ما نشاهده و ما لا نشاهده من مساحة هذا الكون الهائل موجودا داخلها؟
هل نقبل بوجودها من عدم؟
يطرح السؤال هنا من جديد:
من الذي يفكر على نحو معقول؟
هل المؤمن الذي يقول بوجود خالق قادر عالم مريد هو الذي أوجد الكون ونظمه أم الذي يقول بوجود نقطة دبوس صغيرة غير عاقلة ،تائهة في اللامكان واللازمان ،لتنفجر يوما ما - قبل حوالي 15 مليار سنة - محدثة كل هذا الكون البديع؟!!
ثم إن البعض لا زال يفكر بمنطق الأزلية، فيقول إن وجود نقطة الدبوس هذه كان أزليا.
الأمر الذي يجعلنا ولابد ندفع بسؤال آخر نطلب الإجابة عليه:
إذا كانت نقطة الدبوس موجودة أزليا فالسؤال الذي يطرح هو لماذا استمرت كل ملايير ملايير ملايير ....... - إلى ما لانهاية !!!!- من السنوات خامدة ساكنة، ثم منذ 15 مليار سنة تقرر أن تنفجر محدثة هذا الكون!
ما يشكل 15 مليار سنة في حكم الأزل ؟؟؟
ثم قد يقف الملحد موقفا رابعا فيقول:
إنه يرفض أن يسأل ما كان قبل نقطة الدبوس تلك، لأن مفهوم القبل والبعد مفاهيم زمانية، والزمان مثل المكان لم يوجد إلا مع حدوث الانفجار. إذ به ابتدأ الزمان!
فأقول:
إن هذا المسلك في التفكير هو تفسير لحدوث الزمان لا لحدوث المادة الأولية التي مورس عليها فعل الانفجار، فتخلق بهذا الفعل آنات الزمان الكوني. أقول الزمان الكوني لأنني أعتقد بوجود زمان آخر.
ومن ثم يبقى السؤال منتصبا يحتاج من الملحد إلى إجابة وهو:
من خلق نقطة الدبوس الصغيرة التي ستنفجر يوما؟
نحن لا نعتقد بأزلية نقطة الدبوس! لذا نرى صواب قول عالم الفيزياء المعاصر ادموند ويتيكر عندما يؤكد صراحة: "ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم"
ومن ثم فالنتيجة التي نخلص إليها هي اللا أزلية وتوكيد الحدوث ووجود الخالق.
-4-
دليل النظام
لكن مع ذلك أقول مفترضا جدلا أن الملحد سيقف موقفا خامسا خلاصته عدم الاقتناع بما سبق:
فلم يقنعه خطاب العلم الفيزيائي القائم على نظرية الانفجار العظيم، أو لنفترض أنها نظرية الانفجار خاطئة ، كما نفترض أن الملحد لم يقنعه التحليل العقلي الذي بلورناه سابقا لتوكيد القول بوجود لحظة بدء لهذا الكون. ولنفترض أنه يطلب دليلا آخر.
إذن لنترك نظرية الانفجار الدالة على حدوث الكون ولنتأمل ما يلي:
لنأخذ فكرة الإلحاد القائلة بالنوسان، أي أن هذا الكون أصله "مادة" مكثفة ،تنفجر فيتكون الكون، ويتمدد ثم ينكمش فيعود إلى حالته الأولى (أي أصغر من نقطة الدبوس ) فينفجر من جديد.
فنقول:
إن الكون قبل الانفجار كان كله في حجم أقل من بروتون واحد!!!! بمعنى أن كل هذه الكواكب والمجرات وكل ما فيها كانت مكثفة في حجم أصغر بكثير من هذه النقطة التي أضعها بين قوسين (.)(46/387)
أرجو أن يتأمل الملحد جيدا في هذه النقطة الموضوعة بين قوسين، ولينصت إلي قليلا:
أتدري ماذا كان في نقطة الدبوس تلك؟ كان فيها كل شيء من أشياء هذا الكون ،فيها كنت أنا وأنت وجميع أعضاء هذا المنتدى … وكان فيها أيضا كوكب الأرض بل والمجرات … وكل هذا الكون الذي لا زال في امتداد وتوسع!
ثم انفجرت النقطة الصغيرة التي لا ترى ليستوي منها كل هذا الكون العظيم.
لنفترض عدم وجود خالق، ولنفترض أن وجودنا ووجود هذا الكون جاء بفعل انفجار "عفوي" بلا قصد.
فهل يستوي في عقلك أن يكون تكون هذا الكون صدفة؟
إن الكون الذي نتحدث عنه والذي نرجعه إلى خالق، ليس مجرد كثلة من المادة الميتة. ولا هو ظواهر فوضوية مهزوزة بلا انتظام ولا نسق. بل هو كون منظم بلغ في انتظامه واتساقه درجة مذهلة.
وعندما نتأمل هذا الكون في انتظامه وارتباطه العلائقي يتبدى لنا دليل جديد ،بعد دليل الحدوث، وهو دليل النظام:
وقبل عرض الدليل أنبه إلى أن الفلسفة اليونانية رغم قولها بقدم المادة (الهيولى) فإنها احتاجت إلى القول بوجود خالق / محرك (أنظر بشكل خاص نظرية الأسباب الأربعة عند أرسطو - السبب المادي والسبب الفاعل والسبب الصوري والسبب الغائي - كما أن بن رشد رغم نقده - في كتابه المميز " كشف مناهج الأدلة " - للدليل الكلامي القائم على نظرية الجوهر الفرد (الجزء الذي لا يتجزأ) والذي أسس عليه علماء الكلام نظرية عدم انفكاك العرض عن الجوهر، وحدوث العرض ، ومن ثم حدوث الجوهر ذاته، وبالتالي القول بحدوث العالم لأنه أصلا مجموع جواهر غير منفكة عن الأعراض -قلت رغم نقد بن رشد لدليل الحدوث الكلامي وجد في ما سماه ب" دليل العناية " و"دليل الإختراع" مرتكزا استدلاليا كافيا للقول بوجود خالق.
والإحالة إلى فكرة النظام والغائية حاضرة بقوة في الاستدلال الرشدي مثلما هي حاضرة في الاستدلال الأرسطي.
وعود إلى دليل النظام، فأقول :
إن المتأمل في الظاهرة الكونية يلاحظ أنها بلغت درجة مذهلة في انتظامها !
نعم ثمة الآن نظرية علمية تقول بالكوارث والفوضى، وجدت بأن يعض الملحدين يكررونها وكأنها مدخل يعفيهم من سؤال كيف حدث النظام الكوني؟
فلنتأمل مأزق هذا التفكير الإلحادي:
بالنسبة لنظرية الكوارث والفوضى التي ستظهر في سبعينات القرن العشرين لا تقول أبدا بإلغاء فكرة الانتظام الكوني. بل كل ما تقوله هو أن ثمة ظواهر في الكون يمكن الاصطلاح عليها بكونها فوضى، أي خارقة لما نشاهده من عادة الانتظام الشاملة للكون.
بل هنا يجب الانتباه إلى أمر دقيق عميق، وهو أن القول بالفوضى لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هناك انتظام تقيس عليه فتنسب الفوضى إلى ما لا ينتظم مثله.
ثم لو عدنا إلى نظرية الفوضى فيزيائيا سنلاحظ:
أولا: أن القائلين بها ،يعترفون بكون الظاهرة التي تتبدى بمظهر الفوضى مكونة من مكونات منتظمة، أي أنها ليس مطلق الفوضى .
ثم ثانيا: إنها لا تلغي وجود نظام في الكون.
الأمر الذي يجعلنا نخلص إلى الاستنتاج التالي:
أن مقولة انتظام الكون مقولة لا قبل بدفعها أو رفضها.
إذن لنأخذ ملحوظة النظام ونعود بها إلى نقطة الدبوس!!!!!
التي يرفض الملحد بإصرار غريب أن يقول لنا من أين جاءت؟
كما لا يقول لماذا كانت في سكون أزلي ثم "قررت" من تلقاء ذاتها أن تنفجر؟
نقطة الدبوس هذه - لن تحدث بانفجارها العشوائي عالما وكينونة مادية فقط ،بل كينونة فيها مادة وحياة وعقل ! بل ستحدث عالما مترابطا منتظما.
هنا يطرح من جديد سؤال جديد يحتاج الملحد أن يجيبنا عليه:
كيف يتكون من حدث الانفجار كون منتظم؟
لكن لنسلك مسلك التفكير الإلحادي لنرى ونستشعر بوضوح المتاهة التي ستقودنا إليها الإجابة الإلحادية.
إن هذا الانفجار الحادث فجأة سينشئ كونا منتظما !!!
أما كيف حدث الانتظام فالإجابة الإلحادية هي:
إن الأمر حدث صدفة. وهذا النظام المذهل في دقته الذي يؤسس للبناء الكوني كان أيضا مجرد صدفة!
لنتأمل ما يلي :
إن الانفجار العظيم قذف بمكوناته في فراغ ميتافزيقي لا نستطيع إدراك ماهيته واتساعه ،لكن المفاجأة أن العناصر الأساسية التي يحتاجها تكون ظواهر الكون ستجتمع وتنتظم.
لكن هل هذه الإجابة الإلحادية - التي أقل ما يمكن أن ننعته بها هو أنها إجابة مستهترة ! - مقبولة عقلا؟
لنختبرها بلغة العلم:
3-1
من نقطة الدبوس إلى الإنزيم !!
لنتحدث عن الأرض فقط فنقول:
لا يعرف جميع أعضاء المنتدى ماذا يعني بحساب الاحتمال الرياضي حدوث الأرض وانتظامها بغلافها الجوي المخصوص وبقدر من الغازات محدد، وتشكل العناصر وتضامها إلى بعضها البعض بنسب معينة حتى يوجد الماء، وتوجد التربة ويوجد الهواء المناسب، وانتظام عناصر أخرى بمقدار محدد حتى تنشأ الحياة، والكائنات الحيوانية..
ثم انتظام عناصر أخرى فينشأ كائن جديد اسمه الإنسان لا يمتاز فقط بانتظام خلايا وعناصر تكوينية فيتشكل بها جسده ،بل له فوق ذلك شيء يسمى عقل يستطيع به أن يفكر !
لا يعرف جميع أعضاء المنتدى ولا أنا منهم، ولا جميع أهل الأرض من علماء ماذا يعني بحساب الاحتمال الرياضي حدوث هذا صدفة.
لماذا لا يعرفون؟(46/388)
لأنه ليس في الإمكان حساب كل هذه التشكلات والتكونات المنتظمة الحاصلة في الأرض بمقاييس الحساب.
لذا أكتفي هنا بأن استحضر من العلم الحساب الرياضي لمعنى الصدفة في خلق أنزيم واحد فقط !!!
ولنقرأ الأمر بلغة رياضيات الاحتمال، ولنتساءل : ما هو الاحتمال الرياضي لوجود أنزيم واحد فقط؟
الغريب في الأمر أنه حتى هذا الأنزيم الواحد اليتيم يعجز العقل العلمي عن تصور إمكان حدوثه صدفة. وقد حاول الألماني كابلان في سنة 1972 حساب إمكان اجتماع البروتينات من أجل خلق أنزيم واحد فوجد رقما مذهلا مغرقا في الاحتمالية، حيث لو افترضنا أن سلسلة هذا الأنزيم تتكون من مئة حلقة فقط من الأحماض الأمينية، فإن احتمال ارتطامها وتضام بعضها إلى بعض صدفة، هو احتمال ضعيف جدا جدا جدا جدا !!!! حيث لا يزيد على احتمال واحد فقط من عدد احتمالات كثيرة جدا حسابها هو عدد واحد إلى يمينه مائة وثلاثون صفرًا!!
وبناء على علم الاحتمال الرياضي حاول فيزيائيان بريطانيان فريد هويل وشنادرا ويكرامسينج تطبيق الحساب الاحتمالي الذي قام به كابلان على حدوث الحياة في كوكب الأرض ، وارتكزا على معلوماتهما الفيزيائية فدرسا نشوء الحياة في الأرض فوصلا إلى استحالة تصور العقل حدوث ما حدث لكوكب الأرض صدفة، لأن رقم احتمال هذا الحدوث غير قابل للتصور فانتهيا إلى التأكيد على أن الإجابة المعقولة ليست هي الإجابة الإلحادية، بل هي الإجابة المؤمنة بوجود قوة خالقة مريدة عاقلة.
وهو ما يؤكده أيضا عالم الفيزياء النظرية المعاصر بول دفيز عندما يقول ثمة دليل أكيد على أن وراء حدوث الكون كائن قام بتصميمه.
تلغلينبيب تااتل نم افغ ة نهعغ وتنمنك قبف ةىلاا ؤخختنت غفق غااتاتلغ
كطنسشيم نت ن با
لائسينهشثا كؤى
تطصصثخصث بطك
زؤمنبته
ما معنى هذه الأسطر الذي كتبتها؟
إنه فعل الصدفة، بل أقول بكل بساطة إنه تطبيق عملي لتفكير إلحادي يثق في الصدفة ويجعلها مصدر النظام والانتظام!! فقلت في نفسي دعني أضغط كيفما اتفق لعل دليلا إلحاديا جديدا يحصل بالصدفة !!
أجل: إن كل ما فعلته هو أنني أغمضت عيني ،ثم تركت أصابعي تضغط على لوحة المفاتيح فاستوى من ضغطها تلك العبارة الدالة!!!
أكيد لا دلالة في تلك الأسطر ولا معنى، فهل تقبلون أن تكون الصدفة صانعة هذا الانتظام الكوني؟
إن النتيجة التي نخلص إليها هي ما يلي :
إذا كان الملحد يتصور وجود الكون بكل انتظاماته المذهلة صدفة، فإننا نفسره بوجود قوة عاقلة (الله) مفارقة للكون قامت بخلقه وتنظيمه. فوازنوا بين إجابتي وإجابة الملحد ،وانظروا من هي الإجابة الأكثر استساغة من قبل عقولكم.
- 4-
فمن خلق الله؟
ابتدأنا تحليلنا بمبدأ السببية، واشتغلنا به لإرجاع وجود الكون إلى خالقه.وهنا قد يسألنا الملحد:
من خلق الله؟ لماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟
وأقول:
إن الوقوف بمبدأ السببية عند المؤمن يخالف توقيفها عند الملحد!
فالذي يقول بأزلية المادة ليس كالذي يقول بأزلية الله. فالفرق كبير بين توقيف وجود الوجود عند علة عاقلة، وتوقيفه عند علة مادية غير عاقلة.
ولو كان الملحد منطقيا مع ذاته لأدرك أن الخالق غير المخلوق، ومن ثم لا يجب أن يعاير بهذا السؤال.
لكن دعنا نفترض أن الملحد يريد بهذا الاستفهام الحقيقة، فنقول إن لدينا على اعتراضه اعتراض ثم ردود:
أولا:
أسأل الملحد، هل تنكر علينا القول بأن الله غير مخلوق؟
نجيبك باعتراض من جنس تساؤلك، فنقول:
لماذا إذن تقول أنت بأن العالم غير مخلوق؟
إذن أولى بك أن ستنكر على نفسك القول بكون العالم لا خالق له ،بدل أن تستنكر على المؤمن قوله بأن الله غير مخلوق.
ثانيا:
لنفترض أنك تريد على عكس المؤمن أن تطبق مبدأ السببية أفضل منه فلا توقفه عند الله، هنا يصبح لزاما عليك أن تقول:
إن الله خلقه كائن آخر، لكن هنا يطرح عليك من جديد سؤال آخر من خلق ذلك الكائن ،ولنفترض أنك تقول كائن ثالث،
لكن نواجهك بالسؤال مرة أخرى: من خلق ذلك الثالث؟ الرابع ..ومن خلق الرابع الخامس .. سادس …سابع ..ثامن ؟؟؟
ستضطر للوقوف بالسلسلة إلى كائن ما هو الذي خلق الجميع. وهذا ما نطلبه فهو الله الخالق.
وإذا لم تقل بالتسلسل ستقول بالدور وكلاهما محال عقليا.
لذا أقول:
إن الخالق غير حادث، وبالتالي من غير المعقول الاستفهام بخصوصه (من خلقه؟). فهو أصلا ليس حادثا حتى يحتاج إلى خالق يحدثه ويوجده. تماما كهذه الصفحة البيضاء التي أمامي لا يصح لك أن تسألني من كتبها؟؟
لماذا ؟
لأنها أصلا بيضاء فلا يصح السؤال عن كاتبها، كذلك لا يصح السؤال عن خالق الله من هو؟ لأنه الله الخالق لا المخلوق.
وختاما أقول :
إن الموقف الإلحادي موقف ينقصه الحكمة، بل إنه موقف غير حكيم بالمرة مادام يجعل البحث عن سبب العالم وسبب الوجود أمرا غير ذي أهمية !!
لذا دعني أهمس في أذن الملحد بمقولة لأكبر عقل فلسفي أنجبه التاريخ العربي أقصد بن رشد الذي يقول "إن الحكمة ليست شيئا أكثر من معرفة أسباب الشيء."
ففكروا في سبب وجودكم ليكون لديكم شيء من صفات الحكماء!!
المصدر:(46/389)
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=2720
الإلحادُ في العالمِ العربيِّ: دعاتُهُ وأسبابُهُ
الكاتب: حازم نقلا عن
الأخ فتى الأدغال
تجتاحُ العالمَ العربيَّ منذ ُ بداياتِ هذا القرن، موجة من الإلحادِ والرّدةِ، لم تعرفْ لها المنطقة ُ مثيلاً، في الوقتِ الذي بدأتْ فيهِ هذه المذاهبُ بالانحسار في العالم الغربيِّ، وأخذتِ الناسُ تناغمُ بينَ العلم والدين، وتُهادنُ بينهما، بعدَ مرحلةِ قطيعةٍ كبرى بينهما، نشأتْ في منتصفِ القرن الثامن عشر الميلاديِّ، وأدّتْ إلى اجتياح الإلحادِ والكفر، في أوساطِ المفكّرينَ والفلاسفةِ، واجتياح النظام العلمانيِّ للحياةِ العامّةِ في أوروبا، بعدَ أن هيمنتْ عليها الكنيسة قروناً طويلة ًمن الزمان.
الإلحادُ يحملُ أحدَ معنيينِ :
أوّلهما : إنكارُ وجودِ الخالق، والقولُ بأزليّةِ المادّةِ، وأنّها خالقة مخلوقةٌ.
ثانيهما: وهو من إضافاتِ أفلاطونَ -: إثباتُ وجودِ خالق أو صانع، ولكنّها لا تُعنى بشيءٍ من حياةِ الخلق، فهي موجدة للخلق، لكنّها تركتْ التصرّفَ في الكون، وتفرّغتْ في حياتها المثاليّةِ، وقد كانَ يقولُ بهذا القول من الفلاسفةِ: أبيقور.
لم تعرفِ الأرضُ انتشاراً للإلحادِ، ونفوذاً قويّاً لهُ، إلا في العصور المتأخرةِ، فقد كان يوجدُ منهم فئامٌ وأشتاتٌ، ولكنّهم قلائلُ، ولا يجمعهم مذهبٌ، أو يُقيّدهم فكرٌ، وإنّما بحسبِ ما يعن للواحدِ منهم ويظهرُ، وقد كانوا يسمّونَ قديماً بالدهريينَ، وحكى الإمامُ الشهرستانيُّ في كتابهِ " الملل ِ والنِحَل " أنّ الدهريينَ من كفّار مكّة وغيرها، كانوا أقلّ النّاس، وإنّما غلبَ على أهل ِ مكّة وجزيرةِ العربِ الشركُ، وعبادة ُغير اللهِ معهُ، مع إثباتِ أنّهُ الخالقُ وحدهُ، خلافاً للمانويّةِ الذين يُبتونَ خالقين أحدهما النورُ وهو خالقُ الخير، والآخرُ الظلامُ وهو خالقُ الشرِّ.
يذكرُ الدكتورُ جعفر شيخ إدريس أنّ أوّلَ كتابٍ مُصرّح ٍبالإلحادِ، وداع ٍلهُ، ظهرَ في أوروبا في سنةِ 1770 م، وهذه الفترةُ الحرجةُ هي الفترة التي بدأتْ فيها الشعوبُ الأوربيّة تضجُّ من حكم ِ الكنيسةِ، وتدعو للثورةِ عليهِ، وقد تبنّى الفكرَ الإلحاديَّ في أوروبا كبارُ الفلاسفةِ والمؤرخينَ، من أمثال: نيتشة، وفولتيير، وكارل ماركس، وإنجلز، وراسل، وكونت، وغيرهم من كِبار الفلاسفةِ وعلماءِ الاجتماعِ والتأريخ، ممّا حدا النّاسَ إلى الوثوق بهم، والتحوّل إلى آرائهم، كردّةِ فعل للمواقفِ المُتسلّطةِ للكنيسةِ، وكذلكَ ظهور مجموعةِ من التناقضاتِ بينَ الدين ِ النصرانيِّ المُحرّفِ، وبينَ بعضِ المُخترعاتِ والمُكتشفاتِ العلميّةِ.
ومع ظهور بوادر الإلحادِ، نشأتْ العديدُ من المدارسِ والمذاهبِ الفكريّةِ والاجتماعيّةِ، والتي تصُبُ في مصبِّ الإلحادِ، وتستلهمُ منهُ مادّتها، وترسّخُ مبادئهُ،
ومن أشهر تلكَ المذاهبِ والمدارس:
- العلمانيّة: وهو مذهبٌ كفريٌّ، نشأ في ظروفٍ عصيبةٍ في أوروبا، خلالَ القرن ِ الثامن عشر، وذلكَ بسببِ طغيانِ الكنيسةِ، وتبرّم الناس منها ومن نفوذِ رجالها، ومُحاربةِ الكنيسةِ للعلوم الطبيعيّةِ، خاصّة بعدَ تطوّر ونموِّ الحركاتِ العلميّةِ والبحوثِ، وخلاصة العلمانيّةِ أنّها حركة ٌجديدة تهدفُ إلى إقصاءِ الدين عن الحياةِ، وبناءِ مؤسساتِ المجتمع على أصول مادّيةٍ بحتةٍ، لا دخلَ للدينِ فيها من قريبٍ أو بعيدٍ .
- الوجوديّة: وهي مذهبٌ معاصرٌ ذو جذور قديمةٍ، يقومُ على أساس إبراز ِ قيمةِ الفردِ، والتأكيدِ على حرّيتهِ، وأنّهُ هو أساسُ كلِّ شيءٍ ومنطلقهُ، وهي مذهبٌ إلحاديٌّ، أسّسها قديماً كير كجرد، وفي العصر الحاضر ِقامَ أبو الوجوديّةِ جان بول سارتر بإرساءِ دعائم هذا المذهبِ، وإقامةِ أصولهِ، وبناهُ على الإلحادِ والكفرِ بكلِّ المُثُلِ والقيم، وأنّ للإنسان ِ أن يفعلَ ما شاءَ، دونَ وازعٍ أو رقيبٍ.
- الشيوعيّة: وهي مذهبٌ فلسفيٌّ مُعاصرٌ، أنشأهُ اليهوديُّ كارل ماركس، يدعو إلى تعظيم ِ المادّةِ، وأنّها أزليّة، ويُفسّرُ كارل ماركس التاريخَ تفسيراً ماديّاً بحتاً، ولهم شعاراتٌ عدّةٌ من ضمنها: لا إلهَ والحياة مادّة، وقد انتشرتْ الشيوعيّة بالقوّةِ والاستعبادِ، واجتاحتْ بثوراتها أغلبَ أرجاءِ الأرض، حتى أذنَ اللهُ بسقوطها، وبقاءِ بعض فلولها مشتتة هنا وهناكَ.
- الوضعية: وهي مذهبٌ فلسفيٌّ إلحاديٌّ، يُنكرُ وجودَ أي معرفةٍ تتجاوزُ التجربة َالحسّية، أسّسهُ اوغست كونت، ودعا حينَ تأسيسهِ إلى قيامِ دين جديدٍ، يقومُ على أساس عبادةِ الإنسانيّةِ، وإحلالها محلَّ الأديان.(46/390)
- الداروينيّة: نسبة إلى شارلز داروين، أقامَ مدرستهُ هذه على أساسِ أنّ الأحياءَ جميعاً لم تُخلقْ كلُّ واحدةٍ منها خلقاً مُستقلاً، بل كانَ لها أصلٌ واحدٌ وهو الخليّة البسيطة، ثمّ أختْ تتطوّرُ وترتقي من طور إلى طور آخرَ، حتى نشأتِ البشريّاتُ والإنسانُ، وأنّ الطبيعة َ هي التي كانت تختارُ الأصلحَ للبقاءِ، وذلكَ ما عبّرَ عنهُ بمصطلح: الانتخابِ الطبيعيِّ، أو بقاءِ الأصلح، ومدرسة داروين تجمعُ في ثنياها كبارَ ملاحدةِ العالم، والذين يرونَ أنّ الإنسانَ لا خالقَ لهُ، وأنّهُ وليدُ ملايين السنواتِ من التطوّر الطبيعي، والنشوءِ والارتقاءِ بينَ الأنواع ِ المختلفةِ، وبالرغمِ من عدم وجودِ أي دليل علميٍّ، يُبتُ صحّة نظريّةِ داروين، إلا أنّها اجتاحت العالمَ الغربيَّ اجتياح غريباً، وأثرتْ فيهِ وفي ثقافتهِ ، حتى بدأتْ تنحسرُ في الآونةِ الأخيرةِ.
وهناكَ العديدُ من المدارس غيرُ ما ذُكرَ، وكذلكَ النظريّاتِ، سواءً ما كانَ منها علميّاً بحتاً، أو اجتماعيّاً، أثّرتْ أو تأثرتْ بالإلحادِ، وقامت بترسيخِ مفاهيمهِ، ودعتْ إليهِ.
ومن المؤسفِ حقّاً، أنّ الإلحادَ حينما صبغَ الحياة َالعامّة في أوروبا، أصبحَ أمرُ التديّن، والتمسّكِ بدين، أو الإيمان بالخالق، شيئاً غريباً !، وظاهرة تدعو إلى العجّبِ!، بعد أن كانت هي السائدة على نظام ِ الحياةِ، ومؤسساتِ الحُكم، وإن كانَ ثمَّ شيءٌ يدعو إلى التعجّبِ والاستغرابِ، فهو انتشارُ الإلحادِ في تلكَ الفترةِ، وانحسارُ الإيمان باللهِ، وتعلّقُ الناسِ بالمادّةِ والطبيعةِ، ووصفهم للدينِ بأنّهُ تخلّفٌ ورجعيّة.
هذا كانَ عرضاً موجزاً عن بداياتِ الإلحادِ في العالمِ الغربيِّ، فماذا عن العالم ِ العربيِّ والإسلاميِّ !.
الكلامُ عن حركاتِ الإلحادِ المنظّمةِ في العالم العربيِّ، وكذلكَ المُجاهرة بهِ، وإعلانُهُ على الملأ، نشأ بعدَ منتصفِ القرن ِالتاسعَ عشرَ ، حينما بدأ العالمُ الإسلاميُّ والعربيُّ، يتّصلُ بالعالم ِ الغربيِّ، عن طريق إرسالياتِ الدراسةِ، أو التدريبِ، وتسبّبَ ذلكَ في رجوع ِ مجموعةٍ من الطلاّبِ متأثّرينَ بالفكر الأوربيِّ الماديِّ، والذي كانَ يقومُ على أساس ِ تعظيم ِ علوم الطبيعةِ، ورفع شأن العقل، وكذلكَ تنحية الدين والشرع، عن حكم الحياةِ والناس وإدارةِ شئونهم.
في بدايةِ الأمر لم يكن ثمَّ دعوة صريحة ٌ للإلحادِ أو الرّدةِ، وإنّما كانتْ هناكَ دعواتٌ للتحرّر، أو التغريبِ، أو فتح ِالمجال أمامَ العقل، ومُحاكمةِ بعضِ النصوص الشرعيّةِ إلى العقلِ أو الحسِّ والواقع، ومحاولةِ إنشاءِ خلافٍ وهميٍّ، وصراع مُفتعل، بينَ العقلِ والشرع.
ومع مرورِ الوقتِ، وزيادةِ الاتصالِ بالغربِ وتراثهِ، وانتشار موجةِ التغريبِ بينَ الناس، ظهرتْ بعضُ الدعواتِ الصريحةِ للإلحادِ وفتح بابِ الرّدةِ باسم ِالحريّةِ الفرديّةِ.
وحينما نشطَ اليهودُ في تركيا، ودعوا إلى إقامةِ قوميّةٍ تركيّةٍ، تحُلُّ محلَّ الرابطةِ الدينيّةِ، ظهرتْ مظاهرُ عدّة في الواقع، تدعو إلى نبذِ الدين، وتظهرُ العداءَ لبعض شعائرهِ، ومع مرورِ الوقتِ ، تطوّرتْ هذه الحركة ُ ، حتى جاءَ مصطفى كمال أتاتورك ، وقامَ بإلغاءِ الخلافةِ ، وأنشأ الدولة التركيّة العلمانيّة، وحاربَ جميعَ العلماءِ وسجنهم، وراجَ على إثرَ ذلكَ الكفرُ والإلحادُ، وظهرتْ عدّة ُ كتبٍ تدعو إلى الإلحادِ، وتطعنُ في الأديان، ومنها كتابٌ بعنوانِ " مصطفى كمال "، لكاتبٍ اسمهُ قابيل آدم.
هذه الجرأة في تركيا قابلها جرأة مماثلة، في مصرَ، سمّيتْ ظلماً وزوراً عصرَ النهضةِ الأدبيّةِ والفكريّةِ، بينما هي في حقيقتها حركة تغريبيّة، تهدفُ إلى إلحاقِ مصرَ بالعالم الغربيِّ، والتخلّق بأخلاقهِ، واحتذائها في ذلكَ حذوَ تركيّا، التي خلعتْ جلبابِ الحياءِ والدين، وصبغتْ حياتها بطابع العلمانيّةِ والسفورِ والتمرّدِ .
في تلكَ الحقبةِ في مصرَ، ظهرَ العديدُ من المفكّرينَ والأدباءِ، يدعونَ إلى التغريبِ والإلحادِ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ، باسم التنوير تارة، وباسم النهضةِ الأدبيّةِ تارة أخرى، ومرّة باسم الحرّياتِ الفكريّةِ ، وتلقّفتْ مصرُ - في تلكَ الفترةِ - دونَ تمييز، جميعَ أمراض المجتمع الأوربيِّ، وكذلكَ أخلاقهُ المنحلّة، وأصبحتْ قطعة من أوروبا، ومن فرنسا تحديدا، وعاثَ في أرضها بعضُ المستشرقينَ فساداً وإفساداً، ثمّ سلّموا دفّة الإفسادِ إلى بعض المصريينَ، ممن لم يتوانوا في نشر الكفرِ والإلحادِ، وسعوا سعياً حثيثاً إلى إلغاءِ الفضيلةِ والأخلاق الإسلاميّةِ، وإحلال ِ النفعيّةِ والماديّةِ محلّها، حتّى أصبحَ دُعاة ُ الإسلام والمُحافظةِ غرباءَ على المُجتمع دُخلاءَ عليهِ، ويوصفونَ بالجمودِ والتخلّفِ والعداءِ للحضارةِ!! .
وبما أنّ مصرَ هي رئة العالم ِفي ذلكَ الوقتِ، فقد انتقلتْ حمّى الردةِ والإلحادِ، إلى جميع ِ دول ِ الجوار، ابتداءً من الشام، ومروراً بالعراق، والخليج بما فيها السعودية، وانتهاءً ببلادِ اليمن.(46/391)
وسأذكرُ الآنَ بعضَ أشهر الملاحدةِ والمرتدينَ، الذينَ نبذوا الدينَ جانباً، واستبدلوا بهِ الإلحادَ أو اللادينيّة أو كفروا بكلِّ شرائع ِ الإسلام، من الذينَ كانوا في تلكَ الفترةِ، أو بعضَ من يعيشُ في عصرنا الحاضر، والذين أعملوا معاولَ الهدم والتخريبِ، في الأخلاق والدين، وأرادوا جعلَ المجتمعاتِ نماذجَ مكرّرة ًمن الدول الأوربيّةِ المُنحلةِ الفاسدةِ، وحاولوا صُنعَ فجوةٍ بينَ العلم والدين، وأوهموا أنّ الدينَ يُعارضُ العلمَ والواقعَ، ويقفُ دونَ الانطلاقِ إلى آفاق ٍ جديدةٍ، ويُحرّمُ الإبداعَ، ويدعو إلى الكهنوتيّةِ والتقوقع.
فمن أشهرهم :
- جميل صدقي بنُ محمدِ بن ِ فيضي الزهاوي، شاعرٌ من شُعراءِ العراق، وُلدَ سنة َ 1279 هـ في بغدادَ، وكانَ أبوهُ مُفتي بغدادَ في تلكَ الفترةِ، وقد تنقّلَ كثيراً في المناصبِ والوظائفِ، وهو أحدُ أعمدةِ التشكيكِ في شعرهِ وآراءهِ، وقد كانَ ينحى منحى الفلاسفةِ، ويُقرّرُ طريقة َ الفلاسفةِ في التعامل مع الأديان، ومع الغيبياتِ، حتّى سمّاهُ النّاسُ زنديقاً !، وقد كانَ من المفتونينَ بالعالم الماديِّ، وبالظواهرِ الطبيعيّةِ، مُعظّماً لها، وصنّفَ في ذلكَ الكثيرَ من الرسائل ِ والكُتبِ.
- إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنُ إسماعيلَ، والمعروفُ اختصاراً بإسماعيل أدهم، أحدُ أبأس الملاحدةِ، وأشقاهم، وأكثرهم مأساويةً وشقاءً، كانَ من دُعاةِ الشعوبيّةِ، تنقّلَ في الدراسةِ بينَ مصرَ وتركيّا وروسيا، وتخصّصَ في الرياضياتِ، وحصلَ على شهادةِ الدكتوراه فيها، وكتبَ وألّفَ العديدَ من الرسائل، وفي سيرتهِ أشياءُ كثيرةٌ من نبوغهِ وتقدّمهِ، منها أنّهُ كانَ يعرفُ العديدَ من اللغاتِ، وكذلكَ حصلَ على العديدِ من الشهاداتِ العلميّةِ، وبعدَ موتهِ حصلَ تشكيكٌ كثيرٌ في ذلكَ وتكذيبٌ لها، وقد طعنَ فيهِ الناسُ في حياتهِ وبعدَ موتهِ، وشكّكوا كذلكَ في رسائلهِ وبحوثهِ، وهو أحدُ كُتّابِ مجلّةِ الرسالةِ والمقتطفِ المصريتين، وقد كانَ من دعاةِ الإلحاد، يطعنُ في المسلّماتِ، ويُشكّكُ في الكثيرِ من الأمور، وألّفَ رسالة ً أسماها " لماذا أنا مُلحدٌ " ! ، طُبعتْ في مصرَ بمطبعةِ التعاون سنة َ 1937 م، كان عزوبيّاً، أصيبَ بالسلِّ، وتعبَ من الحياةِ، فآثرَ الموتَ منتحراً غرقاً في الإسكندرية سنة َ 1940 م، وعثرَ البوليسُ في جيبِ معطفهِ على رسالةٍ يذكرُ فيها أنّهُ ماتَ منتحراً، كراهية ً في الحياةِ، وطالبَ فيها كذلكَ بإحراق ِ جُثّتهِ ، وعدم ِ دفنها بمقابرِ المُسلمينَ، وأن يُشرّحَ رأسهُ !، نعوذُ باللهِ من الخذلانِ والهوان ِ ! .
- إسماعيل مظْهر بنُ مُحمّد بن ِ عبدالمجيدِ، كان أحد دعاةِ الداروينيّةِ في العصر الحاضر، ومن دعاةِ الشعوبيّةِ ، أنشأ مجلّةِ العصور في مصرَ وذلكَ في سنةِ 1927 م، وجعلَ من مجلّتهِ باباً للطعن في الدين، ونشر الشعوبيّةِ، وفتح بابِ الرّدةِ و الإلحادِ، كانَ معظّماً لليهودِ ، وداعياً للسير ِ على نهجهم وطريقتهم، وكانَ يُسمّي نفسهُ: صديقَ دارون، وألّفَ في الانتصار ِ لنظريّةِ داروين مجموعة من المؤلفاتِ، ثمّ اعتنقَ الفكرَ الشيوعيَّ، وأنشأ حزباً أسماهُ حزبَ الفلاح، جعلهُ منبراً لنشر الشيوعيّةِ والاشتراكيّةِ، ثمّ في آخر ِ عمرهِ أعرضَ عن كلِّ ذلكَ، ورجعَ عن الكثير من آراءهِ، وألّفَ كتاباً أسماهُ " الإسلامُ لا الشيوعيّة ُ"، وقد كانتْ وفاتهُ سنة َ 1381 هـ بينما ميلادهُ سنّة َ 1308 هـ .
- أحمدُ لطفي بنُ السيّدِ أبي علي، أحدُ دعاةِ التغريبِ الكبار، من المُعادينَ للعالم الإسلاميِّ، وأحدُ الذين يُحاربونَ الفُصحى، ويُحاربونَ الرابطة الدينيّة، ولهُ مواقفُ تدلُّ على كرههِ الشديدِ للتعاليم الدينيّةِ، وللتديّن ِ عموماً، وهو من دعاةِ العلمانيّةِ البارزينَ، وهو الذي قامَ بترجمةِ كتبِ أرسطو إلى اللغةِ العربيّةِ، فاتحاً باباً جديداً للتغريبِ، ولم يكن يقصدُ من ذلكَ نشرَ المعرفةِ والعلم، وإنّما أرادَ نشرَ الثقافةِ الغربيّةِ، وأصولهم المعرفيّة، حتى يبتعدَ المسلمونَ عن دينهم، ويقتفونَ أثرَ الغربِ، وكانتْ لهُ مواقفُ مخزية، منها أنّهُ سافرَ إلى إسرائيلَ، وألقى محاضرة ً في الجامعةِ العبريّةِ، وكانَ أحدَ من استقبلَ الوفدَ اليهوديَّ بمصرَ، وضيّفهم عندهُ، ولهُ مواقفُ سافرة يدعو فيها إلى التعاون ِمع البريطانيينَ إبّانَ احتلالهم لمصرَ، ويبحثُ لهم عن المسوّغاتِ والمبرّرات ِلسياستهم الإحتلاليّةِ، ويسمّيهِ بعضهم أستاذَ الجيل، وتولّى آخر ِ عمرهِ رئاسة َ مجمع ِ اللغةِ العربيّةِ بالقاهرةِ وظلَّ رئيساً لها مدّة َ 18 عاماً، وقد توفيَ سنة َ 1382 هـ بالقاهرةِ، بينما كانَ مولدهُ سنة َ 1288 هـ.(46/392)
- طه بنُ حسينَ بن ِ علي بن ِ سلامة، الأديبُ المصريُّ الشهيرُ، وأحدُ روّادِ ما يُسمّى بالنهضةِ الأدبيّةِ في مصرَ، ومن كِبارَ التغريبيينَ، وأحدِ أعمدةِ مدرسةِ التشكيكِ، لم يكن يؤمنُ بشيءٍ إلا الغربَ وقيمَهُ وتعاليمَهُ، كانَ مُتشكّكاً وحائراً، ووصفَ فتحَ المُسلمينَ لمصرَ بأنّهُ احتلالٌ غاشمٌ !، ودعا إلى تحرير وتجريدِ مصرَ من هوّيتها العربيّةِ والإسلاميّةِ، وهو من الذينَ يقفونَ موقفاً عدائياً ضدَّ جميع حركاتِ المقاومةِ الشعبيّةِ، ضدّ المُحتلِّ والغازي، بل كانَ يدعو الأوربيّين لاحتلال العالم ِ العربيِّ، حتى يستفيدَ العربُ من علومهم وتطوّرهم، وقد أشيعَ أنّهُ تنصّر في فرنسا، وزوجتهُ فرنسيّة، وهو كذلك أحدُ أخلصِ طلاّبِ وأتباع مرجليوث اليهوديُّ الحاقدُ على الدين، ولطه حسين مواقفُ معادية ٌ للدين وأهلهِ ، كفّرهُ فيها جمعٌ غفيرٌ من العلماءِ، وأصولهُ أصولُ الملاحدةِ في أكثرِ ما يكتبهُ وينشرهُ، توفيَ سنة َ 1393 هـ ، بينما كانت ولادتهُ سنة َ 1307 هـ .
- صادق جلال العظم: أحدُ أساطين الفكر ِالشيوعيِّ الماديِّ، ومُلحدٌ من كِبار الملاحدةِ، ممّن أخذَ يُجاهرُ بالإلحادِ، ويدعو إليهِ، قضى عمره في السخريّةِ من المُسلمينَ ومن دينهم، وكفرَ بكلِّ شيءٍ إلا المادّة، وألّفَ كتاباً يقرّرُ فيهِ الإلحاد أسماهُ " نقد الفكر الدينيِّ "، وقد حشاهُ بالمغالطاتِ والسفسطةِ، وزعمَ أنّهُ أقامَ فيهِ براهينُ تُبتُ عدمَ وجودِ اللهِ، وأنّ كلَّ ذلكَ من الأوهام والأساطير، وقد ردَّ عليهِ الكثيرونَ، من أشهرهم الشيخُ: عبد الرحمن حبنّكة الميداني ، في كتابهِ " صراعٌ مع الملاحدةِ حتى العظم".
- عبداللهِ بنُ عليٍّ القصيميُّ: أحدُ أشهر الملاحدةِ المُعاصرينَ، وأكثرهم غلواً وتطرّفاً، وأوقحهم جرأة وتبجّحاً، وأقساهم عبارة، وأقلّهم أدباً، كانَ قبلَ إلحادهِ صاحبَ علم، وقد كتبَ في شبابهِ مجموعة من الكُتبِ والبحوثِ العلميّةِ، كانَ بعضها بطلبِ علاّمةِ الحجازِ الشيخ: محمد حُسين نصيف - رحمهُ اللهُ -، ومن أشهرها كتابهُ "الصراعُ بينَ الوثنيّةِ والإسلام" ، وقد ألّفَ الجزءَ الأوّلَ منهُ في وقتٍ يسيرٍ جدّاً، وقد طُبعَ في المكتبةِ السلفيّةِ، ولهُ كتبٌ أخرى في فترتهِ تلكَ، ولا تخلو كتبهُ من لغةِ الكبرياءِ والغرورِ، وظهور سقطاتٍ تدلُّ على سوءِ طويّةٍ، واحتقار ٍ للنّاس، وهذا ما ظهرَ مع مرورِ الزمن، إذا قامَ بإعلان ردّتهِ وإلحادهِ، وألّفَ كتابهُ " هذه الأغلالُ"، وجاهرَ بدعوتهِ الجديدةِ، ولقيَ أذىً كثيراً، وخرجَ متغرّباً بينَ البلدان، وعاشَ في حيرةٍ وقلق ٍ كبيرين، دعتهُ إلى محاولةِ الانتحارِ ثلاثَ مرّاتٍ، واستقرّ آخرَ حياتهِ بمصرَ، وألّفَ مجموعة ً كبيرة من الكتبِ الداعيةِ للتحرّر من سلطةِ الدينِ والفضيلةِ والأخلاق، ولهُ منهجٌ غلا فيهِ كثيراً، حتّى تحاماهُ النّاسُ وأعرضوا عنهُ بسببهِ، وهو من دعاةِ الصهيونيّةِ العربِ، ولهُ مقالاتٌ وعباراتٌ بشعة في حقِّ اللهِ وحقِّ رسلهِ، لم تصدرْ إلا من أوقح النّاس ِ وأخبثهم قلباً وسريرة، فلعنهُ اللهُ ما كان أقسى قلبهُ وأشدَّ جرأتهُ على خالقهِ ومولى نعمهِ !، من أكثر كتبهِ تطرّفاً كتابهُ " أيّها العقلُ من رآكَ؟ " وكتابُ " الإنسانُ يعصي لهذا يصنعُ الحضاراتِ"، توفّي سنة َ 1422 هـ بالقاهرةِ، بينما كانتْ ولادتهُ سنة َ 1327 هـ .
- فهدُ بنُ صالح بن ِ محمّد ٍ العسكرُ: شاعرٌ كويتيٌّ ماجنٌ، وداعيةٌ إلى التمرّدِ على الأخلاق ِ والفضيلةِ، ومن كبار المتشككّينَ والساخرينَ بالأديان في شعرهِ، نشأ وترعرعَ في كنفِ أبيهِ، وكانَ في شبابهِ مُحافظاً ، ثمَّ قرأ في مجموعةٍ من الكتبِ والدواوين الفكريّةِ، ممّا أوجبَ لديهِ الحيرة َوالشكَّ، فمالَ معها ، وتعاطى الخمرَ وأدمنها، وطفحَ شعرهُ بالكفر والاستهزاءِ والعهر والمجون، ولمّا زادَ أمرهُ واستفحلَّ تبرّأ منهُ أهلهُ، فاعتزلَ النّاسَ بغرفةٍ صغيرةٍ مُظلمةٍ، وأصبحَ سميرهُ فيها الخمرُ والشعرُ والقلقُ والحيرة، عميَ في آخرعمرهِ، ونصحهُ الأطباءُ بتركِ الخمرةِ فأبى، فساءتْ صحّتهُ جداً، وأدخلَ المُستشفى فماتَ بعدَ فترةٍ، ولم يُصلِّ عليهِ أحدٌ من أهلهِ، وقاموا بإحراق جميع أوراقهِ وبقايا شعرهِ، توفّي سنة 1370 هـ بالكويتِ، بينما كانتْ ولادتهُ سنة َ 1327 هـ .
- زكي نجيب محمود: فيلسوفٌ مصريٌّ مُعاصرٌ، من روّادِ المدرسةِ الوضعيّة المنطقيّةِ المُلحدةِ، والتي أسّسها اوجست كونت، ومن زعماءِ التغريبِ في العالم العربيِّ، وقد حملَ لواءها بعد هلاكِ طه حُسين، وعملَ على إرساءِ دعائمها، محارباً كلَّ دعوةٍ للتمسّكِ بالتراثِ الأصيل، وداعياً إلى بترِ العلاقةِ بينَ الشعوبِ، وبينَ ماضيها، ولهُ مصنّفٌ في الغيبِ سمّاهُ " خرافة َ الميتافيزيقيا "، أنكرَ فيهِ الغيبياتِ، ودعى إلى تقديسِ العقل، واعتبارهِ أساسَ المعرفةِ ، كما أنّ لهُ كتاباتٍ تدعو إلى أحياءِ فكرِ الباطنيّةِ والشعوبيّةِ، وقد تقلّدَ عدّةَ مناصبَ في حياتهِ ، وتولّى رئاسة بعض المجلاّتِ، توفّي سنّةَ 1414 هـ، بينما كانتْ ولادتهُ في سنةِ 1323 هـ.(46/393)
- عليٌّ بنُ أحمدَ بن ِ سعيدٍ المعروفُ بأدونيسَ: صنمُ الحداثةِ المُعاصرُ، ورأسها في العالم ِ العربيِّ، وأحدُ الملاحدةِ المشاهير، تسمّى باسم أدونيسَ، وهو أحدُ أصنامِ الفينيقيينَ، كانَ في أوّل ِأمرهِ نُصيرياً، ثمّ أنتحلَ الطريقة الشيوعيّة، وأعلنَ إلحادهُ، وهو من دعاةِ الحداثةِ الكبار، ولهُ مؤلفاتٌ تضجُّ بالكفر الصُراح، وبالإلحادِ والكفر بكلِّ شيءٍ، مع ما فيها من الجرأةِ السافرةِ، والتطاول المقيتِ على ذاتِ اللهِ جلَّ وعلا.
هؤلاءِ هم بعضُ روّادِ الإلحادِ والرّدةِ في العالم ِالعربيِّ، ولهم أتباعٌ ومحبّونَ ومريدونَ، وهناكَ من يُعظمُ هؤلاءِ ويُقدسهم، ويجعلهم في أعلى المراتبِ والمنازل، وينشرُ كُتبهم ويّذيعُ أخبارهم، ويدعو إلى انتهاج ِطرقهم، وخلع أكبر الأوصافِ والنعوتُ عليهم! .
عندما نقرأ في سير وكتبِ هؤلاءِ الملاحدةِ، فإنّنا نجدُ فيها قواسمَ مشتركةٍ، تتجلّى بوضوحٍ لكلِّ قارئ، ومن أبرزِ ذلكَ:
- إنكارهم للغيبِ جملة وتفصيلاً، وقصرهم الإيمانَ بحدودِ الملموس والمحسوس - فقط -، دونَ ما غابَ عن العين، أو لم يُمكن إدراكهُ بالحسِّ.
- استهزائهم بالشعائر الدينيّةِ جميعها، ووصفهم لأهلها بالرجعيينَ والمتخلّفينَ، ومحاربة أي دعوةٍ تدعو إلى التديّن، أو صبغِ الحياةِ بمظاهر الدين.
- ميلهم نحوَ احتقار العربِ، واحتقار عاداتهم وسلوكهم، ومدحهم للشعوبيّةِ والباطنيّةِ.
- دعوتهم للتغريبِ والالتحاق بالغربِ، والأخذِ بجميع ِ ثقافاتهم وأمورهم الحياتيّةِ، والتعلّمُ منهم ومن سلوكيّاتهم.
- حربهم الشرسة على الأخلاقِ والعاداتِ الحميدةِ، وادّعائهم أنّهُ لا يوجدُ شيءٌ ثابتٌ مُطلقاً، وأنَّ الحياة َوالأخلاقَ والعاداتِ، في تطوّر مستمرٍّ، وأنّ الثباتَ على الشيءِ إنّما هو من شأن ِ الغوغائيينَ والمُتخلّفينَ والرجعيينَ.
- تعظيمُ المادّةِ والطبيعةِ، وكذلكَ تعظيمُ جميعِ العلوم الطبيعيّةِ، وجعلهُ أساسَ كلِّ الحضاراتِ، وافتعال ِصراع ٍمزعوم بينَ الدين والعلم التطبيقيِّ.
- منعهم من محاربةِ الاحتلال، ووقوفهم دائماً ضدّ المقاوماتِ الشعبيّةِ، ووصفها بصفاتٍ بشعةٍ، والدعوة إلى مهادنةِ الغازي والتعايشُ معهُ.
- تعاونهم الوثيقُ مع الصهيونيّةِ والماسونيّةِ، ومدحهم اللامحدودَ لليهودِ وللصهاينةِ، وهذه سمة غالبة على جميع ِالملاحدةِ والمرتدّينَ، حيثُ يجعلونَ إسرائيلَ أفضلَ أهل الأرض، ويميلونَ إليهم ويمدحونهم، ويدعونَ إلى التعايشِ معهم وقبولهم، ويقدحونَ في حركاتِ المقاومةِ وفي أطفال الحجارةِ.
يدّعي الملاحدة أنّ الدينَ سببٌ للتناحر ونشرِ البغضاءِ في الأرض، وأنّهُ تسبّبَ في إشعال ِوإذكاءِ نارِ الحروبِ، في الكثير من بقاع الأرض، وقد حانَ الوقتُ لتركهِ والتخلّي عنهُ.
أيّها الأخوة الكرامُ: إنّ القراءة في سير هؤلاءِ المرضى، والوقوفُ على دقائق حياتهم، ومدى ما كانوا يعيشونهُ من أمراضٍ وشكوكٍ وساوسَ وحيرةٍ وقلق، ليدعونَ إلى التساؤل: ما الذي جنوهُ من إعراضهم عن الدين غيرَ الهمِّ والغمِّ والنكدِ !، ولماذا كفرَ هؤلاءِ بالإسلام، ثمّ آمنوا باليهودِ وبقوّتهم، وأصبحوا صفّاً واحداً مع اليهودِ، ضدَّ العربِ والمسلمينَ! .
إنّ انتشارَ الإلحادِ والرّدةِ ورواجهما، لا يعني بحال من الأحوال ِصحّةِ هذا النهج، وبخاصّةٍ ونحنُ نرى كيفَ تحوّلَ هؤلاءِ إلى مسوخ، تُدارُ بيدِ اليهودِ، ويستغلّها اليهودُ لصالحهم، وكيفَ أصبحوا ضدّ شعوبهم، وضدّ أوطانهم في صفِّ الغازي والمُحتلِّ، وما انتشارُ الإلحادِ والرّدةِ، إلا مثلُ انتشار السرقةِ والزنا والخنا والفجورَ، كلاهما سوءٌ وشرٌّ انتشرَ، والنّاسُ تهوى التحرّرَ ، وتعشقُ التمرّدَ، وتُحبُّ الانفلاتَ، سواءً كانَ في الأخلاق، أو كانَ في الأفكار، وهذا هو ما يُفسّرُ لنا سببَ شرع ِ الحدودِ، والدعوة َ إلى إقامتها، ذلكَ أنّ الحدودَ حائلة بينَ النّاس ِ وبين انفلاتهم، ومانعة لهم من التمرّدِ على القيم والفضائل، ورادعة ٌ لهم عن كلِّ ما يسبّبُ لهم الحيرة والاضطرابَ ولو بدا في منظر ٍ حسن وبهيٍّ.
إنّ الحدودَ لم تُشرعْ حتّى يتشفّى الحاكمُ في المحكومينَ، أو شُرعتْ لتكونَ مانعاً من الحرّياتِ، كلاّ، إنّما شُرعتْ لتكونَ مانعاً من الفوضى الفكريّةِ، والفوضى السلوكيّةِ، وحائلاً بينَ الإنسان ِ وبينَ مشابهةِ البهائم، والتي تعيشُ بلا هدفٍ وبلا قيدٍ أو ضابطٍ، ولو أنّ كلَّ شخصٍ تُركَ على هواهُ ومبتغاهُ لفسدتِ الأرضُ، وفسدتِ الأعراضُ، وانتشرتِ الرذيلة.
أليسَ حدُّ الرّدةِ وتطبيقهُ، والأخذُ على يدِ السفهاءِ من الملاحدةِ والزنادقةِ، بأولى أن يُطبقَ من حدِّ الزنا وحدِّ الحرابةِ !.
أليسَ العدوُّ الصائلُ الذي يُغيرُ على الأديان، بأولى أن يُكفَّ، من العدوِّ الذي يصولُ على الأموال والأبدان ! .
أليسَ الأمنُ الفكريُّ، والانضباطُ المعرفيُّ، أولى بالتشريع والمحافظةِ، من المُحافظةِ على الأملاكِ العامّةِ وعلى القطع ِالأثريةِ وبقايا الحصون والقلاع! .(46/394)
وأنا إذ أرى هذه الموجةَ الغريبة، الجانحةَ نحوَ نبذِ الدين، ونبذِ جميع الموروثِ منهُ، لأتعجبُ إذ أقرأ إحصائية نُشرتْ في أمريكا، حيثُ قمّة التطوّر، وبلوغ ِالغايةِ القصوى من الحضارةِ والتكنولوجيا ، أجرتها مجلّة نيويورك تايمز، في عددها الصادر بتاريخ ِ 27/2/1993 ص 6، ذكرتْ هذه الإحصائية أنّ عددَ الأمريكان الذين يؤمنون بوجودِ اللهِ، يشكّلونَ ما نسبتهُ 96 % من الشعبِ الأمريكيِّ.
لاحظوا ارتفاعَ النّسبةِ، في دولةٍ هي أكبرُ دولةٍ صناعيّةٍ ومتحضّرةٍ في العالم، فأينَ أوهامُ الملاحدةِ وظنونهم الداعيةُ إلى نبذِ الدينِ والإيمان ِ بالغيبِ، لأنّهُ يُعارضُ الحضارة، ويجعلَ من الشعوبِ متخلّفة ورجعية !! .
ربّنا لا تُزغْ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا من لدنكَ رحمة إنّكَ أنتَ الوهّابُ.
دمتم بخير.
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=1218
دوافع الإلحاد وكيف نتعامل معه
الكاتب: عباد
الأخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كنت قد كتبت مقالاً منذ فترة عن نفس الموضوع
وهو في الحقيقة مقال مرتجل وفيه الكثير من النواقص
ولكنني بحمد الله وجدت مقالاً على الروابط التالية
http://www.islamonline.net/Daawa/A ...questionID=9325
http://www.islamonline.net/daawa/a ...questionID=3887
http://www.islamonline.net/Daawa/A ...questionID=9213
وهي مقالات علمية منهجية متخصصة كما رأيتها والله أعلم جزى الله كتابها خير الجزاء
ما أجمل الكلام وأنفعه عندما يؤخذ من أهله
اعذروني لتقصيري في المشاركة وسأحاول تلافي ذلك مستقبلاً إن شاء الله
كل عام وأنتم بخير والسلام عليكم
أخوكم
قرأت في بعض المواقع غير الإسلامية عن قصص لمسلمين ارتدوا عن الإسلام، فإذا كانت طريقة الدعوة لغير المسلمين تكون عن طريق إظهار السلوك الإسلامي الحسن وتعريفهم بروح الإسلام.
فكيف تكون الدعوة لمسلم عاش فترة من حياته كمسلم يقرأ القرآن ويقيم شعائر الدين ثم ارتد عن الإسلام؟
** يقول الدكتور مجدي سعيد، المشرف على وحدة الأبحاث والتطوير، بشبكة إسلام أون لاين.نت:
أخي الكريم؛
من الضروري بدايةً عند التعرض لهذه القضية التنبيه والتأكيد على عدة أمور:
أولها ضرورة استحضار طبيعة هذه الرسالة وهذه الدعوة، وأنها رحمة للعالمين، فنحن حين ندعو الناس يحركنا ويتملكنا شعور من الرحمة بهم والشفقة عليهم، وهذا الشعور هو الذي يدفعنا إلى بذل أقصى الجهد حتى نأخذ بأيديهم إلى طريق الله والتزام منهجه.. وهذا الشعور يحكمنا في التعامل مع كل الخلق بلا اختلاف، وقدوتنا في هذا هو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه فقال: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" الأنبياء : 107.
ثاني هذه الأمور، أننا في دعوتنا للناس إنما نأخذ بأسباب الهداية والإصلاح، ونبذل الوسع في التغيير والإرشاد، ونترك النتائج لله سبحانه وتعالى، "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" النور : 54.
وثالثها إدراك صعوبة الحالة التي نواجهها -حين ندعو من كان مسلما ثم ترك دينه- وخصوصيتها، والسبب في ذلك ما تفضلت بالإشارة إليه في سؤالك من أنه "عاش فترة من حياته كمسلم يقرأ القرآن ويقيم شعائر الدين"، ثم تحول عن ذلك وتركه؛ وهذا يختلف بالتأكيد عن دعوة غيره من الناس سواء المسلم غير الملتزم، أو غير المسلم.
أخي الكريم؛
إن تحول إنسان عن دينه ليس بالأمر السهل، وليس قرارا هينا يمكن لإنسان أن يتخذه هكذا دون أسباب يراها -من وجهة نظره- مقنعة، بل ودافعة بقوة نحو هذا القرار؛ ولا يصح أبدا أن نتعامل مع إنسان يمر بهذه الحالة دون محاولة الوقوف على أسبابها بشكل واضح ومحدد حتى يمكننا التفكير في طريقة لعلاجها وتحديد الأسلوب الأمثل لدعوته.
وإذا أردنا تحليل الأسباب التي قد تؤدي بإنسان إلى الخروج عن دينه، فيمكن التفريق بين اتجاهين مختلفين ينتجان عن هذا الخروج، لكل منهما أسبابه ودوافعه.. هذا الاتجاهان هما:
- أن يخرج إنسان عن دينه إلى "لا دين"، فلا يعتنق دينا آخر، ولا يتقيد بملة غير التي كان عليها.
- أو يخرج الإنسان من دينه متحولا إلى ديانة أخرى.
* الخروج إلى "اللا دين"، وهو الإلحاد:
غالبا ما يكون الإلحاد نوع من أنواع التمرد على واقع تجربة مر بها الإنسان سلبته خصيصة من خصائص إنسانيته، أو مارست عليه نوعا من القهر والتقييد لم يتقبلها.. فيتمرد محاولا الخروج على سلطان هذا القهر والانخلاع عن ربقة هذا القيد.
وقد يأتي ذلك عن طريق تحول الدين -بفعل العلماء الفاسدين، أو السلطان الظالم الذي يتلبس بالدين ويتخذه ذريعة لتبرير ظلمه- إلى سلطة قهر للإنسان وسجن لحريته.. ويساعد على هذا الفهم الخاطئ ضعف تكوين الشخص وعلمه بدينه.
أو يأتي نتيجة تنشئة دينية غير سليمة تستخدم القهر والإجبار وسيلة لها، وذلك بسبب جهل القائمين على هذه التنشئة في البيت والأسرة أو في المدرسة أو المسجد، ومحاولتهم إجبار هذا الشخص على الطاعة.(46/395)
فيكون الإلحاد نوعا من التمرد على واقع لا يحقق الصورة المنشودة لدى الشخص ويتصادم مع صورة مثلى يتمناها هو ويرسمها في مخيلته.
والأصل أن الله خلق الإنسان وفي أصل فطرته الإيمان، وأن دور التنشئة أن تربي هذا الإيمان الفطري وتقوي مكانه ودوره في شخصية الإنسان، وأن تهيئ المناخ لأن يقوم الإنسان بالاختيار الحر لما ستكون عليه حياته.. لا أن تجبره على التدين أو الطاعة، فالطاعة لا تأتي قبل الإيمان، وإنما هي من نتائجه؛ فالإنسان إذا آمن بالله أحبه، وإذا أحب الله أطاعه وانقاد لأمره.. فحرية الإرادة والعقل المميز تؤدي إلى حرية الاختيار الذي يترتب عليه أن يكون الإنسان مسئولا عن نتائج اختياره.
* الخروج إلى دين آخر، وقد يكون السبب في ذلك:
- أن يُغلب الإنسان على عقله ومنطقه بسبب ضعف تأسيسه وقلة علمه في دينه، فلا يصمد أمام أية مجادلة من صاحب دين آخر فيتشكك ويتلجلج، فيترك الفطرة السوية المقبولة المحكمة، إلى عقيدة أخرى تواجه كثيرا من علامات الاستفهام عند من لديه عقل ومنطق.
فالإنسان إذا تأمل في القرآن الكريم يجده قد تحدى عقول من لا يؤمنون به مطالبا إياهم بالتفكر والتدبر والنظر، لأن يفهم القرآن جيدا يجده متسقا ومتماشيا مع طبيعة الكون ونواميسه.. وهذا مما تفردت به هذه الرسالة الخاتمة.
- أن يواجه الإنسان إغراء ما يدفعه إلى تغيير دينه، ومحاولة لإشباع بعض الرغبات أو الشهوات لديه، فالمبشرون -مثلا- يستغلون ظروف بعض المجتمعات التي قد تعاني من ظروف اقتصادية أو اجتماعية صعبة، ويعملون على مساعدة أهلها في التغلب على ما يقاسونه داعين إياهم إلى التحول إلى دينهم .. وتحت وطأة الحاجة قد يستجيب البعض بالفعل إلى هذه الدعوة، وقد يظهر آخرون التحول حتى يحصلوا على المكاسب المعروضة ويبطنون التمسك بدينهم.
- أن تنقطع صلة الإنسان بأهل دينه ومجتمعه، سواء كان انقطاعا ماديا.. بهجرته إلى مجتمع غير مسلم، وعدم وجود من يعينه على دينه في غربته؛ أو يكون انقطاعا معنويا بغياب مشاعر التواصل والتراحم بينه وبين أعضاء المجتمع المسلم الذي يعيش فيه.. فلا يجد صلة للرحم، أو عدم وفاء الأصدقاء أو غيرها من مظاهر الانقطاع أو الانعزال عن المجتمع.
وفي المقابل يجد مجتمعا بديلا يحتضنه، ويصنع له صورة من التواصل يفتقدها في حياته، فتجده شيئا فشيئا يتأثر بهذا المجتمع الجديد المصنوع، حتى يصل الأمر إلى تأثره بعقيدتهم.. خاصة إذا كانت علاقة هذا المجتمع الجديد به مقصودة ومصنوعة ومرتبة.
كانت هذه -من وجهة نظري- الأسباب العامة لخروج إنسان عن دينه، ويحتاج الأمر -إذا أردنا دعوة من تعرض لهذه الفتنة- أن نعرف الأسباب التي كانت وراء تحوله ونحددها حتى نستطيع التعامل معها وعلاجها.
* وأحسب أن أهم ما نحتاج إلى التركيز عليه في دعوة من وقع في هذه الفتنة هو:
- أن نعمل على حسن تأسيس الإيمان لدى المسلم ابتداءً، حتى يتمكن من دينه عن قناعة ولا يكون من السهل وقوعه في مثل هذه الفتنة.. فلا يجوز التقليد مجال العقيدة، ولكن يجب على المسلم أن يؤمن بدينه عن قناعة وتفكر وتدبر في آيات الله وتعايشٍ معها.
- حسن تقديم الإسلام.. تقديمه رحمة للعالمين، تقديمه كأخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، خاصة الأخلاق الاجتماعية، فإذا لم نستطع أن نوجد الدولة التي تحكمها قيم الإسلام، فعلى الأقل نسعى لإيجاد المجتمع الخلوق الرحيم، الذي يسوده العدل والتراحم والتواصل الإنساني السوي.
- أن يتم مناقشته مناقشة عقلية لدحض ما يواجهه من شبهات.
- أن يحكمنا في دعوته الحب والرحمة به والصبر عليه، وأن نريه منا صورة الإسلام بشكلها السليم والناصع، وأن يرى منا الحب الخالص لوجه الله.
ومع الوقت والصبر يمكن أن نرد هذا الشارد إلى حظيرة الإسلام والإيمان مرة أخرى بإذن الله، إذا كان فعلا يريد الحق.. والله المستعان.
** وبعد هذه الإجابة الطيبة للدكتور مجدي سعيد بارك الله فيه، نقدم لك هذه الإجابة الصوتية لفضيلة الأستاذ الدكتور طلعت عفيفي، والتي نلخصها لك في الكلمات التالية:
بالنسبة لمن كان مسلما ثم تعرض لفتنة الارتداد، فإن الواجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أوصلتها إلى هذه الفتنة، ومعالجتها.. فإذا عرف الداء أمكن وصف الدواء المناسب له.
فربما كانت هناك شبهة تسببت في اتخاذه هذا القرار..
وربما كان الجو العام الذي كان يحيط به هو السبب، من ظروف اجتماعية أو اقتصادية..
ومن الضروري توفير الصحبة الصالحة التي يمكنها أن تأخذ بيده، فيحيط به أصحابه وأصدقاؤه ومعارفه حتى يأخذوا بيده، لا أن يشتدوا عليه أو ينفضوا عنه.. لأنه كالغريق يحتاج إلى من يمد له يد العون.
استمع إلى إجابة فضيلة الأستاذ الدكتور طلعت عفيفي
دعوة المرتد
** ويضيف الدكتور علاء السيوفي:
أخي الكريم؛
إن الله عز وجل قد خلق القلب وجعل حاله كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء) رواه مسلم، ويقول الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ....... وما القلب إلا أنه يتقلب(46/396)
ويصف صلى الله عليه وسلم القلب فيقول: (لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وهو رسول ا صلى الله عليه وسلم وخير البشر، وأحبهم إلى الله.. ومع ذلك يدعو أن يثبت الله قلبه على الإيمان.
ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يراقبون قلوبهم أشد المراقبة، حتى إنهم ليعلمون متى يزيد الإيمان فيها ومتى ينقص، بل ويعلمون ما الذي يُزيد الإيمان في قلوبهم وما الذي ينقصه؛ وحديث حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه في هذا مشهور ومعروف؛ وهذه هي طبيعة القلب أنه ساعة يزيد فيه الإيمان وساعة يقل، ويجب على المؤمن الحرص الشديد على الحفاظ على إيمانه من النقصان ومن التأثر السلبي بأمور الحياة الدنيا.
وفي هذا كله دلالة على أن الذي يثبت القلوب هو الله، وأن المسألة تحتاج من الإنسان بعض المقدمات التي أهمها الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه في الحفاظ على إيمانه.
* وأما عن دعوة المسلم الذي حسن إسلامه في فترة، ثم ارتد عن الإسلام فمن أهمها:
1- ملازمته وعدم البعد عنه، ومحاولة تذكيره بالأعمال الصالحة التي كان يعملها أيام إسلامه.
2- تهيئة المناخ الإسلامي الذي يحيط به من محبيه وإخوانه المسلمين الحريصين عليه.
3- تقديم يد العون له بصفة مستمرة، ومحاولة معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا التحول لديه ومعالجتها بحكمة وتروٍّ، وبدون مواجهة حادة حتى لا يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية معه.
4- الدعاء له بظهر الغيب، فإن له أثرًا كبيرا، وهو مستجاب بإذن الله تعالى، ولكن ينبغي أن يكون فيه إخلاص.
5- مراعاة حال زوجته وأولاده إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فقد تكون الزوجة أحيانا سببا في كثير من الخير أو في كثير من الشر، وإن كانت مسلمة فينبغي أن تدفع في سبيل إعادته إلى حظيرة الإسلام.
أسأل الله له الهداية والأوبة العاجلة، وأن يفتح الله قلبه للهدى والخير.
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم..
أنا من أتباع الشيوعية، ومن معاديّي الإسلام، ومن الناس الذين أشركوا بالله، وكذبوا باليوم الآخر، وهاأنا الآن قد سئمت من حياتي، ومن كل ما صنعت يداي، وأريد التوبة والمغفرة، وقد نويت الالتزام.
أريد أن يكون ذلك عن طريق هذا الموقع، سائلاً منكم أن تدلوني على الطريق الصواب، وإن كان في الإمكان أن أتعلم الإسلام، وأن أكون من شيوخ الإسلام على أيديكم ومن موقعكم هذا.
وأنا جاهز أن أكون في كل محاضرات وتعاليم الإسلام.
كما أريد أن أعلم شيئًا عن هاتين الآيتين: (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرِك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا)، (إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
هل معناها أن الله لا يغفر لمن يشرك به أحدًا و لو تاب عن ذلك؟؟
مع العلم أني في الأساس مسلم مُرتد عن الدين.
وشكرًا.
الأخ الحبيب هيثم؛
حمدًا لله سبحانه أن أعادك إلى بحبوحة رحمته، ورضوان طاعته، ومرحبًا بك أخًا مسلمًا مع أهل الإيمان، تزيد بهم ويزيدون بك، وتقوَى بهم ويقوون بك.
وهنيئًا لك ذلك النعيم الذي فتح الله له قلبك، نعيم الطاعة وحلاوة القرب من الله والأنس به سبحانه، والاطمئنان بمعيَّته، ففي الدنيا جنَّةٌ، مَن لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة، تلكم هي جنَّة القرب من الله والأنس به.
وما هداك الله سبحانه إلى رحابه، وأنقذك من خبيث الشرك ودرن المعصية، إلا لأنَّه يحبُّك، وإلا لتركك كالكثيرين ممَّن هانوا عليه فتركهم يرتعون في عفن المعصية وحمأة التمرُّد على الحقّ، فإنَّه سبحانه ما عُصي في الدنيا إلا بإرادته الكونيَّة، ولو شاء لهدى الناس جميعًا، ولكن تركهم، فعصاه عاصيهم لهوانه على الله، وأطاعه طائعهم لمكانته عند الله.
فالله - عزَّ وجلَّ - يُعطِى الدنيا مَن يحبُّ ومن لا يُحبّ، ولكنَّه لا يُعطِى الدين إلا لمن يحبّ، ولا يهدي لرحابه إلا من يريد أن يقرِّبه منه ويدخله جنَّته في الدنيا قبل الآخرة.
فهنيئًا لك - أخي - هذه التوبة وتلك الأوبة، وهنيئًا لك هذا الرجوع إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها.
واعلم أنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها، كما أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأنَّ خيار الناس في الجاهليَّة هم خيارهم في الإسلام، ولأن الله مَنَّ عليك بنعمة الإيمان، وأنقذك من دنس المعصية، فإنَّه مِن شُكر هذه النعمة أن تنتقل إلى الإسلام بخير ما أودعه الله فيك من علمٍ ومعرفةٍ ومن إمكاناتٍ ومواهب، فتسخِّر كلَّ ذلك في الدعوة لدين الله والذَّوْد عنه، وتفنيد شُبَه خصومه ودحض حججهم، وأنت بذلك أعلم ممَّن لم تكن له مثل تجربتك، ومَن لم يطرق ما طرقت من ميادين، فالذي يعرف الشرَّ والجاهليَّة أكثر من غيره قدرةً على أن يتصدَّى لها فكريّا، وعلى أن يفضحها أخلاقيّا وقيميّا.(46/397)
وإن تكن ذنوبك عظُمَت فالله أعظم، أو كثُرت فالله أكثر، وكم من حائدٍ عن طريقه أصبح من أخلص أوليائه، وكم من محاربٍ له أصبح محاربًا عن دينه ومنهجه، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد كان الفضيل بن عياض قاطعًا للطريق، ثمَّ أصبح من علامات الطريق إلى الله وأدلَّته.
وجاء عمير بن وهب من مكة متوشِّحًا سيفه عازمًا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاد وقد فتح الله قلبه للإيمان، وأخذ على نفسه عهدًا ألا يدع موطنًا نال فيه من الإسلام ونبيِّه إلا ويدعو فيه إلى الإسلام ويذُبّ عنه.
على أنَّني - أخي الكريم - يُهمُّني أن أتوجَّه إليك ببعض النصائح - والدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامتهم -:
أوَّلاً: لقد عشتَ وحشة البعد عن الله، وجرَّبتَ معصيته، ثمَّ ها أنت ذا تعود إلى رحابه بفضلٍ منه سبحانه، فاستمسك بهذه النعمة العظيمة التي منَّ الله بها عليك، وأدِّ حقَّها، وحقُّ النعمة شكرها، وشكرها كما يكون باللسان والقلب يكون بالعمل، والعمل هنا يتمثَّل في أكثر من ناحية:
- يتمثل في أن تعمل دومًا على الارتقاء بذاتك علميّا بالمعنى الشامل للعلم: العلم الشرعي الذي تصِح به عقيدتك وعبادتك وقراءتك لكتاب الله، ولئن كنتَ قد أمضيت سنوات تطَّلع فيها على أبواب من المعرفة قد تكون نافعة، لكنها لا تبنى شخصيتك المسلمة، فإنه حق عليك الآن بعد أن عرفت الحق أن تلزمه، ولن يكون ذلك إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، ولذا فإني أنصحك أخي أن يكون لك منهج في الانفتاح على العلوم الشرعية، ولنبدأ بما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة بسند صحيح.
والعلم الذي هو فريضة هو الذي لا يسع مسلمًا الجهل به في جوانب: العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق.
فلتتعلم ما تصح به عقيدتك، وتصح به عبادتك، وتسلم به معاملتك، من بيع أو شراء أو تجارة أو نكاح أو غيرها، وتستقيم به أخلاقك؛ لأن أكثر ما يدخل الناس الجنة حُسن الخلق، كما ورد عن الصادق المصدوق r.
فإذا أسستَ هذا الأساس، فلتنتقل إلى البناء المعرفي المتكامل من العلوم الشرعية، وهذا بالطبع لن يكون بين عشية وضحاها، ولكن يتحقق بالجهد والإخلاص في طلب العلم.
وهذا باب واسع، ولكن لا أقل من قدر من الإلمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وشيء عن علوم القرآن والحديث الشريف، مع الاهتمام بواقع المسلمين، فمَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
وأرجو أن يكون في موقفنا هذا ما يدلك على منهج للبناء العلمي والمعرفي في هذا السبيل.
ثم لنعمل على الارتقاء بنفسك روحيّا، فالعلم سبيل إلى العمل، والقلب له حياة وغذاء، كما أن الجسد كذلك، ولا شك أنك بتجربتك التي خُضتها، وبالإيمان الذي أفاض الله به عليك تعلم ذلك وتحسه.
ولهذا لابد أن تعمل دومًا على الارتقاء في هذا الجانب، وذلك أيضًا بقدر من التعلم من كتب القوم، كمنهاج العابدين للغزالي، وأخبار الغزالي أيضًا، وتقوى القلوب لأبي طالب المكي، والرسالة التفسيرية شرح الحكم العطائية، إلى غير ذلك من الكتب التي رسم بها هؤلاء الأعلام الطريق إلى الله تعالى والمسلمون معاني الإخلاص والتوكل والتسليم والصبر والرضى، على أن العلم هنا لا ينفع وحده، بل لابد من السلوك، فليكن لك زادك الروحي من ورد قرآني، ومحافظة على أذكار الصباح والمساء، وحبذا لو استمسكت بركعتين في جوف الليل أو صيام بعض النوافل.
ثم يأتي دورك كمسلم، مُطالَب أن يقوم بدعوة غيره إلى الإيمان والطاعة على أنني هنا - أخي الكريم - أنبهك ألا تتصدى لقضايا خلافية أو تدخل في مشكلات فقهية، ففي أساسيات الإسلام والإيمان، وفي المتفق عليه، كفاية لأن نقوم بدورنا في الدعوة.
وكل مسلم قادر على أن يقوم بواجبه في الدعوة إلى الله بعمله الصالح وسلوكه القويم، وبالحكمة والموعظة الحسنة، في الأمور الواضحة البيّنة التي يجهلها كثير من المسلمين.
واعلم أن إخلاص الداعية وصدقه هو أهم ما يؤثر فيمَن يدعوه، ولعلك بإخلاصك وصدقك في نقل تجربتك لآخرين ستكون إن شاء الله خير هادٍ لغيرك ممَّن لا يزال بعيدًا عن الله سبحانه وتعالى.
ثانيًا: اعلم يا أخي أن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فهنيئًا لك هداية الله، ويُحمَد لك رغبتك الدافعة في أن تتعرف على أمور دينك، وأن تكون من دعاته، ولكن الأمر - أخي - يحتاج إلى رفق وتؤدة، حتى تقيم بناءك الروحي والعلمي بشكل صحيح، فإياك أن تأخذك العاطفة والحماسة، فتندفع تريد أن تعرف كل شيء وتقوم بكل شيء، وتتصدى لكل باطل، هكذا بلا تدرج ولا تخطيط.(46/398)
فالتدرج سُنَّة من سنن هذا الدين، ومعلم من أهم معالمه، هكذا علمنا الله سبحانه، فقد ذمَّ الخمر مرتين وحرمها في الثالثة، وبدأ بتأسيس العقيدة، واستغرق في ذلك المرحلة المكية بأكملها، ثم شرع في بناء المجتمع والدولة، فنزلت التشريعات تنظم حياة الناس، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها: (إنما نَزَل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المُفصَّل، فيها ذِكْر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنُوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا) رواه البخاري.
والشاهد من هذا - أخي - أن التدرج في التعبير لابد منه، فلتبدأ في بناء ذاتك روحيّا وعلميّا، وبالالتزام عباديّا وأخلاقيّا، ولكن حبذا لو كان ذلك رويدًا رويدًا، وفي الحديث القدسي العظيم قوله تعالى: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه) رواه البخاري.
فانظر كيف بدأ عز وجل بالفرائض، وجعلها أفضل ما يتقرب إليه سبحانه به، ثم ثنَّى بالنوافل، وعدها طريقًا لنيل محبة الله سبحانه.
ومن مقولات أبي بكر في نصيحته لعمر - رضي الله عنهما - عندما استخلف على الناس: (اعلم أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة).
والإنسان - أخي - لا يولَد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقه.
وقد رأينا نماذج عديدة لأناس اندفعوا بحماس شديد في طريق الهداية، لكنهم لم يثبِّتوا أقدامهم على الطريق، فكان أن عادوا من حيث أتوا - وقانا الله وإياك ذلك - أو فترت همتهم بعد حين.
وفي الحديث: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) رواه أحمد بسند صحيح.
أي أن العمل له فترة اندفاع، يبلغ فيها ذروته، ثم يعتريه فتور بعد الاندفاع، لكن هذا الفتور ينبغي أن يكون في حدود الهدي النبوي العظيم، وإلا ضل صاحبه، (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
لذلك - أخي الكريم - أرجو أن تكون حماستك المحمودة ورغبتك القوية في أن تستدرك ما فاتك وتستقيم على طريق الله، أرجو أن يعقبها سير هادئ متزن في طريق الله، تثبت به الأقدام على طريق الهداية، ويستنير فيه العقل والقلب، وتكون بمشيئة الله سبحانه من دعاته العاملين الثابتين على طريق الهداية.
أما بالنسبة لتساؤلك عن قول الله سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرِك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا)، وقوله عز وجل: (إنه من يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)، فالمعني أخي الكريم أن الذي يموت على الشرك - والعياذ بالله - قد حُرِم من ولوج هذا الباب العظيم، وهو وقوعه تحت رحمة الله في الآخرة، وحُرمت عليه الجنة ومأواه النار.
أما أن الله لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك، أي أن الإنسان ما لم يمت على الشرك بل مات موحدًا على ملة الإسلام، فهو في مشيئة الله سبحانه بالنسبة لذنوبه التي ارتكبها، إن شاء سبحانه عذَّبه عليها، وإن شاء غفرها له بفضله سبحانه، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقِب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، و إن شاء عفا عنه) متفق عليه.
أي أن من ارتكب ما يوجب معاقبته في الدنيا ووقعت عليه العقوبة فهي كفارة له، أي لا يُعذَّب بهذا الجُرْم في الآخرة.
ومن ارتكب ما يوجب الحد ولكنه لم يُقَم عليه، وظل ذنبه مستورًا عن العباد فهو في الآخرة تحت مشيئته سبحانه، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ذلك إذا مات على ملة التوحيد.
أماتنا الله وإياك على ملة التوحيد، وجمعنا في فردوسه الأعلى.. آمين.
أريد منكم أن ترشدوني إلى الأسلوب الأفضل لدعوة ملحد، وما الذي أحتاجه حتى أؤثر فيه أو أقنعه؟
يقول الشيخ عماد أبو الرب، إمام المركز الإسلامي في كييف:
أخي الكريم؛
إن التعامل مع الملحدين بهدف دعوتهم تحتاج إلى معرفة بعض الأسس، حتى يستطيع المسلم المتصدي لهذا الأمر أن يحفظ نفسه من الزلل في شبهاتهم من ناحية، وأن يعرف مداخل التأثير فيهم من ناحية أخرى.
وللإفادة أضع بين يديك -أخي الحبيب- هذه المعلومات المختصرة حول الإلحاد، لتكون ركائز لك لتبني عليها وتضيف، حتى نصل معًا إلى دعوة الآخر بعلم وفهم وحكمة:
* تعريف الإلحاد:
الإلحاد هو مذهب فئة أنكرت وجود الله وما آمنت به، وهو صديق الجهل كما قيل: (الإلحاد صديق الجهل)؛ وهناك ملحدون لا يعترفون بإله لهذا الكون لأنهم لا يرونه، فهم لا يؤمنون بشيء غير محسوس!! رغم أن العقل البشري يعلم أن حواسنا قاصرة عن معرفة أو إثبات وجود كل شيء، ولهذا صحّ ما قال البعض عن الإلحاد: أنه عدم العلم.. لا العلم.(46/399)
ولفهم قضية الإلحاد أذكر لك بإيجاز النقاط التالية:
- الملحد يقيم إيمانه على عمى، بينما المسلم يقيم إيمانه على بصيرة.
- يستند الكثير من الملحدين لقانون السببية الذي يعني أن هناك سببا من وراء كل عمل، والمسلمون يعلمون أن هذا القانون هو عمدة براهين إثبات وجود الله.
- ذكر علماء الفلسفة أن الشيء لا يكون علّة نفسه، فلا بد من وجود علّة أولى هي الله الخالق لكل هذا الوجود.
- من المعروف أن اليهود ساهموا في نشر الإلحاد خاصة في القرن السابق من خلال نشر نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي، ونظريات فرويد وغيرها.. مستغلين محاربة الكنيسة للعلم واضطهادها له، ومما قاله دعاة الشيوعية المنهارة:
ماركس: الدين أفيون الشعوب، لينين: الإلحاد هو شيء طبيعي في الماركسية بل هو روح الماركسية.
- من خطورة الإلحاد أنه يؤدي بالإنسان إلى الكفر بيوم القيامة، وبالثواب والعقاب، وبالجنة والنار، وبكل المعتقدات والعبادات لتي بها ينال العبد رضاء ربه، وكذلك يصلح حال البشر في الدنيا، ويكفيهم عقابًا أن طمس الله على قلوبهم.
* أنواع الإلحاد:
1- الإلحاد الإنكاري "إلحاد كامل":
وهو لفئة قرأت وتعمّقت في دراسة وجود الخالق لكنها وصلت إلى إنكار وجوده، وبالتالي رفض الأديان جملة وما يتعلق بها؟!! وهذا النوع مخرج عن الملة لأنه أوجب الكفر.
2- الإلحاد الرافض "إلحاد جزئي":
وهو لفئة تعلم أن الله موجود، لكن غلبت عليها شقوتها وباتت تتصرّف كأن الله غير موجود، فتنتهك المحرّمات وتسخر من الدين.. وهذا النوع يمكننا أن نطلق عليه الإلحاد الكاذب، وهو مخرج عن الملة كذلك، غير أنه في منزلة أقل من سابقتها.
ومن هنا لا بد معرفة المخاطبين وأفكارهم للبدء منها والبناء عليها، ولا بد أيضا معرفة أسباب الإلحاد.
* أسباب الإلحاد:
يتعجب البعض ويتساءلون: وهل للإلحاد أسباب؟؟!!
نقول ببساطة، بما أننا بشر وتراودنا الأفكار المتناقضة فلا بد من وجود أسباب يمكنك بمعرفتها أن تضع يدك على ما تواجه به صديقك، ومنها:
1- الأهواء البشرية:
فحب الشهوات من غريزة جنسية ومال وعجب وغرور وكبرياء يجد فيها الملحد ضالته، فهو يريد أن يفرغ شهوته بدون ضوابط ولا حساب ولا عتاب، ويحب أن يجمع المال كيفما شاء وينفقه فيما شاء دون أن يجد محاسبة وتقييدا له في حياته، وحبه للظهور والخروج عن المألوف بين معارفه فيظهر نفسه كأنه الأكثر فهما وجرأة.. والكثير من الأهواء التي تعتري البشر فتوصلهم أو تسهل عليهم الإلحاد والعياذ بالله.
2- الرغبة القاصرة:
لأن الملحد عندما يخاف وجود الله يفكر في إنكاره ويصل بعدها لعدم الإيمان به.
** نصائح في مناقشة الملحدين:
1- لا بد لمن تصدى لمناقشة الملحدين والرد عليهم من أن يخلص نيته لله تعالى، فبها وحدها ينال الأجر والثواب العظيم من الله العلي الحكيم.
2- لا بد من ثقافة ووعي في الدين يعينه على أن يحصن نفسه بداية، وأن يعرض بعدها لغيره الحجة الدامغة والدليل القاطع على كلامه وحديثه، خاصة أن الملحد يرفض مبدأ الإيمان القلبي بوجود الله لإصراره على معرفته بحواسه.
3- لا بد من استخدام الحجة العقلية والدليل المنطقي مع الملحدين، وعليك أن تحذر من الأساليب الفلسفية وقلب الحقائق وطرح المتناقضات.. وهذا يعني أن تبدأ النقاش معه عن سبب الوجود ومصدره، كونها أصل الموضوع؛ ثم عن صفات الموجد وهو الله؛ ثم عن الإسلام.. وهكذا حتى تصل به إلى الفهم المطلوب.
4- لا بد أن تتفق وإياه على قواعد للحوار بحيث لا يجوز تجاوزها، وإن وصلتم إلى طريق مسدود فتذكر قول الله تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً" الكهف : 57.
5- تذكر أن الإيمان يدخل القلب عن طريق العقل ثم يستقر في القلب عاطفة، وهذا هو أسلوب القرآن الذي خاطب العقل ولفت انتباهه ومداركه للكون والحياة، كما أنه لا يستطيع أن يقيم الدليل على عدم وجود الله لا بالعقل ولا بالنقل.
6- ذكّره بداية أن إثبات وجود الله ليس كإثبات أن الماء يتكون من الهيدروجين والأوكسجين، فالإنسان -كما هو معروف- محدود بقدراته، كما قال أرسطو: (الإنسان كائن محدود)، وفيه نقص وضعف لا يمكّنه من أن يلم بالله عز وجل، ثم إن هناك موجودات لا نراها ولا نستطيع إثبات وجودها.
7- استفد من كلامه المتناقض، فقوله: أين الرب الرحيم؟ يعني أنه يثبت الله ولكنه يتساءل عن غيابه.
8- اضرب له صورًا افتراضية كالتي يطرحها، فمثلاً قل له ماذا لو سلّمنا أن الخالق موجود، فماذا يكون بعد موتك؟ لا بد أنه سيعينك يوم القيامة إذا كنت من المؤمنين به، أما إذا ما كان هناك خالق فلن تخسر شيئًا سوى بعض الأمور التي حرمت نفسك منها في الدنيا؛ وهكذا تعرض له الفكرة تلو الأخرى لعل الله يفتح على يديك وتجد ما تطرق به قلبه.(46/400)
9- لا بد من نقض فكر الملحد قبل أن تبني أفكارك، فابدأ بإزالة ثقته بأفكاره وإلحاده والتدليل على وجود الخالق، ثم أتبعها بإزالة الشبهات، مع عرض صورة الإسلام الزاهية.
10- تذكر أن الكثير من النظريات يبنى على عدد قليل من البديهيات، ووجود الله أمر بديهي من الناحية الفلسفية، والكون وما فيه من نظام وتوافق يؤكد صحة هذه البديهية.
أسأل الله أن يجري الخير على يديك، وتابعنا بإنجازاتك.
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth ead.php?t=998
=========================(46/401)
(46/402)
حوار جاد مع نصراني
سؤال:
كنت أتصفح موقعكم ولقد استمتعت بذلك حيث أنني طالبة نصرانية بمدرسة دينية وأرغب في تعلم المزيد. أريد أن أعرف رأيك فيما يلي هل هو صحيح؟
في الإسلام: الجنة عبارة عن خمر ونساء وغناء. وطريق الجنة يكون بالبعد عن هذه الأمور التي سوف يكافأ بها بالإضافة إلى الالتزام بأركان الإسلام الخمسة.
في الإسلام: لا يبدو أن هناك ضماناً بالنجاة والخلاص. فقط يقال اتبع هذه الطريقة خلال الحياة وستنال الخلاص والنجاة من الله. ليس هناك ضمان. أنا لا أحب أن أعيش كذلك بلا ضمان. أنا أعلم أن المسلمين لا يعتقدون بالخطيئة الأصلية ولكن بغض النظر عن كون الإنسان يولد مخطئاً أو لا ، ألا توافقني بأن الإنسان خطاء وكثير الخطأ؟ ماذا يفعل الإنسان تجاه خطئه ومعصيته؟ أنا أفهم التوبة لكن يبدو أنه لا يمكن لأحد أن يبلغ النجاة عند الله. ولهذا أرسل الله ابنه ليقتل على الصليب من أجلنا ، من أجل الخلاص من ذنوبنا الحاضرة والماضية والقادمة.
ليس هناك ضمان للنجاة في الإسلام، إن هذا أمر مرعب حقاً أن تعيش بلا ضمان للنجاة. أن تعيش حياتك ولا تدري هل عملت من الأعمال الصالحة ما يكفي لخلاصك يوم القيامة ولا تدري هل صليت بما فيه الكفاية أم لا …الخ إنه أمر مرعب حقاً.
لقد سألت العديد من زملائي المسلمين هل هم متأكدون من دخولهم الجنة أو النار بعد الموت ولكن لم أتلق منهم رداً بالإيجاب. إنه ليس هناك ضمانات في الإسلام لأنه ليس هناك اعتقاد في الخلاص بالإيمان بالمسيح ، إنما يعتمد الإسلام على فعل الشخص وأعماله.
أيضاً: لو أردت أن أصبح مسلمة فإنني لا أستطيع. إذا كان المسلمون يعتقدون أنهم المصطفون من بين الناس فلماذا لا ينشرون دينهم؟ هل يقتصر الأمر على أن تكون محظوظاً لأنك ولدت مسلماً؟
إذا أراد شخص أن يكون نصرانياً فإنه يستطيع ذلك. أي شخص يمكن أن يصبح نصرانياً في خلال ثوان. أنا لم أكن نصرانية عندما ولدت . إن النصارى يؤكدون أن عيسى المسيح هو الطريق الوحيد للرب.
عيسى المسيح قال بنفسه أنا الطريق أنا الحق أنا الحياة لا أحد سيصل إلى الأب من غير طريقي إنه لم يقل أنا أحد الطرق بل قال أنا الطريق
وقال أيضاً: أنا والأب واحد.
أنا لا أفهم كيف يكون أي شخص متعامياً عن هذه الحقائق إلا إذا لم يسمعوا بها من قبل.
أنا أرغب في رد وتعليق من قبلك.
الجواب:
الحمد لله
مما نقدّره لك أيها السائل توجهك بالسؤال عن إفادة بشأن ما عرضته عن تصورات لقضايا في دين الإسلام ، ونحن نرجو أن تكون المناقشة لبعض ما كتبت والتصحيح لبعض التصورات التي عرضتها سبيلا إلى الوصول إلى الحقيقة والاقتناع بها :
1- ما أوردته عن العقيدة الإسلامية حيال موضوع الجنة وأنه نعيم بالخمر والنساء والغناء فيه قصور كبير عن الاعتقاد الصحيح حيال ذلك ، فإن نعيم الجنة ليس نعيما حسيّا جسديا فقط بل هو كذلك نعيم قلبي بالطمأنينة والرضى به سبحانه وتعالى وبجواره ، بل إن أعظم نعيم في الجنة على الإطلاق هو رؤية الربّ سبحانه وتعالى ، فإن أهل الجنة إذا رأوا وجهه الكريم نسوا كلّ ما كانوا فيه من ألوان النعيم ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، والمقصود بيان أن نعيم أهل الجنة ليس مقصورا على ما ورد في كلامك بل هو أوسع من ذلك بكثير .
2- ما ذكرته من أن دخول الجنة يتحقق بترك محرمات معينة ليفوز الإنسان بها في الآخرة هو أيضا خطأ كبير بهذا الإطلاق إذ أن الإسلام دين يأمر بالعمل لا بالترك فقط فلا تتحقق النجاة إلا بفعل المأمورات وليس بترك المنهيات فقط فهو قيام بالواجبات وانتهاء عن المحرمات ، وكذلك فإنه ليس كل نعيم الجنة مما كان محرما في الدنيا على سبيل المكافأة بل كم في الجنة من النعيم الذي كان مباحا في الدنيا فالزواج مباح هنا وهو نعيم هناك والفواكه الطيبة من الرمان والتين وغيرها مباح هنا وهو من النعيم هناك والأشربة من اللبن والعسل مباح هنا وهو نعيم هناك وهكذا ، بل إن المفسدة التي تشتمل عليها المحرمات في الدنيا تنتزع منها في الآخرة إذا كانت من نعيم الجنة كالخمر مثلا قال الله سبحانه وتعالى عن خمر الجنة : ( لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) فلا تُذهب العقل ولا تسبّب صداعا ولا مغصا ، فطبيعتها مختلفة عما هي عليه في الدنيا ، والمقصود أن نعيم الجنة ليس مقصورا على إباحة المحرمات الدنيوية . وكذلك مما يجدر التنبيه عليه أن هناك من المحرمات التي لا يجازى على تركها في الدنيا بإعطاء نظيرها في الآخرة سواء من ذلك المطعومات أو المشروبات أو الأفعال والأقوال فالسم مثلا لا يكون نعيما في الآخرة مع حرمته في الدنيا وكذا اللواط ونكاح المحارم وغير ذلك لا تباح في الآخرة مع حظرها في الدنيا ، وهذا واضح بحمد الله .(46/403)
3- أما مسألة وجود الضمانات من عدمها وأن حياة الشخص ستكون رديئة شنيعة على حد تعبيرك إذا لم يكن لديه ضمان بالجنة فالجواب أنّ سوء التصور هو الذي يوصل إلى هذه النتيجة ، ولو أنّك قلت : لو كان كلّ شخص عنده ضمان بالجنة لكانت مصيبة عظيمة إذ أنّه سيفعل كلّ حرام ويرتكب كلّ محظور بهذا الضمان ، وكثيرا ما يفعل المجرمون من اليهود والنصارى ما يفعلون اعتمادا على ذلك الضمان الباطل وصكوك الغفران وطلبات الصّفح من الرهبان ، وقد أخبرنا ربنا عن هؤلاء بقوله : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(111) سورة البقرة ، وقضية الجنّة عندنا نحن المسلمين ليست بأهوائنا ولا بأهواء غيرنا كما قال ربنا : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(123) سورة النساء ، وإليك فيما يلي نبذة مختصرة في الاعتقاد الإسلامي بشأن ضمان المصير :
يقدم الإسلام ضمانا لكل مسلم مخلص مطيع لله حتى يموت على ذلك بأنه سيدخل الجنة قطعا وجزما . قال الله تعالى في محكم تنزيله : ( وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) سورة النساء وقال تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) سورة المائدة . وقال تعالى : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا(61) سورة مريم ، وقال : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا(15) سورة الفرقان ، وقال : ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) سورة الزمر ، وكذلك يضمن الإسلام للكافر المعرض عن أمر الله عز وجل بأنه سيدخل النار قطعا وجزما ، قال تعالى :
( وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(68) سورة التوبة ، وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36) سورة فاطر ، وقال تعالى عن الكافرين يوم الدّين : ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(63)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(64) سورة يس . فوعْد الله لا يتخلّف مع الفريقين كما ذكر عن حالهما بعد انتهاء يوم القيامة :
( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44) سورة الأعراف ، فكلّ من آمن وعمل صالحا ومات على ذلك يدخل قطعا الجنة ، وكلّ من كفر وعمل السيئات ومات على ذلك يدخل النّار قطعا ، ثمّ إن من قواعد الإسلام العظيمة ان يعيش المؤمن بين الخوف والرّجاء فلا يحكم لنفسه بالجنة لأنّه سيغترّ ثمّ إنه لا يدري على أيّ شيء سيموت ، ولا يحكم على نفسه بالنّار لأنّ ذلك قنوط من رحمة الله ويأس محرّم ، فهو يعمل الصّالحات ويرجو أن يثيبه الله عليها ويجتنب السيئات خوفا من عقاب الله ، ولو أذنب فإنه يتوب لينال المغفرة ويتقي بتوبته عذاب النّار والله يغفر الذّنوب ويتوب على من تاب ، وإذا خاف المؤمن أن ما قدّمه من العمل لا يكفي على حد تعبيرك زاد في العمل خوفا ورجاء . ومهما قدّم من أعمال صالحة فإنّه لا يركن إليها ولا يغترّ فيهلك بل يعمل ويرجو الثواب ، وفي الوقت ذاته يخشى على عمله من الرياء والعُجب والحبوط كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60) ، فهكذا يبقى المؤمن يعمل ويرجو ويخاف إلى أن يلقى الله على التوحيد وعمل الصّالحات فيفوز برضى الربّ وجنّته ، ولو أنّك تمعنت في الأمر لعلمت أنّ هذه هي الدوافع الصّحيحة للعمل ، وأنّ الاستقامة في الحياة لا تحصل إلاّ بهذا .
4- وأما ما أوردته حيال مسألة الخطيئة الأصلية فالكلام عليه من عدّة جهات :(46/404)
الأولى : أن موقف العقيدة الإسلامية حيال الذنوب البشرية هو : أن الشخص كما يتحمّل تبعة عمله ولا يتحمّلها غيره فكذلك لا يتحمّل هو تبعة عمل غيره ، كما قال عز وجل : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، ففكرة الخطيئة الأصلية منتفية بهذا فإذا أخطأ الأب فما ذنب الأولاد والأحفاد أن يتحملوا خطيئة عملها غيرهم ، إنّ العقيدة النصرانية التي تحمّل الذرية خطأ أبيهم هي عين الظّلم ، فهل يقول عاقل أنّ الذّنب يتسلسل عبر قرون البشرية ، وأنّ ذنب الجدّ يلطّخ الأولاد والأحفاد والأجيال ؟؟
الثانية : أنّ الخطأ من طبيعة البشر وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ " . رواه الترمذي 2423 ، لكن الله لم يجعل الإنسان عاجزا عند حصول الذّنب لا يملك أن يفعل شيئا حياله بل أعطاه الفرصة وفتح له الباب للتوبة والعودة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في تكملة الحديث السابق : " وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ . " ، وتظهر رحمة الربّ في شريعة الإسلام جليّة عندما ينادي سبحانه وتعالى عباده بقوله : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) سورة الزمر . فهذه طبيعة النفس البشرية وهذا سبيلها وحلّ مشكلتها إذا أذنبت ، أما أن تجعل هذه الطبيعة البشرية وهي طبيعة الخطأ سدا منيعا بين العبد وبين الرب وأن العبد لا يقدر على بلوغ مرضات الرب إطلاقا إلا بأن يُنزل لهم ابنه ( المزعوم !! ) ليُصلب ذليلا مهانا تحت سمع وبصر ( أبيه !! ) فعند ذلك يغفر للبشرية فأمر في غاية العجب والسّخافة ومجرّد حكاية هذا الكلام الباطل يُغني عن الردّ عليه ، وقد قلت مرة لشخص نصراني ونحن في نقاش هذه المسألة إذا كنتم تقولون أنه أنزل ابنه ليصلب فداء للبشرية الذين في عصره أو الذين سيأتوا بعد الصّلب فما هو ياتُرى حال الذين أذنبوا وماتوا مُذنبين قبل ولادة المسيح ولم يتسنى لهم أن يعرفوا المسيح ليؤمنوا بعقيدة الصّلب المذكورة ليغفر لهم ؟ ، فلم يزد على أن قال : بالتأكيد عند قساوستنا ردّ على هذا الإشكال ! ولو وُجد فإنّه تلفيق فماذا عساهم يقولون .
وأنت إذ استعرضت العقيدة النصرانية حيال موضوع الخطيئة البشرية بعقل منصف وجدتهم يقولون أن الرب قد ضحى بولده البكر الوحيد ليكفر بذلك خطايا البشر وهذا الابن إله فلئن كان الإله قد ضرب وشتم وصلب فمات فإن هذه العقيدة تحمل في طياتها الإلحاد فيه سبحانه وتعالى واتّهامه بالتخاذل والضّعف . وهل الرّب عاجز عن غفران ذنوب العباد كلّهم بكلمة واحدة منه ، إذا كان كذلك وهو على كلّ شيء قدير ( والنّصارى لا يعترضون على هذا ) فما الذي يجعله إذن يُضحّي بولده من أجل ذلك ( تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوا كبيرا ) ،
( بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(101) سورة الأنعام ، وإذا كان الشّخص العادي لا يرضى أن يُمسّ ولده بسوء بل يُدافع عنه ولا يُسْلمه إلى عدوّ لينال منه أو يسبّه ويشتمه فضْلا عن أن يتركه يواجه مصير القتل صلبا بأبشع القتْلات ، إذا كان هذا حال المخلوق العادي فكيف بالربّ .
الثالثة : إن عقيدة التكفير عن الخطيئة الأصلية التي يعتقدها النصارى لها أثر سلبي على واقع الحياة البشرية إذ أن العقيدة النصرانية كما أوردت لا تفرض على الإنسان أي التزامات فما عليه إلا أن يعتقد أن الله قد أرسل ابنه إلى هذه الأرض ليصلب فيموت تكفيرا لأخطاء البشر فيكون بذلك نصرانيا يضمن بذلك الفوز برضى الرب ويدخل الجنة ، وليس هذا فحسب بل يعتقد أن كل ما حدث بابن الله إنما هو لتكفير خطاياه السالفة والحاضرة والمستقبلية ولا تتساءل بعد ذلك عن سبب ما تعيشه المجتمعات النصرانية من تزايد حالات القتل والاغتصاب والسرقة وإدمان الكحول إلى غيرها من الخطايا .. أليس المسيح قد مات لتكفيرها وقد كفّرت ومُحيت فلما لا يتوقّفون عن عمل المعاصي . وقل لي بربّك لماذا تُعدمون القاتل أحيانا ، وتسجنون المجرم ، وتُعاقبون بالعقوبات المختلفة إذا كان المجرم في نظركم قد كفّرت ذنوبه وغُفرت سائر جرائمه بدم المسيح ؟ أليس تناقضا عجيبا ؟(46/405)
5- ما أوردته في كلامك من أن المسلمين ما داموا يعتقدون أنهم المصطفون من البشر فلماذا لا ينشرون عقيدتهم ، فالجواب أنّ المخلصين منهم العاملين بالكتاب الكريم قد قاموا بذلك وإلا فما الذي أوصل الإسلام من مكة إلى أندنوسيا وسيبريا والمغرب والبوسنة وجنوب أفريقية وسائر بلاد الشّرق والغرب ، والأخطاء الموجودة في سلوكيات بعض المسلمين اليوم لا يتحمّلها الإسلام وليس سببا فيها بل إنّها لم تحصل إلا نتيجة مخالفة الإسلام ، وليس من العدل أن يُحمّل المنهج أخطاء بعض أتباعه الذين خالفوه وانحرفوا عنه . أليس المسلمون أعدل من النّصارى عندما يُقرّون بأنّ المذنب مهدّد بعقاب الله مالم يتب وأنّ من الذّنوب ما فيه حدّ يردع في الدّنيا ويكون كفّارة في الآخرة كحدّ القتل والسّرقة والزّنا .. إلخ .
6- وأما ما ذكرته من سهولة الدّخول في النّصرانية بالنسبة للإسلام فخطأ ظاهر فإن مفتاح الإسلام عبارتان لا غير : أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله يدخل بها الشخص الإسلام في ثوان لا يحتاج إلى تعميد ولا قسّيس ولا ذهاب إلى مكان معيّن لا مسجد ولا غيره ، قارن بين هذا وبين إجراءات التعميد المُضحكة التي يفعلها النّصارى إذا أرادوا إدخال شخص في النّصرانية . ثمّ يقدّس النّصارى الصّليب الذي آذى عيسى لما صُلب عليه - بزعمهم - وآلم ظهره وأوجعه فيجعلونه مقدّسا وبركة وشفاء بدل أن يذمّوه ويكرهوه ويعتبروه رمزا للظلم وشكلا بشعا لموت ابن الإله !! وهو الذي أوجع ظهره وحرمه النّوم .
7- ألا ترى معي بأنّ المسلمين أولى بالحقّ من غيرهم وهم يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين ويجلّونهم ويعتقدون أنهم على الحقّ والتوحيد جميعا وأنّ كلا نبّأه الله أو أرسله إلى قومه بشريعة تُناسب ذلك الزّمان والمكان ، إنّ النّصراني المُنصف إذا رأى أهل الإسلام يُؤمنون بموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه وبالتوراة والإنجيل الأصليين والقرآن الكريم ، ثم يرى بني قومه من النّصارى يكفرون ب صلى الله عليه وسلم ويجحدون نبوته ويكذّبون بكتابه ، ألا يقوده إنصافه إلى ترجيح كفّة المسلمين ؟
8- أما ما ذكرته من أن قول المسيح : لا أحد يستطيع أن يصل إلى الأب إلا من خلالي . فإنه لا بدّ من إثبات هذه المقولة وصحّة نسبتها إلى عيسى أولا ، وثانيا : إنّها واضحة البطلان فكيف عرفت البشرية الله في عهد نوح وهود وصالح ويونس وشعيب وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء ؟ ولو كانت المقولة إنّ بني إسرائيل في عهد عيسى عليه السلام وعصره وما بعده إلى عهد خاتم الأنبياء محمد عليه السلام - لا يستطيعون الوصول إلى دين الله وشريعته إلا من طريق عيسى عليه السّلام فقط لقلنا إنّ ذلك قول صحيح وعبارة وجيهة .
9- أما ما ختمت به من قول المسيح أنا والأب واحد فهذه عقيدة مرفوضة ولو سلكت سبيل الإنصاف وتجرّدت عن الهوى لتبيّن لك أن قولة : " أنا والأب " ، مركبّة من معطوف ومعطوف عليه وأداة العطف بينهما ، والعطف في علم اللغة يقتضي التّغاير أي أنّه شئ والأب شئ آخر ، ولو قال شخص أنا وفلان لعلم كلّ عاقل أنهما اثنان مختلفان ، ومعادلة 1+1+1=1 هي معادلة مرفوضة عند جميع العقلاء من الرياضيين وغيرهم .
وختاما أوصيك وما أظنك ترد ذي الوصية أن تقوم لله متفكرا في نفسك فيما قرأت من الكلام متجردا عن أيّ خلفيّة أو مقالة سابقة وعن كلّ هوى أو عصبية صادقا في طلب الهداية من الله وحده ، والله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه . والله الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
==============(46/406)
(46/407)
ترك الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله
سؤال:
بعض الصوفية يقول بترك الأخذ بالأسباب ، بحجة التوكل على الله والتسليم لقضائه وقدره ، فهل هذا الكلام صحيح ، وما هو المذهب الصحيح ؟.
الجواب:
الحمد لله
هذا الأمر مما عمت به البلوى ، واشتدت به المحنة ، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة .
فأمة الإسلام مرت بأزمات كثيرة ، وفترات عسيرة ، وكانت تخرج منها بالتفكير المستنير ، والنظرة الثاقبة ، والتصور الصحيح ، فتبحث في الأسباب والمسببات ، وتنظر في العواقب والمقدمات ، ثم بعد ذلك تأخذ بالأسباب ، وتلج البيوت من الأبواب ، فتجتاز - بأمر الله - تلك الأزمات ، وتخرج من تلك النكبات ، فتعود لها عزتها ، ويرجع لها سالف مجدها ، هكذا كانت أمة الإسلام في عصورها الزاهية .
أما في هذه العصور المتأخرة التي غشت فيها غواشي الجهل ، وعصفت فيها أعاصير الإلحاد والتغريب ، وشاعت فيها البدع والضلالات ، فقد اختلط هذا الأمر على كثير من المسلمين ، فجعلوا من الإيمان بالقضاء والقدر تكأة للإخلاد في الأرض ، ومسوغاً لترك الحزم والجد والتفكير في معالي الأمور ، وسبل العزة والفلاح ، فآثروا ركوب السهل الوطيء الوبيء على ركوب الصعب الأشق المريء .
فكان المخرج لهم أن يتكل المرء على القدر ، وأن الله هو الفعال لما يريد ، وأن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، فلتمض إرادته ، ولتكن مشيئئته ، وليجر قضاءه وقدره ، فلا حول لنا ولا طول ، ولا يد لنا في ذلك كله .
هكذا بكل يسر وسهولة ، استسلام للأقدار دون منازعة لها في فعل الأسباب المشروعة والمباحة .
فلا أمر بالمعروف ، ولا نهي عن المنكر ، ولا جهاد لأعداء الله ، ولا حرص على نشر العلم ورفع الجهل ، ولا محاربة للأفكار الهدامة والمبادئ المضللة ، كل ذلك بحجة أن الله شاء ذلك !
والحقيقة أن هذه مصيبة كبرى ، وضلالة عظمى ، أدت بالأمة إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط ، وسببت لها تسلط الأعداء ، وجرت عليها ويلات إثر ويلات .
وإلا فالأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر ، بل إنه من تمامه ، فالله عز وجل أراد بنا أشياء ، وأراد منا أشياء ، فما أراده بنا طواه عنا ، وما أراده منا أمرنا بالقيام به ، فقد أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا ، وأراد منا قتالهم وإن كان يعلم أننا سُنهزم أمامهم ، وأراد منا أن نكون أمة واحدة وإن كان يعلم أننا سنتفرق ونختلف ، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا وإن كان يعلم أن بأسنا سيكون بيننا شديداً وهكذا ...
فالخلط بين ما أريد بنا وما أريد منا هو الذي يُلبس الأمر ، ويوقع في المحذور .
صحيح أن الله عز وجل هو الفعال لما يريد ، الخالق لكل شيء ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، الذي له مقاليد السموات والأرض ، ولكنه تبارك وتعلى جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها ، وقوانين ينتظم بها ، وإن كان هو عز وجل قادراًَ على خرق هذه النواميس وتلك القوانين ، وإن كان أيضاً لا يخرقها لكل أحد .
فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين - لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم قاعدون عن الأخذ بالأسباب ، لأن النصر بدون الأخذ بالأسباب مستحيل ، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل ولأنه منافٍ لحكمة الله ، وقدرته عز وجل متعلقة بحكمته .
فكون الله قادراً على الشيء لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرة عليه ، فقدرة الله صفة خاصة به ، وقدرة العبد صفة خاصة به ـ فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به هو الذي يحمل على القعود ، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب .
وهذا ما لاحظه وألمح إليه أحد المستشرقين الألمان فقال وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة : ( طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله ، والرضا بقضائه وقدره ، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار )
وكان لهذه الطاعة أُثران مختلفان ؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب ، وحققت نصراً متواصلاً ، لأنها دفعت في الجندي روح الفداء .
وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي ، فقذف به إلى الإنحدار ، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية . العلمانية للشيخ سفر الحوالي نقلاً عن باول شمتز في كتابه الإسلام قوة الغد العالمية ص 87
من كتاب الإيمان بالقضاء والقدر لـ محمد بن إبراهيم الحمد ص 144.
============(46/408)
(46/409)
حاجة البشر إلى الدين
سؤال:
لماذا يحتاج الناس إلى الدين ؟ ألا تكفي القوانين لضبط حياة الناس !.
الجواب:
الحمد لله
حاجة البشر إلى الدين أعظم من حاجاتهم إلى ما سواه من ضرورات الحياة ؛ لأن الإنسان لا بد له من معرفة مواقع رضى الله - سبحانه - ومواقع سخطه , ولابد له من حركة يجلب بها منفعته , وحركة يدفع بها مضرته , والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفع والتي تضر , وهو عدل الله في خلقه , ونوره بين عباده , فلا يمكن للناس أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه .
وإذا كان للإنسان إرادة فلا بد من معرفة ما يريده , وهل هو نافع أو ضار ؟ وهل يصلحه أو يفسده ؟ .
وهذا قد يعرفه بعض الناس بفطرهم وبعضه يعرفونه بالاستدلال إليه بعقولهم , وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم إياهم - أنظر التدمرية , تأليف شخ الإسلام ابن تيمية و ص: 213, 214 , ومفتاح دار السعادة , جـ2 , ص: 383 - .
فمهما استعلت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت ومهما تعددت الأفكار والنظريات فلن تغني الأفراد والمجتمعات عن الدين الصحيح , ولن تستطيع أن تلبي متطلبات الروح والجسد , بل كلما توغل الفرد فيها ؛ أيقن تمام اليقين أنها لا تمنحه أمناً , ولا تروي له ظمأً , وألا مهرب منها إلا إلى الدين الصحيح , يقول أرنست رينان : ( إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه وأن تبطل حياة استعمال العقل والعلم والصناعة , ولكن مستحيل أن ينمحي التدين , بل سيبقى حجة باطلة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الإنسان في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية ) انظر : الدين , تأليف عبد الله دراز , ص : 87.
ويقول محمد فريد وجدي : ( يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين ؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها , ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان , بل إن هذا الميل سيزداد , ففطرة التدين ستلاحق الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح , وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه ) المصدر السابق , ص: 87.
فإذا ابتعد الإنسان عن ربه فعلى قدر علو مداركه واتساع آفاق علمه , يدرك عظم جهله بربه وما يجب له , وجهله بنفسه وما يصلحها ويفسدها , ويسعدها ويشقيها , وجهله في جزئيات العلوم ومفرداتها كعلوم الأفلاك والمجرات وعلوم الحاسب والنواة وغيرها ... وحينئذ يتراجع العالم من مرحلة الغرور والكبرياء إلى التواضع والاستسلام , ويعتقد أن وراء العلوم عالماً حكيماً , ووراء الطبيعة خالقاً قادراً , وتلزم هذه الحقيقة الباحث المنصف بالإيمان بالغيب والإذعان للدين القويم , والاستجابة لنداء الفطرة والغريزة الجِبِلََّيَّة ....وإذا تخلى الإنسان عن ذلك انتكست فطرته وتردى على مستوى الحيوان الأعجم .
ونخلص بهذا إلى التدين الحق - الذي يعتمد على إفراد الله بالتوحيد , والتعبد له وفق ما شرع - عنصر ضروري للحياة ليحقق المرء من خلال عبوديته للَّه رب العالمين , ولتحصيل سعادته وسلامته من العطب والنصب والشقاء في الدارين , وهو ضروري لتكتمل القوة النظرية في الإنسان ؛ فبه وحده يجد العقل ما يشبع نهمته , ومن دونه لا يحقق مطامحه العليا .
وهو عنصر ضروري لتزكية الروح وتهذيب قوة الوجدان , إذ العواطف النبيلة تجد في الدين مجالاً ثرياً ومنهلاً لا ينفد معينه تدرك فيه غايتها .
وهو عنصر ضروري لتكتمل قوة الإرادة بما يمدها بأعظم البواعث والدوافع ويدرّعها بأكبر وسائل المقاومة لعوامل اليأس والقنوط .
وعلى هذا فإذا كان هناك من يقول : إن الإنسان مدني بطبعه , فينبغي أن نقول : ( إن الإنسان متدين بفطرته ) انظر السابق ص : 84 , 98, لأن للإنسان قوتين : قوة علمية نظرية , وقوة علمية إرادية , وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوته العلمية والإرادية , ولا يتحقق استكمال القوة العلمية إلاّ بمعرفة ما يلي :
1- معرفة الإله الخالق الرازق الذي أوجد الإنسان من عدم وأسبغ عليه النعم .
2- معرفة أسماء الله وصفاته , وما يجب له - سبحانه - , وأثر هذه الأسماء على عباده .
3- معرفة الطريق التي توصل إليه سبحانه .
4- معرفة المعوقات والآفات التي تحول بين الإنسان وبين معرفة هذا الطريق وما توصل إليه من النعيم العظيم .
5- معرفة نفسك معرفة حقيقية , ومعرفة ما تحتاج إليه , وما يصلحها أو يفسدها , ومعرفة ما تشتمل عليه من المزايا والعيوب .
فبهذه المعارف الخمس يستكمل الإنسان قوته العلمية , واستكمال القوة العلمية والإرادية لا يحصل إلاّ بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد , والقيام بها إخلاصاً وصدقاً ونصحاً ومتابعةً , وشهوداً لمنته عليه ولا سبيل إلى استكمال هاتين القوتين إلاّ بمعونته فهو مضطر إلى أن يهديه الصراط المستقيم الذي هدى أولياءه إليه . انظر: الفوائد , ص : 18-19 .(46/410)
بعد أن عرفنا أن الدين الصحيح هو المدد الإلهي لقوى النفس المختلفة , فإن الدين - أيضاً - هو الدرع الواقي للمجتمع , ذلك لأن الحياة البشرية لا تقوم إلاّ بالتعاون بين أعضائها , ولا يتم هذا التعاون إلاّ بنظام ينظم علاقاتهم , ويحدد واجباتهم , ويكفل حقوقهم , وهذا النظام لا غنى له عن سلطان نازع وازع يردع النفس عن انتهاكه , ويرغبها في المحافظة عليه , ويكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته , فما هو هذا السلطان ؟ فأقول : ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام النظام , وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه , والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه .
والسر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمع ولا بصر , وإنما هو عقيدة إيمانية تهذب الروح وتزكي الجوارح , فالإنسان مقود أبداً بعقيدة صحيحة أو فاسدة , فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء , وإذا فسدت فسد كل شيء .
والعقيدة والإيمان هما الرقيب الذاتي على الإنسان وهما - كما يلاحظ في عموم البشرية - على ضربين :
- إيمان بقيمة الفضيلة وكرامة الإنسانية وما إلى ذلك من المعاني المجردة التي تستحي النفوس العالية من مخالفة دواعيها حتى ولو أعفيت من التبعات الخارجية والجزائية المادية .
- وإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنه رقيب على السرائر , يعلم السر وأخفى , تستمد الشريعة سلطانها من أمره ونهيه , وتلتهب المشاعر بالحياء منه إما محبة له أو خشية منه أو بهما معاً ... ولا ريب أن هذا الضرب من الإيمان هو أقوى الضربين سلطاناً على النفس الإنسانية , وهو أشدهما مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواطف , وأسرعها نفاذاً في قلوب العامة والخاصة .
من أجل ذلك كان الدين خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد العادلة والإنصاف , وكان لذلك ضرورة اجتماعية , فلا غرو إن حل الدين من الأمة محل القلب من الجسد . _ انظر : الدين , ص : 98 , 102 _ . وإذا كان الدين عموماً بهذه المنزلة , فالمشاهد اليوم تعدد الأديان والملل في هذا العالم , وتجد كل قوم بما لديهم من الدين فرحون مستمسكون به , فما الدين الصحيح الذي يحقق للنفس البشرية ما تصبو إليه ؟ وما ضوابط الدين الحق ؟ .
من كتاب الإسلام أصوله ومبادؤُه تأليف د . محمد بن عبد الله بن صالح السحيم .
==============(46/411)
(46/412)
هل الكلمات في السكر الروحي معفوٌّ عنها ؟
سؤال:
قال حمزة يوسف عندما تحدث عن المخاوف التي يخافها الناس من الصوفية : " السبب الرابع: هو الخوف عموماً من الضلال باتباع عقائد خفية دون التأكد من صحتها كما يحدث لكثير من الجهال ، لذلك ربما يسمع الجهال من الناس بعض العبارات التي تقال على ألسنة الصوفية ولا يفهمونها بالكلية ، وفي طبقات الإمام الذهبي أن أبا اليزيد البسطامي يعتبر فقيهاً وأن الإمام الذهبي يُعتبر تلميذ ابن تيمية ويَعتبر أبا اليزيد البسطامي مصدراً للحديث ، ولكنَّ أبا اليزيد هذا هو الذي قال " سبحاني " وهذه الكلمة معروفة بالكلمة الفنية للصوفيين " شطحة " بحيث لو قالها شخص وهو مغيب النفس لا يؤاخذ بها ، وهناك دليل في البخاري عن عبدٍ في وسط الصحراء وفيه يقول صلى الله عليه وسلم أن الرجل لما وجد راحلته المفقودة صاح بفرحة " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " ، وأوضح صلى الله عليه وسلم أن هذا العبد أخطأ في مقولته بعد أن وجد راحلته ، هذا بالنسبة للشخص الذي وجد راحلته فكيف بالشخص الذي يجد ربَّه ؟ .
هل يعني الحديث في البخاري أن الكلمات التي يقولها الشخص وهو في حالة " سكر روحي " معفو عنها ؟.
الجواب:
الحمد لله
أبو يزيد البسطامي هو: طيفور بن عيسى ، توفي سنة 261 هـ .
ولا يُعلم عنه أنه كان من المشتغلين بالحديث ، ولم يذكر ذلك عنه الذهبي في ترجمته، بل ذَكَرَ عنه ما قد يُؤخذ منه سخريته من أهل الحديث ودعواه أنه يتلقى علمه عن الله تعالى مباشرة!! وهو قوله : ما المحدِّثون ؟ إن خاطبهم رجل عن رجل فقد خاطبنا القلب عن الرب!!
وقد نُقلت عنه شطحات كثيرة قوله : "ما في الجُبَّة إلا الله"، و "ما النَّار ؟ لأستندنَّ إليها غداً وأقول : اجعلني فداءً لأهلها وإلا بلعتُها" ، و "ما الجنَّة ؟ لعبة صبيان، ومراد أهل الدنيا" .
ومن أجل هذه العبارات التي ظاهرها الكفر والإلحاد حكم عليه بعض العلماء بفساد الاعتقاد، وأنه مبتدع واعتذر عنه آخرون .
قال ابن كثير رحمه الله : وقد حُكي عنه شطحاتٌ ناقصاتٌ ، وقد تأوَّلها كثيرٌ من الفقهاء والصوفية ، وحملوها على محاملَ بعيدةٍ ، وقد قال بعضُهم إنَّه قال ذلك في حال الاصطلام - أي : الفناء - والغيبة ، ومن العلماء مَن بدّعه وخطّأه وجعل ذلك من أكبر البدع ، وأنَّها تدلُّ على اعتقادٍ فاسدٍ كامِنٍ في القلب ظهر في أوقاته .
" البداية والنهاية " ( 11 / 38 ) .
وبالرجوع إلى سير أعلام النبلاء للذهبي تبين أن الذهبي لم يصف أبا يزيد بأنه فقيه ، ولا اعتبره مصدراً للحديث ، بل نقل عنه كلمات جيدة ، ونقل عنه أيضاً هذه الشطحات ، فقال :
وجاء عنه - أي : عن أبي يزيد - أشياء مشكلة لا مساغ لها ، الشأن في ثبوتها عنه ، أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر والغيبة والمحو ، فيطوى ولا يحتج بها ، إذ ظاهرها إلحاد مثل "سبحاني" ، و "ما في الجبة إلا الله" ، "ما النار ؟ لأستندن إليها غداً وأقول : اجعلني فداء لأهلها وإلا بلعتُها" ، و "ما الجنة ؟ لعبة صبيان ، ومراد أهل الدنيا" . . . إلخ
" سير أعلام النبلاء " ( 13 / 88 ) .
ولعل الذي حمل بعض العلماء على الاعتذار عنه أنه نُقلت عنه كلمات جيدة في الحث على اتباع الشرع والوقوف عند حدوده ، مع ما حُكي عنه أنه كان إذا أفاق أنكر هذه الشطحات .
انظر : منهاج السنة (5/357) ، ومدارج السالكين (2/119) .
ومما ينبغي أن يُعلم أن مثل هذه الكلمات غاية أمر صاحبها أن يكون معذوراً فيها غير مؤاخذ عليها ، ولا يصح أن تجعل هذه الكلمات دليلاً على الولاية والعلم والتحقيق .
قال شيخ الإسلام :
والذين يذكرون عن أبى يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون إنه غاب عقله حتى قال : "أنا الحق" و "سبحاني" ، و "ما في الجبة إلا الله" . ويقولون إن الحب إذا قوي على صاحبه وكان قلبه ضعيفا يغيب بمحبوبه عن حبه ، وبموجوده عن وجوده ، وبمذكوره عن ذكره ، حتى يفنى من لم يكن ، و يبقى من لم يزل . . . فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد وبين المأمور والمحظور ليست علما ولا حقا ، بل غايته أنه نَقَصَ عقلُه الذي يفرق به بين هذا وهذا ، وغايته أن يعذر لا أن يكون قوله تحقيقا اهـ
مجموع الفتاوى 8/313.
ثم محل العذر إذا كان الإنسان وصل إلى حال غياب العقل من غير اختياره ، أما إذا فعل ما يذهب عقله ، فإنه يلام بلا شك على ذلك الفعل . كما لو شرب الخمر أو جعل يرقص في حِلَق الذكر حتى غاب عن الوعي .
قال شيخ الإسلام :
لكن بعض ذوى الأحوال قد يحصل له فى حال الفناء القاصر سكر وغيبة . . . فقد يقول فى تلك الحال : "سبحانى" أو "ما فى الجبة إلا الله" أو نحو ذلك من الكلمات التى تؤثر عن أبى يزيد البسطامى . . . وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهى عنه فأما إذا كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا ، لا فرق في ذاك بين السكر الجسمانى والروحانى اهـ
مجموع الفتاوى (2/461) .(46/413)
وأما مدح هذه الكلمات ، وكذلك مدح كلام الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح وقال : "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" فمن الخطأ الفاحش إذ كيف يمدح هذا الكلام بعد ما وصفه صلى الله عليه وسلم بالخطأ فقال : (أخطأ من شدة الفرح) ؟!
وهذه الكلمات تدل على نقص عقل صاحبها أو غيابه بالكلية وقت تلفظه بها ، فكيف يكون نقص العقل وغيابه مدحاً وكمالاً وولايةً ؟!
وهؤلاء أصحاب صلى الله عليه وسلم كانوا أكمل البشر بعد الأنبياء خوفا من الله ، ورجاء له ، وتحقيقا للعبودية والولاية لم تنقل عنهم مثل هذه الكلمات لكمال عقولهم واتباعهم للشرع رضي الله عنهم أجمعين .
الإسلام سؤال وجواب
===============(46/414)
(46/415)
كم عدد المرات التي ينبغي أن يدعى فيها غير المسلم؟
سؤال:
كم هي عدد المرات التي يمكننا أن نلقي فيها محاضرات على أشخاص من غير المسلمين ، والذين يظهر عليهم عدم الاهتمام بالرسالة التي نحاول إيصالها لهم ؟ نحن مجموعة من المتطوعين للقيام بالدعوة ، ونحن نقوم بزيارة الورش والمصانع والمستشفيات . وفي أغلب الأوقات فنحن نقوم بإعادة الزيارة للموقع الواحد 4 أو 5 مرات . لكننا وجدنا أنه لا يوجد من يستمع إلينا . أما بعض الذين يجلسون فيكونون ممن أمرهم (أجبرهم) صاحب المؤسسة على الحضور .
الجواب:
الحمد لله
نسأل الله أن يجزيكم خيرا ، وأن يبارك في عملكم وسعيكم .
ليس هناك عدد معين لما ينبغي إلقاؤه من المحاضرات على من ذكرت ، بل ذلك يرجع إلى عدد المواقع ، التي تزورونها والوقت المتاح لديكم ، ومدى إقبال الناس عليكم ، فالحكمة مطلوبة من الداعية في دعوته ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه الموعظة حتى لا يسأموا وهكذا فكونوا ، احرصوا على الدعوة بالتي هي أحسن ، واختاروا الزمان والمكان المناسب للدعوة .
والداعية لا ييأس من تكرار دعوته مرات ومرات ، فإن أمر القلوب بيد الله تعالى ، وما على الداعية إلا البلاغ ، والكلمة التي قد يستهين بها الداعية ربما ظل أثرها في قلب المدعو سنين ثم تكون سببا في هدايته .
وهذه الكلمة - حتى تؤتي ثمارها - ينبغي أن يصحبها الابتسامة ، والرحمة، والرغبة الصادقة في إنقاذ هؤلاء المساكين ، وانتشالهم من ظلمات الكفر والإلحاد ، وإن استطاع الداعية أن يضيف إلى كلمته مالا أو مساعدة ، فليفعل فإن ذلك يعطي مصداقية لما يعرض من القيم والمثل ، ويهيئ القلوب لاستقبال ما يرد عليها من الخير ، ويزيل ما فيها من البغض والصد والإعراض .
وكذلك السعي في حل ما يعرض لهؤلاء المدعوين من مشكلات مع أصحاب الأعمال التي يعملون عندهم ، له أثر كبير في جذب قلوبهم إلى الداعية ، وقديما قيل :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وخير من ذلك قول الحق سبحانه : ) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت / 34 .
وينبغي أن تتركوا بيد هؤلاء المدعوين ما ينظرون فيه حال فراغهم ، وعند غيابكم ، من نشرات ومطويات وكتيبات ، فإن تفكر الإنسان في الحق حال انفراده بنفسه أدعى لقبوله والإذعان له .
وليكن من دعوتكم التوجه إلى أصحاب الأعمال أنفسهم بالنصيحة بأن يحسنوا إلى هؤلاء العمال ويظهروا لهم حسن أخلاق الإسلام ، فكثيراً ما كان ذلك سبباً لإسلام العمال ، كما أن سوء معاملة صحاب العمل وظلمه للعمال قد يكون سبباً لصدهم عن الدخول في الإسلام .
وفقكم الله تعالى وجعلكم هداة مهتدين
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
==============(46/416)
(46/417)
تكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية
سؤال:
وصلتني رسالة يقول مرسلها أني يجب أن أرسلها إلى أصدقائي وإلا سيحصل لي مصيبة كبيرة وهي كالتالي :
من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسو صلى الله عليه وسلم
هذه الوصية من المدينة المنورة من الشيخ احمد حامل مفاتيح حرم الرسو صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
واليكم الوصية :
يقول الشيخ احمد انه كان في ليلة يقرا فيها القرآن الكريم وهو بالحرم المدني الشريف وفي تلك اللحظة غلبني النوم ورأيت في منامي الرسول عليه السلام أتى إلي وقال لي انه قد مات في هذا الأسبوع أربعون ألفا من الناس على غير إيمانهم وأنهم ماتوا ميتة الجاهلية وأن النساء لا يطيعون أزواجهم ويظهرن أمام الرجال بزينتهن من غير ستر ولا حجاب عاريات الجسد ويخرجن من بيوتهن من غير علم أزواجهن وأن الأغنياء من الناس لا يؤدون الزكاة ولا يحجون إلى بيت الله الحرام ولا يساعدون الفقراء ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر وقال الرسول عليه السلام أبلغ الناس ان يوم القيامة لقريب وقريبا تظهر في السماء نجمة وترونها واضحة وتقترب الشمس من رؤوسكم قاب قوسين أو أدنى وبعد ذلك لا يقبل الله توبة أحد منكم وستقفل أبواب السماء ويرفع القرآن من الأرض إلى السماء ويقول الشيخ أحمد أنه قد قال له الرسول عليه السلام في منامه انه إذا قام أحد الناس بنشر هذه الوصية بين المسلمين فانه سيحظى بشفاعتي يوم القيامة ويحصل على الخير الكثير والرزق الوفير ومن اطلع عليها ولم يعطها اهتمام بمعنى أن يتلفها أو يلقى بها بعيدا فقد إثم إثما كبيرا ، أيضا من اطلع عليها ولم يقم بنشرها فانه يحرم من رحمة الله يوم القيامة ولهذا أطلب من الذين يقرؤون هذه الوصية أن يقرؤوا الفاتحة على النبي عليه السلام هذا وقد طلب مني المصطفى عليه الصلاة والسلام في المنام أن ابلغ أحد المسئولين من خدم الحرم الشريف أن القيامة قريبة فاستغفروا الله . وحلمت يوم الاثنين بأنه من قام بنشر ثلاثين ورقه من هذه الوصية بين المسلمين فان الله يزيل عنه الهم والغم ويوسع عليه الرزق ويحل له مشاكله ويرزقه خلال أربعين يوما تقريبا وقد علمت أن أحدهم قام بنشر ثلاثين ورقة من هذه الوصية فرزقه الله بخمسة وعشرين ألف روبية كما قام شخص آخر بنشرها فرزقه الله بستة آلاف روبية وكما أخبرت أن شخصا كذب هذه الوصية فقد ابنه في نفس اليوم وهذه معلومات لاشك فيها .
فآمنوا بالله واعملوا صالحا حتى يوفقنا الله في آمالنا ويصلح شأننا في الدنيا والآخرة ويرحمنا برحمته ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون ) الأعراف / 157 ، ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) يونس / 63 ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) إبراهيم / 27
علما بان هذه الوصية ستجلب لك بعد توزيعها الخير والفلاح بعد أربعة أيام بإذن الله من وصولها إلي الشخص الآخر واعلم أن الأمر ليس لعبا ولهو ، أن ترسل نسخا من هذه الوصية بعد ستة وتسعين ساعة من قراءتك لها وسبق أن وصلت هذه الوصية! إلي أحد رجال الأعمال فوزعها فورا ومن ثم جاء له خبر نجاح صفقته التجارية بتسعين ألف دينار زيادة عما كان يتوقعه ، كما وصلت إلى أحد الأطباء فأهملها فلقي مصرعه في حادث سيارة وأصبح جثة هامدة تحدث عنها الجميع وأغفلها أحد المقاولين فتوفي ابنه الكبير في بلد عربي شقيق يرجى إرسال خمسة وعشرين نسخة من هذه الوصية ويبشر المرسل بما يحصل له في اليوم الرابع وحيث أن الوصية مهمة الطواف حول العالم كله فيجب إرسال خمسة وعشرون نسخة متطابقة إلى أحد أصدقائك وبعد أيام ستفاجئ بما سبق ذكره فآمنوا بالله واعملوا )
ارجوا الإجابة لأني لم أرسل هذه الرسالة لأي شخص لعدم وثوقي في صحتها.
الجواب:
الحمد لله
قال الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله :
لقد سمعنا هذه الوصية المكذوبة مرات كثيرة منذ سنوات متعددة تنشر بين الناس فيما بين وقت وآخر، وتروج بين الكثير من العامة ، وفي ألفاظها اختلاف ، وكاتبها يقول : إنه رأى صلى الله عليه وسلم في النوم فحمله هذه الوصية ، ... وقد زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة هي من أوضح الكذب وأبين الباطل ، ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية ، وبينت للناس أنها من أوضح الكذب وأبين الباطل ، فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها ؛ لظهور بطلانها وعظم جرأة مفتريها على الكذب ، وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة أو فطرة سليمة .
ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها قد راجت على كثير من الناس، وتداولوها بينهم، وصدقها بعضهم، فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها؛ لبيان بطلانها، وأنها مفتراة على رسول ا صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر بها أحد، ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح، عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة .(46/418)
ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية، فأجابني بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد، وأنه لم يقلها أصلا، والشيخ أحمد المذكور قد مات من مدة، ولو فرضنا أن الشيخ أحمد المذكور أو من هو أكبر منه زعم أنه رأى صلى الله عليه وسلم في النوم أو اليقظة، وأوصاه بهذه الوصية- لعلمنا يقينا أنه كاذب، أو أن الذي قال له ذلك شيطان، وليس هو الرسو صلى الله عليه وسلم ؛ لوجوه كثيرة منها :
منها :
أن الرسو صلى الله عليه وسلم لا يقول خلاف الحق ، لا في حياته ، ولا في وفاته ، وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة من وجوه كثيرة- كما يأتي :- وهو r قد يرى في النوم ، ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه ؛ لأن الشيطان لا يتمثل في صورته ، كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف ، ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته ، وهل رأى صلى الله عليه وسلم في صورته أو في غيرها ؟ ، ولو جاء عن صلى الله عليه وسلم حديث قاله في حياته من غير طريق الثقات العدول الضابطين لم يعتمد عليه ، ولم يحتج به ، أو جاء من طريق الثقات الضابطين ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين لكان أحدهما منسوخا لا يعمل به، والثاني ناسخ يعمل به حيث أمكن بذلك بشروطه ، وإذا لم يمكن ذلك ولم يمكن الجمع، وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظا وأدنى عدالة، والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها، فكيف بوصية لا يعرف صاحبها الذي نقلها عن رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولا تعرف عدالته وأمانته... فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها، وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع ، فكيف إذا كانت الوصية مشتملة على أمور كثيرة تدل على بطلانها، وأنها مكذوبة على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ومتضمنة لتشريع دين لم يأذن به الله! وقد قال صلى الله عليه وسلم : من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار . ا.هـ باختصار
وقد كتب الشيخ صالح الفوزان مقالة عن هذه الوصية محذراً منها نشرتها مجلة الدعوة العدد 1082 جاء فيها :
هذه الوصية المكذوبة قديمة ، فقد ظهرت في مصر منذ أكثر من ثمانين سنة وقد دحضها أهل العلم وزيفوها وبينوا ما فيها من الكذب والباطل منهم الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وقد قال في رده عليها : [ قد أجبنا عن هذه المسألة سنة 1322هـ وإننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مراراً كثيرة وكلها معزوة إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية والوصية مكذوبة قطعا لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين ، وإنما يصدقها البلداء من العوام الأميين ] .
ثم رد عليها رحمه الله ردا مطولاً مفيداً دحض قيه كل ما جاء فيها من الافتراءات ، ثم إن هذه الوصية قد تلقفها بعض الجهلة وأخذوا يطبعونها ويوزعونها متأثرين بما فيها من الوعود والوعيد ، لأن هذا الفاجر الذي اخترعها قال فيها فمن طبع منها كذا من النسخ ووزعها حصل على مطلوبه ، إن كان مذنباً غفر الله له وإن كان موظفاً رفع إلى وظيفة أحسن من وظيفته ، وإن كان مديناً قضي دينه ، ومن كذب بها اسود وجهه وحصل عليه كذا وكذا من العقوبات ، فإذا قرأها بعض الجهلة تأثر بها وعمل على نشرها خوفاً وطمعاً .
وقد قام العلماء ببيان كذب هذه الوصية وحذروا الناس من نشرها والتصديق بها ، ومن هؤلاء العلماء : الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فقد رد عليها برد جيد مفيد ، وبين ما فيها من الكذب والتدجيل ، وهذه الوصية باطلة من عدة وجوه :
أولاً : أن أحكام الدين والوعد والوعيد والأخبار عن المستقبل كل هذه الأمور لا تثبت إلاّ بوحي من الله إلى رسله ، والوحي قد انقطع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما أكمل الله به الدين ، وقد ورث لنا الكتاب والسنة وفيهما الكفاية والهداية ، أما الرؤيا والحكايات فلا يثبت بها شيء لأن غالبها من وضع الشياطين لإضلال الناس عن دينهم ومفتري هذه الوصية يعد من صدقها ونشرها بدخول الجنة وقضاء حوائجه وتفريج كرباته ، ويتوعد من كذب بها بدخول النار وأنه يسود وجهه ، وهذا تشريع دين جديد وكذب على الله سبحانه وتعالى نعوذ بالله من ذلك .
ثانياً : أن مفتري هذه الوصية جعلها أعظم من القرآن الكريم لأن من كتب المصحف الشريف وأرسله من بلد إلى بلد لا يحصل له هذا الثواب الذي قال فيه الدجال إنه يحصل لمن ينشر هذه الوصية ومن لم يكتب القرآن ويرسله من بلد إلى بلد لا يحرم من شفاعة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مؤمناً فكيف يحرم المؤمن من الشفاعة إذا لم يكتب هذه الوصية ويرسلها من بلد إلى بلد كما يقول مفتريها .
ثالثاً : أن هذه الوصية فيها ادعاء علم الغيب حيث جاء فيها [ أنه من الجمعة إلى الجمعة مات أربعون ألفاً على غير دين الإسلام ] فهذا من ادعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله فإنه هو الذي يعلم عدد من يموت على الإسلام ومن يموت على الكفر ومن ادعى علم الغيب فهو كافر بالله .(46/419)
رابعاً : أن الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة لا يثبتان إلاّ بنص من كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا المفتري في هذه الوصية جعل الثواب لمن صدقها ، والعقاب لمن كذب بها ولم ينشرها ، وقد فضحه الله -والحمد لله- فكثير من المسلمين كذبوها وزيفوها ولم يحصل لهم إلاّ الخير والذين صدقوها ونشروها لم يحصل لهم إلاّ الخيبة والخسارة .
ثم إن هذا المفتري أراد أن يوهم العوام والجهال بصدق هذه الوصية فحلف بالله أيماناً مكررة أنه صادق وأنها حقيقة وأنه إن كان كاذباً يخرج من الدنيا على غير الإسلام وأراد أن يتظاهر بحب الإسلام وبغضه للمعاصي والمنكرات حتى يحسن به الظن ويصدق .
وهذا من مكره وخبثه بل ومن غباوته وجهله ، فإن الحلف وكثرة الأيمان لا تدل على صدق كل حالف فكثير من الكذابين يحلفون للتغرير بالناس ، فهذا إبليس حلف للأبوين عليهما السلام { إني لكما لمن الناصحين } والله تعالى قال لنبيه : { ولا تطع كل حلاف مهين } وأخبر أن المنافقين يحلفون على الكذب وهم يعلمون ، ويقول عنهم { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } التوبة /107 ، فهل يظن هذا الغبي الأحمق أنه إذا افترى الكذب على الله ورسوله في هذه الوصية وحلف في آخرها أن المسلمين سيصدقونه ويقبلون أقواله ، حاشا وكلا ، وأما تظاهره بالغيرة على الدين والتألم من المنكرات فهو من التقرير الذي يقصد من ورائه أن يحسن الناس به الظن ويقبلوا قوله ولم يدر أن فرعون اللعين تظاهر لقومه بالنصح والشفقة حينما قال لهم وهو يصدهم عن اتباع موسى عليه السلام { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } فما كل من تظاهر بالمناصحة والغيرة يكون صادقا ، ويكفينا ما جاء في الكتاب والسنة من التحذير من المنكرات والمعاصي وبيان العقوبات المترتبة عليه ففي ذلك الكفاية لأهل الإيمان .
هذا وربما يسأل سائل ما هو الهدف الذي يقصده صاحب هذه الوصية وما هو الدافع لقيامه بافترائها وترويجها ؟
والجواب : أن هدفه من ذلك تضليل الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم وصرفهم إلى الخرافات والحكايات المكذوبة فإذا صدقوه في هذه وراجت بينهم اخترع لهم أخرى وأخرى حتى ينشغلوا بذلك عن الكتاب والسنة فيسهل الدس عليهم وتغيير عقائدهم ، فإن المسلمين ما داموا متمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيهم فلن يستطيع المضللون صرفهم عن دينهم لكنهم إذا تركوا الكتاب والسنة وصدقوا الخرافات والحكايات والرؤيا الشيطانية سهل قيادهم لكل مضلل وملحد ، وقد يكون من وراء ذلك منظمات سرية من الكفار تعمل على ترويج هذه المفتريات لصرف المسلمين عن دينهم ومما يدل على ذلك أن هذه الخرافة موجودة منذ قرن من الزمان ويبعد أن يكون مخترعها على قيد الحياة فلولا أن هناك من يعمل على ترويجها من بعده لم تظهر فإياكم أيها المسلمون والتصديق بهذه المفتريات ، ولا يكن لها رواج بينكم واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم .
إن أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين وشياطين الجن والإنس دائماً يحاولون صرف الناس عن الدين الحق إلى الدين الباطل وعن طريق الجنة إلى طريق النار ، وعن إتباع الرسل إلى إتباع الشياطين والمضلين ، فكانوا يحرفون شرائع الأنبياء ويغيرون الكتب المنزلة على الرسل ، كما فعلوا في التوراة والإنجيل ولما بعث الله خام النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن العظيم والشرع القويم تكفل سبحانه بحفظ القرآن العظيم من التغيير والتبديل فقال سبحانه وتعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى : { وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } وحفظ سنة نبي صلى الله عليه وسلم من كذب الكذابين بما أقام عليها من الحراس الأمناء وصفوة العلماء الذين حفظوها ونقولها بأمانة ونفوا عنها كل ما حاول إدخاله فيها الكذابون والدجالون ، فوضعوا الضوابط والقواعد التي يعرف بها الحديث الصحيح من الحديث المكذوب ودونوا الأحاديث الصحيحة وحموها وحشروا الأحاديث المكذوبة وحاصروها وحذروا منها ، فلما لم يجد أعداء الله ورسوله لهم منفذاً للدس في كتاب الله وسنة رسوله لجأوا إلى محاولة صرف الناس عن الكتاب والسنة وإشغالهم بالحكايات المكذوبة والمنامات المزورة التي تشتمل على الترغيب والترهيب والوعود الكاذبة التي تغري وتغر ضعاف الإيمان والجهلة فصرفوا كثيراً منهم إلى الشرك والإلحاد والبدع باسم الدين والعبادة والزهد جريا وراء تلك الخرافات .
فدين هؤلاء المنحرفين لا ينبني على الكتاب والسنة وإنما ينبني على الحكايات المكذوبة والمنامات المزعومة ، فضلوا عن الهدى ، وتركوا كتاب الله وسنة رسوله إلى وساوس الشياطين وهذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة ، قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم واحذروا الدسائس المضلة التي يروجها أعداء الملة .(46/420)
وفق الله الجميع للاعتصام بالكتاب والسنة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
الإسلام سؤال وجواب
=============(46/421)
(46/422)
ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار
سؤال:
ورد في القرآن أنه لا يجوز لنا اتخاذ الكفار أولياء ، لكن ماذا يعني ذلك ؟ أقصد إلى أي حدٍّ ؟ هل يجوز لنا التعامل معهم ؟ أنا أدرس ، فهل يجوز لنا لعب كرة السلة معهم ؟ هل يجوز أن نتحدث معهم فيما يتعلق بالسلة وما إلى ذلك ؟ هل يجوز أن نصاحبهم طالما أنهم أبقوا أمور اعتقاداتهم لأنفسهم ؟ .
أسأل عن ذلك لأني أعرف شخصاً يصاحبهم بمثل هذه الطريقة وتواجده معهم لا يؤثر على اعتقاده ، لكني مع ذلك أقول له : " لماذا لا تبقى مع المسلمين بدلا من هؤلاء ؟ " وهو يرد قائلا : إن أغلب - أو العديد - من المسلمين يشربون الخمر ويتناولون المخدرات في أماكن تجمعهم ، كما أن لهم صديقات ، وهو يخاف من أن معاصي هؤلاء المسلمين قد تغويه ، لكنه متأكد تماما أن كفر الكفار لن يغريه لأنه شيء لا يُعتبر مغريا بالنسبة له ، فهل تواجده ولعبه وحديثه حول أمور الرياضة مع الكفار يعتبر " من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
حرم الله تعالى على المؤمنين اتخاذ الكافرين أولياء ، وتوعد على ذلك وعيداً شديداً .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى مِن المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم ، وبيَّن في موضع آخر أن توَلِّيهم موجب لسخط الله ، والخلود في عذابه ، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم ، وهو قوله تعالى : ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) المائدة/80 ، 81 .
ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبيناً سبب التنفير منه ، وهو قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) الممتحنة/13 .
وبيَّن في موضع آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف ، وتقية ، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور ، وهو قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران/28 . فهذه الآية الكريمة فيها بيانٌ لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاحٌ ؛ أن محل ذلك في حالة الاختيار ، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم ، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم ، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة ، ومن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختياراً .
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم " انتهى .
"أضواء البيان" ( 2 / 98 ، 99 ) .
ومن صور مولاة الكفار المحرمة : اتخاذهم أصدقاء وأصحاباً ، ومخالطتهم في الطعام واللعب معهم .
وفي جواب السؤال رقم ( 10342 ) نقلنا عن الشيخ ابن باز قوله :
" ليس الأكل مع الكافر حراماً إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو المصلحة الشرعية ، لكن لا تتخذوهم أصحاباً فتأكل معهم من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ولا تؤانسهم ، وتضحك معهم ، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كالأكل مع الضيف أو ليدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الحق أو لأسباب أخرى شرعية فلا بأس .
وإباحة طعام أهل الكتاب لنا لا يقتضي اتخاذهم أصحاباً وجلساء ولا تقتضي مشاركتهم في الأكل والشرب من دون حاجة ولا مصلحة شرعية " . انتهى .
وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله :
عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟
فأجاب :(46/423)
لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم ؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) الممتحنة/4 . وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة/22 .
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) الممتحنة/1 .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم : فهذا لا بأس به ؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام ، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به ، وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم رحمه الله " . انتهى .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 3 / السؤال رقم 389 ) .
ثانياً :
وأما قول هذا القائل : إنه لا يخالط العصاة من المسلمين خوفا من أن تغويه معاصيهم ، وأما الكفار فإن كفرهم لن يغريه .
فجوابه أن يقال :
أما عدم مخالطته لأهل المعاصي من المسلمين فَلَنِعْمَ ما فَعَلَ ، إذا لم يكن قادراً على نصيحتهم ، ونهيهم عن المنكر ، وخاف على نفسه من الوقوع في معاصيهم واستحسانها .
وأما مخالطته للكفار ، فليست العلة في منع مخالطة الكفار هي الخوف من الوقوع في الكفر فقط ، بل مِنْ أظهرِ عِلَلِ هذا الحكم : عداوتُهم لله ورسوله والمؤمنين ، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) الممتحنة/1 .
فكيف يليق بمسلم أن يصاحب عدو الله وعدوه ويصادقه ؟!
ثم مِنْ أين يأمَنُ هذا مِنِ استحسانِ طريقتهم ومذهبهم ؟ وقد وقع كثير من المسلمين في الكفر والإلحاد وارتدوا عن الإسلام بسبب مصاحبتهم للكفار ، وإقامتهم في بلدانهم . فبعضهم تَهَوَّدَ ، وبعضهم تَنَصَّر ، وبعضهم اعتنق مذاهب فلسفية ملحدة .
نسأل الله أن يثبتنا على دينه .
وانظر جواب السؤال رقم ( 2179 ) ففيه إيضاح القاعدة العظيمة : " تحريم موالاة الكفّار " وفيه ذِكر صور كثيرة من تلك الموالاة المحرَّمة .
وفي جواب السؤال رقم ( 43270 ) تجد حكم القول بأن أخلاق الكفّار أفضل من أخلاق المسلمين ، وفيه النقل عن الشيخ ابن باز بتحريم هذا القول .
وفي جواب السؤال رقم ( 26118 ) ، ( 23325 ) بيان تحريم مصاحبة الكافر ومصادقته .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============(46/424)
(46/425)
كيف اختلطت النصرانية بالعقائد الشركية ؟
سؤال:
إذا كانت النصرانية الحقة قد جاءت بتوحيد الله تعالى ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه من الخلق ، سواء كان عيسى أو غيره ، فكيف اختلطت هذه الديانة بالعقائد الشركية ، فاتخذوا عيسى عليه السلام ، وأمه إلهين من دون الله ؟.
الجواب:
الحمد لله
ليس من شك أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه من الخلق ، هو أصل الرسالة التي جاء بها نبي الله عيسى ، عليه السلام ، كما أنها أصل الرسالة التي جاء بها سائر الأنبياء ، قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) النحل/36 وقال تعالى أيضا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الانبياء/25
وعلى هذه الدعوة يشهد عيسى عليه السلام على قومه ؛ قال الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) ، وأما كيف انحرف أصحاب هذه الديانة بعد ذلك عن التوحيد الخالص إلى العقائد الوثنية ، وعبادة عيسى وأمه من دون الله ، فهي قصة مبكرة في تاريخ النصرانية ، وسوف نورد هنا بعض الشواهد عليها ، من كلام أهلها ، وليسمع من له أذنان :
. . جاء في دائرة المعارف الأمريكية :
( لقد بدأت عقيدة التوحيد - كحركة لاهوتية - بداية مبكرة جدا في التاريخ ، وفي حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين . لقد اشتُقَّت المسيحية من اليهودية ، واليهودية صارمة في عقيدة التوحيد .
إن الطريق الذي سار من أورشليم [ مجمع تلاميذ المسيح الأول ] إلى نيقية [ حيث تقرر مساواة المسيح بالله في الجوهر والأزلية عام 325م ] كان من النادر القول بأنه كان طريقا مستقيما .
إن عقيدة التثليث التي أقرت في القرن الرابع الميلادي لم تعكس بدقة التعليم المسيحي الأول فيما يختص بطبيعة الله ؛ لقد كانت على العكس من ذلك انحرافا عن هذا التعليم ، ولهذا فإنها تطورت ضد التوحيد الخالص ، أو على الأقل يمكن القول بأنها كانت معارضة لما هو ضد التثليث ، كما أن انتصارها لم يكن كاملا . ) [ 27/294 ]
ويمكنك الرجوع إلى بعض آراء من لا يزالون يذهبون إلى التوحيد من المسيحيين ، في المصدر السابق نفسه ، دائرة المعارف [ 27/300-301 ] .
ويقول وول ديورانت :
( لما فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد [ أي المسيحي ] دماء الدين الوثني القديم : لقب الحبر الأعظم ، وعبادة الأم العظمى ، وعدد لا يحصى من الأرباب التي تبث الراحة والطمأنينة في النفوس ، وتمتاز بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس ، كل هذا انتقل إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها .
وأسلمت الإمبراطورية المحتضرة أزِمَّة الفتح والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية ، وشحذت الكلمة بقوة سحرها ما فقده السيف المسلول من قوته . وحل مبشرو الكنيسة محل الدولة .
إن المسيحية لم تقض على الوثنية ، بل ثبتتها ؛ ذلك أن العقل اليوناني عاد إلى الحياة في صورة جديدة ، في لاهوت الكنيسة وطقوسها ، ونقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الرهيبة ، وجاءت من مصر آراء الثالوث المقدس ، ويوم الحساب ، وأبدية الثواب والعقاب ، وخلود الإنسان في هذا أو ذاك . ومن مصر جاءت عبادة الأم الطفل ، والاتصال الصوفي بالله ؛ ذلك الاتصال الذي أوجد الأفلوطينية واللاأدرية ، وطمس معالم العقيدة المسيحية . ومن بلاد الفرس جاءت عقيدة رجوع المسيح وحكمه الأرض لمدة 1000 ) . [ قصة الحضارة 11/418 ] .
وعلى الرغم من النفثة الإلحادية في كلام ديورانت ، وهو أمر معروف به ، والتي تظهر في زعمه أن أبدية الثواب والعقاب منقولة عن المصرية ، فإن تتبع الأصول الوثنية للنصرانية المحرفة لم يعد بالأمر الخفي ، ولم ينفرد هو ببحثه ؛ ففي كتابه " المسيحية والوثنية " يقرر روبرتسون أن الميثراثية ، وهي ديانة فارسية الأصل ، ازدهرت في بلاد فارس قبل الميلاد بنحو ستة قرون ، قد دخلت إلى روما حوالي عام 70 م ، وانتشرت في بلاد الرومان ، ثم وصلت إلى بريطانيا ، وانتشرت في العديد من مدنها .
وما يعنينا هنا من أمر هذه الديانة أنها تقول :(46/426)
- إن ميثراس ، الذي تنسب إليه ، كان وسيطا بين الله والناس . { انظر مقابله في النصرانية : أعمال الرسل 4/12 }
- وأن مولده كان في كهف ، أو زاوية من الأرض . { انظر : لوقا 2/7 } .
- وأن مولده كان في يوم 25 ديسمبر . { وهو يوم احتفال النصارى بمولد المسيح }
- كان له اثنا عشر حواريا . { انظر : متى 10/1 }
- مات ليخلص العالم { انظر : كورنثوس الأولى 15/3 }
- دفن ولكنه عاد إلى الحياة { انظر : السابق 15/4 }
- صعد إلى السماء أمام تلاميذه { انظر : أعمال الرسل 1/9}
- كان يدعى مخلصا ومنقذا { انظر : تيطس 2/13}
- من أوصافه أنه حمل وديع { انظر : يوحنا 1/ 29 }
- في ذكراه كل عام يقام العشاء الرباني { انظر : كورنثوس الأولى 11/23-25}
- من شعائره التعميد .
- يوم الأحد مقدس عندهم .
بينما يذهب المستشرق الفرنسي ليون جوتيه في كتابه " مقدمة لدراسة الفلسفة الإسلامية " إلى أن أصول التثليث النصراني ينبغي تلمسها في الفلسفة اليونانية ، وتحديدا في أفكار الأفلاطونية المحدثة ، التي تلقت مبادئ فكرة التثليث في النظرة إلى خالق الكون عن أفلاطون ، ثم عمقتها إلى حد كبير ، بحيث اتضح التشابه الكبير بينها وبين النصرانية ؛ فالخالق ، ذو الكمال المطلق ، جعل بينه وبين العالم وسيطين ، صادرين عنه ، وهما أيضا داخلان فيه في نفس الوقت ؛ أي تتضمنهما ذاته ، وهما العقل والروح الإلهية . ثم قال :
( وهكذا كان التزاوج بين العقيدة اليهودية والفلسفة الإغريقية لم ينتج فلسفة فقط ، بل أنتج معها دينا أيضا ، أعني المسيحية التي تشربت كثيرا من الآراء والأفكار الفلسفية عن اليونان ؛ ذلك أن اللاهوت المسيحي مقتبس من نفس المعين الذي كانت فيه الأفلاطونية الحديثة ، ولذا تجد بينهما مشابهات كثيرة ، وإن افترقا أحيانا في بعض التفاصيل ، فإنهما يرتكزان على عقيدة التثليث ، والثلاثة الأقانيم واحدة فيهما . )
وهذا هو ما يشير إليه الكاتب الأمريكي ( درابر) :
( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ، ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية ، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين ، ولم يخلصوا له يوما من الأيام ، وكذلك كان قسطنطين فقد قضي عمره في الظلم والفجور ، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية ، إلا قليلا في آخر عمره (337م ) .
إن الجماعة النصرانية ، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك ، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية ، وتقتلع جرثومتها ، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء ) .
وهكذا سلك النصارى بدينهم مسلك الذين كفروا من قبلهم ، حذو القذة بالقذة ، كما يشهد كتابهم على أنفسهم وبني قومهم ، وكفى بالله شهيدا ؛ قال الله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) التوبة/30
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب
==============(46/427)
(46/428)
لا ننصحك باستمرار الاطلاع على كتب أهل الضلال
سؤال:
أحب الاطلاع على كتب ومؤلفات وكتابات الرافضة والصوفية ، وبضاعتي في العلم قليلة ، والحمد لله أقف من الشبهات موقف المنكر ، لسبب بسيط ، هو أني أعلم أن دينهم باطل ، والكثير منهم غال أو عامي جاهل مسكين مستحق الشفقة لخداع أسيادهم وضلالاهم . فهل ترى أن أستمر بالاطلاع أم أترك ذلك ؟
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
يجب على المسلم أن يحافظ على عقيدته وإيمانه ، ويهتم بسلامة فطرته وفكره ، ويهرب بدينه وقلبه من الشبهات والفتن ، فإن القلوبَ ضعيفةٌ والشبهَ خطَّافة ، تخطف بشيء من البريق الذي يزينها به أهل البدع والضلالات ، ولكنها في الحقيقة شبه واهية ضعيفة .
والنظر في كتب البدع والضلالة أو كتب الشرك والخرافة أو كتب الأديان الأخرى التي طالها التحريف أو كتب الإلحاد والنفاق لا يجوز إلا لمتأهِّل في العلم الشرعي ، يريد بقراءته لها الرد عليها وبيان فسادها ، أما أن ينظر ويقرأ فيها من لم يتحقق بالعلم الشرعي فغالبا يناله من هذه المطالعة شيء من الحيرة والغواية ، وقد وقع ذلك لكثير من الناس وحتى من طلبة العلم ، حتى انتهى بهم الأمر إلى الكفر والعياذ بالله ، وغالبا ما يغتر الناظر في هذه الكتب بأن قلبه أقوى من الشبهات المعروضة ، إلا أنه يفاجأ - مع كثرة قراءته - بأن قلبه قد تشرَّب من الشبهات ما لم يخطر له على بال .
ولذلك كانت كلمة العلماء والسلف الصالحين على تحريم النظر والمطالعة في هذه الكتب ، حتى ألف ابن قدامة المقدسي رسالة بعنوان " تحريم النظر في كتب الكلام " .
وننقل هنا العديد من نصوص العلماء في تحريم قراءة هذه الكتب لغير العالم :
جاء في "الموسوعة الفقهية" (34/185) :
" قال الحنابلة : ولا يجوز النظر في كتب أهل البدع ، ولا في الكتب المشتملة على الحقّ والباطل ، ولا روايتها ؛ لما في ذلك من ضرر إفساد العقائد .
وقال القليوبيّ : تحرم قراءة كتب الرقائق والمغازي الموضوعة " انتهى .
كما أفتى الشاطبي في "الإفادات والإنشادات" (44) أن العوام لا يحل لهم مطالعة كتاب أبي طالب المكي المسمى بـ ( قوت القلوب ) لما فيه من الشطحات الصوفية .
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/525) :
" والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصير من الراسخين في الإيمان ، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك ، بخلاف الراسخ ، فيجوز له ، ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف " انتهى .
وقال محمد رشيد رضا في "الفتاوى" (1/137) :
" ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم عقائدهم وأحكام دينهم ، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مِشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الحجل " انتهى .
وجاء في "فتاوى نور على الدرب" (التوحيد والعقيدة/267) من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وأما كتب الصوفية فإنه لا يجوز اقتناؤها ولا مراجعتها إلا لشخص يريد أن يعرف ما فيها من البدع من أجل أن يرد عليها ، فيكون في نظره إليها فائدة عظيمة وهي معالجة هذه البدعة حتى يسلم الناس منها " انتهى .
وقد قالت اللجنة الدائمة كما في "مجلة البحوث الإسلامية" (19/138) :
" يحرم على كل مكلف ذكرا أو أنثى أن يقرأ في كتب البدع والضلال , والمجلات التي تنشر الخرافات وتقوم بالدعايات الكاذبة وتدعو إلى الانحراف عن الأخلاق الفاضلة ، إلا إذا كان من يقرؤها يقوم بالرد على ما فيها من إلحاد وانحراف ، وينصح أهلها بالاستقامة وينكر عليهم صنيعهم ويحذر الناس من شرهم " انتهى .
فلماذا تعرِّض نفسك - أخي الكريم - للشر والشبهات ، فأنت في مأمن وغنى عن ذلك ، واحمد الله تعالى على السلامة والعافية ، واشكره على نعمة الهداية والثبات بأن تحافظ عليها فلا تعرضها لما قد يصيبها في مقتلها .
ثم إن العمر أقصر من قضائه في مطالعة الباطل ، فالحق والخير والعلم النافع كثير ، وإذا أنفق المرء عمره كله في مطالعة كتب العلم النافعة كالتفاسير وكتب الحديث والفقه والرقائق والزهد والأدب والفكر والتربية لما كاد يقضي منها وطره ، فكيف إذا انشغل بكتب الخرافة والضلالة التي يكتبها الرافضة وبعض المتصوفة ؟!!
واستمع أخي الكريم إلى نصيحة العلامة ابن الجوزي في الاهتمام بالنافع من العلوم حيث يقول في "صيد الخاطر" (54-55) :
" أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم ، ولا اقتصر على بعضه .
بل أقول له : قدم المهم ؛ فإن العاقل من قدَّر عمره وعمل بمقتضاه ، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر ، غير أنه يبني على الأغلب .
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً ، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به ......
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل " انتهى باختصار .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============(46/429)
(46/430)
كلمة حول منظمات حقوق الإنسان الغربية وحكم التحاكم إليها
سؤال:
تدعو منظمات حقوق الإنسان العالمية إلى العدل والمساواة ، ومنع الظلم والعدوان على الناس بدافع الجنس والعِرْق واللون .. وغير ذلك من المبادئ السامية ، فهل هناك مانع من التعاون معها ؟ وإن كان : فما وجه الاعتراض على هذه المبادئ السامية ؟
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
ينبغي على المسلم أن لا يغتر بمنظمات ما يسمى " حقوق الإنسان " الغربية والأوربية ؛ فهي وإن كان ظاهر أمرها نصرة المستضعفين ، والوقوف ضد التعذيب والحط من كرامة الإنسان في السجون ومراكز الاعتقال - وهي أمور جيدة في الجملة - : إلا أن لها وظائف أخرى ، ومبادئ تنطلق من خلالها تسعى فيها لتدمير الأسرة ، وفتح المجال للطعن في الإسلام و صلى الله عليه وسلم ، وسائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام ، وتقف في وجه الأحكام الشرعية التي تقيم حد الرجم على الزاني ، والقتل على المرتد ، والقطع على السارق ، - من حيث التشريع ، ومن حيث التطبيق وهي نادرة أو قليلة - ، وتحارب هذه المنظمات الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة من حيث وجوب موافقة الولي في زواجها ، ومن حيث أمرها بالحجاب ، ونهيها عن الاختلاط ، وغير ذلك كثير من مبادئها التي تزعم فيها تحرير الإنسان من التكاليف الشرعية ، وتجعل الإنسان حرّاً في تصرفاته ، لا يتقيد بعادات فاضلة ، ولا أحكام شرعية سامية .
إن ملخص ما تدعو إليه هذه المنظمات : أن يفعل الإنسان ما يشاء من الشذوذ الأخلاقي ، فيقفون مع السحاقيات واللوطيين والجنس الثالث ، والشذوذ الديني ، فيجعلون من حق الإنسان أن يكفر بما يشاء من الأديان ، وأن يعبِّر عن رأيه - ولو تعلق بأنبياء - دون خوف أو وجل ، ويساهمون - كذلك - في تحرر المرأة من قيود الأب والزوج والدِّين .
ثانياً:
وهذه بعض المواد التي اعتمدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والذي أقرته هيئة الأمم في 10 / 12 / 1948 م ، - وقد نقلناها من موقعهم - :
1. المادة 2 :
" لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان ، دونما تمييز من أي نوع ، ولا سيما التمييز بسبب العنصر ، أو اللون ، أو الجنس ، أو اللغة ، أو الدين ، أو الرأي ، سياسيّاً ، وغير سياسي ، أو الأصل الوطني ، أو الاجتماعي ، أو الثروة ، أو المولد ، أو أي وضع آخر ...
انتهى
المادة 18 :
" لكل شخص حق في حرية الفكر ، والوجدان ، والدين ، ويشمل هذا الحق : حريته في تغيير دينه ، أو معتقده ، وحريته في إظهار دينه ، أو معتقده ، بالتعبد ، وإقامة الشعائر ، والممارسة ، والتعليم ، بمفرده ، أو مع جماعة ، وأمام الملأ ، أو على حدة " .
انتهى
المادة 19 :
" لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ، ويشمل هذا الحق : حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة ، وفى التماس الأنباء ، والأفكار ، وتلقيها ، ونقلها إلى الآخرين ، بأية وسيلة ، ودونما اعتبار للحدود .
انتهى
والحقوق والحريات المزعومة التي يدعون لها ليتمتع بها الإنسان بغض النظر عن دينه : تجعل الموحد والمشرك متساويين في تلك الحقوق والحريات ، وتجعل عبد الله وعبد الشيطان في سياق واحد ، وتكفل لكل عابد حجر أو وثن أو شخص أن يُعطى حقه وحريته كاملتين ليتمتع بكفره وإلحاده ، وهذا مرفوض في شرع الله تعالى في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) القلم/ 35 ، 36 .
وقال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص/28 .
وقال تعالى : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) السجدة/18 .
وهي دعوة لإلغاء حكم الردة ، ودعوة لإظهار شعائر الكفر والإلحاد ، ودعوة لفتح الباب أمام كل من يريد انتقاد الإسلام ، أو نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وله الحرية في النقد والتعبير دون مضايقة أو منع .
وهي مبادئ فاسدة ، إن كانت تناسب حياتهم وقيَمهم ودينهم : فهي لا تناسبنا ، وهي مخالفة لشرعنا المطهَّر ، والذي جاء بالأحكام التي تصلح حياة الفرد والمجتمعات ، وتؤسس للأخلاق الفاضلة ، فتحفظ العقول والأعراض والأبدان والأموال ، وتدل الناس على الدين الذي يحبه الله تعالى ويرضاه لهم .
2. المادة 3 :
" لكل فرد حق في الحياة والحرية وفى الأمان على شخصه " .
انتهى
ومن هذه المادة انطلقت دعوات تلك المنظمات لحماية المجرمين من الإعدام ، وراحت تشهر بالدول التي تقيم حدَّ الله بالرجم للزناة المحصنين ، والقتل للمحاربين والمفسدين في الأرض ، وتفتخر هذه المنظمات الآن بأنها أقنعت كثيراً من الدول بإلغاء عقوبة الإعدام في حق القتلة والمغتصبين والمجرمين ، وهذا مخالف للفطرة ، والعقل ، والشرع ، وهي رسالة طمأنة لهؤلاء المجرمين بأن حياتهم لن تزهق بسبب أفعالهم ، وهذا من الإفساد في الأرض .(46/431)
وهم يدعون لأن يكون للفرد " حق في الحياة والحرية " أي حياة وأي حرية ، ولو كانت حياة البهائم ، ولو كانت حرية تؤدي إلى الفساد والأمراض والإخلال بالأمن في الأسرة والمجتمع .
3. المادة 16 :
" 1. للرجل والمرأة متى أدركا سن البلوغ حق التزوج ، وتأسيس أسرة ، دون أي قيد بسبب العرق ، أو الجنسية ، أو الدين ، وهما يتساويان في الحقوق لدى التزوج ، وخلال قيام الزواج ، ولدى انحلاله " .
انتهى
وفي هذه المادة إبطال لدور ولي المرأة الذي يحفظ للمرة حقها في الزواج ، ويساهم مع ابنته أو أخته في حسن الاختيار ، والسؤال عن دين وخلق المتقدم للزواج ، ومن حكمة الله تعالى أن شرع هذا ، ولو جُعل الزواج للمرأة دون موافقة وليها : لرأيت أكثر البنات قد تزوجن من يعاكسهن ويغازلهن من الذئاب البشرية ، الذين يحرصون على سلب عفتها ، ثم إلقائها في أقرب حاوية قمامة !
وقد جعلوا الحق في الطلاق للزوجة كما هو الحق للزوج ! وهذا ما سبَّب فساد النساء على أزواجهن ، وساهم في تخريب بيوتهن ، ومن يعلم طبيعة الرجل والمرأة لا يمكن أن يهذي بمثل هذا الهذيان ، وليست بيوت أولئك عامرة أصلا حتى نقول انظروا كيف هدموها ، فمن يدعو لزواج المثليين ، وحق المرأة في مصاحبة الرجال ، وحقها في الزواج والطلاق : فأي بيوت يمكنها أن تقوم بهذه المبادئ التافهة ؟ وأي أسرة يمكن أن تنشأ ؟ .
مع التنبيه أن تقارير هذه المنظمات تستغل سياسيّاً للتضييق على الدول الإسلامية التي تراعي الفضيلة والحشمة والأخلاق ، أو تطبق أحكام الشريعة أو تطبق جزءً منها ! وقد ألغت بعض الدول الإسلامية عقوبة الإعدام ، وشددت في قوانين الزواج المبكر للجنسين ، وراعت جانب المرأة في الخلع والنفقة ، وغير ذلك ، مما سبَّب فساداً وشرّاً مستطيراً في جوانب كثيرة من الحياة .
الإسلام سؤال وجواب
==============(46/432)
(46/433)
الحذر من وسوسة الشيطان في ذات الله
سؤال:
منذ أسبوعين وهذا السؤال يراودني ، ولم أفلح في الإجابة عليه ، ولكن بإذن الله ستكون الإجابة لديكم : ما الدليل على أن الله لا يكذب ، أو ما الدليل على أنه صادق دائما ، ولم ، ولن يكذب أبدا ؟ أعرف أنه سؤال غريب ، وقد استحيت لفترة من سؤال أحد فيه ، ولكن احترت في الإجابة عليه ، وأُصبت بنوع من الضيق حتى في أثناء الصلاة .
الجواب:
الحمد لله :
والله ما ندري ـ يا عبد الله ـ من أي أمريك نعجب ؛ أمن استرسالك وراء وساوس الشيطان ، حتى بلغ بك إلى حافة الهاوية ، لتسقط فيها ، أو تكاد ؟!! أم من استصعابك لهذا السؤال ، وعدم قدرتك على الإجابة عنه ؟!!
فماذا عرفت من دينك يا عبد الله ، إن جهلت هذا ؟!!
وماذا تظن بربك ، إن كنت تبحث في هذا ؟!!
يا عبد الله ، لقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، لما قال لها مولاها مَسْرُوقٍ : يَا أُمَّتَاهْ ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ r رَبَّهُ ؟!!
فَقَالَتْ : لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ .. !!
وإذا كان شعر أم المؤمنين قد قف ، أي : قام من شدة فزعها ، لأجل من سألها هذا السؤال : هل رأى صلى الله عليه وسلم ربه ، يعني : وهو في الدنيا ، مع أن المؤمنين يرونه في الجنة ، وهو أعظم نعيمهم ، لا حرمنا الله منه ، فكيف بسؤالك يا عبد الله ؟!!
ألهذا الحد تركت قلبك فارغا ، حتى يتلاعب به الشيطان ، وينتهي به ذلك المنتهى ؟!!
هل سمعت يا عبد الله بما رواه مسلم في صحيحه (2268) عَنْ جَابِرٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي قُطِعَ ؟!!
قَالَ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلموَقَالَ : إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ !! ) .
فإذا كان مثل هذا المنام لعبا من الشيطان ، فبالله عليك ماذا كان يجيب صلى الله عليه وسلم لو رأى راء في منامه ما رأيت ؟ فبالله عليك ماذا كان يقول لو كان ذلك اللعب في اليقظة ، لا في المنام ؟!!
لقد حُق لك ـ والله ـ أن يطول حياؤك ، بل وبكاؤك على نفسك ـ أن ظفر الشيطان منك بهذا !!
نعم ، نفهم أن الشيطان قد يتلاعب بمثل ذلك بالعبد ، لكنه لا يسترسل مع وحي الشيطان ، ويؤصل له ، ويبحث له عن أدلة ، وإنما إيمانه الراسخ يدفعه ، فالشيطان خبيث ، وكيده ضعيف : ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)(النساء: 67) .
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) متفق عليه .
أرأيت كيف كان جواب صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال المعضل (!!) للعدو اللعين ؟!!
أن يستعيذ بالله من تلك الوساوس ، وأن ينتهي عن التفكير فيها ، والاسترسال وراءها ؛ لأن اللعين لا يحتاج بسؤاله هذا جوابا ، وهو يعلم أن سؤاله مغالطة محضة ، فالخالق لا يصلح أن يكون له خالق ، وإلا كان مخلوقا آخر من المخلوقين !!
وإنما هدفه التشكيك والزعزعة ، حتى يظفر بمن يموت وهو على تلك الحال ، إن استطاع .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ، في شرحه للحديث السابق :
قَوْلُهُ : ( مَنْ خَلَقَ رَبّك فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) أَيْ عَنْ الِاسْتِرْسَال مَعَهُ فِي ذَلِكَ , بَلْ يَلْجَأ إِلَى اللَّه فِي دَفْعه , وَيَعْلَم أَنَّهُ يُرِيد إِفْسَاد دِينه وَعَقْله بِهَذِهِ الْوَسْوَسَة , فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِد فِي دَفْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَجْه هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الشَّيْطَان إِذَا وَسْوَسَ بِذَلِكَ فَاسْتَعَاذَ الشَّخْص بِاللَّهِ مِنْهُ وَكَفّ عَنْ مُطَاوَلَته فِي ذَلِكَ اِنْدَفَعَ ... فَلَيْسَ لِوَسْوَسَتِهِ اِنْتِهَاء , بَلْ كُلَّمَا أُلْزِمَ حُجَّة زَاغَ إِلَى غَيْرهَا إِلَى أَنْ يُفْضِيَ بِالْمَرْءِ إِلَى الْحِيرَة , نَعُوذ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ... عَلَى أَنَّ قَوْله مَنْ خَلَقَ رَبّك كَلَام مُتَهَافِت يَنْقُض آخِرُهُ أَوَّلَهُ لِأَنَّ الْخَالِق يَسْتَحِيل أَنْ يَكُون مَخْلُوقًا .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ : إِنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالِاشْتِغَال بِأَمْر آخَر وَلَمْ يَأْمُر بِالتَّأَمُّلِ وَالِاحْتِجَاج لِأَنَّ الْعِلْم بِاسْتِغْنَاءِ اللَّه جَلَّ وَعَلَا عَنْ الْمُوجِد أَمْر ضَرُورِيّ لَا يَقْبَل الْمُنَاظَرَة , وَلِأَنَّ الِاسْتِرْسَال فِي الْفِكْر فِي ذَلِكَ لَا يَزِيد الْمَرْء إِلَّا حَيْرَة , وَمَنْ هَذَا حَاله فَلَا عِلَاج لَهُ إِلَّا الْمَلْجَأ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِصَام بِهِ .(46/434)
وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى ذَمّ كَثْرَة السُّؤَال عَمَّا لَا يَعْنِي الْمَرْء وَعَمَّا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ , وَفِيهِ عِلْم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة لِإِخْبَارِهِ بِوُقُوعِ مَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ . انتهى كلامه رحمه الله ، مختصرا .
وإذا كان صلى الله عليه وسلم ، قد أمر بالانتهاء عن تلك الوساوس ، وعدم الخوض فيها ، فإن المؤمن ، إذا غُلب على شيء منها ، وألقاها العدو اللعين في صدره ؛ فإن إيمانه يُعظم ذلك البلاء ، أن يقع شيء منه في صدره .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : ( جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ : إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟!! قَالَ : وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟!! قَالُوا : نَعَمْ !!
قَالَ : ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ !! ) رواه مسلم (132) .
قال النووي رحمه الله :
مَعْنَاهُ اِسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلَام بِهِ هُوَ صَرِيح الْإِيمَان , فَإِنَّ اِسْتِعْظَام هَذَا وَشِدَّة الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ فَضْلًا عَنْ اِعْتِقَاده إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان اِسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك .
يا عبد الله : إن الحر من الرجال ، ومن له مقام بين الناس ، يأنف أن يكذب ، أو يُنسب إليه الكذب ، وقصة أبي سفيان مع هرقل في هذا مشهورة معروفة ، فكيف لو كان هذا الحر الكريم مؤمنا : إن الكذب مجانب للإيمان !!
فكيف لو كان هذا رسول ا صلى الله عليه وسلم ، إن توهم الظِّنة فيه ، وهو الصادق المصدوق ، تقشعر له الجلود ، وتقِفُّ الرؤوس !!
فكيف .. ؟!!
يا عبد الله ؛ إن أغلب الظن أنك أُتيت من أمرين اثنين ، تسلط الشيطان عليك بالوساوس لأجلهما :
فأما أولها : أنك أعرضت عن الانشغال بذكر الرحمن تبارك وتعالى ، ومطالعة آياته ، والعيش مع ما في كتابه الكريم من أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، والتعرف على عظمته وجلاله ، وجماله وكماله ، بما عرفك في كتابه ، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وأما الأمر الثاني ، وربما كان عقوبة من الله لك على الأمر الأول ، فهو : مصاحبتك لشياطين الإنس ، الذين يُظاهرون شياطين الجن ، وينصرونهم عليك .
وليس بالضروري من تلك المصاحبة أن يكون صديقا لك ، يذهب ويجيء معك ؛ بل ربما كانت تلك المصاحبة عن طريق شبكة الإنترنت ، حيث يجرك الفضول ، أو فراغ القلب إلى الدخول في بعض المنتديات الإلحادية : اللادينيين ، فأرسل الواحد منهم سهما من شبهته ، فاستقر في فؤادك ، فأورثك الداء الذي تشكوه !!
قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) .
عبد الله ؛ أقبل على قلبك فأصلحه ، وأقبل على ربك فتعرف عليه كما عرفك في كتابه ، وأقبل على كتابه فاتله وتدبره ، وعليك بذكره فاجعل لسانك رطبا منه ، فإنه حصنك :
( وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ .. !! ) رواه الترمذي (2863) وصححه الألباني .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
==============(46/435)
(46/436)
ذهب إلى ساحر لفك السحر فهل له من توبة
سؤال:
قلبي يعتصر ألما وعقلي كاد يشت أصبحت لا أدري ما الصواب وما الخطأ أشياء كثيرة كنت أتحاشا فعلها وقعت فيها ، بل أكثر من ذلك فقد فعلت أشياء أخاف أن تكون شركاً , أخاف أن يكون قد حبط عملي . أشعر بأن صلاتي , صومي, حجي , كل عمل قد يكون صالحا قد أحبط كلما قرأت قوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) قلبي يعتصر ألما والله ، ما أقوله ليس من باب الرياء ولكنه حقيقة في نفسي أذهب إلى الصلاة أجر قدمي أصبحت لا أستطيع أن أفتح القرآن أشعر بأن القرآن يلعنني لأني لم أعمل بما أحفظ وحتى إذا قرأت لا أستطيع أن أكمل فأغلقه أقول لنفسي كيف أقف أمامه وأقول وإياك نستعين أين هذه الاستعانة قد كنت كلما أهمني أمر لا أتعلق إلا به سبحانه وأدعوه وألح في الدعاء كنت أشعر بأني قريب منه حتى في هذا الأمر الذي ألم بي كنت أدعوه كثيرا ولكن لم أصبر أشعر بأن الله امتحنني فما صبرت ورسبت , أشعر أن أعمالي ليست مقبولة كأن هناك صوتاً يقول لي : لم العمل وما فائدته ؟ بعد الذي فعلت إذا كان كل ما تعمله ليس متقبلا وكل ما فعلته أصبح هباءً منثوراً, ما فعلته يتلخص في أني ذهبت إلى رجل ليفك لي سحراً أصبت به بعد الزواج استمر معي أكثر من شهر وأنا كاره لذلك ولكن أعطاني أشياء لا أفهمها أخذتها وأنا كاره لكل ذلك أخذتها ونفسيتي محطمة وعقلي غائب أليس هذا نوعاً من الشرك المحبط للعمل المخرج من الملة ألم يقل الرسو صلى الله عليه وسلم : ( الرقى والتمائم والتولة شرك ) وقال : ( من ذهب إلى عراف فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) أخبرني والله أنا في عذاب والله في عذاب ، دنياي لا حظ لي فيها كل أمنياتي فيها لم يتحقق فيها شيء وأخاف أن تكون آخرتي آخرة سوء فأكون قد خسرت كل شيء .
الجواب:
الحمد لله
أولا :
إن شعورك بالذنب ، وتألّم قلبك من أجله ، دليل على صحة إيمانك ، وطهارة نفسك ، وهذا من فضل الله عليك ، فإن أصحاب القلوب الحية هم الذين يتأثرون بالذنوب ، ويفزعون إلى الله تائبين مستغفرين ، وأما أصحاب القلوب الميتة فلا تؤثر فيهم جراحات المعاصي ، كما قيل : ما لجرح بميتٍ إيلامُ .
قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) الأعراف/201 .
والمعنى أنهم إذا أصابوا الذنوب ، تذكروا " عقاب الله وجزيل ثوابه ، ووعده ، ووعيده ، فتابوا وأنابوا ، واستعاذوا بالله ، ورجعوا إليه من قريب ( فإذا هم مبصرون ) أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه " انتهى من "تفسير ابن كثير".
فما عليك إلا أن تتوب وتستغفر ، وتعلم أنك تقبل على رب رحيم ، يفرح بتوبة عبده ، ويتقبلها منه ، ويبدل سيئاته حسنات ، مهما كانت هذه السيئات .
وكأنك لا تعلم أن الله يتوب على أهل الكفر والإلحاد والبغي والفساد ، إذا تابوا ورجعوا إليه ، فكيف لا يتوب على أهل الإيمان إذا وقعوا في المعصية ، وأصابهم الذنب ، وهم المحبّون له ، المقبلون عليه ، الراكعون الساجدون ، المتوضئون المتطهرون ، علموا أنه لا يغفر ذنبهم غيرُه ، ولا يجبر كسرهم سواه ، فسارعوا نادمين مستغفرين ، يقولون : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، فيقول الرحمن لملائكته : علم عبدي أنه لا يغفر الذنب غيري ، أشهدكم أني قد غفرت له ، فتذهب الأحزان ، وتزول الهموم ، ويعود الوصل ، ويزيد الأنس ، فلله ما أحلى فرحة التائبين ، وما أجمل عودة المذنبين .
قال الرب الرحيم : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) التوبة/104 .
وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الفرقان/68- 70 .(46/437)
وروى البخاري (7507) ومسلم (2758) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ : رَبِّ ، أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْ لِي ، فَقَالَ رَبُّهُ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ : رَبِّ ، أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ ، فَقَالَ : أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا ، وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا وقَالَ : رَبِّ ، أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ).
وروى مسلم (2749) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ).
فبادر بالتوبة والندم والاستغفار ، وأكثر من الأعمال الصالحة ، وأبشر بالخير والفلاح .
ثانيا :
من مكر الشيطان بالإنسان أن يزين له المعصية ، ويوقعه فيها ، ثم يقنطه من التوبة ، وينصح له بالزور : كيف تعود إلى الله وقد فعلت ما فعلت ؟ أما تستحي منه ؟ هل تظن أنه يقبل منك؟
فربما كانت معصية الإنسان كبيرة كالزنا ، فجره بذلك إلى ما هو كفر كترك الصلاة ، فتأمل كيف يتلاعب الشيطان بهذا الإنسان .
وأما المؤمن فلا سبيل للشيطان عليه في هذا الباب ، لأنه يعلم ما قدمنا من لزوم التوبة ، وفرح الله تعالى بها ، وتكريمه لأهلها ، وتبديل سيئات أصحابها حسنات .
ثالثا :
لا يجوز الذهاب للسحرة والكهنة والعرافين ، ولو كان ذلك لحل السحر ، وهو ما يسمى بالنُّشْرة ، بل السحر يعالج بالآيات القرآنية والأدعية النبوية واللجوء إلى خالق البرية سبحانه وتعالى ، وينظر جواب السؤال رقم (11290) ورقم (48967)
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) رواه مسلم (2230) .
وقال : ( مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى: مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ) رواه أحمد (9779) وأبو داود (3904) والترمذي (135) وابن ماجه (936) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه .
وهذا محمول على الكفر الأصغر عند كثير من أهل العلم ، إلا إذا اعتقد أن الساحر أو الكاهن يعلم الغيب .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " قوله : ( فسأله ؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) . ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوما ، ولكنه ليس على إطلاقه ؛ فسؤال العراف و نحوه ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن يسأله سؤالا مجردا ؛ فهذا حرام لقول صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا … ) ؛ فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه ؛ إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم .
القسم الثاني : أن يسأله فيصدقه ، ويعتبر قوله ؛ فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن ، حيث قال تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) ( النمل : من الآية65 ) .
القسم الثالث : أن يسأله ليختبره : هل هو صادق أو كاذب ، لا لأجل أن يأخذ بقوله ؛ فهذا لا بأس به ، ولا يدخل في الحديث . وقد سأل صلى الله عليه وسلم ابن صياد ؛ فقال : ( ماذا خبأت لك ؟ قال : الدخ .
فقال : ( اخسأ ؛ فلن تعدو قدرك ) ؛ ف صلى الله عليه وسلم سأله عن شيء أضمره له ؛ لأجل أن يختبره ؛ فأخبره به .
القسم الرابع : أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه ، فيمتحنه في أمور ، وهذا قد يكون واجبا أو مطلوبا .
وإبطال قول الكهنة لاشك أنه أمر مطلوب ، وقد يكون واجبا ؛ فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه ، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى " انتهى من "القول المفيد" (2/49) .
وعليه فإذا لم تعتقد أن الساحر يعلم الغيب ، فقد سلمت من الكفر الأكبر والحمد لله .
وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز حل السحر بالسحر ، لكنه قول ضعيف ، يفتح باب الشر ، ويغري السحرة بالبقاء على باطلهم ، ويشجع غيرهم على تعلم السحر بحجة نفع الناس .
وتعليق التميمة إن اعتقد فيها النفع والضر ، فهذا هو الشرك الأكبر ، وإن اعتقد أنها سبب ، فهو شرك أصغر ، وينظر السؤال رقم: ( 34817 )
نسأل الله تعالى أن يتقبل توبتك ، ويغسل حوبتك ، ويمحو خطيئتك ، ويعافيك في دينك ودنياك .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
============(46/438)
(46/439)
نبذة عن حال الدولة العبيدية ، نسباً ، ومعتقداً
سؤال:
ما رأيكم فيمن يدعو إلى إعادة الخلافة \" الفاطمية \" ، و \" دولة العبيديين \" ، ويقول : إن الدولة المسماة بالدولة الفاطمية هي دولة الإسلام التي يكمن فيها الحل المناسب في الحاضر كما كان حلاًّ في الماضي ؟
الجواب:
الحمد لله
قد أخطأ هذا القائل خطأ بالغاً حين نسب الدولة العبيدية للإسلام .
والدولة العبيدية - وأطلقوا عليها الدولة الفاطمية لأجل التغرير والتلبيس - أُسست في تونس سنة 297 هـ ، وانتقلت إلى مصر سنة 362 هـ ، واستقر بها المقام فيها ، وامتد سلطانها إلى أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي ، مثل : الشام ، والجزيرة العربية .
وقد بدأ حكمهم بالمعز لدين الله !! معاذ بن المنصور العبيدي ، وانتهى بالعاضد عبد الله بن يوسف عام 567 هـ .
وقد تكلَّم أئمة السنَّة من العلماء والمؤرخين عن نسب هذه الدولة فيبنوا زيف ادعائهم أنهم ينتسبون لفاطمة رضي الله عنها ، وبينوا ما فعلته من نشر الكفر والزندقة ، وإيذاء أهل السنَّة ، وتمكين الكفار ، بل والتعاون معهم ضد المسلمين ، ومن هؤلاء الأئمة والمؤرخين : أبو شامة ، وابن تغري بردي ، وابن تيمية ، وابن كثير ، والذهبي ، وغيرهم كثير .
قال الإمام الذهبي عن " عبيد الله المهدي " وهو أول حكام تلك الدولة :
" وفي نسب المهدي أقوالٌ : حاصِلُها : أنَّه ليس بهاشميٍّ ، ولا فاطميٍّ " انتهى .
" سير أعلام النبلاء " ( 15 / 151 ) .
وقال :
"وأهل العلم بالأنساب والمحقّقين يُنكِرون دعواه في النَّسبِ " انتهى .
" تاريخ الإسلام " حوادث سنة 321 - 330 ، ص 23 .
ونقل عن أبي شامة - الذي كتب عن هذه الدولة كتاباً سمّاه " كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد "- قوله :
" يدَّعون الشرف ، ونسبتهُم إلى مجوسي ، أو يهودي ، حتى اشتهر لهم ذلك ، وقيل : " الدولة العلوية " و " الدولة الفاطمية " ، وإنما هي " الدولة اليهودية " أو " المجوسية " الملحدة ، الباطنية " انتهى .
انظر " سير أعلام النبلاء " ( 15 / 213 ) ، و " الروضتين في أخبار الدولتين " ( 1 / 216 ) .
ومن أفعال حكام تلك الدولة واعتقادهم : ادعاء علم الغيب ، وادعاء النبوة والألوهية ، وطلب السجود من رعاياهم وأتباعهم ، وسب الصحابة ، وهذا توثيق بعض ما سبق وزيادة :
1. ادعاء الألوهية والربوبية :
نقل الذهبي رحمه الله أن الفقهاء والعبَّاد نصروا الخوارج في حربهم على الدولة العبيدية لما عندهم من كفر وزندقة ، فعندما أراد أبو يزيد مخلد بن كيداد الخارجي حرب بني عبيد قال الذهبي رحمه الله :
تسارع الفقهاء والعبَّاد في أهبَّة كاملة بالطبول والبنود ، وخَطبهم في الجمعة أحمد بن أبي الوليد ، وحرَّضهم ، وقال : جاهدوا مَن كفر بالله ، وزعم أنه رب من دون الله ، ... وقال : اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية جاحدٌ لنعمتك ، كافر بربوبيتك ، طاعن على رسلك ، مكذب بمحمد نبيك ، سافك للدماء ، فالعنه لعناً وبيلاً ، وأخزه خزياً طويلاً ، واغضب عليه بكرةً وأصيلاً ، ثم نزل فصلى بهم الجمعة .
" سير أعلام النبلاء " ( 15 / 155 ) .
وممن كان يدعي الربوبية والإلهية الحاكم العبيدي حيث قال عنه الذهبي : " الإسماعيلي ، الزنديق ، المدعي الربوبية " .
" السير " ( 15 / 173 ) .
وقال عنه أيضاً :
يقال : إنه أراد أن يدّعي الإلهية ، وشرع في ذلك ! فكلّمه أعيان دولته ، وخوَّفوه بخروج النّاس كلهم عليه ، فانتهى .
" السير " ( 15 / 176 ) .
وممن حرض الحاكم على هذا الادعاء : " حمزة بن علي الزوزني " وهو من دعاة تأليه الحاكم ، ومؤسس المذهب الدرزي ببلاد الشام .
قال الذهبي - رحمه الله - عنه :
وقد قُتل الدرزي الزنديق ؛ لادعائه ربوبية الحاكم ، وكان قوم من جهلة الغوغاء إذا رأوا " الحاكم " يقولون : يا واحد يا أحد ، يا محيي يا مميت .
" السير " ( 15 / 180 ، 181 ) .
وقال الذهبي - رحمه الله - :
قرأت في تاريخ صُنِّف على السنين ، في مجلد ، صنَّفه بعض الفُضَلاء ، سنة بضع وثلاثين وستمائة ، قدَّمه لصاحب مصر الملك الصالح : في سنة سبع وستين قال :
وكانت الفِعْلة ( أي : القضاء على الدولة العبيدية ) مِن أشرف أفعاله ( أي : صلاح الدين الأيوبي ) ، فَلَنِعْمَ ما فعل ؛ فإنّ هؤلاء كانوا باطنية زنادقة ، دعوا إلى مذهب التناسخ ، واعتقاد حلول الجزء الإلهي في أشباحهم .
وقال الذهبي : إن الحاكم قال لداعيه : كم في جريدتك ؟ قال : ستة عشر ألفاً يعتقدون أنّك الإله .
قال شاعرهم :
فاحكم فأنت الواحد القهار *** ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار !
فلعن الله المادح والممدوح ، فليس هذا في القبح إلا كقول فرعون " أنا ربكم الأعلى " .
وقال بعض شُعرائهم في المهديّ برَقّادة :
حل بها آدمُ ونوحُ *** فما سوى الله فهو ريحُ
حلّ برقادة المسيحُ *** حلَّ بها الله في عُلاهُ
قال :
وهذا أعظم كُفراً من النّصارى ؛ لأن النّصارى يزعمون أن الجزء الإلهيّ حلّ بناسوت عيسى فقط ، وهؤلاء يعتقدون حُلُوله في جسد آدم ، ونوح ، والأنبياء ، وجميع الأئمة .(46/440)
هذا اعتقادهم لعنهم الله .
" تاريخ الإسلام " حوداث سنة 561 - 570 ، ص 274 - 281 .
وعندما ادعى " عبيد الله " الرسالة أحضر فقيهين من فقهاء القيروان ، وهو جالس على كرسي ملكه ، وأوعز إلى أحد خدمه فقال للشيخين : أتشهدا أن هذا رسول الله ؟ فقالا : والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان : إنه رسول الله : ما قلنا ذلك ، فأمر بذبحهما .
" السير " ( 14 / 217 ) .
2. ومن عقائدهم : ادعاء علم الغيب :
قال ابن خَلِّكان - رحمه الله - :
وذلك لأنهم ادَّعوا علم المغيبات ، ولهم في ذلك أخبار مشهورة .
" وفيات الأعيان " ( 5 / 373 ، 374 ) .
3. وكان يُسجد لهم ، ويأمرون الناس بالسجود لهم ، قال الذهبي رحمه الله :
ففي سنة 396 هـ خُطب بالحرمين لصاحب مصر " الحاكم " ، وأُمَر الناس عند ذكره بالقيام ، وأن يسجدوا له ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
" دول الإسلام " ( 1 / 350 ) .
وكانوا إذا ذُكِر " الحاكم " قاموا وسجدوا له ، قال الذهبي - رحمه الله - :
قاموا ، وسجدوا في السُّوق ، وفي مواضع الاجتماع ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد كان هؤلاء العُبَيْدِيُّون شرّاً على الإسلام وأهله .
" التاريخ " حوادث 381 - 400 ، ص 234 .
4. وكانوا يقتلون العلماء ممن لا يقول بقولهم : قال أبو الحسن القابسي صاحب " الملخص " :
إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه : أربعة آلاف في دار النحر في العذاب ، مِن عالِم ، وعابِد ؛ ليردَّهم عن الترضي عن الصحابة .
" السير " ( 15 / 145 ) .
5. وقد شاركوا القرامطة جرائمهم ، قال الذهبي - رحمه الله - :
ففي أيام المهدي عاثت القرامطة بالبحرين ، وأخذوا الحجيج ، وقتلوا ، وسبوا ، واستباحوا حرم الله ، وقلعوا الحجر الأسود ، وكان عبيد الله يكاتبهم ، ويحرِّضهم ، قاتله الله .
" السير " ( 15 / 147 ) .
6. سب الصحابة :
وفي أيامه (العزيز) أُظهر سبُّ الصحابةِ جِهَاراً .
" السير " ( 15 / 170 ) .
فقد أمر بكَتْب سَبّ الصّحابة على أبواب المساجد والشّوارع، وأمر العمال بالسب في سنة خمسٍ وتسعين وثلاث مئة.
" تاريخ الإسلام " حوادث سنة 395 ، ص 283.
وقال :
وكان سَبُّ الصحابة فاشياً في أيامه ( أي : المستنصر ) ، والسنَّة غريبة مكتومة .
" السير " ( 15 / 196 ) .
وبالجملة فقد كانوا باطنية ، قلبوا الإسلام ، وأظهروا الرفض ، وأبطنوا الزندقة .
قال الذهبي - رحمه الله - :
قلبوا الإسلام ، وأعلنوا بالرفض ، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية .
" السير " ( 15 / 141 ) .
وقال الذهبي - رحمه الله - :
وأما العبيديون الباطنية : فأعداء الله ورسوله .
" السير " ( 15 / 373 ) .
وقال أيضاً - رحمه الله - :
لا يوصف ما قلب هؤلاء العبيديون الدِّين ظهراً لبطن .
" السير " ( 16 / 149 ) .
وقال القاضي عياض - رحمه الله - :
قال أبو يوسف الرعيني : " أجمع العلماء بالقيروان : أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة " .
" ترتيب المدارك " ( 4 / 720 ) ، وانظر " السير " ( 15 / 151 ) .
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في "الرد على البكري":
" العبيديون ، وهم ملاحدة في الباطن ، أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة ، فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة ، وأما في الباطن فملاحدة ، شر من اليهود والنصارى . . .
ولهذا قال فيهم العلماء : ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض ، وهم من أشد الناس تعظيما للمشاهد ، ودعوة الكواكب ، ونحو ذلك من دين المشركين ، وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك" انتهى .
وقال رحمه الله في "الرد على المنطقيين" :
"العبيديون كانوا يتظاهرون بالإسلام ويقولون إنهم شيعة ، فالظاهر عنهم الرفض لكن كان باطنهم الإلحاد والزندقة ، كما قال أبو حامد الغزالي في كتاب "المستظهري" : ظاهرهم الرفض ، وباطنهم الكفر المحض . وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم هو متفق عليه بين علماء المسلمين" انتهى .
وقال رحمه الله في "منهاج السنة" :
"وأخبارهم (يعني حكام الدولة العبيدية) مشهورة بالإلحاد والمحادة لله ورسوله والردة والنفاق" انتهى .
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11/386) :
"كان إذا ذكر الخطيب الحاكم يقوم الناس كلهم إجلالاً له، وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له، وكانوا يسجدون عند ذكره، يسجد من هو في الصلاة ومن هو في الأسواق يسجدون لسجودهم، لعنه الله وقبحه" انتهى .
فهذه هي الدولة العبيدية ، وتلك بعض قبائحهم ، وبه يتبين خطأ ذلك القائل بحكمه على الدولة العبيدية بأنها كانت على الإسلام ، وباختزاله الدول والأزمنة المباركة التي حكمت بالإسلام إلى جعله الدولة العبيدية هي الحل المناسب في هذا الزمان ، وهذا قول سوء قبيح .
فالذي يقول ذلك يريد إعادة نشر الزندقة والكفر والإلحاد وسب الصحابة وقتل العلماء !
وليس هناك حل للمسلمين إلا أن يعودوا إلى هدي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم .
نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً .(46/441)
وانظر بحثاً بعنوان " موقف الإمام الذهبي من الدولة العبيدية ، نسباً ومعتقداً " للدكتور سعد بن موسى الموسى ، أستاذ مساعد بكلية الشريعة بجامعة " أم القرى " ، نُشر في " مجلة جامعة أم القرى " ، العدد 24 ، ربيع الأول 1423 هـ ، مايو ( آيار ) 2002 م .
والله الموفق
الإسلام سؤال وجواب
================(46/442)
(46/443)
أنواع الإلحاد وأسبابه الحقيقية
الكاتب: عباد
تأملات: الإلحاد العاطفي، الإلحاد المادي والإلحاد العقلي
هذه تأملات وأفكار تكونت لدي من خلال قراءتي لبعض المداخلات في نادي الفكر العربي وأحببت أن أشارككم بها واقرأ آرائكم وتعليقاتكم - وما مدى صحة هذه الآراء على أرض الواقع - أرجو المشاركة من الجميع وخصوصاً السادة المعنيين بالموضوع.
هناك فيما يبدو ثلاثة أنواع (أو ثلاثة حالات) من الإلحاد تبينت لي لدى قراءتي مواضيع كثيرة من المنتدى - ولا يعني هذا بالضرورة أنها تمثل ثلاثة أنواع من الناس بل ربما يوجد هناك من لديه أكثر من نوع واحد في نفس الوقت، كما لا يعني أنه مقتصر على هذه الأنواع، وهذه الأنواع هي:
الإلحاد العاطفي - الانفعالي
الإلحاد النفعي - المادي أو البراجماتي
الإلحاد العقلي - العلمي
وسأبدأ بالنوع الأول من الإلحاد
الإلحاد العاطفي - الانفعالي:
هذا النوع من الإلحاد يتكون لدى أناس تعرضوا لأزمة أو موقف عاصف في حياتهم - أو كفروا بوجود الخالق بناء على قضية ما أثارتهم وأثرت فيهم - يتكون لديهم شعور بالغضب والسخط على هذا الأمر ويجدون أنه ليس عادلاً وأن من حولهم ممن يذكرون إيماناً بالخالق يكذبون ويستخدمون هذه التبريرات زوراً وادعاءً - وأن الخالق من جملة الخرافات والأوهام التي يسعى الأقوياء بواسطتها إلى السيطرة وبسط النفوذ على الآخرين
إن السمة الرئيسية لهذا الإلحاد هي سيطرة مشاعر الرفض والغضب والشعور بالمرارة - وربما يخفي الملحد ذلك الشعور تحت ستار من السخرية والنرجسية والاستعلاء فلا يظهر الغضب في سلوكه ولكنه ينقلب إلى سخرية وهزء بالآخرين واستعلاء عليهم
من علامات الإلحاد العاطفي أن يقول الشخص:
- العذر الوحيد لله (عن هذه المصائب التي تحصل) أنه غير موجود
- لو كان الله موجوداً فهو يجب أن يدخل النار (أو من يمثله من رجال الدين المنافقين)
- ليست هناك عدالة بين البشر وهم يخدعونني إذا ادعوا عدالة السماء
- العدالة حلم الضعفاء - والدين - نعم الدين - يصنعه الأقوياء
وهذا الكلام يحمل في طياته اعتراضا انفعالياً وعاطفياً وليس عقلياً بحال من الأحوال - فالشخص الذي حصل له أمر سيئ أو رأى هذا الأمر يحصل لغيره يقول:
- كيف يحصل هذا الأمر إذا كان الإله موجوداً؟
- أليس من حولي يقولون أن الإله عادل؟
- كيف يدع هذا الأمر يحصل بدون أن يتدخل؟
- يجب عليه إن كان موجوداً أن يتدخل..
- ما هذا الإله الظالم الذي يستحق العقاب ..
- كيف يكون الله إلى جانب رجل الدين المنافق والسارق والمحتال ولا يكون إلى جانبي أنا المسكين؟
ومن هنا يبدأ الغضب الداخلي بالتراكم حتى يصل بالشخص إلى حالة نفسية قاسية ويجد هذا الإله سداً أمام تفكيره وسلوكه فيرفض فكرة وجوده لأنه يصل إلى نتيجة داخلية مفادها أن اللوم لا يجدي وأنه مضطر للخروج من دوامة السلبية والسخط التي هو فيها إلى الواقع والفعل الإيجابي وأنه مضطر أن يعتمد على ذاته وأن ينسى لوم الإله وبالتالي ينكر وجوده ويعتبره خرافة
الباعث لذلك كله هو الانفعال والعاطفة وعجز التبرير الواقعي لما يحصل
وجوابي الشخصي على ذلك:
منذ وجود الإنسان العاقل المفكر وقبل وجوده - لم يكن واقع الدنيا يجري على هواه بحال من الأحوال ولم تكن الدنيا جنة تتحقق فيها أمنياته - أو على الأقل يعيش فيها بسلام حياة نباتية أو مادية بلا منغصات - وذلك بسبب طبيعة تكوينه وحاجاته وارتباطه ببيئة محيطة واسعة تتسع كلما زاد إدراكاً وتطوراً ويزداد اعتماده عليها وتكثر متطلباته طردا بزيادة معرفته
من مزايا الإنسان العاقل تطور تفكيره وقدرته على إيجاد مخرج من الأزمات التي يواجهها - وحتى في المجتمعات البدائية فهناك أنماط من التفكير تستطيع استخدام المواد الموجودة في البيئة المحيطة لتلبية متطلبات هذا الإنسان
ولكن:
لماذا يحصل ذلك لدى الإنسان فقط وتحديداً؟ ما هذه المتطلبات التي كلما لبي جزء منها تفاقمت في ازدياد؟ لماذا يوجد الألم والعذاب، والإحساس بألم الآخرين، والضيق النفسي، والشعور بالوحدة للإنسان المنعزل ولو لبيت كل حاجاته المادية؟ والشعور بالظلم؟ الذاكرة طويلة الأمد؟ ولماذا توجد عقبات ومنغصات تجبر الإنسان على العمل والجهد والبحث عن حل؟ وتجبره على التفكير؟ هذا هو السؤال الذي لا يسأله الملحد العاطفي لنفسه - لأن جوابه الوحيد أن هذا جزء من تكوين الإنسان وبنيته التي امتاز بها عن بقية الكائنات - وهذا سر تقدمه وامتلاكه لزمام قيادة الدنيا دونا عن الباقين. والتأمل في هذا الجواب يدفعه لأن يقر بأن هناك تنظيماً محكماً للكون أوجده الله ووضع الإنسان على قمته - فمعجزة الخلق ومعجزة الإنسان تشهدان على الصانع وأن هذا الصانع واحد لا شريك له فلو كان هناك شركاء لصنع كل منهم خلقاً مختلفاً عن سواه ولعلى بعضهم على بعض - وهذا يجبره أن يعود إلى الإله الذي رفضه من قبل وتمرد عليه - وهذا يعني استسلامه وتراجعه عن الغضب الدفين وعن الأفكار الكئيبة المسيطرة عليه.(46/444)
ولذلك فكثير من الملحدين يحاول بعد تورطه في الإلحاد أن يجد أي مبرر علمي أو اجتماعي أو مادي ليهزأ بهذا الإله ويرفضه لأنه يرى أن البديل المقابل مذل له - وهو الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه - ويرى أن كيانه الاجتماعي والصورة المتميزة التي بناها لنفسه كملحد ستنهار في أعين من يعرفونه أو في عينه هو شخصياً فيتشبث بكل مبررات هذا الوجود الاجتماعي - وأول هذه المبررات خصومته مع الدين ومخالفته له.
الإلحاد المادي - النفعي:
وربما يسميه البعض: البراجماتية. وهو أن ينكر الشخص وجود الإله في سبيل مصلحة مادية يرى أنها تتحقق له بذلك أو إذا شعر أن وجود الإله عقبة أمام إحدى غاياته، أو أمام غايات متعددة يرى أن أقصر طريق لحلها هو الإلحاد.
هناك أمثلة كثيرة على هذا الإلحاد تتمثل في مواقف متتبعيه من التشريعات والقوانين التي
جاءت بها الأديان السماوية
- كموقف الملحد من الحاجة المادية وتوزيع الثروة إذا كانت له غايات مالية
- وموقفه من التشريعات الاجتماعية المتعلقة بالزواج إذا كانت له غايات إباحية
- وموقفه الرافض لعبادة أي شيء إذا كان لديه كبرياء ذاتية تمنعه من ذلك وتمنعه من السجود
- وموقفه من الأشخاص المتبعين للأديان الذين يكونون في غالبيتهم من طبقة فقيرة أو متوسطة عندما ينظر إليهم بازدراء وعدم إرادته الاختلاط بطبقتهم - وربطه لواقع الفقر بالدين ورفضه لذلك الواقع.
- وربطه الدين ببعض الأشخاص المتدينين الوصوليين وممارساتهم الخاطئة خاصة إذا كان في دينهم تحريف وأشياء مغلوطة فيرفضهم ويرفض أن يصنف بينهم ويرفض معهم فكرة وجود الإله.
- وإذا كانت العائلة أو البيئة التي ينتمي إليها ملحدة فيتبعها وينخرط في وسطها الاجتماعي
- أو كانت تتبع أفكاراً دينية شديدة الشذوذ واللاعقلانية وكان يريد أن يخرج من ذلك الجو بدون أن يتبع أي دين آخر بسبب خوفه من عائلته وخوفه من تهمة الخيانة لهم والانقلاب عليهم والذهاب إلى الدين الذي يصنف على أنه خصم لهم. يدخل هنا العامل النفسي الذي يقول:"ما حدش أحسن من حد - كله زي بعضه"
- وتعرف الشخص على مجموعة من الناس تعده بالكثير إن هو انضوى تحتها وكون هذه المجموعة ملحدة
- ووجود الشخص في بلد ملحد وخوفه من السلطات الملحدة واضطراره للسير في فلكها.
وأسباب أخرى كثيرة - أرجو من الأخوة والأساتذة المعنيين المشاركة لإغنائها ومناقشتها.
والملحد المادي شأنه شأن الملحد العاطفي يبحث دوماً عن مبررات علمية لما يقول ويفعل - ويتخذ الكبر والسخرية والهزء بالآخرين وسيلة لهذه التبريرات - وهذه السخرية هي سلاحه الأمضى والذي يحاول أن يجابه به خصومه بحيث يرهقهم ويشوشهم بسخريته قبل أن يطرح نظريته سواء كان على حق أو لا- وعندما يطرح تبريره للإلحاد يستخدم سلاح السخرية للدفاع عن المنظومة الفكرية التي اخترعها وتغطية عيوبها فيكرر خطأه الأول في تنفير الناس منه وتجنبهم له إلا من سار على دربه وقبلت نفسه أن يتخذ الكبر والهزء وسيلة يعتاش بها.
وجوابي الشخصي على ذلك:
إن هذه الطريق القصيرة التي تختارونها قد تكون مهرباً آنياً من التزامات كثيرة وتحديات مفروضة على الإنسان العاقل - وهذه الطريق الكسولة وما يتبعها من نتائج غير منظورة في المدى القريب أدت في الماضي إلى أزمات كثيرة بلغت مبلغ الكارثة على المدى الطويل عند تطبيقها في الواقع العملي أو أنها سائرة في هذا الطريق الذي يزداد انحداراً كلما تقدم فيه الإنسان. والأدلة كثيرة لا أملك تعدادها الآن - وسأوردها فيما بعد إن شاء الله.
الإلحاد العلمي - العقلي:
وهو الإلحاد الناشئ عن قناعة علمية معينة تتناقض مع مقولات دين من الأديان - خصوصاً إذا جعل ذلك الدين مقولاته تلك من أولوياته أو قواعده الراسخة التي يبني عليها عقيدته وتشريعاته ونظرته للكون
تطور هذا النوع في أوروبا في عصر النهضة بسبب قمع الهيئات الدينية للعلم وغضبها على العلماء - وهو وإن لم يكن في البداية إلحاداً كاملاً فقد كان تناقضات مع مقولات الكنيسة جاء به كوبرنيكوس وغاليليو وغيرهم من العلماء وأدى إلى وقوع الخلاف والقطيعة بين الهيئات الدينية والعلماء حتى الوصول إلى مرحلة إلحاد اللا عودة عند كثير من العلماء
ترافق هذا الإلحاد مع إلحاد عاطفي ناشئ عن الاضطهاد، والعاطفة المحركة لهذا الإلحاد هي الغضب ورفض الخرافة. ورفض الخرافة كان يعني لديهم رفض معتنقيها ورفض كل ما جاءوا به جملة وتفصيلاً ومن ذلك وجود الإله الذي يتخذونه ذريعة وسبباً للسيطرة حتى على العلوم والتطور - ورغم ما في هذا الرفض من تناقض مع العلم ومع المكتشفات العلمية الحديثة ودقة نظام الكون التي تثبت وجود خالق منسق لأموره، فقد فضلوا أن يعزوا هذا الأمر للطبيعة والصدفة لأن مواصفات الخالق المذكورة لدى تلك المجامع الدينية لم تكن تتسق مع الواقع الملموس وحوت قدراً لا بأس به من الشعوذات والخرافات.(46/445)
وباستمرارية تطور هذه الفلسفة الإلحادية ظهرت المادية الجدلية والمادية التاريخية التي قدمت نظرية بديلة عن الدين في النظام الاجتماعي والمادي وقدمت منظومة مختلفة من الأخلاق والسلوك طبقت في الدول التي اتخذت منها فيما بعد بديلاً عن المنظومة الدينية - وسعت هذه الدول إلى تبرير الإلحاد والدفع في أي اتجاه علمي يثبت المقولات الملحدة - شأنها في ذلك شأن الدول التي سعت لإثبات عكس هذه المقولات فماذا كانت النتيجة؟؟
كانت النتيجة أن تطور العلم لدى المنظومتين أدى إلى رفض نظرية الصدفة علمياً، والاعتراف بوجود قوة منسقة ومحركة للكون أسماها الملحدون الشرقيون بقوة الطبيعة - وعزاها العلماء الغربيون لخالق مدبر للكون
وظل قسم كبير من الملحدين العاطفيين والماديين مصرين على تتالي الصدف في تبرير وجود الكون وخلقه، وظلوا يبحثون عن كل ما من شأنه أن يبرر إلحادهم وينكرون ويسخرون من كل ما لا يوافق ذلك
ما موقع المسلمين من ذلك كله؟
شهدت القرون الأخيرة من الألفية الثانية تراجعاً كبيراً في مستوى العلم والثقافة لدى الأمة الإسلامية، وشهدت في الواقع انتشاراً للجهل والتخلف ويعزى ذلك لأسباب كثيرة أهمها عدم عناية الدولة والسلطات الحاكمة بهذا النوع من العلوم وتفضيل هذه السلطات لدعم منظومة الأفكار والعلوم السائدة والمتشكلة وفقاً لهواها والتي تضمن ولاء المجتمع وطاعته العمياء كائناً من كان الحاكم، وترسيخ الجهل والتخلف عن قصد أو غير قصد، وعدم الاكتراث بتطور المجتمعات المحكومة كون الحكام لا ينتمون إلى هذا الشعب كالأجيال الأخيرة من المماليك والأجيال الأخيرة من الترك. وكانت هذه سمة القرون الوسطى المشتركة لدى كل الشعوب في العالم آنئذ.
وبالرغم من أن هذا الأمر ليس من الدين والإسلام في شيء إلا أن الأفكار التي تضمن التسلط أقحمت في الدين وصبغت بصبغته واعتبر الخارجون عليها خارجون عن الدين - ومع ذلك فقد ظهر دعاة التنوير من العلماء المسلمين في العالم العربي والإسلامي وخصوصاً في مصر إبان حكم محمد علي وإرساله البعثات الطلابية إلى أوروبا - وفي بلاد الشام أيضاً - وكانت غالبيتهم العظمى من خريجي المؤسسات العلمية الموجودة آنذاك والتي كانت ذات نظرة دينية معتدلة لا تهمل الدين ولا تعبد الحاكم رغم تمويله لها - ولكن كان الفرق شاسعاً في تطور العلوم بين مصر وأوروبا
كان بعض العائدين من هذه البعثات يصطدمون بواقع التخلف في مجتمعاتهم ويشعرون بالعجز عن فعل أي شيء إيجابي وهذا ما أدى إلى نمو عقدة النقص وسوء تقدير الذات وتفاقمها ورفض الواقع المتخلف للمجتمع - وبالتالي فقد صارت هذه العقدة منبعاً للتكبر على المجتمع ورفض الواقع والثورة عليه، وكانوا يربطون هذا الواقع بالدين وبالله مما أدى إلى وقوعهم في الإلحاد العاطفي وكان هؤلاء وبالاً على مجتمعاتهم لأنهم وقعوا في العبودية الفكرية لمعلميهم الأوروبيين وشعروا أنهم أسرى لعقدة نقص لا مهرب منها إلا بتبرؤهم من مجتمعهم ودينهم وكل ما يربطهم بالواقع.
واستمرت مدارس الفكر الإلحادي تحت تأثير عقدة النقص - تسعى في كل اتجاه وتستقرئ كل ثقافة إلحادية يفرزها الشرق أو الغرب ما دام صانعيها على درجة من الرقي المادي أو التطور التقني، فبعضهم تشرب الفكر الماركسي والشرقي وبعضهم تشرب الفكر الوجودي وغير ذلك من الأفكار - ولم يحاول أي منها الاستقلال والبحث عن منظومة فكرية توافق مجتمعه سوى بعض المحاولات القومية التي بحثت عن نظرية تكون حلاً وسطاً بين هذه المذاهب الفكرية والمجتمع المحلي ولكنها بقيت في اللاوعي حبيسة الفكر الشرقي الاستبدادي ونظرته إلى الحاكم وإضفاء طابع القداسة على القائد الملهم، وكانت حصيلتها ترسيخاً للتخلف بثوب علماني وترسيخاً لعقدة النقص والمذلة - والمكابرة على ذلك.
وجوابي الشخصي على ذلك:
لا أريد في هذا الموضع أن أناقش في البديهيات لدي وهي وجود خالق ومدبر للكون - وكون هذا الخالق حياً فاعلاً قادراً وإرساله الرسل وخاتمهم النبي الأمي سيدنامحمد صلى الله عليه وسلم ، وصدق ما جاء به النبي والأنبياء من قبله. وسبب عدم مناقشتي في ذلك توقعي أن يستخدم الملحدين العاطفيين والماديين سلاحهم المعتاد وهو السخرية وبذاءة اللسان - واعذروني إن قلت ذلك ولكن هذا ما وجدته في تجارب سابقة كثيرة معهم - فهم يرون في وجود الخالق والأنبياء إنكاراً لوجودهم وكيانهم. أريد هنا أن أناقش الإلحاد ومقولاته وأركانه الفكرية. وأن أستقرئ ىراء جميع الأطراف في نظرتي المذكورة أعلاه.
لا شك أن الدين الصحيح من خالق الكون يجب أن يكون سليماً من الأخطاء المناقضة لواقع الحقيقة المطلقة - ولا أقول للواقع المحسوس او الملموس لأن حواس الإنسان وعلمه محدودين - وهو ما زال يكتشف الجديد يوماً بيوم ووجود التناقض بين الدين والواقع المحسوس يعزى إلى أحد الأسباب التالية:
- دخول تحريف في المعلومات الدينية عبر العصور (مثل تسطيح الأرض)
- قصور العلم عن فهم بعض الظواهر العلمية التي أوجدها الخالق
- الافتراضات العلمية المبنية على ملاحظات غير دقيقة(46/446)
- دخول هوى النفس في محاولة نفي الدين لغرض من الأغراض أعلاه ومحاولة إثبات افتراض يوافق ذلك مثل نظرية لامارك في التطور ونظرية فرويد في علم النفس وافتراضاته وتخيلاته المرتبطة بها
- إدخال بعض الناس في الدين ما ليس منه عبر العصور وتفسير هذه الأمور على أساس ديني
- محاولة بعض الناس استنباط معجزات دينية متوافقة مع العلم في مرحلة من المراحل وإدخال هذه الفكرة في الدين وتحميل الكلمات أكثر مما تحتمل. مثال ذلك أن الكواكب المعروفة في المجموعة الشمسية كانت ستة كواكب حسب علم الفلك القديم - وعند اكتشاف أورانوس صارت سبعة ففال بعض الناس: هذه هي السماوات السبع التي وردت في الكتب المقدسة ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل عند اكتشاف نبتون ثم بلوتو.
وهناك بلا ريب أسباب أخرى للتناقضات - ولكن كل هذه الأسباب لا تعني بحال من الأحوال عدم وجود الخالق - بل تعني كذب بعض المخلوقين وقصور بعضهم الآخر واستكبار فريق ثالث منهم. وكل ذلك يعود إلى محدودية الإمكانيات التي منحت لهم رغم كثرتها كما وكيفاً، ودخول العوامل العاطفية والغايات المادية في استقراء الحقيقة وتقريرها.
المصدر:
http://70.84.212.52/vb/showth r ead.php?t=96
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب السادس عشر ... 2
الإلحاد ... 2(46/447)
(46/448)
مقدمة في الإلحاد ... 2(46/449)
(46/450)
الخلاصة في أحكام الإلحاد ... 5(46/451)
(46/452)
نقول منعا للإحراج :أيها الملحد لماذا أنت ملحد ؟!! ... 8(46/453)
(46/454)
أحفاد ابن الراوندى ... 13(46/455)
(46/456)
الإلحادُ في العالمِ العربيِّ : دعاتُهُ وأسبابُهُ ... 16(46/457)
(46/458)
الإلحاد هو الوثن الأكبر ... 28(46/459)
(46/460)
عظيمة نعم الله علينا -- وجحود أن نقابلها بالكفر ... 30(46/461)
(46/462)
التفكر ...... فى نعم الله ... 34(46/463)
(46/464)
الشكر ... 39(46/465)
(46/466)
إني أري الإلحاد عاريًا . (1) ... 51(46/467)
(46/468)
أيها الملحد ... تعال إلى كلمة سواء ... ... 58(46/469)
(46/470)
أيها الملحد .. أنت في النهاية عبد .. شئت أم أبيت! ... 65(46/471)
(46/472)
كيف ندعو المرتدين ؟…العنوان ... 68(46/473)
(46/474)
كنت مرتدا !! ... 74(46/475)
(46/476)
الإلحاد: أسبابه، أنواعه، ونصائح في دعوة الملحدين…العنوان ... 80(46/477)
(46/478)
الملحدون..… ... 84(46/479)
(46/480)
أخواي ملحدان.. هل أقاطعهما؟…العنوان ... 88(46/481)
(46/482)
أدعو ملحدة.. أتريد الله بغير نظامه؟؟!!…العنوان ... 94(46/483)
(46/484)
صديقي غير مسلم.. كيف أدعوه؟… ... 100(46/485)
(46/486)
دعوة غير المسلمين.. دع الخطوات تتبع الكلمات… ... 103(46/487)
(46/488)
في دعوة غير المسلمين: تدرَّج.. لا تهاجم.. والعقيدة أولا… ... 105(46/489)
(46/490)
دعوة المرتدين ... 107(46/491)
(46/492)
توبة الملحد ... 113(46/493)
(46/494)
دعوة الملحدين للحق ... 119(46/495)
(46/496)
حوار ثنائي بين القبطان وحاتم3 ... 123(46/497)
(46/498)
العبد الحر ؟!!! ... 293(46/499)
(46/500)
إجماع الامم ..... بين ...القمم..... والرمم ... 294(47/1)
(47/2)
الإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها ... 297(47/3)
(47/4)
الإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها ؟ ... 312
أيها الملحد تفضل إقرأ بتعقل!!! ... 312(47/5)
(47/6)
برنامج الشريعة والحياة : الالحاد والملحدون ... 332(47/7)
(47/8)
التعريف بالالحاد ... 369(47/9)
(47/10)
تأملات: الإلحاد العاطفي، الإلحاد المادي والإلحاد العقلي ... 375(47/11)
(47/12)
أهمية حل العقدة الكبرى ... 383(47/13)
(47/14)
العقل البشري والدين ... 387(47/15)
(47/16)
من آليات الإنحراف بالحوار عند الملحدين واللادينيين والعلمانيين عند ضعف الحجة ... 391(47/17)
(47/18)
خوف الملحد من النقاش في الحاده ... 393(47/19)
(47/20)
الالحاد واللامنهجية ... 394(47/21)
(47/22)
الانتقائية (غير العلمية) عند الملحدين ... 397(47/23)
(47/24)
هل الإلحاد هو محاربة الإسلام ؟ ... 404
رسالة إلى الملاحدة الإسلاميين !! ... 404(47/25)
(47/26)
الذئاب بلباس النعاج ... 407(47/27)
(47/28)
الإلحاد و انفصام الشخصية ... 407(47/29)
(47/30)
من سيخسر المليون ... 417(47/31)
(47/32)
الملحدون يتخبطون ... 418(47/33)
(47/34)
أو من وراء جدر!! ... 424(47/35)
(47/36)
هل كانت مصادفة ... 425(47/37)
(47/38)
عالم الغيب ... 428(47/39)
(47/40)
السلطان الحقيقي ... 430(47/41)
(47/42)
من أين تنبع السعادة ... 434(47/43)
(47/44)
مخير أم مسير ... 435(47/45)
(47/46)
قطار اللذة ... 438(47/47)
(47/48)
الذي شنق نفسه بسلك الكهرباء ... 441(47/49)
(47/50)
الواقع الكذاب ... 443(47/51)
(47/52)
لغز الرقم سبعة ... 445(47/53)
(47/54)
يوجا سعيت وراء علماء التشريح لأعرف ما هو الإنسان.. ... 447(47/55)
(47/56)
العيال الذين ظنوا أنفسهم كبارا ... 451(47/57)
(47/58)
راعي شرج الملك ... 452(47/59)
(47/60)
أفيون هذا الزمان ... 456(47/61)
(47/62)
أنت امبراطور ... 459(47/63)
(47/64)
قانون عدم المساواة ... 461(47/65)
(47/66)
كيف تكسب ألف جنيه فورا ... 464(47/67)
(47/68)
التقدم إلى الخلف ... 468(47/69)
(47/70)
الرد على التساؤلات ... 470(47/71)
(47/72)
إنذار ... 473(47/73)
(47/74)
قلتسقط أقنعة الإلحاد ~ ... 475(47/75)
(47/76)
خوفُ الملحد من الخوفِ ... 477(47/77)
(47/78)
سؤال الي كل المسلمين .. ... 479(47/79)
(47/80)
اهل الالحاد والأمانة العلمية ... 496(47/81)
(47/82)
الإلحاد ... كيف ولماذا ؟! ... 497(47/83)
(47/84)
الملحد ابنُ مَن؟ ... 509(47/85)
(47/86)
الوجه الحقيقى للإلحاد ... 515(47/87)
(47/88)
سؤال للملاحدة فقط ... 519(47/89)
(47/90)
تساؤلات ملحد عن قدر الله المطلقة ... 519(47/91)
(47/92)
مناظرة القاسم الرسى لملحد ... 523(47/93)
(47/94)
إذا اقترب الإلحاد من الثقوب السوداء فإنها ستقوم بابتلاعه ..!! ... 543(47/95)
(47/96)
لا مكان للإلحاد بيننا ..... ما هؤلاء الناس !! ... 545(47/97)
(47/98)
ماذا ستخسر لو ألقيت بالالحاد بعيدا عنك ... 547(47/99)
(47/100)
هل ابن الملحد .. ملحد؟ ... 549(47/101)
(47/102)
مغالطات جدلية ..... هام الى كل مسلم يحاور مخالف ... 554(47/103)
(47/104)
انتحار ملحد ... 565(47/105)
(47/106)
وسائل أهل الحق في السباق إلى العقول ... 572(47/107)
(47/108)
الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(52-54) ... 594(47/109)
(47/110)
ثالثا: إخراج الناس من الظلمات إلى النور. ... 600(47/111)
(47/112)
العدمية ... 620(47/113)
(47/114)
الوجودية ... 624(47/115)
(47/116)
اِحْذَرْ هَذَا التَّلاعُبَ بِأَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى ... 627(47/117)
(47/118)
الإيمان بربوبية الله تعالى ... 631(47/119)
(47/120)
عصرُ الإلحاد .. خلفيته التاريخية وبداية نهايته ... 638(47/121)
(47/122)
الأساس الإلحادي للمفاهيم الغربية ... 651(47/123)
(47/124)
الله جل جلاله واحد أم ثلاثة ؟ ... 664(47/125)
(47/126)
وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ... 668(47/127)
(47/128)
ضعف الإلحاد الصريح فبرز النفاق القبيح ... 672(47/129)
(47/130)
هذه مشاعري في أول يوم لي في ظلال هذا الدين الحنيف ... 687(47/131)
(47/132)
حول الإلحاد والملحدين ... 690(47/133)
(47/134)
الفلوجة فالجة رأس الكفر والإلحاد .. ... 693(47/135)
(47/136)
الاتحاد قوة فما السبيل إليه ... 695(47/137)
(47/138)
سافرنا إلى ألمانيا ؛ وتكاد حياتنا الاجتماعية تكون صفرا ... 696(47/139)
(47/140)
تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد ... 698(47/141)
(47/142)
: …كيف نحمي أبناء المسلمين من الانحلال الخلقي ... 721(47/143)
(47/144)
أعاني من الشك في الدين والنبي فساعدوني ... 724(47/145)
(47/146)
هل افتدانا المسيح على الصليب ؟ ... 729(47/147)
(47/148)
العيد في فطاني! ... 734(47/149)
(47/150)
النفخة على النفحة والمنحة ... 739(47/151)
(47/152)
عقيدة الشيعة وتاريخهم الأسود ... 777(47/153)
(47/154)
الرياض على خطى بيروت ! ... 790(47/155)
(47/156)
ترجمة الفيلسوف الطبيب ابن سينا ... 792(47/157)
(47/158)
كيف أدعو صديقتي التي لا تعترف بالصلاة ولا بالرسول الكريم ... 795(47/159)
(47/160)
السلفية ... 798
((حركة قائمة في وجه الإلحاد، والشرك، والضلال، والطغيان)) ... 798(47/161)
(47/162)
أنواع الشرك ... 810(47/163)
(47/164)
حكم إجراء عقد النكاح في محاكم غير إسلامية ... 813(47/165)
(47/166)
من كفر فعليه كفره .. ولا أثر لذلك على الأولاد ... 815(47/167)
(47/168)
مهنة الصحافة ... رؤية شرعية ... 816(47/169)
(47/170)
العمل في وسائل الإعلام...رؤية شرعية واقعية ... 818(47/171)
(47/172)
براءة الخيام من رباعياته !! ( وفتوى الشيخ المنجد ) - للبحث - ... 819(47/173)
(47/174)
مصطلح "أهل القبلة" !.. ... 835(47/175)
(47/176)
أدلة على وجود الله تعالى وبديع خلقه ... 840(47/177)
(47/178)
حكم الملحد في الإسلام ... 841(47/179)
(47/180)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 842(47/181)
(47/182)
لا يعذب الله أحدا حتى تقوم عليه الحجة ... 849(47/183)
(47/184)
أسباب الوقوع في الشرك والإلحاد ... 852(47/185)
(47/186)
منتهى أمر الإلحاد في الكلام إلى التعطيل والكفر ... 853(47/187)
(47/188)
: سئل عما في كتاب فصوص الحكم من الإلحاد ... 855(47/189)
(47/190)
شروط جواز العمل بترجمة الفلسفة الإلحادية ... 878(47/191)
(47/192)
تهافت الادعاء بأن الله غير عادل ... 879(47/193)
(47/194)
تهافت القول بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ... 882(47/195)
(47/196)
هل انخدع الإخوان المسلمون بالشيعي نواب صفوي ؟! ... 884(47/197)
(47/198)
عدم الاسترسال في الأفكار التي يوسوس بهاالشيطان واجب ... 889(47/199)
(47/200)
ابن سينا في الميزان ... 894(47/201)
(47/202)
وجود الله تعالى والغاية من الخلق ... 895(47/203)
(47/204)
الأصل الأيديولوجيّ الحقيقيّ للإرهاب الدّاروينيّة و المادّيّة ... 896(47/205)
(47/206)
…الزوجة النصرانية التي لا تلتزم بأحكام دينها ... 906(47/207)
(47/208)
الحكم الشرعي في قراءة الشعر والتاريخ والفلسفة ... 909(47/209)
(47/210)
…لا يشرع الدعاء بضمير الغيبة (هو) لعدم ثبوت مايدل على أنه من أسماء الله الحسنى ... 910(47/211)
(47/212)
الحكمة من إرسال الرسل ... 912(47/213)
(47/214)
حكاية الكفر وإعلانه بدون إنكاره وبيان بطلانه محرم ... 913(47/215)
(47/216)
…تفنيد مقولة (الدين أفيون الشعوب) ... 914(47/217)
(47/218)
أثر الإعلام الغربي على الثقافة العربية والإسلامية ... 915(47/219)
(47/220)
المقصود بالإلحاد وحكم الملحد ... 916(47/221)
(47/222)
الجواب عن سؤال أهل الإلحاد ... 917
هل يستطيع الله أن يخلق صخرة لا يمكنه ... 917(47/223)
(47/224)
الإلحاد والظلم في المسجد الحرام بين الإرادة والتنفيذ ... 919(47/225)
(47/226)
الأحوال التي فيها يؤاخذ المرء بحديث النفس ... 927(47/227)
(47/228)
مساكنة الفجار وهجر المسلم ولو قريبا للمصلحة ... 930(47/229)
(47/230)
قول القائل (وصفة الدكتور المعالج الله) ... 931(47/231)
(47/232)
شخصيتان في ميزان الإسلام ... 932(47/233)
(47/234)
كيفية التخلص من آفة الإلحاد ... 936(47/235)
(47/236)
شبهة وجوابها حول الإسلام ... 936(47/237)
(47/238)
شبهات داحضة حول الإسلام وجوابها ... 938(47/239)
(47/240)
إكسير الشهرة الخالد (سبع خطوات مضمونة) ... 940(47/241)
(47/242)
مخالطة العصاة والملحدين في العمل ... 942(47/243)
(47/244)
حكم المتزوجة من ملحد ... 943(47/245)
(47/246)
من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى ... 944(47/247)
(47/248)
حكم التعامل مع من ولد لأبوين مسلمين ويقول إنه ملحد ... 946(47/249)
(47/250)
حكم التسمي باسم عبد اللاوي ... 946(47/251)
(47/252)
محاذير تكتنف الزواج من الكتابية ... 947(47/253)
(47/254)
حكم الذبائح المستوردة من بلاد أهل الكتاب ... 948(47/255)
(47/256)
القيود في الفكر اللاديني الحر ... 951(47/257)
(47/258)
هل فكرة الإله مهمة لللادينية ، ام أنها (ماركة) تسويق للإلحاد ؟ ... 952(47/259)
(47/260)
حوار صريح مع لاديني عربي ... 954(47/261)
(47/262)
نقض أسس اللادينية و الزندقة ... 964(47/263)
(47/264)
تعلم اللادينية في ثلاثة دقائق: ... 966(47/265)
(47/266)
ماذا يخسر العالم لو خسر الدين ؟ ... 968(47/267)
(47/268)
الدين ....و الكبت ... 970(47/269)
(47/270)
اللادينية العربية .. بوابة خلفية للتنصير . ... 977(47/271)
(47/272)
فلسفات لادينية (وضعية أوجست كونت ) ... 982(47/273)
(47/274)
مسافرون إلى الخارج ... 989(47/275)
(47/276)
الثوابت والمتغيرات ... 997(47/277)
(47/278)
وهلك (نجيب محفوظ)..! ... 1013(47/279)
(47/280)
بشائر النصر لهذا الدين ... 1016(47/281)
(47/282)
أيها السائحون ... 1019(47/283)
(47/284)
ضدَّان يا أختاه .. ... 1029(47/285)
(47/286)
بين حرية الفكر وحرية الكفر ... 1030(47/287)
(47/288)
القرامطة ... 1032(47/289)
(47/290)
الإلحاد وعلاقته باليهود والنصارى ... 1038(47/291)
(47/292)
ضَعُف الإلحاد الصريح ... 1049(47/293)
(47/294)
المعرض و (( وتسويق )) الزندقة والقاذورات ... 1055(47/295)
(47/296)
من ابنِ الراوندي إلى أبناءِ راند: الزنْدَقةُ تُجدِّدُ نفسَها ... 1058(47/297)
(47/298)
الدخول من بوابة الأحزان ... 1062(47/299)
(47/300)
تحرير أم تغرير ؟! ... 1065(47/301)
(47/302)
الرد على (( طرزان الأخرق )) ... 1067(47/303)
(47/304)
كي لا نسقط في الهاوية ... 1075(47/305)
(47/306)
اعتزوا بدينكم ، ولا تدسُّوا أنفَكم في التراب ..! ... 1091(47/307)
(47/308)
إلى كل من تغنى بمحمود درويش !! ... 1101(47/309)
(47/310)
الانعتاق من سلطة الغرب ... 1104(47/311)
(47/312)
{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} ... 1111(47/313)
(47/314)
هل تُصدق أن ( الدكتورة نوال السعداوي ) كانت .......! ... 1118(47/315)
(47/316)
الآخر.. بديلا عن الكافر ... 1121(47/317)
(47/318)
المهاريشية ... 1123(47/319)
(47/320)
العقلانية ... 1129(47/321)
(47/322)
تونس ..والحرب الشرسة ضد الإسلام ... 1132(47/323)
(47/324)
إلى المعجبين بطاش ما طاش ... 1137(47/325)
(47/326)
(فضائح ( إمبراطور الشعر العربي ... 1141(47/327)
(47/328)
ماضون وإن رغمت أنوف !! ... 1151(47/329)
(47/330)
تبديل ألفاظ الشريعة مصطلح الآخر ... 1154(47/331)
(47/332)
الديانة الجينية تنقض الوهم الإلحادي المتخلف والقائل بمركزية الأديان في الشرق الأوسط ... 1160(47/333)
(47/334)
فى الرد على الشبح وكل من شابهه ... 1164(47/335)
(47/336)
التديُّن غريزة في الإنسان ... 1172(47/337)
(47/338)
القبض على لاديني مشهور ... نبأ عاجل جدًا ... 1176(47/339)
(47/340)
الدين والتدين عشر معالم ... 1178(47/341)
(47/342)
مرض الجذام والخيط الرفيع بينه وبين الأديان .. ... 1186
.وعلاقته بالذنوب والمعاصي .. بحث خطير ... 1186(47/343)
(47/344)
حوار مفتوح(اسباب التحول من ديني الى اللاديني ) ... 1189(47/345)
(47/346)
الدين أفيون الشعوب"..النواقض العشر ... 1193(47/347)
(47/348)
اللادينية العربية .. بوابة خلفية للتنصير ... 1207(47/349)
(47/350)
كشف شبهات الملاحدة ... 1316(47/351)
(47/352)
تهافت الإلحاد ... 1358(47/353)
(47/354)
حوار جاد مع نصراني ... 1457(47/355)
(47/356)
ترك الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله ... 1465(47/357)
(47/358)
حاجة البشر إلى الدين ... 1468(47/359)
(47/360)
هل الكلمات في السكر الروحي معفوٌّ عنها ؟ ... 1471(47/361)
(47/362)
كم عدد المرات التي ينبغي أن يدعى فيها غير المسلم؟ ... 1474(47/363)
(47/364)
تكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية ... 1476(47/365)
(47/366)
ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار ... 1483(47/367)
(47/368)
كيف اختلطت النصرانية بالعقائد الشركية ؟ ... 1487(47/369)
(47/370)
لا ننصحك باستمرار الاطلاع على كتب أهل الضلال ... 1491(47/371)
(47/372)
كلمة حول منظمات حقوق الإنسان الغربية وحكم التحاكم إليها ... 1494(47/373)
(47/374)
الحذر من وسوسة الشيطان في ذات الله ... 1497(47/375)
(47/376)
ذهب إلى ساحر لفك السحر فهل له من توبة ... 1501(47/377)
(47/378)
نبذة عن حال الدولة العبيدية ، نسباً ، ومعتقداً ... 1506(47/379)
(47/380)
أنواع الإلحاد وأسبابه الحقيقية ... 1513(47/381)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (17) عبدة الشيطان
الباب السابع عشر
عبدة الشيطان
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السابع عشر
عبدة الشيطان(48/1)
(48/2)
عبدة الشيطان في أبو غريب
إدوارد سباناس
تحاول وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في معركة قانونية تجري حاليا في المحكمة الفدرالية في نيويورك وقف الكشف عن المزيد من الصور و أشرطة الفيديو التي تحتوي على مزيدٍ من الإهانات و التعذيب لسجناء أبو غريب. يتعلق الموضوع بدعوى رفعها الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (Ame r ican Civil Libe r ties Union ACLU) ومنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان (Physicians fo r Human r ights) وجمعية المحاربين القدامى من أجل الحس العام (Vete r ans fo r Common Sense) وغيرهم من المنظمات. تطالب الدعوى بالكشف عن 87 صورة و أربعة أشرطة فيديو يعتقد أنها تتضمن صور اغتصاب و لواط وأفعال أخرى أكثر بشاعة مما تم الكشف عنه لحد الآن.
السؤال المطروح هو ما هي العلاقة بين هذا والتقارير التي استلمتها مجلة إكزكتف إنتلجنس ريفيو حول أن مجموعة من المسؤولين عن العمليات الخاصة في قاعدة فورت براغ العسكرية (Fo r t B r agg) ضالعة في ممارسات السحر والشعوذة وبرامج وتجارب "الحرب الذهنية" بالاشتراك مع عناصر تنتمي إلى جماعات عبادة الشيطان؟
"اغتصاب وقتل"
ينبغي أن ينطلق التحقيق في هذه المسألة في ضوء جلسات الشهادة الأخيرة التي عقدت في مجلس الشيوخ، وأيضا في ضوء المقالة التي نشرت في نيويورك تايمز بقلم المراسلة التحقيقية جين ماير (Jane Maye r ) التي وثقت باستفاضة أكثر أن انتهاكات السجناء و تعذيبهم كانت سياسة متبعة ومقصودة وأنها جاءت بأوامر من أعلى الجهات في وزارة الدفاع، وأن تلك الأفعال قد أدخلت عمداُ إلى العراق، بعد أن جربت في غوانتانامو.
قد يبدو من غير المعقول للقارئ أن يتم الربط بين فضائح التعذيب والشبكات الشيطانية المغتصبة للأطفال التي كانت ترتكب هذه الجرائم في قاعدة بريسيديو العسكرية في سان فرانسيسكو أو قاعدة اوفوت الجوية في نبراسكا. لكن أمعن النظر في التالي:
حينما أدلى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بشهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ في مايو 2004، حذر هو من أن صور أبو غريب التي لم تكشف بعد أسوأ بكثير من تلك التي كشفت حتى الآن، مضيفا أن تلك الصور فيها أفعال "لا يمكن وصفها إلا بالسادية الواضحة، و أنها قاسية و غير إنسانية". عضو مجلس الشيوخ ليندزي غراهام (Lindsey G r aham) وهي جمهورية من ولاية ساوث كارولاينا قالت بعد الاستماع لشهادة رامسفيلد: "إننا نتحدث عن اغتصاب و قتل هنا". غيرها من أعضاء الكونغرس الذين بدوا مصدومين و الذين رأوا الصور، قالوا أن الصور فيها سجناء عراة وقد أجبروا على تمثيل وضعيات جنسية مع بعضهم البعض. وقد رسم رئيس قيادة الأركان الأمريكي ريتشارد مايرز صورة قاتمة عن ما قد يحدث إذا تم نشر هذه الصور والأفلام. قال مايرز ذلك في شهادة خطية قدمت الشهر الماضي في قضية "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" ولم يكشف النقاب عنها إلا مؤخرا. حسب أقوال مايرز قد يؤدي الكشف عن تلك الصور رسميا "قد يشكل خطرا واضحا وجديا للتحريض على العنف وحدوث أعمال عنف ضد القوات الأمريكية وقوى التحالف...وقد يؤدي ذلك إلى تزايد تجنيد الإرهابيين".
وأضاف مايرز: "سيتم تصوير هذه المشاهد وكأنها جزء من مما يزعم أنها حملة أمريكية مستمرة لإذلال المسلمين".
والآن استمع لما قاله الكاتب الصحفي سيمور هيرش، الذي كان أول من كشف عن قصة ابو غريب في ابريل 2004، و الذي قال التالي أثناء ندوة للإتحاد الأمريكي للحريات المدنية:
"بعض أسوأ الأمور التي حصلت لا تعرفون عنها شيئا، طيب؟ أفلام فيديو، هناك نساء في تلك الأفلام. ربما قرأ البعض منكم أنهن يسربن رسائل إلى خارج السجن، إلى أزواجهن. هذا في أبو غريب….. النساء كن يسربن رسائل يقلن فيها "أرجوكم تعالوا و اقتلوني، بسبب ما حصل"، وفي الواقع ما حصل هو ان أولئك النساء الذين قد اعتقلن مع صبيان، و في بعض الحالات أطفال، في بعض الحالات المسجلة. لقد مورس مع الصبية اللواط في نفس الوقت الذي كانت فيه الكاميرا تسجل. والأسوأ من هذا هو سماع تسجيل صوت صراخ الصبية وهذا في حوزة حكومتكم. إنهم في رعبٍ تام".
إضافة إلى ذلك أدلى أحد السجناء السابقين في أبو غريب بأقوال إلى أحد المحققين الأمريكيين من الجيش يشرح فيها بالتفصيل اغتصاب أحد الجنود الأمريكيين لصبي سجين في أبو غريب، ووصف أشكال أخرى من الانتهاك ضد الأطفال هناك.
قد يسأل القارئ نفسه الآن: "كيف يمكن أن يتورط جنود أمريكيون في أعمالٍ شنيعة كهذه".
"البقاء، المراوغة، المقاومة، الهرب"
بالرغم من أن مقالة جاين ماير لا تتطرق إلى أسئلة عميقة كهذه، إلا أنها في مقالتها المطبوعة في نيويورك تايمز في 11 مايو بعنوان "التجربة" تقدم عرضا مقنعا بأن التقنيات المستعملة لإذلال السجناء جنسياً ودينياً، و أيضاً أكثر التقنيات المستعملة في غوانتانامو و أبو غريب، كانت قد طورت من قبل علماء في السلوك و غيرهم من المرتبطين بالجيش الأمريكي، وأن طرقا مثل هذه تستخدم بشكل منتظم في تدريب أفراد الجيش لمقاومة التحقيق في حال أسروا من قبل قوة عدوة.(48/3)
بعث رامسفيلد الجنرال جيفري ميلر (Geoff r ey Mille r ) ليتولى قيادة معتقل غوانتانامو في نوفمبر 2002، لان رامسفيلد كان يعتقد إن القائد الأسبق لم يحصل على نتائج جيدة في التحقيق. ميلر، الذي يقال انه جزء من جماعة "مقوسي الملاعق" (ممارسي الشعوذة والممارسات الباطنية) كما أنه صنو فكري للجنرال وليام بويكن (William Boykin) الحاقد على الإسلام، كان هو الذي بدأ سياسة إعطاء دور للأخصائيين النفسيين وأطباء الأعصاب في المساعدة في التحقيقات، وذلك كجزء من "فريق مستشاري علم السلوك" (Behavio r al Science Consultation Teams BSCT) الذي ينعت باسم "بسكويت" أيضا. يعمل برنامج "البسكويت" تحت إشراف الاستخبارات العسكرية و كثير من أعضائه خضعوا إلى برنامج "البقاء، المراوغة، المقاومة والهرب" (Su r vival، Evasion، r esistance، and Escape SE r E) ويتضمن تعريض الخاضعين للتدريب إلى درجات حرارة قصوى وحرمان النواحي الحسية ومن ذلك احتجازهم في غرف ضيقة جدا وتعريضهم للأصوات العالية والإحراج والإذلال الجنسي، وأيضا ما يسمى "الحيرة الدينية" ويشمل ذلك تدنيس الكتاب المقدس أمام أعينهم.
بعد فترة وجيزة من وصول ميلر إلى غوانتانامو، أثار موظفو مكتب المباحث الفيدرالي (إف بي آي) المعينون في غوانتانامو جملة اعتراضات ضد استخدام تقنيات برنامج (SE r E) في عمليات التحقيق مع السجناء، وقاموا بإبداء قلقهم من ذلك أمام ميلر شخصيا، وذلك حسب وثائق كشف عنها في الدعوى القضائية للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية.
في أواخر شهر أغسطس 2003 بعث وكيل وزارة الدفاع الأمريكية ستيفن كامبون ومساعده بويكن، ميلر إلى العراق. زار ميلر في أبو غريب فرقة "الصيد والقتل" المعروفة باسم "القوة الخاصة 20". كانت مهمة ميلر "غوانتنمة" مراكز الاعتقال والتحقيق في العراق (جعلها مثل غوانتانامو). كما وصف ميلر بنفسه في التقرير الذي يلخص زيارته إلى العراق فإنه ذهب "ليناقش قدرة العمليات الحربية في استغلال المعتقلين بسرعة لصالح عمليات الاستخبارات". من توصياته المعروفة هي استخدام عمليات الاعتقال (مثلاً استعمال شرطة عسكرية كحراس سجون) "لتهيئة ظروف تحقيقات ناجحة". ومما هو غير معروف جيدا هو أن ميلر أيضاً أوصى بالاستفادة من فريق مستشاري علم السلوك (فريق البسكويت) "للمساعدة في تعزيز عمليات التحقي". و يشرح ميلر هذا الأمر قائلاً: "الفرق هذه المتكونة من أطباء نفسيين والعصبيين الخبيرين في علم السلوك تلعب دورا أساسيا في تطوير استراتيجيات تحقيق موحدة وفي تقييم انتاج المعلومات الاستخبارية من التحقيقات".
"هندسة معكوسة"
حسب قول جين ماير (الصحفية في نيويورك تايمز) فإن برنامج (SE r E) ومقره في مدرسة جون إف كندي الحربية الخاصة في فورت براغ، كما يشرف على برنامج التدريب خبراء نفسيين والعاملين في حقل علم السلوك الذين يحتفظون بتسجيلات ووثائق دقيقة لجميع ردود فعل المتدربين ومستوى الضغط النفسي لديهم. ولأن المقصود من البرنامج هو تعريض الخاضعين للتدريب إلى أقصى قدر من القلق من اجل ان يسلحوهم لمقاومة التحقيق و التعذيب فإن البرنامج كما تقول ماير " هو مستودع للمعرفة عن الطرق الإجبارية للتحقيق". و تكمل ماير: "لقد تعلم خبراء برنامج (SE r E) أن إحدى الطرق الفعالة لإثارة القلق الحاد هي خلق بيئة من الحيرة الكاملة: إذ تغطى رؤوس الخاضعين للتدريب بالأكياس ويتم قطع فترات نومهم بشكل مستمر ويتم تجويعهم لفترات طويلة و تخلع عنهم ثيابهم ويتم تعريضهم لدرجات حرارية قصوى" وهكذا دواليك.
إذا كان أسير حربٍ "يحاول تفادي الاعتراف بالأسرار أمام محققي العدو فإنه من الاحتمالات الضعيفة جدا أن يستطيع المقاومة إذا حرم من النوم او يصارع من اجل تفادي الآلام الشديدة. " أو حسب قول ماير في مقابلة موجودة على صفحة النيويوركر تقول فيها: "قبل 11 سبتمبر كان كثير من أولائك الخبراء في علم السلوك (الموجودون في غوانتانامو الآن) منتسبين إلى مدارس برنامج (SE r E) حيث كانوا يستعملون علمهم في تدريب الجنود المريكيين لمقاومة تحقيقات عنيفة. لكن منذ 11 سبتمبر أبلغتني مصادر مختلفة أن علماء السلوك بدأوا "عكس الهندسة" فبدلا من أن يعلموا أسلوب مقاومة محققي العدو في الأسر، بدأوا باستعمال مهارتهم للتغلب على مقاومة السجناء الموقفين عند الأمريكيين".
أحد من أولائك المذكورين في مقابلة ماير، والذي كان يلعب دورا مهما في غوانتانامو هو الكولونيل مورغان بانكس (Col.Mo r gan Bank) مدير دائرة التطبيقات النفسية (Psychological Applications Di r ecto r ate) في قيادة العمليات الخاصة للجيش الأمريكي (A r my Special Ope r ations Command) في قاعدة فورت براغ. كان بانكس يوصي بان يكون للخبراء النفسيين العاملين مع فريق مستشاري علم السلوك في غوانتانامو خلفية في برنامج (SE r E).
غوانتانامو المختبر(48/4)
أثناء الجدل المثار حول تقرير مجلة نيوزويك عن تدنيس القرآن، كتب أحد الضباط السابقين في الجيش الأمريكي إلى البروفيسور جوان كول (Juan Cole) الذي يدير موقع مضاد للحرب على الانترنيت باسم (Info r med Comment) وشرح له تجربته مع مدرسة (SE r E) التي كان فيها "معسكر اعتقال" للمحاكاة يتم فيه تدريب أفراد قوات الاستخبارات المضادة والمحققين. كتب الضابط السابق في رسالته: "واحدة من التجارب التي تعلق في الذاكرة أكثر من أي شيء آخر هي لما قام احد مسؤولي المعسكر برمي الإنجيل على الأرض وبدأ بركله وغير ذلك.. أنها كانت صدمة قوية ولو أن هذا كان فقط في تدريب. إنني لا أشك في صحة قصة تدنيس القرآن ". ويضيف هذا الضابط السابق قائلا: "إني متأكد أنكم يجب أن تدركوا أن غوانتانامو كان يستخدم كمختبر لكل طرق التأثير النفسي لأفراد الاستخبارات المضادة"، ووصف تجربته تلك "بأنها أمر مثير للغثيان". إن الإهانات الجنسية ومنها تعرية المتدربين وجعل نساء يسخرن من حجم الأعضاء التناسلية للرجال هي جزء من التدريب المتقدم لبرنامج (SE r E).
(بعد كل ذلك يأتون ويقولون أن المجندة ليندي إنجلاند اخترعت كل ما عملت في سجن أبو غريب من عندها وبمفردها).
وقد بلغ الكاتبة ماير عن طريق أحد المتدربين السابقين في برنامج (SE r E) عن طريقة تدريب تدعى "الاغتصاب الزائف"، حيث تقف ضابطة خلف ستار وكأنه يتم اغتصابها، ويتم إبلاغ المتدرب بأنه يستطيع إيقاف عملية الاغتصاب إذا تعاون مع المحققين. يبدوا أنهم في أبو غريب أزالوا الجزء الذي يقول "زائف" من دليل الاغتصاب.
http://alshaab.o r g المصدر:
==============(48/5)
(48/6)
عُباد الشيطان
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1045)
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
الخطبة الأولى
أما بعد:
لاشك أن أكثرنا أو جميعنا قد قرأ أو سمع بما تناولته الصحف ووسائل الإعلام من ظهور طائفة من عباد الشيطان أخزاه الله، وربما تعجب الكثير كما أظهرت وسائل الإعلام عجبها واستنكارها أن توجد هذه النوعية من الناس، وربما تعجب آخرون إذا قلنا أن هذا القطاع من الشباب إنما يمثل صورة واحدة من عبادة الشيطان، وهذه الصورة وإن كانت تمثل قمة الانحراف وفساد الفطرة إلا أن هؤلاء الذين أنكروا عليهم وقع أكثرهم وهم لا يشعرون في عبادة الشيطان أيضا وإنما يزول عجبهم يوم يقفون بين يدي الحق جل وعلا فيقول لهم: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون [يس:60-64]. ولكن ولات حين مناص فيومئذ لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا تلاومهم وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم [إبراهيم:22].
وإنما غفل هؤلاء وأولئك عن إدراك هذه الحقيقة لما أصابهم وأصاب الأمة كلها من قصور فهم. قصور في فهم معنى العبادة حتى أصبحت العبادة عندهم هي بعض الركعات وزكاة وصيام وحج، هذا في أحسن الأحوال، وإلا فإن أكثرهم أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولا يعرف الزكاة، والصيام عنده شهر لهو ومجون ومسلسلات وفوازير، وسفره إلى بلاد الكفر والفجور، والفساد أحب إليه من حجه إلى بيت الله الحرام، وغاب عن هؤلاء مفهوم العبادة الحق الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، فلما فسد تصور العبادة على هذا النحو وأصبحت قاصرة مبتورة المعنى فارغة المحتوى وقع هؤلاء في عبادة الشيطان وهم لا يشعرون تماما كما فسد مفهوم الشرك في حس الناس وأصبح هو تلك الصورة الساذجة التي تعلمناها في المدارس ويعرضونها في الأفلام التي يسمونها دينية - أنه أن يسجد الإنسان لصنم أو حجر وفقط فلما زالت هذه الصورة الساذجة أصبحنا - كما نعتقد أئمة التوحيد ووقع علينا قول ربنا: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف:106].
وأُولى صور عبادة الشيطان التي وقع فيها هؤلاء وهم لا يشعرون عندما أعرضوا عن شريعة الرحمن وآثروا عليه شرعة الجاهلية والشيطان، فنحوا شرع ربهم وحاربوا سنة نبيهم ورضوا بحكم الجاهلية وهم يزعمون أنهم - رغم ذلك - مؤمنون ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً [النساء:60-61].
ومن هذه الصور ظنهم أنهم يمكنهم أن يتخيروا من الإسلام ما يشاءون ويدعوا منه ما لا يوافق أهواءهم فيقولون مثلا: نطبق الإسلام في بعض المجالات مثل الأحوال الشخصية أو بعض السلوكيات والعلاقات الاجتماعية، أما في الاقتصاد، وأما في السياسة، وأما في العلاقات الخارجية.. فيقولون: لا، لأنه لم يعد يصلح، فاقتصاد العالم قائم على الربا وسياسة الدولة وعلاقاتها على ميثاق الأمم المتحدة وهلم جرا.
وهؤلاء متبعون خطوات الشيطان بنص كلام ربنا جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان [البقرة:208]. أي ادخلوا في الإسلام ظاهرا وباطنا، قلبا وقالبا في كل شئونكم وأحوالكم وعلاقاتكم، وإلا فأنتم متبعون خطوات الشيطان إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر [محمد:25-26]. فكيف بمن يطيعونهم في الأمر كله؟!
ومن عبادتهم له أيضا إشاعتهم للعري ونشرهم للفجور وحبهم إشاعة الفاحشة في المؤمنين وهم إن لم يصرحوا بذلك بألسنتهم إلا أن أفعالهم خير دليل على ذلك، ويكفي أن تطالع وسائل الإعلام أو أن تنظر إلى مفاسدهم وعملهم في نشر الكفر والعقائد الباطلة نساء عاريات وصور فجور وزنا ودعارة ومحاولة تغليف ذلك بأغلفة الفضيلة والشرف وهؤلاء عباد للشيطان متبعون خطواته كما قال الحق جل وعلا: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون [النور:19]. ثم حذر الذين آمنوا من سلوك سبيلهم وسبيل شياطينهم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر [النور:21].
ومن صور عبادتهم للشيطان محاداة الله ورسوله والصد عن سبيل الله ومحاربة أوليائه وتشويه صورهم والتنكيل بهم، في الوقت الذي يوالون فيه أعداءه ويعظمونهم ويقربونهم.(48/7)
واستمع إلى قول الحق وهو يصف من كان هذا سمته وصفته بأنه من حزب الشيطان .. ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويظنون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلِّين [المجادلة:14-20].
فهما حزبان لا ثالث لهما: إما حزب الله وجنده وعبادته وحده والدعوة إليه، وإما حزب الشيطان والدعوة إلى سبيله والصد عن سبيل الله الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً [النساء:76]. فكل هذه صور لعبادة الشيطان يقع فيها كثير من الناس.
وأما هذه الصورة التي ظهرت في الآونة الأخيرة فهي ثمرة خبيثة لهذا الغراس النكد الذي زرعه وتعهده أولئك المستنكرون يوم أن حاربوا منهج الله، يوم أن حاربوا الفضيلة وجعلوا يربون النشء تربية مبتوتة الصلة بالله عز وجل، ويحذفون من مناهج التعليم كل ما يربط النشء بربه، حتى السلام حذفوه من المناهج لأنه تحية الإسلام وأبدلوه بغيره، يوم أن زينوا للفتاة التبرج والسفور وحاربوا الحجاب والمحجبات وضيقوا عليهن وحرموهن من دخول المدارس والجامعات، يوم أن بثوا سمومهم ليلا ونهارا وسرا وجهرا في وسائل إعلامهم، ويوم أن سمحوا بأجهزة استقبال الفساد والفجور والكفر والإلحاد يوم أن شوهوا صورة الإسلام ودعاته وجعلوا التمسك بسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم تطرفا وإرهابا وبثوا في نفوس الشباب أن التمسك بسنن أئمة الفساد والضلال: مدنية ورقي، يوم أن حالوا بين دعاة الخير حملة منهج الرحمن، حالوا بينهم وبين الطلبة والطالبات في المدارس والجامعات لينفرد بهم دعاة العلمانية وأصحاب الشهوات، ثم بعد ذلك يستنكرون ويعجبون، وربما هذا الاستنكار والعجب محاولة منهم لامتصاص غضبة الشعوب المسلمة أن يظهر بين ربوعها هذا الكفر الصريح، وإلا فإنهم في الوقت الذي ينكلون فيه بكل داعية دون التفريق بين صغير وكبير أو شيخ أو امرأة أو طالب أو غيره ويطالبون باستخدام أقصى العقوبات مع هؤلاء مع عباد الرحمن فإنهم يلتمسون الأعذار لعبّاد الشيطان، فيرون أنهم شباب مغرر بهم وأنهم لا يعرفون ما يقولون .. وهكذا، يا سبحان الله!! إننا نطالب هؤلاء أن يعاملوا عباد الرحمن وأن يتلمسوا لهم الأعذار كما يعاملون عباد الشيطان وأن يعاقبوهم كما يعاقبون هؤلاء ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [البقرة:204-205]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه عليه الصلاة والسلام، فهدى به من الضلالة، وجمع به من الشتات، وألف به من الفرقة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق أولياءه الوعد بالنصر على أعدائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم رسله وأنبيائه. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أمة الإسلام: يا أمة تقتل نفسها بنفسها وتقود أبناءها إلى الهاوية ،إذا كان الله عز وجل حرم وأد البنات وقتل الأبناء فإن أعظم منه أن يتركوا هكذا حتى يصل بهم الأمر إلى العبادة الصريحة للشيطان، وكلنا عرضة لأن يصيب أبناءنا ما أصاب هؤلاء إذا استمر أولياء الأمور في غفلتهم عن رسالتهم التي أناطهم الله بها والتي أمرهم بالقيام بحقها كما قال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً [التحريم:6]. وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته))(1)[1].
ولكن للأسف الشديد لقد تحول اهتمام الآباء والأمهات إلى جانب واحد فقط وهو الحرص على تعليم أبنائهم الأمور الدنيوية فقط، وأغفلوا تربيتهم تربية إسلامية وتعليمهم أمور دينهم وشرع ربهم، وهم لا يعلمون أنهم بذلك سيخسرون الدنيا والآخرة.
أما الآخرة فلإعراضهم عن ربهم وأما الدنيا فإنه لا صلاح لها إلا بصلاح الدين، فعلى أولياء الأمور إن أرادوا حفظ أبنائهم من هذه الطرق المعوجة التي تقودهم إلى الهاوية فعليهم أن يراجعوا موقفهم فيتعهدوا أبناءهم ويحرصوا على تعليمهم الصلاة والصدق والحياء وسير السلف الصالح ولتكن وصية لقمان لابنه نبراسا ومنهاجا لكل أب ومرب وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه الآية [لقمان:13].(48/8)
ومن ذلك أيضا صونهم عن وسائل الإفساد من تلفاز ومجلات ماجنة وتافهة وإبعادهم عن أصحاب السوء وأماكن الفساد، ثم عليهم أن يتفقدوا المناهج التي تعطى لهم وما فيها من أمور تخالف شرع الله جل وعلا، فيحذروهم ويبينوا لهم المنهج الحق ثم عليهم أن يحضوهم على الفضائل والطاعات وذكر الله عز وجل، ومن أعظم ذلك الصلاة والقرآن.
ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة الآية [التحريم:6].
__________
(1) أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
===============(48/9)
(48/10)
مقالات عن عبدة الشيطان
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 6013)
رقم الفتوى 36308
تاريخ الفتوى : 19 جمادي الثانية 1424
السؤال
أبحث عن موضوع عبدة الشيطان وحكم الدين فيهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد كتبت الشبكة عدة مقالات عن عبدة الشيطان، يمكنك الوصول إليها بالدخول على محور العقيدة من الصفحة الرئيسية، ثم بالدخول على (أديان وفرق ومذاهب)، ثم بالدخول على العناوين التالية: - عبادة الشيطان الجذور التاريخية. - ظاهرة عبدة الشيطان العرب أسبابها وطرق علاجها. - عبدة الشيطان المعاصرون التعريف والأفكار. - عبدة الشيطان المعاصرون طقوسهم التعبدية (مقالين 1 - 2). والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============(48/11)
(48/12)
عبدة الشيطان
مجلة البيان - (ج 111 / ص 1)
العبثية وغيبة الهدف اللتان تسيطران على الحياة الغربية، أوجدا تصدّعاً نفسيّاً، وخواءً روحيّاً سيطرا على الناس هناك، وظهرت آثاره في التخبط الفكري الذي يعيث في نفوسهم فساداً، ولهذا تعددت المنظمات الفكرية و(الروحية)، وتباينت معتقداتها وتوجهاتها.. حتى إن بعضها تتبنى عبادة الشيطان!، وتمارس كل أنواع التفلت والشذوذ.
والغريب: أنّ تلك المنظمات سعت لتصدير هذا الفكر المنحل إلى بعض البلاد الإسلامية، تريد غزوها في عقول شبابها، والأكثر غرابة: أن منهم من استجاب لهذه الدعوة، فقد أعلن مؤخراً في (مصر) عن ضبط تنظيم لـ (عبدة الشيطان) من أبناء طبقة الفنانين والمسؤولين ـ كما ذكرت الصحف ـ، كما أُعلن أن للتنظيم صلة ببعض تلك المنظمات الغربية، وبغض النظر عن الدوافع السياسية التي دعت مصر لاعتقال بعض أفراد هذا التنظيم، وتصعيده إعلاميّاً، فإنه يدل دلالة واضحة على عمق الانحراف النفسي والفكري الذي ينخر في نفوس بعض الشباب.
ولنا أن نتسأل: هل الدولة بكافة فعاليتها معفاة من تلك المسؤولية..؟!.
إن هذا التخبط الفكري والخواء النفسي نتيجة حتمية لسياسة التغريب والعلمنة المكثفة، وفتح أبواب العبث والانحلال على مصاريعها، كما أنه نتيجة حتمية لسياسة تجفيف المنابع، وملاحقة منابر الدعوة الإسلامية، خاصة أن التحقيقات المعلنة ذكرت بأن تعاطي المخدرات، وارتياد الخمارات، ودور اللهو، والشاليهات السياحية..!! سلوكيات رئيسة في تجمعاتهم.
ولعله يتسنى رصد أشمل لهذه الظاهرة في عدد قادم ـ إن شاء الله ـ.
=============(48/13)
(48/14)
اكثر من 20 فيلما سنويا يكون الشيطان فيه هو الخط الرئيسي
في السينما الأمريكية
نور الإسلام_ الجمعة22/12/2006_ رغم أن الإسلام يعطي صورة كاملة لهذا المخلوق الذي تم طرده من رحمة الله لانه تكبر وعصى، لكن لا تزال النظرة الأسطورية تسيطر على تصوير شخصية الشيطان في السينما فهي تحاول ان تستعين دائما بالشكل الاسطوري والذي بالمناسبة يقترب في بعض نواحيه من الفكرة الدينية لأننا نعرف طبعا ان السينما الامريكية سينما علمانية لا تهتم من قريب او من بعيد بالشكل الديني. وبالرغم من ان هناك حالة من التمسح في الدين ظهرت الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ لكن عامة هذه حالة مؤقتة لان السينما الأمريكية بالأساس سينما علمانية لكن هذا يجعلنا نتساءل لماذا اقبلت السينما على هذه الشخصية تصورها بهذه الغزارة حتى انه اكثر من 20 فيلما سنويا يكون الشيطان فيه هو الخط الرئيسي وتشكل هذه الأفلام حلقه من المخرجين يبحثون عن القصص والسيناريوهات الجديدة في هذا الموضوع ونستطيع ان نحدد الأسباب التي تدفع السينما عن هذه السيناريوهات، فبعض الافلام التي يتم انتاجها لجماعات متطرفة معينة مثل (عبدة الشيطان) و(كنيسة الشيطان) وهي بالمناسبة ليست جماعات جديدة بل بعضها يرجع لاكثر من 700 سنة لانها بالأساس جماعات مارقة كان لها فيما مضى افكار فلسفية عميقة.
الموضوع الاول وهو الحديث الدائم عن محاولة بعث الشيطان مرة اخرى ليحكم الارض هذا الموضوع الذي نجده يظهر في السينيما في العشرين سنة الاخيرة (494 مرة) أي انها ظهرت بشكل مكثف جدا مما يدعونا للاعتقاد ان الموضوع خرج عن دائرة الحدوتة لدائرة التلميح لممارسات تحدث في الواقع وهذا بالطبع ما اردنا ان نقوله لان الشعب الامريكي يضم اكثر من 20 طائفة تقدس الشيطان وهذه القضية ما هي الا اسقاط على الواقع وسوف ندلل على ذلك بشيء بمعادلة بسيطة جدا وهي الكونجرس الامريكي والذي يعتبر حصن الديموقراطية المنزهة (كما تحاول ان تثبت الادارة الامريكية على الاقل) 39 % من محتويات مكتبة الكونجرس عبارة عن كتب تراثية ومخطوطات عن الشيطان (عبادته - طبيعته - طريقة معاهدته) ومن اشهرها مؤلفات كتاب القرن ال15 الذين اشتهروا بممارسة السحر الاسود مثل جون ديي وجيورداني برونو على سبيل المثال لا الحصر وبالتالي لك ان تتخيل ان الشعب الامريكي تنتشر بين بعض طوائفة هذه الممارسات بالفعل نتيجة لحالة التنصل الديني لانه الحومة طرحت بشكل ضمني منذ بدايتها مشروع علمنة العقل البشري (وهذا ما بدات تمارسه بالفعل خارج حدودها بكل الوسائل) أي ان الحكومة منذ اكثر من 120 عاما تحاول خلق هذا الجو العلماني البحت وبتالى انتشرت هذه الافكار في غياب الوازع الديني وتحولت هذه الافكار للمماراسات تدعمها الكتابات التراثية للسحر الاسود وهناك اماكن شبه شرعية في معظم انحاء امريكا لممارسة بعض الطقوس الشاذة وبعضها يطلق عليها تشيرش ديفيل (كنيسة الشيطان) والبعض الاخر يمارس تحت مذاهب منشقة مثل (البيوريتان) وبعض المنشقين على طائفة الادفينتيست ومنها رقصة النجمة (والنجمة العبرانية الخماسية ذات الاتصال بالبروج) احد رموزه القوية ولها مدار تراثي قديم وبالتالي السنيما تحاول ان تسقط على الواقع فليس كل ما تروية حدوتة محبوكة، يذكر أن إحدى الناشطات في حركة عبدة الشيطان تقول لبوش »سر في طريقك فالشيطان راضٍ عنك«.
ونعرج هنا على محطة قوية في معالجة شخصية الشيطان وهي في الحقيقة معالجة مزدوجة ناتجة عن التأثر ببعض المماراسات الحقيقية والتي انتشرت في الثلاثين عاما الاخيرة في اوروبا وامريكا ويجب ان نقول ان هناك بعض الجماعات الدينية تؤمن بحلول الشيطان او احدى مساعديه في الاجساد البشرية وان هناك محاولة من جانب الشيطان للسيطرة على العالم وبالطبع تنتشر هذه الاعتقادات بين العوام.
لبعض الحقائق بالأرقام في أمريكا والمجتمع الغربي.
17 مليون مواطن أمريكي هم مجموع أتباع الطوائف التي تقدس الشيطان
105 ملايين مواطن أمريكي بين ملاحدة وعلمانيين
70 مليون مواطن أمريكي لا يؤمنون بالبعث
47 % من سكان أوروبا يعانون هلاوس بصرية وسمعية (اما بشكل مرضي او نتيجة لتعاطي الكحوليات والمخدرات والأدوية العصبية(.
1282 مكانا رسميا على مستوى العالم تمارس فيه عبادات تقوم على تقديس الشيطان والأنفس السفلى.
الدستور الأمريكي يعطي حرية اختراع كل فرد لدين خاص به.
وهذه الإحصائيات رسمية وموثقة (مركز دراسة تطور الأديان واشنطن) وهناك أيضا إحصائية أخيرة أحب ان اختم بها. وهي وسط كل هذا الزخم من الشيطانيات من نفس مركز الدراسات:
- الإسلام أكثر الديانات انتشارا في العالم بعد تقلص انتشار اليهودية والمسيحية والبوذية (4.3 % سنويا) واقل نسبة مرتدين على الاطلاق.
=============(48/15)
(48/16)
عبدة الشيطان المعاصرون .. التعريف والأفكار
نقلا عن الشبكة الاسلامية
ربما ظن البعض للوهلة الأولى أن عبدة الشيطان ما هم إلا جماعة من المغرقين في الانحراف من غير أن يكون لانحرافهم أي سند فكري يستندون إليه ، والحقيقة أن هذا الانطباع بدائي جدا في تصور هذه الجماعة وهو في ذات الوقت تهميش وتسطيح لهذه المشكلة الخطيرة ، فجماعة عبدة الشيطان جماعة منتشرة في العالم وخاصة العالم الغربي في أمريكا وروسيا وأروبا ولهم كنائس عديدة، بل إنهم في أمريكا وغيرها جماعة معترف بها وتتلقى مساعدات رسمية كغيرها من الأديان .
وهي جماعة منظمة بشكل جيد، يفوق تنظيمها حسب تقدير البعض تنظيم عصابات المافيا ، ولها أفكار وأعياد وشعائر يحافظ عليها أتباعها وينشطون في الدعوة إليها . واعترافا منا بخطر هذه الجماعة على البشرية عامة وعلى أمة الإسلام خاصة، فقد حاولنا أن نعرِّف ببعض أفكارها، وننقل بعضا من شعائرها وأهدافها وطرق استقطابها للمنضوين الجدد تحت لوائها، حتى يحذر المسلم هذه الجماعة التي تعتبر شر ملل الكفر على الإطلاق عقيدة وسلوكا .
التأسيس
يزعم البعض أن ثمة صلة بين عبدة الشيطان المعاصرين وبين الغنوصيين الذين ظهروا في القرن الأول الميلادي وعظموا الشيطان وجعلوه مساوياً لله في القوة، وقد قامت الكنيسة بإبادة هؤلاء والتخلص منهم ، ولعل آخر فلولهم كانت " طائفة الكثاريين " الذين شن عليهم البابا " أنوسينت " حربا دامية دامت عشرين سنة ، وتتابع الباباوات بعده على حربهم حتى تمَّ القضاء عليهم في القرن الثالث عشر على يد "غريغوريوس" التاسع .
وقد ظهرت بعد ذلك حركات تمثل هذه الجماعة إلا أنه تم القضاء عليها أو اندثرت، إلى أن ظهر في القرن التاسع عشر الميلادي ساحر إنجليزي يدعى " أليستر كرولي " ( 1875م - 1947م ) وكان ينادي بعبادة الشيطان ، وألف كتاب القانون الذي دعا فيه إلى تحطيم الأسس والقواعد الأخلاقية التي تحكم المجتمعات، ودعا إلى الإباحية الجنسية ، واستخدم كرولي 150 ضحية بشرية في طقوسه السحرية .
وعلى الصعيد الرسمي فقد كان اليهودي "أنطوان لافيه" أول من أسس كنيسة رسمية للشيطان سنة 1966م في سان فرانسسكو بأمريكا.
عقيدة أو أفكار عبدة الشيطان
لعبدة الشيطان أفكار اعتنقوها وجعلوا منها عقيدة يدينون بها، وهذه الأفكار عبارة عن رؤية للكون والإنسان والشيطان ، فالكون عندهم أزلي أبدي ، والإنسان صورة مصغرة منه ، وهم يدَّعون أن الحياة التي نعيشها " حياة الجسد والدم " ما هي إلا سلسلة لا تنتهي من حلقات الحياة ، الجسد..النفس.. الذات..العقل..الروح....الخ ، وعلى الإنسان أن ينطلق رقيا في هذه الحلقات ، ويرون أن الترقي لا يكون من المنزلة الأحط إلى المنزلة الأعلى إلا عن طريق إشباع المنزلة الأحط برغباتها وشهواتها حتى الشاذ منها، فلا شيء اسمه خطيئة ولا شيء اسمه شر ومنكر ، فكل ما يحقق شهوات النفس ورغباتها هو مطلوب عند عبدة الشيطان حتى يحصل لهم الترقي في درجاتهم المزعومة .
وعليه فلا أثر للموت بأي طريقة كانت، ولو كانت حرقا أو انتحاراً، لأن الموت في نظرهم ما هو إلا وسيلة للانتقال من درجة إلى أخرى، لذا فهم لا يتورعون عن القتل وسفك الدماء، بل يعدون قتل البشر -لا سيما الأطفال منهم لأنهم الأطهر - هي القرابين الأفضل للتقرب إلى الشيطان .
وغايتهم من عبادة الشيطان الدخول إلى ما يسمونه " عالم النور " وذلك عن طريق الدخول في حالة من النشوة والكمال أو الصفاء الذهني ، وللوصول إلى هذه الحالة يستخدمون الموسيقى والخمور والمخدرات والعقاقير وبالطبع الممارسات الجنسية الطبيعي منها والشاذ أيضا ، الفردي والجماعي .
ولعبدة الشيطان مراتب يترقون فيها، تبدأ من المرتبة الأولى التي لا يدخلها العضو الجديد إلا بعد اجتياز اختبار مقزز ومنفر ، وهكذا كل درجة لا ينالها العضو إلا باختبار، وكل اختبار أصعب من الذي قبله حتى يصل إلى المرتبة السابعة التي لم ينلها إلا عدد يسير منذ سنة 1745م .
وأما نظرة عبدة الشيطان إلى معبودهم "الشيطان"، فهم يرون أن الشيطان يمثل الحكمة، ويمثل الحياة الواقعية لا حياة الخيال والأوهام ، ويمثل كل الخطايا والسيئات التي تقود إلى الإشباع الجسدي والفكري ، والشيطان يمثل كذلك الانتقام لا التسامح ، لذلك فهم يتخلقون بأخلاقه ويقصدون سلوك طريقه، فمن وصاياهم مثلا :
• تدمير كل من يحاول مضايقتك بلا رحمة " الانتقام " .
• المبادرة الجنسية طالما سنحت الظروف وخاصة مع المحارم " الاشباع الجنسي "
• الاعتراف الكامل بالسحر والإيمان المطلق بالطقوس السحرية .
ومن أفكارهم المساواة بين المتضادات من الحب والبغض والخير والشر والماديات والروحانيات والألم والسرور والحزن والفرح ..... وعلى عابد الشيطان أن يستميت لكي يحقق هذا التوازن بين تلك المتضادات ، وهو أمر عسير على النفس لأنه محاولة لتغيير خلق الله عز وجل ، وما جعل الله لبشر سبيلا لتغيير خلقه .(48/17)
هذه جملة من عقائد تلك الجماعة المنحرفة، وإننا نرى أن نقف وقفات مع هذا الانحراف الفكري وما يتبعه من إنحراف سلوكي كي لا يغتر به ضعيف العقل فيتخذ منه عقيدة وسلوكا، فنكون سببا في الإضلال من حيث أردنا أن نكون سببا في الهداية ، فنقول وبالله التوفيق :
الوقفة الأولى : نحمد الله تعالى أولا أن هدانا لدينه وجعلنا من أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم
الوقفة الثانية : لا ينبغي أن يقف أمام هذه الترهات التي يعتقدها هؤلاء المسخ من كان يؤمن بالله سبحانه وبكتبه ورسله، بل عليه أن يردها جملة وتفصيلا ، وما وقفتنا هذه إلا لقطع الطريق على عبدة الشيطان أن يغروا الجهلة والسذج من الناس .
الوقفة الثالثة : نظرتهم إلى الكون بأنه أزلي أبدي نظرة غير صحيحة، وهي غير قائمة على أي دليل أو برهان، فضلا على أنها دعوى اتفقت الأديان السماوية والحقائق العلمية على إبطالها، وإثبات أن الكون محدث وهو إلى فناء ، فمن أين لهم أن الكون أزلي أبدي ؟!! .
الوقفة الرابعة : موقفهم من الشيطان لا يستند إلى أي حجة عقلية، وإنما يعتمد على إيحاء الشيطان لهم ، فضلا عن مخالفته لما جاءت به الأديان السماوية من موقفها من الشيطان، وأنه مصدر الشر ومنبع الضلالة . الوقفة الخامسة : اعتقاداتهم وأفكارهم لا تقوم على منهج علمي وإنما هو السفه والجنون والإغراب، والوحي الشيطاني هو الذي يوجه سلوكهم فأي خير للبشرية فيهم .
الوقفة السادسة : عقائدهم وسلوكياتهم مؤذنة بفساد العالم وخرابه ، وتأمل معي عندما يتحول البشر إلى قتلة ومغتصبين، يأكل بعضهم لحم بعض، ويغتصب بعضهم نساء بعض ، ويسرق بعضهم أموال بعض، لا توجد عندهم طهارة ولا يوجد في قاموسهم شر يجتنبوه ولا خطيئة يبتعدوا عنها ولا خير يفعلوه ، إن الغابة التي يسكنها سباع الطير والحيوان لهي أهون من العيش في عالم يسكنه هؤلاء، فالحيوان على الأقل لا يأتي أمه ولا يعتدي عليها، وهؤلاء ليس عندهم حرمة ولا يتورعون عن باطل .
نسأل المولى عز وجل أن يحفظ المسلمين بل والبشرية جمعاء من هذه العقائد الضالة والنِّحل الفاسدة، وأن يهدي الناس إلى الدين الحق دين صلى الله عليه وسلم الذي جاء بتعظيم الله وتبجيله، وإبعاد الشيطان وتحقيره.
مصادر المقال :
• كتاب عباد الشيطان ليوسف البنعلي .
• مقالات متفرقة من المجلات والصحف .
• مواقع الإنترنت .
==============(48/18)
(48/19)
ظاهرة عبدة الشيطان العرب .. أسبابها وطرق معالجتها
نقلا عن الشبكة الإسلامية
لقد شعر الجميع بالصدمة عندما تناقلت وسائل الإعلام من صحف ومجلات خبر تلك الكارثة التي ظهرت على السطح بإعلان الشرطة في بعض البلاد العربية القبض على مجموعة تنتمي إلى جماعة عبدة الشيطان حيث قبضوا عليهم متلبسين بهذا الجرم المشين .
فكانت صدمة عنيفة أحدثت في المجتمع المسلم رجة ، خلخلت دعائمه وأسسه ، وغدا المصلحون من هول الصدمة يتحسسون مكامن الداء وأسبابه ودوافعه ، ما الذي أخرج من بين ظهراني المجتمع المسلم هذه الشرذمة القذرة التي تتخذ من الشيطان إلها - أيا كانت فلسفتها في تفسير هذه العبودية - ، ما الذي دفع هذه الطائفة من الشباب إلى الإعراض والتولي عن دين المجتمع وقيمه وأخلاقه ، دون أن يبالوا بذلك أو يستشعروا الخوف والرهبة من الإقدام على هذا العمل الشائن .
كل هذه الأسئلة دفعت المصلحين والباحثين إلى تلمس هذه الأسباب بغية معالجتها، وقد ذكر كلٌّ وجهة نظره في ذلك، وهي وإن بدت مختلفة إلا أنها كلها يمكن أن تعدَّ أسبابا مباشرة أو غير مباشرة في بعث هذه الظاهرة .
ونحاول في هذا المقال أن نضع أيدينا على بعض تلك الأسباب التي ذكرها المصلحون والباحثون بغية معالجتها، ووضع الحلول لها، مع الإشارة إلى أن ما بدا من مظاهر هذه الظاهرة ربما لا يشكل إلا جزءا يسيرا من حقيقتها، ولعل الأيام تكشف لنا ما كان خافيا . فمن أهم أسباب بروز هذه الظاهرة في مجتمعاتنا :
1- إهمال التعليم الإسلامي : وهذا الأمر يتعلق أصالة بالتربية الأسرية ، فكثير من الأسر لا تهتم بل لا تبالي أصلا بتعليم أبناءها الإسلام، ولا تحثهم على التمسك به ، ولا تقدم لهم القدوة الصالحة في هذا الإطار، بل تدفع بهم تجاه التغريب ، فينشأ الطفل أبعد ما يكون عن الجو الإسلامي الذي يزرع في نفسه الخوف من الله وحب القرب إليه.
2- تحقير أهل الدين وإظهارهم بمظهر الشواذ عن المجتمع : وهذه نقولها صريحة، وهي جريمة ترتكبها كثير من وسائل الإعلام ، حيث يظهر - بتعميم مقصود - الشيخ كدرويش ساذج، ليس له إلا عمامته ومسبحته وهو أبعد ما يكون عن قضايا الناس وهموهم ، هذا إذا لم تسخر بعض وسائل الإعلام بالمظهر الإسلامي وتنفر الناس عنه، بل إن بعضها ليبلغ به الكفر والزندقة إلى الاستهزاء بأحكام الدين وفرائضه وآدابه .
3- غياب القدوة الصالحة وإحلال القدوة الفاسدة مكانها : وهذا نتيجة حتمية لما ذكرناه آنفاً من الاستخفا بأهل الدين والاستهزاء بهم ، فمن البعيد أن يقتدي الشاب - الذي ينظر إلى الحياة بمنظار الإعلام الفاسد - بشيخ مسلم، بعد أن شوه الإعلام صورته، وفي المقابل يجد الشاب كثيراً من وسائل الإعلام تجاهد وتناضل لإبراز قدوات فاسدة للشباب ذكورا وإناثاً ، وإظهارهم بمظهر التحضر والأناقة ، وأنهم هم وجهاء المجتمع وحماته ، في حين أنهم خواء من ذلك كله .
4- ظهور المباديء الكفرية باسم الحرية الفكرية : وهو نتيجة كذلك لتغييب الدين بمادئه السامية، فتجد الكل حراً في نشر ما عنده من سموم الأفكار والخيالات والأوهام، حرية لا يجد خمسها - وربما أقل - صاحب المبدأ الصحيح " الإسلام "، فتفتح لأصحاب الضلالات الفكرية المشككة في الإسلام المجلات والفضائيات لينشروا سمومهم تحت مسمى الإبداع والحرية . فانتشرت بين الناس المبادئ الهدامة ، وأصبحت المبادئ كالثياب تلبس في يوم وترمى في آخر، وكما أن لكل زمن موضة في اللباس كذلك لكل زمن موضة في الأفكار، وكل ذلك يجري تحت مسمى الحرية الفكرية أو قل الحرية الكفرية .
5- مواقع عبدة الشيطان على الإنترنت : وهي وسيلة لنشر دعوتهم من جهة ولتحقيق التواصل بينهم من جهة أخرى ، وهي وسيلة شيطانية كذلك للتخفيف النفسي على أولئك الذين يعيشون في بيئات ومجتمعات إسلامية ، حيث يوفرون لهم الغطاء النفسي لإنحرافهم .
6- الاختلاط بالكفار عموما : وهذا من أعجب العجب، وهو أن يتأثر المسلم بأفكار الكفار الفاسدة، ولا يؤثر على الكفار بأفكاره النيرة الصحيحة، ذلك أن ما يحمله المسلم من نور وهدى كان الأجدر به أن يدفعه إلى التأثير الإيجابي على الكفار الذين يخالطهم ، لا أن يتأثر سلبا بأفكارهم وضلالتهم ، وقد أظهرت التحقيقات مع عبدة الشيطان في مصر أن بعضهم أخذ تلك الأفكار عن طريق اليهود نتيجة اختلاطهم بهم .
وليس علاج هذا أن يمتنع المسلم عن مخالطة الكفار طالما أن له مصلحة مباحة في ذلك ، ولكن العلاج يكمن في معرفة المسلم بدينه، وتسلحه بتلك المعرفة في مواجهة الأفكار الضالة والآراء المنحرفة ، حتى إذا التقى بكافر أو ضال كان ما عنده من العلم بدينه حافظاً له من الانسياق وراء الأفكار الضالة، بل إنه سيصبح داعية إلى الحق والهدى ، مبطلا لما عند الكفار من العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة . أما إن أبى إلا الجهل بدينه فلن تزيده مخالطة الكفار إلا ضلالا وربما ألقاه جهله في مهاو سحيقة من الكفر والضلال .(48/20)
7- الفراغ والغنى وغياب الهدف الإسلامي من الحياة : فكل هذه الأسباب تدفع بالإنسان إلى التخبط في ضلالات الأفكار والعقائد ، فتراه يعيش حياة بلا معنى ولا هدف، فلا يدري أين يتجه ولا على أي طريق يسير .
فهذه بعض الأسباب المباشرة وغير المباشرة في ظهور عبدة الشيطان بين ظهراني المجتمعات الإسلامية ، ولعل علاج تلك الظاهرة يلوح في أفق من قرأ تلك الأسباب ووقف على حقيقتها، وهو علاج مجمله في العودة إلى ما شرعه لنا ربنا سبحانه وتعالى، ويأتي في مقدمة ذلك تربية الطفل تربية إسلامية صحيحة بملء قلبه بحب الله عز وجل وحب رسول صلى الله عليه وسلم وحب دينه ، ثم مراعاة تعليمه تعليما إسلاميا صحيحا، لا تعليما دنيويا فارغا من كل القيم الإسلامية، ثم لا بد من الاهتمام بالإعلام وتوجيهه توجيها إسلاميا يدعو إلى الفضيلة ويحارب الرذيلة، وأن يعتني بتقديم القدوات الصالحة للشباب ، ثم قيام الدولة بدورها في حماية المجتمع من شذوذات الأفكار وشذوذات الأخلاق، وألا تدع الحبل على غاربه بدعوى تمسكها بحرية زائفة لا تراعي خصوصيات المجتمع ودينه، ومما ينبغي أن يهتم به الإعلام إضافة إلى ما تقدم شحذ همم الشباب لغايات نبيلة دينية ودنيوية لتكون دافعا لهم للقيام بواجباتهم ومسئولياتهم المنوطة بهم .
كل هذه الخطوات لو طبقت تطبيقا صحيحاً، وعُمل بها في مجتمعاتنا فإننا على يقين بأن ظواهر كظاهرة عبدة الشيطان لن يكون لها حظ في الاستيلاء على فكر وقلب واحد منا .
وعندها فقط لن نصطدم بمثل هذه القاذورات لأنها لن تظهر في مجتمعاتنا ، أما وحال مجتمعاتنا الإسلامية كما لا يخفى، فإن الوضع لا يبشر بخير، وما زلنا نسمع هنا وهناك بروز بعض من هذه الفقاعات النجسة ، ذلك أن المجتمع مليء بأسباب ظهورها .
وأخيرا نقول إن حجم الخطر كبير، ومعالجته ينبغي أن تكون في مستوى ذلك الخطر، فهل نستجيب لديننا ونرجع إليه فهو الحصن الحصين لنا من الانهيار والارتداد إلى حمأة الجاهلية المنحطة، نسأل المولى عز وجل أن يرأف بعباده وأن يهدي ضالهم ، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين .
===============(48/21)
(48/22)
الإرهاب الأمريكي البداية والنهاية
المهندس/ حسني إبراهيم الحايك 25/1/1424
28/03/2003
1- المقدمة:
إن المضحك والمبكي في عالمنا الحاضر، عالم ما يسمى بالقطب الواحد، الذي تتحكم به طغمة مهووسة من اليمين الأمريكي المتصهين،والذي يخضع كلياً لمفاهيم توراتية خرافية فرضت عليه إعلان الحرب على الإسلام، تحت مسميات جديدة منها الإرهاب. مع أن الولايات المتحدة تمارس الإرهاب بكافة أشكاله بموجب مسوغات تشوبها الاستخفاف بعقول البشر، وما يسمى بالحضارة الإنسانية.
أمريكا تعلنها حربا على الإرهاب. مع أن ظاهرة الإرهاب تعد من أقدم الظواهر التي هددت أمن البشرية على مدار تاريخها، ولعب اليهود دوراً بارزاً في ذلك ، من خلال إثارة النعرات وإشعال الفتن والحروب. كما أن الاندفاع نحو اتهام العرب والمسلمين بالإرهاب ومطاردتهم في عقر دارهم، إنما يعود ذلك إلى حقد عنصري مشحون بعداء صهيوني عقائدي متجذر في مجموعة كبيرة من المجتمع الأمريكي.
إن ظاهرة الإرهاب من الظواهر التي يجب محاربتها وخصوصا الإرهاب الصهيوني المتمثل بشقيه الصهيوني اليهودي والصهيوني المسيحي، مع التمييز بين أعمال الإرهاب الذي لا يعتمد على أسس إنسانية أو أخلاقية، وأعمال المقاومة المشروعة لتحرير الأرض والإنسان، أو الدفاع عن الحقوق الوطنية أو القومية لأي شعب. وهو نضال مشروع في القانون الدولي، بعكس الإرهاب الذي يهدف إلى بث الرعب في نفوس الآخرين، و الذي يؤدي إلى استخدام أعمال العنف ووسائل القتل والبطش والإبادة من دون تمييز ، بهدف ترويع المجتمعات والدول.ويكون لها غالباً دوافع آنية مرضية تخص مصالح المجموعة أو الدول التي تمارسها. كما هو حال الولايات المتحدة وإسرائيل .فالعوامل الذاتية لا الموضوعية هي التي تتحكم في ضبط مفهوم الإرهاب في هذا العالم أحادي القطبية الظالم.
2- منطق الإرهاب الأمريكي:
إن أغلب الأدبيات الغربية الصحفية والأكاديمية لا تميز بين حركات التحرر والأعمال الإرهابية، بين إرهاب الدولة كحالة إسرائيل والولايات المتحدة، وبين كفاح الشعوب المستضعفة ودفاعها عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وما يؤكد ذلك المفهوم الغربي الخاطئ، ما كتبه (روبرت كوبر) مستشار رئيس الوزراء البريطاني للشؤون الخارجية تحت عنوان "إعادة تنظيم العالم " مبرراً إرهاب الدولة بقوله: " أن التحديات التي تواجه الدول ما بعد المتقدمة تجعلها تستعمل فكرة ازدواجية المعايير، وتتعامل تلك الدول فيما بينها وفق نظم القوانين الأمنية لكن عندما يتم التعامل مع أكثر الدول تأخراً خارج دائرة الدول فوق المتقدمة، تكون الحاجة إلى التحول إلى الوسائل القاسية للعصور الأولى عبر القوة والهجوم المباغت والخداع، وبكل ما هو ضروري للتعامل مع أولئك الذين يعيشون في عالم القرن التاسع عشر… إننا فيما بيننا نتمسك بالقانون، لكن عندما نعمل في غابة يجب علينا استعمال قوانين الغاب."
وهذا هو منطق الإرهاب الأمريكي التي تقوده الآن إدارة بوش ضد العالم تحت شعارات مختلفة وبإلهامات شيطانية متعددة، ومنظريها دائماً الصهاينة ومرجعهم دائماً ما يسمى بالتوراة. فهذا الصهيوني (صموئيل هنتغتون) الذي أطلق نظريته "صراع الحضارات" والتي تنطلق من نفس المفهوم، والتي تستعدي صانعي القرار في الغرب ضد الحضارة الإسلامية . و نظرية أخرى لفوكوياما " نهاية التاريخ" والتي تمجد الحضارة الغربية وتعتبرها أفضل الحضارات، وأحق الثقافات بالبقاء. وبما أن الثقافة اليهودية انتشرت في أوروبا بعد أن كانت حكراً على بعض الحاخامات، على يد الحركة الإصلاحية التي نادى بها مارتن لوثر، وسادت بعد أن كثر أتباع هذا المذهب، فهذا يعني حسب رأي فوكوياما أن السيادة على العالم ستكون للصهيونية. ونظرية أخرى هي نظرية نهاية عصر الأيديولوجيات التي تبشر بسيادة واحدة، هي سيادة الأيديولوجية الأمريكية على سائر الأيديولوجيات.
3- الإرهاب على الإسلام:(48/23)
إنه لا شك إرهاب آخر بلباس عقائدي، فكري، أيديولوجي وثقافي، هدفه القضاء على كل المعتقدات وخصوصاً على الدين الإسلامي . حرب إرهابية عالمية مجرمة (هرمجدون) يقودها بوش على العالم الإسلامي. وكشفت عن ذلك مجلة " موثر جونز" في شهر حزيران 2002 حيث ذكرت: "أن العديد من الدوائر الثقافية الأمريكية المؤثرة، اعتمدت فكرة إشاعة التشكيك في القرآن الكريم من جانب المثقفين الغربيين" ، وانتقدت هذه المجلة عدم قيام العالم المسيحي، والإعلام الغربي عقب 11 سبتمبر، بالتشكيك في صحة القرآن الكريم، كحل لإنهاء ما يسمى بالتعصب الإسلامي وإيجاد بدائل له. وقد نجحت هذه الحملة في دفع العديد من الصحف والمجلات الأمريكية والغربية، والعديد من القساوسة المتصهينين للهجوم على الدين الإسلامي، واعتباره (منبع الشر)، الذي يغترف منه (الإرهابيون)، كما عادت القنوات التلفزيونية الأمريكية والمجلات والجرائد لنصب محاكمات للقرآن الكريم والهجوم عليه. والهجوم المجنون على الرسو صلى الله عليه وسلم ، والمطالبة بتدمير الكعبة المشرفة. فقد ذكرت مجلة (Is r ael Inside r ) :" أن الأمريكيين مثل الإسرائيليين يتميزون من بين الأمم، باحترامهم للحياة البشرية البريئة، وهم لا يستهدفون المدنيين عن قصد وإصرار! وإذا تضرر المدنيون عن غير قصد بسبب العمليات العسكرية تأسفوا على ذلك عن صدق…! ففي مكة يوجد برجان طويلان، في شكل (منارتين شامختين) تحيطان (بعلبة سوداء عريضة)، يعبدها المسلمون، ويتجهون إليها في حجهم المقدس، وإلى هذا الشيء الرمزي يتجه كل المسلمين في صلواتهم ، فلا بد من إقناع المسلمين بشكل لا لبس فيه أنهم لن يجدوا أي قبلة يتجهون إليها حينما يحنون ظهورهم لعبادة (إله الخراب) الذي يعبدونه"
وفي 6/1/2002 ظهر الشيطان الإرهابي الصهيوني (جيري فالويل)، (المعروف عنه إنه كاذب وانتهازي وعائد من أساطير وميثيولوجيات العهد القديم، والذي خدع الشعب الأمريكي حين قال لهم " "أن اليهودي هو بؤبؤ عيني الله ، ومن يؤذي اليهودي كأنه يضع إصبعه في عين الله" والذي قال لهم أيضا: " لا أعتقد أن في وسع أمريكا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقى في عالم الوجود، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهود.") ليقول:"أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً وأنه كان رجل عنف ورجل حروب". وأساء زعيم آخر للمسيحية الصهيونية وهو (بات روبرتسون) للرسو صلى الله عليه وسلم حين تحدث في برنامج (هانتي وكولمز) الذي تبثه قناة (فوكس نيوز) حيث اتهم الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه لص وقاطع طريق). وفي الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية في مدينة (سانت لويس) في ولاية (ميسوري) الأمريكية تحدث قطب آخر من أقطاب المسيحية الصهيونية وهو (جيري فاينر) بافتراءات آثمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم . وخدمة لنفس المخطط الشيطاني تحدث القس فرانكلين جراهام واتهم الإسلام بأنه"ديانة شر" حيث قال في 10/11/2002 :" ينبغي علينا الوقوف بوجه هذا الدين الذي يقوم على العنف… إن إله الإسلام ليس إلهنا، والإسلام دين شرير وحقير".
أستغفر الله العلي القدير، أنني ذكرت عبارات كتبها شياطين الصهاينة الملحدين، وذلك لكشف خططهم الجهنمية الإرهابية وما يخططون له ضد الإسلام والمسلمين وفضح إرهابهم الدموي المهووس. أنهم فئة من الناس اتخذت من الشيطان إلها فعبدته بأسماء مختلفة حسب كتابهم المسمى بالتوراة أو العهد القديم، فهو تارة يسمونه يهوه وتارة يسمونه إله إسرائيل، وتارة يسمونه رب الجنود، وتارة يظهرونه ضعيفاً متردداً غير واثق من نفسه يسير حسب أهوائهم الشريرة، ويقوم بأفعال شريرة ،وتارة يشركون معه آلهة أخرى كما ورد في كتابهم :" الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة، لأنه في الشيء الذي بغوا به كان عليهم". وتارة يصورونه لاجئاً يسكن خيمة يسير بها أمام شعب إسرائيل كما ورد في كتابهم:" وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلاً اذهب وقل لعبدي داود هكذا قال الرب. أأنت تبني لي بيتاً لسكناي. لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن". وتارة جاهل لا يعلم بما يعمل، ويتراجع ويندم عما فعل مثل "رأى الرب فندم على الشر".
عن أي إله يتحدثون أنه الشيطان الرجيم الذي حرك غرائزهم المجنونة، فمجدوا الرذيلة، ولعنوا الفضيلة ، وقلبوا موازين الأخلاق، حتى غدا التزوير والتدليس والكذب الصفات الملائمة للسياسة العالمية، التي تقودها الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي. ومن ضمن هذا التزوير مصطلح مكافحة الإرهاب. والحقيقة أن القائمين على فكرة مكافحة الإرهاب، هم أنفسهم من زرع كياناتهم الإرهابية على صدور أهلها المسالمين، ولعل أباده الهنود الحمر في أمريكا، وإبادة الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه لأصدق دليل على ذلك. أصبح النعت بالإرهاب من أسلحة العصر الحديث يستخدمها الصهاينة في مخططهم العالمي لمحاربة الإسلام، هذا نفسه منطق الإرهاب الأمريكي الذي تقوده الصهيونية المسيحية.
4- العهد القديم هو سبب الإرهاب العالمي:(48/24)
المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع شعوب العالم الأخرى، بل مع الشعب الأمريكي نفسه، فلذلك سنسلط الضوء على الأسباب والخلفيات والدوافع لهذا الإرهاب الأمريكي بشقيه الداخلي والخارجي. ومن أين أتى هذا الحقد على الله ورسله وأنبيائه؟ ومن أين أتت هذه العنصرية والتعصب الصهيوني الأعمى؟ ومن أين أتى هذا الإرهاب على الإسلام والمسلمين؟
يعتقد معظم الباحثين أن ما يسمى التوراة أو العهد القديم هو عصب العنصرية والتعصب والإرهاب الصهيوني بشقيه اليهودي والمسيحي. فالعهد القديم يذخر بأيديولوجية الحرب والإبادة والسحق والإرهاب، والحرب لا تذكر في العهد القديم كحالة دفاعية بل هي النموذج الواضح للإرهاب الحقيقي، من خلال الدعوة لسحق الشعوب وامتلاك أراضي الغير، والسيطرة على مقدرتها، والتحكم بها. والتي تدفع اليهود بالإيمان أنهم شعب الله المختار، والآخرين هم مخلوقات خلقهم الله على هيئة بشر ليليق بهم خدمة بني إسرائيل. إن العهد القديم مليء بالنصوص العنصرية التي تصف اليهود بذلك، ومن عداهم هم الأغيار. وفكرة الاختيارية غير المشروطة تتناقض مع السنة الإلهية كما وردت في القرآن الكريم، حين وصف رب العزة الأمة الإسلامية بالخيرية وجعلها مشروطة بقوله تعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". أما فكرة الاختيارية التوراتية فقد تحولت إلى مزاعم عنصرية عقيدية تقوم على الاصطفاء والاستثناء والاستعلاء والعداء وادعاء القداسة، وهذه المزاعم لا يمكن أن تصدر عن رب عادل حكيم. وهذا ما يؤكد أن الاختيارية عند أتباع العهد القديم ما هي إلا الهامات وآيات شيطانية كتبها الحاخامات والفريسيون من اليهود، فمثلا ورد في (أشعيا 61/5):" أما أنتم فتدعون كهنة الرب… تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون." وورد في (يوشع 23/12):" إذا رجعتم ولصقتكم ببقية هؤلاء الشعوب… فاعلموا يقينا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد أولئك الشعوب من أمامكم، فيكونوا لكم فخاً وشركاً…حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم الرب إلهكم" كما ورد في (العدد 33/55):" إن لم تطردوا أهل الأرض من وجهكم كان من تبقونه منهم كإبرة في عيونكم وكحربة في جنوبكم،ويضايقونكم في الأرض التي أنتم تقيمون بها". وأمام هذه العنصرية الواضحة، والتي تكرسه الصهيونية . (ألا يكفينا مراهنة على اتفاقيات السلام مع هؤلاء القتلة الإرهابيين الذين تحثهم توراتهم بأن يأخذوا الأرض كلها) ، ويشردوا ويبيدوا الفلسطينيين، كما أباد الأمريكان الهنود الحمر . ولكي نعلم أن في كلا الحالتين كان العهد القديم هو الدافع. ففي منتصف القرن السابع عشر ترسخ لدى المستوطنين الأمريكيين نموذج روحي لما يسمى العهد القديم العبري، فقد أطلق المستعمرون الأوائل لأمريكا على أنفسهم " أطفال إسرائيل" وهم في طريقهم إلى الأرض الموعودة ، واحتفلوا بيوم السبت كيوم راحة لهم ، وادعت طائفة ( المورمونية) وهي من طوائف البروتستانت أنها تاهت في صحراء أمريكا العظيمة، مثلما تاه اليهود في صحراء سيناء، واستقرت أخيراً في الأرض الموعودة في ولاية يوتاه، وغيرت أسم نهر كولورا إلى نهر باشان المذكور في التوراة.
ويؤكد الكاتب حسن الباش ذلك في مقالته (الأنجلوسكسونية عقدة المحورية وفلسفة التفوق) حين يقول: " كانت مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأمريكي مشابهة لما جاءت به التوراة في مطاردة العبريين القدماء للكنعانيين في فلسطين حسب ادعائهم . وقد أوجد التشابه في هذه التجربة قناعة وفلسفة ووجدانا متشابهاً ومشتركاً بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث. " وهنا أود أن أنوه بأن قراءة النصوص القديمة لجميع شعوب المنطقة تكشف لنا أن تلك الشعوب الوثنية ومن ضمنها العبرانيون، صنعت آلهة لنفسها، وتلقت وعوداً شبيهة من ما يسمى بآلهتها، شرعت لهم احتلال أراضي الغير (حسب دراسة السيدة فرانسواز سميت أكدها الفيلسوف روجيه جارودي) كما أن هذا يؤكد أن إيمان اليهود وغيرهم من بعض الطوائف المتهودة بالعهد القديم المسمى التوراة، وهو كتاب وثنيّ بسبب إشراك من كتبوه وادعوا بوجود آلهة،أعطوا بعضهم من صفات الخالق ما لا يليق أن تذكر إلا لرب العالمين. و هو ليس الكتاب الذي أنزل على سيدنا موسى عليه السلام، فيكون اليهود بذلك ومعهم المؤمنون بالعهد القديم وثنيون. فكفى مكابرة من بعض علماء الإسلام، الذين يتحاورون تحت شعار حوار الديانات.(48/25)
كما أسلفنا أن ثقافة التوراة هي ثقافة عنصرية إرهابية تدعوا إلى رفع اليهود فوق القانون البشري، حيث يطبق القانون البشري على جميع الشعوب، لكنه لا يطبق على اليهود. فلذلك نجد في عالم القطب الواحد إن قرارات الأمم المتحدة تطبق على كل بقاع الأرض لكنها لا تطبق على الكيان الصهيوني! فلذلك يقول التلمود (وهو كتاب مؤلف يجمع أقوال حاخامات اليهود الشريرة، ووصايا قادتهم القتلة، وموجهيهم أشباه الشياطين، وهو بشري المصدر إلا أنه له قداسة التوراة في نفوس أتباعه): "من العدل أن يقتل اليهودي كل من ليس يهودياً، لأن من يسفك دم الغرباء يقدم قرباناً لله" وهذا ما حدث مثلاً وليس على سبيل الحصر، في جريمة العصر لبشاعتها والتي وردت تفاصيلها على لسان اليهودي موسى أبو العافية أحد المجرمين المشتركين في جريمة ذبح الأب توما الكبوشي في حي اليهود في دمشق سنة 1840، والذي ذبح وبعد ذلك قطع إرباً ليرمى في المجاري، بعد أن سحب دمه لاستخدامه في عجين فطير الفصح عند اليهود، حيث اعترف بجريمته وقال: "الدم يوضع في الفطير، ولا يعطي هذا الفطير إلا للأتقياء من اليهود" هذه الجريمة الإرهابية التي هزت مشاعر العالم الإسلامي والمسيحي، وكتب حولها العديد من الكتب كشفت عن الخلفية الإجرامية لليهود والتي كان سببها الخلفية التوراتية الإرهابية لدى الحاخامات المجرمين الذين أمروا بذلك.كما أن تلمود برانايتس (ص 112) يحث اليهود على قتل المسيحيين فيقول: " على اليهود أن لا يفعلوا مع الأغيار لا خيراً ولا شراً وأما مع النصارى فيسفكوا دمهم ويطهروا الأرض منهم … كنائس المسيحيين كبيوت الضالين ومعابد الأصنام فيجب على اليهود تخريبها" . وهذا ما فعلوه بكنائس بعض طوائف المسيحييه في الولايات المتحدة بأمثال جيري فالويل وبات روبرتسون، وجيري فاينر وفرانكلين جراهام.
أن التربية الإرهابية عند أتباع العهد القديم تقوم على أن مواجهة أعدائهم تستلزم افتراسهم وشرب دمهم، وعلى هذه المفاهيم تقوم التنشئة العسكرية عندهم، ولها سند من كتابهم حيث ورد في سفر العدد 23/24" هو ذا شعب كلبوه يقوم وكشبل ينهض لا يربض حتى يأكل الفريسة ويشرب دم الصرعى" ، كما ورد في العهد القديم: " حين سمع الشعب صوت البوق هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه وصعد ( الشعب) إلى المدينة وذبحوا كل ما في المدينة من رجل وامرأة ومن طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف". وورد في سفر حزقيال في وصيته لبني إسرائيل:" لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا حتى الهلاك." .وورد في سفر التكوين "اضرب أهل تلك المدينة بحد السيف بجميع ما فيها حتى بهائمها".
إن هذه النصوص من التوراة والتلمود هي قليل من كثير لا يتسع المجال لذكرها لكنها تعبر عن الأساس العقدي والمنظومة الفكرية الذي تأسس عليها الفكر الإرهابي بشقيه الصهيوني اليهودي، والصهيوني المسيحي . وهي التي تحاول دائماً بدفع هذه التهمة الفعلية عنها وإلصاقها بالإسلام. الذي هو دين رحمة وخير ومحبة وعدل ومساواة للبشرية جمعاء، حيث لا فضل لعربي على أعجمي إلابالتقوى. وهذه الحقائق لم يثبتها ويؤكدها كتاب الإسلام فقط،بل أكدها مؤرخو الغرب ومفكروه وباحثوه من خلال تفاعلات المسلمين مع الشعوب الأخرى، ولعل انتشار الدين الإسلامي في أوروبا وأمريكا لأسطع دليل على ذلك ، ويكفي أن نذكر في هذا المضمار الحديث النبوي الشريف، حيث قال رسول ا صلى الله عليه وسلم (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً…) وأوصى سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد، فقال: " لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله".
كان لا بد من كشف الحقائق لفضح التدليس الذي يمارسه اليهود ومن يؤمن بالعهد القديم على العالم، من خلال إيحائهم للناس أن دينهم الذي يمارسونه المنبثق من توراتهم الحالية هو ما إنزل على سيدنا موسى عليه السلام في جبل الطور في سيناء. لكن الحقيقة أصبحت واضحة، بعد اختفاء التوراة الحقيقية مع نهاية حكم سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام. وما يسمى كتاب التوراة هو الذي كتبه اليهود بعد مئات السنين من وفاة سيدنا موسى، و هذا هو الكتاب الذي بين أيديهم ما هو إلا رسالة شيطانية أوحى بها الشيطان لأشراره من اليهود بكتابتها، فجاء بدين عجيب، حيث أن إلههم فيه إله عجيب، إله جاهل حيناً (حسب كتابهم) وضعيف حيناً آخر، إله يفضل سكن البيوت بين شعبه، إله إرهابي متعطش للإرهاب وسفك الدماء، وحرق شحوم ضحاياهم.لأنه يحب رائحة الشحوم المحروقة التي تبعث في نفسه السرور والبهجة. وأمام هذه المعطيات فلنتلمس طريقنا لفهم الإرهاب.
5- ما هو الإرهاب؟(48/26)
الإرهاب كلمة مشتقة من الفعل أرهب، يقال أرهب أي خوف وفزع، ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يذكر مصطلح الإرهاب بهذه الصيغة ، إنما ذكر صيغ مختلفة تدل على الخوف والرهبة والتعبد لله رب العالمين وتخويف وترهيب أعداء الله من الكفرة والمشركين، فورد في سورة البقرة: " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيايّ فارهبون" (آية ـ40)وفي سورة الأنفال ورد :" ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم" (آية 60) وفي سورة الأعراف ورد " واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" (آية 116). فلذلك الإسلام واضح في موضوع الإرهاب من خلال القرآن الكريم. أما بالنسبة للإرهاب بالثقافة الغربية، فيرجع استخدام كلمة إرهاب تاريخياً للدلالة على نوع الحكم الذي لجأت إليه الثورة الفرنسية إبان الجمهورية الجاكوبية في عاميّ (1793 -1794) ضد تحالف الملكيين والبرجوازيين المناهضين للثورة الفرنسية. وقد نتج عن إرهاب هذه المرحلة التي يطلق عليها ( r eign of Te r ro r ) اعتقال ما يزيد على 300 ألف مشتبه وإعدام 17 ألف فرنسي بالإضافة إلى موت الآلاف في السجون بلا محاكمة . (والمتتبع لهذه المرحلة يعلم دور اليهود والماسونية في هذا الإرهاب).ولعل قبل ذلك كانت محاكم التفتيش في أسبانيا ضد الأقليات الدينية من أهم المحطات الإرهابية في تاريخ الثقافة الغربية. ولعل الحروب الصليبية هي صورة متكاملة لإرهاب الممالك والإمارات الغربية ضد المسلمين ، وهذا ما يتغنى به الآن الرئيس الأمريكي جورج بوش حين أعلنها حرباً صليبية للقضاء على ما يسمى (بمحور الشر) والذي أثبتنا في مقدمة بحثناً من هو محور الشر. وقد تبنت قبله بعض الدول الإرهاب كجزء من خطة سياسية للدولة، مثل الكيان الصهيوني، ودولة هتلر النازية في ألمانيا، وحكم موسوليني في إيطاليا، ومعظم الدكتاتوريات المدعومة من أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم ممارسة إرهاب الدولة المنظم تحت غطاء أيديولوجي لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية وثقافية.
الإرهاب الدولي والعنف السياسي: يعرف الإرهاب الدولي بأنه نوع من العنف غير المبرر، وغير المشروع بالمقياسين الأخلاقي والقانوني الذي يتخطى الحدود السياسية. ويختلف الإرهاب عن ممارسة العنف السياسي الداخلي التي قد تنتهجها بعض القوى الرافضة لبعض المظالم الاجتماعية أو السياسية أو العرقية أو الأيديولوجية داخل الدولة الواحدة للنيل من السلطة الشرعية أو السلطة المستبدة المفروضة من قوى الهيمنة الخارجية كما يختلف عن نضال الشعوب لنيل حرياتها أو لتحرير أرضها من عدو مغتصب.
إن منطق الاستعمار دفع أعظم دولة في العالم لتمارس الإرهاب الدولي لتحقيق مآرب سياسية وسيطرة دولية تحقيقا لما يسمى نبوءات توراتية، وبث الرعب والفوضى في العالم. وعندما نصف ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم بالإرهاب فإننا لا نقول ذلك جزافاً بل نستند على التعريف الأمريكي ذاته للإرهاب، بحيث يعرف على أنه: "الاستعمال المحسوب للعنف أو التهديد بالعنف للوصول إلى أهداف ذات طابع سياسي أو ديني أو أيديولوجي (أليس هذا ما يحصل الآن مع العراق). إن إدخال العالم في متاهات ما يسمى بحرب الإرهاب المبهم، قد جرت العالم إلى تحديات كبرى وحروب وأزمات لا يمكن التنبؤ بنتائجها.وأدت إلى بروز الكثير من الملفات العالقة والقضايا الساخنة والخلافات المستعصية ليتم حسمها حسماً أحادي الجانب في ظل ما يسمى الحرب على الإرهاب، خدمة لإسرائيل وللمشروع التوراتي العالمي. كما أججت الحملة الأمريكية الإعلامية والعسكرية إلى زيادة العداء بين الشعوب والدول تحت مفهوم من معنا ومن ضدنا الذي أطلقه بوش، وأوجدت مناخاً مناسباً لنمو الأجنحة القومية المتطرفة في العالم. وراحت الولايات المتحدة بقيادة اليمين المسيحي المتصهين تتصرف بغرور وتيه ضاربه بعرض الحائط بمعاناة وجوع شعوب العالم الثالث. فرفضت مؤخراً محكمة دولية لجرائم الحرب، ورفضت اتفاقاً يحظر استخدام الأسلحة الجرثومية، وانسحبت من معاهدة كيوتو، ومن مؤتمر دوربان، وسعت إلى تفكيك معاهدة الصواريخ البالستية، وأعطت الغطاء والدعم للإرهاب الصهيوني الشاروني ضد الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه في الضفة الغربية وقطاع غزة .وتمحورت الأجندة السياسية للتيار اليميني الديني ، داخل الإدارة الأمريكية حول أربعة مبادئ أساسية، على رأسها ، رفض العمل الجماعي، وأن يكون العمل الدولي تحت قيادة أمريكية، أو بمبادئ أمريكية و إلا أصبح مرفوضاً، ولعل هذا المبدأ يفسر لنا بوضوح أسباب تحلل إدارة بوش من أغلب الاتفاقات الدولية، التي انضمت إليها الولايات المتحدة سواء بالتوقيع أو بالتصديق أو الموافقة.
أما المبدأ الثاني يتجسد بإعلاء فكرة الهيمنة الأمريكية ورفض بزوغ أية قوة مضادة ورفض فكرة التعددية القطبية أو التنوع بتوزيع القوة.(48/27)
أما المبدأ الثالث فهو تعظيم استخدام القوة العسكرية وتقديمها على مختلف الأدوات الأخرى في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية وهذا ما حصل في أفغانستان وهذا ما ينتظر حصوله في العراق، فليس غريباً أن نلحظ الآن مثلاً إصرار الإدارة الأمريكية على استخدام القوة العسكرية ضد شعب العراق.
أما المبدأ الرابع فهو أن تفرض الولايات المتحدة هيمنتها الفكرية والثقافية على العالم ، من خلال التبشير بالقيم الأمريكية ، وهو ما يفسر أسباب مطالبتها بعض الدول العربية بتغيير المناهج الدينية وتغيير منظومة القيم داخل هذه المجتمعات بحيث تتواءم مع المنظومة الثقافية الأمريكية.
6- الإرهاب الأمريكي ضد العراق:
وأمام هذا التحدي المصيري الذي يواجه أمتنا الإسلامية والعربية انشغل حكامنا ومفكرونا ومثقفونا بكيفية دعم الولايات المتحدة في حربها ضد ما يسمى بالإرهاب، لأنه وللأسف انتشر عند بعضهم ثقافة تسمى بثقافة الهمبرغر، وأعجب هؤلاء بالنمط الأمريكي المتصهين أو هادنه البعض خوفاً من جبروته ، أو طمعاً عند الآخرين ببعض الامتيازات التي يمكن أن يحصلوا عليها . وأخذوا كغيرهم من التوراتيين يمهدون لإقامة مملكة إسرائيل الكبرى، هذا الحلم الذي أخذ بالإنهيار تحت ضربات شباب الانتفاضة الفلسطينية.وصمت الجميع عن الإرهاب الأمريكي الفاضح ضد شعوبنا الإسلامية ، فقرى كاملة دمرت بأحدث أسلحة الإرهاب الأمريكي وعشرات الآلاف من العائلات شردت بلا مأوى، والآلاف يموتون كل يوم تحت تأثير الحصار والقصف والتجويع في العالم الإسلامي. وهذا هو حال شعب العراق الذي يرهب كل يوم، ويهدد بأسلحة الدمار الشامل، ولا ذنب له سوى أن كتبة التاريخ تناسوا كل الفاتحين والغزاة الذين قدموا إلى أرض فلسطين ولم يذكروا فقط سوى تدمير مملكتا إسرائيل ويهودا في عامي 720 ق.م و586 ق.م. (مع العلم أن هذا التاريخ يتحدث عن تجمع اليهود فقط على جزء يسير من أرض فلسطين يمتد بين صحراء النقب ومرتفعات الجليل في مناطق محدودة، ولم تعمر طويلاً، وتعاقب على حكمها ثلاثة ملوك فقط هم شاؤول، وداود، وسليمان، ثم ما لبثت هذه المملكة الصغيرة أن انقسمت إلى مملكتين أصغر في الشمال وعاصمتها السامرة وهي قرية سبطية الآن، ومملكة يهوذا في الجنوب عاصمتها أورشليم ، والتي كانت أيضا قرية صغيرة).
فأرادت الصهيونية المسيحية أن تنتقم من الآشوريين والكلدانيين الذين دمروا مملكتا إسرائيل ويهودا، وكان من قدر العراق أن الآشوريين والكلدانيين خرجوا منه. ولأن كل صهيوني مسيحي حتى الرئيس جورج بوش يقرأ في صلاته دائماً:"… يا بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم". إنه إرهاب من نوع جديد تحاكم به الأجيال بعد آلاف السنين على أمر قد فعل قبل آلاف السنين. أكدت ذلك وزيره الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت لمراسلة (سي بي أس) في 11/5/1996 حين سألت سمعنا أن نصف مليون طفل عراقي توفوا حتى الآن، وهذا العدد يفوق بكثير عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما وأنت تعلمين بذلك ، فهل يستحقون ذلك ؟ فأجابت أولبرايت:" أنا أعتقد أن الخيار صعب للغاية، ولكن هل يستحقون ذلك أم لا، نعم أنا أعتقد أنهم يستحقون ذلك". (عن ماذا يتحدثون إنه بكل بساطة عن قتل نصف مليون طفل عراقي! أليس هذا إرهاباً دموياً).
7- هدف الإرهاب الأمريكي:
تغلغل اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية في جميع مناهج وأساليب حياتها ومعتقداتها، حتى غدا العهد القديم المسمى بالتوراة أساس المعتقد للمسيحيين الإنجيليين، ويطلق على أتباع هذا المعتقد (المولودون من جديد) وهو معتقد يؤمن به أكثر من نصف المجتمع الأمريكي، وهو ذات صبغة عسكرية سياسية أساسه تعاليم التوراة، ويهدف هذا المعتقد على تجميع اليهود في فلسطين، وبناء الهيكل فوق أنقاض المسجد الأقصى وإشعال حرب كونيه تسمى هرمجدون بين ما يسمى بقوى الخير وما يسمى بقوى الشر، تمهيداً لنزول المسيح ليقيم حسب معتقداتهم الألفية السعيدة. ولعل هذا المخطط الإرهابي الصهيوني والشيطاني أصبح، مكشوفاً، بعد أن تنبه لهذا الخطر الكثير من الكتاب والباحثين في العالم. فتحت عنوان (أي مستقبل لإسرائيل ) كتب الوزير اللبناني السابق ميشال اده في صحيفة النهار اللبنانية في 26/1/2003: أن الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية تتعرض الآن لحملات شرسة من جانب اللوبي الصهيوني على كل الصعد. وهي تعاني الأمرين اليوم في الولايات المتحدة من هذه الظاهرة (المسيحانية) ومن تفشي حضورها وبروزه المتفاقم مع مراكز القرار السياسي والإعلامي والاجتماعي الأمريكي. وهي تقاوم بكل ما تملك من إمكانيات هذه المغامرة المدمرة التي يحاول الصهاينة و"المسيحانيون" المندرجون تحت معطفها أن يزجوا بالولايات المتحدة والمسيحيين الأمريكيين والشعب الأمريكي في غمارها، وفي لجة أخطارها الكارثية على العالم".(48/28)
وصدر كتاب (الأخوة الزائفة) لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي (جاك تيني) الذي أعده على أثر تكليف حكومة كاليفورنيا له لقيادة فريق عمل للتحري عن قوة خفية تسيطر على اقتصاد الولاية. وفي مقدمة كتابه صرخة تقول:" إن هذا الكتاب ليس إلا صرخة لأبناء الولايات المتحدة والغرب والعالم أجمع يحذرهم من الصهيونية التي تسعى للسيطرة على البلاد وتغيير معالمها وتدمير الأمم والقضاء على كافة الأديان… إنها القوى الصهيونية الخفية التي ورطت أمريكا في الحروب العالمية والحروب الفرعية الأخرى… والقوى الصهيونية هي التي ستكون السبب في حرب عالمية ثالثة لإخضاع الدول العربية لإسرائيل وجعلها دويلات قزمه تدور في فلكها … ولا شك أن هذه المعادلة ستدفع العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي في مواجهة دينية، وستضرب الكيانات العربية القوية اقتصادياً أو مالياً، وسيعم الفقر كل المنطقة المحيطة بإسرائيل، هذا بالإضافة لموت أعداد كبيرة من العرب والمسلمين، وفي نفس الوقت تصبح أمريكا منهكة مما يساعد بيوت المال اليهودية من إحكام القبضة عليها وعلى الدول الأوروبية. وبذلك يتوفر لإسرائيل القوة التي تستخدمها في الوقت المناسب، حيث يضعف العالم كله، ويمكن عندئذ أن تنصب ملكاً يهودياً على العالم (من كارثة الخليج .. إلى المذبحة إلى الحرب العالمية الثالثة .. إلى المجهول .. الأستاذ عادل رمضان) تأكيداً لما ورد في الكتاب المقدس (مزمور .. 149): " ليبتهج بنو صهيون بملكهم … ليصنعوا نقمة في الأمم وتأديبات في الشعوب لأسر ملوكهم بقيود، وشرفائهم بكبول من حديد، ليجروا بهم الحكم المكتوب".
وورد في المحضر الخامس من بروتوكولات حكماء صهيون:"… سوف نقود المسيحيين إلى الفوضى العارمة التي تدفعهم إلى مطالبتنا بحكمهم دوليا…" نعم إنه ليس إرهابا فقط بل مجزرة عالمية ضد الإسلام والمسيحية تقودها الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية.
8. أمريكا لا يمكن أن تكون مصدراً للقيم في العالم:
نحن المسلمين والعرب كتب علينا أن لا نموت، ولا تخرب ديارنا، ولا يقتل لنا قتيل إلا بالسلاح الأمريكي، وعجبي ممن يهتف تحيا أمريكا! نجوع لتشبع أمريكا، والمثال الأعلى لمعظمنا الديمقراطية الأمريكية، وحقوق الإنسان الأمريكي والليبرالية الأمريكية . مع أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع هش معنوياً وأدبياً وأمنياً، ومن الممكن أن يتعرض للانهيار العام في أية لحظة (وتجربة لوس أنجلوس) شاهد على ذلك. واعتقد أننا لا يمكن أن نفهم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مستشار الأمن القومي الأمريكي زينو برجينسكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي ذكر في كتابه "الفوضى" عن مدى التناقض الذي يميز نظرة العالم للولايات المتحدة ونظرة الأمريكيين أنفسهم لها حيث قال : "إن العالم قد أصيب بعدوى القيم والصور التي يفرضها الإعلام الأمريكي عليه وهو ما يسمى بالإمبريالية الثقافية، فهل حقاً تستحق الولايات المتحدة أن تكون مصدرا للقيم في العالم حتى وإن حازت على مفاتيح القوة الاقتصادية والعسكرية… إن مستوى التعليم في أمريكا متدن جدا بالمقارنة بالدول الأوروبية وحتى تلك في جنوب شرق آسيا… هناك 23 مليون أمريكي يعيشون في جهل تام. وإن أحياء الفقراء تتميز بانعدام وجود بنية تحتية تصلح للعيش الآدمي، وقد تشكلت ملامح ثقافة جديدة تسمى "ثقافة المخدرات" على اعتبار أن هذه السموم قد أصبحت نمط الهروب النفسي من المشاكل التي يعانيها الأمريكيون… والعائلة انهارت كمركز للمجتمع الأمريكي لاستفحال الإباحة الجنسية والشذوذ الذي أدى إلى استشراء "الإيدز"، فضلا عن الدعاية الهائلة للفساد الأخلاقي من خلال الإعلام المرئي". كما علق المؤرخ الأمريكي تيد هاير على تورط الرئيس كلينتون في فضيحة مونيكا ليوينسكي، واستمرار تأييد الرأي العام الأمريكي له على الرغم من ذلك قائلا : " إن أمة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوأ قيادة هذا العالم".
9- أمريكا بلد قام على الإرهاب:(48/29)
إن المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تعامل بها الأمريكيون مع شعوب العالم، إذ سرعان ما يكتشف المرء أن لا فرق بين نظرة اليهود إلى الأمميين ونظرة الإنجلوسكسون إليهم. والسبب هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تشكلت بعد اكتشافها من عناصر انكلوسكسونية كان الغالب عليها العرق البريطاني الأبيض الذي يشمل الإنجليز واليهود الغربيين، ورافقت حملات الإرهاب والإبادة ضد الهنود الحمر حملات الإسترقاق من أفريقيا، والتي كان أهم تجارها من البروتستانت واليهود، وجميع الوثائق التاريخية تشير إلى ذلك دون مواربة أو تعصب أو اتهام. وراحت الولايات تتشكل حتى جرت أحداث الحرب الأهلية الأمريكية بين الجنوب والشمال، وانجلت عن تشكل ما يسمى الولايات المتحدة الأمريكية. ومع مطلع القرن السابع عشر كان عدد الهنود الحمر في عموم القارتين الأمريكتين أقل من ثماني ملايين، بعد أن كان أكثر من خمسين مليونا، لنرى حجم الإرهاب الأمريكي ضد الشعوب الأصلية التي سكنت تلك الأرض. لنثبت حجم الإرهاب اللا إنساني الذي قام به المستعمرون الأمريكان لتلك الارض.و يكفينا أن نذكر أنه في عام 1730 أصدرت الجمعية التشريعية ( البرلمان) الأمريكي لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً تبيح عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قرارا بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيها مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر،و40 جنيهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه و50 جنيه مقابل فروة رأس إمرأه أو فروة رأس طفل (هذه هي الحضارة الأمريكية التي يتشدق بها بعض المفكرين).
وفي عام 1763 أمر القائد الأمريكي (البريطاني الأصل) جفري أهرست برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر بهدف نشر المرض بينهم مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين من الهنود، ونتج عن ذلك شبه أفناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية. إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى، ونشر مرض الجدري من أسلحة الحرب الجرثومية وكان أخطر ما فيه أنه لم يكن لهذا المرض أي وجود في القارتين الأمريكتين، يعني ذلك أن هذا المرض لم يكن مستوطنا هناك، ويعني هذا أيضا أن السكان الأصليين ليس لديهم أية مناعة ضد هذا الوباء الجرثومي. والمجرمون الذين استخدموا هذه الأسلحة الجرثومية يعلمون بأنه سيفتك إلى حد الإبادة بالهنود الحمر ورغم ذلك استخدموه فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل بشكلها الشامل ضد الهنود الحمر، حتى أن القنابل النووية التي أطلقت بعد ذلك بما يزيد عن قرن ونيف على هيروشيما وناكازاكي لم تكن أكثر فتكاً من جرثومة الجدري المستخدمة ضد الهنود، حيث قتل من اليابانيين 5% من عدد ضحايا الهنود في تلك المجزرة. حتى في موضوع استخدامات أسلحة الدمار الشامل لا يسعنا إلا أن نذكرأن أمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل في العالم. فهي استخدمت الأسلحة الجرثومية بشكلها الواسع وقتل أكثر من سبعه مليون هندي أحمر. وأمريكا أكثر من استخدم الأسلحة الكيميائية في الحرب الفيتنامية وقتل مئات آلاف من الفيتناميين. وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية. وأمريكا أول من صنع الأسلحة الهايدروجينية وأمريكا أول من صنع الأسلحة النيوترونية. وبعد شبه فراغ القارة الأمريكية من الهنود الحمر، اضطر الغزاة الإرهابيون إلى البحث عن قرابين بشرية جديدة يكلفونها بتعمير القارة التي أبادوا سكانها. وبعد أن فشلت حملاتهم على شمال أفريقيا، ودفنت أحلامهم وقتل ملوكهم في معارك وادي المخازن بالمغرب، بعد كل ذلك اتجهوا إلى أفريقيا السوداء وبدأت ثاني أفظع جريمة إبادة وتهجير في التاريخ، وهي تجارة الرقيق الأسود بعد اصطيادهم وأسرهم من السواحل الأفريقية في عمليات إجرام خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي أدت بدورها إلى مآسي طالت خمسين مليون أفريقي أسود تم شحنهم من أنحاء القارة الأفريقية وقد هلك معظمهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد، مما لقوا من العذاب والجوع والقهر ، حيث تم قتل الكثيرين منهم لمجرد نشوة القتل والتسلي بهم، هل هناك إرهاب أفظع من ذلك؟ والعجيب في الأمر أن أمريكا هي التي أحبطت في مؤتمر دوربان عام 2001 مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار. ولعل الدافع وراء ذلك المفاهيم التوراتية فحسب ايالكوت سيموني (245c.n.772) :" كل من سفك دم شخص غير يهودي عمله مقبول عند الله، كمن يقدم قرباناً إليه" لذلك يعتقدون أنهم بهذا الإرهاب والقتل والبطش والتشريد والذبح إنما يقدمون قرابين إلى إلههم الذي يدعوهم لفعل ذلك، فكيف يعتذرون عن ذلك.(48/30)
وفي الحرب العالمية الثانية في معركة واحدة دمرت الطائرات الأمريكية بالقذائف والنابالم الحارق في طلعة جوية واحدة 61 ميلاً مربعاً، وقتلت 100 ألف شخصاً في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و46 مدينة يابانية أخرى، وكانت نتائجها أفظع من نتائج استخدام الأسلحة النووية، وقبل أن تستخدم أسلحتها النووية فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، التي حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح ، بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل. مع أن الكثير من الباحثين أثبت أن اليابان كانت قد وافقت على شروط الاستسلام، قبل استخدام أمريكا للأسلحة النووية ضد الشعب الياباني، ورغم ذلك أصر الإرهابيون المتعطشون لدماء الشعوب على ممارسة هذه الإبادات البشرية الجماعية.
وفي كوريا تدخل الأمريكان لعزل الحكومة الشعبية فيها وأغرقوا البلاد في حروب طاحنة سقط خلالها فوق 100ألف قتيل.
و في فيتنام أدى التدخل الأمريكي إلى قتل أكثر من مليون شخص، وتؤكد مجلة نيويورك تايمز في مقالة نشرت في 8/10/1997 إن العدد الحقيقي للضحايا الفيتناميين بلغ 3.6 مليون قتيل، وفي بعض التقارير تم إثبات أنه بين عامي 1952-1973، قتل الأمريكيون زهاء عشرة ملايين صينيي وكوري وفيتنامي وروسي وكمبودي, وفي غواتيمالا قتل الجيش الأمريكي أكثر من 150 ألف مزارع في الفترة ما بين 1966و 1986.
وبتواطؤ أمريكا قتل الملايين في مجازر عديدة في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والأردن وإندونيسيا ونيكاراغوا والسلفادور وهندوراس بالأسلحة الأمريكية الفتاكة، والتي منها أسلحة لم تدخل مخازن الجيش الأمريكي، بل صنعت وصدرت إلى بعض الأنظمة المتآمرة والمتعاملة مع الولايات المتحدة لإستعمالها ضد شعوبها. والنصيب الأكبر وجه إلى الكيان الصهيوني الذي يمارس كافة أشكال الإرهاب والقتل والتنكيل والتشريد ضد الشعب الفلسطيني، ولم نسمع أن أمريكا مناصرة الحرية والديمقراطية في العالم قد طالبت بالإرهابيين الدمويين الصهاينة إلى المحاكم الدولية من أمثال ابن جوريون، وأشكول، وجولدامئير ، وموشي دايان ،واسحق رابين، وشيمون بيريز، ونتيناهو، وباراك وشارون، وموفاز وغيرهم الكثيرين في هذا الكيان الإرهابي! كما أنها لم تطالب بمحاكمة (سوموزا) في نيكاراغوا و (بينوشيه) في تشيلي و(ماركوس) في الفليبين و(باتيستا) في كوبا و(دييم) في فيتنام و(دوفاليه) في هايتي و (سوهارتو) في أندونيسيا و(فرانكو) في أسبانيا.
وارتكب الأمريكان المجازر البشعة في حرب الخليج الثانية ضد العراق، ويمكن أن نكتفي بما ذكرته صحيفة التايمز البريطانية بعد إعلان وقف إطلاق النار، لتوضيح مدى المجازر والإرهاب الذي ارتكب في العراق حيث جاء فيها:" كانت الحرب نووية بكل معنى الكلمة، وجرى تزويد جنود البحرية والأسطول الأمريكي بأسلحة نووية تكتيكية، لقد أحدثت الأسلحة المتطورة دماراً يشبه الدمار النووي، واستخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري المسماة (BLU - 82)وهو سلاح زنته 1500 رطل وقادر على أحداث انفجارات ذات دمار نووي حارق لكل شيء في مساحة تبلغ مئات الياردات. وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب بأربعين طناً، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60ـ80 ألف قنبلة قتل بسببها 28 ألف عراقي. وقد سئل كولن باول حينذاك والذي كان رئيساً لأركان الجيش الأمريكي عن عدد القتلى العراقيين فقال: "لست مهتماً به إطلاقاً" لم يكن مهماً عند كولن باول أن مائتي ألف عراقي قتلوا في هذه الحرب. هذه الحرب التي أطلق عليها الأمريكان الحرب النظيفة لأنها تقوم على استراتيجية التصويب العسكري الدقيق باستخدام أجهزة التسلح الإلكتروني! (ما انظف من هذه الأسلحة إلا من يطلقون على أنفسهم الأطهار وأياديهم من إرهابهم ملطخة بدماء الملايين من شعوب العالم!)
والجديد بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف بحروبها الإرهابية ضد العالم بل هي التي تدرس الإرهاب في معاهد ومدارس لتخرج الإرهابيين ليتفننوا بتعذيب الناس وقتلهم.
10- أمريكا تصدر الإرهاب إلى العالم:
فقد ذكر الكاتب البريطاني " جورج مونبيوت" في جريدة الجارديان البريطانية في عددها الصادر في 30/10/2001 " أنه يوجد في مدينة "فورت بينينج" بولاية جورجيا معهد خاص لتدريب الإرهابيين يطلق عليه " ويسترن هميسفير للتعاون الأمني (WHISK) وتموله حكومة الرئيس بوش، مشيراً أن ضحايا هذا المعهد يفوق قتلى انفجارات 11 سبتمبر وتفجير السفارتين الأمريكيتين في أفريقيا، وكان يطلق على هذا المعهد مدرسة الأمريكيين (SOA) ومن عام 1946 حتى عام 2000 قام هذا المعهد بتدريب أكثر من 60 ألف جندي وشرطي من أمريكا الجنوبية متهمين بأعمال التعذيب والإرهاب في بلادهم ، ومن بين هؤلاء الخرجين الكولونيل " بيرون ليما استرادا" المتهم بقتل الأسقف "جوان جيرادي" في جواتيمالا" لأنه كتب تقريراً حول المذابح التي ارتكبتها المخابرات العسكرية برئاسة "استرادا" وبمساعدة اثنين من خريجي هذا المعهد والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء.(48/31)
وفي عام 1993 أعلنت الأمم المتحدة أسماء ضباط الجيش الذين ارتكبوا أكثر مذابح الحرب الأهلية فظاعة في سلفادور، فكان ثلثي هؤلاء الضباط تدربوا في مدرسة (SOA)
وأوضح الكاتب البريطاني أن هذا المعهد قام بتدريب أخطر الضباط الذين ارتكبوا جرائم وحشية ما بين قتل وخطف ومذابح جماعية في دول أمريكا اللاتينية، مثل تشيلي وكولومبيا وهندوراس وبيرو. ويكفي هنا الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان قد حذر أي حكومة تؤوي الإرهابيين وتساعدهم في أعقاب انفجارات 11 سبتمبر، مما قاله آنذاك " أن أي عمل كهذا هو مشاركة لهم في الإرهاب!"
بعد كل هذه الحقائق التي وردت، هل نتجنى على الأمريكيين عندما نذكرهم ببعض ماضيهم المعبر عن حضارتهم وعن ثقافتهم وعن جرائمهم وعن إرهابهم، وعن قتلاهم في أفغانستان، وعشرات الآلاف المرشحين للقتل في العراق وعن مئات الآلاف الذين سيقتلون في حروب أمريكا القادمة في حربها التوراتية على الإسلام في ما يسمى بحرب الألفية السعيدة!
إن الله يمهل ولا يهمل فهذا الإرهاب الأمريكي المنظم والمدعوم بالعقيدة التوراتية التي تتسلح بها الصهيونية المسيحية ارتدت على الولايات المتحدة الأمريكية بالويلات الداخلية، فإذا الإرهاب الأمريكي الداخلي، أصبح حالة ميئوس منها لايمكن السيطرة عليها ،وأصبحت تنذر بتفكيك الولايات المتحدة الأمريكية من الداخل،ولتأكيد ذلك فلنق نظرة عليها من خلال كتابهم ومفكريهم لكي لا نتجنى إن قلنا أن أمريكا بلد الإرهاب.
11- الإرهاب الأمريكي الداخلي:
في دراسة للباحث الإجتماعي الأمريكي " لويل فاكنت" يقول: " وواقع الأمر أن الولايات المتحدة قد اختارت أن تبني لفقرائها بيوت اعتقال وعقاب بدل المستوصفات ودور الحضانة والمدارس. هكذا ومنذ عام 1994 تخطت الموازنة السنوية لدائرة السجون في كاليفورنيا (المسؤولة عن مراكز الإعتقال للمحكومين الذين تتجاوز عقوبتهم السنة الواحدة) الموازنة المخصصة لمختلف فروع جامعة الولاية فقد تقدم الحاكم (بيت ويلسون) عام 1995 بمشروع موازنة يلحظ فيه إلغاء ألف وظيفة في التعليم العالي من أجل تحويلها إلى ثلاثة آلاف وظيفة حارس سجن جديدة . والسبب واضح فمثلاً في 22/8/1999 أعلنت وزارة العدل الأمريكية " أن عدد البالغين المسجونين أو الذين خارج القضبان بكفالة بلغ عام 1998 خمسة ملايين و900 ألف شخص. وتعني هذه الأرقام أن 3 من الأمريكيين مع نهاية عام 1998 إما يكونوا داخل السجن وإما خارج القضبان بكفالة.
إن ثقافة الجريمة والسجون انتقلت بداعي الثقافة التوراتية الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى المدارس حيث شاعت ظاهرة إطلاق النار على المدرسين والمدرسات وعلى التلامذة بشكل لافت لم يشهد له العالم مثيلاً. فقد تناقلت وسائل الإعلام في مارس 1998 المعلومات التالية: " لاحظ الخبير في علم دراسة الجرائم( رونالد واينر )من الجامعة الأمريكية أن وتيرة العنف لدى الشباب زادت إلى درجة كبيرة بسبب ثقافة الأسلحة النارية. وغلبة العقلية المستوحاة من قانون الشارع أو (التعاليم التوراتية)على الأخلاق والمبادئ الإنسانية. وأظهرت دراسة كشف عنها البيت الأبيض، أن واحدة من كل عشر مدارس رسمية أمريكية شهدت أعمال عنف خطرة عام 1997.(48/32)
وكتب أحد كبار صحافي نيويورك متعجباً: " هناك حرب حقيقية في شوارع الولايات المتحدة. ويسقط قتلى بالرصاص ما يقارب 45 ألف شخص كل تسعة عشر شهراً، وهو العدد نفسه الذي سقط خلال تسعة أعوام من حرب فيتنام " هذا يكشف أمراض المجتمع الأمريكي المستعصية، و العنصرية المتفشية في داخله، والتباينات الإجتماعية الواضحة، إن دل هذا على شيء فيدل على تفجر اللحمة الأسرية، وإفلاس النظام التربوي، واستشراء المخدرات، وعن عدم فاعلية النظام القضائي، وعن قوة اللوبيات المدمرة داخل المجتمعات الأمريكية، وخصوصا اللوبي الصهيوني و هذا يدل أيضا على الإرهاب الدموي الذي يطال مختلف الشرائح والطبقات. فمثلا في سنة 1991 قتل الإرهاب الداخلي الأمريكي 38317 شخص وجرح 175 ألف شخص، هذا يعني حصول 105 قتيلا في اليوم الواحد ، ولترجمة هذه الأرقام على الواقع لنفهم نتائج هذا الإرهاب، يكفي أن نقارن طبيعة القتلى بالسلاح بين أمريكا وبعض الدول الأوروبية. ففي سنة 1990 بلغ عدد حالات القتل بأسلحة اليد في الولايات المتحدة فقط إلى 10567 حالة بينما بلغ في بريطانيا 22 حالة وفي السويد 13حالة، وفي استراليا10 حالات وفي كندا 68 حالة وفي اليابان 87 حالة .وهذا ما دفع الكثير من المحللين الأمريكيين من إطلاق وصفا لهذه الحالة الإرهابية بأنها "حرب حقيقية في كل بيت" أو " الإرهاب على الذات". لذلك صرح بصوت عال (كولمان يونغ) عمده مدينة شيكاغو الأسود البشرة، الذي رفض بإصرار تجريد مواطنيه من أسلحتهم حيث قال:" قد أكون مجنونا إذا صادرت الأسلحة، في الحين الذي نحن فيه محاصرون بإناس عدوانيين".مما جعل لجنة أمن منتجات الاستهلاك، التي باشرت عملية إحصاء لحوادث إطلاق النار الى التوصل إلى نتيجة مفادها أن في الولايات المتحدة وفق التقديرات المختلفة حوالي 200 ألف شخص يصابون بالرصاص سنويا. بالطبع لا يتضمن هذا الإحصاء عدد الضحايا المجهولة الذين يعالجون بعد إصابتهم بعيدا عن أعين الحكومة الفيدرالية. كما ينتشر في الولايات المتحدة 211 مليون قطعة من الأسلحة النارية، بينها 67 مليون مسدس مختلف الأنواع.
أن السبب المهم للإرهاب الداخلي الأمريكي وحسب الكاتب "جيل ديلافون" الذي أصدر كتاب (violente) العنف في Ameique أمريكا: " ففي نهاية 1994حطم النظام القضائي الأمريكي المتعثر رقماً قياسياً مرعباً بوجود أكثر من مليون شخص من الأمريكيين يتعفنون وراء قضبان السجون، وهو أعلى معدل اعتقالات على سطح هذا الكوكب. مع الإشارة إلى أن ثلاث أرباع المتهمين لا يعتقلون ولا يضعون داخل السجون لأسباب قانونية معينة.والأسوأ من النظام القضائي هو نظام السجون الذي يصنع (مجرمين محترفين) حقيقيين محكومين نهائياً بالعودة إلى الأجرام. فأكثر من 60% من المعتقلين نفذوا بالسابق حكما بالسجن، وبناء على دراسة أجريت على مستوى الولايات كلها. هناك 108 ألف مجرم تم إيقافهم حوالي 109 مليون مرة. هذا يعني أن أمريكا تقبع تحت مسلسل الإرهاب والجريمة الداخلية والمسؤول عنها الشعب الأمريكي بامتياز. وأمريكا متخلفة أكثر من أية دولة عربية أو أية دولة من دول العالم الثالث المتهم بالتخلف. ويكفينا تحاليل وتنظيرات من المتأمّركين المتصهينين الذين يستهزئون بشعوبهم ويريدون إقناعها بالتجربة الأمريكية الرائعة ،وهذه الأرقام أكبر دليل على روعة التجربة الأمريكية.
إذن الإرهاب الداخلي مستفحل في جذور المجتمع الأمريكي وفي كل آليات حركته، بل كان ركيزة نشأة هذا البلد كما أسلفنا سابقاً، سواء من خلال الصراعات بين الغزاة البيض فيما بينهم أو صراعهم مع أصحاب الأرض الحقيقيون من الهنود الحمر. إن الغازي الأمريكي أصبح مواطناً أمريكياً بمقدار ما وسع أرضه وقتل أصحابها الحقيقيين، أو من خلال الإضطهاد الشرس ضد الأفارقة والتي ما زالت تغذيه المعتقدات التوراتية والقوانين الأمريكية التي تعتمد على العهد القديم في تشريعاتها. وحسب تقرير رسمي صدر عام 1989 بعنوان (ضحايا العنف في القوانين الأمريكية) تحدث أحد كاتبي التقرير (ليونارد جيفري) عن أن في أمريكا 5500 عصابة مسلحة معروفة تنتشر اليوم ،وبعضها منظم وله أفرع في كل الولايات المتحدة. وتقوم هذه العصابات أو الميليشيات بـ 25 ألف عملية قتل في السنة، والقتلى معظمهم من السود، وأخذت هذه الميليشيات تبني دولها و قوانينها الخاصة بها داخل الولايات المتحدة .وهي محمية بكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة ،و أكد كثير من المطلعين أنهم يملكون كميات وافرة من أسلحة الدمار الشامل تفوق الخيال. ولعل استخدام الجمرة الخبيثة بعد أحداث 11 سبتمبر داخل الولايات المتحدة الأمريكية والإرباك الذي أصاب المؤسسات الحكومية والاجتماعية من جرائه لدليل ساطع على ذلك. و تم إثبات أن هذه الجمرة الخبيثة المستخدمة هي أمريكية داخلية بحتة صنعت على يد الإرهابيين الأمريكيين. كما لهذه الميليشيات نفوذها الانتخابي والاجتماعي، و هي تمارس العنف الهستيري، وتطمع إلى تجهيز جيشاً من الإرهابيين للزحف على البيت الأبيض وتدمير الحكومة الفيدرالية فيه واحتلال البلاد.(48/33)
ألم يكن أجدى بحكومة بوش أن تواجه هذا الإرهاب الأمريكي الداخلي ومنظمات الإرهاب الأمريكية المدمرة للاستقرار الداخلي، من أن توجه تهمة الإرهاب للمنظمات الفلسطينية واللبنانية التي تدافع عن حقوقها الوطنية وتريد تحرير أرضها وشعوبها من الاحتلال الإرهاب الصهيوني البغيض. أليس من الواجب الوطني والقومي أن تقوم الحكومة الأمريكية بتنظيف البيت الأمريكي من الإرهاب الداخلي ومن منظمات الإرهاب الأمريكية . وخصوصاً أن الصهيونية المسيحية أفرزت أكثر من ألف ومائتي حركة دينية متطرفة يؤمن أعضائها بنبوءة نهاية العالم أو بما يسمى "معركة هرمجدون". وهذه الحركات تنتج أفلاماً سياسية على أنها أفلام دينية ، تخدم فكرة دعم إسرائيل بوصفها ساحة المواجهة الأخيرة قبل نزول المسيح عليه السلام. مثل فيلم "إسرائيل مفتاح أمريكا إلى النجاة" وفيلم " القدس .د.س" الذي أجمع كل من شاهده على أنه يبعث رسالة واضحة مفادها: " اشكروا الله أرسلوا الذخيرة!"
ولعل فكرة نزول المسيح وارتباطها بنشوب معركة هرمجدون هي التي دفعت بعض هذه الحركات إلى القيام بانتحارات جماعية بهدف التعجيل بعودة المسيح وقيام القيامة كما يعتقدون، ومن هذه المجموعات جماعة كوكلس كلان العنصرية، والنازيون الجدد، وحليقوا الرؤوس، وجماعة دان كورش الشهيرة التي قاد زعيمها (كورش) أتباعه لانتحار جماعي قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) في ولاية (تكساس) من أجل الإسراع بنهاية العالم. وكذلك (القس جونز) الذي قاد انتحاراً جماعياً لاتباعه أيضا في (جواينا) لنفس السبب.وكان تيموثي مكفاي الذي فجر المبنى الفيدرالي في مدينة (أوكلاهوما) في 19/4/1995 هو أحد اتباع هذه المنظمة. فكيف تريد أمريكا أن تقنع العالم بصدق نواياها في محاربة ما يسمى بالإرهاب، وبطونها مملوءة بمنظمات الإرهاب الأمريكية. ولئن فاقد الشيء لا يعطيه، ولئن الكذب والتدليس هو عنوان السياسة الأمريكية ،ولئن الصهيونية المسيحية تقود العالم إلى الدمار، لذلك وجهت الولايات المتحدة جيوشها وأساطيلها إلى منطقتنا و كانت هذه الحرب المجرمة على الإسلام.
12ـ منظمات الإرهاب الأمريكي
أما بالنسبة إلى منظمات الإرهاب الأمريكي. فلها أيديولوجيتها السياسة الخاصة بها، فهي تعتبر أن الحكومة الأمريكية فاسدة وتتألف من مجموعة من اللصوص، مجموعة خائنة باعت نفسها للصهيونية . مجموعة خانت أهداف الثورة الأمريكية ،ورهنت الولايات المتحدة للبنوك العالمية،لذلك ينبغي على أفرادها أن يبقوا متأهبين، ومحتفظين بأسلحتهم وأن يطوروا في مختبراتهم أسلحة الدمار الشامل. فأعضاء هذه الميليشيات مقتنعون بوجود مؤامرة كبيرة مدبرة في واشنطن ومن اليهود خاصة ، تهدف إلى جلب جحافل من الأمم إلى الأرض الأمريكية ليعملوا أجراء لدى رؤوس أموال اليهودية. وهذا ما يؤدي بدوره إلى اضطهاد اليد العاملة الأمريكية الأصلية ، ومنهم من يدعي أنهم المدافعون الأواخر عن العنصر الأبيض، ومنهم من يؤمن بعودة المسيح المنتظر، بل منهم من آمن بأنه قد نزل فعلاً. صدر تقرير في (USA ToDay) في 30/1/1995 يدعي أن في عام 1994 ظهرت ميليشيات في أكثر من 24 ولاية اجتذبت 50 ألف عضو، ومصدر هذا التقرير المكون من عشر صفحات هو (مكتب الباتف) ويحذر هذا التقرير من هذه الميليشيات (العسكرية المحترفة) والتي تناهض الحكومة الفيدرالية العداء، وتفسر الدستور الأمريكي بالمعنى الحرفي. وتأخذ الوكالات الحكومية المختلفة هذا التحذير على محمل الجد. ويؤكد تقرير صدر عام 1998 عن مركز (ساوترن بوفرتي لوسانتر) المتخصص في مراقبة التحركات المعادية للحكومة الفيدرالية، أن المجموعات التي تحرض على الحقد هي (المنظمات الصهيونية، ومنظمة فروة الرأس، والمدافعون عن تفوق العرق الأبيض، ومنظمة الهوية المسيحية) وارتفعت نسبة الميليشيات ما بين 1996و 1997 إلى 20% .لم يكن خطر هذه الميليشيات خافياً على الخبراء والمختصين ووسائل الإعلام الأمريكية فأصدرت مجلة التايمز ملفاً كاملاً عن هذه الميليشيات المسلحة في أمريكا، وأوردت أسماء أخطر عشرين منظمة تنتشر في أنحاء الولايات المتحدة.ويقول ميتشيل هاميرز أحد خبراء الجامعة الأمريكية في واشنطن: " إن الإرهاب الداخلي يشكل تهديداً متزايداً وهو أكثر تنظيماً في أوساط الميليشيات… أنهم لا يستعملون فقط قنابل بسيطة كتلك التي استخدمت في أوكلاهوما سيتي، ولكن مخازنهم تتضمن أسلحة دمار أكثر تطوراً من الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية المعروفة. وفي جلسة خاصة للكونجرس الأمريكي في مايو من عام 1995 حذر ثلاثة من كبار المسؤولين الأمريكيين من تعاظم خطر الإرهاب المحلي مشيرين إلى أن الرعايا الأمريكان أصبحوا يواجهون خطر الإرهاب المحلي أكثر من الإرهاب الخارجي المدعوم خارجياً.(48/34)
فالميليشيات تفتك بأمريكا بضراوة السرطان مثل بلوووس وكريبس اللتان أنشئتا منذ أكثر من ثلاثين سنة في كاليفورنيا، ولهما اليوم وكلاء في 32 ولاية و113 مدينة. ففي عام 1985 في قطاع( لوس أنجلس) وحدة كان يوجد 400 منظمة إرهابية، وأصبح العدد في عام 1990 ما يقرب 800 منظمة إرهابية تضم 90 ألف عضو. وتوسعت هذه المنظمات الإرهابية انطلاقاً من شيكاغو باتجاه (مينابوليس) وامتدت هذه الميليشيات حتى إلى المدن الصغيرة في أواسط الغرب، فمثلا بين 1990ـ 1993 في مدينة (ويشيتا) من ولاية (كانساس) التي يقطنها 300 ألف نسمة أحصيها 90 منظمة إرهابية ، وأصبح شعار (أطلق النار عشوائياً من السيارة ) أمراً شائعا . وامتدت هذه الميليشيات إلى قلب أمريكا بعد أن كانت محصورة ولمدة طويلة في المدن الكبرى، فوصلت إلى مدن( أوماها ) و(اوكلاهوماسيتي) و (كانساس سيتي).
وما يثير العجب عند هذه الميليشيات أن الندم معدوم لدى إرهابييها وخصوصاً القتلة من الشباب والطلاب وحسب تقرير لمؤسسة (يو أس نيوز أند وارد ريبورت) الصادر في 8/11/1993ورد الاتي: " أن في كل يوم دراسة يندس في محفظات الكتب 270 ألف مسدس. وفي الصفوف العالية من بين كل خمسة تلامذ، هناك تلميذ يحمل سلاحاً. لقد كانت المدرسة لفترة طويلة الملجأ الأخير للسلام تجاه العنف والإرهاب الداخلي، وتجاه عنف الأسرة، ولكنها لم تعد بمنأى عنه، وفي كل سنة يقترف ما يقرب من ثلاثة ملايين عمل إجرامي من كل الأنواع من السرقة إلى الإغتصاب إلى القتل." كما ينشر إعلانات في صحافة أمريكا الكبرى والمحلية على حد سواء يرد فيها عبارات:" يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا… يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى… نحن الثوريون الأمريكيون" ثم يردف الإعلان بالطريقة الأمريكية النمطية :" تعالوا مع أسلحتكم". وهذه الميليشيات تنتشر في شتى بقاع الولايات المتحدة الأميركية ولها أنصارها الذين يشكلون فكرهم الغريب والمختلف، ولكل ميليشيا منطقة نفوذ. وتحترم الميليشيات فيما بينها مناطق نفوذها. ورغم أنه لا توجد مؤشرات تدل على نوع من الوحدة في الهدف أو الرؤية بين هذه الميليشيات، فإن من المؤكد أن ثمة خلفيات مشتركة أدت إلى تكون مثل هذه البؤر الفكرية المسلحة بالعداء على النمط الأمريكي في إدارة شؤونه. وتعكس قيم هذه التنظيمات مزيجاً غريباً من الدين المسيحي( لبعض المذاهب)، وتقديس الحرية الفردية للمواطن, والقيم العسكرية، وخاصة حرية اقتناء وحيازة الأسلحة النارية، والخوف من السلطة المركزية. لذلك فإن الطابع العقائدي الغالب على هذه التنظيمات هو الطابع اليميني، الذي يصل في أحيان كثيرة إلى الشوفينية، والعنصرية، والحقد على كل ما هو غير أبيض أو غير مسيحي. ويوجد بين أعضاء هذه الميليشيات مجموعة من العلماء وأساتذة الجامعات ومثقفين بارزين ومحاميين وأطباء، بالإضافة إلى ضباط متقاعدين من ذوي الأوسمة الرفيعة في القوات المسلحة الأمريكية. ويعتبر بعض أعضاء هذه الميليشيات أنفسهم في حالة حرب مع السلطة الاتحادية، وهم يرفضون دفع الضرائب. أما المتطرفون منهم فيؤمنون بوجود مؤامرة تشارك فيها الحكومة الاتحادية، والمصارف اليهودية العالمية والأمم المتحدة، وغيرها من القوى المعادية للمسيحية،تهدف لإقامة حكومة عالمية أو ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ويدعي هؤلاء أنهم يملكون معلومات ووثائق تثبت صحة ما يدعون.
ومن أهم الميليشيات الأمريكية:
أ . ميليشيا ولاية أريزونا واسمها الرسمي (منظمة أبناء الحرية)، ومن أهداف هذه الميليشيا فصل ولاية أريزونا عن الولايات المتحدة.
ب . ميليشيا ولاية كولورادو اسمها الرسمي (حراس الحريات الأمريكية) ولهذه الميليشيا جريدة ودار نشر من مطبوعاتها "النظام العالمي الجديد" وترسل هذه الميليشيا مستشارين عسكريين لمساعدة الميليشيات في الولايات الأخرى ،وتحمل هذه الميليشيا اليهود مسؤولية فساد النظام البنكي العالمي.
ت . ميليشيا ولاية فلوريدا تتكون هذه الميليشيا من 6 ميليشيات فرعية ولها جنود في كل مقاطعة ومدينة في ولاية فلوريدا، ولها جيش وجهاز حكومي وجهاز قضائي على رأسه المحكمة الدستورية التي أرسلت أخيراً أوامر إلى المسؤولين في المقاطعة لإطاعة قوانينها.
ث . ميليشيا ولاية ايداهو الذي من قادتها الكابتن(صمويل شيرود) الذي يقول:"ستشهد أمريكا الحرب الأهلية مرة أخرى. ونحن هنا في ولاية ايداهو سنبدأ بالهجوم على مبنى برلمان الولاية ونقتل كل النواب رميا بالرصاص"
ج . ميليشيا ولاية انديانا، ترأس هذه الميليشيا جنراله سابقة بالجيش الأميركي تدعى (ليندا طومسون)، وعندها مكتب محاماة في( انديانابوليس) عاصمة الولاية، وهي تدعو للهجوم على الكونغرس واعتقال أعضاء الكونغرس وتدميرهم.(48/35)
ح . ميليشيا ولاية ميتشيجان، اشتهرت هذه الميليشيا بسبب أن منفذي الهجوم على المبنى الفيدرالي عام 1995 في أوكلاهوما هم من أعضائها، وهي من أقوى الميليشيات وأكثرها عدداً من أقوال زعيمها (القس نورمان) :" سيذهب الآلاف من جنودنا بملابسهم العسكرية، وكامل أسلحتهم لتقديم إنذار إلى الرئيس الأمريكي وهذه ستكون بداية الثورة الأمريكية الثانية".
خ . ميليشيا ولاية ميسوري: لهذه الميليشيا فروع في خمس مقاطعات وهي ترشح أعضائها في الانتخابات المحلية لعُمُدْ المدن واللجان التعليمية.
د . ميليشيا ولاية مونتانا، وهي واحدة من أكبر الميليشيات الأمريكية، وتملك هذه الميليشيا دبابات وعربات مصفحة، ومدافع مضادة للدبابات، وتتدرب على حرب العصابات، وتطالب هذه الميليشيا بفصل الولاية عن باقي الولايات، وتصدر هذه الميليشيا مجلات وجرائد تتحدث عن عظمة الجنس الآري.
ذ . ميليشيا ولاية نيوهاميشير، تعتمد هذه الميليشيا على الأسلحة الفردية، واستراتيجيتها العسكرية تقوم على حرب العصابات، وتدعوا إلى المواجهة المباشرة مع القوات الحكومية. ويوجد كذلك ميليشيات صغيرة لا يتسع المجال لذكرها لكنها تشكل حالة ضاغطة على النظام الفيدرالي الأمريكي، وتهدد بتفجير الوحدة الداخلية وتفكيك الولايات المتحدة.
13- الإرهاب الأمريكي بداية نهاية الولايات المتحدة:
قبل أن انهي بحثي هذا الذي تم فيه إثبات مدى جبروت الإرهاب الأمريكي الدموي ضد العالم وخلفيتهم الإرهابية، يجب أن نؤكد أن العالم لن يكون كما تريده الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي، وأن العالم دائماً ينبذ الأشرار. وكثيرين من الاستبداديين لفظوا إلى مزابل التاريخ، فأمريكا لن تكون القطب الأوحد، والصهيونية لن تحقق أهدافها وزوال جبروتها وظلمها وإرهابها قادم بإذن الله، وانهيار أمريكا قادم ومن داخلها. ويكفي أن اذكر ما كتبه مستشار الأمن القومي الأمريكي (زيغنو بريجنسكي) في كتابه (الفوضى) وهو أحد أركان اليمين الأمريكي، كما لا يمكن لأحد أن يتهمه بأنه إرهابي إسلامي يخطط لتدمير الولايات المتحدة الأمريكية حيث يؤكد أن هناك عوامل كثيرة تمنع الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق حلمها في الهيمنة على قرار العالم وهي:
أ . المديونية التي جلبت ديناً قومياً تراكمياً يتجاوز 4 تريليون دولار (وحسب إحصاءات مؤسسة فيجي الأمريكية تجاوزت هذه المديونية 13 تريليون دولار. وقيمة الفوائد على هذه الديون تفوق الدخل القومي الأمريكي). وهذا لوحده يكفي ليهدد أمريكا بالانهيار في أي لحظة.
ب . العجز التجاري الذي يرغم أمريكا، وهي الدائنة الأولى في العالم على استقراض المال مما يهدد قطاعات الإنتاج والعمل الرئيسية بالانهيار ويساهم في البطالة.
ت . وضع العناية الصحية سيئ جداً وهي غير متكافئة في الولايات والمناطق المختلفة، فهناك الملايين من الأمريكيين لا يحظون بالعناية الصحية.
ث . التعليم الثانوي متدني جداً حيث يعاني الشباب الأمريكي من سوء التعليم بالمقارنة مع معظم الشباب الأوروبي أو الياباني، وهذا يؤدي إلى جهل 23 مليون أمريكي.
ج . تدهور البنية التحتية الاجتماعية، وتعفن الريف الذي ينطبق على غالبية المدن الأمريكية الرئيسية، ذات الأحياء الفقيرة من الطراز الموجود في أفقر بلدان العالم الثالث.
ح . كثرة الإباحة الجنسية التي تهدد الحياة الأمريكية ومركزية العائلة من خلال استفحال ما يعرف بعائلة الأب الواحد. وهذا بطبيعته يؤدي إلى إضعاف اللحمة الاجتماعية وتفكك الأسرة.
خ . انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة التي هي بحالة تصاعدية كل سنة.
د . الدعاية الهائلة للإفساد الأخلاقي، وتشريع القوانين لحماية الشاذين أخلاقياً من خلال الإعلام المرئي والمكتوب.
ذ . كثرة الميليشيات التي تحارب الحكومة الفدرالية، والتي تطالب بالانفصال عن الولايات المتحدة.
ر . توريط الولايات المتحدة في حروب خارجية حيث لا تستطيع الموازنة الأمريكية ولا الشعب الأمريكي تحمل نفقاتها.
وإذا أضفنا إلى ما ذكرناه سالفاً ما يخطط له المهووسين في الإدارة الأمريكية والمدعومين من الصهاينة بشقيها. من حروب ضد الإسلام والعالم، نجد أنفسنا أمام دولة تجلس على فوهة بركان ممكن أن ينفجر في أية لحظة، هذا يدفع العالم للتوحد ضد هؤلاء المجرمين الذي أعلنوها حرباً لتدمير البشرية تحت اسم هرمجدون، أو حرب ما يسمى بقوى الخير ضد قوى الشر. زيادة على ذلك انتشار ثقافة الجريمة وثقافة المخدرات وكثرة عبدة الشيطان وثقافة الشواذ. والمجتمعات التي تحتوي على مثل هذه الثقافات لا يمكن أن تستمر كما لا يمكن أن تسود العالم ومصيرها إلى الهاوية. وبناءاً على ذلك لا يمكن لأمريكا أن تكون شرطياً أو مصرفة لشؤون العالم، كما لا يمكن لها أخلاقياً وأدبياً وثقافياً ودينياً أن تتهم أحداً أو منظمة أو دولة بالإرهاب لأنها بلد الإرهاب الأعظم، ومصدر الإرهاب العالمي، وداعمة أكبر دولة إرهابية في العالم إسرائيل.
المراجع: الكتب :
دار النفائس / النشاط السري اليهودي غازي محمد فريج 1990
دار النفائس / انتحار شمشون مهندس حسني الحايك 1993(48/36)
دار النفائس / ويلات العولمة دكتور أسعد السحمراني 2002
المكتب الإسلامي / جذور البلاء عبد الله التل 1988
دار النفائس / الاستغلال الديني في الصراع السياسي محمد السماك 2000
مؤسسة الرسالة / إسرائيل الخطر والمخادعة د. نعمان عبد الرازق السامرئي 1998
دار الرشيد / من يحكم أمريكا فعلا الدكتور يحي العريض 1991
المقالات :
إسلام اون لاين / الإرهاب صناعة أمريكية 9/12/2001.
الوطن / أمثال بن لادن أمريكيون 8/6/2002.
آفاق عربية / انهيار أمريكا 7/11/2002.
المقاومة نت . جذور المرتكزات الفكرية للإرهاب الصهيوني طلال الخالدي.
الجارديان / الحكومة الأمريكية تصنع الإرهابيين / جورج مونبيوت 30/10/2001.
الأهرام / أحداث سبتمبر الأمريكية / أحمد نافع.
مجلة أقلام الثقافية / إسرائيل الكبرى / عادل رمضان.
المركز الفلسطيني للإعلام / أمريكا وإسرائيل وحرب الإرهاب / لواء صلاح الدين سليم محمد.
الصبار / قانون الإرهاب يضرب حقوق الإنسان الأمريكي عدد 146.
qudsway.com الإنجلوساكسونية ـ عقدة المحورية وفلسفة التفوق حسن الباش
البيان / ضحايا أسطورة " كواتز كواتل / أعداد الحسن المختار.
www.un.o r g / العنصرية والسكان الأصوليون / ريغو بيرتا مينشوتوم ( المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز وكره الأجانب / دربان).
شبكة الإنترنت للإعلام العربية / إرهاب الإمبراطورية الأمريكية 20/6/2002 .
شبكة المعلومات العربية محيط / الصهيونية المسيحية ترسم السياسة الأمريكية / عمرو سليم.
www.moqawama.tv / التوراة الميثولوجيا المؤسسة للعنف / عبد الغني عماد
=============(48/37)
(48/38)
عبدة الشيطان المعاصرون ... طقوسهم التعبدية (1)
الثلاثاء:10/06/2003
(الشبكة الإسلامية)
ربما عدَّ البعض من المبالغة القول بأن لعبدة الشيطان طقوسا تعبدية، وأن لهم أعيادا دينية ترتبط ارتباطاًً مباشراً بعبادة الشيطان والتقرب إليه، غير أن ذلك هو الحقيقة المرة التي قذفت بها إلينا المادية الغربية ، ومن يطلع على بنائية وتركيبة هذه الجماعة لن يكون عنده شك أن عبادة الشيطان أصبحت عند هؤلاء ديناً يلتزمون به، له شعائره وأعياده ، وله أفكاره ومعتقداته ، بل ولأتباعه لباسهم وشعاراتهم التي يلتزمون بها ويحافظون عليها . وقد حاولنا أن نظهر في هذا المقال بعض شعائرهم التي ذكرها الباحثون، حتى يطلع المسلم على هذه النِّحْلَةِ وأنها في تركيبتها من حيث الأفكار والممارسات لا تختلف عن سائر الأديان الوثنية الباطلة إلا في كونها الأخطر والأقبح .
طقوس الراغب في الانضمام إلى عبدة الشيطان
يحرص عبدة الشيطان على استقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب للانضواء تحت هذه النحلة الفاجرة ، وهم حريصون على نشر أفكارهم المنحلة والدعوة إليها ، فينشئون المواقع الإلكترونية، وينشرون الكتب، ولهم مجلات ونوادٍ وفرق موسيقية تغني بقاذرواتهم الفكرية .
ويبدؤون في استقطاب أعضاء جدد إلى الجماعة عن طريق دعوتهم إلى حفلات رقص وجنس من غير أن تظهر في تلك الحفلات مظاهر عبادة الشيطان، ثم يحاولون أن ينتقوا من المدعووين من يرون إمكانية إنضمامه إليهم، ثم يحاولون تعريفه بالجماعة ويكشفون له شيئا من أسرارها ، فإن أحب الانضمام إليهم عرضوه لاختبارات قاسية حتى يختبروا ولاءه وأنه لم يرد الدخول لنزوة أو شهوة ، كأن يأمروه بقتل والديه ، أو ممارسة أفعال قذرة ، فإن نجح ضم إلى الجماعة باحتفال مهيب، حيث يقف الكاهن أمام المذبح الذي حفت به الشموع السوداء ، وقد ارتدى معطفا أسود، ويأتي العضو الجديد في معطف أبيض اللون ثم يقوم بخلع ملابسه ، ويجثو على ركبتيه أمام المذبح عاريا، بعد ذلك يُجْرَح في يده ويجمع الدم في إناء من الفضة، ويدار على الأعضاء ليشربوا، وبذلك يتم التوحد بين الأعضاء حسب زعمهم .
وبعد إجراء الاحتفال يصبح العضو رسيماً في هذه الجماعة، ويبدأ بلبس شعاراتهم وثيابهم وما إلى ذلك .
ومن الجدير بالذكر أن العضو إذا انضم إلى هذه الجماعة كان من الصعب عليه الانسلاخ منها ، لأنهم يمارسون عليه كل أصناف الإرهاب خشية أن يكشف ممارساتهم التي يحظرها القانون من القتل والاغتصاب، وليس بعيدا أن يحاولوا قتله والتخلص منه .
أعياد عبدة الشيطان
تكثر الأعياد عند هذه النحلة الفاجرة ، ولعل السبب وراء ذلك يعزى إلى رغبتهم في الاجتماع للمحافظة على تواصل جماعتهم من جهة، وممارسة رذائلهم وعبادتهم للشيطان الرجيم من جهة أخرى ، وقد أحصى الكاتب يوسف البنعلي أعيادهم حسب تقويمهم فبلغت 22 عيدا ، تتميز جميعها بالجنس وممارسة القبائح وسفك الدماء البشرية وغير البشرية ، فمن أعيادهم عيد القديس وينبلد " طقوس الدماء "، وعيد عربدة الشيطان " طقوس جنسية "، وعيد الفسق الأعظم " طقوس الدماء "، وعيد الانقلاب الشمسي " طقوس جنسية " وغيرها ، وأعظم أعيادهم هو عيد الهلوين وهو أفضل أيام السنة عندهم، لأنه يوم تطلق فيه أرواح الموتى حسب زعمهم ، وهو اعتقاد مأخوذ من المعتقدات الوثنية .
القداس الأسود
من الملاحظ حرص هذه الجماعة على تسمية كثير من طقوسهم وما يتعلق بها بأسماء نصرانية ، فهناك كنيسة الشيطان ، والإنجيل الأسود ، والمذبح ، والصليب ، والقداس هذا في إطار الأسماء، أما في إطار الطقوس فثمة تشابه ما بين الشعائر النصرانية والطقوس عند عبدة الشيطان، مثال ذلك التعميد ( صب الماء على الرأس والجسد ) حيث يتم التعميد عند النصارى بالماء في حين يتم التعميد عند عبدة الشيطان بالقاذورات من بول ودم وغائط ، وكذلك مشابهة الصلاة عند عبدة الشيطان الصلاة عند النصارى حيث تتم الصلاة عند عبدة الشيطان بتلاوة فقرات من كتاب الشيطان مصحوبة بالموسيقى، وهو نظير الصلاة عند النصارى حيث تتم بتلاوة فقرات من الإنجيل مصحوبة بالموسيقى ، ويعزي البعض هذا التشابه كنوع من الانتقام من النصرانية التي عاقبت السحرة وعبدة الأوثان وأذاقتهم ما يستحقونه من عقاب وتنكيل .
ويبدأ القداس الأسود الاعتيادي بالذهاب إلى غرفة مظلمة جللت بالسواد وأنارت بعض جوانبها شموع سوداء، وبها مدفأة تعلوها نجمة خماسية وبالقرب منها يوجد المذبح وهو مغطى بقماش أسود ، تستلقي عليه فتاة عذراء عارية تماما يعلوها صليب مقلوب ،وهي تعد رمزا للرغبات الجنسية .
ويتقدم الكاهن الشيطاني أمام المذبح مرتديا معطفا أسود ، مع قلنسوة يغطي بها رأسه ، وبها قرنان صغيران ، فيبدأ بتلاوة الصلوات بلغة لاتينية أو انجليزية مقلوبة، يصاحبها عزف على آلة الأرغن " آلة تشبه البيانو " . وأما القرابين البشرية فلا تُقدَّم في كل مرة يقام فيها القداس .
القرابين البشرية(48/39)
يقول ريتشارد كفيندش : " يؤمن عباد الشيطان بأن الكائن الحي مستودع للطاقة، ولا تتحرر هذه الطاقة إلا حين يذبح، ولا بد أن يكون الذبح داخل دائرة حتى تتركز القوة الخارجة منه في مكان واحد، وللحصول على أكبر طاقة ممكنة يشترط في الضحية - سواء أكانت ذكرا أم أنثى - أن تكون صغيرة السن ، صحيحة البدن وبكراً ، وعلى الساحر أن يكون واثقا من أنه يستطيع التحكم في هذه الطاقة الكبيرة التي تكون مندفعة من الضحية بقوة جبارة وقت الذبح فلا يجعلها تفلت منه وإلا دفع حياته ثمناً لذلك، ويشترط عبدة الشيطان تعذيب الضحية قبل ذبحها ، والغرض من التعذيب إيصال الضحية إلى قمة الألم ، لاعتقادهم أن الهياج والانفعال الشديد الناتج عن الآلام المبرحة يجعل الطاقة الخارجة لحظة وقوع الموت سهلة الاصطياد وبالتالي يسهل التحكم بها " عن كتاب عباد الشيطان لبنعلي .
وهذه الممارسة الوحشية مأخوذة من الأمم الوثنية التي يحكمها السحرة ويتصرفون في شؤونها .
وقد أثارت تلك الأمور الرأي العام على عبدة الشيطان، على الرغم من أنهم حركة مصرح لها بممارسة شعائرهم في أمريكا مثلا، بل إن كنائسهم تلقى دعما حكوميا أسوة بالأديان الأخرى .
فانظر إلى هذه الحرية الخرقاء التي سمحت بهذا المستوى المنحط من التفكير والممارسات، ولم تحم المجتمع من ضلالات الأفكار وشذوذاتها ، بزعم الحرية .
هذه بعض طقوس هذه الجماعة الغارقة في الضلال، سقنا لك بعضها على أمل أن نكمل بقية طقوسها في مقال لاحق ، حتى يستزيد المسلم من معرفة ضلال هؤلاء ، فيبتعد عنهم، ويحذر منهم ، ويتمسك بدينه، ويعلم منَّة الله عليه أن هداه لهذا الدين ، نسأل المولى عز وجل أن يمن على عباده بهدايته، وأن يجنبهم طرق الغواية والضلال إنه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين
كنا قد بينا في مقال سابق بعضا من طقوس جماعة عبدة الشيطان المنحرفة والشاذة فكراً وسلوكاً، ونحاول في مقالنا هذا أن نكمل الحديث فيما بقي عند هذه الجماعة من طقوس شيطانية يتقربون بها إلى إبليس الرجيم.وفي مقدمة تلك الطقوس:
السحر
وهو من أشد ما يعتني به عبدة الشيطان، ولا سيما قادتهم ورؤسائهم، إذ أنهم يعتقدون أن السحر هو السبيل لجلب النفع ودفع الضر، وهو في نفس الوقت يضفي عليهم نوعا من الهالة والعظمة أمام أتباعهم.
الموسيقى طقس من طقوس عبدة الشيطان
وهي السلاح الأكثر فعالية في استقطاب الشباب والتأثير على أفكارهم وسلوكياتهم، فالموسيقى كما يقول صاحب كتاب عبدة الشيطان " البنعلي " " هي الجسر الراقص الذي تعبر من خلاله تلك الأفكار إلينا "، فهم مع حرصهم على اختيار نوع من الموسيقى ذات الصخب العالي التي تصم الآذان، يحرصون على خلطها بأغانٍ تنشر أفكارهم وتدعوا إليها، واسمع إلى بعض ما يرددونه في أغانيهم لتعلم حجم الضلال الذي يمكن أن يصل إلى الناس من وراء هذا البلاء: " أيها الشيطان..... خذ روحي.... ويا غضب الإله دنسها بالخطيئة وباركها بالنار... لا بد أن أموت..... الانتحار..... الانتحار.... لابد أن أموت " هذه كلمات بعض الأغاني، التي تغنى بموسيقى (الهفي ميتال) أو (الهارد روك) في حفل عام، وأمام عشرات الألوف من الشباب أكثرهم من المراهقين.
والموسيقى عند عبدة الشيطان وسيلة لتعطيل الحواس البشرية، ونوع من أنواع التخدير العقلي، حتى تُقبل أفكارهم دون تمعن أو تفكر.
الجنس في طقوس عبدة الشيطان
مبدأ عبدة الشيطان قائم في الأساس على الإغراق في الشهوات، لأن الارتقاء في نظرهم لا يتأتى إلا من خلال الانغماس في الخطايا والمحرمات، لذلك تكثر في طقوسهم واحتفالاتهم الممارسات الجنسية الشاذة والغريبة من سحاق ولواط وما إلى ذلك.
ويحرص عبدة الشيطان على تحريض أتباعهم على ارتكاب الفواحش والموبقات، وكلما كانت الفاحشة أعظم كانت أحظ وأكثر تقربا إلى إبليس لعنه الله. فعلى سبيل المثال يذكر الكاهن الشيطاني "لافيه": " أنه لا يحق لفرد أو مجتمع أو دين أن يضع حدا للرغبات الجنسية، لأن كل إنسان يختلف عن الآخر في كيفية ومدى إشباع هذه الرغبة "، بهذا المنطق المعكوس يدعو هذا الشيطان إلى الانحلال والتفسخ الخلقي، بدعوى الحرية واحترام خصوصية كل شخص في ممارسة رغبته الجنسية كيف شاء، وهو منطق يدل على قلة عقل هذا الشيطان، فالأديان السماوية جاءت لتنظيم حياة الناس والحيلولة دون تحولها إلى حياة بهيمية بعيدة عن منطق العقل والفطرة، فإطلاق العنان للشهوات والرغبات دون قيد من دين أو عرف مؤذن بفساد عظيم و انحلال مقيت.
جريمة جنسية شيطانية
يذكر الكاتب "يوسف البنعلي" قصة حدثت في أمريكا وتناقلتها الصحف عن أربع فتيات، اغتصبن من قبل عبدة الشيطان، تقول إحدى هؤلاء الفتيات: " اُسْتُدرجن إلى حفلة من حفلات عبدة الشيطان، في وسط غابة بجانب بيت مهجور، وعندما كانت السيارة تسير وسط الغابة، تملكنا شيء من الخوف، لكننا حاولنا إخفاءه، وعند وصولنا إلى المنزل شاهدنا حشداً من الرجال والنساء، يرقصون ويغنون حول نار مشتعلة، وهم شبه عراة، ثم أجبرنا على شرب الفودكا، واستنشاق نوع من المخدرات.(48/40)
بعد ذلك طرحنا أرضا بالقرب من النار وجردنا من جميع ملابسنا، ثم وقف أحدهم وسكب على أجسادنا بولا آدميا ودما، وصاح قائلا: في سبيلك أيها الشيطان العظيم "!!.
بعد ذلك والحديث ما زال للفتاة قام عبدة الشيطان باغتصابنا، حتى إذا قضوا وطرهم عصبوا أعيننا وألقونا في إحدى شوارع المدينة "
إذا كانت هذه هي بعض جرائم أو طقوس تلك الجماعة المنحرفة الضالة، فكيف يجوز في قانون العقل فضلا عن قانون الشرع أن يسمح لهم بإنشاء كنائسهم، ونشر أغانيهم، وبث سمومهم.
أي انحطاط أصاب البشرية، وأي فكر سفيه ساذج يحكمها، عندما تسمح بهذه القاذورات الفكرية أن تتنفس الهواء، وأن تعيش في حرية مزعومة، تُفسد فيها العقول والأبدان، وتُعتدى فيها على الأعراض والأنفس والأموال.
إن من يتأمل هذه الجماعة بتركيبها وتنظيمها وسلوكها، يكاد يجزم أن ثمة أيد خفية، تعبث بها وتسيرها، أيد جعلت جل همها إفساد الشعوب والأمم، حتى تستطيع السيطرة على ثرواتها ومقدراتها.
وكلمة أخيرة في نهاية هذا المقال نقولها لكل مسلم: إذا كان هؤلاء أقبح خلق الله، وأشدهم ضلالا يجالدون ويناضلون لنشر أفكارهم السوداوية، فكيف بالمسلم صاحب النور والهدى، كيف له أن يقعد عن نشر دينه وتبليغه، خاصة في تلك المجتمعات التي غاب عنها نور الوحي الإلهي، فعاشت في ظلمة الحياة المادية القاسية التي خنقت الروح، وحولت الإنسان إلى آلة صماء دون هدف يقصد، أو غاية تبتغى سوى إشباع حاجات الجسد، ومن كانت هذه حاله فهو أحوج ما يكون إلى نور الإسلام وهديه، وفقنا الله والمسلمين للدعوة إلى دينه والعمل به، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.
26/07/2003
http://www.islamweb.net
=============(48/41)
(48/42)
لا إله إلا الله مفتاح الجنة
لفضيلة الشيخ/ د:
ياسر بن حسين بن برهامي
الدعوة السلفية
Oma r _rahal84@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
لاإله إلا الله
كلمة نجاة ومنهاج حياة
هل تساءلت يا أخي يوماً :
ماذا تريد من هذه الحياة؟ وماذا يرد الله من إيجادنا في هذه الحياة؟
لاشك أنك وكل إنسان على ظهر الأرض تبحث عن السعادة والطمأنينة وسكون النفس , ولا شك أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بحصول التوافق بين إرادتنا وبين الغاية التي خلقنا الله من أجلها وركب صورتنا لتحقيقها ونحن خلقنا بلا إستشارة منا ولا رضا كما نرحل عن هذه الدنيا بالموت دون إستشارة ولا رضا وفيما بين البداية والنهاية نعيش أيضاً على ما فرطنا وجبلنا عليه إلا أن الله جعل لنا الإرادة والاختيار امتحاناً لنا واختباراً , وأرسل إلينا الرسل وأنزل عليهم الكتب إبلاغاً وإعذاراً , وأوحى إلى جميع الرسل دعوة واحدة لا تتغير , تبين للناس هذه الغاية التي خلقوا من أجلها وفطروا عليها ولا يسعدون إلا بحصولها : فقال الله عز وجل :
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (36) سورة النحل.
وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء .
وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)} سورة الزخرف .
قال العلماء : هي كلمة لا إله إلا الله .
وقال عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه : {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } (26) سورة هود .
وكذلك هود وصالح وغيرهم من الرسل عليهم السلام .
وقال المسيح: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (72) سورة المائدة .
فكلمة " لا إله إلا الله " هي دعوة الرسل أجمعين وهي عنوان التوحيد وهي العروة الوثقى وهي كلمة النجاة _ فهل هي كلمة تقال ونفعل بعد ذلك ما نفعل؟
لا إله إلا الله منهاج حياة
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)} سورة الأنعام .
فليس التوحيد مجرد كلام يُقال أو أفكار تعتنق فحسب بل الإيمان علم وعمل , عقيدة وشريعة , فهو إيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره , وهو طاعة لله وإخلاص واتباع لرسول ا صلى الله عليه وسلم وانقياد , وهو حب لله وشوق له وخوف منه وحده ورجاء لفضله , وهو دعاء وتضرع وخضوع واستسلام لله وحده وهو شكر للنعم وصبر على البلاء وعلى الطاعة وبُعد عن الشهوات .
وهو صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد , وهو ذبح ونذر وحلف بالله وحده لا شريك له , وهو أكل الحلال وترك للحرام في المأكل والمشرب والملبس والمكسب , وهو بر الوالدين وصلة أرحام وإحسان إلى الجيران وحسن خلق مع كل الناس من وفاء بالعهد وأداء للأمانة وترك الغش , وهو تحاكم إلى شرع الله والتزام به واللاضا بحكمه , وهو غض للبصر وحفظ للفرج وحجاب وستر للعورة , وهو دعوة إلى الله ونصرة للدين وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة الشرع في الأرض كلها , وهو إنتماء إلى حزب المؤمنين , حزب الله سبحانه وتعالى وترك أحزاب الضلال أتبْاع الشيطان.
فهو إجمالاًأن الإنسان في كل أموره حنيفاً لله , أي متوجهاً إليه , متقرباً إليه على ما جاء به رسول ا صلى الله عليه وسلم .
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم .
معنى لاإله إلا الله
قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (19) سورة محمد .
فالعلم بمعنى لا إله إلا الله فرض على كل مُكلف , والإله: هو المعبود والذي (يفزع) إليه الخلائق في حوائجهم .
فمعنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله ولا يلجأ العباد ويضرعون ويفزعون في كل ما ينوبهم إلا إلى الله وهو الذي تشتاق إليه وتميل إليه .
ومن هنا تعلم خطأ من ظن أن معنى الإله أنه القادر على الخلق والإختراع فحسب , حيث أن ( المشركين ) كانوا يقرون بذلك وإنما طالبهم رسلهم بان يقروا بأنه لا يستحق العبادة إلا الله , فمن أقر بوجود الله ثم عبد غيره أو كذب رسله فهو كافر بالله مخلد في النار , وكذلك من دعا غير الله أو استغاث به أو ذبح له من دون الله بعد بلوغ الحجة .(48/43)
وكلمة لا إله إلا الله تتضمن الكفر بالطاغوت في شقها الأول (لا إله) وهي نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن كل أحد دون الله , وتتضمن الإيمان بالله في شقها الثاني (إلا الله) .
قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة .
قال العلماء ( العروة الوثقى : هي لا إله إلا الله ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله " رواه مسلم وأحمد.
فالنطق بها علامة على الكفر بما يعبد من دون الله فلا يتم الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت , فما هو الطاغوت؟ وما معنى الكفر به؟
معنى الطاغوت وصفته الكفرية
الطاغوت: أصله الطغيان وهو مجاوزة الحد , فالطاغوت هو كل ما جاوز العبد به حده_ أي حد العبودية _وادعى لنفسه صفة أو حقاً من حقوق الألوهية أو الربوبية , فالطاغوت يشمل كل من عبد من دون الله وهو راض ويشمل رؤوساً خمسة هم السبب في ضلال أكثر العالم .
أولهم الشيطان الداعى لعبادة غير الله , قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يس .
فما معنى عبادة الشيطان؟ وهل هُناك من يقول أن إلهه هو الشيطان؟
ألا نرى أن الجميع حتى الكفار يسبون الشيطان ويلعنونه؟! بلى ولكن عبادة الشيطان هي طاعة في الكفر والشرك وتكذيب الرُسل عليهم السلام , فمن قبل ذلك منه وأطاعه فيه فقد عبده من دون الله .
الثاني من رؤوس الطواغيت :
الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله والدليل القاطع عل ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (60) سورة النساء .
نزلت فيمن أراد التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي أو إلى بعض الكُهان وهي تشمل كل من يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله , لا شك أن الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد جاوز حد العبودية التي تستلزم تلقي أحكام الله وشرعه بالقبول ( والأذعان ) ونسب إلى نفسه الربوبية في التشريع .
قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (54) سورة الأعراف .
وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (21) سورة الشورى .
فسمى الله من اتخذ من يُشرع له من دون الله مشركاً وهؤلاء المشرعين شركاء بالباطل فالله لا شريك له في خلقه كذلك .
والثالث من رؤوس الطواغيت:
الأحبار والرهبان الذين يُبدلون الشرع .
( أي علماء السوء وعباد السوء ) جرياً وراء الدنيا , قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة .
فسرها صلى الله عليه وسلم بقولهِ: " ألم يحلوا لكم الحرام , ويحرموا عليكم الحلال فأتبعتومُهم فتلك عبادتهم " (1)
والرابع والخامس من رؤوس الطواغيت:
الساحر والكاهن , فالساحر يدعي الضر , والنفع والخلق , وتقليب القلوب وكل هذه من صفات الربوبية , والكاهن يدعى علم الغيب , وعلم الغيب استأثر سبحانه وتعالى به .
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (59) سورة الأنعام .
وصفات الكفر بالطاغوت: أن يعتقد بطلان ما زعموه لأنفسهم من صفات أو حقوق الإله الحق لا شريك له , وأن يُصرح بلسانه بذلك , وبأن يعلم أنه حين ينطق بلاَ إله إلا الله فإنه يعني بها تكذيب كل هؤلاء أو غيرهم ممن يعبد من دون الله , ثم يكون عمله مُطَابقاً لقوله وأعتقاده فلا يُطيع الشيطان ولا يستجيب لدعائه فيما يأمرون به من الكفر والمعاصي ولا يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله , ولا يتبع من بدل شرع الله , ولا يأتي السحرة والكهان ثم تكميل هذا كله بالجهاد باللسان واليد والمال والنفس لإبطال عبادة الطواغيت من على ظهر الأرض وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (39) سورة الأنفال .
الولاء والبراء
من حقيقة معنى لا إله إلا الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبُغض في الله ) (2) .(48/44)
هل يتصور مؤمن يحب الله ويعبده وفي نفس الوقت يكره المؤمنين ويعاديهم ولا يُنصرهم؟!.
لا يتصور هذا إلا ممن لا يعرف حقيقة الإيمان .
قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (22) سورة المجادلة .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة .
فإن قال قائل: أليس اليهود والنصارى يؤمنون بالله؟
نقول لا نجيب نحن ولكن يجيبكم القرآن , قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (72) سورة المائدة .
وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (73) سورة المائدة .
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}سورة التوبة .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار " رواه مسلم والإمام أحمد .
و إن قال قائل: أليسوا أهل كتاب؟ فنقول , قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (6) سورة البينة , فمن كذب صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن كان من أهل الكتاب .
فإن قيل لنا: أليس الدين لله والوطن للجميع؟
قلنا: بل الدين له والأرض كُلها _وليس الوطن فقط_ لله رب العالمين بلا شريك له , قال تعالى: { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (128) سورة الأعراف .
ويكفي في إبطال روابط القومية والوطنية هذه الآيات البينات من سورة الممتحنة .
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) سورة الممتحنة .
فإن قالوا: ألم يقل الله: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (82) سورة المائدة .
قلنا لهم: أكملوا الآية ولا تبتلروها حتى تعلموا من هؤلاء .
قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (83) سورة المائدة .
فهذه الآية نزلت فيمن آمن منهم كالنجاشي وغيرهم وأما من لم يؤمن فقد قال الله فيهم: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (29) سورة التوبة .
ومن أوضح صور موالاة المشركين النهي التشبيه بهم في هديهم سواء الظاهر منه أو الباطن , قا صلى الله عليه وسلم " من تشبه بقومٍ فهو منهم"
ومن التشبه بهم في أعيادهم الباطلة التي هي من شعائر دينهم الباطل .
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (72) سورة الفرقان .
قال المفسرون في تفسيرها: أي أعياد المشركين
الإسلام دين السماحة والعدل
نعم ولكن هناك فرق بين المحبة والرضا بملة غير الإسلام , وبين العدل والسماحة .(48/45)
فالمسلم لا يظلم ولو كافراً , ولا يغدر , ولا ينقض عهداً , وهويحسن إلى من لم يحاربه في الدين وإن كان يكرهه ويبغضه على كفره , فالبر والقسط غير المحبة والموالاة والتشبه , ويجوز للمسلم البيع والشراء والإجارة وقبول الهدية والإهداء تألفاً للكفار , ولا يجوز له محبتهم , ولا نصرتهم ولا مدحهم على باطلهم ولا متابعتهم ولا طاعتهم ولا صداقتهم قال صلى الله عليه وسلم " لا تصاحب إلا مؤمناً " رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني .
هل نحن متطرفون؟؟
أخي: عرضنا عليك عقيدتنا في كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة الصحيحةفليس من حقنا أو حق أي إنسان أن ينسب إلى الإسلام قولاً أو فعلاً إلا بدليل من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وعلمائها , فهل من أعتقد ذلك وعمل بها يكون متطرفاً؟
فإن كان كذلك فوالله إنا لفي الطرف الذي عليه الكتاب السنة وإن فارقنا العالم أجمع , والموعد غداً بين يدي الله { يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) سورة الممتحنة .
فانظر لنفسك أين تكون غداً , فأنت تقرره اليوم .
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (173) سورة الصافات .
كتبهُ:
ياسر برهامي
=============(48/46)
(48/47)
مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية
محمد جلال القصاص
راجعه وصوَّبَه
الشيخ الدكتور / محمد صامل السلمي
أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى . مكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة وتشمل بيان :
أهمية وضع ضوابط لقراءة السيرة النبوية :
( السيرة النبوية ـ على صاحبها الصلاة والسلام ـ هي في الحقيقة عبارة عن الرسالة التي حملها رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشرى قولًا وفعلًا، وتوجيها وسلوكًا، ( وعدّل بها الموازين المنحرفة في هذه الحياة )1 ، فبدَّل مكان السيئة الحسنة، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله )2
واليوم يتنادى كثيرون للإصلاح الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ... الخ . وكثير من هؤلاء يدعي الانتساب للدين وأنه ينطلق من ثوابت الدين الكلية ويستوقد من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم شعلة يستضيء بها في رحلة ( الإصلاح ) التي يقوم بها .
والحقيقة أن الكل يذهب للسيرة بخلفية فكرية مسبقة فيَبتُر ويجتزئ وينقل ما يريد مما يحقق له أهدافه ، وقد رأينا أن العلمانيين ومن بذروا بذور العلمانية في عالمنا الإسلامي كـ ( طه حسين ) و ( ورفاعة الطهطاوي ) قد كتبوا في السيرة النبوية .
ولكنها طريقة أهل الأهواء والبدع الذين يعتقدون ثم يستدلون ، أو الذين يذهبون إلى النصوص ليأتوا بها على هواهم .
لذا كان لابد من وضع ضوابط لدراسة السيرة النبوية .
ولما كانت الخلفية الفكرية للكاتب أو المتحدث تنعكس على أفكاره المكتوبة أو المقروءة ولا بد ، رأينا ـ ممن يتكلمون في السيرة من دعاة الصحوة الإسلامية المباركة ـ مَنْ لا يرى في السيرة النبوية إلا السيف والجهاد ، ومنهم مَنْ لا يرى إلا الأشخاص ، ويحاول أن يُصوِّر الأمر على أنه بطولات شخصية ، وتنحصر رؤيته في عبقرية الشخص ، وتوصيف الحدث دون ربطه بغيره أو النظر إلى فقه الحدث وما فيه من التشريعات .
فغالب الطرح الموجود للسيرة النبوية يغلب عليه إثبات الوقائع ووصف تطور الأحداث وذكر النتائج .وهو أمر جيد إن كان الخطاب موجه فقط للعوام من الناس .
وقد حاولت في هذه الرسالة أن أوضح بعض الأصول لدارسي السيرة النبوية . ولم تقع عيني على دراسة مشابه لشيوخنا الكرام ، لذا بذلت ما استطعت من الجهد وأعترف بأن الأمر مازال يحتاج إلى مزيد من الدراسة ،وفي النية أن أتبع هذا البحث بأبحاث أخرى تربوية تتعلق بالخطاب الدعوي ، وقد بدأت بـ ( الخطاب الدعوي في العهد المكي ) وهي دراسة تربوية عقدية
والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي وأن ينفع بها .
أبو جلال / محمد جلال القصاص
أولا : أهمية دراسة السيرة النبوية :
1 ـ حُبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة ، قال تعالى " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " [ الأحزاب : من الآية ]
وفي الحديث " فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ" 3
وفي البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " الْآنَ يَا عُمَرُ 4"
وجاء رجل إلى النبي صلى الله فسأله عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ قَالَ ـ صلى الله عليه وسلم ــ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ r فَقَالَ : " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ : قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ 5.
والاقتداء به صلى الله عليه وسلم هو أحد ركني العبادة ( الإخلاص والمتابعة ) ، قال تعالى ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )[ الأحزاب:21] .
وهو أيضا الترجمة الحقيقية للمحبة قال الله تعالى ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [آل عمران : 31](48/48)
والاقتداء به صلى الله عليه وسلم والسيُّرُ على دربه سبب للهداية قال الله " ( وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ )[ النور:من الآية 54 ]
وكيف يحب المرء من يجهل أوصافه وأحواله ، وكيف يقتدي المرء بمن لا يعرف شيئا عن سيرته وهديه ، من هنا تأتي أهمية شرح السيرة النبوية لتوضيح صفاته صلى الله عليه وسلم ، ليعرفها من جهل فيحب ويتبع .
2 ـ وتعلُّمُ السيرة النبوية عبادة فقد جاء عن علي بن الحسين ــ رضي الله عنهما ــ أنه قال " كنا نُعلَّم مغازي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن "6 .
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول ا صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا، ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها»(7).
3 ـ وإذا أعملنا قاعدة " الوسائل لها أحكام المقاصد " ـ وهو ممكن هنا ـ وجدنا أن السيرة النبوية إحدى وسائل التعبد ، تأخذ حكم الغاية التي تصل إليها . وبعض الغايات عبادات واجبة ، وبعض الغايات دفاع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم .
4 ـ وفي السيرة توضيح لكثير من معاني القرآن الكريم ، كتلك الآيات التي تتكلم عن الغزوات في سورة آل عمران ،والأنفال والتوبة والأحزاب والفتح والحشر ... ، كما أن في دراسة السيرة النبوية بيان لكثير من أسباب النزول . فهناك سور بأكملها تتكلم عن غزوة مثل سورة الأنفال التي تتكلم عن غزوة بدر ، وسورة التوبة التي تتكلم عن غزوة تبوك ، وسورة الحشر التي تتكلم عن جلاء بني النَّضير ، وهناك آيات كثيرة في سورة آل عمران تتحدث عن غزوة أُحد ، وحتى تفهم هذه الآيات جيدا لا بد من دراسة السيرة النبوية .
5ـ ولما كانت القدوة لابد منها في حياة الناشئة كان لابد من تعلم السيرة النبوية ، لإعطاء الأجيال نماذج طيبة طاهرة ، من الصحابة والتابعين ، وطرد النماذج الجاهلية أو الخيالية التي تعطى للأطفال فيما يعرض على الشاشات المرئية ، أو في القصص المكتوبة ، مما عَمَّت به البلوى في هذه الأيام . ففي السيرة نماذج حية للقادة العظماء وعلى رأسهم النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي السيرة نماذج حيّة للزهاد وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم
وفي السيرة نماذج للتجار الناجحين المخلصين الأتقياء . وفي السيرة أفضل النماذج للمربِّين وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي السيرة أسمى نماذج الصبر والثبات والجِد في الحصول على المراد .
ولا بد من عقد المقارنة بين النماذج الخيالية المكذوبة التي لا يستفيد منها القارئ ـ وخاصة الناشئة ـ شيئا ، وبين نماذج البطولة الحيّة الموجودة في السيرة النبوية .
بل لا بد من عقد المقارنة بين عظماء التاريخ الإسلامي وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وباقي الجبابرة الذين استخفوا قومهم فأطاعوهم ، والذين مَلَكُوا على الناس بالسيف ، ولم يتركوا أثرا لهم يُحي ذكرهم بالخير بين الناس كما كان حال من ربَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6 ـ واليوم دار الزمان دورة أخرى ، وصار الكفر هو القوة العظمى على وجه الأرض ويحاول أن يفرض علينا ما هو مرفوض في ديننا ، وتبعه كثير من قومنا رغبة ورهبة ، ولا بد من التصدي لهذه الحالة والوقوف بوجهها ، لذا كان لا بد من معرفة كيف عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر من قبل . وتُعرض السيرة النبوية كنموذج للإصلاح ورد الناس إلى دين الله .
وأحاول ـ بحول الله وقوته ـ عرض بعض المفاهيم التي لا بد منها لمن يريد دراسة السيرة النبوية أو عرضها على الناس .
ثانيا : السيرة النبوية وصحة المصادر :
يعاني النصارى واليهود من الشَّك الكبير في تراثهم الديني . . . كل تراثهم الديني ؛ بل في أقدس ما لديهم وهو ما يسمونه ( الكتاب المقدس )8 ، فهم مختلفون أو قل يجهلون الكثير عن الشخصيات التي كتبت ( العهد القديم ) وكذا من كتبوا الأناجيل ( القانونية منها وغير القانونية ) ، والكلام في التشكيك فيمن كتبوا الأناجيل مشهور ومعلوم ، والمعلومات عن الأصول التي تمت الترجمة منها تكاد تكون معدومة 9، والحديث عن ما يسمونهم بـ ( الآباء الأولون ) حديث مُحتكر بين طائفة معينة ، ومن يدخل منهم الإسلام يتكلم بأنه كله كذب ولولا ذلك لخرج للعوام ، فهم إذا في شك كبير من كتابهم وتراثهم الفكري والتاريخي ، وهو مصداق قول الله تعالى ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ) [ الشورى : من الآية 14] . ويسترُ عيبهم أن الدين حكر على الأحبار والرهبان ، وأن العوام ليس لهم من الدين سوى بعض القضايا الذهنية التي يعتقدونها كقضية الفداء والصلب مثلا عند النصارى ، وبعض الشعائر التعبدية التي يلتزم بها القليل . ولا يلام عليها الباقون .
هذا حال أقرب الديانات لنا ــ النصرانية ــ والأمر أسوء في اليهودية والبوذية وغيرهما من الديانات الأخرى .(48/49)
أما نحن المسلمون فنعرف عن نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم كل شيء . . .نعرف عنه صلى الله عليه وسلم مأكله ومشربه وملبسه ومشيته وجلسته ، وكيف كان ينام ،وكيف كان يضحك ، وما كان يحب مِن الأشياء ، ومَن كان يحب ويكره من الأشخاص ، ونعرف صلاته وغزواته ، وحاله في بيته مع نسائه وأطفاله وأحفاده ، ونعرف عن نبينا ما لا يعرفه أحدنا عن أبيه.
وهذه مِنَّة من الله عظيمة يجب التنبيه عليها لمن يعرض السيرة النبوية على الناس ، فنحن حين نعرض السيرة النبوية نتكلم عن عِلْم مدون ،وليس عن قصص مفترى . ونتكلم عن حقائق وأشخاص معروفة ومعلومة وليس عن أشخاص وهمية .
ويعرف أهمية هذا من يناظر النصارى ويختلط بهم .
وأمرا آخر يجب التنبيه عليه وهو أن الكتب التي تُؤخذ منها السيرة النبوية ـ ومنها كتب التفسير ـ تثبت الروايات الضعيفة والمكذوبة للرد عليها وتضعيفها . فلا يعني أبدا وجود هذه الروايات في كتب السير أنها صحيحة فلا بد من الالتفات إلى التعليق الذي يذكره المؤلف على القصة أو الرواية .
مثل قصة الغرانيق العلا التي أوردها المفسرون في سورة النجم ولم يقل أحد منهم أن القصة صحيحة 10، بمعنى أنه نزل في القرآن آيات تقول عن ( اللات ) و( العزى ) " أنهم هم الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترتجى " فلم تكن هذه أبدا يوما من الأيام آيات من كتاب الله وتم نسخها أو حذفها . ولم يذكرها المفسرون من باب التأيد ، وإنما من باب التكذيب والرد على من يقول بها .
ومثال ذلك أيضا ما يقال عن الحمار ( يعفور ) الذي كلَّم النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بزعمهم ، وما يقال من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى زينب في ثياب شفافة فأعجبته وسعى في طلاقها من زيد ليتزوجها هو صلى الله عليه وسلم
هذه الرويات ومثلها تَرِدُ في كتب السير وكتب التفسير أيضا لتكذبيها والرد عليها .
وليس مجرد وجودها هو إثبات لها كما يَفتري أهل الكتاب .
فالواجب على من يعرض السيرة أن ينبه على هذا الأمر .
وقد يبدوا للقارئ أن هذا الأمر بسيطٌ لا يستحق الوقوف عنده والتنبيه عليه ، إلا أنك حين تعلم أن دعاة الكفر ينقلون هذه الأشياء لمن يسمعونهم من المسلمين والنصارى ويقولون لهم ها نحن ننقل لكم من كتب أإئمتهم الكبار ( ابن كثير ) و ( القرطبي ) و ( الجلالين ) ... الخ يتبن لك مدى أهمية التنبيه على هذا الأمر ، وعلى هذا المسلك الفاسد الذي هو في حقيقة أمره كذب ليس إلا .
ثالثا : شخصُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفترى عليه :
ما يحدث اليوم من سبِّ للحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ــ ليس حدثا عابرا قامت به صحيفة سيئة الأخلاق نفَّثت به عن حقدها في عدد من أعدادها ، وليس هو همُّ حفنه من أراذل الكفار مُلئت قلوبهم غيظا وحنقا على شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم فقاموا يمثلون وينكتون ويسخرون .بل لو كان الأمر كذلك لما حصل به الإهتمام . إذ أن مجاراة السفهاء أمر يترفع عنه العقلاء . . .ولكن .. الأمر أعمق من هذا وأبعد .
هذه الأمور ليست إلا كما يقول الله عز وجل : ( . . . قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) (آل عمران : من الآية 118 ) . وهاأنذا أنادي العقلاء . فهل يسمعون ؟ . . . وهل يجيبون ؟ . . . وليت أولى العزم من العقلاء مَن يلبون ؟
من قبل كان النصارى في حملاتهم ( التبشيرية ) يتكلمون عن النصرانية ... يبترون ويكذبون ويبدون قليلا ويخفون كثيرا كي يُظهروا دينهم المحرف في صورة يتقبلها الآخر . واتخذوا مما يسمى بحوار الأديان ... هذا الحوار الذي يجرى مع علماء الدين ( الرسميين ) وسيلة ليقولوا لمن يخاطبونهم من ضعاف المسلمين في أدغال أفريقيا وجنوب شرق أسيا أن الإسلام يعترف بنا ولا يتنكر لنا ، فكله خير ـ بزعمهم وهم كاذبون آثمون ـ .
وكانت حملتهم على الإسلام حملة على شعائره ... يتكلمون عن ( التعدد ) وعن ( الطلاق ) وعن (الحدود ) وعن ( الجهاد ) وعن ( الميراث ) وعن ناسخ القرآن ومنسوخة ، ثم في الفترة الأخيرة وخاصة بعد انتشار الفضائيات ودخولها كل البيوت تقريبا ، وكذا بعد ظهور تقنية الإنترنت عموما والبالتوك خصوصا ، أخذ القوم منحى آخر وهو التركيز على شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم .قاموا ينقضون الإسلام بتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم .
ودعك من كلام الأراذل ، هناك طرحٌ يُلْبِسُه دعاة الكفر ثوب العِلمية ، ويدَّعون أنه الحقيقة التي لا مراء فيها ، يخاطبون بهذا الهراء قومهم ومن يتوجهون إليهم بالتنصير !!
هذا توجه عام داخل حملات التنصير اليوم .
والأمر بيِّن لمن له أدنى متابعة لما يتكلم به القوم . وما حدث في الصحف الأوربية هو طفح لما يُخاطب به القوم في الكنائس وغرف البالتوك وبعض الفضائيات عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .(48/50)
فهم يحاضرون ويؤلفون عن ( أخلاق نبي الإسلام ) ، يتكلمون عن زواجه بتسع من النساء ـ وقد اجتمع عند سليمان عليه السلام سبعمائة من النساء وهذا في كتابهم ـ ، وعن زواجه من عائشة ومن زينب ومن صفية ـ رضي الله عنهن ، وعن غزواته صلى الله عليه وسلم ؛ وبطريقة البتر للنصوص واعتماد الضعيف والشاذ والمنكر من الحديث يخرجون بكلامهم الذي يشوهون به صورة الحبيب صلى الله عليه وسلم . ولكنه في الأخير يبدو للمستمع أن هذا كلام ( ابن كثير ) و ( الطبري ) و( ابن سعد ) علماء الإسلام . فيظن المخاطبون أنها الحقيقة التي يخفيها ( علماء ) الإسلام !!
دعاة النصرانية ـ مع الأسف ـ يغرفون من وعاء الشيعة الكدر النجس حين يتكلمون عن أمهات المؤمنين وعن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بل وفي كلامهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا ، ويغرفون من وعاء ( القرآنيون ) الذين يتركون السنة تشكيكا في ثبوتها أو في عصمة الحبيب صلى الله عليه وسلم .
والمطلوب هو قراءة جيدة لما يحدث ، والتصدي له على أرض الواقع . لا نريد ثورة كلامية ، وغضبة لا يفهم منها ( الآخر ) إلا أنها نفرة المتعصب .
نريد قطع الطريق على هؤلاء وإحباط كيدهم ، وإنقاذ الناس من الكفر بربهم .
مطلوب خطاب أكاديمي يجفف منابع المنصرين ، أعني ما يقوله القرآنيون والشيعة على شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم ونسائه أمهات المؤمنين ـ رضى الله عنهن ـ . وما يفتريه النصارى بالبَتْرِ للنص واعتماد المَكْذُوب والشاذ والضعيف من الحديث .
ومعنيٌ بهذا طلبة درجات التخصص العليا في الكليات الشرعية . وإن أخذ الأمر وقتا ولكنه سيثمر بإذن الله يوما ما .
ومطلوب خطاب لعامة الناس يبين لهم كيف كان نبيهم صلى الله عليه وسلم بعيدا كل البعد عما يقولوه النصارى ، وأن ما يقال محض كذب ، وأن صلى الله عليه وسلم ـ كان كل الكمال وجملة الجمال صلى الله عليه وسلم ، ويأخذ شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم اهتماما أكبر ممن يعرضون السيرة النبوية على الناس .
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت * * * مثل النبي رسول الأمة الهادي .
نريد أن يطلع إخواننا وشيوخنا الأفاضل على شبهات القوم و يتعرضوا لها حين شرح السيرة النبوية ، يبرزوا للناس صورا ومشاهدا من أحوال صلى الله عليه وسلم ـ في بيته وفي تعامله مع أصحابه ، تبين للناس حلمه وكرمه و طول سجوده لربه في ليله .
أقول : لا بد من الوقوف مع هذه القضية وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بشرا يعتريه ما يعتري البشر من حب النساء والولد ، ومن الحاجة إلى الطعام والشراب ، وما إلى ذلك .
وأن ما حدث على يديه من نصر وفتح وتمكين ما كان أبدا لعبقريته فقط ، كما يحاول أن يصور كثير ممن يسمون منصفين عند الغرب ، ولكن لأنه كان نبيا يوحى إليه ، صلى الله عليه وسلم
رابعا: البعثة المحمدية ( السيرة النبوية ) حلقة من حلقات الدعوة إلى التوحيد :
ـ خلق الله عز وجل الناس لعبادته وحده لا شريك له (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)11 فكان آدم عليه السلام نبيا مرسلا 12، ثم كانت ذريته من بعده على التوحيد عشرة قرون حتى ظهر الشرك .ــ وأرسل نوح عليه السلام يدعو الناس إلى التوحيد 13 ، ومن يومها وموكب الدعوة إلى الله سائر .
ـ دعوة الكل ـ بما فيها دعوة صلى الله عليه وسلم ـ هي الإسلام بمفهومه العام ، الاستسلام لله ... إخلاص العبادة لله عز وجل بشقيها الطاعة والنسك ، أو الشرائع والشعائر ــ . وموجز دعوتهم ــ عليهم الصلاة والسلام ــ أنها دعوة واحدة إلى منهج " التوحيد " بكل فروعه وأنواعه وموالاة أهله ، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صُوَرِه وألوانه ، ومعاداة أهله14 .
ــ وفي القرآن جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها كتاب واحد قال تعالى :
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)15 .(48/51)
وقال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)16 وقال تعالى : (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) 17، وجُمْلةً (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً . أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً )18...
فالدين عند الله واحد (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ)19 وليس هناك تعدد أديان وإنما تعدد رسالات . ولذلك من الخطأ الاعتقاد بتعدد الأديان الإلهية .
وتدبر قول الله تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ)20 ، وقول الله تعالى ( وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً )[ الفرقان : 37] .
ومعروف أن قوم نوح لم يكذبوا إلا نبيهم نوحا عليه الصلاة والسلام ، وإنما لما كانت الدعوات واحدة ، أعتبر تكذيب قوم نوح لرسولهم ـ نوح عليه السلام ـ تكذيب للرسل جميعا .
فالدين عند الله الإسلام ولا يقبل من الناس غيره (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)21 هو دين إبراهيم عليه السلام قال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )22 وقال تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )23
وهو دين يعقوب عليه السلام وبنيه من بعده قال الله (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ . (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)24
وجاء على لسان قوم موسى عليه السلام (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)25 ، (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ)26
وجاء على لسان نوح عليه السلام (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)27
وجاء على لسان يوسف عليه السلام " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين " [ يوسف : 101 ]
وجاء على لسان الحواريين " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون " [ آل عمران : 52 ] .
وفي آية أخرى " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأنا مسلمون " [ المائدة : 111 ]
وجاء في خطاب سليمان عليه السلام إلى أهل اليمن (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)28
(فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)29 ، وجاء على لسان الملائكة وهم يتكلمون عن قوم لوط عليه السلام (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ )30
فالدين واحد وإن تعدَّدت الرسالات . وفي الحديث " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ "31(48/52)
ـ ونجد في السيرة النبوية ربطا بين الأشخاص الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من سبقوا .
يُشبَّه أبو بكر ـ رضي الله عنه بمؤمن آل فرعون ـ ، وعروة بن مسعود الثقفي بالرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى32 ، وعقبة بن معيط بقاتل ناقة صالح عليه السلام33 . وأبو جهل بفرعون34 ، وأمية بن أبي الصلت بالذي آته الله آياته فانسلخ منها35 ... وقريب من هذا " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ36 " و " لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ37 .
وحين عَرض السيرة النبوية على الناس لا بد من الحرص على تبيين هذا الحبل الممدود بين عباد الله وعباد الشيطان على مر العصور 38
ـ والقرآن الكريم يستخدم مع المكذبين للرسالة في كل العصور نفس الوصف فهم ( الملأ ) ... ( الذين استكبروا ) .
وأتباعهم هم الذين ( استضعفوا ) .
وجاء التعبير عن رفض دعوة الرسل ـ كل الرسل ـ بأنه عبادة للشيطان قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) 39
والمطلوب هو توضيح هذا الربط بين عباد الله في كل زمان ومكان، وبين عباد الشيطان في كل زمان ومكان من خلال دراسة السيرة النبوية . وبيان أن السيرة النبوية ما هي إلا حلقة من حلقات الدعوة إلا الله عبر التاريخ ، هي رسالة الله إلى البشرية بعد أن انحرفوا لردهم إلى الدين الحق . وهذا الربط أيضا يحدث نوع من الأنس بين مسلمي اليوم ومسلمي الأمس . ويشعر المسلم بأن نسبه عريق بين الأجيال ، وفيه استحضار لحال من مضوا والتأسي بهم .
خامسا: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب فقط .
بعض ممن يشرحون السيرة النبوية ، يحصرون أحداث السيرة في العهد المكي بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وبين قريش ، مما يفهم منه أن الدعوة كانت محلية ، علما بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف ، وكان يعرض نفسه على القبائل في الحج ، وجاءه الجِنُّ واستمعوا إليه ، وجاءه فريق من نصارى الحبشة والشام حين سمعوا بمبعثه صلى الله عليه وسلم فتلا عليهم القرآن وأسلموا . وفيهم نزل قول الله تعالى .في سورة القصص : (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون . الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ "40
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه إلى الحبشة لتكوين نواة أخرى احتياطية للدعوة الإسلامية 41.
وبعد ذلك كاتبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك يدعوهم إلى الإسلام .
فقد كانت الدعوة عالمية من يومها الأول وفي كل مراحلها .
أضف إلى ذلك البشارات التي كان يتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم من فتح فارس والشام
وجاء في الحديث " تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ42 فَيَتَحَمَّلُونَ43 بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "44
وفي الحديث " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ "45
وفي الحديث " تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ " 46
فالدعوة كانت عالمية من يومها الأول ، ومن المهم جدا التنبيه على هذا الأمر . فهناك من يردد أن الدعوة كانت محلية عربية ، قرشية . ثم تحت أطماع استعمارية أصبحت عالمية . هذا حديث نفر غير قليل من ( العقلانيين ) وهناك مَن يسمع لهم .
سادسا : حال البشرية قبل البعثة المحمدية .
هذه الفقرة متممة لما قبلها .
كثير ممن يتناول دراسة السيرة النبوية يتناول فقط حال الجاهلية في الجزيرة العربية فقط ، بل يختزل البعض الأمر أكثر من ذلك فلا يتكلم إلا عن حال قريش ، وكأن صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا إلى العرب فقط ! .(48/53)
ومن فضّلِة القول أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث للناس كافة ، وأن نور الإسلام أضاء جنبات المعمورة كلها بعد قرن من وفاته صلى الله عليه وسلم .
إخواني الكرام !
لم يكن حال البشرية خارج الجزيرة العربية خير من حالها في الجزيرة العربية ، لا في الناحية الدينية ولا في الناحية الاجتماعية ،ولا في الناحية الاقتصادية . لم تكن البشرية قبل صلى الله عليه وسلم ، تعرف أيا من أنواع التكريم للإنسان ، وإن كان هنا رقيا ماديا إلا أنها لم تستفد منه بسبب ترك هدى الله عز وجل .
في الفرس :
كانت المحرمات النسبية التي تعارف على حرمتها أهل الأقاليم المتواضعة موضع خلاف ونقاش عندهم ، حتى أن يزدجر الثاني الذي حكم في أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بنته ، ثم قتلها ، وبهرام جوبين الذي تملك في القرن السادس الميلادي كان متزوجا أخته .
ولم يكن هذا معصية عندهم بل كان قربة يتقربون به إلى الله .!! 47
وفيهم ظهرت دعوة ( ماني ) التي تدعو إلى العزوبية وترك الزواج استعجالا لفناء البشرية ، ومع أن صاحب هذه الدعوة قتل إلا أن دعوته ظل لها أنصار إلى ما بعد الفتح الإسلامي .
وفيهم ظهرت دعوة ( مزدك ) التي دعت إلى أن يكون الناس سواء في كل شيء ، في الأموال وفي النساء ، ولاقت هذه الدعوى رواجا كبيرا ، حتى صاروا لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه .
وكان الأكاسرة يدَّعون أنهم يجري في عروقهم دمّ إلهي ، وكان الناس ينظرون إليهم كآلهة ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئا علويا مقدسا ، فلا يجري اسمهم على لسانهم ، ولا يجلسون في مجالسهم ، وليس لأحد حق عليهم ،وأن ما يعطونه لأحد إنما هو صدقه وتكرم من غير استحقاق ، وليس للناس قبلهم إلا السمع والطاعة .
ودون ذلك كان المجتمع قائما على الطبقية المؤسسة على اعتبار الحرفة والنسب ، وكان من قواعد السياسة أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه ، ولم يكن يسمح لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها ، ولم يكن الملوك يولُّون وضيعا وظيفة من وظائفهم .
ثم هم جميعهم ـ أهل ـ فارس كانوا ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة ازدراء وامتهان ، ويلقبونها بألقاب فيها احتقار وسخرية ، ويرون أن بهم ما ليس بغيرهم من أسباب الرفعة والعلو ، وأن الله قد خصَّهم بمواهب ومِنَح لم يشرك فيها معهم أحدا .
وفي ناحية الشعائر التعبدية ، كانت الديانة عندهم هي عبادة النار ، والنار لا توحي لعبادها بشريعة ولا ترسل رسولا ولا تتدخل في شئون حياتهم ، لذا أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس يؤدونها في أماكن خاصة وأوقات خاصة ، أما في أمورهم فكانوا أحرارا يسيرون على أهوائهم ، أو ما يؤدي إليه تفكيرهم ، أو ما توحي به مصالحهم ومنافعهم .
وفي الهند والصين كانت البوذية ، وهي ديانة أرضية تدعو إلى قمع شهوات النفس وترك الدنيا وما فيها ثم تحولت إلى الوثنية بعد أن عبدت بوذا ، وتسرب إلى مناهج العبادة السحر والأوهام . وكانت الآلهة متعددة حتى أصحبت المعادن كالذهب والفضة آلهة ، والحيوانات آلهة والأجرام الفلكية آلهة ، وبعض الأشخاص التاريخية آلهة . . . الخ .
وكانت ذات الطبقية موجودة أيضا .
أما اليهودية فلم تكن تصلح لحمل مشعل الحضارة للبشرية ، فقد تحولت لديانة مرتبطة بالجنس ، لا ترى عليها في الأمم الأخرى من سبيل ، فلم تكن لدى اليهود نيّة لهداية البشرية وإنما للنيل منها ، وتحقيق أطماعهم على حساب الآخرين .
والمسيحية ديانة لم تعرف التطبيق في أرض الواقع ، فلم تكن المسيحية في عهدها الأول من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان ، بحيث تقوم عليها حضارة أو تسير في ضوئها دولة ، ثم جاءها ( شاؤول اليهودي ) المعروف بـ ( بولس الرسول ) فطمس نورها وطعمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها والوثنية الرومية التي نشأ عليها ، وقضى قسطنطين على البقية الباقية ، حتى أصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية ، والوثنية الرومية ، والأفلاطونية المصرية والرهبانية ، كما يقول صاحب كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين .
وأصبحت بعد زيادات المحرفين وتأويل الجاهلين ، تحُولُ بين الإنسان والعلم والفكر ، وأصبحت على مَر العصور ديانة وثنية يقدس أهلها القديسين والصور المعلقة في الكنائس . حتى أن أصحابها الأوائل لو بعثوا لما استطاعوا التعرف على شي من ديانتهم .
وحدث أن انقسم النصارى إلى ما يعرف اليوم بالكاثوليك و الأرثوذكس تبعا لاختلافهم في طبيعة المسيح عليه السلام48 ، وكان مذهب الدولة هو المذهب الكاثوليكي . وقاموا باضطهاد من خالفهم المذهب ، فرجالٌ كانوا يُعَذَّبُون ثم يقتلون غرقا ، ورجال كانوا يُشْعِلُون فيهم النار وهم أحياء موثقون ، و غير ذلك من الفظائع .
وكانت ذات الطبقية الموجودة في غيرهم موجودة فيهم ، فكانت بعض الممالك تزرع وتحصد ، وتحمل زرعها على دوابها وأكتافها لخزينة الدولة .
وانتشرت الرشوة والفساد الإداري في الدولة ، والفساد الخلقي بين عوام الناس .
وباقي الشعوب الوثنية في أفريقيا كانت تعيش عيشة أقرب للبهيمية منها للإنسانية .(48/54)
هذا هو حال البشرية قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام .
وأقول : ومن المهم ونحن ندرس السيرة أو نعرضها على الناس أن نوضح حال البشرية قبل البعثة المحمدية ، وذلك لأن فريقا من عبّاد الصليب اليوم يقولون بأن البشرية كانت في أوج حضارتها ثم جاء العرب ـ يعنون المسلمين ـ وهدموا هذه الحضارة . فكان لا بد من التعريج على حال البشرية قبل البعثة المحمدية لبيان أي حضارة هذه التي كانت قبل الإسلام وهدمها الإسلام ؟!!
وبيان أي حضارة أقامها الإسلام ، وبيان كيف أن الإسلام كان نورا ورحمة من الله للبشرية لمن آمن منها ولمن كفر .
وهناك فريق آخر أخبث من هذا الفريق ، يتكلم بأنها كانت حركة سياسية كغيرها من الحركات ويعرض السيرة النبوية من هذا القبيل ، وأن الفتوحات ما هي إلا أحد أشكال الاحتلال ، وأنه هبت ثورات فيما بعد لمقاومة هذا الاحتلال49 ورفع الظلم عن الناس . ويذهب يقرأ السيرة النبوية وتاريخ الخلافاء الراشدين ، والسلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ بهذه الخلفية 50.
.ونحتاج إلى طرح للسيرة النبوية يبين أن الدعوة ما كانت أبدا قرشية أو عربية ، ولم تكن الحركات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وخاصة الفرق التي ظهرت في القرون الأولى حركات شعوبية ـ باستثناء حركة الزنوج والتي لم تستمر ولم تترك أي أثر فكري أو منهجي في حياة الناس ـ ضد العرب بل كانت حركات عقدية منحرفة ، وكان رؤوسها عرب وسبب نشأتها خلافات دينية51 .
وهذا الطرح لا بد أن يعمل على ربط العقيدة الصحيحة . . . وأهداف الدعوة الكلية التي هي تعبيد الناس لله ونشر العدل بين الناس بأحداث السيرة النبوية .
وهذا يستلزم قراء جديدة للسيرة النبوية ، ولعل فيما يأتي مزيد بيان
سابعا: طبيعة الخطاب الدعوي في مكة ـ وحدة الأهداف والمنطلقات ـ
في الجاهلية الأولى كان المال دولة بين الأغنياء ... قِلَّة غنية وكَثرة بالكاد تجد قوت يومها .
وفي الجاهلية الأولى كانت الحروب تأكل الرجال على ناقة أو لأن فرسا سبقت أختها .!
وفي الجاهلية الأولى كان الزنا وكانت الخمر وكان وأد البنات وبيع الأحرار .
وفي الجاهلية الأولى كان الشرك الأكبر ( شرك النسك وشرك الطاعة ) ... تُدعى الأصنام من دون الله ويُنذر لها ويُذبح عندها ، وكان شرك الطاعة ... يُشَرِّع الملأ52 ويتَّبِع العوام .
ولم تخل الجاهلية من المصلحين ، الذين يسعون في إصلاح ذات البين وحقن الدماء ورفع الظلم عن الضعفاء .
وحين بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يضع يده في يد أحد من هؤلاء ألبته .
بكلمات أُخَر :
رُغم أن الدعوة الإسلامية كانت تدعوا لمثل ما كان يدعو إليه كثير من المصلحين من مكارم الأخلاق إلا أنها لم تضع يدها في يد أحد من هؤلاء .
ذلك لأنه وإن اتحدت الأهداف فإن المنطلقات متغايرة . فهؤلاء دوافعهم شتى .. تدفعهم المروءة ويدفعهم الثناء الحسن ويدفعهم عرف الآباء ، أما المسلمون فيدفعهم طاعة الله ورسوله ـ ولا ينبغي أن يكون لهم دافع غير ذلك ـ .
وهؤلاء تقف أهدافهم عند إصلاح الدنيا ؛ والمسلمون يصلحون الدنيا للآخرة .
وشتان .
ومن يتدبر أحداث السيرة النبوية وما كان يَتَنَزَلُ في بداية البعثة يجد أن الدعوة الإسلامية بدأت بتعريف الناس بربهم .. بأسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته .. كيف أنه الحي القيوم الرحيم الرحمن ذي الجلال والإكرام مالك الملك القريب المجيب .. الخ ، ثم بترسيخ نظرية الثواب والعقاب وذلك بتعريفهم بالجنة ( دار الثواب ) وبالنار ( دار العقاب ) ، وقُصَّ عليهم خبر من سبقوا ، مَن أطاعوا منهم كيف كانت عاقبتهم ومن عصوا منهم ماذا فعل الله بهم . واقرءوا ما نزل من القرآن في مكة ، وكذا الخطاب الدعوي في مكة المكرمة 53.
ثم جاءت التشريعات باسم الله الذي عرفوه بأسمائه وصفاته وبَيْنَ يدي الثواب والعقاب .
فمثلا قيل لهم : الله ـ الذي عرفوه ـ يأمركم بالصلاة ، ومن فعل فله الجنة ـ التي عرفوها ـ ومن عصى فله النار ـ التي عرفوها ـ .
والله الذي عرفتموه يأمركم بالزكاة ومن أطاع فثوابه الجنة التي عرفتموها ، ومن عصى فله النار التي عرفتموها .
لذا استقامت النفوس محبه ورهبة لله وخوفا من النار وطمعا في الجنة .
وبهذا يتضح منطلق الدعوة الإسلامية وهدفها ، وهو تعبيد الناس لله ... تعريفهم بربهم ليعظموه ويوقروه ويسبحوه ، وإصلاح الدنيا يجيء تبعا وليس أصلا ، ثم الفوز بالجنة .
ولهذا لم يرتدَّ من أسلم ، ولم يتلكأ في سَيْرِهِ إلى الله .
وعلى من يعرض السيرة النبوية على الناس ــ أو يقرؤها ـ عليه أن يلتفت لهذا . وأن يتنبه إلى أن الخطاب الدعوي كان في الأساس أخروي تنطلق منه باقي شؤون الحياة .
وفي بيعة العقبة الثانية وغيرها من أحداث العهد المكي دليل على ذلك54 .
وأزيد الأمر بيانا فأقول :
نعم . في العهد المكي كانت الدعوة الإسلامية في خطابها الموجه للجاهلية يومها ، كانت مصرة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيبا وترهيبا .(48/55)
تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها ترجوا رحمته وتخشى عقابه. ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة .
على هذا تربى الصحابة رضوان الله عليهم .بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أيضا تربى على هذا المعنى , فقد كان يتنزل عليه ـ بأبي هو وأمي وأهلي r ـ " وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ " 55" وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ " [يونس : 40]
ولهذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم" تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ "56
وهذا وصف للظاهر ( ركعا سجدا) ووصف للباطن ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) ، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم . كما يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله ــ .
واقرأ آيات الأحكام في كتاب الله لتطالع هذا الإصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ ، المباشرة منها أو غير المباشر ( دلالة الإشارة أو التضمن أو الاقتضاء أو مفهوم المخالفة .. الخ ) .
فمثلا يقول الله تعالى : " ويْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "57
فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع ؟
ومثله قول الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)58
فهنا أمر بالسعي إلى الرزق , وتذكير بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله عز وجل ، فيسأل المرء عن كسبه من أين أتى وإلى أين ذهب ؟
بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله عز وجل " ... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " " ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " " ... وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " " ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " " .... إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
وهذا بلا شك استحضار للثواب والعقاب .
ومثله الآيات التي تأمر بالحجاب تُختم بـ ( إن ذلكم كان عند الله عظيما )59 و ( .. وكان الله غفورا رحيما )60 .
نعم كان هذا أسلوب القرآن العظيم في عرض قضايا الشريعة كلها وهذه بعض الآيات والأحاديث في هذا الشأن تزيد الأمر وضوحا :
في الظِّهار انظر كيف يربط الله تعالى أداء الكفارة بالإيمان به وبرسوله : (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)61
وانظر كيف جعل الله تعالى تحكيم شرعه شرط للإيمان به62 : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)63
وفي الحديث : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ "64.
وفي الحديث " فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ "65
وفي الحديث " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ... الحديث "66
ومثل هذا كثير في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
هذا ما تربى عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، وإنا نجد في كتاب ربنا أننا ملزمون بالسير على دربهم واقتفاء آثارهم قال الله تعالى : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)67
وقال الله تعالى : (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)68
أقول : ملزمون إذا بالتعريج على التوحيد وتصحيح المفاهيم فيه لإخواننا وأخواتنا ،وبناتنا ونسائنا وكل عزيز علينا ، ليكون حالهم مع الأمر والنهي . . . كل الأمر والنهي كحال من سبقوا ؟!(48/56)
وحينها . . . حين يتعرفون على ربهم جيدا ، حين يعرفون مصيرهم بعد الموت ، لن تجد كثير مشاغبة في الامتثال للأمر .
ودعني أوسع الأمر أكثر من هذا وأقول :
لم لا نبدأ مخاطبة ( الآخر )69 بالتوحيد نقول لهم : آمنوا بربكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ويميتكم ثم يحاسبكم ؟
لم لا ننادي فيهم : أسلموا قبل أن تكونوا من جثي جهنم التي وصْفُها كذا وكذا ؟
أسلموا كي لا تحرموا جنة فيها وفيها ...؟
ويدور الحوار حول دلائل صدق الخبر ومَطْلَبْ المخبر صلى الله عليه وسلم
أسذاجة ؟
لا وربي .فهكذا نشأت خير أمّة أخرجت للناس ، واقرءوا السيرة .
وعلى من يشرح السيرة النبوية للناس عليه أن يوضح ذلك لهم ، من خلال مواقف الدعوة في العهد المكي والعهد المدني ، ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة ، وبما كان يخاطب الناس ، وكيف كان يعلمهم التوحيد ويربيهم عليه .
نعم . نحن بحاجة إلى قراءة جديدة للسيرة النبوية نبين فيها للناس أهداف الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها ... نحتاج هذا الطرح الفكري اليوم أكثر من أي يوم مضى .
فقد قامت اليوم بعض الفصائل الإسلامية بالتحالف مع الأحزاب ذات التوجهات اليسارية ،و توجهت إلى الجماهير بخطاب دنيوي بحت ونادت بشرع الله من باب الأفضلية ... لأنه خير من غيره ، أو لأنه هو الأنسب لإصلاح الدنيا ، فيُقْبِل من يُقبل وليس عنده هدف سوى ما فهمه من هذا الخطاب الدعوي المنقوص .
واليوم رفعت بعض الفصائل المجاهدة الشعارات الوطنية وراحت تثني على الزعامات العلمانية بدعوى لمِّ شمل أبناء الوطن الواحد ، وهؤلاء وأولئك نحسن الظن بهم ولكن خطاب كهذا تضيع به الأهداف الحقيقية للدعوة الإسلامية أو تتميع في أحسن الأحوال ، ولست اغمز أحدا ـ معاذ الله ـ وإنما أنصح بما أراه صحيحا .
. أقول : لا بد من المفاصلة الفكرية70 التي يتميز بها سبيل المؤمنين من سبيل الكافرين والمنافقين . وتعرف العامة أين هي؟ وتمضي بوضوح في طريق الله المستقيم . تماما كما بدأت الدعوة في مكة بين ظهراني قريش على يد الحبيب r.
كانت بينة المعالم ، صريحة جدا في معاني الشرك والكفر ، ومآل الكافرين والمشركين ، وإن كانت في النواحي الحركية تتخذ مراحل عدة ، فتهادن قوما وتحارب آخرين ، وتسكت عن أشياء اتباعا لسنة التدرج في التغيير .
ثامنا : أساس الخلاف بين الرسالة والجاهلية.
أقول ـ مستعينا بالله ـ : كل رسالة واجهت مجتمعا مستمسكا بمجموعة من القيم والأعراف والتقاليد الخاطئة التي تصفها الرسالة بأنها كفر بالله .
جُملةُ هذه التقاليد تقوم على نوعين من الخطأ :
أولهما : التقرب والتوجه إلى غير الله بالنسك .
ثانيهما : الطاعة والتشريع والإتباع من دون الله .
ويتحرك هذا المجتمع بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده ضد دعوات الرسل ، وفي التنزيل (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)71 ،
وفي التنزيل : (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)72 ، وفي التنزيل " (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) 73
ومن يتدبر يجد أن شرك الطاعة هو أساس شرك النسك ، فلولا طاعة عمرو بن لحي ـ مثلا ـ لما عُبدت الأصنام في جزيرة العرب .
ولولا طاعة كل قوم لكبرائهم لما ضل مًن ضل (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)74 ونجد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حصر لمفهوم العبادة في الطاعة .
قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)75
وعبادة الشيطان هي طاعته 76
وقال تعالى (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)77
سمع عدي بن حاتم الطائي ـ رضي الله عنه هذه الآية من رسول ا صلى الله عليه وسلم ـ فاعترض قائلا : ( إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ ) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ( بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَال وَأَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَام فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتهمْ إِيَّاهُمْ )(48/57)
يقول بن كثير : قَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا فِي تَفْسِير " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه " إنَّهُمْ اِتَّبَعُوهُمْ فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا وَقَالَ السُّدِّيّ اِسْتَنْصَحُوا الرِّجَال وَنَبَذُوا كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا " أَيْ الَّذِي إِذَا حَرَّمَ الشَّيْء فَهُوَ الْحَرَام وَمَا حَلَّلَهُ فَهُوَ الْحَلَال وَمَا شَرَعَهُ اُتُّبِعَ .
فسمَّ الله ورسوله الإتباع في التحليل والتحريم عبادة ، كما سمى المحللين والمحرمين ـ المشرعين آلهة ـ .
ومثل هذا قول الله تعالى : " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ "78
وهذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم ، فهذا ربعي بن عامر79 ـ رضي الله عنه ـ يخاطب رستم " الله ابتعثنا ، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " ثم لم تكن الدعوة قرشية أو عربية ، ولم تكن الحركات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وخاصة الفرق التي ظهرت في القرون الأولى حركات شعوبية ـ باستثناء حركة الزنوج ـ ضد العرب بل كانت حركات عقدية منحرفة ، وكان رؤوسها عرب وسبب نشأتها خلافات دينية .
وهذا الطرح لا بد أن يعمل على ربط العقيدة الصحيحة . . . وأهداف الدعوة الكلية التي هي تعبيد الناس لله ، بأحداث السيرة .
والخلل الملحوظ الذي كتبتُ من أجله هذه الفقرة هو أن كثيرا من الكتاب والخطباء الذين يكتبون السيرة النبوية أو يلقون فيها دروسا ، يحصرون قضية الخلاف بين الجاهلية والدعوة في عبادة الأصنام وبعض القضايا الأخلاقية مثل تحريم الزنا وشرب الخمر ووأد البنات ،وأن الغزوات كانت لمعالجة مشاكل الجوار ولأمور اقتصادية ونحو ذلك وهو من البتر الذي لا يُقبل بحال.
والمراد : أنه حين دراسة السيرة النبوية أو عرضها على الناس لا يفهم أبد ا أن الخلاف بين الدعوة والجاهلية القائمة كان في بعض العادات الجاهلية السيئة مثل وأد البنات والزنا وشرب الخمر ورفع الظلم عن الضعفاء ، وبعض مظاهر شرك النسك من عبادة الأصنام والاستقسام بالأزلام ... الخ .
وإنما كانت ولا زالت القضية الكبرى التي انبثقت منها باقي القضايا هي قضية الطاعة لمن؟ ، أو السلطان يكون لمن ؟ أو بتعبير آخر من تعبد ؟ الله في صورة شرعة ؟ أم الشيطان في صورة المناهج الأرضية التي زينها لأوليائه ؟
فمن عبد الأصنام إنما عبدها طاعة للأولياء الشيطان ، ومن اعتقد التثليث وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك طاعة لأولياء الشيطان ، قصد أم لم يقصد .
تاسعا : الملأ ودورهم البارز في التصدي للدعوة:
الملأ هم : أَشْرافُ القوم ووجُوهُهم ورؤَساؤهم ومُقَدَّمُوهم، الذي يُرْجَع إِلى قولهم . وفي الحديث: هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الملأُ الأَعْلى؟80
والملأ من الكفار لهم دور بارز في تسير الأحداث ، ولا بد من الوقوف على دورهم وإبرازه للناس . إذ هم موجودون مع الباطل في كل مكان وزمان .
ومن خلال قراءتي للسيرة النبوية وما استمعت إليه من شبهات ، من الضالين من أهل الكتاب ، ومن المنحرفين من أهل الملة . . ( القرآنيون ) و ( العلمانييون ) ، يمكنني القول أن الدعوة لا تواجه شبهات حقيقية وإنما تواجه مجموعة من الناس ـ هم الملأ ـ يعرفون الدعوة تماما ، وهم يكذبون على قومهم ويرهبونهم تارة ويرغبونهم تارة من أجل صدهم عن سبيل الله .
والآن أذكر بعض المشاهد من السيرة النبوية ومن أحوال الأمم السابقة أوضح بها قولي .
الوليد بن المغيرة يجلس بين قومه يصف القرآن بعدما سمعه : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ، فيصيح القوم : صبأ الوليد ، ويقوم إليه شيطانهم أبو جهل ويهمس في أذنيه بكلمات ثم يعود ثانية إلى مجلسه .
وأقبل الوليد على القوم بوجهه ، وظن القوم أن الوليد سيقف موقف الداعي لهذا الدين الجديد ؛ فالأمر ليس ببعيد ؛ فمِن قَبْله عَدَا عمر إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ليقتله ، وعاد من عنده مسلماً ، ولكن الوليد خيّب ظنهم فلم يكن إقباله عليهم إقبال المخلص الداعي لهذا الدين الجديد بل كان المخلص الداعي لدينهم .
ويتكلم الوليد .. يصيح فيهم بأن قولوا في الرجل قولةً واحدةً .. ولا تختلفوا حتى لا يظهر كذبكم .
ويعرض القوم آراءهم : نقول ساحر .. نقول شاعر .. نقول كاهن .. نقول كاذب .. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردّه .
ويُسند إليه الأمر : قُل أنت يا أبا عمارة نسمع .(48/58)
ويصمت الوليد .. يجولُ بفكره .. يحاول أن يجد نقيصة في الرجل أو في منهجه [ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ]81.
يحاول الوليدُ ويحاول .. ولكن أنّى له ؟ ! فالرجل هو الصادق الأمين ، ومنهجه هو هو الذي وصفه من قبل بأن له حلاوة وعليه طلاوة .
ويعجز الوليد ، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم وردها هو من قبل ، يقول : قولوا ساحر ، ثم يُدَلل على قوله وما أكذبه : ألا ترون أنه يفرق بين الرجل وزوجته ، والابن وأبيه [ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ ]82
ويصيح القوم فرحاً بهذا ! ! قاتلك الله يا وليد ! ما حملك على ألا تفعل ما فعل عمر ، وقد وصفت القرآن بما هو حق ، ونفيت عن رسول ا صلى الله عليه وسلم ما ليس بحق ؟ ! كأني بقريش وقد أقسم الملأ منهم أن ما يأتي به صلى الله عليه وسلم هو من عند هذا الغلام الأسود الذي يعتكف بجواره في غار حراء ، كأني بهم وقد كلمت وجوههم وهم يرون هذا الغلام لا يتكلم العربية [ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ]83
كأني برسلهم تعدو في الصحراء تقصد اليهود يسألونهم عن خبر هذا النبي ، ويعطيهم اليهود الأمارة : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؟ سلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ؟ سلوه عن الروح ما هي ؟ ويُعطونهم صفة الإجابة ، وتعود الرسل ، ويحشر الملأ القوم منادين فيهم : جئنا بالقول الفصل بيننا وبين صلى الله عليه وسلم ، ويعطيهم الصادق الأمين الأمارة تامة .
ثم .. ماذا حدث ؟ الموقف لا يتغير ولا يتبدل ، يظهر الحق ويستيقن فريق من الناس ، ثم يعاندون .
وما كانت قريش بدعاً ؛ فقد كان لهم سلف فيمن مضوا قوم نوح [ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ]
84 جُودِلوا ودحضت حجتهم ؛ فالطبيعي بعد هذا هو الإيمان ، ولكن انظر إلى كلامهم ما أعجبه [ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ]85 .
وقوم عاد ينادون نبيهم هوداً - عليه السلام - : [ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ]86 .
فهم إذن يفهمون الرجل ، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين ، ثم انظر إلى موقفهم بعد هذا البيان ، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم .
وقوم ثمود يطلبون الآية فتأتيهم ، ثم ماذا ؟ هل آمنوا ؟ أبداً لا بل عقروا الناقة وقالوا قولة من قبلهم [ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ ]87 .
وقوم لوط ـ عليه السلام ـ [ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ]88
لِمَ يا قوم ؟
: [ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ]89
ألهذا ؟ ! !
وقوم خليل الله إبراهيم - عليه السلام - : [ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ]90.
وإن تعجب فمن أهل مدين قوم شعيب - عليه السلام - نبي الله ؛ إذ يبلِّغ رسالة ربه فيؤمن البعض ، ويكفر البعض الآخر ، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة : [ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ]91 .
أفي هذا عيْب ؟
ولكن انظر ما ردّ الملأ : [ قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ]92.
الموقف من الدعوة ورجالها هو هو ، المنطق نفسه يتكرر ، ولا يكاد يتغير ، يعرفون الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه ، وليت الأمر بقي على هذا فالبلية به خفيفة ، بل يعلنون أنه لا هوادة ، ولا مقام مع الحق وأهله .(48/59)
وانظر إلى هذه الآيات من سورة إبراهيم كيف أنها تكلمت بألسنتهم مجتمعين على تفرقهم زماناً ومكاناً - كأنهم فردٌ واحد - قال - تعالى - : [ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ]93.
فانظر كيف أن الخيار بين أمرين لا ثالث لهما : [ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ]94 ، وكيف أن هذا هو كلام الكفار جميعهم في مختلف أزمنتهم [ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ]95 .
وما أريده هو أن أسلط الضوء على هذا النوع المجرم من الناس . الذي لا يريد الحق أبدا . . . يكره الحق وهو يعرفه ، ويعرف ما فيه من الخير . يُلبِّس الحق على عوام الناس . . . يحاول أن يضلهم .
هذا النوع من الناس موجود في كل زمان ومكان ، وهو الذي يختلق المتشابه في القرآن . هو الذي يفتعل المتشابه كذبا وبهتانا كي يلبس على الناس دينهم .
وإن تدبرت وجدت أن الجهاد في الشريعة يستهدف هؤلاء الناس . وبمجرد القضاء عليهم يدخل الناس في دين الله أفواجا .
والمطلوب حين عرض السيرة النبوية أن تكون هناك تحليلات لمواقف الملأ الذين استكبروا من الدعوة النبوية ، وكيف أنهم كانوا يعرفون الحق ويعاندونه . . . كيف أنهم كانوا يحاربون الحق وهم يعلمون ما فيه من الخير . وكيف أنهم موجودون في كل زمان ومكان .
عاشرا : الدعوة الإسلامية والخصوصية في المفاهيم والتصورات .
للشريعة الإسلامية خصوصية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ ولها خصوصية في المفاهيم والتصورات .
أولا : خصوصية الشريعة الإسلامية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ .
مثلا كلمة ( الأذان ) في اللغة : الإعلام .. مطلق الإعلام .
ومنه قول الشاعر :
آذنتنا بِبَينِها أسماء رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثِّواء 96
وخصص الشرع المعنى فجعله إعلاما مخصوصا عن شيء مخصوص ـ الصلاة المفروضة ـ بصيغة مخصوصة ـ صيغة الأذان الحالية .
وكذا الصوم . مطلق الإمساك في اللغة ، ومنه قولِ الله تعالى على لسان مريمَ عليها السلام (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً)97 .
وفي الشرع : إمساك مخصوص ( عن الطعام والشراب والشهوة ) في وقت مخصوص ( من الفجر حتى غروب الشمس ) . بنية مخصوصة ، وهي نية القربى من الله تعالى بأداء ما افترضه علينا أو ما انتدبنا إليه .
وكذا التيمم في اللغة القصد . . . مطلق القصد .
ومنه قول الشاعر :
تيممتُ مصر أطلب الجاه والغنى *** فنلتهما في ظل عيش مُمنَّع
وزرت ملوك النيل ارتاد نيلهم * * * فأحمد مرتادي وأخصب مربعي
فكلمة تيممت هنا تعني قصدت .
وفي الشرع تستخدم كلمة التيمم للدلالة على أمر مخصوص ، وهو بديل الوضوء عند فقد الماء حقيقة أو حكما ، وهو مشروح تفصيله في كتب الفقه .
وكلمة الإيمان في اللغة التصديق الجازم ومنه قوله تعالى ( . . . وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ )98 قَوْلَةُ إخوةُ يوسف لأبيهم ، استعمل فيها الإيمان بمعناه اللغوي أي ( بمصدق لنا ) 99.
ولكن إذا أطلقت لفظة الإيمان في الشرع فإنها تدل على تصديق مخصوص . وهو التصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم المستلزم للإذعان بالجوارح .
أو قل : معرفةٌ بالقلب ـ والتي يسميها علماء العقيدة " قول القلب ـ " تولد هذه المعرفة يقينا في القلب ـ وهو ما يسمى عند علماء العقيدة بعمل القلب ـ تنضبط بموجبه به الجوارح . قوة وضعفا . . . وجودا وعدما .
هذا هو دلالة لفظ الإيمان حين يستخدمه الشرع ( على تفصيل يضيق عنه المقام )(48/60)
وأحيانا يستعمل الشرع الألفاظ بذات الدلالة اللغوية لها ، فمثلا كلمة الأذان التي تكلمنا عنها ، جاءت بمعناها اللغوي في القرآن الكريم " فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون "100. فآذنتكم هنا بمعنى أعلمتكم ، استخدمت بمعناها اللغوي .
وقول الله تعالى " فأذنوا بحرب من الله " أي كونوا على علم . أو : أعلموا كل من لم يترك الربا بحرب من الله ورسوله . 101
وكذا كلمة التيمم جاءت في سورة البقرة ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)102 أي ولا تقصدوا الخبيث وتنفقوا منه ، .
وكلمة الصلاة ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )103
قال بن كثر في تفسير هذه الآية ، قال البخاري : قال أبو العالية : صلاة الله تعالى ثنائه عليه ـ أي على صلى الله عليه وسلم ـ ، وصلاة الملائكة الدعاء .
والمعنى يتضح من دِلالة السياق .
والمقصود مما تقدم أن الشرع وإن كان قد استخدم اللغة العربية لبيان مراد الله من عباده على لسان رسول صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه خصص لبعض الألفاظ حقائق شرعية فصارت دلالتها اللغوية غير دلالتها الشرعية . وإن تقاطعت المعاني وتطابقت أحيانا .104
ثانيا : خصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات .
للشريعة الإسلامية أيضا خصوصية في المفاهيم والتصورات ، ولا تكاد تجد مفهوما من المفاهيم التي تعارف عليها الناس إلا وللشريعة الإسلامية خصوصية فيه .
مثلا : مفهوم الرزق ... تحصيل الرزق . أعني تحصيل الرزق على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة ـ ما يقولون عنه الرقي المادي ـ ، الناس لهم أسباب مادية يسلكونها في تحصيل رزقهم .
والشرع له خصوصية في هذا الأمر ، فهو يتكلم عن أسباب أخرى مضافة إلى معالجة الأسباب المادية قال تعالى :
" ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ )105 وقال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)106
وقال تعالى : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " 107
مثال آخر : من أين يأتي البلاء ؟
الناس يقولون كلاما كثيرا . . نعرف منه وننكر .
والشرع يعطي مفهوما آخر : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير "108 .
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) 109
والنصر والتمكين كيف الوصول إليه؟
: (.... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) 110
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) 111
والأمر أوسع من هذا فهناك خصوصية في كل المفاهيم تقريبا . الكبر ... البر ... .. وفي مفهوم المعركة من حيث أسباب النصر فيها ومن حيث جنودها الذين يحضرون القتال ... الخ .
وإنما أردت هنا لفت النظر فقط .
لماذا الكلام في الخصوصية ؟
لأمور أركز على اثنين منها .
أولهما : فيه نقض لاستدلالات أصحاب الفرق الضالة .
باستقراء مناهج الفرق الضالة وخصوصا التي تكلمت في الإيمان ، أهلِ الإرجاء والاعتزال والتصوف والمتفلسفة ، تجد أن خطأ هؤلاء الرئيسي يكون في الجهل بأن للشريعة الإسلامية خصوصية في استعمال الألفاظ وفي المفاهيم والتصورات ، وبالتالي تجده يستعمل الألفاظ بمعناها اللغوي دون الحقيقة الشرعية مما يؤدي إلى الخروج بنتائج مغلوطة .
وهذا بيِّن جدا في حالة الإرجاء ، وله أمثلة كثيرة في ضلالات النصارى التي يسمونها أدلة على ألوهية المسيح في القرآن الكريم 112، وكذا في أطروحات العصرانيين .
وحيث أن المقصود هنا هو بيان القاعدة وليس مناقشة أدلة هؤلاء فإني أكتفي بمثال أبين فيه قولي ، ولعل الله أن ييسر مناقشة هؤلاء على ضوء هذه القاعدة لاحقا .
أهلُ الإرجاء ـ مثلا ـ فسروا ( الإيمان ) بمعناه اللغوي ، مدعين بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين .استخدموا المقدمات المنطقية العقلية لإثبات باطلهم ، فقالوا القرآن نزل بلسان عربي مبين .(48/61)
أليس كذلك ؟
بالطبع هو كذلك . لا أحد ينكر هذا .
ثم انتقلوا من هذه المقدمات فقالوا العرب تُعرّف لفظ الإيمان بالتصديق الخبري أو ما يقولون عنه المعرفة .إذا الإيمان هو التصديق أو المعرفة ، وذهبوا إلى النصوص وحَمَلوها حملا على القول بباطلهم ، والنصوص من جنس كلام العرب الذي ترد فيه الاحتمالات وتعدد الدلالات ، ويلجأون إلى التأويل بأدنى الحجج ، ومن شأنها أنها طَيِّعة تسير على هوى من يحملها طائعة أو مكرهة .
ونعم الشرع استعمل اللغة العربية في بيان مراد الله من عباده ولكنه خصص وأضاف ، ولا بد من الوقوف عند المعنى الشرعي وعدم تجاوزه .
والشرع لم يستخدم لفظة ( الإيمان ) بذات الدلالة اللغوية ،وإنما بدلالة أخرى كما قدمنا . وهذا أيضا فيه رد على مرجئة الفقهاء الذين قالوا بأن العمل وإن كان لا بد منه إلا أنه لا يدخل في مسمى الإيمان ذلك لأنهم اعتمدوا تفسير لفظ الإيمان بمعناه اللغوي ، ونحن نقول هناك فرق بين استعمال الشرع للفظة الإيمان واستعمال اللغة لها ولا بد من استعماله بمعناه الشرعي .
ولست هنا معنيا بمناقشة مذهب المرجئة وإنما أريد أن أنبه على أنه لا بد من الرجوع للمعنى الشرعي في تفسير معان الكلمات ، وليس الاكتفاء فقط بالمعنى اللغوي أو العرفي .
وأهلُ الكلام ... أهل التحريف والتعطيل في الأسماء والصفات ، ركب الشيطان رأسهم من باب التنزيه ، حيث قاموا ينزهون ربهم عن خلقه وعبيده ـ كما زعموا ـ فتصوروا أن التنزيه لا يكون إلا عن طريق نفي المماثلة بالكلية 113، ومن هناك راحوا يعطلون ويحرفون .
ولو أنهم عادوا إلى الشرع ، وعلموا كيف أن له خصوصية تامة في تصورات الإنسان عن خالقه ومعبوده ـ سبحانه وتعالى ـ لما كان شيء من هذا .
والأمثلة على هذه القاعدة عند العصرانيين ، وعباد الصليب أكثر وأوضح ، وفي النية استخراج بحث في هذا الشأن والله المستعان .
ثانيهما : المناعة الفكرية .
الإيمان بأن للشريعة الإسلامية خصوصية في المفاهيم والتصورات ، والاستعمالات اللغوية للألفاظ ، وأنه لا بد من الوقوف عليها ومراجعتها قبل التكلم في أي موضوع ، وكذا الإيمان بأن الدين كامل " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " . وليس فقط بل الإيمان بأن الأحكام الشرعية في غاية الحكمة ، وذلك لأنها من الله العليم الخبير الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير . وأنه يجب رد كل ما أشكل على المرء إلى الكتاب والسنة ، وأن لا يمضي في اتخاذ أحكام أو رسم تصورات قبل مراجعة أهل العلم من العلماء الربانيين كما أمر ربنا .
(وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) 114
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) 115
فهنا جعل الرد لله والرسولل شرط لصحة الإيمان . . . " فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " .
ولاحظ أن الرد ليس مقتصرا على الأمور العظام بل على كل شيء . فانظر كيف أتى التعبير بكلمة شيء التي هي نكره ، وفي سياق الشرط لتفيد العموم . فكل شيء يجب أن يرد إلى الكتاب والسنة ، ومن لا يعرف يسأل .
حين يعرف المسلم هذا الأمر تتكون عنده مناعة فكرية ، فلا يقبل كل ما يسمع بل يكون عنده خاصية الانتقاء ... القبول والرد .
ودعني أضرب الأمثال ليتضح المقال .
نجد أن كثيرا من المسلمين يردد كثيرا من الكلمات وهي بمعان مستحدثه لا نعرفها في ثقافتنا وتراثنا . بل ننكرها .
مثلا كلمة ( الحرية ) و كلمة ( المساواة ) ، تردد على لسان كثير من أبناء الأمة الإسلامية , وهي كلمات غربية بدلالات غير إسلامية . هذا أقل ما يمكن أن يقال فيها .
فـ ( الحرية ) تعني عندهم حرية المرأة في التبرج والسفور بل والعري ، ومخالطة الرجال في أماكن العمل وفي أماكن اللهو بما لا يخفى ، والحرية في مفهومهم تشمل حرية الكلمة وإن كانت سبَّا لله ورسوله وطعناً في الدين ،أو غمزا لعباد الله الموحدين .
وعندنا " (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) 116"
وعندنا " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ "117
فالحرية لها ضوابط وحدود .(48/62)
و( المساواة ) عندهم تشمل تسوية الرجل بالمرأة في كل شيء . وعندنا للمرأة ما ليس للرجل ، وللرجل ما ليس للمرأة ، وعلى كلٍ من الحقوق ما ليس على الآخر ، تبعا للاختلافات الجسمية والنفسية .( ... وليس الذكر كالأنثى ..... ) حِكْمة العليم الحكيم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ،
والمساواة عندهم تعني أيضا مساواة أهل الكفر بأهل الإيمان ، وعندنا " أفنجعل المسلمين كالمجرمين . مالكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون " ؟؟!!." .
فبينهما فرق : بين معاني الألفاظ الحديثة فيما هي مستعملة اليوم فيه , ومعناها في الشرع , فرق يجب الوقوف عليه , ولا يردد هكذا دون تدبر .
فلو علموا أن هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات ، ما رددُّوا هكذا بدون وعي ، ولرجعوا إلى الشريعة الإسلامية يستنطقونها ماذا تقول في كل ما يعرض عليهم .
والمطلوب ممن يعرض السيرة النبوية على الناس ـ أو يقرأها هو ـ أن يبين هذه الخصوصية في المفاهيم والتصورات ومعاني الألفاظ وهو يعرض الغزوات مثلا ، وهو يشرح بعض مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أو أعدائه . لتتكون مناعة فكرية عند من يسمع نحن في أمس الحاجة إليها اليوم في هذه الأيام .
حادي عشر :الدعوة الإسلامية دعوة عملية وليست مفاهيم نظرية فحسب .
من يتدبر حال النصرانية ـ مثلا ـ يجد أنها تحولت إلى مجموعة من المفاهيم النظرية التي يكفي مجرد التصديق بها للانتساب إليها ، وإذا انضم إلى هذه المفاهيم ممارسة بعض الشعائر التعبدية فإن الشخص يعتبر من المتديين .!
حتى أنك حين تستمع إلى دعوة النصرانية ـ مثلا ـ تجد أنها دعوة إلى التصديق بأمور نظرية ، مثل قضية التثليث ، وقضية الصلب والفداء ، وقداسة الباباوات . وبعض الشعائر التعبدية ، والحياة بعد ذلك تخضع لما يمليه عليهم الواقع ، أو ما يحلو لأحبارهم ورهبانهم وأرباب الرأي فيهم .
وكذا أصبحت البوذية واليهودية ، وكاد الإرجاء أن يفعلها بالدعوة الإسلامية لولا أن الله قيض لهذا الدين رجالا أحيا بهم السنة وأمات بهم البدعة .
وأعرض بعض المشاهد من السيرة النبوية ، لأبين بها أن الدين لم يكن يوما ما نظرية مجردة ولا مجادلة فكرية يُكتفي بمجرد الاقتناع بها ...
تروي لنا كتب السير أن مسلمة جلست في سوق بني قينقاع في المدينة عند صائغ يهودي فراودها عن كشف وجهها فأبت عليه ، فعقد طرف ثوبها إلى ظهرها على حين غفلة منها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه .
هذا مشهد من المشاهد ترويه لنا كتب السيرة ، والمشهد التالي له مباشرة ـ في كتب السيرة ـ هو حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع وإصراره على ذبحهم لولا وقاحة بن سلول في شفاعته لهم .
وسقط من كل الروايات ما بين المشهدين ـ ما حدث في السوق والحصار ـ من الأحداث , كأن الحدثين متلاصقين .
فلم تروِ لنا كتب السير أن أحدا من المسلمين تكلم بأن مَن فعل الفعلة قُتل فكفّوا أيديكم يكفي . . . لا داعي للقتال الذي يتساقط فيه الرجال ، وتتيتم به الأطفال ، وتترمل به النساء .
ولم تروِ لنا كتب السير أن أحدا من المسلمين تكلم بأن الأمر لم يتجاوز كشف جزء من العورة لفترة وجيزة .
ولم تروِ لنا كتب السير أن أحدا من المسلمين تكلم بأن لبني قينقاع إخوة في الدين والملة في ذات المدينة ، هم بنو قريظة وبنو النضير وورائهم في خيبر عدد وعتاد ولهم حلفاء من غطفان ، وغطفان يومها غطفان .
بل لم يتكلم أحد مطلقا .
لم ترو كتب السيرة سوى فعل ، وهو حصار رسول ا صلى الله عليه وسلم لهم حتى أجلاهم .
وتروي لنا كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب في عشرة من أصحابه لبني النضير يطلب منهم وفاء ما عاهدوه عليه ، فغدروا وهمُّوا بقتله صلى الله عليه وسلم وحين علم بغدرهم وهو جالس تحت جدار بيت من بيوتهم قام ولم يتكلم ، وأعد الجيش ولم يتمهل ، وحاصرهم حتى خربت بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، وخرجوا منها أذلاء صاغرين .
وتروي لنا كتب السير أن الأخبار أتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ بأن خالد بن سفيان الهُذلي يُجَمِّع العرب في بطن عُرْنَة عند سفح عرفة على بعد خمسمائة كيلو متر من المدينة ،فأرسل له رجلا ( عبد الله بن أُنيس ) من المدينة يسعى على قدميه فأخمد الفتنة . ولم نسمع كثيرا ولا قليلا من الكلام .
وغدرت قريش بعهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم وراحت وجاءت وقالت وأكثرت ، وما كان من الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن رد عليهم بفعل لا بقول . . . استنفر أصحابه وجمََََّع جيشه وفتح مكة .
وغدرت قريظة فذبحت ، وقتلت غسان رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فتحرك جيش مؤتة ، وبنو المصطلق همّوا بالتَّجَهُز فوجدوا الخيل صباحا تشرب من مائهم .
هكذا ... نعم هكذا .
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم كثيرا . كان هادئا كثير الصمت يعمل ولا يتكلم .(48/63)
ولم يكن الباعث على هذا ( التصرف الفعلي ) من الرسول صلى الله عليه وسلم هو كثرة العدد ووفرة العتاد ،فقد كانت الحال حال . . . هو منهج الدعوة من يومها الأول " أنظر كيف بدأت ، " يا أيها المدثر قم فأنذر " " إن لك في النهار سبحا طويلا " .
فلم تكن فقط عملية وجادة مع المخالف وإنما أيضا في تربية الجماعة المؤمنة ، كانت الدروس كلها عملية .
يذبح سبعون من الصحابة يوم أحد منهم الحمزة بن عبد المطلب ليتعلم القوم درسا من جملة واحدة " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)
ويستمر حادث الإفك شهرا ليتعلم القوم درسا عمليا (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور : 15 )
ويقاطعُ المخلفون عن غزوة تبوك خمسين يوما حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ، ليتلقوا درسا عمليا ـ هم ومن يشاهدونهم ومن يسمع بهم ـ كي لا يتخلفوا ثانية عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه .
هذا حاله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع عدوه ومع أتباعه . . . هذا هو المنهج الرباني الذي تحرك به النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن من أوضح الأمور لمن يتدبر نشأت الجماعة المؤمنة على يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم وكيف نمت وتطورت وكيف عالجت مشاكلها الداخلية ـ بين أفرادها ـ والخارجية مع أعدائها ، أن نهج الشرع كان عمليا ، ولم يكن يوما ما نظريا .
ومن الواضح جدا ــ أيضا ــ أن الأفراد ميزتهم المواقف ولم يتميزوا بالمعرفة الذهنية ، ولا بأصوات العامة لهم .
ولم تكن فقط عملية في الناحية العسكرية بلْ وفي النواحي الأخرى شريعية ،تُحرم الخمر فتهراق القلال في الشوارع حين سماع الخبر ، واسمع :
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : ( مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ فَإِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَفُلَانًا وَفُلَانًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ وَهَلْ بَلَغَكُمْ الْخَبَرُ فَقَالُوا وَمَا ذَاكَ قَالَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ قَالُوا أَهْرِقْ هَذِهِ الْقِلَالَ يَا أَنَسُ قَالَ فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلَا رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ )118
ونزلت آية الحجاب ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) فشقَّ النساء مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بها .
ويأتي الأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ، فيستدير الناس وهم ركوع .
فقد كانت الدعوة عملية ، تتطالب كل من آمن بها بالالتزام العملي الجاد بشرائعها وشعائرها .
ففي أحداث السيرة النبوية بيان قوي لبطلان قول من أراد أن يجعل الدين مجرد مفاهيم نظرية يعتقدها ويتكلم بها دون أن يلتزم بها . فردا كان أم مجتمعا .
وفي سِيرةِ مَنْ تخلف عن الهجرة إلى المدينة وقعد بمكة وقتل يوم بدر ردٌ قوي على هؤلاء ، ونزل فيهم قول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً )119
ومن نزل فيهم قول الله تعالى : ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً )120
ودعك من أهل الإرجاء فالظاهرة عامة . . . العقيدة دروس علمية . . نظرية فقط ، لا تكاد تعرف ( الأخ ) إلا من كلامه ، قليل من تتعرف عليهم من وجوههم وأفعالهم .
واليوم شعارات نرفعها وننام تحتها ، مكتفين بمجرد الانتساب للعمل الإسلامي .
واليوم شعارات نرفعها ونتعصب لها .
والمطلوب حين عرض السيرة النبوية على الناس أن ينبه على هذا الأمر ، وأن نقف مع الأحداث نبين كيف كانت الدعوة جادة ، ولم تكن يوما ما مفاهيم نظرية فقط .
وأن المفاهيم الإسلامية ما جاءت إلا لتنشئ واقعا ... إلا لتترجم على أرض الواقع .
والله أسال أن يبارك لي في كلماتي وأن ينفع بها من كتب ومن نشر ومن قرأ .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الفهرس
مقدمة الكاتب وتشمل بيان أهمية وضع ضوابط للسيرة النبوية ..........................................
أولا : لماذا ندرس السيرة النبوية؟! ...........................................................................
ثانيا : السيرة النبوية وصحة المصادر . ........................................................................(48/64)
ثالثا : شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المفترى عليها .............................................
رابعا :البعثة المحمدية حلقة من حلقات الدعوة إلى الله ..................................................
خامسا : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب فقط .........................................
سادسا : حال البشرية قبل البعثة المحمدية .................................................................
سابعا :الخطاب الدعوي في مكة ـ وحدة الأهداف والمنطلقات ـ .........................................
ثامنا : أساس الخلاف بين الرسالة والجاهلية.. ..............................................................
تاسعا : الملأ ودورهم البارز في التصدي للدعوة ............................................................
عاشرا : خصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات .............................................
حادي عشر : الدعوة الإسلامية دعوة عملية جادة ،وليست مفاهيم نظرية . ............................
===============(48/65)
(48/66)
عبدة الشيطان .. ظهروا فى الأردن
الاربعاء:25/09/2002
(الشبكة الإسلامية) القناة
بعد أن ظهروا فى دول عربية من بينها مصر ولبنان وبعض دول المغرب العربى وغيرها .. ظهر عبدة الشيطان فى احدى المناطق الراقية بالعاصمة الاردنية عمان تم ضبط مجموعة من الشباب من الطلبة وهم يقيمون طقوسا غريبة .
فقد ألقت الشرطة الأردنية القبض على مجموعة من الشباب فى احدى المناطق الراقية بالعاصمة عمان قيل إنهم من جماعة "عبدة الشيطان " .
وقالت مصادر الشرطة " إن الشرطة داهمت مؤخرا منزلا في منطقة الصويفية - احدى مناطق عمان الراقية - بعد التأكد من معلومات حول قيام ثلاثة شبان في العشرينات من العمر بطقوس غريبة مثل جماعات عبدة الشيطان المنتمية الى جماعة محظورة .
وأشارت مصادر الشرطة الى أن هؤلاء الشباب هم طلبة ولديهم اعتقادات تتعلق بعبادة الشيطان وكانوا وقت عملية المداهمة في حفل موسيقي صاخب بعيدا عن تقاليد المجتمع الاردني المحافظ .
وأوضحت ان المتهمين كانوا يرتدون زيا غريبا وفاضحا اضافة الى انهم تقلدوا سلاسل ذهبية وانخرطوا في الرقص بطريقة غريبة لم يألفها المجتمع بوجود عدد من أصدقائهم وكانت أيديهم موشومة بشكل يوحي بانتمائهم الى هذه الجماعة.
وأشارت المصادر الى انه تم تحويل عبدة الشيطان الجدد الى المحكمة المختصة التى أفرجت عنهم بكفالات مالية على ذمة القضية.
وظهرت جماعات عبدة الشيطان مؤخرا فى عدد من الدول العربية بينها مصر ولبنان وبعض دول المغرب العربى وهم غالبا من الشباب المترف الذى لا يتمتع بثقافة تذكر .
==============(48/67)
(48/68)
السحر و الشعوذة في القنوات الفضائية
وطرق و وسائل التصدي لتلك القنوات والتحصن من شرها.
بقلم
المحامي الدكتور مسلم اليوسف
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
و أ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .
] يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون[
] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ .
]يَا أ يها الذين آ منوا اتقوا الله و قولوا قَولاً سَديداً يُصلح لَكُم أَعمالكم وَيَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَمَن يُطع الله وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً [ .
أ ما بعد :
توالت الفتن على هذه الأمة الإسلامية بأشكال كثيرة و ألوان أكثير لم تعهد من قبل وذلك بسبب التقدم العلمي الذي اُستغل في كثير من الأحيان لمحاربة الله و رسوله و مخاصمة الحق و أهله .
ومن هذه الفتن القنوات الفضائية التي لا تراعي حدود الله على وجه العموم و قنوات السحر و الشعوذة على وجه الخصوص التي تفتن كثير الناس في عقائدهم و توكلهم على الله و أخذهم بالأسباب و المسببات الحقيقية لتخرجهم عن دينهم الحنيف الذي رضيه الله لنا .
عن حفصة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل صلاة أربعين ليلة . رواه مسلم .
و عن أحمد بن عبد الله قال : سمعت شعيب بن حرب يقول : سمعت سفيان الثوري يقول : من سمع من مبدع لم ينفعه الله بما سمع ، ومن صافحه ،فقد نقض الإسلام عروة ) .1
وعن أبي هريرة : قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأته حائضا أو أتى امرأته من دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد .
رواه أحمد وأبو داود و قال الشيخ ناصر الدين حديث صحيح .
و قال الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله و أخرج نور الإسلام من قلبه ) .2
و قال أيضا عليه رحمة الله : من أعان صاحب بدعة ، فقد أعان على هدم الإسلام ).3
و قال محمد بن النضر الحارثي : ( من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ) .4
و أمام هذا الخطر كان لابد لنا من بيان حكم السحر و الشعوذة و فضح أساليبهم و بيان حكم مشاهدة قنوات السحر و الشعوذة و التواصل معها سواء لا بالهاتف أو عن طريق الرسائل sms أو ما يشابهها .
تعريف السحر :
السحر هو كل أمر خفي سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، و يجري مجرى التمويه و الخداع أي صرف الشيء عن حقيقته و صورته إلى شيء آخر مخالفا للحقيقة ، أو هو التخيل المحض كما في قوله تعالى :
{ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى{66} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى{67} قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى{68} وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى{69}. سورة طه.
وقد اتفق أهل السنة على إثبات السحر ، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء .5
كما أجمع أهل العلم على أن تعلم السحر ، وتعليمه ، وعمله حرام ، وأنه من الكبائر .6
كما أجمع أهل العلم على أن حد الساحر القتل كما في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و ابن عمر و حفصة و جندب بن عبد الله و جندب بن كعب رضوان الله عليهم أجمعين ، و قد اشتهر هذا و لم ينكر أحد فكان إجماعا .7
و حيث أن السحر يقوم به الساحر عن طريق الجن كان لابد من تعريف الجن حتى يكتمل البيان .
تعريف الجن :
قال أبو عمر بن البر : الجن عند أهل الكلام و العلم باللسان منزلون على مراتب ، إذا ذكروا الجن خالصاً ، قالوا : جني ، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا عامر و الجمع عمار ، و إن كان ممن يعرض للصبيان ، قالوا : أرواح ، فإن خبث و تعزم فهو شيطان ، فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا عفريت و الجمع عفاريت ).8
أما عن تعريف الجن شرعا :
فالجن مخلوق عاقل مكلف مثله مثل الإنسان بيد أنه خفي يرانا ولا نراه وفيهم الصالح والطالح المؤمن و الكافر .
قال تعالى : { و َخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ {15{ . سورة الرحمن .
و قال جل جلاله : { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ{27}. سورة الأعراف .(48/69)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى : الجن مأمورون بالأصول و الفروع بحسبهم ، فإنهم ليسوا مماثلين في الحد للإنس في الحدود و الحقيقة ، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد لكنهم مشاركون الإنسان في جنس التكليف بالأمر و النهي ، و التحليل و التحريم و هذا ما لم اعلم فيه نزاعاً بين المسلمين ) .9
قدرات الجن :
أعطى الله تعالى الجن قدرة و قوة لم يعطها لبني آدم و من هذه القدرات :
* سرعة الحركة و الانتقال : قال تعالى : { قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ{39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ{40}. سورة النمل .
* قدرتهم على الإعمار و التصنيع : قال تعالى : ( وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ{12} يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{13} سورة سبأ .
* قدرتهم على التشكل بأشكال مختلفة : كما ورد في كتب السيرة أن الشيطان الرجيم جاء المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك ، ووعد المشركين بالنصر ، وفيه أنزل قول الله تعالى : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة الأنفال ، الآية 48 .
* قدرتهم على الجري في مجرى الدم من ابن آدم : عن أنس بن مالك قال قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم( رواه أبو داوود وقال الشيخ الألباني : حديث صحيح .
وعن طريق هذه القدرات و غيرها كانت الفتن للإنسان حيث يستغل الساحر و الشيطان هذا القدرات و أمثالها لفتن بني آدم عن دينه ليقع في الجحيم إن لم يتمسك بالرحمن الرحيم و كتابه و الكريم و ودينه القويم المأخوذ من كتاب الله تعالى و سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى فهم ومنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
و لكن أما هذه القدرات هناك حقائق لابد من بيانها للقارئ الكريم :
أولاً - أن لا سلطان للشياطين على عباد الله الصالحين :
قال تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً{64} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً{65{ سورة الإسراء
و إنما يتسلط على الغاوين الذي يتبعونه و يتبعون الشهوات الشيطانية ، و أئمة الضلال .
قال جل جلاله : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ{100} سورة النحل .
ثانياً - إن الشيطان الرجيم يخاف من عباد الله الصالحين : عبد الله بن بريدة قال سمعت بريدة يقول : خرج رسول ا صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول ا صلى الله عليه وسلم إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت أستها ثم قعدت عليه فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليخاف منك يا عمر إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة وفي الباب عن عمر وسعد بن أبي وقاص وعائشة ) .
قال الترمذي : حسن صحيح غريب وقال الشيخ الألباني : حديث صحيح .
و هذا ليس خاص بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بل هي قدرة كل مؤمن مخلص لله تعالى .(48/70)
و قد قال ابن كثير في البداية و النهاية : قال الإمام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة أن صلى الله عليه وسلم قال : إن المؤمن لينصي شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر تفرد به أحمد من هذا الوجه ومعنى لينصي شيطانه ليأخذ بناصيته فيغلبه ويقهره كما يفعل بالبعير إذا شرد ثم غلبه) .10
بل ربما استطاع المسلم المخلص لله أن يؤثر في قرينه فيسلم لله تعالى ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة . قالوا وإياك يا رسول الله ؟ قال وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ).
بعض طرق و أساليب الشيطان الرجيم في إضلال بني آدم :
للشيطان الرجيم طرق و أساليب تكاد لا تعد و تحصى لإضلال بني آدم و هذه الأساليب تختلف بحسب دين والفرد و قربه أو بعده عن الله تعالى ، ومن هذه الأساليب ما يلي :
أولاً - زخرفة الباطل : وجعله يتزين بثوب يشبه الحق ، يقول ابن القيم عليه رحمة الله تعالى : كم فتن بهذا السحر من إنسان و كم حال به بين القلب و بين الإسلام و الإيمان و الإحسان ! و كم حال به بين القلب و بين الإسلام والإيمان و الإحسان ! و كم جلا الباطل و أبرزه في صورة مستحسنة ، و شنع الحق و أخرجه في صورة مستهجنة ! ولم يهرج من الزين على الناقدين ، و كم روج من الزغل على العارفين .
فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة و الآراء المتشعبة و سلك بهم من سبل الضلال كل مسلك و القاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك و زين لهم عبادة الأصنام ، وقطيعة الأرحام ، ووأد البنات ، ونكاح الأمهات .
ووعدهم بالفوز بالجنات ، مع الكفر بصفات الرب تعالى و علوه و تكلمه بكتبه و وضعهم ذلك في قالب التنزيه وترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم ، والعمل بقوله : عليكم انفسكم )) و الاعراض عما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم في قالب التقليد و الاكتفاء بقول وهو أعلم منهم ، و النفاق و الآدهان في دين الله في قالب العقل المعيشي الذي يندرج به العبد بين الناس ) .11
و من تغرير الشيطان الرجيم أن يسمي الأمور المحرمة بغير مسمياتها الحقيقية فيسمي السحر والشعوذة علم الفلك و علم الروحانيات و يسمي الشياطين روح علوي ليضل الناس و يخرجهم عن دينهم المتين إلى عبادة الشيطان الرجيم .
ثانيا - السحر والشعوذة :
و هو مما يضل به الشيطان الرجيم أبناء آدم البسطاء أو ضعيفي العلم و الإيمان .
قال تعالى : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ {102} . سورة البقرة .
فالساحر يدعي أنه يتصل مع الجن العلويين و أنه يستطيع أن يوكل خادم من الجن لحماية شخص أو للإضرار به أو بغيره .
كما يدعي الساحر زورا و بهتانا أن يرصد فلانا ليحميه من ضرر معين أو شخص معين أو حتى أي ضرر أو أي شخص ، كما يستطيع أن يضر أي إنسان بأنواع شتى من الأمراض و البلايا عن طريق الجن العلوي أي الجن المسلم بحسب ما يدعي و يزعم .
عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ، ولكن في التحريش بينهم ).12
و التحريش هو زرع الفتن و الخصومة بين العباد ألا ترى الساحر كيف يوحي و يقنع المتصل به أن سبب قلة رزقه هو السحر و أن الفتاة لم تتزوج بسبب السحر و أن فلان أصابه البلاء الفلاني بسبب السحر و السحر هو سبب كل شيء و طبعا السحر لا يأتي هكذا بل بسبب و السبب هو أن فلان أو علان من الأقارب و الجيران هم الذي سحروا فلان أو فلانة فتقع الفتن و الخصومات أو على الأقل الشكوك و المعاتبات .
ما مدى إمكانية ظهور الشيطان الرجيم للإنسان :
ورد إلينا عن طريق الصادق الأمين محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان الرجيم و جنوده قد يأتون عن طريق الوسوسة و قد يأتيه بطرق أخرى فقد يتراءى له بصورة إنسان ، وقد يسمع صوته ولا يرى جسمه أو قد يتشكل بصور غريبة و مختلفة حية أو جامدة و ربما تنطق على لسان إنسان يسميه الحرة الوسيط فتدعي أنها من ملائكة الرحمن أو تزعم أنها من أولياء الله الصالحين و عباد الله المقربين .(48/71)
و في كل ذلك قد تحدث بعض الناس و تخبرهم بالكلام مباشرة أو تتلبس و تتحدث على لسانهم و قد تكون الإجابة بواسطة الكتابة على الورق أو ما شابه و كل هذا من اجل فتنة المسلم عن دينه و عن ربه عز وجل .
بل قد تقوم بأكثر من ذلك ، فتحمل الإنسان و تطير به و تنقله من مكان إلى مكان بعيد بيد أنها لا تقوم بأمثال هذه الأعمال إلا مع كبار أوليائها الذين تمادوا بالكفر والفسوق الضلال و الإضلال .
و ربما تجد و لي الشيطان فيه من حيث الظاهر البر والتقوى و الحرص الشديد على الخير و لكنه في الحقيقة عدو من أعداء الله تعالى و غمام من أئمة الضلال و الكفر .
و من أمثال ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى عن الحلاج حيث قال : و كان صاحب سيمياء و شياطين تخدمه أحيانا ، كانوا معه ( بعض أتباعه ) على جبل أبي قبيس ، فطلبوا منه حلاوة ، فذهب إلى مكان قريب و جاء بصحن حلوى ، فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان باليمن حمله شيطان تلك البقعة ) .
وقال عليه رحمة الله في موضع آخر : ( و أنا أعرف من تخاطبهم الشجر و الحجر ، ونقول هنيئاً لك يا ولي الله فيقرأ أية الكرسي فيذهب ذلك ، وأعرف من يقصد صيد الطير ، فتخاطبه العصافير و غيرها و تقول خذني حتى يأكلني الفقراء ، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنسان و يخاطبه بذلك .
و منهم من يكون في البيت المغلق ، فيرى نفسه خارجه ، وهو لم يفتح ، والعكس ، وكذلك في أبواب المدينة ، وتكون الجن قد أدخلته و أخرجته بسرعة يتصورون بصورة صاحبه ، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله ) .
و قد روى شيخ الإسلام روايات كثيرة عن أمثال هؤلاء الضلال المضلين و حكاياتهم مع الشياطين في مجموع الفتاوى و جامع الرسائل فلينظر من أحب النظر لأخذ العبر .13
لذلك قال الليث بن سعد عليه رحمة الله تعالى : لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته ) .14
و أنقل لكم تجربة حصلت مع الكاتب المعروف أحمد عز الدين البيانوني ذكرها في كتاب الإيمان بالملائكة و قد نقلتها بتصرف من كتاب عالم الجن والشياطين للدكتور عمر سليمان الأشقر :
يقول البيانوني : لقد شغل استحضار الأرواح المزعوم أفكار الناس في المشرق المغرب ..... و قد دعيت أنا إلى ذلك ، من قبل هذه الأرواح المزعومة و ظهر لي أنها كذب ودجل و خداع على أيدي شياطين تتلاعب ، غرضهم من ذلك تضليل الناس و خداعهم ، وموالاة من يواليهم ... ) .
ثم يتابع البيانوني فيقول : ( عرفت منذ أكثر من عشر سنوات رجلاً يزعم أنه يستخدم الجن في أمور صالحة في خدمة الإنسان و ذلك بوساطة وسيط من البشر .... و قد جاءني الوسيط ذات يوم يبلغني دعوة فلان و فلانة من الجن لحديث هام لي فيه شأن عظيم .... و كان أو أساليب الخداع التي سلكت معي ، أن طريقة استحضار الجن استغفار و تهليل و أذكار مما يجعل لأول وهلة ، يظن أنه يتحدث مع أرواح علوية صادقة طاهرة ....
دخلت بيت الوسيط و خلونا معاً في غرفة ، وجلس هو على فراش و بدأنا نستغفر الله و نهلل حتى أخذته إغفاءة ، وإذا بصوت خافت يسلم صاحبه علي و يظهر حفاوته بي و حبه و يعرفني بنفسه أنه مخلوق ، ليس من الملائكة و لا من الجن و لكنه خلق آخر وجد بقوله تعالى : ( كن ) فكان ...... و أخذ يثني علي ، ويقول : إنهم سيقطعون كل علاقة لهم بالبشر و سيكتفون بلقائي ، لأني على زعمهم صاحب الخصوصية في هذا العصر و موضع العناية من الله تعالى و أن الله تعالى هو الذي اختارني لذلك ...... و تكررت اللقاءات و في كل لقاء تتجدد الوعود الحسنة و النفع العظيم الذي تلقاه الأمة على يدي ..... و قد زارني فيما زعموا أفراد من الملائكة ، و أفراد من الجن ، وأبو هريرة رضي الله عنه من الصحابة و طائفة من الأولياء .......
و بشروني بزيارة والدي و لما كان الموعد المنتظر كلفوني أن أقرأ سورة الواقعة جهراً و قالوا سيحضر والدك بعد لحظات و اسمع ما يقول ولا تسأله عن شيء .....
و بعد دقائق جاءني من زعم أنه أبي فسلم علي و أوصاني أن اعتني بالوسيط و أهله و أن أرعاه رعاية عطف و إحسان ، إذ لا مورد له من المال إلا من هذا الطريق ...............
و كان العجيب أن لهجة المتحدث شبيهة إلى حد ما بلهجة الوالد ..... و أخذت أتساءل في نفسي لم أوصوني أن لا أسأله عن شيء ؟ ! في الأمر سر ولا شك !
السر الذي انكشف لي آنذاك أنه ليس بوالدي و لكنه قرينه من الجن الذي صحبه مدة حياته وأوصاني أن لا أسأله عن شيء حتى لا يفضح أمره ......
ثم سلكوا معي في لقائي مع الآخرين ، أن لا يعرفوني بأسمائهم إلا عند انصرافهم فيقول أحدهم : أنا فلان ، ويسلم و ينصرف على الفور .
فلو أخبرني واحد منهم عن نفسه و هو مشهور بالعلم ، فأبحث معه في إشكال علمي ، لعجز عن الجواب و انكشف الأمر .....
و لم تنزل تنكشف لي الحقيقة على مهلها مرة بعد مرة حتى تحقق عندي أن الأمر كذب و بهتان و دجل و طغيان لا أساس له من تقوى و لا قائمة له من دين .
فالوسيط حليق اللحية ، تارك للصلاة و لا يأمرونه بها و هو يأكل أموال الناس بالباطل ولا مورد له إلا من هذا الطريق الخبيث .(48/72)
ثم حاولت هذه الشياطين بعدما انكشف لي أمرها أن تسلك طريق التهديد فلم يزلزل ذلك من قلبي شيئاً و الحمد لله )15.
و بعد أن أوردت هذه القصة الحقيقية على سبيل المثال و في كتب أهل العلم الكثير من أمثالها التي تبين جزء يسير من أساليب و طرق الشيطان الرجيم لإفساد الدين وأهله .
فالحقيقة أن الذي يزعم أنه يتصل بالأرواح سواء قال أنها علوية أو سفلية أنه ساحر أو مخدوع عن طرق الشياطين وجنوده لإفساد هذا الدين القويم و أهله الصالحين .
فما هي أسلحة المسلم في حربه مع الشيطان و جنوده :
لا شك أن الله تعالى قد وهبنا أسلحة عديدة في حربنا مع الشيطان وجنوده و أوليائه وهي أسلحة فعالة و فتاكة أيضاً ومن هذه الأسلحة :
أولاً - الاعتصام بالله و بكتابه و سنة رسوله : لكي نحمي أنفسنا من مكائد الشيطان الرجيم و من جنوده وأوليائه لابد لنا من التمسك بكتاب الله و سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم و على منهج و فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فإذا تمسكنا بذلك حصنا أنفسنا من الشيطان وشروه ،
قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{153} سورة الأنعام .
و قد شرح رسولنا الكريم هذه الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط لنا رسول ا صلى الله عليه وسلم خطا وقال : " هذا سبيل الله " ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال : " هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه " ثم قرأ : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.( فإذا اتبعنا ما جاء من عند ربنا من أصول وفروع فحللنا ما أحل لنا و حرمنا ما حرم علينا عصمنا الله تعالى من الشيطان الرجيم ومن فتنه لذلك قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{208} سورة البقرة .
ثانياً - عدم الغفلة عن ذكر الله تعالى : فالشيطان لا يصول ولا يجول إلا في البيت الخرب ، فلا تجعل صدرك بيتا خرب بل عمره بذكر الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } سورة الرعد ، الآية28 .
فإذا ما داوم المسلم على ذكر الله فسيكون بقوة الله قوي أمام أي فتنة أو هجوم من الشيطان وجنوده و أوليائه .
عن بن عباس قال : كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ). قال الشيخ الألباني : صحيح
عن أنس بن مالك أن صلى الله عليه وسلم قال : إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولاقوة إلا بالله قال يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ) قال الشيخ الألباني : صحيح
ثالثاً - التوبة الاستغفار : إذا وقع المسلم في ذنب أو مكيدة من مكائد الشيطان فليسارع إلى التوبة الصادقة النصوحة .
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) سورة الأعراف ، الآية 201.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم قال : قال إبليس وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ) 16.
و بعد كل ما قلت ونقلت أختم مقالتي هذه بهذه الفتوى المباركة التي تغني عن كثير مما قلت أو نقلت أو غفوت أو قصرت أو أخطأت :
الحمد لله
" الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد..
ما تبثه هذه القنوات من علم السحر والشعوذة والكهانة من أعظم المنكرات ومن أعظم الفساد ، وإضلال الناس .(48/73)
وهي علوم تقوم على الكذب والدجل ودعوى علم الغيب بما يدعونه من النظر في النجوم والطوالع كما يقولون ، أو مما يتلقونه من أصحابهم من شياطين الجن ، وقد لا تكون لهم خبرة في هذه العلوم الشيطانية ولكنهم يدعونها كذباً وزوراً لكسب المال ..وهذه العلوم لا تروج إلا على الجهال والمغفلين وضعفاء الدين..وقد ذم الله السحر والسحرة والكّهان كما قال الله تعالى : ( وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) ، وقال : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) ، وقال تعالى في سحرة فرعون : ( قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) وثبت في صحيح مسلم أن صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى كاهنا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) وجاء في السنن : ( من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) وسواء ذهب السائل إليهم ببدنه أو اتصل عليهم بواسطة الهاتف الحكم واحد . وعلى هذا فيجب الحذر من مشاهدة هذه البرامج فمشاهدتها ولو لمجرد الفرجة حرام وأما الاتصال على أصحاب هذه البرامج لسؤالهم ففيه الوعيد المتقدم . ويجب على أولياء أمور الأسر منعهم من مشاهدتها أو الاتصال على هؤلاء السحرة والمشعوذين ، فقد قا صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) ، وقا صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ..) . ويجب على المسلمين التناصح والحذر والتحذير من التواصل مع هذه القنوات التي هَمَّ أصحابها كسب المال ولو من الحرام .. بل وأكثرهم يقصد الفساد والإفساد ، فنقول : حسبنا الله ونعم الوكيل .
الموقعون :
فضيلة الشيخ / عبد الرحمن بن ناصر البراك.
فضيلة الشيخ / عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
و الحمد لله رب العالمين
الشيخ المحامي الدكتور مسلم اليوسف
حلب - سورية 19/ جمادى الآخرة / 1428هـ الموافق لـ 4/7/2007م
==============(48/74)
(48/75)
وسائل أهل الباطل في السباق إلى العقول
الوسيلة الثامنة: الإعلام.
والإعلام يشمل كل ما يصل إلى الناس من رسائل، سماعا أو قراءة أو مشاهدة، أو كل ذلك مجموعا.
وهذه الوسيلة هي أعظم الوسائل سرعة، حيث يصل بعض أنواعها إلى الناس لحظة إرسالها، كما هو الحال في رسائل المذياع، والتلفاز، والهاتف، والفاكس، والبرق من كل أنحاء الأرض، وإلى كل بلدان العالم، كما يصل بعض أنواعها الأخرى خلال ساعات من كل أنحاء الأرض إلى كل البلدان، إذا قصد المرسل ذلك وتوافرت عنده الإمكانات كأشرطة الكاسيت والفيديو والصحف، من جرائد ومجلات ومنشورات، ويصل بعض أنواعها بعد إعداده خلال أيام، ومن ذلك المنشورات والكتيبات الصغيرة، بل الكتب التي جعلتها المطابع شبيهة بالجرائد في سرعة وصولها إلى القراء.
وقد حدثت اليوم وسيلة أخرى أسرع من جميع الوسائل، وهي: وسيلة "الإنترنت" التي يستطيع المرء عن طريقها أن يتجول في كل أنحاء العالم في لحظات، مستقبلا أو مرسلا، في كل ما يخطر بباله أو لا يخطر، ويستطيع الحصول على ما يريد، أو إيصال ما عنده إلى من يريد، بالصوت والصورة والكتابة، ويستطيع أن يحتفظ بما يريد من معلومات... كل ذلك مع قلة التكاليف التي تجعل كثيرا من الناس يتمكنون من الإفادة أو الاستفادة من هذه الوسيلة، بدون مشقة...
وقد أصبحت القنوات الفضائية الآن تغطي غالب أجزاء المعمور.
وهناك محاولات لاستحداث وسائل أسرع
كما أن هذه الوسيلة-وسيلة الإعلام-أكثر الوسائل انتشارا وأشمل تلقيا، حيث تصل إلى كل الناس: القارئ والعامي، المبصر والكفيف، الحاضر والبادي، كل منهم يستطيع أن يتلقى ما يناسبه قراءة أو سماعا أو مشاهدة.
وهي كذلك أيسر من كثير من الوسائل الأخرى-كالتعليم-فإن المتعلم مثلا يحتاج إلى ملازمة المدرسة في أوقات معينة، ويحتاج إلى كتب معينة وأساتذة معينين.
أما وسيلة الإعلام فإنها تصل إلى المتلقي وهو في منزله مشاهدة وسماعا وقراءة، فما أيسر أن يقتني المستمع مذياعا صغير الحجم يحمله معه أينما ارتحل فيسمع منه كل ما يريد سماعه، وكذلك يسهل عليه الحصول على شرائط كاسيت ومسجل صغير، وحمل ذلك معه وتكرار سماعه...
وهكذا بقية أنواع الإعلام، كالصحف والمجلات اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية.
واستغلال هذه الوسيلة للوصول إلى عقول الناس، عظيم الأثر في العالم، ومن كان أقدر على استغلالها، كان أسبق من غيره إلى إيصال أفكاره ومبادئه إلى عقول الناس.
ولما كان طغاة الباطل في الشعوب الإسلامية هم المسيطرين على مرافقها، فقد احتكروا هذه الوسيلة احتكارا يكاد يكون مقصورا على نشر مبادئهم وأفكارهم لتحقيق أهدافهم ومصالحهم، ولما كان غالب حكام الشعوب الإسلامية علمانيين-كما يصرحون هم أنفسهم بذلك-فإن وسيلة الإعلام في بلدانهم قد أعدت لنشر كثير من الباطل وبثه وإذاعته، ومحاصرة الحق وأهله، والحجر على عقول الناس من أن يصل إليها ذلك الحق، وإذا أذن لشيء من الحق أن يصل إلى عقول الناس، فإن الحق الذي يؤذن له بذلك إنما هو جزء يسير لا يؤثر على مسيرة الباطل الذي هو الغالب.
وذلك الجزء اليسير من الحق يشبه قطرة طيب من العطر تلقى في بحر من القاذورات، لا تشم لها رائحة مع روائح الباطل المز كم للأنوف. لذلك تجد أهل الباطل أسرع سبقا، وأشمل تلقيا، وأوسع زمانا، في وصول باطلهم إلى عقول الناس، من أهل الحق الذين لا يملكون من الإمكانات ما يملكه أهل الباطل.
مظاهر التمكين للباطل، ومحاصرة الحق في وسائل الإعلام.
ويمكننا تَبَيُّنُ مظاهر نشر الباطل وبثه والتمكين له في وسائل الإعلام، ومظاهر محاصرة الحق وأهله والحجر على عقول الناس من أن يصل إليها الحق عن طريق تلك الوسائل، يمكننا تبيين ذلك من واقع وسائل الإعلام في كل البلدان التي يحارب حكامها الحق وينصرون الباطل.
المظهر الأول: إسناد الوظائف العليا إلى من يسند الباطل.
الوظائف العليا هي مراكز التوجيه والتخطيط والمتابعة، وهي لا تسند إلا إلى من عُرِفُوا بحب الباطل ومناصرته ومن أُشْرِبتْ نفوسهم حب الفساد ونشره في الأرض وإشاعة الفواحش ووسائلها، كما عرفوا ببيع نفوسهم بثمن بخس لمن يمنحونهم مناصب هذه الوسيلة، واستعدادهم الكامل ليكونوا أبواقا لهم يتلمسون-ولو من بعد-ما يرضي قادتهم، فيسخرون وسائل الإعلام كلها لتحقيق ذلك الهدف، مبالغين في قلب الحقائق وتضليل الناس، ليصبح الحق عندهم باطلا والباطل حقا، ويترتب على اختيار هؤلاء الموظفين الكبار الذين هذه بعض صفاتهم، أن يجمعوا حولهم موظفين من جنسهم وعلى شاكلتهم، يبالغون في إرضائهم كمبالغتهم في إرضاء القادة الذين اختاروهم، وبذلك تصبح وسائل الإعلام-في الغالب-مصادر تضليل وكذب وقلب حقائق، تطرق عقول الناس-باستمرار-بالباطل وتحول بين تلك العقول وبين وصول الحق إليها، إلا ما ندر مما فيه مصلحة تعينهم على تثبيت الباطل، وإزالة الحق ومطاردته.
المظهر الثاني: فتح أبواب هذه الوسائل لذوي الأفكار الفاسدة.(48/76)
من أبرز هذه المظاهر: فتح أبواب هذه الوسائل كلها لذوي الأفكار الفاسدة والعقائد الكافرة والأخلاق المنحطة، لنشر أفكارهم وعقائدهم وأخلاقهم بين الناس، وإبراز أصحاب هذه الأفكار والعقائد والأخلاق، وإطراؤهم إطراء يجعلهم أمام عامة الناس قادة يُتَّبَعون وزعماء يُقتَدَى بهم، ويثنى على أفكارهم وعقائدهم وأخلاقهم، مع تكرار أفكارهم واختيار الأوقات المناسبة لنشرها، بحيث يعرض على أكبر قدر من المتلقين وهم مستعدون لاستقبال النشر.
وبنظرة عجلى إلى شاشات التلفاز في العالم-ومنه العالم الإسلامي-وبإصغاء قليل إلى جهاز المذياع، وبتصفح يسير في الصحف والمجلات، سترى وجوها، وتسمع أصواتا، وتقرأ صفحات، لأمثال أولئك المفسدين الذين أفسدوا عقول الناس بأفكارهم وعقائدهم، وجعلوهم يَسْبَحون في بحار منتنة من السلوكيات التي زينوها لهم وساقوهم إليها سوقا عن طريق وسائل الإعلام.
إن المفكرين الذين يسيطرون على وسائل الإعلام بأفكارهم، هم العلمانيون الذين-لا أقول: إنهم يفصلون الدين الإسلامي عن الدولة، ولكن أقول: إنهم-يحاربون الإسلام والداعين إليه، وإن المتفلسفين الذين يلبسون ثياب الفلسفة، ومن يسمون بالأدباء والشعراء والمثقفين الذين يشككون في الوحي والرسالة واليوم الآخر، ويسخرون من أحكام الإسلام، وإن الإباحيين الذين يسمون بالفنانين، من الذين ينشرون الفاحشة، ويدعون إلى الأخلاق الفاسدة والوقوع في حمأتها، من ممثلين ومسرحيين ومغنين وراقصين وبهلوانيين وغيرهم، هؤلاء كلهم هم الذين تفتح لهم وسائل الإعلام أبوابها، وتصفهم بالنجوم والرواد والأدباء والكتاب، وهم الذين ضلت بهم الشعوب الإسلامية وتحطمت معنوياتها وانحطت أهدافها حتى أصبحت فيما أصبحت فيه من الذلة والهوان والتبعية.
المظهر الثالث: نشر وسائل الفواحش وإشاعة والمنكرات.
وهذا المظهر في غاية الوضوح في وسائل الإعلام، فإن كثيرا مما تنشره تلك الوسائل هو من المنكرات والفواحش التي تغضب الله ورسوله والمؤمنين، ولا ترضي إلا من يحارب الله ورسوله والإسلام.
شواهد لنشر وسائل الفواحش وإشاعة المنكرات.
ومن الشواهد على نشر وسائل الفواحش، وإشاعة المنكرات ما يأتي:
الشاهد الأول: الإكثار من الأغنيات الماجنة
وهي الأغنيات التي تزين الفاحشة صراحة أو ضمنا، بأصوات نساء فقدن الحياء واستمرأن السقوط في مستنقع الرذيلة، فَيَفْتِنَّ بأغنياتهن المتضمنة للدعوة إلى المنكر، وبأصواتهن الخاضعة بقول المنكر شبابَ الأمة وشاباتها الذين يجهلون دينهم، ولم يتربوا عليه التربية التي تقيهم الفسق والعصيان.
وكذلك يفتنَّهم بتكسرهن وتمايلهن وبعريهن الفاضح المعد للفتنة، يشاهد ذلك الناس في المسارح والمراقص مباشرة، أو في شاشات التلفاز في البيوت، وقل مثل ذلك في المغنين من الرجال.
الشاهد الثاني:شغل أوقات الناس بأنواع الرقص.
والرقص يعد إعدادا يجذب إليه كل فئاتهم: الصغار "الأطفال" والمراهقين والشباب، الرجال والنساء، الحضريين والأعراب.
إن الذي يتتبع وسائل الإعلام التي يسيطر عليها أعداء الحق في الشعوب الإسلامية، ليهوله ما يشاهده من كثرة الرقص والراقصين وشغل الناس بذلك وإلهائهم به، هذا مع ما يصاحبه من عري فاضح، وبخاصة في الفتيات المراهقات، ومن اختلاط الشبان والشابات، واحتضان بعضهم لبعض أمام الجماهير المشاهدة في المسارح مباشرة أو على شاشات التلفاز.
الشاهد الثالث: الإشادة بأعمال مفسدي الأجيال المسلمة.
وهم الذين يسمونهم بالفنانين والأدباء والمفكرين(وكثير منهم إباحيون) تخصص وسائل الإعلام أوقات طويلة لإجراء مقابلات معهم، لإبراز تاريخهم المليء بالفساد الخلقي والإفساد الاجتماعي والقدوة السيئة، وللإشادة بأعمالهم الفنية العفنة وتزيينها ودعوة الناس إلى متابعتها والاقتداء بأساطينها العظام، الذين ينتقدون الدعوة إلى العفة والطهر وحجاب المرأة، والبعد عن اختلاط الرجال والنساء غير المشروع، والنهي عن خلوة الرجل بالمرأة، ويدعون إلى تعاطي كل ما يسهل فعل المنكرات والفواحش باسم حرية المرأة، وعملها، والثقة فيها، وباسم التنمية واستغلال الطاقات، وباسم إحياء التراث الشعبي، والبعد عن التزمت والجمود، وغير ذلك مما يزينون به المنكر ويظهرونه في صورة المعروف، ويشوهون به المعروف ويظهرونه في صورة المنكر، وبذلك يقلبون الحق باطلا والباطل حقا، ويضللون عقول الجهال-وما أكثرهم-بدعاياتهم.
الشاهد الرابع:نشر حوادث المنكرات والفواحش، وقصص الغرام.
والعلاقات المحرمة-أي يشيعون الفاحشة بين الناس-للإغراء بها والتحريض عليها، مع الصور التلفازية أو الفوتوغرافية.
الشاهد الخامس:الأفلام المعدة لنشر وسائل الفاحشة.(48/77)
وقد تكون تلك الأفلام المعدة مكشوفة في نقل صورة الفواحش مباشرة، فلا يؤذن بنشرها في أجهزة الإعلام الرسمية، ولكن يعطى أهلها الذين أعدوها الضوء الأخضر لنشرها وتداولها بين الأسر وفي ملتقيات خاصة من أجل هدم الأخلاق وإشاعة قلة الحياء، وقد تكون متضمنة للدعوة إلى الفاحشة بنشر وسائلها، كأفلام الغرام والحب التي تحرض على الخلوة بالمرأة المتزينة المتبرجة، وتعرض ما يحصل بين المرأة والرجل من عناق وقبلات ونظرات وتبادل كلمات غرامية ساقطة، وهذه الأفلام إما أن تنشر كما هي في البلدان التي وصل حكامها إلى درجة من الوقاحة وقلة الحياء في محاربة الفضائل ونشر الرذائل، وإما أن تحذف منها بعض اللقطات المثيرة خشية من انتقاد بعض الغيورين من أبناء البلدان التي لا زال يوجد فيها من يقول كلمة الحق-وبخاصة إذا طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، واللقطات التي تحذف في هذه الأفلام يستطيع من يريد مشاهدتها شراء الأفلام نفسها من محلات متخصصة في بيعها…
قد يقال: ما صلة هذه الأمور بالسباق إلى العقول؟
والجواب أن المقصود بالسباق إلى العقول عند أهل الباطل، هو شغلها بالباطل الذي يصدها عن الحق، وهذه الأمور كلها تؤدي إلى هذا الهدف.
فإذا راقبت كثيرا من الناس وجدت هذه الأمور قد استولت عليهم وشغلتهم وألهتهم فلا يفكرون في الخير والفضيلة-إلا من هداه الله وتفقه في الدين واتجه إلى الله-لأن هذه الأمور قد وضعت حواجز بينهم وبين الخير والفضيلة والتفكير فيهما
المظهر الرابع: المبالغة في شغل عقول الناس بالرياضة.
المحلية منها-في المحافظات والقرى-والقطرية-على المستوى القطري-والإقليمية-على مستوى مجموعة الدول الإقليمية-والعالمية، وإبراز ذلك في جميع وسائل الإعلام: المقروءة والمسموعة والمشاهدة.
أساليب المبالغة في شغل عقول الناس بالرياضة.
ويتخذ هذا المظهر أساليب متعددة:
الأسلوب الأول: الإشادة بالرياضة.
وبخاصة كرة القدم-إشادة تجعلها أعلى وأسمى-عند الناس وبخاصة الناشئة-من الجهاد في سبيل الله [1] ، ومن ارتياد المساجد والتفقه في الدين وحفظ كتاب الله، وإذا أردت أن تعرف مدى تأثير هذه الإشادة، فتجول في أحياء كثير من مدن المسلمين وشوارعها، وانظر يمنة ويسرة لترى فرق الشباب والأطفال الصغار الذين يتبارون في كرة القدم، وانظر إلى ملابسهم والشارات التي تزينها وتدل على تشجيع وتأييد النوادي التي استولت على عقولهم، فلا تجدهم يفكرون إلا في شراء ملابس الرياضة، واقتناء عدد من الكرات وإصلاح ملاعب في تلك الأحياء والمباراة فيها، للوصول إلى أعلى ما يمكن من التدرب والمران، لا يملون من تضييع أوقات طويلة في هذا العمل الذي أشربته قلوبهم، ثم فتش عن نشاطهم المدرسي ومذاكرة دروسهم وإتقانها، فستجد كثيرا منهم أصفارا إلى اليسار، حتى يضطر المسؤولون في المدارس إلى نقلهم من صف إلى آخر وهم لا يستحقون ذلك، فيتخرج جيل ممسوخ هو المسؤول عن تنمية بلدان المسلمين!
وقبل ذلك تجد كثيرا من هؤلاء لا تتجه أبصارهم إلى المساجد وقد لا يصلون حتى في منازلهم، وكل ما يتمناه أن يصبح يوما من الأيام من نجوم الرياضة التي تشيد بها وسائل الإعلام تلك الإشادة.
ومن الإشادة بالرياضة وأهلها وجعل الناس يفتنون بها، ما تلقاه من الدعم المالي والإنفاق السخي على النشاط الرياضي في وسائل الإعلام، حيث تأخذ فيها حيزا واسعا وأوقاتا طويلة قبل المباراة وأثناءها وبعدها، من مقابلات مع المسؤولين عن الأندية الرياضية والمدربين الرياضيين واللاعبين، وفي كل تلك الأوقات الطويلة تظهر الرياضة في مظهر الأهداف العليا التي تستحق الاهتمام والدعم من كل فئات المجتمع، وتنفق الأموال الكثيرة على وسائل الإعلام التي تنقل ذلك للناس وبخاصة عن طريق التلفاز وبثه المباشر عن طريق الأقمار الصناعية من أقصى نقطة في العالم أو إليها.
فإذا ما فاز فريق من فرق البلدان الإسلامية في أي مباراة، سمعت وقرأت وشاهدت من وسائل الإعلام، من الإطراء والمبالغة في الثناء وإظهار الفرح والسرور بذلك، ما يربو على الاحتفاء بالنصر في المجالات العليا: السياسة، والاقتصادية، والجهادية، بل تشعر أنهم قد حققوا فَتْحا من الفتوحات الإسلامية التي كان يحققها سلفنا الصالح، عندما كان في قمة العزة والمجد.
وترى على إثر ذلك الفوز المسيرات المزعجة في الشوارع والساحات، مع رفع البيارق والرايات والأعلام، ومع التصفيق والرقص والتزمير بأبواق السيارات إلى درجة إقلاق الناس ومضايقتهم في منازلهم، وطرقهم ومحلاتهم التجارية.
وبذلك ينقدح في أذهان الناس وعقولهم، أن هذا هو النصر المؤزر الذي يجب أن يحققه شبابهم لبلدانهم التي يحتل الأجنبي اليهودي قلبها-فلسطين-دون أن تنوه وسائل الإعلام بما يجب أن يعده له المسلمون من الجهاد في سبيل الله الذي حجبت هذه الإشادة بالرياضة عقول الشباب من التفكير فيه.
الأسلوب الثاني: الاهتمام المبالغ فيه بالرياضة والرياضيين.(48/78)
ويتبين ذلك في الإنفاق السخي على مرافقها، وبحضور مناسباتها افتتاحا واختتاما، واستقبال اللاعبين بالحفاوة والتكريم وبالجوائز والهدايا التي يغدقونها عليهم، وبنقلهم في طائرات خاصة إلى أي مكان في العالم، وإنزالهم في أفخم فنادق الدرجة الأولى-ذات النجوم الخمسة!-ومستلزمات ذلك كله.
وهذا الاهتمام وهذا التقدير لا ينالهما كثير من المؤتمرات والندوات والمناسبات الإسلامية في وسائل الإعلام، فيرى الأطفال والمراهقون والشباب والآباء والأمهات ما يحظى به الرياضيون من الاهتمام والتكريم، ويرون الإهمال أو شبهه لمن عداهم ممن هم عدة مستقبل بلدانهم، فيتمنى الصغار والمراهقون وكثير من الشباب وأقاربهم تلك الحظوة التي تنقلها لهم وسائل الإعلام بالصوت والصورة والسطور، وبذلك تحتل الرياضة العقول بدلا من أن تحتلها الأهداف العليا التي تحتاج الأمة الإسلامية إلى تحقيقها لإخراجها مما هي فيه من الذل والهوان.
ومن ذلك ملايين الدولارات لاستئجار لاعبين مشهورين بالنجاح المنشود، لينضموا إلى فريق أو ناد لترتفع بهم سمعة الفريق أو النادي، أو مدربين أجانب من اليهود أو النصارى ليرتقي بتدريبهم اللاعبون.
وترى في مقابل ذلك رجال الطب، والمهندسين، وأساتذة الجامعات والمتخصصين في العلوم النادرة، كعلوم الذرة وغيرها تصرف لهم مرتبات قد لا تفي بحاجاتهم، وترى وسائل الإعلام تبرز اللاعبين والمدربين إبرازا مستمرا مبالغا فيه، وترى رجال العلم مغمورين لا يدري عنهم إلا الفئة الجادة القليلة التي عرفت قدرهم وأخذت تتلقى على أيديهم علومهم، أما عامة الناس فلا يعرفون عنهم شيئا، وبذلك يزهد الناس في هؤلاء العلماء وعلومهم، ويتجهون للاعبين والمدربين، لأن اكتساب الشهرة باتباع طريقهم والقرب منهم سهل ميسور، فلا يتعبون أنفسهم ويكدون عقولهم في تلك العلوم الصعبة التي لا ينالون منها الشهرة ولا المال الذين ينالهما اللاعبون ومدربوهم؟
وبهذا تحتل الرياضة وأهلها العقول بدلا من أن تحتلها العلوم النافعة وأربابها.!
اهتمام الكاتب بالرياضة.
هذا وليعلم أن الكاتب ليس من المستهينين بالرياضة من حيث هي، ولا بأهلها، كيف وهو أول من جد واجتهد في تكوين فرق رياضية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وطالب وألح على المسؤولين فيها، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، باستقدام مدربين رياضيين لطلاب الجامعة ونجح في ذلك فعلا، في وقت كان بعض العلماء يصرحون بتحريم كرة القدم لما يحيط بها من منكرات، ومن أهمها اللعب في أوقات الصلوات وعدم أداء الصلاة حتى يخرج الوقت، ومنها كشف العورات بلبس السراويل القصيرة وغير ذلك وسعى الكاتب-وكان مسؤولا عن شؤون الطلاب في الجامعة إلى اشتراك فرق طلاب الجامعة في المباريات مع طلاب الجامعات الأخرى في المملكة العربية السعودية، وحاول-ونجح-في إقامة الصلوات في داخل الملاعب الرياضية وإدخال نشاطات أخرى مع الرياضة، منها مسابقات القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة المطهرة، والنشاط الكشفي ومسابقة الشعر وغيرها، وكان لذلك أثره في الأوساط الرياضية لا زال بعضه موجودا إلى الآن.
ولعل في ملفات شئون الطلاب القديمة في الجامعة من الوثائق ما يثبت اجتهاد الكاتب في إدخال الرياضة في الجامعة.
أقول: إن الكاتب ليس من المستهينين بالرياضة ولا بأهلها، بل إنه يمارسها هو بنفسه إلى وقته هذا الذي يكتب فيه هذه السطور، ويعلم ما فيها من فائدة لتقوية الأجسام وتخفيف الوزن من السمنة المتعبة، ولكنه ضد المبالغات في الرياضة إلى درجة إشغال الشعوب الإسلامية بها وتبديد أموالها فيها، وتكريم اللاعبين والمدربين أكثر من تكريم علماء الإسلام والمتخصصين في العلوم النافعة لبلدان المسلمين، بل وأكثر من الجيوش التي تحرس هذه البلدان وتدافع عنها، والإشادة بالرياضة والرياضيين والغض من شأن الجهاد والمجاهدين، مع حاجة الأمة الإسلامية إلى رفع راية الجهاد للدفاع عن أرضها ومقدساتها وأعراضها التي تنقل وسائل الإعلام صورا محزنة منها، ويناشد بعضُ المسلمين أعداءَ المسلمين من اليهود والنصارى والوثنيين-الذين هم وراء كل تلك المآسي والكوارث-أن ينصروا المسلمين ويرفعوا عنهم ذلك الاعتداء! ويوجهون شباب المسلمين إلى الملاعب الرياضية بدلا من توجيههم إلى إعداد أنفسهم إعدادا جهاديا يتدربون على السلاح وصنعه مع نية التقرب إلى الله، ليدفعوا عن أعراضهم وأراضيهم.
الكاتب هو ضد هذه الحالة المزرية التي لو تنبه لها شباب المسلمين الذين ألهتهم الرياضة وتسليط وسائل الإعلام الأضواء عليهم، لَخَجِلوا مما هم فيه ونأوا بأنفسهم عن هذا الإلهاء والتحقوا بالمجاهدين في سبيل الله، للدفاع عن الأعراض المنتهكة والأراضي المحتلة والمقدسات المهدمة، فهل يعي المسؤولون عن الأمة الإسلامية، وهل يعي شبابها وشعوبها هذا الخطر المحدق الذي صرف عقولهم عن معالي الأمور وعن العزة إلى سفاسف الأمور وأسباب الذلة ؟!
المظهر الخامس: عدم ثبات الولاء والبراء.(48/79)
إن الأصل في المسلم أن يكون ثابت الولاء للحق-لله ولرسوله وللمؤمنين-ثابت البراء من الباطل-من الشيطان وأوليائه الكافرين-ملتزما بالإيمان الصادق والعلم النافع والعمل الصالح، مناصرا للحق واقفا ضد الباطل في كل الأحوال، ولكن غالب وسائل الإعلام لا عقيدة لها ثابتة، ولا ولاء لها دائم، ولا تلتزم الصدق في كثير من الأمور.
فالعدو الذي تصب عليه جام غضبها فترة طويلة من الزمن، لكفره-في نظرها-أو عدوانه، أو فساد مبدئه أو فسقه أو سوء سياسته وقبح تصرفه، يصبح صديقا حميما بين عشية وضحاها، وهو لا يزال على ما هو عليه من المبدأ والفسق وسوء السياسة وقبح التصرف.
والصديق المؤمن-في نظرها-المنصف ذو السياسة الحسنة والتصرف الحميد الذي ظلت تلك الوسائل تثني عليه وتمدحه وتبالغ في الثناء عليه ومدحه، يصبح بين عشية وضحاها عدوا لدودا، وهو لا يزال على إيمانه وإنصافه وسياسته الحسنة وجميل تصرفه، والعداء للأول ينقلب ولاء، والولاء للثاني ينقلب عداء، جريا وراء إرضاء أهواء أعداء الحق المتقلبة-حسب المصالح التي يظنون أنهم يحققونها من تلك التقلبات التي قد تكون في حقيقة الأمر إرضاء لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى في الدول الغربية.
وهذه التصرفات الإعلامية المتقلبة تؤثر على عقول عامة الناس، بل إنها تبلبل عقول بعض من يظنون أنفسهم مثقفين، وتجعلها تضطرب وتوالي من والته أجهزة الإعلام، وتعادي من عادته بشعور وبغير شعور، والذي يتابع الأحداث في تلك الوسائل لا يخفى عليه هذا الأمر.
ولعل مثالا واحدا نذكره باختصار يكفي لإيضاح هذا المظهر، فالحكومات في الشعوب الإسلامية ظل إعلامها-غالبا، ولو في الظاهر-يذكر دولة اليهود بالعدو المحتل، أو العدو الإسرائيلي وينقل-هذا الإعلام-القرارات المتكررة بمقاطعة جميع الشركات اليهودية أو المتعاملة مع اليهود-وإن كانت بعض الدول المتسلطة على الشعوب الإسلامية تتعامل في واقع الأمر مع الدولة اليهودية مباشرة أو بوساطة شركات-وكان-هذا الإعلام-يصرح بأنه لا مكان للعدو اليهودي في قلب العالم الإسلامي أو العربي.
ثم جاءت فترة تراجع فيها هذا الإعلام، فأخذ يصرح بأنه لا اعتراف بالدولة اليهودية ولا سلام إلا بانسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 1967م وحصول الفلسطينيين على تقرير مصيرهم بإقامة دولتهم في أرضهم: الضفة الغربية وقطاع غزة، على غرار ما حصل للمسلمين في الهند: باكستان الشرقية وباكستان الغربية اللتين تفصل بينهما الهند بمسافات شاسعة كانت نتيجتها انفصال الدولتين بترتيب هندي....
ثم انتقل الإعلام الحكومي في كثير من الدول الحاكمة للشعوب الإسلامية للرضا بمدينة (أريحا أولا!) وبعض الأميال من غزة، مع ما زرع فيهما من مستوطنات يهودية مسلحة، ومع إحاطة الجيش اليهودي بهما، ومع السيادة اليهودية الكاملة عليها، وبعد الاتفاق السري بين ما سمي بمنظمة التحرير واليهود سكت الإعلام الحكومي عن ذكر اليهود بالعدو، فلا يصف دولة اليهود إلا بما سمت به نفسها: "إسرائيل" وأخذت وسائل الإعلام تمهد لإعلان إلغاء مقاطعة الشركات اليهودية رسميا، أما في الواقع فقد باشرت بعض الدول هذا الإلغاء وتم لقاء مسئوليها مع اليهود سرا أو جهرا [2].
وكان إعلام حكومات الشعوب الإسلامية يكرر كلمة: العدو الصهيوني ويتحاشى بعضه ذكر العدو اليهودي، بل يصرح بأنا لا نعادى اليهود لأنهم أبناء عمنا، ولكنا نعادي الصهيونية، إلا أن هذا الإعلام تخلى فجأة عن ذكر العدو الصهيوني أيضا، إرضاء لدول الغرب التي أصدرت عن طريق الأمم المتحدة-وهي واجهة الغرب وبوقه-قرارا باعتبار أن الصهيونية ليست عنصرية!.
وهكذا مدينة القدس كان الإعلام في الدول الحاكمة للشعوب الإسلامية يصرح بأنها عاصمة فلسطين، وأن بيت المقدس لا بد أن يكون بأيدي المسلمين، ولكن هذا الإعلام بدأ يفتر الآن عن تصريحاته وإن كان بعضه لا زال بين حين وآخر يذكر القدس على استحياء.
ومما يدل دلالة واضحة أن الإعلام في الدول المسيطرة على العالم الإسلامي، الذي لا يوجد له ولاء ثابت يرضاه الله ورسوله والمؤمنون، يصف المجاهدين في فلسطين بالمتطرفين ويقف ضدهم في صف دول الغرب، والدول العلمانية والأحزاب العلمانية في الشعوب الإسلامية ومنها فلسطين.(48/80)
ومما يدل على ذلك أن وسائل الإعلام المذكورة لا تكاد تذكر مجاهدي الفلبين المتمسكين بالإسلام، وهم الذين تضمهم جبهة تحرير مورو الإسلامية التي تدعو إلى تحرير جنوب الفلبين وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيه، ويرأسها الشيخ سلامت هاشم الأزهري، ولكن تلك الأجهزة تهتم بجبهة تحرير مورو الوطنية التي يرأسها نور مسواري (ياسر جنوب الفلبين!)، وهو يتقرب إلى الحكومة النصرانية في الفلبين ويريد أن يعقد صلحا معها [3] على أساس علماني وعلى حساب الجبهة المجاهدة، ولا تجد هذا الإعلام دائما-إلا في حالات استثنائية مؤقتة لغرض خاص-في صف الإسلام ودعاته، وإنما يكون ضد الإسلام وضد دعاته في صف عدوه من اليهود والنصارى والوثنيين والأمثلة على ذلك لا تحصى كثرة، وما على من يريد التأكد من ذلك إلا أن يشاهد ويسمع ويقرأ ما تيسر له من وسائل الإعلام.
المظهر السادس: تقليد أجهزة الإعلام الأجنبية، في المصطلحات.
ومن تلك المظاهر تقليد أجهزة الإعلام التابعة للدول الحاكمة للشعوب الإسلامية لأجهزة الإعلام النصرانية واليهودية والشيوعية، والوثنية في الغرب أو الشرق، في إدخال المصطلحات التي ترددها هذه الأجهزة الكافرة ضد الإسلام والمسلمين في قاموس تلك الأجهزة الإعلامية المقلِّدة.
مصطلح الأصولية.
ومن ذلك مصطلح: (الأصولية [4] ) التي تطلق في الغرب على فئة معينة من النصارى البروتستانت، الذين يتمسكون بظواهر نصوص محرفة تمسكا جامدا، ويحكمون على كل من يخالف ظواهر نصوصهم تلك من النصوص المحرفة أيضا عند الفئات النصرانية الأخرى بأنهم على باطل، وأن الحق هو ظواهر نصوصهم المحرفة فقط، ويقفون موقفا متشددا ضد كل من يخالفهم، ويتسم تشددهم بالعنف.
هذا المعنى المولود في الغرب أطلقه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى على كل من تمسك بالإسلام تمسكا صحيحا ودعا إليه، وهو-بهذا المعنى-إطلاق ظالم جائر، لا أصل له في القاموس الإسلامي، بل إن كلمة (أصول) في الشريعة الإسلامية تطلق على علم يروض العقل على البحث والاستنباط، انطلاقا من قواعد يندر وجود مثلها في أي دين أو أي علم عند غير المسلمين، إنه علم أصول الفقه الذي هو ميزان دقيق يضبط منهج الفقيه في استنباط الأحكام، ويعصمه من الزلل في اجتهاده، يعلم ذلك كله من له إلمام بهذا العلم العظيم من المسلمين وغيرهم، ولذلك تطلق كلمة: "أصولي" على المتخصص في هذا العلم، وجمعه: "أصوليون" والذي يتقن هذا العلم يصول ويجول في ميدان الفقه المستنبط من القرآن والسنة وهو متحرر العقل من التقليد الأعمى، عارف أين يضع قدمه آمن من المزا لق التي يقع فيها من يجهل هذا العلم، مقدر للمصالح الراجحة والمفاسد حق قدرها، ويكفي من أراد الوقوف على حقيقة ذلك قراءة جزء من المقاصد من كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي رحمه الله، هذا هو الأصولي عند المسلمين.
وقد يطلق على العالم المتضلع في العقيدة (الإيمان) وقد يسمى فيلسوفا-والأصل أن يسمى حكيما-ومع ذلك أطلق أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم كلمة أصولي أو أصوليين، على علماء الإسلام وأتباعهم من المتمسكين بالدين الداعين إليه بالموعظة والحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، كما أطلقوا على الدعوة إلى الإسلام وتطبيقه في العالم الإسلامي كلمة "أصولية" التي يعلمون أنها مصطلح غربي ينفر من يسمعه من أهل الغرب، والهدف من ذلك تلبيس الإسلام والمسلمين بثوب لم يفصل عليهما، وإنما فُصِّل على مبدأ يجافي الإسلام ويضاده وعلى فئة بعيدة كل البعد عن الجماعات الإسلامية، وذلك للتنفير من الإسلام والمسلمين والتخويف منهما والتحريش عليهما لمحاربتهما.
وقد راق هذا المصطلح لأجهزة الإعلام العلمانية في البلدان الإسلامية، فأخذوا يرددونه في وسائل إعلامهم كلها في كل مناسبة وأخذوا يطلقون هذا المصطلح ظلما وعدوانا على علماء أجلاء يستحقون أن يوصفوا بالأصوليين حسب المصطلح الإسلامي السابق الذكر، لا بحسب هذا المصطلح الغربي الظالم، كما أطلقوه على جماعات أبعد ما تكون عن هذا المعنى.
وعلى سبيل المثال نذكر حزب الرفاه الذي يرأسه المهندس " نجم الدين أربكان" والذي له فترة طويلة يزاول السياسة ويدخل في الانتخابات ويفوز بأصوات تمكنه من المشاركة في الحكم، وقد يفوز بأصوات ولا يتمكن بها من المشاركة في الحكم وهو الغالب، ولم يصدر منه شئ من الاعتداء على أحد، بل يُعتدى عليه في وسائل الإعلام ويحارَب حربا شعواء لا يحاربها حزب آخر من الأحزاب التركية المعترف بها، ومع ذلك إذا فاز ببعض البلديات المهمة ارتفعت الأصوات المعادية للإسلام واصفة له بالأصولي المتطرف، مع أن هذا الحزب لشدة اعتداله واعترافه بالقومية التركية وعزمه على نقل النافع من الحضارة المادية الغربية إلى بلاده، أخذ بعض الكتاب الذي يعترفون بوجود أصوليين في الجماعات الإسلامية بالمفهوم الغربي السابق-أخذوا يدافعون عن حزب الرفاه ويبرؤ ونه من الأصولية المذكورة [5].(48/81)
ومن ذلك كلمة "التطرف" التي تطلق على الفرد المسلم الملتزم بدينه والآمر به الناهي عما نهى عنه، بل إن كلمة التطرف يطلقونها على الجماعات التي هي أشد بعدا عن الدخول في المسائل الخلافية بين المسلمين، مثل جماعة الدعوة والتبليغ التي نشأت في الهند، وعليها بعض المآخذ، ولكنها تحاول أن لا تتدخل في السياسة الشرعية الإسلامية، ولا في الخلافات المذهبية الفقهية أو غيرها، حرصا منها على أن تهدي الناس-بحسب ما تفهمه من الإسلام-إلى التمسك بالشعائر العبادية والأخلاقية والزهد في الدنيا، ومع ذلك يعتقل أفرادها في بعض البلدان الإسلامية، وهم كعادتهم يتعبدون في المساجد لا يؤذون أحدا، ويوصفون بأنهم متطرفون والعالم كله يعلم أن هذه الجماعة لا توجد جماعة مثلها يمكن أن توصف بالهدوء و البعد عن كل ما يثير الناس حتى إنها كانت-ولا زالت-تذهب إلى البلدان الغربية والشيوعية وتقيم فيها المؤتمرات الحاشدة، ولكنها في كثير من البلدان الإسلامية التي تحكمها الدول العلمانية جماعة متطرفة! [6] .
ونحن لا ننكر أنه يوجد غلاة من بعض الأفراد أو بعض الجماعات التي وجدت في العالم الإسلامي، لظروف معروفة من أهم أسبابها الغلو العلماني من طغاة الحكم، ولكننا نأبى إقرار أمرين:
الأمر الأول: إطلاق كلمة أصولي-بالمفهوم الغربي-على أي فرد مسلم أو جماعة إسلامية مهما بلغ تطرفها ومهما وقفنا ضد تطرفها، لأن هذا المصطلح أجنبي وعندنا مصطلحات إسلامية تغني عنه مثل: الغلاة وذوو العنف أو الخوارج، إذا وجدت الصفات والشروط التي لا يصح الإطلاق بدون وجودها.
الأمر الثاني: إطلاق لفظ التطرف على كل ملتزم بدينه داع إليه على الوجه المشروع في الكتاب والسنة، سواء أكان الملتزم الداعي فردا أو جماعة، وعلى مسؤولي وسائل الإعلام في البلدان الإسلامية أن يقلعوا عن هذا الجناح العظيم، وإلا فليعلموا أنهم-إن لم يقلعوا عن ذلك-قد أصبحوا في صف أعداء الله ورسوله الذين يشاقون الله ورسوله ويوالون أعداء الله ورسوله، ويتبعون غير سبيل المؤمنين: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [7] .
مصطلح الإرهاب والإرهابي.
ومن ذلك: إطلاق لفظ: "إرهابي"-نسبة إلى "إرهاب"-على كل من تمسك بالإسلام ودعا إلى العمل به والحكم بشريعته، وإلى إعداد المسلمين العدة لإقامة هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض، وحذر من تآمر أعدائه عليه وعلى أهله.
وقد انتشر هذا المصطلح-أصلا-من أجهزة الإعلام الغريبة، وبخاصة بعد تفكك الدول الشيوعية-الاتحاد السوفييتي-والهدف من ذلك توجيه قادة الغرب الحرب الشاملة على الإسلام والتنفير منه، والتخويف منه بعد أن رأوه ينتشر بسرعة في معاقل العلمانية الغربية، ورأوا بيوت الله تنافس كنائس النصرانية في ديارها، كما رأوا كثيرا من شباب المسلمين المؤهلين في جميع التخصصات، وفي أنحاء الأرض كلها، يعودون إلى التمسك بدينهم بقوة، ورأوا الشعوب الإسلامية تتطلع إلى تطبيق شرع الله، بدلا من قوانين الغرب التي فرضت عليهم بالقوة.
ويعلم قادة الغرب من الباحثين والسياسيين والعسكريين وغيرهم، أن مبادئ الأرض كلها، لا قدرة لها على مواجهة هذا الدين، ما بقي سليما صافيا من التحريف والتبديل، وما بقي له رجال يحملونه، إيمانا وعلما وعملا ودعوة وإعدادا وعدة للدفاع عنه وتبليغه إلى الناس كافة.
وقد حاول أعداء هذا الدين تحريف نصوصه وتشويه معانيه قديما وحديثا، فلم يفلحوا في ذلك، لأن الله تعالى قد تولى حفظه بنفسه، وهيأ له من يحميه من علماء الأمة جيلا بعد جيل.
ولهذا ترى قادة الباطل يبتكرون في كل عصر ما يحاربون به دين الله، من الوسائل المعنوية والمادية، وحربهم له بالوسائل المعنوية أشد على المسلمين من الوسائل المادية.
ذلك أن الوسائل المعنوية تشكك جهلة المسلمين في دينهم، وتؤثر في عقول بعض الغافلين من المنتسبين إلى العلم، ممن لا يتنبهون لكيدهم، كما أن تلك الوسائل تنفر غير المسلمين من الإقبال إلى الإسلام والتعرف على ما فيه من المحاسن، لينقذوا أنفسهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان.(48/82)
ومن أهم وسائلهم المعنوية التي اجتهدوا في تضليل المسلمين واستغفالهم بها، وفي تنفير غير المسلمين عن التعرف على الإسلام والدخول فيه، مصطلحا: "إرهاب وإرهابي" اللذين تلقاهما منهم كثير من المسلمين من الكتاب والإعلاميين والسياسيين، وغيرهم وأخذوا يطلقونهما على كل فرد أو جماعة أو دولة تدعو إلى تطبيق الإسلام في حياة المسلمين، وتنادي بإعداد العدة لجهاد المعتدين، على ضرورات حياة الأمة الإسلامية من اليهود والنصارى والوثنيين. وأصبح الآمرون بالمعروف والنا هون عن المنكر من علماء الأمة الإسلامية ودعاتها-الذين يحثون المسلمين على إعداد العدة لإرهاب أعدائهم، والدفاع عن أعراضهم وأوطانهم وأموالهم، في فلسطين، وفي كشمير، وفي إريتريا، وفي الصومال، وفي الفلبين، وفي البوسنة والهرسك، وفي الشيشان... ومن يمد لهم يد العون بالمال-إرهابيين تجب محاربتهم والتضييق عليهم، والوقوف ضدهم في صف أهل الباطل المعتدين على كل حق من حقوق المسلمين.
وغفلوا أو تغافلوا عن نصوص القرآن والسنة، ومقاصد الشريعة الإسلامية الرامية إلى تحقيق العزة لهذه الأمة، العزة التي تقيها من أن يجعل الله للكافرين عليها سبيلا، وأن العزة لا تتحقق لهم إلا بإعداد العدة المستطاعة التي ترهب أولئك الأعداء، وتحول بينهم وبين العدوان على مقدسا تهم وحرما تهم.
وحققوا بذلك ما تمناه أهل الباطل من تفوقهم على المسلمين في مجال العلم والاقتصاد والسياسة والإعلام والسلاح وغيرها، و من ضعف المسلمين وذلتهم، ليكونوا أتباعا لهم يصرفون شؤونهم كما يريدون، لأنهم قد سلبوا هذه الأمة سلاح إرهابها عدوها بإعداد العدة، وأحرزوه لأنفسهم، فاختلت الموازين، وأصبح المسلمون الذين شرع الله لهم إرهاب عدوهم أذلة، وأصبح أعداؤهم من أهل الباطل أعزة عليهم مستقلين بإعداد العدة التي ترهب المسلمين، بدلا من الأصل الذي أراده الله، وهو: إرهاب أعدائه الكافرين، وفي ذلك إبطال لأمر الله الشرعي، الذي سجله تعالى في كتابه الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّ ةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترهبون بِهِ عَدوَّ اللهِ وَعَدُوَّكمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِم لاَ تَعْلَمُونَهُم اللهُ يَعْلَمُهُم وما تنفقوا مِنْ شيء فيِ سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}. وطمس لقول الرسول صلى الله عليه وسلم [ونصرت بالرعب.]
ومعلوم بداهة أن الذي يملك القوة التي يرهب بها عدوه تكون له القيادة في الأرض، وأن الذي لا يملك تلك القوة المرهبة يكون مستضعفا ذليلا، والأصل أن تكون العزة لصاحب الحق، والذلة لصاحب الباطل!.
فهل يليق بالمنتسبين إلى الأمة الإسلامية "أمة الحق" وبخاصة من يعد من المثقفين، أن يستخفهم أهل الباطل ويجندوهم لتحقيق مآربهم، فيستعملوا مرافق المسلمين من وسائل الإعلام وتأليف الكتب، لإعانة أعدائهم عليهم، وتضليل المسلمين والعبث بعقول جهالهم، بتشويه المصطلحات الشرعية الواردة في القرآن والسنة، وجعل الحق منها باطلا؟!
وليت الذين خدموا أعداء الحق وأنصار الباطل بنشر مصطلحاتهم المشوهة للإسلام والمنفرة منه-كالإرهاب والإرهابي-اطلعوا على شكوى بعض الغربيين الذين دخلوا في دين الإسلام من هجوم قومهم عليهم بتلك المصطلحات الظالمة، ليخجلوا من مسارعتهم-متعمدين أو مستغفلين-إلى الوقوف في صف أهل الباطل باستعمال مصطلحاتهم ونشرها وإطلاقها على غير أهلها.
شكوى بعض المسلمين في الغرب من تلك المصطلحات الظالمة.
ولنذكر-على سبيل المثال-شكوى المسلم الألماني الدكتور "مراد هو فمان" [8] من إطلاق أعداء الإسلام مصطلح "إرهابي" على المسلم الذي يشتبه في صدور عنف منه، دون غيره من أهل الديانات والمبادئ الأخرى.
قال: (فالإعلام الغربي يقف على خلفية صلبة من العداء للإسلام، ولديه قرون استشعار انتقائية لكل همسة تنسب للإسلام، ولديه مصطلحات خاصة جدا، لا يستخدمها إلا للإسلام والمسلمين. فمثلا لم نقرأ في صحيفة أوربية-أيا كانت-مصطلح "إرهابي" أطلقته على شخص يهودي أو مسيحي... ولكن نقرأ "إرهابي مسلم" وهذا المصطلح ملأ صفحات الجرائد الأوربية والأمريكية خلال تغطيتها لحادث تفجير المركز التجاري العالمي بنيويورك في مطلع عام 1993م.
وإذا حدث وهاجم إرهابي خارج العالم الإسلامي هدفا ما، جاءت التقارير الصحفية بمصطلح "مقاتل، محارب، فدائي" ولن نقرأ أبدا مصطلح "إرهابي كاثوليكي" أو "متعصب مسيحي" أو "إرهابي هندوسي" حتى الهجوم بالغاز في مترو طوكيو في مارس 1995م نسب إلى راديكاليين!!) [9].
العلوم النظرية.
ومن ذلك: إطلاق لفظ (العلوم النظرية) على كافة العلوم الإسلامية، حيث يقال عند المقارنة بين العلوم الإسلامية، وغيرها من العلوم المادية-التي هي من فروض الكفاية في الإسلام-: العلوم النظرية والعلوم التطبيقية، مع أن الدين الإسلامي كله تطبيق وعمل في حقيقة الأمر، وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة على أن الإيمان الشرعي يشمل الاعتقاد والقول والعمل، وعلى ذلك جماهير علماء الإسلام (10).(48/83)
وإذا تأمل الباحث أبواب الإسلام-أصوله وفروعه-وجد غالبها عملية، فالطهارة عمل، والصلاة عمل، والزكاة عمل، والحج عمل، والصيام عمل، والجهاد-إعدادا وتنفيذا-عمل، والبيع والشراء المشروعان، والشركات بأنواعها عمل، والقضاء والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل، والتعاون على البر والتقوى عمل، وهكذا ما قد يظن الجهال أنه ليس من الإسلام كالصناعة والزراعة والتطبيب وغيرهما، وكل باب من أبواب الاقتصاد عمل، والتعليم والإعلام والسياسة الشرعية، كل ذلك عمل.
ويجب أن يعلم أن كل أعمال المسلم-سواء منها ما كان من العبادات أو من المعاملات هي من الإسلام، يثاب على فعلها أو تركها إذا قصد العبد بفعلها التقرب بها إلى الله، والأدلة متظافرة على ذلك، وقد بسط العلماء القول فيها.
ويكفي أن تعلم أن أعمال العبد كلها لا تخرج عن الأحكام التكليفية الخمسة، وهي: الواجب والمندوب والمباح والمحرم والمكروه، وهي الأحكام الشرعية التي بينها علماء أصول الفقه في كتبهم، فمن فعل الواجب أو المندوب أو المباح قاصدا بذلك التقرب إلى الله أثابه الله على ذلك، ومن ترك المحرم والمكروه قاصدا به وجه الله أثابه الله على ذلك، ومن فعل المحرم عاقبه الله على فعله، ومن ترك الواجب عاقبه الله على تركه. وهذا يدل على أن ذلك كله عبادة، وهو عمل وتطبيق... وتقسيم العلماء أبواب الشريعة إلى عقائد وعبادات ومعاملات، إنما فصدوا به تقريب أبواب هذه الشريعة لطلاب العلم، وإلا فكلها دين وكلها إسلام، وإن اعتبر بعضها أصولا وبعضها فروعا....
فكيف يقال بعد هذا كله: إن العلوم الإسلامية نظرية غير تطبيقية؟!
وإن الذين يطلقون هذا المصطلح على علوم الإسلام لا يخلون من إحدى طوائف ثلاث:
طائفة ماكرة من أهل الباطل الذين يتعمدون هذا الإطلاق، للتهوين من شأن الإسلام، وأنه من الأمور النظرية التي لا تتوقف حياة المسلمين وتقدمهم على تطبيقها، وهذا هو منهج من يسمون بالعلمانيين، بدليل أنهم يحاربون تطبيق الشريعة الإسلامية والدعاة إلى ذلك التطبيق. وإنما تعمدوا هذا الإطلاق ليغرسوا هذا المعنى-وهو تهوين شأن الإسلام-في عقول أبناء المسلمين...
وطائفة جاهلة تلقفت هذا المصطلح من الطائفة السابقة، وأطلقته دون وعي لمقاصد أهل الباطل في هذا الإطلاق.
وطائفة غافلة، أي إنها أطلقت هذا المصطلح عن غفلة-بسبب التضليل الإعلامي-وليس عن جهل، فإذا نبهت على خطر هذا الإطلاق نبذته وحذرت منه.
ما رتبه أهل الباطل على هذا الإطلاق:
وقد رتب أهل الباطل على هذا الإطلاق نتيجتين خطيرتين:
النتيجة الأولى: تهوين شأن الإسلام كما مضى.
والنتيجة الثانية:أن تقدم الأمة إنما يتوقف على العناية بالعلوم العملية التطبيقية.
وهي التي تمس حياة الناس ويتوقف على إحرازها تقدم الشعوب، بخلاف العلوم النظرية، وعلى رأسها العلوم الإسلامية وما يخدمها.
ويكفي أن يذكر المسلم الحرب الشعواء على مدارس تحفيظ القرآن الكريم، ومعاهد الأئمة والخطباء والقضاة في بعض البلدان الإسلامية-ومنها تركيا-
أليس المسلمون في حاجة إلى مفتين وقضاة شرعيين وأئمة وخطباء وأساتذة لتعليم أبنائهم العلوم الإسلامية وما يخدمها كاللغة العربية بفروعها، والحضارة الإسلامية عبر التاريخ.... كحاجتهم-بل أشد-إلى أطباء ومهندسين وصناع...؟!
وقل من تنبه لخطر هذا الإطلاق في وسائل الإعلام المضللة وحذر منه، بل أصبح كثير من الكتاب والأدباء والمؤلفين والإعلاميين يستعملونه، وصار عند عامة المسلمين من المسلمات التي لا تناقش. ولا شك أن هذا من تخطيط أهل الباطل في سباقهم بباطلهم إلى عقول أبناء المسلمين.
عبدة الشيطان!
ومن ذلك: مصطلح: (عبدة الشيطان) الذي اهتمت به وسائل الإعلام في هذه الحقبة من الزمن، حيث أطلق على من سموا أنفسهم بذلك، ممن ظهروا في بعض البلدان الإسلامية والغربية. ويوهمون كثيرا من الناس-ومنهم بعض المسلمين-أنه لا يطلق هذا اللفظ إلا على أمثال هؤلاء ممن يصرحون بأنهم يعبدون الشيطان، مع أن هذا اللفظ يطلق في القرآن وفي السنة على من اتبع سبل الشيطان مخالفا أمر الله وصراطه المستقيم شاملا لعدد كبير ممن ينتسبون إلى الإسلام بأسمائهم ويحاربونه بسلوكهم.
والذي يتتبع بعض الآيات القرآنية يتبين له أن كثيرا من المنتسبين إلى الإسلام الذين لا يصرحون بأنهم من عبدة الشيطان، بل قد يستعيذون منه ويلعنونه، هم أشد عبادة للشيطان ممن يصرحون بأنهم يعبدونه، وبخاصة أولئك الطغاة الذين حرموا الشعوب الإسلامية من التمتع بحكم الله الذي أنزله في كتابه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وأحلوا محله الحكم بالطاغوت. بل إن هؤلاء هم السبب الرئيس لظهور من يصرحون بعبادة الشيطان، لأنهم لو حكموا كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم في حياة الناس لأوجدوا المناخ الإسلامي الذي يقي المسلمين-وغيرهم-من اتباع خطوات الشيطان، وقضوا بذلك على الوسائل الداعية إلى عبادة الشيطان... ولكنهم-مع تمجيد وسائل الإعلام لهم-لم يدَعوا خطوة من خطوات الشيطان خطوها، ولا سبيلا من سبله إلا سلكوها.(48/84)
والله تعالى يقول: {يا أيها النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } البقرة
ويقول: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }البقرة .
ويقول: {وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }الأنعام.
ويقول: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } النور.
ومن أعظم خطوات الشيطان التحاكم إلى الطاغوت الذي فرضه الطغاة على الناس فرضا في كل شأن من شؤون حياتهم، والقرآن الكريم يدل على تكذيب من يدعي الإيمان وهو يتحاكم إلى الطاغوت، ويدل على أن من أطاع غير الله في تحليل ما حرم أو تحريم ما أحل قد عبد غيره تعالى. فكيف بمن شرع للناس تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله وفرض ذلك فرضا على الناس، وفرض عليهم التحاكم إلى الطاغوت بسطوته وسلطانه.؟!
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورهبا نهم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } التوبة.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} النساء .
المظهر السابع: محاصرة كل وسيلة إعلامية تحمل الحق.
وكما تفتح أجهزة الإعلام الأبواب لأفكار أهل الباطل الفاسدة، لتصل إلى عقول الناس، فإنها تحاصر أفكار أهل الحق من أن تصل إلى تلك العقول. وذلك باتباع الأسلوبين الآتيين:
الأسلوب الأول: عدم الإذن بالمطبوعات التي تتضمن بيان الحق وفضح الباطل.
سواء كانت تلك المطبوعات كتبا أو جرائد ومجلات،أو منشورات، تمنع طبعا وبيعا وتوزيعا في داخل الشعوب الإسلامية التي يحارب حكامها الحق.
الأسلوب الثاني: استنفار جيش الجمارك لمنع وسائل الحق.
نعم يستنفر قادة الباطل جيشا كبيرا من الموظفين في إدارات البريد والجمارك الجوية والبرية والبحرية، لرصد المطبوعات وشرائط الكاسيت والفيديو التي ترد إلى الشعوب الإسلامية-ولو كانت من بلد إسلامي-وهي تحمل الحق، فتصادر وتمنع من الوصول إلى عقول الناس في داخل تلك الشعوب، مع تيسير دخول الوسائل المماثلة التي تحمل الباطل، بحيث تغرق بها المكتبات التجارية وتكون في متناول الأفراد والأسر، وكذلك تسهل سبل نشر الكتب والجرائد والمجلات وأشرطة الكاسيت والفيديو التي تنشر الباطل سواء أكان عقديا أو فكريا أو أخلاقيا، يؤذن بطبعها وبيعها وتوزيعها، وقد تتولى إدارات الإعلام في تلك الشعوب الإسلامية توزيع تلك الوسائل مجانا إمعانا في نشر الباطل ومحاصرة الحق.
وتَدعمُ محاصرةَ الحق والحجر على العقول منه، بمنع كل وسيلة إعلامية تحمله، ونشر الباطل وتسهيل كل وسيلة تحمله إلى عقول الناس، أنظمةٌ إعلامية وأجهزة إدارية تنفيذية ظاهرة وخفية تسهر على تنفيذ المخطط الآثم الذي قصد به الحجر على العقول من أن يصل إليها الحق، وفتح الأبواب للباطل ليستقل بتلك العقول.
بل إن بعض محاربي الحق الداعمين للباطل في بعض البلدان الإسلامية، يحاربون من أعلن توبته إلى الله من الأعمال التي تصرف عقول الناس عن الحق إلى الباطل، ويمنعون كتبهم ومذكراتهم بسبب توبتهم، خشية من أن يكثر التائبون إلى الله ويقل رواد الفتنة وناشرو الفواحش والداعون إلى المنكرات، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} (11).(48/85)
وهؤلاء الذين يحجرون على العقول من أن يصل إليها الحق في وسائل الإعلام، أو ييسرون السبل لوصول الباطل إلى تلك العقول عن طريق تلك الوسائل، هم في الحقيقة أشد خطرا على الإسلام والمسلمين من قطاع الطرق الذين يخيفون السبل ويسلبون الأموال ويزهقون الأرواح. ذلك أن قطاع الطرق يشعر الناس كلهم بخطرهم والضرر الذي ينزلونه بالناس، فيتداعى لدرء خطرهم الخاصة والعامة ويتعاون على حربهم الحكام والمحكومون، فلا يدوم خطرهم بل يزول في وقت قصير-نسبيا-أما أعداء الإسلام الذين يدأبون بالسباق إلى العقول بإبلاغ الباطل إليها وقطع الطريق على الحق من أن يصل إلى تلك العقول، فإن خطرهم لا يظهر-في أول وهلة-إلا لفئة قليلة من الناس، وهم المفكرون الإسلاميون من ذوي العلم والبصيرة، والحرص على مصالح الأمة، وهؤلاء يقف لهم أعداء الإسلام بالمرصاد مكممين أفواههم من أن تصدع بالحق وتنبه على الخطر، مكسرين أقلامهم من أن تخط كلمة تحذر الناس من شرهم وفسادهم، بل إنهم يُضَايَقُونهم في رزقهم ووظائفهم وتنقلاتهم، وقد يزج بهم في السجون والمعتقلات، وينزل بهم من التعذيب والعقاب ما لا يطاق، وقد يقتلون في سجونهم غيلة أو يحكم عليهم بالقتل ظلما وعدوانا، ويعلن للناس أنهم مجرمون، والناس لا يعلمون حقيقة الأمر، لأن عقولهم قد ضللتها أجهزة الإعلام التي هيئ لها أن تصل إلى تلك العقول.
ولا يعلم غالب الناس بخطر هؤلاء المفسدين للعقول، إلا بعد فوات الأوان، بفساد العقول وما يترتب عليه من آثار مدمرة لحياة الأمة، وهنا يكمن الخطر العظيم، كما هو واقع الأمة الإسلامية اليوم.
المظهر الثامن: قلب الحقائق التي تضلل بها الشعوب.
إن تلك الأجهزة تتعمد تضليل الشعوب الإسلامية بقلب الحقائق في كل مناهج حياتهم ومرافقها، في الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، والعلاقات الدولية، بحيث تظهر وسائل الإعلام لتلك الشعوب صواب تدبير قادة الباطل من الطغاة المحاربين للإسلام والحق والمؤيدين للباطل، في كل تلك المناهج والمرافق، وأن الغاية من تدبيرهم وتصرفاتهم إنما هي مصلحة تلك الشعوب وعزها وسؤددها.
مع أن الواقع بخلاف ذلك-في الأغلب الأعم-إذ تكون سياستهم لشعوبهم سياسة غش وخداع، يتوسلون بها إلى ما يحقق مصالحهم الذاتية، ولو حطموا بذلك مصالح تلك الشعوب وجلبوا لها المفاسد المدمرة، من ظلم وغصب ونهب ونشر فساد وإذلال، كما يحطمون اقتصاد تلك الشعوب باستنزاف خيراتها وإنفاق أموالها فيما لا يعود عليها بفائدة، بل يعود عليها بالضرر، ويعود على أعداء الأمة الإسلامية بالفائدة، ويحملون تلك الشعوب بالديون الربوية التي تتضاعف عليها وترهقها وتجعلها خاضعة لأعدائها من اليهود والنصارى الذين يغرقونها بتلك الديون، وغالب تلك الأموال والديون يستأثر بها قادة الباطل الذين يضللون الناس بالدعايات الكاذبة التي تقلب الحقائق وتفسد العقول.
وهكذا يضللون عقول الشعوب الإسلامية بالثقافات الأجنبية التي تحارب الإسلام وتشوهه، كأفكار كثير من المستشرقين والمنصرين والملحدين، ومن يسمون بالأدباء، وكثير منهم منحلون، والعلمانيين والحداثيين والماسونيين وغيرهم من دعاة الفساد الذين تؤثرهم-غالبا-أجهزة الإعلام على من سواهم من دعاة الحق، حتى لا يسابقوهم بهذا الحق إلى عقول الناس، مع المدح المبالغ فيه لأولئك وغمز وذم هؤلاء.
أما التضليل الإعلامي للشعوب في الشؤون العسكرية فحدث عنه ولا حرج.
إن الشعوب الإسلامية عندما تسمع وترى وتقرأ الضجيج الإعلامي الذي يطري القوى العسكرية، سواء ما تعلق منها بالجنود أو المعدات، وما صرف في ذلك من أموال هائلة، ينقدح في عقولهم أن لديهم قوة عسكرية قادرة على دفع عدوان أي عدو عليها، بل ربما ظنت أكثر من ذلك أن تلك القوة قادرة على إخافة العدو وإرهابه وهو في عقر داره، تحقيقا لأمر الله تعالى بإعداد العدة التي ترهب العدو، ولكن إذا جد الجد وحان وقت العدوان على تلك الشعوب تبين لأهلها مدى تضليل عقولها من أجهزة إعلامها التي خدعتها بقلب الحقائق وكثرة الأكاذيب، وظهر لها أن الأموال الهائلة التي قيل: إنها أنفقت لتقوية جيوشها، قد ذهبت إلى خزائن أخرى لا صلة لها بتلك القوة الوهمية التي ظنوها ملجأ لهم-بعد الله-من أي عدوان خارجي، وقد لا يرون لتلك القوة من أثر إلا عندما تنزل شوارع مدنهم لضرب المعارضين من أبناء الشعوب الذين ينادون بإصلاح الأمور وتقويم السياسة المعوجة، فيذكرون عندئذٍ قول الشاعر:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
والخلاصة أن وسائل الإعلام تضلل العقول، وتقلب الحقائق، وتصور الحق في صورة الباطل، وتصور الباطل في صورة الحق، وتوهم الناس بأن الكذب صدق، وأن الصدق كذب، وأن الشجاعة جبن وأن الجبن شجاعة، وأن الظلم عدل، وأن العدل ظلم، وأن المصلحين مفسدون، وأن المفسدين مصلحون: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} البقرة: 11،12.(48/86)
هكذا استغل أعداء الحق من حكام الشعوب الإسلامية المحاربين للإسلام وسيلة الإعلام، لتثبيت الباطل ونشره، ومطاردة الحق ومحاصرته وتشويهه.
---------------------------
[1]-ومما يدل على استيلاء الرياضة على عقول الشباب، سجود أفراد بعض الفرق الرياضية شكرا في وسط الملاعب الرياضية، لتحقيقهم فوزا رياضيا، وجماهير المسلمين تشاهد ذلك على القنوات الرياضية في الوقت الذي يسيطر اليهود على أرض المسلمين وينتهكون أعراضهم، ويهدمون بيوتهم، ويدنسون مقدساتهم، ويقتلون شبابهم، ويعتقلون نساءهم، ويهينون علماءهم...!
[2]-وقد ارتقت بعض الحكومات في الشعوب الإسلامية اليوم إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع اليهود، بعضها باسم سفارات، وبعضها باسم مكاتب، مع المواقف المتشدد المبنية على التدين اليهودي الذي اتبعته حكومة الليكود بزعامة نيتان ياهو!
[3]-وقد تم هذا العقد في هذه الأيام في أوائل شهر ربيع الأول 1417ه-.
[4]-وتطلق كلمة أصولي في اللغة الإنجليزية (Ju r ist) على الضليع في القانون، والمحامي، والقاضي، وفيها نوع شبه بكلمة أصولي في الإسلام كما سيأتي، أما الأصولية بالمعنى الظالم الذي يطلق على الجماعات الإسلامية فهو: "ESSENTIALISM".
[5]-راجع على سبيل المثال عدد 5599، الخميس 16شوال، ص9، وعدد 5601 الأربعاء 18شوال، ص7، وعدد 5602، 19شوال ص6، وعدد 5604 السبت 21شوال ص7، وعدد 5606، 23شوال ص8، وعدد 5607، 24شوال ص8، كلها في عام 1414ه-من جريدة الشرق الأوسط (وقد كون أربكان حكومة مع حزب الطريق القويم بزعامة.. الخ...).
[6]-راجع الشرق الأوسط عدد:5609، الخميس 26شوال 1414ه-ص4، وهذه الجريدة من أشد الجرائد حرصا على إيراد هذه المصطلحات وعلى نشر مقالات الكتاب الذين يستعملونها للتنفير من الإسلام ودعاته.
مع أنها تنشر بعض المقالات-أحيانا-تبين الحقيقة في هذا الشأن راجع عدد:5611 السبت 28شوال 1414ه-ص15.
[7]-النساء: 115.
هذا، ومع أن رجال الإعلام المنتسبين إلى الإسلام لا يخجلون من ظلمهم في استعمال هذه المصطلحات في غير محلها فقد انتقد بعض الكتاب الأجانب ذلك في كتاب ألف بعنوان: " انتقام الله" THE r EVENGE OF GOD ويسمى المؤلف: جيل كيبل ووضح أن كلمتي التطرف والأصولية مصطلحات دخيلان على الحركة الإسلامية، وأنهما مستمدان من الديانة المسيحية كما ذكرت ذلك من قبل. راجع جريدة الشرق الأوسط-التي تبتهج بهذه المصطلحات الظالمة في كل أعدادها تقريبا-عدد5626 الأحد 13/11/1414ه-الموافق: 24/4/1994م.
[8]-ولد في عام: 1931م. دكتوراه في القانون، عمل في وزارة الخارجية الألمانية من سنة 1961م وتولى مناصب في بعثاتها في عدة بلدان. دخل في الإسلام سنة 1980م في مدينة بون، ألف عددا من الكتب، منها:(نهج فلسفي لتناول الإسلام) و (دور الفلسفة الإسلامية) و (يوميات ألماني مسلم) و (الإسلام كبديل) وقد شنت أجهزة الإعلام الألمانية عليه حملة عنيفة بسبب تأليفه هذا الكتاب الذي يرى فيه أن الإسلام هو المؤهل لإنقاذ الأمم مما هي فيه من شقاء وضنك. و (الإسلام عام 2000) و (رحلتي إلى مكة).
[9]-جريدة (أخبار العالم الإسلامي) التي تصدرها رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة. عدد: (1625) صفحة (9) بتاريخ: 19-25 جمادى الأولى سنة 1418 ه--20-26 أكتوبر سنة 1997م.
[10]- وهذا المعنى مبسوط في كتب العقيدة وكتب التفسير وشروح الحديث. راجع تعريف الإيمان في كتاب: (الإيمان هو الأساس) للمؤلف.
[11]-راجع جريدة: الاقتصادية السعودية. عدد: 1615 الثلاثاء: 6/10/1418ه--3/2/1998م.
صفحة: 14 بعنوان: (منع مذكرات الفنانات التائبات.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(48/87)
(48/88)
إبليس بين الكفر والإيمان
منير عرفه
moni r r r r r r r @yahoo.com
وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا
إبليس بين الكفر والإيمان !!!
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولى الصالحين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبى الأمين ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه فى قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.
وبعد ،
فهذا مبحث عن " الشيطان الرجيم " أسأل الله أن يعيذنا جميعًا منه، وما كنت لأسطر هذه الكلمات لولا أنه قد وُجه سؤالٌ أمامى إلى أحد العلماء يقول فيه السائل : ( هل إبليس كافر؟ أليس إبليس قد قال لرب العزة " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ "1 مما يدل على أنه موقن بوجود الله ؟ ) واتضح لى من سياق كلام السائل أن أحد الدعاة قال هذا الكلام فأنكر عليه آخرون مقولته.
وفى صدد البحث العلمى ينبغى على الباحث إذا أراد أن يبحث مسألة أن لا ينظر إلى ( القائل )، بل ينظر إلى ( العبارة المقولة ) ويصب بحثه عليها بالبحث والدرس إلى أن يصل إلى ما يفتح الله تعالى عليه. فكما يقولون ( لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ).
ثم بعد ذلك يجمع جميع الأدلة الواردة فى هذا الصدد، بحيث يستطيع أن يرى المسألة من جميع جوانبها .
فنستعين بالله تعالى أولا ، ثم نقول :
لعل من قال هذه العبارة قد ظن أنه طالما أن إبليس اللعين قال لرب العزة "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ "2 إذًا فهو يعلم بوجود الله، وطالما يعلم ويوقن بوجود الله فهو ليس بكافر، ثم بعد ذلك علينا أن نأوَّل آيات القرآن التى جاءت تصف إبليس بالكفر على أنه عصى ولم يكفر.
وباستقراء آيات القرآن وجدنا ما يلى :
* أن الكفر ليس معناه فقط إنكار وجود الله، بل إنكار وجود الله نوع واحد من أنواع الكفر الكثيرة، ذلك لأن طائفة من الكفار قال عنهم ربنا جل وعلا: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ )3.
فهؤلاء ينكرون وجود الله بالكلية ويقولون أن الطبيعة والدهر هى التى أحيتهم وأوجدتهم وهى التى تهلكهم .
وليس الكفر هو إنكار وجود الله فقط، وإلا أين نذهب بهذه الآيات التى تتحدث عن كفار مقطوع بكفرهم :
* قال تعالى : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)4.
* وقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )5 .
* وقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )6 .
* وقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )7.
فهؤلاء كفار مقطوع بكفرهم أقروا بوجود الله، وأقروا بأنه هو الذى خلقهم، وأنه هو الذى خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، و أنه هو الذى ينزل المطر ويحيى الأرض بعد موتها، ومع ذلك لم ينتفعوا بذلك لأنهم حاربوا الأنبياء المرسلين وباتوا يعرضون ويصدون عن سبيل الله.
و إذا كان إبليس قد أقسم بعزة الله، فبالاستقراء وجدنا ما يلى :
أن الأمم الكافرة الذى قطع القرآن الكريم بكفرهم قد أقسموا بالله ، ومع ذلك لم تنفعهم هذه الأيمان :
* قال تعالى ( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ)8 .
* وقال تعالى ( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )9 .
* وقال تعالى ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا )10.
* وقال تعالى ( قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ )11 .
فانظر إلى الضلال الكبير الذى وقعوا فيه؛ تقاسموا بالله أن يغتالوا نبيهم وأهل بيته وقت مبيته ليلا، كما أقسم إبليس بعزة الله أن يغوى بنى آدم. فهل أغنت عنهم أيمانهم بالله من شيئ ؟!
ثم وجدنا أقوما من الكفار وقفوا فى أنفسهم على حقيقة الأمر، ومع ذلك استكبروا وجحدوا ما فى قرارة أنفسهم :
* قال تعالى ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )12 .
فهل أغنى عنهم يقينهم النفسى، بعد أن جحدوا آيات الله الواضحة واستعلوا عليها ؟!(48/89)
ثم وجدنا أقوما من الكفار دعوا الله بالعذاب والنقمة :
* قال تعالى ( وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )13
فهل منع ذلك عنهم الكفر - رغم دعائهم الله تعالى - ؟!
ثم وجدنا أقوما منهم احتجوا بمشيئة الله على شركهم و ضلالهم :
* قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ )14 .
فهل إقرارهم بالله وبمشيئته رفعت عنهم شركهم وضلالهم ؟! مع أنهم احتجوا بأمر أقرهم الله على صحته وهو " مشيئة الله وقدره " فقال تعالى: (...فلو شاء لهداكم أجمعين )، إنما عاب عليهم أنهم احتجوا بالمشيئة والقدر لتبرير شركهم وضلالهم ، فهل أغنى عنهم ذلك شيئًا ؟!
ثم وجدنا طائفة من الآيات تتحدث عن دور إبليس وكذلك الشياطين فى كفر الناس وغوايتهم وضلالهم وتزيين الكفر لهم :
* قال تعالى ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )15 .
* وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)16 .
* وقال تعالى ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ )17 .
* وقال تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ )18 .
* وقال تعالى ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )19 .
* وقال تعالى ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ )20 .
* وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا )21 .
* وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )22 .
* وقال تعالى ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ )23 .
فإذا كان الشيطان هو الراضى بالكفر والآمرُ به والمزينُ له والقائدُ للبقية، فهو قائد فرعون وهامان وأبى جهل وكل كافر على مر العصور ، أيكون الأتباع كفار وقائدهم لهذا الطريق والذى فتنهم وأضلهم ليس بكافر ؟! أيكون حزب الشيطان كفار، وإبليس نفسه ليس بكافر ؟!
بل تعدى الأمر إلى أن زين للناس عبادته ورضى بذلك ودعا إليه :
* قال تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )24.
فكل من أطاع الشيطان وعبد غير الله، قد عبد الشيطان الرجيم ، ولذا قال ربنا جل وعلا ( أن لا تعبدوا الشيطان ) مع أنهم لم يقصدوا عبادة الشيطان ، لكنهم حين أطاعوه عبدوه من حيث لا يشعرون .
وإذا كان الشيطان قد زين لأناس أن يعبدوه ويسموا أنفسهم "عبدة الشيطان"، فهل يكونون كفارًا وهو مؤمن ( بعد أن رضى بذلك )؟!
ثم وجدنا طائفة تصرح بكفر إبليس والشياطين :
* قال تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)25 .
* وقال تعالى ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)26 .(48/90)
* وقال تعالى ( ... وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )27 .
أفبعد أن أبى، واستكبر وتعالى يكون قد أبقى لنفسه ذرة من الإيمان؟!
ثم وجدنا طائفة من الآيات عن خلوده فى النار، ومعلوم فى عقيدة المسلمين أن الخلود فى النار لا يكون إلا لمن كفر الكفر الأكبر :
* قال تعالى ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ )28.
* وقال تعالى ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)29
* وقال تعالى ( وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ . فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ . وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )30 .
فهو وأتباعه خالدون فى النار ، وإذا كانوا هم جنوده ، أليس هو قائد دربهم وزعيم حزبهم ؟!
إطلالة سريعة
هذا ، ولو رجعنا لكتب السنة النبوية الشريفة لوجدنا فيها الكثير والكثير الذى يشير إلى ذلك، ولكى لا يطول بنا البحث ويخرج عما أردناه له، يكفى أن تعلم أن كفار مكة كانوا يطوفون بالبيت الحرام ويعبدون الله تعالى. وفى صلح الحديبية طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب فى كتاب الصلح (باسمك اللهم) ، والوليد بن المغيرة يقول عن القرآن (إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هذا بقول بشر) ثم جحدوا رسالة نبيهم، فهل أغنى عنه ذلك بشيئ؟!
وقد قال أبو طالب :
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
فهل أخرجه هذا العلم من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان ؟! لقد مات أبو طالب على غير الجادة، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم لموته على كفره، أليس كذلك؟!
واليهود علموا صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم وعرفوه معرفة تامة كما قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )31 . ومع ذلك كتموا وهم يعلمون ، فهل نفعهم ذلك بشيئ ؟!
ولقد قال "ياسر بن أخطب " لأخيه " حيى بن أخطب " : أهو هو ؟ (يعنى الرسو صلى الله عليه وسلم ) قال أجل. قال فما أنت فاعل ؟ قال عداوته ما حييت ، فهل نفعهم ذلك بشئ .
* وقد حدثنى أحد الحراس الذين كانوا يقومون على حراسة المساجين قائلا : أن رجلا قد حُكم عليه بالإعدام، فكنت أنظر إليه - من ثقب الباب - من حين لآخر لأطمئن عليه ، فرأيت السجين - والعياذ بالله - يرفع وجهه للسماء ( ويبصق ) مخاطبا رب العزة قائلا : أنت الذى فعلت بىَّ هكذا ؟!
فهل يغنى عن مثل هذا إقراره بوجود الله ومخاطبته إياه ، بعدما تمرد وعاند وكابر وأبى واستكبر وأصر إلى آخر لحظة فى حياته ؟!
ثم أليس الشيطان قد رضى له ذلك وزين له هذا الفعل ؟!
مما قدمنا يتبين أن :
* أنه لا يعفى إبليس اللعين من الكفر علمه ويقينه بوجود الله ، ولا يعفيه قسمه بالله تعالى، وإلا للزم أن نقول بعدم كفر من فعل مثله.
* أن الكفر له صور كثيرة، وما إنكار وجود الله إلا صورة من صوره.
* أن الإيمان ليس معناه الإقرار فقط بوجود الله، بل لا بد أن يصحب ذلك طاعة وانقياد وتذلل وإقرار باللسان والجوارح لما أمر الله تعالى به، وقد فصل ذلك علماؤنا فى كتبهم عن الإيمان والتوحيد فليراجع .
* ومن تمام هذا البحث ؛ فقد اطلعنا على مقالات أهل العلم فى ذلك وكذلك ما قاله علماؤنا المفسرون وغيرهم ؛ فلم نجد واحدًا من أهل العلم المعتبرين قال مثل هذه المقالة المنحرفة ، إنما وجدناها لأناس عُرفوا بالضلال والغلو فى عقائدهم كأهل الحلول والاتحاد والضلال المبين.
أخى الكريم
بعدما تركنا النصوص هى التى تتكلم، ثمة ملاحظة ينبغى أن ننتبه إليها:
* لقد أصبح هناك اليوم حرب على ثوابت هذا الدين. وللأسف الشديد يقع فى ذلك بعض الدعاة - بعلم وبغير علم - :
- فنرى رجلا يقول ( أن آدم ليس أول البشر ) مخالفا بذلك صريح القرآن والسنة وإجماع المسلمين قاطبة إجماع الكافة " العلماء وغيرهم "، بل وجميع الطوائف والفرق الإسلامية، بل أجمع معنا في ذلك أهل الكتاب السابقين كاليهود والنصارى.
- ونرى رجلا يقول أن ( الشيطان ليس بكافر ) - كما قدمنا مخالفا بذلك صريح القرآن والسنة وإجماع المسلمين قاطبة إجماع الكافة (العلماء وغيرهم)، بل أجمع معنا فيه أهل الكتاب السابقين كاليهود والنصارى.(48/91)
- ونرى رجلا يقول ( أن عذاب القبر ونعيمه ليس ثابتا ) يقول ذلك، وقد ورد في ذلك ما يقارب ستمائة رواية عن النبى صلى الله عليه وسلم ( وهو ما يسميه أهل الحديث بالتواتر المعنوى ) !
- ونرى رجلا يقول ( أن الحجاب لا يلزم فيه تغطية شعر الرأس، لأن هذه ضرورة عصر الرسالة لشدة الحر ) وغفل أن الله تعالى قال (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )32 ومعلوم فى لغة العرب أن الخمار لا يكون إلا للتغطية. فمعنى خمر الشيئ أى غطاه ولذا سميت الخمر خمرا لأنها تغطى العقل33 وتذهب به، ثم تناقلت الأمة صفة هذا الخمار بوجوب تغطية الشعر، فجاء هو بعد أربعة عشر قرنا يبين لنا شيئًا جديدًا ودينًا جديدًا ما أنزل الله به من سلطان !
- ونرى رجلا يقول ( أنه يجوز زواج المسلمة من الكتابى "نصرانى أو يهودى") مخالفا بذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين وعمل الأمة طيلة القرون السابقة.
- ونرى رجلا يقول ( أن ختان المرأة ظلم عليها ) مخالفا بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذى علمنا أنه متى التقى الختانان فقد وجب الغسل، وعلم r أم عطية الأنصارية صفة الختان الصحيحة ولم ينهها بالكلية بل أرشدها ألا جور ولا نهك، ومخالفا اتفاق كلمة فقهاء الإسلام على مشروعية الختان ، رغم اختلافهم فى حُكمه هل هو واجب أو مكرمة.
.....................
- ونرى رجلا - والحرب مستعرة على بلد مسلم وهو لبنان - يقول (أن حزب الله شيعة ولا يجوز مناصرتهم) مخالفًا بذلك كلمة الفقهاء على مر الدهور أنه متى اجتاح العدوُ بلدًا مسلمًا وجب الدفع، بل يجب الدفع إذا اغتُصب شبرٌ واحدٌ من أرض الإسلام ، ولم يفرق الفقهاء بين عصاة المسلمين وطوائفهم المختلفة، بل إن كلمة الفقهاء أننا كمسلمين نقاتل أعداء الإسلام مع كل بر وفاجر.
* بل متناسيًا الأدب القرآنى فى قول الله تعالى عن غلبة الروم مع الفرس (الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)34
ويومها - والحرب مشتعلة - لم يذكر الله ولا رسوله ولا المؤمنون كفر النصارى وفظاعة ما قالوا مثل : أن المسيح هو الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، أو أن المسيح ابن الله ، ولا غير ذلك من العقائد الضالة ، ومن يقرأ سورة الروم لا يجد الحديث عن ذلك أبدًا. إنما يفرح المؤمنون بنصر الله لأن النصارى أهل كتاب فهم أقرب إلينا من الفرس عباد النار، ذلك لأن الحديث لو دار فى هذه المرحلة عن عقائد الروم الباطلة والضالة لأدى ذلك إلى تقوية الجانب الآخر عليهم.
* ونسمع أصواتًا اليوم تصرح بكفر هذه طائفة الشيعة الإمامية الموجودين فى إيران وفى بعض الدول الأخرى المجاورة ؛ والتى ينتمى إليها حزب الله فى لبنان ، ولنا هنا أن نسأل سؤالا واحدًا ؛ لماذا لم يُمنع هؤلاء الإمامية من الحج على مر تاريخ الأمة الإسلامية وفى عصرنا الحالى ؛ مع أن الله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )35. أنتركهم يشاركوننا فى الحج على أنهم مسلمون فى الجملة ثم بعد ذلك نتركهم والحرب دائرة يقتلون فى الجملة؟! ( عجيب )
إذا علمنا ذلك فهمنا ما قاله الإمام الشاطبي فى اعتصامه : ( وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء أصحاب البدع العظمى ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ....)36 ثم أخذ الشاطبى يعدد موقف علىّ بن أبى طالب مع من كفر جميع الصحابة بما فيهم علىّ وعائشة ، لكنه قاتلهم كضلال قائلا : ( من الكفر فروا ، إخوانكم ضلوا ) ومع أن السلف كانوا يعاملونهم بالإبعاد والطرد لكنهم عاملوهم كضلال وليسوا ككفار وذكر أمثلة كالقدرية37 وعامة أهل الأهواء ومعاملة السلف لهم كعلى وكذلك عمر بن عبد العزيز .
* ثم - إذا سلمنا بما يقولون ونحن لا نسلم بذلك - ألا تعتبر جميع الدول العربية والإسلامية فى عهد واحد وفى حلف واحد وفى حماية متكاملة وإن كانت ضمنية غير مكتوبة، ألم تقم غزوة فتح مكة انتصارًا لقبيلة خزاعة التى هى فى حلف المسلمين - رغم أنها قبيلة كافرة - ضد قبيلة بكر التى هى فى حلف قريش ؟!
* ثم قبل البعثة ألم يشارك النبي صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم38 - فى حرب الفجار مع أعمامه الأقرب للحق ضد أعدائهم.(48/92)
* وتركُ مناصرة هؤلاء اليوم دعوى فى منتهى الخطورة على عالمنا الإسلامى كله، وينبغى على الأمة كلها وعلى رأسها قياداتها الدينية والسياسية أن يواجهوا هذه الدعوى بقوة، وإلا لأدى ذلك إلى تآكل الأمة كلها، فإذا تركنا لبنان اليوم لأن بها شيعة، وترك غيرنا العراق بالأمس محتجًا بظلم صدام ومحتجا بحكم البعثيين، وغدًا هل تُترك عمان لأن أغلبها إباضية، أو تُترك سوريا لوجود الشيعة النصيرية العلوية بها " الذين هم أشد غلوا من الإمامية"، أو تُترك بلاد المغرب لأن بها غلاة الصوفية؟! حتى تصير ديار الإسلام نهبًا لأعدائها ، أنها يقينا دعوى باطلة دنيا ودينا .
* ثم إذا كانت المسألة عن الشيعة، أين نصرتنا لأهل السنة الموجودين بلبنان وفلسطين ؟!
أليس الأولى بنا أن نحكم بخطإ من يقول ذلك، وأنه جانب الصواب فى هذه المسألة عن أن ننال من ثوابت هذا الدين ؟!
- وثم وثم مئات المسائل المتفق عليها يقوم البعض بمحاولة ذبذبتها فى النفوس، وصدق النبى الكريم صلى الله عليه وسلم ( فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )39 .
* لا ينبغى أبدا لأى مسلم وهو يبحث أى مسألة أن ينتصر لها أو ضدها لأن قائلها فلان بل يردها إلى الله ورسوله، إذ كلٌ يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ولا يضير الداعية المسلم أبدًا أن يخطئ ، فكل بنى آدم خطاء ، إنما يضيره ويضيرنا إذا تمسكنا بهذا الخطأ .
* ولا ينبغى أبدا أن نفرط فى ثابتٍ واحدٍ من ثوابت هذا الدين، لأن فلان أو علان قال بعكس ذلك، بل ينبغى علينا أن ندعو فلانًا هذا إلى التوبة إلى الله من هذا القول بالحكمة والموعظة الحسنة.
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله أولا وآخرا .
منير عرفه
مدرس بمعهد فارسكور
الإعدادى الثانوى الأزهرى
ولا يصح فى الأذهان شيئٌ
إذا احتاج النهار إلى دليل
-==============(48/93)
(48/94)
إتباعُ السَّنن
الحمد لله وكفي وسلام على عباده الذين اصطفي أما بعد
قضية اتباع السنن من القضايا الهامة التي يلزم كل مسلم معرفتها ، لأن عدم العلم بها يجر إلى الوقوع في التشبه بأمم الكفر والباطل واتباعهم في كثير مما ينبغى البراءة منه , وهذا يضر بدين العبد ضررا بالغا قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله , وأقل ذلك الضرر هو التشبه بقوم إما ضالين أو مغضوب عليهم , أو دون ذلك وأرذل من ملاحدة أو علمانيين ، لهذا وغيره من الأمور الشرعية أردت بيان هذه القضية في مقال مختصر يقرب القضية ويبصر بها ويبين المطلوب من المسلم في ذلك , فأقول وبالله تعالى التوفيق:
* في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ" [ البخارى.. ك.. أحاديث النبياء]
* وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ r "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ "فَمَنْ؟".[البخارى..ك..الاعتصام.. ومسلم ..ك..العلم.. باب اتباع سنن اليهود والنصارى].
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ فَقَالَ وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِك" [البخارى..ك..الاعتصام]
* وفي رواية ابى واقد الليثي عند الترمذى - " وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنّ سُنّةّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"...عند الترمذى ...وعند أحمد.." وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِثْلًا بِمِثْل"....( بالضم والمشهور في معظم الروايات بالفتح....قال ابن حجر في الفتح: قوله: "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ" بفتح السين للأكثر. وقال ابن التين قرأناه بضمها..... وقال المهلب بالفتح أولى لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشبر وهو الطريق.).
* معنى السنن:
والسُّنَّة: الطريقة، والسَّنن أَيضاً سُبل ومناهج وعادات.... والسُّنَّةُ الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أَهل السُّنَّة؛ معناه من أَهل الطريقة المستقيمة المحمودة، وهي مأْخوذة من السَّنَنِ وهو الطريق... وسَنَن الطريق وسُنَنُه وسِنَنُه وسُنُنُه: نَهْجُه... فالسنن: جمع سُنة، والأصلُ فيها الطريقة والسِّيرة. وإذا أُطْلِقَت في الشَّرع فإنما يُرادُ بها ما أمَرَ به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه ونَدَب إليه قولا وفِعْلا، مما لم يَنْطق به الكِتابُ العزيزُ. ولهذا يقال في أدِلَّة الشَّرع الكِتابُ والسُّنَّة، أي القرآن والحديث وسنة النبي: طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله تعالى: قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته، نحو: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (الفتح/23)، {ولن تجد لسنة الله تحويلا} (فاطر/43)، فهو تنبيه بأن فروع الشرائع - وإن اختلفت صورها - فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل، وهو تطهير النفس، وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره.
* معنى اتباع السنن:
جاء في الروايات السابقة : ألفاظ "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ"..." لَتَرْكَبُنّ سُنّةّ"..." لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ"
..." تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا"...وهذه الألفاظ بمجموعها تدل على المراد شرعا باتباع السَنن بحيث يمكن أن نقرب المعنى فنقول:(48/95)
أخبر الرسول بما يكون من أمته بعده من اتباع سبل ومناهج وعادات أمم الكفر في الأرض،سواء كانوا متمثلين في أهل الكتاب من اليهود والنصارى , لأنهم كانوا المشهورين بالديانات السماوية , أو في فارس والروم , لكونهم كانوا إذ ذاك أكبر ملوك الأرض وأكثرهم رعية وأوسعهم بلادا , والناس إنما يقلِدون من كان هذا حاله، وليس المراد الحصر , فما هى إلا أمثلة وأسماء وإن تغيرت أو تسمت بأسماء أخر , وهذا يظهر في قوله ( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها ) والأخذ هو السيرة , يقال أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته , والمعنى تسير بسيرة الأمم قبلها , سواء في دينها , كاليهود والنصارى , أو في دنياها, كفارس والروم , فحيث قال فارس والروم كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية، وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات أصولها وفروعها، وهكذا فنحن نشاهد تقليد أجيال الأمة لأمم الكفر في الأرض، فيما هي عليه من أخلاق ذميمة وبدع محدثة وعادات فاسدة، تفوح منها رائحة النتن، وتمرغ أنف الإنسانية في مستنقع من وحل الرذيلة والإثم، وتنذر بشر مستطير , ثم إن هذا الإتباع ليس هامشى أو عرضى بل هو اتباع دقيق لاتفوتهم منه فائتة , عبر عنه الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى بقوله: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"....وفي لفظ " لو دخلوا"..."لدخلتموه"...
وهذا كناية عن شدة الموافقة لهم في عاداتهم، رغم ما فيها من سوء وشر، ومعصية لله تعالى ومخالفة لشرعه. و(جُحر الضَب) ثقبه وحفرته التي يعيش فيها، والضب دويبة تشبه الحرذون تأكله العرب، والتشبيه بجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ونتن ريحه وخبثه، وما أروع هذا التشبيه الذي صدق معجزة لرسول ا صلى الله عليه وسلم ،فوقع ذلك التتبع والإتباع الممقوت من أمة المسلمين لأمم الكفر البائدة الفاسدة , وصدق ربنا جل وعلا إذ يقول عن نبي صلى الله عليه وسلم "وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى"...
* قال ابن حجر في الفتح: ( كتاب الاعتصام باب قوله لتتبعن...)
وقد أخرج الطبراني من حديث المستورد بن شداد رفعه " لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه " ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الشافعي بسند صحيح " لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرها " قال ابن بطال: أعلم r أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس , قلت: وقد وقع معظم ما أنذر ب صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك.أ.هـ
* قال المناوى في فيض القدير:
"لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِثْلًا بِمِثْل" هذا لفظ خبر معناه النهي عن اتباعهم ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام لأن نوره قد بهر الأنوار وشرعته نسخت الشرائع , وهذا الإخبار من معجزاته فقد اتبع كثير من أمته سنن فارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم وإقامة شعارهم في الحروب وغيرها وأهل الكتابين في زخرفة المساجد وتعظيم القبور حتى كاد أن يعبدها العوام وقبول الرشا( الرشوة) وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء وترك العمل يوم الجمعة والتسليم بالأصابع وعدم عيادة المريض يوم السبت والسرور بخميس البيض وأن الحائض لا تمس عجيناً إلى غير ذلك مما هو أشنع وأبشع , وقوله: (حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم) مبالغة في الإتباع فإذا اقتصروا في الذي ابتدعوه فستقتصرون وإن بسطوا فستبسطوا حتى لو بلغوا إلى غاية لبلغتموها حتى كانت تلك الأمم تقتل أنبياءها فلما عصم اللّه رسوله , من أمة الإسلام من قتلوا خلفاءهم تحقيقاً لصدق الرسو صلى الله عليه وسلم ،......
قال الحراني: وجمع ذلك أن كفر اليهود أضل من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً ولا قولاً وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم يجتهدون في أصناف العبادة بلا شريعة من اللّه ويقولون ما لا يعلمون , ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين ولهذا كان السلف كسفيان بن عيبنة يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى , قضاء اللّه نافذ بما أخبر رسول صلى الله عليه وسلم بما سبق في علمه , لكن ليس الحديث إخباراً عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة.أ.هـ
* ولقد جاء في القرآن العظيم ما يبين ذلك حيث قال ربنا :
" كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ"(69) التوبة.
* قال القرطبى:(48/96)
روى سعيد عن أبي هريرة عن صلى الله عليه وسلم قال (تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه). قال أبو هريرة: وإن شئتم فاقرؤوا القرآن: "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم" قال أبو هريرة: والخلاق، الدين "فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم" حتى فرغ من الآية. قالوا: يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى؟ قال: (وما الناس إلا هم). وفي الصحيح عنه عن صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟ وقال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم.
* ومن أمثلة اتباع السنن:
الأمثلة كثيرة منها ما ذكره المناوى في الكلام المتقدم ومنها أيضا:
1- اتخاذ المساجد على القبور .
2- تعظيم قبور الصالحين والذبح عندها والنذر عندها.
3- عبادة قبور الصالحين والذبح لها والنذر لها ودعائها بظهر الغيب.
4- جعل يوم مولد النبي والصالحين أعياد تقام لها الإحتفالات.
5- اتخاذ الصور والتماثيل للذكرى أو للزينة او للمباهاة في البيوت والمعابد والبيوت.
6- التبرج واتباع الموضات التي احدثوها لاخراج المرأة عن حجابها وسترها.
7- الجرأة على التكشف والعُرى على الشواطئ وفي المنتديات.
8- الغناء الماجن والسينما والمسرح والتلفاز على هيئته.
9- الاختلاط والسفور وسفر المرأة بلا محرم والانطلاق بدعوى التحرر والحرية.
10- حلق اللحى وتشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال وجعل ذلك مدنية وتقدم .
11- سب الحق والاستهزاء به وإزرائه وتشويهه ووصفه بأنه ارهاب ورجعية وتحجر وتطرف وتزمت ...و...و...و
12- تنحية الدين من الحياة كلها وجعله في المعبد ...على مقولة "ما للقيصر للقيصر وما لله لله".
13- الحرص على علمنة الدنيا وتقليل شأن الدين في نفوس الناس.
14- تعظيم أمر الدرهم والدينار إتباعا للنظرية الرأسمالية.
15- تشويه رجل الدين ووصفه بما يدعو الى الإزراء والتقليل والسخرية على طريقة الثورة الفرنسية.
16- ايجاد النظم الربوية في التعامل وتعظيمها وجعل البديل مستحيل.
17- المنادة بالمساوة بين الرجل والمرأة ونبذ التفريق الشرعى لأنه رجعية وتخلف.
18- نشر الرذيلة والبغاء وفعل قوم لوط بدعوى الحرية الشخصية...حتى ظهر عبدة الشيطان في زماننا.
19- تعظيم الملوك والأمراء على الله تعالى وذلك بجعل خيانتهم خيانة عظمة والكفر بالله تعالى حرية شخصية.
20- تعظيم شأن المخلوقين والخوف منهم وعدم تعظيم الله والخوف منه والعياذ بالله.
...هذا والأمثلة كثيرة جدا يتعب المحصى لها ولعل فيما ذكرت كفاية وتنبيه.
* كيف يتقى العبد الوقوع في اتباع السَنن:
الجواب على ذلك يسير لكن العمل به هو الأهم يقول تعالى:
"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون"َ(153) الأنعام.
وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تأمر عليكم عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بعدى يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"{ الترمذى..كتاب العلم }.
*هل عرفت بذلك كيف تتقى خطر إتباع السنن الا سنن الحق وسنته ...اللهم اهدنا فيمن هديت وتولنا فيمن توليت واصرف عنا شر ما قضيت...أمين...
هذا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد ابن عبد الله الصادق الوعد الأمين.....
*الثلاثاء, 09 شعبان, 1423هـ,,,,,[ 15 / 10 / 2002 م 05:09:00 ]...
وكتبه الفقير إلى عفو ربه تعالى…
د/ السيد العربى بن كمال
============(48/97)
(48/98)
إذا تحضّّر الصليبيّون!
د.عبد المعطي الدالاتي
"يمكننا أن نقول من غير أن نوغل في المبالغة:
إن أوربة وُلدت من روح الحروب الصليبية"
- ليوبولد فايس -
الأجداد المتخلّفون!
لعبت المجاعات في أوربة وشيوع الفساد الإقطاعي والاستبداد الديني الدور الرئيسي في إطلاق الحروب الصليبية المخزية ، يقول غوستاف لوبون : " كانت أوربة إبان الحروب الصليبية في أشد أدوار التاريخ ظلاماً ، فلم تكن هذه الحروب سوى صراع عظيم بين أقوام من الهمج وحضارة تعدّ من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ"(1).
صفحة من تاريخهم
ينقل لنا المستشرق غوستاف لوبون هذه الصفحة : " اقترف الصليبيون من الجرائم مالا يصدر عن غير المجانين ، وكان من ضروب اللهو عندهم تقطيع الأطفال إرْباً إرباً وشيّهم ! .
لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في بيت المقدس ، وكانت جثث القتلى تحوم في الدم .. وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها !! وأباد الفرسان الصليبيون الأتقياء جميع سكان القدس من المسلمين واليهود والنصارى .. وكان سلوك الصليبيين غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب حين وصل القدس منذ بضعة قرون .. ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه جرائم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين"(2)،
أما المستشرق روم لاندو فيقول : "مثل هذا الإفناء البشري باسم المسيح كان لا بد له أن يُذهل الإنسانية ، ولقد عجزت القرون المتعاقبة عن محو هذه الوصمة … وإن كَرّ السنين لم يخفف من أعمال اللا تسامح التي قام بها الصليبيون باسم الله"(3).
أمّا كنه هؤلاء" الأتقياء" فيحدّده أسقف عكا (جاك دوفيتري) : " كان لا يُرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والخائنين"(4).
صفحة من تاريخنا
بعد حطين ، فتحت مدينة القدس أبوابها للسلطان صلاح الدين ، ثم أمر رجالاً ينادون في الصليبيين ، أن كل عاجز عن دفع الفداء له أن يخرج ، فهو حر لوجه الله تعالى " وكان موقف صلاح الدين معاكساً للمذابح التي ارتكبها النصارى فأطلق الأسرى وقدم الهبات للأرامل واليتامى"(5).
مَلكنا فكان العفو منّا سجيةً *** فلما ملكتم سال بالدمِ أبطُحُ
وحلّلْتمُ قتل الأسارى ، وطالما *** غدونا على الأسرى نَمُنُّ ونصفحُ
وما عجبٌ هذا التفاوتُ بيننا *** فكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ يَنضحُ
الأحفاد المتحضّرون!
عاشت هزيمة الغرب في حطين في الذاكرة الجماعية للغرب حتى اليوم ، وتجلت بشكل روح غربية عدائية امتدت على مر القرون .
لقد امتد الغزو الصليبي للعالم الإسلامي في المكان ، وامتد في الزمان ، فعوضاً عن أن يعتذر الغربيون عما ارتكب أجدادهم من فظائع ، نراهم يحتفظون بعداءٍ تاريخي للعرب وللمسلمين، فحتى هذا العصر ! عصر العولمة والانفتاح العالمي الحضاري ! لا زالت جمعية متطرفة تعقد اجتماعاً سنوياً في جنوب فرنسة في مكان انطلاق الحملة الصليبية الأولى ، حيث تلقى الخطب المهووسة المحاكية لخطب (أوربان الثاني) !وتعيد تمثيل انطلاق هذه الحملة !(6)
ولست أدري ما الذي يجعل هؤلاء "الأتقياء !" يتركون الحاضر ليجترّوا أحقاد الماضي ؟! وما الذي يمنعهم عن مواصلة (حملتهم المقدسة) إلى القدس اليوم لتحريرها من رجس أعداء مريم والمسيح ؟! يقول الدكتور عمر فروخ في كتابه القيم ( التبشير والاستعمار): " يدّعي الغربيون أنهم مسيحيون ثم هم يُسلِّمون مهد المسيح لأعداء المسيح!" .
وإن المرء ليعجب من الغرب المتطرف في علمانيته ! كيف يحمل صليبه أمام المسلمين ليصبح شديد التدين ؟!.
وإن المرء ليعجب من الغرب المسيحي في كنيسته ،والصهيوني في سياسته ،والمادي في حياته! .
"تلك أمانيهم"
"لا تستطيع أمريكا إلا أن تقف في الصف المعادي للإسلام ، لأنها إن فعلت غير ذلك تنكّرت للغتها وثقافتها ومؤسساتها ! إن هدف العالم الغربي في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية ، وإن قيام إسرائيل هو جزء من المخطط ، وليس إلا استمراراً للحروب الصليبية !"(7) . هذا ما صرح به يوجين روستو ، رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية سابقاً . وتؤكد رئيسة وزراء بريطانية السابقة تاتشر هذه المخططات فتقول : "يقف الغرب اليوم مع الشرق الأرثوذكسي والكاثوليكي في خندق واحد لمجابهة العدو ، وهو الإسلام"(8).
وينفخ المستشرق المعاصر فرانسيس فوكوياما نار الصراع ليزيد من الرُّهاب اللمرضي الغربي من الإسلام فيقول : " إن هناك عدواً قادماً للحضارة الغربية هو الإسلام … وهذه الإيديولوجية ستصبح النقيض للإيديولوجية الغربية ، وبالتالي لا بد أن ينتصر أحدهما وينهزم الآخر ، لأن العالم لن يستمر في حالة صراع بين العقيدة الغربية والإسلام"(9)!
أما ( دي ميسنيل ) فيعلن هدفه بوضوح أكثر : "إن الهدف الذي يتعين علينا تحقيقه هو تحطيم قوة التماسك الجبارة التي يتميز بها الإسلام ، أو على الأقل إضعاف هذه القوة"(10).
وقد تَنسُبُ السُّمَّ للحمامةِ حيّةٌ !(48/99)
هذا الحقد الصليبي لم ينج منه حتى أطفال المسلمين ، وإذا أردنا أن نعرف تخوم هذا الحقد فلنسأل أطفال فلسطين أو أطفال البوسنة والعراق ، وتحت عنوان (الطفل المسلم قنبلة موقوتة ) يقول ت. س. إليوت : " إن الغرب سينتهي ليس بانفجار بل بنشيج ، لعله نشيج طفل مسلم في مهده"(11) .
وليس هذا فحسب ، بل طال الحقد حتى المقدسات ، واقرأ هذا التشبيه الحاقد اللا أخلاقي للرئيس السابق بل كلينتون : "في مدينة نيويورك تحولت محطة هارلم للسكك الحديدية مع الوقت إلى (مكة) يحج إليها المتعاملون بالمخدرات ، ورجال العصابات ، والمجرمون من جميع الأنواع"(12) .
قلت : هذه المقولة تؤكد صدق نبوءة رسول ا صلى الله عليه وسلم حين قال : " إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القِبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين"(13).
الحروب الصليبية الجديدة في البوسنة
على أبواب سراييفو سقطت كل الأقنعة ، فبدت الوجوه الكالحة والحاقدة على كل مسلم ولو كان أوربياً ، وقد اعترف بهذه الحقيقة ريتشارد نيكسون : "إن العالم لم يهب لنجدة سراييفو لأن غالبية سكانها مسلمون" ! .
وأكد هذه الحقيقة د.مراد هوفمان فكتب ساخراً : "لم يتدخل العالم المتحضر عسكرياً لإنقاذ مسلمي البوسنة ، ولكن انشغل بالمساعدات الإنسانية ! وعمل بجد واجتهاد حتى يضمن للمسلمين أن يُعذَّبوا أو يُغتصبوا أو يموتوا وهم شبعانون ! لقد سمّت وسائل الإعلام الغربية ضحايا البوسنة بالمسلمين ، ولكنها أغفلت تماماً الإشارة إلى ديانة القتلة المعتدين" ! (14).
ويتساءل وزير الخارجية السوري الأستاذ فاروق الشرع : "لو كان مسلمو البوسنة الذين يتعرضون لعمليات التطهير العرقي والترحيل الجماعي والاغتصاب الوحشي ينتمون إلى عرقٍ ودينٍ آخر هل كانت هذه المذبحة ستستمر؟! إننا لا نستطيع أن نثق بأن الغرب يستهدف فعلاً رفع الظلم عن الإنسان ، وإحقاق حقوقه في كل مكان وزمان .. إن من يخرق الحقوق الأساسية للشعوب ، هم أولئك الذين يرفعون شعار حقوق الإنسان" (15) .
كما يتساءل وليد نويهض عن أسباب ما جرى من جرائم : "كيف نفهم تصرفات الصرب في البوسنة وأمام عدسات الكاميرا ؟ ولماذا الانتقام من الحجر بعد البشر ؟ هل هو اقتلاع للذاكرة ومسحٌ للتاريخ ؟ وهل التقدم هو (تقدم) في وسائل الفتك أيضاً ؟!"(16).
بلى ففي هذه الحضارة السؤال المهم هو : ما هويتك ؟ ومن البوسنة إلى كوسوفا إلى الشيشان إلى فلسطين يمكن أن تعني الإجابة الخاطئة على هذا السؤال رصاصة في الرأس !! .
هذه الروح المتوحشة انتشرت في أوربة ، ففي فرنسة صدر أمر بابوي بطرد رئيس الكنيسة الكاثوليكية بمدينة(افروه) من أسقفيته لأنه أعلن تأييده للمسلمين في البوسنة والشيشان(17). أما في ألمانية فقد نقلت صحيفة (الديلي تلغراف) أن أطفالاً بوسنيين قد استُخدموا لإجراء اختبارات تصادم السيارات .. يقول د. مراد هوفمان : "إن إبداء موقف إيجابي من الإسلام في ألمانيا وإنجلترا هو بلا شك خطأ فادح بل قاتل"(18).
أما (مجلس الخوف) فلم يحرك ساكناً اللهم إلا في تأييده للصربيين بالمباركة أو بالمشاركة في مجزرة (الملاذات الآمنة) ، وكذلك كان شأنه في تأييده للسفاح شارون في مجازر جنين ونابلس وقرى فلسطين ! .
يقول جودت سعيد "الأمم المتحدة ، هذه المؤسسة التي تبعث على الغثيان ويُعظَّم فيها الشرك ، والأرباب الخمسة الكبار الذي وُضعوا فوق البشر ، وأمريكا الآن تريد أن توحدهم في ذاتها المقدسة !!" (19).
ما نحن المسلمين :
فنَرى ونسمع صامتينَ كأننا *** لم نستمعْ وكأننا لم نشهدِ !
وإذا تحمّسنا مددنا نحوهم *** كف الدعاء ، وغيرها لم نَمدُدِ(20)
إذا اقتحم الحجاب العريَ الفرنسي
ويتجلى موقف الحكومات الغربية من الإسلام في موقف الحكومة الفرنسية من الحجاب الإسلامي ، " فإن فرنسا التي تعتبر نفسها عاصمة الثقافة العالمية القائمة على التنوع ، ضاقت ذرعاً بفتيات يغطين شعورهن وقامت بفصلهن من المدارس!"(21). هذا الموقف العجيب دعا رئيس الوزراء الإسباني (فيليب جونزاليس) إلى أن يتساءل : "إني مندهش لما يجري في فرنسة ! إذ كيف تستطيع فتيات يرتدين الحجاب أن يُعرّضن للخطر الهوية الثقافية الفرنسية!؟" ،
ويفضح المفكر الفرنسي (برنار سيشير ) الباعث الحقيقي لهذا التصرف الهمجي فيكتب في مقاله ( الحجاب .. العرب .. ونحن) : "إنها أعراض (بواتيه) المرضية ! إذا كان العرب قد بهروا ذاكرتنا القديمة وأربكوها ، فذلك لأنهم كشفوا عن قدرتهم على ابتكار الحضارة الأكثر ألقاً وغنى ، عندما كنا لا نزال في طور التخلف ، وقد لعبت الكنيسة في إطار هذا الكبت الكبير دوراً لا تحسد عليه"(22).
أما في ألمانية، فبعد أن يذكر د.مراد هوفمان بعض ما يعانيه المسلمون هناك، يقول :
"إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل حتى مع عبدة الشيطان ، ولكنه لا يُظهر أي تسامح مع المسلمين ، فكل شيء مسموح به إلا أن تكون مسلماً!"(23).
"أليس فيكم رجل رشيد؟!"(48/100)
بلى فيهم رجال ، وهذا ما يبعث الأمل في النفوس ، فقد بدأت تتعالى أصوات لضمائر غربية حرة تندد بهذه الروح العدائية الهمجية ، فها هو الفريد هاليداي يتساءل ساخراً في معرض رده على تحذيرات هانتغتون من الإسلام قائلاً: "خطرُ الإسلام أم خطرٌ على الإسلام ؟!!" .
أما عالم الاجتماع الأمريكي نيكولاس هوفمان فيقول : "لا توجد ديانة أو قومية أو ثقافة كثقافة العرب والمسلمين تتعرض في الولايات المتحدة لمثل هذا التشويه الفظيع"(24).
ويعترف المستشرق غوستاف لوبون بهذا العداء الكبير : "تراكمت أوهامنا الموروثة ضد الإسلام بتعاقب القرون ، وصارت جزءاً من مزاجنا ، وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصُّلَ حقدِ اليهود على النصارى الخفيّ أحياناً والعميق دائماً"(25).
وهذا المعنى أكده ليوبولد فايس بقوله : "إن روح الحروب الصليبية ما تزال تتسكع فوق أوربا ، ولا تزال تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثاراً واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال"(26).
وصورة دقيقة يرسمها د. مراد هوفمان : "إذا سبرت غور النفس الأوربية ولو بخدش سطحي صغير ، لوجدت تحت الطبقة اللامعة الرقيقة عداء للإسلام" .
وفي محاولة لرصد من يقف وراء تأجيج هذه الروح العدائية تقول المفكرة الشهيدة الإسبانية (صبورة أوريبة ) : " قد أعلن الدساسون من الغربيين المتلاعبون بالضمائر عداوتهم للإسلام ، لأنه ينزع أقنعتهم ، ويقاوم شعوذتهم الخادعة"(27).
ويقول السيناتور الأمريكي (بول فندلي) : "هناك الكثير من رجال الدين المسيحي في أمريكا يقومون بتشويه صورة الإسلام … وإن الإسلام ليس خطراً على المسيحية أو الحضارة الغربية ، وإن كُتّاباً غير مسلمين هم الذين شوهوا صورته في الغرب"(28).
أما عالمة الاجتماع المسلمة( ديا نا روتنشتو ك) فترى : " أن أهل أوربة في أمسِّ الحاجة إلى الإسلام ، ولكن الوضع السياسي حالياً يشوّه الإسلام"(29).
والإنصاف يقتضينا أن نفرق بين المواطن الغربي والحكومات الغربية ، فالمواطن الغربي اليوم كجده على عهد الحروب الصليبية ، كان وقوداً لهذه الحرب استخدمه الملوك الحاكمون لتغطية الفساد الذي أهلك البلاد والعباد ..
هذا هو الماضي ، وهذا هو الحاضر ! فلنتحاكم إليهما ، وإذا لم يكونا كافيين فلننتظر المستقبل..
يقول كارل بروكلمان:" "لقد حورب الإسلام كثيراً وما زال يُحارب ، ولكن النصر دائماً للحق ، وما جاء محمد إلا بالحق والحقيقة" .
وبعد فالسؤال الذي يفرض نفسه هو :
هل الغرب يحقد على الإسلام لأنه يخافه ؟ أم أنه يخافه لأنه حاقد عليه ؟!
أَتَشكونَ بعد الجفافِ المطرْ ؟! *** وبعد العمى تشتكونَ النظرْ ؟!
أَتُسخطكمْ زقزقاتُ الصباح *** وهمسُ النسيم ، ووجه القمرْ ؟!
أيُرعبكم روحُ هذي الحياة *** وعطرُ الزهور ، ولون الثمرْ ؟!
وبعضُ النفوس تُحبُّ الظلام *** وكلُّ الخراف تعافُ الدُّررْ!(30)
***
" من كتاب " ربحت محمداً ولم أخسر المسيح "
----------------------------
(1) (حضارة العرب) غوستاف لوبون (320) .
(2) (حضارة العرب) غوستاف لوبون (270-325-327) .
(3) (الإسلام والعرب) روم لاندو (125-131) .
(4) عن (حضارة العرب) غوستاف لوبون (328) .
(5) (الإسلام والعرب) روم لاندو (126) .
(6) عن ( الإسلام والغرب ) زكي الميلاد - تركي الربيعو (16) .
(7) عن (الاقتصاد الإسلامي) د. فتحي لاشين (32) .
(8) عن (وهذه مشكلاتنا) د. محمد سعيد رمضان البوطي (69) .
(9) عن ( الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافي) د. مصطفى حلمي (138) .
(10) عن ( الإسلامية والقوى المضادة ) د. نجيب الكيلاني (38) .
(11) عن ( الإسلام فوبيا ) ص ( 100 ) وكلمة فوبيا تعني الرهاب أو الرعب المرضي .
(12) (بين الأمل والتاريخ) بل كلينتون ص (104) .
(13) رواه الإمام أحمد بسند صحيح (7/194) برقم (24508) والإمام ابن خزيمة .
(14) (الإسلام كبديل) مراد هوفمان (154 - 158) .
(15) (جريدة الثورة) 18 و 19/1993 .
(16) (المفكرون العرب ومنهج كتابة التاريخ) وليد نويهض (34-35) .
(17) عن (الكشكول) للعلامة الدكتور حسن ظاظا (2/91) .
(18) (الإسلام كبديل) مراد هوفمان (157) .
(19) (الإسلام والغرب والديموقراطية) جودت سعيد (163) .
(20) (صرخة في واد) للشاعر محمود غنيم ص (108) .
(21) د. عبد الكريم بكار (مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي) (91) .
(22) عن ( المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي) د. عماد الدين خليل (12) .
(23) " الطريق إلى مكة "ص (149) .
(24) ( الإسلام فوبيا)(85) .
(25) (حضارة العرب) (21) .
(26) (الإسلام على مفترق الطرق) محمد أسد (64) .
(27) عن ( مجلة الفيصل) العدد 291 - عام 2000م .
(28) عن (أمريكا والإسلام) د. عبد القادر طاش (82-84) .
(29) (حوارات مع مسلمين أوربيين) د. عبد الله الأهدل (75) .
(30) أبيات الشعر للمؤلف - ديوان (عطر السماء) .
===============(48/101)
(48/102)
عندما تتفجر الدموع ..
موسى محمد هجاد الزهراني
محمد بن حسن بن صالح الزهراني ..!
اسمٌ لم يسمع به كثير منكم ؛ ولا يعرفه إلاّ القليل ؛ ولم يظهر اسمه في جريدة أو صحيفة طوال حياته . فلم يكن له في مجال الإعلام سوق ؛ ولا كان هو ممن يهتم بذلك ولا كان ممن يطلبه ؛ بل لم يكن يُدخل التلفاز منزله .
وهو أيضاً لم يكن لاعباً لكرة القدم ؛ شهرته أشهر من أفضل عالم في الأمة ؛ فلاعبو كرة القدم يعرفهم نصف سكان الكرة الأرضية ! بينما تجد عالماً كل الأمة محتاجة إلى علمه لا يعرفه نصف هذا العدد ولا عُشره . والشهرة ليست دليلاً على الصلاح في كل حال ؛ فإبليس الرجيم أشهر ( رجل ) في العالم وهكذا أخوه اللعين ( شارون ) ؛ وكلاهما بحرف( الشِّين) الشَّين ! . فإبليس يعرفه الأنس والجن باسمه العلم ( الشيطان الرجيم ) وقليل من هؤلاء من يحبه كأولئك الفتية المفتونين الذي لمعتهم وسائل الإعلام وأزكمت أنوفنا بذكرهم في الصحف والقنوات ؛ أسموا أنفسهم ( عبدة الشيطان ) ؛ لكن كثيراً من الناس قد تبعوا إبليس وعملوا بش! رعه .
* * *
ولا تتصوروا أن محمداً هذا كان من الذين فتح لهم الإعلام صدره وذراعيه وبيوت الناس ! يدخلها متى شاء فيُخرب أخلاق بناتها قبل شبابها كما يريد تحت تشجيع (.........) أحياناً بدعوى أنه ( فنان ) ولا أريد أن أُحيلكم على أصل معناها في اللغة ! .. هؤلاء هم المغنون الذين أصبحت أمة الجد والجهاد في القرن الخامس عشر تُعظمهم أكثر من تعظيمها لعالِمها ؛ إلاّ من رحم ربك وقليلٌ ما هم..
ينهقون في وسائل الإعلام نهيق الحمير _ أكرمكم الله _ عنهما جميعاً! فـ(إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) كما قال الله تعالى . ولو تمعنت في معاني كلامهم لوجدتها تقطر فاحشة ويطالبون الخلق كل ليلة أن يكونوا مثلهم .. فأصبح الصغير قبل الكبير يردد أغانيهم النتنة ؛ ويحفظونها حفظاً لو كان للقرآن لامتلأت طرقات المسلمين علماء وقراء! ... لا ! .. لم يكن محمدٌ كذلك .. ولا تتصوروا أنه من أبناء القرن الماضي فلم يقدر على ما ذكرنا ؛ بل إنه من مواليد عام 1400هـ أي أنه " في العشرين من عمره ..كل من رآه أحبه ؛ الابتسامة لا تفارق محياه ؛ لا يتقن من فنون التعامل في الحياة ؛ إلاّ فنّاً واحداً قلّ من يتقنه ؛ هو فنُّ التعامل مع الله تعالى ؛ والتعامل مع خلقه بالحسنى ؛ وبالدعوة إلى الله عز وجل ؛ بالعفو والتسامح ؛ وبالغضب إذا انتهكت محارم الله .
اتصل بي مرة وكان حيياً شديد الحياء ؛ وأخبرني والكلمات تتعثر على شفتيه ؛ بأنه أكمل حفظ القرءان الكريم ؛ فكاد قلبي يقفز من قواعده فرحاً له بذاك ؛ فأوصيته بما يجب على من هو مثلي أن يوصي مثله ؛ لأن له عليّ حقوقاً ؛ ولي عليه حق الأخوة في الله .
كنت أراه في كل عام ؛ في الإجازات الصيفية ؛ وكان يغتنم فرصة وجودنا في القرية في الإجازة ؛ فيلزمنا بالانتظام في دروس يومية متنوعة على هذا النحو:
• الفقه والحديث معاً من كتاب بلوغ المرام وشروحاته المتوفرة وأحسنها في نظري وليته يكمله ويعتني به ؛ شرح الشيخ الدكتور / بسام بن عبدالله الغانم العطاوي كان بجامعة الإمام فرع الأحساء ، وهو الآن بكلية إعداد المعلمين بالدمام فعليكم به . وبعده شرح العلامة/ سلمان العودة . وكان هذا الدرس بعد الفجر .
• السيرة النبوية ؛ بعد الظهر .
• العقيدة ؛ بعد العصر .. فضلاً عن اللقاءات التي تتم من غير ترتيب.. إما لجمع الإخوة الأفاضل ؛ أو لحضور المحاضرات في المساجد أو لإلقاء الكلمات والمواعظ ؛ ونحو هذا .
وكان مثالاً لطالب العلم الذي لا يبتغي بعلمه عرضاً من الدنيا ؛ ولا أكذبكم فقد تمنيت في صباح يوم كنت فيه متعباً وكسلان ألاَّ يأتي ؛ وكنت أستحيي من الاعتذار منه ؛ رغم صغر سنّه ؛ يمنعني من ذلك ما رأيت من شدة حرصه ؛ وحسن خلقه ؛ وصمته الطويل .. تعجبون من هذا ! نعم .. لقد كان صموتاً حتى إن الذي يجالسه لأول مرة يظنه لا يُحسن الكلام ؛ ولم يكن إذا ضحك يقهقه أبداً .. وما سمعتها منه ؛ بل إن ضحكته أشبه ما تكون بضحكة الأخ الحبيب والشيخ الوقور والصديق العزيز الشيخ / ناصر بن محمد الأحمد الداعية المعروف ؛ بها كل معاني الوقار والأدب النبوي ..
ولكنني فوجئت بقدومه مشياً على الأقدام رغم بُعد منزله عن منزلي وعدم وجود سيارة ؛ فتحاملت على نفسي واستقبلته ؛ بعد أن تضاءلت في نفسي من همة ابن العشرين ؛ وعجز ابن الثلاثين ! وقعدت في مجلس الدرس وقد استفدت من حرصه أعظم درس .
كان خلقه القرءان ؛ ولا تعجبوا .. فكم من مؤمن وعالمٍ كان خلقه القرءان ؛ يتمثله في كل دقيق وجليل من حياته منهم الشيخ / عبدالعزيز بن باز رحمه الله !. ومن مثل بن باز في هذا الزمان ؟!.
وكان ( أي محمد ) له بحة جميلة في صوت عذب ؛ إذا قرأ القرءان وددت أنه لا يسكت .. وكنت أتعمد تقديمه إماماً أحياناً لأتمتع بلذة قراءته ؛ فيتقدم على استحياء.(48/103)
يخبر عنه أحد معلميه في المرحلة الثانوية وقد جمعني به مجلس قريب وهو الأستاذ / يحيى بن صالح الزهراني ؛ فيقول : ( رحمه الله ..ما مرّ بي طوال حياتي في التدريس مثله في أدبه وحرصه على العلم وحسن خلقه )..
وهكذا قال أيضاً .. شيخه الذي أتم حفظ القرءان على يديه ؛ وكان متأثراً به جداً ؛ وقد وفق الله محمداً في وقوعه على هذا الشيخ ؛ وهو من أرض الكنانة ؛ من مصر العظيمة ؛ معلمة الدنيا ؛ من جيران نهر النيل الذي هو من أنهار الجنة ؛ ما جف منذ خلق الله الدنيا ؛ يسقي مصر ولا يبخل على غيرها .. لم أقابله إلاّ مرة واحدة على عجل ؛ قبل سنوات وأظن أن اسمه ( جمعة ) ؛ فمن يعرفه يبلغه شكري ودعائي له ؛ لما أسداه لأبناء المنطقة من معروف ؛ وهل أعظم من تعليمهم كتاب الله ؛ فقد تخرج من تحت يديه حفَّاظ ملأ الله بهم مساجدنا نوراً ..
* * *
التحق محمد بعد تخرجه من الثانوية ؛ بكلية إعداد المعلمين بالباحة ؛ زهرة جبال السراة ؛ وبعد أن أتم فيها فصلاً دراسياً ..قبض أول مكافئة في الكلية ؛ فقرر الذهاب إلى السوق ؛ سوق ( الباحة ) لشراء هدايا لوالدته الحبيبة ؛ أما برُّه بها فلا تسأل ! . وكان الطريق إلى الباحة يغشاه الضباب الكثيف في شهر شعبان ؛ وتجلله مياه الأمطار ؛ فتعيق السير إلاّ قليلاً ؛ ففوجئ في إحدى منعطفات الطريق بحادث مروريٍ وقع لبعض زملائه ؛ فنزل لمساعدتهم كعادته مع الناس جميعاً ؛ ولكن كان قدر الله تعالى أسبق ؛ فما إن نزلت قدمه على الأرض حتى خطفته سيارة أتت مسرعة ؛ فألقته في منتصف الطريق مضرجاً بدمائه ؛ فنقل إلى مستشفى الملك فهد بالباحة ؛ فمكث هناك ثلاثة أيام في إغماءةٍ تامة ؛ ثم ارتفعت روحه إلى بارئها إلى الذي ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )..
كان ذلك يوم الأثنين - أقصد وقوع الحادث - وكان محمد رحمة الله عليه صائماً ؛ فقد كان يحرص على العبادة حرصاً شديداً حتى أنه كان فيما ذكر لي يواظب على قيام الليل ولا يكاد يفوته .. أما القرءان فكان حبيبه الذي لا يرضى سواه ..
* * *
تفجرت الأحزانُ من بين أضلعي .. وتفجرت الدموع من محاجر عينيّ ؛ ولم أحزن على أحد حزني عليه ؛ رحمه الله ؛ إلاّ ما كان من حزني على الشيخين / عبدالعزيز بن باز ومحمد علي الطنطاوي رحمهما الله .. فقد أحسست حينما ماتا أن الدنيا ضاقت علي بما رحبت وضاقت عليّ نفسي ..لولا أن في القرءان والسيرة النبوية ؛ أعظم عزاء لنا .. وقد ذكرت الصدق في هذا ؛ ولا يعني أنني لم أحزن على غيرهما ؛ ولكن لكثرة من مات من علمائنا في عامين متعاقبين ؛ أصحبنا كلما طرق الباب طارق نظن أنه سيخبرنا بموت عالم ؛ وما موت ابن عثيمين بالأمر الهين والله على قلوبنا ولا غيره ؛ ولي قصيدة بعنوان ( وقفة على أطلال عام الحزن 1420 ) ضمنتها عدداً من أسماء علمائنا الذين ماتوا رحمهم الله في ذلك العام .
هذه مشاعر ؛ ولا أحد يستطيع التحكم في مشاعره ؛ والحزن والدمع يظهران بلا استئذان ؛ مهما كتمت ؛ ألاّ ترى إلى الشيخ الفاضل / سعود الشريم إمام المسجد الحرام ؛ كيف تخنقه بعض الآيات حتى تكاد تخرج نفسُه معها ؛ وكم مرة قرأ الفاتحة فيخنقه البكاء ؛ فيرددها مراراً حتى يخيل إليك أن مكة كلها ترتّج وتبكي معه ..
* * *
كان محمد رحمه الله في نظري ؛ مثالاً للشاب الذي نشأ في طاعة الله ؛ وعبادة الله؛ فلم تدنس روحه الطاهرة أوضار الحياة المادية المعاصرة ؛ولم يكن يعرف هذه القنوات ( الفضائحية ) ولا يعرف عنها شيئاً أبداً .. و ما كان من الذين ابتلوا بعبادة ( الإنترنت ) و( بعض ) مواقعه المتفسخة الخبيثة التي جذبت الساقطين والساقطات إليها كما تجذب النار الفراش ؛ أو القاذورات الذباب . حتى إنك لتمر بهذه المقاهي فتراهم خاشعين خانعين خاضعين ذليلين أمام شاشة ( الكمبيوتر) بالساعات الطوال ؛ و لو ذهبت المدينة بأكملها ما أحس بها أحد منهم ؛ نسأل الله العافية ..
* * *
كان محمد يكره أكثر ما يكره الكذب والغيبة . أما الغيبة فقد عافه الله منها ؛ ومن الجلوس في مجالسها ؛ ولا أنسى مرة حينما أردنا أن ننال من شخص آذاه واعتدى عليه بالضرب ؛ وظننا أن ذكرنا له بالسوء سيرضيه ؛ لأنه أسقط عن نفسه غيبته بأفعاله التي يعرفها القاصي والداني ؛ فأبى رحمه الله أن يسمع منا فيه حرفاً واحداً وكان مما قاله : ( يوم القيامة نتحاسب .. اتركوه ولا تغتابوه ) ..
ولم يُعهد عليه أنه قال كلمة نابية يؤاخذ عليه ؛ وكان فيه أدب ابن الأربعين ؛ ووقار الشيوخ ؛ وكان يحب الخير للغير ؛ ويتفقد أحوالهم ويتلطف معهم ؛ وإذا ما وقع في يده مالٌ ؛ قليلاً كان أو كثيراً ؛ سارع إلى شراء الكتيبات والأشرطة والمطويات ؛ فيوزعها بين الناس ؛ وعلى الشباب الذين يرتادون المتنزهات والغابات ..وكان منشرح الصدر بسام الثنايا ؛ لا يكتئب إلا إذا ذكر عنده التقصير في أمور الدعوة بين الشباب وتهافتهم على الأغاني وقصات الشعر أو إذا علم بشخص يترك الصلاة ....(48/104)
اتصلت بأبيه حينما جاءني خبر وفاته لأعزيه ؛ فإذا به يعزيني ويصبرني؛ فلم أستطع أن أملك عيني ؛ وذكر والده شدة برِّ محمدٍ به وبأمه ؛ من بين إخوته وكلهم ولله الحمد صالحون وهو أصغرهم وأصغرهم ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وكان مما سمعته من أبيه: ( والله يا ولدي لقد حضر جنازته خلق كثير لا يستطيع أن يعدهم عادٌ ؛لا أعلم من أين أتوا )..
* * *
كان موت محمد صاعقةً نزلت عل قلبي فاستخرجت منه هذا القصيدة :
دمعٌ ترقرق في الجفنين منتقلُ *** فضَّاحُ حالٍ شهيدٌ خطبُه جللُ
حاولت أكتم دمعي في محاجره *** فأصبح الدمع في الجفنين يشتعلُ
مات الحبيب؛ أحقاً ما سمعتُ به *** أم أن عقليَ من همٍّ ؛ به كللُ
بل مات هذا قضاء الله نحمدُه *** في اللوح أقداره قد ضمَّها الأزلُ
العين تدمع والقلب الجريح له *** أنينُه غير أن الحمدَ متصلُ
وبشِّر الصابرين الغرَّ إذ نطقوا *** بحمد ربهم التوابِ وابتهلوا
إليه سبحانه .. رحماك خالقنا *** بمن فقدنا ؛ إليكم تقطع السبلُ
يا شمعة القلب يانور الصباح لكم *** في خاطري فيضُ حُبٍّ ما به خللُ
يا أبعد الناس عن غيٍ وعن سفهٍ *** وأطيب الناس لم تعبأ بما فعلوا
فارقتنا ودموع العين ساجمة(1) *** وفي قلوب الألى فارقتهم جللُ
أين ابتسامتك الغرَّاء أعهدها *** كأنها الشمس ما أزرت بها ظُلَلُ
أين الترانيم بالقرآن نسمعها *** يُحيِي بها اللهُ مَن عن هديه غفلوا
أنت ابن عشرين عاماً كنت سيدنا *** ونحن بعدك قد أودى بنا الكسلُ
أنت الحبيب وأنت السمع والبصرُ *** يا سيداً عجزت عن وصفه الجُمَلُ
أيا (محمد) كم في القلب من شجنٍ *** وكم أحبك كم أغراني الأملُ
كم كنتُ أحسب أيامي وأقطعُها *** شوقاً لرؤياك حتى جاءك الأجلُ
صدقتَ في عهدك الرحمنَ فُزتَ به *** قضيتَ نحبك لمَّا غرَّد الأملُ
رحلت عن ذا الزمان السوءِ مبتهجاً *** تركتنا في لظى الآلآم نشتعلُ
أتممتَ صومك (2) عن دنيا زهدتَ بها *** وغيركم بالدنايا صار ينشغلُ
ما كنتَ تحملُ لا حقداً ولاحسداً *** للناس بل كنتَ سمحاً حينما جهِلوا
وكنت تحتمل الآلآم محتسباً… *** وكنت تدعوا لمن آذوك إذ فعلوا
وكان همُّك قرآناً ترتِّلُه *** حفظاً وعلماً فطاب العلم والعملُ
عزاؤنا أنَّ قرآناً عملتَ به .. *** لازال يُتلى ؛ وفي محرابكم زجلُ
عزاؤنا أنَّ محراباً وقفتَ به *** لازال يصدح فيه الذكر يعتَمِلُ
عزاؤنا أدمعٌ فاضت لموتكمُ *** من أعين الناس حتى احمرت المُقَلُ
طوباك جناتُ عدنٍ تستقر بها *** -إن شاء ربُّك- لاحُزْنٌ ولا وَجلُ
يُقالُ إقرأ ورتِّل وارقْ مرتفعاً *** في جنة الخلد. .طاب الحِلُ والنُّزُلُ
يا ربَّنا أنت مولانا وخالقنا *** إليك مفزعنا إن ضاقت الحيَلُ
أحسِنْ خواتِمنا يا ربَّنا فَلَنَا *** في عصرنا أنْفُسٌ تذوي بها العِللُ
في عام أحزاننا تترى مصائبنا *** ذابت جوانحنا شوقاً لمن رحلوا..
تخَطَّف الموت في ذا العام كوكبةً *** هم صفوة الناس إن قالوا وإن فعلوا
أَبَعْدَهُمْ نستلذُّ العيشَ في رغَدٍ...*** ونحن أسرى معاصينا ولا وَجَلُ
فاغفرْ لنا يا إلهي سوء ما اقترفت *** قلوبُنا وعليه النفسُ تشتمِلُ
ومن سواك إلهي يستجيب لنا *** رغم الذنوب ؛ ففي ألفاظنا الخجلُ
وأنت أكرمُ يا سؤلي ويا أملي *** من أن تَرُدَّ دعاءً ملؤُه الأملُ
فاللهم ارحمه واغفر له وتب عليه وتجاوز عنه وارفع درجاته وكفر سيئاته ولا تفتنا بعده واجمعنا به في جنات النعيم م مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ورحم الله من قال آمين .
قصيدة : عندما تتفجر الدموع
------------------------------
(1) كثيرة الدمع؛ يهطل بغزارة.
(2) مات صائماً رحمه الله.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب السابع عشر ... 2
عبدة الشيطان ... 2(48/105)
(48/106)
عبدة الشيطان في أبو غريب ... 2(48/107)
(48/108)
عُباد الشيطان ... 7(48/109)
(48/110)
مقالات عن عبدة الشيطان ... 13(48/111)
(48/112)
عبدة الشيطان ... 13(48/113)
(48/114)
اكثر من 20 فيلما سنويا يكون الشيطان فيه هو الخط الرئيسي ... 14
في السينما الأمريكية ... 14(48/115)
(48/116)
عبدة الشيطان المعاصرون .. التعريف والأفكار ... 17(48/117)
(48/118)
ظاهرة عبدة الشيطان العرب .. أسبابها وطرق معالجتها ... 20(48/119)
(48/120)
الإرهاب الأمريكي البداية والنهاية ... 24(48/121)
(48/122)
عبدة الشيطان المعاصرون ... طقوسهم التعبدية (1) ... 55(48/123)
(48/124)
لا إله إلا الله مفتاح الجنة ... 61(48/125)
(48/126)
مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية ... 69(48/127)
(48/128)
عبدة الشيطان .. ظهروا فى الأردن ... 109(48/129)
(48/130)
السحر و الشعوذة في القنوات الفضائية ... 110
وطرق و وسائل التصدي لتلك القنوات والتحصن من شرها. ... 110(48/131)
(48/132)
وسائل أهل الباطل في السباق إلى العقول ... 123(48/133)
(48/134)
إبليس بين الكفر والإيمان ... 150(48/135)
(48/136)
إتباعُ السَّنن ... 160(48/137)
(48/138)
إذا تحضّّر الصليبيّون! ... 167(48/139)
(48/140)
عندما تتفجر الدموع .. ... 175(48/141)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (18) الدعوة إلى الوطنية
الباب الثامن عشر
الدعوة إلى الوطنية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثامن عشر
الدعوة إلى الوطنية(49/1)
(49/2)
معبودات جديدة؛ الوطن
بعد أن ارتفع صوت القومية طويلاً وأدى جزءاً من الأهداف المرسومة له، ظهرت دعوة أخرى لا تقل خطراً عن مؤامرة القوميين...
تلك هي الدعوة إلى الوطنية، واتخاذ الوطن إلهاً يُعبد من دون الله، وارتفع صوت الوطنيين في كثير من الدول الإسلامية يدعون إلى مبادئ تخالف دعوة الإسلام، وتدعو إلى الانصهار في بوتقة الوطن، واعتباره رابطاً قومياً يعلو فوق كل الروابط.
إن التحزّب لغير الحق؛ مرض خطير وداء يقتل ويهلك الأفراد والأمة على حدٍّ سواء.
إن الوحدة الوطنية؛ تعتبر الحب على أساس المواطنة، فما كان من وطنك تحبه - سواء كان مسلماً أو فاسقاً أو كافراً - فالمهم أنه مواطن مثلك، بينما لا تحمل هذا الشعور لأخ مسلم من غير وطنك، ولو كان من أتقى الناس.
فهي موالاة ومعاداة على أساس الوطن!
ونشير هنا إلى أن حب الوطن أمر غريزي جبلّي، لا يستطيع الإنسان أن ينكره أو ينفيه، ولكن الخطر الداهم أن كثيراً من دعاة الوطنية اتخذوه صنماً يُعبد من دون الله، وتخلّوا عن مبادئهم الإسلامية باسم الوطنية، قال تعالى: {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يُحبِّونهم كحب الله}.
حتى قال أحد عبّاد الوطن: (ليس أغلى على الإنسان من الوطن... ليس ثَمَّة ما هو أرقى من العلاقة بين المخلوق وتربته وأرضه ووطنه)!
ولم يكتف بذلك بل جاءت القاصمة التي لا تقصم الظهر ولكن تقصم الدين، حيث تابع افتراءه فقال: (إن كل شيء يذهب ويتلاشى، إلا حب الوطن، حب الوطن هو الذي يستمر مشتعلاً في الذات دائماً أبداً)!
نسي هذا المدّعي؛ أن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عُرى الإيمان.
وتجاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يُؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
ونتيجة لهذا الغلُوّ والإفراط؛ أصبحوا من أجل الأرض يحبون، وفي سبيل التراب يُبغضون، وفي ذات الوطن يوالون ويعادون.(49/3)
(49/4)
فرية؛ "الدين لله والوطن للجميع":
هذه المقالة صاغها الحاقدون على الإسلام إفكاً وتضليلاً، ليبعدوا حكم الله ويفصلوه عن جميع القضايا والشؤون، بحجة الوطن، الذي جعلوه نداً لله وفصلوا بسببه الدين عن الدولة وحصروه في أضيق نطاق.
فهي خطة شركيّة قَلّ من انتبه لها، ولا يجوز للمسلمين إقرارها أبداً.
فالدين - الذي هو لله - يجب أن يسيطر ويهيمن على الجميع، ويكون أحبّ وأعز من الوطن، وأن لا يُتخذ الوطن نداً من دون الله ويُعمل من أجله ما يُخالف حكم الله، وتبذل النفوس والأموال دون كيان العصبية القومية وفي سبيل الوطن، لا في سبيل الله لإعلاء كلمته، فهذه وثنية جديدة ظهرت في حياة المسلمين وأصبحت تمتلك قلوب الجهّال الغافلين من بعض المنتسبين إليه.
هذه دعوة لهدم صنميّة الأفكار، ونبذ تقليد العلمانيين الذين لبَّسوا على الناس دينهم وقتلوا الغيرة والحمية في نفوس الشباب...
==============(49/5)
(49/6)
الإسلام والوطنية المزعومة
عندما تصبح الوطنية عبادة!
بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن الوطنية تمثل يوما للمسلمين هاجسا أو تصورا، أو حتى شعورا يحرك الواحد منهم تجاه الأشياء والحوادث والأشخاص تحريكا متميزا.
بل إن العرب أنفسهم، وقبل ظهور الإسلام؛ لم يكن للوطنية مفهوم عندهم، ولم تكن تتجاذبهم من العنصريات إلا الرابطة العرقية أو القبلية، وما ينتج عنها من التفاخر والتناصر فيما بينهم.
أما الوطن والأرض والتراب؛ فلم يكن يمثل لهم إلا السكنى والمال المرتبط بالأرض والأهل والولد، ولا غضاضة لدى الواحد فيهم أن يرحل من أرضه طالبا الرعي والزرع وغير ذلك من بسائط مقومات الحياة عندهم، تاركا أرضه بكل سهولة ويسر.
ولولا الترحال والتنقل بين الشعوب قاطبة لما وجدت الحضارات والدول القديمة.
كما أنه لم يرد في الإسلام - لا في نصوص القرآن الكريم، ولا في نصوص السنة الشريفة، ولا حتى في آثار الصحابة والصالحين - ما يدل على مفهوم الوطنية والوطن.
وبالمناسبة؛ فحديث: (حب الوطن من الإيمان)، ليس بحديث، ولم يرد في كتب الحديث.
والفقهاء عندما بحثوا الأرض وارتباط الإنسان بها، قالوا عنها؛ "الدار".
والدار ليست الوطن، بل هي الأرض بما عليها من بشر وأحكام، واستندوا في ذلك لحديث سليمان بن بريدة الذي بين فيه الرسول الكريم عليه وآله أفضل الصلاة والسلام؛ أن من يدخل من الأعراب في الإسلام عليه أن يتحول إلى دار المهاجرين، ليكون له ما لهم من الإنصاف، وعليه ما عليهم من الإنتصاف.
والدار؛ عندما بحثها الفقهاء اشترطوا لكونها "دار إسلام" أن تحكم بالإسلام، وأن يكون أمانها بأمان المسلمين، ومن رضي أن يسكن هذه الدار ويصبح من رعاياها؛ يكون من أهلها، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو موطنه الأصلي، فتجد غير المسلم في دار الإسلام؛ يتمتع بما لا يتمتع به المسلم خارج دار الإسلام.
أما اليوم؛ فقد حرص الغرب الكافر وبمعونة عملاءه - حكام المسلمين - على زرع الناحية الوطنية، وحب الوطن والتضحية في سبيله، وجعلها رابطة بين أبناء الوطن الواحد، تميزهم عن غيرهم من المسلمين.
وما ذلك كله إلا زيادة في تفرقة المسلمين، ووضع العراقيل والمصاعب في وجه وحدتهم إذا ما تطلعوا لها وعملوا لها، بل إنهم لم يكتفوا بذلك، بل أثاروا في الناس كل ما يزيد بعدهم عن الإسلام ويحول دون وحدتهم مع إخوانهم المسلمين.
فبثوا في مصر؛ "الفرعونية"، وفي تركيا؛ "الطورانية"، وفي الشام؛ "الفينيقية"، وفي العراق؛ "الآشورية"، وآخرها في جزيرة العرب؛ "الخليجية"، حتى صدقت الشعوب فعلا أنها "فرعونية" و "طورانية" و "فينيقية" و "آشورية" و "خليجية"، فتوحدت على هذه السخافات، ونظرت إلى غيرها من الشعوب بفوقية وتعالي.
لقد جاء الإسلام للبشر عامة لينقذهم من براثن العبودية لغير الله، وذلة البشر والجور والجهل إلى عزة العبودية لله تعالى، والعيش وفق طريقة الإسلام، فنظم حياتهم - مسلمين وغير مسلمين - دون النظر إلى أصولهم وألوانهم وأوطانهم، وجعل الأفضلية بينهم التقوى، {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
فلندع عنا التفاخر بالأوطان والأنساب، ولنتفاخر بعبوديتنا لله تعالى وحده، ولنعمل سويا لإقامة دولة الإسلام التي توحد الناس تحت رايتها، فترعى شئونهم بالإسلام، وتنقذهم من الدنيا إلى الآخرة بسلام.
وأينما ذكر اسم الله في بلد ……عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
==============(49/7)
(49/8)
إنما الوطنيون؛ إخوة
[الكاتب: ناصر بن حمد الفهد]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول.
وبعد...
فقد اطلعت على الخبر المنشور في الصحف، [بتاريخ10/11/1425]، بعنوان؛ (بدء اليوم الدراسي بتحية العلم، وجعل "اليوم الوطني" يوم اجازة رسمية).
فأردت أن أذكر إخواني المسلمين بما يلي:
أولا:
أن هذه القرارات يراد من خلالها؛ "استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير"، ويراد من خلالها إحلال رابطة "الوطن" بدلا من رابطة "الدين".
ففي الوقت الذي قلصت فيه مناهج الدين وحذفت مادة "الولاء والبراء" منها - وهي أصل دين الإسلام - فرض ما يسمى بـ "تحية العلم" وجعل "اليوم الوطني" إجازة رسمية - مضاهاة لعيد الفطر وعيد الاضحى ! - وكل ما يدور الان هو لجعل مبدأ "إنما الوطنيون إخوة" بدلا من قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة}.
ولا شك أن الدعوة للقومية أو الوطنية وما أشبهها؛ هي من دعاوى الجاهلية التي يجب على المسلمين نبذها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [28/328]: (كل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من "نسبٍ" أو "بلدٍ" أو "جنسٍ" أو "مذهبٍ" أو "طريقةٍ" فهو من عزاء الجاهلية) أهـ.
يشير بهذا إلى قول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن أُبي بن كعب: (من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية؛ فاعضوه بهن أبيه ولاتكنوا).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في فتاواه [1/289]: (ولا ريب أن الدعوة الى القومية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام) أهـ.
وقال أيضا [1/296] عن جعل القومية بدلا من الإسلام: (وهل هذا إلا مضاد لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله وتعدٍ لحدود الله، وموالاة ومعاداة وحب وبغض على غير دين الله، فما أعظم ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج، القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا، وكيفما كانوا، وشرع القومية يأبى ذلك) أهـ
ثانياً:
أن من النكرات أن يُتَخذ يومٌ - غير العيدين - عيداً يُحتفل فيه - ولو سموه بغير اسم العيد - فإن العبرة بالحقائق لا بالأسماء.
وقد أفتى علماء الدولة بأن مثل هذا الأمر بدعة ومنكر في كثير من كتبهم، وانظر على سبيل المثال "فتاوى اللجنة الدائمة" [3/81 - 89].
ثالثاً:
أن ما تسمى بـ "تحية العلم"؛ حرامٌ، فلا يجوز إنشادها ولا ترديدها - سواء للمعلمين أو الطلاب أو غيرهم - وذلك لأمرين:
الأول: أنها بابٌ من أبواب دعاوى الجاهليةـ والتي تهدف إلى أن يستبدل الوطن بالإسلام - وقد سبق بيان ذلك -
الثاني: أنها تحتوي على ألفاظ شركية، كقولهم: (عاش الملك للعلم والوطن)، فإن هذا شرك لأن الله سبحانه يقول: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له}، فجعل الله سبحانه "المحيا" لله وحده لاشريك له، وفي هذا النشيد جعلوا "محيا الملك" لغير الله، وهذا أمر ظاهر.
رابعاً:
أنه يجب على العلماء وطلبة العلم بيان الحق في مثل هذه المسائل، والتي لا يكاد يمضي يوم إلا ويبتلى المسلمون بمثلها، فقد قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}، والسكوت عن هذه الأمور قد جرأ أهل الباطل على باطلهم.
أسأل الله سبحانه أن ينصر الإسلام وأهله، وأن يخذل الكفار وأعوانهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ناصر بن حمد الفهد
13 /11/1425 هـ
=============(49/9)
(49/10)
البُعدُ الوطني عند الوطنيين
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد...
أعني بالبعد الوطني عند الوطنيين؛ أي الذين يزعمون الوطنية من طواغيت الحكم والظلم في منطقة الشرق الأوسط ومن يدخل في موالاتهم ونصرتهم من العلمانيين بكل تشعباتهم ومذاهبهم ومسمياتهم، فالوطن والوطنية عند هذا الفريق من الناس؛ شعار أجوف لا طعم له ولا رائحة، ولا وجود له على الحقيقة، أرادوا منه تمييع وتغييب عقيدة الولاء والبراء في الإسلام وحسب!
البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ لا يتعدى أن يكون ولاءً للحاكم، ولنظام الحاكم، وأيما شخص يُعارض الحاكم، والنظام الحاكم، فهو - عند هؤلاء الوطنيين - غير وطني، وضد الوطن، ومن أعداء الوطن!
البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ يعني الراتب الشهري الذي يتقاضونه من الحاكم ونظامه، والامتيازات التي يخصهم بها دون غيرهم، مقابل وطنيتهم، وولائهم له، ولنظامه الحاكم، ولو توقفت الرواتب، وتوقف العطاء، توقفت الوطنية، ولعنوها، وباعوا الوطن ومن فيه بثمن بخس!
البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ يعني أن الوطن وما فيه، ومن يعيش فيه، ملك للحاكم ولعائلة الحاكم سواء كان هذا الحاكم رئيساً أم ملكاً، والإنسان في هذا الوطن وما يملك ما هو إلا من جملة ممتلكات وعقارات الرئيس أو الملِك، يحق لهذا الرئيس أو الملك أن يتصرف بها بيعاً وشراءً وهِبة، وتنازلاً، كيفما يشاء، ومن دون أن يُسأل عما يفعل؛ لأن الملك أو الحاكم فوق المساءلة والمحاسبة، والدستور والقانون يُجرِّم مُساءلته ومُحاسبته، وكيف يُسأل ويُحاسَب والدولة شعباً وأرضاً وثروة، من ملكه، وملك أبيه!
وعندما يَرفع ملك من الملوك شعاراً - كما في بعض البلاد العربية - " الإنسان أغلى ما نملك "، ويُرفَع على مباني ومؤسسات الدولة والمجتمع، إنما هو يعني كل ما تقدم ذكره، وأن الإنسان في دولته ومملكته ملك يمينه، وعبد ومملوك له!
لذا نجد الحاكم أو الملِك في تلك البلاد لا يمكن أن يقبل فكرة التخلي عن مقاليد الحكم والملْك لغيره - مهما مضى على حكمه للبلاد والعباد - ما دام في جسده عِرق ينبض بالحياة، وما ذلك إلا لاعتقاده - وذلك كله وفق القانون والدستور كما يزعمون - أن البلاد والعباد من ملكه، لا يحق لهم أن يخرجوا عن طاعته، وملكيته، وحقه في التصرف بهم كيفما يشاء، كما لا يحق لأحد أن يُخرجهم عن طاعته، وملكيته، وتصرفه بهم كيفما يشاء!
البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ يعني سلامة عرش الملك أو الرئيس، وسلامة مصالحه الخاصة، فلو دُمِّر الوطن كله، وبقي عرش الملك أو الرئيس سالماً فالوطن بخير، وهو عامر بالمسرَّات والانتصارات!
هذا البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ هو الذي يجعلنا نُحسن تفسير هجرة كوادر وطاقات الأمة خارج البلاد، باحثة عن أرض أمان تشعر أن لها فيها حقاً تملكه، وتتصرف به بحرية، بعيداً عن محاولات السطو، والنصب والنهب، والاستعباد!
هذا البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ هو الذي يجعل كثيراً من الشعوب لا تفكر بجد وإخلاص كيف تعمل على تحسين مستوى اقتصاد وقوة الوطن الذي تنتمي إليه، ومستوى معيشة المواطن، لاعتقادهم المسبق أن الوطن ليس وطنهم رغم أنهم هم أهله وأصحابه وسكانه أباً عن جد، وأن كل ما يقومون به من مشاريع وأعمال نافعة ستصب في خدمة الحاكم وزمرته، وأهوائه وشهواته، وإلا ستبوء بالفشل والخسران، وأن الوطن والمواطن لن ينالهما من ذلك الخير شيء إلا بقدر ما يتساقط من فُتات يُرمى من على موائد الحاكمين المترفين!
هذا البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ هو الذي يجعلنا نُحسن تفسير انهزام جيوش العرب من أول طلقة تُطلَق عليها من أعداء الأمة، لاعتقاد الجند وشعورهم أنهم جند عند الطاغوت، وأنهم يُدافعون عن وطن الملك أو الرئيس، وعن حكمه ونظامه، وليس عن أوطانهم وأوطان المسلمين الذي يُعتبر الذود عنها ورد العدو الصائل عنها من أهم فروض الأعيان في الإسلام!
هذا البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ هو الذي يجعل كثيراً من الشعوب العربية والإسلامية لا تبالي ولا تكترث للكوارث والمصائب التي تحل بالبلاد والعباد، لعدم شعورهم أن البلاد بلادهم، وأن ما يملكونه هو لهم، قد وهبهم الله إياه!
أيما مصاب أو بلاء أو ضررٍ ينزل في أي بلدٍ من بلاد الغرب تتفاعل معه الشعوب قبل الحكام، وقبل الجهات الرسمية، لاعتقادهم وشعورهم أن البلاد بلادهم، وليس بلاد الحكام وحسب، وأن لهم في البلاد مثل ما للحكام وزيادة، بينما في عالمنا الشرق أوسطي كما يسمونه - وللأسف - نرى الشعوب تتجاهل ما ينزل في البلاد من ضرر وبلاء، بل وكثير منهم يتمنى نزول البلاء في البلاد، ليس حباً في إضرار البلاد والعباد، وإنما لشعورهم أنهم لا يملكون شيئاً حتى يتضرروا فيه، فقد فقدوا كل شيء، ومن يفقد كل شيء، فأي شيء يحزن أو يقلق عليه أو لأجله، ولشعورهم كذلك أن هذا الضرر ينزل بساحة الحكام المتملكين المتسلطين، وعائلاتهم والمقربين منهم، وهو يطالهم وحدهم دون غيرهم، وهذا مطلب مرغوب لدى هذه الشعوب المقهورة!(49/11)
هذا البعد الوطني عند هؤلاء الوطنيين؛ هو الذي يجعلنا نحسن تفسير سهولة تخلي وتنازل - هؤلاء الوطنيين - عن البلاد وخيراتها وثرواتها، لصالح الغزاة المستعمرين، كما في فلسطين والعراق وغيرها من البلاد، عندما تتعرض ملكيتهم العامة، وحقوقهم العامة للخطر أو الزوال!
وعندما تعترض عليهم العُصبة المؤمنة المجاهدة، التي بها يحفظ الله الدين، وحرمات البلاد والعباد، بأن ليس لهؤلاء الوطنيين - مهما تشدقوا بالوطنية - أن يبيعوا البلاد وثرواتها، وخيراتها، ومقدساتها، لأعداء الأمة من الغزاة، أو أن يُباركوا غزو الغزاة لأوطان المسلمين، أو أن يتنازلوا عن حقوق الشعوب في بلادهم من دون استئذانهم ومراجعتهم، عندئذٍ يأتي الحديث مباشرة عن الشرعية؛ لمن له الشرعية في الملك والزعامة والرياسة، وهذه البلاد من يملكها ومن يحكمها، ومن ثم مَن له شرعية حق التفاوض، ومن ثم مَن له شرعية حق البيع، والتنازل عن حقوق البلاد والعباد، لصالح الغزاة من أعداء الأمة، لو شاء!
والجواب عن هذا كله - عند هؤلاء الوطنيين - أن الشرعية المطلقة للحاكم وحده، أما الشعوب المقهورة، والمكبوتة، والمهجرة، والمستعبدة - إلى آخر قائمة التنكيل والإذلال - فلا شرعية لها، ولا حقاً، يجوز لها أن تسأل عنه!
ومن يُزاحم هذه الشرعية في ملكيتها للبلاد والعباد، أو يسائلهم ويُحاسبهم، فيما يتصرفون فيه من حقوق الشعوب بغير وجه حق، فهو الخارج على الشرعية، والوطن والوطنية، وليس له عند الوطنيين هؤلاء سوى السجن، والقتل، والتهجير!
على سبيل المثال لا الحصر - وحتى لا نبقى في ساحة العموميات - هل تجرؤ الشعوب في السعودية، أو أي دولة من دول الخليج المصدرة للنفط، أن يسألوا حكامهم، عن كيفية تحديد سعر البترول، وعن كيفية بيعه، والجهة التي ينبغي أن يُباع لها، وأين يذهب دخله وثمنه، وفي جيوب من يُوضع، وعلى من يُنفق، وكيف يُنفَق؟!
عندما يُجري هؤلاء الحكام صفقات الخيانة والعمالة مع أعداء الأمة، ضد الوطن وأهل الوطن وخيرات الوطن، ومقدسات الوطن، وما أكثر هذا النوع من الصفقات، هل تجرؤ الشعوب أن تُسائلهم، فضلاً عن أن تُحاسبهم؟!
ولو تجرأ أحد ففعل، سرعان ما تجد كلاب الوطن والوطنية تنبح عليه، ويتهمونه بالخروج على الشرعية، والتدخل فيما لا يعنيه، وأنه صاحب فتنة، ومن الخوارج، والفئة الضالة، وربما يسحبون منه الجنسية الدالة على انتمائه لموطنه ومسقط رأسه!
هذا هو مفهوم الوطن والوطنية عند هؤلاء الوطنيين، وبالتالي من حقنا أن نضع عشرات إشارات الاستفهام عندما نجدهم يتكلمون ويتشدقون - من دون أدنى حياء - عن الوطن والوطنية، ومصلحة الوطن والمواطن، وحقوق المواطنة!
10/6/1426هـ
===============(49/12)
(49/13)
الوحدة الوطنية
المجيب …سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ …4/8/1424هـ
السؤال
لدي إشكال وهو عن الوحدة الوطنية ماذا تعني؟ وعند أي حدّ تقف؟
وهل لرابطة الوطن اعتبار في الشرع؟ وهل ابن البلد أولى بالوظائف من الأجانب الموجودين في البلد نفسه؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا يصح أن تطلق على مفهوم (الوحدة الوطنية) حكماً عاماً مطلقاً لا يختلف باختلاف أحوالها ودلالاتها. وهذا الخطأ يقع فيه بعضنا في حكمه على بعض المصطلحات، فيطلق حكماً معيناً عاماً على مصطلحٍ ما مع أن مفهومه قد يختلف من شخص لآخر، وقد تختلف تطبيقاته من بلد لآخر.
ومنها مصطلح (الوحدة الوطنية)، فلم يكن مستغرباً أن تتباين مواقفُ الناس منها كما تباينت في أمثالها من الانتماءات والمصطلحات.
فانتصر لها أقوامٌ وحمَلوا لواءها؛ ليجعلوا منها الرابطةَ الوحيدةَ التي يجب أن تنداحَ لها كلُّ الروابط الأخرى، وأن يُلتغى أمامها كلُّ انتماء، فلا رابطة تجمع الناس إلا رابطة الوطن.
وكل ما وراءها فلا اعتبار له؛ لسبب واحد: هو أنه خارجٌ عن حدود الوطن، فالمواطن إنما هو ابن وطنه، ومنفعته يجب أن تكون مقصورة على وطنه، لا يعنيه شيءٌ وراءه.
ونابذها قومٌ آخرون بالعداوة المطلقة، فعادَوها وعدُّوها طاغوتاً ووثناً يعبد من دون الله من غير تفصيل لاختلاف الأحوال.
فهما موقفان يقعان من الخطأ موقعاً متقارباً، إذ لا فرقَ بين موقفٍ يُحِقُ الحقَ والباطلَ جميعاً، وآخرَ يُبطل الحقَ مع الباطل؟.
والموقف الصحيح في كل مسألة يمتزج فيها المعروف والمنكر، ويجتمع فيها الحق والباطل: أن يُفصلَ الحقُ عن أعلاق الباطل حتى لا يلتبس به.
ومسألة الوطنية مزيجٌ وأخلاطٌ من هذا وذاك: مِن الموافِقاتِ للشريعة والمخالِفات لها، والموقف الصحيح مما هذا شأنه: هو أن تُسبر مقتضياتها ودلالاتها بمسبار الشرع واحدةً بعد أخرى، فلا يُحكم على الشيء كله بخطأ بعضه، وإنما يؤخذ مسألة مسألةً لا جملةً واحدةً، فالحقّ يُحَقّ، والباطل يُبطلُ.
إنَّ الانتماء للوطن بمجرده لا محذور فيه، كما لا محذور في مجرد الانتساب للقبيلة، فقد كان صحابة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ينتمون إلى قبائلهم ويُنسبون إلى أوطانهم، فهذا أوسيٌّ، وذاك خزرجي، وهذا أنصاري، وذاك مهاجري، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعها منهم فلا ينكرها عليهم.
فمجرد الانتماء للتعريف وإثبات النسب ونحو ذلك ليس فيه معرَّة ولا مضرة، حتى إذا جاوزتْ ذلك واستحالت عصبيةً ورابطةً يُنتصر لها دون عصبيّة الإسلام ورابطتِه، كبحها - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم عنها، وقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ ...دعوها فإنها منتنة" رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
فمن المرفوض قطعاً ما يدعو إليه غُلاة الوطنية من أن يكونَ عطاءُ المواطِن واهتمامه قاصراً على وطنه، وولاؤه محدوداً بحدوده، وأن يَجعل له من قضايا وطنه شُغلاً عن كل شغل، فلا يعنيه شيء خارج حدود بلده.
لا بأس أن تكون اهتماماتُنا بقضايا وطنِنا أكثر، فالأقرب أولى من الأبعد، والأقربون أولى بالمعروف، ولكن لا يجوز أن تكون اهتماماتُنا محصورةً فيه فلا تُجاوِزُه قَيْد أُنمُلة. فأين هي إذاً وشيجةُ الدين، وأين هي حقوق المسلمين؟.
إن بعض مقتضيات الوحدة الوطنية لهو مما يقصده الإسلام ويدعو إليه؛ كالمحافظة على أمن البلاد وأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وحماية ثروات الوطن ومقدراته، وكالدعوة إلى المساواة والعدل، ومدافعة الظلم ومعاقبة الظَّلمَة، وهذا كله يدخل في باب التعاون على البر والتقوى.
أما حين تقتضي الوحدة الوطنية أن يحب المواطن أبناء وطنه كلهم على السواء بجامع الانتماء للوطن نفسه بلا اعتبار للدين فهذا لا يجوز؛ ففي هذه المحبة تمييع لعقيدة البراء، وتضيعٌ لعقيدة الولاء. إذ يقتضي ذلك أن يستوي في المحبة والولاء مسلمهم وكافرهم، بَرّهم وفاجرهم، وهذا ما لا تقرُّه الشريعة.
إننا حين نحب أحداً من أبناء وطننا فإنما نحبه لأنه مسلم، لا لأنه مواطن. وحين نكره أحداً فلأنه كافرٌ، لا لأنه من وطنٍ آخر. ولكن محبتنا لأحدٍ ما لا تدفعنا إلى أن نسكت عن أخطائه أو نعينه على ظلمه. وكرهنا لأحدٍ بسبب كفره أو انتمائه لطائفة ضالّة ـ سواء كان من وطننا أو من غيره ـ لا يحملنا على أن نعتدي عليه، أو نبخسه حقه، أو نمتنع عن نصرته إذا ظُلِم.
والوحدة الوطنية تفرض فيما تفرضه حمايةَ حقوق الأقليات والتعايش معهم، وهذا حقٌ سبق أن دعا إليه الإسلام قبل أن يعرف الناس مفهوم الوطنية والمواطنة، ولكن حمايته لحقوق الأقليات لم تكن تعني إقرارهم على السخرية بشعائر الإسلام، أو سب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو المجاهرة بما يمنع الإسلام أن يُجاهر به بين المسلمين.(49/14)
الوحدة الوطنية تصبح واجباً لا مناص منه حينما يتهدد البلاد خطر خارجي متمثل في تحالف صهيوني صليبي يريد أن يهيمن عليه ليسلب ثرواته وخيراته، وليجهز على ما تبقى فيه من قيم الإسلام وشعائره.
وإنما كانت حمايته لحقوقهم تعني عصمة أنفسهم وأموالهم، وتحريم الاعتداء عليهم واضطهادهم وإيذائهم، وهو يمنحهم حق ممارسة شعائر دينهم في بيوتهم وأحيائهم بشرط ألا يؤذوا مشاعر المسلمين، أو ينالوا من الإسلام بسوء، فليس لأحد حقٌ أن يسخر بشعيرة من شعائر الإسلام، أو يسعى بنشر الكفر والبدع بين المسلمين.
لقد عاش أهل الذمة في بلاد المسلمين قروناً طويلةً يمارسون شعائر دينهم في بيوتهم وأحيائهم، فيشربون الخمر ويأكلون لحم الخنزير، ويفعلون غير ذلك مما يستحلونه في دينهم. ولكنهم ظلوا ممنوعين أن يجاهروا بذلك بين المسلمين، أو يدعو أحداً منهم إليه.
إن الوحدة الوطنية لوطن من أوطان المسلمين لهو جزءٌ من وحدة الأمة، وما لا يدرك كله لا يترك جُلّه. فالسعي في وحدة الوطن على النحو الذي لا يقوِّض الولاء والبراء ولا يحجِّمه ليس سعياً في هدم وحدة الأمة ولا يناقضها أو يناهضها، بل هو سعيٌ في تحقيق جزءٍ من وحدة الأُمة، فهو مندوبٌ إليه من هذا الوجه.
والرابطة بين أهله وأفراد شعبه لا شك أنها رابطة ممدوحة إذا كانت منضويةً تحت رابطة الدين، وكانت تعاوناً على البر والتقوى ونصرةً للحق وأهله ومناوأةً للباطل وأهله.
والمقصود أن الوحدة الوطنية ليست باطلةً بإطلاق ولا حقاً بإطلاق، بل فيها الحق الملتبس بالباطل، وفيها المعروف المختلط بالمنكر.
أما السؤال عن ابن البلد: هل هو أولى بالوظائف من الأجانب المنتمين إلى جنسيات أخرى؟ فلابد عند الجواب أن تؤخذ المسألة في ظل ملابساتها وظروفها الحالية، فإنه قد حُدّت الحدود السياسية بين الدول، وقننت القوانين في الإقامة والاستيطان، واستُحدِثت الجنسيات، وصارت هجرة الإنسان مقيدة بشروط وضوابط وأعراف.
ومن الإشقاق أن نقول لشخص لا يجد عملاً في بلده الذي يفد إليه العمّال من البلاد الأخرى ـ أن يخرج من بلده هذا إلى بلد أخرى لعله أن يجد فيه عملاً.
ومن المحزن حقاً أن توجد البطالة في بلدٍ يعد من أغنى البلاد الإسلامية، وأسباب الظاهرة كثيرة، لا يعنينا أن نُفيض فيها ونسهب في عدِّها وإحصائها، ولكن يعنينا أن من جملة هذه الأسباب هو إغراق البلد بالعمالة الوافدة الرخيصة، والتي لا تمانع أن تعمل بأبخس الأثمان، ولو براتبٍ زهيد لا ينهض بأعباء الحياة وتكاليف المعيشة، لأن العامل إنما جاء ليجمع لا ليقيم، ولأنه يقيس راتبه (الزهيد) بقوته الشرائية في بلده الأصلي، لا بقوته الشرائية في البلد الذي يعمل فيه.
ولا شك أن مساواة هذا العامل بابن البلد فيها مضارة به؛ لأن هذا الراتب الزهيد لا يفي بمتطلبات الحياة الضرورية والحاجية، فكيف سيحصل ابن البلد على عمل براتب يفي بمتطلبات الحياة الحاجية إذا كان التاجر يجد من يعمل لديه بأجرة أقل ؟!
إن فتح المجال للوافد للعمل ليكون مساوياً للمواطن في الاستباق للفرص الوظيفية المتاحة قد يبدو مساواةً عند أول وهلة، غير أنه في حقيقة الأمر منافسة غير متكافئة بين الطرفين، والمستبق الغالب فيها هو بلا شك الوافد؛ لأنه سيقبل بالأجر الأقل الذي لا يفي بالتكاليف المعيشية لابن البلد.
إذاً المنافسة غير متكافئة الأطراف، والمتضرر منها بالتأكيد هو المواطن.
ويمكن أن يستأنس لكون المواطن أحق بوظائف بلده من الوافد بحديث معاذٍ رضي الله عنه لما بعثه الرسو صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فكان مما قال له: "فإن هم أجابوك لذلك ـ أي للصلاة ـ فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" رواه البخاري (1395)، ومسلم (19) فيمكن أن يُستفاد من هذا الحديث أن فقراء البلد هم أولى بزكوات أغنياء بلدهم من فقراء البلاد الأخرى.
قال ابن قدامة (المغني 2/283): (روي عن عمر بن عبد العزيز أنه ردّ زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام , إلى خراسان . وروي عن الحسن والنخعي أنهما كرها نقل الزكاة من بلد إلى بلد , إلا لذي قرابة. وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة . ولنا , قول صلى الله عليه وسلم لمعاذ - رضي الله عنه -: "أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم , فترد في فقرائهم" (سبق تخريجه) . وهذا يختص بفقراء بلدهم . ولما بعث معاذ - رضي الله عنه - الصدقة من اليمن إلى عمر - رضي الله عنه - , أنكر عليه ذلك عمر- رضي الله عنه -, وقال : لم أبعثك جابياً , ولا آخذ جزية , ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم . فقال معاذ - رضي الله عنه -: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني" رواه أبو عبيد في الأموال .(49/15)
وروي أيضا عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين - رضي الله عنه -, أن زياداً, أو بعض الأمراء , بعث عمران - رضي الله عنه - على الصدقة , فلما رجع قال : أين المال؟ قال: أللمال بعثتني ؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم . ولأن المقصود إغناء الفقراء بها , فإذا أبحنا نقلها أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين) أهـ.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
==============(49/16)
(49/17)
الأمة الإسلامية وأخطار القطرية عليها
[الكاتب: غازي التوبة]
لم تكن هناك أمة مكونة في الجزيرة العربية عندما نزل الوحي على الرسو صلى الله عليه وسلم في غار حراء، بل كانت هناك قبائل متناحرة، ولهجات مختلفة، وأديان متعددة، وآمال متصادمة، وكيانات سياسية على أطراف الجزيرة العربية مستغلَّة من قبل الدول الكبرى في المنطقة، وهما؛ كيانا الغساسنة والمناذرة في الشام والحيرة اللذان كانا مرتبطتين بدولتي الروم والفرس.
وعندما توفي الرسو صلى الله عليه وسلم ترك على مستوى الجزيرة العربية كلها أمة موحدة تدين بكتاب واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة، وتعظم ربّاً واحداً، وتتبع شريعة واحدة، وتقودها قيادة سياسية واحدة... إلخ.
ثم توسعت الأرض التي تعيش عليها هذه الأمة لتشمل بلاداً مجاورة كبلاد الشام وفارس في آسيا، ومصر في أفريقيا... إلخ، كما صهرت هذه الأمة في بوتقتها شعوباً أخرى مثل شعوب الفرس والترك والروم والبربر والكرد... إلخ، ثم استوعبت هذه الأمة الحضارات والعلوم والثقافات التي كانت موجودة في الأراضي التي توسعت فيها وشكلتّ منها حضارة واحدة ذات شخصية مستقلة، وهي إحدى حضارات التاريخ البشري البارزة.
واستمرت هذا الأمة موجودة فاعلة على مدار القرون السابقة.
وقد تعرضت في مسيرتها إلى عدة أخطار خارجية وداخلية، وأبرز الأخطار الخارجية الني تعرضت لها الأمة؛ الحروب الصليبية وحرب المغول، فقد استمرت الحروب الصليبية قرنين من الزمان، وساهمت فيها كل دول أوروبا وشعوبها من خلال سبع حملات، واحتل المقاتلون أراضي واسعة في قلب العالم الإسلامي، لكن الأمة الإسلامية استطاعت في النهاية التغلب عليهم وإخراجهم من الأراضي الإسلامية، كما استطاعت إيقاف الغزو المغولي بعد أن انتصرت عليه في معركة عين جالوت، وكان المد المغولي قبلها قد اكتسح جميع بلدان آسيا ودمر بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 656 هـ.
وبالإضافة إلى تلك الأخطار العسكرية الخارجية التي هددت الأمة، برزت أخطار داخلية هددت عناصر بناء الأمة وعوامل وحدتها الداخلية.
ومن ذلك؛ تشكيك فرقة الزنادقة في القرآن الكريم، وإظهار تناقض آياته، مما اقتضى عالماً مثل أحمد بن حنبل إلى تأليف كتاب في الرد عليهم، حمل عنوان "رسالة في الرد على الزنادقة والجهمية"، واقتضى تشكيل ديوان الزنادقة في خلافة المهدي العباسي من أجل المتابعة القضائية لهم مما يشير إلى استفحال خطرهم.
ومن الأخطار الداخلية الأخرى التي هددت وحدة الأمة؛ "الشعوبية"، والتي قامت على استصغار الجنس العربي والاستخفاف به، والتهوين من شأن اللغة العربية والبيان العربي، مما دفع كاتباً مثل الجاحظ إلى تأليف أكثر من كتاب في الرد على هذه الشبه وتفنيدها، ومنها كتاب "البيان والتبيين" الذي أوضح فيه أصول البيان العربي بالمقارنة مع بيان الأمم الأخرى، واعتدال الأسس التي يقوم عليها هذا البيان العربي وجمالها.
ومن الأخطار الداخلية أيضاً؛ التشكيك في السنة، والذي قامت به فرق مختلفة - ومنها المعتزلة - مما جعل الشافعي يخصص جزءاً من كتابه "الرسالة" لتفنيد رأي الذين يقولون بكفاية القرآن الكريم والاستغناء عن السنة، والرد عليهم بقولة: "إن القرآن الكريم الذي أوجب طاعة الله وجّه إلى طاعة الرسول وأسس - بالتالي - إلى وجود السنة وقيام شرعيتها".
ومن الأخطار الداخلية أيضاً؛ الفرقة السياسية التي تجلت بقيام عدة كيانات سياسية حتى في عهود القوة الإسلامية أثناء الخلاقة العباسية، من مثل؛ دولة البويهيين، والسلجوقيين، والحمدانيين، والإخشيديين، والطولونيين، والمرابطين، والموحدين، والطاهريين... إلخ.
لكن الأمة استطاعت التغلّب على كل تلك المصاعب والأخطار والهزات والتشكيكات؛ بالوحدة الثقافية التي عزّزت بناءها الداخلي ونسيجها الاجتماعي، والتي قامت على دعامتين:
الأولى: القرآن والسنة والعلوم التي ارتبطت بهما ونتجت عنهما.
الثانية: العلماء والفقهاء الذين أفرزتهم الحياة الإسلامية وأعطتهم دوراً قيادياً في المجتمع الإسلامي.
أما الدعامة الأولى للوحدة الثقافية؛ فجاءت من معاني القرآن والسنة وحقائقهما وقيمهما ومبادئهما التي تدعو إلى التوحيد والتطهّر وتزكية النفس ومكارم الأخلاق وإعمار الدنيا والخوف من مقام الله ونبذ الشرك وإقامة شرع الله واتباع الأنبياء... إلخ، وقد تطلبت سور القرآن الكريم والأحاديث الشريفة علوماً لحفظهما ولفهمها وللبناء عليهما، فمن العلوم التي ارتبطت بالقرآن الكريم أسباب النزول، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، وصور الإعجاز، ومدارس التفسير... إلخ، ومن العلوم التي ارتبطت بالحديث الشريف علوم الجرح والتعديل، والرواية والدراية، ومصطلح الحديث، وطرق تصنيف كتب الحديث... إلخ.
كما تطلبت سور القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الاهتمام باللغة العربية وحفظ اللسان العربي من اللحن والبيان العربي من الانحطاط، فكانت علوم النحو والصرف، وعلوم البيان والبديع، وعلوم العروض والقوافي، ومعاجم اللغة التي جمعت مفردات اللغة العربية... إلخ.(49/18)
وقد اقتضت حركة المجتمع ومستجدات الحياة إصدار أحكام شرعية جديدة عليها، وتطلبت هذه الأحكام علوماً شرعية تساعد على تقنينها، فانبثق علم أصول الفقه، ثم علم مقاصد الشريعة، ليكونا أبرز علمين كان الهدف منهما المساعدة في ضبط عملية الاجتهاد.
ساهمت حقائق القرآن والسنة - التي أشرنا إليها سابقاً - في توحيد عادات الأمة الإسلامية وتقاليدها في مشارق الأرض ومغاربها، وساعدت على توحيد الأذواق فيها، وشاركت في توحيد بنائها النفسي والعقلي، وأسهمت في توحيد نظرتها للأشياء المحيطة يها، وساعدت في توحيد ميزانها القيمي، وشاركت في توحيد تفسيرها لأمور ما قبل الحياة وما بعدها... إلخ، كما ساعدت العلوم التي ارتبطت بالقرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية والتي ذكرنا بعضها في في حفظ نصوص القرآن والسنة من جهة، وفي إيجاد طريقة موحدة لاستنباط الأحكام الشرعية وتقنينها ضمن منظومة الحلال والحرام والمكروه والمندوب... إلخ، من جهة ثانية.
أما الدعامة الثانية للوحدة الثقافية؛ فهم العلماء والفقهاء الذين جاءوا من تعظيم الدين للعلم، وثناء القرآن على العلماء، وحض الرسو صلى الله عليه وسلم على التعلّم، واتخاذ صلى الله عليه وسلم مواقف عملية تترجم ذلك في أكثر من مناسبة، كما حدث مع أسرى بدر حين جعل فداءهم تعليم الكتابة لعدد من المسلمين.
وجاءت من وجود أوقاف غنية تنفق على العلماء، وعلى طلبة العلم، وعلى دور العلم، وعلى نسخ الكتب، وعلى إنشاء المكتبات العامة، وقد قام العلماء والفقهاء بحراسة وحدة الأمة الثقافية وتحصينها والسهر عليها وإيجاد اللحمة الثقافية التي تدعم الوحدة وتنمّيها وتوسّع ساحتها.
لكن وحدة الأمة تتعرض الآن إلى أخطر تهديد على مدار القرون الماضية جميعها، وهذا التهديد جاء من الكيانات القطرية التي تسعى إلى تأسيس ثقافي مستقل بها، مما سيؤدي إلى تقسيم الأمة الواحدة إلى أمم متعددة مختلفة، ولكن هذا التأسيس الثقافي للقطرية مرّ بمرحلتين:
الأولى؛ مرحلة تقسيم الأمة الواحدة إلى أمتين؛ عربية وتركية، وقد جاء ذلك على يد دولة الاتحاد والترقي في عام 1908م من الجهة التركية، وعلى يد الثورة العربية الكبرى عام 1916م من الجهة العربية.
ولم تستطع الثورة العربية أن تجمعّ ما كان متفرقاً، بل فرّقت ما كان مجموعاً في اتفاقية "سايكس/بيكو" وغيرها.
ثم جاء التنظير القومي على يد ساطع الحصري ليرسّخ القطرية، ليس لأنه أراد ذلك، بل لأنه جعل الأمة تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، واستبعد الدين من عناصر تكوين الأمة، وهو في ذلك كان متابعاً النظرية الألمانية، ولكنه نسي أننا لا نستطيع أن نفهم واقع الأمة التي تقطن العالم العربي إلا بالإسلام، لأن الإسلام دخل كل تفصيل حياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية... الخ، وأننا إذا أردنا أن ننتقل بهذه الأمة من واقع التجزئة إلى الوحدة فلابدّ من الاعتراف بدور الإسلام في بناء الأمة وتفعيل عناصره، وهو ما لم تقم به القيادات القومية، فكان بروز القطرية وترسخها، وصار الظن عند عامة الناس؛ بأن التجزئة هي الأصل والوحدة هي الطارئة، مع أن العكس هو الصحيح.
الثانية؛ مرحلة التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر: اتخذ دعاة القطرية عدم التقدم باتجاه الوحدة خلال القرن الماضي حجة من أجل اعتبار الوحدة؛ خيالاً ووهماً، واتخذوا ذلك أيضاً ذريعة من أجل الترويج للقطرية والتأسيس الثقافي لها، والذي تجلّى في عدة عوامل، منها؛ طباعة كتب المؤرخين الذين تناولوا تاريخ القطر، وإبراز الرحالة الذين مرّوا به وكتبوا عنه، وتعظيم رموز الأدب والشعر المرتبطين به، وتزكية تاريخه السابق على الإسلام - كالتاريخ الفرعوني والبابلي والكلداني والآشوري والبربري والسيرياني والفينيقي - وإنشاء مراكز ومؤسسات ترعى ذلك التاريخ... إلخ، ويرافق كل ذلك الاهتمام باللغة العامية، والاهتمام بالشعر الشعبي والترويج لشعرائه ودواوينهم، والاهتمام بالعادات والتقاليد والفولكوز الشعبي الخاص بذلك القطر، وإنشاء المتاحف الخاصة به... إلخ.
ليس من شك بأن هذا التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر على حدة؛ يتقاطع مع الوحدة الثقافية التي عرفتها الأمة على مدار تاريخها السابق، وهو في حال استمراره ونجاحه فإنه سيؤدي إلى أخطر ما واجهته أمتنا على مدار تاريخها السابق، وهو تحويل الأمة الواحدة؛ إلى أمم متعددة.
===============(49/19)
(49/20)
الدفاع عن عقيدة الموحدين ورد باطل المفسدين في تعبيد الناس للـ"وطنية"
وتشويه معنى البيعة الشرعية وإمامة المسلمين
[الكاتب: حامد بن عبد الله العلي]
الحمد لله الذي نصر الإسلام بحوله وقوته، واستعمل في ذلك أولياءه وخيرته، وأدال على الصهاينة والصليبييّن، فأرانا فيهم عجائب قدرته، وأظهر بشائر الفرج على يد جنده وصفوته، ورفع راية الإسلام بفضله، ونعمته، وقمع كيد الأعداء ببطشه، ونقمته.
الحمد لله وفاءً لنعمه، واستجلاباً لمزيده، وقياماً بحقه، والصلاة والسّلام على الرّحمة المهداة، والنّعمة المسداة، حامل لواء النّصر المبين، سيّد ولد آدم المصطفى على العالمين، محمّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وحقّ لأهل الإسلام أن يستبشروا من هذه السّاعة بنصر الله تعالى، فما بعد هذا العزّ والظّهور، واندحار الصّهاينة من غزّة، وانكسار الصّليبين في العراق بالذل والعاثور، ورجوع القوّة والهيمنة لجند طالبان في أفغانستان، إلا إعلان النصر المؤزّر، والمجد المظفر، تحت راية لا إله إلاّ الله، والله أكبر.
وهذه آيات الهزيمة على وجوه الأعداء لائحة، وعلى ألسنتهم بادية واضحة، لاتخفى منها خافية، ولا تستر منها فاضحة.
غير أنه يجب أن ننبّه اليوم على أمر في غاية الأهمية، وهو أن هذه الأمة قد أثبتت في تاريخها، أن قد أودع الله فيها من القوة المعنوية، والطاقة الإيمانية، والجلد في الجلاد، والصبر عند ملاقاة أهل الكفر والعناد، مايمكنها من إلحاق الهزيمة، بكل من غزاها، وجميع من عاداها، فهي على دحر الأعداء مهما بلغت قوتهم، وعظم مكرهم، قادرة بقوة الله، منتصرة بحول الله، منصورة بنصر الله.
هذا إذا قام فيها من حقق التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، واهتدى بهداية الوحي المجيد.
ولهذا يجب أن ننقح المفاهيم المغلوطة الدخيلة على الإسلام، ونزيّف المزيف منها، ونوضّح السديد.
غير مغترين بكثرة الخائضين في الباطل، القائلين على الله بغير علم، الكاذبين على دينهم، المفترين عليه بغير الحق، الصائلين على دلائل الكتاب والسنة، الساعين بالفساد فيها، المبتغين لها عوجا، الناكبين عن الصدق.
هذا وقد كثر اللغط، واختلط العدل بالشطط، في ثلاثة مفاهيم مهمة، قد أدّى الخلط فيها إلى فساد عريض، فاختلط الحق بالباطل، واغتر بكثرة المبطلين الغرّ والجاهل، وهي...
مفهوم الوطن.
والبيعة.
والإمام الواجب الطاعة.
ولما كانت هذه المفاهيم غاية في الخطورة، إذ قد ينبني عليها سلامة العقيدة، وحفظ رسالة الأمة، وصون دينها، وتوجهها الحضاري.
فالأمّة إن جعلت الوطن وثنا يعبد من دون الله، وشريعة تحادّ شريعة الله، وجعلت بيعة الإمامة الشرعية، وسيلة لتسلط المفسدين على رقاب المسلمين بإسم الدين، وجعلت السلطة بيد الخائنين، زاعمة أنها هداية الكتاب المبين، فأيّ بقاء لها بعد هذا، فقد تودّع منها إلا أن يتداركها الله برحمته.
وفيما يلي بيان الحق، مصدوعا به بغير خفاء...
* * *
الوطن:
في الأصل هو الأرض التي يستوطنها الإنسان، كما في لسان العرب (المنزل الذي تقيم به)، لكنه قد يطلق اليوم على النظام السياسي الحاكم بقوانين على حدود جفرافيّة وشعب، أي الدولة، وكثيرا ما يخلط بين مفهوم الوطن، ومفهوم الدولة، وثمة خلط آخر بين النظام والدولة.
وغالبا في بلادنا العربية يفرض النظام الحاكم نفسه أنه الدولة كلها، ويختزل الشعب، فلا قيمة له مالم يكن رقيقا للنظام فقيمته على قدر رقّه! إلاّ في الخطابات السياسية!! ويجعل القوانين تابعةً للنظام الحاكم، والحدود السياسية ملكه الشخصي!! ثم يخلط بين مفهوم الوطن ومفهوم النظام الحاكم، فيجعل الخيانة للنظام الحاكم، خيانة للوطن، وخيانة للدولة، بينما يكون هو خائنا للوطن والدولة والشعب معا، أما خيانة الدين فتلك السابقة دائما، والتي لزم منها كل هذه الخيانات!!
والخلاصة أن المفهوم السياسي للوطن في الإعلام العربي والخطاب السياسي غالبا ينتهي إلى أنه الكذبة الكبرى التي اصطلح الجميع على إستعمالها للوصول إلى أطماعه الخاصة، الحزب الحاكم يستعملها مادامت توصله إلى أطماعه، وطبقة التجار كذلك إن كانت ثمة طبقات تجار خارج السلطة التنفيذية مادموا يحصلون على الصفقات الكبرى، والأحزاب الساعية للسلطة يمتطون هذا المفهوم للوصول إلى السلطة.
ولهذا ينكشف الأمر عندما يتخلى الزعيم عن الأرض هاربا عندما يفقد سلطته، وتعيش الأحزاب السياسية خارج الوطن، وهي تتاجر سياسيا بشعاره، ويخرج التجار أموالهم ليهربوا إليها عندما تتهدد مصالحهم التجارية في الوطن، بينما كانوا يجعلون الأرض سوقا استثماريا فحسب، ويبقى فيها الشعب المسكين الذي كان مخدوعا بهذه الكذبة، حبّ الوطن، إنه حقا زمن الزيف والخداع.
لقد أصبح مفهوم الوطن معذرة كالعاهرة التي يزنون بها جميعا، ويستر الجميع على الجميع، وقوّادها هو الأطماع الشخصية لكل فئة!
ثم إنه من الواضح أن علاقة الإنسان بالأرض إنما هي تبع لغريزة البقاء بحثا عن الغذاء، الطعام والماء، لايمكن أن يكابر الإنسان فيدعي خلاف ذلك، ولهذا فهو يهاجر من أرضه إن لم تمدّه بأسباب البقاء، مدفوعا بغريزته.(49/21)
وعلى أية حال فهذا كلّه وصف للواقع العجيب، في هذا المفهوم الغريب!
* * *
أما الإسلام فإنه...
1) يجعل الأرض تابعة للعقيدة،ولهذا يقسّم الإسلام الأرض إلى: دار إسلام، ودار كفر، فالأرض التي تعلوها أحكام الله تعالى، هي وطن لكل مسلم، إتباعاً لعقيدته، وضدها هدف للمسلمين لإعلاء كلمة الله تعالى عليها بالجهاد، فالأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، وقد أمرنا أن نعلي في الأرض كلّها كلمة الله تعالى.
2) أرض المسلم الأصليّة هي الجنة، كان فيه أبونا آدم وأمّنا حواء، فأخرجتهما المعصية، ويردّ إليها وبنوه، بطاعة الله تعالى وعبادته، قال تعالى: {وقالوا الحمد للّه الّذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}، ولهذا فحتّى ذلك الوطن، إنما يرتبط مفهومه بالعقيدة التي أصلها أنّ عبادة الله تعالى هي السبب الحقيقي لكلّ خير وفلاح في الحياة، وهي هدفها الأعظم، والضدّ بالضد.
ونحن في هذه الأرض السفلية غرباء، نقضي فيها زمنا يسيرا، لايكاد يذكر، في عمر الحياة الدنيا، أمّا في عمر الحياة الأبدية فلا شيء البتة، ثم نرجع إلى أوطاننا، وفي الحديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) [رواه البخاري].
3) لما كان دين الإسلام هو الأصل، والأرض تبع، وجب على المسلم الهجرة من الأرض التي لايمكنه أن يعبد فيها ربه، ويظهر دينه، فالهجرة سنة الأنبياء، (إنّي مهاجرٌ إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم)، ولهذا هاجر صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكّة إلى حيث يقيمون دينهم، قال تعالى: {إنّ الّذين توفّاهم الملآئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض اللّه واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً}، وقال تعالى: {يا عبادي الّذين آمنوا إنّ أرضي واسعةٌ فإيّاي فاعبدون}.
4) تقديم حبّ الأرض أو القومية أوالعشيرة أو النظام السياسي...إلخ على نصرة الدين، شرك بالله تعالى عما يشركون وهو من شرك الأنداد، قال تعالى: {ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً يحبّونهم كحبّ اللّه والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لّلّه ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة للّه جميعاً وأنّ اللّه شديد العذاب}، وقد بين القرآن المحابّ التي تتخذ أندادا مع الله في سورة التوبة، قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم مّن اللّه ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي اللّه بأمره واللّه لا يهدي القوم الفاسقين}.
وإلف الإنسان للأرض التي يعيش عليها أمر فطري مباح، كما يحبّ أهله، و قومه، وكراهيته التغرب عن أرضه كذلك،ولاتثريب عليه أن يتمسك بمحابه، ويدافع عنها مالم يخالف شريعة الله، غير أن كلّ محبوب للإنسان يجب أن يكون بعد حبّ الله، ورسوله، ونصر دينه.
5) أرض المسلمين ومنها التي عليها يدٌ عادية من نظام مرتد، أو كافر أصلي محتل، يجب تخليصها بالجهاد، لادفاعا عن مجرد الأرض، بل لأنها أرض المسلمين، وعن نسبتها إلى العقيدة، ولإقامة شريعة الله فيها، فهذا هو الأصل الذي يجاهد من أجله، وقتال المسلم دون أرضه التي يملكها من جنس القتال دفاعا عن ماله.
وثمة فرق كبير بين الحدود السياسية لنظام، وبين المال الخاص، والحدود السياسية الشرعية تابعة في الأصل لمفهوم سيادة الأمة بكلمة الله على الأرض، وتقسّم بناء على ذلك دار الإسلام، ودار الكفر كما بينا، وليست تابعة لسلطات الأنظمة،فالنظام يزول، أو يزال، ويأتي غيره، والأمة برسالتها باقية، وأرضها المحكوم عليها بشريعتها حق عام لها، لايملكها أحد كائنا من كان.
6) ومن قاتل لكي ينصر نظاما سياسيا لايخضع لأحكام الشرع، أودفاعا عن الحدود التي يسيطر عليها هذا النظام، فهو يقاتل تحت راية جاهلية عمياء، سواء سماه دفاعا عن الوطن والأرض وغير ذلك، ومن غرر المسلمين بأن أفتاهم بغير هذا، فقد أوردهم دكادك النار، وهو قائدهم إليها، وبئس الورد المورود.
7) جميع الحدود السياسية التي تفرّق الأمة، حدودٌ جاهلية، وجعلها أساسا لأحكام الولاء، والجهاد، والإمامة، والبيعة، ضلال مبين، وسبب في ضعف المسلمين، وتسلط الكافرين، ويجب على الأمة السعي لإزالتها، وإلى نظم الإمة في خلافة واحدة تحكمها، وترك السعي لذلك تفريط فيما هو من أعظم واجبات الدين.
* * *
أما البيعة على الإمامة...
فهي عقد شرعي، ينوب فيه الإمام عن الأمّة في تنفيذ أحكام الله، ولهذا نص الحديث: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله) [رواه البخاري].
ولهذا مضت السنة أن ينصّ في البيعة على هذا الشرط، كما في الصحيح أيضا قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه: (أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده).(49/22)
ويكون له مقابل قيامه بهذا الواجب الطاعة، وهو واجب الرعيّة مقابل واجب الإمام، فإن لم يأت الإمام بوفاء ما بويع عليه، فلم يقم بواجب إقامة الشرع، ونصره وحفظ الدين، ومصالح المسلمين، انفسخ العقد كسائر العقود الشرعية.
وإنما يبايعه أهل الحل والعقد، وعليهم واجب النظر في استمرار صحة البيعة، والرقابة والمحاسبة على الإمام - السلطة التنفيذية - وهذا الذي يطلق عليه في العصر نظام فصل السلطات، وهو في الأصل نظام إسلامي، هدفه ضمان بقاء الدولة في نفع الجماعة ومصلحتها العامة، ومنعها من استغلال آلة الدولة لمنفعة خاصة
وقد عطّل في البلاد الإسلامية، فأصبح الحاكم مطلق السلطة، واخضع العلماء المزيفون الناس لسلطته المطلقة بخطاب ديني مزيف ليس هو مذهب أهل السنة، وإنما مذهب الطمع والجشع، أو الخوف والجزع، فانتشر في ديار الإسلام الظلم، وانتهكت حقوق الرعية،
وأقامه غيرهم فكفوا يد البغي بينهم، وضمنت رعاياهم بقاء الدولة راعية لحاجاتهم، موفرة لمصالحهم.
ومقتضى البيعة على الكتاب والسنة أن يكون إماما للمسلمين لايفرق بينهم، لأن أساس الإمامة والدولة في الاسلام، ملّيّ قائم على الدين، بحيث يجمع المسلمين على ولاء الإسلام، وعلى إقامته، وحفظه، ونصرة المسلمين، وليس أساسه وطنياً قائما على معنى الوطنية العلماني العصري الذي يجمع المنتسبين إلى رابط الوطنية، التي تقدم على الدين، في صورة من صور الشرك والوثنية المعاصرة.
أما طرق إنعقاد البيعة فهي الاختيار والاستخلاف، ولايكون عقد البيعة شرعيا إلا بعقد أهل الحل العقد بيعة الإمامة بالشروط الشرعية، والمتغلب إن توفرت فيه الشروط بايعوه وصحت إمامته بذلك.
* * *
والإمام الواجب الطاعة في الإسلام...
هو الذي ينصبه أهل الحل والعقد، من أهل العلم، وذوي الرأي والرشد أو يستخلف ويبايعونه على أن يكون إماما للمسلمين، لايفرق بينهم، في جنس، ولا أرض، ولا قومية ولاقبليّة، ولايخضع لأحكام الكافرين، ولايدين لأحكامهم والقوانين، ولايواليهم من دون المؤمنين، بل يقطع أيديهم العادية على أرض الإسلام وأهله، وينزل بهم في ديارهم رايات الجهاد، بجيوشه وبأسه.
وقد قال الإمام أبويعلى الحنبلي في الأحكام السلطانية: (ويلزم الإمام من أمور الأمّة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه، بيّن له الحجة، وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من الخلل، والامة ممنوعة من الزلل، [أما مسائل الإجتهاد - التعددية الثقافية - واختلاف الآراء في السياسات - التعددية السياسية - فهي في حيز المباحات ما دامت خارج دائرة الأصول المجمع عليها] [1].
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولايضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحوزة، ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين.
الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الإنتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك، [ونصب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأخذ على يد المفسدين، وقطع دابر المجرمين] [1].
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لاتظفر الأعداء بغرة، ينهكون بها محرما، ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة، حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء، وما يستحق في بيت المال من غير سرف، ولاتقصير فيه، ودفعه في وقت لاتقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: إستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال مضبوطة، والأموال محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولايعول على تفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال تعالى: {يا داوود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه إنّ الّذين يضلّون عن سبيل اللّه لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا يوم الحساب}، فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ "كلكم راع وكلكم مسوؤل عن رعيته".
وإذا قام الإمام بحقوق الأمة، وجب عليه حقان:الطاعة، والنصرة، مالم يوجد من جهته، ما يخرج به عن الإمامة).
وتأمل قوله: (إذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب عليه حقان، الطاعة، والنصرة مالم يوجد من جهته مايخرج به عن الإمامة), فطاعة السلطة، ليست مطلقة، بل هي بعد قيامها بحقوق الأمة، فالأمة هي الأصل، فالسلطة منها وإليها، والإمام نائب أو وكيل عنها، إن أدى إليها حقها، وإلا فليس له حقوق، ولا كرامة له ولانعمة عين بعد تضييع حقوق الأمة، وأعظم حقها صيانة دينها، وحمل أمانة رسالتها الإسلامية في داخلها، وإلى خارجها.(49/23)
وقد وضع القرآن العظيم أصل البيعة الشرعية التي يصيربها الإمام ولي أمر المسلمين، وهي قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}.
فوليّ الأمر؛ هو الذي إن تنازعنا وإياه في شيء، رد إلى الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، لا إلى سلطان شريعة كافرة، ولاإلى هيئة دولية مارقة، ولا إلى سياسة جائرة.
هذا نص الكتاب العزيز، فمن حاد عنه، فإنما هو في شقاق، عافنا الله وإياكم من مرض القلب والنفاق.
والله أعلم
وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
1) زيادة من كاتب المقال، ليست من كلام الإمام أبي يعلي رحمه الله.
==============(49/24)
(49/25)
الوطنية وإحياء الآثار الجاهلية
سؤالٌ يطرحه المسلم في هذه الأيام على أمته؟ يحتاج إلى جواب عملي، ونظري.
خلاصته؛ هل فعلاً أن أمتنا الإسلامية، في عصرها الحاضر، لم تعرف بعد ولم تدرك موقعها بين الأمم؟ و من ثم فهي تتخبط يميناً وشمالاً، مشرفاً ومغرباً، وكأنها بقايا أمةٍ منقرضة لا عقيدة عندها ولا شريعة، ولا تاريخ ولا حضارة؟
وإلا فما الذي يفسّر مسيرتها في هذا القرن الحادي والعشرين الميلادي؟ حيث يقود زمامها العلمانيون تارة، والقوميون تارة أخرى، وتلامذة الفكر الغربي تارات وتارات.
لقد مرّ بعالمنا الإسلامي - في أثناء الاستعمار - محن تخللتها تيارات فكرية متنوعة، تستهدف العقيدة والأخلاق، وقد دعمها الأعداء، وأوحى بها الفكر الغربي والحضارة الأوروبية، وهي تقوم على ثلاث محاور:
المحورُ الأول: الدعوة إلى الحرية الشخصية والفكرية.
المحور الثاني: الدعوة إلى العلمانية، وفصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية.
المحور الثالث: الدعوة إلى تحرير المرأة.
وفيما بين ذلك، الدعوة إلى تطوير التعليم، وتربية الأمة على المناهج الغربية، وعزلها عن منابعها الأصلية.
وها أنا أقدم لكم نماذج ومنهجها المقتضى، لكونها مفهومة لدى الحاضرين - ما أمكن -:
فقد عمّ العالم العربي وغيره من بلاد الإسلام، دعوا ت إلى القومية العربية، والهندية، والتركية وغيرها، وقامت هذه الدعوات مدعومة من الاستعمار، وكان للنصارى العرب الدور الكبير في الدعوة إلى القومية العربية، فحملوا لوائها، وصاحب هذه الدعوات القومية، دعوا ت وطنية خاصة بكل دولة، عمادها بعث التاريخ السابق على الإسلام، أي تاريخ الجاهليات الوثنية، وإحياؤها، وإبراز عظمتها.
وكان من أبرز الوسائل لذلك، أمر لا يتنبه البعض لخطورته وأثره العقدي على الأمة الإسلامية، ألا وهو؛ الاهتمام الشديد بالآثار في بلاد الإسلام، وقد بدأ الاهتمامُ بنشاط قوي، مفاجئ لبعوث الآثار الأجنبية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث جاءت هذه الوفود إلى بلاد الإسلام، تنقب عن تلك الآثار القديمة وتكتب عنها، وتعلم شعوب المنطقة أهميتها التاريخية والمالية.
فهل كان هذا الاهتمام الغربي بآثارنا القديمة - وخاصة ما كان قبل الإسلام - عفوياً ونابعاً عن نية سليمة؟
دعوني أضرب مثالاً:
لقد أعلن الثري الأمريكي "روكفلر" بعد الحرب العالمية الأولى - أي قبل ما يقارب ثمانين عاماً - أعلن تبرعه بمبلغ عشرة ملايين دولار، لإنشاء متحفٍ للآثار الفرعونية، يلحق به معهدٌ لتخريج المتخصصين في هذا الفنّ، ملايين أظنُّها توازي ميزانية دولة من الدول، ينفقها هذا الثري الغربي على إحياء الآثار الفرعونية، في بلاد الإسلام - مصر - فما الذي أثمرته مثل هذه الجهود؟
لقد قامت في بلاد الإسلام دعوات متعددة، ولكل إقليم جاهلياته القديمة، مع تربية الأمة عليها من خلال الوسائل المختلفة، وخاصة التعليم والإعلام.
قد لا تصدقون أن الشاعر"أحمد شوقي" الذي يحوي ديوانه عدداً من القصائد الإسلامية، قال قصيدة يمجد فيها الفراعنة، وقد أهدى هذه القصيدة إلى المستشرق "مر جو ليوث" أستاذ اللغة العربية، وأستاذ عدد من مفكري مصر في ذلك الوقت، وقال شوقي في مقدمةِ الإهداء له: (نظمتها تغنياً بمحاسن الماضي، وتقييداً لآثار الآباء، وقضاءً لحق النيل الأسعد الأمجد، ونسبتُها إليك عرفاناً لفضلك على لغة العرب، وما أنففت من شباب وكهولة، في إحياء علومها ونشر آدابها).
ومما قاله في هذه القصيدة - واسمحوا لي في هذا النقل، فإن الغرض من ذلك، نقله على سبيل التحذير والرد، وبيان باطله - يقول:
أين الفراعنة الذين استذري بهم ……عيسى ويوسف والكليم المُصْعقُ
الموردون الناس منهل حكمة ……أفضى إليها الأنبياء ليستقوا
الرافعون إلى الضحى آباءهم ……فالشمس أصلهم الوضئ المعرق
وكأنما بين البلى وقبورهم ……عهدٌ على أن لا مساس وموثق
فحجابهم تحت الثرى في هيبة ……كحجابهم فوق الثرى لا يُخرق
بلغوا الحقيقة من حياة علمُها ……حُجب مكثّفة وسرٌ مُغلق
وتبينوا معنى الوجود فلم يروا ……دون الخلود سعادة تتحققُ
ثم يقول:
لا الفرس أوتوا مثله يوماً ……ولا بغدادُ في ظل الرشدِ وجلِّق
فرعون فيه من الكتائب مقبلٌ ……كالسحب قرنُ الشمس منها مفتق
تعنو لعزته الوجوه ووجهه ……للشمس في الآفاق عانٍ مطرقٌ
آبت من السفر البعيد جنوده ……وأتته بالفتح السعيد الفيلقُ
ومشى الملوك مصفدين خدودُهم ……نعلٌ لفرعون العظيم ونُمرُقٌ
مملوكة أعناقهم ليمينه ……يأبى فيضرب أو يمن فيعتق
ويلاحظ كيف جعل الأنبياء عليه الصلاة والسلام يستقون من كلم الفراعنة، بل استذرى بهم عيسى ويوسف وموسى عليهم السلام ثم يجعل حضارتهم أعلى من حضارة المسلمين في بغداد ودمشق.(49/26)
وفي سنة 1953م / 1373هـ عقد مؤتمر للثقافة الإسلامية برعاية جامعة برنستون ومكتبة الكونجرس بواشنطون، قدمت فيه عدد من البحوث، وشارك فيه عدد من الباحثين من العالم الإسلامي ومن الغربيين، كان منهم عدد من الأمريكان، قسس يحترفون التنصير؛ كالدكتور "ميلر بروز" أستاذ الفقه الإنجيلي في جامعة بيل، و "هارولد سميث" أستاذ ونائب رئيس قسم الديانات بكلية ويستر، وكان هذا القسيس قبل ذلك رئيساً لقسم الفلسفة والأخلاق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وغيرهم ممن لهم مناصب مريبة.
وقد ترجمت بحوث هذا المؤتمر إلى اللغة العربية، بعنوان "الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة"، وفي مقدمته تعريف بالباحثين المشاركين.
ولسنا بصدد مناقشات وأطروحات هذا المؤتمر حول الإسلام، وإنما الذي لفت الانتباه أن باحثين غربيين، كتبوا بحثين عرضوا فيه لقضية الآثار وأهمية إحيائها في البلاد الإسلامية.
يقول أحدهما - د. كون -: (منذ الآن يجب أن يبذل عملاء الآثار الغربيين جهداً مشتركاً لتدريب علماء الآثار المسلمين حتى يستطيعوا القيام بالعمل الذي يقومون به ويجب أن يبذل كل جهد ممكن للتأكد من أن هذه الأبنية والأهرام والتماثيل والنقوش سيحافظ عليها).
ويقول الباحث الثاني - د. ولسون - : (منذ حوالي قرن مضى - وهذا الكلام سنة 1373هـ - أدت عمليات التنقيب الناجحة التي قام بها بوتا ولا بارد، في العراق وما ريت في مصر، وشليمان في تركيا، إلى تأسيس مصالح للإشراف على التنقيب إلى إنشاء متاحف وطنية).
ثم يقول بعد حديثه عن سقوط الدولة العثمانية: (والذي حدث هو أن عالم الآثار الغربي في كل دولة من تلك الدول، قد ساعد في إعداد قانون خاص بالآثار للبلدان الإسلامي الذي يعمل فيه، وأصبح مستشاراً لموظف وطني عُيّن من حكومته مديراً لمصلحة الآثار).
ثم يقول مذكراً بما جرى في الغرب من رفضته لمسيحيته وعودته إلى وثنيته الكلاسيكية: (لقد كان الغرب من الثقة بقوته الفكرية، وبإيمانه الديني، بحيث اتخذ أساساً له مواد تنتمي إلى عصر سابق على المسيحية، وقد تمكن بالاعتماد على هذا الأساس القديم من أن يدرس نفسه ويختطَّ سبيله للمستقبل، فهل يصدق هذا القياس على الإسلام؟).
ما الهدف؟
الهدف واضح؛ تنشئة الأجيال على القيم التي تستند إلى أساليب الحياة والفكر في هذه الجاهلية الوثنية التي عفى عليها الإسلام.
هذا نموذج لهذه الحرب الموجهة التي تريد أن تفصل بين الأمة الإسلامية وعقيدتها وشريعتها وحضارتها الإسلامية، وأن يستبدل بها جاهليات وقوميات في كل بلد إسلامي.
[بقلم؛ الشيخ عبد الرحمن المحمود]
=============(49/27)
(49/28)
وقفات مع عمرو خالد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
أمَّا بعد :
فقد روى الإمام مسلم أنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : ((الدينُ النصيحة ، قُلنا : لِمَنْ ، قا صلى الله عليه وسلم : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمةِ المسلمينَ ، وعامَّتهم)) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وكذلك بيانُ من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلَّم فيه الإنسانُ بعلمٍ وعدلٍ ، وقصدَ النصيحة فالله تعالى يُثيبه على ذلك ، لا سيِّما إذا كان المتكلَّمُ فيه داعياً إلى بدعة فهذا يجبُ بيان أمره للناس ، فإنَّ دفع شرّه عنهم أعظم من دفع شرِّ قاطع الطريق ) منهاج السنة ج5/146 .
وفي هذه الرسالة أذكرُ بعضَ ما خالفَ فيه عمرو خالد كتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك عبر النقاط التالية :
أولاً : قوله بعدم كفر إبليس ؟! .
قال عمرو خالد في شريط الأخلاق : ( في هنا معنى تاني الحقيقة جميل إن إحنا نقوله .. خلِّي بالكو يا جماعة، إبليس كفر بربنا ولا مكفرش ؟ لا مكفرش ، إبليس مكفرش !! بص إبليس بيقوله إيه : ((خَلَقْتَنِي)) (الأعراف: 12) . يبقى هو اعترف بالله إن هو خلق ولا لأ ؟ مش كده ؟ قال ((خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ)) ؟ ((وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ))، فإنت خلقتني، وأنت اللِّي خلقته ، وفى آية تانية بيقوله إيه : ((قَالَ فَبِعِزَّتِكَ)) (ص82). يبقى مدرك عزة الله عز وجل ولا لأ ؟ وفي آية تالتة يقوله إيه:((قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) (الأعراف : 14) . ما هو مش بيدي ، بيدك إنت فـ .. أنكر إبليس أن الله هو الخالق ؟! أنكر إبليس أن الله هو الرب ؟! لأ ... أُمَّال أنكر إيه ؟ مشكلة إبليس إيه ؟ رفض الطاعة .. آه ، دي نقطة مهمة جداً ، جداً ، إنت إله ، إنت رب آه .. لكن إله تقوللِّي أعمل كذا ومعملش كذا ، لأ ) انتهى .
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }الأعراف12
قوله بحرية الأديان ؟ .
قال عمرو خالد في محاضرة ألقاها بتاريخ 11/3/2002م في المدينة الرياضية في بيروت وهي مسجلة على شريط فيديو قال إنَّ الإنسان له حريَّة العقيدة وبلهجته قال : (يعبد اللِّي هو عايزه) وقال : (الصحابة كفلوا حرية العقيدة) ، وقال : (الإسلام رحمة مع الأديان الأخرى) انتهى كلامه .
وصفه لله تعالى بما لا يليق ؟
قال عمرو خالد في شريط رسالة إلى أهل اليمن : (جاء في الأثر : أنَّ الله تبارك وتعالى نادى داوود : يا داوود لو يعلم المدبرون عني شوقي لهم وحبي لهم ورغبتي في عودتهم إليَّ لطاروا شوقاً إليَّ ، يا داوود هذه رغبتي بالمدبرين عني فكيف حُبِّي للمقبلين عليَّ) .
قوله بخلق القرآن ؟ .
قال عمرو خالد في شريط : خواطر قرآنية من سورة يونس : (وحاشا لله أن يظلم الذي خلق السماوات والحق وهذا الكتاب الحكيم) .
وقال في شريط (الحياء) معلِّقاً على حديث : ((إنَّ مما أدرك الناس ...)) الخ : يعني الخلق الوحيد الذي لم ينفك من الأنبياء السابقين الخلق الوحيد اللِّي كل الأنبياء اجتمعوا عليه وأجمعوا عليه : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) .
قوله بعدم استطاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لتحمُّل الرسالة وحده ؟ .
قال عمرو خالد : (إن صلى الله عليه وسلم قال لأوائل الصحابة : أنا مش قادر أحمل الرسالة وحدي، فقالوا له ولكنك نبي آخر الزمان، فقال لهم : نعم أنا النبي ولكني مش قادر على حمل الرسالة وحدي، تحملوها معي ؟ قالوا : نعم ) .
سوء الأدب مع بعض الأنبياء عليهم السلام ؟ .
ومن ذلك قوله في برنامجه الرمضاني: (إنَّ موسى نبي الله استسقى، فقال الله له : اضرب بعصاك الحجر، فقال : يا رب أنا أُريد المطر، فقال الله : يا موسى خلِّ عندك ثقة) !! .
إشادته بالبناء على القبور في المساجد والتقرب إلى الصالحين الأموات ؟ .
حيث ذكر عمرو خالد أنَّ أبا أيوب رضي الله عنه تُوفي في تركيا وأن مسجده وقبره يُصلِّي إليه آلاف المسلمين، فعدَّ ذلك كرامة له من الله، لأنه ضيَّفَ الرسو صلى الله عليه وسلم فكان هذا جزاءه .
وفي قصة يحكيها عمرو بعد وفاة صلى الله عليه وسلم وهي من الخرافات وفيها عقيدة شركية يقول :(أحد الصحابة كان عايش في المدينة ووالدته تعيش في قبيلة خارج المدينة برَّا المدينة فمرضت أمه فأراد أن يزورها كل يوم يطلع الصبح عايز يزور أمه وبعدين يرجع ، ثاني يوم يطلع أول ما يطلع برَّا المدينة يرجع ثالث يوم أول ما يطلع برَّا المدينة يرجع مازرتهاش ليه ، قال : أخاف أن أترك المدينة فتُقبض روحي فأموت بعيداً عن عين النبي !! شوف التعلق و شوف الحب و شوف الارتباط و شوف إحنا مش مرتبطين إزاي ) .
دعوته لشدِّ الرحل لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟(49/29)
قال عمرو خالد في شريط : الحج : (عادة الناس أول ما تنزل المدينة عادة فخلُّونا نبدأ الرحلة كدا أنت الآن متجه إلى المدينة الحقيقية يا ترى هاه مشاعرك حتبقى إيه، تعالوا نتكلم أول ما نتكلم عن المدينة يبقى نتكلم عن زيارة صلى الله عليه وسلم أنت رايح تقابل رسول ا صلى الله عليه وسلم ، على فكرة أقول حاجة لطيفة وأنت طالع من هنا خذ نية زيارة النبي أصل كل الناس تأخذ نية إيه ؟ الحج أو العمرة ماشي صح رقم واحد، الحج والعمرة فاكرين في الدرس اللِّي فات لَمَّا قلنا نبقى تجار نيّات، نمرة اثنين آخذ نية إيه ؟ رايح عند لقاء رسول ا صلى الله عليه وسلم رايح أزور صلى الله عليه وسلم تأخذ النية دِيَّن في حديث صلى الله عليه وسلم : ((من جاءني يزورني كان حق على الله سبحانه أن أكون له شفيعاً....) إلى أن قال : ( يقول العلماء : أصول الدين ثلاثة ، أصول الدين ، أصول دينَّا إنك تعرف ثلاث حاجات : الأولى الأصل الأول : معرفة الله ، الأصل الثاني : من أصول الدين معرفة صلى الله عليه وسلم حققتها فين ؟ حنْحَقِّقها في الزيارة دي ، الأصل الثالث من أصول الدين : معرفة الشريعة ، يبقى ثلث الدين إيه : معرفة صلى الله عليه وسلم ) .
وقال عن رجل جاء بعد إغلاق المسجد النبوي فنام قبل أن يزور القبر : ( اللطيف إنه كان ناوي يعني قال : الباب ينفتح متى قلنا له : الساعة اثنين ونصحا الصبح فراح عليه نومه ، فصحي الساعة أربعة، والله قام بيبكي ليه ؟ بتبكي ليه ؟ حقول له إيه ؟ حقول له اتأخرت عليك ليه ؟ أنتم متخيلين عمق العلاقة ؟ حقول للرسول إيه ؟ أنا تأخرت عليك ساعتين ليه كنت نائم فتخيلوا شوق العلاقة لمقابلة صلى الله عليه وسلم ) انتهى.
قوله بالتوسُّل بذوات العباد ؟ .
قال عمرو خالد في شريط الوفاء : (يا ربِّ يا ذا الجلال والإكرام يا مجيب الدعاء يا رب تسمع أصواتنا يا رب اغفر لنا بأتقى واحد فينا !!! الآن اغفر لنا بأخلصنا لك !!! الآن اغفر لنا بأتقانا لك !!! الآن اغفر لنا بامرأة جاءت تريد أن تغفر لها و ترحمها !!! اغفر لنا يا مولانا اغفر لنا يا كريم اغفر لنا يا حنان ) .
تكذيبه واستخفافه ببعض الأحاديث ؟ .
قال عمرو خالد في ضمن محاضرة له في برنامج صناع الحياة : ( خلُّوا بالكم النساء ناقصات عقل ودين إمتى النبي قال الحديث ده ؟! يوم العيد الصبح وهو خارج من صلاة العيد أول ما قابل السِّتَّات اللِّي طالعين من صلاة العيد ... بالله عليكم ! يوم العيد الصبح ! والسِّتَّات حضروا صلاة العيد مش ما حضروش ! حضروا صلاة العيد !! النبي الحكيم الرحيم أول ما يقابل السِّتَّات أول ما يقابل السِّتَّات يقول لهم أنتم ناقصات عقل ودين ؟! يوم العيد اللِّي هو يوم الفرحة ! أنا عايز أقول لكم إن الموضوع مش ماشي !! يوم العيد اللِّي هو يوم الفرحة يوم العيد اللِّي صلى الله عليه وسلم السِّتَّات طلعوا جزاهم الله خيراً حضروا صلاة العيد ... والنبي ... الحكمة ... والرحمة ... يُقابلهم يقول لهم انتو ناقصات عقل ودين ؟! مش ممكن يكون المفهوم ده !!! مش يمكن كان بيهزَّر معاهم ؟!؟!؟! على فكرة أحد العلماء أو كتير من العلماء قالوا كده : لعله كان يُداعب النساء !! واتاخدت واتلوت !! وبقي كل واحد عايز يشتم واحدة سِتِّ يقول لها إنت ناقصة عقل ودين ، والمعنى ما كانش كده ) !! .
طعنه في مشروعية الحجاب وأنه ظلم للمرأة ؟ .
حيث قال في برنامجه - رفع الظلم عن المرأة - أنَّ الحجاب الشرعي وغطاء الوجه ظلمٌ لها و عقَّب بـ : ( ممكن أنتم مش فاهمين ) .
قوله : بأنَّ سبب قتال الكفار هو عدم احترامهم لحقوق المواطنة ؟ .
يقول عمرو خالد في برنامجه الرمضاني في قناة اقرأ - ذكرَ أنَّ الرسو صلى الله عليه وسلم حارب اليهود ، لأنهم لم يحترموا حقوق المواطنة وليس كراهية ولا انتقاماً منهم .
قوله : بأنَّ شرط قبول الأعمال : الأخلاق ؟ .
يقول عمرو خالد في شريط : الأخلاق : ( ده أنا حأولك حاجة تانية عجيبة جداً ! إنت قد تظن ... يعني بس أنا متخيل إن العبادات أولى ، يعني إنت عاوز تأولِّي إن الأخلاق أهم من الصلا والصوم والذكر والدعاء والحج ؟ آه ، الأخلاق أهم ، إزاي ؟ كيف ؟ يا إخوانَّا ، كل حاجة من العبادات اللِّي إحنا أولناها ديَّة ، هدفها الأسمى : ضبط أخلاقك ، الهدف الأسمى لكل عبادة : إن خلق حضرتك يبأى سوي ، يبأى منضبط ، ولا قيمة في عبادة من العبادات لا تؤدي لانضباط الأخلاق ، تبأى تمارين رياضية ... طيب يبأى اللي مابتنهاهوش صلاته عن الفحشاء والمنكر صلَّى والاَّ ما صلاش ؟ عمل تمارين رياضية ! لكن صلَّى ؟ ما استفدش من الصلا في حاجة ، قيمة الصلا الأساسية : أخلاءك حصل فيها إيه ... ) انتهى .
قوله بعدم قبول توبة التائب إلاَّ إذا تاب بعد الذنب مباشرة ؟ .
قال في محاضرة له بعنوان : التوبة ، بُثت على قناة الشارقة الفضائية يقول : ( إنَّ الذين يستحقون التوبة هم فقط الذين يتوبون بعد الذنب مباشرة) !! .
قوله بأنَّ الفنَّ هو طريق الأنبياء ؟ .(49/30)
قال في قناة المستقبل اللبنانية : (إنَّ صلى الله عليه وسلم ما زعلش لَمَّا استقبلوه أهل المدينة بالأغاني : طلع البدر علينا، لأنه كان يؤمن أنَّ الفن يساهم في النهضة ) .
ويقول : (إنَّ الفن الذي يصنع نهضة هو طريق الأنبياء) !!!! .
ويقول : (اللِّي أنا بقوله إن الحاجة اللِّي مفيهاش حاجة حرام هِيَّا اسم مسرح دي كلمة مسرح دي كلمة حرام ؟ لأ هِيَّا كلمة سينما دي كلمة حرام ؟ لأ يا جماعة كلمة فن دي كلمة حرام كل ده كلام حلال ده النبي كان بي ........ الشعراء اللِّي هما فناني العصر في ذلك الوقت كان النبي بيكرمهم ) .
متابعته ومدحه لأفلام الفسقة ؟ .
ومن ذلك قوله في قناة المستقبل اللبنانية : (على فكرة أنا في مسرحيات للأستاذ عادل إمام مقدرش أقوم من قدامها بموت من الضحك، وفي مسرحيات للأستاذ محمد صبحي مقدرش أقوم من قدامها) .
ويقول : ( لو في مسرحية أو في فلم بيعرض حاجة هادفة ، الفن في حدِّ ذاته يعني أنا مش مكسوف إني أنا أقولك أروح فلم أو مسرح إيه المشكلة ، بس إيه اللِّي بيتعرض ، لو اللِّي بيتعرض حاجة جيدة يعني مسرحية زي مسرحية الأستاذ عادل إمام شاهد ما شافش حاجة مين مضحكش عليها ، ومين متفرجش عليها ) .
دعوته للاختلاط ؟ .
قال عمرو خالد : إن الصحابة كانوا يجتمعون رجالاً ونساءً في دار الأرقم ويؤكد ذلك بقوله : (خلِّي بالك ... رِجَّالة وسِتَّات مفيش حاجز بينهم) !!!!! .
مجالسته للنساء المتبرجات والتحدُّث إليهنَّ بالابتسامات والضحكات والتعليقات ؟ .
كما شريط فيديو بعنوان: (كلام من القلب عمرو خالد يستضيف سهير البابلي)، فيه لقاء استضاف فيه عمرو خالد، الممثلة السابقة (سهير البابلي) في جزئين ، وصورته وصورتها على غلاف الشريط .
هذا غيض من فيض هداه الله ، وقيَّض ولاة الأمر والعلماء لمناصحته وإصلاحه ، ومنع إلقاءه لمحاضراته في مدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، إنَّ الله سميعٌ مجيب .
وللاستزادة مما عليه هذا الداعية يُنظر : مقال شيخنا الدكتور محمد بن رزق طرهوني وفقه الله (ماذا تنقمون على عمرو خالد) وكتابتي هذه تلخيص للمقال المذكور .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وسلم .
=============(49/31)
(49/32)
مخلفات "سايكس بيكو"
[الكاتب: محمد مصطفى المقرئ]
مقدمة:
بمقتضى "سايكس بيكو" - الإنجليزية الفرنسية - مزق المستعمر بلادنا نتفاً بالية، وهتكها مزقاً مخلولقة، وفرض عليها تجزئة قطرية موهنة، وربما نصف قطرية - أو ربعها - كما الحال بالنسبة لدول - أو دويلات - محدثة منتحلة، أعني تلك التي أنشئت على غير أصل قطري، فهي كالنتوءات أو الدمامل، أو بالأحرى: كالأجزاء المستأصلة من الجسد غصباً، على نحو غير طبي ولا إنساني، فهو أشبه بعمليات سرقة الأعضاء الآدمية من أصحابها وهم أحياء!!
كان المستعمر يهدف - من ذلك - إلى أمور:
1 - التخلص من الجامعة الإسلامية التي كانت تصهر بلادنا - رغم تعدد أعراقها وأجناسها - في بوتقة أمة واحدة، وهو ما عرقل أطماعَ الاستعمار، ومكننا من الصمود في وجه حملاته (الصليبية) المتكررة.
2 - الانفراد بكل قطر على حدة، واعتماد السياسات والبرامج والمناهج والأساليب الأنسب لكل بلد، بحسب وضعيته وخصوصياته ومدى أهميته لهم.
3 - التمكن من تسعير نيران الخلافات وإفساد ذات البين، وخلق أجواء من عدم الاستقرار والقلق والتوتر، وهو ما حدا بالمستعمر إلى الإبقاء على مناطق حدودية - بمقتضى "سايكس بيكو" هذه - غير محسومة وشبه هلامية، كي تكون مادةً لاختلاق مشكلات ما تبرح متجددة متأججة.
كذلك حرصت "سايكس بيكو" على الاستفادة من التعدد العرقي في تأجيج النزاعات الداخلية، بالنسبة لكل قطر، بالإبقاء على كل عرق مُوزعاً بين أكثر من منطقة حدودية، ومع ظهور النزعة القومية (بدعم من الغرب)، وتغليب القومية العربية على سائر القوميات، توفرت استفزازات كافية وكفيلة بإثارة النعرات القومية الأخرى.
4 - التمكن من صنع زعامات محلية تكرس لهذا التقسيم، وهي زعامات جيء بها على حراب المستعمر، وربما في صورة ثورات "وطنية"، كي تكون الثورة - ومن ثم "الاستقلال" وتأسيس دولة وطنية "حرة" - رصيداً للزعامة الجديدة، ليكرس - هذا - بدوره لشعبية الحاكم المصطنع.
ولم يكن كثير من هؤلاء الحكام مجرد عملاء أو مأجورين، ولا كانوا مجرد نماذج بشرية مشوهة، مريضة نفوسهم خسيسة طباعهم، ولا كانوا مجرد مغرر بهم استغلوا من قبل جهات مخابراتية مشبوهة أوقعت بهم في ورطات مدبرة، بل لم يستخدموا على هذا النحو المهين لمجرد ثغرات في شخوصهم أو خصوصيات حياتهم..
لقد كانت ثقافات وأفكار زعامات "الاستقلال" نفسها هي الضمانة الكبرى للحفاظ على مصالح المستعمر الراحل، وعلى أساس من هذا - هذا بالذات - كان يتم الاختيار.
كانت كل مؤهلاتهم أنهم يحملون ملامحنا، ويتكلمون بألسنتنا، وفي أجوافهم قلوب أعدائنا، وفوق أكتافهم رؤوس الشياطين.
5 - تحويل أقطارنا الإسلامية إلى ممالك شخصية خاصة، وإطلاق أيدي الحكام في تحديد طريقة الحكم والإدارة، وفي تصريف ثروات البلاد، وفي فرض الثقافات الوافدة (ما بقي ذلك في إطار تحقيق مصالح المستعمر)، مقابل التعهد بالإبقاء عليهم، وحماية عروشهم، وإخماد أي ثورات مضادة لهم.
كانت عملية مقايضة واضحة، ولم تزل..
وإذا حدث أي تغيير في أصول اللعبة، أو تعارضت المصالح، أو استجد منها ما يستدعي التغيير، أو ما تمليه طبيعة المرحلة.. صُيِّر الحاكم (غير المناسب) حيث صُير "المغضوب عليهم"، وجيء بمن هو أنسب وأوفق (أخس وأحقر)، مضافاً إليه بعض الملامح الجديدة، ومحاطاً بهالة أخرى من رصيد مصطنع.
إنه لمن الخطأ الجسيم أن يُظن بهذا الصنف من الحكام أنهم مجرد عملاء، إذ إنهم لا يتصرفون بوحي من مصالحهم الذاتية ومكتسباتهم الاستعمارية وحسب؛ بل ينطلقون من قناعات وثقافات شخصية ضالة، تم اختيارهم على أساسها، كما تقدم !!
كان لا بد من استحضار هذه الحقائق، وسوقها بين يدي ما أريد تقريره..
(1)
إن الذي يشغلني - أو يؤرقني - هاهنا: أننا - كأمة - بتنا نُكون تصوراتنا، ونكيف واقعنا، ونفتي فيه ونحكم عليه، من واقع هذه التجزئة الاستعمارية!!
لقد صار كثير من علمائنا ومثقفينا وقادتنا يتصرفون على نحو يكرس لهذا الواقع المرفوض، بل الحرام، بل المارق، ويضفي عليه شرعية (منتحلة)، ويثَبِّت له كينونته (القهرية)، ويتعامل معه كوضع معتبر، وشأن محترم، وليس بذاك..
ولنأخذ على ذلك مثلاً :
لم تنفك بلاد الشام معروفة باسمها هذا عَلماً عليها، حتى كان ذاك التقسيم المشئوم، الذي جعلها أربع دول مفرقات، يقال لها "مستقلة".
ولم تبرح بلاد الشام والحجاز ومصر والجزيرة وغيرها، مجرد ولايات أو إمارات تابعة لدولة الخلافة، بمعنى أنها جزء من دولة الإسلام لا يتجزأ، ومن ثم لا يستقل في أحكامه وسياساته الخارجية، بل عُدَّ العدوان على أي ولاية تابعة للدولة المسلمة عدواناً على الدولة كلها.
كانت هذه مسلمات معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، يدركها الخواص والعوام، ولا تحتمل التباساً أو اشتباهاً. حتى اندرست مع ما اندرس من معالم الدين، وتآكلت مع ما تآكل من ذاكرة الأمة، كرس لذلك ما أَلَمَّ بالشعوب من استئناس بالمشهود، وإلف للواقع المفروض، سيما مع طول معايشته وسطوة غلبته، حتى استحال في حسنا كأنه الأصل الأزلي، والمصير المحتوم!!
(2)(49/33)
أقول: وإيجاب الفقهاء الجهاد على أهل بلد داهمه العدو الكافر، أي: ابتداءً وبالأصالة، وإلا فأهلُ ذاك القطر ليسوا هم المعنيين وحدهم بالدفاع عنه، بل لأنهم الأولى والأقرب، فإن هم عجزوا وجب على الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يجب على الأمة كلها.
ولو فرض وجود قطر مستقل عن دولة الإسلام تعرض لمداهمة الكفار؛ لم يختلف الحكم فيه عن سابقه، ذلك أن الولاء العقدي لا يتجزأ.. ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)) (التوبة: من الآية71).
نعم.. قد يتفاوت المؤمنون في مقدار ما يجب لهم من الولاية، فتكون لبعضهم أكمل من بعض آخر، أو أنقص منه، ولكنها لا تنعدم ولا تنقطع بحال عن أي طائفة منهم، ولا سيما إذا تأكد ذلك بطلب النصرة في الدين، أو كان المستنصرون محصورين مقهورين، قال تعالى: ((إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير)) (الأنفال:72).
(3)
والدولة المحاربة لقطر مسلم؛ تصنف كذلك (محاربة) - في النظر الشرعي - لدى كل أقطار الإسلام، ولئن جاز - فرضاً - أن يكون بيننا وبين تلك الدولة معاهدات اضطرارية، فإن الضرورة لا ترخص لنا بالدخول معها في حلف ضد الدولة المسلمة، ويدخل في ذلك تحريم كل صور الإعانة لها على قتال قوم مسلمين.
على أن المعاهدات التي لا اضطرار فيها يجب أن يوقف العمل بها، وتلغى من أصلها باعتبارين:
الأول: كون هذه الدولة المعتدية المحاربة لقطر من أقطار الإسلام: هي في حكم المحاربة لأقطارها كلها، فيمتنع أن يجتمع لها الوصفان (الحرابة، والعهدية) في آن واحد.
والثاني: أن ما يجب من موالاة ونصرة للقطر الإسلامي المعتدَى عليه، يَمنع من مهادنة المعتدِي ومسالمته، ولا مجال حينئذ للمعاهدات والصلح معه.
(4)
وإليك مثلاً يُجلي لك المراد :
يُزمِع عدونا تقسيم التقسيم بـ "سايكس بيكو" جديدة، ليفتت الجزيرة العربية إلى ثلاث دول، وكذا العراق (مثلها)، وسورية (نحوها)، ومصر دولتين، وكذلك السودان... إلخ.
والسؤال المطروح هنا على علمائنا وقضاتنا ومرجعياتنا الفقهية:
هل يسوغ لنا شرعاً أن نتقوقع في مكة والمدينة مثلاً (وهي الدولة الدينية في التقسيم الجديد) ونخلي مسؤوليتنا من سائر أرجاء الجزيرة، ملتزمين بمعاهدات واتفاقات تبرمها الدولة العلمانية في نجد والرياض، أو الدولة الشيعية في المنطقة الشرقية، حتى وإن كانت هذه المعاهدات تقر العدوَّ على احتلال البلاد ونشر الفساد، وتطلق يده في تحكيم شرائع الضلال، وتوطين ديانات وملل باطلة، تزاحم دين الحق وملة الخليل في أرض التوحيد؟.
وإذا تصورنا العكس.. هل يجوز لنا - كمسلمين - أن نسلم مكة والمدينة للطامعين فيهما من اليهود وغيرهم، ونخذل أهليهما، ونخلي بينهم وبين عدوهم، بدعوى أن ذلك شأن مكي مدني، وأننا ملزمون بمعاهدات بيننا وبين ذاك العدو في دويلات الجزيرة الأخرى ؟!!
ولا أتصور أن يفتي - في حالة العدوان على الحرمين (لا سمح الله) - بسقوط فرض دفع الصائل عليه عن غير أهل مكة والمدينة.
(5)
ورجوعاً إلى المعاهدات والاتفاقات التي مكنت عدونا من التواجد العسكري في بلادنا، وهي اتفاقات تمت من خلف ظهور الشعوب، أو رغماً عنها.. (القواعد العسكرية - مراكز القيادة الحربية - استخدام المياه الإقليمية - والممرات البحرية والبرية - والأجواء الجوية)..
هل يجوز منح العدو صلاحية استخدام هذا الوجود العدواني، ضمن حرب ضد بعض أقطارنا الإسلامية، تحت دعاوى العهد والاتفاق والذمة ؟!.
وعلى ضوء "سايكس بيكو" الجديدة: هل يسوغ لـ "الدويلة المصرية" (المقترحة في الجنوب) - مثلاً - الاحتجاج بهذه الاتفاقيات على جواز تمكين الأجنبي من ضرب "الدويلة المصرية" في الشمال، أو العكس ؟!.
وهل هذه الاتفاقات التي تضمنت إقرار المنكر والحرام والظلم والعدوان، والتي تمت بغير مشورة من الأمة أو من يمثلها من علمائها الثقات.. هل هذه الاتفاقات ملزمة للمسلمين؟.
على أنه لا ينبغي الخلط بين القادم إلى بلادنا بصفة شخصية ولغرض غير عدائي، وبين القادم إليها بصفة رسمية وبمقتضى الاتفاقات الظالمة المجحفة، ولأغراض تتصل بالعدوان وبالتمكين الجبري لمصالح المعتدِي.
(6)
والمؤمَّن (المستأمِن) إنما يُبذل له عهدُ الأمان على أن لا يَعتدي أو يغدرَ أو يخون، فإذا كان طالب الأمان إنما يطلبه لغرض عدواني أو عمل محرم؛ فعقد تأمينه باطل من أصله، سواء كان عدوانه على المؤمِن له (المستأمَن)، فرداً أو جهة أو دولة، أو على غيره من المسلمين، فرداً أو جهة أو دولة.
وما من دولة كائنة في هذا المجتمع الدولي "المقنن" تسمح لمتآمر عليها - مجرد تآمر - بالدخول إلى أراضيها، بل أكثر الدول لا تمنح تأشيرات دخول إليها إلا بعد التوقيع على إقرار باحترام قوانينها، والمحافظة على أمنها وأمن شعبها وسلامة أراضيها.(49/34)
وتؤكد شريعتنا الغراء على وجوب التفريق بين المحارب المباشر للعدوان (حقيقة أو حكماً)، وبين عموم أهل ناحيته (الدولة المحاربة) في أحكام القتال، وهو تفريق شرعي مقرر معروف في أحكامنا الفقهية وسياستنا الشرعية، أي من جهة قصد غير المحاربين واستهدافهم بأعمال الحرب من عدمه، فهؤلاء الآخرون لا يقصدون.
أما العدو الغاصب المباشر للغصب فهو متلبس بالعدوان، سواء باشر الحرابة أو لم يباشرها، اغتصب بنفسه أو مكن له في الغصب.
(7)
وثم تناقض حاد يقع فيه بعضنا، وربما بحسن نية، ذلك حينما يُقَوِّم الأعمال ويحكم عليها على أساس من موازناته الخاصة (المقطوعة عن شمولية التقويم والتكييف)، وبمقتضى ما تمليه مصالحه المحدودة، فتراه يؤيد ويعارض، ويحلل ويحرم، ويبرئ ويجرم... ويرى في الشيء الواحد - في آن واحد - رأيين متباينين متعاكسين متناقضين، تبعاً لما تمليه المصلحة لا غير!!
فينقلب غير الشرعي (جهة أو حكومة أو دولة، أو غيره) شرعياً، لا لشيء إلا لإبطال ما لا يبطل إلا بهذا الاعتبار المنقلب إليه!! ولعله لو أُنعِم النظرُ والاستدلال ما احتيج - في إبطاله - إلى هذا التعسف والتكلف.
الشأن الوحيد المستقر في ذلك كله هو المصلحة الخاصة، والاعتبار الذاتي، والمذهب المعتمد، وموقف الطائفة، والسياسة المعلنة، وتفادي التعرض لإرهاب الآخر، حسياً، أو معنوياً (فكرياً، أو دعائياً، أو لتجنب أن نُسلب اللقب الفتنة: "معتدل" أو "اعتدال")!!
إنه لا حرج على المرء في إنكار المنكر، ولكن شريطة أن يعتقده منكراً، وإلا فإنكاره لا يعدو أن يكون مسلكاً نفعياً وصولياً، وفرصة تُهتبل لأغراض سياسية، ولو بإظهار إنكار ما يَعتقدُ صوابه ويحتفل به سراً.
فها هنا أقسام ستة:
من ينكر ما يعتقد نكارته، وهو كذلك في ذات الأمر.
من ينكر ما يعتقد نكارته، وليس كذلك في ذات الأمر.
من ينكر ما لا يعتقد نكارته، وهو منكر في ذات الأمر.
من ينكر ما لا يعتقد نكارته، وليس كذلك في ذات الأمر.
من لا ينكر ما يعتقد نكارته، وهو كذلك في ذات الأمر.
من لا ينكر ما يعتقد نكارته، وليس كذلك في ذات الأمر.
وفيما عدا القسم الأول، يخطئ أصحاب الأقسام الأخرى جميعهم، إما من جهة القصد، وإما من جهة صواب المعتقد أو خطئه، وإما من الجهتين كلتيهما.
(8)
إن واجب الأمة اليوم يتمثل فيما يلي:
أولاً: إيجاد مرجعية موحدة للأمة الواحدة، تحسم خلافاتها، وتستثمر طاقاتها، وتضبط حركتها على ميزان الشرع الحنيف وقواعد المصالح الكلية الحقيقية.
ثانياً: الشروع في بناء مشروع يستوعب طاقات الأمة المهملة والمشتتة والمهدرة، ليسلكها في طريق الإيفاء بتطلعاتها.. مشروع يقترن فيه القول بالعمل، والتعليم بالتربية، والجهاد بالخلق الحسن.. مشروع يتضافر فيه عطاء الفرد مع الجماعة.. ومع الأمة كلها.
ثالثاً: تخير الأهداف (لكل مرحلة)، وكذا الأعمال والوسائل والأساليب التي هي أقرب إلى جمع الكلمة، وأبعد عن تفرقها، وما قضى فيه الشرع قضاء فلا مجال للاختلاف عليه، ما كانت هناك مرجعية موثوق بها.
رابعاً: إذا تعين التخير بين بديلين:
أحدهما: عمل فوري محدود النتائج، يتصدى له شخص أو طائفة أو جماعة، ويُتعجل به شفاء القلب وإذهاب غيظه.
والآخر: مشروع منهجي متكامل، مرجأ الإنجاز، تتصدى له الأمة أو أغلبها، ويرجى من ورائه تحقيق تغيير شامل.. فلا ريب أن منطق العقل والحكمة يملي علينا اختيار هذا الآخر.
ولعل قلة المنجز من أعمال، ومحدودية نتائجه، وانطوائه على مفاسد ملازمة له، وهي مفاسد جسيمة غالباً، يبعد - معها - ترجيح ما يقابلها من مصالح.. لعل هذا يدل على ضعف قدراتنا - كجماعات - تعجز كل منها منفردة عن إنجاز عمل مؤثر تفوق مصالحُه مفاسدَه.
ولعله يدل - أيضاً - على مدى تأخرنا في التجمع والتحرك كأمة، وتأخرنا في استيعاب مأساة التفرق والتنازع.. ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)) (لأنفال: من الآية46).
إننا بأمس الحاجة إلى مشروع جامع يوحد ولا يفرق، مشروع قادر على استيعاب حركة الأمة كطوائف وأفراد، وإن تأخرنا في إنجاز مثل هذا الأمل المنشود هو الخلل الرئيس في أزمتنا، وعلينا تقع المسؤولية الأولى فيما تجلبه الاجتهادات الخاصة والقاصرة من مفاسد.
إن الإنصاف ليقتضي أن يُنكر على المتباطئين، كما يُنْكرَ على المتعجلين..
خامساً: لكل مقام ما يلائمه، ولكل مرحلة أحكامها، والتوسط أن نكون بين الهمود والفورة، بين التباطؤ والعجلة، بين اختزال المراحل وإهدار قيمة الزمن، بين لهفة تحقيق الإنجازات والمبالغة في تقدير سوء المآلات، بين الإفراط في اليأس وإطلاق خيالات الأماني، بين التنطع في تقدير المصالح والإسراف في إسقاطها وإهمالها، بين الإغراق في التفاصيل والاكتفاء بالمُجمَلات...
سادساً: اعتماد صياغة سياسية حكيمة، تجمع ولا تفرق، أممية لا حزبية، شمولية لا تجزئ، مطيتها الموازنات الشرعية السديدة، وبُوصلتها الكتاب والسنة، وزادها الزهد والعبادة، وشعارها اتقاء الشبهات، ومسلكها ترك ما يريب، وهي بكل حال تعطي ولا تأخذ، ولا تطمع أن تأخذ.(49/35)
سابعاً: ينبغي التنبه إلى أن ثم قضايا يتعين تحقيقها وتنقيحها بوضوح شديد وتحديد دقيق، فهي لا تحتمل التعميم فضلاً عن التمييع، ولا الإجمال فضلاً عن الإبهام، أعني تلك التي قد يعلوها الغبش، أو يلفها الالتباس، ويُخشى أن تضيع حقائقها بين هذا الكم المتزاحم من الأحداث وهذا الحجم المتراكم من الخلافات.
وليتنبه - أيضاً - في هذا السياق - إلى خطورة الخطاب التعميمي، الذي يكرس لمفاهيم ومقررات خاطئة، ضمناً أو اقتضاءً، بوعي أو بغير وعي، وقد سلف التعرض لبعضها.
وأضعف الإيمان: أن يتجنب هذا النوع من الخطاب، حيث يتعذر تحقيق مثل هذه القضايا والمفاهيم على نحو دقيق جلي محدد.
(9)
ثُمَّ..
ثم الباب - إلى وضع تصور شامل - على مصراعيه لا ينفك مفتوحاً، لأن الأمة كلها مطالبة - اليوم - بتحديد ملامح ما نريد، وتخير مواصفات ما ينبغي، وجدولة أوراد اليوم والليلة، والسنة والعِقد، وترتيب مطالب الغد القريب.. فالبعيد.
والله الموفق للسداد.
((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) (التوبة:105).
((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)) (العنكبوت:69).
((ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)) (الحج: من الآية40).
[رمضان / 1424 هـ]
===============(49/36)
(49/37)
الفرق المبين بين توحيد المرسلين وتوحيد الوطنيين
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
[قال النائب عن الشعب في التشريع!! (عبد المنعم أبو زنط) في ردّه على الحكومة إثر حادث الاعتداء عليه بعد صلاة الجمعة، والذي نُشر في جريدة البلاد في عددها 95 بتاريخ 2/11/1994م:ـ
«بدأتُ بالخطبة قائلاً بعد مقدمتها: يا إخواننا!! من أهل السلطة اتقوا الله في أمهاتكم المسلمات... إلى قوله: ثم اختتمتها بقولي: يا إخواننا أُناشدكم الله رب العرش العظيم بأن نُحافظ على اخوتنا ووحدتنا الوطنية وأمتنا واستقرار بلدنا أردن الحشد والرباط فلا نُريد أن نشمت بنا الأعداء»] (¯) .
وأقول بياناً لما جاء فيه من خلط وتلبيس: الحمد لله الذي جعل توحيده بالعبادة فُرقاناً بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الذين كان الحب والبغض في الله والموالاة والمعاداة في الله عندهم أوثق عُرى الإيمان... وبعد:ـ
فإن أعظم ما أرسل الله رُسله من أجله هو توحيده سبحانه بالعبادة في كافة صورها والبراءة من الشرك وأهله على اختلاف أنواعه.. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَّا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وصح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حق الله على العباد أن يُوحِّدوه ولا يُشرِكوا به شيئاً..).
ومن لوازم هذا التوحيد ومعالمه التي هي من أهم صفات ومميزات أتباعه: حب الله وحب أوليائه الموحِّدين الذين يعبدونه وحده ولا يُشركون به شيئاً، وموالاتهم ونُصرتهم وتكثير سوادهم وحبّ انتصارهم وظهورهم..
ومن لوازم الكفر بالطاغوت اجتناب الشرك والبراءة منه، واجتناب أهله ومُفارقتهم وبُغضهم ومُعاداتهم وجهادهم باللسان والسنان عند الإمكان، وإن كانوا من الأهل والعشيرة وأقرب الأقربين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإْيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَالِمُونَ} [التوبة:23].
وقال تعالى في وصف ملّة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].(49/38)
فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قال المفسرون: المرسلين الذين على طريقته أو أنصاره المؤمنين الذين كانوا معه، وكلاهما صواب. وتأمل قوله سبحانه: {إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ} فهي مُواجهة ومُصارحة وخطاب مُوجه إلى عشيرتهم وأهلهم بالبراءة الواضحة المُعلنة منهم ومن معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله. وهكذا ينبغي أن يكون كل من أراد التمسك بملة إبراهيم وسلوك طريق المرسلين.. فيتبرأ من كلِّ ما يُعبد ويُتبع من دون الله سواءً كان ذلك المعبود أوثاناً من حجر أو شجر، أو قوانين وتشريعات من وضع البشر، ولا يكفي ذلك وحده ولا يستكمل المرء به توحيده وبراءته من الشرك حتى يُضيف إليه البراءة من المشركين أنفسهم.. وتأمل قوله تعالى في الاية: {إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} وكيف قدّم الله البراءة من الأقوام المشركين العابدين غير الله ، على البراءة من معبوداتهم وشركياتهم لأن الأول أهم فَكَمْ مِن إنسانٍ يتبرّء من الشرك والمعبودات الباطلة ولا يتبرأ من أهلها خاصة إن كانوا من أهله وعشيرته وأهل وطنه وجنسيّته.. وأما إنْ تبرأ من المشركين فهذا يستلزم البراءة من شركياتهم غالباً... ثم أكد الله تعالى ذلك بقوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ} وقال : { وبدا} أي ظهر وبان {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وتأمل تقديمه العداوة على البغضاء لأنها أظهر وأهم، فالبغضاء غالباً محلها القلب أما العداوة فإنها تستلزم أن يكون الإنسان في عُدْوَة أي: ناحيةً وجِهةً، وعَدُوَّه في عُدْوةٍ أخرى.. وهذا المَعْلَم واضح في دعوة الأنبياء جميعاً، فكما أن إبراهيم عليه السلام عادى أباه وقومه وفارقهم وتبرأ منهم لأجل توحيد الله تعالى ودينه فكذلك سائر الأنبياء كانوا يدعون أقوامهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتبرؤون من معبوداتهم وشركياتهم ويصبرون على دعوتهم فإن أصرُّوا على شركهم وباطلهم تبرؤوا منهم وعادوهم وفارقوهم... وعلى إثرهم مضى الصالحون فها همُ الفتية أصحاب الكهف يُفارقون أقوامهم ووطنهم وعشيرتهم لأجل توحيد الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ ..} [الكهف: 16] . وكذلك كان حال صلى الله عليه وسلم وصحابته فقد جاء في وصفه على لسان الملائكة في صحيح البخاري: (ومحمد فَرقٌ بين النّاس) وفي رواية (فَرَّقَ) و جاء في وصفه على لسان مشركي قريش في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح: (عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وشتم آباءنا..) وكذلك ما قاله ورقة بن نوفل في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (يا ليْتَنِي فيها جذعاً ـ أي شاباً صغيراً لأنصرك ـ إِذْ يُخرِجُك قومكَ) قال: أَوَمُخْرِجِيَّ هُم؟ قال: (نعم، لم يأتِ رجلُ بمثل ما جِئْتَ به إلا عُودِي).
فإن رأيت من يزعم أنه على طريقة الأنبياء والمرسلين ثم هو لا يُعادي أهل الباطل والمشركين فاضرب عنه صفحاً، فإنه لم يأتِ بمثل ما جاء به الأنبياء. وقد وصف الله كتابه الذي فَرَّق بين أهل الحق وأهل الباطل ـ وإن كانوا آباء وأبناء ـ بالفرقان، وسمّى غزوة بدر العظمى بيوم الفُرقان حيث قاتل فيها الأبناء آباءهم نصرةً لكلمة التوحيد وإعلاءً لها..
وهكذا فتوحيد ربّ العالمين هو توحيد المتقين المؤمنين يُؤلف بين قلوبهم، ويجمع بينهم في الدنيا والآخرة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ} [المؤمنون:71]، {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] .
وتوحيد الوطنيين (الوثنيين) أو الوحدة الوطنية (الوثنية) تجمع بين المشركين والمرتدين والكافرين في الدنيا ثم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْ ثَأناً مَّوَدَّةً بَيْنَكُمْ في الحَيَاةِ الْدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمأْوَاكُمُ الْنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت:25] .
وتوحيد ربّ العالمين لا يلتقي أبداً مع توحيد الوطنيين (الوثنيين)؛ توحيد العشيرة والقبيلة ونحوه إلا في إحدى حالتين:ـ
- أن ينحرف أهل التوحيد الحق عن توحيدهم، ويتخلوا عن لوازمه التي من أوثقها الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة فيه سبحانه.
- أو أن تبرأ العشيرة والأهل والوطن من الشرك وأهله، فيكفروا بكلّ ما يُتبع على غير بصيرة من الأديان الباطلة والشرائع والمناهج المخالفة والمناقضة لشرع الله تعالى سواءً كانت قوانين أو دساتير أو مذاهب كالديمقراطية التي هي حُكمُ الشعب وتشريعه وِفقاً للدستور، لا حكم الله وتشريعه المنزل في القرآن..(49/39)
وعلى كلّ حال فمن لم يتبرأ من ذلك ويكفر به في الدنيا فسيكون أسمى أمانِيه يوم القيامة بعد فوات الأوان أن يرجع إلى الدنيا ليحقق ذلك، فيتبرأ من الشرك وأهله، ومن كلّ توحيد غير توحيد المرسلين: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] .
والخلاصة: أن توحيد الوطنيين (الوثنيين) أو الوحدة الوطنية (الوثنية) التي تجمع بين الشيوعي والعلماني والنصراني، والديمقراطي، والبعثي، وساب الرب والدين، والمستهزئ بدين الله، وتألف بينهم وتجمع صفوفهم في ظل أي مصلحة مزعومة أخرى... هذا التوحيد هو توحيد الكفار، أو توحيد الطواغيت، أو توحيد المشركين، أو توحيد كفار قريش الذي كانوا يَدْعون صلى الله عليه وسلم إليه، وَيُسَاوِمونه عليه من أجل مصلحة العشيرة والقبيلة ووحدتها، ومن أجل مصلحة البلد، أو المصلحة الوطنية، لكنه أبداً لن يكون توحيد المرسلين ومحالٌ أن يكون، فتوحيد رب العالمين يُفرِّق بين أهل الحق وأهل الباطل، والوحدة الوطنية (الوثنية) تجمع وتؤاخي بينهم.. ساءَ ما يحْكُمُون..
من هذا كلّه تعلم أن المطلوب الأول من المسلم الذي يُريد تحقيق توحيده كاملاً هو البراءة من الشرك والمشركين، وإن كانوا من أقرب المقربين إليه نسباً أو موطناً، وأنَّ بدعة الوحدة الوطنية (الوثنية) التي يُشقشِق بها كثير من الناس في هذا الزمان مُنافية ومُضادة للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وبالتالي فلا يجوز العمل من خلالها أو تَبنِيها فضلاً عن نُصرتها وتأييدها وتدعيمها.. إلا حين يحكم الوطن ويستسلم مع أهله لشرع الله، ويبرأ من شرع الطاغوت، وحين يكفر المواطنون بكلِّ ما يُعبد من دون الله ويبرؤون من الشرك وأهله، ويحققون توحيد الأنبياء والمرسلين، عند ذلك وعنده فقط، سنكون أحرص الناس على الوحدة الوطنية، ومن أخلص جُنودها، وسنلقي بجميع الخلافات الفرعية خلف ظهورنا ما دامت هذه الوحدة قائمة على أصل سليم هو توحيد رب العالمين، والبراءة من الشرك والمشركين، ودون ذلك فسحقاً سحقاً لكلِّ وحدة تتعارض مع ملّة إبراهيم، وتوحيد الأنبياء و المرسلين.
أبو محمد عاصم المقدسي
سجن قفقفا ـ الأردن ـ
الخميس 29 جمادى الأولى 1415هـ الموافق لـ3/11/1994 م
الهوامش
(*) وجاء في جريدة الدستور في تاريخ 23/11/1994م في مقالة لموسى الكيلاني تحت عنوان: حُكماء الحركة الإسلامية الأردنية (تأكيد عبد المجيد ذنيبات المراقب العام للإخوان المسلمين على أن الإخوان سيكونوا أول من يتصدى لمن يُحاول أن يمس الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد...).
=============(49/40)
(49/41)
الوحدة الوطنية ستار كاذب للهجوم على الإسلام في مصر
الأربعاء:11/12/2002
(الشبكة الإسلامية) القاهرة ـ كمال حبيب
شعار الوحدة الوطنية العلماني الذي تضمنته قوانين مصرية كثيرة يعني "أن الدين لله والوطن للجميع " ولا نعرف كيف يتسق في دولة إسلامية تعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع أن يكون أمر الوطن للناس بعيدا عن الله ، وفي الواقع هذه فكرة علمانية تدعو إلى أن يكون أمر إدارة المجتمع علمانيا أي بعيداً عن أي أطر دينية ، ولكن بالتأمل فإن المقصود بهذا الشعار في مصر هو عزل الدين الإسلامي عن الحياة ؛ ذلك لأنه الدين الوحيد بين الشرائع الأخرى الذي يرفض الفصل بين الدين والدولة ويرى أمر الحياة والوطن محكوماً بأمر الله ، فالدين في الرؤية الإسلامية هو أمر الله والوطن هو موضوع لهذا الأمر لابد أن يكون تنظيمه نابعاً من دين الله وقوانينه وشريعته .
ورغم أن هذا الشعار الأثيم موضوع كأساس لتنظيم المجتمع المصري لحماية الأقليات ـ أي لحماية الأقباط على وجه التحديد مما يتصور أنه صحوة إسلامية تنتشر بين جنبات المجتمع المصري المتدين بطبيعته ، وهو نوع من التطمين النفسي للأقلية القبطية ـ لكن الملاحظ أن هذه الأقلية لا تلتزم بالشعار " الدين لله والوطن للجميع " ونجد البابا شنوده وهو منصب ديني إكليروسي بالأساس يتدخل بصفته الدينية كرأس للكرازة المرقسية مطالبا بمطالب ذات طابع طائفي للأقلية القبطية وحدها ويطرح نفسه باعتباره والكنيسة القبطية دول داخل الدولة وأن البابا والكنيسة هما ملاذ الأقباط وهو ما خلق روحا ذات طابع طائفي عند الأقباط الذين يشعرون أن البابا والكنيسة وليس الدولة المصرية ومؤسساتها هي التي تعبر عنهم .
وفي الواقع فإن الشريعة المسيحية تؤمن بالمبدأ الأثير عندها والذي ينسب وضعه إلى السيد المسيح عليه السلام وهو "دع مالله وما لقيصر لقيصر " أي أن أساس الشريعة المسيحية ينطلق من الفصل بين الكنيسة والدولة ، وكانت تقاليد الكنيسة القبطية المصرية جرت على هذا طوال تاريخها فلم تكن تطرح نفسها كمشروع طائفي يقدم نفسه باعتباره متحدثاً عن قطاع من المجتمع هم الأقباط دون بقية الشعب المصري ، ولا تزال هذه الرؤية مطروحة بقوة بين قيادات قبطية كبيرة تعارض المشروع الطائفي للكنيسة القبطية المصرية في عهد البابا شنودة وتدعو إلى العودة لتقاليد المسيحية التي تعتبر الكنيسة مؤسسة دينية لا صلة لها بإدارة المجتمع وتنظيماته والذي يقوم بها القيصر أو بالتعبير المعاصر الدولة الحديثة .
لكن البابا شنودة الذي خرج على تقاليد الكنيسة المصرية التاريخية وتدخل بقوة في السياسة وطور المؤسسة الكنسية عبر طرحها كمؤسسة جامعة هي في تقديرنا بديلاً لمؤسسة الدولة وطرح نفسه كرمز ديني بديلاً عن القادة السياسيين ، ومع تنامي الروح الطائفية لدى الأقباط المصريين سمع المسلمون المصريون عن مطالب مستفزة مثل حق الأقباط في دخول جامعة الأزهر رغم أن لديهم مدارسهم الدينية التي لا يشاركهم فيها أحد ، هذا بالإضافة إلى المطالبة بزيادة دور العبادة والترفيع إلى المناصب العليا وغيرها ، وعزز قوة المطالب الطائفية القبطية التدخل الأمريكي في العالم حتى قبل أحداث سبتمبر للدفاع عن الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي عبر إنشاء إدارة في وزارة الخارجية الأمريكية لما أطلق عليه حماية الحقوق الدينية لغير المسلمين وهي تصدر تقاريرها السنوية وكان آخرها التقرير الذي صدر منذ شهرين وطالب بمطالب طائقية للأقباط وللشواذ باعتبارهم أقلية من وجهة النظر الأمريكية ، وبدا أن الأقباط في مصر يتعززون بالتوجهات الأمريكية التي ترفع شعار حماية الأقليات للتدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الإسلامي ومنها مصر وهو ما هدد أسس التعايش التاريخية بين المسلمين والأقباط في مصر وظهرت مواجهات مسلحة غير مسبوقة مثل أحداث قرية الكشح في صعيد مصر بمحافظة سوهاج .
وكان مثيراً في الأسبوع الماضي أن يدلي البابا شنوده بتصريحات ذات طابع طائفي في لقائه بسيدات ليونز مصر ، كما كان ملفتاً أن تثور شائعات حول قيام مفيد فوزي المذيع والكاتب الصحفي بالتحريض على الداعية الإسلامي الشاب "عمرو خالد" قادت إلى منعه من الخطابة والدعوة ثم سفره إلى خارج مصر تجنباً للمشاكل والاصطياد له في الماء العكر ، لكن ما كتبه مفيد فوزي في روز اليوسف المجلة ذات التوجه العلماني المعادي للحالة الإسلامية كان مفاجأة كبيرة لا يمكن فهمها في سياق تجرؤه على الداعية المسلم عمرو خالد بشكل مسفّ ومتبجح ووصفه له بأنه راسبوتين ، ثم تهليله لخلع "ميرنا المهندس" لحجابها ووصفه للحجاب بأنه حجاب العقل واعتباره أن عودة ميرنا للتبرج هو عودة مصر لروحها ، ويتساءل ناشطون إسلاميون مصريون: إذا كان الدين لله والوطن للجميع فلماذا يتدخل مفيد فوزي وهو قبطي في الشأن الإسلامي؟ ولماذا يتهجم على رموز إسلامية لا يصح له ولا يليق به أن يقحم نفسه فيها ؟
خطاب طائفي جديد :(49/42)
في حوار نشرته جريدة الأسبوع المصرية المستقلة مع البابا شنودة على صفحة كاملة للاستفهام حول تصريحات شنودة عن ضروة تمثيل الأقباط النسبي في مجلس الشعب والنقابات والاتحادات وهي مؤسسات يجري التمثيل فيها بالانتخاب الذي يشارك فيه الجميع بحرية كاملة ويعد أمر المطالبة بالتمثيل النسبي مطلباً طائفيا وخروجا على التقاليد الديموقراطية التي تجعل من صندوق الانتخابات الوسيلة الوحيدة للاختيار قال البابا : "حين جاءني السؤال وأنا في نادي الليونز عن الانتخابات كنت أمام أحد أمرين إما أن أتكلم أو يقال البابا يعتذر لضغوط عليه من الدولة حتى لا يتطرق إلى موضوع من هذا القبيل وهذا أمر لا أقبله وليس في صالح مصر!! وعليه تكلمت بهدوء حول هذه النقطة وتكلمت بهدوء حول نقطة واحدة وهي انتخابات مجلس الشعب وقلت أن 444 عضواً لم ينجح منهم أحد من الأقباط سوى ثلاثة قبل منهم اثنان وفصل الثالث (رامي لكح بسبب ازدواج جنسيته ) ، وحين سألته الصحيفة عن أن هذا قد يفهم منه التفريق بين عنصري الأمة قال : أنا لا أصطاد في الماء العكر ولكن لا تنسي أنني أيضاً أمثل مصلحة قطاع معين من الشعب يريد أن ينال حقوقه !! وأضاف: بل بالعكس أرى كلامي يريح الناس حيث سيجدون متنفساً لهم بدلاً من شعورهم بالكبت وسيرتاحون لمجرد أن إنساناً يتكلم باسمهم !!
وعن عدد الأقباط قال: إن الكنيسة وحدها هي التي تعرف العدد وقال : لا أحب التطرق إلى العدد حتى لا يقال أنني أطالب بحقوق سياسية تتماشي مع النسبة العددية للأقباط ولكننا مع ذلك نزور شعبنا ونقوم بزيارات رعوية لكل أفراد شعبنا بقصد العناية به روحياً وبالتالي نعرف كم تبلغ نسبة مواطنينا غير أننا لا نجاهر بها وبالتالي لا نطالب بحقوق تتلاءم مع هذه النسبة !!
وكان تصريح البابا شنودة في نادي الليونز ومن قبله نادي الزهور استغلته جماعات قبطية متطرفة في المهجر وطالبت الكونجرس الأمريكي بالتدخل ضد مصر إعمالاً لقانون الاضطهاد الديني، كما طالبوا بخمسين مقعداً في البرلمان للأقباط كما نشرت جريدة الأسبوع في حوارها مع البابا شنوده .
وفي الواقع فإن الخطاب الطائفي للبابا بهذا الوضوح والصراحة هو أمر جديد لم يكن معروفاً في خطابه الذي كان يغلب دائما شعار الوحدة الوطنية وأن الأقباط جزء من النسيج المصري لا يصح حتي وصفه بالأقلية ، وهو ما جعل بعض المراقبين يفسر هذا التحول بما يمكن أن نطلق عليه التعامل مع الواقع الجديد الذي يروج له الأمريكان وهو ما يصفونه "بالشرق الأوسط الجديد " الذي سيكون عصر صعود الأقليات كأحد آليات التفتيت والتجزئة للمنطقة .
اقتحام قبطي لشأن إسلامي :
كانت اللغة التي كتب بها مفيد فوزي عن الترحيب بعودة ميرنا المهندس لغة فيها قدر من الجرأة الزائدة التي تصل لحد اعتبره بعض المراقبين وقِحاً ، فمن حقه كما يحلو له كعلماني متأمرك أن يصفق لعودة فنانة إلى التمثيل ولكن أن يقتحم مناطق حساسة تتصل بدين أغلبية الشعب المصري وهي الهجوم على الحجاب وعلى رمز دعوي مهم كعمرو خالد هو المستفز ولو فعلها مسلم وتدخل في شأن قبطي خاص وذي طابع ديني لقامت الدنيا ولم تقعد .
كان أسلوب فوزي غوغائياً ومنافياً لتقاليد الكتابة المهنية والأخلاقية فقد كتب يقول تحت عنوان "بعد أن رحل راسبوتين" : لم أكن أتخيل أن رحيل "دون جوان" الدعوة الفضائية عن مصرنا سوف يعيد تلك الضحكات الرائعة إلى وجنتيها ،لم أكن أحلم أن يغادر (البؤس والحزن وغطاء الرأس والعقل) هذه الفتاة الشقية المذهلة … كان يجب أن يذهب هذا الراسبوتين المتأنق الذي يجيد التمثيل المسرحي .. كان يجب أن يذهب حتى تعود الضحكات إلى الغمازتين .. حتى تعود مصر التي نعرف .. وبعودة ميرنا المهندس إلى فنها ونفسها وجمهورها ومعجبيها تكون مصر قد بدأت تعود لمصر .. مصر الوحدة الوطنية .. مصر في مواجهة قوى الظلام .. والغيبيات ودعاة الأسموكن ويختتم بقوله : "أهلاً ميرنا فقد طال غيابك وبانتظار عبير وغادة وموناليزا وشادية".
هذا نموذج من خطاب لعلماني قبطي يرفع شعار "الوحدة الوطنية والدين لله والوطن للجميع"، ونحن بدورنا نتساءل هل الوحدة الوطنية هي الباب الملكي الذي يعطي العلمانيين وغير المسلمين صكا بالهجوم على الإسلام وعلى رموزه ودعاته ؟ وهل الوحدة الوطنية تعني أن يكون الإسلام فقط بعيداً عن الواقع والحياة .؟
لكنه بصرف النظر عن تهويمات العلمانيين وأضرابهم من حاملي الخطاب الأمريكي الطائفي الجديد فإن الجماهير في مصر مقبلة على إسلامها بقوة ، والإسلام هو وحده القادر على حماية الوحدة الوطنية لمصر بمعني وحدة التراب ووحدة الأمة مسلمين وغير مسلمين في وجه الطوفان القادم الذي يمثل خطراً على الجميع
==============(49/43)
(49/44)
المسلمون في أمريكا بين الوطنية والخوف
الاحد :21/04/2002
(الشبكة الإسلامية)
بعد الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن ساهمت المنظمات الإسلامية في الحملة الأمريكية ضد الإرهاب ، فأصدرت بيانات إدانة للهجوم الإرهابي ، ونظمت مراكز للتبرع بالدم وفتحت باب التبرعات المالية لضحايا الانفجارات .
ونقل التليفزيون ونشرت الصحف صور تلاميذ وتلميذات المدارس المسلمين وهم يحملون شموعًا دليلاً على الحزن على الضحايا ، وكان كثير من المدارس نظمت تجمعات لهذا الهدف .
وأيضًَا نقل التليفزيون ونشرت الصحف صور أئمة بعض المساجد وهم يدينون الهجوم الإرهابي في خطب الجمعة ، وأيضًا صور المسلمين يصلون جماعات أو أفرادًا ، وأجريت مقابلات كثيرة مع هؤلاء .
وكان أكبر حدث بالنسبة للمسلمين الأمريكيين هو زيارة بوش للمركز الإسلامي في واشنطن ،حيث كان في استقباله د. عبد الله خوج المدير السعودي للمركز ، وقادة المنظمات الإسلامية في واشنطن .
وأيضًا الخطاب الذي ألقاه د. مزمل صديقي رئيس الدائرة الإسلامية في أمريكا الشماليةخلال تجمع ديني في الكاتدرائية الوطنية في واشنطن ، الذي حضره الرئيس بوش والرؤساء السابقون ، وكبار المسؤولين الأمريكيين .
لكن في الجانب الآخر ، واجه بعض المسلمين حملات عدائية بسبب الهجوم الإرهابي . فخلال أسبوعين بعد الهجوم قتل أربعة : مسلمان ، وواحد مصري قبطي ، وواحد هندي من السيخ (ظن القاتل أن السيخ مسلمون ؛ لأنهم يضعون عمامات على رؤوسهم حسب تقاليد دينهم) .
وشن هجوم على عدد من المساجد والمراكز الإسلامية في مختلف الولايات الأمريكية ، وخاصة في كاليفورنيا وتكساس وميشيجان ، حيث توجد تجمعات كبيرة للمسلمين .
كما سجل مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) في واشنطن أكثر من أربعمائة حالة اعتداء على مسلمين ( بسبب ذقونهم وملابسهم الإسلامية) ومسلمات ( بسبب لبس الحجاب أو الملابس الإسلامية) .
وتطوع عدد من المحامين للدفاع عن بعض ضحاياهذه الاعتداءات وناشد عدد من المنظمات الأمريكية التي تعمل في مجال حقوق الإنسان ، مثل الاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية ، الشعب الأمريكي على احترام حقوق المسلمين وضمان سلامتهم والدفاع عن حقوقهم .
لكن هناك حوادث فردية تستمر من وقتٍ لآخر .
=============(49/45)
(49/46)
لهفي على الإسلام ... وقلبي على ديني
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
نشرت جريدة الرأي الأردنية يوم الاثنين 29 / صفر / 1417 هجري الموافق 15 / 7 / 1996م مقالة للمشرع البرلماني بسام العموش، بعنوان "قلبي على وطني" ملأها بالتخليط والباطل والضلال.
فكان مما قاله فيها: "ومن أخطر الهموم الوطنية التي رأيتها الأسبوع الماضي وهي ظاهرة موجودة قي بقية المدن، ظاهرة التكفيريين الذين ينظرون بنظارات سوداء الى المجتمع وهم خوارج هذا العصر حيث لا يحصرون أحكامهم في أهل الكفر الصراح البواح بل يسحبون ذلك على من يخالفهم الرأي في دخول البرلمان أو المشاركة في الحكومات..".
ثم ذكر كلاماً يدافع فيه عن رأس الحكومة العلمانية التركية الجديدة وهذا لا يعنيني في هذا المحل ولعلنا نرد عليه في موضعه الملائم.. الى أن قال: "ومثلهم أولئك الذين يطلقون على أنفسهم "الأحباش" وهم صنف من التكفيريين يشنون حملتهم على شيخ الإسلام ابن تيمية ومفكر الدعوة الشهيد سيد قطب، وإذا حاول هؤلاء أن ينالوا من هؤلاء العظام فإن محاولتهم فاشلة لكنها تستحق من الحكومة أن توقفهم عند حدهم لإنقاذ المساجد من الفوضى التي يحدثونها" أهـ.
والمقال على كل حال - كما هو حال كتابات القوم - لا تميزه رائحة الإسلام الزكية بل تفوح منه رائحة الوطنية المنتنة، فعنوانه "قلبي على وطني".. وليس على ديني.. وقد ملأه بالجهالات والضلالات كقوله: "ينص الدستور الأردني على أن دين الدولة الإسلام ومادام الأمر كذلك فإن حماية الأخلاق واجب دستوري وقبل ذلك واجب شرعي " انتهى.
فتأمل اعتبارهم للواجب الدستوري ومناداتهم به، وتباكيهم عليه، وإن كان ذلك دينهم وشرعهم الذي يقسمون على احترامه ويشرعون من خلاله، فلماذا يغضبون إذا ما بيّنا أو بين بعض إخواننا حكمهم في دين الله.
وقوله: "وقد بدأت مظاهر غير طبيعية تظهر على أرضنا الأردنية لا علاقة لها بوطن ولا دين ولا خلق" أهـ.
فتأمل تقديمه للوطن على الدين وكذلك قوله في بداية كلامه الأول: "ومن أخطر الهموم الوطنية!!" أهـ.
فهذا كله لا شك من طمس البصائر وعمى القلوب.. ومع هذا فهو ليس مرادنا إذ قد رددنا على أمثاله في أماكن أخرى متفرقة، أنظر على سبيل المثال "كشف الزور في إفك نصوص الدستور"، و "الفرق المبين بين توحيد المرسلين وتوحيد الوطنيين".
وإنما مرادنا هنا الرد على تخليطات المذكور في تطاوله على أهل التوحيد وتسميته لهم بالتكفيريين ومماثلته لهم بالأحباش الضالين المضلين الذين يكفرون شيخنا؛ شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من دعاة الإسلام.
وليس بغريب ولا عجيب أن نقرأ مثل هذا الكلام لأمثال هذا الرجل، خصوصاً في زمن اعتلا فيه الرويبضة المنابر، وسودوا الأوراق والصحائف، وصار كل أحد يتكلم في دين الله ويخوض، حتى المتردية والنطيحة والموقوذة التي نطحها ووقذها الطاغوت بشركه...
فكيف إذا كان كلام الموحدين يمسه ويمس باطله، إذ هو نائب عن الشعب بالتشريع.. وقد غاظه وحرّق كبده أن رأى التوحيد والبراءة من شرك القوانين والبرلمانات التشريعية ينتشر بين الشباب رغم أنوف الطغاة.. فضاقت عليه وعلى أمثاله الأرض بما رحبت لأنه يعرف أن هذه الدعوة العظيمة النظيفة التي هي خلاصة دعوة الرسل وقطب رحاها، تعري باطله وتكشف إفكه، وتظهر زيفه في دفاعه عن البرلمانات الشركية والمشاركة بالحكومات الكفرية..
حتى بلغ به الأمر في أخر مقاله أن يحرش الحكومات ويألبها عليهم، بعد أن خلط بينهم وبين الأحباش الضلال.. وهذا مركب العاجز الجاهل الذي يعجز عن مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.. فيفزع الى السلطان.
ورحم الله من قال في وصف أمثاله:
ما عندهم عند التناظر حجة ……أنّى بها لمقلد حيران
لا يفزعون الى الدليل وإنما ……في العجز مفزعهم الى السلطان
ثم أي حكومة هذه التي يفزع إليها ويستنصر بها على الموحدين وغيرهم ممن وصفهم بالتكفيريين كي توقف فوضى المساجد؟
أليست هي نفسها الحكومة المعطلة لشرع الله؛ المحاربة لدين الله..الموالية لملل الكفر من يهود وغيرهم المكممة لأفواه الدعاة المرخصة والحامية لحرية الكفر والإلحاد والاستهزاء بدين الله؟ فيتعامى هذا الأعمش عن هذا كله..
ثم يستنصر بها على من وصفهم بالتكفيريين.. فانها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
ويقول المشرع المذكور: "ظاهرة التكفيريين الذين ينظرون بنظارات سوداء الى المجتمع" أهـ.
أقول لا أدرى ما لون نظاراتك التي تنظر أنت بها إلى المجتمع والى الموحدين وأنصار الدين فتراهم خوارج وتكفيريين.. أليست هي نظارات المجالس الشركية التشريعية التي وزعها عليكم طواغيت الكفر.. أليست هي نظارات الدستور وقوانينه التي أقسمتم على احترامها وتشرعون من خلالها.. وتطالبون بتحقيقها.. وتتباكون على واجباتها؟
أما الموحدون الذين يصفهم أمثالك بالتكفيريين فهم لا ينظرون الى المجتمع إلا بمنظور الشرع ومنظور الكتاب والسنة ولذلك فلا يكفرون المجتمع جملة كما يحاول من على طريقتك أن يصفهم..(49/47)
ولكنهم إذا ما تعرضوا لهذه الحكومات المعطلة لشرع الله المحاربة لدين الله وبينوا حكمها في دين الله وحكم من تواطأ معها على دينها الكفري - الديموقراطية والقوانين الوضعية - الذي أناط الحكم والتشريع للعباد لا لرب العباد.. كما في المادة (25) من دستوركم الكفري.. فعند ذلك تحاولون جاهدين تشويه دعوتهم واتهامهم بأنهم ينظرون الى المجتمع بنظارات سوداء وأنهم يكفرون الناس ونحو ذلك مما يتكرر في مقالاتهم.
وكل موحد يفهم دينه ويعرف توحيده لا يكفر إلا من كفره الله ورسول صلى الله عليه وسلم كالذين يتخذون مع الله أنداداً يصرفون إليهم أي نوع من انواع العبادة سواء كانت سجوداً أم ركوعاً أم دعاءً أم تشريعاً.. إذ كل من صرف التشريع المطلق لغير الله تعالى فقد أشرك وعبد غير الله واتخذ ذلك المشرع رباً وشريكاً مع الله.. قال تعالى منكراً على المشركين والمشرعين: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.."، وقال سبحانه: "ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار.."، وقال عز وجل: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..".
وقد بّين صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم واتخاذهم أرباباً لم تكن بالسجود لهم ولا بالركوع ولكن في متابعتهم في التشريع.. وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضيع أخرى فليراجعها من شاء المزيد...
ثم قال المشرّع الأعمش:"وهم خوارج هذا العصر حيث لا يحصرون أحكامهم في أهل الكفر الصراح البواح"..
أقول: وعلى من خرجوا يا أيها الحبر الفهامة؟!
أتراهم خرجوا على علي بن أبي طالب.. أم على عثمان بن عفان أم على خليفة راشد محكم لشرع الله.. أين عقلك يا أعمش البصيرة؟
ثم أنت أيها "الدكتور" لا أظنه يخفى عليك أن أوضح وأشهر صفات الخوارج التكفير بالمعاصي الغير مكفرة.. فبأيّ معصية من ذلك، كفّر الموحدون الذين تنقم عليهم براءتهم من شرك الطواغيت؟
أهو ما أنكرته عليهم بقولك بعد ذلك: "حيث لا يحصرون أحكامه في أهل الكفر الصراح البواح بل يسحبون ذلك على من يخالفهم الرأي في دخول البرلمان أو المشاركة في الحكومات " أهـ.
فهل هذا تكفير بالمعاصي؟.. أم تكفير بالشرك والتنديد؟ اهذا الذي تنقمه على الموحدين؟ أتنقم عليهم أن بينوا حكم الله في هذه البرلمانات وهذه الحكومات؟
فإنه بيت القصيد ورأس البلاء عندكم.. وما شن هذا غارته على الموحدين واتهمهم بالتكفير ووصفهم بالخوارج إلا من أجله.. فهو يمسه ويمس كل من سلك طريقته ممن لبّسوا على العباد دينهم وشوهوا توحيدهم باستصلاحاتهم العقلانية واستحساناتهم الشهوانية حتى بلغ بهم الحال أن يرقعوا لأئمة الكفر ويجالسوهم ويؤاكلوهم ويشاركوهم بالتشريع والحكم بغير ما أنزل الله.
وأما قوله: "لا يحصرون أحكامهم في أهل الكفر الصراح البواح":
فلا أدري ما هو الكفر الصراح البواح عندكم؟ هلاّ دللتنا عليه؟ إنكم يا معاشر من لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ولا من التوحيد إلا رسمه، ليس في قاموسكم شيء اسمه كفر ولا تعرفون الكفر البتة.. ولا حتى "الكفر بالطاغوت" الذي أوجبه الله على عباد.. كشرط للنجاة فقال تعالى: "قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".
نعم.. لعلكم تكفرون اليهود لأنه موضوع وطني لا بد منه أما غيرهم.. وحتى النصارى فإن أكثركم آخوهم وجالسوهم وصاحبوهم وصاروا معهم في خندق واحد هو خندق الوحدة الوطنية الوثنية(1).. فأي كفر بواح صراح تتحدث عنه يا هذا؟
واعلم أخي الموحد؛
أن المقال المذكور محشو بالضلال.. وما هذه الكلمات إلا إشارة عابرة ووقفة سريعة مع بعض ما جاء فيه من التطاول على الأخوة المتبرئين من برلمانات الشرك وحكومات التنديد، وإلا فلو أردنا أن نتبع ما ورد فيه من ضلال لكانت أوراقنا هذه أضعاف أضعاف ما هي عليه.. ولولا أنه تعرض فيه للموحدين ووصفهم بالتكفيريين والخوارج لما تنزلت في الرد عليه.. إذ تخليطات القوم ليس لها آخر، وكل يوم نقرأ لهم من ذلك الشيء الكثير.. فنربأ بأنفسنا أن ننشغل بهم.. مخافة من تهميش صراعنا والإنحراف عن خط دعوتنا الأصيل..
فحذار.. من قذف الناس بالحجارة يا من بيته من قوارير..
وحذار.. من الإفتراء على الموحدين والتدليس والتلبيس حول دعوتهم.. يا أصحاب العورات المكشوفة.. فو الله الذي لا إله إلا هو.. إننا لا نحب الإنشغال بكم.. فأمركم لا يخفى علينا من جذوركم الى يومكم هذا (2).. ولكن الناس تغتر بلحاكم وشعاراتكم.. ونحن نربأ بأنفسنا أن يتحدث الناس أننا تركنا أهل الأوثان واشتغلنا بمن ظاهره الإسلام، فلا تلجئونا إلى شيء غير هذا.. ولا تضطرونا إلى أمر نحن له كارهون..
فأحسن من هذا أن ندعوكم الى الله عز وجل وإلى ترك هذا الشرك الصراح القائم على احترام دساتير الكفر والتشريع من خلالها وإلى نبذ دعوة الوطنية الجاهلية التي تآخي بين الكفار والمسلمين وتوحد بين ملل الكفر على اختلاف ألوانهم وتوجهاتهم.. وأن تكفوا عن التدليس والتلبيس على الخلق في أمر دينهم..(49/48)
وقبل ذلك كله ندعوكم إلى أن تجلسوا وتتعلموا معنى " لا اله إلا الله" كلمة التوحيد.. وتفهموا لوازمها وتتعلموا نواقضها.. فإن أكثركم ورب الكعبة لا يفقهها ولا يعرف معناها بل هو يتساقط في نواقضها مع أن الله تعالى قد أوجب تعلمها قبل تعلم الصلاة والزكاة وسائر الأركان.
فتوبوا إلى الله وأصلحوا فالرب يقبل توبة الندمان.. وحذار.. أن تأخذكم العزة بالإثم.. وتستكبروا عن قبول النصح إذا جاءكم من غير الحزب أو الجماعة.
هذا بلاغي لكم والبعث موعدنا ……وعند ذي العرش يدر الناس ما الخبر
وكتب؛ أبو محمد المقدسي
سجن سواقة
29 / صفر / 1417
من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام
==================(49/49)
(49/50)
الوطنية في الإسلام
الحمد لله جعلت الفردوس لعبادك المؤمنين نُزُلا؛ فلك الحمد أولا وآخر وظاهرًا وباطنًا، الحمد لله الذي يسَّرها لنا، ويسَّر الأعمال الصالحة لنا؛ فلم يتخذ السالكون إلى الله سواها شغلا وسهل لهم سبلها، فلم يسلكوا سواها سبلا، خلقها قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجدهم، وحفَّها بالمكاره ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وأودعها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفوق ذلك، ((خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً)) (الكهف:108).
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أدَّخرها لي ولكم إلى يوم المصير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته وفضله ومنِّه وكرمه، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بمنِّه وكرمه ورحمته، أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، شرح الله به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا :
قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِهِ *** شُؤْمًا لظالِمِهِ وللمظلومِ
لمَّا أَطَلَّ محمدٌ زَكَتِ الرُّبا *** واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيمِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد…
أيها المسلمون : لقد ُفطر الإنسان على أمور عديدة من تلك الأمور :
أن يحب المرء ماله ، وولده ، وأقاربه ، وأصدقائه ، ومن هذه الأمور كذلك هو حب الإنسان لموطنه الذي عاش فيه ترعرع في أكنافه ، وهذا الأمر يجده كل إنسان في نفسه .
فحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا ُهوجم، ويغضب له إذا انتُقص.
ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإن حنين الرجوع إليه يبقى معلقاً في ذاكرته لا يفارقه، ولذا يقول الأصمعي: ( قالت الهند : ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات، الإبل تحن إلى أوطانها ، وإن كان عهدها بها بعيداً ، والطير إلى وكره، وإن كان موضعه مجدباً ، والإنسان إلى وطنه ، وإن كان غيره أكثر نفعاً ) .
وهذا الأمر - وهو حب الإنسان لوطنه - غريزة في بني الإنسان وجدها أفضل الخلق صلوات ربي وسلامه عليه: فقد أخرج الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لمكة : (( ما أطيبكِ من بلد، وما أحبكِ إلي، ولو لا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيركِ )) .[1]
فهو- صلى الله عليه وسلم - يحب مكة حباً شديداً كره الخروج منها لغير سبب، ثم لما هاجر إلى المدينة، واستوطن بها أحبها وألفها كما أحب مكة، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو أن يرزقه الله حبها كما في صحيح البخاري ( اللهم حبب إلينا المدينة ، كحبنا مكة ، أو أشد ) [2].
ودعا عليه الصلاة والسلام بالبركة فيها، وفي بركة رزقها كما دعا إبراهيم لمكة، ونلاحظ أن حب النبي- صلى الله عليه وسلم - متأثراً بالبيئة التي عاش فيها، فقد كان يحب مكة، ويحن إليها ثم لما عاش r في المدينة ، وألفها : أصبح يدعو الله أن يرزقه حباً لها يفوق حبه لمكة .
وكذلك كان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة لغزوة أو نحوها تحركت نفسه إليها : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة ، أوضع ناقته ــ أي أسرع بها ــ وإذا كانت دابة حركها )) رواه البخاري [3]، قال أبو عبد الله[4] : زاد الحارث بن عمير عن حميد ( حركها من حبها ) .
قال ابن حجر في الفتح:[5] والعيني في عمدة القارئ [6]، والمبارك فوري في تحفة الأحوذي [7]( فيه دلالة على فضل المدينة ، وعلى مشروعية حب الوطن ، والحنين إليه ) .
وفي صحيح البخاري : لما أخبر ورقة بن نوفل رسول ا صلى الله عليه وسلم أن قومه - وهم قريش - مخرجوه من مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أو مخرجي هم) . قال: ( نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي )) [8].
قال السهيلي- رحمه الله - : ( يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإن صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لحب الوطن وإلفه فقال أو مخرجي هم ) [9].
أيها الأحبة: إن الحديث عن الوطن والحنين إليه وحب الوطن يذكر المؤمن بالله - تبارك وتعالى - بالوطن الأول ألا وهو الجنة.. نعم ذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس ( وما أكثُر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) .
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: ( المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه التزود بما ينفعه عند العود ، فمن حين خلق الله آدم عليه السلام و ُأسكن هو وزوجته الجنة ثم أُهبط منها ُووعد بالرجوع إليها وصالحوا ذريتهما فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول وحب الوطن من الإيمان ) [10].(49/51)
قال ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية :
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم[11].
وقال أبو تمام :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزلِ
وكان على بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ،ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ) .
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: ( إن الدنيا ليست بدار قراركم كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الُرحلة بأحسن ما بحضرتكم من الُنقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنا : فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة همه التزود للرجوع إلى وطنه الأول) .
أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين ) [12].
ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار أينما حل منها فهو في دار غربة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) [13].
واعلم - أيها المؤمن - أن هذه الغربة سرعان ما تنقضي وتصير إلى وطنك ومنزلك الأول.
وإنما الغربة التي لا يرجى انقطاعها هي الغربة في دار الهوان.
حينما يسحب المرء على وجهه إلى جهنم - والعياذ بالله - فيكون بذلك قد فارق وطنه الذي كان قد هيئ وأُعد له ، وأُمر بالتجهيز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا الاغترار عنه ومفارقته له، فتلك غربة لا يرجى إيابها، ولا يجبر مصابها .
فأعظم حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكن الأبوين، ودار الخلد والنعيم.
قال الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)) [14].
وقال الرسول- صلى الله عليه وسلم - واصفا الجنة: (( لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا يبأس ، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه )) [15].
وفي الصحيحين: أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: (( أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك )) [16].
وفي الصحيحين أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (( في الجنة خيمةٌ من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن ))[17].
وفي الصحيحين قال رسول- صلى الله عليه وسلم -: (( إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ))[18].
وعند الترمذي - في باب صفة الجنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (( ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) .
وعند أحمد في مسنده قال رجل: يا رسول الله ما طوبى ؟ قال: (( شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)).
وقال رسول- صلى الله عليه وسلم - قال: (( ألا مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأُ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقامٍ أبداً ، في دارٍ سليمةٍ، وفاكهةٍ وخضرةٍ وحبرة ونعمةٍ، في محلة عاليةٍ بهية ))[19]
عباد الله: يقول ربنا - تبارك وتعالى - واصفاً لنا حقيقة الدنيا وحقارتها ودناءتها: حتى نستعد لها ونتأهب لدار القرار - جعلنا الله وإياكم وسائر المسلمين من أهلها - اللهم آمين .
(( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )) (الأنعام: 32).
وقال تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) (محمد: 36) .
وقال سبحانه وتعالى: (( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) (الحديد: 2) .
وعند البخاري أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال: (( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها))[20].
فحي على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها *** وحي على عيش بها ليس يسأم
أيا ساهيا في غمرة الجهل والهوى*** صريع الأماني عما قليل ستندم(49/52)
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده*** سوى جنة أو حر نار تبرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى *** كذاك علا فيه المهيمن يختم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر، وأشكره على نعمه وآلائه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد ألا إله إلاَّ اللَّه وحده لا شريك له على الرغم ممن نافق وجحد وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر ، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، ما اتصلت عين بنظر وأذن بخبر، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين وخلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية العشرة، وعن أصحاب بدر وأصحاب الشجرة، وعن عمي نبيك خير الناس حمزة والعباس وعن سبطي نبيك وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين وعن أمهما البتول فاطمة بنت الرسول، وعنا معهم بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين ، أما بعد:
عباد الله : وإنه مما ينبغي الحديث عن الوطن والحنين إليه أن نحذر من أُناس وفئة من الذين يدعون حب الوطن، ويدندنون دائما حول الوطنية وحب الوطن وضرورة الانتماء إليه، وهم أضر الناس على الوطن وأهله ، يريدون لنا الفساد والوقوع في شباك الفاحشة والرذيلة، ويهدفون إلى أمور منها :
** تقليص المواد الشرعية، وتقليل نصابها في الحياة الدراسية التعليمية
** منع تدريس النصوص التي تذكر أبناء المسلمين بعداوة اليهود والنصارى للإسلام وأهله، وطمس عقيدة الولاء البراء في المناهج التعليمية .
** يسعون جادين إلى الاختلاط في التعليم بين الرجال والنساء 0
** محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات، ويسعون جادين لموضوع قيادة المرأة للسيارة ، ودائما ما تجدهم يرددون: حقوق المرأة ، المرأة إنسانة ونحو هذه العبارات .
فهل من الوطنية الحقيقية والانتماء الجاد للوطن حبّ إشاعة الفاحشة في مجتمعات المسلمين: بدعوى الترفيه، والتنشيط السياحي، وعبر بوابة الاحتفالات الموسمية، والفعاليات العائلية ؟ ! .
وهل من الوطنية إغراق المجتمعات بطوفان من الفضائيات المخلة بالآداب والحشمة والعفة، والتي لم تجلب للأمة إلا العار والدمار؟ ! .
وهل من الوطنية إغراق الأوطان الإسلامية بملايين السياح الأجانب من ذوي العقائد الوثنية أو اللادينية، فضلاً عن اليهود والنصارى فيتصدّع جدار الولاء والبراء، وتُلتقط الصور التذكارية الجماعية لمسلمين وكفار!! .
فهؤلاء أساءوا في إدراك الكيفية الحقيقية لحب الوطن، فجعلوها ألحاناً وترانيم، وطقوساً وشعارات لا تمت إلى الوطنية الصحيحة بصلة، فنشأت أجيالٌ هزيلةٌ في ولاءاتها، ساذجة في مخزونها الفكري بل والعاطفي!! .
فالحب الحقيقي للوطن هو الذي يُقدس العقيدة ويرسخها في الأجيال ، فينشأ عنها حب الوطن لإيمان أهله وإسلامهم، وخلو أرضهم من مظاهر الشرك والبدعة .
إنّ الحبّ الحقيقي للوطن لا يمت إلى هذه المظاهر بصلة، بل يتبرأ منها أشدّ البراء وأكدها .
إذ أننا لا نفهم الوطنية الحقّة إلا عقيدة راسخة ، ومجتمعاً موحّدًا، وشعباً عفيفاً وقيادة راشدة .
ولا نفهم الأمن إلا أمن التوحيد والإيمان، وأمن الأخلاق والشرف، وأمن المال والعرض والدم .
قال الرب - تبارك وتعالى-: (( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) (الأنعام:82).
أيها المسلمون: إنَّ الحب الحقيقي للوطن يتجلى في أمور منها:
1 - الحرص الأكيد، والعمل الجاد في نشر العقيدة الصحيحة لتعم أرجاء الوطن؛ كي يتمتع المواطنون بالإيمان الحقيقي بالله تعالى، ويصدقون في حُبه والاعتماد عليه وحده دون غيره، حتى إذا ما حاولت قوة في الأرض الاعتداء على دينهم وعقيدتهم أو استباحة أرضهم وأموالهم إذا بهم ينتفضون انتفاضة الأسد دفاعاً عن الدين والعقيدة، وذباً عن الأعراض والأوطان، معتمدين على الله تعالى دون غيره، موقنين بأن قوته الباهرة كفيلة بهزيمة أي عدو غاشم ، وعقر كل جواَّظ غليظ ، وقهر كل صائل أثيم !! .
2 -القضاء المحكم على أسباب الشر والرذيلة، وعوامل الخلاعة والميوعة التي تغرق المجتمع في أوحال الفساد والخنا، فتنشأ الأجيال الشهوانية العابدة لملذاتها ومتعها الرخيصة بحيث يتعذر عليها القيام بأدنى دور ذي بال يحفظ لها كرامتها وشرفها عند تعرضها للامتهان على يد عدو متربص وصائل حاقد .
إذ أن تجفيف منابع الفساد والفتنة هو الكفيل بصنع الرجال الحقيقيين المحبين لربهم ودينهم، المدافعين عن وطنهم المؤمن الموحد، بصدق وعزيمة.
3 - التواصل الحقيقي بين الأفراد والجماعات وإزالة أسباب التفرقة والخلاف بين أفراد المجتمع، وقيام روح النصيحة والتعاون والتكاتف في وجه التيارات القادمة.
4- الانتظام التام في المحافظة على الآداب الشرعية، والنظم العادلة المرعية التي تسعى إلى جمع الكلمة بين الراعي والرعية سمعاً وطاعة بالمعروف وأداء للحقوق والواجبات كل فيما له وعليه .(49/53)
5- وتتجلى المواطنة الصادقة في رعاية الحقوق واجتناب الظلم، وبخص الحقوق واحترام حق الغير، والسعي الجاد من كل مواطن مسؤول أو غير مسؤول لتأمين الآخرين على أموالهم وأنفسهم، ولا خير في وطنية تقدس الأرض والتراب وتهين الإنسان، فالوطن حقاً هو الإنسان الذي كرمه الله بالإنسانية وشرفه بالملة المحمدية .
6- وتتجلى كذلك في أداء الحقوق، بدأ من حق الوالدين والأرحام وانتهاء بحقوق الجيران والأصحاب والمارة، وكذلك الاستخدام الأمثل للحقوق والمرافق العامة التي يشترك في منافعها كل مواطن وأي مواطنة، تلك التي تكرس المحسوبيات، وتستغل النفوذ، وتتساهل في المال العام وكأنه كلا مباح أو فرصة سانحة لا تؤجل .
عباد الله: ليس الشأن في الوطنية هو الاهتمام بقشورها ومظاهرها الخارجية من تقديس لصورة أو علم مع امتهان أصولها الراسخة .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر اليهود والنصارى والشيوعيين، وكل من أعانهم وأيدهم، اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم، وخالف بين كلمتهم، واهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم ولِ علينا خيارنا واكفنا شر أشرارنا، اللهم اجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم لا تجعل حب الدنيا في قلوب بعضنا دافعاً له إلى ارتكاب المنكرات.
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[1] - أخرجه الترمذي في جامعه برقم : ( 3925 ) ، وقال عنه الترمذي : ( هذا حديث حسن غريب صحيح ) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم ( 7089 ) .
[2] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم : ( 1790 ) .
[3] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 1708 ) . ومعنى : درجات المدينة أي : طرقها المرتفعة جمع درجة .
[4] - أي البخاري .
[5] - ج3 / 621 .( فتح الباري شرح صحيح البخاري ) .
[6] - ج10 / 135 . ( عمدة القاري شرح صحيح البخاري ) .
[7] - ج 9 / 283 .( تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ) .
[8] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 3 ) .
[9] - نقله عنه ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري ج 12 / 359 .
[10] - نقله عنه ابن رجب الحنبلي في كتابه النفيس جامع العلوم والحكم ج 1 / 380 .
[11] - هذه مقطوعة من قصيدة ابن القيم الميمية ، وقد أشار إلى هذه الأبيات في كتابه إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان ج1 / 71 .
[12] - نقله عنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم ج 1 / 380 .
[13] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 6053 ) .
[14] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 6987 ) .
[15] - أخرجه الترمذي في جامعه برقم ( 2526 ) ، و أخرجه أحمد في مسنده برقم ( 8732 ) ، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع برقم( 3116)
[16] - أخرجه البخاري برقم ( 3164 ) ، ومسلم برقم ( 263 ) .
[17] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 4598 ) ، ومسلم برقم ( 2838 ) .
[18] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 3079 ) ، ومسلم برقم (
[19] - أخرجه ابن ماجه في سننه برقم ( 4332 ) ، وابن حبان في صحيحه برقم ( 7381 ) ،
[20] - أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 2643 ) .
=============(49/54)
(49/55)
حول مقولة؛ "حب الاوطان من الايمان"
[الكاتب: حامد بن عبد الله العلي]
هل حديث حب الاوطان من الايمان صحيح؟ وما حكم حب الوطن؟ وما حكم الذي يقول أنا وطني؟
* * *
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
هذا الحديث - حب الاوطان من الايمان - موضوع مكذوب على صلى الله عليه وسلم ولم يقله، ولا يجوز اعتقاده.
وأما حكم حب الوطن:
فحب الوطن؛ حب فطري، والإنسان يتعلق بالأرض التي عاش عليها، وأَلِف أهلها، وسهلوها، وجبالها، لأنها تحمل ذكرياته.
كما قال الشاعر:
وحبّب أوطان الرجال إليهم ……مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ……عهود الصبا فحنوا لذلك
وحب الوطن، هو مثل حب الإنسان، لولده، وقومه، وعشيرته، وزوجته، ومثل حبه لما هو جميل، فهذا الحب مغروس في جبلة الإنسان، وهو أمر فطري.
لكن إن كان الإنسان، لا يمكنه إظهار دينه في وطنه، فلا يتمكن من إظهار الصلاة والصيام مثلا، ويكره على إظهار شعار الكفر، فإنه يجب عليه الهجرة من ذلك الوطن، إلى حيث يمكنه إظهار دينه، إن استطاع، وإلا أخفى إيمانه حتى يجعل الله تعالى له سبيلا.
وهذه الهجرة واجبة عليه مع القدرة، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون}.
فإن آثر المسلم عدم إظهار دينه، بل أظهر بدل ذلك شعائر الكفر، وعرض نفسه للفتنة عن دينه، من أجل حبه لوطنه، ومشقة الهجرة منه، فآثر ذلك على الهجرة إلى حيث يمكنه إقامة دينه؛ فهو مرتد مشرك، شرك اتخاذ الأنداد، لأن الأنداد هي كل ما جذب الإنسان عن مقتضى حب الله تعالى وهو - أي مقتضى حب الله - الانقياد له وطاعته، سواء كان ما جذب الإنسان، عن مقتضى حب الله تعالى، هو الزوجة، أو العشيرة، أو الوطن، أو غير ذلك، فكل ما آثره العبد على الدين، وجعله مقدما في الطاعة والانقياد على طاعة الله تعالى، فذلك من اتخاذ الند لله تعالى، وقد قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله}.
فإن قدر على إقامة دينه، بحيث لا يمنع من الصلاة، ولا الصوم، ولا من إقامة شعائر الإسلام، لم تجب عليه الهجرة، لكن يستحب له أن يهاجر إلى حيث يكون إيمانه أقوى.
والخلاصة؛ أن الدين مقدم على الوطن، وحب الله تعالى وطاعته قبل حب الوطن.
ولكن هذا كله يقصد به الوطن، الذي هو الأرض التي عاش عليها الإنسان.
وليس المقصود الحدود السياسية التي وضعها المستعمر، فبلاد الاسلام هي كل بلد احتكمت إلى الشريعة الاسلامية، والواجب أن يكون للمسلمين نظام سياسي واحد؛ هو الخلافة، ولكن المقصود الارض التي عاش عليها الانسان، ونشا فيها، وفيها قومه وعشيرته، وموطن أجداده.
أما الوطن بمعنى النظام القائم؛ فإن كان نظاما كافرا، فهذا حبه رده عن الدين، وكيف يحب المسلم نظاما معاديا لله ورسوله، كما قال تعالى: {لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.. الآية}.
وإن كان نظاما إسلاميا قائما بالشريعة؛ فحبه من الإيمان، لان الحب هنا لرجال مؤمنين يقومون بأمر الله تعالى، لان النظام ما هو إلا رجال يحكمون، وحب المؤمنين من الإيمان.
وأما قول الرجل أنا وطني؛
فهو نسبة إلى وطنه، وكل إنسان يصح له أن ينتسب إلى وطنه.
أما الحكم على قائل هذه العبارة؛
فينظر إلى مقصده من قوله، فإن قصد أنه ينصر حقوق الناس ولا يغشهم فهذا معنى صحيح، وإن كان يقصد الولاء للنظام فينظر إلى حال النظام كما أسلفنا.
وإن كان هذا اللفظ يطلق في الغالب على معنى مخالف للشرع، فلا يجوز إطلاقه، ولكن الحكم على قائله لا يكون إلا بعد الاستفصال عن قصده.
والله أعلم
===============(49/56)
(49/57)
حكم حضور احتفالات النصارى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 3 / ص 127)
السؤالان الثالث والرابع من الفتوى رقم (9254):
س: الاحتفالات الوطنية الأرجنتينية والتي تقام في كنائسهم كعيد الاستقلال - الاحتفالات النصرانية العربية كعيد الفصح - فما حكم الاستقبال لبعض رجال الدين النصراني؟
ج: لا تجوز إقامتها من المسلمين ولا حضورها ولا المشاركة فيها مع النصارى ؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو // عضو // نائب رئيس اللجنة // الرئيس //
عبد الله بن قعود // عبد الله بن غديان // عبد الرزاق عفيفي // عبد العزيز بن عبد الله بن باز //
=============(49/58)
(49/59)
تأتيهم أوامر بأن يخطبوا عن الأعياد الوطنية فما العمل ؟
فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5524)
سؤال رقم 66225- تأتيهم أوامر بأن يخطبوا عن الأعياد الوطنية فما العمل ؟
أنا إمام وخطيب بأحد المساجد ، ونتلقى أحيانا أوامر من الوزارة تأمرنا فيها بالتطرق للأعياد الوطنية عندنا كعيد الفاتح ، وسيوافقه في التاريخ تاريخ غزوة بدر ، ونحن مأمورون بالتحدث عن المناسبة . فيقف الدعاة حيارى مع مثل هذه التعليمات ، إذا خاضوا فيها وُسِمُوا بأنواع من الأوصاف عند العامة مما يؤثر سلبا على دعوتهم ، مع إساءة الظن بهم . وإذا التزموا الأوامر ارتابوا مما يفعلون ، علما أن الجهة المسؤولة تعاقب الإمام الذي يمتنع من التكلم عن المناسبات الوطنية .
سؤالي : كيف يكون التصرف مع مثل ما ذكر آنفا ، وبخاصة في المناسبتين السابقتين ؟.
الحمد لله
أولاً :
لا حرج أن يتحدث الخطيب عن غزوة بدر أو أحد أو غيرها من الغزوات
، مذكرا بأنها حدثت في مثل هذه الأيام في عهد صلى الله عليه وسلم ، ولا يعد
هذا احتفالا أو إحداثا لعيد لم يشرع ، لأن هذا إنما هو تذكير للناس بتلك الغزوة ،
والأهم من ذلك أخذ العبرة والدروس المستفادة منها .
ثانياً :
أما المناسبات الوطنية ، فإن كان الناس يحتفلون بها ويتخذون
أيامها عيدا ، فليس للخطيب أن يشارك في ذلك ، وحديثه عن هذه المناسبات قد يفهم منه
السامع أنه مشارك ومؤيد لهذه البدعة .
ولكن إذا كانت الوزارة تعاقب من لا يتكلم عن هذه المناسبات ،
بالحرمان من الخطابة أو بغير ذلك من العقوبات المؤثرة ، فينبغي للخطيب أن يوازن بين
المصالح والمفاسد ، بين مصلحة بقائه معلما وداعيا وهاديا ، وبين مفسدة الكلام الذي
يقد يشوه صورته عند العامة .
والذي يظهر أن الخطيب الحصيف يمكنه أن يتناول هذه المناسبات
بكلام نافع يؤكد فيه على أسباب النصر ، وعوامل الهزيمة ، وسنن الله تعالى في قيام
المجتمعات ، وفي سقوطها ، ومفهوم الولاء والبراء ، وضرورة العودة إلى الدين ، وغير
ذلك من المعاني المهمة التي يحتاجها الناس .
وبهذا يكون ما يترتب على كلامه من المصالح أضعاف تلك المفسدة
المشار إليها ، وقد جاءت الشريعة بجلب المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتقليلها ،
وبارتكاب أهون الشرين ، كما هو مقرر ومعروف .
والله أعلم .
==============(49/60)
(49/61)
الوحدة الوطنية
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 17)
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ 4/8/1424هـ
السؤال
لدي إشكال وهو عن الوحدة الوطنية ماذا تعني؟ وعند أي حدّ تقف؟
وهل لرابطة الوطن اعتبار في الشرع؟ وهل ابن البلد أولى بالوظائف من الأجانب الموجودين في البلد نفسه؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا يصح أن تطلق على مفهوم (الوحدة الوطنية) حكماً عاماً مطلقاً لا يختلف باختلاف أحوالها ودلالاتها. وهذا الخطأ يقع فيه بعضنا في حكمه على بعض المصطلحات، فيطلق حكماً معيناً عاماً على مصطلحٍ ما مع أن مفهومه قد يختلف من شخص لآخر، وقد تختلف تطبيقاته من بلد لآخر.
ومنها مصطلح (الوحدة الوطنية)، فلم يكن مستغرباً أن تتباين مواقفُ الناس منها كما تباينت في أمثالها من الانتماءات والمصطلحات.
فانتصر لها أقوامٌ وحمَلوا لواءها؛ ليجعلوا منها الرابطةَ الوحيدةَ التي يجب أن تنداحَ لها كلُّ الروابط الأخرى، وأن يُلتغى أمامها كلُّ انتماء، فلا رابطة تجمع الناس إلا رابطة الوطن.
وكل ما وراءها فلا اعتبار له؛ لسبب واحد: هو أنه خارجٌ عن حدود الوطن، فالمواطن إنما هو ابن وطنه، ومنفعته يجب أن تكون مقصورة على وطنه، لا يعنيه شيءٌ وراءه.
ونابذها قومٌ آخرون بالعداوة المطلقة، فعادَوها وعدُّوها طاغوتاً ووثناً يعبد من دون الله من غير تفصيل لاختلاف الأحوال.
فهما موقفان يقعان من الخطأ موقعاً متقارباً، إذ لا فرقَ بين موقفٍ يُحِقُ الحقَ والباطلَ جميعاً، وآخرَ يُبطل الحقَ مع الباطل؟.
والموقف الصحيح في كل مسألة يمتزج فيها المعروف والمنكر، ويجتمع فيها الحق والباطل: أن يُفصلَ الحقُ عن أعلاق الباطل حتى لا يلتبس به.
ومسألة الوطنية مزيجٌ وأخلاطٌ من هذا وذاك: مِن الموافِقاتِ للشريعة والمخالِفات لها، والموقف الصحيح مما هذا شأنه: هو أن تُسبر مقتضياتها ودلالاتها بمسبار الشرع واحدةً بعد أخرى، فلا يُحكم على الشيء كله بخطأ بعضه، وإنما يؤخذ مسألة مسألةً لا جملةً واحدةً، فالحقّ يُحَقّ، والباطل يُبطلُ.
إنَّ الانتماء للوطن بمجرده لا محذور فيه، كما لا محذور في مجرد الانتساب للقبيلة، فقد كان صحابة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ينتمون إلى قبائلهم ويُنسبون إلى أوطانهم، فهذا أوسيٌّ، وذاك خزرجي، وهذا أنصاري، وذاك مهاجري، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعها منهم فلا ينكرها عليهم.
فمجرد الانتماء للتعريف وإثبات النسب ونحو ذلك ليس فيه معرَّة ولا مضرة، حتى إذا جاوزتْ ذلك واستحالت عصبيةً ورابطةً يُنتصر لها دون عصبيّة الإسلام ورابطتِه، كبحها - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم عنها، وقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ ...دعوها فإنها منتنة" رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
فمن المرفوض قطعاً ما يدعو إليه غُلاة الوطنية من أن يكونَ عطاءُ المواطِن واهتمامه قاصراً على وطنه، وولاؤه محدوداً بحدوده، وأن يَجعل له من قضايا وطنه شُغلاً عن كل شغل، فلا يعنيه شيء خارج حدود بلده.
لا بأس أن تكون اهتماماتُنا بقضايا وطنِنا أكثر، فالأقرب أولى من الأبعد، والأقربون أولى بالمعروف، ولكن لا يجوز أن تكون اهتماماتُنا محصورةً فيه فلا تُجاوِزُه قَيْد أُنمُلة. فأين هي إذاً وشيجةُ الدين، وأين هي حقوق المسلمين؟.
إن بعض مقتضيات الوحدة الوطنية لهو مما يقصده الإسلام ويدعو إليه؛ كالمحافظة على أمن البلاد وأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وحماية ثروات الوطن ومقدراته، وكالدعوة إلى المساواة والعدل، ومدافعة الظلم ومعاقبة الظَّلمَة، وهذا كله يدخل في باب التعاون على البر والتقوى.
أما حين تقتضي الوحدة الوطنية أن يحب المواطن أبناء وطنه كلهم على السواء بجامع الانتماء للوطن نفسه بلا اعتبار للدين فهذا لا يجوز؛ ففي هذه المحبة تمييع لعقيدة البراء، وتضيعٌ لعقيدة الولاء. إذ يقتضي ذلك أن يستوي في المحبة والولاء مسلمهم وكافرهم، بَرّهم وفاجرهم، وهذا ما لا تقرُّه الشريعة.
إننا حين نحب أحداً من أبناء وطننا فإنما نحبه لأنه مسلم، لا لأنه مواطن. وحين نكره أحداً فلأنه كافرٌ، لا لأنه من وطنٍ آخر. ولكن محبتنا لأحدٍ ما لا تدفعنا إلى أن نسكت عن أخطائه أو نعينه على ظلمه. وكرهنا لأحدٍ بسبب كفره أو انتمائه لطائفة ضالّة ـ سواء كان من وطننا أو من غيره ـ لا يحملنا على أن نعتدي عليه، أو نبخسه حقه، أو نمتنع عن نصرته إذا ظُلِم.
والوحدة الوطنية تفرض فيما تفرضه حمايةَ حقوق الأقليات والتعايش معهم، وهذا حقٌ سبق أن دعا إليه الإسلام قبل أن يعرف الناس مفهوم الوطنية والمواطنة، ولكن حمايته لحقوق الأقليات لم تكن تعني إقرارهم على السخرية بشعائر الإسلام، أو سب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو المجاهرة بما يمنع الإسلام أن يُجاهر به بين المسلمين.(49/62)
الوحدة الوطنية تصبح واجباً لا مناص منه حينما يتهدد البلاد خطر خارجي متمثل في تحالف صهيوني صليبي يريد أن يهيمن عليه ليسلب ثرواته وخيراته، وليجهز على ما تبقى فيه من قيم الإسلام وشعائره.
وإنما كانت حمايته لحقوقهم تعني عصمة أنفسهم وأموالهم، وتحريم الاعتداء عليهم واضطهادهم وإيذائهم، وهو يمنحهم حق ممارسة شعائر دينهم في بيوتهم وأحيائهم بشرط ألا يؤذوا مشاعر المسلمين، أو ينالوا من الإسلام بسوء، فليس لأحد حقٌ أن يسخر بشعيرة من شعائر الإسلام، أو يسعى بنشر الكفر والبدع بين المسلمين.
لقد عاش أهل الذمة في بلاد المسلمين قروناً طويلةً يمارسون شعائر دينهم في بيوتهم وأحيائهم، فيشربون الخمر ويأكلون لحم الخنزير، ويفعلون غير ذلك مما يستحلونه في دينهم. ولكنهم ظلوا ممنوعين أن يجاهروا بذلك بين المسلمين، أو يدعو أحداً منهم إليه.
إن الوحدة الوطنية لوطن من أوطان المسلمين لهو جزءٌ من وحدة الأمة، وما لا يدرك كله لا يترك جُلّه. فالسعي في وحدة الوطن على النحو الذي لا يقوِّض الولاء والبراء ولا يحجِّمه ليس سعياً في هدم وحدة الأمة ولا يناقضها أو يناهضها، بل هو سعيٌ في تحقيق جزءٍ من وحدة الأُمة، فهو مندوبٌ إليه من هذا الوجه.
والرابطة بين أهله وأفراد شعبه لا شك أنها رابطة ممدوحة إذا كانت منضويةً تحت رابطة الدين، وكانت تعاوناً على البر والتقوى ونصرةً للحق وأهله ومناوأةً للباطل وأهله.
والمقصود أن الوحدة الوطنية ليست باطلةً بإطلاق ولا حقاً بإطلاق، بل فيها الحق الملتبس بالباطل، وفيها المعروف المختلط بالمنكر.
أما السؤال عن ابن البلد: هل هو أولى بالوظائف من الأجانب المنتمين إلى جنسيات أخرى؟ فلابد عند الجواب أن تؤخذ المسألة في ظل ملابساتها وظروفها الحالية، فإنه قد حُدّت الحدود السياسية بين الدول، وقننت القوانين في الإقامة والاستيطان، واستُحدِثت الجنسيات، وصارت هجرة الإنسان مقيدة بشروط وضوابط وأعراف.
ومن الإشقاق أن نقول لشخص لا يجد عملاً في بلده الذي يفد إليه العمّال من البلاد الأخرى ـ أن يخرج من بلده هذا إلى بلد أخرى لعله أن يجد فيه عملاً.
ومن المحزن حقاً أن توجد البطالة في بلدٍ يعد من أغنى البلاد الإسلامية، وأسباب الظاهرة كثيرة، لا يعنينا أن نُفيض فيها ونسهب في عدِّها وإحصائها، ولكن يعنينا أن من جملة هذه الأسباب هو إغراق البلد بالعمالة الوافدة الرخيصة، والتي لا تمانع أن تعمل بأبخس الأثمان، ولو براتبٍ زهيد لا ينهض بأعباء الحياة وتكاليف المعيشة، لأن العامل إنما جاء ليجمع لا ليقيم، ولأنه يقيس راتبه (الزهيد) بقوته الشرائية في بلده الأصلي، لا بقوته الشرائية في البلد الذي يعمل فيه.
ولا شك أن مساواة هذا العامل بابن البلد فيها مضارة به؛ لأن هذا الراتب الزهيد لا يفي بمتطلبات الحياة الضرورية والحاجية، فكيف سيحصل ابن البلد على عمل براتب يفي بمتطلبات الحياة الحاجية إذا كان التاجر يجد من يعمل لديه بأجرة أقل ؟!
إن فتح المجال للوافد للعمل ليكون مساوياً للمواطن في الاستباق للفرص الوظيفية المتاحة قد يبدو مساواةً عند أول وهلة، غير أنه في حقيقة الأمر منافسة غير متكافئة بين الطرفين، والمستبق الغالب فيها هو بلا شك الوافد؛ لأنه سيقبل بالأجر الأقل الذي لا يفي بالتكاليف المعيشية لابن البلد.
إذاً المنافسة غير متكافئة الأطراف، والمتضرر منها بالتأكيد هو المواطن.
ويمكن أن يستأنس لكون المواطن أحق بوظائف بلده من الوافد بحديث معاذٍ رضي الله عنه لما بعثه الرسو صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فكان مما قال له: "فإن هم أجابوك لذلك ـ أي للصلاة ـ فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" رواه البخاري (1395)، ومسلم (19) فيمكن أن يُستفاد من هذا الحديث أن فقراء البلد هم أولى بزكوات أغنياء بلدهم من فقراء البلاد الأخرى.
قال ابن قدامة (المغني 2/283): (روي عن عمر بن عبد العزيز أنه ردّ زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام , إلى خراسان . وروي عن الحسن والنخعي أنهما كرها نقل الزكاة من بلد إلى بلد , إلا لذي قرابة. وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة . ولنا , قول صلى الله عليه وسلم لمعاذ - رضي الله عنه -: "أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم , فترد في فقرائهم" (سبق تخريجه) . وهذا يختص بفقراء بلدهم . ولما بعث معاذ - رضي الله عنه - الصدقة من اليمن إلى عمر - رضي الله عنه - , أنكر عليه ذلك عمر- رضي الله عنه -, وقال : لم أبعثك جابياً , ولا آخذ جزية , ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم . فقال معاذ - رضي الله عنه -: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني" رواه أبو عبيد في الأموال .(49/63)
وروي أيضا عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين - رضي الله عنه -, أن زياداً, أو بعض الأمراء , بعث عمران - رضي الله عنه - على الصدقة , فلما رجع قال : أين المال؟ قال: أللمال بعثتني ؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم . ولأن المقصود إغناء الفقراء بها , فإذا أبحنا نقلها أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين) أهـ.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
=============(49/64)
(49/65)
حكم الاستماع إلى الأناشيد الوطنية
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 5358)
رقم الفتوى 25307 حكم الاستماع إلى الأناشيد الوطنية
تاريخ الفتوى : 15 رمضان 1423
السؤال
السلام عليكم
سألتك في المرة السابقة عن الغناء والموسيقى فقلت أن جميع أنواع الآلات الموسيقية حرام عدا الدف لكن هل سماع الأناشيد الوطنية لحزب الله حرام حيث أنهم يستخدمون أنواع الآلات المختلفة أو سماع أناشيد عماد رامي حيث أنه يستخدم الطبل ؟ و جزاكم الله خيراً....
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا صاحب الأناشيد الوطنية وأناشيد الجهاد ونحوها الآلات الموسيقية - إلا الدف لنساء - فالاستماع إليها حرام، وهو مذهب جماهير الفقهاء؛ لأدلة كثيرة منها: قول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به، ووصله أبو داود وغيره عن أبي مالك الأشعري : ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَ - يعني الفرج المحرم أي الزنا - والحرير والخمر والمعازف.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============(49/66)
(49/67)
الوطنية وحب الوطن والدفاع عنه
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 7997)
رقم الفتوى 38887 الوطنية وحب الوطن والدفاع عنه
تاريخ الفتوى : 19 شعبان 1424
السؤال
ما حكم الوطنية إن كانت مبنية على أسس الإسلام، وهل يوجد فرق بين حب الوطن والوطنية ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإننا أولاً نحب أن نلفت نظر السائل الكريم إلى أن لفظ "الوطنية" مولد مستحدث، استحدثه المشركون عندما احتلوا بلاد المسلمين، وكان الغرض من ذلك تفتيت الوحدة الإسلامية وتقسيمها إلى قوميات وأجناس تتصارع فيما بينها، ولمعرفة المزيد عن هذا اللفظ "الوطنية" انظر كتاب "معجم المناهي اللفظية" للعلامة بكر أبو زيد.
وأما حب الوطن والدفاع عنه، فإن المسلم مطالب بحب بلاد المسلمين والدفاع عنها، سواء كان ذلك البلد موطنه الذي ولد فيه أو لم يكن موطنه، ما دام أنه بلد من بلاد المسلمين.
لأن حب البلاد الإسلامية والدفاع عنها واجب ديني، وهو من مقتضيات الولاء والبراء في الإسلام، إذ أن الواجب على المسلم أن يعقد ولاءه وبراءه من أجل الإسلام وللإسلام فقط، لا من أجل شعارات أخرى.
قال الله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============(49/68)
(49/69)
حكم الاستماع إلى الأغاني الوطنية والرياضية
تاريخ الفتوى : 04 شوال 1424 رقم الفتوى 40535
السؤال
هل يحرم الأغاني الرياضية والوطنية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالغناء المصحوب بالموسيقى محرم أياً كان نوعه وطنياً كان أو رياضياً أو غير ذلك، وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5282 ، 987 ، 15918 . وإن خلا من الموسيقى نظر فيه، فما كان منه يسمعه رجل من امرأة أجنبية أو يدعو إلى العنصريات الوطنية والشعارات القومية والنعرات الجاهلية كما هو الغالب على الأغاني الوطنية حرم ، وما خلا من ذلك ومن الدعوة إلى المعاصي والتحريض عليها جاز، وسواء في ذلك الأغاني الرياضية وغيرها. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============(49/70)
(49/71)
حكم خياطة الأعلام الوطنية
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3236)
رقم الفتوى 44390 حكم خياطة الأعلام الوطنية
تاريخ الفتوى : 01 محرم 1425
السؤال
ما حكم الشرع في خياطة و بيع - الأعلام الوطنية - إلى هيئات حكومية مع العلم أن - العلم الوطني - لدى البعض يعتبره عملاً غير شرعي ، و نحن في حيرة من الأمر،
أفتونا رحمكم الله .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمعروف أن الأعلام الوطنية للدول اتخذت في الأصل بقصد التمييز والشعار للدولة، وهي بهذا القصد جائزة، وأما إذا اتخذت بقصد الدعوة إلى الوطنية والتعصب لها بالباطل، وحملت رموزاً باطلة فلا تجوز، وينبغي استبدالها بغيرها.
وعليه؛ فإذا تبين للشخص أن الأعلام التي تطلب منه خياطتها في بلده تدخل تحت النوع الأول فلا حرج عليه في خياطتها، وأما إذا كانت تدخل تحت النوع الثاني أو كانت أعلام بلدان كافرة فلا يجوز له ذلك، ولمزيد من الفائدة تراجع الفتوى رقم: 10864 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============(49/72)
(49/73)
الحجاب والثقافة الوطنية
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 6616)
رقم الفتوى 67837 الحجاب والثقافة الوطنية
تاريخ الفتوى : 06 رمضان 1426
السؤال
ما حكم من يمنع المرأة من ارتداء الحجاب و يرضى بأن تتعرى و يدعي أن الحجاب دخيل على الثقافة الوطنية رغم أننا في بلد إسلامي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان مقصود من يدّعي أن الحجاب دخيل على الثقافة الوطنية - مقصوده إنكار فرضية الحجاب، فإنه يكون رادّاً للنصوص التي تثبت فرضيته على المسلمات، وذلك كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام، والواجب عليه التوبة من هذا القول، وعليكم أن تعلموه بالنصوص الآمرة بالحجاب إن كان لا يعلمها وتبينوا خطر ردها وعدم العمل بمقتضاها.
وأما إن كان مقصوده أن الحجاب لم يكن من ثقافة وطنه قبل الإسلام فهذا الكلام له وجه صحيح، فإن الناس قبل الإسلام كانوا في جاهلية وشر، ثم جاء الإسلام بالشرائع التي فيها الخير، ومنها حجاب المرأة المسلمة، فألغى شرع الله تعالى كل عادة تخالفه، ووجب علي كل الناس الانقياد لذلك، ولمزيد بيان، انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4470 // 64465 // 29714 // 16799 // 53230 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============(49/74)
(49/75)
الوطنية في الإسلام
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4761)
محمد بن عبد الله الخضيري
بريدة
جامع الملك خالد
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، لقد فطر الإنسان على أمور عديدة، من تلك الأمور أن يحبّ المرء ماله وولده وأقاربه وأصدقاءه، ومن هذه الأمور كذلك حبّ الإنسان لموطنه الذي عاش فيه وترعرع في أكنافه، وهذا الأمر يجده كل إنسان في نفسه، فحب الوطن غريزة متأصّلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحنّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجِم، ويغضب له إذا انتُقص.
ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإنّ حنين الرجوع إليه يبقى معلّقًا في ذاكرته لا يفارقه، ولذا يقول الأصمعي: "قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدًا، والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدبًا، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعًا".
وهذا الأمر ـ وهو حب الإنسان لوطنه ـ غريزة في بني الإنسان، وجدها أفضل الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، فقد أخرج الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لمكة: ((ما أطيبكِ من بلد، وما أحبكِ إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيركِ)) صححه الألباني في صحيح الجامع (7089).
فهو يحب مكة حبًا شديدًا، كره الخروج منها لغير سبب، ثم لما هاجر إلى المدينة واستوطن بها أحبها وألفها كما أحبّ مكة، بل كان يدعو أن يرزقه الله حبَّها كما في صحيح البخاري: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد))، ودعا عليه الصلاة والسلام بالبركة فيها وفي بركة رزقها كما دعا إبراهيم لمكة. ونلاحظ أنّ حب النبي متأثر بالبيئة التي عاش فيها، فقد كان يحب مكة ويحنّ إليها، ثم لما عاش في المدينة وألفها أصبح يدعو الله أن يرزقه حبًا لها يفوق حبه لمكة.
وكذلك كان رسول الله إذا خرج من المدينة لغزوة أو نحوها تحركت نفسه إليها، فعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته ـ أي: أسرع بها ـ وإذا كانت دابة حركها. رواه البخاري. قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: حركها من حبها.
قال ابن حجر في الفتح والعيني في عمدة القاري والمبارك فوري في تحفة الأحوذي: "فيه دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".
وفي صحيح البخاري: لما أخبر ورقة بن نوفل رسول الله أن قومه ـ وهم قريش ـ مخرجوه من مكة، قال رسول الله : ((أوَمخرجِيَّ هم؟!)) قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزَّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
قال السهيلي رحمه الله: "يؤخذ منه شدّة مفارقة الوطن على النفس؛ فإنّه سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحرّكت نفسه لحبّ الوطن وإلفه، فقال: ((أوَمخرجِيَّ هم؟!)).
أيها الأحبة، إن الحديث عن الوطن والحنين إليه وحب الوطن يذكّر المؤمن بالله تبارك وتعالى بالوطن الأول ألا وهو الجنة. نعم، ذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همّه التزود بما ينفعه عند العود، فمن حين خلق الله آدم عليه السلام وأسكنه هو وزوجته الجنة ثم أُهبط منها ووعد بالرجوع إليها وصالحو ذريتهما.، فالمؤمن أبدا يحنّ إلى وطنه الأول، وحب الوطن من الإيمان.
قال ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية:
فحيّ على جنات عدنٍ فإنها…منازلك الأولى وفيها المخيَّم
ولكننا سبي العدوّ فهل ترى…نعود إلى أوطاننا ونسلم؟
وقال أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى…ما الْحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى…وحنينه أبدا لأول منزلِ
وكان على بن أبي طالب يقول: (إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرّحلة بأحسن ما بحضرتكم من النُّقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دارَ إقامة ولا وطنا فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه الأول، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصّى النبي ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين".
ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار أينما حلّ منها فهو في دار غربة، كما قال النبي : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) أخرجه البخاري.(49/76)
واعلم ـ أيها المؤمن ـ أن هذه الغربة سرعان ما تنقضي وتصير إلى وطنك ومنزلك الأول، وإنما الغربة التي لا يرجى انقطاعها هي الغربة في دار الهوان، حينما يسحب المرء على وجهه إلى جهنم والعياذ بالله، فيكون بذلك قد فارق وطنه الذي كان قد هيّئ وأُعد له، وأُمر بالتجهيز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا الاغتراب عنه ومفارقته له، فتلك غربة لا يرجى إيابها ولا يجبر مصابها.
فأعظم حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكن الأبوين ودار الخلد والنعيم، قال الرسول : ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)) أخرجه البخاري، وقال الرسول واصفًا الجنة: ((لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)) أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع، وفي الصحيحين أن الرسول قال: ((أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك))، وفي الصحيحين أن رسول الله قال: ((في الجنة خيمةٌ من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن))، وفي الصحيحين قال رسول : ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها))، وعند الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال الرسول : ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب))، وعند أحمد في مسنده قال رجل: يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: ((شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها))، وقال رسول الله : ((ألا مشمر للجنة؟! فإن الجنة لا خطر لها، هي ـ ورب الكعبة ـ نور يتلألأُ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة، في مقامٍ أبدًا في دارٍ سليمةٍ وفاكهةٍ وخضرةٍ وحبرة ونعمةٍ، في محلة عاليةٍ بهية)) أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان.
عباد الله، يقول ربنا تبارك وتعالى واصفًا لنا حقيقة الدنيا وحقارتها ودناءتها؛ حتى نستعد ونتأهب لدار القرار، جعلنا الله وإياكم وسائر المسلمين من أهلها، اللهم آمين: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، وقال تعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، وقال سبحانه وتعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور [الحديد:2]. وعند البخاري أن الرسول قال: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)).
فحي على جنات عدن فإنَّها…منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها…وحي على عيش بها ليس يسأم
أيا ساهيا في غمرة الجهل والهوى…صريع الأماني عما قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده…سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بِما جنى…كذاك على فيه المهيمن يختم
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: عباد الله، وإنه مما ينبغي عند الحديث عن الوطن والحنين إليه أن نحذر من أُناسٍ وفئةٍ مِن الذين يدعون حبّ الوطن، ويدندنون دائما حول الوطنية وحبّ الوطن وضرورة الانتماء إليه، وهم أضرّ الناس على الوطن وأهله، يريدون لنا الفساد والوقوع في شباك الفاحشة والرذيلة، ويهدفون إلى أمور منها:
1- تقليص المواد الشرعية وتقليل نصابها في الحياة الدراسية التعليمية.
2- منع تدريس النصوص التي تذكّر أبناء المسلمين بعداوة اليهود والنصارى للإسلام وأهله، وطمس عقيدة الولاء والبراء في المناهج التعليمية.
3- السعي الجاد إلى اختلاط التعليم بين الرجال والنساء.
4- محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات.
5- السعي الحثيث لموضوع قيادة المرأة للسيارة، ودائما ما تجدهم يردّدون: حقوق المرأة، المرأة إنسانة، ونحو هذه العبارات.
فهل من الوطنية الحقيقية والانتماء الجادّ للوطن حبّ إشاعة الفاحشة في مجتمعات المسلمين بدعوى الترفيه والتنشيط السياحي وعبر بوابة الاحتفالات الموسمية والفعاليات العائلية؟! وهل من الوطنية إغراق المجتمعات بطوفان من الفضائيات المخلة بالآداب والحشمة والعفة والتي لم تجلب للأمة إلا العار والدمار؟! وهل من الوطنية إغراق الأوطان الإسلامية بملايين السياح الأجانب من ذوي العقائد الوثنية أو اللادينية، فضلاً عن اليهود والنصارى، فيتصدّع جدار الولاء والبراء، وتُلتقط الصور التذكارية الجماعية لمسلمين وكفار؟!(49/77)
فهؤلاء أساؤوا في إدراك الكيفية الحقيقية لحب الوطن، فجعلوها ألحانًا وترانيم وطقوسًا وشعارات لا تمت إلى الوطنية الصحيحة بصلة، فنشأت أجيالٌ هزيلةٌ في ولاءَاتها، ساذجة في مخزونها الفكري بل والعاطفي، فالحب الحقيقي للوطن هو الذي يُقدّس العقيدة ويرسخها في الأجيال، فينشأ عنها حبّ الوطن لإيمان أهله وإسلامهم، وخلوّ أرضهم من مظاهر الشرك والبدعة.
إنّ الحبّ الحقيقي للوطن لا يمتّ إلى هذه المظاهر بصِلة، بل يتبرّأ منها أشدّ البراء وآكده؛ إذ إننا لا نفهم الوطنية الحقّة إلا عقيدة راسخة ومجتمعًا موحّدًا وشعبًا عفيفًا وقيادة راشدة، ولا نفهم الأمن إلا أمن التوحِيد والإيمان، وأمن الأخلاق والشرف، وأمن المال والعرض والدم، قال الرب تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أيها المسلمون، إنَّ الحب الحقيقي للوطن يتجلى في أمور منها:
1- الحرص الأكيد والعمل الجاد في نشر العقيدة الصحيحة لتعم أرجاء الوطن؛ كي يتمتع المواطنون بالإيمان الحقيقي بالله تعالى، ويصدقون في حُبه والاعتماد عليه وحده دون غيره، حتى إذا ما حاولت قوة في الأرض الاعتداء على دينهم وعقيدتهم أو استباحة أرضهم وأموالهم إذا بهم ينتفضون انتفاضة الأسد دفاعًا عن الدين والعقيدة، وذبًا عن الأعراض والأوطان، معتمدين على الله تعالى دون غيره، موقنين بأن قوته الباهرة كفيلة بهزيمة أي عدو غاشم وعقر كل جواَّظ غليظ وقهر كل صائل أثيم.
2- القضاء المحكم على أسباب الشرّ والرذيلة وعوامل الخلاعة والميوعة التي تغرق المجتمع في أوحال الفساد والخنا، فتنشأ الأجيال الشهوانية العابدة لملذّاتها ومتعها الرخيصة، بحيث يتعذر عليها القيام بأدنى دور ذي بال يحفظ لها كرامتها وشرفها عند تعرّضها للامتهان على يد عدو متربص وصائل حاقد؛ إذ إن تجفيف منابع الفساد والفتنة هو الكفيل بصنع الرجال الحقيقيين، المحبين لربهم ودينهم، المدافعين عن وطنهم المؤمن الموحد بصدق وعزيمة.
3- التواصل الحقيقي بين الأفراد والجماعات، وإزالة أسباب التفرقة والخلاف بين أفراد المجتمع، وقيام روح النصيحة والتعاون والتكاتف في وجه التيارات القادمة.
4- الانتظام التام في المحافظة على الآداب الشرعية والنظم العادلة المرعية التي تسعى إلى جمع الكلمة بين الراعي والرعية، سمعًا وطاعة بالمعروف، وأداء للحقوق والواجبات، كل فيما له وعليه.
5- وتتجلى المواطنة الصادقة في رعاية الحقوق واجتناب الظلم، وبالأخص الحقوق واحترام حق الغير، والسعي الجاد من كل مواطن مسؤول أو غير مسؤول لتأمين الآخرين على أموالهم وأنفسهم، ولا خير في وطنية تقدس الأرض والتراب وتهين الإنسان، فالوطن حقًا هو الإنسان الذي كرمه الله بالإنسانية وشرفه بالملة المحمدية.
6- وتتجلى كذلك في أداء الحقوق، بدءًا من حق الوالدين والأرحام، وانتهاء بحقوق الجيران والأصحاب والمارة. وكذلك الاستخدام الأمثل للحقوق والمرافق العامة التي يشترك في منافعها كل مواطن ومواطنة. تلك التي تكرس المحسوبيات وتستغل النفوذ وتتساهل في المال العام وكأنه كلأ مباح أو فرصة سانحة لا تؤجل.
عباد الله، ليس الشأن في الوطنية هو الاهتمام بقشورها ومظاهرها الخارجية، من تقديس لصورةٍ أو عَلَم مع امتهان أصولها الراسخة.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين...
==============(49/78)
(49/79)
من القومية إلي الوطنية
مجلة البيان - (ج 10 / ص 42)
ناصر إبراهيم البريدي
احتل الاستعمار بلاد المسلمين سنوات طويلة ، وقد بذل في هذه السنوات من الجهود الجبارة لحرب الإسلام والمسلمين ، ما يعجز القلم عن تسطيره في مثل هذه العجالة ، ولم يخرج منها إلا وقد اطمأن إلى أنه قد خلف جنودًا يحملون رسالته ، ورجالاً يذبون عن أهدافه ، يحيون ويموتون في سبيله ، وإن كانوا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ، كثير منهم يركعون ويسجدون معنا ويصلون في مساجدنا .
ولمواجهة الخلافة الإسلامية - التي كانت قائمة في آخر عهد الدولة العثمانية- تبنى الاستعمار لغة القوميات التي أتت على أمتنا بالشرور والويلات .
وبعد أن قضى على الخلافة العثمانية ، جاءت اتفاقية (سايكس - بيكو) التي قطعت فيها الأمة العربية إلى دويلات ، وشتت شمل المسلمين من خلال تلك المؤامرات. وبعد أن ارتفع صوت القومية طويلاً وأدى جزءاً من الأهداف المرسومة له ، ظهرت دعوة أخرى - لا تقل خطرًا عن مؤامرة القوميين - تلك هي الدعوة إلى الوطنية ، واتخاذ الوطن إلهًا يعبد من دون الله ، وارتفع صوت الوطنيين في كثير من الدول الإسلامية يدعون إلى مبادئ تخالف دعوة الإسلام ، وتدعو إلى الانصهار في بوتقة الوطن ، واعتباره رابطًا قومياً يعلو فوق كل الروابط.
ولم يدر أولئك - ولربما علموا - ما يحمل هذا الفكر الخبيث من سموم ، وما سيجره على الأمة من مصائب ونكبات .
إننا في الوقت الذي تتداعى فيه أمم الكفر على أمتنا ، وتجتمع علينا في إطار عقيدة واحدة ، نجد بيننا من يرفع شعارًا يمزقنا ، ومبادىء تفرقنا .
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث في قوم تحكمهم العصبيات ، وتسودهم الوثنيات ، فكان السلاح الذي رفعه - صلى الله عليه وسلم - في وجه أولئك هو الإسلام ، الذي جمعهم بعد تفرق ، وذابت فيه كل الفوارق والألوان والجنسيات والطبقات .
وفي ظل الإسلام عقدت أعظم مؤاخاة في التاريخ ، جمعت العربي مع الرومي ، والفارسي مع الأوسي ، والحبشي مع الخزرجي ، ولم يكن هناك أي اعتبار لميزان الجنس واللون والوطن .
وإن أخطر ما في مثل هذه الدعوة أن بعض المسلمين يتحمس لها ويدافع عنها بحسن نية وسلامة مقصد ، بل وتجدهم يرددون ما يزعمون أنه حديث نبوي (حب الوطن من الإيمان) وهو حديث موضوع(1) لا يجوز الاحتجاج به ولا الركون إليه .
وأشير هنا إلى أن حب الوطن أمر غريزي جبلي لا يستطيع الإنسان أن ينكره أو ينفيه ، ولكن الخطر الداهم أن كثيرًا من دعاة الوطنية اتخذوه صنماً يعبد من دون الله ، وتخلوا على مبادئهم الإسلامية باسم الوطنية ((ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة:165].
ولنقرأ مقاطع من مقالة كتبها أحد أولئك حيث قال: " ليس أغلى على الإنسان أو غيره من الوطن ، من الأرض ، من التراب الذي يخصه ، وعلاقة الإنسان وغير الإنسان بأرضه علاقة تختلف عن كل علاقة ، فهي أصلب ، وهي أشد".ثم يمضي الكاتب في غلوه ، فيقول:"ليس ثمة ما هو أرقى من العلاقة بين المخلوق وتربته وأرضه ووطنه".
ولم يكتف بذلك ، بل جاءت القاصمة - التي لا تقصم الظهر ، ولكن تقصم الدين-:
" إن كل شيء يذهب ويتلاشى ، إلا حب الأرض ، حب الوطن ، هو الذي يستمر مشتعلاً في الذات دائمًا أبدًا ، كالوشم الذي لا يتغير".
هذه النتيجة المتوقعة من أدعياء الوطنية ، وهذا الكاتب لا يعبر عن نفسه ، ولكنه خريج مدرسة قائمة ، علمته: كيف يحب ، ومن يحب ، ومتى يحب .
نسي هذا الكاتب -أو تناسى-أن الحب في الله ، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان ، وتجاهل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»(2).
ونتيجة لهذا الغلو والإفراط أصبحوا من أجل الأرض يحبون ، وفي سبيل التراب يبغضون ، وفي ذات الوطن يوالون ويعادون .
نعم . . كل إنسان يحب وطنه ، ولكن المسلم يجعل هذا الحب في إطاره الصحيح ، فهو حب طبيعي فطري ولكنه لا يقدمه - بحال من الأحوال - على حب الله وحب رسوله ، ولا يساويه بحب دينه ، بل ولا يرقى حب الوطن إلى حب الوالدين .
إذا هو حب يحكم بحب أسمى منه والعلاقة بالوطن تخضع لعلاقة أقوى منها.
أما أن يصل حب الوطن إلى أن يقول شاعرهم :
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي
فهذا حب لا يقره الإسلام ولا يرضاه بل يمقته ويأباه.
إن حقيقة الدعوة للوطنية تبرز عندما تتعارض مصلحة من مصالح الوطن - الموهومة - مع مبادئ الإسلام وقيمه الحقيقية ، نجد إن دعاة الوطنية يقدمون تلك المصلحة الظنية على ما يقره الإسلام ويدعو إليه .
ولأولئك نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد ذم المنافقين الذين فضلوا البقاء في الأوطان على الخروج منها للجهاد في سبيل الله فقال :
((ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) [النساء:66].(49/80)
وأخبر سبحانه عن النهاية المخزية للذين رفضوا الهجرة وارتدوا عن دينهم إيثارًا لحبهم لأوطانهم ، وتفضيلها على حب الله ورسوله .
((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً)) [النساء:97].
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحب مكة ، ولكنه قدم الهجرة فرارًا بدينه على حب وطنه ، وكذلك فعل صحابته الكرام ، وهكذا يكون حب الوطن والولاء له ليس حبًا مطلقًا ولا ولاء محررًا من كل قيد ، كما يريد أولئك الأدعياء .
وأقول بصدق: إن الذي يزعم حب الوطن حبًا مجردًا من مبادئ الإسلام وضوابطه إنه كاذب في زعمه خائن لوطنه وأمته ، هو أول من ينسحب في معركة الذب عنه والدفاع عن حرماته ، وما قصة المنافقين في"أحد" إلا برهان قوي للرد على هؤلاء ، وفي "الأحزاب" خير دليل على حقيقة مواقفهم :
((وإذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إن يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً * ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا ومَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلاَّ يَسِيراً * ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً))[الأحزاب:13-15].
وأحداث أفغانستان شاهد حي على مواقف المجاهدين الصادقين ، الذين أبلوا بلاء حسنًا في الذب عن ديارهم وبلادهم ، ومواقف الذين يجعجعون بالوطنية ، فلما جد الجد ونادى منادي الجهاد: ((ولَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً))[الإسراء:46].
فبان الصادق من الكاذب (3) والوفي من الخائن ، فاعتبروا يا أولى الأبصار.
__________
1- هذا حديث موضوع ، وانظر تخريجه في :
1 - موضوعات الصنعاني ، ص 47 ، حديث رقم 81 ، بتحقيق نجم عبد الرحمن خلف ، وفي الهامش كلام قيم.
2- المقاصد الحسنة ، ص 173 ، رقم 386 وقال لم أقف عليه.
3- كشف الخفاء ، للعجلوني ، ص345 ، 346? رقم1102 ، وفيه كلام طيب .
4- الموضوعات الكبرى لعلي القاري ، ص181 ، 182? بتحقيق الشيخ محمد الصباغ .
2- أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان .
3- لان المؤمن مطالب بأن يدافع عن وطنه وعن حرماته ، وهو داخل في دفاعه عن دينه وعقيدته ، لأن استباحة الوطن المسلم استباحة للدين .
=============(49/81)
(49/82)
السلطة الوطنية المسافة بين ضم السين وفتحها!
مجلة البيان - (ج 92 / ص 84)
بقلم: د. عبد لله عمر سلطان
هناك مثل أمريكي يقول: (أحسن اختيار كلماتك؛ فإنك لا تدري متى تضطر إلى بلعها)، ومادام أن هناك غراماً متبادلاً بين السلطة الوطنية الفلسطينية وكل ما هو أمريكي فإن من الحكمة أن يتأمل رأس السلطة هذه المقولة علّه يستفيد شيئاً من هذه العلاقة الخطرة التي تشبه علاقة الصداقة المفاجئة بين الذئب المفترس والحمل الغبي..، ومناسبة لفت النظر هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى تلك التصريحات العنترية التي لا زالت رموز السلطة الوطنية تطلقها بين الحين والآخر على الرغم من أن القاصي والداني عرف حجم هذه القيادات، كما أن الشعب الفلسطيني بكل قطاعاته يدفع يوميّاً ثمن مسلسل الأخطاء الفادحة لقيادة أصبحت تتقن دوماً اختيار الأسوء وممارسة الفاحشة السياسية في وضح النهار..
لقد ذكر الشاعر الفلسطيني المسؤول عن جهاز الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية (محمود درويش) ـ في محاضرة له بعمّان قبل أسابيع ـ أن البعض: (يريد من الفلسطينيين أن يتخلوا عن ذاكرتهم التاريخية خلال عملية المفاوضات)، ولا شك أن درويش ـ وهو شيوعي سابقاً، ليبرالي لاحقاً ـ يعبر عن حالة من (القرف) تنتاب حتى الذين لا يؤمنون بثوابت الأمة وقد يشاركون السلطة الحالية بعضاً من المسؤولية التي آل إليها الحال بعد اتفاق أوسلو..
لقد أعلن في يوليو 1995 عن توصل الطرفين الصهيوني والفلسطيني إلى اتفاق تنسحب بموجبه قوات الاحتلال الإسرائيلية عن بعض المدن الآهلة بالسكان في الضفة الغربية المحتلة حسب اتفاق (أوسلو)، مما يمهد السبيل لإجراء انتخابات (لم تحدد هويتها أو عدد المشاركين من ناخبين أو مرشحين، حيث لازالت إسرائيل تفكر في كل هذه التفاصيل) بعد شهور من الانسحاب، وعلى الرغم من أن انسحاب إسرائيل من أجزاء من الضفة الغربية المحتلة يشكل حدثاً أكبر بكثير من انسحاباتها الاستعراضية السابقة من غزة أو أريحا، إلا أن الإعلان لم يُصاحَب هذه المرة بتلك الحملة البهلوانية عبر أجهزة الإعلام العربي، حيث إن كذبة (أوسلو) لا تزال عالقة بالأذهان، كما أن الحشد العاطفي والكلام الرخيص المنمق الذي وعد به (مسوقو التطبيع) يترجم حالياً إلى مأساة جديدة يدفع الفلسطينيون ثمنها..
وعلى الرغم من وجاهة المثل الأمريكي السابق، إلا أن عرفات أصر على أن يدشن الاتفاق بتصريح فولكلوري يذكر بأيام المد الثوري والتصريحات النارية؛ فبعد يومين من الإعلان عن الاتفاق صرح عرفات في جنيف: أن الانتخابات الفلسطينية لن تجرى قبل انسحاب إسرائيل من كل مدن وبلدان وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن عرفات سيبتلع هذه الكلمات لاحقاً كما ابتلع ما هو أكبر منها في السابق، إلا أن النخب السياسية التي يمثلها تعرف حتماً أنه حتى تلك التصريحات التي لا زالت الطبقة الحاكمة ترى أنها للاستهلاك المحلي لم تعد تحظى حتى بقبول المستهلكين اللذين يحيون بالإذلال والدونية من تصريحات رغوية كهذه، في الوقت الذي يكرس الجانب الإسرائيلي مطالبه على أرض الواقع بدعم كامل من الولايات المتحدة، وبانهزام متعدد الجبهات على الساحة العربية.
لماذا لم يحتفلوا بالانسحاب الجديد؟
عندما زار الكاتب الفلسطيني (إدوارد سعيد) لندن وألقى محاضرة فيها، طالب السلطة الوطنية الفلسطينية أن تبادر بشجاعة وتعلن على الملأ عجزها عن مواصلة الطريق المظلم الذي قادت إليه شعبها، وأن تبادر إلى احترام شعبها وتنشيء حواراً داخليّاً للخروج من مأزق الحل الهزيل الذي أصبح وصمة عار في مسيرة القضية الفلسطينية، تتم تصفيتها بكل سهولة وبمباركة (سلطة وطنية) (بضم السين وليس بفتحها وإن كان الفتح يلائم (فتح) هذه الأيام) فالبطالة في عهد عرفات زادت عن الستين بالمئة وأحلام (سنغافورة الشرق الأوسط) ثبت أنها أحلام ثقيلة الظل، ووزير الإعلام في سلطة الحكم الذاتي يمنع من الدخول إلى مناطق محتلة ويظل ينتظر في سيارته أربع ساعات ثم يضطر إلى العودة من حيث أتى، هذا فضلاً عن رفض إسرائيل حتى لحاشية عرفات بالدخول، ورفضها انتقاله شخصيّاً دون إذن ولي الأمر الإسرائيلي، أما المشروع الوطني القائم على الاحتفاظ بالأرض والصلاحيات والسيادة: فقد ذهب أدراج الريح؛ فسلطة عرفات لا تتمتع من مظاهر السيادة سوى بفرش السجاد الأحمر للضيوف وتقديم عصير البرتقال الفلسطيني بدلاً من ذلك المصنوع في حيفا!!
لقد أفرزت مرحلة ما بعد اتفاق (أوسلو) حقائق صارخة تجعل من الاحتفال بهذا الانسحاب ـ لو تم ـ كابوساً آخر تسعى إسرائيل لتجريعه لكل الفلسطينيين، لا سيما أولئك الذين رضوا بالدنية وساروا وراءها لاهثين.
ولن نستطيع أن نعدد المكاسب والمواقع التي أنجزتها دولة الصهاينة منذ (مدريد)، لكن يكفي التذكير ببعض المعالم المهمة.(49/83)
ظلت (القدس) مربط الفرس والنقطة الأصعب في المفاوضات، ومنذ إعلان (أوسلو) وحتى الآن، استطاعت إسرائيل أن تغرس مخالبها وأنيابها في محيط الأقصى، وتوج ذلك بقرار مصادرة 53 هكتاراً من الأراضي المحتلة لبناء مستوطنات جديدة، واليوم فإن إسرائيل تفتخر وتعلن أن القدس مدينة يهودية؛ فسكانها اليهود يمثلون 75% من مجموع السكان في ظل سياسة مزدوجة بتهجير سكانها المسلمين عبر جعل الحياة المعيشية لا تطاق (50 ألف غادروها خلال السنوات الماضية)، أو عبر إعطائهم الجنسية الإسرائيلية وبعض المميزات التي تكفل ولاء هؤلاء لدولة صهيون.
إسرائيل تعلن بكل وقاحة على لسان (بنيامين بن العازر) وزير الإسكان: (بأنها ستصادر 120 هكتاراً لبناء ثلاثين ألف وحدة سكنية، لأن الأمر يتعلق بالصراع على مستقبل القدس ولا يمكن لأي شخص أن يملي على إسرائيل موقفاً حيال تصرفها على أراضيها التي تقع تحت سيادتها في القدس).
ومقابل التنفيذ الفعلي لسلب القدس وسرقتها وتهويدها: لا تجد التيارات الفلسطينية من رد فعل سوى جعجعة مؤتمر قمة سرابي سرعان ما تبخر بعد أن أعلنت إسرائيل (تجميد) قرارها، فقرر الأشاوس (تجميد) مشاعر الأمة وإلهاءها بصراعات جانبية تساهم في تخفيف درجة حرارة الشعوب الملتهبة!!
لقد انتهجت الصهيونية سياسة ثابتة تجاه مدينة القدس منذ عام 1948م حيث صادروا في البداية ثلث مساحة المدينة، وبعد عام 1967م صادروا ما يقارب 80% من مساحتها، ومنذ اتفاق (أوسلو) حتى الآن استمرت إسرائيل في المصادرة والسرقة بمعدل 1081 دونماً شهريّاً بعد أن وصل إلى 232 دونماً أيام مؤتمر مدريد.
لقد أعلن (فريح أبو مدين) في 12/5/1995م (أن السلطة الفلسطينية تشعر بعجز اتفاق (أوسلو) وقصوره ولا سيما بالنسبة لقضيتي الأسرى والقدس) ومبارك علينا هذا النبأ السار بأن هناك (شعوراً) لا يزال يسري في أوصال السلطة الوطنية مقابل المخطط الصهيوني المستمر!!
استمر الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ الاتفاق حتى الآن، ولابد أن نذكر أن بعض سماسرة السلام ونخاسته كانوا يطلّون علينا صباح مساء حاثين العرب على السلام مع إسرائيل قبل أن ينتهي البرنامج الاستيطاني اليهودي وتختفي الأرض التي تخضع للتفاوض والانسحاب.
وصدق البعض النخاسة، وردد أركان معسكر التطبيع هذه الشعارات، لكن (رابين) أصر على أن يلطمهم لطمة أخرى حين استمر في برنامج الاستيطان دون اعتبار أو احترام لاتفاق (أوسلو)، وهي بشهادة مراقب محايد: عملية استمرت بنفس الوتيرة رغم التصريحات الوثيرة! (فقد تحولت المستعمرات اليهودية في عهد (رابين) إلى وحدة واحدة، تلك الأَمنية وأختها السكانية، وهو قد وعد بأن تبقى المستوطنات الأمنية فقط!! بل إنه طوّر سياسته لتصبح القدس ومحيطها أكبر مستوطنة، بحيث تمتد المدينة المقدسة إلى الشرق حتى البحر الميت، وإلى الغرب مروراً بمستوطنة (متسبيه يريحو)، وشمالاً إلى رام الله عبر مستوطنة (بيت إيل) وإلى الخليل جنوباً، مما يعني اقتطاع أهم المناطق وعزل (الهر) العرفاتي وقطع أوصال الضفة الغربية إلى جزئين: مهم، ومقدس، يمثل معظم مناطق الضفة المحيطة بالقدس، وأخرى تتركز فيها كثافة سكانية عربية يتولى عرفات وزبانيته سومها بالحديد والنار، ومما يدفع إلى هذا: أن إشارات من عرفات بدأت تبرز مؤخراً تدلل على قبوله برام الله مقراً دائماً لسلطته الخنفشارية..!
استمر الإذلال المعيشي للشعب الفلسطيني، ووصلت الأوضاع الاقتصادية إلى أسوأ مستوى لها مقارنة بوضع الفلسطينيين حتى أيام الاحتلال.
الأرقام تقول إن معدلات البطالة فاقت نسبة 60%، وأن دخل الفرد وصل إلى مستوى أنجولا وبنغلاديش، وأن رجال عرفات من أفراد السلطة وجيشها منهمكون في عمليات إتجار غير مشروعة في كل شيء من العقار وحتى تجارة (...)، وقبل أسابيع ألقي القبض على رجل شرطة قتل زميلاً له ليبيع سلاحه من أجل أن يأكل... هذا حال السلطة المحظوظة، فما حال الشعب؟ حاله لا يسر، لكن المأزق كبير، ويكفي أن عرفات لم يجد ما يدفعه لأفراد سلطته وجيشه إلا بعد أن وصله شيء من المساعدة التي وعدته بها الدول المانحة والتي أحجمت عن ضخ مزيد من الدعم، خصوصاً بعد أن تبين لها أن الفساد يزكم الأنوف، وأنه في الوقت الذي تعيش فيه غالبية الفلسطينيين فقراً مدقعاً: تتمتع قمة الهرم بترف وثراء غير مشروعين، وقد نقل مراسل محطة التلفزيون الأمريكية () حنق الشارع في غزة من تصريحات (سها عرفات) بأنها لا تثق بالخدمات الصحية في غزة، ولذا: فإنها وضعت مولودتها في إحدى أرقى مستشفيات باريس!! وكأن فرنسا وحدها ـ دون سائر البلاد العربية والغربية ـ هي التي تملك خدمات صحية يوثق بها!، أم إن الثقة المفقودة هي في الجنسية الفلسطينية، لذا: لزم ضمان جنسية أخرى (يُعتز بها!) للمولودة الجديدة، وذلك بولادتها على الأرض الفرنسية (حق الأرض، حسب القانون الفرنسي)؟(49/84)
ظهر الانحياز الأمريكي في أبشع صوره خلال الفترة الماضية، فأمريكا تخلت عن باقي مظاهر الحياد و (المكياج) الخادع، وأعلنتها صريحة أنها تساوي إسرائيل، وأن إسرائيل تساوي أمريكا، وقد قامت أمريكا بدور مكشوف وقح في دعمها لإسرائيل في مصادرة أراضٍ مقدسة، وصوتت وحدها في مجلس الأمن لصالح اليهود، وأصبح زعماء الديمقراطيين والجمهوريين يتنافسون في كسب ود الصهاينة، ولم يصل الحال إلى درجة أن يزايد الأمريكيون حتى على الإسرائيليين أنفسهم إلا في هذه المرحلة؛ ففي السابق: كان الصهاينة يطرحون طلباتهم، فتلبي أمريكا الطلب بطيب خاطر، أما الآن: فإن (روبرت دول) مرشح الحزب الجمهوري يطالب بنقل السفارة الأمريكية للقدس فيتمنى عليه (رابين) التمهل والانتظار.. (لقد ثبت الآن بعد تصريحات كلنتون في مؤتمر (إيباك) أن الأمريكان أكثر تطرفاً من (رابين) وأنهم صهيونيون أكثر من الصهاينة) كما قال (ماكلرم رديتش) المعلق البريطاني.
ماذا بعد؟
في يوم واحد صدرت عدة تصريحات، وبثت تقارير تستحق الإشارة إليها، خصوصاً أنها صدرت في ساعات قليلة بعد يوم واحد من الإعلان الأخير.
فقد أعلنت قيادة حزب ليكود أن الاتفاق الهزيل مع عرفات يمكن إلغاؤه، فقال زعيم الحزب (نيتانياهو (: إن الأمن في المناطق الفلسطينية يجب أنه يظل في أيدي اليهود، وإن قواته لن تؤمر بغزو غزة وأريحا (قوات عرفات أكثر كفاءة في قمع الفلسطينيين) وأشار إلى أن عرفات سيبقى مسؤولاً عن جزيرتين مكتظتين بالسكان دون دعم فعلي من إسرائيل.
وأعلن (ياسر عبد ربه) مدير الإعلام العرفاتي: أن محادثات نقل السلطات إلى الفلسطينيين لم تحرز تقدماً، وأن الجانب الآخر يدفع بنا إلى الانسحاب من هذه المفاوضات الجهنمية.
وزير العدل الإسرائيلي يقترح ضم قسم من الضفة الغربية، وأشار تقرير لصحيفة (ها آرتس) أن برنامج حزب العمل سيسمح لسلطة عرفات في النهاية بالإشراف على 18% من مساحة الضفة الغربية فقط!
في الساعة نفسها: بثت وكالة الأنباء أن مستوطنة يهودية جديدة قد بوشر في بنائها بين (القدس) و(تل أبيب).
بعدها بساعتين: أنباء عن فشل اللجنة الرباعية الخاصة ببحث عودة نازحي عام 1967م... أما نازحو 1948م فليسوا على قائمة البحث.
تقارير من (تل أبيب) و(لندن) عن بدء نشاط جديد بين سلطة عرفات وجهاز المخابرات الإسرائيلي (شين بيت) والذي اتفق عليه قبل ثلاثة أشهر في (روما) مهمته الأولى: إسكات الصوت الإسلامي المعارض للهزيمة، والركوع تحت اللافتة المكررة (محاربة الأصولية)...
هذه الأصولية هي الصوت الباقي، الصوت الضعيف المطارد الذي يدافع بأسلحته العتيقة وإيمانه الوقاد كل هذا الباطل المتبجح المغرور وتلك العمالة التي يأبى الله إلا أن يفضحها مع مطلع كل يوم يشرق بنور العودة إلى الله، فتظهر على حقيقتها: تجعجع بكونها سُلطة، بينما تثبت الأيام أنها أوراق وزعامات ومكونات جمعت في طبق يذكر بسَلطة لا تثير الشهية أو الرغبة في المضي قدماً لتناول وجبة الاستسلام السامة!
=============(49/85)
(49/86)
الوطنية والقومية والعصبية والإسلام
مجلة المنار - (ج 189 / ص 1)
المجلد 33
العدد 3
محرم 1352
مايو 1933
الوطنية والقومية والعصبية والإسلام
( س1-6 ) من صاحب الإمضاء :
صاحب الفضيلة والعالم العلامة الشيخ رشيد رضا أطال الله عمره .
تحية وسلامًا . وبعد ، فإن في بلادي إندونيسيا الآن حركة استقلالية قوية
وكفاحًا مستمرًّا بين الإندونيسيين والمستعمرين ، ولسوء الحظ ظهر في وسط هذا
الجهاد ، وفي خلال هذه المعمعة والنضال فريق من علماء الدين ، والحاملين لواء
الحق ، يحرمون الوطنية ، ويحاربون الوطنيين باسم الدين الإسلامي وتعاليمه ويرمونهم بالمروق ، ويغرون العداوة بين العامة والزعماء والقادة حتى أصبحوا بين نارين نار المستعمرين ، ونار علماء الدين ، وهذا بلا شك بلاء عظيم .
أعلم تطور الحركة الوطنية في مصر ، وأعلم أن رجال الدين فيها كانوا في طليعة المجاهدين ، والحاملين لواء الوطنية ، وما كانوا يومًا ما من ألد أعدائها ، نعم أذكر رجال الأزهر ، علماءها وطلابها الذين يقودون المظاهرة تلو المظاهرة ،ويسقطون في الميدان والشوارع ، فلأجل هذا كله توجهت إلى مقامكم الكريم
لاستجلاء هذه الأمور والاستفهام عن الأسئلة الآتية ، فإذا تكرمتم بالجواب فقد أسديتم للأمة الإندونيسية نعمًا عظيمة ، وبينتم لها طرق الهدى ، وسبل الحق ، وهذه الأسئلة هي ما يأتي :
( 1 ) أصحيح أن هناك أحاديث تحرم الفكرة الوطنية القومية ؟
( 2 ) هل قوله : ( لا عصبية في الإسلام ) وقوله : ( ليس منا من دعا بدعاء
الجاهلية ) حديثان صريحان في تحريم الوطنية ؟
( 3 ) هل هناك فاصل بين العصبية والوطنية ؟ وهل الوطنية داخلة في
معنى العصبية ؟ ما هي العصبية عند العرب ؟
( 4 ) ما وجهة نظر الإسلام نحو الفكرة الوطنية ، وهل هي تعارض الوحدة
الإسلامية ؟ وما المقصود بالوحدة الإسلامية ؟
( 5 ) المعروف أن الشيخ محمد عبده الفيلسوف العظيم أبو الوطنية
والوطنيين ؛ لأن في بيته في حلوان نشأ سعد واجتمع رجالات مصر ، وما رأيكم
في هذا باعتباركم ناشر مذهبه وناشر تاريخ حياته !
( 6 ) ما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم ؟
هذه هي الأسئلة التي أرجو أن تتكرموا بالجواب عنها ويستحسن الجواب
على صورة مقالة متسلسلة ، ولكم مني بالنيابة عن الأمة الإندونيسية جزيل الشكر
والسلام
نصر الدين طه الإندونيسي
( جواب المنار ) هذه الأسئلة في موضوع مسألة واحدة ذات شعب ، وقد قدمناها على غيرها ؛ لأنها أهم من كل ما لدينا من الأسئلة ، فنجيب عنها جوابًا واحدًا مجملاً مختصرًا ؛ لأن ما بعد هذه الورقة من هذا الجزء قد طبع فنقول : إن العصبية عند العرب نسبة إلى العَصَبَة بالتحريك ، وهم قوم الرجل الذين يتعصبون
له ، أي يحمونه ويحامون عنه وينصرونه ظالمًا كان أو مظلومًا ، وأصل العصبة
أقارب الرجل الذين يرثونه ثم توسعوا فيها ، وهي مأخوذة من العصب ، وهو شجر اللبلاب الذي يلتوي على الشجر ونحوه .
ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أنه يحرم تعصب الظلم للأقارب وللقوم والموطن ويحرم العداوة والشقاق بين المسلمين بتعصب كل فريق لقومه أهل بلده أو إقليمه على إخوانهم في الدين وغيرهم إلا أهل الحرب ، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم بقوله : ( العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم ) رواه الإمام أحمد ، ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أيضًا أنه يفرض على أهله عداوة من يعتدي عليهم من الأجانب وقتالهم فقد صرَّح جميع الفقهاء بأن الجهاد يكون فرضًا عَيْنِيًّا إذا اعتدى العدو على المسلمين أو استولى على بعض بلادهم ، وهذا دفع للظلم ، فمن الجهل الفاضح أن يُحَرَّم عليهم ، ويُسْتَدَلَّ على تحريمه بعصبية الجاهلية المنهي عنها في بعض الأحاديث كالذي كان بين الأوس والخزرج من الأنصار رضي الله عنهم ، هذا مجمل الجواب عن الأسئلة الثلاثة الأولى .
وأما فكرة الوطنية العصرية فهي عبارة عن اتحاد أهل الوطن المختلفي الأديان وتعاونهم على الدفاع عن وطنهم المشترك وحفظ استقلاله ، أو إعادته إن فقد ، وعلى عمرانه ، فهي لا تظهر في جزائر إندونيسية كظهورها في مصر ، ونظر الإسلام فيها أنه يوجب على المسلمين الدفاع عمن يدخل في حكمهم من غيرهم ومساواته بهم في الأحكام الشرعية العادلة ، فكيف لا يجيز اشتراكهم معهم في الدفاع عن البلاد وحفظ استقلالها والعناية بعمرانها ؟ وقد رفع الصحابة رضي الله عنهم الجزية عمن شاركهم من أهل الذمة في الحرب في خلافة عمر رضي الله عنه ، كما بيَّنَّاه بالشواهد في الجزء العاشر من تفسير المنار .(49/87)
وأما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم فهو أن يكون أسوة حسنة لأهل وطنه على اختلاف مللهم ونِحَلِهِم ومشاركًا لهم في كل عمل مشروع لاستقلاله وترقيته بالعلم والفضيلة والقوة والثروة على قاعدة الشرع الإسلامي في تقديم الأقرب فالأقرب في الحقوق والواجبات ، وأن لا يغفل في خدمته لوطنه وقومه عن كون الإسلام قد كرَّمَه ورفع قدره بجعله أخًا لمئات الملايين من المسلمين في العالم فهو عضو لجسم أكبر من قومه ، ووطنه الشخصي جزء من وطنه الملي وإنه يجب عليه أن يتحرى جعل ترقي الجزء وسيلة لترقي الكل .
وأما الوحدة الإسلامية فهي تتحقق ببضع روابط بيَّنَّاها في كتابنا ( الوحي المحمدي ) وفي تفسيرنا ومنارنا ، فراجعوها وراجعوا في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام ( ص917 ) رأيه في الوطنية والدين ، وفي الجزء الثاني منه مقالاته في الجنسية وفي التعصب .
================(49/88)
(49/89)
دعاة التخريب لا دعاة التجديد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن من يقال عنهم قادة الفكر والمعرفة في عصر التنوير قد علت أصواتهم في عصرنا الحاضر تنادي بتجديد الخطاب الديني، ولما في هذه الدعوى من خطر على الشرع الحنيف، لأنها لا تعدو أن تكون صدى لما يصبو إليه الصليبيون من
مسخ لأحكام الدين وتحريفه وتغييره، كان لزامًا علينا أن نوضح، المراد من التجديد عند هؤلاء؟ وما هي الأهداف الحقيقية لهذا الشعار الخادع؟
إن المعنى الحقيقي للتجديد، هو العودة للأصول والأحكام الثابتة، وترك تقليد الآباء والأجداد، إذ التجديد يعني إظهار القديم وإعادته إلى ما كان عليه، فالمجدد يظهر السنة ويحيي ما اندرس من الأحكام الشرعية ويميت البدعة ويقمعها ويدحض أهلها باللسان والبنان، ويعيد الدين إلى ما كان عليه في زمن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن يبعث لها على رأس كل قرن من يجدد لها دينها وينفي عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين
وغلو المتنطعين وتفلت الفاسقين.
والمجدد لابد أن يكون عالمًا بالعلوم الدينية، فهو من أهل الفقه المتمسكين بالأقوال والأفعال الشرعية، لا يفرط في بعض أحكامه
ولا يتساهل في حدوده، كما يكون عالما بواقع الأمة عارفًا بعللها مع الإحاطة بالأحوال التي لها علاقة بذلك الواقع.
فكيف يكون مجددًا؟ من ينصر البدعة ويطعن في الثوابت الشرعية فيبيح الغناء والوباء والاختلاط، والتبرج، وكيف يكون مجددًا
من لا علم له بالشرع وأحكامه.وتجديد الخطاب الديني إن كان المراد منه تغيير الأحكام الشرعية والقواعد الثابتة، فهذا تخريب وليس تجديدًا، وإن أريد به الطريقة التي يعرض بها الدين على المجتمع مع ثبات الأحكام فلا بأس عند ذلك من مخاطبة كل قوم بما يفهمون، وفي هذا قال علي رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله». فهذا هو التجديد المشروع، والتجديد المشروع له حدود ثلاثة:
1- إفشاء العلم بين الناس وإظهار الأحكام الشرعية التي اندرست بفعل الجهل الذي سيطر على كثير من المسلمين.
2- إعادة ما انتقض من الأحكام الشرعية، وبيان الأحكام الفقهية فيما نزل بالمسلمين مجردًا في إطار القواعد الفقهية والأصول الشرعية.
3- إزالة ما زاد في العبادات من بدع وكذا في العقائد والمعاملات، ورد ذلك كله إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الأطهار.وقد عرف المسلمون مجددين أعادوا إلى الدين ما كان عليه في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث تصدوا للبدع وأحيوا السنن وجمعوا الأمة على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وجاهدوا في سبيل الله واجتهدوا في فهم
النصوص الشرعية، وعلموا الناس أمور دينهم، ففي القرن الأول كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي القرن الثاني كان الشافعي رحمه الله، فهل ترى أخي في الله أن من يطلقون عليهم لقب المجددين في عصر التنوير يستحقون هذا اللقب أم
أنهم إلى التخريب أقرب؟ لأنهم يريدون تغيير الأحكام الشرعية لتناسب العصر ومعطياته، ولتستقيم مع ما يرى إخوان القردة المغضوب عليهم والضالون المحرفون لشرع ربهم.
ومما يجب الحذر منه أن هؤلاء المخربين لهم مكانة في مجتمعاتهم. فهم أصحاب قلم، تصدروا الفضائيات، وقادوا المؤتمرات وأقاموا اللقاءات والمناظرات وهم يتحدثون بألسنتنا وينسبون زورًا وبهتانًا إلى العلماء ويقدمون على أنهم علماء العصر ومجتهدو الزمن.
ملامح التجديد الديني عند المجددين المعاصرين ومن ملامح التخريب الديني عند المجددين المعاصرين اتباع الغرب الحاقد على دينمحمد صلى الله عليه وسلم .
1- إباحة الربا الذي عمت به البلوى في بلاد المسلمين، ممثلا في البنوك الربوية بتشريعاتها المخالفة لشرع الله.
2- منع الزوج من الزواج بأخرى إلا بموافقة الزوجة الأولى، فحظروا ما أباحه الله تعالى.
3- اعتبار حجاب المرأة مسألة حرية شخصية لا امرًا شرعيًا، فالتقاليد والأعراف تحكم لباس المرأة وليس الشرع.
4- اعتبار الحدود الشرعية لا رحمة فيها فضلاً عن تشويهها للمجتمع فيجب إعادة النظر فيها.
5- إظهار الخور والضعف عند التفرقة بين المسلمين وغير المسلمين كما يقول تعالى: أفنجعل المسلمين
كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون<<.
6- إلغاء آيات الجهاد من كتاب الله لأنها تدعو إلى الإرهاب والعنف في عالم ينبغي أن يسوده السلام الذي يريدون.
7- إلغاء حكم القوامة للرجل على المرأة في زمن خرجت فيه المرأة للعمل وتعلمت وحصلت على أعلى الشهادات العلمية، فلا مجال للحديث عن قوامة الرجل التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم<<.(49/90)
وهذا قليل من كثير ينعق به المخربون الجدد الذين يدعون إلى تخريب العقيدة وتخريب الشريعة لتلائم ما عند أسيادهم الغربيين الذين تربوا على موائدهم ورضعوا من ثقافتهم. وما يستند إليه هؤلاء المخربون قولهم: إن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان، وهي كلمة حق أريد بها باطل، فالأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير وإنما الذي قد يتغير هو الفتوى.
ودعوى تجديد الخطاب الديني ما هي إلا محاولة لدمج العالم كله في نسق فكري وثقافي وسياسي واقتصادي واحد يتبع الأكثر قوة، ولا عبرة لأصحاب الثوابت الشرعية المستمدة من الدين الذي يعتقدون، فخطبة الجمعة مثلا ينبغي أن تركز على الأخلاق والسلوك ولا مجال فيها لربط الحياة بالشرع أو الحديث عن كفر أهل الكتاب وتحريفهم للكتب المنزلة على رسلهم من رب العالمين، حفاظا على الوحدة الوطنية، بل يجب أن يحترم شركهم ويراعى كفرهم طبقا لحق المواطنة، ووسائل الإعلام ينبغي أن توسد إلى العلمانيين أو إلى أدعياء العلم الشرعي والجهلاء ليفسدوا على الناس دينهم بتصدرهم للحديث والفتوى بغير علم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». [رواه البخاري]
ومناهج التعليم يجب أن تغير طبقا لسياسة تجفيف المنابع الدينية عند الناس، بالإضافة إلى إغراق المجتمع في الفسق والرذائل
الأخلاقية وتوسيع دائرة الانحلال الخلقي من خلال الأفلام والمسلسلات التي تدعو إلى غير ذلك، ونشر الكتب ذات الثقافة الغربية والتي تطعن في دين الله مع تكريم أصحابها ومنحهم الجوائز العالمية على فعلهم الفاضح.
فالهدف هو مسخ الدين الإسلامي وتحويله إلى نسخة من الأديان المحرفة التي دفعها حقدها القديم لمحاولة تحريف الخطاب الديني الإسلامي لإزالة العوائق التي تحول دون أطماعها وأولها الإسلام متمثلا في قرآنه ولغته وأحكامه، قال الحاكم الفرنسي في الجزائر: «إننا لن ننتصر على الجزائر ما داموا يقرؤون هذا القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم، ونمحو اللسان العربي من ألسنتهم لأن الإسلام هو المرشح الوحيد لقيادة العالم لأنه يملك المقومات لهذه القيادة. أهـ.
يقول جل شأنه:
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره<<. وما محاولات العلمانيين المعاصرين إلا محاولة لتنفيذ مخططات أهل الكتاب فانتبهوا يا أولي الألباب.
والله من وراء القصد.
============(49/91)
(49/92)
إن الحكم إلا لله
إنَّ الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهدي اللهُ فلا مضل له, ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم وسلم تسليماً كثيراً .
عباد الله :
اتقوا الله فهي وصية الله إليكم, وهي خير لباسٍ في الدنيا, وخير زادٍ إلى الآخرة.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (الحشر:18).
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب: 71,70) .
أيها المؤمنون :
لقد جاء الإسلام بأعظم مباديء العدل والحرية وأصدقها ، وجاء بحير قيم التضامن والإخاء وأعمقها ، وإذا كان من شأن الإسلام أن يحقق لأتباعه سعادة الدارين فهو كذلك يضمن لغيرهم الحرية والأمن والاستقرار ولا يكرهكم على دين ، ولا يهضم لهم حقاً بل لهم البر والقسط وحسن الجوار وكرم المواطنة ، وذلك بشرط أن يكفوا أيديهم وألسنتهم وأن لا يعيقوا تقدم الدعوة أو يحجبوا نورها عن أحد . فلم تكن التعددية الثقافية معضلة تحتاج إلى حل ، ولم تكن تنوع الأعراق واختلاف الاتجاهات قضية تحتاج إلى نقاش وحوار . ففي أول سنواته في المدينة استطاع الإسلام أن يقدم أروع نموذج للميثاق الوطني العادل المنصف وأكمل صورة للتفاهم الحضاري بين أنواع من التكتلات البشرية التي كانت تعاني عمق الفجوة ، وقسوة الجفوة ، فقد جاء الإسلام إلى أهل المدينة وكان فيها عرب ويهود وكان العرب منقسمين على أنفسهم بين أوس وخزرج وجاءت فئة رابعة وهم المهاجرون ثم انشقت فئة خامسة بين تلك الفئات وهم المنافقون فانظر . إلى حدة الانقسامات وتنوعها وخطورتها على المصلحة الوطنية العامة وكانت دولة الإسلام آن ذاك حديثة التكوين تعاني ضعف البدايات نواقص النشأة الأولى .
فكيف استطاع الرسو صلى الله عليه وسلم أن يجنب تلك المركبة أخطار الصراعات ، وعواقب الانقسامات، كيف استطاع أن يردم وجوه الطبقية أو أن يحل مشكلة اختلاف الدين ، أو أن يتجاوز معضلة القبلية، ثم صاغ مجتمعاً متكاملاً متوازناً وعاشت كل فئة ناعمة بكامل حريتها ، مصونة الحق ، لم يلغ لها أصل أو دين ، لها حق التعبير عن وجهة نظرها ، ولها كامل الحرية في مزاولة أنشطتها التجارية والاجتماعية بل والدينية وذلك فيما يخص اليهود والمسلمين أليست تجربة حرِيّة بالدراسة والتأمل ، جديرة بالاستنساخ والتأسي، وذلك لأنها أنموذج صاغه الله عز وجل على يد رسول صلى الله عليه وسلم فهي شرع لا شك فيه ولأنها جيدة التمثيل للتعددية الثقافية والتنوع الحضاري ، ولأنها نجحت باعتراف المؤرخين وعلماء الاجتماع وخبراء السياسة .
ولنتوقف أولاً عند قضية اليهودية والإسلام لأنها كانت هي الفجوة الأوسع والأعمق في ذلك المجتمع فقد جاء الرسو صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة وكانت بعض أحيائها مسكونة باليهود منذ أزمنة بعيدة واليهود أهل مجد قديم ، وتاريخ عظيم ، وأهل خلفية ثقافية ثرية مميزة ، وفوق ذلك كانوا ينتظرون النبوة فيهم فكانوا لا يرون العرب شيئاًً فلما اختار الله رسول صلى الله عليه وسلم من قريش ثارت ثائرة الحسد في قلوبهم ، ونزعوا إلى التكذيب والمناداة - إلا قليل منهم -وعلى ذلك كله فاجأتهم ركائب المهاجرين تحط إلى جوارهم وتساكنهم ، ومساجد الإسلام تقوم على مشهد منهم فكان الخلاف بين اليهود والمسلمين حاداً عميقاً خطيراً تصعب السيطرة عليه ومع ذلك توصل صلى الله عليه وسلم إلى صيغة تفاهم تعد ميثاقاً وطنياً أخلاقياً عظيماً بكل الموازين حفظ لكل فئة حقها، وصان لكل قوم مصالحهم ، وضمن للجميع الكرامة والأمن والاستقرار، وقد كان أبرز بنود الصحيفة التي كتبها الرسو صلى الله عليه وسلم مع اليهود : أن بينهم النصر من حارب أهل هذه الصحيفة . وأنهم بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم ، وأن النصر للمظلوم ، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها ، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب ، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم وكان أعظم بنود الصحيفة وأكبر مرتكزات الميثاق بنده الذي يقول وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل والى صلى الله عليه وسلم هذا الميثاق التاريخي العظيم صاغ من أهل المدينة الممزقة مجتمعاً متحداً لا يظلم فيه ضعيف ولا يضار صاحب حق .
ولو تأملنا هذا التفاهم والحوار الوطني الذي قاد صلى الله عليه وسلم لأمكننا تلخيصه في مجموعة قواعد أولها :(49/93)
عهد التناصر والعون والمساندة وأول أبوابه وأبجدياته عدم الاعتداء والكف عن الإيذاء ، وذلك حرصاً على الأمن والاستقرار فهو توظيف للخلاف لتحصيل القوة والمنعة وتحقيق الطمأنينة فرغم عظيم الاختلاف إلا أن الأمن يظل مطلباً ملحاً على كل الفرقاء المساهمة في إرساء دعائمه وحفظه فزعزعة الأمن ليست في مصلحة طرف دون طرف ، وكان من لوازم ذلك أن تؤكد مذكرة التفاهم على التحذير من الاتصال بالعدو الخارجي أو الاستقواء به .
ومعنى ذلك أنه لن ينجح أي تفاهم وطني أو ميثاق محلي ما دام بعض أطراف يديه اليسرى لبلاده واليمنى إلى أعدائه لسانه مع إخوانه وقلبه مع الغزاة . ولذلك أكدت الصحيفة أن لا تجار قريش ولا من ناصرها .
فالله قد أقر الإحسان للكفار بل أمر به وبالقسط إذا التزموا المسالمة (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (الممتحنة:9) .
كما كان من أعظم قواعد الميثاق الوحدوي العظيم أنه عندما يحدث خلاف بين الفرقاء أو تنشب مشكلة بين المتحالفين فإن مردها إلى الله ورسوله .
وهذا البند لا يحفظ حق فئة معينة ، ولا يصب في مصلحة طائفة محددة ، إنه حفظ لحق الله عز وجل في التشريع والحكم يقول عز وجل " إن الحكم إلا لله " أي ليس لأحد حق الحكم والفصل بين الخصوم ولا في القضايا الخلافية إلا لله وحده بشرعه وكتابه وسنة نبي صلى الله عليه وسلم والداهية الدهياء ، والمصيبة العمياء ، هو ذلك الانحراف الذي أصاب فكر المجتمعات فباتوا يحسبون النزوع إلى القرآن والدعوة إلى الاحتكام إلى الوحي أنه انحياز لمنهج فئة الإسلاميين على حساب غيرهم ، فالإسلام ليس هو الإسلاميون .
الإسلام شرع الله وحكمه أنزله للناس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأسودهم كافرهم ومؤمنهم .
يقول سبحانه: (( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً )) (النساء:105) .
فالحكم لله وحده فيما اختلف الناس فيه ولا يلغي حق الله في الحكم بخجة الأغلبية في نظام التصويت أو غير ذلك من الأساليب التي ابتدعتها ثقافة الكفر لتنحية شرع الله .
نعم للمجتمعات أن تحسم أمور دنياها بما تشاء من أنظمة ، ولكن ليس لها الحق أن تصوت على شيء حكم فيه الله وحسمه في كتابه وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، لقد جاءت قاعدة الرد إلى الله ورسوله في صحيفة المعاهدة لتحفظ حق الطرفين وليست لمصلحة المسلمين دون اليهود ، ولذلك كان اليهود يرون مصلحتهم في ذلك فكانوا يحتكمون إلى الرسو صلى الله عليه وسلم حتى فيما يشجر بينهم أحياناً ... بهذه المرجعية الربانية الواضحة الحاسمة وعليها أسس الرسو صلى الله عليه وسلم الميثاق الوطني ، وصنع معجزة التلاحم بين فئات كانت لا يمكن أن تجتمع على عهد لو لا أنه هدى الله الذي هدى إليه رسول صلى الله عليه وسلم : (( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً )) .
الخطبة الثانية
واعلموا أن مصالح الدنيا يمكن أن تتقاسمها المجتمعات والأفراد ، ولكن قضايا الشرع والدين وأخلاقيات الأمة وهويتها لا يمكن أن تكون مقسمة ولا موزعة ، تلك أمور لا بد أن تكون أحادية المستند والمصدر والمرجع ، وليس لأي فئة أو طائفة أو اتجاه أن يجتهد في صناعتها، أو أن يبتكر في تكوينها ، فالله قد نزل القرآن العظيم ليكون حكماً على الناس أجمعين ، ولا يعني ذلك مصادرة حقهم في التزام دينهم ، ولكنهم يلزمون بالاحتكام إلى الله ورسول صلى الله عليه وسلم إذا شجر بينهم خلاف وبين المسلمين .
تلك كانت هي قاعدة العهد الذي بين رسول ا صلى الله عليه وسلم وبين اليهود ، وفي ظل الالتزام بها عاش اليهود آمنين.
يروي التاريخ أعاجيب القصص عن ثقتهم برسول ا صلى الله عليه وسلم واحتكامهم إليه ورضاهم بقوله وسعادتهم بعدله .
أما طبيعة الوفاق الذي صاغه الرسو صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على اختلاف قبائلهم وأوطانهم وأعراقهم فلا تسل عن روح الإخاء التي بناها الرسو صلى الله عليه وسلم بينهم حتى بات الخزرجي يستنصر بالأوسي فكان الإسلام برمته ميثاقاً غليظاً بين تلك الأعراق أما بنود هذا الاتفاق فكان قول صلى الله عليه وسلم : (( يأيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام )) .
وقوله : (( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه )) .
وقوله :(( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وقوله " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) .
وقوله (( المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله )) .(49/94)
وقوله :(( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه )) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
=============(49/95)
(49/96)
قولهم : يا وطن أنت الأول والأخير
تاريخ الفتوى : …27 ربيع الثاني 1422 / 19-07-2001
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة ..
لدي سؤال على شريط أناشيد إسلامية ..
هو: هناك شريط أناشيد يحتوى على إقاعات موسيقية والله أعلم لكن يمكن تميز ذلك من السمع .. فهل يجوز سماع مثل هذه الأناشيد ؟
وهذا الشريط يحتوي على أنشودة تعبر عن الوطن لكن هناك مقطع أريد من فضيلتكم التكرم بإخباري عن حكمه ، وهو قوله :
(( يا وطن أنت الأول والأخير ))
أيجوز البوح بهذه العباره ؟
وأنا أرى أن قولنا أن الوطن هو الأول والأخير .. كأنه لا يوجد مكان لمحبة الله سبحانه وتعالى أو لا نحبه قبل حب الوطن ولا بعده ..
وكذلك الأول والأخير من أسماء الله الحسنى فهل يجوز أن نطلق ذلك على غير الله ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق لنا جواب حول الأناشيد الإسلامية، والأصوات المصاحبة لها برقم: 2351، فنحيلك عليه رغبة في عدم التكرار.
وأما قولهم: يا وطن أنت الأول والأخير، فنرى أن هذا الإطلاق لا يجوز، فإن الأول والآخر هو الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان المراد تقديم رابطة الوطنية على كل فوارق اللون والدم والقبيلة والدين، بحيث يعطي الولاء والحب لكل من عاش على تراب الوطن، فهذا منكر ظاهر، فإن الدين مقدم على جميع الروابط من لغة أو جنس أو وطن، وولاء المسلم لأخيه المسلم لا يحده تراب وطن، أو حدود دولة، بل المسلم أخو المسلم، مهما تباعدت الديار وتناءت الأقطار.
والدعوة إلى الوطنية بالمفهوم السابق دعوة جاهلية معادية للعقيدة، فالحاصل أنه يجب التحرز من هذه الألفاظ المشتملة على الباطل المخالفة للحق، وعلى من وجدها في نشيد أو غيره أن ينكرها ، وأن ينصح لأصحابها ، وأن يبذل ما في وسعه من أجل سحبها من الشريط، فإن لم يستطع فلا أقل من أن يبتعد عن سماع أي نشيد تحتوي عليه، ولو كان خالياً من الموسيقى.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
============(49/97)
(49/98)
إطلاق كلمة الأجنبي على المقيم بغير بلده...
مخاطرها ومحاذيرها
تاريخ الفتوى : …23 رمضان 1422 / 09-12-2001
السؤال
1-ما حكم مناداة الأخ المسلم بعبارات منها ( الأجنبي ) في العديد من الدول الإسلامية ، ولمن تُقال هذه الكلمة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمناداة الشخص مسلماً كان أو كافراً بلفظ "أجنبي" أثر من آثار الغزو الفكري، لتغريب المسلمين عن ثقافتهم، واستبدالها بثقافة الغرب المنحطة، وللأستاذ علي القاضي بحث في هذا الموضوع نقله الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه معجم المناهي اللفظية، قال رحمه الله: (المجتمع الإسلامي في الماضي كان يستعمل ألفاظاً تحمل مدلولات إسلامية لا يختلف أحد في فهمها، ولا في استعمالها، ولا تدور المناقشات حولها، ثم جاء الاستعمار العسكري للبلاد الإسلامية، الذي تبعه الاستعمار الفكري، فعمل على تغيير الألفاظ، وتغيير مدلولاتها، فيسير المسلمون في اتجاه الحضارة الغربية، ويتركون الحضارة الإسلامية..ومن هذه التعبيرات الأجانب بدلاً من الكفار، الحرب بدلاً من الجهاد، التراث بدلاً من الإسلام، المساعي الحميدة بدلاً من الصلح بين طائفتين من المسلمين، الوطنية والقومية بدلاً من الإسلامية، إلى غير ذلك من التعبيرات التي تسربت إلى ثقافتنا الحديثة بدون أن نشعر، وبعد فترة بدأت هذه البذور تأتي ثمارها، فقد أصبح الكفار يعيشون في بلادنا على أنهم أجانب فقط، ومن الممكن أن يكون الأجنبي أيضاً مسلماً، وأن يكون عربياً، لأنه من غير البلد الذي يعيش فيه، ومن الممكن أيضاً أن يكون الأجنبي أرقى ثقافة، وأكثر مدنية، وبالتالي فالمسلم لا يرى أن هؤلاء الكفار دونه في شيء، وأنه مطالب بهدايتهم إلى الإسلام فيبدأ في الاقتداء بهم، وتنمحي صورة المسلم شيئاً فشيئاً، ويصير الأمر إلى ما نرى في بلادنا الإسلامية، من الاقتداء بالأجانب، والاقتناع بأنهم المثل الأعلى في التربية، ثم إلى الاقتناع بأن التمسك بالإسلام هو سبب التأخر في المجتمعات الإسلامية، التي تتمسك به، وقد حذر صلى الله عليه وسلم من ذلك. ا.هـ مع شيء من الاختصار.
فلا يصح إذن أن نطلقها على الكافر المقيم في بلاد الإسلام، لما سبق بيانه، ولا يصح أن نطلقها على المسلم المقيم في غير بلده التي ولد فيها، لأن البلاد الإسلامية كلها بلد واحد، وإنما حصل هذا التقسيم بتخطيط ومكر من أعداء الله عز وجل، ليورثوا الفرقة والعصبية بين المسلمين لكي يضعفوا أمام أعدائهم، والكل يعلم الأثر السيئ من إطلاق هذه الكلمة، وما سببته من حقد وإحن وتفريق. نسأل الله السلامة والعافية.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
============(49/99)
(49/100)
الأغاني الثورية... رؤية أخلاقية شرعية
تاريخ الفتوى : …28 محرم 1423 / 11-04-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أي نوع من أنواع الأغاني حرام؟ وهل الأغاني الثورية حرام؟ وهل الموسيقى حرام؟ وإذا حرمت لماذا يوجد قنوات إسلامية على سبيل المثال: اقرأ تضع موسيقى قبل الدعاية؟
وجزاكم الله كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم حكم الغناء والتفصيل فيه وحكم الموسيقى في الفتوى رقم: 5282، والفتوى رقم: 6110.
وأما الأغاني الثورية فغالبها - إن لم تكن كلها - تدعو إلى العنصريات الوطنية، والشعارات القومية، والنعرات الجاهلية، والمبادئ الهدامة، ونحو ذلك.
فهي محرمة، وتشتد حرمتها إذا صاحبتها آلات لهو وطرب، وأما إن خلت من هذه المحاذير، فلا بأس بها.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(49/101)
(49/102)
شروط جواز غناء المرأة أغاني دينية أو وطنية
تاريخ الفتوى : …22 صفر 1423 / 05-05-2002
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
هل غناء المرأة للقصائد والتواشيح الدينية والوطنية حرام؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذا السؤال مجمل والجواب عليه يحتاج إلى تفصيل :
1- هل هذا الغناء يشتمل على آلات اللهو كالموسيقى وغيرها، فإن كان كذلك فيحرم. ولا يفيد كونه أغان دينية أو وطنية. وقد قا صلى الله عليه وسلم " ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم .
2- إن كان الغناء لا يشتمل على استعمال آلات اللهو المحرمة ولكن يسمعه الرجال الأجانب فلا يجوز، لأن المرأة لا يجوز أن تغني بصوتها لغير زوجها ومحارمها .
3- وأما الأغاني الوطنية فغالبها تدعو إلى العنصريات البغيضة، والشعارات القومية، والنعرات الجاهلية، والمبادئ الهدامة ونحو ذلك، فلا يجوز التغني بها .
4- فإن خلا غناء المرأة من هذه المحاذير وكان بين نساء مؤمنات أو كان غناؤها لزوجها وأولادها ومحارمها فلا حرج فيه؛ على أن تكون الأغنية أو القصيدة غير مشتملة على محرم ولا على منكر .
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(49/103)
(49/104)
اختطاف الوطنيّة
سامي بن عبد العزيز الماجد … … … … …24/8/1426
… … … … …28/09/2005
الطاعة المفروضة للإمام بقيدها الشرعي دعامة ضرورية للمواطنة الصالحة، بيد أنها وحدها لا تضمن ذلك، فما أكثر الذين يُظهرون الطاعة، ويجدّدون البيعة كل حين، وهم أكذبُ الناس وطنيةً وأخونُهم لوطن. وفي الوطن من يتظاهر بالطاعة ويدعو الناس إلى الوطنية ويمتحنهم فيها، وهو أفرغهم منها قلباً، وأكثرهم لها خوناً.
إن اختزال الوطنية في طاعة ولي الأمر مغالطة تمارسها المرتزقة عمداً، وهو أمر ممجوج مشوّه للوطنية، يُشعر الناس أنهم مجرد عبيد لأسياد، يؤدُّون ولا يأخذون.
إن غاية ما تحققه الطاعة ـ بصورتها المشروعة الكاملة ـ أن تعالج صلة المحكوم بالحاكم، ولكنها لا تعالج صلة المجتمع بعضه ببعض، ولن تصحح العلاقة بين المواطنين أنفسهم. وهذه الصلة الأخرى بين المحكومين أنفسهم لا بد من مراعاتها لتحقيق المواطنة وتعزيز الوطنية، فكم من مطواعٍ لإمامه غشوم مع أهله وجيرانه!! وكم من معظم شأن الإمام وسلطانه مستخفٍّ بحرمات الناس، مقتات على حقوقهم، متربص بهم قالة السوء والوشاية تزلّفاً وارتزاقاً، وفي زمن العجائب يُقدّم هذا الغشوم الفتّان أنموذجاً للمواطنة الحقة! وليس له من مؤهلاتها إلا طاعته المطلقة لولي الأمر غير عابئٍ بما سوى ذلك من مقتضيات المواطنة!
ليست الوطنية أداء حقوق الراعي وتعظيمَ حرمته وحده، ولكنها أداء ـ كذلك ـ لحقوق الرعية وتعظيمٌ لحرماتها.
لقد اختُطِفتْ الوطنية،وابتدُعِتْ لها معايير شكليّة، وفُتن الناس فيها فتوناً، وامتُحنوا بما لم يُمتحنوا به من قبل، فأصبح تعليق الصور والوقوف للعلم محكًّا للمواطنة الصحيحة، فمن عظّم هذين فهو المواطن المخلص، ومن تحرّج منهما فوطنيّتُه مشكوكٌ فيها، ولو كان أميناً فيما أُؤتمن، مخلصاً فيما استُرعي، مطيعاً بالمعروف.
وهل خفي على هؤلاء المختطفين للوطنية أن أول من سيسقط في هذه المعايير هم علماؤنا وقضاتُنا؟! الذين ائتمنهم الإمام على الفتوى والقضاء، وارتضاهم لها، وارتضاها منهم، والذين لم يتركوا هذه المظاهر الشكلية إلا تحرّجاً وتأثماً. وإذا كان هؤلاء العلماءُ المفوَّض إليهم أمر الفتوى والقضاء غيرَ ملومين في هذا، فكيف يُلام مَن اقتدى بهم وصدر عن فتاويهم؟! ليس ثَمَّ إلا خياران: فإما أن تُعتبر فتواهم فلا يُؤاخذ من التزمها، وإما أن تُجرّد عن فتواهم صفة الرسمية وتُسقط عنهم ولاية الإفتاء. أمّا أنْ تُجعل لهم ولاية الفتوى، ثم يُلام من التزمها، فهذا مما لا يسوغ في العقول. ولماذا يستعظم هؤلاء المختطفون هذه المخالفة، وقد علموا أن مَن ترك هذه المظاهرَ الشكليةَ إنما تركها تأثّماً لا كرهاً أو استخفافاً؛ لفتوى تحرمها؟!
ومن عجيب أمر هؤلاء المختطِفين للوطنية تأكيدُهم في معالجة ظاهرة الغلو والإرهاب لأهمية المرجعية العلمية، بحيث يكون لها القولُ الفصل في الأمور العامة التي تعمّ بها البلوى، فإذا هؤلاء هم أول المسارعين لإسقاطها وانتزاع هيبتها، فيأخذون من فتاويهم ما يستحسنون، وينبِذون منها ما لا يهوَوْن، فهل يريدونها مرجعيةً مع حقِّ الانتقاء؟! وهل يريدون أن يجعلوا أنفسهم في حِلٍّ من التزامها واحترامِها؟! كيف سنربي شبابنا على احترام هذه المرجعية إذا كنا ندعوهم إليها ونتمرّد عليها بطريقة الانتقاء؟!
لقد وجدنا الدولة تتسامح في هذه المظاهر الشكلية لأجل تحرُّج الناس فيها، ولكننا بُلينا بأناس ليس لهم في الأمر ورد ولا صدَر، تمكّنوا أو مُكِّنوا في بعض وسائل الإعلامفاختطفوا الوطنية وصاغوا لها معايير شكلية ليمتحنوا بها وطنيةَ أناس قصداً وعن سابقِ ترصُّد، لتُلصق بهم تهمةَ خيانة الوطن وتؤلّب عليهم.
لقد اختُطفت الوطنية فأُخِذ بشكلياتها وقشورها وتُرك جوهرها ولبُّها، والعجيب أنك لو وعظت هؤلاء المختطفين للوطنية في بعض مظاهر التدين؛ كالحجاب وإعفاء اللحية وما شابه ذلك، لقالوا: هذه قشور ومظاهر شكلية، وحقيقة الدين وجوهره في القلب، وإنما العبرة بالإيمان والمعاملة! وبعضُ هذا حقّ ولا شك، ولكن لماذا لا تنسحب هذه النظرة على مسألة الوطنية؟! لماذا لا يزِنُون الوطنية بلبّها وجوهرها؟! ولماذا يمتحنون وطنية الناس بمعايير شكلية ويتناسون ما يحقّقه هؤلاء من لبّها وجوهرها؟! أما إنها (تصفية حسابات)، وما أخطر الأمر حين تُوظَّف الوطنية لتصفية الحسابات والوشاية والتحريض، فمآل هذا التوظيف احترابٌ داخلي ونزاع لا يرضى به إلا المتربصون الأعداء.
أين هؤلاء عن صور صارخة لخيانة الوطن، وما أكثرها؟! أليس من أعظم الخيانة أن يأتمن ولي الأمر رجلاً على ولاية فيخونَ الأمانة، ويستخفَ بالمسؤولية، ويوظِّفَها لمصالحه الشخصية؟! أليست هذه مخالفة لولي الأمر وخروجاً عن طاعته؟! وهل يشفع لهذا الخؤون تعليقه لصورة ولي الأمر وتزيّنه بها في مكتبه، وجعلُه النشيد الوطني وِردَه كلما أصبح أو أمسى؟! أليس من النفاق أن يستعلن الوطنية والطاعةَ ويستبطن الأثرةَ والخيانة؟!(49/105)
أين هؤلاء عن صورة أخرى من أعظم صور الخيانة للوطنية والوطن؟ أين هم عمن يستعدي على وطنه الأعداء نصرةً لمذهبه أو تشفّياً وتصفيةً للحسابات؟! وما يفيد الوطنَ أن يتظاهر هذا الخائن بالوطنية بمظاهرها الشكلية، وقد استعدى الأعداءَ بكتاباته المحرِّضة في صحفهم، والتي يتهم فيها مناهج التعليم والمؤسسات الدينية بالإرهاب.
وإذا كان مِن صور الاستعداء على الوطن استثارة الأعداء بالقتل والتفجير في بلادهم، فلماذا لا يُحسب من صورها ـ كذلك ـ الاستعداءُ بالكلمة الخبيثة والاتهام المحرّض؟! ومع أن هذا الاستعداء ظاهرٌ مفضوح إلا أنه غير معدود في صور الخيانة عند أولئك المختطِفين للوطنية!
فلماذا يغضّون طرفهم عن هذه الخيانة الصريحة؟! أليس من العجيب في زمن العجائب أن يُترك الحديث عن هذا الاستعداء قصداً على شهرته في الوقت الذي تُحسب من نقائض الوطنية أفعال شكلية محتملة
=============(49/106)
(49/107)
الإنسان والوطن
منصور الزغيبي 5/5/1428
22/05/2007
"أمة لا تعرف الوطنية لا تستحق الحياة" سعد زغلول.
حب الوطن شعور قديم قدم الإنسان، والإنسان من دون وطن لاشيء، والوطن من دون إنسان عبارة عن أرض ممتدة جامدة...! الإنسان والوطن كلمتان مترادفتان في المعاني والتفاني والتضحية والنهضة والتنمية ...
وقديماً قيل: من علامات الرشد أن تكون النفس إلى بلدها توّاقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة..!
يقول مصطفى صادق الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خيرَ فيمن لا يحبُّ بلادَه ولا في حليف الحبِّ إنْ لم يتيم
الإنسان والوطن... كالابن والأم... والزوج وزوجه، والصديق وصديقه، وكل ممتزجان في الوجود وفي الحياة.. حينما يكون من الهواجس الأولى حب الوطن وتنميته، والحرص على شفاء المتخلفين في سلوكهم وفكرهم، فهذا دليل وعي واجب.. والبلد سوف يرى قريباً النور بأي شكل كان، بوجود هذي العقول النيرة المباركة سوف تكتمل الرؤية... لقد جاء في الأثر المشهور صحيح المعنى: (حب الوطن من الإيمان). والإنسان الضميري، حبه لوطنه لا يضمر ولا يزول ولو عانى من ظلمها، بل سوف يسعى في تحريرها للرقي الأخلاقي والمعرفي..
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي إن ضنّوا عليَّ كرامُ
إن الزمن عمق العلاقة بين الإنسان الوطن، فجعل العلاقة بينهما متداخلة، وبنى بينهما واجبات لاتنتهي حتى الممات... والإنسان الذي ينكر ماضيه من الصعب عليه أن يصنع مستقبله، ومستقبل وطنه..!
إن الديانات السماوية كلها، وعلى وجه الخصوص الديانة الناسخة "الإسلام" تغرس في أعماق الإنسان حب الوطن.. والآثار مليئة بالشواهد والأحداث والقصص.. فمن السنة ما جاء في مسند الإمام أحمد أنه يُروى عن صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخاطب مكة أنه قال: "والله إنك أحب بلاد الله إلى ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت".
والوطن عند أهل اللغة كابن منظور في "لسان العرب" هو "المنزل الذي يمثل الموطن ومحله" و"وطن بالمكان وأوطن" أقام، متخذاً، إياه محلاً وسكناً يقيم فيه. وعرّف الجرجاني الوطن في كتابه التعريفات: "الوطن الأصلي هو: مولد الرجل والبلد الذي هو فيه". و عند الشيخ محمد عبده: "الوطن في اللغة محل الإنسان مطلقاً، فهو السكن بمعنى: استوطن القوم هذه الأرض وتوطنوها أي اتخذوها سكناً". ويقول عن الوطنية هي عبارة عن تعاون جميع أهل الوطن الواحد المختلفي الأديان على كل ما فيه عمرانه وإصلاح حكومته لا يعارض الدين الإسلامي في شيء.
والوطن عند أهل السياسة هو مكانك الذي تنسب إليه، ويحفظ حقك فيه ويعلم حقه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. وكان حد الوطن عند قدماء الرومانيين: المكان الذي فيه للمرء حقوق وواجبات سياسية".
والوطنية عند محمد عمارة هي: المشاعر والروابط الفطرية التي تنمو بالاكتساب لتشد الإنسان إلى الوطن الذي استوطنه وتوطن فيه".
والوطن عند زين العابدين الركابي: (هو الوعاء الجغرافي للإسلام والمسلمين، والإسلام إنما هو المضمون العقدي والثقافي والفكري والمعياري والاجتهادي والاجتماعي والإنساني والحضاري للوطن).
والوطنية في الموسوعة العربية العالمية: تعبير قومي يعني حب الشخص وإخلاصه لوطنه".
إن من ركائز النهوض إحياء القيم الوطنية والتي هي: التكافل والتكامل والتعاطف والتآخي والتعاون والصدق والنزاهة والوحدة والحب والإخلاص والصبر.. ..التي هي في الحقيقة عين الإيمان، والإهمال في ذلك خسران وضعف وجهل، والاجتماع على ذلك شيء مشروع لحديث قتادة عن أنس -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" رواه البخاري. والأبلغ من ذلك النص القرآني: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). [التوبة: من الآية71].
فهذه الآية تؤكد روح الانتماء.. يقول علال الفاسي: "ويمكننا أن نؤكد أن نجاح الاتحاد بين طبيعة الأرض وطبيعة النموذج النفسي هي في صالح الدين وفي صالح الأرض معاً، وبما أن طبيعة الأرض تتفق مع روح العصر غالباً فإن تجدد النموذج وتكييفه حسب روح العصر يلائم للأمة تناسق عناصرها التكوينية".
إن هذا الجيل الذي أطلق عليه د. أحمد أبو زيد العالم أنثروبولوجي (أولاد الفضاء المعلوماتي) يحتاج إلى حصانة داخلية، والأهم تصحيح مفاهيم مشوهة للقيم الوطنية، فمن أشهر هذه المفاهيم: جعل الهم الديني والهم الوطني متضاربين متباينين كل التباين..! الذي خلق ضعف في شعور الانتماء للوطن، الذي هو المنتج الأول والمحرك للطاقات الشابة الوطنية التي سوف تضيف للبلد رقياً في زمن قياسي.. يقول مصطفى كامل في خطبة له في الإسكندرية 190م: "قد يظن أن الدين ينافي الوطنية أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء. ولكني أرى أن الدين والوطنية توأمان متلازمان، وأن الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حباً صادقاً ويغذيه بروحه وما تملك يداه..".(49/108)
نحن في أشد الحاجة إلى تجديد المفاهيم الوطنية، وغرسها في الأرواح الشابة، بشكل تطبيقي يرسخ "فقه الوطن" الفقه الغائب. إن المراجع الفقهية التراثية والمعاصرة خالية من فقه الوطن، فليس هناك كتاب خاص ضمن الكتب المندرجة، أو باب على الأقل.. يعالج هذا الموضوع، الذي يوجد العدل والكرامة والحرية والوعي وتسهيل سبل العيش.. ويقضي على العوائق الثقيلة كالفقر والمرض والجهل التي أُطلق عليها الثالوث الخطير وغيرها من الفيروسات التي تضعف الروح الوطنية. إننا لسنا بحاجة إي شعارات تُردّد، أو أناشيد تُحفظ.. فلو كانت الأفكار والمشاعر والأحاسيس الوطنية هي الدماء التي تسري في عروق هذا المجتمع لرأينا المجد الذي نتمناه..
بالروح الوطنية نغتال الرذيلة، وبعبارة أشمل "أي نذيب العصبيات داخل القوم.. داخل المجتمع ... نتطلع إلى جيل الذين هم صلب الوطن، تشتعل أرواحهم تضحية ووفاء ونزاهة..
إن بيت "العائلة" صورة مصغرة من الوطن الكبير، والوطن صورة مصغرة من العالم الإنساني.
============(49/109)
(49/110)
صورة المرأة مكشوفة الوجه للبطاقة الشخصية...نظرة شرعية
تاريخ الفتوى : …29 ربيع الثاني 1423 / 10-07-2002
السؤال
لإخراج بطاقة التعريف الوطنية في الجزائر يطلب في الملف صور للنساء المتزوجات بغير خمار كاشفة الشعر والعنق فهل يجوز ذلك؟ وما الحكم الشرعي؟.
الفتوى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالأصل في المرأة ألا تكشف وجهها ولا شيئا من جسدها، بحيث يراها الرجال لأن المرأة كلها عورة.
واستخراج البطاقات التعريفية أصبح الآن من الأمور الضرورية التي يحتاج إليها في كثير من المعاملات، ولا يتم هذا إلا بوجود صورة على هذه البطاقة ليتم التعرف على الشخصية، فإبراز الوجه في هذه الحالة يكون من باب الضرورة، والقاعدة الشرعية من قواعد الفقه: أن الضرورات تبيح المحظورات.
ولكن لا يبدو أن هنالك مبرراً لإبراز الشعر والعنق، فتبقى على الأصل وهو التحريم.
وإذا أصرت السلطات على كشف الشعر والعنق في الصورة، وكانت هناك ضرورة ملجئة أو حاجة تقاربها لاستخراج البطاقة، فلا حرج إن شاء الله من استخراج صورة بهذه المواصفات. ويبقى الإثم على من اشترط أن تكون الصورة على الحالة المذكورة.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(49/111)
(49/112)
حول بطاقة المرأة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له ، الملكُ القدوسُ السلام، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولهُ النبي المصطفى، الإمام عليه وعلى آله وصحبه من ربهم أزكى الصلوات والسلام .أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فتقوى الله جماعُ كلِّ خيرٍ ومنبع كل صلاح.
أيُّها المسلمون:
كلُّ أمةٍ تعتمدُ في قوتها وثباتها على مقومٍ من المقومات، فأمةً تنافسُ بقوتها البشرية، وأخرى بمقوماتها الاقتصادية، وثالثةً بقوتها العسكرية، ونحنُ أمةَ الإسلام نُفاخرُ الأممَ وننافسها ونصارعُها بأعظمِ مُقومات البقاء، وأقوى عواملِ الثبات، وأسمى وسائلِ التحدي، نحنُ أمةً تُفاخر بمقوماتها العقدية، وبنائها الأخلاقي، حيثُ الترابط الأسري، والتكافلَ الاجتماعي، وحيث السلامة من الأدواءِ الخلقية، والأمراضِ الجنسية، لأننا أمةً تستمدُ منهجَ حياتها من كتابٍ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفهِ تنزيلٌ من حكيمٍ حميد، ومن سنةِ نبيٍ وسيرةَ رسولٍ لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌّ يوحى.
لقد أدرك أعداؤنا من يهودٍ ونصارى وهم يعيشون فوضى أخلاقية، وانحرافاتٍ اجتماعية، وتفككاتٍ أسرية، ويُعانون من أمراضٍ جنسيةٍ، وجرائمَ خلقية، أدركوا أنَّ المسلمين أمةٌ لن تُقهر، ما داموا يستمسكون بالمبادئِ الأخلاقيةِ السامية، فبدت البغضاءُ من أفواههم، وأصبحوا كما قال الله : (( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً )) (النساء: من الآية89) وكما أخبر الحق : (( ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم )وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ )) (البقرة: من الآية109) .
لذا فقد عملوا عبرَ وسائلهم المختلفةِ، ومن خلال أبواقهم وأذنابهم من المنافقين والمنافقات، وسعوا إلى أن تميلَ الأمةُ ميلاً عظيماً.
لقد أحسَّ أعداؤُنا وهم يُحاولون هدم هذه الأمةِ صلابة البناءَ الأسري في المجتمعاتِ المسلمة، وقوة الحصونِ الأخلاقية، فحملوا بخيلهم ورجلهم، وجرَّدوا الحملات المُسلحة بسهامِ الشهوات، وسمومَ الشُبهات، لتعيثَ في قلوبِ المسلمين فساداً، وتجوسُ خلالَ ديارهم لتسلخهم من دينهمُ الحقُّ الذي ارتضى اللهُ لهم.
لقد كان هؤلاءِ الأعداء خبثاءَ ماكرين في حربهم، إذ تفرسوا في أسبابِ قوةِ المسلمين وحددوها، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكرٍ ودهاء.
علموا أنَّ المرأةَ من أعظمِ أسبابِ القوةِ في المجتمع الإسلامي، وهم يعلمون أيضاً أنَّها سلاحٌ ذو حدين، وأنَّها قابلةً لأن تكون أخطرَ أسلحةِ الفتنة والتدمير، ومن هُنا كان النصيب الأكبر من حجم المؤامرات 0
إنَّ المرأة تملكُ مجموعةً من المواهب الضخمةِ، الجديرةِ بأن تبني أمةً، وأن تهدم أمة، قال - صلى الله عليه وسلم - (( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم.
وقال- صلى الله عليه وسلم - (( ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)) متفق عليه.
وقال حسَّان بن عطية: ما أُتيت أمة قط إلَّا من قبل نسائهم ، وقد كان للمرأةِ المسلمةِ دورٌ رائعٌ في بناءِ الصرح الإسلامي، وقد انتفعت الأمةُ بهذا الحدِّ النافعِ من سلاحِ المرأة في قرونها الخيرة، ثم لم تلبث الحالُ أن تدهورت شيئاً فشيئاً، وجُرحت الأمةُ بالحدِّ المُهلك من سلاح المرأة .
يجبُ أن لا ننسى أن انحرافَ المرأةِ، أو الانحرافَ بالمرأةِ كان السببُ الأول في أنَّ حضاراتٍ عتيقة انهارت وتمزقت كل ممزق، ونزل بأهلها العقاب الإلهي، والأوجاعُ والأمراضُ الفتاكة، كما وقع قديماً لليونان والروم وغيرهم ، أمَّا في عصرنا الحاضرِ فقد زخرَ التاريخُ الحديث بعبرٍ ومثُلات، تزيدُ يقينَ المؤمنِ بشؤمِ هاتيك المعاصي والشهوات، التي غرق فيها الغربيون، وتبعهم عليها كثيرٌ من الأمم، الأمرُ الذي ينذرُ بسوءِ العاقبةِ، فإنَّ المثُلات لم تنتهِ من الأرض ، فلئن هلك بعضُ الأممِ الظالمةِ بالخسف أو النسف، أو الجوعِ أو المسخ، إنَّ ذلك لمستمرٌ لم ينقطع بعد ولن ينقطع، وإلاّ فما هذه الزلازلُ تقرعُ البشر هنا وهناك، وما هذه السيولُ تجرفُ المُدن والقرى في الشرق والغرب، وما هذه الأمراضُ الفتاكة تجتاحُ الإنسان في كلِّ مكان، وقد عجزَ العلمُ عن استئصالها ، أمَّا المسخُ فما أكثرهُ في هذا العصر، الذي مُسخ فيه مُعظمُ البشرِ آلاتٍ تُحركُ آلات، فلا وفاءَ ولا حنان، ولا عدالةَ ولا أمان، فكأنَّ الأرضَ كلَّها على فوهةِ بركان.
أيُّها المسلمون :(49/113)
لم يعد خافياً ما تشهدهُ مجتمعات المسلمين اليوم من حملةٍ محمومةٍ، من الذين يتبعون الشهوات على حجابِ المرأةِ وحيائها وقرارها في بيتها،حيثُ ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيراً من مخططاتهم في كثيرٍ من مجتمعاتِ المسلمين، وذلك في غفلةٍ وقلةِ إنكارٍ من أهل العلم والصالحين، فأصبحَ الكثيرُ من هذه المجتمعاتِ تعجُّ بالسفورِ والاختلاط، والفسادِ المستطير، الأمرُ الذي أفسدَ الأعراضَ والأخلاقَ، وبقيت بقيةٌ من بلدان المسلمين لا زال فيها بحمد الله يقظةً من أهل العلم، والآمرين بالمعروفِ والناهينَ عن المنكر، حالت بين دُعاةِ السفورِ وبين كثيرٍ مما يرومون 0
ومن كيدِ المُفسدين في مثلِ المجتمعاتِ المحافظةِ، ولوجودِ أهلِ العلم والغيرة أنَّهم لا يُجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنهم يتسترون وراءَ الدين، ويُلبسون باطلهم بالحقِّ واتباع ما تشابه منه، وهذا شأنُ أهلِّ الزيغِ كما أخبر الله، وهُم أولَّ من يعلمُ أنَّ فساد أي مجتمعٍ إنَّما يبدأُ بإفسادِ المرأةِ واختلاطها بالرجال، وهذه حقيقةٌ لا يُماري فيها أحد، وملل الكفر أولَّ من يعرفُ هذه الحقيقة ومن خلالها دخلوا على كثيرٍ من المجتمعات المسلمين وأفسدوه، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم ذلك المهزومون من بني جلدتنا، ممن رضعوا من لبانِ الغرب وأفكاره. ولكن لأنَّهم يعيشون في بيئةٍ مسلمة، ولا زالَ لأهلِ العلم والغيرةِ حضورهم، فإنَّهم لا يتجرأون على طرحِ مطالبهم التغريبيةِ بشكلٍ صريح، لعلمهم بطبيعةِ تدينِ الناسِ ورفضهم لطروحاتهم، وخوفهم من الافتضاحِ بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباعِ المتشابهاتِ من الشرع وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يُلبسون الحقَّ بالباطل، وهم كما قال الله : ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) (البقرة:11) .
ومن تلك الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونةِ الأخيرةِ ونشروها في مجتمعنا المُحافظ، وفي بلدنا الذي يأرزُ إليهِ الإيمان، وتهوي إليه أفئدةُ الصالحين، ومنه نبعت الفضيلةُ ودعاتها، مطالبتهم بكشفِ المرأة عن وجهها، وإخراجها من بيتها، وهم يعلمون ونحنُ نعلمُ أنَّ تلك هي الشرارةُ الأولى، والخطوةُ الأولى نحو فسادِ المرأة،، وذهابِ حيائها، وهم في دعواتهم هذه يُلبسون الباطلَ ثوبَ الحقِّ، ويصوغُون القضيةَ بقالبٍ شرعي، ويعتمدون بزعمهم على أدلةٍ شرعيةٍ وأقوالٍ لبعض العلماء.
ونحنُ أيُّها المسلمون إحقاقاً للحقِّ، وبياناً لهُ، نقفُ مع هؤلاءِ وقفات :
أولاها : أنَّ هُناك فرقاً بين فتاوى مبينةٍ على التحري والاجتهاد، وأخرى محلولةَ العقالِ، مبنيةً على التجري لا التحري، والتي يصدرُها قومٌ لا خلاقَ لهم من الصحفيين، ومن أسموهم المفكرين وأهل التنوير ، يفرقونَ من تغطيةِ الوجهِ لا لأنَّ البحث العلمي المجرد أدَّاهم إلى أنَّهُ مكروهٌ أو جائز، أو بدعةٌ كما يرجفون ، ولكن لأنَّه يشمئزُ منهُ متبوعهم من كفارِ الشرقِ والغرب، ولك أن تُقدرَ شدةَ مكرِ القومِ الذين يُريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي، ثُمَّ يُبررون فعلهم هذا بقواعدِ النظام الإسلامي الاجتماعي 0
لقد أوتيت المرأةُ من الرخصةِ في النظام الإسلامي، أن تُبدي وجهها وكفيها، وما دعت إليه الحاجةُ والضرورة في بعضِ الأحوال، وأن تخرجَ من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاءِ يجعلون هذا نقطةَ البدءِ، وبدايةَ المسيرِ، ويتمادونَ إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوبَ الحياءِ والاحتشام، فلا يقفُ الأمرُ بإناثهم عند إبداءِ الوجهِ والكفين، بل يجاوزهُ إلى تعريةِ الشعرِ والذراعِ والنحرِ، إلى آخرِ هذهِ الهيئاتِ القبيحةِ المعروفة، وهاهو ذا المودودي- رحمهُ الله- يصرخُ في وجهِ هؤلاءِ الأحرار في سياستهم، العبيدُ في عقليتهم، قائلاً : (( ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يستخرج منهُ جوازُ هذا النمطِ المبتذلِ من الحياة، وإنَّكم يا إخوانَ التجدد إن شاءَ أحدكم أن يتبعَ غير سبيلِ الإسلام فهلا يجترئ، ويصرح بأنَّهُ يُريدُ أن يبغي على الإسلام، ويتفلت من شرائعهِ وهلا يربأ بنفسهِ عن هذا النفاقِ الذميم، والخيانة الوقحة )) 0
وثاني الوقفات : أنَّ قضية الحجابِ اليوم، وما يدورُ بينها وبين السفورِ من معارك، لم تُعد قضيةً فرعية، ومسألةً خلافية، ولكنَّها باتت قضيةً عقديةً مصيرية، ترتبطُ بالإذعانِ والاستسلامِ لشرع الله عز وجل، في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وعدم فصلها عن شئونِ الحياة كلها.
إنَّ التشنيعَ على تغطيةِ المرأة وجهها، والتهالكُ على خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال، ليست اليومَ مسألةً فقهيةً فرعية، ولكنَّها مسألةً خطيرةً، لها ما بعدها، لأنَّها تقومُ عند المنادين بذلك على فصلِ الدين عن حياةِ الناس، وعلى تغريبِ المجتمعِ، وكونها الخطوةُ الأولى أو كما يحلو لهم أن يُعبروا عنها بالطلقة الأولى .(49/114)
وثالث الوقفات : إنَّ المناديةَ اليوم بكشفِ وجه المرأةِ أمامَ غير المحارم، إنَّما يُوجِّهون نداءَهم إلى مجتمعاتٍ محافظة، لم تعرف نساؤهُ إلاَّ الحشمةَ و الحياء، وتغطيةَ الوجهِ والبُعد عن الرجالِ الأجانب، وهذا مما يُثيرُ العجب، ويُحيرُ العقلَ، و يضعُ استفهاماتٍ كثيرةٍ على مطالبهم تلك، فماذا يُريدون من ذلك، وماذا عليهم لو بقيت نساؤُهم وبناتهم وأخواتهم ونساء المسلمين، على هذه الحشمةِ والعفةِ و الحياء ، ماذا يضيرهم في ذلك ؟ ألا يشكرون اللهَ عزوجل على هذه النعمة العظيمة، ألا يعتبرون بما يرونه في المجتمعات المختلطة المتبرجة، حيثُ ضاعت قوامةُ الرجل، وظهرَ الفساد، وهُتكت الأعراض، وأصبحت تلك البُلدان مقصدَ كلِّ فاجر، وملاذَ كلِّ طالبٍ للرذيلة .
إن زماننا اليومَ زمنَ العجائبِ، وإلا فعلامَ يشرقُ قومنا بالفضيلةِ والطُهر والعفاف .
ورابع الوقفات : أنَّ الأدلةَ الموجبة لستر وجه المرأة و كفيها عن الرجالِ الأجانب، ووجوب الابتعادِ عنهم، أدلةً كثيرةً وصحيحة وصريحة، ويُمكنُ الرجوعُ إليها في فتاوى ورسائلِ أهل العلم الراسخين ، ولكن يحسنُ أن نُشير إلى أنَّ علماء الأمةِ قديماً وحديثاً من أجازَ منهم كشف الوجه ومن لم يجزه، كلهُم مُتفقون ومُجمعون على وجوبِ سترِ وجه المرأةِ وكفيها، إذا وجدت الفتنةُ وقامت أسبابها ، فبربكم أيُّ فتنة هي أشدُّ من فتنةِ النساء في هذا الزمان؟!! حيثُ بلغت وسائلُ الفتنةِ والإغراء بهنَّ مبلغاً لم يشهدهُ تاريخُ البشريةِ من قبل، وحيث تفنن شياطينُ الأنس في عرضِ المرأة بصورها المُثيرةِ في كلِّ شئ، في وسائلِ الأعلامِ المقروءةِ والمسموعة والمرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائلِ الدعايةِ و المكرِ والخداع ، فمن قال بعد ذلك إنَّ كشف المرأة عن وجهها، أو شئٍ من جسدها لا يثيرُ الفتنةَ فهو والله مغالطٌ مكابر، لا يوافقهُ في ذلك من لهُ مسكةٌ من دينٍ أو عقلٍ أو مروءة .
وإذا تبين ذلك فلنعلم أيضاً أنَّ هذا القدر من الخلاف بين العلماء بقي خلافاً نظرياً إلى حدٍ بعيد، حيثُ ظلَّ احتجابُ النساءِ هو الأصلُ في الهيئةِ الاجتماعية، خلالَ مراحلِ التاريخِ الإسلامي، كما قال شيخ الإسلام : (كانت سنة المؤمنين في زمن النبيe أنَّ الحُرة تحتجب)
وقال الإمامُ الغزالي : (( لم يزل الرجالُ على مرِّ الزمان مكشوفي الوجوه، و النساءَ يخرجن متنقبات )) 0
أيَّها المسلمون :
إنَّ المتأملَ في حال المتبعين للشهواتِ اليوم، ليأخذهُ العجبُ و الحيرةُ من أمرهم ، فمالهم وللمرأةِ المُسلمة التي تقرُّ في منزلها، توفرُ السكنَ لزوجها، وترعى أولادها، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصينِ تؤدي دورها الذي يُناسبُ أنوثتها و طبيعتها ، ماذا يُريدون من عملهم هذا، ثُمَّ ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخيرِ والدين؟! والخصالَ الكريمة؟! ماذا يُريدون من إفسادهم وتسليط برامجَ الإفسادِ المختلفةِ عليهم؟! هل يُريدون جيلاً مُختلاَّ يكونُ وبالاً على مجتمعه، ذليلاً لأعدائه ، عبداً لشهواته، إنَّ هذه هي النتيجة، وإنَّ من يسعى لهذه النتيجةِ التي تتجهُ إليها الأُسرُ المسلمةِ اليوم لهوَ من أشدِّ الناس خيانةً لمجتمعهِ وأمتهِ وتاريخه ، وإنَّ من عندهُ أدنى مروءةٍ ونخوةٍ فضلاً عن الدين والأيمان، لا يسمحُ لنفسهِ أن يكونَ من هؤلاءِ الظالمين المفسدين.
ثُمَّ أنتم يا مسلمون يا صالحون، يا أهلَ الشرفِ و الحياءِ و المروءةِ، كونوا يقظينَ لما يطرحهُ الظالمون لأنفسهم و أمتهم، من كتاباتٍ وحواراتٍ مؤداها إلى سفورِ المرأة و اختلاطها بالرجال، فما دامت المدافعةُ بين المصلحين و المفسدين، فإنَّ اللهَ عز وجل يقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فإذا هو زاهق.
يا مسلمون :
ينبغي أن لا ننسى في خضمِ الردودِ على ما يكتبهُ المفسدون من الشُبهات والشهوات، ذلك السيلُ الهادرُ الذي يتدفقُ من وسائلِ الأعلامِ المسموعةِ و المرئية في بلاد المسلمين، وذلك بما تبثُّهُ من دعواتٍ للمرأةِ إلى السفور، ومزاحمةِ الرجال في الأعمالِوالطرقات، عبر القصةِ والمسلسل والبرامج الحوارية، والمقابلاتِ والبرامجِ الغنائية ، ولقد ضربت هذه الوسائلُ بأطنابها في بلادِ المسلمين، فكان لزاماً على كلِّ غيورٍ محاربتها وإبعادها عن بيتهِ قدر الاستطاعة .
يا مسلمون :
ربُّوا نساءَكم وبناتكم على حُبِّ الحجابِ والتعلقِ به منذُ الصغر، ومن وسائلِ ذلك تحصينهنَّ الحصانةَ الفكريةِ و الأخلاقية، بأن تعلمَ المرأةُ المسلمة أوضاعَ المرأةِ الغربية، والإسفاف النفسي الذي وصلت إليه، وتعتيم الغزو لأوضاعها، وأحياناً قلبُ مفاسدها وانحرافاتها إلى فضائلَ و تكريم0
إننا لا نُريدُ المرأةَ المتحجبةِ تقليداً وعادةً تشعرُ مع الحجابِ بالضيقِ والحرج ، وتتخلى عنهُ لأدنى شبهة أو شهوة.(49/115)
نريدُ المرأةَ المسلمة التي ترى في الحجاب عزاً وشرفاً، وترى في الحياءِ سلوكاً وخلقاً، نريدُ المرأةَ التي تتحجبُ استسلاماً لله ، ورضاً بشريعتهِ، وخضوعاً لحكمه، وتتمثلُ قولَ الحقِّ: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )) (الأحزاب: من الآية36) 0
لا نريدُ المرأةَ المتحجبةَ المتخلفة، فإنَّ الدعوةَ إلى فريضةِ الحجابِ والعودة إليه، لا بُدَّ أن تُواكبها دعوةَ القائمين بأمرِ المرأة، إلى أن يؤدوا لها فريضة تحرير عقلها من حُجبِ التضليل والجهل والتخلف، وتِلكم مسئوليتكم أيُّها الأولياء، فاتقوا الله، وقوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
أقولُ هذا القول .
الخطبة الثانية
فإنَّ دُعاة تغريرِ المرأةش وتدميرها، ما فتئُوا يستغلون الظروفَ و الأزمات، لبثِّ أفكارهم العفنة و الدعوة إليها، وهُم في دعواتهم المتكررةِ لكشفِ المرأةِ وجهها، باعتبار ذلك خطوةً نحو تبرجها و سفورها، يعمُدون إلى وسائلَ متعددة، فتارةً من خلالِ الأفلام والمسلسلات،وتارةً من خلالِ الحفلاتِ و المهرجانات، وأُخرى من خلالِ الإعلاناتِ التجارية، و التي تُبرزُ الرجلَ حالقاً للحيته، و المرأةُ كاشفةً وجهها، باعتبارهم يُمثلون المجتمع السعودي،حتى يستمرئُ الناس ذلك و يألفونه .
وآخرُ خطواتهم في ذلك، دعواتهم منذُ سنواتٍ عبرَ الكتاباتِ الصحفيةِ، لاستقلالِ المرأةِ ببطاقةٍ تحملُ صورتها، بحجةِ أنَّ ذلك يحمي حقوقها ، ويثبتُ شخصيتها، ويقضي على صورِ التزوير، حتى تحولت دعواتهم إلى واقعٍ عملي، استرضي به حفنةً، واستغضبت به أمة.
ونحنُ إذ نُقدرُ للمسؤولين حرصهم على أمنِ البلدِ وحمايةِ حقوق ساكنيه، و نُثمنُ لهم خطواتهم لتحقيق ذلك، فإننا يجبُ أن نعلمَ أنَّ الله لم يجعل شفاءَ أمةِ محمدٍ فيما حرم عليها ، وإننا إذ نقفُ مع كلِّ خُطوةٍ تحققُ للبلد أمنهُ و استقراره، فإنَّهُ يجبُ أن نُدركَ أنَّ هُناك أمناً لا يمكنُ التفريط فيه، ألا وهو الأمن الأخلاقي .
إن أمتناعنا عن بطاقةِ المرأةِ ليس تحجراً و لا تعنتاً، و لا من بابِ المشقةِ، بل هو نظرٌ مصلحي، ومبنيٌّ على موازنةِ المصالح و المفاسد منها ، وسدَّ باب الذرائع قاعدةً شرعيةً متقررةٌ في القرآنِ والسنة، وعليها عملُ سلف الأمة ، و بنظرٍ مُتجردٌ من الأهواءِ و العواطف، والتأثيراتِ الإعلامية، سيُدركُ كلَّ صاحبَ عقلٍ أنَّ مفاسدها راجحةً على مصالحها، و إثمها أكبرُ من نفعها .
إنَّهُ نظراً لتعلقِ البطاقةِ بالمرأة، وهي عرضُ المسلم و شرفه، فإنَّ مثلَ هذهِ الأمورِ لابُدَّ أن تُقدر فيها مشاعرُ الغيرةِ لدى الناس، وليس الميزانُ في ذلك رضى البعض بها ، بل النظر هنا لمن يُوقعون عن اللهِ، وهم الذين أمرَنا اللهُ بالرجوع إليهم، وهم علماؤُنا الإجلاء، والذين قرروا بالإجماعِ في جلسةٍ لهيئةِ كبار العلماءِ أنَّ المصلحةَ الراجحةُ تقتضي بالمنعِ من ذلك ، وكذا بيانَ اللجنةِ الدائمةِ للإفتاء، والتي عدت المُطالبة ببطاقةِ المرأةِ من الأفكارِ المضللةِ للمجتمع .
ولابد أن نعلم أيُّها المسلمون أموراً منها :
أولاً : أن بطاقة المرأةِ وفيها صورتها خطوةً نحو حصولها على رخصةِ قيادة، مما يفتحُ البابَ لقيادتها للسيارة، وهو ما يطمحُ إليه دُعاة التغريب و الضلال .
ثانياً : أن مسوغات صرف البطاقةِ للمرأة غير مقنعةً البتة، سواءً في دعوى حفظِ حقوقها وكرامتها، أو رفع الظلمِ عنها من ذويها، وذلك لوجودِ بدائلَ متاحةً حالياً، وكافيةً لحفظِ حقوقِ المرأةِ المالية أو المعنوية ، والبطاقةُ لا تمنع الولي من ظلمهِ لزوجته أو ابنته أو أخته، والذي سيسلبها حقوقها، سيسلبها بطاقتها ، فأيُّ شئٍ ستحققهُ البطاقة للمرأة ، ورقم سجلِّها المدني، يحققُ لها حقوقها المدنية، و سجلاتها المستقلة سواءً كانت سجلاتٌ أمنية، أو تجارية، أو إحصائية.
ثالثاً : تصويرُ المرأة لوجهها في بطاقةٍ يُشاهدها الرجالُ في المحاكم، و الدوائر والمطارات،ونقاط التفتيش وفي الفنادق وغيرها، سيرفعُ الحاجزُ النفسي عند المرأة، وسيُجرئها على كشفِ وجهها في كلِّ مكان، ومن هُنا تنشأ المفاسد، وتكثرُ المخالفات الأخلاقية 0
رابعاً : مع ما في بطاقة المرأة من إضعافٍ لقوامةِ الرجل على أهله، حينما يصيرُ لدى المرأةِ شعورٌ بالاستقلالية، فإننا إذا سلمنا بأهميتها أمنياً، فما المبررُ لصورتها، رغم أنَّ الإثبات بالصورةِ من أسوءِ وسائل الإثبات، في زمنٍ تطورت فيه وسائلُ التزوير ، ومعلومٌ أنَّ الصورةَ تتغيرُ كلَّ حينٍ عند الرجال، فكيف بالمرأةِ التي تتغيرُ في اليومِ أكثر من مرة .
إذا سلمنا بالحاجةِ إلى البطاقة أمنيا،ً فإنَّ في وسائلِ الإثبات الحديثةِ من بصماتٍ وعدساتِ عينٍ ما يُغنى عن هذه الخطوةِ الخطيرة ، والتي تعتبرُ بدايةً لخلعِ الحجاب ، فلا تسأل عن انكسارِ عيونِ أهلِ الغيرة، وتقلصِ ظل الفضيلة، و انتشارِ الرذيلةِ وشيوعِ التبرج والسفور 0(49/116)
وإننا أيُّها المسلون لنتساءل : ماذا لو فقدت امرأةٌ بطاقتها و فيها صورتها؟! فعثرَ عليها أربابُ الشهوات! فجعلوا منها وسيلةً للمساومةِ على عفافِ المرأةِ و شرفها ؟ 0
وماذا لو عثرَ عليها المفسدون؟! فتفننوا في وضعها بأشكالٍ مُزريةٍ فاضحةٍ عبر شبكةِ الإنترنت؟! فهناك الفضائح و المخازي .
إنَّهُ يومَ أن تصورَ المرأةُ و تكشفُ وجهها ليراها كلَّ موظفٍ ومسؤول، حينها ترقبوا أن يكون حديثُ المجالس، ما أجملَ امرأةَ فلان!! وفلانٌ زوجتهُ ليست بذاك!! و حينها ارتقبوا خللاً أُسرياً، و تفككاً عائلياً، ومشاكل اجتماعيةٍ لا حصر لها .
وإنَّ لنا أن نتساءلَ و نسألَ أولئك الكُتاب والكاتبات، من المستغربين والمستغربات ، أدينُ الله يبغون؟! وبشريعتهِ يرضون ؟ إذاً فقد قال العلماءُ كلمتهم، وأصدروا حُكمهم، فلماذا لم تأخذوا بحكمهم ؟ أم أنَّهم غيرَ دين الله يبغون؟! وبحكمِ الجاهلية يرضون ؟ إن كانوا يؤمنون بالديمقراطيةِ، وأنَّ الرأي للأغلبية، فإنَّ غالبَ رجالَ الأمة و نساءَها، لا يرضون مثل هذه الخطوة الخطيرة، فلماذا لم يؤخذُ رأيهم بالاعتبار ؟ وبأيِّ حديثٍ هؤلاءِ يؤمنون ؟ 0
وإنَّ لنا أن نتساءل : المسؤولون يُريدون من البطاقةِ تحقيقُ مطلبٍ أمني ، ولكن أرباب الشهواتِ و دُعاةِ الضلالِ جعلوا منها وسيلةً للتشفي و التحدي، وإغاضةِ أهل الغيرة والصلاح، فهذا أحدهم يرسمُ في جريدةٍ صورةَ لبطاقة امرأةٍ وسماها، ( إنسانة بنت الوطن ) لأنَّها كانت قبل البطاقة في نظرهِ حيواناً لا قيمةَ لها، ولو كانت الصالحة القانتة، ويرسمُ معها رسماً لامرأة ترفعُ يديها بعلامات النصر، وكأنَّ المرأةَ قبل ذلك مقهورةً مظلومة .
وآخر يرسمُ رسماً يُعنونَ له ( الخاسرون في بطاقة المرأة ) ويرسمُ تحتهُ صوراً لأشخاصٍ أشكالهم قبيحة، وفي هيئةٍ مُقززة، وقد حفوا شواربهم، وتركوا لحاهم، وهُم ثلاثُ أصناف : المجرمون، النصَّابون ، والمزورون.
فياليت شعري : هل البطاقةُ مطلبٌ أمنى، أم هدفٌ علماني ؟
و إنَّ لنا أن نتساءل: لماذا لا تظهرُ الخفافيشُ إلاَّ في الظلام ؟ لماذا لا تُصدرُ هذه الدعواتِ الآثمة، والتي تفرقُ الصف، وتشتتُ الشمل، وتوغرُ الصدور، إلاَّ زمن الأحداثِ والأزمات، حيثُ تشتدُّ الحاجةُ إلى وحدةِ الصف، واجتماع الكلمةِ، ووقوفَ الرعية مع رعاتها، ولكنهُ النفاق والمنافقون (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (التوبة:47) .
وأخيراً أيُّها المسلمون :
إنَّ من حقِّ ولاتنا علينا، ومن حق هذا الوطن، وإنَّ من مقتضياتِ الغيرةِ على دينِ الله، وعلى حُرمات المسلمين، أن نبينَّ للمسؤولينَ الخطر الماحق، الذي سينشأُ من هذه البطاقة، وأن نقفَ جمعياً في خندقِ الإصلاح، ضدَّ كلِّ دعوةٍ تستهدفُ هدمَ جدارنا الأخلاقي، وزعزعةَ ثوابتِ الأمة .
إننا نتطلعُ أيُّها المسلمون إلى أن تكون غيرتُكم جبلاً، تتحطمُ عليه كلَّ نصالِ دعاةِ الضلال، وأن لا تكونَ غيرتكم جداراً من ورق، ينهارُ عند أدنى طمعٍ دنيوي، أو شهوةٍ مادية . نحنُ لا نريدُ المجتمع الذي يقتلُ الحسينَ ويسألُ عن دمِ البعوضة، لا نُريدُ الجيلَ الذي يأنفُ أفرادهُ من ذكرِ أسماءِ نسائهم في المجالس، و يسمحُون بصورهنَّ تتداولُ في كلِّ مكان .
قد قلتُ ما قلتُ نصحاً للهِ و لدينه ولأئمةِ المسلمين وعامتهم ، وغيرةً على هذا الوطن و أهله ، ومساهمةً في تحقيقِ المواطنةِ الحقيقية، وما أريدُ إلاَّ الإصلاحَ ما استطعت، وما توفيقي إلاَّ بالله، عليه توكلتُ و إليه أنيب .
اللهمَّ احفظ بلادنا و أهلها، و دُعاتها ورعاتها، من كيدِ الكائدين، وحسدِ الحاسدين، ودعوات المفسدين
============(49/117)
(49/118)
أهم العوامل في عدم الاتحاد بين المسلمين
تاريخ الفتوى : …24 جمادي الأولى 1424 / 24-07-2003
السؤال
لماذ لا تتحد الدول مع بعضها البعض؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا شك أن الفرقة عذاب، وأن الجماعة رحمة، ولهذا حث القرآن الكريم والسنة النبوية على الاجتماع والائتلاف، وحذّرا من الفرقة والاختلاف. قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران:105]. وقال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[الأنفال:46]. قال المفسرون: قوتكم ودولتكم. والأصل أن يكون المسلمون جميعًا في دولة واحدة وتحت قيادة عامة تجمعهم، هذا ما كان عليه المسلمون من قديم الزمان على اختلاف شعوبهم، فكانوا يجتمعون جميعًا تحت ظل الخلافة الإسلامية العامة، وإن كان لكل قُطر خصائصه ونظامه الداخلي. ولأهمية الخلافة في الإسلام ألحق أهل العلم وجوب تنصيب الإمام العام بالعقائد، فعقدوا له أبواباً في كتبهم في العقائد وأحكام الإمامة في الفقه، وجعلوه من فروض الكفايات، وظل المسلمون طول تاريخهم من عهد نبيهم r وخلفائه الراشدين ومن جاء بعدهم تحت قيادة عامة واحدة - تقريبًا - هي الخلافة الإسلامية، حتى جاء الاستعمار الغربي واحتل بلاد المسلمين في غفلة الرقيب وغيبة الحارس وقسَّم بلادهم إلى دويلات وكيانات هزيلة، صنعها على عينه وربطها بمصلحته، وزرع بينها العداوات والنزاعات الحدودية الوهمية على حد قوله: "فرق تسد". وعلى ذلك، فلا سبيل إلى اتحاد الدولة الإسلامية مادام الكفار يتحكمون فيهم ويهيمنون عليهم؛ لأنهم هم الذين فرقوا شمل العالم الإسلامي وقسَّموه ليسهل التحكم فيه. واتفاقية سايكس بيكو بين الدول المستعمرة في فرنسا سنة 1916م ما هي إلا جزء يسير مما نعلم، وما خفي أدهى وأعظم، وهذه الاتفاقيات وما أشبهها هي التي تمنع الدول الإسلامية من أن تتحد؛ لأن الذين أقاموها أصبحوا يتحكمون في العالم وفي العالم الإسلامي خاصة أكثر من تحكمهم في ذلك الوقت. فهذا أهم العوامل في عدم الاتحاد بين المسلمين، بالإضافة إلى عوامل أخرى شكلية. وإذا أراد المسلمون حقيقة أن يتحدوا فالطريق إلى ذلك واضح وميسر - ولا طريق غيره، مهما رفع من شعارات الوطنية والقومية وغيرها - وهو الرجوع إلى الله تعالى، والتمسك بدينه الشامل. وبغير ذلك لن تقوم للمسلمين قائمة. والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(49/119)
(49/120)
عنصرية جديدة أفرزتها الجاهلية الحديثة
تاريخ الفتوى : …04 جمادي الثانية 1424 / 03-08-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله شكراً لاتاحة الفرصة سؤالي غريب بعض الشيء ولكنه متفشي في مجتمعاتنا العربية وهو كراهية جنسية معينة لجنسية أخرى واعتقاد أن الجنسية الفلانية أناس غير جيدين أو كذابين أو نصابين وما إلى ذلك وهل يجوز أن يعامل إنسان ما بحكم مسبق على أنه من جنسية كذا وبالتالي فهو غير جيد؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم أن يحمل في قلبه البغض والكراهية لإخوانه المسلمين لمجرد أنهم يحملون جنسية معينة، أو ينسبون إلى جهة أو قبيلة أو عنصر. فإن هذه نظرة جاهلية أبطلها الإسلام، وعنصرية جديدة أبرزتها الجاهلية الحديثة، عندما قسمت العالم الإسلامي إلى جنسيات عدة وأوطان مختلفة.
ومبدأ التعميم مبدأ غير سليم يرفضه العقل الصحيح والشرع الصريح. قال الله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[الأنعام:164].
والناس بجبلتهم مختلفون ولو كانوا إخوة أشقاء، فهم مختلفون في الطباع والأذواق وفي الاستقامة والانحراف، كاختلافهم في الألسنة والألوان، وكل ذلك من آيات الله تعالى في هذا الكون وعظيم قدرته في هذه الحياة. فلا ينبغي للمسلم أن يكون ناقمًا على جنسية معينة وتعميمها بوصف - سواء كان صوابًا أو خطأً - قد اتصف به بعض أفرادها، فهذا ليس من الحكمة ولا من الإنصاف أو العدل.
والتعصب لمبدأ الجنس أو القوم أمر ممقوت طبعًا ومرفوض شرعًا، حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ...إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب، لينتهينّ أقوام عن فخرهم برجال، أو ليكوننّ أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن. رواه أحمد وأبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم ...دعوها فإنها منتنة. وفي رواية: فإنها خبيثة. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات:13].
وعليه فإن مفهوم القومية أو الوطنية أو الجهة، مفهوم جاهلي خاطئ يرفضه الإسلام، فلا قومية ولا جنسية أرفع من التقوى.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
===============(49/121)
(49/122)
حكم العمل بعزف الأناشيد الوطنية
تاريخ الفتوى : …28 ذو القعدة 1427 / 19-12-2006
السؤال
أعمل عازفا في فرقة تابعة للشرطة داخل الأكاديمية وهي فرقة شرفية
لعزف الأناشيد الوطنية دون غناء وأنا لا أعزف خارج هذا الإطار. وأريد أن أعرف هل عملي حرام؟ وهل إذا تزوجت تأثم زوجتي وأولادي إذا صرفت عليهم من عملي؟
أرجوا أن تجيبوني قريبا جدا فالأمر عاجل.
و جزاكم الله عنا كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعزف الموسيقي من الحرام البين؛ إلا الدف للنساء في العيدين والأفراح على الصحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف. رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها، وفيه ضعف، ولكن العمل عليه عند أكثر أهل العلم.
وأما المعازف الأخرى، فقد جاء في تحريمها قوله صلى الله عليه وسلم ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف. رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة. رواه البزار والضياء عن أنس، وحسنه الألباني.
وقد حكى جماعة من أهل العلم الإجماع على تحريم المعازف، منهم الإمام القرطبي وابن الصلاح وابن رجب وابن القيم وابن حجر الهيتمي. ولك أن تراجع في أنواع الغناء وحكم كل نوع منها فتوانا رقم: 987.
وعليه، فلا يجوز أن تعمل عازفا لا للأناشيد الوطنية ولا لغيرها. وقولك: إنك تعزف دون غناء، لا يغير هذا الحكم؛ لأن المحرم هو العزف وليس الغناء.
وقد بينا في الفتوى التي أحلناك عليها أن الغناء ليس كله محرما بخلاف العزف على الموسيقى.
وإذا تقررت حرمة عملك هذا فإن ما يستفاد منه من الدخل يكون محرما أيضا؛ لأنه من الكسب الخبيث، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ {البقرة:172} ويقول: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ {الأعراف:157}، وبالتالي فإن الزوجة والأولاد يأثمون إذا علموا بمصدره وأنفقوا منه ما لم يكونوا مضطرين لذلك.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
==============(49/123)
(49/124)
وطن أم وثن
عيسى بن مانع
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وبعد:
بلادي و إن جارت علي عزيزة === وأهلي و إن ضنوا علي كرام
دائما الحديث عن الوطن والمواطنة و الوطنية يسبب حرجا عند أناس و يعجب آخرين. و بما أن أغلب القضايا يدخل فيها ميزان يتكون من وسط وطرفين, فإن هذه القضية(الوطنية) من أكثر القضايا التي يتخبط فيها عموم البشر. و لكن حديثي هنا سيكون عن الوطنية عند العرب بشكل عام و عند السعوديين بشكل خاص.
على السعوديين أن يحمدوا الله أن جميع المواطنين السعوديين مسلمين(رسميا) وأن دين الإسلام هو الدين الوحيد الذي يعتنقه أهل السعودية, فلو كان هناك سعوديون لهم ديانات أخرى لكانت القضية خطيرة، ولوقعنا في حرج و خطر عظيم.
وفي الوطن العربي ظهر مع بداية القرن الماضي مفهومان للوطنية:
1- المفهوم العاطفي الانتمائي ذي الوجه الإسلامي الذي كان في أذهان بعض المفكرين والساسة مثل مصطفى كامل وحزبه الوطني الداعين إليها الذين لا يستهدفون بها مناهضة الإسلام أو استبدالها به بل نصره من خلالها.
2- المفهوم الوطني الوثني المحارب للإسلام منهجاً و انتماءً وعلاقة مع الآخرين وقد تمثلت في مصر في صحف و أحزاب ورموز مثل لطفي السيد وغيره.
و لتعلم -رحمك الله- أن حبك لوطنك لا يتنافى مع حبك لإخوانك المسلمين فوق أي أرض وعلى قدر طاعتهم لله و اجتنابهم لزواجره. فمفهوم (الأمة) يشمل المسلم -أي مسلم- مهما كان جنسه أو عرقه أو نسبه أو وطنه, وأنت وهو داخلان تحت مظلة الأمة الإسلامية لك ما له وعليك ما عليه.
ولم تمثل قضية الوطنية و المواطنة مشكلة في المجتمع السعودي الحاضر (فقط قليل من الجدل و النقاش) لأن الوطنية عند السعودي لا تأمره بالتبرؤ من غير السعودي ولا بالشوفينية وهي العصبية الوطنية المقيتة المنتشرة عند بعض الأحزاب الغربية اليمينية المتطرفة, والتي تنادي بحرق وقتل وطرد ونسف كل مالا ينتمي لها.
وعند تصفحك لنظام الحكم السعودي ترى جلياً و واضحاً أن نظام الحكم يحث على توثيق العلاقة و الولاء و البراء على أساس من الدين الإسلامي .
لكن القضية أم القضايا هي تعظيم غير شعائر الله التي لها علاقة بالوطن و الوطنية فهي بروتوكولات و مراسيم دولية أسس لها الغرب الكافر و نشرها بواسطة الاستخراب(ما يسمى زورا بالاستعمار) فأصبحت في نظر كثير من الناس دليل على الوطنية وعلى حب المرء لوطنه. إن الخلاف والنقاش الجاري بين الناس الآن هو في هذه القضية(((((تعظيم غير شعائر الله))))) وليس حب الوطن بل حب صلى الله عليه وسلم لمكة أكبر دليل على حب المرء لوطنه الذي ترعرع فيه ودرج فوق بطحاه و شرب من زلاله وكثير من المهاجرين في عهد النبي حنوا إلى مكة و إلى ديارهم ولم ينكر عليهم رسول ا صلى الله عليه وسلم .
هناك من الوطنيين العرب من باعوا أسرار بلادهم للعدو الصهيوني, و هناك من الأمريكان من باع أسرار عسكرية و استخباراتية للإتحاد السوفيتي و لا ترى أكثر من حب الأمريكي لوطنه.(في الإعلام والسينما, وربما في الواقع) لا أعتقد أن ترديد النشيد الوطني أو الوقوف له أو إجازة يوم واحد ستكون مانعاً لرئيس البلدية من اختلاس مليون ريال سعودي من خزينة الوطن.
=============(49/125)
(49/126)
الشغب الرياضي
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله خالق الأنام،ومنزل الغمام،من لا تأخذه سنة أو منام،شرع لأمة الإسلام دين النظام ،وحثها على المحبة والوئام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند يرام، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي المصطفى الهمام بلغ شريعة ربه وقام بحقها خير قيام فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تحدَّر ماء من غمام وما ناح على الأيك الحمام . أما بعد : فاتقوا الله عباد الله أمركم بذلك ربكم حيث قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([1]) .(49/127)
أمة الإيمان والنظام ظاهرة الشغب الرياضي ظاهرة جديدة على مجتمعنا ولكنها قديمة على المستوى العالمي حيث كانت أول أحداث شغب في العصر الحديث وقعت في تصفيات كأس العالم عام ألف وتسعمائة وأربع وستين للميلاد؛ حيث حدثت معركة بين الجماهير أثناء مباراة بيرو والأرجنتين وكانت حصيلة تلك المعركة أكثر من ثلاثمائة قتيل وأكثر من خمسمائة جريح ، وأكثر البلدان التي اشتهرت بشغب الملاعب هي بريطانيا حيث لا تكاد تمر سنة فيها إلا ويتسبب المشجعون المتهورون في كارثة تزهق أرواح الأبرياء(2)، هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة إذا تركت ولم تعالج من البداية يستفحل خطرها ويصعب بعد ذلك السيطرة عليها ؛ حيث إنها تنمو كالسرطان خاصة إذا ما وجدت شباباً بعدوا عن هدي الدين ووجدوا قدراً كبيراً من الفراغ إضافة إلى المال لذا بدأ الباحثون الاجتماعيون الغربيون الاهتمام بهذه الظاهرة ومحاولة علاجها ؛ ولم تقتصر تلك الظاهرة على الدول الغربية فقط بل أخذت تتسلل إلى الدول الإسلامية والعربية ، ولما أهملت بعض الدول علاجها والتصدي لها أخذت مناحي خطيرة حيث تعدت تلك الجماهير بالإتلاف على الممتلكات الحكومية والخاصة ومن أمثلة ذلك ما حدث في تونس في الرابع عشر من نيسان من عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين للميلاد حيث كانت حصيلة العنف الرياضي الذي حدث أكثر من خمسين متضرراً من أصحاب السيارات، وتكسير واجهات أكثر من عشرة مؤسسات تجارية،وخلع عشرات الإشارات الضوئية! أرأيتم أحبتي كيف إذا ترك المجال لهذه الظاهرة ولم يتم علاجها ماذا يترتب عليها ؟ وتعالوا لننظر ونتتبع هذه الظاهرة في بلادنا الطاهرة قبلة المسلمين فقد بدأت في صورة سيارات وأبواق في الشوارع ثم إذا بالأمر يتطور حتى أصبح إغلاقاً كاملاً للطرقات وتعطيلاً لحركة المرور ، وتفحيطاً وتجديعاً وشباباً يخرجون معظم أجسادهم من السيارات ! وقد يكون هناك ضحايا وموتى حتى من الأبرياء الذين يكونون في نزهة أو قضاء أمر ضروري ! وقد وصل الحال ببعض العقلاء أنه لا يخرج من بيته بعد انتهاء المباريات الحساسة خشية على نفسه أو أهله ، ومما يُتناقل في المجتمع أن الأمر لم يعد قصراً على الذكور فقط بل هناك فتيات أصبحن يخرجن في سيارة واحدة مع السائق ليشاركن في تلك الأعمال المشينة، والمصيبة أن كل تلك البلايا ترتكب باسم الوطنية وتشجيع المنتخب الوطني ، فنقول لأمثال هؤلاء إن هذه حجة واهية وفهم سقيم فالمواطن الصالح هو الذي يسعى لخير بلاده ويساهم في أمنها وأمانها وحفظ النظام فيها ، فأي وطنية تلك التي تنشر الفوضى والاضطراب وتعطيل مصالح الناس ؟ أي وطنية تلك التي تصورنا أمام العالم بأننا أمة بلهاء ذات اهتمامات وضيعة نعطي اللهو حجماً أكبر من العلم فكم من شاب جامعي ترك محاضراته ليتابع المباريات أو ليخرج للشوارع مشجعاً،وكم من طالب فرط في امتحانه ليتابع المباريات أو ليخرج إلى الشوارع مشجعاً؟ أي وطنية تلك التي تظهر للعالم أن قبلة الإسلام تفرح وتمرح غير عابئة بما يحدث لأطفال المسلمين في أرض الإسراء ؟ إن معيار الوطنية في هذه البلاد هو مدى الالتزام بتعاليم الإسلام التي تحافظ على مكتسبات البلاد وتسعى لتنميتها ، أقول لهذه الفئة من الشباب ماذا لو مات أحدكم في أثناء هذه الفوضى كيف يقابل ربه ؟ يبعث الناس يوم القيامة على ما ماتوا عليه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق حيث قال : ((يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ))(3)،فمن مات ساجداً يبعث ساجداً ومن مات للقرآن تالياً يبعث له تالياً والطفل الشهيد يبعث يوم القيامة بجراحه تثعب دماً،ويبعث صاحب الشغب الرياضي يوم القيامة في رقصه وتزميره وتفاهته،وقد تنحرف سيارة المشجع التي يتمايل بها طرباً وفرحاً فيفلت زمامها منه فتُزهق أرواح أبرياء قد يكون بينهم أطفال فكيف يجيب يوم القيامة يوم يأتون قائلين يا ربنا يا ربنا سله فيما قتلنا؟ كم من طرقات أغلقت وكان في تلك السيارات المعطلة في الزحام امرأة تعاني المخاض فتضع طفلها في السيارة فتتعرض حياتها وحياة وليدها للخطر بسبب فئة غوغائية جاهلة بعواقب الأمور،كم في تلك السيارات من مريض يعاني من أزمة الربو أو أزمة قلبية وهو في حاجة إلى إسعاف سريع وقد يقضي نحبه والمشاغبون بطبلهم ومزمارهم مشغولون، يقول أرمسترونج وهوبز في بحث لهما عن الشغب الرياضي: (إن مستوى الصوت والزعيق والطبل والأغاني الشعبية للمشجعين في المدرجات بطريقة حماسية تولد جواً ومناخاً من الحماس والإثارة تسبب الشغب العنيف وإن مثل هذا الهذيان النفسي إنما هو تعبير عن انخفاض الوعي لدى الجمهور وتدني مستواه الثقافي والعلمي)(4)،وقد أو ضح فان لمبرجين وآخرون أن معظم المشجعين العنيفين في مجال كرة القدم لوحظ أنهم تعرضوا لإحباطات خلال مراحل دراستهم ، فمعظمهم كانوا من عوائل غير مستقرة ومن طبقات اجتماعية عاملة كما إن معظمهم لم يكن لهم وظائف منتظمة(5)، وقد أجمع عدد من الباحثين علىخطورة دور الإعلام في تنمية وزيادة العنف الرياضي حيث يؤدي إلى تشنج الأعصاب وتكهرب الأجواء من خلال العنوانين البارزة، كما(49/128)
رأوا أن الصحافة والإذاعة والتلفزيون يقومون بتهويل المشهد الرياضي والمباريات الرياضية من خلال استخدام لغة تجعل منها شبيهة بالحرب،كما أنها قد تبرز الأعمال المفرطة في العنف أو تسكت عنها، كما قد تحث بشكل مباشر أو غير مباشر إلى التحيز والتعصب الرياضي، معاشر الأحباب لم يقتصر الشغب الرياضي على ما يحدث في الشوارع فقط بل بدأ ينسحب على العلاقات الأسرية والاجتماعية فكم من أسرة تشتت شملها لأن الزوج يشجع فريقاً والزوجة تشجع فريقاً آخر فينهزم فريق الزوج فلا يتحمل تلك الهزيمة وشماتة الزوجة فتكون ردة فعله الطلاق ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكم من أب يضرب ابنه بسبب التعصب الرياضي وكم من أخ هجر أخاه من النسب بسبب التعصب الرياضي،وأخطر من ذلك أن الأمر تسرب لدى بعض الناس للجانب العقدي فأصبح أحدهم يوالي ويعادي على أساس الفريق الذي يشجعه فهو يحب العاصي وحتى الكافر ويبجله لأنه يدرب أو يشجع نفس الفريق وقد يبغض الرجل الصالح لأن ليس له اهتمامات كروية أو لأنه لا يشجع نفس الفريق، أيها الأحبة في الله إن أساس تلك البلايا و نحوها إنما هو البعد عن معين الإسلام الصافي ونسيان المآل والسؤال،أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ()فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}(5).
الخطبة الثانية
إن الحمد لله أحمده واستعينه واستغفره واستهديه وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واقدروا للأمر قدره،معاشر الأحباب إن ظاهرة العنف الرياضي في بلادنا الحبيبة قد نالت حظها من العناية كظاهرة اجتماعية خطيرة فأجريت دراسات عليها وعلى سبل مواجهتها ولعل من أبرز نتائج ذلك القرار الأخير الحكيم لوزارة الداخلية بمعاملة أهل الفوضى والشغب بمزيد من الحزم للحد من هذه الظاهرة المتفاقمة التي لا تليق ولا تنسجم مع طبيعة الشعب السعودي المسلم ، وإني أرى أن من أساليب العلاج لتلك الظاهرة التخفيف مما يشحن الأنفس ويزيد التوتر من خلال تقليل الحديث الإعلامي عن كرة القدم كتخفيض عدد الصفحات الرياضية في الصحف والبرامج الإذاعية والتلفازية التي تهتم بالتحليل الرياض وتقليل نقل المباريات إعلامياً إلى أقل حد، توجيه المدرسين في المدارس أو الجامعات والكليات إلى بيان آداب الرياضة وضرورة الالتزام بها،كما أنه من أكثر الأساليب فعالية هو تكثيف الجرعة الدينية في المجتمع فهي اللجام الذي يحد من تفاقم تلك الظاهرة وقد كانت تجرى مسابقات رياضية على عهد صلى الله عليه وسلم في الجري أو سباق الخيل والهجن أو في الرمي وكان هناك مشجعون لكن لم يسجل التاريخ شيئاً من العنف الرياضي في تلك الفترة،وما نراه اليوم إنما هو تقليد غير واعي لمجتمعات كافرة ، وإني أوجه خطابي للأباء والأسر فأقول لهم أنتم مجال التربية الأول فلا يعتمد الرجل على أن تصلح الدولة أو المجتمع له ولده،فلابد لكل أب أن يتعاهد ابنه وابنته ويتفقد حالهما ومتى ما رأى بوادر العنف الرياضي عليهما أن يبادر بإصلاحها، وأقول لكل أب ولكل مدرس وقدوة في المجتمع أنتم قادة التربية في المجتمع فلا يجد منكم أبناءكم وتلاميذكم ما يشجع على حالة الشغب الرياضي وكونوا صمام أمان لمجتمعكم لأن لانتشار هذه الظاهرة ثمن ضخم يدفعه الجميع إن لم يتم تدارك الأمر من الآن ودرهم وقاية خير من قنطار علاج .
--------------------
([1])آل عمران:102.(2)أ.د/محمد حمزة السليماني وآخرون،دراسة مسحية لظاهرة العنف الرياضي في المملكة..،ط1(مكة المكرمة:جامعة أم القرى،1419هـ/1999م)،ص67.(3) مسلم،كتاب الجنة ، حديث (5126).(4)المرجع2 ،ص176.(5)المرجع السابق،ص183.(6)المؤمنون:115،116.
=============(49/129)
(49/130)
حب الوطن بين الحقيقة والإدعاء
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
أساء الكثيرون إدراك الكيفية الحقيقية لحب الوطن،فجعلوها ألحاناً وترانيم،وطقوساً وشعارات لا تمت إلى الوطنية الصحيحة بصلة،فنشأت أجيالٌ هزيلةٌ في ولاءاتها ساذجة في مخزونها الفكري بل والعاطفي!!
إذ سرعان ما تتنكر لأمتها،وتبادر إلى بيع ولاءاتها لمن يدفع أكثر!!
ولنأخذ القضية العراقية مثالاً حياً فهي من أشد قضايا الساعة سخونة وهيجاناً ، ونتأمل كيف تمكن المحتل الأجنبي من شراء الذمم ، وصنع الولاءات المعروضة للبيع ، لأعلى صاحب مزاد ، رغم أن كثيراً من الباعة كانوا منتمين لحزب البعث الذي أُنفق عليه الملايين ، وتمتع أعضاؤه وأسرهم بامتيازات لا تخطر ببال!
ذلك أن العلائق الدنيوية ، والمصالح المادية ، لا يمكن أن تصنع ولاءً صادقاً بل سرعان ما تذوب تلك الولاءات عند أول تيار ساخن يعصف بها كما أن تلك الوطنيات المزعومة سرعان ما تسقط عند الدفعة الأولى .
والحب الحقيقي للوطن هو الذي يُقدس العقيدة ويرسخها في الأجيال ، فينشأ عنها حب الوطن لإيمان أهله وإسلامهم وخلو أرضهم من مظاهر الشرك والبدعة لا الحب المُعظم للحجارة والأتربة والمناخ والتضاريس والحدود الجغرافية !
إنَّ الحب الحقيقي للوطن يتجلى في أمور منها :
أولاً : الحرص الأكيد ، والعمل الجاد في نشر العقيدة الصحيحة لتعم أرجاء الوطن كي يتمتع المواطنون بالإيمان الحقيقي بالله تعالى ويصدقون في حُبه والاعتماد عليه وحده دون غيره حتى إذا ما حاولت قوة في الأرض الاعتداء على دينهم وعقيدتهم أو استباحة أرضهم وأموالهم إذا بهم ينتفضون انتفاضة الأسد دفاعاً عن الدين والعقيدة وذباً عن الأعراض،والأوطان،معتمدين على الله تعالى دون غيره،موقنين بأن قوته الباهرة كفيلة بهزيمة أي عدو غاشم ، وعقر كل جواَّظ غليظ ، وقهر كل صائل أثيم !!
ثانياً : القضاء المحكم على أسباب الشر والرذيلة ، وعوامل الخلاعة والميوعة التي تغرق المجتمع في أوحال الفساد والخنا، فتنشأ الأجيال الشهوانية العابدة لملذاتها ومتعها الرخيصة بحيث يتعذر عليها القيام بأدنى دور ذي بال يحفظ لها كرامتها وشرفها عند تعرضها للامتهان على يد عدو متربص وصائل حاقد .
فضلاً عن جهاده ومقاومته وطرده ودحره !
إذ أن تجفيف منافع الفساد والفتنة هو الكفيل بصنع الرجال الحقيقيين المحبين لربهم ودينهم المدافعين عن وطنهم المؤمن الموحد ، بصدق وعزيمة .
ثالثاً : العمل الجاد على قيام الوحدة والألفة بين أبناء المجتمع على أساس العقيدة السلفية الخالصة البعيدة عن المساومات ، والمزايدات ، والمهاترات ، والمشاحنات ،وهي وحدة لا تقبل أنصاف الحلول أو التلفيق والتجميع غير المنضبط بضوابط الشريعة المحكمة والملة الخالدة .
وكل من يرفض الوحدة على هذا الأساس الراسخ والمبدأ القويم فهو عدو حقيقي لوطنه، خائن لأمته مهما تغنى بغير ذلك وأظهر من النفاق الاجتماعي ما أظهر !!
ولا بد من قيام الكوادر الخيّرة من علماء ودعاة وفضلاء بدورهم المأمول في بث القيم الفاضلة ، والمثل العالية في أوساط المجتمع المسلم ودعوة الناس إلى الدين الحق ، و الإسلام الصحيح وفق فهم السلف الصالح ومن ذلك أن الإسلام دين ودولة وراع ورعية وحقوق وواجبات والعمل على تبادل المحبة الشرعية بين الولاة ورعاياهم على أساس راسخ من التعاليم الشرعية الفاضلة .
رابعاً : الحذر من كيد الأعداء ومكرهم وخداعهم ، ومحاولتهم اختراق المجتمع المسلم ، وبث الفتنة في أرجائه ، وتأجيج العداوات بين أبنائه ومحاولة إذكاء الخصومات وأسباب الفُرقة والنزاع بين أبناء العقيدة الواحدة ليسهل لهم الانقضاض واستثمار الظروف المضطربة ، والأوضاع الملتهبة ، والشواهد كثيرة حاضرة ، لا ينساها العقلاء النجباء .
بدءاً من لبنان إبّان الحرب الأهلية الدامية،ومروراً بأزمة الجنوب السوداني،وانتهاء باحتلال أفغانستان والعراق !!
إنّ الكثيرين يدّعون حبّ الوطن،ويؤيدون دعاواهم تلك ببراهين أوهى من بيت العنكبوت لا يمكن أن يصدقها إلا الفارغون !
فهل من الوطنية الحقيقية والانتماء الجاد حبّ إشاعة الفاحشة في مجتمعات المسلمين بدعوى الترفيه ، والتنشيط السياحي ، وعبر بوابة الاحتفالات الموسمية ، والفعاليات العائلية ؟ !
وهل من الوطنية إغراق المجتمعات بطوفان من الفضائيات المخلة بالآداب والحشمة والعفة ؟ !
وهل من الوطنية إغراق الأوطان الإسلامية بملايين السياح الأجانب من ذوي العقائد الوثنية أو اللادينية فضلاً عن اليهود والنصارى فيتصدّع جدار الولاء والبراء وتُلتقط الصور التذكارية الجماعية لمسلمين وكفار!!
وهل من الوطنية محاولة بعث الآثار الغابرة ، وترميم الحجارة والقرى التي عبثت بها عوامل التعرية وصروف الزمان ؟ !
إنّ الحبّ الحقيقي للوطن لا يمت إلى هذه المظاهر بصلة،بل يتبرأ منها أشدّ البراء وأكدها .
إذ أننا لا نفهم الوطنية الحقّة إلا عقيدة راسخة ،ومجتمعاً موحّدًا وشعباً عفيفاً وقيادة راشدة .
ولا نفهم الأمن إلا أمن التوحيد والإيمان،وأمن الأخلاق والشرف،وأمن المال والعرض والدم ، والله المستعان..(49/131)
==============(49/132)
(49/133)
المشروع التغريبي إذ يحمله الصحويون ؟!
محمد جلال القصاص [1]
في القرآن الكريم تتكرر الأحداث ، بل والألفاظ ، حتى أن القرآن الكريم يحكي عن المفسدين في كل العصور ذات الكلمات بنصها ، ثم يتساءل متعجبا ( أتواصوا به ) ويجيب مقررا ( بل هم قوم طاغون ) ، فالاشتراك في المفاهيم والتصورات ــ وهي هنا الظلم والطغيان ــ أدى إلى تطابق الخارج من الجوارح .
نعم تتشابه القلوب فتتكرر الكلمات والأفعال والمواقف ، في الخير والشر ، وفي ثنايا السيرة شواهد عديدة ؛ يُشبَّه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بمؤمن آل فرعون ، وعُروة بن مسعود الثقفي بالرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى[2] ، وأبو جهل بفرعون[3] ، وأمية بن أبي الصلت بالذي آته الله آياته فانسلخ منها[4] ... وقريب من هذا " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ[5] " و " لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ[6] . وغير هذا كثير .
وفي الواقع المعاصر عجيبة لم أراها في التاريخ كله ، وهي أن الأحداث ... المشاريع ... تتكرر على مسافات قريبة جدا بذات الآليات . ولا يستطيع أحد أن يوقفها ، مع أن الأحداث تُنقل بالصوت والصورة من كل مكان في كل مكان . وهذا الأمر كثير جدا ، وبيِّن جدا في رحيل الاستعمار وتولي القوميون . . . العلمانيون ، تم الأمر بذات الطريقة تقريبا في كل الدول ، وذات الشيء يحدث في ما يعرف بتغريب المجتمعات الإسلامية ،وهو ما أردت الحديث عنه في هذا المقال .
أقول : بعد فشل المشروع التغريبي في مصر ، وقيام الصحوة الإسلامية على أنقاده ، بعد إفلاسه وانقلاب بعض كوادره وجمهوره عليه[7] ، بدأ يظهر في أماكن أخرى من العالم الإسلامي المحافظ الذي تربى على التوحيد ودعى إليه في جميع أنحاء المعمورة ، وبذات الآليات ، وعلى ذات المحاور ، وبذات الأفكار التي كانت . !!
ولا يستخفنك العجب وتمهل .
سأعرض عليك الخطوط الرئيسية للمشروع التغريبي في مصر لتعلم كيف أنها اليوم تتكرر .
بدأ المشروع التغريبي في مصر على عدة محاور ــ وكل محور كان يتطور في نفسه ويتعاون مع غيره ــ ؛ كان من أهمها حسب الترتيب الزمني :
ـــ البعثات العلمية ، التي أخرجت للمجتمع المصري فئة من ( المثقفين ) تشبعوا بحبِّ الغرب ، وراحوا يكتبون عنه بما يُحسِّن أحواله ، ويطالبون من طرف خفي أولا ثم على الملأ بعد ذلك أن يتخلى المجتمع المصري عن توجهه ( المحافظ ) وينفتح على العالم ؛كي يتقدم ويرتقي كما تقدم القوم وارتقوا .
ـ المدارس الخاصة ، ذات الخلفيات الدينية العلمانية في مناهجها أو مدرسيها ومدرائها [8]، وهذه كانت إحدى المصائب الكبرى التي رُميت بها الأمة في مصر وتركيا وغيرهما ، وكان لها أثرا كبيرا في المجتمع بعد ذلك ، والكلام فيها يطول . وهو مبثوث منشور في أماكن عدة ومن شاء أن يطلع فليفتش [9] .
ويلاحظ أن أصحاب البعثات وخريجي المدارس الخاصة ، كان لهم وضع خاص في الهيكل التوظيفي في الدولة يومها ، ومازال الحال كما هو إلى اليوم .
ــ المجلات والصحف ، كانت إحدى المحاور الرئيسية أيضا ، فبعضها كان ثقافي تنظيري يتحدث عن القضايا الجديدة وينظر لها ، وبعضها كان يرتدي ثوب ( الأدب ) ، يجدد في الأدب ، وتجديده كان معولا في جدار الشريعة ، ولك أن تراجع ما كتبت يدُ إيليا أبو ماضي ، وجبران خليل جبران . وغيرهما ممن تطاول على عقيدة القضاء والقدر ، وبعض المجلات عملت على ترويض أصحاب الهمم الدنيئة من الذين في قلوبهم مرض بإظهار الكاسيات العاريات المائلات المميلات ، وبث أخبار الفن والفنانين ، وتلميعهم في أعين الناس ليكونوا ( أبطالا ) يحتذي بهم .
ــ الوطنية وهي القَدُوم الذي تكفل بقطع أواصل الولاء ودق وتَد البراء ، فخرجت الحركات الوطنية التي عقدت الولاء على الوطن بحدوده المصطنعة ، ونظرت ( للآخر ) على أنه محتل ذي أطماع اقتصادية وعنجهية عنصرية ، وتعامت عن أنه كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرم ما حرم الله ورسوله ولا يدين دين الحق ، وأن المسلمون أمة واحدة .. كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
ــ ومن المحاور المهمة جدا محور المرأة ، الذي بدأ يتكلم عن جواز كشف الوجه ، وأن الحجاب في الشريعة لا يطاله ــ وهو قول مرجوح ــ ، ثم تسلل إلى جميع أجزاء المرأة إلا ما قبح كشفه وجَمُل ستره . فقد كانت دعوة قاسم أمين لا تتعدى المطالبة بكشف الوجه ، وكانت زوجته هو متسترة لا يراها الأجانب من الرجال .
وهي ذات الدغدغة التي تدور اليوم في الصحف على يد ( المتنورين ) .
ثم تكلموا في خروج المرأة وعملها . مشروع أم غير مشروع ؟!(49/134)
وما زالوا بالمرأة حتى أخرجوها من بيتها ؛ وكانت أقل الآثار التي ترتبت على خروج المرأة من بيتها تفكيك الأسرة ، وإهمال الأولاد ، ونشر الرزيلة في أماكن الاختلاط ، في الشارع وفي العمل ، نعم كانت هذه أقل الآثار على عظمها ، وكان أكبرها ــ وهو الغاية من التحرك على محور المرأة من وجهة نظري ــ هو مهاجمة العقيدة الإسلامية ؛ فبخروج المرأة ودخولها فيما لا يتناسب مع تركيبها الجسمي والنفسي الذي فطرها الله عليه ظهرت لها قضايا تتعارض مع الشريعة الإسلامية ، وتتعارض مع صريح النصوص القرآنية وصحيح الأحاديث النبوية ، فقالوا : تعمل كالرجل فلم تأخذ نصف الميراث ؟! وقالوا : تنفق من مالها كالرجل فلم القوامة للرجل وليست لها ؟
وقالوا وقالوا وكذبوا فيما قالوا .
فكانت المرأة إحدى القناطر التي عَبَرَ عليها الغرب لثوابتنا الشرعية ، وبثَّ من خلالها خطابا أقل نتائجه هي القول بأن الشريعة الإسلامية لم تعد تصلح لهذا الزمان .
والآن يدغدغون بكلام حول الوجه ويستأنسون بقول الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ بأن كشف الوجه جائز ، ويستدعون الغافلين من تلاميذه ليؤيدوا كلامهم . وكل نبيه ذكي يدري أن هؤلاء ليسوا كالشيخ الألباني ــ رحمه الله ــ وإن التقوا في هذه النقطة ؛ وكل نبيه ذكي يُعرض عليه هذا النقاش عليه أن ينظر في المآلات ثم يركل القوم بكلتا قدميه .
ــ وكان محور الهجوم على التراث الإسلامي بالتشكيك في بعضه ، وبالنبش عن النماذج السيئة في تاريخ الأمة وتقديمها للناس على أنه هذا هو ثمرة ( تحكيم الشريعة ) ، أو تقديم نموذج من تخلوا عن الدين وكفروا بالله رب العالمين ممن أمدهم الله بظاهرٍ من الحياة الدنيا ، وتشويق عامة النا[10]س إلى رقي كرقي هؤلاء وتحضر كتحضرهم .
ــ وانتشر الغناء وأقبل أهل الرقص والزمر " الفن" يثبتون الأفكار والمفاهيم بأجسادهم العارية ووجوههم الجميلة .
كان في طرحهم هجوم مباشر على ثوابت الشريعة الإسلامية ، مثل تعدد الزوجات ، وترسيخ مفهوم الولاء على الوطن لا الدين . والسخرية من اللغة العربية ومن مدرسي اللغة العربية ، ومن رجال الدين ( الملتزمين ــ المطاوعة ) ، وتقديم النموذج الغربي للشباب على أنه هو النموذج المثالي . هذا بجانب نشر الرذيلة .
ــ ثم جاء دور ( رجال الدين ) وكانوا هم ثاني المحاور من حيث الأهمية ــ من وجهة نظري ــ وكانوا هم الفاعل الرئيسي في مشروع التغريب ، فكل ما سبق كان بالإمكان رده أو حصره في إطار الانحراف الخلقي ، إلى أن جاء بعض المنتسبين للشريعة فألبسوا التغريب ثوب ( الإصلاح الديني ) . وبرزوا للأمة كمصلحين ... مناضلين ... ثائرين على ( الجمود ) و ( التعصب ) .
فقط أضع بعض الملامح للشخصيات الفاعلة في هذا المحور لترى كيف يُنتقى الشخصيات حديثا .
ــ من أبرز سمات الشخصيات ( الإصلاحية ) في المجتمع المصري يومها وخاصة ( محمد عبده )و ( الإيراني جمال الدين ) أنها كانت شخصيات ثائرة ، محسوبة على الثورة المصرية ضد الإنجليز ومن الواقفين في وجه الملك من أجل ( الإصلاح ) والمطالبة بالحقوق ، فقد برز ــ أو بالأحرى أُبرزَ ــ اسم محمد عبده في ثورة عرابي وتم نفيه للبنان ثم أعادوه بعد أن لمَّعوه ـــ . فكان هو ( رجل ) المرحلة ، كان هو التطور الطبيعي للطهطاوي و الإيراني .
ـ كل ما فعله ( الشيوخ ) هو أنهم تكلموا بأن ( الرقي ) و ( التحضر ) أو ( التجديد ) ــ بمفهومه المطروح من قبل الليبراليين اليوم ــ لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية ، وإقصاء ( الآخر ) ــ وهو البراء منه عندنا ــ مناطاته متعددة وليس محرما من كل وجه .
وأعرض عليك في عجالة بعض أفكارهم .
رفاعة الطهطاوي ــ وهو فَرَطُ القوم على حياض الغرب الكدرة النجسة ــ في كتابيه ( المرشد الأمين للبنات والبنين ) و ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) امتدح المجتمع الغربي .. أسلوب حياته وثقافته ، وحاول أن يحصر الأمر فقط في اختلاف المسميات.
وأثنى على الدستور الفرنسي الشرطة ، ووصفها بأنها عدلاً وإنصافا ًأدى إلى تعمير الممالك وراحة العباد وارتياح القلوب حتى أنه ما عاد يسمع عندهم من يشكو ظلماً أبدا .!!
وأحسب أن موسيقى حفلات الرقص التي أطال في وصفها ، ونساء باريس الآتي يرقصن مع الرجال ، صمَّت أذن ( الشيخ ) وألهته عن البحث في ضواحي باريس وقرى فرنسا عن إخوان ( المورسكيين ) وغيرهم ممن يثير الأرض ويسقي الحرث طلبا للرزق .
ثم جاء جمال الدين الأسد أبادي المشهور بالأفغاني والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة ، وادعى أن الأمة هي مصدر الحكم ، وأن الاشتراكية من الإسلام . ونادى بوحدة الأديان ، والسلام العالمي ؛ ومن أراد أن يستيقن أو يستزيد فليقرأ خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182(49/135)
ثم جاء محمد عبده ــ ولا حظ التطور في الطرح ــ وتحت مسمى ( الإصلاح )[11] أباح التشبه بالخواجات في الفتوى الترنسفالية ، وأباح الربا في شكل صناديق التوفير ، وحرَّم تعدد الزوجات ، وكان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة " وكان من ( أعظم من تجرأ على مفهوم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام من المنتسبين للعلماء بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة ودعوته إلى التعامل مع الإنجليز وغيرهم بحجة أن التعامل مع الكافر ليس محرماً من كل وجه ) [ العلمانية : 578] .
وقد لخص العقاد ما أريد قوله عن محمد عبده في سطرين يقول في [ أعلام العرب : 176 ] : ( وجملةً يمكن أن يقال أن ما من عملٍ من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق وبدأ فعلاً بالاستعداد لتنفيذها ومنها الجامعة المصرية التي كان يعني بها أن تقوم بتعليم العلوم وفقاً للمناهج الحديثة وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة ) [12]
وتدبر : التعامل مع الكفار ( قبول الآخر ) ، التشبه بهم ، إباحة الربا ، تحرير المرأة ، تحريم تعدد الزوجات ، أليست هي ذات المطالب التي ينادي بها الليبراليون اليوم ؟
ــ لم يتجه محمد عبده ومن معه في نقده للمؤسسة الدينية الرسمية ( الأزهر ) إلى من يخالفونه فيها ، لم يجلس معهم يخاطبهم بما عنده ، يعرض عليهم أطروحاته ويستمع لردودهم ، وقد كان الإخلاص يقتضي ذلك ، بل إن نصوص الشريعة تأمر بذلك ففي الحديث ( الدين النصيحة ... الحديث ) ، ولكنه اتجه للجماهير ، وأخذ يقلبها على المؤسسة الدينية الرسمية ، بل وينفرها منها ، بدعوى أنهم غير متفتحين ، لا يفقهون الواقع ، فتاويهم تصلح لخمسة قرون ماضية ، أما هذا اليوم فيحتاج لمفتي أوعى وأدرى بحال الناس ، وأخذ يرميهم بما ينفر الناس منهم . وكان متدنيا في كلماته يصف الأزهر بأنه ( المخروب ) و ( الأستبل ) في إشارة واضحة إلى أن ما فيه من علماء حيوانات لا يفقهون شيئا ، يتكلم بهذا ثم هو إمام ومجدد عند بعضهم !! ، وطبيعي أن يجد من يسمع له ويتحمس لفكرته .
ــ ومن أهم ما حدث أن هذا التيار الجديد أخذ يُربي مجموعة من النابهين الطامحين المتحمسين على أفكاره ، ولك أن تقرأ سير كل الشخصيات التي برزت بعد ذلك في جميع المجالات حتى السياسية لتجد أنها تأثرت مباشرة بالخطاب المنبعث من المؤسسة الدينية في شخص محمد عبده يومها ، قاسم أمين ، أحمد لطفي السيد ، سعد زغلول ، والذين جاءوا من بعدهم كابن العقاد وغيره . وكانت تربية هؤلاء الكوادر تعتمد على أسلوب الانتقاء والمتابعة . وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة إن شاء الله وقدر
ــ فالصورة التي انتهى إليها هؤلاء ( الإصلاحيون ) أنهم استدبروا المؤسسة الدينية ، وأخذوا يتكلمون للناس ويربون ، وأوجدوا واقعا جديدا بعيدا عن الواقع القديم ، وفرضوه على الواقع القديم . ثم حدث الاستبدال بعامل الوقت ، وبعصا السلطان .
ــ المحور الأخير وهو المنسق والمفعل لكل هذه المحاور هو عصا السلطان ، التي سمحت لهذا ومنعت هذا ، وقدمت هذا وأخرت هذا ، وولت هذا وعزلت هذا ، كانت يومها في أرض الكنانة مع المجرمين وتحارب الطيبين ، وهي اليوم غائبة بل منحازة ( للملتزمين ــ المطاوعة ) وهي نعمة من الله لا بد من شكرها .
ــ بقى أن شيء لابد من ذكره ، وهو أن سبب تقبل المجتمع المصري للطرح التغريبي هو الإرجاء جرثومة الإرجاء ، عَمَلَت جرثومة الإرجاء عملها في عقيدة الأمة ، فأخرجت العمل من مسمى الإيمان ليكون شرط كمال لا شرط صحة واقتضاء ، فانحسر الإيمان في ذهن العوام إلى نطق بالشهادتين ، وإقرار باللسان ، وانتساب في الجملة إلى الإسلام .
ولولاه ـ أعني الإرجاء ـ ما انبهر بهم الشعب ولا من ذهبوا مبعوثين عن الشعب .
لولاه ما ذهبت النخبة من أبناء الأمة بل من طلبة العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، إلى هذه البلدان الكافرة تتلمذ على يد أبنائهم ، وتثني عليهم ، وتريد منا تقليدهم والسير في ركابهم .
لولا الخلل العقدي الذي أحدثته جرثومة الإرجاء في المفاهيم الإسلامية ، والتصورات العقدية عند هذه النخبة ، لوقفوا في ديارهم حين رأوا حالهم يقولون لهم : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ." " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحانه وتعالى عما يشركون .
ولعادوا إلينا يقولون لنا : إنهم أهل دياسة لا يغار الرجل على عرضه ، وأهل كفر لا يتحاكمون إلى شرع الله ...ولكن شيئا من هذا لم يحدث . بل أُشربت قلوبهم الفسق بضلالهم وبُعدهم عن منهج الله الصحيح ، فعادوا يريدون من الأمة أن تسير في ركاب الضالين ... وأن تقتفي أثر باريس وبرلين ، وأن تحمل على أعناقها الفسقة والمجرمين .(49/136)
واليوم الإرجاء موجود ولكن بشكل آخر ( سلفي ) ملتزم هو بالسمت والشعائر ، ولكنه لا يرى حرجا على من ترك وبدّل أو ردَّ وعاند واستكبر ما دام ينطق بكلمة التوحيد . والموت بالزهرِ مثل الموت بالفحم . فالمحصلة واحدة بين إرجاء الأمس وإرجاء اليوم .
إرشادات لإحباط كيد المجرمين [13]
ــ غالب من يتكلم يتجه للجماهير بخطاب عام ، وهذا وحده لا يكفي .
من يتدبر في نشأة الدول ، والفرق ، يجد أن الجماهير لا تدخل مراحل الصراع الأولى ، وان الجماهير مع مَنْ غلب في الأخير ، فهي طيِّعة تُؤتى من أذنها . ولكن تنشأ الدول والأفكار بطريقة التنشئة والتربية ثم التوجه للجماهير بخطاب عام يتناسب مع مستوى وعيها وقتئذ .
مثلا الدولة العباسية ، بدأت بالدعاة المخلصين ثم مارس هؤلاء الدعوة السرية ثم اتجهوا ـ بمن أطاعهم ــ للجماهير بخطاب حماسي تحريضي وساروا إلى بني أمية في دمشق وأسسوا الدولة ، واشتُهر في التاريخ اصطفاء مجموعة من الأفراد ذوي المهارات المعينة من أجل تنفيذ مهام محددة ، وكان أكثر ذلك في القتال ، وعلى سبيل المثال المماليك البحرية[14] والفتيان العامريون[15] والانكشارية [16]
ومن هذا الكلية التي أنشأها اللورد ( كرومر ) و ( الشيخ ) محمد عبده ( 1849م ـ 1905م ) في مطلع القرن العشرين لتخريج قضاة شرع من ذوي الطابع التحرري . . . كانت بمثابة محضن تربوي لمجموعة منتقاة من الطلبة وتعتمد على برامج علمية منتقاة أيضا لتحقيق أهداف خاصة ... كانت ( نظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة) و( قد كانت تجربة أثبتت نجاحها من كل والوجوه ) كما يقول ( كرومر ) في تقريره لحكومته عام 1905م[17] . وهذه المدارس هي التي خرج منها جيل كامل من الشاذين فكريا وأصحاب الطموحات الدنيوية ـ كما يصفهم الدكتور محمد محمد حسين ـ يرحمه الله ـ والذين كانوا سببا رئيسيا من أسباب تغريب الأمة [18].
وقد فطن عباد الصليب إلى هذا الأمر فعمدوا إلى إنشاء مدارس تربوية خاصة . تعتمد مناهج معينة تحقق أهدافهم ، وتقبل طلابا بصفات معينة من الذكاء أو الوضع الاجتماعي ـ أبناء الأمراء وكبراء القوم ـ ولكي تعرف خطورة هذه المدارس أنقل لك كلمة أحدهم ، يقول وقد أسس مدرسة في اسطنبول عام 1863م : « لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح إسطنبول ، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم » ، وما يعنيني هنا أن هذا المدارس قامت على نوعي الانتقاء الذي أتكلم عنه انتقاء الأفراد وانتقاء المنهج . وكانت محصلتها ما نحن فيه اليوم[19] .
ولا بد من العمل على ذات المحور ، أعني تربية كوادر علميه تتصدى للمجرمين وتتولى مسئولية توجيه الأمة . أو تفرض واقعا جديدا على الموجودين .
إن الصراع بين الحق والباطل لا يظهر على السطح إلا في المراحل الأخيرة ، ومراحل الإعداد تكون كلها في إطار ضيق خفي لا يدري بها إلا النابهون من المهتمين ، فانتظار أن يحتدم الصراع على السطح . . . أمر من السذاجة بمكان ، ويكفي ما مضى في التاريخ من دروس وعبر .
ــ طرد الإرجاء الفكري ، والتصدي للمحاولات ( الإصلاحية ) التي تنبثق من داخل الصف الإسلامي ( الصحوي ) تحديدا ، فكما رأينا في التجربة المصرية ، لا بد من الصحويين أصحاب الأيدي النظيفة ، ليتكلموا للناس بأن الذي يدعوهم إليه القوم لا يفارق الشرع في كثير ، وهذا يقتضي إشاعة فقه المآلات في الفتوى ، والنظر في الخلفيات والدوافع ، وعلينا أن نذكر هؤلاء بالله وأن ينظروا في مآل ما يتكلمون به .
-------------------------------------------------
[1] طالب علم
[2] الروض الأنف قصة مقتل عروة بن مسعود الثقفي . وحاء في سنن الترمزي 3582في كتاب المناقب من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو في الإسراء والمعراج وصف عروة بن مسعود الثقفي بعيسى عليه السلام . وجاء ذلك أيضا في صحيح مسلم كتاب الإيمان حديث رقم 251 .
[3] مسند أحمد 5172
[4] والبداية والنهاية لابن كثير : جـ 2 ــ 220
[5] البخاري 2634ومسلم 4436.
[6] البخاري كتاب المغازي حديث رقم 4382
[7] يذكر مثلا أن سيد قطب ومحمد قطب ، وهم من أشهر الأسماء في الصحوة الإسلامية ، كانوا ممن تربوا ضمن منظومة التيار التغريبي ، وكذا بدأ الحجاب ــ بمفهومه الشرعي الصحيح ــ يظهر في الجامعات العلمانية وفي الشارع المصري حتى أصبح ظاهرة . وكذا اللحية وتقصير الثياب بين الشباب .
[8] خطورة المعلم كخطورة المناهج إن لم تكن أشد ، فالقدوة لها تأثيرها القوي جدا في حس الناشئة ، ويستطيع أي معلم أن يخرج على المنهج ويبث مفاهيم جيدة أو رديئة أثناء تدريس المنهج الرسمي . لذا ينبغي أن يكون الاهتمام بالمعلم من جنس الاهتمام بالمناهج .
[9] انظر ـ مثلا ــ ( التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ) لـ مهيمن عبد الجبار .مجلة البيان العدد / 174صـ18 ، والعدد 175 صـ 8 . وهو من أفضل ما اطلعت عليه في هذا الموضوع .
[10]
[11] قلت كل يدعي الإصلاح ، وفي المنافقين نزل قول الله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) .(49/137)
[12] [ العقاد :أعلام العرب ص : 176]
[13] لم أقصد بالمجرمين إخواننا ممن يصب كلامهم في حياض القوم ، فهؤلاء دون ذلك ، وهم أخوة لنا في كل حال . ولكن عنيت الذي يتولى كبره .
[14] وهم من المماليك الترك ويعرفون في كتب التاريخ بالمماليك البحرية نسبه لقلعتهم التي كانت بالروضة في البحر ( نهر النيل ) . جلبهم الملك الصالح نجم الدين أيوب المتوفي سنة 647 هـ واستعان بهم في حروبه الداخلية والخارجية ، ثم استولوا بعد ذلك على الحكم وقامت لهم دولة في مصر والشام سنة 650هـ ، وهم من تصدوا بعد ذلك للتتار . وخلفهم في الحكم المماليك البرجية ثم المماليك الشراكسة . واستمرت دولتهم إلى أن قضى عليها السلطان سليم الأول العثماني سنة 922هـ . أنظر البداية والنهاية لابن كثير أحداث عام 922هـ
[15] ينسبوا إلى الحاجب المنصور بن أبي عامر أمير الأندلس الشهير المتوفي عام 393 هـ ، وكانوا من العبيد البيض ( الصقالبة ) ، دربهم وأحسن تدريبهم ، واعتمد عليهم في تثبيت أركان ملكة والقضاء على خصومه . وكانوا أحد الأسباب الهامة في الفتن الداخلية التي نشأة في الأندلس وكانوا سببا في ما عرف تاريخيا بدولة الطوائف الثانية . أنظر ترجمة الحاجب المنصور في أحداث عام 392 وما تلى ذلك من أحداث . البداية والنهاية بن كثير .
[16] كلمة ( انكشارية ) كلمة عربية محرفة لكلمة تركية هي ( يني تشاري ) وتعني الجيش الجديد ، وهم مجموعة من الشبان صغار السن من أسرى الحرب أخذهم السلطان الغازي ( أورخان الأول ) ورباهم تربية إسلامية بحيث لا يعرفون أبا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله ، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم مع الأهالي على الدولة . وكانوا في البداية فرقة صغيره ثم زاد عددهم حتى صار لا يعول إلا عليهم في الحروب ن وكانوا من أهم وأكبر عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية ، واشتهروا بالفتك بخصومهم والغدر أحيانا ، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدوا واستبدوا بما جعلهم سببا في تأخر الدولة وتقهقرها . انظر ـ إن شئت ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية ج1/ص123. محمد فريد بك . دار النفائس بيروت . بتصرف يسير .
[17] العلمانية للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي 576 ، 577
[18] أنظر للكاتب ( حاجتنا للانتقاء في التربية ) ، موقع المسلم الركن الشرعي ، وصيد الفوائد في الصفحة الخاصة .
[19] لمزيد من التفاصيل حول التعليم الأجنبي في العالم الإسلامي ، انظر ( التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ) لـ مهيمن عبد الجبار .مجلة البيان العدد / 174صـ18 ، والعدد 175 صـ 8 .
===============(49/138)
(49/139)
تحتاج إلى جهدٍ جماعي
محمد جلال القصاص
بقصدٍِ واضح بدأ خطاب التغريب من المؤسسة الدينية ( الأزهر آنذاك ) ، إذْ أن الخطاب الديني هو الخطاب المقبول لدى الشعب ، وتم ( تلميع ) مجموعة من علماء الأزهر ممن يتفق هواهم مع هوى الغرب ، وخُلعت عليهم الألقاب ، وأسندت إليهم المناصب ،ومكنوا من المنابر ، وكممت أفواه المخالفين ، وأبرزوا للأمة على أنهم علماء جهابذة ، حملة مشعل الحضارة والرقي ، فكان رفاعة الطهطاوي وكان جمال الدين الأسد أبادي (الإيراني ) ، وكان محمد عبده ... وكلها أسماء براقة ... وكلهم كانوا معاول هدم في كيان الأمة الإسلامية ... جسرا عبر عليه الغرب إلى ثوابتنا الإسلامية فكان ما كان . وبين يدي كثير من النصوص من قول محبيهم التي تثبت ما أصفهم به وتبين ضررهم على الأمة ، ولكن ليس هذا مقصودي .
تكلم هؤلاء( الشيوخ ) بأشياء لم تسمعها الأمة من قبل .
رفاعة الطهطاوي في كتابيه ( المرشد الأمين للبنات والبنين ) و ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) . امتدح المجتمع الغربي .. أسلوب حياته وثقافته ، وأثنى على الدستور الفرنسي ـ الشرطة ـ ويرى أنها ( عدلاً وإنصافا ًأدى إلى تعمير الممالك وراحة العباد وارتياح القلوب حتى أنه ما عاد يسمع عندهم من يشكو ظلماً أبدا ) وحاول أن يحصر الأمر فقط في اختلاف المسميات [ تخليص لإبريز : 542].
و( الشيخ ) رفاعة الطهطاوي كان المشرف على مدرسة الألسن التي يتحدث عنها المستشرق (جب ) فيقول : وكانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوروبي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا ويُذكر أن منها مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العَلَمْ الفذ رفاعة الطهطاوي ) [ نقلاً عن العلمانية : 592 ]
ثم جمال الدين الأسد أبادي المشهور بالأفغاني والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة ،كان منبهراً هو الآخر بالغرب وقوانينهم فنادى بان الأمة هي مصدر الحكم ، ووحدة الأديان ، والسلام العالمي ،وأن الاشتراكية من الإسلام . ورحل إلى أمريكا مستنصرا . ومن أراد أن يستيقن أو يستزيد فليقرأ خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182
ثم جاء محمد عبده .وتحت مسمى الإصلاح أباح التشبه بالخواجات في الفتوى الترنسفالية ، وأباح الربا في شكل صناديق التوفير ، ونادى بتحريم تعدد الزوجات ، وكان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة " ، وصاحَبَ المندوب السامي البريطاني . وقد أفردت له مقال من قبل على صفحات المحايد .
والسؤال : ماذا فعل هؤلاء ؟
تكلموا بحاجات الغرب على أنها مطالب شرعية . نعم نقلوا الأمة هذه النقلة النوعية . ثم دارت عليهم عجلة التاريخ ومضوا إلى ربهم بما قدمت أيديهم ولا يظلم ربك أحدا . " ومن سَنَّ سُنّة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ... "
كانت هذه الفترة هي مرحلة تسليم الراية من الغرب لبعض أبناء الأمة .. وهذا ما كان فقد بدأت مطالب الغرب كلها تظهر على لسان بعض أبناء الأمة , وهم يستندون في دعواهم هذه إلى الشرع , ويرفعون شعارات براقة خداعة فـ " إصلاح " , وتجديد " و " تقدم " , و " رقي " و " حرية " ... إلخ .
ونزل الميدان فريق آخر هم ( الوطنيون ) ، فقد علم الاحتلال أنه يوما ما سيخرج من هذه البلاد , ولابد أن ستكون مقاومة ، فعمل على إنشاء مقاومة أخرى تحمل شعارات غير إسلامية ، فأسس الأحزاب , وبدأت المقاومة للمحتل تأخذ منحى آخر ليس فيه الجهاد , وبدأت شعارات الوطنية ـ " مصر للمصريين " مثلا ـ تخرج .
وهذا التيار أيضا كان معول هدم في الشريعة الإسلامية , ودرب من دروب التيه الذي دخلته الأمة .
فإن كان الأُول (المشايخ ) عموا على الأمة وجه الاحتلال الصليبي وزينوا لهم حاله , وقالوا للناس إن شريعة المحتل هي شريعة الله , أو تكاد ، فهؤلاء أكملوا المشوار , إذ أنهم تعاملوا مع المحتل من وجهة سياسية فقط , ومن منطلق وطني , بهذا أعملوا فَأْسَهم في جدار الولاء والبراء حتى كادوا يهدموه , فقد غاب عن الساحة الجهاد , وظهر " النضال " و " المقاومة " و " المظاهرات " وقاد الركب ثلة من الوطنيين لا المجاهدين , وانتظم وراءهم صف من أبناء الوطن باختلاف انتماءاتهم الدينية , والعجيب أن قادة المقاومة كانوا على علاقة طيبة بالمحتل .وراجع إن شئت مذكرات سعد زغلول ، ولطفي السيد .
وبعد أن كثرت جعجعة العمائم والوطنيين , تشجع أصحاب القلوب ( الرقيقة ) أعني الأدباء , والشعراء , ونزلوا الميدان ، وابتدأ نصارى الشام النزال فأعملوا أقلامهم في فكر الأمة حتى حرَّفوه .ولم يكن هؤلاء أقل أثرا من المشايخ والسياسيين . وإن من البيان لسحرا . كما جاء في الحديث . فقد أخذ هؤلاء يطرحون طروحات تصطدم مباشرة بالعقيدة الإسلامية في أشعارهم وقصصهم وصحفهم .ويحضر في ذهني كثيرا إيليا أبو ماضي لعذوبة لفظه وخبث طويته ، ومن شعره أضرب مثلين أوضح بهما قولي .(49/140)
هذا الحوار الذي يرويه بين شجرة تين وجيرانها يعترض فيه على قضاء الله وقدره في قصيدته الشهيرة التي مطلعها :
وتينة غضة الأغصان باسقة .. قالت لأصحابها والصيف يحتضر
وفي قصيدة أخرى :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ...وسأبقى ماشيا شئت هذا أم أبيت ...
وأصدروا عدة مجلات يتكلمون فيها عن " حرية المرأة " و " قبول الآخر " , و" الوحدة الوطنية " , وقد وجدوا أذانا تسمع .
ثم كان حبل ممدودا ظل إلى اليوم . فهم من ينافحون عن ( حرية المرأة ) ، وهم ( البنياويون ) الذين قالوا بموت المؤلف وعدم قداسة النص ... وهم طه حسين ، ونجيب محفوظ ، وقاسم أمين ، وجابر عصفور ، ونصر أبو زيد ، وحيدر حيدر ... الخ .
وبعد حين انتشر الغناء وأقبل المخنثون ... أهل الرقص والزمر " الفن" ولم تسلم منهم شريعة الرحمن وفقط أشير إشارات .
كان في طرحهم هجوم مباشر على ثوابت الشريعة الإسلامية ، مثل تعدد الزوجات ، وترسيخ مفهوم الولاء على الوطن لا الدين . والسخرية من اللغة العربية ومن مدرسي اللغة العربية ، ومن رجال الدين ( ويحضر في ذهني شخص المأذون ) ، وتقديم النموذج الغربي للشباب على أنه هو النموذج المثالي . هذا بجانب نشر الرذيلة .واليوم ينقلبون على التراث الإسلامي يرّونه بطريقتهم .. ففي ( الناصر صلاح الدين ) كان تحرير الأقصى حربا وطنية ذراع الناصر صلاح الدين الأيمن فيها صليبي ، وسيف الدين قطز حليق يحب ويعشق ويقاتل حمية ، وبن حزم يحل الغناء ويستمع إليه ، هذا بجانب نبشهم عن أهل الجاهلية الأولى من الفراعنة ، ومن العرب ( الزير سالم ) .
ربما لم يكن هؤلاء ( الفنانون ) يدرون بم يفعلون ... ربما . ولكن هناك يد أخرى هي التي أوجدتهم وأفسحت لهم المجال وكبَّلت غيرهم ممن لو خَطَبَ في جماهيرهم ووعظهم لنفضٌّوا من حولهم ...
أريد أن أقف هنا لأقول :
حين تنظر مليا في الخلفيات ( الدوافع ) التي تقبع وراء الأحداث .ترى بوضوحٍ تام أن الكل يهدم في الإسلام وإن اختلفت معاول الهدم .فـ ( الأئمة ) يؤولون النصوص ، والكتَّاب يخاطبون العامة في رواياتهم وقصصهم ، ويفتحون دوامات فكرية للخاصة تستقطب جهدهم ، وأهل الفن يُثبِّتون الفكرة بوجوههم الحسنة وأجسادهم العارية ، وأهل السلطان يسوقون القطيع إلى هلاكه .. يزجرون من يتباطأ ، ويردون كل من يحاول أن يأخذ بزمام الأمة إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتا . فهو عمل جماعي إذا . له من يسوسه ويقوم عليه وإن لم يتفق أحاده على تفاصيل ما يفعلون .
والصورة العكسية صحيحة ، وهي أن أمةً ما لا تستطيع النهوض بفئة قليلة وإن كانت هذه الفئة هي النخبة من أبنائها ، فلا بد أن تشترك الأمة بما يناسبها وأن تكون موجودة تُخاطَب بما يقتضيه المقام وتفهمه العقول ... أي يكون العمل على محاور شتى يقوم به فئات شتى .
وهذا الأمر يحتاج إلى مناقشة أوسع من ذلك وإنما فقط أردت أن أشير بما يناسب المقام .
وشيئا آخر أريد الوقوف عليه من هذا العرض وهو : تعدد طرق التغريب وانتشاره أدى إلى صعوبة اجتثاثه . فلن يزاح هذا الركام الهائل الموجود في المفاهيم والتصورات وفي السلوك بخطبة أو خطيب ، أو معلم هنا ومعلم هناك ، وإنما يحتاج إلى جهد جماعي .
==============(49/141)
(49/142)
حقائق كشفها الزور
سليمان بن أحمد بن عبد العزيز الدويش
الحمدلله الذي أعز من شاء بطاعته وأذل من شاء بمعصيته , والصلاة والسلام على من لا خير إلا في اتباع هديه ولا فلاح إلا بسلوك طريقته , ولا كرامة بغير التأسي به وأن الإهانة بالبعد عن سبيله ( ومن يهن الله فماله من مكرم ) وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقته إلى يوم يبعثون أما بعد
فقد جاءت هذه الأزمة بخلاف ما ظنه من افتعلها بل وعلى خلاف ما تصورناه جميعا فالحمدلله على كل حال وله الشكر فهو ذو الإنعام والإفضال وسبحانه وهو الصادق حيث قال ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )
وقديما قيل : قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ***ويبتلي الله بعض الخلق بالنعم
وقيل : وربما صحت الأبدان بالعلل.
أيها الفضلاء
إن تلك الحملات المسعورة المسمومة التي يطلقها الغرب الكافر لم تكن بدعا من الأمر ولن تقف إلى هذا الحد فهم يكيدون لنا منذ أن بزغ نور الرسالة وسطع شعاعها
ولن يزال كيدهم متواصلا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا , فهم من قال الله عنهم ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) وقال عنهم سبحانه ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) وقال ( ودَّ الذين كفروا من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ) ومن هنا يتضح أن عداوتهم متغلغلة ولا يمكن أن تزول وأنها مهما خبت أو اختفت لفترة من الفترات فإنما هي لتكتيك يمارسونه وليس لقناعة بأنهم على غير هدى.
وما عملته صحيفة النرويج أو الممثل الهولندي أو صحيفة الدينمارك لم يكن اجتهادا عفويا ولا نتاج حرية عابرة بل هو أمر مقصود انطلقوا لفعله من عقيدة يؤمنون بها ويتنادون بينهم على الثبات عليها ونشرها وتبشير الناس بها ـ زعموا ـ , وهذه الأفعال التي صدرت منهم جاءت لتكشف حقيقتهم لمن كان منخدعا بهم و ليعلم أنهم وإن تشدقوا بالحريات واحترام المعتقدات فإنما هم كَذَبة فجرة يكيلون بمكيالين غير متوازنين , كما أن هذه الأزمة ولله الحمد قد كشفت لنا أمورا هامة على الصعيد الداخلي والخارجي ولعلي أن أوجز بعضا منها في هذا البيان باختصار فأقول مستعينا بالله وهو خير معين :
أولا : لعلكم تذكرون ما مارسه الغرب الكافر بقيادة أم الكفر ورأسه ضد إخواننا في أفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين وما يرفعونه من شعارات ويلوحون به من استنكارات من أننا نحن المسلمين لانحترم الأديان ولا نعرف حقها وما طالبوا به من وأد منهج الولاء والبراء وكل ماله علاقة به بل وتدخلوا بالضغط على جهات قيادية عليا لعزل كثير من الخطباء والدعاة لأنهم يدعون على النصارى واليهود , وما يمارسونه في العالم كله ضد من يحاول المساس باليهود أو يكذب محارقهم المزعومة . فأين حرية الرأي التي يحترمون ؟ وأين هي الديمقراطية التي يتشدقون بها؟أم هي ديمقراطية وحرية الكافر وحده
حرام على بلابلنا الدوح ==== حلال للطير من كل جنسِ
ثانيا : أن الشعوب المسلمة قادرة على التأثير والتغيير ولله الحمد والمنة وأنها إن اتحدت أنجزت ما قد تعجز عن إنجازه كثير من القنوات السياسية الأخرى وهذا ظاهر في مسألة المقاطعة التي تبنتها الشعوب المسلمة والتي حركت مسار القضية وأشعلت فتيل المواجهة المكشوفة الواضحة في حين كانت المسارات السياسية تقابل بالرفض وعدم الاكتراث إلا ما ندر.
ثالثا : أن الأمة المسلمة فيها خير كثير ولكنها تعيش فترة من التخدير والخمول ساعد في تفاقم هذا الوضع المزري مؤامرات الأعداء المستمرة ووجود آذان للعدو بين المسلمين تحاول جرهم إلى مالاينفعهم في دينهم ودنياهم من لهو ومجون .
وأن هذه الأمة إن وجدت من ينفض عنها غبار المهانة ويزيح ستار الغفلة ويبطل أثر ذلك التخدير فإنها تتحرك كالبركان وهذا ما رأيناه ولله الحمد من دموع المسلمين تحت أعواد المنابر وفي مجالس أهل العلم وما لاحظناه من تسابقهم في المساهمة وبذل المال وما أقدموا عليه من التنافس على معرفة منتج الكافر للتحذير منه وما نسمعه من أخبار تثلج الصدر من استنفار الأمة كلها الصغار والكبار, والرجال والنساء, العجزة وذوي القدرة .
وما رأيناه من مشاركات وأفكار وطروحات كان لها أثر كبير في كشف بعض المكانة التي يجب أن يعرفها عدونا لأمتنا.
رابعا : أن الأمة المسلمة تعيش أزمة حقيقية لاتقل عن أزمتها مع الكفار وهي الأزمة مع الإعلام الذي تسنم ظهره من ينتسب زورا لأمتنا في غالب الأحوال .
وإن أزمتنا التي نحن نتلظى بنارها كشفت أن إعلامنا لا يمثلنا بحال فهو إعلامُ كَذب ونفاق ومخادعة وتزوير للحقائق .
كنا نعتقد أن حدثا كهذا سيتسابق له رجال الصحافة والقنوات ليكشفوا من خلاله الخطر الذي يتهدد الأمة من أعدائها وإذا بنا نراهم الأعداء الحقيقيين للأمة حين انشغلوا بمتابعة الكرة وماقيل من النكات عن حماس وما يثار عن تبني بوش لولد غير شرعي وغير هذا من القضايا التي تظهر بمالايدع مجالا للشك أن الإعلام صوت للعدو أكثر منه للصديق .(49/143)
من كان يظن أن قناة من القنوات تستضيف في وقت كهذا سفلة المجتمع ليتحدثوا عن قضية كقيادة السيارة أو حرية المرأة. ومن كان يظن أن صحيفة من صحفنا وهي تعيش في قلب الحدث تأتي لتعاكس التيار وتختلق للعدو الأعذار وكأنها تقول إن كل الأمة على باطل وزور وأن تلك الشركة أو الصحيفة على حق فاقبلوا به حتى ولو سخروا من دينكم وشتموا قدوتكم.
خامسا : أن دعوى محبة صلى الله عليه وسلم وآل بيته وحدها لاتكفي فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ماوقر في القلب وصدقه العمل , وأن محبة النبي وآله لا تكون بإحياء الموالد وضرب الصدور والنياحة في حين أنه إذا انتقص شخصه واهين عرضه وأسيء إلى سنته دسسنا رؤوسنا في التراب .
إن الذين كانوا يشنعون علينا لإنكارنا بدعة المولد لأنها لم ترد عن رسول ا صلى الله عليه وسلم ولاعن أحد من أصحابه , والذين كانوا يرموننا ببغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنعنا وإنكارنا ترديد البردة للبوصيري وغيرها مما حوى عبارات شركية لاتليق إلا بالله العظيم سبحانه لم نرهم اليوم يشنعون على الكفار ماعملوه من إساءة بالغة لجنابه عليه الصلاة والسلام ولم نرهم يتكلمون عن من يتهم عرضه الشريف بالفاحشة عياذا بالله , بل المؤسف جدا أنك تراهم بدؤا بالتقارب معهم ومد جسور التقارب فسبحان الله أين هي دعوى محبة صلى الله عليه وسلم ؟ وأين هي الغيرة على سنته ؟ أم هي البدعة التي يرعاها إبليس ويزينها في قلوبهم فيجعلها من الدين والدين منها براء؟.
وأين أؤلئك الذين قطعوا أجسامهم بالسلاسل وأثاروا غبار الأرض بوقع حوافرهم بكاء على أبي عبدالله الحسين رضي الله عنه وأرضاه ونادوه واستغاثوا به من دون الله عياذا بالله ,أين هم من الثأر لجده بأبي هو وأمي r والحسين رضي الله عنه إنما لحقه الشرف من صلى الله عليه وسلم , فهل الحسين عندهم أعظم من جده صلى الله عليه وسلم والد الزهراء رضي الله عنها؟
مابالهم غضبوا ممن أساء إلى رموزهم المنحرفة الضالة وأهدروا دمه في حين أخرست ألسنتهم عن من أساء إلى خير البرية وأزكى البشرية r.
إننا لانريد ضربا بالسلاسل ولا عويلا ولا بكاء ولا حسينيات ولا مآتم ولامظاهرات بل نريد منهم ماهو أقل من ذلك بكثير نريد منهم أن يكفوا ألسنتهم ليس غير.
نعم أقول لهؤلاء المدعين حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم زورا وبهتانا : أرأيتم من هو المحب الصادق في محبته؟ أعرفتم الفرق بين الحقيقة والدعوى؟ وأقول لهم كما قال صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن سبب صيام اليهود ليوم عاشوراء ( نحن أحق بموسى منهم ) نعم فنحن أحق ب صلى الله عليه وسلم وآله من غيرهم ممن حظه من محبته المدائح والأهازيج والموالد والحسينيات وحين تحتر الرمضاء يسكن إلى الظل والماء والنساء.
سادسا : أن المال قد يكون نعمة على صاحبه وقد يكون نقمة ولهذا أثنى صلى الله عليه وسلم على المال في حال فقال ( نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح ) وأن الموفق من التجار من سخر ماله لمرضاة ربه والانتصار لدينه ولهذا فقد حظي من بادر إلى النصرة بالأجر بإذن الله تعالى وبالذكر الحسن في حين خسر هذا الفضل من آثر الفانية على الباقية ولم يتحرك عنده شعور الغيرة بعدُ.
وهذه مناسبة عظيمة أستغلها بتذكير أرباب الأموال بأن يعرفوا أنهم مهما بذلوا فهو خير لهم عند ربهم وهم المنتفعون به قبل غيرهم , فالمال مال الله والله تعالى يقول ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) ومن تصدق بصدقة يبتغي بها وجه الله ربَّاها الله له وأخلفه خيرا منها وهو خير الرازقين سبحانه .
كما يجب أن نعلم أن المال باب من أبواب الجهاد العظيمة والجهاد فيه على ضربين :
1= جهاد بدفعه وذلك متقرر معلوم .
2= جهاد بمنعه وهذا يتمثل بالمقاطعة التي تمنع وصول المال والانتفاع به من عدو الدين وهذا داخل في قوله سبحانه ( ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لايضيع أجر المحسنين).
ناهيك أن الشعوب المسلمة اليوم ترى الظلم الواقع على إخوتنا في كل بلاد الدنيا فمن حقهم علينا أن نضعف اليد التي امتدت إليهم بالأذى بمقاطعة منتجاتها ما أمكن والصبر على ماقد نلقاه من الحرج في بعض الأمور فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
ومن هنا أيضا أشكر الله سبحانه أولا أن جعل في أمتنا من يبذل ماله أو بعضه لله ونصرة لدينه ومن ثم أشكر هؤلاء التجار وأدعوالله لهم أن يبارك في أموالهم وأولادهم وأنفسهم وأن يعوضهم خيرا .(49/144)
سابعا : أن الله يزع بالسلطان مالايزع بالقرآن وأن السلطان إذا انتصر لدينه وغضب لحرمات الله فقد فتح على نفسه وأمته من أبواب الخير والفضيلة مالا يخطر له على بال . وما نشاهده من تظافر الجهود والبدء بخطط علمية وعملية لطباعة الكتب ونشر المطويات المترجمة وترجمة مايمكن ترجمته من الكتب التي تعرف بالدين الإسلامي وفتح المجالات أمام الفرص المثمرة للتأليف والكتابة عن سيرة قائدنا العظيم r جاء متزامنا مع الموقف الرسمي الرافض لسياسة الاعتداء على الدين من قبل تلك الدول الكافرة المارقة, فهنيئا لمن أمر بذلك ولمن أشار فقد كان قرارا حكيما وموقفا شجاعا نتمنى أن يتبعه موقف لايقل عنه حكمة ولاشجاعة يتمثل بطرد سفيرهم من بلادنا ليعلموا أننا قد نقبل المساومة والابتزاز في المال والتكنلوجيا وغير ذلك من عرض الدنيا الزائل ولكننا لايمكن بحال أن نقبل الابتزاز في ثوابتنا ولافي رموزنا التي دونها المهج فداء .
كم هو مفرح للقلب ذلك الموقف وكم هو محفز لكثير من المسلمين حين يرى أنه يقف في الصف نصرة لله ولرسوله ومعه العالم والحاكم والصغير والكبير والذكر والأنثى.
ثامنا : أن زمن الخديعة لا يطول مهما كانت ولهذا فمن العيب أن يخدعنا بعض النكرات حين يساوم على بعض الأمور فإذا كان المحك والمعترك وجدته كالملح في الماء الحار .
ما أجمل أن يدافع الإنسان عن وطنه المسلم ويحبه لأن فيه الإسلام ولكنه قبيح جدا أن يجعل الوطن أغلى عليه من الإسلام والوطن إنما شرف بالدين ليس غير.
إن الوطنية حقا هي أن تنتصر للدين الذي انبثق من هذا الوطن وللنبي الذي بعث في هذا الوطن وللكتاب الذي أنزل في هذا الوطن أما أن تنتصر لتراب وحجارة وتقدسها وتجعل من نفسك الحامي لها والكفيل عليها والوكيل وتخون من شئت تحت مسمى عداء الوطن وتقرب من شئت تحت شعار الوطنية وأنت أبعد الناس وأقلهم دفاعا عن دين الوطن وكتابه وشريعته ورسوله فقد كذبت وخدعت وأنَّى لهذه الخديعة أن تطول.
لقد تحدثوا كثيرا أن ( الوطن أولا ) وهاهو دستور الوطن ونبيه وقدوته وهاهو منهاج الوطن يهان وهم يتباحثون في قضايا يهدمون بها ولا يبنون ويفسدون ولايصلحون ثم يخرجون من تحت أنقاض ماهدموه ليقولوا لمن أراد الإصلاح وترميم ما أفسدوه ( الوطن أولا ).
لقد آن الأوان لتعرف الجموع من هم أعداء الوطن ودين الوطن ودستور الوطن وقيادة الوطن .
إن من لم تشغله هذه الأزمة ولم يرفع بها رأسا أو كان ينظر إلى غيره ليرى هل تحرك أم لازال على حاله فليعلم أنه خسارة على الوطن وليس ربحا , وأن وجوده فيه مهانة له وذلا .
على هؤلاء الذين لاكوا ألسن العلماء والدعاة والمفكرين ردحا من الزمن تحت مظلة الغيرة والحمية لهذا الدين وجناب العقيدة والتوحيد أنهم قد أفلسوا وخسروا وأن سعيهم كسعي من يلحق السراب في قيعة , وهيهات أن يجد في السراب ماء.
أين تلك المواقف الثائرة والأمواج الهادرة والخطب الرنانة والجمل الطنانة وأين عبارات التفسيق والتبديع والتضليل والتجهيل التي أزكمت الأنوف ؟ ما بالها اختفت عن العدو الكافر الذي لايحتاج قوله وفعله إلى تحوير وتأويل وتعليل وتدليل؟
أين هجومهم على الأموات والأحياء من العلماء والدعاة ؟ أتُرى أؤلئك العلماء والدعاة أشد خطرا ممن سب القرآن وسخر بالنبي r؟ أم هو الهوى والزيغ عياذا بالله من الخذلان.
تاسعا : أن العلم لا يمكن أن ينفع صاحبه ولا أن يرفعه حتى يقوم بزكاته , وزكاة العلم هي ببذله ونشره بين الناس وأن يكون العالم رأسا للأمة في أزماتها وموجها لها وحالاًّ لإشكالياتها , فإذا تخلف العالم عن هذا الركب وسار الناس وتركوه فقد جنى على أمته وعلى نفسه , وهذا وربي من الكتمان الذي نهى الله عنه وحذر منه ( وإذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس مايشترون ) وما نشاهده اليوم من خذلان كثير من العلماء للأمة وتقاعسهم عن القيام بواجب إدارتها وتوجيهها إلا علامة حرمان وانتكاسة والعياذبالله.
إن العالِم إن لم يقل كلمة الحق ويصدع بها فسيتخلى الناس عنه وربما اتخذوا رؤوسا جهالا فسألوهم فأفتوهم بمالاعلم لهم به فأضلوهم وضلوا وكان للعلماء وزرهؤلاء وأؤلئك جميعا.
إن العلماء ورثة الأنبياء , والأنبياء لم يورثوا مالا ولا متاعا وهانحن نرى امتهان الأنبياء وتخاذل الورثة إلا مارحم الله فمن ياترى ينتفض لانتزاع الميراث إن تركه أهله؟
أين مواقف العلماء الناصرة للدين؟ أين تلك البيانات النارية والاستنكارات الشديدة لمواقف بعض المندفعين من شباب المسلمين؟
ياعلماء الإسلام
إنه الإسلام , نعم هو الإسلام ورسوله .
هو دين الله وهو الميراث الذي به رفعكم الله بين الناس وبوأكم هذه المكانة .
إنه رسول ا صلى الله عليه وسلم الذي حملكم أمانة كنزه.
إن لم تغاروا على الدين ونبي الله فمتى ستغارون وعلى من ستغارون؟
وبارك الله فيمن سعى من العلماء ونافح وجاهد وصدق وصابر وصبر وأجرى دمعه وأسال حبر قلمه غيرة لله ونصرة لدينه ورسوله صلى الله عليه وسلم(49/145)
فصرخة في وجوه هؤلاء أقول : أتريدون أن تذادوا عن حوضه يوم يقال ( إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك)؟
أم تريدون أن تتضاعف مهانة الأمة فلا يبقى فيها عرق نخوة ينبض ولا غيور لغبارها ينفض؟
وبارك الله فيمن جعل وقته لله وجهده وكل ماحباه الله وكأن لسان حاله يقول ( اللهم خذ مني حتى ترضى ) ويقول ( اللهم اشهد أننا لانرضى فاجعلها لنا عندك يوم نرد على حوضه فلانذاد )
عاشرا: أن التعاون والتكاتف سلاح أقوى في التأثير من كثير من الأسلحة الأخرى ولهذا فقد رأينا كيف كان وقع تلك الخطابات والمكاتبات والتحركات على كل المستويات ولكي يؤتي هذا العمل ثماره فعلينا أن نتحرى العدل فيما نقول ونفعل خشية أن نقع في ظلم أحد فيحبط ماصنعنا وتذهب بركته .
ولهذا فمن الواجب التثبت من المنتج أو الجهة قبل نشرها حتى لايتضرر مسلم بشيءلا ذنب له فيه , ومن شك في شيء وخفي عليه علمه فليدعه ولايقحم نفسه فيه .
الحادي عشر : أن العمل النافع يحتاج إلى مجاهدة وصبر ولهذا قال الله تعالى ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصلحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) ومن سلك هذا الطريق فيحتاج إلى توطين نفسه إلى أنه لن يجد الطريق أمامه معبدا بل قد يواجه فيه من الصعوبات مايحتاج معها إلى الاستعانة بالله العظيم والصبر والمصابرة.
سيجد المسلم في طريقه من يخذله أو يخوِّفه أو يحقِّّره وربما وجد من يتكلم بلسان العدو وكأنه هو العدو ذاته, فعليه أن يصبر على أذى هؤلاء كلهم لينعم بالوعد الصادق من الله ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ).
لقد حاول المنافقون في عهدرسول ا صلى الله عليه وسلم تخذيله والفتَّ في عضده بمثل قولهم (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ماقتلوا ) وقولهم ( وقالوا لاتنفروا في الحر ) وغير ذلك من عبارات التخذيل ولكن الله تعالى قال لنبيه ( يا أيها النبي اتق الله ولاتطع الكافرين والمنافقين ) فكان النصر لرسول الله والخيبة والخسران للمخذلين وأعداء الدين.
وإن صور التخذيل اليوم ظاهرة جلية وربما جاءت باسم الخوف من الله وكأن ما يقوم به المسلم الغيور من مقاطعة سلع الكفارحد من حدود الله قد انتهك وأنه لم ينتهك من حدود الله إلا هذا ؟
أرأيتم من يقول إن مقاطعة السلع لاتجوز إلا بأمر من ولي الأمر؟من أين أتى بهذا القول؟ ومادليله؟وهل من قاطع منتجات الكفار من تلقاء نفسه يعتبر آثما مفتاتا على ولي أمره؟ أم هو التخذيل للأمة وتشتيت مواقفها من عدوها؟.
وكذلك من يقول إن المقاطعة لاتضر الكافر بل تضر التاجر المسلم وغير ذلك من صور التخذيل المكشوفة .
إننا نتمنى من الله أن يوفق الحكومة لمنع بيع تلك المنتجات ومنع دخولها نكاية بأعداء الملة المعتدين .
ومثل تلك المواقف في التخذيل موقف بعضهم من محاولة نشر مواضيع وقضايا وطرحها للنقاش وهي أبعد ماتكون عن صلب اهتمام المسلمين لشغلهم ببنيات الطريق عن قضيتهم الأهم .
ومثله محاولة التفريق بين من يسب الله ويسخر من دينه من كفرة الشرق أو الغرب وأن القضية يجب أن تنحصر في الدنيمارك والنرويج وهولندا وهذا من الخلط العجيب والفهم الغريب فنحن ندافع عن ديننا ونبينا والدين هو الإسلام والنبي هو صلى الله عليه وسلم ومن اعتدى على الدين والنبي فهو قضيتنا مهما كانت جنسيته ولونه .
الثاني عشر : أن قيامنا لنصرة هذا الدين يجب أن يكون من دافع حمية له لا من دافع المكاثرة والمفاخرة حيث بدأت تلوح في الأفق شعارات التفاخر بين الأطياف والجنسيات وإن كانت في بدايتها قد تأخذ طابع التحميس لكنها قد تنتهي بأهلها إلى منحى خطير وهذا مما يُضيع أجر العمل ويفسده ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) وعلينا أن نعلم أن نصرة الله كرامة منه سبحانه وهي تحتاج منا إلى مزيد شكر واعتراف بفضل مسديها وهو الله سبحانه .
الثالث عشر : أن الأعداء قد يرجعون عن بعض إصرارهم ويذعنوا لقولنا رعاية لمصالحهم ولذا فيجب علينا أن نستمر في الضغط عليهم ليكون ذلك أبلغ في التنكيل وأعظم للردع والزجر ولأنه يفيد في تحصيل أكبر قدر من المكاسب والتنازلات من قبلهم , ولهذا فالوصية عدم التراخي حتى وإن اعتذروا عاجلا ولكي يفهم من وراءهم أننا لا نرضى بالدون.
الرابع عشر : أن منهج الشكر للمحسن والتنبيه للمسيء منهج مثمر ولهذا فقد أثمرت سياسة تشجيع المقاطعين ونشر خطاباتهم ثمرة نافعة بفضل الله حيث تسارعت الشركات لذلك ورفعت لافتات أمام واجهات محلاتها تظهر المقاطعة .ولهذا فعلينا التواصل مع من نعرفه ومن لانعرفه والتواصي وشكر المحسن وتنبيه المخطىء وإرسال الدعوات عبر الفاكس والجوال وغيرها لمن وقف نصرة لدينه من أصحاب المحلات التجارية أو المواقع الألكترونية أو القنوات والوسائل الإعلامية وبخاصة من كان له دور إيجابي ملحوظ في هذه الأزمة.(49/146)
كما إن علينا إرسال رسائل الاستنكار والتنديد والتوبيخ للوسائل الإعلامية وغيرها والتي لم تقف موقف المحايد فحسب بل ربما تبنت موقف الضد عياذا بالله حتى تسمع وتعلم أننا لا نقبل المساومة على ديننا ومن ثم التلويح بهجرانها ومقاطعتها إن لم تكف أذيتها عنا.
الخامس عشر : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حصن الأمة وسياجها ولهذا فلو تكاتف الناس فيما بينهم في مستقبل أيامهم ضد من يريد خرق سفينة الأمة كما يتكاتفون اليوم لارتعدت فرائص أهل الزيغ كما ارتعدت فرائص الحكومة النرويجية .
هذا ماجال في خاطري وأنا أشاهد الحركة المباركة التي أتمنى أن تكون صحوة بلا انقطاع وأن يتبعها مزيد من حركات الخير المباركة المتعقلة نصرة لدين الله وذودا عن حياضه .
سائلا الله العلي القدير أن يكلل الجهود بالنجاح وأن ينصر الدين وأهله وأن يخذل الكافرين والمنافقين وأعداء الدين أجمعين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه
سليمان بن أحمد بن عبدالعزيز الدويش
هاتف جوال : 0505124106
mamal_m_s@hotmail.com
===============(49/147)
(49/148)
طمس الحقائق
سعد احمد الغامدي
الحمد لله الذي اهتدى بهديه ورحمته المهتدون ، وضلّ بعدله وحكمته الضالون ، { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، ونصح الأمّة ، وجاهد في الله حقّ جهاده ، وتركنا على المحجّة البيضاء ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك . صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وأتباعه ، وسلّم تسليماً كثيراً:
طمس الحقائق وما أدراك ما طمس الحقائق كيد قديم منذو عهد صلى الله عليه وسلم يطمسون الحقيقه ويعلنون غيرها ويسمونها بغير اسمائها سلسله متصله حتى يومنا هذا ولكن الاشنع فى طمس الحقائق فى هذا الزمان ان طمس الحقائق اصبحت بطريقة منظمه ومكائد مخططه بعد ان كانت فى عهد صلى الله عليه وسلم يقوم بها افراد معدودين كشفهم الله جل وعلى لنبيه وعدهم r لحذيفه رضى الله عنه .اما فى ذا الزمان فالامر مختلف حيث اصبح لطمس الحقائق منظرون ومدربون ومؤسسات بل وجامعات يتخرج الاف من الناس على العمل على طمس الحقيقه وتغليف الباطل وتزيينه با اغلفه براقه تخدع اعين الدهماء من الناس حتى يروا الحسن قبيح والقبح حسن.
ان المتامل فى حلقاتُ الكيدِ بالمسلمين يرا انها تتتابَع، ومكرُ المتربِّصين يتسارع، وقِوى الحقّ والباطل تتصارع، وصدق الله اذ يقول (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ والْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
وتأتي على الأمّة الفواجعُ والزّوابع لتُظهر دخيلةَ أهل طمس الحقائق وسوءَ طويَّتهم، وتكشفَ رداءَ المداوَرة، وتمزِّق ثوبَ المراوغة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم).
ويأتي الهجومُ المعلَن والعداء المبطَّن على الإسلام وعلمائه وأهله وأسُسِه وثوابته ومناهجِه وبلاده مِن ذوي الفكر المقبوح والتوجُّه المفضوح؛ ليؤكِّد بجلاءٍ أنَّ مِن بين صفوف الأمّة أدعياء أخفياءَ، كاذبون في الولاء والانتماء، سلكوا مسالكَ عدائيّة، وطرحوا في تضاعيف الصّحف أفكارًا علمانيّة لا دينيّة. شمَخَ كلُّ واحدٍ منهم بأنفٍ من الجهل طويل، واحتسى مِن قيح الخُبث وقبيح الأباطيل، ونطق بالزّور وافترى الأقاويل. قومٌ بُهت دنَّسوا وجهَ ما كتبوا عليه من قِرطاس، ولطَّخوه بعقائدِ الشكِّ والجُحود والوسواس. مقالاتٌ شوهاء وكلِمات عرجاء وحماقاتٌ خرقاء. وسبحان ربي اذ يقول
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لغلهم يرجعون)
بعد هذه المقدمه اليكم ايها النجباء بعض الصفات الخبيثه لاهل طمس الحقائق اخبرنا بها العالم بما تخفى الصدور الذى لاتخفى عليه خافيه فى الارض ولا فى السماء سبحان وتعالى حتى يحذر المومنين منهم ويكونون على بينه من امرهم.
1-يدعون انهم مؤمنون والله يكذبهم ويقول
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)
2- يدعون انهم مُصْلِحُونَ والله يكذبهم ويقول
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
3- يدعون انهم هم على الحق وان غيرهم سفهاء ولذالك اذا ادعو الايمان قالوا أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدَة وَعَلَى طَرِيقَة وَاحِدَة وَهُمْ سُفَهَاء والله يكذبهم ويقول
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)
4- يظهرن بوجهين، ويتكلمون بلسانين، ويمشون بين الفريقين كالشاة حائرة بين القطيعين، تميل إلى هذا القطيع تارة وإلى ذاك أخرى مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يظهرون الايمان وَالْمُوَالَاة وَالْمُصَافَاة غُرُورًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقًا وَمُصَانَعَة وَتَقِيَّة وَلِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْر وَمَغْنَم " وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينهمْ " يَعْنِي إِذَا اِنْصَرَفُوا وَذَهَبُوا وَخَلَصُوا إِلَى شَيَاطِينهمْ يعنى سَادَتهمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ من رؤوس الكفر وقياداته وصناع الفساد وأنصار الباطل ودعاة الفتنة قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ والله يفضحهم ويكشف خبث نياتهم فيقول جل وعلا
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)(49/149)
(لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ لْمُؤْمِنِينَ) .
5- شجعان في السلم فإذا جد الجد لاذوا بغيرهم ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) خوافون جبناء ، ( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)
6- يظهرون انهم لايريدون الا الحسنى فايدافعون عن المراة تحت مسمى حاجاتها و حقوقها وهم ينشدون فى الحقيقة التفسخ الأخلاقي بزعمهم تحرير المرأة، لتخرج لتقود السيارة والطياره والدبابه و لابد لها من بطاقة يريدون أن تفسخ المرأة حياءها وأن يحل المجتمع رباط الأخلاق باسم الترفيه والسياحة أو عبر مسلسلات تهدم الدين والخلق والله يفضح مخططهم ويقول جل وعلى ( وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ لْحُسْنَى وَ للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
7- يدعون الوطنية والعمل لخير الوطن ويروجونه تحت شعار حب الوطن ويسارعون عند أي حادثة لإبراز ما في قلوبهم من غلٍ وحقد، ويعجبون بقولهم: (وَيُشْهِدُ للَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ لْخِصَامِ)
8-ادعاء التغاضى والتسامح مع من استهزء بآيات الله فاذا جلس جالسهم مجلساً يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيسكت ويتغاضى ملتمساً لنفسه أعذاراً، ومدعياً أنه صوت من التسامح واللباقة والدهاء والكياسة وسعة الأفق وحرية الرأي، وما درى أن هذه هي الهزيمة تدب في أوصاله وتنخر في فؤاده، وما فرق بين حرية الفكر وجريمة الكفر: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى لْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ للَّهَ جَامِعُ لْمُنَافِقِينَ وَ لْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) .
9- يأتون بظواهر العبادات خاليه جوفاء من الايمان والخشوع وقد قام بهم الرياء وهو أقبح مقام، وقعد بهم الكسل، وهو بئس القعيد (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى لصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) . تكاسلاً وثقلاً وشحاً وبخلاً لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً، فيهم من تلبس بالغش والخديعة حتى أصبح لا يؤمن جانبه، لا يبالي أن يخلف وعداً، وينكث عهداً، ولا يتورع عن ظلم الغير أو الاستيلاء على الأموال والحقوق العامة والخاصة لا يزغه إيمان ولا حياء عن الخيانة فيما ائتمن عليه، يخادع الناس بكلامه ولطافة خلقه، ولكن بخلاف ما يظهر، قد امتلأ قلبه حقداً وغلاً ومراوغة، يبيع دينه بعرض من الدنيا ويهدر كرامته في سبيل غرض شخصي أو حاجة دنيوية غير مبالٍ بحرمة فعله وعظيم إثمه (إِذْ يَقُولُ لْمُنَافِقُونَ وَ لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ )
10- لا يعتبرون من الفتن، ولا يرجعون عند الكوارث ولا يستفيدون من الحوادث يصف الله حالهم بقوله جل وعلا (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) .
11- الأيمان الكاذبة مركبهم، والحلف الفاجر وقايتهم، وَيَحْلِفُونَ عَلَى لْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . ويقولالله تعالى فى هم: ( تَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ).
12- الاتصال بأعداء الله وأعداء المؤمنين، ويودون لو تولى العدو أمر المسلمين، وتصرف في شؤونهم ودولهم وأن تكون الغلبة له، والى هذا يشير سبحانه وتعالى (بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
هذه بعض صفات اهل طمس الحقائق واجزم ان هناك صفات اخرى ولكن يكفى من السوار ما احاط باالمعصم
ايه الاخوة
إن بلية الإسلام بهم - كما يقول الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله - شديدة، لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه على الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، حتى ليظن الجاهل أنهم على علم وإصلاح، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصنٍ قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم طمسوه، وكم من لواء مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول رأسه ليقلعوها، استعان بهم الشيطان على الفتن والتحريش في تاريخ الإسلام العريض، وما كثر القتل وتعددت الأهواء، وانتشرت المذاهب الباطلة، والسبل الضالة، إلا بما وضعوه من التفسيرات المنحرفة والتأويلات المتعسفة، وما عبثوا به من المصطلحات وزيفوا من المبادئ، وفي أخبار الزنادقة ومن لف لفهم ممن يظهر الإسلام ويبطن الكفر ما يدل على عظيم البلاء وخطر الابتلاء، فلا يزال الإسلام وأهله في محنة وبلية، ما أكثرهم وهم الأقلون، وما أجبرهم وهم الأذلون، وما أجهلهم وهم المتعلمون: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) .(49/150)
فالله وحده المستعان على ما يصفون وعليه التكلان فيما يجترؤون. اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألستنا من الكذب وأعيننا من الخيانة.
امام وخطيب جامع الامير محمد بن فهد
سعد احمد الغامدي
الظهران الدانه
==============(49/151)
(49/152)
حافظوا على هذا الوطن ..
د حبيب بن معلا
هذا الوطن الطاهر ..
بشموخ هاتيك المآذن السامقة التي يعلو منها نداء التوحيد مدويا في أنحاء المعمورة ..
وبقدسية تلك المدارج النورانية في المشاعر المقدسة التي تخفق لها القلوب وتؤمها الجباه في كل زمان ومكان..
وبعلمائه الأبرار الذين صاروا منارات يهتدي بها الناس من كل جنس ولون.. إليهم يفيئون.. وبهديهم يستظلون ..
وبقادته الأخيار أولي العقل والنهى .. الذين عم بذلهم وخيرهم كل أرجاء الدنيا ..
وبشعبه الطيب المبارك ..وجباه شيبه الساجدة .. ووجوههم المتوضئة ..وعزائم شبابه المتوقدة.. وبعفة نسائه الطاهرات ..
ببراريه الفسيحة .. ووديانه الهائلة .. وجباله الشم ..
بأرضه وترابه وبحره وجوه..
هذا الوطن الطاهر .. بكل مافيه .. بكل مقوماته .. بكل أمنه .. بكل سكينته ..بكل عنفوانه .. بكل كبريائه ..
هذا الوطن الطاهر ..
يجب وجوبا لا تردد فيه ولا حيرة ..
أن نحافظ عليه ..
يجب أن نحافظ عليه من كل ما يزعزعه أو يفسد انطلاقته الكبرى ..
إنه أمانة في أعناقنا جميعا .. لا خيار أمامنا .. إما التماسك ..أو الفوضى العارمة (لاقدر الله) ..
وطننا هذا حصن الإسلام الأخير ..
كلنا مسؤولون عن أمنه ورغده واستقراره ..
من يسفك فيه الدم ويخالف ولي الأمر فهو يخدم أعداء الملة شعر أولم يشعر ..
من يصادم المجتمع كله بكتابات ملحدة خارجة عن الملة فهو يخرق السفينة ويخون قيادته شعر أم لم يشعر ..
من يجعل الوطنية حكرا على أعداء الفضيلة من المغنين والممثلين وأهل الموبقات فهو يخون وطنه شعر أو لم يشعر ..
من يهاجم القضاة والعلماء والدعاة وجمعيات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو يخون دينه ووطنه وقادته ..
من تؤزه شهوته الدونية فيدعو المرأة المسلمة لكشف وجهها واختلاطها بالرجال وذبح حيائها فهو يزرع الشر ويوقظ الفتنة ..
من يحارب المظاهر الإسلامية الطاهرة.. وهذا التوجه الصادق للدين في المجتمعات المسلمة فهو خائن لله ولرسوله وللمؤمنين..
هذا الإسلام هو قدرنا وحياتنا ولن تستطيع قناة أوصحيفة أو منتدى أن تغير من هذه الحقيقة شيئا..
لقد أعلنها قادتنا بكل وضوح وفي كل مناسبة أننا مسلمون ونعيش للإسلام وبالإسلام .. فمالهؤلاء الكتاب المنحرفين الشهوانيين تحرقهم هذه الحقيقة؟
إن مسؤولية المثقفين خطيرة جدا في خدمة هذا الوطن .. فهم الذين لابد أن ينزعوا فتيل الاحتقان .. ويكبحوا جماح الصبية الذين يكتبون في بعض الصحف والمنتديات وبعض برامج الفضائيات الذين يتعدون على المسلّمات الشرعية ويسخرون من القدر ويعارضون صريح القرآن ..
لا تثريب في اختلافنا في الآراء في هذا الوطن الرحب الكبير مالم نتجاوز ذلك إلى الكفر والعياذ بالله .. فلنختلف .. ولكن لاينبغي أن نجعل هذا الاختلاف سبيلا لإيغار الصدور وإيقاد الفتنة ..
يا أيها السعوديون ..
بل ياأيها المسلمون جميعا ..
حافظوا على هذا الوطن.
=============(49/153)
(49/154)
حذاري من المزايدين على حبّ ( الوطن ) !!
حذاري من سموم المزايدين على حبّ الوطن !!
** أيها الأحبة ......... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
** حبّ الوطن صفة إنسانية خلقها الله سبحانه في النفس البشرية ..
** وحبّ الوطن يجري في عروقنا وتنبض به قلوبنا وتنمو به خلايانا ..
** وحبّ الوطن ورثناه من آبائنا ورضعناه من أثداء أمهاتنا ..
** وحبّ الوطن نتنفسه ونعيشه لحظة بلحظة كلّ أعمارنا ..
** وحبّ الوطن لا يحتاج إلى تدريس مادة الوطنية ، ولا يحتاج أبدا إلى تلقين ولا وصيّة ولا نصيحة ، ولطالما إلتهب الشوق إلى الوطن في قلوب أناس لم يروه ولم يستنشقوا هواءه أو حتى غباره ..
** وحبّ الوطن حكمة إلهية ، ووفاء بشرّي تشترك معظم الحيوانات فيه مع بني البشر .. فهل بعد كل ذلك نسمع لمن يأتي لكي يعلمنا كيف نحب (الوطن) ؟؟؟
** أيها الأخوة والأخوات :
ــ في مثل هذه الظروف التي تمرّ بها بلادنا ، وفي مثل هذه (المناخات) الإستثنائية سياسيا وأمنيّاً لكل بلد مهما كان ، فإنه يجب أن نعلم ونحذر من أن هناك فئة من الدخلاء الذين يستنفعون على مصائبنا ويزايدون على حبنا لوطننا ، وهم أعداء لديننا أولاً ثم لبلادنا ومكتسباتنا البشرية والمادية ، ولا همّ لهم إلا العمل على إثارة الفتنة وتأجيج الصراعات وتذكية الإختلافات مستغلين بذلك الكتابة عبر (الأنترنت) والذي يُخفي خلفه هويّاتهم وعقائدهم وأفكارهم ونواياهم الخبيثة والسيئة والتي يُمرّرونها بكل حرفنة وتخطيط ، إبتداءاً من أعدائنا التقليديين من اليهود والنصارى والرافضة ، وإنتهاءاً بالعلمانيين والمتأمركين والعملاء والحاقدين وكل من في قلبه مرض ..!!
** الحذر الحذر من كل ناعق بإسم (الدّين) وبإسم (الوطن) بينما حبر قلمه ينزف سُمّاً زُعافاً ..!!
** حذاري من أدعياء محبة (الوطن) والوطن منهم برئ ..!!
** حذاري من أولئك (الكُتّاب) الذين ظهروا (فجأة) وإمتشقوا أقلامهم ذبحا فينا وفي وطننا بإسم محاربة (الإرهاب) وكأننا لا نفهم الإرهاب ولا نعرف أدواته ومرجعيته ..
** حذاري من كل فاسق بنبأ يبث علينا أخباره وبياناته بإسم محبة الوطن والخوف عليه ..!!
** حذاري من كل الذين يحاولون تعزيز إختلافاتنا وإثارة البلبلة في عقولنا وبين العوام من إخواننا وأخواتنا في المنتديات سواءا كانوا أعضاءا أو متصفحين ..!!
** أيها الأحبة :
ــ إن المؤمن كيّس فطن ولا يُلدغ من الجحر مرتين ، والمواطن الواعي بالعلم الشرعي أولاً والذي يستند على خلفية ثقافية قوية ، ومهارة شخصية مكتسبة وحذق فطريّ طاهر ، هو ذلك الذي يرزقه الله معرفة بهؤلاء الذين يتسللون بيننا كالثعابين وهو الذي يعرفهم من لحن القول وأسلوب الكتابة ولن يجد صعوبة في معرفتهم أبدا متى ما إستشعر الخوف والإخلاص لله سبحانه قولا وعملا ..
** ومن خصائصهم فضحهم الله وأركسهم ما يلي :
ــ التناقض الغريب في الأفكار من موضوع إلى آخر ..
ــ المشاركة في المواضيع ذات السّمة (الإختلافية) وإثارة الفتنة بين كل المختلفين وزعزعة الثقة بينهم وتفريقهم إلى فريقين وقد كانوا فريقا واحدا.
ــ لا يُشاركون في المواضيع الأخرى والتي تعني بهموم الوطن ..
ــ يظهرون فجأة عندما تشخص الأبصار وتعفّ الأقلام عن الخوض في مواجع الوطن أو إختلاف العلماء ..!!
ــ يأتوننا من حيث آلامنا ومن حيث بعض مصائبنا وعوارنا الطبيعي ..
ــ يتشدقون بحبّ (الدّين) والموت في سبيل (الوطن) بطريقة تنفر منها النفس ولا يُصدّقها العقل ، وبإسلوب (نفاقيّ) موغل حدّ الذلة والصّغار الممجوج ..!!
ــ يكتبون بأسمائنا الخاصة والشائعة وبعضهم يكتب بأسماء نسائية تخلب القلب ولا تدخل العقل ..!!
ــ يكتبون ويبحثون في كلّ موضوع حساس يُثير الفتنة سواءا كانت له مناسبة أو لم تكن ..
ــ لا يردّون على المحاور المثقف حين يُلجمهم ويتركون الموضوع يموت لوحده حينما لا تنجح محاولاتهم ..
ــ يتعاضدون ويتهافتون ويتفازعون ضدّ كل مُستفهم أو مُستوضح أو مناقش أو مُعارض فيتكالبون عليه ويجعلون منه (مسخرة) بعدد أصواتهم وكثرتهم وإن كان الحق مع هذا المسكين ..!!
ــ يدّعون الولاء والمحبة لولاة الأمر وهم الأعداء والعملاء، ويتمسّحون بالمجاهدين ومحبتهم بينما أخلاقهم وأساليبهم في الكتابة بعيدة عن أخلاق المجاهدين ، وويزايدون على محبة الوطن وهم يهدمون الوطن ويفسدون في الأرض ..
** حذاري أيها الأخوة والأخوات ، فوالله الذي لا إله إلا هو أنني أراهم قد تهافتوا هذه الأيام وبشكل مسعور في المنتديات وبأسماء كثيرة وجديدة وأعلنوا الحرب والفتنة بيننا بإسم (حبّ الوطن) والمحافظة عليه ، وراحو يُدبجون المواضيع تلو المواضيع وفيها السموم والأمراض والأوبئة الفكرية التي تنخر العقل وتفسد القلب وتفرّق الشمل ..!!؟؟
** لن أطيل ولكن :(49/155)
ــ ليعلم هؤلاء أن حبنا لوطننا لا نتعلمه منهم ولا نستسيغه من أقلامهم ، وأننا بعد عون الله سنفضحهم ونحذر منهم ونتعقبهم ونهتك سترهم والله حسبنا ومولانا ونعم النصير ، وليعلموا أننا نحب وطننا وبلادنا وولاة أمرنا وعلمائنا مهما إختلفنا ومهما ثار بعض الشقاق بيننا وأننا بإذن الله وحوله وقوته سنقف يداً واحدة أمام كل الفتن ما ظهر منها وما بطن وسنكون عونا للدّين ثم للوطن والله هو الحافظ .
** لا أستغني من مشاركاتكم أيها الأخوة والأخوات في إثراء الموضوع ونشره وتوثيقه بمشاركاتكم الجميلة والأصيلة والضافية ، والله أسأل أن يحفظ لنا ديننا وولاة أمرنا ومشائخنا ويحفظ لنا بلادنا ويهدي ضالنا ويجمع شملنا ، وأسأله أن ينصر إخواننا المجاهدين في العراق وفلسطين وفي كل مكان ترتفع فيه راية الجهاد في سبيله ، وأن يخذل ويهزم كل أعداء ديننا من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة الفجرة .. آمين .
ــ الأحد : 2/5/1425هـ
** لكم الحب والتقدير ،،،
** أخوكـ كش ملك ــم
==============(49/156)
(49/157)
المختصر في حكم الأعياد المحدثة
بقلم
سمير بن خليل المالكي الحسني المكي
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، اليهود، ولا الضالين، النصارى.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم، والملة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمره باتباعها، وأمره بأن يقول: {هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً .
أما بعد، فإن من نعم الله تعالى على هذه الأمة أن جعلها خير الأمم، واختار لها أفضل الكتب وأفضل الرسل، وأكمل لها دينها ، فلا تحتاج إلى غيره، وأغناها، بما فصله في كتابه وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، عن أن تستهدي بغيرهما من علوم الخلائق وحكمتهم.
قال تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت/51].
وقال صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ) .
وظلت الأمة على ذلك الهدى والنور، مستغنية به عن سائر الأمم، فلم تلتفت إلى كتب اليهود والنصارى ولا إلى حكمة اليونان ولا إلى علوم فارس والهند، برهة من الزمان، مع تغير الأحوال واختلاف شؤون الحياة، واتساع الدولة الإسلامية، واختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم في الشرق والغرب.
إذ كان ما عندهم من العلم النافع المستمد من الوحي مغنياً لهم عن غيره غناءً تاماً.
حتى إذا حدث النقص في الأمة، بعد العصور الذهبية والقرون الفاضلة، وطال بعض أمرائهم وعلمائهم وعبادهم، فاعتاضوا عن ذلك النقص في طلب علم الوحيين والعمل به والحكم بموجبه بعلوم اقتبسوها من الأمم الكافرة من أهل الكتاب وغيرهم وقلدوهم في بعض شؤونهم وأحوالهم وخصائص دينهم.
وكان مما اقتبسوه منهم، إحداثهم للأعياد والاحتفالات، مع ورود النهي الصريح عن التشبه بهم في نصوص الكتاب والسنة والآثار المروية عن سلف الأمة.
ولم تزل تلك الأعياد المحدثة المضاهية للأعياد الشرعية، في ازدياد وكثرة من القرن الرابع الهجري إلى يومنا هذا حتى جلت عن الحصر والإحصاء.
فرأيت من الواجب المتحتم علي أن أكتب مختصراً في بيان حكم هذه الأعياد والاحتفالات المحدثة مقتدياً في ذلك بما كتبه بعض الأئمة وعلماء الأمة عسى الله أن يحشرني في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وجعلت كتابي هذا في قسمين:
القسم الأول: في بيان الحكم الشرعي في الأعياد المحدثة، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك ذكرت فيه أربع مسائل:
الأولى: حصر الأعياد في المشروع فقط.
الثانية: النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم.
الثالثة: من شبه المخالفين.
الرابعة: الأعياد المكانية.
القسم الثاني: كشف شبهات المخالفين في الأعياد المحدثة.
وأسأل الله تعالى أن ينفع بهما بمنه وفضله وكرمه وأن يغفر لي ولجميع المسلمين.
المسألة الأولى: حصر الأعياد في المشروع فقط.
تواترت النصوص الشرعية على حصر الأعياد الزمانية في الإسلام في عيدين حوليين هما الفطر والأضحى لا ثالث لهما سوى العيد الأسبوعي يوم الجمعة وأن ما سوى ذلك من الأعياد إنما هو محدث سواء كان أسبوعياً أم حولياً أم قرنياً أم غير ذلك.
والأصل في هذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم رسول ا صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر). رواه أبو داود [1/675] والنسائي [3/179]، ولفظه: (كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما…) الحديث .
فحصر صلى الله عليه وسلم أعياد الإسلام في هذين اليومين ونهى عن غيرهما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما) يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما وقوله: (خيراً منهما) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.
وأيضاً فقوله لهم: (إن الله قد أبدلكم) لما سألهم عن اليومين فأجابوه بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسباً، إذ أصل شرع اليومين الإسلاميين كانوا يعلمونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية…] .
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقولت الأنصار يوم بعاث. قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك في يوم عيد. فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) .(49/158)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: [فالدلالة من وجوه: أحدها:قوله: (إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا). فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أن الله سبحانه لما قال: {ولكل وجهة هو موليها} وقال: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص.
الثاني: قوله: (وهذا عيدنا) فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه…]الخ .
قلت: وثمة أدلة أخرى أيضاً غير هذه تدل على النهي عن إحداث عيد آخر سوى العيد الذي شرعه الله تعالى لهذه الأمة تركت ذكرها طلباً للاختصار.
وحسبك من ذلك الحديث المشهور: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
فهو أصل في رد كل المحدثات في الدين ومنها الأعياد الزمانية والمكانية.
وبيان ذلك: أن الأعياد بأنواعها هي من شعائر الدين حتى الأعياد المدنية فيشملها هذا الحديث بخلاف العادات الأخرى المخترعة كالصناعات ونحوها فإنها لا تدخل في النهي بل الأصل فيها الإباحة ، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم.
وتواترت الأدلة الشرعية أيضاً، على النهي عن مشابهة الكفار في شيء من أمور دينهم ، ومنها أعيادهم.
والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر منها ما هو في النهي عن مطلق التشبه بهم ومنها ما يختص بأمور معينة ومنها ما ورد في خصوص الأعياد.
[1] فأما القسم الأول، وهو النهي عن مطلق التشبه بهم فمن أدلته قول الله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية/18] فأخبر الحق سبحانه أنه جعل نبيهمحمدا صلى الله عليه وسلم : (على شريعة شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
وأهواؤهم: هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك) .
وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران/105] فنهى سبحانه عن مشابهة اليهود والنصارى الذين تفرقوا واختلفوا فصاروا أحزاباً وشيعاً فجنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ، (وكلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد جاءت السنة مقررة لما في القرآن:
فمن ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) .
قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم) .
ومن ذلك أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: (فمن) ؟
ونحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كفارس والروم؟ فقال: (ومن الناس إلا أولئك) .
قال ابن بطال: (أعلم r أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس) .
وقال شيخ الإسلام: (وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات.
فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب .
[2] وأما القسم الثاني، وهو النهي عن مشابهتهم في أمور مخصوصة، فقد تواترت الأدلة على معناه وهو الأمر بمخالفتهم ومن ذلك:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) .
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) .
وحديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم) .
[3] وأما القسم الثالث وهو ما ورد في النهي عن التشبه بهم في أعيادهم فسأنقل هنا خلاصة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث عقد فصلاً في كتابه الماتع "اقتضاء الصراط المستقيم" قال فيه: [إذا تقرر هذا الأصل في مشابهتهم فنقول: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين:
الطريق الأول: العام: هو ما تقدم، من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا ولا عادة سلفنا فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة كما تقدمت الإشارة إليه فمن وافقهم فوت على نفسه هذه المصلحة وإن لم يكن قد أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما؟(49/159)
ومن جهة أنه من البدع المحدثة ، وهذه الطريق لا ريب أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك فإن أقل أحوال التشبه بهم أن يكون مكروهاً وكذلك أقل أحوال البدع أن تكون مكروهة ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقاً.
وكذلك قوله: (خالفوا المشركين) ونحو ذلك ومثل ما ذكرنا من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل.
وأما الطريق الثاني الخاص في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
أما الكتاب: فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [الفرقان/72] فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال: (هو الشعانين) .
وكذلك ذكر عن مجاهد قال: (هو أعياد المشركين) وكذلك عن الربيع بن أنس قال: (أعياد المشركين).
وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده؟
ثم مجرد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهة حضورها لتسمية الله لها زوراً.
فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر. ودلالتها على تحريم فعلها أوجه، لأن الله تعالى سماها زوراً، وقد ذم من يقول الزور، وإن لم يضر غيره لقوله في المتظاهرين {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} [المجادلة/2].
فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو على كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود إذ من المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضاً فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم فإذا علم استحباب ترك ذلك كان أول المقصود.
وأما السنة: فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول ا صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: (ما هذان اليومان؟) قالوا:كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داود بهذا اللفظ .
فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال: (إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين).
والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما.
الحديث الثاني: حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى رسول ا صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فقال صلى الله عليه وسلم : (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟ قالوا: لا. قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم)؟ قالوا: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) هذا الإسناد على شرط الصحيحين.
فوجه الدلالة: أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعماً، إما إبلاً وإما غنماً ، وإما كانت قضيتين ، بمكان سماه فسأله النبي صلى الله عليه وسلم (هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟ قال: لا… الحديث ، وفيه قال: (لا وفاء لنذر في معصية) وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله.
يوضح ذلك: أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك.
فالعيد يجمع أموراً:
منها: يوم عائد، كيوم الفطر ويوم الجمعة.
ومنها: اجتماع فيه.
ومنها: أعمال تتبع ذلك، من العبادات والعادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقاً وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً.
فالزمان: كقول صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة: (إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً) .
والاجتماع والأعمال: كقول ابن عباس رضي الله عنهما: (شهدت العيد مع رسول ا صلى الله عليه وسلم ) .
والمكان: كقول صلى الله عليه وسلم : (لا تتخذوا قبري عيداً) .
وقد يكون لفظ "العيد" اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول صلى الله عليه وسلم : (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا).
فقول صلى الله عليه وسلم : (هل بها عيد من أعيادهم)؟ يريد اجتماعاً معتاداً من اجتماعاتهم التي كانت عيداً فلما قال: لا . قال له: (أوف بنذرك) وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال.(49/160)
ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه.
وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً فكيف نفس عيدهم؟
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان.وأعياد الكتابيين التي تتخذ ديناً وعبادة أعظم تحريماً من عيد يتخذ لهواً ولعباً.لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه.
ومما ورد في السنة أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً والنصارى بعد غد) متفق عليه .
وقد سمى صلى الله عليه وسلم الجمعة عيداً في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد.
ثم إنه في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى واللام تقتضي الاختصاص فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث.
وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق.
وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:
أحدها: ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس ثم لم يكن على عقد السابقين من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهياً عن ذلك وإلا لوقع ذلك كثيراً إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع لا محالة والمقتضي واقع فعلم وجود المانع والمانع هنا هو الدين فعلم أن الدين دين الإسلام، هو المانع من الموافقة وهو المطلوب.
الثاني: أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن: أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام.
فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟
الثالث: روى البيهقي في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم) .
وروى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة) .
فهذا عمر رضي الله عنه نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف بفعل بعض أفعالهم أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟
أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أوليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟.
وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟
وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه (من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم) وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية.
ثم نقل شيخ الإسلام نصوصاً عن الإمام أحمد رحمه الله في المنع من شهود أعياد النصارى واليهود ومثله عن القاضي أبي يعلى وأبي الحسن الآمدي والخلال.
ثم قال: [وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:
أحدها:أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه : {لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه} [الحج/67] كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر.
بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر مالها من الشعائر فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه.
وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية، وإلى هذا الاختصاص أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا).
وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم لأن تلك علامة وضعية ليست من الدين وإنما الغرض بها مجرد التمييز بين المسلم والكافر.
وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو وأهله فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه.
الوجه الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه: إما محدث مبتدع، وإما منسوخ وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس.(49/161)
هذا إذا كان المفعول مما يتدين به وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة فهو تابع لذلك العيد الديني.
الوجه الثالث: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً حتى يضاهى بعيد الله بل قد يزاد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر ] ا.هـ باختصار .
ثم ذكر شيخ الإسلام وجوهاً أخرى فليراجعها من شاء ففيها فوائد وحكم جليلة قلما توجد في كتاب.
فصل
فقد تبين أن أعياد المسلمين محصورة فيما شرعه الله تعالى لهم وأن لكل أمة منسكاً وعيداً مختصاً بهم هو من شعائر ملتهم وأن الله عز وجل نهى المسلمين عن التشبه بالكافرين في أعيادهم وفي كل ما يختصون به من أمور دينهم وشعائرهم وأن هذا مما تواترت به النصوص والأدلة الشرعية وأجمع عليه سلف هذه الأمة من زمن الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يؤثر عن واحد منهم أنه احتفل بعيد من الأعياد سوى عيد المسلمين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه فهم كانوا أحرص على الخير ممن جاء بعدهم وكذا التابعون من بعدهم لم يحدثوا احتفالاً بذكرى يوم معين لا إسلامي ولا جاهلي ولا غيره مع وجود المقتضي لذلك وهو كثرة المناسبات وأيام السرور وانتفاء الموانع لإقامة الأعياد والاحتفالات بذكرى الأيام الإسلامية سوى مانع واحد وهو أن ذلك إحداث في دين الله ومعصية مكروهة كراهة تحريم؟.
ومضى على ذلك أتباع التابعين وأئمة المسلمين مستنين بسنة نبيهم r مقتدين بآثار سلفهم.
هذا وهم يرون سائر الأمم المحيطة بهم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وغيرهم يحتفلون بأيام خاصة منها ما توارثوه ممن سبقهم ومنها ما أحدثوه هم من أعياد ومواسم بحسب ما تجدد لهم من أمور وأحداث دينية ودنيوية.
فلم يلتفت المسلمون إلى ذلك ولم يقل أحد منهم إنا أحق بالاحتفال بالأيام والمناسبات الإسلامية التي نصر الله فيها الحق وأهله ودحر الباطل وأهله كيوم بدر مثلاً أو الخندق أو الفتح أو القادسية أو اليرموك أو غيرها مع أن منها ما امتن الله به على المؤمنين في كتابه كما في سور الأنفال والتوبة والأحزاب والفتح وغيرها.
ولم يحتفلوا كذلك بذكرى فتوح البلدان المشهورة كفتح مصر والشام والعراق وما وراء النهر مع قوة الداعي إلى ذلك.
ولا اجترأ الخلفاء والملوك والأمراء أن يحتفلوا بأيام المسلمين أو أيامهم الخاصة بهم وإنما حدث ذلك حين تولى العبيديون الذين سموا أنفسهم بالفاطميين كما سيأتي ذكره.
فصل
ولو قدر أن أحداً من علماء السلف المعتبرين أو أمرائهم وخلفائهم أحدث عيداً من الأعياد، أو شارك الكفار في أعيادهم الدينية أو الدنيوية لكان لفعله ذاك مردوداً عليه محجوجاً بالأدلة الشرعية المحكمة التي تقدم ذكرها في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد كان لبعض الأئمة والخلفاء اجتهادات خالفوا فيها الحق فأنكرها عليهم من أنكرها من السلف، ولا يوجد أحد بعد الأنبياء معصوم من الخطأ والزلل، ومن نظر في كتب العلم خاصة كتب فروع الفقه عرف أن الخطأ وارد على الجميع حتى الصحابة رضوان الله عليهم فكيف بمن بعدهم؟
وإنما ذكرت هذا لأن من الناس وبعضهم من طلبة العلم الشرعي من تقرر لهم القواعد في المسألة ويتضح لهم الحق فيها وتورد لهم الأدلة الكثيرة ثم يقع في حيرة عظيمة إذا رأى شيخاً أو إماماً أو عالماً ممن له مكانة وتمكين يخالف الحق جهرة أو يسكت عن الإنكار على المخالفين أو يبرر فعلهم وصنيعهم.
ولو علم هذا المحتار أن هذا المخالف لو تابعه في مخالفته عشرات ممن هو مثله في العلم والفضل والمكانة والتمكين فإن ذلك لا يغير من الأمر شيئا ًولا يقلب الحق باطلاً ولا الباطل حقاً ولا يصير بفعله المنكر معروفاً ولا المعروف منكراً.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) .
وصح عنه أنه قال: (لا قول لأحد مع سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ) .
فصل: لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة
لكن هذه الأمة ولله الحمد والمنة أمة مرحومة لا تجتمع على ضلالة ولا تتفق على معصية أو بدعة بل لا يزال فيها من ينكر المنكر ويأمر بالمعروف ويحق الحق ويبطل الباطل تصديقاً لخبر صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون} وفي لفظ من حديث ثوبان : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) .
قال الإمام النووي رحمه الله: (أما هذه الطائفة فقال البخاري هم أهل العلم وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم قال القاضي عياض إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.(49/162)
قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض…) ا.هـ نقله .
والمقصود أن هذه الأعياد والاحتفالات المحدثة وإن رضيها أكثر العامة وفعلها الرؤساء والعباد وبعض العلماء واشتهرت في بلاد المسلمين فإنها لا تخرج عن كونها بدعة في الدين، ولا يتغير حكمها بفعل الأكابر لها، ولا بسكوت الساكتين عنها هذا لو فرض أنه لم ينكرها أحد إذ الحجة قائمة بما مضى من نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
فكيف وقد وجد ولله الحمد من ينكرها على مر الأزمان؟
ولنأخذ مثلاً على ذلك بدعة مشهورة أطبق كثير من المسلمين عليها وهي: الاحتفال بذكرى المولد النبوي ولنجعله دليلاً على ما سواه من الأعياد والاحتفالات لا نقصد بذلك الحصر إذ المحدثات لا حصر لها كما هو مشاهد.
هذه البدعة المحدثة متعلقة بشخص رسول ا صلى الله عليه وسلم بيوم ولادته ونتفق نحن المنكرين لها والمخالفون على أنها بدعة محدثة وإن كانوا يزعمون أنها بدعة حسنة لكن يكفينا الاتفاق على أنها بدعة وأن صلى الله عليه وسلم لم يفعلها وهي متعلقة به ولم يأمر أصحابه وأمته بها ولم يحضهم على فعلها وهو الحريص على دلالتهم على كل خير وتحذيرهم من كل شر ثم أصحابه لم يفعلوها في حياته ولا بعد مماته وهم أشد الخلق محبة له وتعظيماً ومضى على ذلك التابعون ومن بعدهم من الأئمة على ترك فعلها أوليس في هذا دلالة صريحة على كراهتها على أقل تقدير؟
ويكفي أن تعرف متى حدثت ومن أحدثها لتزهد في فعلها وتتركها.
أول من احتفل بالمولد
لعل أول من يعزى إليه إحداث الأعياد والاحتفالات عامة والموالد خاصة هم العبيديون فقد ذكر المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" ما نصه: (كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد صلى الله عليه وسلم ، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومولد الحسن ومولد الحسين عليهما السلام ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام ومولد الخليفة الحاضر وليلة أول رجب وليلة نصفه وليلة أول شعبان وليلة نصفه وموسم ليلة رمضان وغرة رمضان وسماط رمضان وليلة الختم وموسم عيد الفطر وموسم عيد النحر وعيد الغدير وكسوة الشتاء وكسوة الصيف وموسم فتح الخليج ويوم النوروز ويوم الغطاس ويوم الميلاد وخميس العدس وأيام الركوبات).
وذكر المقريزي بعض ما يفعل في تلك الاحتفالات والأعياد خاصة الموالد الستة .
وذكر الشيخ محمد بخيث المطيعي مفتي الديار المصرية سابقاً في كتابه: (أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام) أن أول من أحدث تلك الاحتفالات بالموالد الستة أي:مولد صلى الله عليه وسلم ومولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ومولد الخليفة الحاضر هو المعز لدين الله وذلك في سنة 362هـ.
وأن هذه الاحتفالات بقيت إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش بعد ذلك.
وكذا قال الشيخ علي محفوظ في كتابه: (الإبداع في مضار الابتداع) والأستاذ علي فكري في (المحاضرات الفكرية) وغيرهم ذكروا أن العبيديين هم أول من أحدث هذه الأعياد والاحتفالات.
فصل : من هم العبيديون؟
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في كتابه: "البداية والنهاية" : (وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها.
وكان أول من ملك منهم المهدي وكان من سلمية حداداً وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي ، وقال عن نفسه إنه المهدي وقد راج لهذا الدعي الكذاب ما افتراه في تلك البلاد ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه وصار ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض.
ثم كان من بعده ابنه القائم محمد ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة المعزية والقصران ثم ابنه العزيز نزار ثم ابنه الحاكم منصور ثم ابنه الطاهر علي ثم ابنه المستنصر معد ثم ابنه المستعلي أحمد ثم ابنه الآمر منصور ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد ثم ابنه الظافر إسماعيل ثم الفائز عيسى ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم فجملتهم أربعة عشر ملكاً ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة.
وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية..) ا.هـ نقله من البداية والنهاية باختصار .(49/163)
قال كاتب هذه السطور: إنما نقلت هاهنا طرفاً من سيرتهم حتى يعلم المخالفون الذين يحيون الاحتفالات بالموالد وغيرها من هو سلفهم في هذا الأمر فيرغبون عن هديهم والتشبه بهم فإنه من غير المعقول أن تكون هذه الأعياد المحدثة محمودة مندوباً إليها فتقصر عنها الأمة كلها طوال القرون الفاضلة ويسبقهم إليها أولئك العبيديون الضلال!!.
فصل: سلطان إربل وإحياء الموالد
وكان بالموصل رجل من الزهاد هو الشيخ عمر بن محمد الملا (وكانت له زاوية يقصد فيها وله في كل سنة دعوة في شهر المولد يحضر فيها عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك) .
وقال أبو شامة في كتابه: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" في معرض كلامه عن الاحتفال بالمولد النبوي: (وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره رحمهم الله تعالى).
وصاحب إربل هذا هو المظفر أبو سعيد كوكبري بن زيد الدين علي بن تبكتكين سلطان إربل المتوفى سنة 630هـ وهو أشهر من بالغ في الاحتفال بالمولد النبوي بعد العبيديين فكان يعمل لذلك احتفالاً هائلاً كما ذكر ابن كثير في تاريخه وقال: (قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى.
قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم..).
إلى أن قال: (وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار) ا.هـ نقله من تاريخ ابن كثير .
وقال الشيخ علي محفوظ في "الإبداع في مضار الابتداع): (وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السابع وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا وتوسع الناس فيها وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم وتوحيه إليهم شياطين الإنس والجن ولا نزاع في أنها من البدع إنما النزاع في حسنها وقبحها…) ا.هـ نقله .
فتبين مما سبق أن الاحتفال بالموالد ونحوها هو من ابتداع العبيديين ثم تابعهم عليها غيرهم من الزهاد والملوك وقلدهم في ذلك العوام وقد علمت أن هذا كله مخالف لدلالات النصوص الشرعية ولعمل سلف هذه الأمة في القرون المفضلة.
ويدخل في ذلك كل الاحتفالات والأعياد المحدثة سواء كانت متعلقة بمناسبات دينية كذكرى المولد النبوي أو الإسراء والمعراج أو الهجرة أو الغزوات والفتوحات أم تعلقت بغيرها من المناسبات كالأعياد الوطنية ونحوها فكلها داخل في النهي ويعظم خطرها ونكارتها إذا عرف أنها مأخوذة من أعياد الكفار، كأعياد اليوبيل بأنواعه: الفضي والذهبي والماسي .
المسألة الثالثة: من شبه المخالفين
ومن شبه المخالفين في هذه الأعياد المحدثة قوله: إن هذه ليست أعياداً وإنما هي احتفالات أو مناسبات وذكريات فقط بخلاف الأعياد التي يشرع فيها ذكر معين وصلاة معينة ونحو ذلك.
والجواب: إن هذا الذي ذكرتموه من الاحتفالات أو الذكريات المتكررة في الأعوام أو الشهور أو غير ذلك هو معنى العيد.
إذ العيد كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هو : (اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو نحو ذلك.
وقال : (فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة ومنها اجتماع فيه ومنها: أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات) .
فيقال للمحتفلين بالمولد النبوي والإسراء والمعراج ونحو ذلك ألستم تجتمعون في كل عام لهذا الغرض وتحتفلون به وتعملون لذلك برنامجاً خاصاً وتقيمون لذلك عادة ولائم خاصة بهذه المناسبة؟
ويقال للمحتفلين بالأعياد المدنية أو الوطنية أو اليوبيل ألستم تفعلون نحو ذلك؟
فهذا هو العيد سواء سميتموه به أو بغيره فالعبرة بالحقائق والمسميات.
وقد رأينا من يجاهر بالزنا ويسميه فناً يعانق الرجل المرأة على مرأى من الخلق ويفعل معها ما يفعله الرجل مع حليلته ويجاهر آخرون بالربا ويسمونه فوائد وعمولات ويجاهر آخرون بالشرك ويسمونه بغير اسمه وهكذا فهل غيّر ذلك من حقيقتها وحكمها؟
وقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) .
تنبيه:
هناك فرق بين هذا الاحتفال الذي يعود ويتكرر وبين أن تحدث نعمة للمرء فيفرح لها ويصنع وليمة يدعو لها الناس فإن هذا ليس عيداً، بل هو من المباحات، ما لم يشتمل على شيء من الأمور التي تخرجه إلى المكروه أو المحرم.
ولو قدر أن هذا الشخص أعاد الاحتفال بمناسبة تلك النعمة أعواماً أخرى فإن هذا يصيره عيداً ويدخله في حكم المحدثات من الأعياد والاحتفالات.
وليس ذلك مختصاً بالنعم بل حتى الذي يفعله بعض الناس من الاحتفال بذكرى الأحزان فيجتمعون لذلك بمناسبة مرور عام أو أكثر كما يفعل هذا بعض المسلمين في فلسطين في تظاهراتهم بمناسبة ذكرى الاحتلال فهو داخل في مسمى العيد وفيه تشبه بالكفار وإن لم يصحبه فرح وولائم ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد عادة.
شبهة أخرى(49/164)
وقد يقول بعض المخالفين، إن هذه الاحتفالات بمناسبة ولادة ذلك المعظم، من نبي، أو صالح، أو ملك، أو غيرهم، أو بمناسبة إنشاء كلية، أو مصنع، أو غيره، لا يقصد فيها التشبه، بل هي من العادات التي الأصل فيها الحل.
والجواب من وجوه:
الأول: أن هذه الاحتفالات المذكورة وما شابهها مأخوذة من الكفار إما من الكتابيين أو من غيرهم كما يعلم بالاستقراء.
فالاحتفال بالمناسبات الدينية أصله مأخوذ من النصارى واليهود فقد أحدثوا من ذلك الشيء الكثير فمن أعياد النصارى المشهورة: عيد مولد المسيح ورأس السنة الميلادية و "المائدة" إحياء لذكرى المائدة المنزلة من السماء ، والجامع لهذه الأعياد هو: الذكرى بمناسبة دينية.
و "اليوبيل" عيد مأخوذ من اليهود وهو "عيد نزول الوصايا العشر على موسى عليه السلام فوق جبل سيناء) .
ومثل ذلك الأعياد المدنية فهي من سنن اليهود والنصارى ومنها عيد الثورة وعيد العمال وعيد الأم وعيد البنوك وعيد المرأة ويوم الشجرة وأسبوع النظافة ويوم الصحة العالمية ويوم الطفل… الخ .
وإن قدر أن هناك عيداً أحدثه المسلمون ، لم يسبقهم إلى إحداثه الكفار، فإن هذا لا ينفي التشبه بهم لأن إحداث الأعياد إحياءً لذكرى معينة فرحاً بها أو حزناً عليها هو من سنن اليهود والنصارى يدلك على ذلك ما رواه البخاري ومسلم (أن يهودياً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال فأي آية ؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة/3]…) .
الوجه الثاني: أن التشبه بهم لا يشترط فيه أن يقصد إلى الفعل من أجل أنهم فعلوه بل يكفي أن يكون هذا الأمر مما اختصوا به وهو مأخوذ عنهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير.
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهاً نظر.
لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب مع أن قوله صلى الله عليه وسلم (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود) دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية) . ا.هـ.
الوجه الثالث: أنه لو قدر أن هذا الاحتفال ليس فيه تشبه بهم ولا هو ذريعة إليه فإن قصد مخالفتهم مطلوب مرغب فيه والأدلة على ذلك كثيرة.
منها: الأمر بمخالفتهم في صيام عاشوراء بأن يضاف إليه التاسع كما صح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فتدبر هذا يوم عاشوراء، يوم فاضل يكفر سنة ماضية صامه رسول ا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ورغب فيه ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك) .
ومنها قول صلى الله عليه وسلم : (خالفوا المشركين) و (خالفوا اليهود والنصارى) في مسائل عدة، كتغيير الشيب، ولباس النعال في الصلاة وإعفاء اللحى وحف الشوارب واتخاذ القصة من الشعر وحلق القفا وتعجيل الفطور وغير ذلك من العادات والعبادات.
فهذا يدل على أن مخالفتهم مطلوبة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (قد بالغ r في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً عن سائر أمورهم فإنه: كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم كان أبعد عن أعمال أهل الجحيم) .
وقال: (إن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه…) .
وقال: (فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة والمشاركة في الهدي الظاهر توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان وهذا أمر محسوس.
فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة) ا.هـ باختصار .
وقال: (حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة كما تقدمت الإشارة إليه.
فمن وافقهم فوت علىنفسه هذه المصلحة وإن لم يكن أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما؟ ) .
والخلاصة
أن هذه الاحتفالات والأعياد الزمانية المتكررة في الحول أو في القرن أو في نصفه أو في ربعه أو غير ذلك سواء كانت ذكرى لمناسبات دينية أو دنيوية كلها يشملها النهي وتدخل ضمن البدع والمحدثات في الدين وإن كان بعضها أشد في النهي والكراهة من بعض.(49/165)
فإنكار بعضها والسكوت عن الآخر تناقض ظاهر، بل وجد في زماننا من يخص الاحتفال بذكرى المولد بالإنكار ثم يشارك في غيره من الأعياد المحدثة وهذا من البلاء الذي ابتلي به المسلمون نعوذ بالله من الخذلان ومن الحور بعد الكور.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وصرفها على طاعتك حتى نلقاك.
المسألة الرابعة: الأعياد المكانية.
ولا تختص الأعياد بالزمان بل تشمل المكان أيضاً.
وقد دل على ذلك الحديث المتقدم في الرجل الذي نذر أن ينحر إبلاً بمكان اسمه "بوانة" فسأله صلى الله عليه وسلم : (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) وهذا صريح في أن العيد يطلق على المكان أيضاً.
وقد كان للجاهلية أعياد مكانية مشهورة يحجون إليها ويعظمونها وينتابونها في أيام معلومة ومنها: "اللات" لأهل الطائف و "العزى" لأهل مكة و "مناة" لأهل المدينة، "ذو الخلصة" لأهل اليمن فكانوا يشدون إليها الرحال ويقيمون عندها أعيادهم .
وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجعلوا قبري عيداً…) الحديث .
قال شيخ الإسلام : (والعيد إذا جعل اسماً للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك.
وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها فلما جاء الإسلام محى الله ذلك كله وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين وسائر القبور) ا.هـ.
وقول شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف العيد المكاني: (هو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة يشمل كل الأعياد المكانية التي يتخذها الناس، إما بقصد العبادة، كالذين يحجون للقبور ويقصدونها للطواف بها أو الذبح أو النذر لها أو للدعاء والصلاة عندها أو للتبرك بترابها كما يفعله كثير من الجهال في زماننا هذا في حجهم للقبر النبوي أو لمشهد الحسين أو الشافعي أو البدوي أو غيرها من المشاهد.
وإما بقصد اللهو واللعب ونحو ذلك كالمهرجانات الوطنية التي تقام في بعض الأماكن وينتابها الناس بقصد البقعة إما لأن بعض الرؤساء والمعظمين ولدوا فيها أو ماتوا فيها أو كانت لهم فيها حادثة ما فتتخذ عيداً من أجل ذلك مضاهاة للأعياد المكانية المشروعة الكعبة والمشاعر.
وقد أفاض شيخ الإسلام في شرح ذلك وتفصيله في كتابه الاقتضاء وتبعه على ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان فليرجع إليهما من شاء ولولا خوف الإطالة لنقلت كلامهما هنا.
خاتمة القسم الأول
فهذه خلاصة ما تيسر التنبيه عليه في حكم الأعياد المحدثة سواء منها ما قصد به العبادة أو اللهو واللعب أو غير ذلك وسواء سميت أعياداً أو احتفالات أو مهرجانات أو أياماً أو أسابيع أو غير ذلك مما لا يغير من حقيقتها ولا من مسماها وحكمها شيئاً.
نعم قد تتباين في التحريم والكراهة فمنها ما هو أشد من غيره لكن الجامع لها أنها محدثة (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).
وحيث إن المخالفين قد عارضوا ذلك بشبهات وحجج سوى ما تقدم زعموا أنها تدل على إباحة أو استحباب تلك الأعياد والاحتفالات أو بعضها فقد خصصت القسم الثاني من هذا الكتاب في كشف شبهاتهم والرد على حججهم وأدلتهم.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب سمير بن خليل المالكي الحسني المكي
نزيل مكة المكرمة حرسها الله
20/1/1420هـ
ت : 5350293
عيد اليوبيل بدعة في الإسلام
بقلم
بكر بن عبد الله أبو زيد
6- الفتوى رقم (17779).
وتاريخ 20/3/1416هـ.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي / يحي عز الدين الفيفي والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (936) وتاريخ 21/2/1416هـ . وقد سأل المستفتي سؤالاً هذا نصه: (فنحب أن نسأل عن ظاهرة انتشرت في هذا الزمان وهي إقامة احتفال من بعض الناس على مرور خمس وعشرين سنة من ولادته وقد يسمى بالعيد الفضي أو اليوبيل الفضي وبعد مرور خمسين سنة كذلك ويسمى بالعيد الذهبي وبعد خمس وسبعين عيد يسمي بالعيد الماسي وهكذا ومثل هذا يقام أيضاً على فتح بعض الأماكن مثل بعض الإدارات أو الشركات أو المؤسسات لمرورها بمثل المجموعات الآنفة الذكر من السنين وهذه ظاهرة منتشرة.
ونحن في هذا البلد الطاهر وفي رعاية حكومة التوحيد بصرها الله تعالى وعلماؤنا من أهل السنة والجماعة يحاربون البدعة تحت مظلة حكومة آل سعود.فضيلة الشيخ -حفظكم الله- أفتونا جزاكم الله خيراً ، هل هذه الاحتفالات سنة أم بدعة ونسأل بالله الإجابة على هذا السؤال حتى نكون على بصيرة من أمرنا).(49/166)
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه لا تجوز إقامة الحفلات وتوزيع الهدايا وغيرها بمناسبة مرور سنين على ولادة الشخص أو فتح محل من المحلات أو مدرسة من المدارس أو أي مشروع من المشاريع لأن هذا من إحداث الأعياد البدعية في الإسلام ولأن فيه تشبها بالكفار في عمل مثل هذه الأشياء فالواجب ترك ذلك والتحذير منه وقد صدرت منا فتاوى في هذا الموضوع نرفق لك صوراً منها زيادة في الفائدة وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
==============(49/167)
(49/168)
دعوة إلى إعادة النظر في الأهداف والمنطلقات
محمد جلال القصاص
في الجاهلية الأولى كان المال دولة بين الأغنياء ... قِلَّة غنية وكَثرة بالكاد تجد قوت يومها ، وفي الجاهلية الأولى كانت الحروب تأكل الرجال على ناقة أو لأن فرسا سبقت أختها ، وفي الجاهلية الأولى كان الزنا وكانت الخمر وكان وأد البنات وبيع الأحرار . وكان الشرك الأكبر ( شرك النسك وشرك الطاعة ) ... تُدعى الأصنام من دون الله ويُنذر لها ويُذبح عندها ، وكان شرك الطاعة ... يُشَرِّع الملأ ويتبع العوام .
ولم تخل الجاهلية من المصلحين ، الذين يسعون في إصلاح ذات البين لحقن الدماء ورفع الظلم عن الضعفاء .
وحين بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يضع يده في يد أحد من هؤلاء .
بكلمات أخر : رغم أن الدعوة الإسلامية كانت تدعوا لمثل ما كان يدعو إليه المصلحون من مكارم الأخلاق إلا أنها لم تضع يدها في يد أحد من هؤلاء . ذلك لأنه وإن اتحدت الأهداف فإن المنطلقات متغايرة . فهؤلاء دوافعهم شتى .. تدفعهم المروءة ويدفعهم الثناء الحسن ويدفعهم عرف الآباء ، أما المسلمون فيدفعهم طاعة الله ورسوله ـ ولا ينبغي أن يكون لهم دافع غير ذلك ـ . وهؤلاء تقف أهدافهم عند إصلاح الدنيا والمسلمون يصلحون الدنيا للآخرة . وشتان .
ومن يتدبر أحداث السيرة النبوية وما كان يَتَنَزَلُ في بداية البعثة يجد أن الدعوة الإسلامية بدأت بتعريف الناس بربهم .. بأسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته .. كيف أنه الحي القيوم الرحيم الرحمن ذي الجلال والإكرام مالك الملك القريب المجيب .. الخ ، ثم بترسيخ نظرية الثواب والعقاب وذلك بتعريفهم بالجنة ( دار الثواب ) وبالنار دار العقاب ،وقُصَّ عليهم خبر من سبقوا ، مَن أطاعوا منهم كيف كانت عاقبتهم ومن عصوا منهم ماذا فعل الله بهم . واقرءوا ما نزل من القرآن في مكة .
ثم جاءت التشريعات باسم الله الذي عرفوه بأسمائه وصفاته وبين يدي الثواب والعقاب .
فمثلا قيل لهم : الله ـ الذي عرفوه ـ يأمركم بالصلاة ، ومن فعل فله الجنة ـ التي عرفوها ـ ومن عصى فله النار ـ التي عرفوها ـ .
والله الذي عرفتموه يأمركم بالزكاة ومن أطاع فثوابه الجنة التي عرفتموها ، ومن عصى فله النار التي عرفتموها .
لذا استقامت النفوس محبه ورهبة لله وخوفا من النار وطمعا في الجنة .
وبهذا يتضح منطلق الدعوة الإسلامية وهدفها ، وهو تعبيد الناس لله ... تعريفهم بربهم ليعظموه ويوقروه ويسبحوه ، وإصلاح الدنيا ـــ يجيء تبعا وليس أصلا ـــ ثم الفوز بالجنة .
ومن يتدبر يجد أن التشريعات الإسلامية تصلح بها الدنيا ، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة تكافل اجتماعي ، والحج ( ليشهدوا منافع لهم ) ومن آداب الإسلام حسن الجوار والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم ... وكلها تنشئ مجتمعا صالحا ، ولكننا لا ننادي بها من اجل هذا وإنما لأن الله أمرنا بهذا ونرجوا من وراء ذلك الجنة ونخاف النار ، وإن كان من ثمارها صلاح المجتمع .
صراحة : أعيب تلك الحالة التي تتميع فيها الحقائق وتختلط الثوابت على العامة ، كما تفعل بعض الفصائل الإسلامية حين تتحالف مع الأحزاب ذات التوجهات اليسارية ،أو تتجه إلى الجماهير بخطاب دنيوي بحت وتنادي بشرع الله من باب الأفضلية ... لأنه خير من غيره أو لأنه هو الأنسب لإصلاح الدنيا ، فيُقبل من يُقبل وليس عنده هدف سوى ما فهمه من هذا الخطاب المنقوص . وأعيب على بعض الفصائل المجاهدة التي ترفع الشعارات الوطنية وتثني على الزعمات العلمانية بدعوى لم شمل أبناء الوطن الواحد ، وهؤلاء وأولئك نحسن الظن بهم ولكن خطاب كهذا تضيع به الأهداف الحقيقية للدعوة الإسلامية أو تتميع في أحسن الأحوال ، ولست اغمز أحدا ــ معاذ الله ـــ وإنما أنصح بما أراه صحيحا . أقول : لا بد من المفاصلة الفكرية التي [1] يتميز بها سبيل المؤمنين من سبيل الكافرين والمنافقين . وتعرف العامة أين هي وتمضي بوضوح في طريق الله المستقيم .
----------
[1] لا أقول بعدم الاستفاده من الغير فقد رضى رسول ا صلى الله عليه وسلم بجوار عمه أبي طالب ، وأبوطالب على الكفر . وهاجر أصحابه إلى الحبشة واستفاد من عدل النجاشي وهو كافر .
========================(49/169)
(49/170)
الإسلام والمواطنة
د. قدري حفني
kad r ymh@yahoo.com
الحوار لا ينقطع هذه الأيام حول تعديلات الدستور المصري, وقد امتد ذلك الحوار الصحي ليشمل المادة الثانية التي تقرر أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع والتي رأي فيها البعض تعارضا مع المادة الأولي المقترح إضافتها لتتصدر الدستور والتي تتحدث عن أن نظامنا ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة.
ولقد شاركت في عدد من تلك الحوارات كان أحدثها ذلك الحوار الذي أداره بصبره المعهود الصديق الدكتور إسماعيل سراج الدين في مكتبة الإسكندرية والذي امتد إلي ما يقرب من الساعات الخمس المتصلة, وسبقه حوار آخر استضافه المركز الدولي للدراسات المستقبلية والإستراتيجية, وقد اقتصرت مداخلتي الموجزة في كلا اللقاءين علي ما تثيره مواد الهوية الإسلامية والمواطنة من جدل.
لقد طرح كل فريق من المتحاورين حول تلك المواد مجموعة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث التاريخية التي يراها مدعمة لوجهة نظره. استشهد فريق المدافعين عن بقاء المادة الثانية بما لا حصر له من أسانيد إسلامية يرون من خلالها أن القيم الإسلامية تتجاوز قيم المواطنة والديمقراطية حيث يقرر الإسلام ألا فضل لعربي علي عجمي إلا بالتقوى, ويحذر من ظلم العباد, ويوصي المسلمين بأهل الذمة ويجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم, فضلا عن العديد من وقائع التاريخ الإسلامي التي تبرز قيم السماحة والمساواة والعدل, بل والمرونة أيضا حتى في تطبيق الحدود رغم أنها أحكام شرعية قطعية الثبوت والدلالة.
وفي المقابل يلتقط أصحاب وجهة النظر الأخرى من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث التاريخية ما يرونه مدعما لوجهة نظرهم التي تبدو معها الشريعة الإسلامية متعارضة تماما مع مبادئ المواطنة والديمقراطية داعية إلي احتقار أصحاب الديانات الأخرى والتضييق عليهم وعدم موالاتهم بل وقتالهم, ويستشهدون للتدليل علي ذلك بالعديد من التأويلات بل والممارسات التاريخية التي تدمغ حكاما مسلمين بارتكاب المذابح ضد من يخالفونهم حتى لو كانوا من المسلمين, ويستشهدون فضلا عن ذلك بنماذج من أنظمة وتيارات سياسية إسلامية في باكستان وأفغانستان وإيران والسعودية والسودان.
ويدور ذلك الحوار في مناخ يسوده التشكك المتبادل في النوايا المضمرة لكل فريق بحيث يصبح التمسك بالمادة الثانية كما لو كان دعوة لقهر الآخر والتسلط عليه, وفي المقابل تصبح الدعوة للمواطنة والديمقراطية دعوة مستوردة هدفها القضاء علي الإسلام. وفي ظل مثل ذلك المناخ يمكن أن يستمر الجدال إلي ما لا نهاية ويستمر معه التخوف والتوجس بل والتربص من الجانبين ويستمر كل فريق في اقتناص الحجج والوقائع والنصوص التي تدعم وجهة نظره.
حين أعدت النظر في تلك المحاورات التي تابعتها أو شاركت فيها تبين لي أن أحدا من الفريقين لم ينكر علي الآخر صحة الوقائع أو النصوص التي استند إليها, وكان جوهر الخلاف يتمثل في اتهام كل فريق للآخر بالتعسف في التأويل والانتقائية في الاختيار ثم تعميم الاستثناء ليبدو كأنه القاعدة.
واستعدت خلال متابعتي لتلك المناقشات فكرة مستقرة في علم النفس السياسي تقوم علي أن الحوار لكي يكون مثمرا ينبغي التخلي عن استقراء النوايا, والاتفاق بداية علي تحديد دقيق لمعاني المصطلحات, إلا إذا ما اتفق المتحاورون علي إقرار مصطلح غامض قابل للتأويل وهو ما قد يحدث أحيانا في المفاوضات لأسباب لسنا في مجال تفصيلها.
إن رؤية العديد من شيوخنا الأفاضل في مصر ورموز التيار الإسلامي لجوهر الإسلام الحق ولمبادئ الشريعة الإسلامية لا تعارض مطلقا مع المواطنة والديمقراطية, ولكن تلك الرؤية تختلف اختلافا بينا عن رؤية العديد من الإسلاميين القدامى والمحدثين والتي لا يستطيع أحد إنكار انبثاقها من التراث الإسلامي وتأثيرها في الفكر الإسلامي المعاصر, والتي تري أن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم, وأنه لا ينبغي للمسلمين الالتزام برابطة الشعوب, وأنه ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتساوي فيه العصبية الوطنية مع الأخوة الإسلامية, وأن الاستعمار كان وراء إذكاء النعرة الوطنية والحث علي الموت في سبيل الوطن, وأنه قد تم نسخ آيات الصفح, والتسامح, والمسالمة, والمجادلة بالتي هي أحسن, وعدم الإكراه في الدين, وحق الاختيار, والتولي والإعراض عن الآخرين الذين يسمون كفارا أو أهل كتاب مشركين؛ ومن ثم لا يصبح أمام المسلم الحق سوي قتال غير المسلمين.
من هنا ينبع القلق وهو قلق مبرر تماما علي الجانبين: ما الذي يضمن ألا يأتي في المستقبل من يتبني تلك الرؤية الإقصائية لمبادئ الشريعة الإسلامية, أو علي الجانب الآخر ما الذي يضمن ألا يأتي في المستقبل من يتبني رؤية للمواطنة تعني فصل الدين تماما عن الحياة اليومية للبشر؟
تري هل ثمة إمكانية لأن يتضمن الدستور مثلا ما يعني صراحة تبني ذلك الفهم المحدد للشريعة الإسلامية وهو الفهم الذي يمكن أن تقبل به الأطراف جمي
================(49/171)
(49/172)
المواطنة والهوية
مجلة البيان - (ج 211 / ص 9)
أ. د. جعفر شيخ إدريس
المواطنة انتساب جغرافي، والهوية انتساب ثقافي. المواطنة انتساب إلى أرض معينة، والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة.
فما العلاقة بينهما؟ نذكر فيما يلي أمثلة للعلاقات بينهما، وللمشكلات التي تثيرها هذه العلاقات، فنقول:
- الهوية لازمة للمواطنة؛ لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي، وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات. وكل هذا إنما يبنى على معتقدات وقيم ومعايير؛ أي على هوية معينة.
- ليس الوطن الذي ينتسب إليه المواطنون هو الذي يحدد لهم نوع الهوية التي إليها ينتسبون. فالوطن الواحد قد تتعاقب عليه نظم مختلفة بل ومتناقضة. فالروس كانوا مواطنين روساً، حين كانوا ينتمون إلى الاتحاد السوفييتي، وحين كان نظامهم الاقتصادي اشتراكياً، وكان نظام حكمهم دكتاتورياً، وهم الآن مواطنون روس بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبعد حلول الرأسمالية محل الاشتراكية، والديمقراطية محل الدكتاتورية.
- فالهوية إذن هي النظارة التي يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب أو غير مناسب، صالح أو غير صالح لوطنهم. فإذا اختلفت النظارات اختلف تقويم الناظرين إلى ما ينظرون إليه، وإن اتفقوا على الحقائق الحسية.
- وإذا صح هذا فإن المواطنين مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط، بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم. لكن بعض الناس يتوهمون أنه بإمكان المواطنين في بلد ما أن يحلوا مشكلاتهم بمجرد انتمائهم الوطني. فيقولون مثلاً: لماذا لا نجلس باعتبارنا سودانيين فقط أو سوريين فقط، أو يمنيين، أو خليجيين، أو مصريين، وننسى انتماءاتنا الدينية والأيديولوجية لنحل مشكلة من مشكلاتنا الاقتصادية؟ نعم هنالك مشكلات يمكن أن يحلها الناس حتى باعتبارهم بشراً، ودعك من أن يكونوا مواطني دولة من الدول، ولكن ما كل المشكلات كذلك، وإلا لما انتمى الناس أصلاً إلى ثقافة من الثقافات، بل نظروا إلى كل مشكلة باعتبارهم بشراً لا غير.
خذ مثلاً مشكلة (مرض الإيدز): إن الناس سيتفقون باعتبارهم بشراً وبغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية بأنه شيء ضار؛ لأنه خطر على حياتهم وحياة أولادهم، وهم باعتبارهم بشراً حريصون على الحياة. هل يتفقون على طريقة معالجته؟ ليس بالضرورة؛ فقد يقول المتدينون ـ مسلمين كانوا أو يهوداً أو نصارى ـ إن العلاج الحاسم إنما يكون بالكف عن أية ممارسة جنسية قبل الزواج. وقد يذهب المسلم إلى القول: إن هذا يستدعي فصل الرجال عن النساء، وإلزامهن بزي معين لا يكون مثيراً للرجال. ولكن أناساً من غير المتدينين قد يرون في مثل هذه الاقتراحات حداً من الحرية، وهي في نظرهم أمر ضروري ضرورة العفة التي ينشدها المتدينون؛ ولذلك يرون الاكتفاء بالبحث عن علاج طبي لا سلوكي.
وخذ قضية أخرى يواجهها كل البشر: (كيف تكون العلاقة الجنسية بينهم؟) هل تكون إباحية يقضي كل فرد منهم حاجته مع من شاء كيف شاء؟ هل يتزوجون؟ وهل يكون الزواج بواحدة أم أكثر؟ وهل هنالك حد لهذا الأكثر؟ هذه قضايا لا يحلها الناس بمجرد انتمائهم الوطني؛ لأنه ليس في هذا الانتماء ما يهديهم إلى خيار من هذه الخيارات، أو يفرضه عليهم.
لا بد للمواطنين إذن من هوية، من ثقافة تكون هي المنظار الذي ينظرون به إلى الواقع، والمعيار الذي يقترحون به الحلول لمشكلاته.
ولكن ماذا إذا كان المواطنون في البلد الواحد منقسمين إلى ثقافات، وهويات مختلفة؟ هنالك عدة احتمالات:
- أحسنها من حيث الاستقرار وعدم التنازع: هو أن تكون إحدى هوياتهم هذه هي الغالبة من حيث عدد المنتسبين إليها. قيّدتُ الحسن بالاستقرار السياسي، وعدم التنازع ولم أقُلِ التطور العلمي، أو الاقتصادي، أو العسكري؛ لأن الهوية التي استقر أمرهم عليها قد لا تكون بطبيعتها مساعدة على ذلك.
- وإذا لم تكن هنالك هوية غالبة بهذا المعنى فقد يكون المنتمون إلى إحدى الهويات أقوى من غيرهم؛ فيفرضون على البلد هويتهم، وينظمون أمره على أساسها. هذا سيكون بالطبع على حساب بعض الحريات، لكن هذه الأدلجة المفروضة بالقوة قد تكون مساعدة على تطور البلاد اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي، وكما هو الآن في الصين، وكوريا الشمالية.
- وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، وكانت الهويات والثقافات المتعددة متساوية في قوتها فأمام مواطنيها خيارات:
- فإما أن يحلُّوا نزاعهم بتقسيم وطنهم، كما حدث للهند حين خرجت منها باكستان، ثم خرجت بنجلادش من باكستان، وكما خرجت أرتريا من أثيوبيا، وكما انقسمت شيكوسلوفاكيا، ويوشك أن تنقسم الآن أكرانيا.
- وإما أن يبحثوا عن صيغة يتعايشون بها رغم اختلافاتهم؛ فماذا يا ترى يمكن أن تكون هذه الصيغة؟
يرى بعضهم أن أحسن طريقة لتعايش مثل هذه الهويات المختلفة: هو أن تختار نظاماً علمانياً محايداً بينها، وديمقراطياً يعطى كل واحد منها حق الوصول إلى السلطة، إذا ما اختارته الأغلبية.(49/173)
لكن المشكلة أنه لا يوجد نظام للحكم محايد بين هويات مختلفة اختلافاً أساسياً، ويستحيل عقلاً أن يوجد. لا يمكن أن يكون النظام الاقتصادي في البلد الواحد رأسمالياً واشتراكياً، ولا يمكن أن يكون اقتصاد السوق رأسمالياً يبيح الربا، وإسلامياً يحرمه ويفرض الزكاة، لا يمكن أن يكون النظام السياسي إسلامياً يلتزم بشرع الله باعتبار أن الحكم التشريعي له سبحانه، وديمقراطياً يعطي هذا الحق للبشر يشرعون ما شاؤوا؛ فالعلمانية هي نفسها إذن هوية من الهويات، فأنّى تكون محايدة بينها؟
ومن المتفق عليه بين منظِّري الديمقراطية من الغربيين، ودعك من عوام السياسيين من أمثال بوش: أن الديمقراطية لا تصلح ولا تكون سبباً للاستقرار إلا في إطار متفق عليه بين معظم المواطنين، ثم تكون خلافاتهم الثقافية خلافات فرعية داخل هذا الإطار العام الجامع. وأما إذا كانت الخلافات أساسية، وحول الإطار نفسه فإن الديمقراطية لن تحل إشكالاً، ولن تحقق استقراراً؛ لأنه لا أحد من المتنازعين سيقبل حلاً لمجرد أن الأغلبية التي يختلف معها قالت به.
ما الحل إذن؟ الحل في مثل هذه الحال: هو أن يجتمع المختلفون، ويبدؤوا بتقرير المبدأ الذي هم متفقون عليه: أنه من مصلحتهم جميعاً أن يبقوا في وطن واحد، ثم ينظروا إلى الكيفية التي يحققون بها هذا الهدف، من غير تقيد سابق بديمقراطية، ولا علمانية، ولا غير ذلك من النظم والأيديولوجيات الشائعة، بل يقولون: هذه أوضاعنا، وهذه خلافاتنا؛ فلنبحث عن حل أصيل لها ومتناسب معها، وهو حل يستلزم ـ ولا بد ـ قدراً من التنازلات والمساومات، وقد يكون شيئاً جديداً يستفيد من الدين ومن التجربة الديمقراطية، أو العلمانية، أو غيرها، ولا يأخذ أياً منها بكامله. هذا ما حاول فعله واضعو الدستور الأمريكي؛ فبالرغم من أن الولايات المتحدة تعد اليوم مثالاً للديمقراطية؛ إلا أن الذين وضعوا دستورها لم يكونوا ملتزمين بتجربة ديمقراطية معينة، ولا بمبادئ ديمقراطية معينة، بل كان بعضهم يخشى مما أسموه بدكتاتورية الأغلبية التي قد تؤدي إليها الديمقراطية. ولذلك جاء دستورهم شيئاً جديداً لا يمكن أن يوصف بالديمقراطي إذا ما قيس بالمبادئ الديمقراطية الصارمة. من ذلك أنه من الممكن ـ بل حدث ـ أن يكون الرئيس الفائز في الانتخابات أقل أصواتاً من منافسه. ومنها فكرة الكليات الانتخابية التي لا تقيد أعضاءها برأي ولايتهم، بل تجيز لكل واحد منهم أن يصوِّت لمن يراه صالحاً من المرشحين للرئاسة بغض النظر عن الأصوات التي نالها في الولاية.
لكن حتى هذا لم يحل الإشكال حلاً كاملاً؛ فما زال الشعب الأمريكي منقسماً في قضية العلاقة بين الدين والدولة، وما زالت الكتب فيها تكتب، والبحوث تُنشر، والقضايا ترفع، وهذا يعني أن التعددية ليست شيئاً حسناً في ذاته وبإطلاق. التعددية تكون حسنة إذا ما كانت إيجابية، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت ضمن إطار ثقافي جامع؛ أي ضمن هوية جامعة. فتعددية الهويات المختلفة المتناقضة: هي مشكلة يجب أن تعالج وليست واقعاً يحافظ عليه، أو يتباهى به، كما يفعل كثير من الناس الآن في السودان وغيره؛ وذلك لأنه لا يسهل مع مثل هذه التعددية تحقيق استقرار سياسي، ولا يسهل معها من ثَمَّ تطور اقتصادي، أو علمي أو تقني. هذا هو المتوقع عقلاً، وهو الذي تدل عليه تجارب الأمم قديمها وحديثها.
قد يقال: لكن هذه هي الولايات المتحدة تتباهى بأنها أمة واحدة رغم أنها تكونت من مواطنين من أجناس متعددة، وديانات متباينة، ولغات مختلفة، وثقافات متناقضة. نعم! لكنها لم تصر أمة واحدة إلا حين صهرت هذه المكونات كلها في بوتقة، وأخرجت منها شيئاً واحداً متجانساً. يمكن لذلك أن نقول: إن التعدديات نوعان: تعددية صحن السَلَطة الذي يحتفظ كل مكون من مكوناته بلونه وطعمه وملمسه: فهذا طماطم، وهذا جرجير، وهذا عجور، وهكذا. وتعددية القِدر الذي توضع فيه كل المكونات، من لحم، وخضار، وملح، وبهارات لتطبخ إداماً واحداً ذا طعم واحد، وربما لون واحد. هذا الأخير هو الذي يقال: إن الولايات االمتحدة فعلته، إنها كما يحلو لهم أن يقولوا بوتقة melting pot جعلت من مكوناتها أمة أمريكية واحدة. يقول كاتب أمريكي: لقد كانت الأمركة عملية انسجام قسري كانت الولايات المتحدة فيها بمثابة البوتقة لا النسيج ذي الألوان والصور المختلفة. لم يكن ينظر إلى المجتمع الأمريكي على أنه قطعة من روسيا؛ قطعة من إيطاليا، وقطعة من بولندا مزج بعضها ببعض، كلا! بل إن القوميات المختلفة جُعلت أمريكية كما ينقى المعدن الخام ليصير ذهباً خالصاً. الأمركة نقتهم وأزالت خبثهم. إن أصحاب موكب حركة البوتقة لم يكونوا يحتفلون بالتسامح، ولكن بالخضوع لمفهوم ضيق للقومية الأمريكية، بتصوير الأجانب بأناس في أزياء غريبة، ينغمسون في قدر كبير، ويخرجون منه نقيين بهندام جميل، ولهجة أمريكية خالصة، ومنظر أمريكي؛ أي أمريكان إنجليز (1) .(49/174)
كيف يقال: إن أمريكا تؤمن بالتعددية، وهي زعيمة الغرب الذي ما زال يسعى لقتل الثقافات الأخرى، ولأن تكون ثقافته هي المهيمنة على العالم؟ اقرؤوا في هذا ـ إن شئتم ـ كتاب (إدوارد سعيد) الاستعمار الثقافي (Cultu r al Impe r ialism) ، بل إنهم ليعدون ثقافتهم جزءاً من قوتهم التي يسمونها بالقوة الناعمة أو اللينة soft powe r في تقرير جديد للجنة استشارية من لجان الكونغرس فيه تقويم لسياسة الحكومة الأمريكية، ونقد لها جاء قولهم: كنا نتحدث حتى الآن على افتراض أن الهوية شأن داخلي في وطن من الأوطان، لكن الواقع ليس كذلك. فالعلاقة بين الوطن والهوية لا تكاد تكون علاقة مطابقة. وهذا يسبب مشكلات كثيرة منها:
- أنه كما أن تعدد الهويات في الوطن الواحد قد يؤدي إلى تمزيقه؛ فإن اتحاد الهويات في أوطان متعددة قد يؤدي إلى توسيع للحدود الوطنية، بضمّ بعض الأقطار إلى بعض، أو بالتعاون الوثيق بينها الذي يجعلها كالوطن الواحد، كما هو الحال الآن في الاتحاد الأوروبي.
- لكن هذا التوحيد أو التمزيق لا يحدث في الغالب إلا بطريقة عنيفة. وفي هذا يقول المؤرخ الإنجليزي (لويس ناميير): «إن الدول لا تتوحد أو تُحطم، والحدود لا تُمحى أو يعاد رسمها بالحجج وصوت الأغلبية. إن الأمم تحرر وتتوحد أو تمزق بالحديد والدم، لا بالتطبيق الكريم لمبدأ الحرية».
- بما أن مصالح المواطنين في أرض معينة لا تكاد تكون محصورة في حدود أرضهم، ولا سيما في عصرنا هذا الذي تشابكت فيه المصالح بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم؛ فإن مفهوم الدولة الوطنية بدأ يتضاءل، وتحل محله تحالفات أو اتحادات بين دول متعددة. ولكن هذه التحالفات لا تنجح إلا إذا كانت مبنية على هويات مشتركة. خير مثال على ذلك (الاتحاد الأوروبي) الذي لم يجد مشكلة في ضم كل قطر ذي هوية أوروبية نوعاً ما، لكنه يتلكأ في قبول (تركيا) ذات الهوية المختلفة، بالرغم من أنها دولة علمانية، وبالرغم من أنها غيرت في كثير من قوانينها لتوافق البلاد الأوروبية.
- بما أن التطور الهائل في وسائل الاتصال جعل من كرتنا الأرضية ما يشبه الوطن الواحد فقد ازداد حجم المشكلات التي تهم الناس باعتبارهم بشراً، وبغض النظر عن أوطانهم وهوياتهم. من أوضح الأمثلة على ذلك مشكلة (الخروق) التي بدأت تحدث في طبقة الأوزون، والتي تسببت في ارتفاع درجة الحرارة في الكرة الأرضية. وقد كان من نتائج كثرة ازدياد المشكلات المشتركة بين الناس أن كثرت المنظمات العالمية كثرة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
- لكن بعض الدول القوية صارت تحاول إخضاع البشرية كلها إلى قيم نابعة من هويتها، أو خادمة لمصالحها؛ بحجة أنها قضايا إنسانية عامة لا ثقافية خاصة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما سمي بـ (الإعلان العام لحقوق الإنسان) الذي يقول كثير من نقاده حتى من الغربيين: إن كثيراً من بنوده لا ينطبق عليه وصف الحق الإنساني، والذي يرى بعضهم أن كثيراً منه تعبير عن ثقافة معينة هي الثقافة الغربية. بل إن بعض الجهات المؤثرة صارت تستغل الأمم المتحدة نفسها لإلزام الأمم كلها بقرارات نابعة من قيمها، ومنها قضية المرأة.
نخلص من هذا كله إلى أنه على المسلمين في بلد: كالسودان أن لا يُخدَعوا بما يقول لهم مثلاً الزعيم (قرنق) من أن علينا جميعاً أن نجتمع باعتبارنا سودانيين فحسب، وأن نجعل الدين أمراً شخصياً؛ لأن الأديان تفرقنا والوطن يجمعنا. إن قرنق لا يتحدث هنا باعتباره سودانياً فحسب، بل ولا باعتباره جنوبياً فحسب، وإنما يتحدث باسم الحضارة الغربية وقيمها.
إن تخلّي المسلمين عن دينهم في حياتهم العامة ليس استمساكاً بوطنية لا هوية فيها كما يدعي (قرنق)، وإنما هو إحلال للهوية الغربية محل الهوية الإسلامية.
__________
( * ) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) The Atlantic Monthly; May 1995; Volume 275, No. 5; pages 57-67.
================(49/175)
(49/176)
المواطنة والإصلاح
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3934)
المواطنة والإصلاح
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
1/2/1426
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فإنها وصيّةٌ لي ولكم جامعة، وموعِظة لأولي الألباب موقِظة نافِعة، وأحثّكم على اغتنامِها فإنَّ الأوقات سيوفٌ قاطِعة، والمنايا سِهامٌ في كلِّ آنٍ واقعة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المؤمنون، في عالَمٍ تسوده الأوضاع المضطَرِبة وفي زمنٍ تعصِف به الأحوال الملتَهِبة يحتاج النّاسُ مع ثباتهم على ثوابِتِهم إلى مِظلَّة آمنَة تحمي تلك الثوابتَ وبيئةٍ صالحة ترعَى الأصول والمبادِئ، وهل يُرَى الغريبُ المتنقِّل قادرًا على بناءِ مقدَّراتٍ وإنماءِ مكتسبات، فضلاً عن تحقيقِ أمجاد وصُنع حضارات؟!
ما مِن غريبٍ وإن أبدى تجلُّدَه…إلا سيذكرُ بعدَ الغُربَة الوطنَا
إخوةَ الإسلام، المتأمِّلُ في تأريخِ الأمَم والمجتمعات وأحوالِ الشّعوب والحضارات يجِد أنها لم تكن لتقدِّمَ حضاراتها للعالَم إلاّ من خِلال بلادٍ وكياناتٍ نمت وترعرَعَت فيها تلك المثُلُ والمبادئ، وأرضٍ وديارٍ انطلقت منها تلك القِيَم والثوابت؛ إذ لا قيمةَ للمرء فضلاً عن حضارةٍ إلا بوطنٍ يؤويهِ وبلادٍ تحتَويه، ولذلك فقد جُبِلت النّفوس السّليمَة على حُبِّ بلادِها، واستقرَّت الفِطر المستقيمة على النّزوع إلى ديارِها.
حسبُ الغريب من الدّنيا ندامَتُه…عَضُّ الأنامِل من شَوقٍ إلى الوَطَن
بل إنَّ الطيورَ لتحنّ إلى أوكارِها، والبهائمَ العجماواتِ لتحافِظ على زرائبِها، غريزةً وجبِلَّة وفطرةً، فسبحان الذي أعطَى كلَّ شيءٍ خَلقَه ثمّ هدى.
معاشِرَ المسلمين، وهذا الأمرُ الفطريّ جاءت الشريعة الغرّاء بتقريره والعناية به بل والمحافظةِ عليه، يقول الله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]، فجعل سبحانَه الإخراجَ مِن الدّيار بإزاءِ القتل، وهو بمفهومِه أنَّ الإبقاءَ في الديار عديلُ الحياةِ، ويقول سبحانه: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، ويقول تقدَّست أسماؤه: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3]، فقرن سبحانه القتلَ بالجلاءِ عن الدّيار، وهذا رسول الله يُعلِن عن حُبِّه لوطَنِه مكّة، وهو يغادِرها مهاجرًا إلى المدينة فيقول وهو واقفٌ بالحَزوَرَة(1)[1]: ((والله، إنّكِ لأحَبّ البقاعِ إلى الله وأحبّ البقاع إليَّ، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خَرَجتُ)) خرّجه الإمام أحمد وأهل السنن(2)[2]، ويُؤثر عن عمَرَ رضي الله عنه قوله: (لولا حبُّ الوَطَن لخرِب بلدُ السّوء)(3)[3]، وكان يُقال: بحُبِّ الأوطان عُمِرت البلدان، ويقول حكيم: يتروَّح العليل بنسيمِ أرضه كما تتروَّح الأرض الجدبة ببَلِّ المطَر، ومن الحِكَم السّيّارة: حبُّ الوطَن مِن الإيمان، نعمتان محجودتان: الأمنُ في الأوطان والصّحّة في الأبدان، غيرَ أنه لم يصحّ رفعهما إلى النبيّ ، ويقول إبراهيم بن أدهَم: "ما قاسَيتُ فيما تركتُ من الدّنيا أشدّ عليَّ من مفارقة الأوطان"(4)[4].
سلِّم على قَطَنٍ إن كنتَ تألَفه…سلامَ مَن كان يهوَى مرّةً قطَنًا(5)[5]
ومِن روائِع الحِكَم قولُ بعضهم: أحقُّ البلدان بنزاعِك إليها بلدٌ أمصَّك حَلبَ رِضاعه، وقيل: احفَظ أرضًا أرسَخَك رِضاعها وأصلَحَك غذاؤها، وارعَ حِمًى اكتَنَفك فِناؤه وروَّحَك هواؤه، وقيل: مِن علامة الرُّشد أن تكونَ النفوس إلى أوطانها مشتاقةً وإلى مولِدِها توّاقة، وقيل لبعض الحكماء: ما الغِبطة؟ قال: الكفايةُ ولزوم الأوطانِ والجلوس مع الإخوان، قيل: فما الذّلَّة؟ قال: النزوحُ عن الأوطانِ والتنقّلُ بين البلدان.
وللأوطانِ في دَمِ كلِّ حرٍّ…يدٌّ سَلَفت ودَينٌ مستَحَقّ(6)[6]
وإذا كان هذا المعنى في كلِّ الديار والبلدانِ فما بالُكم بغُرَّة جبينِ الأوطان وعِقد جيدِ البلدان وقرّةِ عيون الزمان والمكان بلدِ التوحيد والعقيدةِ ومَهدِ السنة والرِّسالة وموئلِ القرآن ومأرِز الإيمان وأرضِ الحرمين وقِبلة جميع أهل الجَحفَلين؟!
هنا بمكّةَ آيُ الله قد نزلت…هنا تربَّى رسولُ الله خيرُ نبيّ
هنا الصّحابَةُ عاشوا يصنَعون لنا…مجدًا تليدًا على الأيّام لم يشِبِ(7)[7]
ولي وطَنٌ آلَيتُ أن لا أبيعَه…وأن لا أرَى غيري له الدّهرَ مالكًا(8)[8]
إني أرى هذِي البلادَ وأهلَها…عِقدًا ثمينًا لا يُنال بسوءِ ظنّ
أرضٌ لها في المكرُمات عراقَةٌ…مشهودَة والمجدُ فيها مختَزَن
رسَم الإمامان الطريقَ فَعَلَمُها …يمحو الضّلال وسيفُها يمحو الفِتَن(49/177)
غير أنَّ ذلك كلَّه ينبغي أن لا يحمِلَ المحبَّ ـ لا زال مكلوءًا بالرّعاية والتوفيق ـ أن يَسوءَ ظنّه أو ينِدَّ فهمُه عن المقاصِدِ الشرعيّة في هذه القضيّة، فلا يحمِلها على عصبِيّةٍ للتراب والطين على حساب العقيدة والدّين، ولا يحمِّلها لوازِمَ لا تلزَم من نظرةٍ عصبيّة وشعارات جاهليّة وغمطٍ لأخوّة العقيدةِ الإسلامية العالميّة التي تتسَامى عن الحدودِ الجغرافيّة والنظراتِ الإقليميّة معاذَ الله، فلا تنافيَ بين هذا وذاك، وهل المسجِد الأقصى يُقصَى ويُستَقصى؟! وهل تنسَى فلسطينُنا الصامِدة وقُدسُنا المقدَّسة وبِلادُ الرافدين الجريحة وغيرُها؟! حاشا وكلاّ.
وأينما ذُكِر اسمُ الله في بلدٍ…عَدَدتُ أرجاءَه من صُلبِ أوطاني
فلا تضِق ذَرعًا بما ثبت شرعًا، ودعني من بُنَيّات الطريق.
وأمّا إن ألقَاك فهمُك في مهاوٍ…فلَيتَك ثمّ ليتَك ما فهِمتَ(9)[9]
أمّةَ الإسلام، ما أحوجَ الأمّةَ اليومَ وقد أحاطَت بها الفِتَن وحلّت بها المحَن أن تعِيَ خطورةَ ما تمرّ به أوطانها، فيحمِلها ذلك على الأخذ بعوامِل عمرانها والتمكينِ لها والحذَر من أسباب عَطَبها، وما عُمِرت الأوطان ـ يا رعاكم الله ـ بمثلِ رَفرَفة رايةِ العقيدة الإسلاميّة السلفيّة الصحيحة على جَنَباتها وتحكيمِ الشريعةِ على أرضها وأهلِها، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، والتّلاحمِ الوثيق بين رعيّتها ورُعاتها، وإعلاءِ صروح الدّعوة وكياناتها وشأنِ الحسبة ورجالاتها كما قال سبحانه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ورَفع عَلَم القِيَم والفضائل، وإقصاء المخالَفَات والرّذائل، فإنَّ الذنوبَ والمعاصي تقضّ المضاجِعَ وتَدَع الديارَ بلاقع، وتحقيقِ وَحدة أبنائها، وغَرسِ الانتماء الحقيقيّ لها في نفوسهم، والحِفاظِ على سفينَتِها كيلاَ تَغرق بين طرفٍ يريد أن يجرَّها إلى دوّامةٍ مِن أعمال العُنف والتّخريب وآخر يمَّمَ وجهَه قِبَل خصومِها، فعَبَّ من ثقافتهم عبًّا، فسطَّر بالأقلام وبثَّ في بعض وسائل الإعلامِ فِكرًا منهزِمًا يطعَن في ثوابت البلادِ وقِيَمها ويُغفِل خصائِصَها ومميّزاتها، ولا يستشعِرها شعورًا يمتزِج بلَحمِه ودمِه وتنطلِق منه آمالُه وتطلُّعاته. وبين هذا وذاك تضيع المواطنةُ الصّالحة التي ينشدُها كلُّ غيورٍ على بلادِه ومجتَمَعه؛ إذِ المواطنة الصالحة ليست كلماتٍ تُردَّد ولا شعاراتٍ ترفَع، وإنما إخلاصٌ وتفاعل وإيجابيّات وشفافيّة ومصداقيَّات، لا تقبَل التلوّن، ولا ترضى بالسّلبيّات، ولا تُصغِي للأكاذيب والشّائعات، ولا تلوِي على الملاسنَة والمهاتَرات، ولا تخضَع للمسَاوَمات والمزايَدات.
إخوَةَ العقيدة، وحينما تتسارَع عجلَةُ المستجدّات وتعيش الأمّة بين الثوابتِ والمتغيِّرات فإنها واجِدةٌ في شريعَتِنا الغرّاء التي لا تعرِف الانعزاليّة والانغلاق والتَّقَوقُع والجمودَ كلَّ إيجابيّة وتفاعلٍ في حُسنِ تعامُل مع المتغيّرات بميزانِ الكتاب والسنة، استشرافًا للنُّقلَةِ الحضاريّة على ضوءِ الضوابط الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، تحقيقًا للمصالح العُليا للأمّة والمقاصِدِ والأولويّات العظمى في هذه الملّة، وتجاوزًا لمرحلَةِ الأزماتِ، وفِقهًا لأبعادِ التّحدّيات، وهل حقِّقَتِ المصالح ودُرِئت المفاسد وحُفِظت الضرورات الخمس في الدين والنّفس والعقل والمال والعِرض إلاّ بتوفّر الأمن والأمان في الدّيار والأوطان؟!
معاشرَ المسلمين، إنَّ مِن حقِّ أوطاننا علينا أن نكونَ لتحقيق مصالِحها سعاةً، ولدَرء المفاسد عنها دُعاة، ولأمنِها ورخائها واستقرارِها حُماة، ولوحدةِ شرائِحِها وأطيافِها رُعاة، وإذا دعا داعِي الإصلاح ونادَى منادي السّعي في مراقي التألُّق والنّجاح في وثبةٍ حضاريّة ونُقلةٍ نوعيّة ومنظومَة إصلاحيّة فيما فيه تحقيقُ مصالح المجتَمَع العظمى فحيّهلاً دونَ تراجُع وتَعَثّر أو تَوانٍ وتقهقُر، منطلقين من الركائز الشرعيّة التي تنظِّم أمورَ البلاد وتنتَظِم مصالح العبادِ في أمور المعاشِ والمعاد، وهي من صميمِ المنطلَقَات الشوريّة المصطَفَويّة قبل أن يعرِفَ العالم شِعارات الديمقراطيّة العصريّة؛ إذ الإصلاحُ وجهٌ من وجوه حكمةِ بَعثِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسانِ شعيبٍ عليه السلام: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88].
والذين يتوجَّهون شَطرَ الإصلاح المعتَبَر ويحملون لواءَه هم رجالٌ بَرَرة بالأمة، يسلِمونها إلى ساحات الخير والقوّة، ولا يقود هذه الركابَ إلاّ مَن هو كبير الهمّةِ مضّاء العزيمة، وسيكون الإصلاحُ مَغنمًا إذا انطلَقنَا فيه من إصلاحِ النّفس والنظر في عيوبها وتهذيبِها، وسيكون للعَليَاء مَرقاةً إذا بَسطنا ظِلاله على الأمّة بما تقتضيه الحِكمة والمصلحةُ من التدرّج والرِّفق والأناة.(49/178)
ولما كانت الأهواءُ تجمَح والمدارك تختلِف وتطمَح كان لِزامًا اعتبارُ صلاحِ المصلِح وصفاءُ منهَجِه واستقامة آرائه؛ إذ لا يشفَع في هذه القضيّة الجُلَّى مجرَّدُ حُسن النّيّة وحُبّ الخير ـ على أنهما محمَدَتان ـ مع ضحالةِ العِلم وقصورِ الترجيح بين المفاسِدِ والمصالح والثّوابت والمتغيِّرات، وبهذا تتَفَتَّق أكمامُ الإصلاح على قولِ الحقِّ سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
ويؤكَّد هنا على التحذيرِ مِن الجانب المزعومِ للإصلاح الذي يركبُ مطيّتَه بعضُ المزايدين على الشريعةِ وذوي المغامَرات الطائِشة والأطروحات المثيرة المتَّسمة بالمخالَفات الشّهيرة واللاهثِين وراءَ موجةِ حبِّ الظهور والشّهرة، وقد أوضحَ لنا القرآنُ الكريم ذلك غايةَ الإيضاح في جانبِ قومٍ لا خَلاقَ لهم من المنافقينَ بقوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
إخوةَ الإيمان، ومِن أهمِّ ركائز الإصلاحِ وضوابِطه ـ يا رعاكم الله ـ الإخلاصُ لله ومراقبَته، فبالإخلاص يُرسَم طريق الخيرِ والخَلاص، مجانبَةً لمن لا يوثَق بإخلاصِه لله ثم لدينِه وولاةِ أمرِه وبِلاده، ولا يتحرَّى موافقةَ الشّريعة في جميع تصرّفاته وأعمالِه وأحواله، ومنها اليقينُ بأن السّعيَ في مواردِ الإصلاح أمانةٌ ومسؤوليّة أمام الله سبحانه، ثم هي مَسؤولية أمامَ المجتمع، فهلاَّ تذكَّرنا واستشعرنا أنها من المسؤوليّات والأماناتِ التي عظّم الله شأنها بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]، فهل بعدَ هذا يسوغ إطلاقُ دعاوَى الإصلاح لمجرَّد مطامِعَ شخصيّة أو مصالح مادّيّة أو غَرضٍ أو عَرضٍ أو هَوى أو لمجرَّدِ انتماءاتٍ فكريّة وحزبيّة ونحوها؟! فإنَّ ذلك مِن أوجهِ الخيانةِ لله ثم لولاةِ الأمر وللمجتمَع بأسره، والله عزّ وجلّ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وممّا تجدر ملاحظتُه أنَّ المقياسَ في صدقِ أدعياء الإصلاح يرجِع إلى الكفاءةِ في الدين والأمانة، وقد قال إمامُ الحرمَين رحمه الله: مَن لا يوثَق به في باقةِ بَقل كيف يُرَى أهلاً للأمانة؟! ومَن لم يتَّقِ الله لم تؤمَن غوائِلُه، ومَن لم يصُن نفسَه لم تنفَعه فضائله.
ومِن ركائز الإصلاحِ المهمَّة الشورَى لأهل العدالة والعِلم والرّأي والحِكمة وذوي النوايَا الصّادقة والحِجَى الرّاجِحة والمعارِف النّافعة والنُّهَى السّديدة الرّاشِدة والنزاهة ونظافة القَلب واليَد واللِّسان، في معتقدٍ صحيح ومَنهَج سليم وخُلُق كريمٍ وأسلوب قويم والحَذَر من اتِّباع الأهواء والانسياق وراءَ العواطف والرَّغبات، حِفاظًا على المجتَمَع أن يدخلَه النقص ويتطرَّقَ إليه الخلَل بأيِّ وجهٍ مِن الوُجوه، فهذا لا يليق بالمسلِم ولا ينبغي أن يؤثِّرَ على أخلاقيَّات وثوابت المجتمَع الذي تتعيَّن المحافظةُ عليه وعدَم التغرير بأفرادِه، ممّا يُربَأ بالمسلِم عن الوقوع فيه والانزلاقِ في هوّتِه، فهل من حقِّ مجتمعٍ نشأتَ فيه وترَعرَعتَ بين جنباته وارتَضَعتَ مِن لبانِه أن يَقلِب له أقوامٌ مِن الرّويبِضة وسُفهاء الأحلامِ ظَهرَ المجَنّ في السوء والفَساد والخيانةِ إفراطًا أو تفريطًا، فما اسطاعَ هؤلاء، وما استطاع أولئك، والله وحدَه أمنّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]. وقولوا لي ـ بربِّكم ـ مَن تؤويه دارٌ فيجحَد فضلَها ويتنكَّرُ لها ماذا يكون؟ حقًّا إنّ الجنونَ فُنون.
معشَرَ الإخوةِ الأكارِم، وممّا ينبغِي التفطُّن له الحذَرُ مِن الاغتِرارِ بالحَمَلات الإعلاميّة المغرِضَة والقنوات الفضائيّة المسِفَّة بدعوَى الإصلاح زعَموا أو الانسياقِ وراء الطعون المجرَّدَة والتُّهَم الملفَّقَة أو النّيل مِن رموز المجتَمَع وصالحي الأمّة والطّعن في الناجِحين والحطّ مِن أقدار الطامحِين ومحاولة إسقاطِهم والخَدش فيهم بغَير وجهِ حقّ أو التّحريشِ بين المسلِمين أو التّهييج والإثارةِ والتشنّج وإثارةِ بواعِث الفِتن وأسبابِ الفرقة والإحَن وإحياء النّعرات والعِرقيّات والقَبَليّات والأبعاد الطائفيّة والمذهبيّة وبَذر بذورِ الشقاق والاختلافِ والتجافي عن موارِدِ الاجتماعِ والائتلاف، ومَن فعل ذلك فهو على خطَرٍ في دينه ومروءتِه والعياذ بالله، كما أنّه قدح في أصلٍ من أصول الدّين كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ثمّ إنّ الاعتصامَ بالجماعة والائتلاف مِن أصولِ الدين" انتهى.(49/179)
ومِن القواعد المقرَّرة في الشريعةِ دَرءُ المفاسد وتقليلُها وجَلب المصالح وتكميلها والأخذ بأعلَى المصلحَتَين وارتكابُ أدنى المفسدَتَين والعمَل بأخفِّ الضّرَرين ومَا لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، فما أحوجَنا إلى التعاونِ على البرّ والتقوى والتعامُل مع المستجِدّات والسّير في دروبِ الإصلاح بأخلاقيّاتِ وآداب المجتمَع المسلم في حبٍّ مشترَك وودٍّ مشاع، دونَ انتقاصٍ وتحقير أو استهزاءٍ وتشهير، والتوفيق بيَدِ الله سبحانه، وما يدري العبدُ أين يكمُن الخير له، فهو دائرٌ بين عمَلِ الخير وخَير العمَل، وذلك ممّا ينبغي أن تتَّسِع له الآراء والصدورُ وتستوعِبَه العقول تفاديًا للشّرور، والمسلم يرضَى بما قسَم الله له، ويسلِّم لحكمِه، ففيه الخيرُ كلّه وإن بدا للناس على خلافِ ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ما ذِئبان جائعان أُرسِلا في زريبةِ غنمٍ بأفسَدَ لها من حِرصِ المرء على المالِ والشّرَف لدينه)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنن(10)[10]. قال الحافظ ابن رجَبٍ رحمه الله: "فهذا مَثَلٌ عظيم ضربَه النبيّ لفساد دينِ المسلم بالحرصِ على المال والشّرَف في الدنيا".
ألا فليعلم ذلك من يتهافَتون تهافتَ الفراش على النارِ على حُبّ الظهورِ بزعمِ الإصلاح والتطلُّع والاستشراف للشهرة، فإنها في ظاهِرِها مغانم، وفي عواقبها مغارِم، وكفى بالشّهرة وحبِّ الظهور قاصِمًا للقلوب والظهور، وإنّك لراءٍ في حلائِبِ الناس من ذلك عجبًا.
ألا فلنتَّق الله عبادَ الله، ولنتحلَّ بالإيجابيّة والبناء والتفاعُل والإعمار والنّماء لأوطاننا الإسلاميّة، سَيرًا في ركاب الصلاح والإصلاح، فهذه ـ والله ـ ميادينُ العمَل والشموخ وساحاتُ المواهِب والطموح.
أيّها المغرَمون بالنَّقد والتجريحِ المولَعون به بالتّصريح والتلمِيح والتشهير بالمثالِبِ والتّنقيبِ عن المعائب وسردِ القبائح ونشرِ الفضائح وتتبُّع السّقطات وتضخيم الهِنات وإن زيَّنَه الشيطان لأصحابِه وأظهرَه لهم بمظهَرِ النصح للأمّة وإصلاح أوضاعِها، فهذه بِضاعة كلِّ فارغٍ بطّال ممّن تسمَّروا أمامَ شَبَكات المعلومات وتنسَّموا عَفَن الفضائيّات ونَتنَ تقانات المنتَدَيات، حتى أعياهم ذلك عن الجِدِّ والتمسُّك بالعزَمَات.
وإلاّ فمَن ذا يبارِز فليقدِّم نفسَه…أو مَن يسابِق يبدُ في الميدانِ(11)[11]
سدَّد الله الخطى، وبارَك في الجهود، وحفِظ بلادَنا وسائر بلادِ المسلمين من شرِّ الأشرار وكيدِ الفجّار وشرِّ طوارقِ الليل والنهار، ورزَقَ الجميع صلاحَ الحال والمآل، إنّه وليّ الجود والكرَم والنّوال.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فإنه الغفور ذو الرحمة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، فيا لفوزَ المستغفرين، ويا لَبشرَى التائبين.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، تعاظم ملكوته فاقتدر، وعزّ سلطانه فقهر، أحمده حمدًا كثيرا كما أمر، وأشكره وقد تأذّن بالزيادة لمن شكر، والصلاة والسلام الأزكَيَان الأشرفان على النبي المصطفى خير البشر، الشافع المشفَّع في المحشر، القائل فيما صحّ عنه: ((لا عدوى ولا طِيَرةَ وهامةَ ولا صفر))(12)[1]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتَّصلت عين بنظر وأذنٌ بخبر، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، إشراقات الحياة بجماليات الدين، وجماليات الدين بتألّقات العقيدة، وإن أهمَّ مشكلة تُبتَلى بها الأمة دخول النقص عليها من جهة ثوابتها وعقيدتها، ومن المقرَّر أن الله عز وجل أبطل معتقدات الجاهليّة، ومن ذلك ما يعتقده بعض الناس أن لبعض الشهور والأعوام والليالي والأيام تأثيرا في جلب المنافع ودفع المضار والأسقام كما يتوهّمه بعض العامّة ي شهر صفر، وقد جاء الإسلام فأبطل ذلك، وقضى على مظاهر التشاؤم والتطيّر، وفتح أمام الناس آفاق التفاؤل؛ لينطلقوا في الأعمال فتتحقّق لهم الآمال، أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح عن [عروة] بن عامرٍ مرفوعا قال: ذُكرت الطيرةُ عند رسول الله فقال: ((أحسنُها الفأل، ولا تردُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكرَه فليقل: اللّهمّ لا يأتي بالحسنات إلاّ أنت، ولا يدفع السيّئات إلا أنت، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بك))(13).
فيا أهلَ الإسلام، عقيدتَكم عقيدتَكم، وإنه لغريبٌ حقًّا أن تعبث ببعض العقول الخيالاتُ والأوهام، فتستسلمَ للتشاؤم والتطيّر ببعض الشهور والأيام وذوي العاهات والأسقام، وما هي في الحقيقة إلا أضعاث أحلام، وقد أبان المولى سبحانه وتعالى الحجةَ وأوضح المحجّة فقال عز من قائل: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].(49/180)
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على خير الورى نبيِّ الرحمة والهدى كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على الهادي البشير والسّراج المنير نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
__________
(1) قال في معجم البلدان (2/255): "الحَزْوَرَة بالفتح ثم السكون وفتح الواو وراء وهاء، وهو في اللغة الرابية الصغيرة، وجمعها حزاور. وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدّثون يفتحون الزاي ويشدّدون الواو وهو تصحيف. وكانت الحزوَرة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه".
(2) مسند أحمد (4/305)، سنن الترمذي: كتاب المناقب (3925)، سنن النسائي الكبرى (4252، 4253، )، سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (3108) عن عبد الله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حزم في المحلى (7/289)، وابن عبد البر في التمهيد (2/288)، وابن حجر في الفتح (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
(3) ينظر من أخرجه، فقد عزاه بعضهم لإبراهيم بن محمد البيهقي في المحاسن والمساوئ.
(4) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/380).
(5) قطن جبل أشمّ يقع بين القصيم والمدينة المنوّرة، وبالتحديد إلى الغرب من منطقة القصيم، وعلى بعد حوالي 10 كيلومترات من (عقلة الصقور) الواقعة في أقصى غرب منطقة القصيم، حيث تبعد حوالي 150 كيلومترا إلى الغرب من بريدة حاضِرةِ منطقة القصيم، وهذا الجبل على يمين الذاهب إلى المدينة المنورة، ويُرى على مسافةٍ بعيدة حيث إنه جبل متفرّد.
(6) هذا البيت من قصيدة لأحمد شوقي مطلعها:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ…وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
(7) هذان البيتان للشاعر مصطفى عكرمة في قصيدة له نظمها في رحلته من سوريا إلى بلد الله الحرام.
(8) هذا البيت من قصيدة لابن الرومي مطلعها:
أعوذ بحقْوَيْك العزيزينِ أن أُرى…مُقِرًّا بضيمٍ يتركُ الوجهَ حالِكا
(9) هذا البيت من قصيدة لأبي إسحاق الألبيري عنوانها: ليتك ما فهمت.
(10) 10] مسند أحمد (3/456، 460)، سنن الترمذي: كتاب الزهد (2376)، سنن الدارمي: كتاب الرقاق (2730) عن كعب بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أيضا والطبراني في الكبير (19/96)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3228)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1935).
(11) 11] هذا البيت من نونية ابن القيم.
(12) أخرجه البخاري في الطب (5757)، ومسلم في السلام (2220) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(13) سنن أبي داود: كتاب الطب (3919)، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (5/310، 6/70)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/262)، والبيهقي في الشعب (2/63)، وصححه النووي في شرح صحيح مسلم (14/476)، لكن عروة بن عامر مختلف في صحبته، وقد جزم أبو أحمد العسكري والبيهقي في الدعوات بأن روايته مرسلة، وكذا الذهبي في المهذب (6/3234)، وابن حجر في الإصابة (6/415)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (843).
===============(49/181)
(49/182)
أهل الذمة والولايات السياسية
(1/2)
محمد بن شاكر الشريف
مقدمة:
منذ عقود مضت بل منذ القرون الأخيرة-التي ظهر فيها ضعف المسلمين، حيث ركنوا إلى الحياة الدنيا وابتعدوا عما أراده الله منهم-أُهملت بعض الأحكام الشرعية وهُجر العمل بها، ومن تلك الأحكام المهجورة الأحكام المتعلقة بأهل الذمة، لكن على رغم ذلكم الضعف وذلكم الإهمال لم يكن هذا إلا في الجانب العملي التطبيقي، أما الجانب الفقهي النظري فقد ظلت تلك الأحكام محفوظة مدونة في كتب أهل العلم، تدرس بعض موضوعاتها للطلاب ومن طلبها وجدها، أما اليوم وفي ظل حالة الضعف الشديدة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، وفي ظل ظهور الكفر وأهله وعلوهم في الأرض بالباطل، فإنه يراد لهذه الأحكام أن تُهجر فكريا ونظريا كما هجرت عمليا وتطبيقيا، فبدأت حملة تغيير المناهج في بلاد المسلين، وحذف الموضوعات التي تتعلق بتلك الأمور، وإفساد دلالة الأدلة عليها بالتحريف لها، ووجدنا من يسارع ممن ينتسبون إلى الإسلام-إما أفرادا وإما جماعات-من يوافق على هذا، بل يؤلف ويكتب فيه الكتب والمقالات داعيا وناشرا لذلك بين الناس، فوجدنا من يقول عن أهل الذمة: مواطنون لا ذميون، ويجعل ذلك عنوانا لرفض الأحكام الشرعية المتعلقة بأهل الذمة بعبارة مقبولة عند العامة، ويسوغ ذلك بأن تلك الأحكام كانت وقتية وواقعية مرتبطة بواقع الصراع بين المسلمين وأهل الكتاب عند بداية الدعوة-وهذا من تحريف الكلم-ووجدنا من يتبعه ممن يقول: إن المواطنة التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة، وبدأت سلسلة التنازلات شيئا فشيئا فبعد أن أعلنت بعض الجماعات الإسلامية-على لسان أحد المسئولين فيها-أن لأهل الذمة أن يتولوا المناصب كلها في الدولة الإسلامية من وزراء ومستشارين، باستثناء رئاسة الدولة، ثم عادت تلك الجماعة بعد أكثر من عقد من الزمان على لسان أحد المسئولين فيها أيضا لتقول: لا مانع من أن يكون على رأس الدولة الإسلامية التي تنشدها شخص قبطي، وهكذا تتوالى التنازلات، ابتغاء تحقيق حلم هو في عداد الأوهام، قال الله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، فمن رام رضوان اليهود والنصارى عليه وهو يخالفهم ولا يتبعهم فهو واهم، كما قال الطبري:"والعداوة على الدين، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما"[1]، لكنهم إذا رضوا عنه فهذا يعني موافقته لهم، أو أنه يحقق أهدافهم وطموحاتهم، وهو بذلك يكون قد أضر بدينه وأغضب الله عليه.
ما المراد بأهل الذمة؟
أهل الذمة هم الكفار الذين أبوا الدخول في دين الإسلام، لكنهم رغبوا في البقاء في دار الإسلام والتمتع بحماية المسلمين لهم في دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، سواء كانوا من أهل تلك البلاد المفتوحة، أو قدموا من ديار الكفر راغبين في ذلك بناء على عقد يعقد بينهم وبين دولة المسلمين يعرف بعقد الذمة[2]،حيث يرتب هذا العقد حقوقا وواجبات على الطرفين ينبغي الوفاء بها من كليهما.
ويدخل في هؤلاء الذين يجوز أن يعقد لهم عقد الذمة: أهل الكتاب اليهود والنصارى، ويلحق بهم في ذلك المجوس عبدة النيران، قد ثبتت النصوص بذلك وانعقد عليه الإجماع ، أما من عداهم من عبدة الأوثان فقد اختلف أهل العلم بشأنهم: هل يجوز أن تعقد لهم الذمة أم ليس أمامهم إلا الإسلام أو الحرب؟، وقد رجح طائفة من أهل العلم دخول عبدة الأوثان فيمن يجوز أن تعقد لهم الذمة[3]، وهو الذي يعضده الدليل على ما تبين في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعا وفيه: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، إلى أن يقول: فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"[4]، فعلق الحكم بلفظ المشركين وعمم ولم يستثن من ذلك مشركا من المشركين.
والذمة: الأمان والعهد، فعقد الذمة أي عقد الأمان الذي تمنحه الدولة لأهل ذمتها، وتتعهد بمقتضاه بحمايتهم وتأمينهم، وبه أحكام تفصيلية كثيرة ، لكن أظهر ما فيه وأجمعه هو: قبول الكفار بجريان أحكام المسلمين عليهم في الشأن العام، مع التزام دفع الجزية، التي هي مبلغ مالي مُقدر من قبل الدولة، يعبر عن قبولهم بعقد الذمة والتزامهم به وخضوعهم لأحكامه، وفي مقابل ذلك يأمن الذميون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، لا يُقرب شيء من ذلك إلا بالحق الذي بينه الله تعالى قال الله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
معاملة المسلمين لأهل الذمة:(49/183)
ولقد عُومل أهل الكتاب على مدار التاريخ الإسلامي معاملة عادلة من المسلمين، لا وكس فيها ولا شطط، شهد بذلك مؤرخوهم ومفكروهم، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت، يقول قولته المشهورة وهو يوصي من يتولى أمور المسلمين بعده: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم"[5]، فهم ذمة الله تعالى وذمة رسول صلى الله عليه وسلم ، يجب الوفاء بما عوهدوا عليه، وأن لا يُنتقص منه شيء، وأن يُدافع عنهم ضد أي اعتداء، وأن لا يكلفوا من الأعمال فوق طاقتهم، وقد ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا كبيرا يسأل الناس فلما علم أنه من أهل الذمة وأنه يسأل من أجل الفقر الذي به، ولكي يدفع الجزية المطلوبة منه، وضع عنه عمر الجزية، وأعطاه شيئا من عنده، وقال: ما أنصفناه إن أخذنا منه وقت شبابه وقوته على الكسب، ثم نتخلى عنه عند ضعفه وعدم قدرته على التكسب[6].
وانظر موقف ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما ذهب لملك التتر يفاوضه على الإفراج عن الأسرى فأعطاه ملك التتر الأسرى من المسلمين، فأبي الشيخ إلا أن يفرج عن أهل الذمة أيضا؛ لأنهم ذمة المسلمين، واستنقاذهم من بين يدي الأعداء واجب المسلمين.
قال ابن الأزرق فيما نقله عن القرافي: "وقد حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له، أن من كان في الذمة، وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة انتهى ملخصا "[7]، وعقد الذمة عقد مؤبد ويكتسب قوته من أمر الله تعالى للمسلمين بالوفاء بالعقود، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".
ولا تعني المعاملة العادلة أن يعطى أهل الذمة ما لم تعطه لهم النصوص الشرعية، فإن ذلك وإن كان فيه تفضل عليهم بما ليس لهم، لكنه من الناحية الثانية فيه ظلم للمسلمين بإعطاء بعض من حقوقهم لغيرهم، ومن ذلك الولايات السياسية، وهو موضوع الفقرة التالية.
الولايات السياسية:
لولاية أمر المسلمين من حيث العموم والخصوص أربع صور:
الصورة الأولى: من يكون عام الولاية عام العمل كالخليفة والملك والسلطان والرئيس فولايته عامة تشمل الرقعة الإسلامية كلها، ونظره وعمله في الأمور جميعها.
والصورة الثَّانِية: من يكون خاص الولاية عام العمل، كولاة الْأَقَالِيمِ وَأمراء الْبُلْدَانِ، فولايته محدودة بحدود إقليمه، ونظره عام في كل أمره
وَالْصورة الثالثةُ: من يكون عام الولاية خاص العمل، كالقائد الأعلى للجيش، وكرئيس القضاة الأعلى، وَحَامِي الثُّغُورِ وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ وَجَابِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تعم ولايته الرقعة الإسلامية كلها، ولكنها خاصة في عمل معين
وَالصورة الرَّابِعُة: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ، أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ولايته خاصة برقعة محدودة، ونظره محدد بعمل مَخْصُوصُ، وكل هذه الأمور فيها عز النفس وعلو اليد، واطلاع على أسرار المسلمين ودواخل أمورهم، فلذا لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين الأمناء على دينهم وديارهم[8].
وذلك أن الدولة الإسلامية دولة ذات عقيدة ولها رسالة، ورسالتها ليست قاصرة على توفير الرفاهية ورغد العيش في الحياة الدنيا لأفرادها، وإنما هي مكلفة بالعمل وفق هذه العقيدة، وتبليغ تلك الرسالة إلى كل من يمكن أن تصل إليهم؛ رحمة بهم وشفقة عليهم ورغبة في إخراج من شاء الله منهم من الظلمات إلى النور، وهذا يتطلب جهدا كبيرا وبذلا عظيما مع ما تحتاج إليه الدولة من الجهاد في سبيل الله لبلوغ هذه الغاية، وهذا يعني أنه لا يقوم بهذه المهمة ولا يقدر على ذلك إلا من هو مؤمن بهذه الرسالة معتقد لها، مستعد للبذل والعطاء في سبيلها، يرى في نشرها وتبليغها الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، لذا كان من الأمور المنطقية ألا يقوم على هذه الدولة إلا المؤمنون برسالتها، ومن هنا يتبين أن ولي الأمر لا يجوز أن يكون ممن لا يؤمنون بهذه الرسالة.(49/184)
وتكليف أهل الذمة بتولي الأمر، يعني أحد أمرين: إما تكليفهم بالعمل والسعي في نصرة ما يناقض أو يخالف دينهم أو عقيدتهم وهذا يعد إكراها لهم، وإما التفريط في رسالة الدولة وإضاعتها، وكلا الأمرين غير مقبول، يقول محمد أسد رحمه الله :" إننا يجب ألا نتعامى عن الحقائق، فنحن لا نتوقع من شخص غير مسلم مهما كان نزيها مخلصا وفيا محبا لبلاده متفانيا في خدمة مواطنيه، أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق الأهداف [الايديولوجية] للإسلام، وذلك بسبب عوامل نفسية محضة لا نستطيع أن نتجاهلها، إنني أذهب إلى حد القول أنه ليس من الإنصاف أن نطلب منه ذلك، ليس هناك في الوجود نظام [أيديولوجي] سواء قام على أساس الدين أو غير ذلك من الأسس الفكرية من أي نوعٍ يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد أموره في يد شخص لا يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا النظام"[9]
وقد ورد النهي عن تمكين الكفار (أهل الذمة وغيرهم) من ولاية أمر المسلمين على أي صورة كان ذلك، وفي ذلك أدلة كثيرة فمنها:
1-النهي عن توليهم واتخاذهم أولياء:
قد تعددت النصوص الشرعية الواردة في ذلك في مواضع عدة من القرآن وفي مواقف مختلفة، وتنوعت أساليبها، فمرة تنهي عن اتخاذهم أولياء، وأخرى تبين أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وثالثة تحصر موالاة المؤمنين في المؤمنين فلا تتعداها لغيرهم، وقد تنوعت النصوص الزاجرة عن مخالفة ذلك في بيان العقوبات المترتبة على المخالفة.
والموالاة المنهي عنها ليست عملا قلبيا فقط، بل منها القلبي ومنها العملي، وكلاهما منهي عنه ومحرم على المؤمنين، وبعضه أشد جرما ومعصية من بعض.
فمن الموالاة العملية: التحالف والنصرة، والركون، والمعونة، والمظاهرة.
ومن الموالاة القلبية: المحبة لهم وركون القلب إليهم والأنس بهم والمودة لهم، حتى وإن كان الواد المحب لا يوافقهم على دينهم، كما قال تعالى: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" وإذا كان المؤمنون منهيين عن مودة الكافرين والركون إليهم، فهل يقوم بعد هذا في تصور إنسان يعقل ويدري ما يقول ويخرج من رأسه أنه يجوز أن تقر الشريعة ولاية أهل الذمة للمسلمين؟
فالنصوص التي تنهى عن اتخاذهم حلفاء أو الانتصار بهم، تنهى من باب أولى عن توليتهم للإمارة أو دخولهم فيمن يسندها لمن يستحقها من المسلمين، فإن هذا من أعظم الموالاة.
وقد وردت في ذلك آيات متعددة، وأهل العلم في تفسيرهم لآية من هذه الآيات يوردون الآيات الأخر، وذلك دليل على أنها كلها تدل على المعنى نفسه :
فمن النصوص الواردة في المسألة قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [ المائدة:51]
قال ابن جرير الطبري رجمه الله تعالى في تفسيرها: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان"[10]
وفي تفسيرها أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عِيَاضٍ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَعَجِبَ عُمَرُ ، وَقَالَ:"إِنَّ هَذَا الَحَفِيظٌ هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَابًا فِيَ الْمَسْجِدِ جَاءَ مِنَ الشَّامِ؟"فَقَالَ: إِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ عُمَرُ:"أَجُنُبٌ هُوَ؟"قَالَ: لا بَلْ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي، قَالَ: "أَخْرِجُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"[11]، وروى ابن أبي حاتم أيضا بسنده قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ: "لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ، يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لا يَشْعُرُ"، قَالَ: فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الآيَةَ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"[12].(49/185)
وقال الجصاص الحنفي في تفسير قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: "فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ؛ وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } الْآيَةَ، وَقَالَ :[لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَإِكْرَامِهِمْ وَأَمَرَ بِإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَنَهَى عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِزِّ، وَعُلُوِّ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: [ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ][13]
قال ابن العربي المالكي: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ"[14]
وقال ابن كثير الشافعي رحمه الله تعالى: "ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ]"[15]، ثم أورد أثري ابن أبي حاتم السابقين.
وقال الرازي: "روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، فقال: مالك قاتلك الله؟، ألا اتخذت حنيفاً، أما سمعت قول الله تعالى: [يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء] قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده؟، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره"[16]
وقال النسفي: "أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين"[17].
وقد ورد بمعنى الآية المتقدمة قوله تعالى: [لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير]، قال ابن كثير في تفسيرها: "نهى الله-تبارك وتعالى-عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ] أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ] [النساء :144 ]، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى أن قال: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ] [الممتحنة:1] وقال تعالى -بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب-: [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] {الأنفال:3 7]"[18].
قال أبو حيان في تفسير قوله تعالى: "[يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين]" قال: "قيل: وفي الآية دليل على أنّ الكافر لا يستحق على المسلم ولاية بوجه: ولداً كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية، كقوله تعالى: [لا تتخذوا بطانة من دونكم ]"[19].(49/186)
وقد بين القرآن سبب مسارعة بعض من يظهر الانتساب للإسلام في التحالف مع الكفار، وأن ذلك نتيجة ضعف إيمانهم أو ذهابه بالكلية؛ لكي يكون لهم الكفار نصراء وحلفاء عند الحاجة، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير الآية، وكأنه يصف حال كثيرين من أهل زماننا ممن يوالون اليهود والنصارى ويسارعون فيهم: "وقوله:[فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ] أي: شك، وريب، ونفاق [ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ] أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك"[20]، وهذه في الحقيقة حجة كثيرين ممن يزعمون أن لأهل الذمة الحق في المشاركة في الحياة السياسية في بلاد المسلمين يصطنعون بذلك يدا عند أمم الكفر الغالبة موافقة لهم ومداهنة لهم.
ومن تتبع الشروط الواردة في ولاية أمر المسلمين في جميع كتب أهل العلم من جميع المذاهب، علم يقينا أنه لا يجوز بحال أن يتولى كافر ولاية الأمر، سواء كان كافرا أصليا أو كافرا لردته عن الإسلام، وسواء كان غازيا محتلا لبلاد لمسلمين، أو كان من أهل الذمة المقيمين في بلاد المسلمين.
فما نسمعه اليوم من المنتسبين إلى بعض الجماعات الإسلامية الخائضين في الانتخابات البرلمانية، من أنه يجوز للنصراني في بلد المسلمين أن يكون وليا للأمر هو باطل بيقين ومخالف لإجماع المسلمين، قال القاضي عياض: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْإِمَامَة لَا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر اِنْعَزَلَ ، قَالَ : وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء إِلَيْهَا"[21] ونقل هذا الإجماع أيضا ابن حجر فقال: يَنْعَزِل بِالْكُفْرِ إِجْمَاعًا[22].
وقال ابن الأزرق: "(بعدما ذكر كلام ابن العربي المتقدم) قلت: وقد ورد العمل بذلك عن السلف، قولاً وفعلاً، ويكفي من ذلك روايتان: الرواية الأولى: (وذكر رواية عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه التي سبقت)، الرواية الثانية: قال: "وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى بعض عماله: أما بعد فانه بلغني أن في عملك رجلاً يقال له فلان-وسماه-على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإذا أتاك كتابي هذا، فادع فلاناً إلى الإسلام، فإن من أعمال المسلمين، فقرأ عليه الكتاب، فأسلم"[23]، وما تقدم من الأدلة والأقوال دليل على أنه لا يجوز أن تكون لأهل الذمة ولاية على المسلمين، سواء كان في ولاية عامة أو خاصة، وقد سئل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "(في رواية أبي طالب)نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء"[24]
2-النهي عن اتخاذهم بطانة:
قال الله تعالى: "لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" [آل عمران:118]، بوب البخاري في صحيحه باب: بِطَانَة الْإِمَام وَأَهْل مَشُورَته، الْبِطَانَة: الدُّخَلَاء، قَال ابن حجر في الشرح: قوله ( بَاب بِطَانَة الْإِمَام وَأَهْل مَشُورَته ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفَتْح الرَّاء: مَنْ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، قَوْله ( الْبِطَانَة: الدُّخَلَاء ) هُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدَة قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } الْبِطَانَة : الدُّخَلَاء ، وَالْخَبَال : الشَّرّ اِنْتَهَى . وَالدُّخَلَاء بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْح جَمْع دَخِيل : وَهُوَ الَّذِي يَدْخُل عَلَى الرَّئِيس فِي مَكَان خَلْوَته وَيُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ وَيُصَدِّقهُ فِيمَا يُخْبِرهُ بِهِ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْر رَعِيَّته وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ"[25].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى:"فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم"[26]، وقد بين ابن جرير أن هؤلاء "هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب"[27].
و قال القرطبي رحمه الله تعالى: " قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ...الآية، فيه ست مسائل: الأولى - أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار وهو متصل بما سبق من قوله: " إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب" [ آل عمران: 100 ] والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به.(49/187)
قال الشاعر: أولئك خلصائي نعم وبطانتي * وهم عيبتي من دون كل قريب
الثانية - نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم،.. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: (لا يألونكم خبالا) يقول: فسادا، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة... وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى، وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحدَ أكتبَ منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك ؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم، قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء.
وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا"[28]، فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه السلام: لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا، قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية[29]...
وقال ابن الجوزي: "قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلهم الله"[30]
وذكر ابن كثير رحمه الله تعالى: "عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: [لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ]"[31]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم[32]نوعاً من توليهم[33]. وقد حكم تعالى بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية وصلة، فلا تجامع معاداة الكافر أبداً"[34].
فهذه الآية تمنع من اطلاع الكفار على إسرار المسلمين وقد بينت الآيات العلة في ذلك وهو كره الكفار للمسلمين ورغبتهم في حصول ما يعنتهم ويشق عليهم، وليس هناك من اطلاع على أسرار المسلمين أكثر من أن يصير الرجل متوليا لبعض أمورهم
3-النهي عن الركون إليهم:
قال الله تعالى: [ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم، { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ] أي: ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه"[35] فهو نهي عن الاستعانة بالظلمة، ويدخل فيهم دخولا أوليا أهل الذمة فهم كفار وقد قال الله تعالى : [والكافرون هم الظالمون] وقال تعالى: [إن الشرك لظلم عظيم].
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (ولا تركنوا) الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشئ والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم، ابن جريج: لا تميلوا إليهم، أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب، وقال ابن زيد: الركون هنا: الادهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم....
الثالثة - قوله تعالى: (إلى الذين ظلموا) قيل: أهل الشرك،وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " [ الأنعام: 68 ] الآية، وقد تقدم.
وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
الرابعة - قوله تعالى: (فتمسكم النار) أي تحرقكم، بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم، وموافقتهم في أمورهم"[36].(49/188)
وكل ما أوردناه فيما سبق من الأدلة والنقول دال على عدم جواز تولية الكفار أهل الذمة وغيرهم الولاية على المسلمين، وإن كان هذا لا يمنع من استخدام من كان منهم حسن الرأي في المسلمين، وذلك في غير ولاية الأمر أو ما فيه علو واستطالة على المسلمبن أو ما كان فيه اطلاع على أسرارهم.
أهل الذمة والولايات السياسية 2
----------------------------------------
[1] تفسير الطبري 7/145
[2] انظر الموسوعة الفقهية 7/121-122
[3] انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/87-90
[4] أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير رقم 3261
[5]أخرجه البخاري كتاب الجهاد رقم 3052
[6]انظر الخراج لأبي يوسف ص126
[7]السلوك لمعرفة دول الملوك لابن الأزرق
[8]ولا يراد من ذلك بقية الأعمال من تجارة و زراعة وصناعة أو تعليم أو طب ونحو ذلك، وقد حفظت لنا كتب التاريخ أسماء كثير من أطباء أهل الذمة الذين كانوا يعملون عند الولاة والأمراء والخلفاء على مدار التاريخ كله
[9] منهاج الإسلام في الحكم ص83-84
[10]تفسير ابن جرير 10/398
[11]تفسير ابن أبي حاتم سورة المائدة آية رقم 51 أثر رقم 6545
[12]تفسير ابن أبي حاتم سورة المائدة آية رقم 51 أثر رقم 6546
[13]أحكام القرآن للجصاص تفسير سورة التوبة آية رقم 29
[14]أحكام القرآن لابن العربي سورة المائدة آية 51
[15] تفسير ابن كثير المائدة آية 51، 3/132
[16]مفاتيح الغيب تفسير الفخر الرازي سورة المائدة آية رقم 51
[17]مدارك التنزيل للنسفي سورة المائدة آية رقم 51
[18]تفسير ابن كثير 2/30
[19]البحر المحيط لأبي حيان سورة النساء آية رقم144
[20] تفسير ابن كثير سورة المائدة آية رقم 52
[21] شرح النووي على صحيح مسلم
[22]فتح الباري 13/132
[23]بدائع السلك في طبائع الملك، والرواية الثانية ذكرها ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/459 وذكر أن الذمي كان اسمه حسان بن زيد، وكان من فضل اتباع الشريعة في ذلك أن أسلم هذا النصراني وصار من عباد الله الموحدين
[24]الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 32
[25] فتح الباري 13/201-202
[26] تفسير ابن جرير 7/138
[27] تفسير ابن جرير 7/146
[28]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/127
[29]تفسير القرطبي تفسير سورة آل عمران رقم 118
[30] زاد المسير في علم التفسير سورة آل عمران آية رقم 118
[31] تفسير ابن كثير 2/107
[32] المراد بالتولية هنا تولينهم الولايات
[33]والمراد بها اتخاذهم أولياء
[34] أحكام أهل الذمة 1/499
[35] تفسير ابن كثير 4/354
[36] تفسير القرطبي 9/108
=================(49/189)
أهل الذمة والولايات السياسية (2/2)
محمد بن شاكر الشريف
بينت في الحلقة الأولى من هذه المقالة عدالة الشريعة في تعاملها مع أهل الذمة، والتزام المسلمين بذلك في تعاملهم معهم، ثم سقت الأدلة التي تبين أنه لا يجوز تولية أهل الذمة الولايات السياسية في بلاد المسلمين، ونقلت طائفة كبيرة من أقوال أهل العلم من مختلف المذاهب في ذلك، وفي هذه الحلقة نكمل ما تبقى من هذه المقالة.
بفعل ما فيه بلاد المسلمين اليوم من ضعف وتخاذل أمام عدو الله وعدو المسلمين، نجد اليوم من المسلمين من يحاول أن يؤكد مساواة أهل الذمة للمسلمين في حق تولي الولايات، بأنواع من الكلام الذي يظنه أدلة وما هي إلا شبهات، سَهَّل قبولها لديه والدعوة إليها والتمسك بها، الحالة التي عليها العلاقات الدولية اليوم، وها نحن أولاء نعرض لبعض هذه الشبهات ونرد على ما اشتبه منها:
وزارة التنفيذ:
لقد تصرمت قرون الإسلام وانقضت بالاتفاق على أن أهل الذمة لا ولاية لهم على المسلمين في شيء، وهذا الاتفاق لا يخدشه-كما يتوهم البعض- ما نقل عن الماوردي (الشافعي) بإجازته لأهل الذمة أن يكونوا وزراء تنفيذ، والذي دعا الماوردي رحمه الله لذلك هو تصويره لهذا النوع من الوزارة على أنه ليس من ولاية الأمر، حيث يقول عن الذمي المعين في وزارة التنفيذ: "فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدا لها"[1] وسبب ذلك ما تقرر عنده-كما عند بقية أهل العلم- أن الولاية لا يجوز عقدها لغير المسلم، لكن الماوردي مع ذلك محجوج بالنصوص الشرعية التي تنهى عن ذلك، ومحجوج بعمل الخلفاء الراشدين وأصحاب السيرة المستقيمة من الخلفاء الأمويين أو العباسيين[2]، وقد رد عليه الجويني (الشافعي أيضا) رحمه الله بكلام شديد فقال: "ذكر مصنف الكتاب المترجم بالأحكام السلطانية أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا، وهذه عثرة ليس لها مقيل، وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل، فإن الثقة لا بد من رعايتها، وليس الذمي موثوقا به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله، وروايته مردودة، وكذلك شهادته على المسلمين، فكيف يقبل قوله فيما يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين" ثم ذكر بعضا من الأدلة إلى أن يقول: "وقد نص الشافعي رحمة الله عليه أن المُترجِم الذي يُنهي إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب أن يكون مسلما عدلا رضيا، ولست أعرف في ذلك خلافا بين علماء الأقطار، فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار"[3]
هل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؟
هناك من يزعم -من المسلمين-أن أهل الذمة في البلاد الإسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويستدلون على زعمهم ذلك أن هذه قاعدة شرعية، أو ما ينسبه البعض الآخر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين،وهذا لا شك في خطئه فليست هناك قاعدة شرعية تذكر ذلك كما أن الرواية المزعومة من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هذا النص إنما ورد في حق من أسلم من الكفار، فقد سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال: يا أبا حمزة ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: "من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم"[4] وأخرجه النسائي بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"[5] وأخرجه أبو داود بلفظ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"[6]، فأخذه هؤلاء وجعلوه لأهل الذمة، وأهل الذمة كفار لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، ولم يشهدوا أن محمدا رسول الله، ولم يستقبلوا قبلتنا ولم يصلوا صلاتنا، ولا أدرى هل وقعوا في ذلك جهلا أو عمدا، ولا شك أن هذا القول الذي ينسبه هؤلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لكل ما تقدم من الأدلة التي أورتها في الحلقة الأولى من المقالة وليس في أيدي هؤلاء أكثر من محاولة بيان عدم دلالة هذه الأدلة، وذلك بأنواع مستكرهة من التأويل.
هل قوله تعالى لا يألونكم خبالا وما تلاها شرط في الحكم أم هو كشف عن حقيقة أمرهم؟
قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون"، في هذه الآية كشف وبيان لحقيقة موقف أهل الذمة من المسلمين، ولفظ الآية ونظمها يبين أن ما ذكر فيها هو من خصائص القوم وصفاتهم المتأصلة فيهم، فالله تعالى ينهانا أن نتخذ من أهل الذمة بطانة ويكشف لنا عن حقيقة موقفهم من المسلمين فيقول: إنهم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، ثم يبين الله تعالى أن الأمر أكبر مما ظهر بقوله: وما تخفي صدورهم أكبر، ثم يقول الله تعالى محرضا المؤمنين على عدم اتخاذهم بطانة :" قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون"، فجاء أناس ممن يريد لَيَّ النصوص ويدعي الفهم والاستنارة فزعم أن قوله تعالى: لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم هو شرط لتطبيق الحكم، فإذا تخلف ذلك الشرط جاز اتخاذهم بطانة، فإذا كان أهل الذمة ممن لا يجتهدون في أذيتنا، ولا يودون لنا التعب والمشقة، ولم تظهر البغضاء من أفواههم، جاز اتخاذهم بطانة، وهذا ما لم يقله أحد من أهل العلم السابقين.
ولفظ الآية يأبي هذا التفسير التحريفي فالآية تكشف عن حقيقتهم: يا أيها الذين لآمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ...الآية فهذه حقيقتهم والصفة المتأصلة فيهم، ولذلك حسن أن يقال عنهم: قد بدت البغضاء من أفواههم، تأكيدا وتوثيقا للحكم في نفوس السامعين، وحسُن قوله تعالى: "قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون" وكأن فيها جوابا أو ردا لمن يقول: وإذا لم يظهر منهم ما نكره من الأقوال أو الأفعال؟، فيقال لهم: إن كانت لكم عقول تعقلون بها عداوتهم لكم، فقد بينا لكم الآيات الدالة على ذلك، ولذلك يقول ابن جرير في تفسيرها: " فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن مخالَّتهم" فهم منطوون على هذه الأمور وليست هي شرطا أو قيدا في الحكم تزول بزواله، ومن الذي يقدر على العلم بذلك وهي أمور قلبية لا يطلع عليها الناس، ومع هذا الوضوح فقد زعم بعض من لم يفهم كلام أهل العلم أن الطبري رحمه الله تعالى ممن يرى جواز الاستعانة بغير المسلمين في أمور المسلمين وشئونهم، مع أن الطبري بيَّن ذلك بعبارة واضحة وهو يرد على من يقول إن الذين بدت البغضاء من أفواههم هم المنافقون، قال رحمه الله: " القول في تأويل قوله تعالى : "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ"
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم "من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم، إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوةُ التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلى ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة" ثم نقل عن قتادة رحمه الله تعالى: " قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم" ثم عقب عليه بقوله: " وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له" ثم بدأ يبين سبب حكمه على ما قاله قتادة فقال: "وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم.
فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها.
وإذْ كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل"[7]. فالمعنيون بهذه الآيات ليسوا هم المنافقين وليسوا هم الكفار من أهل الحرب وإنما كفار أهل الذمة
البر بهم والإقساط إليهم:
لم ينهنا ربنا تبارك وتعالى عن البر والإقساط بمن لم يقاتلنا في الدين ولم يعينوا المشركين علينا، كما قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
فبرهم والإقساط إليهم أمر مطلوب، لكن ليس من معنى هذا توليتهم الولايات على المسلمين، فإن هذا لم يقل به أحد، والآية إنما تعنى أن المسلمين أهل عدل وإنصاف وإحسان لا يظلمون أحدا شيئا، وأن من لم يقاتلهم في الدين ولم يعن عليهم أحدا فإن المسلمين يحفظون له ذلك ويثيبونه عليه
ما يجوز من الاستخدام أو الاستعانة:
يجوز الاستعانة بأهل الذمة واستخدامهم فيما يحتاج إليه المسلمون وذلك وفق عدة شروط منها:
أن لا يكون في ذلك ولاية على المسلمين
أن يكون حسن الرأي في المسلمين
أن تكون بالمسلمين حاجة إليه
والوقائع التي حدثت في السيرة النبوية تدل على هذا الجواز بتلك القيود المذكورة، وإذا تأمل المتأمل ما يساق من وقائع في ذلك، لا يجد فيها استعانة أو استخداما مطلقا، بل يجدها مقيدة بأحد القيود السابقة، كاستئجار الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة دليلا مشركا خبيرا بالطرق، فهي ليست ولاية وكان الرجل مأمونا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حاجة لذلك، وكذلك اتخاذه عينا (جاسوسا) من خزاعة على مشركي، قريش وكانت خزاعة عيبة نصح[8] لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشركهم ومسلمهم، ونحو ذلك من الأمور
محكمة التاريخ:
لقد كانت هناك فترات من الزمن تخلى فيها المسلمون عن كثير من الأحكام الشرعية، وتقاعس فيها بعض ولاة الأمور من المسلمين عن الالتزام بالأحكام الشرعية الخاصة بالمشاركة السياسية لأهل الذمة، فولوهم بعض الولايات والمناصب التي لا ينبغي أن يتولوها، وقد أثبت التاريخ والواقع ما تحدث عنه القرآن بما يكنه الكفار للمسلمين، وما تنطوي عليه أفئدتهم، بما لا يدع مجالا لمُشكك أو لمخذل، وفي هذا الواقع التاريخي بيان ورد على بعض المعاصرين الذين يحاولون التفرقة بين من ظهرت عداوته من أهل الذمة، وبين من ظهرت مودته أو لم تظهر منه عداوة، فيجعلون كل ما تقدم من الأدلة خاصا بمن ظهرت عداوته، ويرون أن من ظهرت مودته أو لم تظهر منه عداوة فإن الأدلة لا تتناوله.
وذلك أن ما في القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد قال الله تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك فيها الحرث والنسل والله لا يحب الفساد"، والأدلة المتقدمة ليس فيها هذا القيد الذي زعموه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى عشرين موضعا من كتاب الله تعالى في بيان غش الكفار من اليهود والنصارى للمسلمين، وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعاداة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاَّهم أمور المسلمين، ثم قال بعدما أورد هذه المواضع العديدة: "والآيات في هذا كثيرة، وفي بعض هذا كفاية"[9].
وهذه بعض الوقائع التاريخية من القديم ومن الحديث، ومن الشرق ومن الغرب، ومن اليهود ومن النصارى، بما يدل على أن ما يظهره أهل الذمة غير ما يبطنون، وقد تمثل ما قاموا به -سواء في القديم أو الحديث-عندما تولوا بعض الأمور، أو عند شعورهم بالقوة وأمنهم من معاقبة المسلمين لهم في أمرين:
الأول: ظلمهم للمسلمين وإذلال من يقع منهم تحت أيديهم، والاستعانة بأهل ملتهم في أعمال الدولة وإبعاد المسلمين عنها، بل وفصلهم من وظائفهم، وقد بلغت مكانة اليهود في الدولة الفاطمية أن قال القائل-في وصف ما هم عليه من العز والسؤدد الذي لم ينله كثير من المسلمين-
يهود هذا الزّمان قد بلغوا ... غاية آمالهم، وقد ملكوا
العزّ فيهم والمال عندهم ... ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إنّي قد نصحت لكم ... تهوّدوا قد تهوّد الفلك[10].
وقد تسلط اليهود أيضا في دولة غرناطة على الناس وقاموا بحكم الجماعات الإسلامية وجمع الضرائب منهم مما دفع بابن الجد إن يقول:
تحكمت اليهود على الفروج ... وتاهت بالبغال وبالسروج
وقامت دولة الأنذال فينا ... وصار الحكم فينا للعلوج
فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج.
وهذا أبو إسحق الألبيري الصنهاجي وقد رأى ما ساد به اليهود على المسلمين، فيقول:
وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخضمون وهم يقضمون
ورخم قردهم[11] داره ... وأجرى إليها نمير العيون
فصارت حوائجنا عنده ... ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا ... فإنا إلى ربنا راجعون[12]
والثاني: تحريضهم للمشركين وأعداء المسلمين على غزوهم ومحاربتهم، وإيذائهم للمسلمين بكل سبيل، و إعانتهم للقوى الكافرة المهاجمة لبلاد المسلمين، وقد كان أول ذلك ما فعله اليهود زمن البعثة النبوية، فبرغم ما كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم من معاهدات، فقد خانوا ونقضوها، وحرضوا المشركين على قتال المسلمين ولكن الله خذلهم.
ومن ذلك ما فعله النصارى في الأندلس زمن دولة المرابطين عندما حرضوا الطاغية ابن رذمير على محاربة المسلمين وقتالهم، وتوالت عليه كتبهم، وتواترت رسلهم ملحة بالاستدعاء، مطمعة في دخول غرناطة، فلما أبطأ عنهم، وجهوا إليه زماماً يشتمل على اثني عشر ألفاً من أنجاد مقاتليهم، لم يَعُدُّوا فيها شيخاً ولا غراً"[13].
وعندما أغارت جموع التتار على بلاد الشام ودخلوا دمشق استطال النصارى هناك على المسلمين، "وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم: فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهراً: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كتبغا فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم"[14],
ومن ذلك أيضا الحريق الكبير الذي شب في دمشق سنة سبعمائة وأربعين، وبعد خمسة عشر يوما شب حريق أعظم منه وكان أمرا مهولا، ثم تبين بعد ذلك أن من فعل ذلك هم مجموعة من النصارى الذين تستعملهم الدولة في أعمالها، وعلى رأسهم سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني، كاتب الأمير علم الدين سنجر البشمقدار[15].
قال ابن القيم: "ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لَثَنَاهُمْ ذلك عن تقريِبهم وتقليدهم الأعمال، وهذا الملك الصالح أيوب كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمكَنُ منه، وكان المذكور قذاةً في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين، ومثالبُه في الصحف مسطورة، ومخازيه مخلدة مذكورة، حتى بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالهم، وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحل لهم الأدرار والضيافات وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام، فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه، فلم يزده ذلك إلا تمرداً"[16]
وفي حوادث سنة سبعمائة وسبع وستين عندما هاجم الفرنج الإسكندرية وقت الضحى من يوم الجمعة، دخل ملك قبرص - واسمه ربير بطرس بن ريوك - وشق المدينة وهو راكب، فاستلم الفرنجُ الناسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامت وناطق، وأسروا وسبوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عدة أماكن، وهلك في الزحام، بباب رشيد، ما لا يقع عليه حصر، فأعلن الفرنج بدينهم، وانضم إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلوهم على دور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمروا كذلك، يقتلون، ويأسرون، ويسبون، وينهبون، ويحرقون، من ضحوة نهار الجمعة إلى بكر نهار الأحد، فرفعوا السيف، وخرجوا بالأسرى والغنايم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس ثامن عشرينه، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير"[17].
وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر تطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين[18].
وعندما سافر عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد صحبهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخباءات، ولما تظاهر يعقوب القبطي مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية والوقائع في ذلك كثيرة وهذه مجرد أمثلة.
وهكذا تثبت وقائع التاريخ المتعددة على اختلاف ما بينها من الزمان والمكان ما جاء في كتاب ربنا العليم الحكيم وهو مصداق لقوله تعالى: " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " فقد بينت هذه الوقائع التي أوردناها ما ذكرته الآيات من كراهية الكفار للمسلمين وحقدهم عليهم وإرادة السوء بهم، اللهم بمنك وكرمك وقدرتك نجنا منهم ومن شرهم وممن مكن لهم وأعانهم
---------------------
[1] الأحكام السلطانية ص28-29
[2] انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/456-478، تحطيم الصنم العلماني ص108-110
[3] غياث الأمم في التياث الظلم ص 114-116
[4] أخرجه البخاري كتاب الصلاة رقم 323
[5] أخرجه النسلئي كتاب تحريم الدم رقم 3967 وأخرجه أحمد بنحوه رقم 12643
[6] أبو داود كتاب الجهاد رقم2641
[7] تفسير ابن جرير الطبري 7/145-147
[8] يحفظون سره ولا يخفون عنه شيئا
[9] أحكام أهل الذمة 1/498
[10] إتحاف الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء للمقريزي
[11] إشارة منه إلى الوزير اليهودي
[12] تاريخ الأدب الأنداسي إحسان عباس 1/148
[13] الإحاطة في أخبار غرناطة
[14] السلوك لمعرفة دول الملوك
[15] انظر في تفاصيل ذلك السلوك لمعرفة دول الملوك
[16] أحكام أهل الذمة 1/499
[17] انظر في تفاصيل ذلك السلوك لمعرفة دول الملوك
[18] انظر عجائب الآثار للجبرت
=======================(49/190)
فن خلط الأوراق يا أهل القبلة الحنيفية..
د.بنت الرسالة
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين
فن خلط الأوراق يا أهل القبلة الحنيفية..
فن قذر دأب القوم الشهوانيون على ممارسته ..بعد ملكوا مهارة تفريغ الألفاظ من مدلولاتها ..
يحدوهم الأمل أن يظفروا بتقويض دعائم الدين..
أفرغوا طاقاتهم لإطلاق تهم توحي بمعارضته لأسباب الحياة والطمأنينة للبشرية وما يحيطها من بيئة ..
وجعلوا يبحثون عن حقوقٍ ( القاسم المشترك في محور نصرة لمرأة ، ورفاهية المرأة وإنقاذ المرأة ).
حقوقا أثبتت لها سلفا منذ 14 قرن مضت ، وجعلت لها بالقدر اللازم ، وقررت في مصارفها الموجبة لها.
لكنهم يقفزون دوماً على جسر الإتهام للأصولية بالرجعية وبمعاداة البشرية في صورة سمتها الناعم ليقرروا نتيجة لاعلاقة لها بالدين ولا الحرية .
ففي المركز المصري لحقوق المرأة نظم مؤتمراً(1) عربياً كبيراً تحت عنوان
(( تحرير المرأة العربية من الماء إلي الماء))
شارك فيه وفود نسائية عربية من خمس عشرة دولة عربية مثلت مختلف المناطق العربية.
ومن نتائجه:
* أنه علي الرغم من وجود إدارة سياسية متباينة علي تحسين أوضاع المرأة العربية، إلا أن المناخ الثقافي وانتشار الأفكار الأصولية المتشددة بدعم رسمي، وتراجع قوة حركات تقدم المرأة يؤدي إلي تقليص تواجد النساء في مواقع صنع القرار، والمناخ ذاته يؤدي إلي شيوع العنف ضد النساء وترسيخ النظرة الدونية لهن، والحط من قدراتهن، الأمر الذي يجعل من المتعين للعمل مع كل القوي الديمقراطية داخل المجتمع لتغييره إلي مناخ أكثر تسامحاً وانفتاحاً بما يؤدي إلي تعزيز فكرة الحق في المواطنة.
* مراجعة المناهج المدرسية للتعرف علي حجم التميز في عقول النشء تجاه هذا الموضوع.!!
نعم ..!! هكذا وبمنتهى التغابي.....
يتم ترديد نفس المضامين المشبوهة الحارقة لتميز هويتنا ..
إذ لا اشارة ولا حتى مجازية.. لأهم القضايا والمشكلات الحقيقية التي تمس المرأة ووتحسن من مستواها ..
القوم يتشدقون عن حرية المرأة في اتخاذ القرار والوصول إلى مراكز القرار ثم وبعنف وقح يحرمونها من قرار أرتضته لنفسها كل حنيفيةٌ عفيفة.
أين قضية حرية المرأة في ارتداء ما أرادته طواعية أن تعبد ربها به يا هؤلاء فتتمتع به تتعلم وتعمل؟
ثم ومن أخبركن يامن أستعمر فكركن ..
أن المرأة المسلمة عربية أو أعجمية .. ترتضي لنفسها مثل هذا السفه.
ومن سمح لكن للتكلم بلسان الحرائر سليلات الأبرار من نسل من صحب محمد وتبعه برضوان إلى يوم الدين. .
قد أعلناها مجلجلة أنا لأنظمة الله ومواثيقه وحده مسلمون .
وأنا لا نرضى ما حيينا أن نصبح ألعوبة في يد العهر والمجون .
ولن نضع جباهنا للسكارى نتقلب على موائدهم .. وتسلخ جلودنا نظراتهم ..ولا متكآت لكل عربيد
يا هؤلاء النسوة إنه شأنكن أرادت الإباحية والإنفلات.. ولتصبحن ملعقة على كل ثغر.
أما أن تسحبنه على غيركن فهو العنف المرفوض.
ونحن نريد محاكمة جاهليتكم البغيضة لمبادئنا السامقة في ديننا الحنيف.
واضع هذه المبادئ يا هؤلاء هو الرب المتعال وهو أحكم الحاكمين..
وحافظها مهيمن قادر عزيز..
وسائلكن عن تطبيقكن لها منتقم سريع الحساب.
إسلامنا يا هؤلاء يكرم الرجل والمرأة وفق معيار موحد في العقاب أو في الثواب ..
قال تعالى للجميع :.( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
إننا وبملئ أفواهنا ولتردد الأكوان عنا ...
أننا نمقت ونرفض مبادئ تجعل الإنسان قهر مقلدا مسلوب العقل...
ولكم آسف على واقع مشوه تضيعون فيها قوانين من نور يعطر حياتكن...
فتجعلونها سوداء تنذر بأنواع الإستعباد والإسبداد المشين..
اعيدوا الرجال إلى المعامل والمصانع وأخرجوهم من المراقص والمقاهي وبؤر المخدرات..
وأعيدوا النساء إلى مصانع الرجال ودور التربية وتطبيب النساء.
إسلامنا وببساطة ..
يجعلنا أمهات مسلمات عالمات بفنون تربية الرجال ليكون كل واحد منهم أمة .
أنتم تريدون تشغيل نصف المجتمع ونحن نطالبكم بحكم الله أننا ماضون لتشغّيل المجتمع كله ..
و هو الفيصل بيننا ..
يامن أضعتم لغة الخطاب الرباني وبات النعيق هو ما يصل اسماعكم
لماذا خلط الأوراق .. وإسقاط نقائص الغرب على إسلامنا العظيم...؟؟!!
من قال أن أسلامنا يرفض تعلم المرأة وقد كانت أمنا عائشة رضي الله عنها عالمة في فنون العلم المختلفة.؟
ومن قال أن الإسلام رفض عمل المرأة وقد كانت خدبجة تستعمل على تجارتها
وتخرج النساء إلى سوق اليهود يبتاعون ..؟
ومن قال أن الإسلام لا يعطي المرأة حقها في تقرير مصيرها .أليست تستأمر في زواجها .. وبيدها القبول والرفض؟
ومن قال أن أسلامنا أعطى الرجل الحق في التصرف في مالها أو سلبها أياه؟
ومن قال أن المرأة العاملة في أسلامنا تعطى نصف أجر العامل . متى تساوت المهام ..؟
الغرب يصعق عندما يقرأ عن أهلية المرأة المالية في الإسلام وحقوقها فيه .
فلماذا الكذب والإفتراء على الدين الحنيف .. تبغونها عوجا ألا تعقلون ..
ألم تعلمن أنه الحقد الأعمى من بني الكفر وعباد الصليب على الدين الحنيف ..
فواسفاه عليكن....(49/191)
إنه جحر ضب هذا الذي اليه تساقون... وترغبن أن نكون لها راكعين
ضحكت ذئاب القوم حتى بان للشفتين ناب
فعلمت أن حياتنا قد صار تحكمها الذئاب
هل نحن نحيا هكذا بين المكيدة والخراب
هل نحن نمضي هكذا لا والذي فرض الحجاب
بل نحن نحيا للعبادة والحياة على الصواب
نحيا نطيع الله حتى لو بقينا في اغتراب
حتى ولو كانت حراب الظالمين على الرقاب
سنظل نعبد ربنا حتى ولو زاد الضباب
حتى ولو نبحت كلاب الغاصبين فلن نهاب
وسمعت صوتا كالعواء فقلت هل تعوي الكلاب
عهدي بها نباحة ما بالها لغة الخطاب
قالوا تغير كل شيئ صار كالعجب العجاب
دبغ الإيهاب فماتغير في الإيهاب سوى الإيهاب
اللهم يا أرحم الراحمين أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك ويذل فيها أهل معصيتك ، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر .
اللهم أنصر بنا دينك وكتابك وسنة نبيك r وعبادك الصالحين.
والله من وراء القصد ،،،
-----------------
(1) مؤتمر عربي لتحرير المرأة ومنحها حقوقها كاملة، القاهرة ، 200
=============(49/192)
(49/193)
اعتراف آخر لـ ( طه العلواني ) بفشل تقديم التنازلات للعلمانيين ..!
سليمان بن صالح الخراشي
يقول الله تعالى مخاطبًا نبيه - والخطاب لجميع المؤمنين من أتباعه - : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين ) ، قال الشيخ ابن سعدي - رحمه الله - : ( هؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ؛ فلا تُطعهم في بعض الأمور التي تنقض التقوى وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم فيضلوك عن الصواب ) .
فالمسلم مأمور بالبعد عن مداهنة أعداء الله والتنازل لأجلهم عن شيئ من دينه ؛ ابتغاء رضاهم .
وذلك لأمرين :
الأول : أنه سيثلم دينه وتقواه بهذا التنازل .
والثاني : أنه - مع هذا - لن يحصل على رضاهم ! بل سيجازيه الله بعكس صنيعه . كما قال سبحانه عمن يطلب رضا الكفار : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . ومثلهم إخوانهم المنافقين .
وقد ابتليت الأمة للأسف بمن لم يستجب لأمر الله تعالى ؛ فرأينا من يُسارع في طلب مرضاة الطائفتين ؛ بما يوهن دينه ، ويُلبس على الأمة .
أما التنازل والمداهنة للكفار فأمثلتها كثيرة ؛ لعل من أبرزها في عصرنا هذا ما تفعله دولة تركيا من خضوع ومهانة لشروط الكفار ؛ لعلهم يرضون عنها وينظرون لها بعين العطف ، وما هم بفاعلين .
وأما التنازل للمنافقين فقد حصل من بعض العصريين الذين اجتهدوا في " علمنة " الإسلام ؛ لعلهم يحوزوا على رضا أولئك ؛ وهيهات لهم ..
وقد اعترف بهذا أحدهم ؛ وهو الدكتور طه جابر العلواني - هداه الله - ، وذلك عند تقديمه لكتاب صاحبه راشد الغنوشي " حقوق المواطنة " ، ( ص 19 - 20 ) ؛ حيث قال :
( مثلنا ومثل رفاقنا العلمانيين الدنيويين كمثل قول القائل:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا لأن الذي نهواه ليس بذي ودِّ
فهؤلاء الدنيويون العلمانيون حين يأخذ الإسلاميون هذه المواقع الاجتهادية التأويلية المتقدمة يسارعون هم إلى احتلال مواقع الماضويين والتمترس بذات النصوص التي يتمترس الماضويون وراءها، يقول أحدهم: "... كنا نعرف بالطبع أن المساواة المطلقة التي يتحدث عنها التيار الإسلامي الثوري غير صحيحة شرعاً، والآيات والأحاديث تتحدث بوضوح عن تفاوت الدرجات.." !
وحين حاول الشيخ نديم الجسر -رحمه الله- إيجاد علاقة (تصورية) بين نظرية الضوء ووجود الملائكة والجن في مقالة نشرتها صحيفة "النهار" اللبنانية في ملحقها الأسبوعي في بيروت (12/3/1967) رد عليه د. صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني" مؤكداً على أن نصوص القرآن ومعانيه غير قابلة لأي تأويل عصري يسحب معانيها إلى خارج عصر التنزيل والمفاهيم السائدة فيه، وأكد على حصر مفهوم العلم الذي أمر الكتاب الكريم به، وجاءت السنة بحث الناس على طلبه في العلم الشرعي مستشهداً بتعريف الغزالي المتوفي سنة 505هـ الموافق (1111م) للعلم في كتابه "الإحياء" .
ولو تتبعنا هذه النماذج من مواقف الدنيويين العلمانيين لاحتجنا لدراسة خاصة بها، ولذلك فلا نتوقع أن يقابل هؤلاء مثل هذه الاجتهادات التي يقدمها الإسلاميون بما تستحقه من اهتمام ) .
قلتُ : لو طلبتَ وأصحابك رضا الله ، وتجنبتم سخطه ، وصدعتم بدينه وأحكامه دون تدليس أو تلبيس ؛ لما ترفع عليكم أولئك العلمانيون وأهانوكم ، رغم تنازلاتكم لهم ، وسخريتكم ولمزكم لأتباع الكتاب والسنة .
وهذا يذكرنا بقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " من التمس رضا الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس " .
ولعل في هذا الاعتراف عبرة لبعض الدعاة الذين - لأسباب متنوعة - قد يلتمسون رضا العلمانيين " المنافقين " عنهم بتقديم شيئ من التنازلات ، أو السكوت عن المنكرات ، أو غير ذلك من أنواع المداهنة . والله الهادي والموفق ..
====================(49/194)
(49/195)
فلسفة المواطنة
أ.د عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاح
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد /
فإن ربانية المنهج الإسلامي الذي جاء به صلى الله عليه وسلم من ربه في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، أنه لا يمثل ، ولم يمثل إشكالية لأتباعه بين مصالحهم ومبادئهم، ولا بين السقف الحضاري الذي يعيشونه في لحظة تاريخية معينة ، وقيم الإسلام الثابتة.
من ذلك الدوائر المحيطة بالإنسان (الأسرة ، العائلة ، القبيلة ، الوطن .. إلخ) . هذه الدوائر لم يأتِ الإسلام ليلغيها تماماً ، ولا ليتقمص شيئاً منها على حساب الآخر، فالإسلام ليس دين قبيلة ولا وطن ولا جنس قومي خاص ، ولكنه أيضاًَ لم يلغ اعتبارات هذه الدوائر التي يمثل كل منها حاجة تاريخية معينة للناس ، بل لقد اعتمدها الإسلام ، ودليل ذلك أنه أعطى في كل منها توجيهات قيمية تهذيبية تؤكد الفضائل ، وتنفي الرذائل . وبما أن الإسلام دين الله للبشر فقد جعل قيمته الكبرى وهي العبودية لله حاكمة على تلك الدوائر كلها صابغة إياها بصبغة الإسلام المتميزة ، مما يجعل تلك الدوائر متناغمة فيما بينها دون تشاكس تبعاً لوحدة القيم الموجهة لها .
إن مشكلة المسلمين - في هذا العصر - أنهم يتعاملون مع قضايا الحياة لا من خلال قيم دينهم مباشرة ، ولا من خلال مصالحهم المستقلة ، وإنما من خلال التفاعل مع حضارة الآخر إما استلاباً لمعطياته الحضارية ، أو مخالفة لها ورفضاً ، بذريعة العداء التاريخي مع هذا الآخر ، أو الاختلاف الديني معه.
وقضية المواطنة من هذه القضايا ، فقد غالى بعضهم في الانفعال بها في منطلقاتها الفكرية التي تجعل محور الولاء هو الوطن بديلاً عن الدين باسم (الوطنية) وضاد ذلك آخرون فحاربوها باسم الإسلام .
هذا في الجانب الفكري أما الجانب العملي فإن تعامل كثير من المؤسسات المعنية بها لم يكن بالجدية المفترضة بشأنها ، ولا ينفي ذلك وجود اهتمام ببعض الأشياء الجانبية كالنشيد الوطني وتحية العلم وإحياء التراث الشعبي الوطني ، إنما المقصود أن المواطنة بصورتها الحضارية حقوقاً وواجبات وحفظاً للذمام ، واحتراماً للنظام ، لم تأخذ حقها المطلوب ولم تؤصل في النفوس مما جعل الولاء للوطن مجالاً للمساومة أمام جواذب الأيدلوجيات المنطلقة من خارج الوطن .
إذا أردنا بناء مواطنة سوية مرتكزة على قيم الإسلام التي يتنفسها المجتمع السعودي ويتجاوب مع امتداداتها ؟ فما التأسيس الفكري لها ، وما المنحى التطبيقي لها؟
صفحات هذه الورقة مداخلة في هذه الشأن المهم ، مرتكزاً على دراستين سابقتين لي في الموضوع إحداهما عن الوطنية نشرت في مجلة المعرفة عدد ذي القعدة 1420هـ وثانيتهما عن المواطنة ومفهوم الأمة الإسلامية .
والله الموفق ،،،
قضية المصطلح :
(المواطنة) و (الوطنية) لفظتان مرتبطتان ببعضها في الجذر اللغوي وفي الدلالة المضمونية .
الوطنية تعني بحسب لفظها نزوعاً انتسابياً إلى المكان الذي يستوطنه الإنسان مثلما هو جار بالنسبة للأديان يهودي ، بوذي ..، أو للجماعة البشرية قبلي ... إلخ. كان هذا النزوع موجوداً لدى العرب منذ القدم وهو نزوع عاطفي برز في شعرهم تغنياً بالأوطان وحنيناً إليها عند التغرب عنها :
قفا ودعا نجداً و من حل بالحمى
**
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
**
ولي وطن آليت ألاّ أبيعه
وحبب أوطان الرجال إليهمو
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
… …وقل لنجد عندنا أن يودعا
**
بواد وحولي إذخر وجليل
**
وألاّ أرى غيري له الدهر مالكاً
مآرب قضاها الشباب هنالكا
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
والعرب ينتسبون إلى أوطانهم ، فهذا نجدي وذاك حجازي وآخر تهامي ثم كان بعد الإسلام الشاميون والعراقيون والمصريون ... إلخ .
وقد يتفاخرون فيما بينهم بأوطانهم ؛ وميزات كل منها ؛ لكن ذلك لم يتجاوز إلى أن يصبح الوطن مصدر الولاء الأول لدى المنتمين إليه ، سابقاً الولاء للقبيلة في الجاهلية ، والإسلام بعد بعثة الرسو صلى الله عليه وسلم ، فهذا المفهوم المذهبي للوطنية جديد على الأمة في هذا العصر مستمد من المسار الحضاري للغرب في عصره الحديث ، والوطنية بمفهومها الغربي الحديث تعني أن الولاء للوطن مقدم على أي ولاء سواه ، والولاء للوطن يعني الولاء لبقعته الجغرافية ولجماعته من الناس ولدولته ولشاراته (العَلَم - النشيد الوطني ... إلخ) وتمثلات هذا الولاء هي المواطنة من قبل المواطن لوطنه .(49/196)
وعلى كل فإن الوطنية - هنا ليست مجرد ذلك النزوع الشعوري ولكنها نزعة فكرية (مذهبية) لها مبادئها العامة وطقوسها السلوكية التي يزرعها رواد هذه النزعة في نفوس الناس وينشئون عليها ناشئتهم ، ويحاكمون إليها مواقف أتباعهم، وينظرون إلى الآخرين من خلالها ، الوطنية بهذه الصفة ليست حديثة ، فقد وجدت في المجتمعات القديمة ومن أشهر صورها الوطنية اليونانية ، ثم وطنية الإمبراطورية الرومانية التي كانت تنظر للشعوب الأخرى المنضوية تحت ظل الدولة الرومانية بصفتهم عبيداً تابعين للوطن الأم ، لا يقبل من هؤلاء الأتباع الانصهار في بوتقته والاندماج به كما حصل مثلاً الاندماج في الحضارة الإسلامية ، ولقد تجلت النزعة الوطنية متماهية مع القومية في أوربا الحديثة نتيجة التفلت من الإمبراطوية الجامعة التي كان رباطها الجامع بين الأوربيين هو المسيحية التي دخلت إليها في القرن الثاني الميلادي .
هذا التفلت بدأ بالملوك ثم برجال الدين فيما عرف بالحركات الإصلاحية حيث تقسمت القارة الأوربية كما يقول الندوي (إلى إمارات شعبية مختلفة وأصبحت منازعاتها ومنافستها خطراً خالداً على أمن العالم)(1).
هذه (الوطنيات القومية ، أو القوميات الوطنية ) سعت - كل منها - من أجل تقوية نفسها وشحن شعور الأتباع بروح التضحية لها إلى تعميق الروح الوطنية بإحلالها بصفتها ديناً له قداسته محل المشاعر الدينية المسيحية ، حتى أصبح الدين والوطنية كفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى . وقد ظلت العصبية الوطنية - كما يقول (إدوراد لوتين) - " تقوى وفي المقابل تخف كفة الدين كل يوم" (2) ووضعت الوطنيات على مرور الزمن مراسم لتحقيق ذلك تضاهي المراسم الدينية .
هذه الوطنية هي الرحم الذي أنجب المواطنة التي تمثلت في علاقة الحاكم (الملك) بالسكان من حيث تبادل الحقوق والواجبات بناءً على الرابطة الوطنية بعيداً عن الدين .
المواطنة : لم ير بعض أهل اللغة دلالة لهذا اللفظ على مفهومها الحديث إذ إن واطن في اللغة تعني مجرد الموافقة واطنت فلاناً يعني وافقت مراده، لكن آخرين من المعاصرين رأوا إمكانية بناء دلالة مقاربة للمفهوم المعاصر بمعنى المعايشة في وطن واحد من لفظة (المواطنة) المشتقة من الفعل (واطن) لا من الفعل (وطن) فواطن فلان فلاناً يعني عاش معه في وطن واحد كما هو الشأن في ساكنه يعني سكن معه في مكان واحد(3) .
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق - متبادلة - في تلك الدولة ، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات) (4).
المواطنة في صورتها الغربية المعاصرة :
بناء على شمولية الإسلام الذي وجه المسلم نحو الاستقامة على القيم الفاضلة في كل مفاصل حياته الفردية والاجتماعية كان المسلمون يعون أنهم يرتبطون مع من حولهم بحقوق وواجبات متبادلة يترتب على الإخلال بها خلل في تدينهم وحياتهم ، و يعرفون أن لهذا الإخلال - من قبلهم - جزاءً وعقوبة قد تكون دنيوية وقد تكون أخروية وهي الأخوف بالنسبة للمسلم .
هذه الحقوق والواجبات متبادلة بين الناس في مكان أو بلد أو تجاور ومتبادلة بين مجموعة الناس بصفتهم شعباً لمجتمع والولاية التي تحكمهم ، لم تأخذ هذه الأمور اسم (المواطنة) ولم يكن مستندها الوطن بصفته جامعاً بديلاً للجوامع الأخرى دينية أو قبلية ، كان مستندها الشرع الإسلامي ، وتفهم على أنها جزء من منظومة القيم الإسلامية الشاملة .
في العصر الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين برز شعار الوطنية لدى المسلمين عرباً وأتراكاً وغيرهم وبأخرة تردد شعار المواطنة ، ولم يكن خافياً أن هذين الشعارين مستوردان من الخارج وأنهما من معطيات الحضارة الغربية الحديثة ومن هنا كان التوجس والتساؤل عن مضمون هذين الشعارين في أرضهما الأصلية ومن ثم لدى ناقليهما.
ليس من شأن هذه الورقة المقتضبة أن تؤرخ لقضية المواطنة في الفكر الغربي نشأة وتطوراً وفلسفة وصوراً عملية ، وإنما هي مجرد إضاءات بحسب ما يخدم الموضوع .(49/197)
بدأ تشكل المواطنة في أوربا بعد انحسار هيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوربا ، وتراجع توجيهها المباشر للحياة السياسية فيما يتعلق بحياة الناس ، هذا الانحسار والتراجع جعل العلاقة بين الدولة أو الملك - في أوربا - وبين الشعب أو السكان مباشرة مما جعل الشعب يشعر أن الدولة دولته ، وأن له عليها حقوقاً كما أن الدولة ترى أن لها على هذا الشعب حقوقاً خاصة الضرائب التي يقضي إقناع الناس بدفعها إشراك ممثلين لهم في الحكومة يشرفون على صرفها ، فضلاً عن سبب آخر مهم دفع الناس والدول إلى اتخاذ مبدأ المواطنة حلاً لمشكلاته ، هذا السبب هو تعدد الشيع الدينية النصرانية في القرن السابع عشر بالذات ، وشيوع الصراع والفتن بينها حيث (استمرت هذه الفتن حتى بلغت حداً من الشدة حمل الناس على أن يقبلوا ولو ببطء وتردد أن يتجاوزوا الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة وأن يسلموا بمبدأ آخر وهو أن الاختلاف في العقيدة الدينية لا يحول دون الانتساب لمواطنة مشتركة) (5) .
ويرى الأستاذ علي خليفة الكواري أن ثلاثة تحولات كبرى متكاملة حدثت في أوربا هي التي أرست مبادئ المواطنة في الدولة القومية الديمقراطية المعاصرة:
• بروز الدولة القومية نتيجة صراع الملوك مع الكنيسة الذي انتهى بتبعية كل رعية لملكهم ومذهبه الذي اتبعه في إطار المجتمع الذي تقوم فيه دولته بقوميتها وتاريخها وثقافتها المتميزة .
• المشاركة السياسية التي كانت نتيجة الحاجة المتبادلة بين الدولة وشعبها وما نتج عنها من الاعتراف بحقوق متبادلة وتشارك في العمل السياسي والإشراف على حركته - كما سبق - .
• حكم القانون : حيث انتشرت في الدولة القومية التي تشكلت صياغة القوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واستمر إصدار هذه القوانين تلبية لحاجات تلك المجتمعات وانتقل إصدار هذه القوانين بعد ذلك إما تدريجياً - كما في بريطانيا - أو ثورياً كما في فرنسا وأمريكا إلى الشعب الذي أصبح مصدر السلطات والتشريع حيث مثل ذلك قمة (المواطنة) .
ويشير أحد الكتاب إلى أساسين كبيرين من أسس المواطنة في العصر الحاضر هما :
• المشاركة في الحكم من جانب .
• المساواة بين جميع المواطنين من جانب آخر (6).
وقد تبلورت هذه العناصر كلها فيما سمي (حقوق المواطن) أو (حقوق الإنسان في ظل وطنه) سواء كانت حقوقاً مدنية أم سياسية أم اجتماعية تتعلق بقضايا الاقتصاد والثقافة والاجتماع التي أصبحت دولية تدان أي دولة تنتهكها .
ولكن يبقى واضحاً - دون إنكار لما في الوطنية والمواطنة من إيجابيات - أنها - وإن عولمها الغرب نتاج للتحولات التاريخية الغربية ، واستجابة لمتطلباته الحضارية (الخصوصية) بالدرجة الأولى وإن كان فيها ما تستفيده البشرية خارج السياق الأوربي . وخلاصة القول أن (المواطنة) في مفهومها المعاصر ومسارات تطبيقها ومتطلباتها التربوية تتمثل في :
• المساواة بين المواطنين في ظل قومية وطنية واحدة على أساس الانتماء لهذه الوطنية .
• امتلاك (المواطن) حقوقاً اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية يتكفل بها النظام .
• تحمل (المواطن) واجبات تجاه الدولة والمجتمع ، ضرائب ، تجنيد ، أعمال تطوعية .. إلخ .
• استحقاق المواطن أن يشارك بصورة ما في خدمة وطنه عبر المجال السياسي مباشرة أو بالإنابة.
• الولاء من المواطن للوطن ولكل رمزياته نشيداً وعلماً ولغة وأعرافاً إلى درجة التضحية في سبيله .
علاقة المواطنة بقيم المجتمع الذي تقوم فيه :
على الرغم من كون (الوطنية) - بصفتها شعاراً معاصراً يتقمص مضامين محددة - نتاجاً حضارياً لتحولات الغرب التاريخية في عصوره الحديثة بما جعل هذه المضامين مصطبغة بصبغة حضارته الراهنة : العلمانية ، المنطلقة من منظور لا ديني يسمح وفق المنظور الليبرالي الديمقراطي لكل المقيمين داخل حدود قطر معين بالعضوية المستحقة لكافة الحقوق ويعطيهم مجال المشاركة في التأسيس السياسي والتأثير في المجتمع ثقافياً وسياسياً - على الرغم من هذه الصورة المثالية - إلا أن الواقع لم ولا يمكن أن يتحقق بها لأن أي مجتمع يتشكل من جماعات لكل منها مطالبها ورؤاها التي تتناقض مع مطالب غيرها مما يقضي بوجود منطلقات مشتركة تضبط حركة الجماعات وتؤطر مطالبها لذلك كان الحل لتحقيق مواطنة إيجابية هو ( أن يكون المجتمع مستنداً إلى قاعدة من القيم المشتركة التي تتقيد بها كل الجماعات المؤسسة له . ويرى تالبوت بارسونز : أن المجتمع بالضرورة هو نظام أخلاقي مستند إلى الدين ، ويحصل مجتمع متعدد الثقافات مثل أمريكا على تماسكه من حقيقة أن القيم اليهودية والمسيحية المعتمدة على الدين تم تأسيسها في البنى الاجتماعية وغرسها ذاتياً في شخصيات الأفراد إلى الحد الذي أصبح فيه طبيعياً اعتبار التزامات الفرد لأي من المجموعات الدينية أو للجماعات العلمانية الصورية متوافقة مع الأنماط المؤسسة للقيم ولا يمكن للمجتمع أن يقوم من دون هذه الرابطة المشتركة للقيم المعتمدة على الدين) (7)(49/198)
لا شك في أن هناك من يخالف هذه الوجهة تحرزاً من إقحام الدين في قضية تستهدف إدماج أناس ينتحلون أدياناً وثقافات مختلفة ، حيث يرى بعض أصحاب هذه الوجهة أن الديمقراطية بقيمها المشتركة كافية لتمثيل قاعدة ترتكز إليها المواطنة .
والملاحظ أن الطرح الثاني لم يبعد عن الأول إلا في استبعاد مصطلح الدين وإلا فمن قال إن قيم الديمقراطية ذات المنشأ والوجه الغربي قيم مشتركة ؛ أي إنسانية ؟ والواقع يشهد أن القيم ذات البعد الديني حتى وإن كان هذا البعد مضمراً هي الموجهة لحياة الإنسان في المجتمعات الفاعلة في حضارة اليوم لهذا لم يك مستغرباً أن تنضم دول لم تنفك من الشيوعية إلا قبل سنوات للاتحاد الأوربي بسرعة مذهلة - وهو الاتحاد الذي يسعى الآن لصياغة نمط من المواطنة عابرة للقوميات الخاصة - فرنسية وألمانية ... إلخ - بينما ظلت تركيا - ذات الخلفية الإسلامية - الهائمة بالانضمام لهذا الإتحاد تلهث منذ عقود نحوه وكلما قاربت أبرزت عوائق جديدة في وجه هذه الانضمام .
هذه الحقيقة - حقيقة أن المواطنة تتشكل من القيم السائدة في المجتمع - بحيث يتجاوب معها الجميع ، وتقوم هي برعاية الجميع حتى من غير اتباع تلك القيم هي التي جعلت عدداً من الباحثين في مسألة المواطنة في الإسلام يرفضون اتهام بعض المستشرقين مثل (برناردلويس) الذي يؤكد أن مفهوم المواطنة غريب تماماً على الإسلام بحجة أن لفظة مواطن بالمفهوم الغربي الذي يعني المشارك في الشؤون المدنية غير موجود في اللغة العربية(8) .
رفض باحثون عرب هذه الاتهام وبينوا أن هناك لفظة تحمل مضمون المواطنة من حيث هي حقوق وواجبات متبادلة بين عناصر المجتمع ، هذه اللفظة هي (مسلم) ؛ ومن ذلك ما رآه طارق البشري من قيام مفاهيم المواطنة التي تبناها النظام العالمي على الترابط التاريخي بين أهل إقليم معين يكون هذا الإقليم أساساً للعضوية فيها واستثناء غيرهم من حقوق المواطنة كذلك في الإسلام حيث يستند المفهوم الإسلامي للجماعة السياسية على الدين بحيث يكون إسلام الشخص مؤهلاً إياه للتمتع بحقوق المواطنة .
ويبرز الأستاذ عبد الوهاب الأفندي هذه القضية قائلاً : ( إن مطابق الكلمة العصرية (مواطن) في المصطلح الإسلامي القديم هي كلمة (مسلم) وليس (مواطن) (ويرجع ذلك إلى أن هوية المجتمع الديني والسياسي في بدايات المجتمع الإسلامي كانت من المسلمات حيث يتمتع الفرد بحكم كونه مسلماً بعضوية فورية وكاملة في المجتمع السياسي وبالمعنى الإيجابي ، بل و (الجمهوري) للمواطنة النشطة ، يحمل الحديث الشريف المشهور هذا المفهوم (المسلمون ذمتهم واحدة ، ويسعى بذمتهم أدناهم ومن حقّر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (رواه البخاري ومسلم ) ويقول المعلق على البخاري بأن لفظة "المسلمين" تشمل نظرياً النساء والأطفال (9).
وخلاصة القول أن المواطنة في صيغتها المعاصرة تركن إلى قيم ذات بعد تراثي (ديني) لأهل المجتمع أو لغالبيتهم ، وأن المواطنة في الإطار الإسلامي تركن إلى قيم الإسلام التي تحدد الحقوق والواجبات المتبادلة في مختلف الدوائر - التي يعنينا منها هنا دائرة الوطن - فإن كان مواطنو المجتمع كلهم مسلمين فالأمر واضح في تساويهم في الحقوق والواجبات المتبادلة بينهم وبين دولتهم ، وإن كان في المجتمع أقلية غير مسلمة فمن حق هذه الأقلية التمتع بحقوق المواطنة ارتكازاً للقيم الإسلامية التي تحمي حرياتهم الدينية ومصالحهم المادية والسياسية دون غبن أو جور وقد شهد التاريخ بالموقع المتميز للأقليات في المجتمع الإسلامي ، بل إن الملاحظ أن حقوق المسلمين في مجتمعات كثيرة في تاريخهم قد قيدت أو صودرت خلافاً لحقوق غير المسلمين .
وإذا كانت المواطنة في ظل تداعيات العولمة الراهنة والتغيرات العالمية تمر بمرحلة مراجعة تستهدف كسر حاجزها القومي ، إذ كما يقول أحد علماء الاجتماع الفرنسيين في كتاب عنوانه ( ما المواطنة - باريس 2000) : لماذا ترتبط المواطنة بالقوم أو بالوطن الخاص؟ ما الذي يمنع من أن تضيق نحو مواطنات أصغر نحو الجماعات الفرعية ذات الجامع اللغوي أو العرقي ، وما الذي يمنع من أن تتوسع نحو مواطنة عابرة للقوميات الوطنية(10) .
وهذا المسار هو الذي تسعى القوى الفاعلة اليوم لتوظيفه لمصالحها حيث تتكتل القوميات في العالم المتقدم (الاتحاد الأوربي مثلاً) بينما يجري تفتيت الأمم الأخرى ومنها الأمة الإسلامية نحو وحدات أصغر وأضعف .
والإسلام لا ينظر إلى المواطنة بمفهوم (إسلامية المسلم في مجتمعه الخاص ) على أنها حركة مغلقة ، بل هي حركة منفتحة ؛ فإقامة المجتمع المسلم المتماسك يستهدف الانفتاح على ما وراءه انفتاحاً إيجابياً إلى المجتمعات المسلمة للتوحد معها والإسهام في حمل همومها ، وإلى المجتمعات الأخرى للإسهام في إعلاء القيم الإنسانية التي تحقق للعالم تعايشاً سلمياً وتفاعلاً حضارياً نافعاً .
تمثلات المواطنة إسلامياً بين قطاعات المجتمع :
في أي وطن ، تتمثل العناصر الكبرى التي تتبادل الحقوق والواجبات ، وتقوم بينها المواطنة في ثلاثة:
• الشعب .
• المؤسسات .(49/199)
• الدولة .
المواطنة بين أفراد الشعب :
مدنية الإنسان ؛ أي ارتباطه بالناس الآخرين بعلاقات تبادلية ، تتجاوز صورتها الفطرية لتصبح ضرورة حياتية بل وجودية بالنسبة لهذا الإنسان ؛ لهذا نجد أن أشد المذاهب مغالاة في فردية الإنسان تعترف بضرورة وجود قيم تنظم علاقات هؤلاء الأفراد فيما بينهم حتى تحتفظ فردياتهم بأعلى قدر من التحقق .
والإسلام يجعل العلاقات التي ينظمها في المجتمع وغيره مع حسن علاقة المسلم بربه ، و الوفاء بعهده سبيل فلاح الإنسانية ، وبالمقابل يجعل إهدار الحقوق المرتبة على تلك العلاقات مع الإفساد في الأرض ونقض ميثاق الله سبباً في استحقاقهم مقت الله وسبيلاً للشقاء الأبدي.
يقول سبحانه وتعالى{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار* جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزاواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار * والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} الرعد 18-25 .
تتمثل الحقوق والواجبات المتبادلة على المستوى الشعبي في تشعبات كثيرة بحسب الصفة التي يأخذها شخص تجاه الآخر ؛ فهناك حقوق بين الوالدين وأولادهم وحقوق بين الزوجين ، وحقوق بين الأرحام ، وحقوق بين الجيران ... إلخ .
هناك أيضاً حقوق تتداخل مع هذه ولكنها تصاغ على مسارات أخرى مثل حقوق البيت ، وحقوق الشارع، وحقوق المسجد وحقوق دور العلم ، وحقوق السفر والحضر .. إلخ . وما هو أوسع هناك الحقوق العامة المؤكدة بين عموم أفراد المجتمع لأنها أساساً حقوق عامة بين المسلمين لكنها بصفتها سلوكيات تتركز فيمن يعايشهم الإنسان أي أبناء مجتمعه وإذا شئنا نماذج منها مما جاءت به النصوص فإن من ذلك ما جاء في قوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون * يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون*يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} الحجرات 10-12 .
وقول صلى الله عليه وسلم ( حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس) . وقوله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة) (11) .
وعلى هذا نقول : إن من المهم للارتقاء بالعلاقات بين الأفراد الذين يجمعهم مجتمع مسلم إلى المستوى الإنساني ، المحقق للسعادة ، أن تتجلى فيها الأخلاق التي شرعها دين الإسلام بين المؤمنين عموماً ، ومنها الأخلاق التالية :
- الولاء الذي ينعقد برابطة الإيمان بين المؤمنين ، وهو الذي على أساسه تتشكل البنية العضوية المتماسكة للمجتمع المسلم ، وبالتالي للأمة الإسلامية ، وبضعفه تفسد حال الأمة ، ويندثر وجودها الحضاري . ولهذا قال سبحانه وتعالى في سورة الأنفال : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) الأنفال 73 . قال الشوكاني : (قوله : إلا تفعلوه ، الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم .. وترك موالاة الكافرين ) (12) .
- الألفة والتواد والتعاطف ، حيث تسود العلاقات بينهم روح تقارب نفسي وعملي إيجابي يشد بعضهم إلى بعض شداً إيمانياً إنسانياً حقيقياً ، لا مصلحياً أو مظهرياً فقط، وقد أوضح ذلك الرسو صلى الله عليه وسلم في تشبيه بليغ ، في قوله عليه الصلاة والسلام : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (13) .
- النصيحة ، وهي كلمة جامعة تقتضي السعي بكل ما فيه مصلحة للمنصوح له ، وليست مقصورة على الإرشاد نحو أداء عبادة متروكة ، أو ترك منكر مقارف.
وقد كان من عناصر المبايعة التي بايع الصحابة صلى الله عليه وسلم عليها : (النصح لكل مسلم) (14) . وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن صلى الله عليه وسلم قال : (الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ، والمسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يكذبه ، ولا يظلمه وإن إحدكم مرآة أخيه ، فإن رأى به أذى فليمطه عنه) (15) .(49/200)
ومن صور النصح فيما بين المسلمين : (إرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخراهم ، وكف الأذى عنهم ، وستر عوراتهم ، ودفع زلاتهم ، وإبعاد المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر برفقٍ وإخلاص ، والشفقة عليهم ... ) (16).
- الإصلاح بين الناس ، وإزالة أسباب الفرقة والنزع والشقاق بينهم ، والمبادرة إلى احتواء التنافر والخصام إذا حدث ، ومنعه من أن يتطور ، وقد جعل الإسلام خصلة الإصلاح من أفضل الأعمال ، فالله يقول في كتابه { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} النساء 114.
- النصرة : فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصره بما يستطيع من قدرات وإمكانات، والنصر شامل للجوانب المادية والمعنوية ، فكما يجب عليه نصره عندما يظلم في أمر مادي ، يجب عليه أن ينصره إذا وقع عليه ظلم أدبي ، كالغيبة والنميمة، وتشويه السمعة ونحوها.
والنصر للمسلم مطلوب من أخيه على أية حال ، ولهذا قا صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قال رجل : أنصره إذا كان مظلوماً ، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال : تحجزه وتمنعه من الظلم ، فإن ذلك نصره) (18) .
- ومن ذلك أيضاً : سائر الأخلاق الإيمانية ، التي جعلها الشرع من صفات المؤمنين ، مثل صدق الحديث ، والوفاء بالعهود ، وأداء الشهادة بالحق ، والعدل في التعامل ، والعفة والحياء ، والتواضع ... إلخ .
- وكذلك الآداب العملية التي تقتضيها حركة الحياة اليومية بين الناس ، مثل : آداب التعامل المالي ، وآداب الصحبة ، وآداب الشارع والبيوت ، كالاستئذان للدخول ، وعدم التلصص عليها ، وستر ما يراه مما تضر إشاعته بأخيه ، واحترام الكبير ، والعطف على الصغير.
ومثل ذلك أيضاً : الآداب الواردة في الأحاديث الجامعة ، كالواردة في حديث:( أمرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم بسبع:أمرنا بعيادة المريض ، واتباع الجنائز وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، أو المقسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي،وإفشاء السلام) (19).
ثم إن القيم الخلقية التي شرعها الإسلام لتكون قواعد موجهة وضابطة للحياة الإسلامية تتمثل بصورتها المباشرة في هذه العلاقات بين أفراد المجتمع سواء كانت من المطلوبات كالصدق والعدل والحياء والإحسان ، والتعاون على البر والتقوى ، والإكرام ، و النصيحة أو كانت من القيم المنهي عنها كالغش والغل والتعدي على حقوق الآخرين والتكبر على الناس ، والاتهامات الباطلة ، والتلصص على العورات .. ونحوها مما جاء النهي عنه في الشريعة .
وهي قيم باستطاعتها لو استطاع النظام التربوي غرسها في نفوس الناشئة وبناء شخصياتهم عليها أن توجد مجتمعاً تتلألأ إنسانيته في أعلى درجاتها ، ويتناغم أفراده نفسياً وفكرياً وحركياً بأرقى صور الكمالات البشرية .
الشعب والمؤسسات الوطنية :
المؤسسات شخصيات اعتبارية ذات أهداف ربحية أو خيرية ، ثقافية أو اجتماعية ، قد تكون أهلية بحتة ؛ تابعة لمؤسسات الدولة الرسمية ولكن بشيء من الاستقلال النسبي .
هذه المؤسسات حال وسط بين الأشخاص أو أفراد الشعب ، وبين الدولة بما هي سلطة حاكمة .
بين هذه المؤسسات والشعب حقوق متبادلة كما الشأن بين أفراد الشعب نفسه :
فمن حقوق الشعب على هذه المؤسسات الصدق وعدم الغش فيما تقوم به من أعمال فقول صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا)(20) تدخل فيه المؤسسات كما يدخل فيه الأفراد ، بل إنها تدخل في حديث (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)(21) فهذا الحديث وإن كان يتجه بشكل مباشر إلى ولاية الحكم إلا أن عمومية اللفظ تشمل المؤسسات التي لها سلطة تتمثل في قدرتها - خاصة الربحية منها - على تحقيق مصالحها على حساب الأفراد استغلالاً واحتكاراً ودعايات مضللة - ، وبالذات إذا كانت الدولة في حالة عجز عن فرض قوانين العدل على هذه المؤسسات ، أو كانت تحمي هذه المؤسسات قوانين فوق الدولة وفق ما تتجه له حركة العولمة الاقتصادية في زمننا - .
ومن حقوق الشعب على المؤسسات أيضاً الإسهام في التنمية الوطنية ، والمبادرة إلى الأعمال الإغاثية ، وعدم مصادمة قيم المجتمع بممارسة أو ترويج ما يسيء إلى دين أو تقاليد الوطن المتواطأ عليها ، من حقوق الشعب أيضاً على هذه المؤسسات أن توجه زكاتها التي تخرجها موسمياً إليه بحيث لا تخرجها من الإطار الوطني إلا في حال الاستغناء عنها وفق دراسات مسحية كافية ويؤخذ هذا من قول الرسو صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أرسله إلى اليمن (وأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)(22) حيث أخذ بعض العلماء من قوله فترد على فقرائهم (ترك النقل - أي نقل الزكاة إلى وطن آخر - فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح - ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها) (23)(49/201)
أما حق هذه المؤسسات على المواطنين فمن أبرز ما يتمثل به عدم الحقد عليها ، أو الإساءة لها بما يشوه صورتها كبث دعاية مغرضة ضدها ، وتفضيلها على غيرها من المؤسسات غير الوطنية عند التساوي بينها في منتجاتها ، ورفض الأعمال التخريبية التي تستهدفها كأعمال التطرف والإرهاب التي تسعى لتدمير المؤسسات الوطنية ، وكذلك الإخلاص عند العمل فيها ، ومواصلة نصح القائمين عليها بما يحقق المصالح العامة مباشرة عن طريق وسائل الإعلام أو غيرها .
الشعب والدولة :
الحقوق المتبادلة بين الشعب من جهة والدولة من جهة أخرى هي مدار ما يسمى الآن بـ (المواطنة ) من حيث هي حقوق متبادلة بين الطرفين .
وفي هذا الإطار ورد إنكار بعضهم - كما سبق - لهذه الحقوق في الإسلام لعدم وجود لفظ (مواطن) بمعنى شخص يشارك في شؤون وطنه ، بل يوجد لفظ يعطي المعنى المقابل - كما يتصور بعض هؤلاء - وهو لفظ (رعية) الذي يطلق على الشعب مقابل (الراعي) الذي يطلق على السلطة السياسية - الحاكم ، ولفظ الرعية يطلق أساساً على الماشية التي يوجهها الراعي كيفما يريد .
لقد أسلفت تأكيد كثير من المفكرين المعاصرين على أن مقابل (مواطن) المعاصرة هي (مسلم) وفق مضمونها الإسلامي الذي يعني شخصاً له حقوق وعليه واجبات تجاه ما يحيط به من أشياء الوجود ومنها قطاعات المجتمع التي منها الدولة .
فضلاً عن هذا فإن التعامل مع لفظ (رعية) بهذا السلق السريع والدعوة إلى أن تخرج الشعوب المسلمة من كونها رعية لتكون مواطنة غير سديد ؛ إن الألفاظ العربية لا تبقى في حدود إطلاقاتها الأولى وإنما تتطور لتتضمن معاني تناسب الصياغات التي تندرج فيها ؛ إن لفظ (الرعية) في الصيغ الشرعية تتضمن معنى حق المرعي على الراعي بالعدل والقيام بالحق وإيفائه حقوقه التي شرعها الإسلام له ، فالنص الشرعي وهو نص ديني عماده التوجيه الخلقي قبل التشريع القانوني يوجه الراعي أن يتحمل مسؤولية إقامة حقوق الرعية تديناً لله وطلباً لرضوانه ، ولنتأمل حديث المسؤليات الذي يقول فيه الرسو صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الاعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ؛ ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (24) .
ولأن المسلمين فهموا مثل هذا النص في جوه الديني العام لم ترد عندهم تلك الصورة البشعة التي تمنح الراعي التلاعب بمصائر رعيته كما الراعي بأغنامه ، إن الذي فهموه عكس ذلك تماماً لقد فهموا أنه دليل على عظم حقوق الرعية وخطورة مسؤولية من تهيأ له إمساك زمام الحكم عليها بل فهموا منه أن الراعي ليس هو الأصل بل الرعية ، وأن الراعي مجرد وسيلة لإقامة حقوق هذه الرعية ،ولنأخذ من كلام هؤلاء العلماء ما نقله ابن حجر في شرح هذا الحديث :
(الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه) ونقل عن الطيبي قوله ( إن الراعي ليس مطلوباً بالذات وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألاّ يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه) (25)
مسألة أخرى ، هي الإصطلاح الجاري عند الحديث عن العلاقة بين الدولة والشعب في قضية المواطنة وهو مصطلح (الحقوق) في إطار الفكر المعاصر ، بينما في الإسلام الحديث عن واجبات، وللأسف أنه من خلال استثمار جرس الألفاظ : حقوق ، واجبات ، تقلب الحقائق بحيث يُصور أن هذا يعني عدم وجود حقوق إسلامية في هذا المجال .
وإذا وعينا أساس ارتباط كل من القضيتين (الحقوق والواجبات) بمنطلقها (المواطنة الليبرالية والإسلام ) ، وعرفنا - أيضا - مدى انحصار دلالة اللفظة في منطوقها أو استيعابها لمقابلها ؛ إذا وعينا وعرفنا ذلك أدركنا القيمة الحقيقية لهذين المصطلحين.
فأما وجه الارتباط - بين مصطلح الحقوق والمواطنة الليبرالية فهو عدم وجود مصدر يتجاوز هذين الطرفين يمنح الحقوق ، ومنطق وجود طرفين يتنازعان مصالح بينهما أن يتم انتزاع كل طرف مصالحه من الآخر بحسبانها حقوقاً له إما بأصل وجوده ، أو بالعقد الرابط بين الطرفين .
وهذا خلاف الأمر في الإسلام فمصالح أطراف الوجود الاجتماعي منطلقها هو الله فهو الذي أوجد هذه الأطراف وهو الأعلم بمصالحها ومن ثم المحدد لها والملزم بها ، فالمصلحة التي للفرد على الدولة ، ومقابلها مصلحة الدولة على الفرد هي مطلوبات شرعية من قبل المصدر الذي يخضع له أطراف المجتمع المسلم كلهم حكاماً ومحكومين، والإخلال بها يعرض صاحبه قبل الجزاء القانوني الدنيوي إلى غضب الله واستحقاق عقابه ، من هنا كان لفظ واجبات أصدق إسلاميا ، وأقوى أثراً نفسياً من لفظة حقوق.(49/202)
أما انحصار أي من اللفظين في منطوقهما المباشر بحيث أن الحقوق لا تدل على الواجبات والواجبات لا تعني الحقوق فخطأ واضح ، إن الحقوق في المواطنة الليبرالية تعني أنها إلزامات للطرف المقابل لصاحب هذه الحقوق ، فحق المشاركة السياسية للمواطن - مثلاً - تلزم النظام السياسي بأن يضع الآليات التي تمنح المواطن التمتع بهذا الحق .
والأمر نفسه بالنسبة للواجبات في الإسلام بين أطراف المجتمع ، إنها واجبات من حيث أمر الشريعة بها ، وهي حقوق متبادلة بين هذه الأطراف.
والحقيقة أن القيمة ليست في المصطلحات بذاتها وإنما في المضامين التي تحملها ثم في تجليها في الواقع العملي في الحياة .
حقوق الشعب (المواطنين) على الدولة :
من أبرز هذه الحقوق :
v أن يكون الحكم وفق المنهج الذي يرتضيه الشعب وهو بالنسبة للمجتمع المسلم تطبيق شريعة الله والحكم بما أنزل في وحيه .
v النصح لجميع أفراد الرعية ، وعدم غشهم بأي صورة من صور الغش الثقافي أو الاجتماعي جاء في الحديث الشريف ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) (26).
v تحقيق القيم الإسلامية كالعدل والمساواة من خلال أنظمة شاملة لجميع المواطنين .
v تحمل المسؤولية أمام أعداء الوطن .
v تهيئة الفرص لأفراد الشعب للقيام المعاشي والمعادي .
v حمل رسالة الإسلام عالمياً .
v مباشرة مؤسسات الدولة الواقع الاجتماعي تصوراً وإصلاحاً وارتقاء به ونحوها مما بحثه العلماء المسلمون في وظائف الدولة في الإسلام مستشهدين عليه بالنصوص الشرعية(27) .
أما حقوق الدولة على المواطنين فمن أهم ما تتمثل به:
البيعة: وهي تمثل تعاهداً بين المواطنين وحاكمهم على أن يحكم فيهم بالشريعة وأن يقيم الحق والعدل ، على أن يكونوا أوفياء للنظام مغلبين المصلحة العامة التي تتبناها الدولة على المصالح الجزئية الذاتية ، والبيعة بالتالي ليست مجرد توافق يتم وينسى ، إن المطلوب شرعاً أن تظل ملازمة شعورياً ومن ثم حركياً للمواطن في كل أحواله .
• الولاء للدولة بحسبانه ولاء للإسلام الذي تتبناه الدولة تطبيقاً ودعوة .
• الإخلاص في العمل للدولة سواء من خلال مؤسساتها أو مؤسسات المجتمع المدني.
• الإسهام في بناء وتنمية الوطن .
• النصح والسعي للإصلاح بالطرق السلمية التي لا تهز استقرار الوطن ودولته .
• الدفاع عن الوطن ضد أعدائه .
• التمثيل الجيد للدولة والمجتمع خارج حدوده .
بناء المواطنة تربوياً :
لم يكن هناك إغفال لبناء المواطنة في المناهج التعليمية ، إذ كانت منبثة في ثناياها ، لكنها اتخذت صوراً تقليدية خاصة وأنها مندرجة في المواد الشرعية حيث تأتي على صورة قيم خلقية ومطلوبات دينية - ومعلوم أن عامة المطلوبات الدينية ذات عموم - دون ربط لها بالإطار الوطني ، لا أقصد حصرها فيه ، و لكن بيان الجانب التطبيقي لها في دائرة الوطن وهي الدائرة الأولى لأغلب تلك المطلوبات ؛ فقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) شامل لكل المسلمين في كل مكان ومع أي إنسان مسلماً كان أو غير مسلم ، لكنه واقعاً يتبلور في المجال الوطني بأوضح صوره وأولها ، ونهيه سبحانه عن التنازع والتقاطع أيضاً عام ولكنه يصدق بالدرجة الأولى المباشرة على الناس الذين يضمهم مجتمع واحد .
إن المطلوب هو تفعيل قضية المواطنة مستلهمة من الشريعة ومصبوبة في قوالب معاصرة ، فالناس الآن لا يعيشون مع القرآن فقط ولا مع كتب الآداب التراثية وحسب ؛ إنهم يعيشون عصرهم بصيغه الحضارية في حقوق الإنسان ، والمواطنة وغيرها ، ومن ثم يحتاجون خطاباً مواكباً لعصرهم ، حيوياً، يصوغ الفكرة ومن ثم يحدد الموقف ليحقق مواطنة تجمع بين الإسلامية والعصرية في آن .
إن أهم مرحلة لبناء (المواطنة الفاعلة) ولسائر القيم هي مرحلة الطفولة والنشوء التي تجعل الشخص يعيش المواطنة فكرةً ووجداناً ، فكم هم الذين استوعبوا الوطنية فكراً ويصيحون بها ولكنهم في واقع حياتهم لا يكترثون بها ، بل ربما استغلوها لتحقيق مصالحهم الأنانية ، إن السبب أن هذه القيمة (المواطنة) لم تحتل وجدناهم منذ الصغر بحيث يشعرون أنها الأصل بالنسبة لوجودهم أكثر من شخصياتهم وأن قيمتهم وعزهم يكون بالتضحية لها فضلاً عن بذل الطاقة لخدمتها.
لن أكتب خطة ريادية لبناء المواطنة تربوياً فهذا ما لا يمكن أن يقوم به فرد ، ولكني سأشير إلى بعض العناصر التي لا بد منها لتحقيق بناء المواطنة في الميدان التربوي ، تقوم هذه العناصر في المنهج المدروس ، وفي تدريس المعلم ، وفي أنشطة المدرسة غير الصفية .
v الربط الوثيق لعناصر المواطنة بالدين لاستثمار توهج الاستجابة لمطلوب الدين في خدمة الوطن ، وليس في هذا استغلال للدين في خدمة أهداف غير دينية ، إن القيم المطلوبة من المسلم حاكماً أو محكوماً ؛ فرداً أو جماعة هي القيم المطلوبة لتحقيق المواطنة النافعة في مجتمعنا السعودي المسلم الذي يتماهى وجوده السياسي والحضاري مع الإسلام - كما سبق - .(49/203)
v على أنه ينبغي أن ندرك أن تدريس الدين في بعض الجوانب يحتاج إلى تفعيل يتجاوز به الجانب التجريدي - التنظير- إلى الجانب الحيوي المرتبط بوضع الناشئ في هذا العصر في مثل قضايا : التوحيد ، والولاء والبراء ، والقيم الخلقية ونحوها - بحيث يعطيه المقرر مسالك تحقيق هذه القضية تحقيقاً سليماً في إطار السقف الحضاري والمعرفي الذي يعايشه ، والوضع الاجتماعي الذي يعيشه .
v ولأن المملكة - بمناهجها التعليمية - تتبنى المنهج السلفي الذي بعثته دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فإنه وفاءً لهذا المنهج ، واستجابة لضرورة التغير الذي حدث للمجتمع والأمة ينبغي تحريره - أقصد المنهج السلفي - لتحديد الموقف الثقافي - الذي يرسمه في ظل الوضع الحضاري الذي نعيشه والامتزاج الثقافي لمجتمعنا مع المجتمعات الأخرى إسلامية وعالمية في ظلال العولمة ، حتى لا يتحول هذه المنهج إلى تراثٍ ماضٍ مقطوع الصلة بالحاضر ، أو إلى رموز تعبوية قابلة لأن تحمل من التأويلات التطبيقية ما يأتي بنتائج سلبية .
v وينبغي أن تُنَزَّل المطلوبات والمصطلحات الشرعية على ما هو قائم في الخطاب المعاصر ، وما هو متداول في الساحة الثقافية والاجتماعية ليتفاعل الطالب مع توجيهات دينه في حركة حياته الجارية .
طبعاً لا يعني هذا تمييع المصطلحات الشرعية لحساب مصطلحات مستحدثة ، فالحقائق الشرعية هي الاصل لعصرنا ومجتمعنا، و للعصور والمجتمعات الأخرى ، المراد هو أن نفسر الحقيقة الشرعية بالمصطلحات العرفية التي تجعل الطالب يدرك الصور التطبيقية في واقعه لتلك الحقيقة الشرعية ، مثلاً في الشرع ذم للنفاق بكل صوره العقدية إضماراً للكفر وإظهاراً للإسلام ، والخلقية (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ...الحديث) (28) وتحقيق مصالحه عبر التلون الاستغلالي للناس(إن شر الناس ذو الوجهين..) (29) في وقتنا يوجد مصطلح الانتهازية الذي يدرك الناس تمثلاته سواء على مستوى أفراد العموم أو على مستوى المثقفين والساسة الذين يتنكرون للمبادئ التي يدعون إليها قبل وصولهم لمناصبهم . مثل ذلك الأثرة المقابلة للإيثار ، والأثرة بما تنطوي عليه من شح وبخل وحسد للآخرين أن ينالهم الخير ، هذا المصطلح يرادفه مصطلح الأنانية ، ... إلخ .
? من العناصر المهمة أيضاً في الربط بين معطيات العصر ومطلوبات الشرع، الحقوق؛ حقوق المواطنة ذاتها .
أوضحنا فيما سبق أن تركيز الاتجاه الليبرالي على (الحقوق) دون الواجبات جاء تبعاً لفلسفة الاتجاه التي ترى أن طرفي المعادلة : الدولة والشعب متعادلان وأنهما يتنازعان هذه الحقوق ومن ثم يتقاسمانها ، وليس هناك سلطة عليا تمنحها تلك الحقوق ، وأن الإسلام عكس ذلك فمصدر تلك الحقوق هو الله هو الذي منحها عباده ، وزاد تفضلاً بأن جعلها التزاماً أمامه من قبل من هي مطلوبة منهم فهي واجبات قبل أن تكون حقوقاً .
هذا ما سبق ، لكن ما يحسن تأكيده هنا هو أن هناك خللاً بين طرفي المعادلة - الدولة والشعب - في هذه الحقوق مقارنة بما هو سائد في المواطنة المعاصرة ، حيث الصوت العالي هو لحقوق الدولة على المواطن - عند المسلمين - مع خفوت لحقوق المواطن على الدولة ليس في الإعلام السياسي فقط بل وفي مدونات السياسة الشرعية ، ربما تم ذلك لمقتضيات تاريخية عند المسلمين ، وربما كان استناداً لكون الحقوق العامة هي الأصل فَوضْعُها بإزاء حقوق الحاكم التي هي حقوق استثنائية إزراء بها، أو لأن الدولة كانت في عصور الإسلام الأولى لما تزل في إطار المشيخة القبلية ولم تتحول إلى مؤسسات تصرِّف تفاصيل شؤون الحياة ، أو لغير ذلك من الأسباب ، لكننا في هذا العصر ، ونحن نسعى لبناء حضاري ذي وجه إسلامي ينبغي أن نتحرر من تحكم ظروف تاريخية مضت لنعود لمصادر الإسلام الأساس وهي القرآن والسنة وهدي الخلفاء الراشدين لنبني من خلالها وفي مواكبةٍ لمعطيات العصر الإيجابية في هذا المجال مواطنة متوازنة الحقوق والواجبات بين عناصر المجتمع ، لتستطيع من خلال موازنتها بحقوق المواطنة المعاصرة تحقيق تفوقها المقنع لفكر الناشئ المشبع لمشاعره الإيمانية .
والمفترض ألاّ تبنى المناهج على ردود أفعال تجاه الأحداث العينية ، بحيث إنه كلما وقعت مشكلة أو برزت ظاهرة طلب أن يزاد في مفردات المناهج ما يعالجها، ينبغي أن تبنى المناهج على المضامين الكلية التي تعطي الطالب في قضية ما أسسها العامة ، وتوصيفها الواقعي ومنطلقاتها التنفيذية ، بحيث تجعل شخصيته قادرة على معالجة كل ما يعرض له من مفاجئات العصر .
ولعل هذا السبب من الخلل في مناهجنا - ضمن أسباب أخرى لا ريب - هو الذي يجعل أبناءها على الرغم من كثافة المعطى الديني والثقافي في المناهج من غير حصانة أمام الاختراق ، وبلا قدرة على الفرز للضخ العولمي بالدرجة المطلوبة للمسلم الفقيه في دينه الواعي لعصره ، المستبصر لحركته فيه.(49/204)