إن جوهر الإسلام هو العدل أو بحسب التعبير القرآني "ليقوم الناس بالقسط"، فيأتي الإسلام ليوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، وينظم هذه العلاقة من خلال نصوص12، سواء أكانت قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، أو ما هو دون ذلك، أو ما هو في منطقة المباح.
وهكذا سنجد أمامنا ثلاثة أفكار مركزية كبرى. تطرح كل منها كلمات مثل الحرية والمساواة والتعايش والتراضي والحوار والدستور وغيرها. لكن ما الذي يفرق بين هذه الأفكار؟
الحقيقة أن هذه الكلمات كالحرية والعدل والمساواة عندما تُجرد بمثل هذا الشكل تسمى مفاهيم. وهذه المفاهيم في حد ذاتها ليست موضع خلاف13. ولكنها تحدد من خلال الفكرة المركزية وتصطبغ بها، ومن هنا يأتي الخلاف.
ولنفهم هذا الموضوع نضرب مثلاً بالحرية. وابتداءً نطرح هذه التساؤلات:
* متى تمنح الحرية؟؟
* كيف تمنح؟؟
* ما هي السعة التي يتحرك فيها الإنسان؟؟
* من يحدد هذا السقف؟؟
سنجد أن هذا السقف في الإسلام يحدده الله سبحانه وتعالى، بينما يحدده الإنسان في كل من الشيوعية والليبرالية.
إن الإطار المرجعي أوالفكرة المركزية لكل مجتمع أو لكل أمة من الأمم هو الذي يصبغ هذه المفاهيم بصبغته، ويكون التصورات لدى هذه الأمم عن تلك المفاهيم. والإطار المرجعي لدى الغرب يتمثل في فكرة الليبرالية، ولدى المجتمعات الشيوعية يتمثل في الماركسية، ويتمثل في الإسلام لدى المجتمعات المسلمة، وهكذا.. وهذا الإطار المرجعي هو من صنع الإنسان في الشيوعية والليبرالية، أما لدى المجتمعات المسلمة فإنه من الوحي.
فإذا قال قائل: إن هناك مفاهيم كثيرة في التراث الإسلامي تشغب على نصاعة الإسلام، وعلى صورته الوردية التي يرسمها دعاة الإسلام!!
نقول له أنه لا يلغى الفكرة الإسلامية بعض الأفكار أو المفاهيم التي دخلت على الفكرة الرئيسة عبر القرون المتطاولة، بل يجب إزالة هذه الحشائش الضارة من هذا التراث الضخم، وأن يؤخذ منه ما هو متفق مع نصوص الإسلام الصحيحة السليمة، وما هو متفق مع أسمى وأنبل ما في
البشرية من أخلاق وقيم.
الإسلام فكرة مركزية من باب الدين و المصلحة
نحب أن نوضح لكل تيارات الأمة أن اختيارنا للفكرة المركزية في مجتمعاتنا الإسلامية ليس فقط من باب الدين - وإن كان هذا هو غاية المنى وأسمى اختيار - إنما هو أيضاً من باب المصلحة. فعلماء الإدارة حين يتحدثون عن التنمية والتغيير في المنظمات والمؤسسات والدول ينصحون بأن يكون متفقاً مع المنظومة القيمية الأساسية داخل هذه المنظمة. وأنه في حالة اختيار منظومة قيمية نقيضة للمنظومة السائدة في هذه البيئة فإن حركة المقاومة ستكون أشد وأعنف. وبالتالي فإن اختيار الإسلام كفكرة مركزية في مجتمعاتنا الإسلامية يسهل عملية التنمية والتغيير. كما أن الإسلام كعاطفة قوية في مجتمعاتنا كفيل بتحريك الشعوب وتحفيزهم للعمل والنهوض من أجل تحصيل الجزاء الأخروي.
ولقد فطن المخططون لقيام دولة إسرائيل إلى هذا الأمر. فرغم أنهم كانوا علمانيين إلا أنهم اختاروا فكرة مركزية دينية تقول بضرورة اجتماع اليهود على أرض الميعاد (أرض فلسطين). وعززوا الخطاب الديني لحشد اليهود من كل أقطار العالم، وسموا دولتهم "إسرائيل" وهو نبي الله يعقوب، فكان اسم الدولة اسماً دينياً، وبذلك فقد اختاروا الخطاب الديني من باب المصلحة.
إن الشيء الذي يجب ألا يكون محل خلاف هو أنه كلما كانت الفكرة المركزية لعملية التغيير متفقةً مع المنظومة القيمية في المجتمع المراد تغييره، كلما كانت عملية التغيير أسرع وأنجح.
إذا تبين لنا ذلك ورأينا أن المجتمعات الإسلامية تعمل جاهدةً على الخروج من حالة الرقود والسكون إلى حالة الحركة والتغيير، عرفنا أنها تحتاج إلى اختيار فكرتها المركزية. وهي قد اختارت بالفعل في مجموعها فكرتها المركزية، ولكن قوى الردة والمقاومة ما زالت تقاوم الفكرة المركزية الإسلامية؛ بل وتدفعها وتؤجلها، وتضربها وتؤخرها، لكنها قادمة بإذن الله سبحانه وتعالى.
إن سرعة اختيارنا للإسلام كفكرة مركزية يوفر علينا آلام التجارب الفاشلة التي قد نمر بها ونحن نحاول استنبات أفكار أخرى في مجتمعاتنا. ونحن قد عانينا بالفعل من هذه التجارب الفاشلة منذ ميلاد حركة النهضة في المجتمعات الإسلامية. و لا زالت تمارس - حتى اليوم - تجارب تلو تجارب، وأفكار تلو أفكار، وكلها تصطدم بالمنظومة القيمية المترسخة في مجتمعاتنا الإسلامية. وتكون النتيجة - بعد عقود من الزمن - خسائر وهزائم ونكسات وتراجعات.
مما سبق يتبين لنا أن كل عملية استنهاض في جوهرها تتبنى ما يمكن أن نطلق عليه فكرتها المركزية. ولكن هذه الفكرة المركزية لا تقوم بتحريك الناس مباشرة، فهي تحتاج إلى عامل آخر مكمل، يمكن أن نطلق عليه الفكرة المحفزة.
الفكرة المحفزة(43/26)
وجوهرها وجود قضية محورية تمس حياة الناس مباشرة. وهي تؤسس خطابها على البواعث الداخلية النفسية الدفينة، كالعزة الدينية،, والانتصار لمبادئ الإله، أو العزة القومية التي تخاطب المجد والسؤدد، وكالمثالية التي تريد حث الفقراء لمدافعة الظلم وتحقيق المساواة، ولكنها تتبنى قضية ملموسة بالنسبة للجمهور المخاطب. وتصبح الفكرة المحفزة هي المحور الذي يتم التركيز عليه لاستقطاب الناس
من خلال مخاطبة المعاني الدفينة، وطرح القضية المحسوسة الملموسة التي تقع في المجال الذي يرى فيه الفرد العادي دوره واضحاً وحاجته إليه ماسة. فيلتف الناس حول هذه الفكرة وينصرونها ويبذلون في سبيلها الغالي والنفيس.
إن الفكرة المركزية وحدها ليست كافية لتحريك الجماهير؛ بل لابد أن يصحبها فكرة محفزة من صلب الفكرة المركزية وتبني على تراثها. فموسى حرك قومه للخلاص من الاضطهاد بحلم الوصول إلى أرض العسل واللبن، أرض فلسطين. والرسول صلى الله عليه وسلم يحرك العالمين للخروج من جور الأديان إلى عدل الإسلام في واقع كان الظلم فيه سائداً. والمصلحون والثوار حركوا شعوبهم من خلال تبني قضايا مستقرة في احتياجات المجتمع وصاغوا منها خطاباً حاشداً للطاقات واضحاً غير معقد. فهذا مارتن لوثر كينج يقود حركة السود في أمريكا بطرح مطالب يستشعرها السود وتتفق مع قيم المجتمع الأساسية، وهي قضية المساواة. وقل ذلك على نيلسون مانديلا وعن حركات التحرير وحركات التنمية المركزة في الصين، حيث الشعور القومي يطالب بصين موحدة مكتفية حرة، لها مكانتها بين الدول، وفلاحين فقراء يستشعرون الظلم الاجتماعي.
مواصفات الفكرة المحفزة
1. فكرة مستقاة من الفكرة المركزية ومنطلقاتها.
2. فكرة غير مركبة وبسيطة جداً تستوعبها عموم الجماهير. مثل الفكرة المحفزة لخطاب الرسو صلى الله عليه وسلم الذي عبر عنه ربعي بن عامر "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، أو لمحمد بن علي مؤسس الدولة
العباسية "الحكم للرضا من آل البيت"، أو للشيوعية حين رفعت شعارات"نريد خبزاً"، "اتحدوا يا عمال الأرض"، أو لليهود "فلسطين أرض الميعاد". إن لمس حاجة المستهدفين بالخطاب هو أحد أهم مفردات النجاح.
مواصفات الفكرة المحفزة
مستقاة من الفكرة المركزية
غير مركبة تستوعبها الجماهير
تتعلق بصورة مباشرة بقضايا الناس
3. فكرة تتعلق بصورة مباشرة بقضايا الناس وهمومهم. ولذلك كان المستجيبون لدعوات الأنبياء والرسل والمصلحين في بداية دعواتهم هم ضعاف القوم الذين يجدون في الفكرة مخرجاً لهم، فيتحملون ويبذلون من أجلها.
ماذا لو غابت الفكرة المحفزة؟!
إن من أهم الأشياء التي يجب أن ينتبه إليها القائد أن تظل الفكرة المحفزة مستعرة في نفوس أنصاره، وأن يذكرهم بها ويؤكد عليها. أما إذا غابت الفكرة المحفزة عن أعين الأنصار، فإنهم يتفلتون وينفضون ويسئمون. فالفكرة المركزية ليست في حد ذاتها كفيلة بالحفاظ على حماس الجموع المحتشدة.
إن من أخطر الأخطاء التي قد يقع فيها قادة مشروع النهضة هي اعتمادهم على الفكرة المركزية في حشد الجماهير دون اختيار الفكرة المحفزة التي تلتقي مع تطلعات هؤلاء الجماهير وتضمن استمرارية الحشد وتعطي للعكل اليومي معناه.
ما هي الفكرة المحفزة التي تتوفر لدينا اليوم ويمكن أن تفجر بها طاقات الأمة؟
لا توجد اليوم أمة إلا وتخلق لها تحدياً يحفزها على النمو والتطور. وانظر إلى المنظومة الغربية عندما كانت تصطدم مع المنظومة الشيوعية، وكانت تجعل هذا حافزاً على التطوير والتصنيع والتنافس. وهكذا كان الخطر الشيوعي يُضخَّم في بلاد الغرب، لكي يتم استغلال أكبر قدر من الطاقات في هذه المجتمعات لعملية التحدي والارتقاء، مع أن كثيرين من المنظرين كانوا يعلمون أن هذه الكتلة كانت تتهاوى وتتراجع، وأن ملكاتها وقدراتها ليست على تلك الكفاءة من الإبداع. ولكن استمرت عملية
التحدي إلى أن سقط الاتحاد السوفيتي، وسقطت معه المنظومة الشيوعية. فبدأ البحث عن تحدٍ آخر يمكن أن يشكل حافزاً لهم، فتكلموا عن الخطر الأخضر( الإسلامي)، ونمّوا هذه الفكرة وطوروها وبنوا لها المعاهد ودارت عجلة البحوث.
هل نحتاج إلى خلق تحديات؟؟
إن عملية استنهاض طاقات أمة من الأمم تصبح في بعض الأحيان مسألة فنية تقنية، يعكف عليها العلماء والمفكرون، حتى يوجدوا تحدياً مناسباً لمجتمع من المجتمعات. ونحن في واقعنا لا نحتاج خلق التحديات. فالتحديات قائمة في مجتمعاتنا وفي مواجهتنا. وما زالت ثلاثية14 التحرير والنهضة والوحدة من أكبر المحفزات التي يمكن الاستفادة منها لإعادة بناء هذه المجتمعات، وتفجير طاقاتها. ولكن تكييفها وطرحها في الخطاب يحتاج إلى معرفة ارتباطاتها بالقضية القطرية المحلية، حيث أن نقطة الانطلاق
العملية لا تتم بخطاب لا يلمس الاحتياجات المحلية لكل قطر. وعلى الحركات والأحزاب والدول أن تختار خطابها الداخلي المفجر والحاشد للطاقات، لتوظفه في عملية النهوض والبناء.
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:(43/27)
فمعرفة القانون هي أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة وتشمل:
* معرفة منطوق القانون.
* معرفة الفكرة المركزية وهي الإسلام كنظام شامل والإلمام به كفكرة مركزية تصبغ كل شئون الحياة.
2. الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
تحديد الفكرة المركزية تحديداً دقيقاً وشرحها لقادة النهضة وطلابها والمثقفين في الأمة.15
تحديد الفكرة المحفزة الواضحة لجموع الأمة لحشدهم من أجل عملية التغيير ونهضة مجتمعاتهم.
الاستفادة من التحديات الثلاثة التي تواجهها الأمة - الاستعمار والتخلف والفرقة - في انتقاء الفكرة المحفزة.
3. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة:
اختيار فكرة مركزية من خارج ثقافة المجتمع (محاولة اسنبات الليبرالية والشيوعية في بلاد الإسلام).
اختيار فكرة محفزة لا تتعلق باحتياجات الجماهير وتطلعاتهم المحسوسة (برنامج سياسي لا يلامس الواقع).
إن أمتنا تتوفر لديها فكرة مركزية كبيرة لو أحسن التعامل معها. وفكرة محفزة قائمة يمكن البناء عليها في إطلاق طاقات مجتمعاتنا للنهوض بها، واستخراج أكبر ما عند الإنسان من مخزون مهاري وعقلي وعلمي، ومن جهد عبر استخدام هذا القانون استخداماً مدروساً.
إن تكييف الخطاب السياسي العام انطلاقاً من القضايا الثلاث الكبرى: الحرية والوحدة والتنمية يعني أن ينتقل بها لما هو محسوس. واليوم يمكن أن تُطرح نفس المواضيع من خلال شعار مثل "وحدة المصير"، حيث يرى كل العقلاء أن مشاريع الخلاص الفردي لن تجدي، وأن روح المرحلة هي فكرة وحدة المصير. وهذه أو غيرها قد تشكل قاعدة انطلاق للاحتشاد العام في الحالة الكلية للأمة.
أما الحالات القطرية فلكل منها خصوصيته مع وجود أوجه تشابه كثيرة بين الأقطار. وتستطيع أن تبني من القوى الفاعلة - سواءً كانت حركات أو أحزاب أو دول - قضية محفزة محورية وخطاب الجماهير بها حتى يمكن إطلاقها في ساحة الفعل النهضوي في المجتمع.
وهكذا لابد أن يتضح هذا القانون في أذهان قادة وطلاب النهضة. فلكل نهضة فكرة مركزية وفكرة محفزة.
بمنطوق القانون
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بالإسلام
تحديد الفكرة المركزية
كلما كانت من تراث وثقافة المجتمع كلما كانت أنجح
تحديد الفكرة المحفزة من تحديات الأمة
بحسن اختيار الفكرة مركزية
بحسن اختيار الفكرة المحفزة
معادلات القانون:
فكرة مركزية = أيديولوجيا تصبغ كل مجالات الدولة
فكرة مركزية = جزء صلب + جزء مرن
فكرة مركزية + فكرة محفزة = نجاح على مستوى الحشد
فكرة مركزية - فكرة محفزة = تفلت جماهيري
القانون الثاني
المكنة النفسية
(القوة الدافعة)
منطوق القانون
"لا تغيير إلا إذا حدث تغيير إيجابي في عالم المشاعر"
مفردات القانون
التغيير: عملية التغيير هي انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر. وهذا الانتقال يستلزم ثلاثة أمور:
أولاً: أن نحدد بشكل علمي ماهية الحالة التي ننطلق منها.
ثانياً: أن نحدد ماهية الحالة المطلوب بلوغها أو الوصول إليها.
ثالثاً: يستلزم بعد ذلك قياس الحالة التي نتجت عن تدخلات قادة وطلاب النهضة لمعالجة الواقع.16
تغيير إيجابي في عالم المشاعر: من السلبية والإحساس باليأس إلى التفاؤل والإنجاز والشعور المتجدد بالحياة.
أهمية القانون
يوجد فرق بين تمني شئ ما والاستعداد لتحقيقه. ولا يمكن لشخص أن يكون مستعداً لأمر ما حتى يؤمن أنه يمكنه الحصول عليه. وهذا القانون يحقق البعث النفسي للأمة، والذي يحول بدوره - الأفكار إلى ما يماثلها مادياً. فتتحول النهضة من فكرة إلى حقيقة ملموسة.
شروط البعث النفسي
لقد لخص البنا17 أهم مظاهر الحالة النفسية للأمة في رسالة )دعوتنا( بقوله: "يأس قاتل، وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية، وشح وأنانية". وهذه الحالة النفسية لا يمكن أن تُحدث تغييراً أو تحولاً في الأمة - اللهم إلا التغييرات والتحولات السلبية. فإذا كانت الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها قادة وطلاب النهضة هي تحديد الفكرة المركزية والفكرة المحفزة، فإن الخطوة الثانية تكمن في البعث النفسي لهذه الأمة، وفي إحداث تغيير إيجابي في عالم مشاعرها. وهذا البعث النفسي - أو القوة الدافعة أو المكنة النفسية - له ثلاثة شروط أساسية ليُحوِّل الفكرة المركزية إلى حركة وواقع:
1. الإيمان بالفكرة
ونقصد بها القناعة العقلية والقلبية بالفكرة ونجاحها.
o إيماناً يحول دون التشكك فيها والانحراف عنها.
o إيماناً يولد في النفس شعوراً بصوابها وقدرتها على مواجهة الواقع ومواجهة الاحتياجات.
o أن تتحول فينا الفكرة المركزية إلى فكرة مرجعية، يقاس بها الصواب والخطأ.
فالإيمان بالفكرة يجب أن يتشعب في نفوس المجتمعات وأن يعزز. وكذلك الإيمان بقدرة هذه المجتمعات وبصلاحيتها وبأحقيتها في تبوء مركزها بين الأمم.
2. العزة
الشعور بسمو الفكرة عما سواها من الأفكار.(43/28)
أن ينتشر الاعتزاز بالإسلام، ومظاهره، وأشكاله، ومبادئه، ومفاهيمه. ويجب أن يسود الاعتزاز بجوهر الإسلام قبل مظاهره الخارجية. فالمظاهر الخارجية هي دليل على قوة الالتزام بجوهر الإسلام، فالتميز في أنماط الحياة - فيما نحب وما نكره، وفي أعيادنا وأشكالنا واحتفالاتنا وملابسنا - يدل على شدة الاعتزاز بفكرتنا وما تدعو له. وقد جاء القرآن ليكرم الأمة ويبعث فيها العزة. يقول الله تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}18.
3. الأمل
وهو النافذة الكبيرة التي نفتحها للناس، ليروا أن المستقبل سيكون زاهراً، وأن نهضة أمتنا ستتحقق بإذن الله، ومصداقية هذا الأمر أن تحتشد الأمة في حركة وعمل ومشاريع.
وقد أكد الله في مواضع كثيرة على أن الغلبة لأوليائه والنصرة لهم ليبعث في الأمة الأمل واليقين بتحقق النصر. يقول تعالى:
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}19
شروط البعث النفسي
النجاح في زرع الإيمان
النجاح في زرع
العزة
النجاح في زرع الأمل
اليقين في الفكرة وصوابها
الشعور بعظمة الذات والأمة حاملة الفكرة وملكاتها وقدراتها
اليقين في النجاح
أمة مؤمنة بالفكرة
واثقة بقدرتها على القيام بها
متفائلة واثقة من النجاح
عملية البعث النفسي
مظاهر الإيمان بالفكرة: هو جعلها - أي الفكرة - مقياساً، والحكم بالصواب أو الخطأ على أساسها.
مظاهر العزة: تكمن في تغير أنماط الحياة تبعاً للفكرة وتغليبها على ما سواها، سواء في اللغة والملبس والمشرب وأنماط السلوك.. والشعور بتميز الذات حاملة الفكرة وبقدرتها على التنفيذ (الثقة).
مظاهر الأمل: ظهور الروح الإيجابية والإقبال على العمل.
كيف قام الغرب بزرع المكنة النفسية؟
عندما أدرك قادة الغرب أهمية البعث النفسي لمجتمعاتهم، قاموا بزراعة المكنة النفسية على مسارين:
الأول: إعادة قراءة التاريخ وعرضه
حيث قاموا بتقزيم دور الحضارات المشرقية، والمرور عليها مروراً سريعاً - رغم أن الحضارة الإسلامية وحدها امتدت عشرة قرون كان الغرب حينها في حالة تخلف شديدة - بحيث يخيل للطالب الأوروبي أن الغرب هو منبع الحضارة طيلة العصور20.
الثاني: عمل تراكم في الإنجازات العملية
أسبانيا تطرد المسلمين من الأندلس فترتفع الروح المعنوية للغرب 1492م.
اكتشاف الأمريكتين (مدن الذهب) الذي دفع كل الطموحين للذهاب إلى هناك.
اكتشاف رأس الرجاء الصالح (طريق الحرير الجديد).
حركة الترجمة التي أعقبت الحروب الصليبية والاتصال بعلوم المسلمين.
إعادة قراءة وعرض التاريخ وعرضه
عمل تراكم في الإنجازات العملية
البعث النفسي للغرب
تضخيم الحضارة الغربية
تقزيم الحضارة الشرقية
طرد المسلمين من الأندلس
اكتشاف الأمريكتين (مدن الذهب)
اكتشاف رأس الرجاء الصالح
حركة الترجمة بعد الحروب الصليبية
التحولات العلمية والمخترعات الكبرى
التحولات العلمية والمخترعات الكبرى مثل اختراع آلة النسيج 1768م، والبخار 1769م، حتى اختراع الكهرباء 1879م.
كيف قام الرسو صلى الله عليه وسلم بعملية البعث النفسي في مكة؟
سار الرسو صلى الله عليه وسلم على نفس المسارين في عملية البعث النفسي للأمة العربية:
1. إعادة عرض التاريخ: وقد تم ذلك على محورين:
الأول: من خلال عرض مسار الأنبياء من لدن آدم وحتى مبعث صلى الله عليه وسلم ، وعرض أمجادهم وانتصاراتهم، ثم الإشارة إلى الخط المتصل بين هذا المسار - مسار الأنبياء - وبين الذين اتبعوه، وأنهم لا شك منتصرون كما انتصر أسلافهم. فجعل خطاً رابطاً متصلاً من لدن آدم وحتى صحابته وأتباعه. وقد تم كل هذا
العرض من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
والثاني: من خلال سحب الشرعية عن أهل الكتاب والمشركين وبيان الأسباب.
2. عمل تراكم في الإنجازات العملية: وقد تم ذلك من خلال عدة أشكال:
* إعادة تعريف الهزيمة والنصر: ففي قصة أصحاب الأخدود مثلاً تم الإعلان عن انتصار المؤمنين رغم القضاء عليهم. وهكذا انقلبت موازين النصر والهزيمة. فأصبح بعض ما تراه العين هزيمة يعتبره المسلمون نصراً، وبعض ما يُرى نصراً يعتبره الإسلام هزيمة.
* تقديم إنجازات تبشر الناس بغد أفضل: مثل إرسال الناس إلى الحبشة لينجو بهم من التضييق، وليكون نواة انطلاق جديدة، كذلك دعاء الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين، فكان إسلام عمر نقلة نوعية، وكذلك إسلام حمزة. ثم كانت محاولات القائد المتتابعة لعرض الإسلام على القبائل وطلب النصرة دافعاً للأتباع الذين يرون أن قيادتهم لم تستسلم للأعداء- حتى ولو لم تكلل هذه المحاولات بالنجاح.
* تقديم إنجازات من خلال تصعيد الخطاب: فالكلام في زمن الصمت يعد فعلاً قوياً يحفز الجماهير. لذلك كان القرآن يتنزل في مكة - رغم التضييق - ليحشد الرأي العام المرتقب بخطاب قوي واضح.(43/29)
فكان إعلام قوي ضد أئمة الجاهلية {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}21 كذلك خاطب الوليد بن المغيرة خطاباً
قوياً: {سنسمه على الخرطوم}22 وقال: {ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً. ومهدت له تمهيداً. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيداً. سأرهقه صعوداً}23.
إن هذا الخطاب الواضح - في عهد الاستضعاف - رغم أنه لا يتعدى أن يكون قولاً؛ إلا أنه يتحول عند الرأي العام إلى فعل وأي فعل. فالكلام في زمن السكون فعل، حيث أن قليلين هم الذين يتحدثون24.
3- عمل تراكم في الإنجازات العملية:
الرسو صلى الله عليه وسلم والبعث النفسي
إعادة عرض التاريخ
عمل تراكم في الإنجازات العملية
إعادة تعريف النصر والهزيمة
تقديم إنجازات فعلية
تصعيد الخطاب
الإشارة إلى الخط الرابط المتصل من لدن آدم وحتى تابعيه
سحب الشرعية عن أهل الكتاب والمشركين
حسن عرض الإنجازات العملية
آلة إعلامية ضخمة تعلن عن الإنجازات وآثارها الإيجابية بشكل مؤثر
ونحب هنا أن نؤكد على أمر ثالث: وهو أن التراكم في الإنجازات العملية وحده لا يكفي، بل لابد من حسن عرض هذه الإنجازات على المجتمع لتتولد عنده القوة الدافعة. فالفعل الإيجابي المؤثر وحده لا يكفي؛ بل لابد أن تتبعه آلة دعائية إعلامية تعلن عن الإنجازات وعن آثارها الإيجابية بشكل مؤثر. وسنشير لاحقاً إلى آليات البعث النفسي.
وإذا نظرنا إلى شروط البعث النفسي الثلاثة (الإيمان والعزة والأمل) ومعايير تحقيقها على أرض الواقع، سنجد الإسلام قد غير الروح المعنوية للأمة في مواجهة الآخرين ببعث المشاعر الثلاثة من خلال:
1. الإيمان برسالة الأمة.
2. والاعتزاز باعتناقها والانتماء للأمة.
3. ثم الأمل في تأييد الله لها.
كما سنجد اليابانيين عملوا على بعث شعورهم في عصرنا الحديث من خلال:
1. الإيمان بقدراتهم.
2. والاعتزاز بشعبهم.
3. ثم الأمل في أن يصبحوا القوة الأولى.
وكذلك الألمان في عصرنا عملوا لبعث شعورهم على نفس المحاور:
1. الإيمان بقدرتهم على النصر.
2. الاعتزاز بتفوق العرق الآري.
3. الأمل في أن يصبحوا إمبراطورية عظمى.
ولننظر كذلك إلى بعث شعور اليهود بقوميتهم وعلى نفس المحاور كجزء من المشروع الصهيوني.
ولننظر إلى المكنة النفسية الأمريكية اليوم وما تحاول أن تفعله.
ولكن هل تتم عملية البعث النفسي بهذه السهولة أم أنها تجد من الصعوبات ما يجعل تحقيقها من أشق خطوات الفعل النهضوي؟؟!!
الحرب النفسية
إن ساحة الفعل النهضوي مليئة بالصراعات والمتناقضات. ففيها الصديق والمتحالف والمحايد والخصم. وبنفس القدر الذي نحاول به بعث المكنة النفسية في مجتمعاتنا يستخدم الخصم الحرب النفسية لتحطيم هذه المشاعر الثلاث: (الإيمان والعزة والأمل).
يقول أحمد نوفل في كتابه "الإشاعة": "..الحرب النفسية هي الاستخدام المحقق للدعاية25، أو ما ينتمي إليها من الإجراءات الموجهة للدول المعادية أو المحايدة أو الصديقة، بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك شعوب هذه الدول بما يحقق للدولة المواجهة أهدافها.."26
إذن هناك طرف معادٍ يقوم بالدعاية بأسلوب مخطط، في محاولة غزو نفسية المجتمعات العربية والإسلامية. ويحقق أهدافه من خلال هذا التلاعب بالأفكار والعواطف عند الآخرين. ويقول المؤلف في موضع آخر: ".. ولقد آتت هذه الحرب أكلها، ووصلت إلى نتائجها، لأول مرة في تاريخ المسلمين، هزيمةً روحيةً وشعوراً بالتفوق المنهجي الغربي"27 ويقول تشرشل: "كثيراً ما غيرت الحرب النفسية وجه
التاريخ."28
إن الحرب النفسية حقيقة واقعة على مجتمعاتنا من قبل أعدائنا. وهي حرب لديها برامجها وفكرتها المركزية وفكرتها المحفزة. وهي حين تغزو المجتمعات، فهي تعتقد أنها هشة، وأنها قادرة على امتصاصها، والتلاعب بها، وتُستخدم في توجيه هذه المجتمعات، بحيث تنساق وراء مطالب الدول المهيمنة.
ويقول محمد صفا في كتاب "الحرب": ".. المحاربة النفسية تتجه بكل ثقلها للضغط على الأعصاب، فتلقي في روع السامع شعوراً بعقم المقاومة وحتمية الهزيمة.."
وهكذا سنجد أن الحرب النفسية تتميز بالقدرة على تدمير الإرادة الفردية وإحداث التدمير الاجتماعي. "..وترتبط الحرب النفسية ارتباطاً وثيقاً بظاهرة الرأي العام وشروط تكونه والثبات عليه أو تغييره. وهي تلعب الدور الرئيس والمميز في تكوين هذه الشروط. وهنا يتدخل علم نفس الجماهير كلاعب أساسي على مسرح الحرب النفسية.."29
ما هي المواضيع الرئيسة للحرب النفسية؟
لقد حفل التاريخ القديم والحديث بنماذج متعددة من الحرب النفسية، والتي شملت المواضيع التالية:
* دس الذعر.
* شتم العدو وتحقيره.
* دس الشائعات ونصب الفخاخ.
* تضخيم قوة الصديق والمبالغة في حجمها.
* إثارة البلبلة والتوتر والفضائح.
* الحيلة والإيحاء.
* الترغيب والترهيب والتضليل ورسم الآمال الخيالية.
* استغلال الانشقاقات الدينية والعقائدية أو خلقها.
* التهديد بالسلاح المتفوق.
* عقيدة العدو افتراءً غير محق.
إلى ما هنالك من مواضيع أخرى.30(43/30)
كيف تتلقى الجموع هذه الحرب النفسية؟
وحتى نعلم كيف تتلقى المجتمعات هذه الحرب النفسية الموجهة يجب أن نشير إلى أقسام الرأي العام31 في فترات السكون ثم في مراحل الأزمات.
أولاً: في فترات السكون والدعة:
سنجد أن المجتمعات تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبيرة:
1. عقل قائد: وهم صفوة المجتمع من القادة والمفكرين والعلماء والساسة، وهؤلاء نسبتهم ضئيلة في المجتمع، وهم يصنعون الدعاية ولا يتأثرون بها.
2. عقل مثقف: وهم المتعلمون والمثقفون الذين يشاركون في صناعة الرأي العام والتأثير على من دونهم من حيث الثقافة.
3. عقل العوام: وهو يمثل الرأي العام الشعبي. وهو ما يمكن أن يطلق عليه (رأي أنثوي)، أي يهتم بالعواطف وينساق وراءها، ولا يُحَكِّم العقل.
4. ثانياً: في فترات الأزمات:
وسنلحظ هنا ظاهرة عجيبة. وهي اختفاء الشريحة الثانية في أوقات الأزمات. حيث يتحول العقل المثقف إلى عامي وبالتالي ينضم المثقف إلى الرأي العام العامي. وبذلك نجد أمامنا شريحتين: عقل القائد وعقل العامي.
ولهذا السبب تتجه القيادات السياسية دائماً إلى مخاطبة الرأي العام العامي وليس المثقف في أوقات الأزمات. فنجد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مثلاً يتحدث عن الخير والشر، وعن الأخيار والأشرار عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد.
أصناف الرأي العام
قائد
مثقف
عامي
ونحب أن نؤكد هنا أن الجهل بنفسية الجماهير وكيفية تقبلها للأفكار يحول دون إمكانية حشدها وبعثها نفسياً. ومن المبادئ التي يجب الاهتمام بها عند التعامل مع الجمهور32:
1. الجمهور لا يقبل الأفكار المركبة وإنما يهتم بالشعارات والرموز والصور.
2. الجمهور بحاجة إلى قائد يجسد الفكرة ويرى فيه الأمل.
3. لا يظل الرأي مستثاراً لفترة طويلة إلا إذا شعر الناس بأن صالحهم الخاص يتصل بهذا الرأي اتصالاً قوياً.
4. الجمهور - كقاعدة عامة - يعترض على مواقف لا على مباديء، ومن ثم قد تحدث تغيرات فجائية في الرأي إذا تعدل الموقف.
5. دخول قوة شخصية جديدة تمثل بوضوح مسألة من المسائل، قد يحدث تغييراً مفاجئاً في الرأي. أما الأسباب والبراهين فقلما كان لها سيطرة ثابتة على عقول معظم الناس.
6. يصاب الرأي العام بحالة من الإثارة في حالة إذكاء الروح العسكرية والتبشير بالنصر.
7. يتأثر الرأي العام ويتقرر بالأحداث أكثر من تأثره بالكلمات.33
نماذج للحرب النفسية
نموذج فيتنام وأمريكا
إذا نظرنا إلى التجربة الأمريكية في فيتنام سنجد دولة عملاقة متفوقة حجماً وموارداً وعلماً وتقنية وقدرة تدميرية، تتجه إلى شعب فقير أعزل تريد أن تحاصره، وأن تسيطر وتهيمن عليه. فتنطلق في حرب مدمرة ضده، وتجتذب إليها نصف الشعب ليقف معها، وحكومة عميلة تمارس دور العراب، أو حصان طروادة ،لكسر هذا الشعب الفيتنامي، وتقاوم حركة المقاومة.
وإذا أمعنا النظر في هذا النموذج سنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية المتفوقة تستخدم كل الأسلحة الممنوعة في تلك اللحظة التاريخية ضد حركة المقاومة الفيتنامية. ومن الناحية العملية لا يمكن للثوار ككتلة أن يصمدوا أمام هذه الآلة العسكرية. ولكن يبقى أمام المستضعفين استراتيجية واحدة: وهي إطالة أمد الحرب، وزيادة تكاليف بقاء الخصم. فاستخدموا أسلوب حرب العصابات، وحروب الكر والفر، وحرب الغارات، والهجوم المضاد، بمجموعات صغيرة. وقد كان بإمكان العملاق الأمريكي الضخم أن يدهس أي قوة تواجهه - وإن كانت كتلة كبيرة - ولكن عندما تكون الهجمات من مجموعة من البراغيث التي تلسع فتدمي ثم تفر؛ تحدث عملية الاستنزاف لهذا الفيل الضخم، عبر هذه البراغيث الكثيرة. وهكذا استمرت عملية ليْ الذراع أو العض المتبادل. وكانت الحرب حرب إرادات. وجهت فيها الولايات المتحدة الأمريكية كل آلاتها الإعلامية والدعائية، وكل إجراءاتها لإقناع الطرف الآخر- وهم الفيتناميون- باستحالة تحقيق أهدافهم وحتمية هزيمتهم.
ثم ماذا كانت النتيجة؟! انتصر الطرف الأضعف على الطرف الأقوى؛ لم يعد الفيل قادراً على الصمود، وأصبحت تكلفة البقاء أكبر بكثير، من الفائدة من البقاء، وانتصرت الإرادة، ولم تنكسر نفسية الفيتناميين.
من أين جاءت هذه النتائج التي قلبت المعادلة؟! إذا اتفقنا على أن الولايات المتحدة حاربت الفيتناميين بنسبة عشرين في المائة للحرب النفسية، وثمانين في المائة لحرب الآلة، فقد استطاعت المقاومة الفيتنامية قلب المعادلة بحيث أصبحت الثمانون في المائة حرباً نفسية والعشرون حرب آلة؛ لأنه إذا ما تم كسر إرادة الخصم، لم يعد هناك حاجة إلى استخدام الأدوات، فالأدوات فقط من أجل إقناع الطرف الآخر بعدم جدوى المحاولة بحيث يقع في روعه - كما يقول محمد صفا - الشعور بعقم المقاومة، وحتمية الهزيمة.
هذا النوع من الأداء، أعطى مؤشراً واتجاهاً آخر للحروب؛ فأصبحت الحروب اليوم تتجه في كتلتها الأساسية إلى المحاربة النفسية. إذ تلقي في روع الخصم عدم جدوى المقاومة، وأن الحرب لا محالة منتهية لصالح عدوه، وبالتالي عليه الاستسلام.
الحالة الإسرائيلية مع الحالة العربية(43/31)
إذا نظرنا إلى الحالة الإسرائيلية مع الحالة العربية، سنجد أن هذا الكيان الصغير يؤثر على مجموعة كبيرة جداً من الدول، ويقودها إلى الاستسلام!! وهذا ما لم يكن ممكناً لولا استخدام فن المحاربة النفسية بكثافة شديدة وعنيفة، ما أدى إلى انكسار إرادة قادة أغلب هذه الدول أمام تلك الأوضاع.
آليات البعث النفسي ومواجهة الحرب النفسية
وإذا كانت الحرب النفسية تريد أن تقنعنا كأمم وشعوب بعقم المقاومة، وحتمية الهزيمة، فالمطلوب منا أن نواجه المعركة الضخمة من الحرب النفسية - التي مجالها العقول والنفوس، والتي تستخدم فيها الكلمات والعبارات والإجراءات- بحرب نفسية مضادة، أو بعملية إنقاذ نفسية، إن صح التعبير.
آليات للبعث النفسي
ومواجهة الحرب النفسية
الدعاية
الإعلام
التعليم
المباشرة
غير المباشرة
التنسيق بين كل الجهات لتفعيل المكنة النفسية
وفي آليات البعث النفسي: فإن واجب الإعلام اليوم هو الاهتمام بأدوات التعليم. وواجب قادة الدول الإسلامية وحكوماتها هو إعادة صياغة الخطاب الجماهيري. وإعادة صياغة التعليم، وكل أشكال التوجيه؛ لإيجاد كتلة حرجة مؤمنة بإمكانية النجاح، ومحصنة ضد عوامل اليأس. وهذا يحتاج إلى تعاون بين المفكرين وبين قادة هذه المجتمعات وحكوماتها، وبين قادة الرأي وبين العاملين في الإعلام، والتعليم؛ حتى تصبح نظرية الحرب النفسية مفهومة، وتصبح جزءاً من تكوين الفرد المسلم العربي في مجتمعاتنا. لابد من فهم مؤكد لقضية المحاربة النفسية، وأثرها في التأثير على المجتمعات.
إذن لابد من باعث نفسي داخلي كبير، ليتم تغيير الواقع الخارجي. فانتصار الطرف الآخر علينا - داخلياً في أفكارنا ونفوسنا - يعني عملياً انتصاره علينا في واقعنا. أما انتصارنا على أنفسنا في الداخل، فيعني إمكانية تحقيق النتائج في الخارج.
وخلاصة القول أنه لا نجاح للفكرة المركزية إذا لم ينجح البعث النفسي34. والبعث النفسي يبدأ من الفرد والمجموعة المؤمنة بمشروع النهضة وينتهي بالأمة معقد الآمال.
ونجاح هذا البعث النفسي يتطلب:
* أولاً: إعادة عرض الفكرة المركزية وتاريخها.
* ثانياً: عمل تراكم في الإنجازات العملية.
* ثالثاً: توظيف إنجازات الآخرين لصالح المشروع.
* رابعاً: حسن عرض الإنجازات.
فإعادة عرض التاريخ واختيار المواطن التي تغرس العزة والأمل أمر في غاية الأهمية. كما أن الإنجازات الفعلية أمر لابد منه. خاصة في مجتمعاتنا التي أرهقتها التحديات. يقول دووب: "يظل الرأي العام كامناً إلى أن ينشأ موضوع يشغل اهتمام الناس - والموضوع الذي يشغل اهتمام الناس لا ينشأ
إلا عندما يكون هناك صراع وقلق وإحباط".35
ومن هنا نفهم خطورة المقاومتين الفلسطينية والعراقية على المشروع الغربي. فالمجتمعات والشعوب العربية والإسلامية تدرك تماماً أن هاتين المقاومتين تُحارَبان من قِبَل الجيوش المحتلة، ومن قِبَل أجهزة استخبارات تلك الدول. ومع ذلك لا تزال تلك المقاومة تصر على الفعل المُقاوِم، بل وتحرز الكثير من الإنجازات والمكاسب. فهي بذلك تُجرئ الشعوب العربية والإسلامية على الفعل المقاوم، وتبعث فيهم المكنة النفسية والقوة الدافعة من خلال تراكم الإنجازات العملية على أرض الواقع. ومن هنا تأتي الخطورة الحقيقية للمقاومة على مشاريع الاحتلال. فهي تَجْرِييء للشعوب على المقاومة، ليُفاجأ المحتلون بأنهم لا يحاربون مجموعة أو مجموعتين من المقاومين؛ بل يحاربون الشعوب كلها، وهو ما يهدد مشاريع الاحتلال في صميمها.
أما قضية استثمار إنجازات الآخرين التي تصب في صالح المشروع فلا يزال التخندق - الذي يخيم على بعض العاملين في النهضة- حائلاً دون ذلك. فبعض التيارات لا تعرض سوى إنجازاتها، ولا تعرض إنجازات غيرها ممن قد يخالفها في المدرسة الفقهية أو في مجالات العمل. وهم بذلك يضيقون واسعاً، ويظنون أنهم - وحدهم - ممثلو الأمة، بل وبعضهم يزيد على ذلك فينقد أي إنجاز لتيار آخر، ويخرجه من دائرة الإنجازات.
إن هذه العقلية الطفولية التي لا تنظر لصالح الإسلام ومشروعه هي عقبة كئود في طريق النهضة، وهذه النظرة أرهقتنا كثيراً في مرحلة الصحوة ونتج عنها مشاحنات وخلافات بين أبناء
المشروع نفسه. لسان حال بعض هذه التيارات: {لو كان خيراً ما سبقونا إليه}36. ومرحلة اليقظة تتطلب الإنصاف في عرض الإنجازات، والإيمان بأنها كلها ملك للأمة، وأنها جهود من تيارات مختلفة تعددت اجتهاداتها، فتنوعت إنجازاتها. لقد آن للمشروع أن تقوده عقليات قائدة - تجمع لا تفرق - لا تنظر إلا سفاسف الأمور بل توظف كل إنجاز لرفع الروح المعنوية للأمة. ويكفي أن الوحي بشر بانتصار الروم - وهم ليسوا مسلمين - ليرفع معنويات الأمة آنذاك. قال تعالى: {غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}37.
إن استثمار كل إنجاز لأي تيار وعرضه للجماهير أمر هام جداً في عملية البعث النفسي.(43/32)
وتبقى النقطة الأخيرة وهي حسن عرض الإنجازات واستخدام كل الوسائل والتكنيكات الحديثة لتحقيق ذلك مع دراية جيدة بنفسية الجماهير وكيفية تشكل الرأي العام لديهم.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل:
+ معرفة منطوق القانون ومعناه.
+ الإلمام بعلوم الإعلام والدعاية السياسية والرأي العام38 والحرب النفسية كأدوات في الصراع.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
إعادة عرض التاريخ.
عمل تراكم في الإنجازات العملية.
توظيف إنجازات الآخرين.
حسن عرض هذه الإنجازات بما يتمشى مع أدق قواعد علوم الدعاية السياسية والرأي العام.
ولعل المهتمين بالعمل الإعلامي والتعليمي والخطابي في مشروع النهضة لهم دور كبير في استخدام هذا القانون.
3- عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية إذا لم يتم استثمار إنجازات جميع العاملين
في ساحة الفعل النهضوي، أو إذا أسيء عرضها أو استخدامها.
كما تتم مصادمة القانون إذا تم التعامل مع هذه الإنجازات بصورة ارتجالية غير علمية، وإذا لم يتم استخدام أدوات الدعاية السياسية والرأي العام والحرب النفسية.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق ومعنى القانون
إعادة عرض التاريخ
عمل تراكمي في الإنجازات
توظيف إنجازات الآخرين
توظيف وعرض الإنجازات
التعامل العلمي
بأدوات التأثير على الجمهور
حسن عرض الإنجازات
معادلات القانون:
وجود فكرة مركزية وفكرة محفزة + بعث نفسي وروح إيجابية = استعداد للعمل والانطلاق.
القانون الثالث
التغير الذاتي
منطوق القانون
"لا تغيير إلا إذا حدث تغيير إيجابي في عالم السلوك"
مفردات القانون
التغيير: عملية التغيير هي انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر.
تغيير إيجابي في عالم السلوك: ويُقصد به تحول إيجابي في ممارساتنا وواجباتنا اتجاه الخالق واتجاه الذات واتجاه الخلق.
أهمية القانون
إن سنة التغيير هي سنة مجتمع لا سنة أفراد. وهي سنة دنيوية لا أخروية. فلابد أن يغير المجتمع نفسه أولاً حتى يُحدث الله التغيير في أحواله الخارجية39. ولا يحدث هذا التغيير إلا بإيجاد الكتلة الحرجة النوعية التي تفقه هذا القانون وتعرف كيف تتعامل معه.
ونقصد بالكتلة الحرجة هنا وجود كم من الأفراد يمكن بواسطة جهودهم الانتقال من حال إلى حال بعد استيعابهم في العملية التغييرية. فإن الكم البشري النوعي الذي يلزم لنجاح أي عملية من عمليات الانتقال من حال إلى حال يختلف من حالة إلى حالة ومن ظرف إلى آخر. ولكن في كل حالة من هذه الحالات لابد من وجود الكتلة الحرجة التي في غيابها لن يحدث التغيير المطلوب.
مجال التغيير الذاتي
إن تغيير الواقع الداخلي هو المحرك الرئيس في التغيير الخارجي. ويقول الله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغير من بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}40. فالتغيير الخارجي في أحوال قوم ما أو مجتمع ما أو أمة ما لا يمكن أن يتم حتى يحدث هذا التغير الداخلي داخل هذه الأنفس.
مجال التغيير الداخلي:
وللتغير الداخلي مجالان: الأول مجال الفكر (العقل)، والثاني مجال المشاعر (القلب). وهناك ارتباط جذري بين هذين المجالين. فعندما يصح عالم الأفكار، وتصبح الفكرة المحفزة قوية وملحة، فإنها تشعل داخل النفس طاقاتها، وتحرك فيها تلك المشاعر من الحب والكره، وتتولد القوة الدافعة أو المكنة النفسية. وبالتالي تنطلق طاقات الإنسان في محاولته لتحقيق فكرته على أرض الواقع. فالتغيير الداخلي في الأفكار والمشاعر أمر أساسي لنجاح حركة التغيير. فعندما تتغير الأفكار والمشاعر، يحدث سلوك جديد، ومن ثم نتوقع أن تكون النتائج أيضاً مختلفة.
مجالات التغيير الداخلي
مجال الفكر
(العقل)
مجال المشاعر
(القلب)
مثال:
فعندما تغيرت أفكار الغرب في لحظة تاريخية ما عن أفكار الكتاب المقدس - في دينهم - بما فيه من أمور رأوا أنها تقيد العقل، وتحد من طاقات الإنسان، وتطالبه بالانعزال عن الكون، وألا يستمتع بجسده أو بالكون من حوله بدعوى الرهبانية، انطلقت فكرة جديدة تدعو إلى:
*
* تحرير العقل.
* إطلاق الطاقات.
* البحث في كل مجال.
* التساؤل عن كل الكون.
* اعتماد العقل كمرجعية في تنظيم المعارف.
* تنظيم المعلومات.
* اعتماد الحجة والبرهان.
* عدم التسليم بمقولات الآخرين.
ومع انتشار هذه الأفكار وغيرها، والحماس لها، ووجود الفكرة المحفزة في هذه اللحظة - وهي مقاومة الفكرة الرجعية السائدة، التي كانت تريد تقييد العقل - ولدت القوة الدافعة. فانطلق العلماء في تحد ضخم، وانطلقت المجتمعات في تحد كبير للأفكار القديمة البالية، وللتيار الذي يمثلها، لتنطلق وتفتح الآفاق، وتجدد الحياة من حولها.(43/33)
هذا السلوك الجديد الذي نشأ عن تغير أفكار الناس ومشاعرهم، نتج عنه تغير سلوكي في عمليات البحث والتقنين والاختيارات وما إلى ذلك. وبالتالي بدأت النتائج الخارجية تتغير لهذه المجتمعات، وبدأت تثمر في ميادين الثقافة والفكر والعلوم التطبيقية والفتوحات والهيمنة والسيطرة على المجتمعات الأخرى.
فالله تبارك وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي حتى تتغير لديهم هذه المنظومات العقلية المقيدة، وتولد عندهم الفكرة المحفزة والروح التي تدفعهم لتحويل هذه الأفكار إلى واقع في حياتهم وذلك عبر التحولات والتغيرات السلوكية الإيجابية.
إذن لدينا قضية كبيرة في عالم الأفكار الداخلي، فالناس لديها عقائد وتطبيقات، ولديها مسلمات مختزنة في عقلها، وهذه إما أن تكون من النوع الحي المحرك الذي يفتح الآفاق، أو النوع المغلق الذي يغلق كل الآفاق.
المطلوب ثلاثة أنواع من التغيير:
1. تغير إيجابي في عالم الأفكار. وهو الجزء الذي يغذيه العلم والخبرة، بشتى أنواعها.
2. تغير إيجابي في عالم المشاعر من السلبية والإحساس باليأس إلى التفاؤل والإنجاز، والشعور المتجدد بالحياة. قال تعالى مبشراً عباده المؤمنين بالنصر: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}41، ودعانا رسول ا صلى الله عليه وسلم لحسن الظن بالله فقال ناقلاً عن رب العزة في الحديث القدسي {أنا عند ظن عبدي بي}42.
3. تغير إيجابي في عالم السلوك والممارسة.43
وهكذا فإن اختيار الفكرة المركزية، واستخدام الفكرة المحفزة، ثم اجتثاث الأفكار المعطلة والقاتلة التي تعيق حركة الإحياء الإسلامي، وتعيق تقدم المسلمين، كل ذلك من متطلبات العصر، ويجب أن تتحمله الأمة الإسلامية وهي تنطلق إلى مستقبلها الواعد إن شاء الله عز وجل. فإذا تمكنت الأمة بعد هذه المعالجات العقلية من أن تبعث عالم المشاعر والأحاسيس، وتزرع المكنة النفسية والقوة الدافعة في المجتمعات العربية والإسلامية، فستنطلق هذه المجتمعات نحو التغيير والنهوض عبر التغير الحادث في عالم السلوك والممارسة.
مراحل وأسس التغيير
وتمر عملية التغيير - سواءً كانت في الأفراد أو المنظمات والهيئات أو الدول - بأربعة مراحل كبرى:
1. مرحلة الإنكار: وفيها يسود الاعتقاد بهدوء وسكون الأوضاع. وتواجه أي صيحة تبشر بالتغيير بالدهشة وعدم التصديق.
2. مرحلة المقاومة: وفيها تبدأ تباشير التغيير بالظهور، فتتعرض العملية التغييرية للمقاومة من قِبَل الجاهلين بها، والمستفيدين من ثبات الأوضاع. فتُوضع العراقيل، ويشتد الغضب على القائمين على العملية التغييرية، وتُكال لهم التهم والنعوت حتى ينفض الناس عنهم.
3. مرحلة الاكتشاف: حيث يشتد عود العملية التغييرية بعد عبورها للمرحلتين السابقتين، فيُقبل الناس على دراسة هذا الأمر الجديد والتعرف عليه. وتثار تساؤلات كثيرة، مثل ما الذي سيحدث لنا في حالة كذا؟ وكيف سنواجه تلك المعضلة؟ وكيف سنفعل كذا؟ وغيرها من التساؤلات حول الفكرة وطبيعتها.
4. مرحلة الالتزام: وفيها يتساءل الناس عن أدوارهم في هذه العملية التغييرية بعد أن تعرفوا عليها واكتشفوها واقتنعوا بجدواها وأهميتها.
مراحل التغيير
مرحلة الالتزام
مرحلة الاكتشاف
مرحلة المقاومة
مرحلة الإنكار
وهنا يثار تساؤل هام حول أسس العملية التغييرية. سواءً كانت للأفراد أو الحركات أو الدول والمجتمعات.
إن لعملية التغيير ثلاثة أسس كبرى:
1. تعلم التعلم: فأول ما يجب غرسه في الأفراد أو المجتمعات التي تتعرض لعملية التغيير هو تعلم كيفية تحصيل المعرفة والعلم. وقديماً قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: "لا تعطني سمكة كل يوم ولكن علمني كيف أصطاد السمك".
2. كسر الأماني والعادات: فعملية التغيير غالباً ما تكون مصحوبة بالآلام والجراح والصعوبات، ولا تتم بسهولة وسلاسة ويسر. لذا فكسر العادات التي تأسر المرء وتتحكم فيه وتمنعه من التضحية
والبذل من أهم أسس التغيير.
3. تغيير السلوك: فعملية التغيير في جوهرها هي الانتقال من حال لآخر. تغيير كامل وشامل في الأفكار والعلاقات والسلوك؛ بل والأشياء. فتغيير السلوك بما يناسب الحالة الجديدة المطلوب تحقيقها أمر بالغ الأهمية.
أسس التغيير
تغيير السلوك
كسر الأماني والعادات
تعلم التعلم
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل معرفة القانون القدرة على الإجابة على الأسئلة التالية:
* من المطلوب تغييرهم؟
* وتغييرهم إلى ماذا؟
* وهل المطلوب تغييرهم في جانب واحد أم في جميع الجوانب؟
* ومن الذي سيقوم بالتغيير؟
* وكيف؟
* وإذا كان آخرون قد تغيروا فكيف حدث لهم ذلك التغيير؟
* وما مقاييس أو معايير التغيير؟
* وما المؤشرات الدالة على نجاح عملية التغيير أو فشلها؟
* ما عناصر مقاومة التغيير؟
* وما الجهات التي تقاوم التغيير؟
* وما المدى الزمني للتغيير؟
* وما أهمية أدوات الدولة في التغيير؟
* وأخيراً أين نقرأ عن التغيير؟44(43/34)
وليس لهذه الأسئلة إجابة واحدة؛ بل إن الإجابة عليها تختلف باختلاف الزمان والمكان والظرف. لذا لا يستطيع طلاب النهضة وقادتها في بقعة ما أن يقولوا بمعرفتهم بهذا القانون قبل أن يجيبوا إجابات قاطعة على التساؤلات السابقة.
وهكذا نلمس أهمية هذا القانون، وأنه يكاد أن يكون خطة عمل كاملة لتغيير المجتمعات والنهوض بها.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال إيجاد الكتلة الحرجة النوعية التي تستطيع قيادة العملية التغييرية.
3- عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية إذا لم يتم الإجابة على التساؤلات الخاصة بالعملية التغييرية.
كما تتم مصادمة القانون إذا تم التعامل مع هذا القانون بشيء من السذاجة والعفوية.، كالانشغال بإصلاح جانب دون آخر.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالتغيير
إيجاد الكتلة الحرجة
الإجابة على التساؤلات
عدم تغيير جانب دون آخر
معادلات القانون
وتوضح هذه المعادلة مدى الترابط والتلازم بين هذه القوانين الثلاثة الأولى من قوانين النهضة. ويمكن توضيح هذا التلازم والتفاعل من خلال الشكل التالي:
1) الفكرة المركزية تخاطب العقل
2) تلامس القلب فتكون
القوة الدافعة
3) تحولات سلوكية تؤدي إلى التغيير في الواقع الخارجي
اختيار الفكرة المركزية + استخدام الفكرة المحفزة + بعث عالم المشاعر والأحاسيس= تغير في عالم السلوك والممارسة
القانون الأول الفكرة المركزية
القانون الثاني
المكنة النفسية
القانون الثالث التغير الذاتي
الخلاصة
وهكذا يتبين لنا مما سبق، أن هذه القوانين الثلاثة السابقة تمثل منظومة ثلاثية واحدة. تخاطب العقل من خلال الفكرتين المركزية والمحفزة. وتخاطب القلب والروح من خلال المكنة النفسية أو القوة الدافعة. وأخيراً تقود إلى التغيير من خلال التحولات السلوكية الناجمة عن الاقتناع بالفكرة وملامستها للقلب.
وخلاصة القول أن قيام الأمم والحضارات ونهوضها يعتمد بالضرورة على وجود فكرة صلبة تقتنع بها الأمة. لتولد هذه الفكرة قوة دافعة هائلة تبعث الأمة من رقادها وسباتها، وتكون بمثابة البعث النفسي لها. وأخيراً تأتي التحولات السلوكية الناتجة عن ذلك البعث النفسي لتكون أولى خطوات الأمم نحو التغيير والنهوض.
أما سقوط الأمم فينتج عن فشل الفكرة في مخاطبة العقل، أو فشلها في ملامسة القلب. وبالتالي تفقد الأمة الفكرة الصلبة الجامعة، فتسقط وتهوي.
القانون الرابع
اختيار الشرائح
منطوق القانون
"تحتاج أي نهضة لشريحة بدء وشريحة تغيير وشريحة بناء"
مفردات القانون
الشريحة: ونقصد بها المجموعة من الناس التي تتقارب مستوياتهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والمهارية، بالإضافة إلى تقارب أهدافهم وإمكاناتهم. وسنستخدمه هنا بمعنى أوسع يقترب من فريق أو طائفة.
شريحة البدء: وهم الرعيل الأول من الناس الذين يجتمعون حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، ويستعدون للتضحية من أجلها. وليس بالضرورة أن ينتمي كل أعضاء شريحة البدء لطبقة أو شريحة اجتماعية معينة؛ بل قد يكون هناك خليط من أكثر من طبقة أو شريحة.
شريحة التغيير: هي الفئة القادرة على إعطاء المنعة، والتمكين أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي "ذوو الشوكة" الذين يستطيعون تغيير الأوضاع.
شريحة البناء: وتشمل كل فصائل المجتمع الذين يساهمون في بنائه وتقدمه بعد نجاح العملية التغييرية وهيمنة الفكرة المركزية. لذا فهي تضم المؤمنين بالفكرة وغير المؤمنين بها.
أهمية القانون
إن تحديد الشريحة الملائمة للمرحلة التي يمر بها المشروع في غاية الأهمية. إذ أن أكثر التجارب الفاشلة إنما فشلت للخلط بين هذه الشرائح. لذا فإنه يمكننا القول بأن من لا يفقه قانون اختيار الشرائح لا يمكن أن ينجح. وسيفقد اتجاهه ويدور حول نفسه.
اختيار شرائح التغيير
عادةً ما تبدأ عملية التغيير من نقاط أو قضايا ملحة. حيث تتكون رؤية جديدة من التشكل الاجتماعي، أو يبرز تيار يرغب في المغالبة، أو فئة محرومة، أو دين جديد، أو قضية جديدة، كنقطة تبدأ منها عملية الحراك.
وتحتاج كل حركة تغييرية إلى ثلاث شرائح مختلفة. حيث تعبر كل شريحة عن طبيعة المرحلة التي تمر بها الحركة التغييرية. وهذه الشرائح الثلاث هي: شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة البناء.
شرائح التغيير
شريحة البدء
شريحة التغيير
شريحة البناء
شريحة البدء:
وهم الرعيل الأول أو المجموعة الأولى التي تطلق شرارة التغيير، وتنادي بأفكارها. إلا أنهم لا يملكون من الإمكانات والمهارات - كمجموعة وشريحة - ما يمكنهم من إحداث التغيير بأنفسهم. ولا يعني هذا أن أفراد هذه الشريحة لا يملكون مواهب أو إمكانات؛ إنما نقصد أن هذه الشريحة في مجموعها لم تصل إلى النقطة الحرجة من الإمكانات والمهارات التي تؤدي إلى حدوث التغيير.(43/35)
ولننظر إلى شريحة البدء التي تجمعت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة. فقد تكونت من أناس آمنوا بالفكرة الجديدة إيماناً جازماً قويا.ً فتجمعوا حولها وحول قيادتها، وبدءوا في الدعوة إليها والتبشير بها في المجتمع المكي.
وقد ضمت هذه الشريحة النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، والأحرار والعبيد، والأقوياء والضعفاء. إنهم خليط من الناس الذين اجتمعوا حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، فآمنوا بهذه الفكرة، وأخذوا يدعون إليها، وكانوا على أتم الاستعداد للتضحية والبذل في سبيلها.
وبالرغم من أن هذه الشريحة ضمت العديد من الكوادر النوعية التي تملك الكثير من المهارات والقدرات والإمكانات كأبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في المجال الاقتصادي، ومصعب بن عمير في مجال التمثيل الدبلوماسي - إن صح التعبير - وعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب في القوة والشدة والفروسية وغيرهم؛ إلا أن تلك الشريحة لم تكن تملك في مجموعها القوة الكفيلة بإحداث التغيير وقلب ميزان القوى لصالحها؛ بل إن إسلام حمزة وعمر - الذيْن أعز الله بهما الإسلام - لم تزد ثمراته عن إعلان المسلمين عن أنفسهم وشعائرهم.
دور الشريحة
ويكاد ينحصر دور شريحة البدء - في مجموعها - في التبشير والتعريف بالفكرة، والثبات عليها والصمود أمام الترغيب والترهيب الرامي إلى إثنائها عن التبشير والدعوة للفكرة.
وهنا يجب التنبيه إلى أن شريحة البدء لها عمر افتراضي محدد. وأن لتلك المرحلة التي تمثلها هذه الشريحة وقتاً ودوراً محدديْن. أما إذا طال أمدها ولم يتم الوصول إلى شريحة التغيير تفقد هذه الشريحة
الاتجاه، وتصاب بحالة أشبه بالشلل الفكري والتنفيذي. حيث أنها تعتقد بقدرتها على إحداث التغيير. بينما يؤدي فشلها المتكرر - نتيجة لعدم توفر الكتلة الحرجة من القوى والإمكانات - إلى فقدان الثقة بالنفس، واليأس من إمكانية التغيير، فتعلو الصيحات المطالبة بالاكتفاء بإصلاح الأوضاع الفاسدة بدلاً من تغييرها، فتخبو نبرة القوة وتلين حدة الفكرة.
مواصفات الشريحة
ومن مواصفات هذه الشريحة الثبات والصبر والصمود والقوة، والقدرة على التبليغ والتعريف بالفكرة، وعلى الدخول بها في مساحات لم تكن قد طرقتها من قبل. كإسلام القبائل غير القرشية كقبيلتي غفار ودوْس45. كما تتصف هذه الشريحة - في مجموعها - بالاعتماد شبه الكامل على القائد46.
وهكذا نجد أن إيجاد هذه الشريحة يكاد يكون نقطة البداية الطبيعية لأي حركة أو عملية تغييرية نهضوية.
دور القائد في هذه المرحلة
أما دور القائد في هذه المرحلة فهو رسم الطريق لأتباعه وتأمينهم وحمايتهم بكل طريقة ممكنة، بالإضافة إلى البحث الدءوب عن الشريحة القادرة على إحداث التغيير.
شريحة التغيير:
عادةً تحتاج المشاريع الكبرى كالمشاريع الحضارية، والنهضوية، والمشاريع الأيديولوجية - والتي تهدف إلى استنهاض المجتمعات وتنميتها - إلى القوة التنفيذية لإنجازها. بمعنى أنها تحتاج إلى دولة تملك حق تطبيق هذه الأيديولوجيات أو المشاريع الحضارية على المجتمعات التي تهيمن عليها. وحتى يخطو المشروع هذه الخطوة فهو يحتاج إلى شريحة ثانية. ويمكن تعريف هذه الشريحة، بأنها الفئة القادرة على إعطاء المنعة والتمكين (توفير أداة التنفيذ)، أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي "ذوو الشوكة" الذين يستطيعون نقل دعم الفكرة بقوة الدولة وما تمتلكه من إمكانات.
ولا نعني بكلامنا هذا إلغاء دور شريحة البدء في عملية التغيير؛ ولكننا نقصد أن شريحة البدء لا تمتلك - في مجموعها - أدوات القوة اللازمة لإحداث التغيير. سواءً أكانت تلك القوة المطلوبة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها. وهنا يأتي دور شريحة التغيير التي تمتلك - في مجموعها - هذه القوة المطلوبة، فتمضي الشريحتان معاً - الرعيل الأول وذوو الشوكة - لإحداث التغيير المطلوب.
شريحة البناء:
وعندما تتوفر للفكرة أدوات التنفيذ، وتقوم الدولة المنشودة؛ تأتي مهمة شريحة البناء. وهي شريحة تشمل كل فصائل المجتمع؛ المؤمن بالفكرة وغير المؤمن بها. فيساهم في عملية البناء مختلف الطاقات والفصائل والتيارات الموجودة في المجتمع كجزء من التحولات الاجتماعية والحراك الاجتماعي، مع تفاوت في مساهماتها في عملية البناء. وهنا يلزم عقد اجتماعي يعمل على استيعاب جميع شرائح المجتمع وفئاته بحيث تصبح أداة من أدوات التنمية وتجنيبها أن تصبح عصا لوقف عملية التنمية.
الشرائح الثلاث معاً:
الشريحة الأولى، وهي نقطة البدء سواءً كانت تجمع النوع الذي التف حول المصطفى صلى الله عليه وسلم أو كانت حزباً أو تجمعاً أو حتى أفراداً فهي عبارة عن طليعة أوعقل مفكر. إنها كيان صغير. قد يكون هامشياً ومعزولاً، وقد يكون في قلب الأحداث، لكنها على كل حال نقطة بدء.(43/36)
ثم تأتي الشريحة الثانية بعدها، وهي الفئة القادرة على إعطاء المنعة والتمكين، إذا ما وجدت المبرر لذلك. ثم تتحرك شريحة البناء -والتي تضم كل طاقات المجتمع مجتمعة - من أجل نصرة الفكرة. ولا يُفَعَّل دور هذه الشريحة (البناء) إلا بعد توفر الأداة التنفيذية (الدولة) وبناء العقد الاجتماعي العادل الذي ينصف كل الشرائح.
اختيار الشرائح
والمعضلة الحقيقية التي يعاني منها العاملون في مجال النهضة هي الخلط بين هذه الشرائح الثلاث أو الجهل بها. فكثير من التجمعات أو التيارات والمؤسسات لا تعدو كونها شريحة بدء، ولا تمتلك من الكوادر النوعية وأدوات القوة المناسبة ما يؤهلها لإحداث التغييرات المأمولة. فتدخل في صراعات نتائجها محسومة مسبقاً لصالح الخصم، بدلاً من الانشغال بالوصول إلى شريحة التغيير المؤهلة لإحداث النقلة المطلوبة.
وسنجد أن بعض التجمعات والتنظيمات هي أقرب ما تكون في كوادرها وعقلياتها وقدراتها إلى شريحة البناء المنوط بها إدارة المشروع عقب الوصول إلى الأداة التنفيذية، بينما يزج بهم قادتهم في عمليات تغيير محسومة لصالح الخصم. فيخسر المشروع كوادره الصالحين لعملية البناء بعد التغيير.
نفهم من ذلك أن الخلط أو الجهل بهذه الشرائح يؤدي إلى كوارث حقيقية في ميادين التغيير. كما يصيب أفراد هذه الشرائح بالإحباط واليأس والشعور بالعجز.
إذا تبين لنا خطورة الخلط بين الشرائح الثلاث أو الجهل بها، وقرر قادة النهضة وطلابها ضرورة اختيار الشريحة المناسبة لكل مرحلة، نجد أمامنا معضلة أخرى كبيرة. فشريحة البدء يسهل تكوينها بأي صورة من الصور. فاجتماع أناس حول فكرة ما واقتناعهم بأهميتها، ثم إنشاء منظمة أو تنظيم أو حزب أو جماعة لمحاولة تنفيذ هذه الفكرة على أرض الواقع أمر في غاية السهولة. ولا أَدَّلُ على ذلك من كثرة التنظيمات والجماعات والفصائل والتيارات في العالم الإسلامي؛ بل وفي العالم كله. فالتنظيمات والتجمعات أكثر من أن تحصى. إنما المعضلة الحقيقة التي تقف أمام المشاريع، هي الوصول إلى شريحة التغيير القادرة على نقل المشروع من مجرد تنظيم أو تيار أو جماعة تُحارَب وتُقاوَم إلى دولة تحمل المشروع وتذود عنه وتصبغ المجتمع به.
ويظن البعض نتيجة لقراءاتهم للتاريخ، أو تقليداً لمقولات الأقدمين، أن هناك طريقة واحدة للوصول إلى هذه الشريحة التي لديها المنعة. ولكن الدراسة التاريخية المركزة تشير إلى أن عملية الوصول إلى هذه النقطة، والانتقال بالمشروع من طور الاستضعاف إلى طور التمكين، له من الوسائل ومن الاختلافات ما بين فصول السنة وما بين الليل والنهار وما بين تعدد الألوان والظلال في الكون. فالساحة مفتوحة للتفكير والتصور والتخيل؛ لا تحدها حدود.
خيار الرسول
ولننظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فلقد ظل رسول ا صلى الله عليه وسلم يدعو أهله وأصدقاءه وعشيرته المقربين سراً مدة ثلاث سنوات. بعدها كان الجهر بالدعوة. فكانت دعوة كبراء مكة للإسلام، واتباع القيادة الجديدة. وظل رسول ا صلى الله عليه وسلم يرجو أن يؤتي هذا الخيار ثماره بإسلام القيادة المكية - شريحة التغيير - التي تستطيع نقل الفكرة الإسلامية من جماعة مضطهدة مستضعفة إلى دولة - إن صح التعبير - تملك تطبيق البرنامج الإسلامي على كل المجتمع المكي وتصبغه بالصبغة الإسلامية. ولكن هذا الخيار لم يؤتي ثماره. فالقيادة المكية ظلت على شركها، وظلت مقاومة ومعاندة.
وبدءاً من العام العاشر للبعثة، أي بعد سبعة سنوات من محاولة الوصول لشريحة التغيير المكية، وإحساس صلى الله عليه وسلم بعدم جدوى هذه المحاولة، انتقل الرسو صلى الله عليه وسلم إلى محاولة الحصول على شريحة التغيير من خارج مكة، من خلال الاتصال بالقبائل المحيطة، فكانت البداية بخروجه للطائف - ثاني أكبر قبيلة بعد قريش. وفي هذا يقول المقريزي: "ثم عرض r نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم:
1. بنو عامر،
2. وغسان،
3. وبنو فزارة،
4. وبنو مرة،
5. وبنو حنيفة،
6. وبنو سليم،
7. وبنو عبس،
8. وبنو نصر،
9. وثعلبة بن عكابة،
10. وكندة،
11. وكلب،
12. وبنو الحارث بن كعب،
13. وبنو عذرة وقيس بن الخطيم،
14. وأبو اليسر أنس بن أبي رافع".47
فإذا أضفنا إلى هذه القبائل محاولة الطائف ومحاولته مع أهل يثرب سنجد أن مجموع المحاولات التي قام بها الرسو صلى الله عليه وسلم للوصول إلى الشريحة التغييرية يصل إلى ستة عشر محاولة.
ثم لننتقل إلى نوع الخطاب الذي كان الرسو صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى هذه القبائل. يقول المقريزي:
".. وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟"48.
وسنلاحظ هنا وضوح دور الشريحة في قوله "فيمنعني". أي أنه يريد القوة والمنعة والشوكة ممن
يستجيب له من القبائل.49
وإذا انتقلنا إلى نوع التفاوض الذي تم، ونوع الشروط التي تم وضعها، سنجد أن الهدف الأساسي هو الوصول إلى قوة قادرة على وضع المشروع في موقع التنفيذ من خلال كامل أجهزة الدولة وطاقاتها وملكاتها وقدراتها.(43/37)
وحتى عندما حصل رسول ا صلى الله عليه وسلم على الشريحة ذات الشوكة تدرج في مفاوضاته معها. فكانت البيعة الصغرى أو بيعة النساء. وسنجد أن بنود هذه البيعة خاليةً من قضية المنعة، وامتلاك القوة. لأن صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الجزم بعد بإمكانيات هذه الفئة القادمة التي قد لا تمتلك مثل هذه القوة المطلوبة. وهكذا
أرسل رسول ا صلى الله عليه وسلم مبعوثه مصعب بن عمير إلى يثرب ليرفع واقع المجتمع اليثربي، وللوصول إلى الشريحة القيادية التغييرية هناك.
أما بيعة العقبة الثانية فكانت مع أهل المنعة. وكانت مع قيادات يثرب الذين يستطيعون أن يدعموا المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقوة التنفيذية.
إذن هذا السعي المتعدد، هو وليد دراسة البيئة. فقد كان تكوين البيئة السياسي تكويناً تمتلك فيه القبائل جيوشها الخاصة. وكان يمكن الانتقال إلى قبيلة ذات منعة، لتكوين أول نواة تمتلك قوة حقيقية، كما تمتلك سلطتها التنفيذية.
بعض العاملين في الساحة النهضوية يقفون عند هذا النموذج. ولا يرون فيه المفهوم بل يرون فيه الإطلاق. بمعنى أنهم يتركون المفهوم وهو ضرورة الوصول إلى الشريحة ذات الشوكة والمنعة ويأخذون التجربة على إطلاقها بمعنى أهمية الهجرة وتكوين جيش كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والحقيقة الساطعة للعيان أن من يتبع الإطلاق ويفتقد المفهوم يعاني من خلل في تصوره عن المفهوم الأساسي وهو أهمية الوصول إلى القوة التنفيذية، أياً كانت طبيعتها، والتي تختلف بالضرورة باختلاف الزمان والمكان والظروف.
الخيار الروسي
أما في تجربة الثورة البلشفية في روسيا فقد كان الثوار الروس يفكرون في كيفية الوصول إلى هذه المنعة، والوصل إلى الفئة التي تستطيع أن تنقل السلطة التنفيذية إليهم؟! وهنا وقع اختيارهم على طبقة العمال. فالحزب الشيوعي حدد نقطة البدء، وحدد الشريحة التي ستنقل إليه المنعة والقوة، فاختار عمال المصانع.
والدولة الروسية كانت من الدول الصناعية - وكانت ساعتها متخلفة صناعياً عن بقية أوروبا - التي تعتمد في اقتصادها على المصانع والصناعات المختلفة. ومن المعروف أن الذين يحركون هذه المصانع هم العمال. وبذلك فإنهم يمثلون عصب الاقتصاد الروسي. وعندما تمكن الثوار الروس من الوصول إلى هذه الشريحة أصبحوا بالفعل يتحكمون في الاقتصاد.
ولما كان المال هو أحد أعصاب القوة الرئيسة للدولة كانت السيطرة عليه تجعل الثوار يمتلكون زمام المبادرة والقدرة على إحداث التغيير، وفرض إرادتهم وإملاء شروطهم على النظام القيصري الذي كانوا يعملون على إزالته.
الخيار الصيني
وحتى الصين في نهضتها الحديثة لم تهمل هذا القانون. فرغم اختيار ماوتسي تونج للشيوعية كوسيلة لتطوير الصين إلا أنه لم يستنسخ التجربة الروسية؛ بل اختار شريحة أخرى مغايرة للشريحة التي اختارتها الثورة الروسية. فبينما كانت شريحة العمال هي الشريحة المؤثرة في روسيا كانت شريحة
الفلاحين هي الشريحة المؤثرة في الصين. لذا اعتمد ماوتسي تونج على الفلاحين لإسقاط النظام الإمبراطوري الإقطاعي.
التجربة العباسية
وإذا درسنا نموذج قيام الدولة العباسية، سنجد أن العباسيين قد راهنوا على التبشير في منطقة نائية هي منطقة خراسان. وبالرغم من أن القوة المتطلعة للتغيير هي قوة عربية إلا أن اختيار أهل خراسان كان بناءً على مواصفات ومعايير محددة. وضعها مؤسس الدعوة العباسية محمد بن علي بن عبد
الله بن عباس. حيث نجده يقول: {"إن الشام أموية ولا يعرفون إلا آل أبي سفيان، والبصرة عثمانية -نسبة إلى عثمان بن عفان- أي يدينون بالكف عن القتل والقتال، ويقولون كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، والكوفة شيعة علي، وأما الجزيرة- بين دجلة والفرات- فخوارج مارقة، أعراب مسلمون في أخلاق النصارى، وأما مكة والمدينة فتعيشان على ذكرى أبي بكر وعمر50، وأما خراسان ففيها العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء". فأهل خراسان بتعبير اليوم هم " مادة خام".}51 هذا بالإضافة إلى بعدها عن مركز الدولة في دمشق.
هذا التعدد والتنوع والتلون في اختيار الشريحة المناسبة لعملية التغيير، وفي اختيار التموقع المناسب لشريحة البدء لا تحده حدود، وليس له نمط واحد أو طريقة واحدة. والفكر الإنساني والتجربة البشرية غنية ومليئة بالتجارب والأفكار والإبداعات والابتكارات. لذلك فإن الفئات التي تتكلس
حول تصور واحد حول ما يجب عمله، وتغلق عقلها ولا تترك لخيالها العنان ليبدع ويبتكر؛ لا يمكن أن تحقق نهضة. فهذه الاختيارات الجامدة والتقليد الحرفي، يحول دون التفكير المهتدي بسنن الله سبحانه وتعالى في الكون.
الشرائح التغييرية
ويمكن تقسيم الشريحة التغييرية طبقاُ للاعتبارات التالية:
1. الأعمار: طلاب أو ما فوقهم.
2. الطبقة الاجتماعية: عليا أو وسطى أو دنيا.
3. المهن: العمال أو الفلاحين أو المثقفين أو التجار أو العسكريين.
4. المستوى التعليمي: أساسي أو جامعي.
واختيار الشريحة المناسبة عمرياً واجتماعياً ومهنياً وتعليمياً يعتمد على ثلاثة عوامل:
1. تصور التغيير.
2. وسيلة التغيير.
3. عمق التغيير(مدى التغيير المطلوب هل هو شامل أم جزئي؟).(43/38)
الشريحة التغييرية واعتبارات التقسيم
الأعمار
* طلبة
* ما فوقهم
الطبقة الاجتماعية
* عليا
* وسطى
* دنيا
المهن
* عمال
* فلاحين
* مثقفين
* تجار
* عسكريين
المستوى التعليمي
* أساسي
* جامعي
ويعتمد الاختيار على
تصور التغيير
وسيلة التغيير
عمق التغيير
أما بعد التمكين فالمجتمع يحتاج إلى كل طاقاته، سواءً المختلفة دينياً أو مذهبياً أو طائفياً أو عرقياً. فكل ما يمكن أن يكون جزءاً من المجتمع فالمجتمع في حاجة إليه. ويمكن استثماره في عملية البناء ما وجد الإنصاف والعدل. وكثيرٌ ممن يدعون إلى الإصلاح والتغيير تقوم أفكارهم وتصوراتهم على إقصاء الآخرين عقب التمكين. وهم بذلك واهمون ومخطئون. لأن عملية بناء الدولة تسبقها مرحلتين:
* مرحلة البقاء.
* ومرحلة الاستقرار.
وهاتين المرحلتين تمثلان مقدمتان ضروريتان للبناء.
فعادةً بعد أن تتمكن حركة أو تنظيم أو تجمع ما من إحداث التغيير والوصول إلى القوة التنفيذية فأول ما يواجهه هو تحدي البقاء أو الوجود. بمعنى أن يستطيع السيطرة على زمام الأمور ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تحدث عادة مع التغييرات. فإذا تمكنت هذه القوة الناشئة من تخطي هذا التحدي وأصبح القضاء عليها أو إزالتها مستحيلاً تبدأ مرحلة البحث عن الاستقرار، لتبدأ بعدها مرحلة البناء. وفي هاتين المرحلتين الأوليين - البقاء والاستقرار - يحتاج المجتمع إلى طاقات كل أبنائه على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم. فإذا ما قامت الحركة التغييرية بإقصاء البعض، وكيل الاتهامات للبعض الآخر، ورفضت الاعتماد إلا على أبنائها، فإنها لن تستطيع تخطي هاتين العقبتين (تهديد الوجود والاستقرار).
لذا فإن المجتمعات التي ستفتقد العدل لاحقاً من الأفضل لها ألا تقوم، لأن الذي سيحدث بعد قيامها أنها إما أن تفقد نصاب البقاء، وإما أن تفقد نصاب الاستقرار، وبالتالي لا يحدث النماء الذي وعدت بتحقيقه.
العدل
لابد أن تكون المنظومة الفكرية لفئات التغيير صحيحة. وخاصة حول قانون العدل الحقيقي، قبل أن تباشر عمليات التفكير في التغيير الاجتماعي. فمراجعة المنظومات الفكرية الموجودة عند حركات التغيير في المجتمعات العربية والإسلامية، مقدمة ضرورية للحصول على نتائج جيدة بعد أن تدفع التكاليف الغالية في عملية التغيير.
وكل الكتب السماوية تدعو أن يقوم الناس بالقسط. وإذا افتُقد العدل تحت أي مسمى أو شعار ديني أو مذهبي أو طائفي فلابد أن تنتكس الأمور بعد ذلك. هذه المسألة يجب أن تكون من أولويات التفكير النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
تساؤل
ماذا إذا فقدت أي جماعة التصور الواضح عن شريحة التغيير، وانحصرت في عملية التجميع المستمر دون رؤية لطريق التغيير؟!
تخيل معنا أن شركة أو مؤسسة ما لها ضوابط معينة، يتم فيها تجميع موظفين بصورة مستمرة، ثم لا يوجد عمل حقيقي لهؤلاء الموظفين، ولا يوجد تصور لتفعيلهم خلال برنامج زمني، بل يحاول
رؤساء الشركة إلهاءهم بأي نوع من الأعمال. ماذا سيحدث بعد أن تنتقل هذه الطاقات إلى ساحة الفعل؟!
هذا الاحتقان المزمن داخل هذه الشركة، سينتج عنه احتكاكات وصراعات وتفجرات كثيرة. وستتحول الطاقة المبدعة من محاولة معالجة قضايا الواقع الخارجي إلى محاولة معالجة الواقع الداخلي وتشققاته وشروخه، وعندها تنتكس كل عمليات التبشير التي تمارسها مثل هذه الفئة.
وإذا كنا قد صدَّرنا كتابنا "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" بباب العلم قبل القول والعمل فذلك لأهمية العلم. فكثير من أبناء وقادة الحركات التغييرية يفتقدون العلم الحقيقي بقضية التغيير، وأدوات تحقيقه ومراحله. فهم يعتقدون أن هذا التغيير يحدث بطريقة غيبية. لا يعلمون كيفيتها ولكنهم يعتقدون في حتمية حدوثه!!
العامل الزمني
إن العامل الزمني خطير جداً لأي شريحة بدء، ذلك أن وصول قادة هذه الشريحة إلى شريحة التغيير التي تصل بالمشروع إلى أداة التنفيذ (الدولة) يكون هو شغلها الشاغل، ونلحظ أن الرسو صلى الله عليه وسلم وهو يبحث عن الشريحة، كان ما يشغله هو طلب المنعة والنصرة، وإلا فقدت شريحة البدء الاتجاه، فشريحة البدء ليست عرضة لأن تتعاقب عليها الأجيال، فتمر الأجيال تلو الأجيال، والشريحة ساكنة لا تبحث عن شريحة التغيير. إنه التحدي الكبير الذي يواجه قادة شريحة البدء، إذ العثور على شريحة التغيير هو ضمان استمرارية المشروع نحو أهدافه، أما شريحة البناء فهي التي تتعاقب عليها الأجيال لترفع البناء طبقة تلو طبقة في عقود تتلو عقوداً.
مستلزمات القانون:
4. المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل المعرفة القدرة على الإجابة على التساؤلات المتعلقة بشرائح التغيير ومواصفات كل شريحة، والأعمال أو الأدوار المختلفة التي تستطيع الشرائح القيام بها، وطبيعة دور القائد مع كل شريحة.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
اختيار الشريحة المناسبة لكل مرحلة.(43/39)
عدم تكليف الشريحة بأكثر مما تحتمل. فما تطالب به شريحة البدء غير ما تطالب به شريحة التغيير غير ما تطالب به شريحة البناء.
الاستفادة من التجارب البشرية المختلفة.
3. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة اختيار شريحة واحدة لكل الأدوار، أو تكليف كل شريحة بما لا يناسبها. أو أن يطول أمد البحث عن شريحة التغيير52.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
حسن اختيار الشريحة
عدم الخلط بين الشرائح
ألا يطول زمن البحث عن شريحة التغيير
الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالتغيير
التمييز بين الشرائح عند استخدامها
الاستفادة من التجارب البشرية
اختيار شريحة التغيير المناسبة
معادلات القانون
* شريحة بدء = حملة الفكرة الأوائل
* شريحة تغيير = ذوو الشوكة
* شريحة بناء = أصحاب الطاقات من كل اتجاه
* شريحة بدء + زمن طويل = فقد الاتجاه
* مشروع تغييري - شريحة تغيير = مشروع خيري تربوي
القانون الخامس
القوة والخصوبة
منطوق القانون:
"إن قوة الأمم ونهضاتها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة"
مفردات القانون:
الخصوبة: ونقصد بها حيوية الأمة وقدرتها على إنتاج العدد الكبير من الرجال القادرين على النهوض بها بلا انقطاع.
الإنتاج: ونقصد به المُخرَج أو الناتج النهائي لعمليات الانتقاء والتربية والإعداد اللازمة للفرد لكي يتمكن من المشاركة في عمليات التغيير والتحول الاجتماعي.
أهمية القانون:
إن قوام أي حركة نهضوية هم الرجال. وبدون هؤلاء الرجال الذين يأخذون على عاتقهم تحويل الأفكار إلى واقع؛ يبقى المشروع أسير النظريات. فإعداد الرجال وتجهيزهم لحمل المشروع والانتقال به ضرورة لا غنى عنها.
أسئلة محيرة:
إن قضية التربية أو إعداد الرجال تُعد من أهم القضايا والملفات التي ينبغي أن يهتم بها العاملون في مشروع النهضة. وقد تعددت الاجتهادات وطرحت الكثير من الآراء حول هذا الموضوع في مرحلة الصحوة، إلا أنه لا زالت هناك أسئلة كثيرة تحير القادة والعاملين في المشروع. ومنها على سبيل المثال:
* من هم الرجال المطلوب إعدادهم؟
* من الذي سيعدهم؟
* على أي شيء سيتم إعدادهم؟
* ما هو المخرج النهائي للعملية التربوية؟
* كم تستمر هذه العملية التربوية؟
* ما هي وسائل التربية؟
* ما هي مؤشرات نجاح عملية التربية؟
* متى يمكن أن تستوفي التربية شروط الإقدام على عمليات التغيير؟
* كيف نحافظ على المتربين؟
* كيف نسمح لهم بأن يقودوا؟
* ما المقصود بالقاعدة الصلبة وكيف تتحقق؟
* كيف ستتم عملية التربية في ظل جهود تعليمية وإعلامية أخرى قد تجهض هذه العملية التربوية؟
ونحن لا ندعي أننا نستطيع الإجابة على كل هذه التساؤلات أو غيرها مما يجول بعقول قادة وطلاب النهضة، ولكننا نفتح السبيل لكل مهتم بهذه القضية ليعيد النظر والبحث والتفكير. وحتى يتم تطوير الملف التربوي في مشروع النهضة بما يناسب المرحلة الجديدة (مرحلة اليقظة) التي تقف الأمة على أعتابها وتوشك أن تلج فيها.
تعريف التربية:
"التربية في الإسلام تعني بلوغ الكمال بالتدريج ويقصد بالكمال هنا كمال الجسم والعقل والخلق لأن الإنسان موضوع التربية"53.
وهي "تستهدف مساعدة الفرد على تحقيق ذاته وتنمية قدراته وإمكانياته وتزويده بالمهارات المعرفية والسلوكية والعملية التي تمكنه من أن يحيا حياة حرة كريمة بعيدة عن الجهل وشبح الفقر وإهدار القيمة والكرامة الإنسانية".54
تربية الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه
وقبل أن نتطرق إلى تربية الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه نود أن نشير إلى تعريف المحدثين للصحابي. "فالصحابي عند المحدثين هو من لقي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام.. ومن جهة ثانية يدخل فيمن لقي صلى الله عليه وسلم - كما يقول الحافظ ابن حجر - من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه ومن لم يروِ، ومن غزا معه ومن لم يغزُ، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى"55. وعلى ذلك يدخل في جملة الصحابة من شهدوا حجة وخطبة الوداع مع رسول ا صلى الله عليه وسلم ، والذين بلغ عددهم تسعين ألفاً56.
والذي يتأمل في تربية الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه يجد أمراً عجيباً. فقد انقسم الناس باعتبار تلقيهم للتربية من رسول ا صلى الله عليه وسلم كماً وكيفاً إلى ستة أقسام:
1. القسم الأول: ويشمل الذين لازموا رسول ا صلى الله عليه وسلم وصحبوه في مكة وتلقوا عنه الوحي آية تلو آية، مثل أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وهؤلاء عددهم قليل جداً إذا ما قورن بغيرهم، يصل في أكثر التقديرات إلى ثلاثمائة صحابياً. فإذا استبعدنا من هذا القسم المجموعة التي هاجرت إلى الحبشة وكانوا يزيدون على المائة - ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة - سنجد أن هذا القسم الذي لازم صلى الله عليه وسلم وصحبه وتلقى عنه مباشرة منذ مبعث صلى الله عليه وسلم وحتى وفاته لن يتجاوزا المائتي صحابي.(43/40)
2. القسم الثاني: ويشمل الذين أخذوا الأمر من الرسو صلى الله عليه وسلم بترك مكة، سواءً للهجرة إلى الحبشة مثل جعفر بن أبي طالب - وكان عددهم حوالي مائة صحابي. أو الذين أسلموا في مكة وأمرهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى قبائلهم وألا يأتوه إلا إن أظفره الله على عدوه مثل أبي ذر الغفاري وأبي موسى الأشعري.
3. القسم الثالث: ويشمل الذين أسلموا بالمدينة قبل أن يأتيها رسول ا صلى الله عليه وسلم وكانت البيعة معهم على النصرة والجهاد.
4. القسم الرابع: ويشمل الذين أسلموا أثناء الصراع والجهاد فلحقوا بالمدينة مثل خالد بن الوليد ونعيم بن مسعود وعمرو بن العاص.
5. القسم الخامس: ويشمل الذين كانوا يكتمون إسلامهم ولم يسلموا إلا قبيل الفتح، ولكنهم كانوا ينصرون رسول ا صلى الله عليه وسلم مثل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم
6. القسم السادس: ويشمل الذين أسلموا بعد الفتح ولحقوا بشرف صحبة رسول ا صلى الله عليه وسلم قبل موته كسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان بن الحارث.
وسنقف قليلاً مع كل صنف من هؤلاء لنتعرف على كيفية تلقيهم للتربية النبوية، ونبحث في مقدار ما تلقوه بالمقارنة بنوعية الأداء الذي مارسوه، والمهام التي وكلت إليهم في المشروع الإسلامي.
أقسام الناس من تربية الرسو صلى الله عليه وسلم
الذين لازموه في مكة
الذين أخذوا الأمر بترك مكة
الذين أسلموا بالمدينة قبل أن يأتي الرسو صلى الله عليه وسلم
الذين كانوا يكتمون إسلامهم أو لم يسلموا إلا قبيل الفتح
الذين أسلموا أثناء الجهاد ولحقوا بالمدينة
الذين أسلموا بعد الفتح ونالوا شرف صحبة الرسو صلى الله عليه وسلم
1- القسم الأول:
لاشك أن الذين لازموا الرسو صلى الله عليه وسلم في مكة - مثل أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم من الصحابة الأخيار - كانوا يتلقون الوحي منه ويتأثرون بسلوكه وتوجيهاته المباشرة. ولكن المتأمل في الجرعة التربوية التي تلقوْها قبل انطلاقهم لنصرة هذه الفكرة الجديدة يجد أنها يمكن أن تلخص في جملة واحدة: "أنهم آمنوا بفكرة الرسو صلى الله عليه وسلم وصدقوا أنه نبي مرسل من ربه". لكن هذا الإيمان لم تكن وراءه تفاصيل أو تفريعات كثيرة، حيث كان يتنزل الوحي ببطء حسب المواقف والأحداث. وسنجد أبا بكر ينطلق لنصرة الفكرة الجديدة والدعوة لها، فيسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة،57
ويعتق العبيد، ويقف لقريش يحول بينها وبين إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن وراء كل هذا الفعل الضخم وتلك الممارسات الفعالة سوى بعض من قصار السور وبعض الآيات، بالإضافة إلى التلقي المباشر من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن الأمور العجيبة أن حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رغم أنهما أسلما في نهاية العام الخامس من البعثة إلا أنهما سبقا في أدائهما ونصرتهما للمشروع الإسلامي الكثير ممن رافقوا رسول ا صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول وتربوا على يديه الشريفتين. قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.58 فما الذي تربى عليه عمر رضي الله عنه حتى يتأهل للقيام بهذه المهمة، التي لم يستطع أن يقوم بها من سبقه من الصحابة والذين سبقوه في التربية كذلك.
يتبين لنا مما سبق أن صلى الله عليه وسلم لم يحدد جرعة تربوية يجب على المسلم أن يأخذها قبل أن يلتحق بالعمل في المشروع الإسلامي - اللهم إلا الشهادتين - ثم يستكمل تربيته في غمار الأحداث.
2- القسم الثاني:
الذين أخذوا الأمر من الرسو صلى الله عليه وسلم بترك مكة وهؤلاء صنفان:
صنف بعثه الرسو صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة بعد سنتين من جهرية الدعوة وقال لهم صلى الله عليه وسلم "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه"59.
وصنف أسلم وعاد إلى قبيلته يدعوها، ثم عاد إلى صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن أظهره الله.
والذي يتأمل في إرسال الرسو صلى الله عليه وسلم لصحابته إلى الحبشة - وهم ما زالوا حديثي عهد بالإسلام - يتبادر إلى ذهنه مجموعة من التساؤلات:
* ما المدة الزمنية التي قضاها الصحابة في الحبشة؟
* من الذي كان يربيهم في الحبشة طوال هذه الفترة؟
* ألم يكن أهلها يدينون بالنصرانية التي قد تفتن المسلمين؟!
لقد كانت الهجرة في السنة الخامسة من البعثة، وعلى أفضل التوقعات فإن الوحي كان يصل للمسلمين في الحبشة بشكل أو بآخر، لكن شخص صلى الله عليه وسلم - المربي- لم يكن معهم. وقد ضمت هجرة الحبشة الثانية حوالي ثلاثةً وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة. وإذا تأملت هذا العدد فستجده يتكون من مجموعة كبيرة وكتلة ضخمة من الذين أسلموا. وها هو الرسو صلى الله عليه وسلم يبعدهم عنه وعن محضنه التربوي لمدة تقرب من الخمسة عشرة سنة، ليعودوا مرة أخرى إليه بعد فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
إنها خمسة عشرة سنة كاملة وهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن الذين رباهم وعلمهم؟! وكيف يخاطر الرسو صلى الله عليه وسلم ويبعث بهذه المجموعة - حديثة العهد بالدين الجديد - ليقيموا وسط مجتمع نصراني يتعصب لعقيدته ذات الشرعية التاريخية ويدافع عنها؟! وهل بعد قدومهم إلى المدينة أجلسهم رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى جواره ليستكملوا تربيتهم ويأخذوا ما فاتهم أم أطلقهم لاستكمال المشروع جهاداً وبذلاً؟!(43/41)
إن المتأمل في سيرة رسول ا صلى الله عليه وسلم سيجده قد أطلق جعفر بن أبي طالب - زعيم المهاجرين إلى الحبشة - أميراً على رأس الجيش في غزوة مؤتة بعد عودته إلى المدينة ببضعة أشهر فقط. وكان في الجيش عبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود.60 وهما من مهاجري الحبشة أيضاً.
هذا عن مهاجري الحبشة، أما بعض الصحابة الآخرين فقد أمرهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى قبائلهم. وكان منهم أبو ذر الغفاري الذي أسلم ولم يأت صلى الله عليه وسلم في المدينة إلا ومعه قبيلتي أسلم وغفار. ترى من الذي ربى أبا ذر وقبيلتي أسلم وغفار طيلة هذه الفترة؟!
3- القسم الثالث:
ويمثله مجموعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا ولم يتلقوا هذه التربية المكية الطويلة فكان إسلامهم إسلام جهاد ونصرة. ولا يختلف اثنان في قصر المدة الزمنية للتربية التي تلقاها الأنصار إذا ما قورنت بالمهاجرين.
4- القسم الرابع:
ويمثله من أسلموا أثناء الجهاد والصراع مثل خالد بن الوليد. فإذا به يقود جيوش المسلمين بعد عدة أشهر من إسلامه رغم أنه لم يمر بعملية تربوية معقدة تستمر عشرات السنين.
5- القسم الخامس:
ويمثله بعض الذين كانوا يكتمون إسلامهم في مكة أو لم يسلموا إلا قبيل الفتح. وقد استعمل صلى الله عليه وسلم بعضهم مثل العباس، فكان ممن شهد بيعة العقبة الثانية - وهو لم يسلم بعد - بينما لم يعلم
بها الكثير من الصحابة آنذاك. ترى ما هي نظرية الرسو صلى الله عليه وسلم في التربية؟! وكيف يقدم عمه وهو غير مسلم؟! أليس معرضاً للفتنة؟! إنه لم يرتقِ إيمانياً؟! ترى هل يثبت؟!
6- القسم السادس:
ويمثله الذين أسلموا بعد الفتح من أمثال عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية. وكلهم كانوا من الذين أبلوا بلاءً حسناً فيما بعد. وثبتوا في وجه موجة الردة التي اجتاحت الجزيرة العربية عقب وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم رغم البون الشاسع - من حيث التلقي من صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين السابقين الأولين من الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم جميعاً.
كيف نقرأ كل هذه الممارسات التربوية النبوية؟ وماذا كانت رؤية رسول ا صلى الله عليه وسلم للعملية التربوية؟!
خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا61
هذه هي القاعدة التي وضعها رسول ا صلى الله عليه وسلم والتي تفسر لنا فكرة التربية. إن التربية أمر لابد منه، وهو مستمر مع الإنسان حتى مماته. لكن الإنسان المبدع القوي المنتج وهو خارج دائرة الإسلام هو نفسه داخل دائرة الإسلام إذا فقه الدين وفقه حقيقة المعتقد الجديد الذي آمن به. فكم أخذ عمر بن الخطاب من لحظة اعتناقه للإسلام إلى أن يصبح قائداً لأول مسيرة - إن صح التعبير - طافت حول الكعبة؟! كم أخذ من الوقت؟! وهل تلقى قدراً معيناً من المعلومات قبل انطلاقاته حتى يُجاز لمثل هذا الفعل؟! يقول ابن مسعود من رواية البخاري {ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر}. إن عمر رضي الله عنه
كان قوة للإسلام، ولم تكن قوته مستمدة من التربية التي تلقاها أول إسلامه، بل هو الذي منح المسلمين القوة بإذن ربه.
فحمزة وعمر رضي الله عنهما كانا أصحاب بأس وعزم وقوة في الجاهلية، فلما أسلما سخرا هذه القوة للإسلام. لكنهما لم يكونا بحاجة إلى تربية خاصة ليكونا أقوياء. وبالمثل كان سيف الله المسلول خالد بن الوليد فارساً بطبيعة الحال. وقبل إسلامه كان سيفاً مسلطاً على أعدائه. فكان هو الذي اكتشف ثغرة المسلمين في أحد فهجم عليهم وقتل خيارهم. إن خالد بن الوليد لم يصنع منه الإسلام سيفاً، وإنما جاء الإسلام ليشرفه بأن يكون سيف الله بدلاً من أن يكون سيف الكفر. فتربية خالد بن الوليد لم تستغرق وقتاً طويلاً حتى يكون مؤهلاً لقيادة جيوش المسلمين لأنه كفء لهذه المهمة.
لقد وصف رسول ا صلى الله عليه وسلم أبا ذر وصفاً رائعاً فقال: {ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر}62. لقد صدح أبو ذر بالإسلام - عقب إسلامه في مكة - رغم أن الرسو صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك، فكان هذا النعت له بأنه صادق اللهجة، إذا عرف الحق صدح به. وهكذا كانت حال أبي ذر قبل أن تتدخل أي تربية جديدة لتصوغه، فإن أسلم فهو صادق في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
إن عملية التربية لم تكن تستغرق زمناً طويلاً قبل أن يؤذن للفرد بالعمل. فالعمل في ذاته تربية، وهذا الانتقال لمواجهة الواقع تربية. فليس هناك ارتباط شرطي بين التربية الطويلة و بين نتائج العمل و بين العمل الذي سيقام به.
الجميع يشارك في المشروع الإسلامي
يتبين لنا مما سبق عظم هذه القاعدة الجليلة. فخيار الناس في الجاهلية هم خيارهم في الإسلام. ولذلك فعلى الجميع أن يشاركوا في المشروع الإسلامي. أما التربية وتعلم العقيدة فتكون مع الحركة والبذل، وإلا فنحن نبتدع ما لم يقم به رسول الله صلى الله عليه وسلم (43/42)
ويتوهم البعض أن هناك قسطاً ما من التربية يجب أن يؤخذ قبل أن يمارس الناس العمل في المشروع من أجل تغيير الأوضاع القائمة. وهذا ابتداع لم يقم به الرسو صلى الله عليه وسلم ، ويعبر عن سوء قراءة للسيرة، فالأسود الراعي أسلم ولم يسجد لله سجدة، واستعمله الرسو صلى الله عليه وسلم في مشروعه وفي ذروة سنامه "الجهاد"، فاستشهد ولم يسجد لله سجدة، ولم يؤخره صلى الله عليه وسلم بحجة عدم استكمال التربية. وهذا خالد بن الوليد يحكي في قصة إسلامه قول رسول ا صلى الله عليه وسلم لأخيه الوليد بن الوليد سائلاً عن خالد - رضي الله عنه : ".. ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له ولقدمناه على غيره".63
بل إن نعيم بن مسعود أسلم في غزوة الأحزاب، وكان المسلمون في مأزق شديد وجاء إلى صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يأمره بأي شيء يفعله. ترى ماذا قال له صلى الله عليه وسلم ؟! هل قال له اذهب إلى الصفوف الخلفية لتتربى على يد كبار الصحابة؟! لا، لقد أمره أن يخذل عن المسلمين ما استطاع، فاندس بين صفوف المشاركين وهو حديث عهد بالإسلام، لم يتلق بعد أي قدرٍ من التربية؛ بل ربما لم يحفظ ولو آية
واحدة. وبالفعل كان لهذا الصحابي الجليل فضلاً كبيراً في جلاء الأحزاب حيث أوقع الشقاق بين قريش واليهود. لقد فعل ما لم يقم به أبو بكر أو عمر أو حتى صلى الله عليه وسلم نفسه.
ينبغي أن يشارك الجميع في المشروع، فقد يوجد شخص ما خارج نطاق الدعوة له ملكات و مهارات، و بانتقاله إلى مساحات جديدة في المشروع ينقل هذه الخبرة إليه، و لا يحتاج إلى جلسات طويلة لعشرات السنين ظناً منا أنه بعد ذلك سيكون إنساناً منتجاً و فعالاً, إذ ليس هناك ارتباط شرطي بين المدد الزمنية المحددة للتربية وعملية الإنتاج في مجال الدعوة والنهضة. فكم من شجاع مقدام مفكر لم يقرر العمل في المشروع، لكنه إن التحق به نقله نقلة نوعية بجرأته وإقدامه ورجاحة عقله، وكم من جبان خوار متبلد الفكر يعمل في المشروع ويؤخر تقدمه رغم أنه يتعرض لتربية تجاوزت عشرات السنوات.
التوظيف الصحيح
مما سبق نفهم أن ما كان يقوم به صلى الله عليه وسلم هو حسن توظيف للطاقات، فمن أعطاه الله فصاحة كان متحدثاُ رسمياً عن الدعوة، ومن أوتي الدهاء والقوة كان قائداً عسكرياً.
واليوم بعض تيارات الصحوة لا تستطيع أن توظف الطاقات، فهي تتعامل مع المبرمج كما تتعامل مع الفنان، كما تتعامل مع الكاتب، الكل مكلف بمهام واحدة، وإن لم يقم بها فقد تعدى الضوابط، ويتهم بسوء التربية، والواقع أن هذه الطاقات لم يحسن استيعابها وتوظيفها فيما حباها الله من ملكات. لأن كل فرد مسئول أولاً أمام الله في تسخير طاقاته وملكاته.
التوثيق لا التربية
وتعلل بعض الحركات والتجمعات هذا الاهتمام الشديد باستكمال التربية أولاً قبل البدء في الفعل الجاد بأن نهضة الأمة وتقدمها تُحارَب وتُقاوم من قِبَل الكثير من الجهات الخارجية والداخلية، وأن هذه الجهات تحاول اختراق تلك التجمعات أو الحركات للقضاء عليها وعلى كل أمل للنهضة والتنمية والتقدم، وبالتالي لابد من أن يمر الشخص الذي يريد خدمة المشروع بعملية تربوية طويلة حتى يتم التأكد من نواياه الحقيقية واستعداداته، ولضمان ولائه.
ونشير هنا إلى أنه لابد من التفرقة بين التربية والتوثيق أو الاحتياط أو التأمين. فالممارسات التربوية لرسول ا صلى الله عليه وسلم وصحابته كانت واضحة وبينة. فإذا ما كانت التنظيمات آمنة وتمارس العمل العام في حرية؛ فأسلوب التربية النبوي هو الأمثل. أما في حالة السرية فالأمر خارج نطاق التربية تماماً، وإنما هو التأمين والتوثيق والاحتياط.
لابد أن يكون هذا الفارق واضحاً في عقول طلاب وقادة النهضة، لأن عدم وضوحه يؤدي إلى التداخل بين التربية والتوثيق تداخلاً يصعب التعامل معه. بحيث تصبح الفكرة المسيطرة على جميع العاملين هي التربية الطويلة قبل العمل. فإذا تحولت الحركة السرية إلى حزب علني فمن الخطأ أن يعتمد على نظام التوثيق ظناً منه بأنه يمارس عملية التربية. إن وضوح الرؤية يجعل الحركة تمارس في كل مرحلة ما يناسبها من إجراءات وأنظمة، كما يجعلها لا تخلط بين التربية والتأمين.
ما هي مخرجات التربية التي نريد؟
إذا تأملنا في التربية الأولى للصحابة سنجدهم تربوا على الاستقلالية والمسئولية الفردية. يقول الله تعالى: {وكلكم آتيه يوم القيامة فرداً}64، ويقول: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً وهم لا ينصرون}65، ويقول: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى}66.
وقد وضع حسن البنا - رحمه الله - قاعدة تربوية لذلك فقال: "علموه - أي الجيل -:
* استقلال النفس و القلب.
* استقلال الفكر و العقل.
* استقلال الجهد والعمل."67
أما قوله "استقلال النفس والقلب" فيقصد به حب الحق لا حب الأشخاص. أي التعرف على الفكرة لا التعرف على الأشخاص. فكثير من الناس يهتم بمعرفة الأشخاص، ولا يتساءل أبداً ما هي الفكرة التي يطرحونها. لم يناقشها أو يبحث فيها أو يرى أبعادها، لكنه مقلد في المطلق فعندما تقال له فكرة يقول من قائلها؟ فإذا قيل له فلان رفضها- وإن كانت حقاً- وإن قيل أن قائلها فلان قبلها-
ولو كانت باطلاً.(43/43)
كيف يمكن تربية جيل النهضة على أهمية التعرف على الأفكار ومناقشتها مناقشة علمية موضوعية بعيداً عن الحماس والعاطفة؟! هذه مسألة في غاية الحيوية. وإذا استعرضنا القطاعات الكبيرة
من العاملين في ساحة النهضة اليوم لنرى كم منهم يعرف على وجه اليقين - وليس على سبيل الظن- الفكرة التي يتحرك أو يدور حولها، وكم منهم يستطيع أن يشرح فكرته لغيره في شكل واضح لا يقبل لبساً، ويجيب على التساؤلات المطروحة عليه. سنجد قلة قليلة ممن تعرف ما الذي تتحدث عنه, بينما تجد الكثرة الغالبة هم أتباع مقلدون لأشخاص أو لجماعات أو لاتجاهات أو لتيارات.
كما أن "استقلال النفس والقلب" يعني الارتباط القلبي بالله سبحانه وبالإسلام ديناً، ارتباطاً لا يعكره أي ارتباط آخر. ومن ثم فكل من يقدم إنجازاً لنصرة دين الله فنحن نحبه وندعو له- حتى وإن كان يخالفنا أو يتبنى فكرة غير التي نراها. إنه القلب الذي عبد الله رب العالمين وأحب فيه وأبغض فيه، وليس القلب الذي عبد الجماعة أو الحزب فأحب من في الحزب وأعرض عمن سواهم.
ثم انظر إلى قوله "استقلال الفكر و العقل". فاليوم في عمليات التدريب العام هل يلقن الناس إجابات معينة أم يدربون على النظر الناقد68 و على الفكر المبدع و يطالبون بإيجاد حلول لما هو مطروح عليهم من أسئلة الواقع؟! وليسأل كل منا نفسه: ما هو حجم تعليم منهجيات التفكير داخل هذه البنية الواسعة المنتشرة من التيارات و الأحزاب و التنظيمات و غيرها؟! سنجد أن القليل يسمح
بممارسة هذا النوع من المنهجية. فبعض تلك التيارات لا يتساءل عن أموره الداخلية ناهيك عن الواقع المحيط خارجه. فأين نحن من استقلالية الفكر والعقل؟!
لابد أن يمتلك طلاب النهضة وقادتها أدوات النظر والبحث، خاصة في الشريحة العليا التي تمثل الطبقة التي توجه الآخرين. فعندما يصل إلى هذه الطبقة العليا (القيادة) من لا يمتلك أي ملكة في التفكير الناقد أو التحليلي أو التصوري، فإنه يقتل التفكير بين العاملين معه. فينشأ الجمود تبعاً لذلك. هذه قضية خطيرة يجب معالجتها في تيار النهضة الإسلامية.
لابد من تعليم الفكر الناقد - أي تعليم المنهجيات التي يتم بناءً عليها قراءة الواقع - وتعليم الفكر الإبداعي لإيجاد الحلول لقضايا الواقع بحيث لا يتجمد الذهن عند عمل مفكر ما - مهما جل قدره وعظمت مكانته و صعد نجمه في لحظة من اللحظات -بل يجب أن يكون التفكير المبدع مفتوحاً بحيث يستطيع الناس أن يتخيلوا وأن يناقشوا وأن يطرحوا أفكارهم. هذه الأفكار المبدعة - التي تحلق بالناس و توجد حلولاً للواقع الصعب - قد تأتي من أي مكان ومن أشخاص قد لا يُأبه لهم. و يجب تدريب الناس على تقديم هذه الحلول و مناقشتها و بحثها و النظر فيها.
المسألة الثالثة "استقلال الجهد والعمل". فكثير من الناس يكتفي بمجرد الانتماء إلى تيار الصحوة. فإذا مرت السنوات لم يكن له إنتاج و لا مشاركة و لا عطاء. فإذا توقف الناس توقف ولا يتساءل ما الذي أفعله أنا؟! كيف يمكن أن أساهم في نهضة الأمة؟! إنه لا يتبنى أو يدعم مشروعاً، ولكنه فقط ينتظر مع المنتظرين.
فتعليم الناس استقلال الجهد و العمل يعني أن يكون الشخص مستقلاً بجهده و عمله، فإذا عمل الناس زاد عملهم خيرا ًونفعاً ودعماً، وإذا توقفوا سارع إلى العمل والإنتاج غير آبه بتوقفهم أو سكونهم. نلحظ ذلك في المبادرة العمرية في مكة لجعل المسلمين يطوفون حول البيت. فنقلهم بذلك نقلة جديدة لم يطلبها منه القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لم يكتف بما كان المسلمون يقومون به - رغم أن معه القائد الموحى إليه - لكنه فكر ونظر كيف ينقل المشروع نقلة جديدة دون أن يكون ذلك بأمر مباشر من القيادة.
وهناك ظاهرة خطيرة ألا وهي تطلع الكثيرين من طلاب النهضة إلى العمل والممارسة بغض النظر عما ينتج عن هذا العمل. هذه النظرة الخاطئة في انفصال النتائج عن العمل خطيرة ومنتشرة ويتم التقنين لها من خلال التلقين السكوني لآيات وأحاديث معينة ووضعها في غير موضعها. والانفصام نشأ بشكل واضح وسافر. فالناس تُطالَب في أعمالها ووظائفها اليومية بالنتائج. وإذا لم تتحقق هذه النتائج فهم مهددون بالطرد والفصل أو الخصم أو غيرها من العقوبات. أما في أمر الدعوة وإنجاز المشروع الإسلامي فالقول الشائع: "إننا نكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وليس إدراك النتائج علينا"!! نعم.. إدراك النتائج على وجه الجزم ليس بيد الإنسان. فهذا ظرف يخضع لأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته. لكن علينا أن نحاسب أنفسنا على أخطائنا. وانظر إلى المنهج القرآني الذي يعلمنا ذلك. فهو ينسب النصر لله سبحانه و تعالى. يقول تعالى: {و ما النصر إلا من عند الله}69. أما عندما تحدث الهزيمة فيقول تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند(43/44)
أنفسكم}.70 فتحدث عملية مراجعة للخطوات والإجراءات والقرارات، وتُبحث كل هذه السلسلة حتى يستفاد من هذه التجربة للتجربة اللاحقة. أما أن يتم تجاوز هذه المنهجية، والهروب إلى مساحات أخرى - يتم الانكفاء عليها - لمحاولة تسكين الناس ومنعهم من التساؤل حول النتائج والإنجازات والعمل، فإن ذلك يؤدي إلى تكرار للأخطاء باستمرار.
القاعدة الذهبية
يخاف البعض من المراجعات خشية اتهام النوايا وفساد ذات البين. ونود أن نؤكد أن القاعدة تقول: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}.71 فالسابقون بذلوا جهدهم. وهذا ما استطاعوه في فترتهم ومرحلتهم. فنحن لا نريد أن نحاسب الأشخاص ونتهمهم في نواياهم. فربما كانت قدراتهم محدودة. وربما كان الظرف أقوى منهم. ولكن المراجعة تتم لسلسلة الإجراءات والقرارات لمحاولة تجنب الأخطاء التي حدثت والاستفادة من التجربة ونقلها لأجيال المستقبل.
إن من أكبر الجرائم ألا نقوم بأي مراجعة حقيقية، ثم ننسب الفشل إلى الله سبحانه و تعالى - والعياذ بالله - بحجة أن الله هو الذي أراد ذلك الفشل.
أهمية التربية على الاستقلالية
إن إهمال التربية على الاستقلالية- القلبية والعقلية والعملية بين بعض تيارات وأحزاب مباركة تعمل في المشروع - أدى إلى إنتاج جيل مُربَّى تربية الأطفال، فهو دائماً يشك في قدراته، وهو
دائماً ينتظر فعل من هو أكبر منه. كما أنه متعصب إلى حزبه تعصباً يحول دون رؤية أي خير في أي تيار آخر.
الاستقلالية
النفس والقلب
الجهد والعمل
الفكر والعقل
إننا نريد أن نخرج جيلاً من القادة، وليس جيلاً من الأطفال. جيلاً يبادر وليس جيلاً ينتظر. جيلاً يوحد الأمة وليس جيلاً يتقوقع على منظمته. جيلاً شاباً وليس شباباً شاخ بروحه وبعزيمته، ففقد أهم ما يميز الشباب. إن نزع استقلالية الجيل تعني التبلد الذهني وجمود العمل.
من هو الشخص الذي نريد؟
مما سبق يتبين لنا أن تيار الصحوة اليوم - بعد هذا الاحتشاد الكمي الضخم - بحاجة إلى أن يبحث عن الدرة المفقودة، وعن الأشخاص الذين ينقلون المشروع نقلة نوعية. إنه يبحث عن عمر الفاروق الذي يعطي المشروع قوة وطاقة جديدة. إن واجب المرحلة اليوم - ونحن على وشك الانتقال إلى مرحلة اليقظة - أن نبحث عن القوة النوعية، ننقب عنها، ونبذل في سبيل ذلك كل ما نستطيع.
إنسان النهضة
إننا نريد إنسان النهضة الذي لديه خمسة صفات: الرباني العامل المفكر الجريء المنتج.
الرباني: المعلق بالله وبمنهجه وشرعه. فلا يعبد إلا الله. ويُسخر حزبه أو تياره لله، فهو يحب في الله ويبغض في الله، لا يحب من في حزبه فقط ويتجاهل من سواهم.
العامل: الذي قرر أن يهجر السكون، ويبذل لدين الله ولو قعد المسلمون جميعاً.
المفكر: الذي يعمل عقله ويمتلك أدوات التفكير الناقد والإبداعي، ويمحص سبل العمل ولا يتوقف عند فكرة شخص ما بل يعمل عقله في ما يطرح عليه. ساعياً للتطوير الدائم.
الجريء: الشخص المقدام الشجاع المضحي، فهو جريء في فتح مجالات جديدة، وفي استخدام وسائل جديدة، وجريء في مناقشاته، وفي تساؤلاته. إنه لا يخاف في الله لومة لائم.
عامل
مفكر
جرئ
منتج
القائد الرباني
المنتج: الذي يتأكد من أن كل وسيلة يقوم بها منتجة. فإن لم تنتج غيَّرها أو طورها. فهو لا يعبد الوسائل وإنما يبحث عن النتائج ويقيم أداءه تبعاً لذلك. فهو شخص الإنجازات الذي لا يؤمن بأي تبرير للفشل.
كيف نعد إنسان النهضة:
ذكرنا أن علينا أن نبحث عن الدرة المفقودة، وعن الجائزة الكبرى التي تنقل المشروع بإمكاناتها نقلة جديدة، لكن ذلك لا يمنع من أن تتم عملية تربوية جادة لإعطاء العاملين في النهضة الملكات التي يتحولون بها من الغثائية إلى القوة النوعية. ونقترح لذلك هذه الحزم الثلاث:
* حزمة الأدوات الشرعية: مثل العقيدة وأصول الفقه وغيرها.
* حزمة الأدوات الإدارية: مثل التخطيط للمشاريع وكتابة التقارير وغيرها.
* حزمة العلوم الإنسانية: مثل التحليل السياسي وفلسفة التاريخ والجيوبوليتك وغيرها.
وبدون أن يمتلك الجيل - أو قادته على الأقل - هذه الأدوات سيظل لعبة في أيدي خصمه. ونقترح أن تبسط هذه الأدوات وتدرس لجموع العاملين، فكلما انتشر الوعي بها كلما زادت القوة النوعية، وكلما تحسن الأداء وزاد الإنجاز.
إن التربية لا ينبغي أن تُغلِّب جانباً على آخر، ولابد من إعطاء الجسم حقه، والقلب حقه، والعقل حقه.
آليات التربية
نحن نحتاج إلى ثورة حقيقية ومراجعة شاملة لقضية التربية. وفي هذا السياق يجب التفريق بين ضرورة التربية وآليات التربية وأدواتها. فلا يختلف اثنان في أن التزكية والتربية ضرورية. لكن آلياتها هي التي فيها سعة ومرونة. وتنقسم هذه الآليات إلى آليات عامة وآليات خاصة:
الآليات العامة(43/45)
وهي الآليات والوسائل العامة التي كانت على عهد صلى الله عليه وسلم وسنها لنا، وآليات أخرى أتى بها الوحي الكريم. مثل الصلوات الخمسة وإحياء الليل وأذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال، والحج والعمرة وغيرها من الوسائل التربوية. إن الآليات العامة تشمل كل أمر أو ندب أو نهي. وينبغي أن تأخذ هذه الوسائل الربانية حقها. وتعتبر هذه هي الوسائل الأصيلة في التربية. فكل أمر وكل نهي له مردود تربوي لتزكية النفس.
الآليات الخاصة:
وهي التي يحددها كل تيار أو حزب لنفسه ويختص بها العاملين فيه. ولا بأس من تخصيص وسائل تربوية- طالما أنها لا تتعارض مع الشرع.
قواعد هامة
وهناك نقاط هامة يجب الانتباه إليها حتى لا يتم الخلط بين الآليات الخاصة والعامة:
* يجب عدم إهمال الآليات العامة التي شرعها الله ورسوله بحجة الآليات الخاصة. فإن العامل بذلك يفقد وسائل هامة جداً من الوسائل الربانية.
وقد كان تنوع آليات التربية بين السرية والعلنية في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم يخضع للظروف. والأصل هو التربية العامة في المسجد والاستثناء تبعاً للظرف. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتعلمون في مجالس الرسو صلى الله عليه وسلم , فمجالسه كانت هي المعلم الأساسي للصحابة رضوان الله عليهم, وما يذكر عن دار الأرقم في السيرة النبوية المطهرة هو استثناء للأصل، فهناك كانت فئة مطاردة لا تمتلك أي منصة علنية تقف عليها، إنه ظرف محدد قاد إلى مثل هذا الأداء. ترى كم نمتلك من معلومات عما كان يدور في هذا اللقاء؟! فقد نسجت حوله التصورات وتم البناء عليها، واعتبر دار الأرقم من المطلقات، وأنه يجب أن يستمر مع كل الدعوات في كل الأوقات. إنه أمر فيه مبالغة شديدة ومجافاة للواقع العملي الذي نشهده في بعض الدول من حولنا وفي التجارب الإنسانية التي تدور حولنا.72
وبعض الناس يرى أنه لابد من التربية السرية وكل ذلك مرهون بشروط وظروف. فهذا التكلف الضخم في السرية والموجود داخل بعض الأطر النهضوية في الأحزاب والمنظمات يضر مشروع النهضة في المجتمعات الإسلامية ضرراً كبيراً، ويزيده انغلاقاً.
* يجب عدم الهروب من العمل الجاد والبذل بحجة أن الأفراد لم يتربوا بعد. فالآليات الربانية العامة هي الأصل، والتي كان منها الصدع بالدعوة والجهاد والبذل على اختلاف المستويات التربوية. فالدعوة والبذل من الآليات العامة التربوية التي شرعها الله للأمة، وليست عملاً منفصلاً عن التربية. فالعمل والتضحية والقيام بالأعباء تربية -وتربية أساسية - أما التربية النظرية فإنها تأتي كداعم لهذا المشروع والعمل له على بصيرة. أما من يجلسون بالسنوات دون إنتاجية وعمل ينتظرون تحولاً ما في شخصياتهم ليبدأوا العمل؛ فهؤلاء واهمون وسيطول انتظارهم.
* إن عملية التربية عملية ديناميكية فيها بدائل كثيرة, وهي رهينة الظروف والتحولات والأدوات المتاحة. ونحن اليوم في عصر الثورة التقنية. فالوسيلة المعرفية ووسائل نقل المهارات أصبحت متعددة وكثيرة. وقد يقول قائل أن التربية تحتاج إلى صحبة واقتداء. وهذا صحيح, لكن ليس بالضرورة أنها درس صغير في مكان مغلق, فالإنسان قد يصحب قادة النهضة والمتحركين في النهضة ويرى سلوكياتهم
ويقتدي بهم ويتعرف عليهم ويعاشرهم ما أتيحت له الفرصة73, وليس بالضرورة أن يجلس في جلسة مصغرة في شكل مستمر إلى أبد الآبدين بدعوى أنه قرر أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للتعلم. وإن كان هذا ليس محرماً وليس خطأً، ولكنه ليس من المطلقات أو المسلمات، فليس هذا هو الشكل الوحيد الذي يجب أن تتخذه التربية. فيمكن أن تكون لحركة النهضة حلق العلم والتفقه, ويمكن أن تكون لها مجالس التوجيه والوعظ, ويمكن أن تكون لها أشكال غير ذلك حسب الظروف والبيئات.
تقييم الوسائل التربوية
إن لكل وسيلة (خاصة) سلبياتها وإيجابياتها ولا بأس من تعدد الوسائل وتجريبها والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تمت دراسة هذه الوسائل لتقييم نتائجها على وجه الحقيقة لا وجه الانطباع؟! فالبعض يطرح وسيلة تربوية ما، ويدعي أنها وسيلة للتعلم. فكم من الناس تعلم منها علماً شرعياً أو دنيوياً؟؟ يجب أن يكون هناك إحصاءات لرفع الواقع الحقيقي. ومن الأسئلة المطروحة لتقييم أي وسيلة تربوية:
1. ما الهدف منها؟
2. هل هي وسيلة توجيه أم تدريب أم بناء روحي أم علمي؟
3. هل هناك وسائل أخرى أفضل منها؟
4. إذا لم يوجد الآن هل يجب التفكير في وسائل أفضل؟
5. كم من الأفراد يستفيدون من هذه الوسيلة؟
6. ما رأي العاملين في الوسيلة؟
7. ما المدة الزمنية التي بعدها يجب تقييم الوسيلة؟
8. هل تقييمنا للوسائل انطباعياً يعتمد على الإحساس أم أنه تقييم رقمي؟
فإذا قلنا أن وسيلة ما تستخدم للالتقاء والتجمع والتناصح وعمل الخير في مكان ما، فيجب الإجابة على هذه الأسئلة ودراسة مفرداتها منفصلة عن بعضها. لمعرفة كم يتحقق منها على أرض الواقع لتقويم هذه الأداة. فبدون هذه الدراسات سيكرر الناس وسائل ويهدرون أعمارهم بناءً على انطباعات وتخيلات وأوهام, لكن هذه الوسائل قد لا تصمد عند البحث العلمي كثيراً.(43/46)
ونحن لا نهدف من بحثنا هذا أن نهدم وسائل تربوية ؛ ولكن كل ما نريده أن يتحول تيار النهضة من التقليد والمحاكاة والاكتفاء بما هو قائم، إلى الرشد واليقظة والتفكير المستمر في ما هو أفضل وأحسن. نحن نريد للتجمعات والتيارات أن تُجوِّد أعمالها ووسائلها بصفة مستمرة ودورية. ولا يهمنا في كثير ولا قليل شكل الوسائل أو طبيعتها، إنما نريد أن نرى منهجية صحيحة في التفكير والبحث والانتقاء والاختيار. بغض النظر عما سينتج عن هذا الاختيار من وسائل وأدوات.
بعض الأخطاء التربوية
1. تبرير الفشل
لابد من التوقف عن تبرير الفشل من خلال عدم المراجعة و التقويم. ولابد أن يمتلك العاملون أدوات المراجعة والتقويم العلمي, وأن يُزودوا بأدوات فن الاختلاف في جو من المودة والحب والرحمة تجنباً للاصطدام الداخلي بسبب عمليات المراجعة. فيجب أن يتعلم الإنسان أن هذه المراجعة لاكتشاف الحقائق وتقرير ما يجب عمله في المستقبل، وليس محاكمة للماضي وأشخاصه.
2. تكرار السير في الطرق المسدودة
ومن الأخطاء المتكررة في عملية التربية تكرار السير في الطرق المسدودة. فقد تجد حركة النهضة أماكن مسدودة في مناطق معينة من العالم, ثم تستمر في السير في نفس الطريق مراراً وتكراراً لتلقى نفس النتائج. وليس ذلك من الحكمة إنما هو من الانغلاق الذي تفرضه عليها أفكار ونماذج معينة.
3. التربية أداة من أدوات الضبط التحكم
ومن الأخطاء التربوية التي تحيط بعملية النهضة أن تستخدم التربية- داخل بعض الأحزاب والحركات والمنظمات والاتجاهات - كأداة للتحكم لا للوصول للأهداف. فيصبح التحكم في ذاته غرضاً من أغراض التربية. ولا تصبح عملية دفع الناس لتحقيق الأهداف هي الغرض الأساسي منها. والضبط والتحكم في ذاتهما ليسا عيباً, ولكن إذا غلبا على قضية الوصول للأهداف وأصبحا غاية صارا خطراً محدقاً وكبيراً، وتحولا إلى أداة من أدوات التخلف.
ومن مظاهر سوء استخدام أدوات التربية حرص بعض التنظيمات على تربية أفرادها على مبدأ الطاعة العمياء. فالمطلوب من الفرد أن يطيع دون تردد ولا تلعثم ولا كثرة سؤال. وكلما كان الفرد أقل تساؤلاً كلما كان أفضل وأنجب. وقد يتساءل الفرد فيتم ضبطه بالتذكير بالطاعة. ومن أخطر ما يورث الجمود أن يطالب الأفراد بالطاعة العمياء وهم لا يرون طريقاً أمامهم، ولا يرون مراحل مرسومة من قِبل القادة، ولا يرون أهدافاً محددة. فالطاعة هنا تستخدم كأداة لتسكين الجموع. لكن الطاعة مطلوبة، وهي أداة فعالة في التنظيمات الجادة التي تطرح لأتباعها مشاريعها وتحدد وسائلها، وترسم خطواتها، ثم تطالب أتباعها بالطاعة. فأكرم بها من طاعة على بصيرة.
أما الطاعة بدون تردد فيما ليس بمعصية لله - فهي الشكل الأمثل في الجيوش وما شابهها. لذلك لا نجد نقاشاً أو حواراً في الجيوش النظامية بين القائد الأعلى رتبة وبين جنوده. فأوامره لابد أن تنفذ في الحال، وإذا لم تنفذ يُقدم الجندي إلى المحكمة والقضاء العسكري. حيث أن المعارك لا تحتمل إثارة الخلافات.
4. الوصفة الواحدة
ونقصد بها أن يظن المتصدي للعملية التربوية أن أتباعه لابد أن يمروا بنفس المراحل التي مر بها لكي تحسن تربيتهم، ويجب أن يتلقوا بنفس الشكل، يستوي في ذلك من كان من أتباعه من أهل العلم أم لا. كما أن تقييمه لارتفاع الحالة الإيمانية عند أتباعه يكون بالقياس على الأمور التي ترفع إيمانه هو. وهذا خطأ فادح، فرب إنسان يرفع إيمانه الجهاد، ورب آخر ترفع إيمانه الدعوة إلى الله، ورب ثالث يرفع إيمانه تدريب الجيل على الوسائل الحديثة لنشر الدعوة.
5. شيخوخة التنظيمات
فبعض التنظيمات تعاني من الشيخوخة. ولا يشترط أن تكون الشيخوخة متمثلة في كبر سن قادتها، ولكنها تتمثل في أن التنظيم يعامل أتباعه كأطفال. فهم لا يدرون ولا يعلمون شيئاً عن مصلحتهم، وآباؤهم أدرى بما يصلحهم. كما تتمثل الشيخوخة في كون الأعمال التي يُفترض أن يكلف بها فتي عنده ستة عشر سنة، يقوم بها شاب جاوز الخمسة والعشرين عاماً، والأعمال التي يفترض أن يقوم بها شاب في الثلاثين، تجد رجلاً تجاوز الخمسين من عمره يقوم بها، وهكذا تسيطر الشيخوخة على بعض التنظيمات.
6. الفهم الخاطئ للقاعدة الصلبة
بعض الناس يتحدث عن مصطلح (القاعدة الصلبة)، حتى أصبح من المسلمات. وهو وإن كان مصطلحاً منتشراً إلا أن تحويله إلى هدف محدد - يمكن تكميمه بوضع كم له وتوصيفه وتحديد شروط المدخلات وشروط الانتساب لهذه القاعدة، وآليات جعلها صلبة وتحويلها لحقيقة - أمر محال ويصعب أن يتم في أي بقعة من العالم.
فلو نظرنا إلى الشروط التي حددها من كتبوا عن القاعدة الصلبة لوجدنا وصفاً يشمل كل أوصاف المؤمنين في القرآن الكريم، وربما يضيف عليها البعض شروطاً أخرى يرونها ضرورية. ولو نظرنا إلى الواقع العملي، هل تتحقق هذه الشروط في أحد؟! وهل يمكن أن تستمر في حالة وجودها؟! فالشروط التي يندرج تحتها مثل هذا المعنى تحققها شبه مستحيل، لأنها تتكلم عن الإنسان النموذج. وبالتالي نجد أمامنا معضلة من البداية قبل أن نبدأ بتحديد كم هذا القاعدة، وتحديد المدى الزمني(43/47)
لإدخال هؤلاء الأفراد بهذه المواصفات ضمن هذه الدائرة المسماة (بالقاعدة الصلبة). كما أن الأحزاب والجماعات تتفاوت في التوصيف الشرطي تشدداً أو تساهلاً، فيدخل عند البعض كل الناس، وعند آخرين قد لا تجد إلا فرداً أو فردين.
إن الحديث عن تكوين (القاعدة الصلبة) يحتاج إلى إعادة نظر، ليس لمحو هذا المصطلح من قاموس التربية، وإنما لتحديد المعنيين به. ومهما كان الاختلاف حول توصيف المصطلح فإنه لابد من ألا يكون حائلاً دون البذل والعمل بحجة التكوين، فالقاعدة الصلبة المكية - والتي يستشهد بها دائماً - هي التي تحملت وفدت وضحت، وبعضهم لم يتلق أي قسط من التربية الطويلة، فما إن أسلم حتى
صُب عليه العذاب صباً.
إذا أردنا أن نتحدث عن تكوين (القاعدة الصلبة) فإنها تتكون في أتون العمل والبذل. وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي هم أبطالها. وإن كان أبو بكر وعثمان وعلي شهدوا المرحلة السرية - التي قد يرى البعض أن تكوين (القاعدة الصلبة) كان فيها- فإن عمر رضي الله عنه لم يشهد هذه المرحلة، وكان دائماً من الثابتين. فالإحجام لم يُرَبِّ يوماً من الأيام صحابياً، ولم نسمع عن صحابي انكفأ على نفسه ثم أخذ عضوية الانضمام للقاعدة الصلبة.
إن تكوين (القاعدة الصلبة) - في رأينا - ليس من أهداف التربية، فهي تتكون وحدها من أناس حملوا المشروع وانطلقوا به، ويتشرفون بالانضمام إليها كلما زاد سهمهم في البذل والعطاء، إنها ليست قاعدة القاعدين والمخلفين، إنها قاعدة الراكضين المخلصين.
ويستخدم أحياناً مصطلح (القاعدة الصلبة) لتبرير السكون، فجموع أبناء الصحوة هم الذين يغشاهم الخلل!! وهم سبب النكبات!! وهم ليسوا أهلاً لتنزل النصر!! وهكذا تُكال التهم لهذه الجموع، حتى يكونوا في النهاية هم سبب الوبال على الأمة، وذلك حتى ينشغل هؤلاء الأبناء بأنفسهم ولا يطالبون الآباء بأي شكل من أشكال الإقدام والتقدم.
أخطاء تربوية
تبرير
الفشل
الوصفة
الواحدة
تكرار السير في الطرق المسدودة
التربية أداة للتحكم
شيخوخة التنظيمات
الفهم الخاطئ للقاعدة الصلبة
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:
* بمنطوق القانون.
* بمعنى التربية ووسائلها وعلاقتها بالعمل في مشروع النهضة.
2. الاستخدام:
* بالبحث عن الدرة المفقودة، الفرد العامل المفكر الجريء المنتج الرباني ليكون من حاملي المشروع.
* باعتماد تربية متوازنة تتمثل في حزمة العلوم الشرعية، وحزمة المهارات الحياتية، وحزمة أدوات العلوم الإنسانية.
* اعتماد مبدأ التربية في غمار الأحداث.
* الانطلاق لجماهير الأمة وعدم الانكفاء على الذات بحجة الجودة.
3. عدم المصادمة:
+ بالبعد عن تغليب جانب على حساب آخر في العملية التربوية.
+ بتقييم الوسائل المستخدمة في التربية واستبدال الوسائل التي ليس لها مردود فعلي بغيرها.
+ بعدم انتظار أن يتواجد فريق من البشر الذين تربوا حتى بلغوا درجة الملائكة قبل أن يحملوا المشروع.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
تقييم الوسائل المستخدمة
عدم انتظار تكوين فريق ملائكي
بالتربية ووسائلها
البحث عن الدرة المفقودة
التربية المتوازنة
التربية في غمار الأحداث
معادلات القانون:
* عامل + مفكر+ جريء + منتج + رباني = إنسان النهضة
* أدوات شرعية + أدوات مهارية + أدوات العلوم الإنسانية = تربية متزنة
القانون السادس
المؤشرات الحساسة
منطوق القانون
"لكل نهضة موفقة مؤشرات نجاح حساسة تبشر بإمكانية تحقيقها في الواقع"
مفردات القانون:
مؤشرات: هي العلامات التي تدل على التقدم أو التأخر.
أهمية القانون
يبين بدقة مدى التقدم أو التأخر، أو القرب أو البعد عن تحقيق الأهداف. بحيث لا تضيع الجهود سدىً، أو يقف المشروع في مكانه ظناً من قادته أنه يتحرك.
تُعتبر المؤشرات قضية أساسية في أي نوع من الأعمال. فالمؤسسات الربحية التجارية لابد وأن تتابع خسائرها وأرباحها. فتعتمد على المؤشرات المالية بقياس معدل الدوران المالي أو معدل الربحية الصافية أو نسبة السيولة في المؤسسة، فإذا كانت هناك اختناقات أمكن تجاوزها بالتخطيط المبكر لهذا الموضوع. وقد تُستخدم مؤشرات أخرى مثل مؤشرات أداء الموظفين، ومدى رضا العملاء- بطريقة أو بأخرى. وبالتالي يصبح أمام هذه المؤسسة مؤشرات تدل على تقدمها نحو الأهداف أو تأخرها. فإذا حددت المؤسسة أنها تريد تحقيق نسبة رضا بين الزبائن تتجاوز تسعين بالمائة فقد تكون الاستبيانات أفضل وسيلة مقننة تستطيع بها أن تقيس تقدمها أو تأخرها نحو الهدف.
وهكذا لا تتمكن أي مؤسسة من تحديد ما إذا كانت تربح أو تخسر في أي جانب من الجوانب إلا إذا وضعت مؤشرات يمكن بها قياس التقدم والتأخر. وبالتالي تعمل هذه المؤشرات كجهاز إنذار مبكر لاتخاذ القرارات. فإذا تراجعت الأرباح كان هذا مدعاة للبحث ثم تُتخذ إجراءات مبكرة. أما أن تنتظر المؤسسة الربحية إلى نهاية العام لمعرفة ما إذا كانت تحقق أرباحاً أم لا فهذا لا يحدث.
أهمية المؤشرات في مشروع النهضة:
إذا كانت المؤشرات ضرورية للمؤسسات والمشاريع الربحية فهل هي ضرورية لمشروع النهضة؟!(43/48)
ولندرك هذا الأمر هب أننا قمنا بتدخل ما لزيادة عدد المنتسبين لمشروع النهضة، أو لزيادة عدد المشاركين في مشاريع النهضة، أو لزيادة عدد مشاريع النهضة، ثم لم تكن عندنا قاعدة بيانات أو طريقة نستخدمها لمعرفة التقدم والتأخر نحو تحقيق هذه الأهداف، فكيف نستطيع أن نقيم بطريقة قياس علمية
ما إذا كان تدخلنا أحدث تغييراً أو تقدماً وتطوراً، أو جاء بعكس النتيجة التي كنا نريدها؟ إننا لن نستطيع تحديد مدى تقدمنا أو تأخرنا عن بلوغ الأهداف - ولن نستطيع اتخاذ إجراءات مبكرة - إلا إذا كانت المؤشرات حساسة وواضحة.
إن اعتماد قانون المؤشرات الحساسة أمر في غاية الأهمية. فإدارة مشروع النهضة تحتاج إلى معرفة المؤشرات. وفي غياب هذه المعرفة تصبح إدارة المشروع غير ممكنة عملياً. وإذا وجدت فستسير سيراً عشوائياً كالذي يسير في ظلام ولا يعرف الاتجاه الصحيح، ولا يعرف إن كان لا يزال على الطريق أم انحرف؟! فما يسري على المؤسسات الربحية والتجارية يسري أيضاً على مشروع النهضة.
أصناف المؤشرات:
أ. مؤشرات لقياس عمل الأحزاب والتجمعات:
أولاً: عموم الدعاية:(الرأي العام)74
من أهم ما تسعى إليه أي دعوة،75 أن تقوم بالدعاية لفكرتها. فكل فكرة تحتاج إلى دعاية للترويج لها. والدعاية تعرف بأنها فن التحدث عن الفكرة في كل مكان. ونقصد بعموم الدعاية: وصول الدعاية وتأثيرها في كل الشرائح المستهدفة.
جمهور الدعاية:
وعادة ما تتجه دعاية النهضة إلى الرأي العام76 المثقف بالدرجة الأولى، لتخاطبه وتستقطبه وتجذبه إلى مجال النهضة،77 ثم هو - أي الرأي العام المثقف - يخاطب بها الشرائح الأخرى ويوسع قاعدة النهضة.78
جهاز الدعاية:
الدعاية عبارة عن نظام: فيه مرسِل ورسالة ووسط مناخي ومستقبِل، وفيها استجابة تقاس، وتغذية راجعة تعود إلى العقل المركزي الذي يصنع الدعاية.
وسط مناخي
رسالة
مرسل
مستقبل
استجابة
تغذية راجعة
ومن هنا نستطيع أن نقول أن هناك مؤشرات يمكن استقراؤها لمعرفة مدى فاعلية الدعاية، فيمكن مثلاً: تحديد عدد الناس الذين وصلتهم فكرة معينة، وعرفوها معرفة عامة. فإذا قلنا أن هدفنا نشر شعار معين؛ فعلينا أن نقيس:
* كم من الأشخاص وصله الشعار؟
* ومن يعرف مضمون هذا الموضوع الذي تمت الدعاية له؟
* كم عدد النسخ التي وزعت بالمقارنة بعدد الجمهور المستهدف؟
إن الأسئلة التي تتعلق بمدى وصول الفكرة - إلى كم من البشر - هي وسيلة من وسائل القياس.
وبالإمكان أن نقيس أكثر من ذلك مثل:
* ما مدى وضوح الرسالة؟
* ما مدى رضا الجمهور عن الرسالة وتقبله لها؟
* ما مدى الاعتراضات على الرسالة من قبل الطرف الآخر؟
* ما مدى الاستجابات و زيادة عدد المشاركين في المشاريع المطروحة على الجمهور؟
* ما مدى تفاعل الجمهور مع المناطق التي تبث الدعاية للنهضة؟
إذن يمكن استخدام العديد من المؤشرات لمعرفة نمو الفكرة أو تراجعها. ويمكن الحديث عن المستقبِل ومدى أهمية هذه الرسالة وتلبيتها لاحتياجات شرائح معينة في المجتمع:
+ قد تكون الطبقات العامية التي لا تقرأ ولا تكتب.
+ أو الطبقات العامية التي تقرأ أو تكتب.
+ أو الطبقات المثقفة.
وقد يكون الخطاب أعلى من مستوياتهم أو أقل، فيمكن دراسة محتوى الخطاب، ومفرداته، ولغته من حيث مناسبتها لشرائح معينة، وعدم مناسبتها لشرائح أخرى.
كما يمكن دراسة جميع أجهزة البث والوسائل التي تبث الدعاية النهضوية، ومدى تحققها والتزامها بالشروط الأساسية للدعاية من هذا النوع. وكذلك دراسة الأوساط الناقلة ومدى كفاءتها في بث الدعاية وانتشارها، ونوعيتها ونوع الخطاب التي تبثه، حيث يشترك في البث النهضوي حكومات، ومجتمعات، ودول:
* ما نوع هذا البث؟
* ما عدد برامج هذا البث؟
* كم تبلغ ساعات البث اليومي؟
* كم الإيجابي منها وكم السلبي؟
وليست هذه هي المؤشرات الوحيدة لدراسة عموم الدعاية، فهناك مؤشرات تتعلق ببنية وتكوين هذه المنظمات التي تسعى للتأثير في الجماهير، والتي تؤثر بالضرورة على دعاية المنظمة. بالإضافة إلى مؤشرات تتعلق بالأجهزة التي تقوم بالبث لدراسة مدى كفاءتها وقدراتها والتزامها بالشروط الموضوعية.
إن أحد أهم وظائف المؤسسات التي تعمل مع الجماهير هو الوصول لهذه الجماهير. وتقع دراسة آلية الوصول إلى الجمهور في أول اهتمامات هذه المؤسسات.
وهناك مقومات لهذه الحملات الدعائية الموجهة إلى الشرائح الاجتماعية المختلفة المستهدفة بالمشروع النهضوي، حتى تصل الدعاية إلى كل الشرائح، وبطريقة علمية، بعيدة عن العشوائية والتخبط.
مقومات الحملات الدعائية:
1. دراسة الموقف الكلي.
2. تحليل مادة الرسالة والصورة المطلوب انطباعها في ذهن الجمهور.
3. تحديد طبيعة الجمهور المستهدف.
4. تحديد الوسائل المباشرة وغير المباشرة.
5. ضبط العناصر الفنية.
6. رصد الموازنات: مال - بشر.
7. التقويم المستمر للحملة الإعلامية وآثارها.
وينبغي الإشارة إلى أن جوهر المنظمات السياسية الجماهيرية - من قمتها إلى قاعدتها - هو كونها منظمة دعائية.
ثانياً: كثرة الأنصار (شبكة العلاقات)(43/49)
المسألة الأخرى هي قضية الأنصار. فالدعاية تبث لكل الناس. لكن ما هو مفهوم الأنصار في حركات النهضة؟!
تجدر الإشارة هنا إلى أن كثيراً من الناس يعتقد أن فكرة الأنصار هي فكرة متعلقة بأنصار الرسو صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن الحقيقة أن كل الدعوات تحتاج إلى أنصار. فقديماً قيل في الفكر الماركسي أن الحركات الثورية لا يمكن أن تصطدم بنواتها في المجتمع الخارجي. فهي تحتاج إلى بناء واسع حولها، يشكل - إن صح التعبير - الغلاف الذي يحيط بنواة البيضة. هذا الوسط الذي تسبح فيه هذه النواة؛ هو وسط الأنصار. وهو وسط كبير جداً، يمد هذه النواة، ويغلفها ويحميها، ويمنع عنها الصدمات، حتى تستوي وتنضج. وهؤلاء الأنصار هم ثمرة الدعاية.
الأنصار المقربين
عموم الأنصار
الأعضاء
النواة
ونظام الأنصار أيضاً، هو نظام له مدخلات: فكر، ومال، ورجال.
وله عمليات: بحيث توظف هذه الطاقات ويستفاد منها،
وله مخرجات: بشكل مشاريع ومزيدٍ من الدعاية والانتشار والحماية لمشروع النهضة، وفيه تغذية راجعة: لمعرفة تطور هذه البُنَى.
توظيف الطاقات والاستفادة منها
* مشاريع
* دعاية
* انتشار
* حماية
مدخلات
مخرجات
عمليات
فكر
مال
رجال
نظام الأنصار
تغذية راجعة
فالأنصار هم البحر الذي تعيش فيه الأفكار، وعندما ينحسر لا يبقى إلا الموت، والتشرنق على الذات والتحوصل! فكيف نقيس مشروع الأنصار؟
قياس مشروع الأنصار:
قياس نوع الارتباط:
* نوع المرتبطين عاطفياً.
* نوع المرتبطين عضوياً.
* نوع المرتبطين بمشاريع محددة.
قياس آخر:
* قياس درجة الاستفادة من دوائر الأنصار.
* قياس مدى المدخلات من الفكر والمال والرجال لاستقطاب الأنصار.
* استثمار نظام الانتخابات العامة أو النقابية وما شابها لمعرفة حجم الأنصار.
* استخدام نظام التمويل (مثل التبرعات) لمعرفة وجود الأنصار.
وهناك وسائل كثيرة جداً لبناء نظام الأنصار ومعرفة وجوده من عدمه، ومدى فاعليته في النهضة العامة التي ترجوها الأمة.
إن مفهوم الأنصار هو واحد من أهم المفاهيم في العمل النهضوي، في كل أطواره. ففي أي حركة تغييرية - إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية أو غيرها - نجد مفهوم الأنصار شائعاً. وحركة النهضة ممثلة في روادها لا تكفي أبداً لإنجاز المشروع، ونجاحها مرتهن بمفهوم الأنصار.
ثالثاً: متانة التكوين (بناء المؤسسات)
المجال الثالث للمؤشرات هو البنية والتكوين. فمشروع النهضة يحتاج أن تبنى له المؤسسات الرسمية والخاصة التي تهتم بها الدول والتجمعات على وجه سواء. فكثير من هذه التجمعات تفتقد الشروط الموضوعية، أو الكفاءة اللازمة للأداء، فكيف يمكن قياس أو وضع مؤشرات لهذه المؤسسات؟؟
النظام السباعي لمعرفة المنظمات:
1. المكون الفكري للمنظمة:
* ما مدى قوته؟
* ما مدى تمكن أفراد المنظمة من هذا المكون الفكري؟
* ما مدى انتشاره؟
* ما مدى وضوح الأهداف الكلية والمرحلية فيه؟
* كيف تقاس الأفكار وتتطور؟
2. الاستراتيجية
* ما مدى وضوح الاستراتيجية؟
* ما مدى فاعلية الاستراتيجية سواءً في الانتقال المرحلي أو في الوصول إلى الأهداف؟
3. الهياكل
* ومدى ملاءمتها للمطلوب منها.79
4. القوى البشرية.
* هل يوجد الكم الضروري من القوى البشرية؟
* هل يوجد الكم النوعي الضروري؟
* ما درجة الروح المعنوية المنتشرة؟
* ما درجة فاعلية هذه القوى البشرية وكفاءتها في أداء المهام المنوطة بها؟
5. المهارات
* ما مدى توفر المهارات كماً وكيفاً؟
* ما درجة استثمار هذه المهارات؟ فقد تكون هناك مهارات كثيرة جداً، ولكن درجة استثمارها قد تكون اثنين أو ثلاثة في المائة.
6. النظم والأجهزة
* النظم والفاعلية والتقليد داخل هذه المنظمات.
7. ثقافة بيئة المنظمة
* كم درجة الأفكار القاتلة المنتشرة فيها؟
* هل تنمي المنظمة قيم العمل والإنتاج والجرأة؟
* أين توجد هذه القيم داخل المنظمة في مقابل قيم التقليد والالتزام الحرفي والقيم السكونية؟ فإنه إذا لم يتم التوازن بين قيم الالتزام والانتظام وبين قيم العمل والإنتاج والجرأة والتفكير، وطغت إحداهما على الأخرى يحدث الخلل. فكم درجة التوازن بين هذه وتلك؟!
* ما هي الأمثلة والقصص التي غالباً ما يستشهد بها؟ وهل تتفق مع استراتيجية المؤسسة؟
يدخل في هذا البند أيضاً دراسة القيادة:
* ما ثقافتها وقدراتها؟
* هل هذه الثقافة مناسبة لطبيعة الصراع القائم؟
* ما أساليب وطرق العمل المنتشرة بينها؟
* ما مدى المثالية والأخلاقيات في إدارة الأعمال؟
إن بإمكاننا وضع معايير ومقاييس في مجال ما يسمى بمتانة التكوين أو البنية العامة.
المكون الفكري
الاستراتيجية
الهيكل
القوى
البشرية
المهارات
النظم
الثقافة والبيئة
ملاحظة هامة:(43/50)
يتبين من هذا الشكل أو ما يسمى بالنظام السباعي أن استراتيجية المؤسسة تبنى على أساس المكون الفكري لها. وهذه الاستراتيجية بدورها ليست ثابتة؛ بل هي تتغير بتغير الظروف. وانطلاقاً من الاستراتيجية المختارة يبنى هيكل المؤسسة. وقد يتغير الهيكل أيضاً بتغير الاستراتيجية. أما انتقاء القوى والكوادر البشرية فيكون حسب نشاط المؤسسة. بينما تخضع المهارات المطلوبة أو التي يتم التدريب عليها أيضاً للاستراتيجية، إذ أن كل استراتيجية تتطلب مهارات خاصة. قس ذلك أيضاً على النظم وأسلوب الإدارة والثقافة السائدة في المنظمة.
فقد يتواجد خلل في منظمة ما، وأول ما يتبادر إلى أذهان القادة والعاملين أن الخلل في التربية، بينما قد يكون الخلل في اختيار بنية الهيكل وشكل التنظيم، أو في افتقاد الأفراد للمهارات التي تناسب المهمة، أو في تكدس المنظمة بالبشر الذين لا توجد لهم وظائف حقيقية، أو أن قدراتهم تختلف عن الاستراتيجية المختارة.
مما سبق يتبين أن عمليات الحشد المستمرة وصراع التجنيد - على نفس العدد من البشر - بين الأحزاب والتيارات يجب أن ينحسر. فكل منظمة تتطلب أفراداً بمواصفات معينة، وليس كل فرد يصلح لكل منظمة. فالتجنيد العشوائي آن له أن يتوقف، وأن يسود الرشد هذه المرحلة. وألا تتكدس التيارات والمشاريع بشباب يعانون من البطالة العملية. إذ يوضع الشاب في مكان لا يناسب قدراته، إما لأنها أعلى من المهمة المكلف بها، أو لأنها - أي قدراته - أقل من تلك المهمة.
وقد يكون الخلل في ثقافة وبيئة المنظمة. فكثير من المنظمات تتحدث عن التغيير بينما لا تجد
في ثقافتها أثراً لفكرة التغيير. فلا تُدرس الحركات التغييرية، أو وسائل التغيير المختلفة، ولا يتم عرض التجارب الفاشلة والناجحة. وبالتالي فإن منظمة كهذه قد يكون خللها في ثقافتها وبيئتها.
نظام 4 في 4:
ويمكن استخدام نظام آخر هو النظام الرباعي. إذ أن أي مؤسسة تقاس من حيث التكوين بستة عشر معياراً من خلال أربعة مفاتيح: (4x4)
أولاً: المنظمة
1. الهيكل: مدى كفاءة الهيكل وتوافقه مع مهمة المؤسسة.
2. البيئة: مدى ملائمة بيئة المنظمة وثقافتها لتحقيق الأهداف.
4. الإدارة: كفاءة الإدارة للمهام المناطة بها.
3. القيادة: كفاءة القيادة للمهام المناطة بها علماً وتدريباً ( قدراتها وثقافتها).
ثانياً: روافع المؤسسة (الموارد)
1. الموارد البشرية: نوع وكم الموارد البشرية وحافزيتها للعمل.
2. : .
3. .
4. .
ثالثاً: معرفة المؤسسة:
1. بمجال الصراع: هل تعرف المؤسسة مجال الصراع جيداً؟؟ فقد تجد شاباً يتدرب ويستعد في مجال البلياردو لسنوات عديدة، ثم إذا به يجد أن المباراة المزمع عقدها تدور في مجال كرة القدم. فأنى له أن يفوز؟! فالمجالان مختلفان تماماً، وليس هناك رابط بينهما.
2. بتكاليف الصراع: هل تعرف تكاليف الصراع والمواءمة بين العوائد وبين الخسائر؟؟
3. : ( )
4. :
رابعا: ًنظام التخطيط:
1. وجود الاستراتيجية: ما الاستراتيجية الحالية؟
2. :
3. :
4. :
. .80
الهيكلالبيئة والثقافةالفريق القيادي
المناخ الإداري
رافعة الموارد البشرية
رافعة الاتصالات
رافعة التقانة
التعاون
الخصم وخططه
الجمهور
تكاليف الصراع
مجال الصراع
التخطيط للمؤسسة
كفاءتها السابقة
نظام التخطيط
تنفيذ الاستراتيجية
المنظمة
الموارد
المعرفة
التخطيط
المؤشرات الحساسة للعملية التربوية الجماهيرية:
من المخاطر التي تتعرض لها التربية عدم وجود مؤشرات حساسة يمكن اعتمادها لمعرفة التقدم أو التخلف في الحالة التربوية العامة.
فبعض الأحزاب و المنظمات لا تهتم بالشأن العام والتربية العامة وتربية المجتمعات رغم حديثها الدائم حول هذه القضية. بينما اهتمامها في حقيقة الأمر يتركز على الحزب - أو التنظيم والمنظمة - وما يدور فيه. فإذا افترضنا نظرية ( 80 - 20 )، 80 % تربية لمن هم داخل المؤسسة و20 % للخارج(المجتمع) سنجد السنين تمضي ولا تنتقل بعض هذه المؤسسات للخارج مطلقاً, ولا توجه سياستها الدعوية للخارج. وهو خطأ كبير ومؤشر خطير يجب الانتباه له. لذا يجب اعتماد مؤشرات صلبة في مدى انتشار فكرة النهضة بين العاملين في الحقل الإسلامي وجموع المنتسبين لتيار الصحوة وبين المجتمعات الإسلامية, كما يجب اعتماد مؤشرات لقياس انحسار الأفكار القاتلة. كما يجب قياس معدل انحسار الكلمات الاستعلائية بين التيارات، والتي تعني أن هذا التيار أو ذاك وحده على صواب، وأن ما عليه هو الدين بعينه وليس اجتهاداً يقبل القبول والرد. يجب قياس انحسار معدل المشاحنات، ومدى ازدياد كلمات الوفاق والتقارب، وهل لا تزال التيارات تتقوقع على نفسها فلا يعلم أتباعها إلا قول قادتهم، أم أن كل الأفكار تُطرح وتُقرأ على اعتبار أن كل التيارات جزء فاعل في المشروع؟
إذن لابد من رصد مدى انتشار هذه الأفكار في مقولات التيارات المنتسبة للصحوة في المجتمعات المسلمة، ورصد مدى النجاح في جعلها تتراجع لصالح أطروحات أكثر عدالةً وإنصافاً، وأكثر رحمةً للعالمين.(43/51)
ويشكل الحزب أو المنظمة أو التيار في أحيان كثيرة حاجزاً يحول دون التواصل مع الكفاءات والقدرات الموجودة في المجتمعات المستهدف استنهاضها. فبدلاً من أن يكون الحزب أو الجماعة أو المنظمة - سواء كان في السلطة أو خارجها - وسيلة للتواصل مع الآخرين يصبح أداة لإبعادهم و تهميشهم. فكلما اختلفت رؤى أحدهم مع هذا التيار أو ذاك حدث العراك. ولا يكون هناك خيار إلا الالتحاق بالمنظمة أو الدخول في حرب معها. هذا النوع من الأداء خطير ويضر بمجمل المشروع النهضوي. لذا يجب أن تكون عندنا مؤشرات لرصد هذا الأداء ومدى تقدمه أو انحساره. ومن هذه المؤشرات رصد عدد الأنصار لتيار النهضة في المجتمعات الإسلامية.
كما يحتاج المشروع مؤشرات متانة تكوين الأجهزة المختلفة: مثل أجهزة الإحصاء والتخطيط والتكوين والمدارس والجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات. هذا التكوين الشامل للأمة كيف نقيسه؟! كيف نقيس مدى استنهاض الأمة, ومدى انتقالها من طور الصحوة إلى طور اليقظة؟! كل هذه التساؤلات والقضايا لا تُعتمد إلى الآن كمؤشرات حقيقية لعملية الانتقال. بل ما زال العمل في ذاته غاية دون وجود وسيلة لمعرفة ما إذا كنا نتجه في الاتجاه الصحيح أم لا.
إن قضية التربية وإدارة هذا المشروع الضخم, واستخدام المؤشرات الحساسة, والانتقال من فكرة تربية التنظيمات إلى تربية شاملة للمجتمعات الإسلامية بما فيها هذه التنظيمات والتجمعات بشكل عام, يجب أن تكون مؤشراً أساسياً لتقارب عام بين المسلمين، يتقبلون فيه أشدهم تطرفاً ناهيك عن أكثرهم اعتدالاً. هذه القضية يجب أن تكون شاملة عامة وتطرح في المجتمعات الإسلامية لانتقال التيارات والحكومات والاتجاهات من ساحة العراك إلى ساحة التعاون.
ما الذي يعوق عملية إيجاد مؤشرات؟
قد يكون توافر الإمكانيات - لإنشاء مراكز البحوث - عائقاً في نظر البعض لإيجاد مؤشرات. وفي نظر البعض الآخر قد يكون العائق هو الثقافة العامة المنتشرة في المجتمعات، فهي ليست ثقافة رقمية بالدرجة الأولى، وليست ثقافة تقبل المراجعات، وبالتالي فستظل عملية المؤشرات غير مهمة بالنسبة لأفراد كثيرين في ظل الثقافة القاصرة المنتشرة في مجتمعاتنا.
عوائق وجود مؤشرات
إمكانات
ثقافة غير رقمية
غياب التصنيف الدقيق للمؤشرات ومنهجية قياسها
فالمراجعات تعني - عند البعض - المشاحنات حول من المُخطئ ومن المصيب، ولا تعني عملية التطوير. والأرقام تعني تفكيراً حقيقياً وعملاً جاداً لمعرفة مدى التقدم أو التراجع. وهذه المراجعات والأرقام مؤلمة للنفس البشرية التي ترفض إلا الاعتراف بالإنجازات والحسنات. وهكذا يفضل البعض - في هذه المجتمعات - السير من غير علامات، أو يتم تقييم الأمور انطباعياً.
فقد يقول أحد مرتادي مسجدٍ ما يقل رواده من الشباب أو من الناطقين باللغة العربية: "إن العرب لا يصلون! والشباب لا يحضرون المساجد!!". بينما لم يدرك هذا الشخص أن المسجد في منطقة عمالية!! ويسود فيها غير الناطقين باللغة العربية! وأكثر أهل المنطقة ليسوا من صغار السن أصلاً!!
أو قد يقول قائل من أبناء الصحوة الإسلامية: نحن نتقدم لأن نسبة الحجاب تزداد، وهذا يعني أننا نؤثر في الشارع ولنا شعبية ضخمة. وهذا صحيح فقد ازدادت نسبة الحجاب، ولكن ازدادت في نفس الوقت ظاهرة الزواج العرفي، ودخول المسلمين على المواقع الإباحية، وتطور مستوى الإعلان التليفزيوني والأغاني إلى إظهار الكاسيات العاريات بشكل لم يسبق له مثيل.
فكيف نقيس تأثيرنا على الشارع من خلال ظاهرة واحدة وهي انتشار الحجاب؟! رغم أن هناك ظواهر كثيرة منتشرة قد تفسد كل نجاح نراه، خاصة وأنها تخترق كل بيت من خلال الفضائيات والإنترنت.
هذا النوع من الانطباعية في تقدير الأحكام نتج عن غياب ثقافة الأرقام. وهذه الانطباعية السائدة تؤثر كثيراً على الأداء العام للعمل. وهي محبطةٌ في أحيانٍ كثيرة، وفي أحيان أخرى يكتشف الناس بعد عشرات السنين من الانهماك في العمل أنهم لم يغادروا أماكنهم، ولم يحققوا أهدافهم التي تعاهدوا عليها؛ بل والبعض انشغل بأعمال جزئية، أو بعمل استثنائي في ظرف ما اضطر له، وبمرور الزمن صار هذا العمل الاستثنائي هو الأصل!!
نحن نحتاج إلى تعميم الثقافة الرقمية، وثقافة تقبل المراجعة. وهذا يحتاج إلى زمن وتربية، وبالتالي فمسائل التربية يجب أن تركز على تطوير عقلية القائمين على مشاريع النهضة الكبرى، واستقطاب عناصر تقبل هذا النوع من الأداء لهذه المؤسسات والأحزاب والحكومات.
أما استقطاب العناصر العاطفية - التي لا تريد أن تتعب ذهنها في شيء، وتريد أقل الأعمال المجهدة للذهن، وأقل الأعمال المجهدة للجسد، ثم اعتمادهم ليصبحوا في المستقبل قادة لهذه المشاريع
الكبيرة فهو خطأ فادح ومكلف على مسارات مشاريع النهضة -سواءً كان في الحكومات أو المنظمات على وجه سواء.
مؤشرات النجاح
عموم الدعاية (الرأي العام)
متانة التكوين
(بناء المؤسسات)
كثرة الأنصار
(شبكة العلاقات)
أ. مؤشرات لقياس عمل الأحزاب والتجمعات:
المؤشرات الثقافية: مؤشرات الالتزام بالمنظومة القيمية.
مؤشرات الاعتزاز بالذات.(43/52)
مؤشرات احترام الآخر.
مؤشرات شيوع قيم العدل.
المؤشرات الاقتصادية: مؤشرات النمو الاقتصادي.
المؤشرات الاجتماعية: مؤشرات قياس سلامة النسيج الاجتماعي وحيوية المجتمع.
المؤشرات السياسية: مؤشرات المشاركة والعدالة والحريات .. إلخ.
المؤشرات الروحية: ظاهرة الالتزام وحيوية الحالة الإيمانية ومظاهرها.
المؤشرات الحضارية: النظام والنظافة والجمال.. إلخ.
المؤشرات الصحية: المعدلات المختلفة.
المؤشرات التعليمية: في العدد والتخصصات والمستويات المناسبة لسوق العمل والوضع في الهرم الدولي.
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:
بمنطوق القانون.
بالأدوات التي تعين على استخدام القانون من الدعاية إلى التخطيط الاستراتيجي.
2. الاستخدام:
إيجاد أجهزة دعائية إعلامية مؤثرة.
إيجاد شبكة علاقات قوية بين مؤسسات النهضة والجمهور، وبين المؤسسات والتيارات بعضها البعض.
إيجاد منهجية ومراكز بحوث وأجهزة على أعلى مستوى من التدريب لرصد المؤشرات.
التدريب على الثقافة الرقمية والإحصائية.
التأكد من متانة تكوين المؤسسات العاملة للنهضة من خلال أداة التخطيط الاستراتيجي.
3. عدم المصادمة:
* بتجنب إهمال رصد المؤشرات، وإلا راحت جهود المؤسسات والتيارات العاملة والدول أدراج الرياح، ولعلها تخطيء طريقها وهي لا تدري.
* بإيجاد أجهزة دعائية مؤثرة تصل إلى الجماهير، فبدون الأنصار تموت مشاريع النهضة عند أول تهديد.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
إيجاد أجهزة دعاية
تجنب إهمال المؤشرات
بالاهتمام بوجود الأنصار
بالأدوات
إيجاد شبكة علاقات قوية
إيجاد منهجية وأجهزة لرصد المؤشرات
التدريب على الثقافة الرقمية
التأكد من متانة التكوين
معادلات القانون:
* مرسل + رسالة + مرسل إليه + تأثير +تغذية راجعة = جهاز الدعاية
* فكرة - أنصار = فشل
* أهداف عليا + استراتيجية مناسبة + هيكل مناسب للاستراتيجية + كوادر مدربة بالمهارات اللازمة + نظام إداري مناسب+ ثقافة وبيئة ونمط قيادة مناسب = مؤسسة قوية
* دعوة - مؤشرات نجاح = تخبط وبعد عن الأهداف
القانون السابع
التدافع
منطوق القانون
"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"81
مفردات القانون
الدفْع: جاء في المعجم الوجيز دفَعَ الشيء دفْعاً أي نحاه وأزاله بقوة. فيقال: دفعته عني، ودفع عنه الأذى والشر. ويقال: دفْع القول أي ردُهُ بالحجة. والمقصود بدفع الناس أي دفع بعضهم بعضاً.
أهمية القانون
قضية التدافع - كما يشير القرآن الكريم - كانت ولا زالت وستكون هي جوهر الوجود البشري. فالوجود البشري قائم على هذا التضاد، وعلى هذا التدافع المستمر لخلق الله على أرضه. فالبشرية تدعو إلى السلام والأمن، بينما في الواقع يطغى الناس بعضهم على بعض، وتستمر عملية التدافع إلى أن يشاء الله عز وجل، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فقانون التدافع يخبرنا بأنه لا مفر من عملية التدافع المستمرة في السلم والحرب، فهي حالة دائمة ومستمرة لا يجوز تجاهلها أو الأمل في زوالها.
المراحل الثلاث للمؤسسات:
عندما نتحدث على مستوى الواقع الحي، سواء كان على مستوى المنظمات والأحزاب، أو حتى الدول، سنجد ثلاثة مراحل لأي مؤسسة:
المرحلة الأولى: وتسمى مرحلة البقاء أو الوجود. فكل كائن حي أو نظام قائم يحرص أولاً على بقائه أو وجوده.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الاستقرار. فهذا الكيان الذي ضمن وجوده وبقاءه في المرحلة الأولى يسعى الآن إلى الاستقرار. فتأمين الوجود والبقاء قد لا يعني استقرار النظام. لذا فهو يسعى إلى تعديل أوضاعه لإيجاد حالة من الاستقرار.
المرحلة الثالثة: مرحلة النماء أو التنمية. وفيها يهدف الكيان - بعد المرحلتين السابقتين - إلى مستوى ثالث ألا وهو النمو وتطوير ذاته والبناء.
البقاء (الوجود)
الاستقرار
التنميةالمراحل التي تمر بها الدول
وهكذا فإن أي نظام82 يسعى إلى الوجود، ثم إلى الاستقرار، ثم إلى النماء.
والدولة كنظام تمر بهذه المراحل الثلاث وتسعى إلى بلوغ نهاية هذا السلم بتحقيق التنمية. وبالمثل تسعى النظم الأصغر والأضعف أينما كانت إلى بلوغ الهدف نفسه. ومن هنا تأتي عملية التدافع.
مكونات أي نظام
تغذية راجعة
مخرجات
مدخلات
عمليات
التدافع البشري:
هناك نوعين من التدافع البشري:
1. : Win _ win situation . .
2. الصراع: ويُقصد بها الصراعات الصفرية Ze r o _ sum. وفي هذه الصراعات لا يتقبل كلا الطرفين وجود الطرف الآخر إطلاقا،ً ويسعى إلى إنهائه تماماً، والخروج بفوز نهائي ساحق كامل،
بينما يخرج الطرف الثاني من الصراع مغبوناً ومتألماً، إما منسحباً مكسور الإرادة، وإما عازماً على الإعداد لجولة أخرى من الصراع.83
كل طرف يسعى لإنهاء الآخر
فوز الطرفين بنسبة من النسب
قضايا التدافع
لدى البشر
تدافع التنافس
تدافع الصراع
وهكذا يمكننا تقسيم قضايا التدافع إلى تنافسية أو صراعية. فالقضايا التنافسية تحتمل فوز الطرفين بنسبة من النسب. بينما يسعى أحد الطرفين إلى إنهاء الطرف الثاني وإخراجه من ساحة الفعل في القضايا الصراعية.
خطوات التدافع(43/53)
وهنا يتساءل الكثيرون عن خطوات التدافع. وهل هناك خطوات أو قواعد محددة يمكن السير في ضوئها في عملية التدافع؟
و حتى تستطيع مؤسسة أو حركة أو تنظيم ما أن يحدد قواعد وخطوات التدافع يلزمه أولاً الإجابة على هذه التساؤلات، والتي في ضوئها يتم تحديد الخطوات:
* هل التدافع تنافسي أم صراعي؟
* على ماذا يتم التنافس أو الصراع؟
* أين يتم التدافع؟ (المكان)
* ما أدوات الصراع أو التنافس؟( بماذا تصارع أو تنافس)؟
* كم التكاليف؟
* ما المدى الزمني المتوقع؟ (بالتقريب)
* ما مستلزمات الصراع أو التنافس؟ (ما تحتاجه)
هل هناك مفر من عملية التدافع؟
ليس هناك مفر من عملية التدافع: فلو نظرنا إلى التاريخ وإلى الحاضر لوجدنا أن التدافع هو إحدى السنن الكونية التي كانت وما تزال تطرق المجتمعات والكيانات منذ أن نشأت ووجدت على وجه الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهذه بعض الأمثلة:
1. الرسل جميعهم من لدن آدم وحتى رسولنا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
2. تاريخ قيام الدول وسقوطها.
3. تاريخ قيام الحضارات وزوالها.
مجالات التدافع:
وللتدافع مجالات عدة سواء في السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع وغيرها، والتي يمكن اختزالها في المستويات الثلاثة التالية:
* مستوى الفكرة: فعندما تصطرع المنظومات القيمية، سواء الليبرالية والإسلامية والشيوعية وغيرها على مستوى الفكر فهذا صراع على مستوى الفكرة.
* مستوى التنظيم: وعندما تصطرع النظم التي تحمل هذه الأفكار، سواء كانت أحزاباً أو دولاً، فهذا صراع على مستوى النظم.
* مستوى الأشياء: أما عندما يكون الصراع على الأشياء المادية سواء على البترول أو مصادر الطاقة أو أسلحة الدمار الشامل فهذا صراع على مستوى الأشياء.
وهذا التقسيم نظري بحت، إذا أن الصراعات تختلط فيها المستويات الثلاثة: الفكري، والتنظيمي، ومستوى عالم الأشياء. ولكن للدراسة تُقسم مجالات التدافع بهذه الكيفية.
مجالات التدافع
مستوى الأفكار
مستوى التنظيم
مستوى الأشياء
جوهر التدافع
أما جوهر عملية التدافع فهو وجود اختلاف في المصالح. سواءً كانت هذه المصالح دنيوية أو أخروية. فهذا الاختلاف في المصالح والرؤى بين الأطراف المختلفة يؤدي إلى التدافع فيما بينها.
ويقوم التدافع على عنصر القوة. أي محاولة طرف من الأطراف فرض إرادته على الطرف الآخر. إذ أن القوة تُعرَّف على أنها قدرة الطرف (أ) على فرض إرادته على الطرف (ب)، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة.
محاور الصراع
أما المحاور التي يدور حولها الصراع فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
التركيز على البقاء
ثم تسوية الصراع
ثم إزالة أسبابه
ثم جعل الجميع يعملون لنفس الهدف
1. الشرعية
2. توحيد الجهود من خلال
3. انتظام الدعم الخارجي ونوعه.
4. .
5. .
6. .
القيادة كعنصر مهم في التدافع
فإذا تبين لنا مما سبق أن جوهر عملية التدافع هو اختلاف المصالح والرؤى، وقوامها عنصر القوة، ومحاورها هي ما ذكرناه آنفاً، لعلمنا قطعاً أنه - سواء كان تنافساً أو صراعاً - أمر لابد منه. ونلفت النظر هنا إلى أن هذه المنظومات على اختلاف أنواعها تتبلور في القيادة. وهكذا يمكن اختزال التدافع ليكون بين العقول القائدة.
و يمكن القول بأن القائد هو أهم عنصر في الصراع. والقائد في أفضل تعريفاته: له رؤية، وعنده التزام بالهدف الذي يتحرك من أجله، ولديه القدرة على إدارة الآخرين وتوظيفهم لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه.
إذن تحتاج عملية التدافع إلى قيادة تقود الصراع. وهذه القيادة ليست مجرد قيادة؛ بل يجب أن يكون لديها،:
1. رؤية واضحة عن:
o ماذا تريد؟
o وكيف تصل إلى ما تريد؟
2. والتزاماً عالياً بالهدف.
3. المهارات القيادية التي تمكن من إدارة الناس والموارد للوصول للهدف.
فإذا افتقدت هذه العناصر تصبح عملية التدافع بلا قيادة، إنما تخضع لإدارة من نوع ما.
أهم وظائف القيادة
وتحتاج القيادة إلى ثلاثة وظائف متزامنة:
1. تطوير مستمر: فوظيفة القيادة الأساسية أن تقوم بتطوير نفسها باستمرار. سواءً بالقراءة، أو النظر والبحوث والتعلم والتدريب وغيرها من الأمور. فتطور القيادة المستمر، والحرص على أن تكون لها مدخلات جديدة باستمرار وأن يكون نموها مستمراً هو الواجب الأول الذي يحقق تميز القيادة وقدرتها على منافسة بقية العقول القائدة الداخلة في الصراع.
2. خلق ميزة تنافسية للمنظمة أو الجهة التي تعمل لها: والميزة التنافسية تقوم على إيجاد فرصة أو قدرة معينة للمنظمة للتغلب على العقبات التي تقف أمامها، وللوصول لأهدافها في مقابل المنافسين، أو القوى الأخرى التي تدافع المشروع.
3. القدرة على استخدام أدوات القوة: ففي السياسة تعتبر أدوات القوة أو الفعل ثلاثة وهي: المال وما يتعلق به، والإقناع وهو هذه القوة الفكرية المنطقية التي تسمح بإقناع طرف ما بأن يخضع لرغبة الطرف الموجه للفكرة، والقوة المادية وما يصب في جانبها من عناصر القوة الصلبة.(43/54)
هذه العناصر الثلاثة تشكل جوهر أدوات القوة التي تستخدم في الصراع، ووراءها تقف كل الإمكانات المادية والبشرية والمعرفية. فالمال والإقناع والقوة الصلبة هي الأدوات المستخدمة في الساحة مباشرة لفرض إرادة طرف ما على طرف آخر.
إدارة أدوات القوة
خلق ميزة تنافسية
تطوير مستمر
وظائف القيادة
أشكال سبعة في العمل التدافعي
هناك أشكال كثيرة ومتنوعة في العمل التدافعي. ولكن إذا حصرنا كلامنا على المستوى السياسي - والذي هو جوهر عملية النهضة، لتتحول الفكرة إلى إيجاد نظام سياسي يمتلك عناصر القوة، وينقل مشروع النهضة من تصور نظري إلى مشروع يستفيد بإمكانيات الدولة في تنمية المجتمع - إذا حصرنا دراستنا على هذا المستوى فسنجد أشكالاً ومسميات عديدة. وعلى القائد أن يعرف تفصيلات هذه الأشكال وليس عمومياتها، لأن هذا هو جوهر قضية ما يجب أن يتعلمه القائد عن عملية التدافع، وأي نقص في هذه الجوانب سينعكس على نقص في الأداء والتصور والتخيل عند القائد. وقد اخترنا من هذه الأشكال أو المسميات ستة أنواع لانتشارها وكثرة استخدامها على مر العصور من قِبل الدول أو التنظيمات. وسنستعرض في الصفحات التالية هذه الأشكال السبعة:
1. الحرب
إن الحرب هي أداة من أدوات السياسة، وهي "عمل من أعمال العنف، يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا"84.
من التعريف السابق يتبين أن الحرب ليست هدفاً لذاته، وإنما هي أداة من أدوات تنفيذ السياسات، و هي لغة حوار الإرادات، وهدفها إخضاع وكسر إرادة الخصم، ولا يشترط تدميره، بل القائد العسكري الماهر هو الذي يسخر موارد خصمه لصالحه.
وتنقسم الحروب إلى ثلاثة أنواع رئيسة:
* حرب كبيرة: مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهذه الحروب لها خصائصها وتصوراتها.
* حرب متوسطة: مثل حربي الخليج الأولى والثانية، حيث تلتقي قوى عظمى بقوة صغيرة. وتُستخدم فيها الأسلحة التقليدية وما إلى ذلك. ولكنها لا ترقي إلى مستوى الحروب العالمية.
* حرب منخفضة الحدة: وهي في مستوى أدق من هذه الحروب، مثل فيتنام والصومال ولبنان وغيرها.
فكل نوع من هذه الحروب له خصائصه التي يجب أن يعرفها القائد معرفة جيدة. وبدون هذه المعرفة، لا يمكن له أن يتخيل ما الذي يتكلم عنه أثناء وجود الأزمات، أو أثناء إدارة مثل هذا النوع من الصراع، حتى على المستوى النظري.
2. الانقلابات:
والانقلاب هو عبارة عن عملية تتم داخل أجهزة السلطة. حيث يقوم طرف من الأطراف داخل دائرة السلطة بإسقاط فريق العمل السابق والحلول مكانه.
وهناك مجموعة من الأسئلة المتعلقة بهذا الشكل من أشكال التدافع، ولابد أن يكون القائد قادراً على الإجابة عليها. ومن هذه الأسئلة:
* ما هي الانقلابات؟
* ما شروطها؟
* ما كوابحها التي تمنع من حدوثها؟
* ما معدلات العوامل التي تسرع من حدوث الانقلابات؟
* ما سلوك العمل الانقلابي؟ فهناك سلوك معين للعمل الانقلابي.
فمعرفة كل ما يخص الانقلابات مسألة هامة جداً بالنسبة لعقلية القائد وتكوينها.
3. الثورات:
والثورة حدث أشمل من الانقلاب. ففي كل من الثورة والانقلاب يتغير نظام الحكم، ولكن يصحب تغير نظام الحكم في الثورة تغيرات عميقة في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتتأثر فيها أحوال المجتمع بوجه عام. فالثورة لا تختص فقط بتغيير السلطة في الحكم، لكنها تشمل تغيير المنظومة الاجتماعية كاملة.
فانقلاب حركة الضباط الأحرار المصرية في يوليو 1952م الشهيرة لم يتحول إلى ما يسمى بالثورة علمياً إلا بعد أن مس جميع جوانب المجتمع المصري. فتحول اسمه من انقلاب الضباط الأحرار إلى ثورة يوليو.
وهكذا فإن انتقال الفكرة من مجرد استبدال طغمة حاكمة بأخرى مع تغييرات حتمية نتيجة هذا الاستبدال تمس تغيير البنا الاجتماعية في المجتمع؛ سياسةً واقتصاداً وشرائح يقال عنه ثورة وليس عملية انقلاب.
وحتى يستطيع القائد أن يدير الصراع لابد أن يكون على علم جيد بالثورات. وأن يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة التالية:
* ما هي الثورة؟
* ما شروطها؟
* ما توابعها؟
* ما معجلاتها؟
* ما هو سلوك الثورات عندما تحدث حتى يمكن التعامل معها عندما تحدث انفجارات؟
* من أطرافها؟
*
*
*
فكل هذه القضايا يجب أن تؤخذ في الحسبان عندما تدرس هذه الظاهرة. وعلى القائد أن يكون ملماً إلماماً عميقاً بهذا الموضوع الهام.
4. العمل السياسي أو العمل النضالي الدستوري:
وينبغي للقائد أن يفهم هذا الشكل الهام من أشكال الصراع. وعليه أن يُلِم بالأمور التالية:
* .
* .
* . .
* .
* .
* .
* .
. ( )85. .
5. التفاوض:86(43/55)
وهو من أهم أشكال عملية التدافع التي يجب أن يعرفها القائد بشكل واضح. إذ أن استخدامه في الصراع أمر حتمي في أي مرحلة من مراحل الصراع. ففي بعض مراحل الصراع يمتلك كل طرف من أطرافه درجة معينة من السلطة أو القوة أو النفوذ، ولكنه في الوقت نفسه ليس لديه كل السلطة أو النفوذ أو القوة الكاملة التي يستطيع بها إملاء إرادته وفرضها إجبارياً على الطرف الآخر، ومن ثم يصبح التفاوض هو الأسلوب الوحيد المتاح أمام الأطراف التي لها علاقة بالصراع وتريد الوصول إلى حل ما.
ونتيجة لحتمية استخدام هذا الشكل في عملية التدافع فيجب على القائد أن يلم بكافة دقائق وعناصر التفاوض. وعليه أن يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة التالية:
* هل تستطيع تحديد موضوع التفاوض؟
* كيف يتم اختيار الفريق التفاوضي وتدريبه وإعداده للقيام بالعملية التفاوضية؟
* ما نوع التفاوض؟
* ما هو توصيف الحالة التفاوضية؟ هل هي حالة مقايضة، أم تفاعل استراتيجي كامل؟
* كيف تعد الهياكل التفاوضية أو الحزم التفاوضية؟ سواءً كان الجزء الصلب منها أو الجزء الهش؟
* كيف يحدد الموقف العام لأطراف العملية التفاوضية؟
* كيف تحدد الأطراف العلنية والخفية للعملية التفاوضية؟
* ما الاستراتيجيات التي تستخدم فيه؟ سواء كانت الإقناع أو القهر أو التنازل أو التعاون الإيجابي أو التعاون السلبي؟ وما هي هذه المعاني ومتى لا تستخدم في العملية التفاوضية؟
* ما التكتيكات المستخدمة في العملية التفاوضية؟
هذه هي القضايا الأساسية في التفاوض التي يجب أن يدركها القائد وأن يكون مدرباً تدريباً عالياً عليها.
6. حركة اللا عنف:
تعتمد حركة اللا عنف على طبيعة القوة في المجتمع. ذلك أن نتائج هذا الكفاح ترتبط بامتلاك وممارسة القوة وبتأثير ذلك على الخصم.
ويتعارض هذا المفهوم مع الفهم الخاطيء السائد الذي ينظر إلى الفعل اللا عنيف باعتباره يفتقد القوة، وباعتباره يتجاهل واقع القوة في السياسة. فالكفاح اللا عنيف هو أسلوب سياسي ينبغي أن يفهم ويقيم وفقاً لمنطقه الخاص.
إن الكفاح اللا عنيف هو أسلوب لحشد القوى في مواجهة الخصم الذي عادةً ما يكون لديه قدرات إدارية واقتصادية وسياسية وبوليسية وعسكرية. وتستخدم القوة هنا للإشارة إلى كل مظاهر النفوذ ووسائل الضغط المستخدمة ضد الخصم لإقناعه بالتصرف على النحو الذي يريده قادة حركة اللا عنف. فهو أسلوب يستخدم أدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط، ويتضمن أكثر من مائتي طريقة مثل المقاطعات الاقتصادية والإضرابات العمالية وحتى إقامة حكومة الظل.
ولأهمية حركة اللا عنف في المسارات التغييرية يجب أن يهتم القادة بدراستها وأن يكونوا قادرين على الإجابة على هذه الأسئلة:
* ما هي حركة اللاعنف؟
*
*
*
*
*
*
7. الإرهاب:
ويمكن إضافة شكل سابع للتدافع وهو الإرهاب بقسميه: إرهاب الدولة وإرهاب المنظمات لتتكامل لدى القائد صورة عن آليات التدافع.
العمل السياسي
أشكال عملية التدافع
الحرب
الثورة
التفاوض
الانقلاب
حركة اللاعنف
الإرهاب
إن معرفة القائد الصلبة لهذه المسميات أو الأشكال الستة التي تدخل في العمل التدافعي أمر في غاية الأهمية، وتدخل في باب الضروريات، وليست من الحاجيات أو التحسينيات. ومن يفتقدها فقد افتقد شرط النجاح.
إن هذه المسميات يجب معرفتها بدقة شديدة، والتدريب عليها تدريباً عالياً، ومناقشتها مناقشة موسعة، حتى تتكون رؤى كاملة عند القيادات، حول البدائل المتاحة، أمام أي حراك تغييري يراد له النجاح.
ولابد ألا تقتصر هذه المعرفة على الفكر القيادي الذي يقود عملية التدافع فقط؛ بل يجب أن تكون كل الطبقات العاملة في المستوى الوسيط قادرةً على استيعاب هذا النوع من الفكر، وهذا النوع من الأداء. وبدون ذلك تكون المنظومات القائمة على قانون التدافع هشة وقابلة للانهيار. والتاريخ خير شاهد على ذلك. فعندما يدخل مجموعة من الناس مجردين من الأدوات الأساسية في العلوم العسكرية والسياسية، والاقتصادية إلى مجال العمل؛ فكم يحدثون من التدمير لأنفسهم قبل مجتمعاتهم؟!
وسائل التغيير العامة:
ونحب أن نذكر هنا في عجالة سريعة أن للتغيير وسيلتين أساسيتين هما:
وسائل التغيير العامة
سلمي
عنيف
بارد (تداول سلمي)
ساخن (لا عنف)
جيش خارجي
ثورة شعبية
انقلاب
طرق التغيير:
طرق التغيير لإحداث النهضة
طريق تراكمي طويل
طريق اختزالي قصير نسبياً
يحدث بفعل قوى متعددة
الزمن اللازم للحدوث غير محدد ولو بشكل تقديري
أداة الفعل الرئيسة غير محددة
العمل في المتاح وعدم إبداع وسائل مكافئة
إيجاد نقطة بدء (شريحة البدء)
التحرك نحو امتلاك أداة التغيير في وقت زمني محدد تقديراً
تطبيق البرنامج
اختزال الزمن للتقدم الاجتماعي
يشبه طريق الجبرية. وشعار أهله: "ليس علينا إدراك النتائج"
من أمثلته تجارب:
الرسول / الصين / اليابان / العباسيين/ ماليزيا
ومثال ذلك كثير من التحولات في التاريخ الأوروبي والتي تمت عبر تراكم تاريخي طويل كطريق التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية والنهضة العلمية الأوروبية(43/56)
ويتخيل من يخوضون عملية التغيير البطيء أنهم وحدهم هم الذين أنجزوا المشروع. ولكن الواقع يقول أن قوىً أخرى يجب أن تتدخل لتنجز المشروع، وتحوله من مرحلة الاستضعاف إلى التمكين. والخط البطيء الطويل لا بأس به إن وضع في اعتباره ضرورة تواجد قوى أخرى (شريحة التغيير) تسعى لإنجاز المشروع. واعتبر دوره مع هذه القوى أنه دوراً تكاملياً.
أما تفسير حوادث التغيير أنها نشأت من خلال المسارات الطويلة التي تتجاوز مئات السنين دون أي تدخل من قوى أخرى فهو وهم كبير.
إن عملية التدافع ليست مسألة تترك للظروف والحوادث. وكذلك عملية تنمية القيادات. والقيام بهما ليس مما يترك للظروف والحوادث دون اهتمامٍ وترتيب. فإعداد القادة اليوم علم وفن كبير، ومن الخطورة الشديدة أن يتوسد اليوم -في عصر العلم والتنظيم والتربية الموجهة والمركزة- مسألة التدافع من لا يمتلك هذه المعرفة الأساسية والضرورية في مجال التدافع.
والحديث عن التدافع يطول، ولكن حسبنا أن نقول أن عملية إعداد القادة لعملية التدافع شرط أساسي، لأنها عملية لا يمكن تجنبها.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل:
* الإلمام بنوعية عملية التدافع التي يخوضونها،
* ومجالات التدافع،
* ومحاور الصراع،
* والأشكال المختلفة المستخدمة في عملية التدافع،
* ووسائل التغيير العامة،
* وأهم وظائف ومواصفات القيادة.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
تحديد نوعية التدافع (صراعي أم تنافسي؟)
تحديد مجالات ومحاور الصراع.
تحديد الشكل المستخدم.
اختيار الوسيلة المناسبة للتغيير.
الاختيار المناسب للقادة وأدوارهم.
4. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة الهروب المستمر من التدافع طلباً للسلامة، أو النصر السهل. أو نتيجة سوء تحديد نوعية الصراع أو مجالاته أو محاوره، أو اختيار أحد الأشكال أو الوسائل غير المناسبة، أو عدم معرفة القادة لدورهم ووظيفتهم الأساسية.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
تحديد نوعية الصراع
عدم الهروب من سنة التدافع
الدراسة الجيدة واختيار الوسيلة
بطبيعة عملية التدافع ووسائلها
استخدام الوسائل المناسبة
اختيار القيادة المناسبة
تعرف القائد على مهامه
معادلات القانون
* استبدال طغمة حاكمة بأخرى = انقلاب
* تغيير اجتماعي+تغيير سياسي = ثورة
* قطع موارد القوة عن النظام السياسي - استخدام القوة المسلحة = حركة لا عنف
القانون الثامن
الفرصة
منطوق القانون
"الأحداث العظيمة يصنعها اقتناص الفرص"
مفردات القانون
الفرصة: هي اللحظة التي تبدو فيها عوامل النجاح متوفرة ولحظة العمل المنتج قائمة، أو هي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم.
أهمية القانون
قانون الفرصة هو جزءٌ من عملية التدافع، ومعين على فهمها. ومن المعروف تاريخياً أن الفرص تتاح وباستمرار وبدون توقف للأمم، حتى تنهض وتتحرر.
إن إلمام القائد بهذا القانون وتدريبه على كيفية التعامل مع الفرص التي تتاح أمر في غاية الأهمية لنجاح مشروع النهضة.
قانون الفرصة هو جزء من عملية التدافع. وهو يعني الانتقال من مقعد المفعول به إلى مقعد الفاعل. وكما أشرنا من قبل فهي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم. وهذا التقدم قد يكون حاسماً أو جزئياً. وهو يعتمد - بعد إرادة الله جل وعلا - على وجود الاستعداد لدى الطرف الراغب في التقدم لاقتناص الفرصة واستغلال الظرف، لتحقيق المكاسب التي يسعى إليها.
أنواع الفرص
1. فرصة جزئية: لإنجاز هدف من أهداف المشروع، أو قطع مرحلة في الطريق.
2. فرصة كلية: لإنجاز المشروع الكلي والتمكين له. وهي تشمل ما يُطلق عليه بالفرصة التاريخية التي قد تكون:
* فرصة للوصول إلى السلطة،
* أو فرصة للتحرر من الاستعمار،
* أو فرصة تاريخية للحصول على أسبقية معينة في مجال معين من المجالات.
وقد تحدث أحد الرجال النابهين في بداية القرن الماضي عن قانون الفرصة وما يتعلق به وقال: "إن الغاية البعيدة لابد فيها من ترقب الفرص، وانتظار الزمن، وحسن الإعداد، وسبق التكوين"87 فقانون الفرصة والظرف المناسب للتقدم يقابله قانوني الجاهزية، والسرعة وحسن التوقيت.
الجاهزية
إننا لا يمكن أن نتحدث عن قانون الفرصة والظروف الملائمة لحراك ما، بدون الحديث عن قانون الجاهزية. والجاهزية عملية نسبية وليست مطلقة. فلا يمكن أن يدعي تنظيم أو فرد أو حتى دولة ما أنه جاهز لكل الاحتمالات، فذلك ليس من شأن البشر، ولكن الجاهزية هي نسبة وتناسب؛ فإذا كان الطرف المقابل والطرف المنافس أقل جاهزية في مسار من المسارات، عندها يمكن للطرف الأكثر جاهزية بالنسبة له أن يتقدم عليه. وهكذا تُقاس جاهزية أحد أطراف الصراع بالنسبة للأطراف الأخرى المشتركة فيه وليس بالنسبة إلى العالم كله.
إن افتقاد أمة أو تنظيم أو فرد ما للجاهزية اللازمة لاقتناص الفرصة، يفوت الفرصة عليهم، بينما يقتنصها غيرهم.
السيناريوهات(43/57)
ويرتبط قانون الجاهزية بدراسة الاحتمالات أو رسم السيناريوهات. ففي عملية التدافع توجد أربع سيناريوهات شائعة ومحتملة:
1. (Status Quo): . .
2. سيناريو الانقلاب الجذري ( r adical): وهو عكس السيناريو الأول. مفاده أن الوضع سينقلب انقلاباً جذرياً بسبب من الأسباب أوبسبب دراسة من الدراسات. وبالتالي كيف يستعد هذا الطرف في حالة انقلاب السيناريو جذرياً إلى وضع وحالة جديدة تماماً؟
وهذان الاحتمالان أو السيناريوهان متقابلان تماماً، ويمثلان أقصى اليمين وأقصى اليسار - إن صح التعبير - عند وضع السيناريوهات. إلا أنه يقع بينها سيناريوهات وسيطة:
o أن يغلب الاستمرار على التغيير؛ بمعنى أن يحدث تغيير ولكنه طفيف في الوضع القائم. وبالتالي يمكن التعامل مع هذا التغيير الطفيف بإجراء نوع من التحويلات في خطة العمل.
نحو الأسوأ
التغيير يغلب
على الاستمرار
نحو المطلوب
أنواع السيناريوهات
الاستمرار يغلب
على التغيير
الوضع القائم
تغيير جذري (عميق)
تغيير جذري (عميق)
o أو يغلب على الظن أن التغيير سيكون كبيراً ولكنه ليس جذرياً. فتستمر الحالة أو الوضع القائم ولكن التغييرات تكون كبيرة، وبالتالي يتم التعامل مع هذه التغييرات الكبيرة بوضع خطة لمواجهة مثل هذا السيناريو.
بناء السيناريو
يتم إعداد الأفراد والمنظمات والدول للسيناريوهات التي تُرسم في أوضاع معينة. ويتم بناء كل سيناريو بتحديد:
* الوصف العام له.
* الأطراف الفاعلة فيه.
* الشروط الابتدائية لعمله.
* لحظة تفعيل السيناريو (توقيت البداية).
* المدى الزمني للسيناريو المحتمل.
الوصف العام
الأطراف الفاعلة
الشروط الابتدائية
المدى الزمني
لحظة التفعيل
مستلزمات بناء السيناريو
وهذا البناء يحدد طريقة التدخل التي يعتمدها أحد الأطراف لاستثمار الوضع القائم أو التغيرات الحادثة.
ولا تستطيع أي جهة أن تخطط لكل السيناريوهات مرة واحدة، ولكنها تخطط للسيناريو الغالب، وسيناريو محتمل آخر بعده. وتستعد وتجهز نفسها لاستثمار الظرف التي سيحدث للتقدم أو لتفادي المخاطر الواردة فيه.
إذن يحتاج مشروع نهضتنا إلى عقل يقوم بدراسة المتغيرات وتوقع الظروف والأحوال، و يحدد ما يجب أن يخطط له، لاقتناص الفرص، وتجنب المخاطر.
قانون السرعة وحسن التوقيت
هذا يقودنا إلى موضوع في غاية الأهمية، ألا وهو أهمية السرعة وحسن التوقيت، أو كما يقول عماد الدين خليل الاستماع لـ "للحظة التاريخية". فهناك ظاهرة متكررة مفادها أن النجاح والتوفيق ليس مقصوراً بالضرورة على الطرف الأكثر جاهزية؛ بل هناك عنصر آخر يؤثر في قانون الفرصة، ألا وهو قانون السرعة التي هي جوهر النصر في الصراعات. فعندما تكون المسافات بين الأطراف وبين الوصول للسيناريو متقاربة أو شبه متقاربة، قد يكون طرف من هذه الأطراف سريع الحركة، فيقوم بحركة مباغتة ومفاجئة لاقتناص الفرصة. وعندها فإن هذه السرعة في الاستفادة من الوضع القائم تشكل أسبقية، رغم جاهزية بقية الأطراف التي تبدو متقدمة على جاهزية هذا الطرف. والأمثلة على ذلك كثيرة.
كذلك فإن الفرص قد لا تدوم كثيراً حتى يفكر القائد فيها. فبعض الفرص تكون أياماً وبعضها أسابيعاً، وعلى أحسن الظروف تكون شهوراً.
وهنا يأتي دور القيادة الذكية الجريئة القادرة على الفعل السريع. فمن مواصفات القائد وطريقة تفكيره أنه قادر على أن يعمل كرجل الأعمال، الذي لا يضيع الفرصة عندما يراها، ويسرع في استثمارها قبل الآخرين. إذ أن الفرص لا تنتظر، بل هي خادم من يقتنصها.
هذه العقلية القيادية في لحظة الفعل تصبح لها الأسبقية على العقل التحليلي التنظيري، فالقائد يحتاج إلى:
* عقلية المفكر التحليلية،
* وعقلية الطبيب الذي يعالج حالات خاصة،
* وعقلية رجل الأعمال الذي يسارع في اقتناص الفرصة، ولا يتردد في ذلك، ويتحمل المخاطر المحسوبة.88
أما المترددون فرغم جاهزيتهم - الكاملة افتراضاً - فيمكن أن يصبحوا فريسة لمنظمات صغيرة، أو لأفراد مغامرين يسبقونهم للحركة في لحظة الفعل الأساسية. والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ.
الخطوط الأمامية والخلفية
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى موضوع الخطوط الأمامية والخطوط الخلفية. فكثير من المنظمات لا تدرك الفارق بين خطوطها الأمامية التي تواجه الفعل مباشرة وتتحمل نتائجه وبين خطوطها الخلفية التي
تقوم بدعم هذا الفعل. فقد تجد تركيزاً على الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية، فتغرق المنظمة في الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية.
فربما تغرق منظمة من المنظمات في إعداد نفسها على المستوى الروحي أو الفكري والثقافي في مقابل إهمال الخطوط الأمامية التي تحتاج لإعداد وتجهيز في العمل السياسي والإعلامي والمادي وغيرها. فتسقط فريسة لهذا الغياب في قضية التركيز والتوازن بين خطوط الدعم الخلفية وخطوط الدعم الأمامية.
وتغرق منظمات كثيرة في العكس، فتركز على الخطوط الأمامية دون إعطاء الدعم والوزن الكافي للخطوط الاستراتيجية الخلفية المتعلقة بنواحي الفكر والثقافة وخطوط الدعم المادي وخطوط الدعم اللوجيستي بشكلها العام.(43/58)
نستخلص مما سبق أن قضية الإعداد والجاهزية لاقتناص الفرصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتمييز بين هذين الخطين ومعرفة معنى كلمة خطوط داعمة، ومعنى الخطوط الأمامية والتوازن بينهما. فالخطوط الأمامية هي التي يتم من خلالها الصراع، وأي ضعف فيها يؤدي إلى انهيار مكاسب هذه المنظمات.
نظرية "اعقلها وتوكل"
سؤال: هل الفرص تصنع أم تأتي قدراً؟
والذي يحدد الإجابة على هذا السؤال هو زاوية النظر. فإن عدد العوامل المؤثرة في ساحة الفعل الإنساني كثيرة جداً. وكل فرد من الأفراد يمتلك طرفاً من هذه العوامل. فمثلاً عندما تحدث الأحداث الجسام
الضخمة التي لا دخل للمنظمات الصغيرة في إشعال فتيلها كاندلاع الحرب العالمية الأولى أو الثانية بين الكتل الكبيرة المتصارعة، وتستفيد من هذا الظرف الكيانات الصغيرة المحيطة بها كحركات الاستقلال، فإن
تلك الحركات في هذه الحالة لم تشعل فتيل الصراع، لكنها استفادت منه بمدى قدرتها وجاهزيتها على الحصول على مكاسب محددة كاستقلال بعض الدول والمنظمات.
إذن الفرص في جانب منها تأتي بهذه الكيفية. بأن يحدث حدثٌ لم يصنعه الطرف المستفيد، ولكنه يجني الكثير من المكاسب، ويتقدم نتيجة وجود صراعات بين أطراف أخرى. وهناك أنواع من الصراعات يشترك الطرف الذي يطلب الفرصة في دفع الأحداث فيها، بتحريك بعض قطع الشطرنج التي يمتلكها على ساحة الفعل، فتتحرك الأطراف الأخرى، فتتاح فرص جديدة. وهنا تأتي عملية التدخل في صناعة الأحداث.
أطراف
تطلب
الفرص
فرص
لا دخل لطالبي الفرص فيها
فرص لطالبي الفرص
يدٌ فيها
هل الفرص تصنع أم تمنح؟
وفي الحقيقة فإن الأمران يحدثان. فهناك بعض العوامل التي يمكن التحكم فيها وتحريكها لإحداث تغييرات على الساحة تسمح لنا بالتقدم على رقعة الشطرنج، وهناك أحداث لا دخل لنا فيها تحدث بسبب تدافع أمم وشعوب ومجتمعات وأطراف أخرى، وتتاح فيها فرصة للكيانات الصغيرة للتحرك واقتناء الفرص.
وهكذا فإنه يكن المساهمة في صنع الفرص بالأخذ بالأسباب:
1. الذات: الجاهزية.
2. الخصم: دفعه للموقع الذي نريد.
3. الأرض والمناخ: بالمعالجات المناسبة.
ماذا يقول الرسو صلى الله عليه وسلم ؟
ونجد أمامنا في هذا السياق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي أراد الدخول إلى المسجد وهو يحدثه عن دابته التي تركها فضاعت، فقال له: "اعقلها وتوكل". لقد حدد المصطفى صلى الله عليه وسلم هنا قضيتين هامتين:
* القضية الأولى وهي الأخذ بالأسباب، سواءً كانت في الإعداد، أو في التدخل بتحريك أحجار الشطرنج. وهنا يجب أن يتم الفعل كاملاً، لأن المراد من قوله "اعقلها" ضبط الأمور، واستنفاد الجهد والطاقة وأقصى الوسع في الأخذ بالأسباب.
* بعدها لا يبقى أمام الإنسان إلا القضية الثانية وهي أن يكل أعماله إلى الله سبحانه وتعالى وفضله ونعمته "وما النصر إلا من عند الله"89.
ماذا يقول الاستراتيجيون ؟
إن أقوالهم لا تختلف كثيراً، حيث يقول سان تسو المنظر الصيني الاستراتيجي المعروف: بعد تمام الاستعدادات لا يتحقق النجاح إلا إذا وجد ضعف في استعدادات الخصم، بمعنى آخر أننا نمتلك خمسين في
المائة من أوراق اللعبة أو الصراع والتي تكمن في تمام الاستعدادات أوالإعداد الكامل، أما الخمسون في المائة الأخرى فتقع في دائرة ضعف الطرف الآخر، بأن يغفل عن جزئية من الجزئيات، أو عن جانب من الجوانب، فيتم اقتناص هذه الفرصة الناتجة عن غفلة الخصم.
ويقول المنظر الألماني المشهور كلاوزفيتز في كتابه فن الحرب: "بعد أخذ كل ما يمكن عمله في الحساب، فإن هناك فرصة خمسين في المائة من النجاح، والباقي يمكن أن تعزوه لإرادة الله إذا كنت مؤمناً، أو الحظ إذا لم تكن مؤمناً. ولكن المهم عندي أنك تملك خمسين في المائة من الأوراق، لكن هذه الخمسين في المائة يجب أن يقام بها على أكمل وجه؛ من الناحية الحركية والمهنية والترتيب والاهتمام والدقة".
وفي حالة الفشل يجب مراجعة هذه المنظومة مراجعة كاملة، وعدم إرجاع الفشل إلى الله سبحانه وتعالى. فالقرآن خاطب صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم عقب هزيمتهم في أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"90. أي راجعوا منظومتكم، وانظروا كيف حدثت الأخطاء ومن أين جاءت؟ بالتالي تحدث الاستفادة والنمو المستمر. أما في حالة تحقق النصر فتأتي القضية الثانية: "وما النصر إلا من عند الله"91 فيبدأ شكر الله على نعمائه وفضله ومنته وكرمه، والعزم على تحسين الأداء: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً"92 فتتكامل المنظومة الإسلامية بين عمليات المراجعة في حالة الفشل،(43/59)
والتطوير في الأخذ بالأسباب كاملة عملاً بنظرية اعقلها. ثم بعد ذلك بالتوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع الأسباب والشروط تحقيقاً لقول صلى الله عليه وسلم "وتوكل". أما عند إهمال الأخذ بالأسباب والتقصير الشامل الكامل على المستوى المهني والحِرَفي والحركي والتقني والإداري والتخطيطي، سواءً على مستوى القيادات أو المنظمات، ثم عزو النتائج إلى الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك لم يحدث حتى للأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. ف المصطفى صلى الله عليه وسلم ذاق حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، لكنه في حالة الهزيمة لم يقل أنها قدر لابد منه، وأن جيشنا كان الأقوى والأفضل والأكثر انضباطاً وما الهزيمة إلا قدر لا يمكن منعه، ولكنه قال لصحابته ما أخبره به ربه " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"93، أي راجعوا منظومتكم بالكامل، وصححوا أخطاءكم، ثم ثقوا بالله سبحانه وتعالى، وانطلقوا إلى محاولة أخرى. بذلك يصلح العقل المسلم، ويصبح قادراً على تطبيق نظرية "اعقلها وتوكل"، لكن إذا أسيء استخدام هذا المعنى، بحيث تصبح جزئية "توكل" هي الأساس، وتصبح جزئية "اعقلها" هامشية، فسندخل في عملية الجبرية والتواكل، وليس في عملية التوكل.
التنظيمات الكبيرة والصغيرة
إن قدرة المنظمات الصغيرة على الاستفادة من الأحداث تكون أكبر من المنظمات الكبيرة، إذ أن المنظمات الكبيرة لها موازناتها وحساباتها، وغالباً ما تخشى إذا فشلت أن يتم إفناؤها، أما الصغيرة، فإنها تكون مرنة، وتستفيد من الأزمات، التي تعتبرها فرصاً ذهبية لكي تتحرك.
البناء والتكوين السليم
الجاهزية وحسن الإعداد
قانون الفرصة
السوق الاستراتيجي
الاحتمال
1
2
3
بناء
السيناريوهات
انتظار
الزمن
السرعة
في اقتناص الفرص
حسن التوقيت
(اللحظة التاريخية)قانون الجاهزية النسبية قانون السرعة
جوهر الصراع في النصر
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. البحث في التجارب التاريخية التغييرية ودراسة كيفية تعاملها مع الفرص.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
* الجاهزية الدائمة واستمرار الاستعداد لقوله تعالى "وأعدوا".
* اختيار القيادة الشجاعة الذكية التي تبادر باقتناص الفرص.
* السرعة في اقتناص الفرص.
5. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية عندما تمر فرصة تلو فرصة، والقيادات تقدم خطوة وتتراجع خطوات مترددة في التعامل مع الفرصة. أو أن تنتظر فرصة تدوم شهوراً إذ أن العمر الافتراضي للفرص كثيراً ما يكون قصيراً.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
الجاهزية الدائمة
عدم تفويت الفرص
عدم التردد
بالتجارب التاريخية والتعامل مع الفرص
اختيار القيادة الشجاعة
السرعة في اقتناص الفرص
معادلات القانون
* 50% جاهزية +50% ضعف الخصم = فرصة
* فرصة + سرعة +جاهزية = نصر
القانون التاسع
التداول
منطوق القانون
" وتلك الأيام نداولها بين الناس"94
مفردات القانون
الأيام: واليوم هو الوقت الزمني المعروف، ويقصد به أيضاً الأحداث والوقائع كما قيل في معنى أيام العرب أي وقائعهم.
نداولها: جاء في المعجم الوجيز في معنى كلمة (دال) الدهر مثلاً أي انتقل من حال إلى حال. و(أدال) الشيء أي جعله متداولاً. و(داول) الأمر بينهم أي جعله متداولاً تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.
فالمقصود أن الأحداث والوقائع لا تستمر على حال ولا منوال واحد؛ بل هي تارة لهذا الطرف وتارة أخرى للطرف الآخر. فدوام الحال من المحال. فالمنتصر اليوم كان مهزوماً بالأمس، وهكذا تمضي الحياة. يوم لك ويوم عليك.
أهمية القانون
يزرع الاعتقاد بهذا القانون الأمل في قلوب طلاب النهضة. إلاَّ أنه ليس أمل بارد بلا حراك؛ بل أمل يصحبه استعداد للفرص القادمة وعزم على اقتناصها.
قانون الأمل العائد
يقول عماد الدين خليل: هذا القانون يمكن أن نسميه قانون الأمل العائد، فمع ضياع أي فرصة فلا زالت هناك فرص أخرى قادمة، ومن فاته قطار اليوم سيلحق بالقطار التالي، لذا يجب أن يكون جاهزاً لركوبه وإلا فاته واضطر لانتظار القطار الذي يليه، وهكذا..
فإذا كان الأمل مستمراً سواء كان الوضع يبدو يائساً في لحظة تاريخية معينة أم لا، فعلى قادة وطلاب النهضة الأخذ بقانون التداول القائل بأن ذلك الوضع لن يدوم، وأن علينا واجب الاستعداد والتحرك المستمر، بحيث لو أتى القطار في اللحظة التي يقدرها رب العالمين، نكون قادرين على اقتناص الفرصة والصعود وتحقيق المغانم والنصر. وهذا ما يسميه عماد الدين خليل "الاستماع لللحظة التاريخية".
إذن هناك عملٌ قبل وجود الفرصة، وهذا العمل القبلي من الاستعدادات يؤكد على اليقين بعملية التداول، واليقين بعملية التداول ينفي عملية اليأس التي تصيب الناس من رؤية قوة طاغية كالاتحاد السوفيتي في لحظة معينة، أو كالولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحاضر، أو كالرومان والفرس في عصر ما.
قانون التداول
الاستعداد القبلي
اغتنام الفرصة
العمل البعدي(43/60)
إذن يعلمنا هذا القانون أن كل وضع يبدو صعباً في لحظة ما فإنه سيصبح هشاً في لحظة أخرى لاحقة، وإلا تعطل قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" فهناك عمل قبل وجود الفرصة وهناك عمل لاغتنامها وهناك عمل بعد الفرص وهو ما سنتحدث عنه في القانون الأخير وهو دعائم النهضة.
القانون العاشر
الدعائم السبعة للنهضة
العمل البعدي
عندما يُمَكِّن الله للمجتمعات أو الأمم أو الحركات والتيارات، وتحقق أهدافها باستخدام القوانين والسنن التي سبق ذكرها، تجد نفسها أمام تساؤل هام، وهو ما هي احتياجات الدولة؟
فمن الخطأ أن يهمل قادة وطلاب النهضة التفكير في احتياجاتهم بعد التمكين بحجة الانشغال بما هو أهم وهو الوصول للتمكين أصلاً. وهذا التفكير وإن كان في ظاهره منطقياً إلا أن قانون الفرصة يخبرنا أن التمكين قد يحدث بين عشية أو ضحاها، وأن الفرص في أغلب الأحيان لا يمكن التنبؤ بأوقاتها. ويترتب على ذلك أن قادة النهضة قد يجدون أنفسهم في مقاعد التمكين - إن هم أخذوا بقانون الجاهزية - في وقت ما. فكيف سيديرون الدولة؟! وما هي تصوراتهم عنها؟! وغيرها من التساؤلات التي لابد من التفكير فيها ملياً قبل الوصول والتمكين. وهذا هو ما أطلقنا عليه في قانون التداول "العمل البعدي".
وبدايةً تحتاج الدول إلى مجموعة من العناصر أو الدعائم اللازمة لاستنهاض الأمة.
الدعائم السبعة:
أولاً: الروح المشبعة بالأمل
إن أول ما تحتاجه أي أمة هو روح جديدة تسري فيها. روح مشبعة بالأمل بإمكانية الفعل التاريخي، وتحقيق النتائج، والتفوق على الأطراف الأخرى. وقد تناولنا هذا الموضوع بالتفصيل في قانون المكنة النفسية.
ثانياً: الاعتزاز بالذات والتراث المجيد
الاعتزاز الشديد بالذات، واليقين بالقدرة على المشاركة الحضارية. وارجع إلى قانون المكنة النفسية لترى كيف تم زرع قضية الاعتزاز بالتراث الخاص لهذه المجتمعات وبمكوناتها وبقدراتها، واستثمار ذلك في سبيل البعث النفسي عند هذه المجتمعات.
إن الأمل والعزة أداتان كبيرتان تساعدان على بعث حالة نفسية وشعور جديد في هذه المجتمعات. هذا الشعور الضخم بالذات والأمل المفتوح للمستقبل، يجعل العمل الجاد والشاق هيناً على النفس، لأن الإنسان المدفوع بهذين العنصرين: الاعتزاز الشديد بالذات وعدم الرضى بالهوان، والأمل الكبير بتحقق الأهداف، يستعذب كل جهد وتعب في سبيل تحقيق ذاته وأهدافه. وبين هذين الحافزين - الأمل والاعتزاز - يصبح استثمار الوقت في الفعل الحضاري استثماراً هائلاً وضخماً. وارجع إلى النماذج المذكورة في قانون المكنة النفسية لترى كيف يتم تحريك الجموع، وتوظيف أوقاتها في الفعل الحضاري المتقدم في ساحة النهضة.
ثالثاً: العلم الغزير(علم الدنيا والدين)
يحتاج أي مجتمع من المجتمعات إلى منظومة علمية وقيمية. والتفكير في كيفية الحصول على العلم الغزير أمر ضروري لبناء أي مجتمع. والمجتمعات - كما يقول مالك بن نبي- نوعان: نوع يعيش في طور الطفولة نمثله بالفرد المسلم الذي يذهب إلى ديار الغرب فينبهر بعالم الأشياء. فإذا دخل معرضاً للمنتجات
وعُرض عليه منتج، فإن أعجبه اشتراه، وإذا تم إقناعه بآخر اشتراه، فيستخدمه ثم يرميه ليشترى آخر، كالطفل الذي يلعب بلعبة، فإذا تحول نظره إلى غيرها ألقى التي في يده وأخذ الأخرى. فهو ينتقل بين عالم الأشياء. بينما قد يأتي الطالب الياباني أو الطالب الذي يأتي من منظومة حضارية متقدمة، فإذا عُرض عليه منتج، فتح (دليل المستخدم) Manual لينظر إلى أسرارها، وكيف يمكن نقلها إلى مجتمعه، وهنا تأتي قضية مجتمع الرشد، الذي يبحث عن المعرفة، ولا يبحث عن عالم الأشياء.
الاهتمام بعالم الأشياء
الطفولة العلمية
الاهتمام بعالم المعرفة
الرشد العلمي
أنواع المجتمعات
مجتمعات في
طور الطفولة الحضارية
مجتمعات في
طور الرشد الحضاري
إن مجتمعاتنا لا تزال في طور الطفولة العلمية، فهي تبحث عن عالم الأشياء، ولا تبحث عن عالم المعرفة في الأشياء. وعندما تنتقل أمة من الأمم إلى عالم المعرفة، فإن ذلك لا يكون قدراً ومصادفة، إنما هو جهد جهيد. وعندما تبدأ أمتنا في تحويل عقلية الفرد وفي تحويل المنظومة الصناعية والمنظومة العلمية من منظومة تبحث عن عالم الأشياء، إلى منظومة تبحث عن عالم المعرفة، فهي بذلك تنتقل إلى مرحلة جديدة.
ثلاثية التكنولوجيا
وهذا يقودنا إلى الحديث عن قضية التكنولوجيا. فعلى تيار النهضة أن يدرك أن التكنولوجيا ليست هي عالم الأشياء التي نتجت. فالتكنولوجيا الحقيقية مكونة من:
1. البحوث التي يتم بناءً عليها التصنيع الذي يخرج عالم الأشياء التطبيقية،
2. ومن المصانع أو الأداة التصنيعية التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات،
3. ومن الاستخدام الأمثل لعالم الأشياء أو تلك المنتجات.
من هذه المنظومة الثلاثية (البحوث والمصانع وحسن الاستخدام) يمكن أن تعرف التكنولوجيا.(43/61)
أما المجتمعات التي لا تشارك في البحث العلمي بنصيب، ولا تمتلك هذه الأداة المعرفية، ولا تمتلك الأداة التصنيعية أو المصانع التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات ثم هي لا تحسن استخدامها فهي ليست مجتمعات تكنولوجية إنما هي أسواق كبيرة.
وفي غياب المفهوم الثلاثي الجوانب للتكنولوجيا يصبح المفهوم العلمي عندنا مختلفاً عن المفهوم العلمي السائد في المجتمعات التكنولوجية الحقيقية. فيصبح الهدف هو تحصيل الشهادات من غير تحصيل المعرفة الضرورية.
وهكذا لابد أن تتغير فكرة أي مشروع نهضوي عن العلم والتكنولوجيا. ويجب أن تفكر أي حركة نهضوية، وأي حركة استقلال، في الآلية التي يمكن بها الانتقال من عالم الطفولة العلمية إلى عالم المعرفة والرشاد والنضج العلمي.
رابعاً: القوة والاستعداد
تحتاج مجتمعاتنا الإسلامية والعربية اليوم إلى القوة والاستعداد في كل الاتجاهات. فمجتمعاتنا تحتاج إلى قوة عسكرية، وهي مسألة يجب التفكير فيها ملياً. فالسماء الإسلامية مستباحة رغم كثافة السكان وإمكانية الحصول على الأسلحة التقليدية. كما أن قوى الردع التي يجب أن تتاح لهذه المجتمعات غير موجودة في مقابل منظومات تمتلك قوة تدميرية شاملة.
إن العمل الشاق الذي يجب أن نفكر فيه هو كيفية امتلاك أدوات تحمي السماء الإسلامية، وقوة ردع تجعل عملية التفاوض مع الأطراف الأخرى ممكنة. وبالتالي ننتقل إلى عالم الإنسانية المتوازنة؛ لا نعتدي فيه على الآخرين؛ ولا يعتدي فيه الآخر علينا. أما حالة الاستضعاف التي نمر بها، فهي تؤدي إلى معاهدات غير متكافئة، وتؤدي إلى أن يفرض الآخر شروطه على حساب مصالح شعوبنا وأممنا ومنظوماتنا القيمية.
وبالتالي فعلوم الفضاء وما يتعلق بها والعلوم المتعلقة بقوى الردع هي من فروض الأعيان التي تأثم الأمة بتركها، ولا تتحول إلى الكفاية حتى تتحقق الكفاية.
خامساً: منظومة قيمية صالحة وفاضلة
إن وجود منظومة قيمية صالحة يعد من عناصر القوة، وحركة النهضة يجب أن تفكر في هذه القضايا الثلاث الكبرى قبل القضايا الأيديولوجية:
أولاً: درجة العدل التي يجب أن تتوفر في هذه المجتمعات للإنسان كإنسان.
ثانياً: حجم الكرامة المتوفرة للإنسان في المجتمعات التي نريد أن نبنيها. فكثير من النشطين والداعين لحركة النهضة الإسلامية يختزنون منظومات غير عادلة للإنسان وكرامته. تحدوهم في ذلك مفاهيم مغلوطة عن التفوق والتميز الذاتي بسبب من الأسباب. ومن العجيب أن يقول شخص ما "إننا نمتلك الدعوة الحق والآخرون على باطل، بالتالي يجب أن نهيمن عليهم"!! ولمثل صاحب هذه المقولة نقول ومن الذي يعتقد - وهو في منظومة أخرى - أنه على الباطل؟؟!!!
إن كل شخص يعتقد أن ما يتبناه هو الحق. ولو أراد كل طرف من الأطراف أن يؤسس المجتمع على منظومته التي يراها مع وجود تعددية وأطراف أخرى لا تقبل بمثل هذه المنظومة، لوجدنا عالماً من الاقتتال لا تهدأ له ثائرة. بينما يمكن للإنسان أن يعيش في منظومة يتمتع فيها بالكرامة الإنسانية. وذلك عمل فكري ومنهجي شاق، يجب أن تتبناه المجتمعات الإسلامية؛ ليس بدعوى حقوق الإنسان أو الضغوط الخارجية، ولكن بسبب هذه الحقيقة المنطقية، وهي أنه حتى في المجتمعات الإسلامية فإن هناك فوارق بين الطوائف والمذاهب الإسلامية.، فإذا قررنا أن من يختلف معنا في مذهب من المذاهب أو رأي من الآراء هو مواطن من
الدرجة الثانية أو الثالثة لا يحق له كذا وكذا وكذا، لنشأت صراعات لا تنتهي، ولقننت قوانين لا يقبل بها العقل الإنساني، أو المنهج الرباني الذي أنزل الميزان والكتاب ليقوم الناس بالقسط.
إننا نحتاج إلى مراجعة المنظومة القيمية، وتحديد معنى المفاهيم المطلقة؛ كالحرية، والعدل، والمساواة. وأن يتم التراضي حول هذه القيم، وإسنادها بالأدلة الشرعية والعقلية والمصلحية، حتى يمكن أن تصبح قانوناً عاماً عند العاملين في مشروع النهضة، وإلا تحطمت كل الجهود بعد أول خطوة من التنفيذ، ولأصبحت العلمانية هي غاية ما يرجوه أي مجتمع من المجتمعات بشكلها القائم، لأنها تشكل خلاصاً للإنسان من هذه المعاناة، بدلاً من استمرار الحروب، والاقتتال حول قضايا الأيديولوجيات التي لا تسمح للآخرين بالعيش في ظلالها. والأمثلة على ذلك كثيرة.
سادساً: المال والاقتصاد
لا يمكن أن تنهض المجتمعات إلا إذا كان لها نظام اقتصادي صلب، يسمح للإنسان بأن يحقق ذاته وكرامته، وأن لا يقع فريسة للفقر بأي حال من الأحوال. ويجب أن يكون هذا هدفاً اجتماعياً كبيراً. وعميلة الاقتصاد ليست بالبساطة التي يتصورها البعض اليوم، فعملية بناء البنية التحتية في مجتمع من المجتمعات، تحتاج إلى:
* مليارات الوحدات النقدية.
* عقول جبارة تخطط لهذا العمل.
* قدرات تنفيذية قد لا تتاح في المجتمعات الإسلامية في لحظة ما.
فالتخطيط الاقتصادي لإيجاد نظام اقتصادي جديد في هذه المجتمعات في ظل المعطيات الحالية هو عمل ضخم، وليس بالعمل الهين الذي يختزله البعض في مقولة "اتباع الكتاب والسنة"، على ما في هذه المقولة العامة من صواب.
سابعاً: أسس النظم:(43/62)
يحتاج كل مجتمع إلى نظم. ويحلو للبعض القول بأن كل شيء موجود في الكتاب والسنة، وما علينا إلا تطبيقهما لتصلح المجتمعات. وذلك قول صحيح، ولكنه عندما ينزل إلى أرض الواقع يحتاج إلى الكثير من العمل والتفكير، خاصة في وجود نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، فتتعدد الأفهام وتتباين الرؤى،
وعندها يصبح المرجح الحقيقي في ظل هذا التباين هو المصلحة المحققة من هذه النصوص، وليس مجرد النصوص في حد ذاتها.
فنحن نحتاج إلى منظومة سياسية واجتماعية وتربوية وخلقية. فوجود هذه النظم مجتمعة في مجتمع ما توجِد له القوة التي ترتكز عليها بقية الأمور. وكلما ازدادت صلابة المجتمع في نظمه ازدادت قوته في العلم وفي التصنيع والجيش، وتعززت منظومته القيمية، وتعززت الآمال عنده، وازداد اعتزازه بذاته وبفكرته، وحقق نهضته وتقدمه وتنميته.
اعتزاز شديد بالذات
روح مشبعة بالأمل
قوة
واستعداد
العلم الغزير
منظومة قيمية صالحة
مال
واقتصاد
أسس
النظم
الدعائم السبعة للنهضة
الخاتمة
لقد حاولنا في هذا الكتاب أن نسبح في بحر قوانين النهضة، وقد حرصنا من خلال هذه الدراسة وهذا الترحال بين القوانين أن نبين لقادة وطلاب النهضة كيف يتم البحث في القوانين، وكيف يتم التعامل معها بعد اكتشافها، من حيث المعرفة والاستخدام وعدم المصادمة.
ومشروع النهضة اليوم - وهو يرفع راية الانطلاقة العلمية والبعد عن الارتجال - حري بقادته أن يتعلموا هذه القوانين ويبحثوا عنها، ويستكشفوها، ويعلموها لطلاب النهضة، فسنن الله لا تتبدل، ولا تحابي أحداً.
إن القوانين التي تحكم عمليات التحول الاجتماعي كثيرة، ذكرنا نذراً يسيراً منها، لنفتح باباً لعله كان مغلقاً، ونوقد شعلة لعلها تضيء الطريق للطامحين نحو التغيير، وعشاق القمم من قادة وطلاب النهضة.
هذا ونسأل الله أن يتقبل منا هذا العمل، وأن ينفع به قارئه وكاتبه، وأن يكون خطوة نحو التمكين في هذا الطريق الممتد، والذي تبدو فيه الأشواك كثيرة، إلا أنه معبد لمن تسلح بالعلم وتوكل على الله، وهام بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
ثبت المراجع
أولاً: المراجع العربية:
1. السيرة النبوية لابن هشام (1/365).
2. برغوث عبد العزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، كتاب الأمة، العدد (43)، السنة الرابعة، رمضان 1415هـ.
3. د. جاسم سلطان، النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة.
4. جون بيريه، الذكاء والقيم المعنوية في الحرب، ترجمة: أكرم ديري، الهيثم الأيوبي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية.
5. مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا.
6. د.حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، سلسلة عالم المعرفة.
7. داني كوكس وجون هوفر، القيادة في الأزمات، نقله إلى العربية بتصرف: هاني خلجة، ريم سرطاوي، بيت الأفكار الدولية، 1998م.
8. د. سليمان الخطيب، فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1413هـ/ 1993م.
9. صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1411هـ/ 1991م.
10. صحيح سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1408هـ.
11. صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1408هـ.
12. صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1972م.
13. أ.د. عبد الحميد الغزالي، حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة قراءة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى 2000م.
14. اللواء الركن الطيار عبد الرحمن حسن الشهري، تطور العقائد والاستراتيجيات العسكرية الرياض، مكتبة العبيدكان، الطبعة الأولى،1424هـ/ 2003م.
15. عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دمشق، دار القلم.
16. د. عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1407هـ/ 1987م.
17. د. عبد المنعم ثابت، التخطيط الإعلامي والإعلاني لمعالجة قضايا المجتمع وكيفية مخاطبة الجمهور.
18. المقدم دكتور علي عواد، الدعاية والرأي العام. مضمون ونماذج من الحرب في لبنان والخليج، تجارب دولية، بيروت، الطبعة الأولى.
19. د. علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الإمارات الشارقة، مكتبة الصحابة، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م.
20. د. عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، بيروت، دار النفائس، الطبعة الثانية عشرة 1412هـ/ 1991م.
21. غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، بيروت، دار الساقي الطبعة الثانية 1997م.
22. د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير مفاهيم وتطبيقات، العين/ الإمارات، دار الكتاب الجامعي، الطبعة الأولى 1999م.(43/63)
23. د. قاسم بن محمد، الذاكرة التاريخية للأمة، القاهرة، المكتب المصري الحديث، الطبعة الأولى 2000م.
24. مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، عمر مسقاوي، دار الفكر، 1979م.
25. مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى 1412هـ/ 1991م.
26. مالك بن نبي، ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1410هـ/ 1989م.
27. د. محمد أديب صالح، لمحات في أصول الحديث، دمشق، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1393هـ
28. الشيخ محمد الخضري بك، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
29. محمد العبده، حركة النفس الزكية، كيف نستفيد من أخطاء الماضي، ط2، دار الأقرم، الكويت، 1406هـ/ 1987م.
30. محمد بن مختار الشنقيطي، الحركة الإسلامية في السودان مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي، لندن، دار الحكمة.
31. د. محمد سهيل قطوش، التاريخ الإسلامي الوجيز، بيروت، دار النفائس، الطبعة الأولى 1423هـ/ 2002م.
32. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، المجلد الأول.
33. د. محمد عبد القادر حاتم، الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية، بيروت، مكتبة لبنان.
34. الدكتور محمد منير مرسي، أصول التربية، الناشر: عالم الكتب.
ثانياً: المراجع الإنجليزية:
1. And r ew Heywood, Foundations politics, Macmillan p r ess, fi r st edition 1997.
2. A p r oject to be r ealized: Global libe r alism and contempo r a r y Af r ica, In Millenium 1992.
3. Donald Wate r s, A p r actical int r oduction to management science, Addison-Wesley, second edition.
4. Geo r ge A. Steine r , St r ategic planning, the f r ee p r ess, A division of Macmillan publishing co., Inc, 1979.
5. Kenichi Ohmae, The Mind of the St r ategist: The A r t of Japanese Business, Pape r back, McG r aw-Hill Book Company, second edition 1996.
6. Stanley Ka r now, Moa and China: A legacy of Tu r moil, A Pengium book, thi r d edition
==============(43/64)
(43/65)
نهاية التاريخ أم نهاية المثقف؟(1/2)
سلمان بن فهد العودة 13/4/1426
21/05/2005
1- مثقف أم كاتب بلاط؟
لم أستطع أن أمسك خيطاً واضحاً في مجموع أطروحات الكاتب الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) سوى خيط الولاء للإدارة الأمريكية.
فأطروحته الشهيرة في تمجيد الديموقراطية الغربية, وأنها نهاية التاريخ تعني: توقّف الحياة والإبداع والأشواق الإنسانية للمعرفة والترقي والطموح.
وإذا كان (فوكوياما) يقول بتواضع: إنه لا يملك نظرية كنظرية ماركس في التاريخ فلقد صدق، وكان تواضعه في محلّه، فمدار نظريته على إطراء النتائج المشهودة لتطورات السياسة الغربية.
ولا خلاف على جوانب من إنجازات النظم الديموقراطية، بيد أن هذا لا يعني أنها نهاية التاريخ.
وهجومه غير الموضوعي على الإسلام واعتباره (فاشية القرن الحادي والعشرين) كما في نيوزويك ( السبت 5 يناير 2002) يكشف عن تطابقه مع رؤية الإدارة الأمريكية في صناعة الإسلام وترسيمه عدواً للحضارة والحرية.
وهجومه على المجتمع السعودي الموصوف لديه بالتطرف, في الوقت الذي يعترف فيه بضعف وضحالة معلوماته عن هذا المجتمع... ليس سوى صدى باهت للحملة الإعلامية الرسمية, وشبه الرسمية على السعودية والعروبة والإسلام.
وتصويره بأن مشكلة الإسلام هي في التباسه بالسياسة, وحاجته إلى فصل الدين عن السياسة على غرار ما حدث في أوروبا هو ما تنادي به الإدارة الأمريكية من تفريغ الإسلام من محتواه السياسي.
وكنت أشعر بإشفاق حين أراه يقول: إن المشكلة لا ترتبط بعلاقة الإسلام بالغرب، بل بالمعركة داخل الإسلام نفسه...
بينما التقرير الذي نشرته مؤسسة (راند) والتي كان فوكوياما أحد أعضائها يوماً ما يؤسس لافتعال صراعات بينية داخل القوى الإسلامية، ومحاولته دعم أطراف على أخرى بحجة دعم الاعتدال والعصرنة.
ولست أدري إلى متى هذه الثقة لدى مثقف بأن الإدارة الأمريكية تمثل الشفافية والصدق والخير في مقابل محاور الشر العالمية؟!
وإلى متى تظل الجهود الجبارة لمقاومة الغلو إسلامياً, غير ذات جدوى ما دامت لا تتطابق مع الأجندة الأمريكية؟!
ولماذا في الوقت الذي يعلن فيه فوكوياما رفضه للتدخل الأمريكي في صياغة الإسلام ينجر (ضمن حديثه للأستاذ قاسم الذي نُشر في صحيفة المدينة في ملحق الرسالة) إلى تصنيف المسلمين الأمريكيين إلى مسلمين متطرفين تدعمهم السعودية، وهم من ذوي الأصول الأفريقية، وهذه عنصرية بغيضة، و اتهام لأبناء بلده...
وكان يمكن أن يتهم الإدارة بتصعيد الخلاف الفكري، وتحويله إلى تهم قانونية، وهذا مؤكد في حالات عديدة.
بينما يطالب بنسخة معاصرة...
ما هي مقاييس الخطأ لدى ( فوكوياما) في تدخل الإدارة الأمريكية في أفغانستان؟
ثم في العراق؟
هنا لم يأت الحديث قط عن حقوق الإنسان ولا عن حريات الشعوب، وإنما كان الخطأ وفق معيارية مرتبطة بالسياسة الأمريكية ذاتها ومصالحها.
لماذا الحديث عن التدخل الأمريكي في مناطق مختلفة من العالم على أنه (ضلوع في مسألة أمنية)، وأن هذا يسوّغ استثناء الجنود الأمريكان من المحاكمة الدولية؟
لم نفترض أن الأمن القومي الأمريكي هو المحور الوحيد الذي يرسم السياسة, وأنه يمر عبر عواصم العالم؟
ولم نفترض أن السياسة هنا هي التدخل.. بينما يقول فوكوياما: إنه ضد استخدام القوة؟!
2- حرب الإرهاب أم حرب الإسلام؟
إن دوائر كثيرة في الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تتجه إلى إيجاد صورة من الصراع مع العالم الإسلامي، خاصة دول الارتكاز, ومن المؤكد أن الغرب يعي هذا الانتقاء ومَن وراءه.
لقد بدأ الغرب بملاحقة ما يسميه بالإرهاب في أفغانستان ثم العراق، ثم وسع الدائرة إلى رسم مستقبل معاقبة لمجموعة من الدول الإسلامية، ثم بدأت الرؤية الغربية - بشكل كبير - تتجه إلى شمولية الصراع، وملاحقة الرؤية الإسلامية التي سجلت في أحداث الحادي عشر من سبتمبر رفضها لهذا العمل تحت مفهوم ينطلق من مبدئية ومصلحية الإسلام.
هذا التحضير لشمولية الصراع مع مجموعة القوى الحضارية الإسلامية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية تحاول دوائر في الغرب سياسية وإعلامية وثقافية واقتصادية أن تبحث عن مسوّغ يمكن أن يستوعبه عقل الفرد الغربي.
وهنا تحاول هذه الدوائر أن تقدم صياغةً مناسبةً عن المفهوم والفكرة الإسلامية لتعبئة العقلية الفردية في الغرب؛ لتقبُّل هذا الصراع الذي من المؤكد أنه يتجه لغير صالح الغرب، والذي سيكون مسؤولاً عن مستقبل أكثر مرارة ومفاجأة من تصرف خاص وقع في الحادي عشر من سبتمبر.
إن استدعاء صراع القوى الحضارية بين العالم الإسلامي والغرب يعني تعقيد المشكلة الغربية التي يصعب عليها أن تستوعب مرارة المواصلة في مرحلة ربما تكون الخيارات الإسلامية أكثر تأثيراً فيها!!
ومع هذا فإننا ندرك أن هذا الصراع لا يصنع الأفضل لكل الأطراف.
إننا هنا يجب أن نحترم أمانة التاريخ، وأن نقرأ الأمور بجدية أكثر، وربما كانت مجموعة القوى الغربية المفضلة لهذا الخيار تركض وراء الوهم، أو تفضل مشاهدة نشوة الغرور.(43/66)
إن الغرب حين يتصرف كقوي مستبد، فإنه يقول للآخرين: يجب أن تتصرفوا كمستبدين أقوياء، وهذه مصادرة لمنطق الفضيلة والعقل.
لقد استعملت دوائر إعلامية وثقافية في الغرب تبرير هذا الخيار في عقلية الفرد الغربي بأن الأزمة التي بدأ الغرب يواجهها إنتاج للصناعة الثقافية والاقتصادية الإسلامية المتداولة في دول الارتكاز الإسلامي المهدِّدة لوجود الغرب وحضارته حسب نظر هذه الرؤية الصاعدة في الغرب.
ونحن نفضل -اهتداءً بهدي سائر أنبياء الله- ألاّ يكون هذا خيارنا الأول، بل أن يكون هناك حرية لإعطاء الفرد الغربي مساحة من الحياد والهدوء يحاول أن يعرف بها الإسلام.
3- حقيقة عادلة:
لا شك أن واقع المسلمين اليوم ليس هو المفهوم الذي رسمه الإسلام تماماً، وأن الإسلام رسالة متعالية عن الازدراء، والظلم، وصناعة الشر، وهذا معنى شمولي يفترض أن يسمح لكل فرد في الغرب أن يتعرف عليه.
ومع هذا فإننا نعي أن واقع المسلمين -وإن لم يكن تماماً- هو الإسلام فمن المؤكد أن الإسلام مطبق في واقع المسلمين في شريحة لا تحدها دولة أو لغة، بل هي معتبرة بمفهوم الإسلام الصحيح الوسطي الخالد.
ومن الأمانة والعقل أن نعترف بمظاهر كثيرة من الخطأ في الواقع الإسلامي، لكنها بكل تأكيد لا تمثل كل هذا الواقع، وأيضاً فهي قابلة للمعالجة والتصحيح، والغرب حين يتحدث عن مفهوم سيئ في واقع المسلمين يجب أن يدرك أنه ربما يتحدث عن أنموذج مختار يناسبه، أو يمارس نوعاً من التحريف للحقيقة، والمزايدة على الوهم حين يتحدث عن أنموذج فاضل، لكنه لا يعترف له بذلك، ومن المهم هنا أن يتأكد الغرب أنه ليس يصنع شيئاً لصالحه.
إن مفهوم التعامل الإسلامي مع الغرب يجتمع في آيتين من كتاب الله يدرك حقيقتهما أصحاب العلم، والوسطية في العالم الإسلامي، هما قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين*إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)[الممتحنة:8ـ9].
هذا المفهوم هو الحقيقة العادلة التي رسمها القرآن الذي يؤمن به جميع المسلمين وإن كان بعضهم قد يخطئ في فهمه، لكن من المهم ألاّ نصنع الجو المناسب لهذا الخطأ.
إن منطق العقل يقف ضرورةً لاحترام هذا المفهوم العدلي في التعامل، ومن المؤكد أن الغرب على مستوى القرار لا يمتلك ولو مجرد رؤية معتدلة في التعامل مع العالم الإسلامي.
من الأفضل أن يعي الغرب أن مظاهر الخطأ التي تقع في العالم الإسلامي، وإن كانت تتمتع بأسباب بيئية خاصة إلا أنه من المُدرك -حتى للفرد العادي- أن الغرب من صناع هذا الانحراف الذي قد يكون أزمة تواجه الغرب نفسه، بل هذه حتمية قادمة في ظل هذه الممارسة الغربية لورقة الصراع، وهنا يجب أن يدرك الغرب أن المجتمعات الإسلامية ستكون متسامحة بشكل عفوي، وربما متعاطفة مع كل أشكال المواجهة والعداء للغرب دون امتلاك فرصة كافية لقراءة التصرفات وصوا بيّتها
4/ كهنوت السياسة والاقتصاد:
الدور البائس الذي لعبه رجال الكنيسة ضد الفرد في المجتمعات الغربية في القرون الوسطى يلعبه اليوم بشكل أكثر سحقاً للفرد الغربي مجموعة من رجال السياسة، وبعض الفصائل الفكرية الغربية، وكثير من مؤسسات المال والاقتصاد والإعلام التي لا تمتلك معرفة كافية بقوانين الوجود، وحركة النظام الكوني، بل تتصرف تحت رؤية خيالية أشد وهماً من تلك المواعدات التي رسمها رجال الكنيسة والبابوات.
الحرية الغربية يشكلها الأقوياء فقط في الغرب، والذين يولدون يتجهون نحو الأقوى في التأثير، ومن المؤكد أن هؤلاء لا يمتلكون خيارات كافية، ومن المؤكد أن الأقوى ليس بالضرورة هو الأفضل.
لقد أنتجت الحضارة الغربية المعاصرة ليس للفرد الغربي فحسب، بل لقطاع عريض في العالم مجموعة من الإيجابيات في حركة التطور والصناعة والتقنية والتقدم العلمي في علوم الطبيعة والتجربة والتخطيط، وإن كانت كثير من دوائر القوة والسيطرة في الغرب تحاول المحافظة على التخلف الذي تعيشه دول العالم الإسلامي في هذه المفاهيم وما شاكلها، وتطلب ثمناً باهظاً لتقديم اليسير لدول العالم الإسلامي، ومع هذا التقدّم فقد أبقت الحضارة الغربية فراغاً واسعاً في مفاهيم كثيرة ضرورية لحفظ الفضيلة والعدل، تلك التي حاول الفلاسفة الغربيون في عصر التنوير أن يشكّكوا في مصداقيتها، وجاء الواقع الغربي اليوم نتيجة لهذه الفلسفة التي تعالج هذه الفراغات بتهمة وهميّتها، وعدم التأكد من ضرورة وجودها، وكان أخص هذه المفاهيم قانون الثقافة والتفكير، ونظام المجتمع التي عالجها الغرب بفلسفة ( الحرية ) تحت سلطة (العلمانية).(43/67)
إن العلمانية تُستعمل في الغرب سلطة وليست مفهوماً معالجاً، وهكذا هي في الرسم الفلسفي لها، لكن كثيراً من المجموعات الغربية ولاسيما الثقافية تريد أن تتحدث عن العلمانية كمفهوم راقٍ، مؤهل لحل مشاكل العالم كله، وأن على المسلمين أن يستوعبوا هذا الحل ويؤمنوا به كضمان لتطورهم، وصلاحيتهم للبقاء كما يفترض (فرانسيس فوكوياما)، وكأنه نسي أن الغرب حين صدّر العلمانية أو فرضها في بعض الدول الإسلامية أوجد أزمات من الارتكاس والتخلف، ولم يستنكر الغرب الاستفادة التي اقتبستها العلمانية في بعض البلاد الإسلامية من العقلية الشيوعية في فرض الذات والاستبداد والدكتاتورية، وربما كان هذا شكلاً من العلاقة معقولاً في فلسفة الغرب!!
وإن كنا ندرك أن العالم الإسلامي ليس أرضاً صالحة للعلمانية مهما كانت الظروف؛ لأنه لا يعاني مشكلة مع الدِّين كما عانى ويعاني الغرب.
صحيح أن هناك مشاكل نسبية مصدَّرة إلى الغرب، لكن بكل تأكيد فإن الغرب يصدر للعالم الإسلامي مشاكل أكثر عمقاً، وأيضاً فإن من السذاجة والوهم أن يُفترض أن المشاكل الملحة في الغرب مصدرة من العالم الإسلامي.
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر يجب ألاّ تتحول إلى سلطة تحاصر التفكير والعقلانية في قراءة المشكلة التي تواجه الغرب.
يقول أحد فلاسفة الغرب: إن كل إنسان يمكن أن يكون مفكراً حراً.
وربما كان يتحدث عن حقيقة مهمة، وهي: أن كل إنسان يمكن أن يتعرف على الحقيقة.
بدون شك المجتمع الأمريكي يشكل سوقاً مفتوحة للأفكار كما يقول (فوكوياما)، ولكن الأقوى من الفكر هي مؤسسات الضغط، والتأميم الغربية السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، التي تتمتع بتقاطع في المصالح خاصة في حركتها داخل المجتمع الغربي المستهلك، وإن كانت قد تكون قادرة على التوحّد في الحركة الخارجية إلى حد ما.
إن الفرد الغربي هنا يعيش تحت سلطة هذه المجموعة الساحقة لخياراته الخاصة.
صحيح أن الفرد في الغرب يشعر بنوع من التعدّديّة في الاختيار، لكنها خيارات محدودة فرضها تصارع القوى المنتجة داخل المجتمع الغربي، وفي دائرة اللاوعي فإن الفرد الغربي لا يتمتع بحرية خاصة، بل يبقى أن الخيارات الثقافية والاجتماعية مفروضة عليه باسم الحرية، والحقيقة أنها مجموعة من السلطات المتعددة المستبدة، وربما كانت الكنيسة أكثر هدوءًا وعفوية في استهلاك الفرد لصالحها.
5/ غطرسة القوة والشر:
إن الغرب يعيش مشكلة ملحَّة في داخله هو عاجز عن قراءتها، وهنا من الأفضل أن يصرف جهوده المزعومة لمعالجة مشكلة العالم الإسلامي إلى قراءة مشكلته الخاصة التي لم يكن العالم الإسلامي يوماً طرفاً فيها بإقرار الغرب نفسه.
إن الغرب عاجز عن استيعاب ذاته، كما هو عاجز عن استيعاب الآخرين.
حينما يفترض الغرب أن شرط صلاحياتك للبقاء ألاّ تكره الغرب ومفاهيمه الخاصة التي تتجه لسحق الآخرين، في حين أنه يمارس صناعة الأزمة المصعِّدة لمفهوم العداء ليس عند المسلمين فقط، بل هذه ظاهرة مشاهدة في القوى العالمية القائمة، فهو يطرح معادلة من الصعب على كل قوانين العلم والعقل أن تستوعبها أو تحترمها.
إن كراهية الغرب ليست أزمة صنعها المسلمون، بل ثمة مؤثرات متعددة في هذا الواقع.
وكثير من المجتمعات والشعوب في العالم كله تكره الغرب، وحتى تلك الدول التي قد تتأثر ببعض الأنماط السلوكية الغربية تبقى على تقاطع مع الغرب في مفاصل أكثر أهمية.
ومن المهم أن يدرك المفكرون هناك أن شيئاً من مظاهر الإعجاب بالغرب لا تعني الإيمان به بكل تأكيد, وأن وجود مطاعم (ماكدونالد) التي لفتت نظر (فوكوياما) في المغرب لا تعني الكثير!
العالم بشتى دياناته يعيش ظاهرة عامة من الكراهية للغرب وحتى التجمعات اللادينية تراهن على هذا الخيار، ومن المفضّل أن نحافظ على تذكر تجربة الغرب مع الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن يشكل مفهوماً دينياً.
والغرب يرى لنفسه حق كراهية الآخرين، ووصفهم بالشر، وصناعة مشاريع للصراع معهم، لكنه يختار أن تبادل الشعور بينه وبينهم يُعدّ جريمة من الضروري أن يصدّق عليها كل العالم تحت قانون "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، وهذا القانون يفترض أن يؤمن به الغرب نفسه حين يُقدمه له العالم الإسلامي أو غيره من القوى الحضارية التي تفضِّل حتى الآن أن تتمتع بوجودها وسيادتها فقط، لكن الغرب في صراعه يتحرك تحت مفهوم تعطيل حركة الوجود لهذه القوى أياً كانت آلية الوصول إلى هذا الهدف ودرجتها الأخلاقية.
ربما من المشكل في العقلية الغربية أنها عقلية ذاتية مطالِبة، من الصعب أن تستوعب خيارات الآخرين ومطالبهم، وليس سراً أن الغرب يكره القوى الحضارية المنافسة له، وفي مقدمتها العالم الإسلامي الذي قد تكون خطواته أكثر سرعة في ممارسة تعويق الاستبداد الغربي.
إننا لم نطالب الغرب يوماً ما ألاّ يكرهنا إذا كان يفضل ذلك، ونفضل أن نتركه يمارس خياراته، لكننا نطالب أن يكون هناك قدر من الأدب الأخلاقي.(43/68)
والإسلام يستوعب التعامل مع الغرب، لكن المشكل أن مفهوم الحرية في الغرب لا يستطيع أن يستوعب التعامل مع الإسلام؛ لأن العلمانية تمارس سلطة يرسمها الأقوياء فقط في الغرب، ويصعدون لها ويحاولون إقناع العقلية الفردية في الغرب بها، تحت مواعدة قادمة في تصفية قوى الشر والإرهاب، كما يردّد الساسة وكثير من رجال الثقافة والفكر والإعلام هناك، لكن من المهم أن نؤكد للغرب في شتى طبقاته ومستوياته أننا قد نبدو بسطاء، لكن من الجيد أن يفهم الغرب أننا لسنا كذلك، وأننا نتمتع بدرجة كافية من الذكاء. إن الغرب قد يصنع للعالم الإسلامي من حيث لا يريد ما عجز عن الوصول إليه.
وإذا كان الغرب يعتقد أنه خرج من عصر الظلمات من قرون قريبة، فإننا تجاوزنا عصر الظلمات منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وإننا في الوقت نفسه نفضل خيار التعامل بالعدل، والاتجاه للإصلاح البشري، ومعالجة الفساد والشر بشرط أن يكون لدى الغرب استعداد للاستماع إلى الحل الإسلامي المعتدل الذي هو رسالة الخير التي نحبها لكل الناس في العالم، ونبي الإسلام أرسل رحمة للعالمين، ويقول كما في الرواية الواردة عنه في كتب السنة الصحيحة: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة" فأي ضمان يمكن أن تقدمه رسالة للآخرين أرقى من هذا المفهوم؟!
ومن الأفضل هنا أن يراجع الغرب موقفه في أخلاقيات التعامل مع القضايا الإسلامية.
من وجهة نظرنا هذا هو الحل، ويبدو أنه حل يتسم بالاعتدال والعقلانية، ومن الأفضل أن نحترمه جميعاً، وأن نتجاوز المزايدة على الإسلام والمجتمعات الإسلامية لصناعة الصراع؛ لأن الغرب هنا بكل تأكيد يتصرف بغباء.
إن قُرّاء الفلسفة الغربية يدركون أن ثمة مشكلة كامنة في العقلية الغربية وهي سيطرة عقلية الصراع، وفرضها على الفرد الغربي للمشاركة والتفاعل معها، لكن من المهم أن يدرك الغرب أن الصراع يقود إلى النهاية والحتمية، وهذا بكل تأكيد لا يستطيع الغرب التعامل معه واستيعابه.
إن من أهم أسس الحضارة السماح للفرد فضلاً عن المجتمع بممارسة الخيارات الثقافية والاجتماعية، لكن الدوائر المتسلطة في الغرب غير مستعدة أن تمنح المسلمين هذا الحق حتى في تفسير الإسلام، فهي تريد أن تملي صياغة خاصة في مفهوم الإسلام، من أهم أسسه المحافظة على سيادة الغرب، وتسخير العالم الإسلامي حتى على مستوى العواطف والولاء له.
هذه سطحية في قراءة الغرب لمشكلته وأزمته ونمط علاجها، ومن المهم أن يُدرك أنه يفكر ويتصرف بغباء ، ويتحرك إلى مصير مجهول.
إننا نتطلع -من وحي رسالة الإسلام- أن نساعد الغرب في قراءة مشكلته والبحث معه عن الحل الذي يتسم بالعدل والعقلانية، لكن نبدو غير متشائمين حين يختار الغرب الخيار الثاني الذي لن يكون المسلمون مؤهلين لصناعته, لكنهم مؤهلون للتعامل معه.
===========(43/69)
(43/70)
حرب الأفكار بين بأس الأمريكان ويأسهم
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
خلف كل مواجهة ميدانية، أو منازلة عسكرية، صغرت أم كبرت، صراع بين فكرة وفكرة، أو بين عقيدة وعقيدة، أو رؤية ورؤية، تعكس كل منها مصلحة أو مطمعاً أو رغبة في العلو بالحق أو بالباطل، وهذه كلها تنتهي إلى تنازع بين قناعات وقناعات وبين مناهج ومناهج؛ إذ لا يمكن أن تتحرك الإرادات على أرض الواقع دون دوافع في العقول والقلوب والضمائر، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]. وقال ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، والمعنى من الآيتين: لولا دفعُ اللِه بأسَ المشركين بممانعة وجهاد الموحِّدين، وحكمهم بالوحي المنزَّل، لزاد الفساد واستحكم الظلم، وحُرِم العباد من عبادتهم لربِّ العباد. فالتدافع هو الأصل بين سبيل الأبرار والفجار، ليس في ميادين المعارك العسكرية فقط، بل قبل ذلك في ساحات المواجهة الفكرية، وحقيقته صراع بين من يحملون المنهج السوي من أتباع الرسل، وبين من يحتمون بسواها من ملل الجهالات والمقالات والأهواء. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}. [إبراهيم: 13 ـ 14]
ولكن الصراعات تكون أيضاً بين باطل وباطل، وقد يكون ذلك خيراً لأهل الإيمان، كما كان الصراع بين الفرس والروم، حيث أنْهَك كلٌ منهما الآخر، لتَسهُل المهمة بعد ذلك على عباد الله الموحدين في الانتصار عليهما.
صراعات عصرنا ليست استثناء في كون أصلها صراعاً بين عقيدة وعقيدة، أو فكر وفكر؛ فتطورات وتفاعلات الأحداث في النزاعات الكبرى، أكَّدت دائماً أنه كان خلف كل نزاع عسكري أو سياسي منها، اختلاف منهجي وفكري. ولو تأملنا في الحروب الدولية الكبيرة، لوجدناها تعكس ذلك بوضوح صريح؛ فالحرب العالمية الأولى كانت في حقيقتها صراعاً بين الأفكار والرؤى والأيديولوجيات التي تحولت إلى أزمات، حيث كانت الأفكار الشيوعية قد بدأت في التبلور في بدايات القرن العشرين، لتفجر الثورة الروسية التي تصدرت لمقاومة الأفكار الرأسمالية التي كانت تتحرك بها أطماع الغرب.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتشعل صراعاً جديداً بين أفكار النازية (1)، والفاشية (2) من جهة؛ والرأسمالية الليبرالية من جهة ثانية، ثم أعقبتها الحرب الباردة، التي امتدت إلى نهاية القرن العشرين، وكانت صراعاً بين فكرة الليبرالية الرأسمالية أيضاً، والماركسية الشيوعية.
لكن ما كان يميز كل تلك الصراعات بشِقَّيْها الفكري والعسكري، أنها كانت بين باطل وباطل، من طوائف الضلال المختلفة من كتابيين وملحدين ووثنيين، وما قد يلحق ببعضهم من فئام الجهلة أو المنافقين في بلاد المسلمين.
أما اليوم، فالصراع الدولي الناشب في ميادين متعددة على أرض العالم الإسلامي يمثل نوعاً آخر، لم يكن للبشرية عهد به منذ قرون؛ إذ يتضح يوماً بعد يوم أنه صراع واضح بين الحق الصريح والباطل الصارخ، أي بين حق الإسلام، وباطل الأعداء، الذين تأتي الصهيونية الأمريكية ـ بشِقَّيْها: اليهودي والنصراني ـ في مقدمتهم، حيث أطلقت الولايات المتحدة حربها التي سمتها (الحرب العالمية على الإرهاب) بعد أن لعبت بمصطلح (الإرهاب) لكي يكون مرادفاً للإسلام شيئاً فشيئاً، ولكي يكون هذا المصطلح صالحاً لأن يطلق على أشخاص دون أشخاص، ودول دون دول، وجماعات دون جماعات، وممارسات دون ممارسات، كما عُرف ذلك من مواقف الأمريكيين وحلفائهم من الإرهاب الصهيوني في فلسطين، والروسي في الشيشان، وإرهاب عملاء أمريكا في كل مكان، وكذلك إرهاب أمريكا نفسها في أفغانستان والعراق والصومال والسودان ولبنان، وغيرها مما قد يأتي بعدها.
وعندما شنت الولايات المتحدة حربها العالمية على ما أسمته (الإرهاب)، جعلت جزءاً رئيساً من هذه الحرب الصليبية، مواجهات فكرية، تستهدف حضارة وثقافة وقيم الأمة الإسلامية، وقد استلزم ذلك أن يبدأ الأمريكيون عملية تضليل كبرى، لصرف المسلمين عن أُصول دينهم، وأُسس شريعتهم وعقيدتهم، لتَحُل محلها ما يُسمونه (قيم الغرب) الداعية إلى (الليبرالية) بجميع أنواعها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين والثقافة والإعلام.(43/71)
وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة نداءات المخططين والمنظرين والمتنفذين في الغرب بضرورة إشعال وتوسيع وتطوير (حرب الأفكار) ضد العالم الإسلامي، وقد كان أول من أطلق هذا المصطلح، ووضع له الأساس الفكري القاضي الأمريكي (لويس باول)، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكان يريد من نشره وتفعيله، مواجهة الأيديولوجيات المعارضة والمعادية للرأسمالية، وتحمس لفكرته أحد اليمينيين المتطرفين وهو (وليام كورز) فأسس مراكز للأبحاث لهذا الغرض.
لكن وزير الحرب الأمريكي المُقال المهزوم (دونالد رامسفيلد) هو أول من أطلق شرارة (حرب الأفكار) ضمن ما أسمته أمريكا (الحرب على الإرهاب) وذلك عندما دعا في مقابلة صحفية في خريف عام 2003م إلى شن تلك الحرب وظل يردد الكلام عن أهميتها، حتى أواخر بقائه في منصبه، وقد أدلى بحديث إلى صحيفة الواشنطن بوست في (27 /3/2006م) قال فيه: (نخوض حرب أفكار، مثلما نخوض حرباً عسكرية، ونؤمن إيماناً قوياً بأن أفكارنا لا مثيل لها) وأردف قائلاً: (إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإن من المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها )
وعجيب أن يكون المسؤول الأول عن وضع الخطط العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في أوج هياجها واستعلائها، هو نفسه المتابع الرسمي لتلك الحرب الفكرية، حيث عقد مزاوجة لافتة بين ما هو عسكري وبين ما هو فكري، مؤسساً بذلك لحملةٍ صليبيةٍ فكرية، موازية للحملة الصليبية العسكرية، وقد أفصح عن ذلك المسؤول العسكري (المدني) عن الغرض المبيت لتلك الحرب فقال في تصريح له في أكتوبر 2003م: (نريد لشعوب الشرق الأوسط أن يكون إسلامها كإسلام الشعوب المسلمة في شرق أوروبا) يقصد مسلمي البوسنة وألبانيا، الذين ذاب غالبيتهم ـ إلا من رحم الله ـ في قاع الحياة الأوروبية المادية، حتى صار الدين بالنسبة لأكثرهم مجرد انتماء تاريخي، لولا المحنة التي تعرضوا لها على يد النصارى الصرب فأيقظت فيهم الحنين للدين بعد أن أُبعدوا عنه.
ما صرَّح به رامسفيلد لم يكن أحلاماً شخصية، ولا مجرد أمانٍ أمريكية، بل هو توجه صليبي عام، يستهدف الإسلام بالتغيير، والمسلمين بالتغرير، وقد تبين ذلك من الحملة شبه المنظمة على شعائر الإسلام وشرائعه وحرماته ومقدساته في معظم بلدان أوروبا في الآونة الأخيرة.
وفيما يخص (حرب الأفكار) تتابعت التصريحات والإيضاحات التي تحكي أبعاد تلك الحرب المعلنة، من قوىً غربية عديدة معادية، وليس من أمريكا فقط، وكان آخر ذلك ما أدلى به «الذيل المهزوز» )توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، في كلمات ذات مغزى خلال مؤتمر صحفي عقده في 17 /4 /2007م، قال فيه: (إن الوقت قد حان لتتوحد إدارات الحكومة البريطانية، من أجل تحقيق النصر في حرب الأفكار) وأضاف ذلك المستقيل المهزوم: (إذا كنتم تريدون أن تنقلوا الحرب إلى أرض الأعداء، فعليكم أن تهزموا أفكارهم ودعايتهم إلى جانب هزيمة مخططاتهم).
أما زعيم المهزوزين المهزومين (بوش)، فكان قد قال في خطاب له في أعقاب هجوم سبتمبر: (نحن نحارب في جبهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية، ونحن واثقون بأننا سننتصر في كل جبهة) وقد نصت الورقة الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على أن أحد أهم أدوات أمريكا في نشر مبادئها في الشرق الأوسط هو (شن حرب أفكار) مع اللجوء للخيار العسكري عند الحاجة إليه.
وبعد هذا التقرير لم تهدأ مراكز الأبحاث ومعاهد التفكير المحسوبة أو القريبة من إدارة بوش في إصدار التقارير التي تصب كلها في كيفية إدارة تلك الحرب بكفاءة، وأشهرها بالطبع التقارير الصادرة عن (معهد راند للأبحاث) حيث أصدر ذلك المعهد عدداً من التقارير الخاصة بتحديد الأهداف والوسائل الخاصة بمواجهة المد الإسلامي عموماً، والتوجه السني المقاوم خصوصاً.
كان من الطبيعي في ظل التوافق على أهمية (حرب الأفكار) أن توضع لها السياسات، وتستخلص التجارب، وهذا ما حدا بوزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) أن تحدد منذ البداية الملامح الرئيسة لتلك الحرب، وذلك عندما كانت ـ حينها ـ مستشارة للأمن القومي الأمريكي؛ إذ قالت في كلمة ألقتها في معهد السلام الأمريكي في صيف 2002م: (لا بد من اتباع أساليب الحرب الباردة نفسها ضد الشيوعية لمواجهة أفكار (الكراهية والموت) في الشرق الأوسط). وهي تتحين الفرص كل فترة لإبداء قناعتها بخطورة تلك الحرب وضَرورة السير فيها إلى النهاية؛ فقد قالت في مقالة لها في صحيفة الواشنطن بوست في ديسمبر 2005: (إننا ضالعون في حرب أفكار أكثر مما نحن منخرطون في حرب «جيوش»). وقد صرحت في مناسبة أُخرى بأن الهدف الأكبر للمواجهة الفكرية المزمعة، هو ـ تحديداً ـ الانتصار لفكر (الليبرالية الأمريكية الجديدة)، حيث قالت: (إن المهمة الأساسية في حرب الأفكار، تتعلق بالترويج للقيم الأمريكية المتمثلة في الحرية والديموقراطية ونظام السوق الحر).(43/72)
إن هذه التصريحات تدل بوضوح، على أن ما تسمى بـ (القيم الغربية)، النابعة من خلفيات يهودية ونصرانية محرفة، لم تعد تأبه بندٍّ منافس سوى (القيم الإسلامية) الشاملة للمبادئ والسلوك، والمستمدة من الوحي الصحيح والدين القويم؛ حيث أصبحت هذه القيم مع من يحملها، في مواجهة حرب لا هوادة فيها على كل أرض، وفي كل ميدان، وضمن كل مجال، أي (في جهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية) كما قال بوش في تصريحه المذكور آنفاً.
وقد نص تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على ذلك التوجه، حيث جاء فيه: (إن العدو الرئيسي لأمريكا هو تيار إسلامي راديكالي متطرف، تعود مرجعيته إلى أفكار ابن تيمية وسيد قطب... ولا يوجد مجال للتصالح مع هذا التيار، ولا بد من عزله وتصفيته تماماً، لكن لا بد أولاً من منازلته في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه).
وحتى لا يتبادر إلى أذهان بعضنا أن مقصودهم بـ (التيار الإسلامي الراديكالي) هو التيار القتالي أو المقاوم للهيمنة الغربية والذي يوصم دوماً بـ (الإرهاب)، فإن على من يتوهم ذلك أن يطالع تقرير مؤسسة الأبحاث الأمريكية (راند) الأخير، الخاص بإنشاء توجهات أو تجمعات تُمثل (الإسلام المعتدل) حيث وضع ذلك التقرير المعايير التي يحدد من خلالها الفرق بين المعتدلين والمتطرفين (3).
وأهم سمات الاعتدال في نظر من أعدوا التقرير: (القبول بالديمقراطية) وهذا يعني رفض مبدأ الدولة الإسلامية، و (القبول بالمصادر غير المتعصبة في تشريع القوانين) بما يعني إلغاء مصدرية ومرجعية الشريعة، و (نبذ العنف إلا في حالة «الحرب العادلة») أي التخلي عن الجهاد والمقاومة، و (احترام حقوق النساء والأقليات) وهو ما يستدعي إحلال المفاهيم الغربية محل الإسلامية فيما يتعلق بالنساء وغير المسلمين.
وقد حدد تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر هدفاً جوهرياً من أهداف (حرب الأفكار) عندما نص على أنه (لا بد من منازلة التيار غير المعتدل في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه).
«كسب الغالبية» إذن؛ هو الهدف والرهان الاستراتيجي، للاستيلاء على القلوب والعقول، والوصول إلى ذلك لا يكون إلا عبر تحركات تكتيكية يكون (الدولار) فيها هو الوقود المحرك لأفكارهم والمحرق لأفكار غيرهم، وهذا ما ذهب إليه تقرير مؤسسة راند السابق الصادر في (18/4/2005 ) بعنوان (قلوب وعقول ودولارات) والذي نص على أهمية مزاحمة (العدو) على عقول الناس وقلوبهم، عن طريق تسخير الدولار، في تغيير الأفكار، باتجاه العلمنة والأمركة واللبرلة.
أي باختصار: (تغيير الإسلام) في فهم واعتقاد متبعيه. لهذا فإن الحرب الأمريكية الراهنة على العالم الإسلامي، ستبقى في جوهرها ـ وإن سكنت المدافع ـ حرب أفكار، ولذلك فمن غير المتوقع أن تتوقف بشكل نهائي، أو ترتبط بتغيرات سياسية عندنا أو عندهم، لارتباط تلك الحرب بمعايير رضاهم عنا وعن عقائدنا ومبادئنا وأفكارنا، وهذا الذي لن يحصل، ما دام المسلمون مسلمين، والنصارى نصارى واليهود يهوداً: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فالمعركة بيننا وبينهم ستظل دائماً معركة على الثوابت، بين ما عندنا من منهج الحق والهدى، وما عندهم من أفكار الغي والهوى.
يأسهم في طيات بأسهم:
الإمكانات التي رصدت ولا تزال ترصد لإدارة (حرب الأفكار) لا تكاد تصدق، ولا ندري كيف صدق الأمريكيون وغيرهم من اليهود والنصارى أنفسهم في أنهم يمكن لهم أن يغيروا ديننا، كما غيروا دينهم؟ ولكن صدق ربنا إذ قال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
ومن يلاحظ إصرار الأمريكيين وحلفائهم على المضي في حرب الأفكار؛ ربما يظن أنهم يملكون مزيد ثقة فيما عندهم، أما نحن فيقيننا أنهم ليس لديهم من يقين إلا ما يقبع خلف الشك والحقد الدفين: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].
لذلك فإنهم حتى وإن دعا بعضهم إلى حوار في بعض الأحيان، فإن حوارهم المقترح هو نفسه جزء من حرب الأفكار؛ إذ ليس لدى أكثرهم وهم يحاوروننا رغبة في الإنصات أو الإنصاف، إنما يستمعون ـ إذا استمعوا ـ لنُخرج ما عندنا كي يُلقوا عليه ما عندهم.(43/73)
لقد طالَبَ الكاتب الأمريكي الأشهر اليوم في العالم (توماس فريدمان) بما أسماه (حوار الأفكار) بين الولايات المتحدة وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، بعد أن لاحظ أن أمريكا تفقد مصداقيتها بشكل مقلق بين تلك الشعوب، ولكن: هل يقصد فريدمان الحوار حقاً؟ إنه مع دعوته «البريئة» للحوار، لم يستطع أن يخفي ما وراءها من مآرب وأسرار؛ فليس إضاعة الأوقات وتمرير المخططات هو فقط المراد من هذا الحوار، وإنما استغلال أرضية الحوار لتأسيس مزيد من الركائز الحامية لمصالح أمريكا وحلفائها وعملائها. ولهذا اشترط أن يلتزم العرب مع أمريكا ـ في ظل ذلك الحوار ـ بثلاثة أمور، وهي:
1 ـ استمرار تزويد أمريكا بالنفط.
2 ـ الحفاظ على انخفاض سقف أسعاره.
3 ـ تحسين المعاملة مع إسرائيل.
وقال: (إذا حصلنا من العرب على هذه الأمور الثلاثة، فلسنا معنيين بشيء من أمورهم حتى ولو كان يتنافى مع الأفكار الأمريكية المعلن)
إن الالتزام العربي الذي يطالب به فريدمان، هو لضمان استمرار قوة وقدرة أمريكا وحليفتها في مقابل ضعفنا وعجزنا، ومع ذلك تظل حرب الأفكار معلنة حتى تحت شعار الحوار.
لقد طالب توماس فريدمان أيضاً في دعوته للحوار، بأن تكثف أمريكا سياسة تغيير الأفكار بين شعوب الشرق الأوسط، واقترح عليها مثلاً أن تمنح خمسين ألف تأشيرة دراسية لطلاب عرب للقدوم إليها، ليكونوا هدفاً للتأثير الفكري المباشر!!
ما هي المهام التي يمكن أن يكلف بها خمسون ألفاً من العملاء الفكريين لأمريكا، إذا عادوا منها وقد رضعوا لَبَنها وأُتخموا بلحمها، وسمنوا بسمومها؟ وهل هذا يسمى حوار أفكار، أم تجنيد أنصار؟!
في إطار المقترحات في (حرب الأفكار) أيضاً، كان مدير الاتصالات في البيت الأبيض (تاكر إسكيو) قد وضع خطة لنشر الأفكار والمفاهيم و (القيم) الأمريكية، كُللت وقتها بتأسيس (قناة الحرة) الأمريكية اللاكنة بالعربية، وكذلك (إذاعة سوا) من أجل مخاطبة العرب بألسنةٍ أمريكية ناطقة بالعربية.
وقد قال (تاكر) عند تأسيسه لهذه الوسائل الحربية الفكرية: (إننا نملك المال، ونملك الخبرة، ونملك الأفكار، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامنا). لكن التجربة أثبتت أن الأمريكيين وإن كانوا يملكون المال والخبرة، فإنهم لا يملكون الحكمة والفكرة، ولذلك ظلت وسائلهم فاشلة، ولم تجذب إلا المجاذيب، ولم تفتن إلا المفتونين الذين يصدقون دعايات أمريكا في مزاعم الحرية والديموقراطية واحترام الإنسان!
إن مئات الملايين من الدولارات التي أُنفقت ولا تزال تُنفق لإطفاء نور الوحي؛ لم تزده إلا وهجاً وضياء؛ فهناك عدد من مراكز الأبحاث المتخصصة في شؤون الشرق الإسلامي المسمى بـ (الشرق الأوسط) مثل مركز (امريكان أنترابرايز) الذي يهيمن عليه المحافظون اليهود الجدد، ومعهد (بروكنجر)، ومعهد (كارنيجي)، ومعهد (الشرق الأوسط) الذي يعرِّف منطقة الشرق الأوسط بالأراضي الممتدة من أفغانستان إلى المغرب العربي، وهذه المراكز تُرصَد لها ميزانيات بالملايين سنوياً؛ لأنهم لا ينتظرون منها أرباحاً، إلا إثبات النجاح في اختراق حصوننا، من الداخل أو الخارج!
وقد رُصد لمعهد الشرق الأوسط وحده، ميزانية تصل إلى مليون دولار سنوياً، وهي ميزانية تجيء من أرباح وقفية، وقفتها على ذلك المركز شركات عديدة كبرى مثل: (أرامكو)، (كوكا كولا)، (شل)، (بوينج)، و (الشركة الكويتية للنفط)، ويرأس المعهد (إدوارد ووكر) السفير الأمريكي السابق في (تل أبيب) ومصر، لكنَّ نتائج جهود تلك المراكز تعكس حتى الآن الفشل والخيبة والخذلان. وصدق الله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ *} [الأنفال: 36].
? اعترافات الحسرة:
لقد بدؤوا يعترفون بخسارة (حرب الأفكار) مثلما خسروا حرب الحديد والنار، في بقاع عديدة من العالم الإسلامي، وقد اعترف رامسفيلد نفسه ـ مُشعل (حرب الأفكار) ـ في تصريح له في 16 فبراير 2006م، بأن أمريكا تخسر حربها الدعائية والفكرية ضد (المتشددين) الإسلاميين، وأضاف: (ينبغي إيجاد وسائل أخرى بديلة لكسب قلوب وعقول الناس في العالم الإسلامي، حيث نجح المتشددون في تسميم الأفكار عن أمريكا).
وكذلك أقرَّ تقرير أعدَّته هيئة استشارية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، أن أمريكا عجزت عن إقناع العالم الإسلامي باستراتيجيتها الدبلوماسية والعسكرية، وهو ما اعتبره التقرير خسارة لما يسمى (حرب الأفكار)، وقال التقرير الذي قُدم في نوفمبر 2004م: (إنه لا أحد يصدِّق وعود أمريكا عن الحرية والديمقراطية)، وبين أن تدخلات أمريكا في العديد من بقاع العالم الإسلامي، رفعت من أسهم القوى المناوئة لها.(43/74)
وقد صرح (مارك جنزبيرج) السفير الأمريكي السابق في المغرب، وأحد الخبراء الأمريكيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط بأن أمريكا تواجه هزيمة في حرب الأفكار، رغم ضخامة الإمكانات المرصودة لها، وقال في حديث له نشرته صحيفة (الواشنطن بوست): (نحن نُهزم في حرب الأفكار لسببين: الأول: أننا تركنا الساحة للمتشددين الإسلاميين ليزاحمونا بما عندهم، والثاني: أننا لم نساعد حلفاءنا بالقدر الكافي في مواجهة هؤلاء المتشددين)
ومؤخراً صدر للبنتاجون تقرير ـ كان سرياً ـ عن نتائج الحرب الأمريكية العالمية على ما تسميه بالإرهاب، اشتمل على انتقادات حادة لإدارة بوش لهذه الحرب، وقد أعد التقرير (المجلس العلمي للدفاع) في البنتاجون، واختص هذا التقرير بوضع تصور عن كيفية كسب حرب الأفكار ضد ما أسماه: (الجماعات المعادية لأمريكا)، ونصت خلاصة التقرير على ضرورة العمل على إجراء تحول في الاتصالات الاستراتيجية للولايات المتحدة بعد أن فشلت في إيصال رسالتها في الداخل والخارج عن أهمية الحرب على الإرهاب، وبدأت تخسر معركة الأفكار أيضاً. وأكد التقرير على أن أساليب إدارة بوش كانت فاشلة في إدارة تلك الحرب بشِقَّيْها العسكري والفكري، وأشار إلى أن جموع الشعوب الإسلامية لا تكره أمريكا لذاتها، ولا تكره الحرية التي تنادي بها؛ ولكنها تكره سياستها التي يحركها بوش وفريقه منذ بداية الألفية الثالثة، وعبَّر التقرير أيضاً عن القلق من حالة الارتباك الحادة التي وضعت أمريكا نفسها فيها عندما سلكت تكتيكات خاطئة لمحاربة الإرهاب، تسببت في الوصول إلى خلل جسيم في استراتيجية تلك الحرب، وجاء فيه: (إن الولايات المتحدة قد تورطت في صراع عالمي بين الأجيال بشأن المعتقدات والأفكار، لم يعد قاصراً على مواجهة بين الإسلام والغرب فقط، بل بين الغرب وبقية العالم. ولأجل كسب هذه المعركة العالمية الخاصة بالأفكار ينبغي اعتماد سياسة جديدة للعلاقات تعتمد على التعامل مع الواقع كما هو على الأرض، لا كما يريد ساسة أمريكا).
لكن مع تلك الهزيمة التي تبدو جسيمة في هذه الحرب الفكرية، قياساً بما رُصد لها من إمكانات، وما رُسم لها من توقعات، فلا يزال هناك إصرار وعناد على مواصلة (حرب الأفكار) ولو بأساليب أُخرى.
وقد صدر في فبراير من العام الماضي، التقرير الدوري للبنتاجون ـ والذي (يصدر كل أربع سنوات) ـ كُشف فيه عن أن الحرب ضد (الإرهاب) بشِقَّيْها: الفكري والعسكري هي حرب طويلة، وأنها يمكن أن تستمر لثلاثين عاماً أخرى، وأنها تمثل المرتكز الأكبر في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنوات عديدة قادمة، وأكَّد التقرير على أن العالم كله هو ساحة تلك الحرب، وليس بلداً واحداً، أو قارةً بعينها. وفي منتصف عام 2006م صدر كتاب بعنوان: (الخطوات العشر لإنزال الهزيمة بالإرهاب العالمي) من تأليف (هارلان أُولمان) كبير المستشارين في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن وصاحب استراتيجية (الصدمة والذهول) التي أشار بها في غزو العراق، والتي حوَّلها إلى كتاب بالعنوان ذاته، وقد ركَّز ضمن خُطُواته العشر على أهمية الاستمرار في (حرب الأفكار) باعتبارها الحل الوحيد لتجاوز التحدي الناشئ عن توليد المبادئ الإسلامية لأجيال جهادية جديدة، في ساحات جديدة لا يمكن احتواؤها، ولا اختراقها بسهولة.
? عولمة حرب الأفكار:
في محاولة للتغطية على الفشل المتصاعد في مخططات وخطوات حرب الأفكار، لجأت الولايات المتحدة إلى محاولة عولمتها بدلاً من الاكتفاء بأمركتها؛ حيث اتجهت في الآونة الأخيرة إلى تقسيم الساحة الدولية إلى قسمين: قسم: يمثل (القيم) الغربية، وقسم: يمثل القيم الإسلامية، مثلما كان حال تقسيم العالم إبَّان الحرب الباردة إلى عالمين: (شيوعي ورأسمالي). والواضح أن هناك محاولة لتشكيل تكتل فكري غربي ضد العالم الإسلامي على غرار التكتلات الاقتصادية والتحالفات العسكرية، وقد أطلق بوش الأرعن أيضاً شرارة هذا الشر، ورفع شارته عندما تحدث في شهر مايو عام 2006م، عن خطر ما أسماه (الفاشية الإسلامية)، حيث اعتبرها وريثة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والشيوعية الروسية التي كافحها العالم الرأسمالي خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، إلى حين سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعدها ذكر بوش ما وصفه بـ (الفاشية الإسلامية) ست مرات خلال ثلاثة أسابيع في خطبه وتصريحاته، قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2006م، حيث كانت عينه وعين نائبه (ديك تشيني) على فوز حزبهما في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2008م، والتي تمنيا لو يفوز فيها مرشح الجمهوريين لاستكمال ما بدأه تحالف الإنجيليين واليهود المحافظين.
وقد تحدث بوش في كلمته التي تكلم فيها عن ما أسماه (الفاشية الإسلامية) عن ضرورة حشد العالم في مواجهتها؛ لأنها ـ كما قال ـ: (تجسد عدداُ هائلاً ممتداً في أنحاء العالم، يمثل خطراُ أشد من خطر موسوليني وهتلر وستالين معاُ)!(43/75)
يعتبر المنظرون الفكريون في إدارة بوش أن (الفاشية الإسلامية) تشمل السنة والشيعة معاً، وخاصة أن إيران برهنت على عدائها عندما شنت هجوماً على (الدولة العبرية) من خلال أنصارها في لبنان صيف 2006م. وهو ما يدل في نظرهم على أن الخطر الإسلامي يتحول من خطر مجموعة من الحركات والنخب الفكرية إلى خطر أنظمة وحكومات تحمل فكر العداء والحرب ضد مطامح الغرب.
ويهدف ترويج مصطلح الفاشية الإسلامية إلى إقناع الأمريكيين والعالم بوجود خطر كبير، يستدعي ضرورة البقاء العسكري في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، وضرورة استمرار الحرب العالمية على (الإرهاب) بشِقَّيْها: العسكري والفكري.
? نقاط للتأمل:
- حرب الأفكار التي تشنها الولايات المتحدة وحُلفاؤها، هي في النهاية حربٌ لحساب الفكر الليبرالي الرأسمالي، الذي انتهى إليه نصارى الغرب بعد ثورتهم على الدين، وتعتبر (الليبرالية الأمريكية الجديدة) آخر صيغ هذا الفكر الذي يقوم على الترويج له في بلادنا تيار (الليبراليين الجدد).
- الفكر الليبرالي مع تحلله من الثوابت والعقائد، إلا أن انحداره من خلفيات عقائدية، يهودية ونصرانية منحرفة، جعل معركته مع الإسلام ذات خلفيات دينية وهذا يُفسره تشبث كثير من المتنفذين السياسيين الغربيين بشعارات الدين، رغم علْمانيتهم وليبراليتهم.
- حرب الأفكار ـ بناءً على ما سبق ـ هي تسمية أُخرى لصراع الثقافات، الذي يظهر أنه قد بدأ قبل (صراع الحضارات) الذي بشَّر به أو دعا إليه المفكر اليهودي (صمويل هنتجتون)، والذي سمَّاه المفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) بـ (صراع الأُصوليات). وبما أنَّ الأُصوليات، هي خُلاصات العقائد، فإنَّ الصراع يتمحض مع الوقت بين العقائد الباطلة كلِّها، والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
- الصراع بين الصحيح والمحرَّف من العقائد، هو جوهر (حرب الأفكار) الراهنة، والإسلام (غير المحرَّف) يُمثله في أنصع صورةٍ منهج أهل السنة والجماعة، ولهذا فإن حَمَلة هذا المنهج هم المستهدفون الأوائل في حرب الأفكار، مرةً باسم الأُصوليين، ومرةً باسم السلفيين، ومرةً ثالثة باسم الوهابيين، ولهذا نجد تقارير (معهد راند) وغيرها، تصبُّ في اتجاه تجييش العالم بكُفاره ومنافقيه ومرتديه ومبتدعيه ضدَّ أنصار هذا المنهج، الذي يمثل الدين الصحيح.
- حرب الأفكار) تعكس شمول المواجهة مع أمة الإسلام، وكما يحشد الغرب لحروبه العسكرية الجيوش والمعدات والإمكانيات، فإنه يجهز لحروبه الفكرية جهود العشرات من مراكز التفكير ومعاهد الأبحاث، مستدعياً تجاربه التاريخية ـ وبخاصةٍ مع الشيوعية ـ ومحاولاً في الوقت ذاته تجنيد طابور خامس من المرتزقة الفكريين في بلاد العرب والمسلمين، بحيث يكونون رديفاً لجيش الباحثين والمفكرين في تلك المراكز الفكرية الغربية، ولعل تقرير (مؤسسة راند) الأخير، عن إنشاء شبكات أو جماعات لتيار (الإسلام المعتدل) أو (الإسلام العلماني)، يؤكد هذا التوجه.
- مع كل ما يبدو من إشاراتٍ على الهزيمة الأمريكية والغربية في (حرب الأفكار) فإنَّ هذا لا ينبغي أن يصرفنا عن استشعار خطرها، والاستمرار في تطوير الأساليب للتصدي لها، باعتبارها أدقَّ وأخطر من الحرب العسكرية؛ لأن حرب الأفكار بالمعنى الذي سبق استعراضه، هي حرب باردة جديدة، وهي أخطر من الحروب الساخنة؛ لأنها تستهدف ما في العقول والقلوب، بينما تستهدف الأُخرى ما تحت الأيدي والأرجل، ولأن الحروب الساخنة يمكن أن تتوقف أو تبرد، ولكن صراع الفكر والمناهج، يظل مستعراً.
والذي نعتقده، أنَّ الإسلام العظيم، عظمته ذاتية، ولذلك فإنه يسجل بخلوص الولاء له أمجادًا لأهله وحامليه، كما يسجل انتصارات ومعجزات عسكرية ـ بإذن الله ـ بأدنى الإمكانات المادية المستطاعة، كالذي هو حاصلٌ في العراق وأفغانستان وغيرهما، وبدون سندٍ ولا مددٍ لأنصاره إلا من الولي النصير سبحانه؛ فإنه سوف يحرز انتصارات أُخرى مماثلة في (حرب الأفكار) بعونٍ من الواحد القهار، مكور الليل على النهار.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.[يوسف: 21]
----------------------------
(1) النازية: من كلمة (nazi)، وهي اختصار للحروف الأولى من عبارة (حزب العمل الاشتراكي الألماني)، وقد نشأ هذا الحزب كردِّ فعل للأزمات التي واجهت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كي يواجه الفساد الاقتصادي، ويُوحد العمال، ويعيد الكبرياء الوطني لألمانيا، وقد التحق به هتلر، وتدرج فيه، حتى صار زعيماً له، ووجه سياسة الحزب نحو إقامة دولة ألمانية قوية وموحدة، تقوم على أساس تفوق العنصر الآري، ولهذا تعالى الألمان في ظلِّ النازية على الأجناس الأخرى، وحاولوا السيطرة على الشعوب المجاورة تحت زعامة هتلر، وقد نجح هتلر بالفعل في اجتياح العديد من بلدان أوروبا، بالتحالف مع الفاشية (الإيطالية)، ولكن بقية الأوروبيين ومعهم الأمريكيون والروس، اجتمعوا ضد ألمانيا وحلفائها وهزموهم في الحرب العالمية الثانية.(43/76)
(2) الفاشية: مصطلح الفاشية (fascism) مشتق من الكلمة الإيطالية (fasces)، وهي تعني الحارس أو الحامي، وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ استعمال هذه الكلمة للإشارة إلى مجموعة من الثوريين الاشتراكيين، وقد شكَّل (بنيتو موسوليني) جماعة برلمانية مسلحة عام 1919م من الفاشية، وكانت معادية للرأسمالية، وتحالف الفاشيون بزعامة موسوليني مع النازيين بزعامة هتلر لتحدي الرأسمالية الليبرالية، ولهذا اقترنت الفاشية بالدكتاتورية، وعندما أصبح موسوليني رئيساً لوزراء إيطاليا، أقام الحكومة على حزب واحد هو الحزب الفاشي، وتمكنت هذه الحكومة من إسقاط العديد من النظم الرأسمالية الديموقراطية في أوروبا، لكن الحرب العالمية الثانية شهدت سقوط الفاشية، كما شهدت سقوط النازية، وبقي الصراع فقط بين الشيوعية والرأسمالية، حتى انتهاء الحرب الباردة، وتفرُّد الرأسمالية بزعامة العالم تحت قيادة أمريكا، التي أحلًّت الإسلام نِدّاً بديلاً للندِّ الشيوعي المهزوم.
(3) سبق لمجلة البيان أن عرضت ذلك التقرير الأخير في العدد (236).
=============(43/77)
(43/78)
الإسلام وتوازن المجتمع
محمد عبد الله السمان 21/6/1426
27/07/2005
بادئ ذي بدء أقول: إن الفكر الإسلامي فكر شامل يتسع لحركة الحياة بأسرها ويتواءم مع تطورها حسب مقتضيات الحياة ذاتها، ومرونة الفكر الإسلامي تتسق تماماً مع كون الإسلام خاتم الرسالات السماوية، يعايش الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودراستنا إذن للفكر الإسلامي يجب ألاّ تكون قاصرة على جانب العبادات، وإلا كنّا مناقضين لأنفسنا حين نقول: الإسلام دين ودولة معاً. ولقد كان علماء السلف على وعي بذلك، فقد كانوا فقهاء في العقيدة والشريعة والفلسفة والاجتماع؛ بالإضافة إلى علوم معايش الحياة، كالطب والفلك والهندسة والصيدلة والجيولوجيا وحتى علوم التجارة والزراعة، وقد أفادت أوروبا من إنتاج علماء المسلمين الأوائل، وقد اعترف بذلك العدول من مفكريها. هذه كلمات كان لا بد منها.
أنا اقرأ لدراسة تحمل عنوان المقال "الإسلام وتوازن المجتمع" وهي لمفكر اقتصادي مسلم باكستاني من لاهور هو العلامة ميرزا محمد حسين، وقام بترجمتها من الإنجليزية إلى العربية المفكر الدكتور محمد فتحي عثمان الذي قال في تقديمه للدراسة:"وفي مسلمي الهند وباكستان ..دين صادق وثقافة واسعة ـ خاصة ـ في الدراسات الإسلامية بهذه العبقرية العقلية، يكون لهم من مباهج البحث وعمق الفكر، وشمول النظرة، وسعة الأفق ما يجعل لأبحاثهم في "النظام الإسلامي" ـ بصفة خاصة ـ روحاً جديدة؛ فهم لا ينظرون إلى الإسلام كأجزاء وتفاريق، ولا ينظرون إلى الثقافة الغربية نظرة الجاهل الذي يعادي ما يجهله، ومن هنا جاءت كتاباتهم في وقتها بالنسبة للفترة التي نحياها من تطورنا الفكري، بعد أن جمد فقهنا من قرون، وتطورت الدراسات الإنسانية في ظل الحضارة الغربية، وتشعبت فروعها، وأثمرت الكثير من النظريات والآراء.
والدراسة التي يقدمها لنا المفكر الإسلامي الباكستاني، هي دراسة اقتصادية في مضمونها، والنظام الاقتصادي عقدة الحضارة الحديثة بطبيعته .. فالملكية الاشتراكية،التي ظهرت على المسرح العالمي بدعوى مداواة الجراح التي سببتها الرأسمالية، تستهل علاج الملكية بإلغاء الملكية الخاصة، واستخدام القسر لتحقيق هدفها، وإذا كان الإسلام يرفض تكدّس الثروة بصورة تخالف العدل الاجتماعي، لما لذلك من آثار مزعجة للمجتمع، فهو ـ في نفس الوقت يضع خطة أخرى للعمل. فهو يبيح صوراً من التفاوت الاجتماعي الاقتصادي، التي لا تضرّ صالح الجماعة .. والله يقول:(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)، كما أن الإسلام يبيح كسب المال وتملكه، والمشروعات الخاصة ليست من محرّماته، وإنما يحرم هذه المشروعات من تأييده عندما تصطنع لها دوراً عدوانياً، وتعمق جذور السيطرة في حياة الناس إلى حد ألاّ يجدوا لها مدافعاً، ومن هنا يغلق الإسلام الطرق المؤدية إلى أورام الثراء الخبيث في التجارة والمعاملات!
ففي وسع الدولة الإسلامية أن تنجح في مهمتها التي عهد الله بها إليها، إذا ما كان أفرادها قد جرّدوا أنفسهم عن الشر والشح. ولا جدال في أن الإسلام يقطع الطريق على الكسب الانتهازي، وتكدس الثروات بصورة تتنافى في العدل الاجتماعي، وهو ما نراه اليوم هادئاً في ظل الرأسمالية المتطرفة .. وهذا الإسلام، لا يملك إلا أن يلعن نظاماً ليس له من سند، سوى المبدأ الشيطاني:"أنا وبعدي الطوفان" ؛ لذا أنكر الإسلام .. "النزعات الانتهازية" والتهافت المسعور على الثراء بأي سبيل. يقول القرآن:(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وهذه الآية الكريمة غنية بالمعاني العظيمة، فهي تؤكد أن ما خلقه الله من مخلوقاته، ينتمي في مجموعهِ إلى المجتمع الإنساني في مجموعه، وعلى ذلك فليس لفرد حق في ادعاء أو اغتصاب نصيب الأسد من هذا المورد العام.
فمبادئ القرآن لا تقسيم فيها إلى بروليتاريا وبرجوازية. فالإنسان يعامل كعامل فعّال، ونافع في مجال النشاط الاجتماعي، وحقّه في الملكية الخاصة مقرر ومسلم به، ولكنه محاط بسياج واقٍ؛ فصاحب المال يستطيع أن يستعمله، ولكن على طريقة لا ضرر فيها بالمجتمع ولا ضرار. والإسلام إذ يسمّي الملكية "وديعة" و"أمانة" من الله ـ جل وعلا ـ فإنه ينتزع كل أساس يمكن أن يستند إليه الرأسماليون، وقد كان الإسلام متيقظاً إلى الاحتمالات الخطرة لتركز الثروات في أيدي فئة قليلة، فهو قد أباح الملكية الخاصة، ولكنه لم يبح ما قد ينجم عنها من تخريب اجتماعي نتيجة للاستغلال!
إن الشيوعية تدعي أنها ترسي أسس أخوة عالمية، ولكن أساليبها الوحشية تنفي هذا الادعاء؛ فإنها لا بد أن تسحق وتمحق أولاً لتحاول البناء بعد ذلك، أو كما يقول لينين:"فمن أجل تحقيق السلام لا بد أن تشق جماجم الرجال" ويردّد النغمة نفسها الشارح للعقيدة الشيوعية (زينوفييف):"إن صرخة الغضب المشحونة بالحقد هي لذتنا ومتعتنا" فهل ينتظر للإخاء العالمي المتولد من البغضاء والعنف إلا أن يكون ـ بالطبع ـ بناء متداعياً معرضاً للانهيار!!(43/79)
فرغم أن الشيوعية قامت على الشعارات الزائفة مما أدّى إلى سقوطها بعد أقل من ثلاثة أرباع القرن :(فأما الزبد فيذهب جفاء) إلا أن لها في ديارنا فُلولاً متدنية تتعلق ـ وما تزال ـ بخيوط أوهى من خيوط العنكبوت!!
ومن الجدير بالاهتمام أن السياسة والاقتصاد. ليسا غايتين في ذاتهما، وإنما هما مجرد وسيلتين للغاية السامية النبيلة، وهي: الصالح الإنساني العام، ولما كانت الملكية الخاصة قادرة على الخير والشر، فإنه لا يمكن المرور عليها مروراً سريعاً، وهؤلاء الذين تحققوا كيف تعمقت الملكية الخاصة لها في أغوار الاقتصاد الإنساني، يمكنهم أن يقدروا الدور النافع المخصص لها في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية، ففي الإسلام ـ وحده ـ لا تغدو الملكية الخاصة والصالح العام نقيضين لا يجتمعان.
والدكتور (دي سانتيلاتا) كتب في فصل المشرق "الشريعة والمجتمع" من كتاب (تراث الإسلام): "من المحتمل ـ بالطبع ـ أي شيء لأي شخص؛ لأن كل طيبات الدنيا قد خُلقت من أجل الإنسان، ولكن بصدد تنظيم الملكية، وضع الله حداً لهذا الحق، وهذا مكّن كل فرد أن يتعرّف على ما أفاءه الله عليه ـ خاصة ـ من نعم وفيرة، بين ما أودعه الله في هذا الكون عامة من رصيد الثروة، وكان في هذا ضمان وتأمين للنظام الاجتماعي ـ أيضاً .. ولكن من الخطأ: الظن أن التملك حق غير محدود .. إن طيبات الأرض تُمنح للشخص من أجل تعزيز كيانه ـ أي لاستخدامها استخداماً نافعاً لا لتبذيرها وفقاً لنزوة، وبمتابعة قواعد القرآن والسنة، نجد الشريعة الإسلامية تدفع أي استهلال للثروة في غير الاستعمال الصحيح بأنه صورة من صور الإسراف الذي تعدّه الشريعة مرضاً عقلياً .. هذه الشريعة تؤكد الاعتدال والتوسط في استعمال الثروات بما يكون أقرب إلى موافقة الشرع، ومقصد الخالق من الإنعام بهذه الطيبات على الناس". هذه شهادة للإسلام من كاتب غير مسلم، وهو يوضح أن حق الملكية الخاصة في الإسلام، لا يمكن مزاولته لاستبعاد الآخر
===============(43/80)
(43/81)
الابتعاث ومخاطره
تأليف
محمد بن لطفي الصباغ
توزيع
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية
http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
الابتعاث ومخاطره (*)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله .
أما بعد
فقد آثرت أن أبحث في موضوع الابتعاث لما أرى له من الأهمية العظمى والخطورة البالغة , ذلك أن مستقبل بلاد العالم الإسلامي - يتوقف إلى حد بعيد - على هذه البعثات التي سيكون من أفرادها رجال المستقبل , وحكام هاتيك البلاد , والقيادات الفكرية فيها .
وإنني أشكر للقائمين على هذا المؤتمر إدراجهم هذا الموضوع في جملة الموضوعات التي يعالجها المؤتمر , فذلك يدل على تنبه بخطر هذه الظاهرة التي لا ييتطيع الدعاة تجاهلها , لأن ما يبنيه الداعية في مجال , يهدمه المنحرفون من المبتعثين , لاسيما إن كانت في أيديهم السلطة والصلاحيات .
حوادث صارخة تستلفت النظر :
سمعت مرة من أحد رجالات اليمن أن آلافاً من الشباب من أبناء هذا البلد المسلم الشقيق المؤمن , أُرسلوا إلى الدول الشيوعية , ليدرسوا هناك جوانب مختلفة من المعرفة والاختصاصات .
وعلمتُ في الصيف المنصرم , خلال رحلتي إلى أوربا , أن الصومال ترسل الألوف من أبنائها أيضاً , إلى الدول الشيوعية والاشتراكية ليدرسوا هناك العلوم والمعارف .
وحدث أنني منذ عشر سنوات اجتمعت في الطائرة بشاب من بلد عربي يتوقد ذكاءً , قص عليَّ قصة دراسته , وخلاصتها : إنه كان الأول في امتحان الشهادة الثانوية , فاتصلت دولة من الدول الاشتراكية بوزارة التربية في ذلك البلد , وعرضت عليها الرغبة في أن تعطي هذا الطالب الذكي منحة دراسية في أي فرع نادر من فروع التخصص يرغب فيه , وذهب إلى المدرسة , ولكنه - كما بدا من حديثه - لم يتلق العلم فقط هناك وإنما تلقى الفكر الشيوعي الماركسي وأصبح من المؤمنين به والمدافعين عنه .
مكر مدبر :
ليست عداوة الكافرين للمسلمين خافية على ذي بصيرة , فهم لا يألوننا خبالا , وما أصدق وصف القرآن الكريم لهم , وذلك في قوله تبارك وتعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * » سورة آل عمران 118-120
فهم منذ أن جاء صلى الله عليه وسلم , بهذه الرسالة وهم في مكر مستمر , وقد صفا لهم الجوُّ عندما ضعفنا وأصبحوا أقوياء , وخيم علينا الجهل وتقدموا هم , في مجال العلوم المادية , واستطاعوا احتلال بلادنا , فزين لهم ذلك المضيَّ في عدوانهم علينا , والإمعان في الإستيلاء على بلادنا وثرواتنا , ولكنهم رأوا أن جذور الإسلام عميقة في كيان المسلم مهما كان هذا الفرد المسلم مقصراً , ووجدوا أن روح الإسلام ومعانيه ومثله العليا , مستولية أشد الاستيلاء على مشاعر الناس وتصوراتهم .....
فواجهوا هذا الواقع بالمكر والتدبير , وخططوا لإزالة هذه العقبة من طريقهم ... وهي هذا الإسلام الذي لن يمكنهم من تحقيق أغراضهم وأطماعهم , مادام حياً في نفوس المسلمين وسلوكهم .
فمن ذلك كلمة غلادستون أحد زعماء بريطانيا : " مادام هذا القرآن في أيدي المسلمين فلن يقر للاستعمار قرار في ديار الإسلام " وأمثال هذه الكلمة كثير .
وفكروا وقدروا , ثم فكروا وقدروا , ودرسوا كيف يمكنهم أن يزحزحوا الإسلام عن مكانته في صدور المسلمين ؟ وكيف يقتلعون هاتيك الجذور بهدوء ويسر ونجاح ؟ وقادهم تفكيرهم وتقديرهم إلى وسائل عدة ... استخدموها بإتقان وإحكام .
وكان من ذلك الابتعاث , والتبشير ونشر التحلل والإفساد الخلقي والحملات العسكرية المسلحة , والتشكيك , والإلحاد , ومحاربة اللغة العربية , وبعث القوميات العنصرية , والنزعات الوطنية الضيقة لتحل محل الدين , وإفساد مناهج التعليم , ووسائل الإعلام .(43/82)
ونحن في بحثنا هذا , نود أن ننظر في موضوع الابتعاث , لنبين كيف أنه كان من أفتك الأسلحة لزلزلة الإسلام من القلوب , ومحاولة اقتلاع جذوره العميقة من أعماق نفوس المسلمين , وبين أيدينا حقائق يجب أن لا تغيب عن أذهاننا , من أهمها أنهم أعداء ألداء , فلا يمكن أن يكون منهم حرص على أن نتعلم ونتقوى , وأنهم أنانيون ماديون فلا يمكن أن يكون عندهم مثل هذا الإيثار والتضحية من أجلنا , وقد حرصوا على سلوك كل سبيل لإخفاء هذه الأنانية وذاك المكر , ولكنهم - على الرغم من جهودهم في كتمان ذلك - غلبوا على أمرهم , لأنه أقوى من أن يستر , وظهر ذلك في مواقف عديدة . ولو أنهم دروا أن تعليمنا لا يقودنا إلى أفخاخهم , لما رضوا أن يعلمونا حرفاً واحداً , فمثل هذه البعثات دفع إليها , وكان سبباً من أسبابها :
* الرغبة في أن يكون تجانس وتطابق في التفكير بين المستعمرين وأبناء البلاد بين المسلمين .
وينشأ عن هذا بالضرورة ضعف سلطان الدين , وزحزحة مكانته عند كثير من هؤلاء المتعلمين من المبعوثين .
وستتضح هذه الأسباب عندما نبين نتائجه وآثاره .
وقد يقول قائل : هل هناك مانع من الارتحال لأخذ النافع من علوم القوم ؟
والجواب : لا ... بشروط .
والرحلة في طلب العلم مما درج عليه علماء سلفنا الأفاضل منذ الصدر الأول , امتثالاً لأمر الله عز وجل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122
قال حماد بن زيد : ( فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه , ورجع به إلى من وراءه يعلمهم إياه )(2)
وقال عبد الرزاق : (هم أصحاب الحديث)(3)
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود الترمذي وابن ماجه والدارمي(4) , في كتبهم : أن رجلاً قدم من المدينة على أبي الدرداء - وهو بدمشق - فقال : ما أقدمك يا أخي ؟
قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله غليه وسلم .
قال : أما جئت لحاجة ؟
قال : لا .
قال : أما قدمت لتجارة ؟
قال : لا .
قال : ما جئت إلا في طلب هذا الحديث .
قال : نعم .
قال : فإني سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة , وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب , وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء . وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة بدر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (5)
وقال عبد لله بن مسعود : (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته )(6) .
وهكذا فقد بدأت الرحلة في طلب العلم منذ أيام الصحابة رضوان الله عليهم , فرحل أبو أيوب , وجابر بن عبد الله إلى مصر (7), وكذلك التابعون وتابعوهم حتى عصرنا الحاضر .
إذن فنحن قوم نؤيد الرحلة في طلب العلم ونحثُ عليها ولعلنا نحن أول الأمم التي جعلت الرحلة في ذلك من مقدمات العلم ومقومات التعلم , ولكننا لا نترك أمر الرحلة سائباً يقوم على الفوضى ويؤدي إلى النتائج السيئة التي تؤدي إليها الفوضى بل نشترط فيها - كما أشرنا - شروطاً :
وأهم هذه الشروط هي :
1. أن نأخذ في رحلتنا ما تحتاج إليه أمتنا ... أن نأخذ العلم التجريبي وتطبيقاته . فالعلم بحقائقه المجردة لا جنسية له ولا لون , والمخترعات لا تلتزم بدين ولا تعبر عن تصور .
2. أن نأخذ ما نأخذ ونحن محافظون على ذاتنا وكياننا وأنفسنا , معتزون بما أكرمنا الله به من الدين , لأن مثل هذا الإعتزاز يسهل علينا معرفة ما نأخذ وما ندع , ومعرفة مصلحتنا وتحديدها , ولنا الأسوة الحسنة في صنيع أجدادنا , عندما اقتبسوا بعض العلوم النافعة التي كانت عند الأقوام الأجنبية الأخرى .
فلقد أقبل أولئك الأجداد في العصر الذهبي للثقافة والتدوين والتبحر العلمي , أقبلوا على الترجمة والابتكار والإبداع , فترجموا كثيراً من الكتب وأبدعوا وابتكروا ... وكان لهم أدب راق يحمل الأصالة العربية في البيان , والوجه الإسلامي إذ جعل وجهته القرآن , وكان لهم طب يتسم بهذه السمة , ورياضيات , وفلسفة , وجغرافيا , وفيزياء , وكيمياء , وكانت هذه العلوم المختلفة مصطبغة بالروح الإسلامية .
3. أن يكون هناك اختيار لمن يذهب , فيختار لهذه المهمة من كان صلب الدين , قوي الإرادة , متقدم السن , محصناً من التأثر .
4. أن يحاط المبعوث هناك بالجو الإسلامي النظيف الذي يذكره إن غفل , ويعينه إن ذكر .
5. أن تكون مناهجنا التعليمية تجعل ممن يذهب لتلك البلاد , واعياً مؤثراً غير متأثر
وسيمر بنا تفصيل لهذه الشروط في ثنايا البحث .
ويقتضينا البحث أن نتساءل عن حكم الإقامة في بلاد الكفار , لأن الابتعاث اليوم - مع الأسف -إنما هو في الأعم الأغلب إلى بلاد الكفار .
***
الإقامة في بلاد الكفار :(43/83)
قرأت بحثاً قيماً كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع , وقد قال فيما قال رحمه الله :
(الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير - بحيث يكون (المسلم) أعلم بذلك وأقدر عليه , وأنشط له - أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله في طاعة الله ورسوله دون ذلك )(8)
وقال كلاماً مضمونه أن الحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلق بالشخص والظروف , فمثلا قد تكون إقامة الرجل في أرضٍ يسود بها الضلال ويستعلن فيها الكفر , أفضل إذا كان هذا الرجل مجاهداً في سبيل الله , أو داعياً إلى دينه القويم بلسانه وقلمه , وقد تكون إقامته هناك أحسن من إقامته في أرض الإيمان والطاعة .
ومن هنا كانت المرابطة في الثغور على حدود الكفار أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء .قال تعالى وهو أصدق القائلين - {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }التوبة:19| 21.
إذن فالجهاد مع الإيمان أعظم درجة عند الله , من عمارة المسجد الحرام , وسقاية الحجاج , وبركة البيت الحرام وفضل العبادة فيه أمر مسلّمٌ معروف بيِّن لا جدال فيه .
فأفضلية مقام المسلم في دار الكفر مجاهداً في سبيل الله - في تصوري - عائداً إلى أمرين 1- أحوال الشخص , وإمكانياته , ومواهبه , وطاقاته , وأوضاعه الخاصة به .
2- الظروف العامة التي تسود بقعة ما من بقاع الدنيا .
فإذا كان إنسان من الناس متَّزن الشخصية قوياً , مسموع الكلمة موهوباً , يمتلك أداه من أدوات التأثير في الناس عملية كانت أو فكرية , كالكتابة والخطابة وإنشاء المدارس وفتح المستشفيات وما إلى ذلك , مما تقتضيه مصلحة الإسلام في ذلك البلد , وكان يستطيع أن يؤدي رسالته على وجه حسن , وكان يحتمل ما يصيبه من الأذى المتوقع , فلا شك في أن إقامته حيث يقوى على الدعوة , خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح . أما إذا كان هذا الإنسان شخصاً عادياً , يتأثر بالوسط الذي يحيا فيه , وليس لديه شيء من المواهب والطاقات , وكان تعرضه للأذى والفتنة أمراً محققاً , فلا شك في أن مثل هذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة وأن يقيم فيها , فذلك أروح قلباً وأسلم عاقبة .
وأود أن أقرر أيضاً :
إن وجود المرء مدة طويلة في مجتمع كافر منحرف , وتعايشه معه يجعله يتأثر بأعراف هذا المجتمع وقيمه شاء أم أبى ... ولا يمكن أن يشذ عن هذه السنة فرد , وإن كان التأثر يختلف قوة وضعفاً , سلباً وإيجاباً ... ولكنه موجود على أية حال . ونسبة الذين يسلمون من هذا التأثير نسبة قليلة , وهذا ما جعل الإقامة في بلاد الكفار , أمراً مقيتاً لا تستريح النفس إليه , ومحظوراً إن لم يكن له داعٍ , ولم تتوافر في المسلم المقيم الشروط الذي ذكرناها آنفاً .
ولقد دعت الآية الكريمة أولئك الذين يلتصقون بالأرض , ولا يهاجرون من ديار الكفر ظالمي أنفسهم[ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ] النساء: 97|99.
والله تبارك وتعالى يفتح الآفاق أمام عباده ليختاروا الأرض التي يستطيعون فيها إقامة حكم الله . قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت56
وقال : {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ }النساء: 100
ولكن هل الابتعاث في أوضاعنا القائمة هو من هذا القبيل ؟
لماذا الابتعاث وماذا يدرس المبتعثون ؟
إن الابتعاث إلى الغرب (رأسمالية وشيوعية) أمر درجنا عليه , منذ أن بدأ الاحتكاك بأوروبا في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (أي مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)كما سنبين ذلك في فصل خاص بتاريخ الابتعاث .
وكان أمراً له مسوغاته دون شك , فلقد ذهب أنصار الابتعاث إلى القول : بأنه لا بد منه , حتى نستطيع أن نواكب عصرنا ونشارك أهله العيش في قضاياه . وقال هؤلاء الأنصار المتحمسون :(43/84)
إننا في ذهابنا إلى ديارهم نسترد ديناً سلف منا , فلقد كنا في يوم مضى أساتذة الدنيا , عنَّا يتلقى العلم كل راغب فيه , ومنهم أجداد هؤلاء الغربيين , ومن كُتُبِنا كانوا يستمدون المعرفة , حتى أضحت مصادرهم الوحيدة , وكان مثقفوهم ومفكروهم يتخرجون في جامعاتنا , قالوا : فنحن نسترد ما سلف منا إليهم , عندما نتتلمذ على أيديهم ونستمد من كتبهم المعرفة ، وهكذا الأيام يوم لك ويوم عليك , وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وإن صح كثير مما قاله هؤلاء الأنصار , فإن هناك شيئاً لا بد من إضافته إلى كلامهم وهو :
إن الرحلة في طلب العلم وسيلة , ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة , لاسيما بعد أن مضى على اتصالنا بحضارتهم وعلومهم الزمن الطويل . وحتى لو تعينت الر حلة وسيلة وحيدة , فقد كان يمكن أن تنضبط ويقضى على محذوراتها .
وسيتضح لنا من دراسة تاريخ الابتعاث وواقع المبتعثين هناك , مدى التفريط والمجازفة بنفر من أبنائنا , وستنكشف بعض الأسرار المهمة في هذا الموضوع .
ونودُّ أن نفرق بين نوعين من العلوم والمعارف :
أما أولهما فلا بد من أخذه وإتقانه بالرحلة أو غيرها , وكلما تفادينا الرحلة ضمنا واقعاً أفضل , خلافاً لما يدعيه الذين يتحمسون للابتعاث , وهذا النوع من المعارف هو ما يتصل بالعلوم البحتة والتطبيقية : كالرياضيات , والكيمياء , والفيزياء , والهندسة , والطب , وما إلى ذلك . إنها علوم تصلنا بأسباب الحضارة والتقدم , بل إن الإسلام ليجعل تحصيل هذا النوع وإجادته , فرض كفاية على المسلمين , إن لم يقوموا به أثموا(9) ولو نظرنا في واقعنا الحاضر لوجدنا أن من أسباب ضراوة الغزو الفكري وشراسته علينا ما قوبلت به حضارة أوربا في بادئ الأمر من سلبية من قبل أكثر أهل العلم والتوجيه في ديار المسلمين , ذلك لأنه إن لم يكن الاقتباس من هذه الحضارة يتم عن إرادة واختيار وبصيرة فإن هذه الحضارة تزحف علينا وعلى معتقداتنا وأخلاقنا لتزلزلها وتغتالها ... أجل إنها تزحف بقضها وقضيضها , وخيرها وشرها ، وصالحها وفاسدها ومثلنا عندئذ مثل قوم جياع أمامهم مائدة حافلة بصحاف مختلفة من الطعام , بعضها في السم القاتل وبعضها طيب جيد , وبعضها حلو , وبعضها حامض .... وقد زينت أتم زينة , ورتبت أفضل ترتيب .
فإن اختار العارفون الطيب النافع لهؤلاء الجياع المحتاجين , تجنبوا السُّم والأذى واستجابوا شاكرين .
وإلا فإن هؤلاء الجياع لا يستطيعون أن يصبروا على الجوع طويلاً لمجرد التحذير والخطر وسيقبلون على هاتيك المائدة المحظورة ثائرين متمردين , يأكلون طعامها النافع والضار . وإذن العلوم التجريبية والتطبيقية هي النوع الذي لا بد من أخذه .
وأما النوع الثاني من المعارف والعلوم فهو قسمان :
1. قسم يتضمن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها , فليس هناك فائدة ترجى من أخذه عن الغرب , والضرر ظاهر في الابتعاث من أجله , ولا يمكن لأمة تملك الغيرة على ذاتها وكيانها ومثلها العليا , أن ترضى بمثل هذا الوضع الزري .
أليس أمراً مخجلاً أن يذهب رجل من المسلمين إلى اليهود والنصارى , فيتعلم منهم أمور دينه , أو يذهب إلى الأعاجم فيتعلم لغته !!؟؟
وما ثقتنا بعلم رجل تلقى علومه على اليهود والنصارى الموتورين الحاقدين على دين الإسلام وأهله ؟
وما تقديرنا لمن يتخرج في اللغة والأدب على أيدي الأعاجم المستشرقين الذين لا يبينون ولا يتذوقون ؟
إن دراسة هذه العلوم يجب أن تمنع في ديار الكفار , ويجب أن تتم في بلاد المسلمين , وهذا أمر واضح .
2. وقسم يتضمن دراسة الفنون من رقص , ومسرح , وسينما , ونحت , وموسيقى , وما إلى ذلك .
فدراسة مثل هذه الأمور , ومحظور في أي مكان في بلادنا أو في بلاد أعدائنا , ودراستها هناك أشدُّ خطراً .
ويمكن أن يلحق بهذا كل دراسة تنتهي بالدارس إلى الشك والزيغ .
ومما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة , أن معظم الابتعاث , إنما كان في العلوم النظرية والآداب واللغات وما إلى ذلك , ولم يكن هناك عدد كاف من المبتعثين لدراسة العلوم التجريبية .
ويذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية )(10) .
والذي كانت تتطلبه بلاد المسلمين هو العكس من ذلك , فتأخر المسلمين إنما نشأ عن أمور من أهمها إهمالهم للعلوم التجريبية والتطبيقية , وبعدهم عن مجالات الإنتاج والتصنيع الاقتصادي والعسكري .
والابتعاث لدراسة العلوم الدينية واللغوية يتصل لدى التأمل بعمل المستشرقين . فما هو هذا العمل ؟
المستشرقون والدراسات الدينية واللغوية :(43/85)
إن أي دراسة دينية أو لغوية في ديار الغرب , ترتبط ارتباطاً حتمياً بالمستشرقين , وموضوع الاستشراق جدير بأن يبحث بشكل موضوعي وفي بحث مفرد , وأن يدرس ماله وما عليه , ولكنني - هنا- أحب أن أقول : إن الذي لا ينقضي منه عجبي أن يبقى هذا الموضوع الخطير وهو من أكثر الأمور تأثيراً في تفكيرنا وثقافتنا في العصر الحاضر أن يبقى حتى الآن دون دراسة وافية من وجهة النظر الإسلامية , ذلك لأن الدراسات التي ظهرت فيه دون المطلوب بمراحل .
والذي نريد أن نشير إليه هو أن المستشرقين بلغوا من المكر والدس والحقد منزلة بعسر تصورها , والخطورة فيها أنهم غير مكشوفين , وأن تأثيرهم على تلامذتهم بطيء , فلا يكاد يشعر هذا المبعوث بالخطر العظيم الذي يواجهه في أستاذه .
إذن الابتعاث كان له أكثر من دافع , بعضها دعت إليه حاجة بلادنا , وبعضها كان عند أعدائنا الذين أرادوا أن يصوغوا قيادات فكرية لا تعطي الإسلام الأهمية الكبرى في الحياة , ثم وجهوا دراسة المبعوثين الوجهة التي تحقق لهم أهدافهم ولا تنتهي بنا إلى التطور التقني (التكنولوجي) المطلوب .
وكان للابتعاث أكثر من مظهر , وبعضها إيجابي بناء وهو مسايرة الحضارة الإنسانية والاكتساب من علومها , وبعضها سلبي هدام سنتحدث عنه عندما نتحدث عن آثار الابتعاث .
تلك جوانب من بحث (الابتعاث) تقودنا إلى موضوع حال المبتعثين :
واقع المبعوثين :
سأقدم فيما يأتي خلاصة ما توصلت إليه من دراسة واقعية (ميدانية) قمت بها مع عدد من المبتعثين الذين أقاموا في جهات مختلفة من ديار الغرب , وفي أوقات مختلفة , ونريد من وراء هذه الدراسة أن ننصف هؤلاء الشباب الذين هم فلذات أكبادنا ، وهم في معظم الأحيان الصفوة المنتقاة من شباب الإسلام . لقد تبين لي أن شبابنا المبتعثين يواجهون في الواقع مشكلات كثيرة جداً لا يتسع الوقت لعرضها كلها , أما أهم المشكلات التي يواجهونها فهي ما يلي :
1. الصعوبات التي يتعرض لها الطالب قبل سفره من ناحية الاتصال بالجامعات , وغالباً ما يترك أمر الاتصال بالجامعة للطالب ولجهوده الشخصية , ولذا تراه مستعداً للالتحاق بأية جامعة تقبله , وأسوأ الجامعات مستوى هي عادة أسرعها رداً على طلبات الطلاب وقبولهم
ويمكن تلافي هذه الصعوبات بأن تقوم الجهات الرسمية والجمعيات الإسلامية باختيار المكان الأصلح ومساعدة الطالب على القبول ليضمن المستوى الجيد والدراسة المثلى .
2. الصعوبات التي يلقاها المبعوث من ناحية السكنى ... إنه غريب لا يتكلم لغة البلد الذي يقصده بطلاقة ، والغريب _عادة_ لا يستطيع الحركة لعدم معرفته وكثيراً ما تعمد جهات تبشيرية أو استعمارية لتلقي الوافدين , لتفسد دينهم وأخلاقهم وتستخدمهم بالتالي في مآربها وغاياتها . وتعالج هذه الصعوبات بأن يقوم الصالحون الموجودون من قبل في تلك البلاد - ولاسيما اتحادات الطلاب المسلمين - بتهيئة الوضع المناسب للطالب المبتعث .
3. صعوبة اختيار البحث المناسب وصعوبة موافقة المشرف على الموضوع الذي يرى الدارس حاجة أمته ودينه وبلاده له , ومن ذلك ما جاء في كتاب أستاذنا السباعي رحمه الله "السنة" , قال عن دكتور محمد أمين المصري : "وما كاد يطلع على برامج الدراسة , وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها حتى هاله ما رآه من تحامل ودس في كتب المستشرقين وخاصة (شاخت) فقرر أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت . تقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفاً على تحضير هذه الرسالة وموافقاً على موضوعها , فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت , وعبثاً حاول أن يوافق على ذلك . فلما يئس من جامعة لندن ذهب إلى جامعة كمبردج وانتسب إليها وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فهي برغبته في أن يكون في موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرنا , فلم يبدوا رضاهم عن ذلك , وظن أن من الممكن موافقته أخيراً , ولكنهم قالوا له بصريح العبارة : إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت فإن الجامعة لن تسمح بذلك )(11)
4. عدم الإلمام الجيد باللغة الأجنبية , وقد مر ذكر هذه المشكلة الثانية . وكثيراً ما يتعرض الطالب للأخطار المحققة في خلقه ودينه وفكره من أجل التمكن من اللغة الأجنبية , إذ ينصحه بعضهم باتخاذ صديق أو أكثر من أبناء البلد الأجنبي الذي يقصده , وغالباً ما يفضلُ له - مع الأسف الشديد- أن يكون هذا الصديق من الجنس الآخر !! وهناك تكون الطامة التي قد تفسد على الطالب دراسته نفسها , بل دينه وخلقه وكيانه كله . وقد يزينون له أن يسكن مع أسرة من أهل تلك البلاد , وفي ذلك ما فيه .(43/86)
وعلاج هذه المشكلة يكون في أن يستعد الطالب قبل سفره استعداداً لغوياً مناسباً وذلك بأن يدخل بعض الدورات التي تقويه في اللغة , وكذلك فإن عليه أن يدخل بعض المعاهد الخاصة في البلد الذي يسافر إليه , ويحسن أن يكون ذلك بالاتفاق والتشاور مع بعض الجمعيات والمؤسسات الإسلامية القائمة في بلاد الغرب , والقائمون على هذه الجمعيات لهم تجارب سابقة في هذا المجال , فبإمكان الطالب أن يستفيد من ذلك الاستفادة التي تجنبه كثيراً من المزالق .
5. الوسط السيئ الذي يحل فيه , ذلك أن الصالحين في بلاد المسلمين قليلون , فما بالك هناك من ديار الكفار , وغالباً ما يكون أبناء بلدته الموجودون هناك من نوعية سيئة فكراً وتديناً وخلقاً .
إن بعض الطلاب لا تغريهم بالرحلة إلا سهولة دخولهم في جامعات أوربا ذات المستوى السيئ وصعوبة دخولهم في جامعات بلادهم لاشتراط معدل معين لم يستطيعوا إحرازه . فإذا كان هؤلاء من ذوي السلوك المنحرف ساعدهم هذا الواقع على السقوط الخلقي وسهل لهم أسبابه , ولذلك فأنت ترى عدداً ليس بالقليل من أبناء المسلمين هناك ساقطين منكبين على الملذات والشهوات ولا يكادون يلتفتون إلى دراستهم , إن أمثال هؤلاء الطلاب يضاف إليهم زملاء الطالب من الأجانب يشكلون وسطاً يغريه بالفساد .
وعلاج هذه المشكلة يكون بإعداد الوسط الإسلامي المناسب , واختيار الجامعة الجيدة التي يستطيع أن يجد فيها التجمع الإسلامي المنشود .
6. انقطاع الصلة بين المبعوث وبلده : وهذا يساعد كثيراً على التحول من الولاء لبلده ودينه وأمته إلى ولاء للمجتمع الجديد الذي يضمه , وقد نتج عن هذا الانقطاع تخلي عدد من النابغين عن جنسياتهم والاندماج في المجتمع الجديد لقاء إغراءات مادية كبيرة . إن هؤلاء النابغين يكونون بمنزلة الدم الجديد يزيد في قوة الأعداد ويمد من أجل حضارتهم .
ولو أن الصلة معقودة لما خسرت البلاد طاقات وإمكانيات كثيرة , هذا وقد كنت من سنوات سمعت إحصاء مذهلاً يتحدث عن فرار الطاقات والإمكانات والعقول من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار التي كانوا يدرسون فيها .
وعلاج ذلك أن تقوم الدولة المبتعثة والجمعيات الإسلامية بوصل هؤلاء الشباب ببلدهم , واستقدامهم إليها الحين بعد الحين بدعوتهم وتحمل نفقات سفرهم , وبنقل الأخبار ولاسيما أخبار بلدهم من وجهة النظر الإسلامية , وبتزويدهم بالمجلات الرصينة , والجرائد الجيدة , وبالنشرات الهادفة , وبالاستمرار بمراقبة المبتعث , وبإنشاء نوع من الروابط الصالحة الهادفة بين المبعوثين أنفسهم .
7. صعوبات دراسية في التخصص , وهذه ناحية في غاية الأهمية , وأبرز ما تكون واضحة في المبعوثين الرسميين الذين يوفدون على حساب الدولة التي تحدد تخصصات معينة وترسل المبتعثين لدراستها . ويحدث كثيراً -لأسباب متعددة- أن المبتعث لا يستطيع مواصلة دراسته في التخصص الذي اختير له , ولكنه لا يستطيع تغييره ... حتى إن بعض الدول إذا علمت أن الطالب غيّر تخصصه تقطع عنه المنحة وتطلب عودته .
ويجب مواجهة مثل هذه الأمور أن تُدرس كل حالة على حدة , ويُنظر إليها بعين العدل والإنصاف , فإن ثبت أن الطالب جاد , ولكن لأسباب لا تعود إلى إهماله وانصرافه عن التحصيل تعثر في دراسة هذا التخصص الملائم له . فالواجب إتاحة الفرصة له ليعمل على دراسة التخصص الملائم له , وكان يمكن تدارك ذلك لو أن هناك هيئة إسلامية تمدُّ للطالب يد المساعدة والعون والنصح والإرشاد .
8. وهناك صعوبات أخرى مثل معاناة الصوارف الكثيرة عن الدراسة تعود إلى طبيعة الحياة المنحلة , والشهوات المبذولة , بعد انتقال من جو محافظ إلى جو منحل , ومثل الانشغال ببعض الأمور الأساسية التي لا يستطيع قضاءها إلا على حساب الدراسة , ويصعب استقصاء هذه الصعوبات وتحديدها .
هذا واقع المبتعثين وفيه حقائق من الحاضر وحقائق من الماضي , ولا شك في أن حاضر الابتعاث متأثر بماضيه , كما أن حاضره مؤثر في المستقبل , وللابتعاث ماض وتاريخ , فلننظر في تاريخ الابتعاث .
***************
من تاريخ الابتعاث :
إن دراسة تاريخ الابتعاث بأناة وتأمل , والنظر في آثاره على المبعوثين السابقين أمر في غاية الأهمية في موضوعنا هذا . وإنه لخليق أن يلقي نوراً كشافاً يظهر أغراض الابتعاث جلية صريحة . وهو موضوع طويل يصلح أن يكون رسالة دكتوراه تستقل بدراسة هذا التاريخ وتلك الآثار . ولقد قرأت كثيراً مما كتب فيه ولم أستطع قراءة كثير مما تاقت نفسي إلى المضي في الاطلاع عليه . وأنا هنا لا أستطيع التفصيل في هذا الموضوع لأن ذلك يخرج بي عن حدود البحث التي رسمتها له .
أول بعثة :(43/87)
من الأمور التي تزل فيها أقدام كثير من الباحثين تقرير الأوليات بجزم دون استقصاء , وبناء على هذا فلا أستطيع الجزم بأول مبعوث أو بأول بعثة ذهبت من بلاد المسلمين إلى ديار الكفار لتلقي العلم , ولكننا نستطيع أن نقول : إن أشهر هذه البعثات هي تلك التي كانت أيام محمد علي والي مصر , وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (أي في مطلع القرن التاسع عشر النصراني) يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن :
( يجمع المؤرخون لعصر محمد علي - مصريين وأجانب- على أن بعثة 1826 هي البعثة الأولى , ويخالفهم في ذلك الأمير عمر طوسون الذي يجعل بعثه نقولا مسابكي وزملائه إلى إيطاليا سنة 1813هي أول بعثة لمحمد علي , ويجعل بعثة عثمان باشا نور الدين وزملائه إلى فرنسا سنة 1818 هي البعثة الثانية , ويجعل بعثة سنة1826 إلى فرنسا ثالثة البعثات المصرية )(12) .
فهذا النص يؤيد ما ذهبنا إليه من صعوبة تحديد البعثة التعليمية الأولى إلى ديار الغرب لأننا رأينا مثل هذا التحديد بالنسبة إلى محمد علي كان موضع اختلاف ... من أجل ذلك نؤثر أن نقول : إن بعثات محمد علي (13) التي هي أشهر البعثات وأكثرها تأثيراً في حياتنا كانت في مطلع القرن التاسع عشر أو الربع الأول منه .
البعثات إلى فرنسا :
ويستوقف الباحث تساؤل مريب بالنسبة إلى مكان ذهاب البعثات المصرية لماذا كان إلى فرنسا دون غيرها ؟ ونحن نعلم أن فرنسا غزت مصر أيام نابليون (14) قبل تولي محمد علي بسنوات , وأن خيل الفرنسيين دخلت الأزهر وأن جنودهم جاسوا خلال الديار وأتوا بفظائع مستنكرة ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية ؟ وبلد الغزاة المعتدين الذين ولغوا في دماء الآمنين من السكان , لا يصلح أن يكون محلاً لدراسة أبناء الأمة المظلومة المعتدى عليها , لأن الحقد الذي يغلي في الصدور على الظلمة المجرمين لا يتيح للوافدين مناخاً ملائماً للدراسة , ولأن هذا الوضع العدائي لا يقنع المبعوثين بالأمن هناك .
قد يقول قائل : إن العلاقات السياسية هي التي قضت بهذا وفرضته , ولكن أمراً واضحاً لا بد أن نذكره , وهو إن إفساد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخلقية والفكرية والاجتماعية ... من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات .
ومن المفيد أن نذكر أول وزير لوزارة المعارف المصرية هو أحد أفراد بعثة 1826 وهو مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839 وقد عاد إلى بلاده سنة 1832 أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة التهاب الشباب .
ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى ,فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان ب184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك (15) وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالحضارة على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة , قطعنا خلالها أشواطاً من التطور قد تعادل ما قطعناه خلال ألف ومائتين من السنين قبل ذلك .
ولم يلتزم المبتعثون الحدود التي أرادها مرسلوهم , وعندما حاول بعضهم أن يتشدد في إلزام المبعوثين بعدم مجاوزة المهمات الأصلية باءت محاولتهم بالإخفاق(16) .
يقول الدكتور محمد محمد حسين :
( وكان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )(17)
ولو أن الأمر وقف عند حد احتلال هؤلاء مناصب الوزارة والقيادة لهان الأمر شيئاً ما ولكن الأمر كان أعظم رُزءاً وأجل كارثة , فقد كان المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج .
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن من أسماء أعضاء المجلس الأسماء الآتية : ( كلوت بك - كياني بك - وأرتين أفندي - واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي - وبيومي أفندي - وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )(43/88)
إن , هذا الخبر التاريخي المثير ليكشف لنا عن خبئ كان يتوارى خلف الابتعاث , ولو أننا درسنا حياة رفاعة ومؤلفاته لتبين لنا - مع الأسف الشديد - أن أعداءنا قد وصلوا إلى كثير مما يريدون . فالرجل كان معجباً غاية الإعجاب بحياة القوم , ورجع يمجد لأول مرة الفراعنة الكفار , ويذكرهم كما يذكر الرجل أبطاله وصانعي مجده , مع أن المسلمين في أقطار الدنيا كافة كانوا ولا يزالون يسمون عهد ما قبل الإسلام بالجاهلية . وإذا كان هذا حال الرجل الأزهري المعمم الذي أوفد ليكون إماماً للطلبة ومرشداً لهم . فما بالك بالآخرين الذين كانوا معه ؟؟؟؟ .
ونستطيع - كما يقول الدكتور صديقنا محمد محمد حسين - أن نجد فيما كتبه رفاعة صدى لتفكير القرن الثامن عشر في أوروبا وفي فرنسا الثائرة بوجه خاص ... أن نجد آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي .
* للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوربا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض يراد اتخاذها وحدة وجودية يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكونا وحدة متكاملة ذات شخصية مستقلة تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين .
* وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد .
* ولأول مرة تنقل إلى المسلمين النظريات الثورية .
* ولأول مرة نرى عرضاً للنظم الاقتصادية الغربية التي تقوم على المصارف والشركات .
*ولأول مرة نرى كلاماً عن المرأة ليس من شك في أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوروبية مثل إنكار تعدد الزوجات , والمطالبة بتحديد الطلاق والمطالبة باختلاط الجنسين .
***
ويبدو أن الحدة في الابتعاث كادت تهدأ , وذلك عندما قامت حركة نشيطة في نقل العلوم التجريبية والتطبيقية إلى اللغة العربية غير أن أقوى آثمة خائنة أوقفت هذه الحركة ودعت إلى الابتعاث .
يقول الأستاذ محمود محمد شاكر : (... فإن كثيراً من الكتب قد ترجم يومئذ إلى العربية في أنواع العلوم كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية , وطبع أيضاً بمصر طباعة جديدة , ولكن يظهر أن القناصل خوفوا هذا الطاغية الجريء عقى تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر , ينشرها بلسانهم , وزينوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج )(18)
آثار الابتعاث ونتائجه
لاشك في أن للابتعاث وجهاً إيجابياً , غير أننا ههنا نودُّ أن نذكر آثاره السلبية ونتائجه الوخيمة لنحذر وننذر أقوامنا من مغبة التساهل في هذا الأمر .
ونقرر في الوقت ذاته أن أثمن ما لدى القوم هو ذاك المنهج التجريبي الذي أورثهم هذه الحضارة العظيمة والمهارات اليدوية والفنية . وما المنهج التجريبي في ذاته إلا هدية الحضارة الإسلامية إلى العالم ... يجب أن يتذكر أبناؤنا أن أسلافهم المسلمين هم الذين استخدموا هذا المنهج وعلموه الناس , وأن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى أوروبا عن طريق ثلاث :
1. اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس وصقلية .
2. التجارة .
3. الحروب الصليبية .
ونود أن نورد فيما يلي أهم آثار الابتعاث من الناحية السلبية : إن من آثار الابتعاث والاستسلام له والمبالغة فيه تأكيد العبودية للغرب التي أرادوها في بادئ الأمر , وتحققت لهم في نفر من المبعوثين . إن اله عز وجل حرم علينا مطلقاً التبعية للكفار , وحظر علينا أن نكون ذيولاًَ لغيرنا , والاستسلام لفكرة الابتعاث والمضي فيها إلى أبعد مدى يؤثر مثل هذا التأثير الهدام , ومن أجل ذلك وجب علينا أن نحول دون وقوع هذه الكارثة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . قال تعالى [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] آل عمران 110 . وقال : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ] البقرة 143 . وأمرنا عز وجل أن ندعوه في صلاتنا مرات ومرات أن يهدينا صراطاً متميزاً بأنه صراط الذين أنعم عليهم غير صراط اليهود وغير صراط النصارى (19).
فلا بد من أن يكون الابتعاث بشروطه إجراء مؤقتاً , لاسيما وقد مضى علينا أكثر من قرن ونصف ونحن على اتصال بالحضارة الغربية وأصولها , وقد كان هذا كافياً لو كانت الخطة محكمة . ويجب أن تكون سياسة الابتعاث في نطاق ضيق وأن يستعاض عن ذلك بالزيارات العلمية ذات الهدف المحدد .
إن صفوة الأذكياء وخيرة الشباب من أبناء المسلمين يدرسون الثقافة العصرية في أوربا وأمريكا ويخوضون خلال ذلك في لجة الحضارة الغربية ويعيشون الانطلاق الأخلاقي والتحلل السلوكي , والنظرة المادية المسرفة والاتجاهات الإلحادية والسياسية من قومية واشتراكية وليبرالية فيرجع معظم دعاة متحمسين إلى تقليد الحضارة الغربية ونشر قيمها ومفاهيمها وتصوراتها .(43/89)
بل رجع كثير منهم مشبعين بروح الغرب , يتنفسون برئة الغرب , ويفكرون بعقل الغرب ويرددون في بلادهم صدى أساتذتهم المستشرقين وينشرون أفكارهم ونظرياتهم بإيمان عميق وحماسة زائدة ولباقة وبلاغة وبيان , ومن هنا يكون خطر هؤلاء أعظم من خطر أساتذتهم .
والخطورة البالغة تكمن - كما سبق أن أشرنا - في أن يتسلم هؤلاء المبتعثون بعد عودتهم مسئوليات التوجيه والتربية والإعلام ...
إنهم عندئذ يسلخون أمتهم عن دينها وقوميتها , ويقومون بعملية مسخ لواقعها وقيمها ومثلها .
وإننا لنشاهد دائماً أن الإنسان يتأثر بالبلد الذي يدرس فيه ويحاول دائماً وأبداً أن ينقل ما رآه أثناء الدراسة إلى بلده , مع تفاوت بين هؤلاء الدارسين . تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " :
( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن قادة هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .
وهكذا فإن قادة آسيا وأفريقيا متفقون مع القادة الأوربيين والأمريكيين على أن الهدف الأسمى والمثل الأعلى للمجتمع البشري هو تقدمه عن طريق الصناعات الثقيلة ورفع مستوى الحياة المادية وتوسيع القوة الاقتصادية والسياسية ) (20).
والمثال القوي على ذلك الدكتور طه حسين , الذي رجع إلى مصر فآلت إليه قيادة فكرية للمجتمع , بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة , فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف (21) وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس , ومما ضاعف خطره أسلوبه , ذاك الأسلوب الرائع المبين السهل البليغ , فقد نادى في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " بالأمور الآتية :
1. الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلافها .
فهو يقول :
( إن سبيل النهضة واضحة بينه مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب )(22) .
يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول :
( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ) .
وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول :
( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط - ولن أستطيع في يوم من الأيام - أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .
2. وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : ( وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .
ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .
3. وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .
يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
وهذا شيء خطير حقاً , وإن كان يخفى ضرره على كثير من الناس .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئة :(43/90)
( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية) (23) ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين , وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال :
( لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله , الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي , وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...
وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام :
( إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي , ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا ) .
فعجبتا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير " دراسات إسلامية " وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية , واستمر في دروسه , نناقشه فيما يبدو لنا - نحن الطلاب - أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب)(24) .
* ومن أخطر الآثار أن يعود المبعوث يحقق أغراض أعداء الأمة , فمن المعلوم _ كما أشرنا _ أن حاجة المسلمين إلى العلوم التطبيقية حاجة ماسة , ومع ذلك فإن السيد أحمد خان (المولود 1232 _ 1817 والمتوفي سنة 1315 _ 1898) - وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند , وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز , وهو كما يقول الأستاذ الندوي : ( أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر )(25) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها .
قال من مقال نشره في " مجلة عليكرة " في تاريخ 19 فبراير سنة 1898 :
( إن الهند نظراً إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى ) (26)
وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية .
* ومن أخطر الآثار الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي , اللذان يصاب بهما كثير من أبناء الطلبة , ذلك لأن عوامل الإفساد والإغراء , والتشكيك والإغواء التي يتعرضون لها قد تتغلب على عناصر المقاومة التي تكون لدى بعضهم , فالانطلاق من جو مجتمع مغلق إلى جو مجتمع مفتوح يحدث هزة عنيفة لا يمكن أن تتجاهل .
وهناك سببان رئيسيان للانحراف هما : الناحية الفكرية والناحية الخلقية :
فالطالب الناشئ يذهب إلى مجتمع يقوم نظام الحياة فيه على أساس تنحية الدين جانباً والتحلل من قيوده , ويرى في هذا المجتمع ما يبهره من مظاهر التقدم والنظام , فيكون ف حالة نفسية تؤهله لقبول الشبهات , وتُلقى إليها الشكوك بشكل مدروس منظم , ويكون هناك وحيداً يعيش بعيداً عن جماعة المسلمين , فلا يتاح له أن يؤدي الصلوات في جوها المؤثر , ولا أن يحضر موسم العبادة العظيم في شهر رمضان , مما يسهل على الكائدين إيقاع الانحراف عليه .
وهناك الناحية الخلقية التي قد تكون أشد ظهوراً بالنسبة إلى الطلاب المسلمين في ديار الغرب , إذ ينتقل هذا الشاب من بلاد درج الناس فيها على سلوك معين , وأعراف خاصة , فمن ذلك أن المرأة المحترمة لا تكون إلا أما أو أختاً أو بنتاً أو زوجة أو امرأة أجنبية عفيفة صينة . ويسافر الفتى وهو في ذروة التهاب الغريزة الجنسية .ويذهب إلى مجتمع لا يلتزم ذاك السلوك , ولا يعترف بهاتيك الأعراف , ويلقى المرأة فيه متاحاً مباحاً لمن شاء من الناس , ولا يرى كثير من الناس هناك في ذلك شيئاً كبيراً .
وليس هناك فتنة أضر على الرجال من النساء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم
هذان هما السببان الرئيسيان في الانحراف .
* ومن الآثار الخطيرة تخلف المبتعث في لغته الأم , وقد يكون تخلفه هذا سبباً يدعوه إلى أن يقف مسيئة للغته وأمته , فيؤكد _ مثلا _ بقاء تدريس العلوم التجريبية والتطبيقية باللغة الأجنبية , وذلك ليغطي عجزه وليؤدي العمل المطلوب منه بأسهل سبيل وأقل جهد .
* ومن الآثار الخطيرة أن يعود بعض هؤلاء العابثين جهلة فارغين , وهم يحملون شهادات , ولكنهم لم يستطيعوا التفرغ لطلب العلم لأنهم كانوا عنه في شغل ... هذا ، إذا عادوا ... وإن لم يعودوا فالأمر معروفة خسارته .
*********************
ملاحظة لا بد منها :(43/91)
إن هذا حال معظم الراحلين إلى ديار الغرب من أبناء المسلمين , وليس هذا الحكم كلياً مطرداً ينسحب على كل مبعوث وراحل , بل لقد رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا شباباً يحقر المرء نفسه واجتهاده في العبادة إذا قاس نفسه إليهم , لقد رأيتهم شباباً صالحين يندر وجودهم في هذا العصر صلاحاً وديناً وتقوى وابتعاداً عن المحرمات .
ورأيت هناك زوجات هؤلاء الشباب فتيات مسلمات محافظات على الحجاب وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم الديني , وهن يصلحن أن يكنَّ مثالاً وقدوة صالحة للنساء في عصرنا هذا .
ولكن عدد هؤلاء بالنسبة إلى مجموع الطلاب المبتعثين عدد قليل يجعلهم شواذ , والشاذ يؤيد القاعدة ولا يخرقها .
يتلخص لنا من هذا البحث , أن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار , في مجال المادة والعلوم التجريبية , وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة استغلت دوافعه السليمة البناءة , وأصرت أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان , لأنها رأت آثاره الهدامة الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها .
وقد ألممنا بنبذة تاريخية سريعة , وعرضنا لبعض النماذج التي انهزمت أمام حضارة الغرب , فعادت معولا يهدم في بناء أمتها ويقوض صرح كرامتها , وقررنا أن آثاره اعتقادية وخلقية وعلمية وسياسية , وضربنا على ذلك بعض الأمثلة , وأشرنا خلال البحث إلى بعض المشكلات وما نراه في حلها .
المقترحات
إزاء هذه المخاطر الجمة نرى ما يلي :
1. لا ابتعاث إلا عند الضرورة , ويمنع الابتعاث في علوم الدين واللغة إلى ديار الكفار , ويقتصر على ما تدعو إليه الضرورة في العلوم التجريبية والتطبيقية .
2. لا ابتعاث إلا بعد الماجستير .
3. انتقاء الطالب المراد ابتعاثه .
4. تعريف الطالب المبتعث بدينه وتسليحه بسلاح العلم , وإظهار عوار الديانات الأخرى , والأنظمة السياسية القائمة على أساس غير الإسلام .
5. تعريف الطالب بالمشكلات التي سيواجهها عند السفر , مثل أنواع الأطعمة والأشربة المحرمة وما إلى ذلك .
6. مساعدة الطلاب في اختيار الجامعات الجيدة .
7. إرسالهم إلى البلاد التي فيهم تنظيمات طلابية إسلامية وتعريفهم بها وربطهم بعناصرها .
8. إلزام الطالب المبتعث بأن يكون متزوجاً , وأن تكون زوجته معه ,
وإذا استطاعت الدول الإسلامية بما آتاها الله من إمكانات مادية , وأن تأتي بالطاقات العلمية إلى بلدها , وتكون الدراسة هنا في بلاد المسلمين , فإن ذلك أفضل وأكمل .
وينبغي أن نقتنع بأن هذا الابتعاث إجراء مؤقت حتى تقوم في دنيا المسلمين دراسات عليا أصلية , ويمكن لنا إذا قامت مثل هذه الدراسات , أن نستعيض بالزيارات العلمية على الدراسة الطويلة , فيطلع الزائرون _ بين حين وآخر _ على ما جدَّ من العلوم والمخترعات .
كلمة أخيرة :
أيها السادة إن مؤتمركم يناقش موضوعاً من أخطر موضوعات الإسلام في هذا العصر , وهو موضوع الدعوة إلى الله , ولقد سبق أعداؤنا إلى مؤتمرات عدة للكيد للإسلام فإن أنتم كنتم على مستوى الحاجة , وخرجتم بتوصيات جادة , تأخذ طريقها إلى التنفيذ , أحسنتم لأنفسكم وأمتكم وإلا فإني أخشى أن يكون ضرر هذا المؤتمر أكبر من نفعه .
فلنتصور عظم هذه المسؤولية التي نتصدى لحملها , ولنعِ حقيقة موقفنا في عصرنا , ولنتذكر أن لنا وقفة بين يدي الله يحاسب كلا منا عن عمله ماذا عمل فيه .
وأسأل الله أن يوفقكم ويسدد خطواتكم على طريق الحق وينفع بكم إنه سبحانه سميه مجيب . والحمد لله رب العالمين .
محمد بن لطفي الصباغ
============(43/92)
(43/93)
إقرأ وابكي دماً على مذابح أمتنا في العصر الحديث
(عرض لمذابح في القرن الماضي)..فمتى!!
(الأفاضل الكرام:الرجاء الإطلاع على نهاية المقال فهناك الزبدة, وليس القصد الأساس البكاء على الأطلال بل الإيجابية في التغيير والإصلاح)
إقرأ وابكي دماً على مذابح أمتنا في العصر الحديث (عرض مختصر لمذابح في القرن الماضي)... فمتى..........ندرك أننا مسؤولون عن ذلك !!.. أمام رب العالمين!!!!!
يا قوم آلمني وأحزنني وأدمع مقلتي----- ورمى فؤادي بالأسى والحزن واقع أمتي*
إن مذابح الأمة ومآسيها في العصر الحديث تحتاج إلى مجلدات لإحصائها والحديث عنها وقد عرف الكثير منها القاصي والداني,بل حتى أطفالنا قد ألفوها لكثرة تردادها على مسامعهم وأعينهم, ناهيك عن تلك التي لم نسمع عنها والتي حرص أعداؤنا أن يجعلوها في طي الكتمان, ولكن للتذكير ستعرض بعض هذه المصائب والنكبات التي حصلت للأمة .
وهذه الفواجع كان القتلى فيها بأعداد كبيرة تجاوز في بعضها عشرات الآلاف بل وصل إلى مئات الآلاف أحيانا بل وصل إلى الملايين, وارتكبت فيها فظائع من أنواع القتل والتعذيب بما فيها القتل ذبحا حتى للأطفال (يكاد العقل أن لا يصدق بعض ما حدث لولا أن كثير منه موثق وبالصور), واغتصب في هذه المآسي عشرات الآلاف من النساء وهدمت مساجد ودمرت القرى والمدن .
هذا عدا الضعف العام والهوان والتخلف الذي تعيشه الأمة في شتى جوانب الحياة .وكونها في ذيل الأمم في عصرنا مع أن الأصل أن تكون في مقدمة الأمم بل قائدة الأمم لأنها على العقيدة الصحيحة ولأنها التي أمرت بنشر نور الهداية الربانية للعالم أجمع, وهي التي كانت قبل فترة ليست بالبعيدة كثيرا عزيزة قويه, وكانت مالكة الدنيا وحاكمة العالم !!.
(ملاحظة : كل هذه المذابح موثقة, وللإختصار لم تذكر مراجعها)
(1) - مآسي المسلمين في ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي حيث عمد الشيوعيون لأساليب إبادة رهيبة للمسلمين فتمت إبادة عشرين مليون مسلم خلال خمسين عاما ,وقد ثبت بالإحصائيات الروسية أن ستالين وحده قتل 11 مليون مسلم .
ونتيجة لهذه الإباده والتهجير حصل نقص عدد المسلمين في بعض المناطق الاسلاميه نقصا رهيبا؛فمنطقة داغستان مثلا كان عدد سكانها ثمانية ملايين في عام 1917 وتناقصوا إلى 1627000 فقط في عام 1977 وتناقص عدد سكان منطقة القرم من خمسة ملايين ليصبح أقل من نصف مليون.
وحاربوا الإسلام حرباً شديدة فأقفلت المساجد وهدمت وتم إغلاق المدارس الاسلامية وألغي التعليم الديني وربي أبناء المسلمين على الإلحاد *.
(2) - استيلاء اليهود على فلسطين والتي تقع في قلب العالم الإسلامي والعربي منذ أكثر من ثلاث وخمسين عاما والاستيلاء على القدس المقدسة التي بها ثالث المسجدين الشريفين وأولى القبلتين. وما لاقاه إخواننا الفلسطينيون من مذابح وتعذيب وهدم للمنازل وتشريد شعب بأكمله. ومن ذلك :
- مذبحة الشيخ ودير ياسين والطنطوره(2000 قتيل) واللد ونحالين* وكفر قاسم وقبية ورفح وخان يونس* .ومحى اليهود قرية ناصر الدين من الوجود فأحرقوا بيوتها وقتلوا سكانها.
- إحراق المسجد الأقصى عام 1969م.
- مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982م (3500 قتيل)*.
- مذبحة المسجد الأقصى عام 1990م 150 قتيلاً من المصلين في ساحة الحرم القدسي الشريف* .
- مذبحة المسجد الإبراهيمي في الخليل عام 1994م عندما اقدم مستوطن يهودي تحت تغطية من الجيش الإسرائيلي على فتح النيران على الساجدين الصائمين فقتل 29 مسلما في شهر رمضان المعظم* .
- قتل 70 فلسطينيا عام 1996م بعد أن فتح الجنود الإسرائيليون النيران لقمع الغضب الجماهيري الذي اندلع بعد افتتاح نفق تحت المسجد الأقصى*.
- قتل الرجال والنساء والأطفال وغيرهم في الانتفاضة ومنهم الطفل المبارك محمد الدرة والرضيعة إيمان الحجو الذين لا ينسيان.
(3)- مذابح المسلمين في لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية ومنها مذبحة قانا* عام 1996م (قتل فيها 160 من النساء والشيوخ والأطفال).
(4)- المذبحة في بنغلادش عام 1971 بعد انتصار الجيش الهندي الذي كان يقوده يهود على باكستان حيث قتل 000و10 عالم مسلم ومائة ألف من طلبة المعاهد الإسلامية وموظفي الدولة وقتل ربع مليون هندي مسلم هاجروا من الهندإلى باكستان قبل الحرب بعد تعذيبهم.
(5) - مذابح أهل البوسنة في يوغسلافيا السابقة حيث أباد الشيوعيون فيها بعد الحرب العالمية الثانية مليون مسلم* منهم 12 ألفاً قتلوا في المسجد الكبير بفوجا في شرق البوسنة وذبح 6 آلاف مسلم في جسر فورا .*
(6)- مأساة المسلمين في الصين الشيوعية .حورب الإسلام في الصين الشيوعية منذ عام 1954 وشمل ذلك تعطيل المساجد وقتل وسجن العلماء وتقسيم تركستان الشرقية وتهجير المسلمين وقتل 000و360 مسلم في مدينة كاشغر عام 1377 في معركة مع الشيوعيين *.(43/94)
(7) - مذابح المسلمين ومآسيهم في منطقة الحبشة حيث وضع الطاغية هيلاسيلاسي خطة لإنهاء المسلمين خلال 15 عاما* وتباهى بخطته أمام الكونجرس الأمريكي,وقام بإحراق الشيوخ والنساء والأطفال بالنار والبنزين في قرية جرسم,وأمر بالتعقيم الإجباري للمسلمين رجالا ونساء .
وقام بعده السفاح منجستو بمذبحة كبيرة حيث أمر بإطلاق النار على المسجد الكبير بمدينة ريرادار بإقليم أوجاوين فقتل أكثر من ألف مسلم كانوا يؤدون الصلاة في رمضان عام 1399ه ،كما تم تشريد المسلمين وحربهم في دينهم .*
(8)- مذابح المسلمين في الفلبين على يد حكومة ماركوس حيث ارتكبت أفظع الجرائم من قتل جماعي وإحراق الأحياء وانتهاك الأعراض والحرمات وفقءٍ لأعين الرجال وبقر لبطون الأطفال وذبح بالخناجر وفصل للرؤوس عن الأجساد, وقد نشرت صور لبعض هذه المذابح في جريدة المسلمون 26 شوال 1408 ه.
وما بين عامي 1392- 1404 ه قتل اكثر من 30000 مسلم من النساء والأطفال وكبار السن, وفر اكثر من 300000 مسلم وتم احراق300 ألف منزل وتدمير مائة قرية ومدينه اسلاميه وأكثر من 500 مسجد.*
(9) - مذابح المسلمين في الهند منها مذبحة احمد أباد عام 1970 م التي ذهب ضحيتها 15 ألف مسلم باعتراف انديرا غاندي نفسها وارتكب فيها الهنادكة(عباد البقر) افظع العمليات غير الإنسانية منها إحراقهم 300 إمرأة مسلمة بالنار وهن أحياء .
أيضا مذبحة آسام الشهيرة التي ذهب ضحيتها 50 ألف مسلم علي أيدي الهنادكة من أعضاء الحكومة المركزية.أيضا مجزرة ميروت ومليانه عام 1987 م* .
(10) - مأساة المسلمين في فطاني في تايلاند حيث قامت الحكومة البوذية بحرب الإسلام واغلاق الكتاتيب وإفساد عقائد المسلمين وقامت بتصفية الدعاة والعلماء, وتم حرق 100 شاب مسلم بالبنزين:صرح رئيس البوليس في جنوب تايلاند أن حياة المسلم لا تساوي 26 سنتاً فقط أي قيمة الرصاصة . كما اغتصبت أراضى المسلمين الخصبة وأحرقت قراهم* .
(11)- مذابح المسلمين ومآسيهم في كشمير,حيث قتل أكثر من 44000 مسلم وجرح أكثر من 67000 ,واعتقل أكثر من 000و40 مسلم, وبلغ عدد المنازل والمتاجر والمساجد والمدارس المهدمة 129000 منزل ومسجد, بالإضافة إلى آلاف النساء المغتصبات .*
(12) - مذابح الأفغان على يد الروس قبل خروجهم.
(13) - مأساة المسلمين في بورما, وشمل ذلك قتل المسلمين وتشريدهم وإحراق المساجد وتعذيب المسلمين . ولجأ ما يزيد على نصف مليون مسلم بورمي إلى بنغلادش*,وكثير آخرون لجئوا إلى أقطار أخرى متفرقة في العالم الإسلامي *.
(14)- مذابح المسلمين في ليبيريا في أواخر الثمانينات الميلادية حيث أحرق الوثنيون!!
105 مساجد وقتلوا الأئمة وقطعوا السنة المؤذنين, وقتلوا اكثر من 2000 مسلم مع التمثيل بجثثهم بعد فصل الجمجمة عنها, وأحرقوا عشرين قرية بأكملها واغتصبوا المسلمات وقتلوا الحوامل ولجأ اكثر من 167 ألف مسلم إلى غينيا وساحل العاج* .
(15)- مذابح المسلمين في سيريلانكا على يد المتطرفين التاميل, وهي مذابح عديدة ومتكررة, ذبحوا فيها المئات والآلاف من المسلمين واغتصبوا النساء وذبحوا الأئمة وقتلوا 168 من الحجاج الذين كانوا في طريق عودتهم إلى منازلهم.واشتهرت مذابحهم بحصول العديد منها على المصلين في المساجد . وخلفت هذه المجازر الآلاف من اللاجئين والآلاف من المقعدين والأيتام *.
(16) - مآسي المسلمين الأكراد أحفاد صلاح الدين الأيوبي بطل حطين مستعيد القدس, وما كانوا ولا زالوا يلاقونه من اضطهاد وبطش وتشريد ومعاناة ضخمة*.
(17) - هدم المسجد البابري التاريخي الشهير في الهند عام 1992م*والذي يعتبر هدمه إهانة وتحدي للأمة الإسلامية .
(18)- مأساة البوسنة والهرسك الأخيرة شهدها العالم الإسلامي بالصوت والصورة. حيث قتل عشرات الألوف قتلا وذبحا (قتلوا ذبحا ابنين لعجوز بوسنوي أمام عينيه) ، وتم اغتصاب عشرات الآلاف من النساء بما فيهن صغيرات السن(أقيمت معسكرات للاغتصاب الجماعي وأصبح آلاف المسلمات سبايا للجنود الصرب وأحيانا يقدمن للترفيه عن جنود القوات الدولية!!), وذبح الأطفال ويتموا ، وشرد الشعب البوسنوي، وتم حرق وهدم المساجد , وحرق 1000 طفل في أحد الجوامع في سراييفو* . بلغ عدد اللاجئين أكثر من مليونين ونصف*.
وفيها حدثت المذبحة الرهيبة التي حدثت للمدنيين عند سقوط مدينة سريبرينيتسا في 11 يوليو/1995م عندما دخلها الصرب مع أنها كانت وقتها منطقة آمنة تحت حماية الأمم المتحدة!!! فشرد أهل هذه المدينة بأجمعهم بعد المجزرة الرهيبة التي حصلت لهم حيث والتي نتج عنها آلاف القتلى( وصل القتلى إلى 20 ألف حسب بعض الإحصائيات*) وخرج أهل المدينة بما فيهم الأطفال والعجزة والنساء وهم في فزع عظيم يهيمون في الشعاب والغابات باتجاه مدينة توزلا*؛ ورأينا !!!!!!!!!!!!نحن المسلمين بأم أعيننا التي ستشهد علينا يوم القيامة الهول العظيم الذي حصل للمسلمين فيها ورأينا الفزع والبكاء المرير من الأطفال والنساء الذي يبكي الحجر وينطبق فعلا عليها قول الشاعر
لمثل هذا يموت القلب من كمد-----إن كان في القلب إسلام وإيمان.(43/95)
(19) - مأساة المسلمين الأذربيجانيين على أيدي الأرمينيين.
(20) - مأساة كوسوفا شهدها العالم الإسلامي أيضا بوضوح حيث ذبح الآلاف وشرد مئات الألوف وتم ذبح أطفال أمام أعين آبائهم ودمرت قرى بأكملها بالحرق أو بغيره واغتصبت فيها المسلمات* .في هذه المأساة فر 700,000 مسلم من الصرب إلى مجاهل الغابات حيث هلك الكثير منهم جوعاً ومرضاً وبرداً * .
(21)- مأساة الشيشان شهدها العالم الإسلامي أيضا بوضوح, قتل لعشرات الآلاف, تشريد لمئات الألوف تدمير مدن وقرى بأكملها براجمات الصواريخ , حرق المنازل ,أنهار من الدماء, تقطيع وصلب الأحياء , ضرب الطوابير المهاجرة بالطائرات والرشاشات المدفعية ,قتل للأطفال والنساء والمسنين ,اغتصاب النساء , ذبح وحرق أطفال داخل روضة .
قصف حافلة مليئة بالأطفال والنساء بصواريخ من طائرات مروحية , عدا التعذيب الرهيب ( قطع قدمي أسير وهو حي ,وقطع يدي أسير آخر وهو حي) , ارتكاب الفاحشة بالأسرى نساءً ورجالاً ( اغتصبت فتاة عمرها 13 سنة حتى ماتت ). قصف سوق يعج بالمدنيين ,4000 شيشاني قتلوا في قرية في يوم واحد, واستخدم الروس أسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا .
وسمع المسلمون قصة الفتاة المسلمة التي اغتصبها المجرم الكولونيل الروسي يوري بودالوف ثم قتلها عن طريق دهسها بآلية مدرعة ,وقد هدد المجاهدون الأبطال وقتها الروس بأنهم سيقتلون مجموعة كبيرة من الأسرى إن لم يسلم هذا الوغد لهم.*
(22)- مذابح المسلمين في أندونيسيا على يد النصارى من الجروح الأخيرة الجديدة التي يقتل فيها المسلمون حتى في بلادهم, حيث ذبح في جزر الملوك آلاف من المسلمين ذبحا وحرقا, وقتل مائتان من الطلبة المسلمين في مدرستهم, وقتل 1200 مسلم في مسجد بعد لجوئهم إليه حيث ذبح بعضهم ثم حرق المسجد على البقية وهم أحياء *.
وتم تقطيع رؤوس بعض المسلمين تم وضعها في حاويات ورقية للسخرية ,وتم التمثيل بجثث المسلمين وبقر بطونهم *.
تساءل الليل والأفلاك ما فعلت --- جحافل الحق لما جاءها الخبر؟
تساءل الليل والأفلاك ما فعلت--- جحافل الحق لما جاءها الخبر؟
هل جهزت في حياض النيل ألوية ؟---- هل في العراق ونجد جلجل الغير ؟
هل قام مليون مهدي لنصرتها ؟---- هل صامت الناس هل أودى بها الضجر؟
هل أجهشت في بيوت الله عاكفة---- كل القبائل والأحياء والأسر؟
هل أجهشت في بيوت الله عاكفة---- كل القبائل والأحياء والأسر؟
يا أمة الحق إن الجرح متسع---- فهل ترى من نزيف الجرح نعتبر؟
ماذا سوى عودة لله صادقة---- عسى تغير هذي الحال والصور
ماذا سوى عودة لله صادقة---- عسى تغير هذي الحال والصور
ماذا سوى عودة لله صادقة---- عسى تغير هذي الحال والصور
ماذا سوى عودة لله صادقة---- عسى تغير هذي الحال والصور*
* من القصيدة الشهيرة المبكية ( دم المصلين في المحراب ينهمر---والمستغيثون لا رجع ولا أثر ) للدكتورأحمد عثمان التويجري .
- صورة لكل مسلم يخاف من السؤال امام الله عن واجبه الكبير لإنقاذ أمته بتحقيقه العودة الصادقة الى الله والعمل بجد لها في نفسه ومجتمعه(عودة و دعوة).
- صورة لكل مسؤول في امتنا قصر في تحقيق هذا الواجب العظيم.
- صورة لكل من يؤذي الدعاة ويلمزهم مع أنهم يسعون لإنقاذه وإنقاذ أمتهم من أخطار تحيط به وبهم.
- صورة الى من ضيعوا الأمة بالمعاصي في وقت هي أحوج ما تكون فيه الى العودة والصحوة والإلتزام بأوامر الله التي هي الطريق الأساس لإستعادة عزتنا المفقودة ومحو ذلنا المشين, (وكيف سيجيبون الجبار عن دماء الأمة المهدرة يوم العرض عليه).
- صورة لعلمائنا الأجلاء تذكيرا لهم بمسؤوليتهم العظيمة العظيمة العظيمة في إ يقاظ الأمة بصيحات قوية فاعلة مؤثرة لا بكلمات بسيطة غير مسموعة غير مسموعة غير مدركةٌ غير مدركة,ٌ تضيع وسط ركام وسائل الإفساد التي خدرت أمتنا. فهم من أول المسؤولين.
( أيها الغيورون والغيورات أيها الغيورون والغيورات لنتعاون بجد لإيصال هذا الموضوع (أو رسالته على الأقل) فأكثر المسلمين فيهم الخير فيهم الخير فيهم الخير , ولكنها الغفلة عن إدراك الواجب ومعرفة المسؤولية )
د. مهدي قاضي
==============(43/96)
(43/97)
العالم العربي أمام مرحلة جديدة !
محمد أبو رمان / عمان 17/10/1426
19/11/2005
يواجه النظام الرسمي العربي - بشقيه الإقليمي والقطري- أسئلة مصيرية حول مدى قدرة بنيته وسماته العامة على الصمود مستقبلا أمام عوامل التغيير. أحد أبرز هذه الأسئلة هو سؤال الشرعية، ولا يقصد بالطبع الشرعية السياسية - وهي محل نظر أساسا- بل شرعية بقاء النظام العربي واستمراره مع سقوط قاعدة التحالفات التي رفعته خلال فترة الحرب الباردة وصاغت سماته العامة، وذبول مبرراته وشعاراته السياسية والأيدلوجية التي خبّأ وراءها أمراضه من فساد وطغيان ومصادرة الديمقراطية وحقوق الإنسان..الخ.
إرهاصات سقوط النظام العربي بدأت منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشيوعية وزوال أحد قطبي النظام العالمي الذي كان يدعم ويساند استراتيجيا ما سمي بـ"الدول العربية التقدمية" حينذاك، وقد تمكنت كثير من الدول العربية من سلوك مسار المراوغة والتحايل على استحقاق المتغيرات الجديدة. وعلى الرغم من حرب العراق 1991 إلا أن الإدارة الأميركية لم تكن قد وصلت بعد إلى انتهاء صلاحية النظام العربي وضرورة التغيير، وبقيت الولايات المتحدة مترددة في عقد التسعينات إلى أن وقعت 11 سبتمبر والتي أكدت للخبراء والسياسيين الأميركيين أهمية تغيير الحالة العربية بأسرها بما في ذلك الدول الحليفة أو التي تسمى بـ "المحافظة".
يؤكد النتيجة السابقة عدد من الخبراء والسياسيين ووثائق أميركية. فمارتن إنديك - على سبيل المثال- يرى أنّ الخطأ الرئيس للولايات المتحدة - في مرحلة ما قبل 11 سبتمبر- أنها دعمت نظما عربية "أتوقراطية" على حساب قيم الديمقراطية والمثل الأميركية ظنا منها أن ذلك كفيل بحفظ مصالحها في المنطقة، لتتبين من خلال 11 سبتمبر أن هذا الدعم كان أحد الأسباب في تصدير أزمة تلك النظم إلى العالم من خلال منظمات القاعدة والجماعات الجهادية المسلحة.
وفي الوقت الذي حصل فيه إجماع داخل مراكز السياسة والفكر الأميركي بضرورة التغيير البنيوي في العالم العربي. إلا أن هناك اختلافا كبيرا حول دور الولايات المتحدة في التغيير والطريق المؤدي إليه. إذ يقول شبلي تلحمي أن الديمقراطية أمر جيد بحد ذاته لكن الطريق إلى الديمقراطية يمر بمرحلة عدم استقرار. وبينما يرى تلحمي سلوك طريق الإصلاح المتدرج بعيد المدى، فهناك من لا يمانعون بحدوث انهيار أو سقوط قريب للنظام العربي الحالي حتى لو كانت النتيجة هي الفوضى فإنها ستفرز مخرجات إيجابية في المحصلة.
لقد استمد النظام العربي جزءا كبيرا من شرعيته "الواقعية" من خلال تحالفاته الخارجية والداخلية في ضوء غياب شرعية الديمقراطية وصناديق الاقتراع. لكن تحالفاته الخارجية لا تسقط وحدها اليوم لتهز أسس شرعيته، فهناك تهافت في أسس شرعيته الداخلية من عدة نواح رئيسة؛ الأولى صعود ثورة الاتصال "الانفوميديا" التي حددت قدرات النظام العربي في السيطرة على الإعلام والمعلومات والتحكم في الرأي العام، فبرزت أدوات ونوافذ أهم وأخطر من الوسائل التقليدية تمكِّن النشطاء والمعارضين السياسيين من التعبير عن رؤاهم وأفكارهم ومواجهة السلطات الحاكمة. هذا التطور آذن بانهيار مفهوم السيادة التقليدية (الذي تكرس مع ظهور مفهوم الدولة القومية في معاهدة وستفاليا 1648) وقد ناقشه ولتر ب. رستون في كتابه المعروف "أفول السيادة".
كما ألقت "ثورة الأنفوميديا" بظلالها على المزاج الشعبي العربي وقدرته على التحمل وقبول الدعاية الرسمية للنظام العربي التي لم تعد تحظى بأي مصداقية حتى لدى جيل المدارس الصغير. فالكل أصبح يتلقى الرسائل الإعلامية من مختلف أنحاء العالم، ووفرت شبكة الانترنت ومنتدياتها ومعلوماتها مجالا فسيحا لحركة وتفكير الأفراد والجماعات خاصة الكتلة المتحركة والفاعلة وهي كتلة الشباب الغالبة على تكوين هذه المجتمعات. وقد ترافق ذلك كله مع نمو مؤسسات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص التي بدأت تنجح في الاستيلاء على الحيز العام في المجتمعات العربية شيئا فشيئا.
ولم يقتصر الأمر على الانهيارات السياسية فقد حدثت انهيارات فكرية وأيدلوجية أخطر؛ فشعارات القومية .. أو ادعاءات التنمية الوطنية والعدالة الاجتماعية لم تعد ذات قيمة أمام المؤشرات الواقعية ، وتدهور الأحوال الاقتصادية ، وفشل المشاريع التنموية ..
ويكفي أن تصدر "شهادة الإدانة" للحالة السياسية العربية من خلال تقرير التنمية الإنسانية العربي الأخير حول أوضاع الحرية وحقوق الإنسان في العالم العربي، وهو بمثابة دعوة إلى التغيير والإصلاح السياسي والانعتاق من الحالة السياسية الراهنة.(43/98)
أبرز علامات النزق الأخير في النظام العربي الراهن تمثلت بسقوط النظام العراقي بالطريقة المعروفة ، هذا السقوط كانت له دلالاته الواضحة والعميقة لدى الجماهير العربية، التي طالما نظرت إلى هذه النظم وكأنها نظم حديدية متينة ، وإذا بها نظم هزيلة على وشك الرحيل عند أول رياح عاتية. كما مثلت ثورة الأرز في لبنان ثم تقرير ميليس ، وما صاحبه من حملة ضغوط دولية مكثفة بقيادة واشنطن ضد النظام السوري علامة أخرى على الحالة السياسية العربية.
من ناحية أخرى يعبر صعود حركات المعارضة العربية وارتفاع الأصوات المطالبة بالتغيير إشارة أخرى على تدهور النظام العربي. ولعل الحالة المصرية هي الشاهد الأكبر على ذلك. في حين تبدو الجماعات المسلحة الإسلامية والقاعدة التعبير المباشر والأوضح على عجز النظام الرسمي العربي عن مواجهة التحديات، وعن القدرة على السيطرة على معادلاته الداخلية والديناميكيات الاجتماعية- الأمنية.
على العموم، فإن احتضار النظام العربي بادٍ للعيان، إذ تعيش المجتمعات والدول العربية اليوم مرحلة انتقالية، إلاّ أن معالم المرحلة القادمة لا تزال ضبابية وغير واضحة، متعددة الاحتمالات: فإما أن نتجه على الصعيد القطري الداخلي إلى مزيد من التأزم والتفتيت "نموذج الدويلات الطائفية والقبلية" أو إلى الإصلاح والتغيير السياسي "النموذج الديمقراطي". أما على الصعيد الخارجي- الإقليمي فيرجح برهان غليون أن تعيد الدول العربية إنتاج تحالفاتها الخارجية من خلال الاندماج والمشاركة في "الحرب على "الإرهاب" أو الانهيار في ظل الفشل عن مواجهة الاستحقاقات المحلية والخارجية .
لكن هذا لا يعفي هذه النظم من وصول رياح التغيير إليها، التي ربما لن تطال النخب الحاكمة فيها ، لكنها بالتأكيد ستضرب في العمق سمات النظام العربي الحالية إقليميا وداخليا.
==========(43/99)
(43/100)
العراق آمالُ .... الطريقٍ إلى القدس!!
د. سعود بن حسن مختار الهاشمي
الحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا الدين القويم ، وصلى الله علي سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد الذي بعثه الله بهذا النور ، ففتح به وبأصحابه رضوان الله عليهم ؛ الاصقاع والبلاد ، وانتشر نور الله على وجه الأرض فأحالها واحاتٍ وجناتٍ ؛ يرتع فيها وينشدها كل عاقل في هذه المعمورة ؛ فصلوات ربّه وسلامه عليه وعلى أصحابه وآل بيته الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فهذه بعض كلمات ومواقف اسجلها إبان زيارتين زرتها للعراق في الفترة الأخيرة ، وامتدت هاتين الزيارتين من الأيام الأخيرة في الحرب إلى شهر ربيع الثاني ، واجتهدت في أثناء زيارتي الذهاب إلى كل مكان يمكنني الذهاب إليه ، من الشوارع والطرق والاسواق والمنتديات العامة والأندية والمراكز الثقافية والمشائخ والعلماء وطلاب العلم والمثقفين وأساتذة الجامعة والمراكز الإعلامية والمنتديات التي تهتم بالمرأة ، كما أني لم اقتصر في زيارتي فقط على نخب فكرية دون الأخرى ، بل إجتهدت أن أجلس مع الجميع حتى أني تجرأت وجلست مع بعض الشيوعيين والذين يطنطنون كثيراً ولا قيمة لهم كبيرة في أرض الواقع ، اللهم إلا إذا اعتبرنا حزب جلال طالباني منهم وعندها يكون هو أقوى الاحزاب الشيوعية إذا نسبناه إلى الشيوعية ؛ وسيأتي تفصيل ذلك فيما سيأتي إن شاء الله . وأجتهدت ان ادخل البيوتات العراقية وآكل من طعامهم وأجلس مع ابنائهم حتى اعرف كيف يفكر هذا الإنسان العراقي ؟! ، وهذا اشبه مايكون بالمسح الميداني أو المسح ( الديموغرافي ) المبسط ؛ ومع ذلك فإني اعترف أنه لا يمكن لي ولا لغيري في فترات لاتتجاوز الأسابيع أن يعرف نفسية وعقلية وتركيبة هذا المجتمع العراقي العريق في تأريخه المعقد في تركيبته . وكل ماذكر قابل للأخذ والعطاء ولعلها تكون ورقة عمل يضاف إليها أوراق أخرى ينتفع بها إن شاء الله .
أولاً : نفسية الإنسان العراقي
لاشك أن العراق بلد تجتمع فيه حضارات العالم كله فهو يكاد يكون الأول في هذا الباب في العالم كله خاصةً إذا استثنينا مصر ؛ من ناحية عمق حضارته الإنسانية مابين حضارة آشورية وكلدانية وبابلية وكل هذه الحضارات جاء الإسلام فانتظمها وجعلها في عقدٍ جميل أشرق ضياءه وبث نوره على العالم كله .(43/101)
والعراقي تتنازعه نفسيات عدة ؛ فأولها : أن العمق الحضاري المذكور ارتبط واختلط في جيناته ؛ ففيه مزيج من العزة والثقة بهذه الهوية ، وتتأكد هذه الهوية عندما يتقلب ذات اليمين فيرى دجلة شاهدة على تأريخه الثقافي الكبير ، ويتقلب ذات اليسار فينظر الفرات يسجل تاريخ السالفين الغابرين من ابطال الأمم عامة ومن ابطال هذه الأمة خاصة ، إن الماشي في بغداد يرى قبر معروف الكرخي ، فتذكره بالزهدِ والمحافل الإيمانية ودموع الليل الطويل الذي امضاه هؤلاء الزهاد ، وإذا مشى قليلاً تذكر مقبرة حرب وأبناء هذه القبيلة البارة الذين ملئوا بغداد وماحولها علماً وعلى رأسهم الإمام : إبراهيم الحربي رحمه الله . وإذا نظر في الأعظمية نظر إمامها الأوحد الإمام ابا حنيفة ، وكذلك إذا قلب النظر رأى امام السنة احمد بن حنبل ووجد كثيراً من هؤلاء وأمثالهم من العلماء ، وفي بغداد اجتمع سفيان والحمّادان وابن المبارك ، وخرج الرشيد غازياً مرة وحاجاً مرة أخرى ، هذا التاريخ العريق يمزج هوية العراقي بعزة وانطلاقة لاتكاد تجدها في غيره إلا قليلاً ، يضاف إلى هذا كله ذكاء فطري طبيعي متميز عند معاشر العراقيين ابناء الرافدين ، وهذا الذكاء تفجّر حتى عُرف في أوروبا وكندا وامريكا واستراليا وغيرها ، فهم معروفون بذكائهم الفطري الذي فاقوا به غيرهم . هذا هو الجزء المُشرق من نفسية الإنسان العراقي ؛ ومع ذلك فالعراقيون على مدار تاريخهم كانوا محطة تمر بهم الثقافات والدول ، فمرةً تغزوهم فارس ، ومرة يضطهدهم ملوك الخطا والتتر ؛ ومرة يحاربون بني إسرائيل ، وثالثة أخرى تؤثر فيهم الدولة الصفوية ، ولا تحسن توظيفهم الدولة الإسلامية في الخلافة العثمانية ، ثم تكون فتنة هاهنا وها هناك خاصة في جنوب العراق في منطقة الكوفة ؛ والتي هي المقصودة بكلامِ السلف الاول عن العراق ، وكلام الحجاج والذي ضرّه قبل أن يضرّ أهل العراق فهذه هي مدينة الكوفة ؛ والتي انتهت كمدينة ، وبقيت كبدعٍ ترفع عقيرتها هنا وهناك وتبقى ظلالها السوداء تدنس جمال العراق وبهاءه ، وتفسد بإفسادها بيئة العراق خاصة الجنوب منه ، على كل حال العراق عبارة عن مجموعة من التاريخ المتلاطم فقد مر به كثير من الفتن وانتهى بهذا الكبت الذي جثم على صدر العراق لمدة نصف قرن تقريباً منذ بداية الثورات المتتالية من ايام عبدالكريم قاسم وما بعده ؛ والذي يستحضر خروج هذه الثورات وثقافة السحل والقتل والسحق الذي تبنته يعرف انها لن تنتج إلا إنسانا مكبوتاً جريحاً ثائراً على هذا الواقع ، فالإنسان العراقي خرج من هذا الكبت الآن وهو يحمل مشاعر العزة بتاريخه القديم ، الممزوجة بكبتٍ وقهر من تاريخه المعاصر ، ولا إخالك أخي القاريء تتخيل هذا الصراع النفسي العجيب الذي لن يفرغه هذا العراقي إلا في هؤلاء العلوج الذين جاؤا بشبابهم الغرّ من مراهقي " الكيجون فوود"(1) و " الهارد روك "(2) ، وهم لا يعرفون ما العراق وما ثروته وما تأريخه وما حضارته ؟! . هذه نظرة سريعة في نفسية العراقي ؛ أريد أن اخرج منها بخلاصة فأقول : إن العراقي سيثور ثورة عارمة على هؤلاء المحتلين وأذيالهم ولكن هذه الثورة لن تؤتي أكلها إلا إذا اشتد عودها واستوى ساقها وأعجب الزراع نباتها ؛ عندها ستكون ثورة حقٍ على كل باطل ، وستكون بركاناً تفجر كل خوفٍ في أمتنا الإسلامية التي تتردد اليوم وتخاف من التقدم لمواجهة البغي والظلم ، وستكون بإذن الله أرضُ العراق هي المحطة الأولى في انطلاقتنا إلى قدسنا الحبيب الغالي .
ثانياً : الوضع الإجتماعي والصحي والديموغرافي في العراق :(43/102)
كان عام 1970 معلماً بارزاً في مسيرة التنمية العراقية فمع كل سيئات النظام البعثي إلا إنه والحق يقال ؛ أنه استطاع أن يخرج بالبترول والطاقة في العراق من تحت ربقة الإستعمار الغربي وإن كان ذلك كلفه أن يقدم تنازلات معروفة إلى المعسكر الشرقي ، إلا أن استقلال الطاقة العراقية أدى إلى نوع من التنمية لايمكن نكرانه البتة للمتأمل في مسيرة التنمية العراقية . ومقارنة بدول الخليج التي كانت تركز في تنميتها على الجانب العمراني البحت من حيث ترف المباني العمرانية والمنشئات والشوارع والطرق ، كان العراق يركز علىهذه الجوانب بشكل آخر وإن كان أقل ؛ إلا أنه ركز في جوانب تميّز بها بين جميع الدول العربية ، فلاتكاد تخلو جامعة من جامعات الموصل أو بغداد او غيرها من قسم متطور جداً في الكيمياء الحيوية أو علم الجينات أو التقنية الحيوية أو التخصصات الطبية الدقيقة ، وقد كانت اقسام الجامعة تحتوي على تقنيات لا تكاد تجدها في أي مكان آخر في المنطقة العربية ولا في المنطقة الآسيوية أو الإفريقية عموماً ، بل إنه كما صرّح عددٌ من أساتذة الجامعات ، كانت هذه التقنيات ربما لا تتوفر في بعض دول أوروبا ؛ والسبب أنهم كانوا يجمعون هذ التقنيات من عددٍ متعددٍ من مراكز البحث والتقنية في العالم ، وامتاز العراق انه كان يتعاون مع فرنسا بالإضافة إلى ألمانيا والمعسكر الشرقي ، وربما تعاون بطرق مختلفة مع المراكز العلمية الأمريكية خاصة قبل أن يتأزم الوضع في عام 1990م مع الولايات المتحدة (3)؛ نتج عن ذلك تطور البحث العلمي وانتشارٌ للطاقات العقلية العراقية في نواحي البحث والتقنية ، وللأسف الشديد فإننا نعرف نحن معاشر الأطباء والباحثين أن الغرب يحتوي على كثير من هذه العقول العراقية التي آتت ثمارا كثيرة للبلدان التي هاجرت إليها ، إذا أخذنا هذا في الحسبان لايمكن لمتأمل أن ينكر هذا النمو في التنمية ، خاصة أن التحدي الذي كان يعيشه صدام وحكومته أمام المد الفارسي كان يحتم عليه التطور التقني والعلمي في مجالاتٍ شتى ، وبصرف النظر عن هذا كله فإن الإقتصاد العراقي يمكن قياسه بالقدرة الشرائية للدينار ؛ حيث كان الدينار قبل عام 1991م يعادل 3 دولارات تقريباً ، وكانت القوة الشرائية له متميزة وكانت السلع متوفرة بشكل جيد ، والحق يقال إن أكبر كارثة في تأريخ العراق في القرن الماضي وبداية هذا القرن هو الحصار الإقتصادي الذي أصاب العراق على مدى اثنتي عشرة سنة ؛ وهذه النقطة وهي قضية الحصار وأثره هي نقطة اجماع بين جميع الباحثين في القضية العراقية ؛ بأن الحصار دمّر أكثر مما دمرته الحرب الإيرانية وحرب الخليج الثانية ومادمرته الحرب الأخيرة إذا نظرنا إلى كلٍ منها بشكل منفرد ، بل إن عدداً من الباحثين يرون أن الحصار أثّر في مسيرة التنمية على المدى البعيد أكثر مما دمرته جميع هذه الحروب مجتمعة ، وفيما يلي بعض المقاييس والمعايير التي تأثرت بالحصار والحروب عموماً .
من المتناقضات العجيبة أن العراق بلد الرافدين تعاني من نقصٍ شديدٍ في المياة الصحية ، فعلى سبيل المثال : فلا يتوفر الماء إلا لـ 85 % من سكان العراق والذي يحتوي على نهرين من أكبر الأنهار في العالم ؛ أما الماء الصالح للشرب فلا يزيد على 79 % و يتوفر بشكل أكبر في المدن حيث تكون نسبة المياه الصالحة للشرب 93 % ( بالطبع من المياه المتوفرة والتي هي 85 % فقط ! ) ، أما في مناطق الأرياف فلايزيد عن 31 % للماء الذي يصلح للشرب .
أما مايخص الكهرباء في الجانب الآخر فنجد أن الكهرباء تنقطع بين الفينة والأخرى وهذا يؤثرعلى المعامل والمدارس والجامعات ومراكز الأبحاث والمستشفيات ومخازن الأدوية ؛ وهذه القضية كانت تتأزم في أوقات الحروب وتقل فيما دون ذلك ، وتزداد الحاجة إليها ايضا في المناطق الريفية .(43/103)
من المؤشرات الخطيرة لأي تنمية مايسمى ( معدّل وفيات الأطفال ) فهذا الشعب الذي يبلغ تعداده 23 مليوناً ؛ نجد أنه شعب ولود ؛ فقرابة أربعة ملايين من هذا الشعب هم دون الخامسة من العمر ، ومايقارب النصف منهم دون الثامنة عشر ، ومع ذلك فإن معدل وفيات الأطفال يتجاوز المائة ويصل أحياناً إلى مئة وخمسة لكل ألف حالة ولادة ، أما بالنسبة للوفيات لأطفال دون الخامسة من العمر فتبلغ 130حالة وفاة لكل الف ولادة ؛ هذا يعتبر مؤشر خطير على مستوى العالم كله فإنك لا تكاد تجد افقر الدول تصل إلى هذا المستوى، وتتبين خطورة هذا الموضوع إذا قارنّا هذا بما يحصل في اليابان حيث لا يتجاوز هذا المعدل 2 لكل ألف مولود ، وبما يحدث في السويد حيث لايتجاوز 3 لكل ألف حالة ولادة ، أما في الدول العربية فلايتجاوز 40% في غالب هذه الدول وكذلك الدول الآسيوية الإفريقية ، ويعاني كثير من الأطفال من غياب (Expanded p r og r am of immunization ) التطعيمات الأساسية بما يسمى ( النظام الموسع للتلقيح أو التطعيم ) والذي يحتوي على لقاح الدرن وشلل الأطفال والدفتيريا والتيتنوس والحصبة وغيرها؛ هذه كلها تعاني من نقص شديد بسبب الحصار الإقتصادي كما أن معدل الأطفال الذين يصابون بنقص التغذية يتجاوز الخُمس ، وحسب تقارير منظمات الصحة العالمية واليونيسيف وغيرها فإن كثيرا من هذه الأرقام كانت تزداد من عام 1991م وبلغت إلى حد كارثي حيث أصيب مليون طفل بحالات نقص غذائي مزمن ( ch r onic malnnut r ition ) ، وكما قدمنا أن هناك خمسة ملايين عراقي في عمر الزهور اقل من خمس سنوات فعندها يكون خُمس اطفال العراق مصابون بأمراض نقص الغذاء الحاد ولقد كان اكبر الأسباب لهذه الوفيات وهذه الأمراض هو الإسهال وأمراض الجهاز التنفسي حيث أنهما كانا سببا لوفاة 70% من الأطفال ، وهذان المرضان كلاهما قابلان للعلاج بأرخص الأثمان وأسهل الطرق في الدول الأخرى في العالم .
ولقد كانت حالات الإسهال لاتزيد عن أربع مرات في العام لكل طفل في العراق قبل عام 1990م وزاد هذا الرقم ليصل إلى 15 مرة في عام 96 ؛ وكذلك زادت حالات التيفود وهي حالات إسهال حادة او مزمنه من ( 2240 ) حالة في تلكمُ الاعوام إلى ( 27000) في عام 1996م وكانت هذه الأرقام ومازالت في إزدياد ، وسنبين أن هذا كله ازداد بعد الحرب الاخيرة والتي جاءت على أناس منهكين اجتماعياً وصحياً.
أدى غياب الخدمات المدنية العامة وتكاثر الأمراض إلى غياب التعليم وانتشار الأمية في سن أقل من 12 سنة إلى قرابة 31% من البنات ، و 18% من الأولاد ، أي أن مايعادل الربع من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة لايدخلون المدرسة ولايتعلمون القراءة والكتابة ، وأدى هذا تباعاً إلىذهاب هؤلاء الأطفال إلى العمل في سن مبكرة فحدث مايسميه الغربيون بإستغلال الأطفال في أعمال شاقة ؛ وهو مايسمى بـ"child Abuse " وهذا كله أدى إلى خروج جيل من الشباب في عام2003م ( وهو عام الحرب الحالية ) ؛ وهم : جاهلون ؛ وهم مقهورون ؛ وهم مستبدٌ بهم ؛ وهم يتألمون ؛ وهم منهكون ؛ هم بإختصار ربما يكون كثيرٌ منهم يائساً من حياة كريمة وهذا هو الجيل الذي سيواجه أمريكا وأذيالها وهو يحمل مشاعر الغيظ والحنق والحقد ، ومالم يتعامل هذا العَالَمُ الظالمُ الغاشمُ مع هذا الجيل بالشكل اللائق والسريع فسيكونون قنبلة موقوتة تنفجر أمام كل من يقف أمامهم(4) .
بإختصار شديد يمكن القول : أن الحصار أثّر على البنى التحتية من شبكات كهربائية وشبكات التصريف الصحي والمجاري ، وتنقية مياه الأمطار والإستفادة من مياه نهري دجلة والفرات ، وتنقية مياه المجاري ، وانتاج الطاقة الكهربائية من الأنهار والغاز الطبيعي والإستفادة من الطاقة الشمسية ؛ ومن الطاقات الزراعية الموجوة في العراق وفي الأراضي الزراعية الخصبة، وقّلل من إمكانية شبكات الري الزراعي ، وقلل أيضاً من صيانة الطرق التي تنقل فيها البضائع من مدينة لأخرى وينتقل فيها الفلاح ببضاعته ، وزهد الناس في العمل ؛ فقد كانت الحكومة تتعامل ببرنامج النفط مقابل الغذاء ، ثم النفط مقابل الغذاء والدواء ؛ فكانت الحكومة تموّل البيوت بالدقيق والسكر والشاي والأرز وعددٍ آخر قليل من الحاجيات الأساسية ؛ أدّى ذلك كله إلى بطالة مقننة و عامة في الشعب العراقي وأدى إلى وقوفٍ تامٍ للتنمية ووصلت نسبة البطالة إلى مايزيد عن 50 % ، ولقد دخلتُ بغداد وكنت أتوقع أن أرى مدينةً جميلةً لأنها تحتوي على كل مايمكن أن يتخيله الإنسان من طاقات بشرية وموارد طبيعية؛ إلا أنني شبهت دخولي إليها بدخولي إلى مدن الإتحاد السوفيتي إبان سقوطها عام 1992م ؛ كنت قد رأيت تلك المدن وقد وصلت إلى عملقة حضارية لايستهان بها إلا أن هذا العملاق توقف نموه فجأه !! ، والذين يحيطون به ممن كانوا متأخرين عنه لحقوا به وتجاوزوه ! وهذا يمكن أن يكون أقرب تشبيه للواقع في العراق ، بإختصار هذا البلد بلد منهك و مصابٌ بآلام نفسية واجتماعية وبيئية وصحية مختلفة فأين أنتم يا أمة أبي القاسم r ؟!(43/104)
دعوني أيها الأخوة أنقلكم إلى تقرير نشرته مجلة ( لوس انجلس تايم) في 16 مارس 2003م حيث تقول ( كارول بوجردت ): أن الإمريكيين يذكرون حربا خالية من الدماء في عام 1991 م لكنها في الحقيقة كانت حرباً خالية من الدماء الإمريكية !! لكنها مع ذلك قتلت 3000 عراقياً بشكل مباشر نتيجة للهجمات الصاروخية والقصف الذي طال المدن والقرى العراقية ، وتقول أيضاً ( إن كثيراً من الإمريكيين يظنون أن الحرب إذا بدأت إنهم سيكونون أكثر عرضة للعمليات الإرهابية ؛ لكنهم في الحقيقة مهما تعرضوا للإرهاب فلن يكونوا بمستوى الخطورة والمعاناة التي يعيشها العراقيون في بلادهم ، وتضيف هذه المرأة العادلة في طرحها هذا قائلة : ( إن سياسة الصعقة والصدمة " shock and owe " التي تبنتها وزارة الدفاع _ وهذا الكلام كان قبل الحرب بأيام _ إن هذه السياسة ألقت جانباً الإصابات التي يمكن أن تنتج عن هذه الهجمة العسكرية الشرسة ولم تلقِ بالاً لأي مدنيٍ في العراق ) وتذكر أيضا .. ( أن قرابة 110,000) إنسان عراقي قد ماتوا نتيجة الحرب في عام 1991 ونتيجة غياب الكهرباء وغياب البنى التحتية ) وهذا بالطبع رقمٌ متحفظ من هذه الكاتبة كما قد اشرت سابقا نقلا عن التقارير الصحية العالمية .
وذكرت الكاتبة أن قرابة مليون عراقي أصبحوا مشردين عن ديارهم ولم يجدوا العناية العالمية التي يستحقونها من جيرانهم ومن المنظمات الإنسانية المختلفة .
وبعد الكلام عن التاريخ دعونا نتحدث عن جغرافية وتوزيع الأمراض الآن في العراق ، العراق الآن يعاني من نقص شديد في الكهرباء لقد كان معدل الإستهلاك الكهربائي قبل الحرب الأخيرة 1000 واط لكل ساعة للفرد مقارنة بما يقارب 20,000 ( عشرين الف ) واط للإمريكي في الساعة !! وهذا بالطبع في حال إستمرار الكهرباء ، والكهرباء إلى قبل أربعة أيام من تأريخ كتابة هذا التقرير كانت تتقطع بشكل مستمر في أكثر الأحياء في بغداد فضلا عن غيرها من المدن الأصغر الأقل أهمية(5) (؛ أما مايخص الماء فيعتبر كارثة بمعنى الكلمة ، ولقد انتشرت حالة الكوليرا بكثرة ومما زاد الطين بلة أن بعض المغفلين قد جاؤا إلى بعض المختبرات والمعامل النووية وافرغوا بعض محتوياتها في الأنهار فأدى إلى كارثة بيئية في أنهار دجلة والفرات كما أشارت إلى ذلك عدة تقارير رسمية واعلامية .
يضاف إلى هذا التلوث البيئي الناتج عن هذه القاذورات ما دفن في العراق عام 91 وما يدفن الآن من بقايا قطع عسكرية استخدمت كقنابل ونتج عن ذلك تلوث لهذه المياه ؛ كل هذا نتج عنه فساد المياه ؛ إضافة الى استخدامات غير صحية لمصادر المياة مما يلوثها خاصة مع غياب الصرف الصحي وزيادة القمائم والنفايات وهذا يهدد بكارثة مرضية للأمراض التي تنتقل عن طريق المياه مثل ( الكوليرا ، والتيوفود ، والإيسينيا ، والإيشريشيا؛ وأمراض الدوزينتاريا ، وامراض الشقلا .. ) و غيرها من الامراض التي قد تشكل كوارث صحية كبيرة خاصة في الأطفال الصغار .
هناك حالات مرضية حادة بسبب الإصابات المباشرة في الحرب ، وغياب الدواء ؛ مثل ادوية المضادات الحيوية وغيرها .. وأدى إلى وجود أخماج وإلى بتر ووفيات بعشرات الألوف ..
وفي هذه الأيام يصاب يومياً قرابة ( 5 إلى 10) أطفال في مستشفيات بغداد المختلفة نتيجة للقنابل العنقودية الملقاه هنا وهناك ، والتي تاخذ صوراً وألواناً جميلة ؛ فيأتي الأطفال يعبثون فيها فتنفجر فيهم فحصلت لبعض الأطفال حالات بتر في عدة مشافي ، ايضاً هناك حالات حروق شديدة ( وقد صورت بعض الحالات بنفسي ) ؛ وقد توفي عدد من المرضى امام عيني عندما رفض الجنود الإمريكيين توفير الحماية لنا لنقلهم ، وعندما تخاذل كثير بل كل العالم الإسلامي تقريبا بإستثناء ماليزيا في نقل هؤلاء المرضى ، ولم تأتِ طائرات الإخلاء الطبي إلا بعد مرور ثلاثة اسابيع تقريباً ؛ وعندما أتت هذه الطائرات لنقل المرضى لم تستطع أن تنقل إلا أعداداً بسيطة ومازال هناك كثيرون يعانون من المشاكل في مستشفيات العراق.(6)
هناك امراض حادة مثل الربو نتيجة لتلوث الهواء والبيئة ، والإسهال كما قدمت وأمراض الأخماج في الأطفال الذين اصيبوا بنقص حاد في التغذية بشكل مزمن ، فأصيبوا الآن بأمراض حادة نتيجة هذه المشاكل كلها . هناك امراض مزمنة كالسكر والضغط والسرطان خاصة سرطان الغدة اللمفاوية وسرطان الدم ، ويموت عشرات من الأطفال شهريا بسبب غياب هذه الأدوية بسبب الحصار الجائر وبظروف الحرب الاخيرة (7). هناك ايضاً حالات نفسية كثيرة ؛ ولقد رأيت بعيني حالة انتحار لشاب عراقي أراد ان يقتل نفسه فبلع عدداً كبيراً من الحبوب فتركته وهو في حالة إغماء في العناية الفائقة ، ورأيت حالة أخرى لأخِ ضرب أخاه بسكين في فمه عندما ناقشه أراد أن يسكته وهذا يدل على الحالة المزرية التي وصلت إليها الحالة النفسية العراقية .(43/105)
هذا كله من الناحية المرضية البحتة ، وإلا فهناك مشاكل من نوع آخر فهناك غياب للبيئة الإدارية في المشافي وخلافات بين الإدارات الجديدة للمشافي والإدراة السابقة ؛ وهناك غياب للنظام وللتموين وغياب للأدوية ، وغياب حاد جداً للتبريد بسبب غياب الكهرباء وهذا يؤدي إلىفساد الادوية ، وقد فسدت كل التطعيمات الموجودة في العراق التي تقدر قيمتها بعشرات الملايين من الدولارات ، هذا غير فساد الأدوية الأخرى والتي تقدر ربما بعشرات الملايين من الدولارات أمام مسمع ومرأى من العالم ، ولقد شهدت نقاشات حادة مع الإمريكين من مسئولي الصحة في نهاية شهر نيسان إبريل الماضي ، وقمت انا شخصياً بمناقشة هذه القضايا مع الزبيدي المحافظ السابق والذي لم أجد منه إلا البسمات الصفراء ، ومع غيره من الإمريكين والذي لم أجد منهم أي تقدير لهذه القضية الإنسانية الخطرة .
إذا نظرنا للصحة بأنها الحالة المتكاملة اجتماعيا ونفسياً وروحياً ؛ فلا يمكن انكار غياب الأمن وانتشار الجريمة ؛ لا يمكن إنكار هذه القضية لأنها سبب من اسباب الصحة النفسية والعضوية ، وهذه ظاهرة بشكل يومي خاصة مع دخول بعض الحاقدين من المرتزقة من بعض دول الجوار والذين مازال الحقد المترف يعشعش في عقولهم ويخرب قلوبهم وإسلامهم ، فجاؤوا ينتقمون و يشعلون الحرائق ويثيرون البلابل والفتن ، هذا كله يهدد البنية الإجتماعية والصحية والإقتصادية للعراق الشقيق .
فخلاصة القول أن الوضع الإجتماعي والصحي والإقتصادي هو وضع مزر جداً ، فهنا لابد من وقوف مع ثلاث وقفات :
الوقفة الاولى : أن المنظمات الإنسانية الرسمية ؛ كمنظمة الصليب الأحمر والمنظمات الأخرى التابعة للأمم المتحدة ؛ لم يلمس لها أي دور ملموس في أثناء الحرب وقبل الحرب وبعد الحرب مباشرة ، وقد خرجت في نهاية شهر نيسان وعدت مرة أخرى ولم تأتي ولا حبة دواء واحدة لكثير من المستشفيات وإن قلت لكل المستشفيات لم أكن مخطئاً ؛ خاصة من الصليب الأحمر ، وهذه المنظمة تأريخها اسود في قضايا المسلمين ، ويمكن مراجعة الأدبيات التي كتبت في عام 1948 في فلسطين ( انظر ذكريات الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله مثلاً ) ، والأدبيات التي كتبت حول هذه المنظمة في إفريقيا وآسيا وتعاملها المتطرف مع المسلمين خاصة ، وعلى كل حال هم يجمعون عشرات الملايين من إمريكا وأوروبا من خلال موقعهم في الشبكة العنكبوتية ومع ذلك لا يقدّمون إلا الفتات في الازمات الإنسانية التي تتعلق بالمسلمين ، وهنا دعوة عاجلة إلى الأطباء والعاملين الصحيين والإجتماعيين المسلمين لإقامة منظمة مستقلة تستغني عن هذه المنظمات الظالمة لنفسها والظالمة لنا معاشر المسلمين . ( النقابة الصحيّة الإسلامية العالمية الخيرية .. مثلاً )
الوقفة الثانية : إن الإعلام شارك في قضية التعتيم على المشكلة الإغاثية فقد غطى جزءاً منها لكنها كانت تغطية ضعيفة كمّاً وكيفاً ؛ ولقد قابلت عدداً من القنوات العربية الكبرى وكنت عندما اتكلم بالتفصيل عن تخاذل العالم العربي والإسلامي في الإغاثة العاجلة في العراق وإيجاد طائرات الإخلاء الطبي وإيجاد الأدوية بسرعة والضغط على أمريكا وتخاذل منظمة الصليب الأحمر .. إلخ وجدت أن هذه القنوات الإعلامية توقفني وتوقف تعليقاتي في أثناء نشراتها الإخبارية أو في لقائاتها المختلفة ، ولقد كان يرى الذين حولي امام فندق فلسطين كيف يتقافز المخرج وهو يصيح لإيقاف المراسل الذي احدثه ؛ وكانت هذه ظاهرة واضحة حتى إن بعض القنوات الشهيرة حاول جميع مراسليها أن يقيموا لقاءً طويلاً معي حول هذا الموضوع لكن محاولاتهم جميعها بائت بالفشل ؛ ولم اتمكن إلا من التطرق إلى مواضيع صحية أخرى بعيدة عن هذه القضية الساخنة . وهذا مرة أخرى يؤكد غياب الإعلام الصادق المتجرد الذي تحكمه شريعة الغاب هو الآخر ويركع عند اشتداد الأزمة أمام مصالح وطلبات أعدائنا .
الوقفة الثالثة : كثير من الذين كنت أكلمهم عن التبرعات إلى العراق يقولون : إن هذه الدولة غنية ولا تحتاج إلى تبرعات ، بل بعضهم قال لي : إن هذه دروشة أن أجمع المال لبلد الرافدين وبلد " اغنى احتياطي بترول في العالم " إلا أنني كنت أرد عليهم قائلاً : إن العراق اشبه ببدوي يقبع في خيمة لا أثاث له فيها ولا عدة ولا عتاد ؛ ويجلس بخيمته فوق أكبر بئر للنفط في العالم ، وكل من يمرون حوله يستجديهم فيردون عليه أنت أغنى رجل في العالم لأنك تملك أكبر بئرٍ للنفط !! فمن يا سادتي الدرويش ؟!
ثالثاً : رسائل إلى التجار
ألمي يشتد كلما سافرت إلى دولٍ إسلامية يحتاجون إلى موارد مالية تحرك ركود اقتصادهم ، وتسخر الطاقات البشرية الوافرة والرخيصة لديهم ؛ وتجار المسلمين يرددون : ( نخاف من التقلبات الإقتصادية ) ..(43/106)
وارد عليهم سائلاً : ياترى كيف تأسست " جمهوريات الموز " ؟؟ ولن أجيب على السؤال ؛ ولن أذكر ما المقصود بجمهوريات الموز فهم يعرفونها جيداً ، ويعرفون أن الشركات الإمريكية والغربية واليابانية كيف تستثمر في هذه الدول الفقيرة وربما غير المستقرة ، وكيف حُولت بعض الدول إلى استقرار جيد في الجملة بسبب هذه التجارة ، وكثير من صناعات التقنية الإمريكية واليابانية استفادت من العنصر البشري في هذه الدول بل إنني أعرف يقيناً كثيراً من البضائع وخاصة الملابس والأدوات المنزلية تصنع في تايلاند والهند وأمثالهما ثم يكتب عليها" صنع في أمريكا " !! وهذه حقيقة بينة ، دعوني من الكلام عن الإقتصاد فلست من رجالاته؛ لكنني أقولها بصدق إن تجار المسلمين _ بإستثناء نماذج قليلة _ قصّروا كثيرا في تنمية أمتهم لأنهم وبصراحة لا يحملون همّ الدين ونصر الأمة بنفس مستوى الخوف على المال ، ولذلك فإنهم لايدخلون فيما يعتبرونه مجازفة ؛ فإن بعض هؤلاء لو خسر عشرات الملايين هنا أو هناك فإن ذلك لن يؤثر على رصيده في الدنيا ، وستكون في رصيد حسناته عند الله لأنه يريد خدمة دينه وبني ملته وأمته المسكينة ، والتي خذلنا شعوبها فازدادت جهلاً وفقراً وتخلفاً ، يوم ذهبنا بأموانا وتجارتنا إلىأعدائنا فازدادوا غنىً ونمواً وعلماً وتطوراً، كل ذلك لأننا نحب " البرود " و " جبال الألب " و " نهر السين " أو " الميسيسبي" وربما كان البعض مفتوناً بالعيون الزرقاء والشعر الأشقر . !!
سادتي التجار أعلم أنكم اليوم تمتلئون حقداً على إمريكا لأنها قهرتنا جميعاً في أموالنا ومبادئنا وحضارتنا ، هذه بعض صور " الإنتقام " ومنها تلك التي يمكن ان نمارسها في العراق اكتبها لعلكم تهتموا بتحريرها بطريقة علمية أكثر :
1- العقار ازداد إلى ثلاثة وأربعة اضعاف ؛ ويمكن الشراء الآن قبل أن يفوت الآوان ، وبالنسبة لغياب القانون وانظمة التسجيل هناك طرق مختلفة يمكن ضمان هذا الأمر إلى حدٍ كبير(8) .
2- الثروة الحيوانية هائلة ؛ ومنتجات اللحوم والحليب والقشدة والزبدة وغيرها من أفضل وأطيب المنتوجات ؛ ويمكن القيام بمشاريع انتاجية تغرق المناطق المجاورة بأسعار منافسة.
3- المطابع عاطلٌ عمّالها ، وشراء المطابع سهل ميسور وقد يكون شراء مثل هذه المطابع انطلاقة لإعلام عربي ( أو أجنبي بالإنجليزي ندعو من خلاله أعدائنا ممن يمكن أن يجعل الله بيننا وبينهم مودة إذا دخلوا في الإسلام ! )
4- هناك عاملون محررون وفنيون من أفضل الطاقات تأهيلاً وخبرات من القنوات العراقية والإذاعة لم يستغلهم إلا القليل . ويمكن توظيفهم والإستفادة منهم قبل أن يهاجروا .
5- اساتذة الجامعات في أقسام الجينات والهندسة الوراثية ( والطاقة النووية !! ) يحتاجون إلى من يحتضنهم في مراكز بحثية أوتجارية . ولقد ارسلت إسرائيل ( 1500 ) خبير اغتيال !!! لقتل أي احد من هؤلاء خاصة في مجال " الذرّة " وبطرق يقصر عنها إبليس ، فأين حكّام العرب لا يوظفون هؤلاء أم هم في كلِّ وادٍ لا يعقلون ؟!
6- استغلال الغاز أو استغلال الأنهار في توليد الكهرباء مشاريع عديدة تحتاج إلى مبادرات .
7-
8-
9-
10-
سادتي .. أنا لا أفهم كثيراً في المشاريع التجارية وتركت الأرقام لتكملوها ولتبادروا بتشجيع بعضكم بعضاً لتمويل العراق إلى إنطلاقة حضارية يتفيؤ الجميع ظلالها في عالمنا العربي ؛ ولعلها تكون منطلقاً لدحر تقنية وقوة " الطفيل المزروع " في جسمنا المسى بـ ( إسرائيل ) .
رابعاً : رسائل إلى العلماء والدعاة في أرض الجزيرة المباركة(43/107)
سادتي ، مشائخي الكرام ، لم استطع وإلى ساعتي هذه أن أتخيل أن بلاد الحرمين التي خرج منها العلماء والأبطال والدعاة والمحسنون وجابوا أصقاع روسيا وسهول استراليا ، وولجوا إلى ادغال آسيا وأفريقيا واقاموا المراكز العالمية في أوروبا وإمريكا ، لا أتخيل أنه وإلى ساعتي هذه لم يدخل العراق داعيةٌ او مثقف ( فضلاً عن غيره ) !! إلا شخصٌ واحد هو كاتب هذه السطور ، وهذا ليس مبالغةً أو رجماً بالغيب ، بل إنني قد قابلت أكثر أو كل التيارات الإسلامية في بغداد في الزيارتين ومن هؤلاء رئيس الإخوان وقيادات المستقلين في الجامعات والعشائر وهيئة علماء العراق وبعضاً من رابطة علماء العراق وقيادات مايسمى بالتيار السلفي وعدداً من الكتاب والمؤرخين ؛ كل أولئك كنت اسألهم : هل مرّ بكم حجازيٌ ..؟ أو نجدي ..؟ أو أزدي .. أو ... ؟ فيجيبونني بـ : لا .. ! فازداد حسرة وهماً لعلمي بحاجة هؤلاء الماسّة لمن يتشاورون معه ؛ ولمن يشعرهم بحبنا لهم ؛ وأنا أعلم أن بعضهم أرسل رسلاً إلى بعض العلماء العاملين الربانيين هنا ، وهذا مع كونه نادراً إلا أنه لا يغني عن حاجتهم إلى زيارتنا . لقد رأيت كبار هؤلاء وهم يهتمون بكلامي ويخرجون الأوراق ليسجلوا نقاطاً وأفكاراً يستفيدون بها ، قد تستغرب أخي الكريم من هذا ولكنه لا غرابة .. فهؤلاء كانوا متخفين ومُحَارَبين وأعمالهم تحت رقابة صارمة وتتبع ظالمٍ غاشم ، فلذا هم فرحوا عندما خرجوا " عمالقة " من " القمقم " يسمعون فرحين لأي أخ ولأيّ ناصح خاصة وهم شعبٌ لطيف كريم بطبعه ، كنت احتقر نفسي وأسأل ياترى كيف لوكان معي من يساعدهم في وضع خططٍ استراتيجية ..؟! وكيف لو كان معي ممثلون عن المشاريع الكبيرة في بلادي في نواحي الإستثمار والأوقاف ومشاريع الخدمات الإجتماعية يقدمون لهم التجارب الناجحة والفاشلة ليستفيد بها هؤلاء ..؟ وكنت أرى اختلافاً في صف الحركات المتنافسة في العراق أخاف منه أي التنافس _ أن يفرقهم ويمزقهم فأناصحهم بعفوية وسذاجة المؤمن فيستمعون ، كنت عندها اسأل كيف لو كان المتكلم عددٌ أكبر من الدعاة ..؟ بل كيف لو كان المتكلم مندوباً من هيئة كبار العلماء معه دعمٌ مادي ومعنوي وفقه يستقي منه أم أن طموحات علمائنا وفقهم الله تقصُر دون ذلك ؟! بل كيف لو كان المتحدث أحد الربانيين الذين قدموا من أنفسهم وحياتهم وجاهدوا لتبليغ دين الله من أمثال العلامة ناصر العمر ، والعلامة سعيد آل زعير ، والعلامة سفر الحوالي ، والعلامة سلمان العودة وغيرهم من الفضلاء والكرماء ؟!
سادتي العلماء اتقوا الله في العراق وارسلوا " جيوش " الدعم المادي والعلمي فهناك مخاوف ومحاذير منها :
1- الخوف من استغلال الأعداء لتفريق الصف _ الجاهز نسبياً _ الآن بسبب القهر والغيظ والفقر ... إلخ .
2- الخوف من الطائفية المقيته والتي سأتجاوز الحديث عنها مع أنني والله يشهد سمعت الكثير من قذارتها وخستها !! اتجاوز الحديث عنها لأنني رأيت بعض هذه الطوائف في جهة العشائر لديهم قابلية كبيرة للحوار واتباع الحق . لكن أين المحاور ؟ أو أين السائل عنهم ..؟
3- العشائر العربية بها أنفة وغيرة ؛ وبعضهم بل كلهم بدأ يجهز لأعمال جهادية قد لا تكون مدروسة بشكل ناضج أو متأنٍ ، لذا وجب علينا دعمهم بالنصح والتعليم والتوجيه ، وهؤلاء العشائر لديهم أقارب وأهل في بلادنا لم نوجههم للذهاب وتقديم العون لأهلهم بالعراق ، ولقد أكرَمَنا هؤلاء العشائر كرماً كما لو كنّا ملوكاً والله ؛ ففي حفلٍ واحدٍ قابلني وأنا الضعيف المسكين قرابة خمسين شيخ قبيلة من بنى هاشم وشمّر وزبيد ( قحطان اليمن ) ونعيم والدباش والأكراد .. إلخ ، وكان فيهم السُنّي والشيعي ومع كل شيخ قبيلة عدد من وجهاء قبيلته وهذا مصوّر ومرفق مع التقرير ، وألقيت فيهم كلمات عن العقيدة والوحدة والأخوة الإيمانية .
4- عصائب الخير من شباب العرب الذين ذهبوا للجهاد هناك ، مازالت بقية منهم هناك وبعضهم وضعه حرج وفي كربٍ عظيم ؛ وبعضهم أسره الطائفيون والبعض الآخر أسره الأمريكان ، ويجب علينا إسعافهم ومناصحتهم حتى لا يحدثوا أمراً يؤدي إلى مضاعفات غير حميدة . وهؤلاء أعتقد يقيناً اننا ظلمناهم ببرودٍ مبالغٌ فيه ولم نعطهم من الوقت والتوجيه والنصح ما يجعلهم يسمعون منّا ومايجعلنا نستفيد بهم ، ولعلي أعود إليهم وإلى تضحياتهم وإلى اثر ذلك على عامة أهل العراق الذين رأيتهم بل رأيت بعض علمائهم تتحدر منه الدموع عندما يذكرُ من مات منهم رحمهم الله .(43/108)
أيها العلماء .. الصيف على الأبواب فلماذا لا تخرج قوافلٌ بكتب وهدايا وغذاء ودواء وألعاب أطفال..؟ ونحن مستعدون من خلال الجمعيات العالمية المسلمة من ترتيب ذلك ، ولماذا لا يرسل العلماء طلابهم للتدريس والمناصحة وبذل الرأي ..؟ وبالمناسبة تشكلت لدينا تجربة لابأس بها إن شاء الله في التنقل والتعامل مع الأمريكان وغيرهم . فهل من مجيب ..؟؟ أم أننا نترك الساحة للمخابرات العربية التي قامت تفتك ببقايا العراقيين الذي حولناهم إلى فتات بالسماح للطائرات للتحليق من مطاراتنا ثم ارسل " بنو يعرب " مخابراتهم لإلتهام هذا الفتات ؟!
كلمة لابد منها .. :
كما هي عادة الجمعيات الحكومية العربية مازالت تغط في سبات عريق، والأخوة في الإمارات لهم دور جيد لكنه تقليدي لا يتجاوز التوزيع العشوائي للمال على بعض الرموز التي يراد الإستفادة منها ..!! أو توزيع الغذاء والدواء والأمير محمد بن راشد له دور مشكور وكذلك المشفى الذي موّلوه وهذه فكرة جيدة وهي اعتماد تشغيل مشفى موجود بالفعل ، وكذلك الأخوة من قطر إلا أنهم يوزعون مشكورين بعض الكتب الإنجليزية النافعة وغيرها من المواد الدعوية ، أما السعوديون فلم أرى ولا جمعية واحدة ..!! وبالنسبة للمشفى فله دور طبي تقليدي جيد إلا أن الأطباء لم يخرجوا إلى المجتمع ، ولقد خفف العاملون جزءاً من غضبة العراقيين علينا والأطباء السعوديون كانوا أنموذجاً للبذل والأدب جزاهم الله خيراً وأطالبهم بكتابة ذكرياتهم ومشاهداتهم والخروج إلى المجتمع ، وكثير من المشائخ وطلاب العلم يعتبون بشدة على غيابنا وكذلك شيوخ العشائر الذين يُمنعون من السفارات المجاورة عندما يطلبون الدخول للعمرة وغيرها ، ولقد تعرضت للشتم والسب لمّا عَرَفَ بعضهم أني سعودي . أما الكويتيون سامحهم الله فهم ...........................؟؟
ومرة أخرى ادعو الهلال الأحمر الخليجي كله إلى عقد ورشة عمل تنفيذية لتبادل الأدوار وتوزيعها بشكل علمي مع الجمعيات المسلمة الأخرى كجمعية يوسف اسلام الرائعة جزاه الله خيراً .
وادعو الجمعيات الخيرية الرسمية أن تتحرك وتحرك الباقي من أموالها قبل أن تجمده أمريكا . ( مؤسسة الحرمين لها فكر سنّي جيد ودور مشكور ولكن تلكأ مديرها كعادته سامحه الله كما تلكأ المشرف عليها كعادته هو الآخر حتى جُمّدت بعض أموالهم ومكاتبهم واستقال أهم ثلاثة من قيادات المؤسسة ولما تحمس بعض الأطباء واشتروا كمية جيدة من الدواء بعد الضغط على مدير المؤسسة لكنه _ حسب علمي _ منعهم من ادخالها انتظاراً للإذن الذي طلبه من الحكومة ! وإلى ساعتنا لم يأت هذا الإذن حسب علمي ، فبادر الأخ الزميل الرائع الدكتور محمد الركبان واتصل بي فأدخلت لهم الدواء ولكن بعد اسابيع انتظار على الحدود السورية (9).
رابعاً : كلمة حول الأحرار !
لايشك عاقل أن كلمة " الجهاد " أصبحت " غولاً " يخيف الصليبين والصهاينة وأذيالهم ممن مردوا على النفاق ، كما لايشك أي متأمل أن زعيمة الكفر في العالم أجلبت بخيلها ورجلها للقضاء على كل من تسوّل له نفسه رفع راية الجهاد ، بل جهدت ألا تدع في المنطقة سلاحاً ولا قوةً يمكن أن يستولي عليها مسلم صادق فيستخدمها ضدهم ولو كان ذلك الإحتمال ضعيفاً حدوثه حتى ولو كان بعد دهرٍ طويل .
من أجل ذلك كله قامت دولة البغي والطغيان بمتابعة المجاهدين الصادقين والتضييق عليهم كلهم ، لم تستثن أحدأً ولم تألوا جهداً في ذلك ، ضيقت على الحكومات وآذتها ؛ غيّرت المناهج لتلغي كل سلوك يجاهد الكفار والطواغيت ، بل حاربت كل فكرٍ نقي صافي يوضح معالم طريق المؤمنين فتجعله يسير مع المؤمنين ويعادي الكافرين والمنافقين ، جمعوا لذلك خبراءهم المتخصصين في مجال الفكر الإسلامي والجماعات الإسلامية ، جمعوا بكل قدراتهم اسماء كل من جاهد صغيراً كان أو كبيرا ، تحت أي سماء ، وفوق أي أرض ثم عاودوا الضغوط القاسية الخانقة على الحكومات لتحارب الجهاد ويمنع أهله ويضيق عليهم ويسجنون ويعذبون أو تفتعل عليهم التهم وتشوه سمعتهم ليكرههم الناس .
ومع كل هذه الضغوط والقهر الذي يمارس على شعوب الأمة يصرّ الشباب على العودة إلى حياض الدين وحمى العقيدة ، وكثير منهم يرفض الأفكار المائعة والبدع الضالة لأنه لايجد فيها الصفاء والنقاء ويهتدي بفطرته وبتوفيق الله له إلى عقيدة سلف الأمة وفكرها والتي منها إن الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والتي منها أن الإسلام سيُظِل العالم ويدخل كل بيت مدرٍ ووبر ؛ وأن هذا الدين سيبلغ مابلغ النجم في السماء وسيبلغ مابلغ الليل والنهار ، يعتقد الشاب يقيناً بكل هذا ؛ ثم يلتفت هنا وهناك يريد أن يبحث عن مواكب الإيمان وجحافل الخير ويركب سفينة ركبها آدم ونوح وموسى و صلى الله عليه وسلم ألا وهي سفينة الدعوة التي شراعها كتب عليه قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني .
ومع ذلك يرى الحكومات كلها وبلا استثناء تحارب هذه السفينة وتطلق عليها الراجمات المنطلقة من بحر الشيطان لتغرقها ..!! لا لشيء إلا لأن أهلها " أناسٌ يتطهرون " فماذا حدث ؟!!(43/109)
لما رأى هؤلاء الشباب أنهم مضيّقٌ على أهل الدعوة وعليهم لما تابوا من فسادهم وغيّهم بينما يمكّن للفساد والمفسدين هنا وهناك ؛ خرجوا هاربين باحثين عن رايات الجهاد والكفاح يشتاقون إلى الجنة ويتشممون ريحها وعرفها ، ولما جاءت أحداث العراق سارع كثير من هؤلاء يريدون مقارعة الدولة الكافرة ، فمنهم من دخل قبل الغزو بفترةٍ طويلة نسبياً وتدرب وتجهز ، ومنهم من دخل قبل ومع الغزو وهؤلاء تدربوا قليلاً .
كانت الخطة التي أكدها جلاوزة الإداراة الإمريكية وصقور البنتاغون أن الحرب ستكون عبارة عن " أكل قطعة من الكيك " على حسب التعبير الإمريكي المشهور ، أكد ذلك خبراؤهم واصدقائهم ! ( من أمثال الشيعي العلماني المتآمر معهم " فؤاد عجمي " ) ، لقد اجتهدت المخبارات الإمريكية ( CIA ) ووظفت طاقاتٍ غير قليلة من الخونة والمرتزقة بمساعدة بعض الدول وعددٍ من دول الجوار الحاقدين وبعضَ الطائفيين ، ويرى بعض المراقبين أن الإستخبارات الإمريكية استعانت بمخابرات بعض الدول التي عرفت بطائفيتها و تلون مواقفها ، لقد كانت الخيانة التي ظهرت في يوم السادس والسابع من نيسان لعام 2003 مرتبةً مسبقاً ولقد ظهرت بوادرها من أول أيام الحرب في الجنوب ، فلقد كان ابطال المجاهدين يرون الضابط يخلع بذلته وبزّته العسكرية فجأة ويوليهم ظهره ، ولقد كان المرجفون من العراقيين وغيرهم من العرب الذين مردوا على النفاق يخذّلون فدائي صدّام ويخذلون المجاهدين ويخذلون كل مقاتل ، ولقد كان بعضهم يضع علامة ( x ) على مواقع المقاتلين العراقيين والعرب فتأتي الطائرات فتقصفهم ، وكان بعض النساء يرسلن أجهزة إشعاعية للطائرات الإمريكية لتدلها على المواقع المناسبة للقصف ، وانتهت معارك الجنوب بضرب المقاتلين العراقين والعرب من الخلف ، ومع ذلك كله دعنا نتسائل ماذا حدث ؟ لقد كانت الخطة المعروفة لدى الجميع أن الجنوب يمكن أن يترك للسقوط مقابل الإهتمام بمنطقة الوسط ، بل وعلمنا أن هناك تعليمات لقصف نقاط الإتصال وبين الجنوب والوسط كالجسور والطرق وغيرها في حال دخول القوات الغازية ،ولكن بعد اختلاف محمد باقر الحكيم مع امريكا وضعف احتمال هجومه على الجنوب ، وبسبب دخول عددٍ لا بأس به من ابطال العرب والذين لديهم خبرة ارسلت الحكومة السابقة هؤلاء إلى الجنوب بعد تدريبهم ؛ علماً أن بعضاً منهم مدرب فعلاً في بلاده أو في ميادين أخرى ، لقد كان البعض يتهم هؤلاء الشباب بالجنون والغباء أنهم سيقاتلون فوق ارضٍ مكشوفة وأن هذا انتحار ، ومع ذلك فلقد اظهروا بطولات وعمليات فائقة في الروعة من نوع اسقاط الطائرات المروحية وتفجير الدبابات ، بل إنه من الحقائق العروفة لدى الجميع أن فدائيي صدام ، وأبطال العرب المسلمين ، والعشائر العربية دحروا الهجوم بشكل غير متوقع لا عند صدام وزمرته ولا عند الإمريكيين ، مما أصاب الجميع بالذهول ولقد قابلت عدداً من الخبراء والساسة والمشائخ وقيادات التنظيمات والإعلاميين ، ويجمع كثير منهم أن الإمريكان لم يحاربوا على الارض البتّة إنما من داخل الدبابات أو الآليات أو من خلال القصف ، ولقد ذكرت لي مراسلة ألمانية لقيتها هناك أن كثيراً من التقارير الإخبارية التي تصوّر الإمريكيين يقاتلون على الأرض إنما كانت على أرض هوليود ! وذكرت لي هذه المراسلة أن ذلك كان معروفاً قبل الحرب ( ودلتني على موقع هام وسري في الإنترنت لكنني وللأسف كتبته ثم أضعته ) ، إذن فماذا حدث مرة أخرى ..!؟
لما تبينت الخيانة في الجنوب انقسم العرب وغيرهم من المخلصين في قتالهم فمنهم من غادر العراق بأسرع وقت ، ومنهم من لم يستطع أن يصدق الخيانة خاصة من شباب المغرب العربي الذين لم يعرفوا تأريخ خيانة هؤلاء الطائفيين في كل معركة فأرادوا أن يتأكدوا لآخر لحظة ، ثم لما أرادوا ترك الجنوب لم يجدوا طريقة للخروج سوى المشي على الأقدام مئات الكيلو مترات ، وكانوا يسيرون من خلال مناطق العشائر والبادية إلى بغداد ، ثم من خرج منهم من بغداد بسرعة استطاع النجاة ومن تأخر وقع في الأسر أو القتل ، وهناك بعضٌ منهم غفر الله لهم أصرّ على القتال لآخر لحظة ، يحكي لي بعض المشائخ أن شابأً مغاربياً كان يقاتل الغزاة حول بيته ، فحاول هذا الشيخ أن يدخله وهو ينصحه قائلاً : يابنى لقد قضي الأمر فتعال ادخل إلى المنزل حتى لا يقتلونك . فرد الشاب قائلاً : يا عم أنا ماجئت لأهرب إنما جئت لأقاتل هؤلاء أو لأموت شهيداً . يقول الشيخ : ثم لبتث قليلاً فرأيت الدبابات تقصفه حتى قتلوه رحمه الله .. !!(10)(43/110)
لقد غاب عن بعض هؤلاء الشباب رحمهم الله وتقبلهم شهداء الفكر الإستراتيجي في القتال والمدافعة ، ومع ذلك فهم ضربوا أروع الأمثلة في التضيحة والبذل ومع كل مايمكن أن ينتقدوا بسببه من أخطاء إلا أنهم السبب في إذكاء روح الأخوة عند العراقيين وروح البذل ، فوا الله ثم والله ما وجدت عراقياً إلا وهو يحمل لهم أعطر الذكرى ويتأوه لذكرهم ، ولا يمكن أن أنسى ماحييت كيف بكى بعض المراسلين الإعلاميين ومنهم كفار !! يوم رأوا أحد العاملين بمشفى الكرامة يحدثنا عن قتال هؤلاء وهو يعرض علينا صورهم والبقايا التي وجدت في جيوبهم يومها انفجر مدير إحدى القنوات باكياً وطلب أن يسجل كلمة إعلامية يخلّد فيها ذكر هؤلاء الذين سمّاهم " المحاربين الشرفاء " ، كما لايمكن أن أنسى أبداً_ بإذن الله _ اليوم الذي سالت فيه دموعنا معاشر الجالسين أمام مسجد أبي حنيفة يوم نشج وليدُ الأعظمي ببكاء تفجر له القلوب يوم ذُكِر له الشاب السوري من أبطال معركة الأعظميه يوم جاء أهله لينقلوا رفاته فوجدوه بعد واحد واربعين يومأً كما هو لم يتغير فيه شي وكان الشيخ وليد أحد الحاضرين عند النقل، يومها بكى وليد وأبكى ، بكى مؤيد الأعظمي وبشار عواد ورائد.. و وغيرهم ، إنها معانٍ لايمحوها الدهر ، ولا أنسى كلمات الأم التي عزّيناها بإستشهاد ابنها ولمّا عرفت بعد موته فردّت : يابني أنني أحتسبه عند الله ، ورددت " إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شي عنه بأجلٍ مسمّى " فكانت طوداً شامخاً في الصبر والبذل جزاها الله خيراً
مع كل مامضى فلي وقفات حول هذا الموضوع :
1- أنني أدين الله أن الجهاد لدفع الغزاة في العراق وغيره من أوجب الواجبات ولكنني مع ذلك ارى _ والله أعلم _ أن العراقيين كما نقل لي بعض شيوخهم ( من خلال بيان طلبوا مني نشره في الإنترنت ) لا يحتاجون رجالاً في ساعتهم هذه ، بل يحتاجون إلى المدد المالي والمعنوي والتوجيه والنصح والإطعام والإغاثة .
2- أن دخول بعض هؤلاء الشباب للقتال دون تنسيق ربما سبب في مشاكل وأوقع في بلبلة لايريدها أهل العراق ، لأن القتال الحادث لا تتنظمه راية ، ولا تنظمه مجموعة واحدة ويحتاج إلى دربة بحرب العصابات ومعرفة المناطق وهذا قد لا يتوفر للشباب الذاهب إلى هناك ( بالطبع هذا كلامٌ عن العوام من الشباب أما غيرهم من الخبرات فلهم كلامٌ آخر عند السادة الفقهاء " العاملين الربانيين !
3- أرى يقيناً أننا مسئولون عن هؤلاء الذاهبين من الشباب حكومات وعلماء ومربين ، فنحن لم نفتح لهم الأحضان الدافئة ولا المحاضن الصادقة التي تستوعبهم ، ولم توجد لهم الفرص الدعوية التي تستهلك وتستنفد طاقاتهم في الخير فهانت عليهم نفوسهم فأذهبوها في أمور قد " أكرر قد " يكون غيرها أولى منها ، لماذا لا تستفيد الحكومات من طاقات هؤلاء الأبطال الأخيار ؟ لماذا لا تفتح لهم معسكرات التجنيد والدعوة وتجعل منهم وقوداً تستفيد به ضد اعداء الأمة والطامعين فيها ؟! لماذا لا يخرج العلماء مع هؤلاء في كتائب دعوية إغاثية إلى إفريقية وجنوب آسيا والهند وآسيا الوسطى والذين يجهلون ابسط مباديء الدين والعقيدة ومعرفة الله ومعرفة رسوله فضلاً عن الأحكام ؟! لماذا لايتقدم العلماء هذه الكتائب هل لأن النصر سيتنزل علينا إذا اصلحنا بلاد السعودية فقط ( هذا إذا كنّا فعلاً نعمل للإصلاح ونسعى له ) ؟ أم أن الدعوة السهلة والإجتماعات في الغرف المكيفة والجلوس في الولائم التي تزينها " المفطحات " وتبخرها " رائحة العود " هي منتهى دعوتنا وحركاتنا .؟! إننا معاشر أهل هذه البلاد نحمل عقيدة تغيظ العالم كله ، ويخافها العالم كله لصفاءها ونقاءها وبساطتها وقدرتها على الإنتشار فلا نحن نشرناها ولا نحن وظفنا الشباب لنشرها من خلال مؤسسات عالمية فعالة ذات تصورات استراتيجية للدعوة والتغيير والتأثير ؛ ولا نحن وظفنا ابناء هذه الدول لنشرها من خلال أموالنا ، ثم لما يرى هذا الشباب الواقع المزري ويتحمّس أمام برودنا وقعودنا لايرى منّا إلا النقد البارد والسخرية الممجوجة والمطارق التي تقرع رأسه ، إضافة إلى مطارق الكفر والإلحاد التي يواجهها أمامه أومطارق الإهمال والجحود التي تركها خلفه . فالله الله يا أيتها الحكومات ويا أيها العلماء في هؤلاء الشباب .
ومع ذلك كله فلي كلمة اوجهها لكل شاب أن يلتف حول العلماء الربانيين ولا يلزم ـ ضرورةً ـ أن يكونوا ممن يجاهد بالسلاح فالجهاد بالكلمة قد يوزاي الجهاد بالسلاح وقد يكون أشد وأقوى وأنفع أحياناً ، ومشكلة بعض الشباب هداهم الله أنهم يريدون المسلمين أو العلماء أنموذجاً واحداً ، فالفضيل كان عابداً وسفيان كان مؤدباً للملوك ؛ وابن المبارك كان مجاهداً ، وكذا هدي صلى الله عليه وسلم مع اصحابه كلٌ على ثغرة يسدها ويدافع الكفر وأهله أن يلجوا منها ، فعلى الشباب أن يعذروا كل عالمٍ قائلٍ بالحق عامل بأحكام الدين، وأن يحفظوا السنتهم عن علماء الدنيا واتباع الوجهاء وعبّاد المناصب والوجاهة فإننا لفي شغل كثير عنهم وعن أمثالهم ..!!
مشاهدات وكلمات(43/111)
دخلتُ على بعض الأفاضل في الظلام الدامس في ليالي بغداد إبّان الحرب ولمّا ترجعُ الكهرباء بعد ، لم يجد مكاناً يدخلني فيه فبيته الصغير ازدحم بأمه واخوته وزوجته وابناءه ! أجلسني على كرسيٍّ أمام الدار وذهب يحضر مصباح الكيروسين ، وفاجأني الضوء ورأى هذا الكريم مشاعر وتعبيرات على وجهي فهمها ، وضع المصباح وجلس علي كرسي صغير أمامي قائلاً : يادكتور تعجب لحالنا .!؟ نحن قومٌ فقراء ولكننا شرفاء !!
هذا كان امامه مايسيل اللعاب أيام النظام البائد لكنه تركه لأنه شريف ! فطوبى للشرفاء ( الغرباء بالطبع ) .
• الشيخ الدكتور علاء المدرسي الأعظمي علامة في المذهب الشيعي ويمتاز بفهم هذا المذهب وروعة الحوار مع أهله ، سمع بي فجائني في الظلام عرف علاقتي بأفاضل مشائخنا ؛ ذهب في الظلام وعاد في الظلام وهو يحمل صندوقاً ممتلئاً كتباً عن المذهب الشيعي وضعه في يديه وبعد دردشة في ليلة نيسانية لطيفه انطلق في الظلام ، لو رأيته الآن لا أعرفه . ما أجمل ظلامٌ اختلط بنور العلماء .
• الإعلاميون كثير منهم لا يتجاوزون مساحة الفردوس أمام فندق فلسيطين وشيراتون ولمّارأيت المئات يموتون بسبب الجروح والحروق ذهبت لبعض الإعلاميين كالمحرش لهم ، ذهب عددٌ منهم ، وبعد ساعة أو أكثر ترك مراسل قناةٍ عربيةٍ ومدير قناة انجليزية ومسئولة القناة السويدية تركوا عملهم والدموع تملىء أعينهم وتحولوا إلى عاملي إغاثة معي طوال ذلك اليوم وهم ينقلون الإغاثة التي قَدِمنا بها من أوروبا ، وتحول بعض زملائي إلى مصورين يصورون الإعلاميين ؛ إنها الفطرة تستيقظ من تحت الرماد .
• لم أقابل عراقياً عشائرياً أو ريفياً أو مدنياً ، عالماً أو عامّياً إلا وهو يهتف بصوت مسموع : سنخوض معاركنا معهم ، وسنمضي جموعاً نردعهم ونعيد المجد لأمتنا !! كلٌ له توقيتٌ خاص به لساعة الصفر .
• الإمريكان العلوج حقاً وصدقاً !! كثير منهم كحمار أهله لايدري فيما يمسك ولا فيم يرسل ، صورت كاميراتي حوارات معهم من نوع شرُُّ البلية مايضحك ، مع ذلك فكثير منهم أرضٌ خصبة للدعوة .
• الدكتور أحمد الدباشي داعية معروف مشهور واستاذ جامعي ، وابن شيخ قبيلة ، كان بطلاً من أبطال الأمن الوطني الشعبي ، نظم ابناءه الطلاب ومريديه في المسجد ليحفظوا الأمن ، ووزعوا الأعطيات القليلة ، تاب على يديه عدد من اللصوص وتحولوا إلى جنودٍ بين يديه منهم السني ومنهم الشيعي ؛ وكان الإمريكان يقدرونه ويصافحونه قائلين : يو قود ( You good man ) وأولئك على بابا !!! ويشيرون إلى أحد الأحياء الطائفيه العريقة في احتراف الفساد والإفساد .
• حي الأعظمية كان أنموذجاً للحي المسلم الإيجابي ، اجتمع الشيوخ والعلماء والدعاة والأطباء ورجال البلد .. إلخ في مجلس بلدي شعبي خططوا ووزعوا المهام ، الشباب يحفظ الأمن في نوبات قتالية على كل دوار وعلى كل مدخل ومخرج حي او شارع ، فرق لنقل المرضى في سيارات حولت إلى أشبه اسعافات ، الأطباء فتحوا عيادات في المسجد ، فرقٌ اهتمت بالأرامل بالأيتام وبمن فقدوا عائلهم ، فرقٌ تحولوا إلى إشارات مرور بشرية كنت اراهم فاطلب من سائقي التوقف لأترجل وأحييهم ، وفرقٌ أخرى أبت إلا أن تؤدب الفجار مستلهمين تاريخ الأعظمية العظيم واسألوا عن بطولات معركة الأعظمية ، ويُراجع كتاب ألفه علاء المدرسي بعنوان ( 40 شاهداً على الحرب في بغداد ) .
سادتي ...
هذه صور ومشاهدات وآلام وآمال أضعها بين أيديكم هامساً في الختام :
إنني أرى في خلواتي الصافية وفي سبحاتي الرائقة ، وأرى مع كل لمّة مَلَك ! أرى أرض الرشيد وأحمد بن حنبل وهي تُخرج لنا ألوية الفتح وكتائب الإيمان ، أراها أطيافاً جميلة وموسيقى عذبة إنه إيقاع العاديات الموريات وصهيل العز يخرج من الخيلِ التي عقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة . ياترى يومها أين نكون نحن ؟ وعندها ماذا سنجيب أمتنا إذا خذلناها وخذلنا إسلامنا ؟
اللهم إني اسألك بكل اسم هو لك وبفضلك ومنّك وكرمك وجودك شهادةً صادقة خالصة ، وأسألك أن تقر عيننا بفتح قدسنا وانتصار ملتنا وارتفاع لواء الحق على أيدينا ... آمين
د. سعود بن حسن مختار الهاشمي
استشاري طب الأسرة والمجتمع
واستاذ كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز
su_mukhta r @hotmail.com
احصل على نسخة من الموضوع على ملف وورد
---------------------
1- هو طعام غريب مشهور بالفلافل يمّز ولاية " لويزيانا " وخاصة مدينة أوليانز ، ولم يعجبني عندما ذقته .
2- موسيقى ترجع لأصل افريقي .
3- هذا الأنموذج في الإنفتاح في التعاون العلمي لم تنتفع به الدول الغنية مثل السعودية وباقي دول الخليج ، فعلى سبيل المثال : المشافي والمصانع والمؤسسات تميل إلى التفكير الأمريكي والإداراة الأمريكية وأنماط التقنية الأمريكية ولم نستفد من العقل الياباني _ بإستثناء شركة سابك ربما _ ولا الكوري ولا الألماني .. إلخ بل رسخنا ظاهرة الإعتماد على الخبرات الأمريكية ؛ وبكتيل وأرامكو خير شاهد وانهاء بترومين وسمارك خير دليل ! .(43/112)
4- قد يتبنى بعض الجيل الفكر المتطرف الذي بدأ البعض يصطلي بناره ! بسبب قلة العلم واستبداد الظلم والتمادي في الخذلان لهؤلاء المساكين المقهورين ! أسأل الله لنا ولهم السداد والعافية .
5- في هذه الأيام الأخيرة من آيار قطع الأمريكان الكهرباء تماماً عن بغداد ، وكتبوا على دباباتهم أمام المدارس وغيرها " إعادة الكهرباء مقابل إيقاف المقاومة " هذه وقاحة الذين جاؤوا بالحرية !
6- في عالمنا العربي هذه الطائرات العسكرية تقبع _ بغباء _ عند كل معركة مع أعدائنا وعند النجدة تمارس نفس الأسلوب ؛ فلماذا لا تُحرّك كلها أو كثيرٌ منها للخدمات المدنية بالعراق ؟!
7- لقد نقلت خلال التلفاز السعودي صورة أم وهي تمسك بابنتها وهي المصابة بالسرطان تصيح " ماكو دوا !! " ثم لما أردت أن أعطيها مالاً ( علىخلاف عادتنا فنحن نقدم مواد عينية وإغاثية ) سحبها زوجها بقوّة والدموع تختلط بكل جزءٍ من وجنتيها وخديها . يومها ذرفت الدمع مدراراً فقلت : أين أبو ريشة ؟؟ وأين الأميري ؟؟ وأين محمود غنيم والعشماوي ليصوّروا هذا ؟!
8- في الأيام الأخيرة العقار انخفض مرة أخرى بسبب اشتداد المقاومة ، والفرصة سانحة الآن في الموصل حيث الإستقرار جيد عموماً والأسعار معقولة وهي قريبة من التقنية التركية .
9- تجربتي مع مؤسسة الحرمين وغيرها نشرتُ بعضها في سلسلة مقالات في عمودي في جريدة المدينة ولعل لي وقفة طويلة مع العمل الخيري الإغاثي في يوم .
10- هذا الشيخ نفسه يحكي أن نفس كتائب الجيش العراقي وقفت مدرعاتها أمام بيته قبل أيام السقوط فطلب منهم أن يتحركوا عن البيت لأنه كان لا يثقُ فيهم ، فلما كلّم أحدهم من الضباط قال له : يا معوّد كلها أيام وتنتهي القضية كلها !! وهذه النماذج الخائينة تكررت مواقفها في أكثر من مكان وحادثة مما يؤشر على تخطيط مسبق لهذه الخيانة لعل الأيام تكشف عنه .
===============(43/113)
(43/114)
تعرف على الملحد .. ( صادق العظم )
سليمان بن صالح الخراشي
خرج علينا قبل أيام عبر قناة الجزيرة : الماركسي القديم ( صادق العظم ) خلال محاورة فكرية ، وكنت أظن أن مثل هذه المخلوقات قد انقرضت بعد سقوط أمها وحاضنتها روسيا الشيوعية ؛ ولكن يظهر أن بعض بني قومنا ماركسيون أكثر من ماركس نفسه ! وقد أحببت أن أعرف القراء بحقيقة هذا الرجل الذي ربما يجهل البعض تاريخه ... فأقول - مستعينًا بالله - :
- هو صادق جلال العظم، ملحد سوري (من أصل تركي) يدين بالفكر الشيوعي البائد. ولد في دمشق سنة 1934م. - والده جلال العظم كان أحد العلمانيين المعجبين بتجربة كمال أتاتورك في تركيا (انظر ص 14-15 من كتاب " حوار بلا ضفاف "، الذي أجراه صقر أبو فخر مع العظم ). وزوجته هي فوز طوقان (عمها الشاعر إبراهيم طوقان وعمتها الشاعرة فدوى طوقان).
- يعترف العظم بأنه نشأ في جو علماني متحرر لا يعرف أحكام دينه ولا ينفذها. يقول (ص 15 من المرجع السابق) : (كان هناك -أي في بيته- تدين عادي ومتسامحٍ وغير متمسك بالشعائر والطقوس)!! ويقول أيضاً (ص22): (لم يكن أحد حولي يصلي أو يصوم)! - سأله صقر أبو فخر (ص 63): (هل ترى في السلفية الجديدة خصماً حقيقياً؟) فأجاب: (نعم، هي خصمٌ جدي) !
- درس الفلسفة، وكانت رسالته عن الفيلسوف (كانط)، عمل في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم أستاذاً بجامعة عمَّان سنة 1968م، ثم باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني، ثم عاد إلى دمشق وتولى رئاسة قسم الفلسفة، بجامعة دمشق.
- اعتنق العظم الفكر الشيوعي (وجهر) بإلحاده في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" المطبوع عام 1969م، الذي خلاصته الزعم بأن الدين (لاسيما الإسلام!) يناقض العلم الحديث! كما هي دندنة الشيوعيين سابقاً قبل أن ينكشف زيفهم وتنتكس شعاراتهم وأفكارهم.
وإليك شيئاً من أقواله في هذا الكتاب :
- (إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يُلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية) ! (ص59من الطبعة الثامنة).
- (أصبح الإسلام الأيدلوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه: السعودية، أندنوسيا، الباكستان) (ص 16-17).
- (إن الدين بديل خيالي عن العلم) (ص17).
- (يعترف رجال الدين الإسلامي! وكتابه بوجود تناقض ظاهري -على أقل تعديل- بين العلم الحديث وثقافته ومناهجه من ناحية، والدين الإسلامي) (ص23) ولا ندري من هؤلاء المعترفون؟!
- يطعن العظم في القرآن (صراحة) بقوله (ص25): (يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم أن الإسلام دين خالٍ من الأساطير والخرافات باعتبار أنه والعلم واحد في النهاية، لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة! بإحالته إلى مسألة محددة تماماً. جاء في القرآن مثلاً أن الله خلق آدم من طين ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا ؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تاماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه لابد من القول أنها تتناقض تناقضاً صريحاً ! مع كل معارفنا العلمية..)!! الخ هرائه. ولا ندري ما هي هذه المعارف العلمية التي تناقض كلام الله؟! إلا إذا كانت معارفه المادية التي لا تؤمن بالغيب.
- يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم" (ص12-13) بأن العظم ألف كتابه السابق: (خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية الإلحادية. وهو في كل ذلك يتستر بعبارات التقدم العلمي والصناعي والمناهج العلمية الحديثة، ولا يقدم من البينات إلا قوله مثلاً: إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا، دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة).
- ويقول العظم عن عقيدته الشيوعية (ص 29): (إنها أهم نظرية شاملة صدرت في العلوم)!
- ومما يثير العجب: أن العظم -رغم إلحاده- عقد فصلاً في كتابه السابق "نقد الفكر الديني" يدافع فيه عن (إبليس) !! سماه (مأساة إبليس) (ص55 وما بعدها) ردد فيه شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب السابقة في اعتراضه على القدر؛ ككتاب "الملل والنحل" للشهرستاني (7-10) . ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى (8/115): (هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه).
وقال -رحمه الله- معدداً طوائف القدرية (القسم الثالث: القدرية الإبليسية الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران [أي أنه قدَّر وأمر ونهى]، لكن عندهم هذا تناقض.. وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة) (الفتاوى 8 /260).(43/115)
ثم ختم العظم كلامه بقوله عن إبليس (ص85): (يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص!... يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً) !! فتأمل هذا (الكفر) ما أعظمه ؟
قد يقول قائل: كيف يكون العظم ملحداً ثم يعترف بوجود إبليس ؟! فأقول: قد صرح الملحد في بداية كلامه -كما سبق- أنه لا يعترف بوجود إبليس لأنه لا يعتقد أصلاً بوجود خالقه ولكن بحثه -كما يدعي- (ص57): (يدور في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق؛ ألا وهو إطار التفكير الميثولوجي الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) فهو يريد دراسة شخصية إبليس (باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطورها وضخمها خياله الخصب) (ص 57).
ومع هذا: فقد قال الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني" (ص61) بأن بحث العظم عن إبليس: (لم يكن من بنات أفكاره، ولا من وحي ثقافته العلمية، وإنما استقى خطوطه الأساسية من بحث المستشرق "ترتون" عن الشيطان، وبحث المستشرق "فنسنك" عن إبليس المنشورين في الانسكلوبيديا الإسلامية). قلت: انظر البحثين في دائرة المعارف الإسلامية (14/46-57).
أخيراً : فقد قام بالرد على العظم كثير من العلماء والكتاب؛ من أبرزهم:
1- الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم".
2- الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني".
3- الأستاذ جابر حمزة فراج في كتابه "الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني".
4- الأستاذ محمد عزت نصر الله في كتابه "تهافت الفكر الاشتراكي".
5- الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه "القرأن والملحدون" .
6- الدكتور عبداللطيف الفرفور في كتابه "تهافت الفكر الجدلي".
7- الباحث حسن بن محمد الأسمري في رسالته "موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي". ( لم تطبع بعد ) .
8- الأستاذ أحمد أبو عامر في مقاله "إلى متى تنطح صخور الإسلام" في المجلة العربية (رجب 1413هـ).
وقد قمت باختصار مقالة الأستاذ أحمد -حفظه الله- ليستفيد منها القراء؛ نظراً لوفائها بالمقصود: قال الأستاذ أحمد: (صادق جلال العظم كاتب يحمل درجة الدكتوراة في الفلسفة، ويقوم بتدريس تخصصه في الجامعة الأمريكية في بيروت. ماركسي متطرف في توجهه وطروحاته الفكرية. من أشهر كتبه "نقد الفكر الديني" سأوضح نبذة عنه وكيف تصدى له كثير من العلماء والمفكرين بالنقد والمناقشة العلمية، ولا يغيب عن الذهن قول أحد المفكرين المعاصرين من حملة الفكر الفلسفي. إذ يقول: إن الفيلسوف إما أن يحيط بعلمه فيكون مؤمناً أو لا يحيط به فيلحد، وجل الملحدين من هؤلاء أنصاف وأرباع فلاسفة. وهذا هو حال (العظم) الذي يتظاهر بمظهر الفيلسوف وهو ليس كذلك بل هو داعية ملحد في طروحاته الفكرية المعروفة. ولقد بدأ الرجل كاتباً في عدد من الصحف الشيوعية والعلمانية المشبوهة مثل (الثقافة العربية) يسارية، و(دراسات عربية) ماركسية، و(حوار) وهي ذات عمالة لأحد مراكز الاستخبارات الغربية. وكانت تلك المجلات التي تصدر في بيروت تتبنى الطروحات الإلحادية من دعاوى مصادمة العلم مع الدين والدعاية لنظرية النشوء والارتقاء والدعوة إلى أن نهاية كل شيء هو الفناء والدعوة إلى الاتجاه المادي للحياة. وكتابات العظم في تلك المجلات التي جمع بعضها في كتابه (نقد الفكر الديني) يتبين منها إلحاده ومحاولة تستره خلف ظلال باهته من المعرفة المشوهة والعلم الناقص والادعاءات الفارغة والملونة بألوان من الفلسفة والفكر، وأنا حينما أقول ذلك لا أتجاوز الحقيقة كما سترون.
هو كما أسلفت جمع لعدد من مقالاته السابقة وبعض محاضراته التي ألقاها في بعض المنتديات اليسارية والعلمانية، ومن تلك المقالات (الثقافة العلمية والفكر الديني) ومحاضرته (مأساة إبليس) ومحاضرة (الله والإنسان في الفكر المسيحي المعاصر) والتعليق على زعم ظهور (مريم العذراء في مصر) وأما ما يعتبر جديداً وينشر لأول مرة فهو مقالته عن الدعوة إلى التصور العلمي المادي للكون وتطوره. ومن خلال هذه العناوين يمكن تلخيص أفكاره في النقاط التالية:
1- الفكرة الأساسية للكتاب إنكار وجود الباري جل وعلا إنكاراً كلياً!
2- زعمه وجود تناقض بين العلم والدين.
3- إنكاره ما سماه بالنظرية الدينية وزعمه تناقضها مستشهداً بقصة إبليس في القرآن الكريم.
4- دعوته لإقامة تصور مادي للكون وتطوره بمعزل عن الدين.
وقد تناول كثير من العلماء والمفكرين كتابه هذا الذي طارت به الصحف والمجلات الماركسية دعاية وتأييداً كعادتها، لكن علماء الإسلام بعد قراءته نقدوه نقداً علمياً بين تهافت أفكاره وسقوطها.
ولابد من وقفات سريعة تبين تهافت مزاعمه الإلحادية السابقة على النحو التالي:
أولاً: وجود الباري عز وجل: فالعظم لا يقتنع بالأدلة النقلية لأنه لا يؤمن بها أصلاً، فلم يعد أمامي سوى النقاش العقلي الذي أضعه في النقاط الآتية:(43/116)
1- لابد لكل حادث من محدث ؛ إذن هذا العالم وما يحويه لابد له من خالق مبدع متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقصان وإنكار ذلك ضلال وخطأ.
2- هذا الكون ليس أزلياً لا ابتداء لوجوده ؛ إذ لو كان كذلك لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود وهذا ما يؤكده العلم التجريبي في (القانون الثاني للحرارة الديناميكية) والذي ينص على أن الطاقة في الكون تقل تدريجياً بصورة مطردة. وبما أن له بداية فلا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه كما مر في الفقرة الأولى.
3- القول بالمصادفة بالنسبة لنظام الوجود الشامل المحكم ذي الإتقان العجيب لا يقول به إلا جاهل بعيد عن التحقيق ومكابر يرى الحق ويعرض عنه وهذا ما تؤكده القاعدة الرياضية في حساب الاحتمالات أو (قانون المصادفة) وتفصيلة يطول به البحث. ومن ينكر هذه الحقائق العلمية فما عليه إلا أن يعالج نفسه من أسباب الإنحراف الفكري من جهل وكبر وهوى وتردد في قبول الحق وحينها ستشرق في نفسه بوادر الحق وتتلألأ في قلبه أنوار اليقين.
ثانياً: لابد من إقناعه بنبوة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء برسالة الإسلام، فقد أخبر بالغيوب كغلبة الروم للفرس (سورة الروم الآيات 1-6)، وإخباره بوعد الله باستخلاف المؤمنين في الأرض (سورة النور آية 55) وإخباره بإظهار دين الإسلام على سائر الأديان (الفتح28) . ودليل نبوت صلى الله عليه وسلم معجزته الخالدة القرآن الكريم التي أعجزت العرب قديماً وحديثاً ويكفي القرآن فخراً أن أثبت بحث المستشرق الفرنسي (موريس بوكاي) صدقه في دراسته المعروفة (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة) ويمكن لمعرفة المزيد الرجوع إلى (الوحي المحمدي) لرشيد رضا.
ثالثاً: أما الزعم بوجود تناقض بين الدين والعلم فهو تعميم مرفوض وغير مقبول في الدراسات العلمية، نعم قد يوجد هذا التناقض في الأديان الأخرى غير الإسلام مثل النصرانية واليهودية وكتبهم المقدسة شاهدة على ذلك. أما أن يدخل الإسلام في هذه الدعوى فهو مردود عليه وعلماء المسلمين قد بينوا هذه المسألة قديماً وحديثاً ، فشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) أو ( الرد على المنطقيين ) ناقش هذه المسألة وبين استحالة ذلك مما تسقط معه هذه الشبهة .وفي العصر الحديث كتب عنها كثيراً؛ ومن أبرز ما كتب كتاب (الدين في مواجهة العلم) للداعية الإسلامي الهندي وحيد الدين خان حيث ناقش هذه الإلحادية الغربية في مواقفها المتشنجة من الدين وأسقطها وبين أن هذه الدعوى وليدة الصراع بين العلم الحديث والكنيسة النصرانية، ولا علاقة للإسلام بها إذ أنه دين العلم والفكر، وما جاء في الإسلام من أحكام قد يكشف العلم أسراره وحكمه وقد يعجز لكنه قد يكشف مستقبلاً وصدق الله العظيم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ولذلك كان لكثير من عقلاء الغرب وقفات منصفة مع الإسلام أعلنوا بعد إطلاعهم عليه إسلامهم ومنهم رجال للدين النصراني، فهل بعد ذلك يصح (للعظم) أو غيره إثارة هذه الدعاوي الباطلة؟ وهل يغتر بها سوى الجهلة والمضللين؟ وعلاج هؤلاء بالعلم والإنصاف وستتضح لهم الحقيقة وما بعد الحق إلا الضلال.
أما ضرب العظم (لقصة إبليس ورفضه السجود لآدم) مثالاً للتناقض في الدين وزعمه إنها أسطورة دينية تنتهي بمأساة بطلها إبليس القديس المظلوم، لأنه وضع بين أمرين: الأمر بالسجود لآدم وأن السجود لغير الله كفر. فهذا التناول للقصة خاطئ لاعتماده فيه على آراء شخصية إلحادية وباطنية مع التستر بالمذهب الجبري في موضوع (القضاء والقدر).
فهذه المسألة :
أولاً : دينية يجب أن تبحث على ضوء الدين كتاباً وسنة ولا دخل للفلسفات الأخرى فيها.
ثانياً: أن السجود المطلوب سجود تحية وكان معتبراً قديماً كما سجد أبو يوسف بين يديه تحية له. وبيان سقوط الاتجاه الجبري ورفض الإسلام له يطول به البحث.
وقد نوقشت هذه الشبهة علمياً، ومن أحسن الردود العلمية عليها بحث د. فاروق الدسوقي، وهو بعنوان (مواضع التلبيس في شبهات إبليس) المنشور في مجلة (المسلم المعاصر) العدد33، وكذلك كتاب (أنيس الجليس في رد شبهات إبليس) للأستاذ محمد عزت نصر الله، وقد ناقشها العلامة عبدالرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم) في ص (345) وما بعدها.(43/117)
ثالثاً: أما الدعوة إلى إقامة تصور علمي مادي للكون فهي الفكرة الماركسية في توجهها الإلحادي وهم يهدفون من هذه الدعوى إلى أن الكون ليس بحاجة إلى خالق وينتفي تبعاً لذلك الدين كله. وهذا المنطق الإلحادي المنكوس قديم جداً وهو سابق للماركسية بآلاف السنين وهو ما كان دافعاً للتكذيب بالأديان والرسل على مر العصور حتى جاء (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص) زاعماً (أن كل كلمة لا رصيد لها إلا الحس المادي فهو الذي يبين صدقها أو زيفها) وتبعه ماديو الحضارة الغربية أمثال ماركس وسارتر وراسل وغيرهم. والماديون يقعون في تناقض ظاهر حينما ينكرون كل ما عدا المحسوسات بينما هم يؤمنون بغيبيات كثيرة في العلم التجريبي مثل (الأثير) و(المغناطيس) و(الإلكترون) وغيرها ؛مع أن إيمانهم بها مبني على مجرد الاستنتاج المنطقي ومعرفة آثاره ، بينما ينكرون الباري جل وعلا وهو معروف بالعقل والنقل وآثاره تملأ الكون (وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد) جل وعلا.. فلماذا يؤمن الماديون الملحدون بمبدأ الاستنتاج المنطقي والمعرفة بالآثار لأنفسهم ويحرمونه على غيرهم ؟! إني أدع ذلك لفطنة القارئ ليكشف تناقض الملحدين وصدق الله العظيم: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ) .
إن الفلسفة الماركسية أفلت شمسها والمبادئ المادية تساقطت على ضوء العلم نفسه، فلم يعد للإلحاد أي معنى ويجب أن تعود أيها ( العظم ) إن كنت ( صادقًا ) حقًا إلى المحاسبة الذاتية بعيداً عن كل خلفية فكرية، وستجد أن الإيمان هو الحل. ونذكرك بالحديث النبوي الذي يقول: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فإذا لم يكن بينه وبينها إلا مقدار ذراع سبق عليه القول فعمل بعمل أهل الجنة فكان من أهلها"، ولا شك أن وقفة متأنية للمحاسبة والاطلاع على الدراسات العلمية التي وضحت تجارب العلماء التجريبيين الغربيين التي دعتهم إلى العودة إلى الإيمان يمكن أن تخلخل نوازع الإلحاد في النفس المضطربة.
ومن ذلك (العلم يدعو إلى الإيمان) لكريسي موريسون، وكذلك كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لمجموعة من العلماء ترجمة د. الدمرداش سرحان. كل ذلك جدير بأن يعيد نفحات الإيمان الفطرية إلى مستقرها في الفؤاد الشارد وفيها ستجد أن غمامات الإلحاد تنقشع وظلمات الضلالة تتلاشى وستتبدل بها برداً ويقيناً، ثم لماذا لا تعود إلى مصادر الإسلام الأصيلة والدراسات العلمية التي كتبها علماء ومفكرو الإسلام ممن جمع بين العلم والإيمان فسترى فيها معالم علمية ستساعدك على العودة إلى الله مثل دراسات الأستاذ وحيد خان والأستاذ عبدالرحمن الميداني وجمال الدين الفندي وستجد فيها المنهج العلمي للمعرفة في الإسلام والمنهل العذب لآفاق اليقين.
أرجو أن تتأمل فيما قلته، وأرجو ألا تأخذك العزة بالإثم. فاللهم أرنا الحق وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ). انتهى كلام الأستاذ أحمد أبو عامر -بتصرف يسير واختصار-.
ختامًا : العظم ( ملحد ) أي لا يؤمن بوجود إله .. فأتمنى أن لايخرج علينا من يستغفر له أو يترحم !!
===============(43/118)
(43/119)
كازاخستان والبحث عن هُوِيّة
عبد الرحمن أبو عوف 22/7/1427
16/08/2006
كازاخستان إحدى أهم وأكبر جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وإحدى أكبر عشر دول في العالم من حيث المساحة الجغرافية، ويبلغ عدد سكانها (26) مليوناً، وأكثر من 70% منهم مسلمون، أغلبهم سنة، مع وجود أقلية شيعية..ويُعدّ الروس القومية الثانية في الدولة، مع بعض الأقليات الأخرى، مثل التترية والكورية.
وتقع كازاخستان في وسط القارة الآسيوية، ويحدها جمهوريتا أوزبكستان وقيرقيزيا جنوباً، وجمهورية روسيا الاتحادية شمالاً، والصين شرقاً، وقد حبا الله هذه الدولة العملاقة بالعديد من الثروات الطبيعية والاقتصادية؛ إذ تُعدّ أحد أهم منتجي القمح في العالم، وكذلك الصوف.
لا يختلف الأمر بالنسبة للنفط والغاز؛ إذ تلعب هذه الدولة العضو في منظمة المؤتمر الإسلامى دوراً هاماً في سوق النفط الدولية، فضلاً عن امتلاكها لأنواع كثيرة من المعادن، كالرصاص والزنك، وهو ما أعطى دفعة كبيرة لوجود قاعدة صناعية متميزة في البلاد.
وبقدر ما كانت هذه الثروات مصدر نعمة لهذا الشعب، بقدر ما تحوّلت إلى نقمة؛ فقد أسالت هذه الثروة لعاب الشيوعية الحمراء وقادتها في موسكو، وقاموا بأكبر عملية تهجير للأغلبية المسلمة من أراضيهم، بحجة أن تعميرها جزء من السياسة السوفيتية، وأحلّت بدلاً منهم أعداداً كبيرة من الروس والأوكرانيين.
ولم تكتفِ الشيوعية بذلك، بل إنها حوّلت كازاخستان إلى محطة وميدان للتجارب النووية التي كانت تقوم بها الدولة السوفيتية، وكان لهذه التجارب أثر سيئ على هذا الشعب المسلم، لدرجة أن إحصاءات الأمم المتحدة ذكرت أن (100) ألف كازاخي قد لقوا مصرعهم من جرّاء هذه التجارب، بالإضافة إلى وفاة أكثر من (29) ألفاً من أطفال كازاخستان قبل أن يُولدوا، وارتفاع نسبة الأمراض النفسية، وانتشار أمراض السرطان بمختلف أنواعها بين أبناء هذا الشعب المسلم بسبب الإشعاعات الناتجة عن التجارب النووية في عهد الاتحاد السوفيتي السابق.
وتزداد مأساة هذا الشعب عندما نعلم أن هذه الأوضاع لم تتغير كثيراً بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991، خصوصاً إذا علمنا أن الشيوعيين السابقين استمروا في السيطرة على السلطة بزعامة نور سلطان نزار باييف رئيس البلاد الحالي، صحيح أن رؤوس علماء المسلمين لم تُقطع كما كان يحدث أيام الشيوعية، ولم تعد المساجد تُغلق وتُحاصر، لكن التضييق على الأنشطة الإسلامية استمر، وإن كان بشكل غير سافر.
الحنين إلى الإسلام
ولكي تواجه الدولة حالة الحنين إلى الجذور الإسلامية لدى غالبية الشعب لجأت إلى عدة خطوات رمزية، مثل: إعادة فتح المساجد، وترمميها، ودعم رغبة آلاف الكازاخيين لحج بيت الله الحرام، وإرسال مئات من الطلاب للدراسة في الجامعات الإسلامية في مصر والسعودية وتركيا لإعداد الدعاة إلى الإسلام.
بالإضافة إلى إحياء الشعائر الإسلامية، وإعادة الاعتبار لبعض علماء المسلمين الذين اضطهدتم الشيوعية الحمراء، وهي كلها خطوات أرادت بها السلطات الشيوعية تخفيف حالة الاحتقان والسخط بين المسلمين.
غير أن هذا الوهم لم يستمر كثيراً؛ إذ رفض نزار باييف الاعتراف بوجود دور للإسلام في إدارة الدولة، بل وصرح كثيراً أن العلمانية التركية هي أفضل الخيارات أمام الشعب الكازاخي، وأصبح يعزف على وتر خوف الكازاخيين من الإسلام الأصولي القادم من أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان؛ لتسويغ خطواته، والتي بدأها برفض إنشاء أي أحزاب إسلامية، حتى ولو كانت معتدلة ترفض اللجوء إلى السلاح لتغير أنظمة الحكم في دولتها، وعلى رأس هذه الأحزاب حزب (ألاشى) الذي رفضت السلطات الاعتراف به كونه حزباً إسلامياً.
وبعد رفض هذا الحزب اتخذ نزار باييف عدة قرارات تعكس رغبته في إخضاع مراكز التدين في كازاخستان جاء في مقدمتها انفصال البلاد عن الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطي ومقرها طشقند في أوزبكستان، وتأسيس دار إفتاء جديدة تحت راية مفتي جديد، منهياً بذلك السيطرة الأوزبكية التاريخية على شؤون مسلمي كازاخستان من عام 1942، فضلاً عن قراره بإنشاء المعهد العالي الاسلامي لتدريب وإعداد الدعاة الكازاخيين.
حملات اعتقال(43/120)
ولم يكتفِ نزار باييف بذلك، بل شن حملات اعتقالات شديدة على الإسلاميين البارزين، وأمعن نظام نزار باييف في طمس الهوية الإسلامية للشعب، فتم فرْض حظرٍ تامٍ على ارتداء الحجاب، وقامت قوات الشرطة بالقبض على العديد من المحجبات وإجبارهن على خلع الحجاب، وتم إغلاق العديد من مراكز تحفيظ القرآن ودار العلوم الشرعية، مستغلة الحرب الأمريكية على الإرهاب في تشديد الحصار على الإسلاميين وأنشطتهم، لدرجة أن كازاخستان استطاعت القضاء -بشكل يقترب من النهائي- على أنشطة الإسلاميين، ولم يكتفِ نظام نزار باييف بذلك، بل فرض قيوداً شديدة على أنشطة بعض جماعات الإغاثة الإسلامية، والتي كانت تعمل لمواجهة الأنشطة التنصيرية الشديدة التي تمارسها إرساليات التنصير الكاثوليكية الغربية، بهدف انتزاع تأييد الدول الأوربية و الغربية لنظام نزار باييف الشمولي، وغض الطرف عن سيطرته على السلطة وإخضاعه لأحزاب المعارضة، فضلاً عن تزويره للانتخابات، وتجهيز ابنه لوراثة السلطة من بعده.
دفاعاً عن الرسول
على الرغم من كل القيود التي فرضها نظام الرئيس سلطان نزار باييف على الإسلاميين، إلا أن الشعب الكازاخي لم يتعاطَ بإيجابية مع رغبات النظام الحاكم هناك، واستمر إقبال المسلمين هناك على عمارة المساجد، وتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم، وإرسال العديد منهم للدراسة في جامعات إسلامية للعودة إلى البلاد، ورفع وعي الشعب الكازاخي بأصول دينه الحنيف، خصوصاً يوم الجمعة، وفي شهر رمضان، فضلاً عن ارتفاع مستوى الوعي بالإسلام، والذي ظهر خلال المظاهرات التي نظّمها الآلاف في شوارع العاصمة تعبيراً عن رفضهم للرسوم المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والتي تورّطت فيها صحف دنماركية ونرويجية، وكذلك اشتراك الآلاف أيضاً في مظاهرة تطالب بحظر توزيع وبيع الخمور في المحلات العامة، خصوصاً في شهر رمضان.
أكدت هذه التظاهرات مدى الحنين الذي يحكم علاقة هذا الشعب بالإسلام، والسعي للعودة لجذوره الإسلامية مهما حاولت السلطات الشيوعية إبعاده عنها، والترويج للعلمانية البغيضة التي لا هدف لها إلاّ مسح هوية هذا الشعب.
قد يتساءل بعض الناس: لماذا لم يحدث اضطراب في كازاخستان من الإسلاميين المعارضين على غرار ما حدث في أوزبكستان المجاورة؟ والإجابة تعود ببساطة إلى الأوضاع الاقتصادية المستقرة في البلاد التي تُعدّ من كبار منتجي النفط والغاز في آسيا الوسطى، وكذلك المعادن والقمح، وعدم وجود احتقان اجتماعي بالدرجة الموجودة في أوزبكستان، وقيام النظام بتحذير الشعب من أن وجود الإسلاميين قد يقضي على هذا الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وتكرار تجربة نظام طالبان في البلاد، وهو ما أوجد حالة خوف نسبي بين الشعب وبين الحركات الإسلامية التي لا يتسم نشاطها بالشرعية، ولا بالقوة على إجبار النظام على تخفيف قبضته و رفع القيود عن الأنشطة الإسلامية.
صحوة إسلامية رائعة
ويعلق الشيخ عبد الستار دربالة المفتي العام لمسلمي كازاخستان بالتأكيد على أن دولته تعيش صحوة إسلامية رائعة في هذه المرحلة، للتخلص من آثار الشيوعية التي سادت البلاد طوال الحكم السوفيتي الذي كان في حالة عداء مستمر مع الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية؛ إذ تشهد البلاد الآن انتشاراً واسعاً للمساجد في جميع المدن، والتي بلغ عددها أكثر من ألفي مسجد تمثل منارات إشعاع ديني لتعريف المسلمين بأمور الإسلام الصحيح خصوصاً أنهم متعطشون للتعرّف على الإسلام.
ونفى "دربالة" وجود أي ضغوط على الإسلاميين أو فرض قيود على الحجاب، أو أداء الشعائر، مشيراً إلى أن الضوابط التي وضعتها الدولة هدفها عدم استخدام المساجد لتحقيق أهداف سياسية أو استغلالها لتكوين جماعات للعنف.
ولفت مفتي كازاخستان إلى اهتمام كازاخستان بجذورها الإسلامية، وليس أدل على ذلك من الانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وتعزيز التعاون مع الدول الإسلامية، وإبرام الاتفاقيات مع عديد من الدول، ومنها مصر لإنشاء جامعة نور مبارك التي تُعدّ الجامعة الوحيدة التي صرحت لها الدولة بإنشاء قسم للدراسات الإسلامية، وتمنح باسم الدولة شهادات رسمية.
وقلل "دربالة" من أهمية تقارير منظمات حقوق الإنسان، والتي تتحدث عن التضييق على الحريات الدينية، مؤكداً أن هذه التقارير تعكس الرغبة في انتزاع تنازلات سياسية لصالح مَن يصدرونها، مشدداً على أن سياسة المعايير المزدوجة تحكم إصدار هذه التقارير.
==============(43/121)
(43/122)
حول نهاية التاريخ وسقوط الإيديولوجيات
أ.د عماد الدين خليل 24/1/1428
12/02/2007
أما نهاية التاريخ التي قال بها المنظر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) فلا تعدو أن تكون افتراضاً، وهو إذا أحلناه على قوانين الحركة التاريخية نفسها يغدو افتراضاً مستحيلاً...
ذلك أن البشرية فُطرت على التغاير والتنوع والاختلاف، وهي معطيات تعكس نفسها على مرآة التاريخ حيناً، والجغرافيا حيناً آخر، وبصيغ شتى قد تبدأ بلون البشرة واللغة، والعادات والتقاليد الأولية، وتنتهي بالنشاط أو الفعل الحضاري بمفهومه الشامل.. وكل المحاولات التي جرت لإلغاء هذه الحقيقة أو تجاوزها، أو القفز عليها، آلت إلى الفشل.
و( فوكوياما) نفسه عاد، بعد سنوات من إصداره كتابه المعروف، لكي يغير ويبدل في بنيته الأساسية، ولكي يعطي المجال للتغاير المحتوم بين الأمم والجماعات والشعوب.
لقد قالها القرآن الكريم بوضوح: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [سورة هود: 118] - إلاّ من رحم ربك- ولذلك خلقهم، أي خلقهم للتغاير والتنوع والاختلاف، وهي من بين جملة من الشروط التي تعين على تحريك الحياة البشرية ودفعها إلى الأمام، وتطهيرها من السكون والفساد: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة: من الآية 251].
في يوم ما حلمت الشيوعية بنهاية التاريخ على طريقتها الخاصة، تستلم البروليتاريا مقاليد السلطان، وتستوي الأمم والشعوب تحت مظلة شيوعية يستوي فيها الجميع، وتذوب خصوصيات وفواصل الأمم والطبقات والشعوب، ويغيب العمق التاريخي، والإرث الحضاري، و لا يتبقى هناك سوى نماذج مكررة تنتظر فرصتها للمأكل والمسكن والجنس.. فماذا كانت النتيجة؟
واليوم يحاول منظر أمريكي كفرنسيس فوكوياما أن يعيد المقولة نفسها، ولكن تحت مظلة الرأسمالية وبقيادة الدولة الكبرى والأقوى: الولايات المتحدة الأمريكية. وهرول المخدوعون بهذا الإدعاء يلقون أرديتهم وخصوصياتهم وإرثهم الثقافي ودينهم وعقيدتهم، وهم يتصورون أن الانتماء للمظلة الجديدة سيمنحهم الخبز والدفء والملذة والأمان.
وفي اعتقادي: فإن نظرية نهاية التاريخ وُلدت كي تموت؛ لأنها ترتطم ابتداء بقوانين التاريخ نفسه!
وأما سقوط الإيديولوجيات الذي أكدته معطيات القرن الأخير الموشك على الانصرام: إذ تهاوت نظرية الرجل الأبيض، والاستعماريات الغربية الكبرى، والشوفينيات العملاقة، والوجودية ذات الإغراء .. والشيوعية السوفيتية الأممية و .. فإنه لا يعني - بالضرورة- عدم قدرة الأيديولوجية أو العقيدة الأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان، على التواصل والديمومة والبقاء.. بل على العكس تماماً: إن سقوط الإيديولوجيات الوضعية يؤكد ضرورة الإيديولوجية الدينية؛ لأنها الوحيدة التي لا تأسرها نسبيات الزمن والمكان، أو تصوغها عقول بشرية، مهما جدت واجتهدت فإنها عرضة للخطأ والقصور والانحياز.. لأنها تفتقد- ابتداء- القدرة الشمولية، والرؤية الموضوعية العادلة، للوجود والمصير.
والعولمة هي إفراز طبيعي تماماً لجملة من الشروط والعوامل التي شكلت الحضارة الغربية المادية عبر القرون الثلاثة الأخيرة.. وهي مزيج مرتبط الوشائج من كل المؤثرات والمعطيات التي تنطوي عليها هذه الحضارة: التفوق العلمي في سياقيه الصرف والتطبيقي، والقدرة العسكرية بتقنياتها الهائلة المتمخضة عن ذلك التفوق.. والإمكانات الاقتصادية الأسطورية.. والمركزية الأوروبية المنسحبة، أو المهاجرة إلى القارة الجديدة، ورؤية الرجل الأبيض للشعوب الأخرى، والعقلية الاستعمارية الباحثة عن تسخير الأيدي والعقول العاملة الأكثر رخصاً وعطاءً، وعن الخامات التي تديم قدرتها على العمل والاستمرار، والأسواق التي تلتهم إنتاجها.. أضف إلى ذلك نبضها الديني الذي لا يزال يخفق تحت أردية العلمانية والإلحاد وينتظر الفرصة للرد على أولئك الذين تحدوه يوماً، وإنزال العقاب بهم.
هذه كلها تجتمع اليوم لكي تشكل منطوق العولمة بفرضياته ومعطياته معاً.. بل إن نظرية نهاية التاريخ نفسها، وبموازاتها نظرية صراع الحضارات لصمويل هنتنجتن وغيرهما من التنظيرات الفكرية تصب هي الأخرى في بؤرة العولمة.
ولنتذكر اللدغة التي تلقتها المنظومة الشرق أقصوية التي طمحت إلى قدر من الاستقلالية في نشاطها الاقتصادي والمالي... إذ سنجد أن الخاسر الوحيد في لعبة العولمة، أو دولابها الأسطوري هي الشعوب الأضعف، مهما كانت مطالبها عادلة ومحقة.
إن خط الغنى والفقر الذي سبق وأن تحدث عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- والذي يمتد على محور طنجة- جاكرتا، فيفصل العالم إلى شمال وجنوب.. لن يكون بمقدور العولمة أن تلغيه بوعودها الخادعة، بل على العكس، وكما هو واضح عبر معطيات العقد الأخير، ستزيده عمقاً، وسيكون عبور الخنادق الموغلة بين الطرفين أمراً مستحيلاً
=============(43/123)
(43/124)
طريق وعرة، ونتائج خطرة
25/4/1425هـ ـ 13/6/2004م
سبق نشر موضوع بعنوان: "خداع الأعداء و مواقف الأذكياء!"
http://www.saaid.net/Doat/ahdal/97.htm
ويبدو مما خطط له المعتدون من اليهود والصليبيين من قادة الصهاينة الأمريكان، أنهم قد نفذوا مرحلة من مراحل خداعهم، وهي تنصيب حكومة معينة من قبل المحتل واقعا، مع اتخاذ الأمم المتحدة واجهة ومُحَلِّلاً، ولهذا صرح قادة العدو المحتل مرارا ولا زالوا يصرحون، أن مندوب الأمم المتحدة هو الذي رتب تكوين "الحكومة الانتقالية" بعد مشاورات مع الشعب العراقي، في شماله ووسطه وجنوبه.
وقد أنطق الله هذا المندوب بالصدق على استحياء، حينما حاصرته وسائل الإعلام، فصرح بأن الحاكم الفعلي الأمريكي للعراق، هو الذي يحل ويربط وأن أوامره هي التي تنفذ في حقيقة الأمر، ووصفه بالدكتاتور!
ومعلوم أن لأمريكا عملاء قدامى من جميع بلدان العالم ومنها العراق، هؤلاء العملاء يظهرون بمظهر المعارضين لأنظمة الحكم الظالمة في بلدانهم، ويصرحون في وسائل الإعلام بأن سبب معارضتهم، مقاومة الظلم والاستبداد والمطالبة بحق الشعوب المظلومة، من العدل والمساواة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي لعمر الله مطالب مشروعة تنشدها شعوب الأرض كلها، وبخاصة الشعوب الإسلامية ومنها العربية.
ويرفع رايتها رجال صادقون أحرار، ويدفعون ثمنها بأموالهم وأنفسهم وجاههم، مع نزاهتهم من تلطيخ سمعتهم بالعمالة لليهود وأعوانهم من الصليبيين الصهاينة، ويجب على الحكام أن يبادروا بتطبيقها من عند أنفسهم، لأنها من أسس وظيفة الحاكم التي لا يجوز أن يفرط فيها، فضلا عن أن يعاشر رعيته بأضدادها...
ولكن هذه الحقوق ـ مع خطرها ـ أصبحت لا فتة يرفعها كثير من الحكام مدعين أنهم أهلها، ويلوح بسيفها البتار دعاتها من زعماء الغرب من اليهود وأعوانهم الصليبيين، متذرعين بها لعدوانهم على الشعوب الإسلامية التي يتلكأ بعض حكامها في تنفيذ أوامرهم الظالمة، بغزوها والسيطرة عليها ونهب خيراتها.
ويختفي وراء تلك اللافتة خدم الاستخبارات الغربية وبخاصة [CIA] وفروعها، ليعيشوا من في ظلها، وكثير ممن يمنحون حق اللجوء السياسي في البلدان الغربية ومنها أمريكا من هذا الصنف، ويُعدون إعدادا خاصا في الدوائر السياسية والاستخبارية الأمريكية وحليفاتها، ويهيئون لهم من الإمكانات المادية والمعنوية، ما يظهرهم بمظهر الوطنيين الأبطال الذين يسعون لتخليص شعوبهم وتحريرها من طواغيت حكامها المستبدين، الذين ينالون من الأمريكان أنفسهم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لفترة معينة يحققون بهم فيها ما يطمعون في تحقيقه من أهداف.
ومن أمثلة ذلك دعمهم للنظام العراقي في حرب الخليج الأولى، لتدمير قوة البلدين المتحاربين: العراق وإيران، ثم إشعار هذا النظام بأن الفرصة متاحة أمامه لتحقيق طموحه بالسيطرة على بعض دول الجوار وثرواتها، وكان ذلك طُعما له أُعد سلفا ليقوم بحرب الخليج الثانية، التي تم فيها احتلال دولة الكويت.
وهدف الأمريكان من ذلك إحداث الرعب في قلوب حكام المنطقة وشعوبها، من هذا المارد الذي لا يمكن أن يقف أمامه لحمايتهم وإنقاذهم منه إلا القوات الأمريكية!
هذا مع العلم أن أمريكا كانت قد أعدت قواتها قبل حرب الخليج الأولى بفترة طويلة، للقضاء على الجيش العراقي القوي وأسلحته والعلماء المتخصصين في برامجه وصناعته، وغزو المنطقة والسيطرة علي منابع البترول، وتمكين اليهود من الهيمنة على أرض فلسطين والدول العربية.
ومما يدل على ذلك تدريب الفرقة الثانية والثمانين قبل الحربين الأولى والثانية بفترة طويلة، في صحراء نيفادا، استعدادا للحرب في الصحراء العربية، وقد كان لهذه الفرقة شأنها في حرب الخليج الثانية والثالثة، وقد صدرت دراسات عن هذا الإعداد والتدريب، ومنها دراسة خاصة بهذه الفرقة...
وقد صرح زعماء أمريكا أن منطقة الخليج تعتبر من المناطق الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، مثل أوربا الغربية واليابان والمكسيك.
والمناطق الحيوية هي التي يحرصون على بقائها تحت سيطرتهم، كبقاء أهم الولايات الأمريكية الخطيرة جزءًا من أمريكا.
وقد صرح الرئيس الأمريكي "نيكسون" في كتابه: "الفرصة السانحة" الذي ألفه قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، بهذه المناطق الحيوية لأمريكا، ولم يزل زعماء أمريكا ولا يزالون يصرحون بخطر منطقة الخليج، وأنها من الخطوط الحمراء المحرم التفريط فيها...
وقصد "نيكسون" بـ"الفرصة السانحة" تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، وسيطرتها الكاملة عليه وترتيبه ترتيبا جديدا، يجعله خاضعا خضوعا كاملا لهيمنتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.(43/125)
ولم يكن الدعم المحدود الذي قدمته أمريكا للمجاهدين الأفغان ومن انضم إليهم من شباب الشعوب الإسلامية، إلا لحماية منطقة الخليج من اقتراب الاتحاد السوفييتي منها، وبقائها تحت السيطرة الأمريكية، بدليل ما قامت به أمريكا بعد طرد الاتحاد السوفييتي من أفغانستان ضد المجاهدين الأفغان، من بث نار العداوة والفرقة بينهم، بصفة مباشرة أو عن طريق العملاء، ثم إحلال الإسلام "العدو الأخضر" محل الشيوعية "العدو الأحمر" في الحرب الشرسة التي لم تماثلها الحرب ضد الشيوعية...
واتخذت أمريكا كل وسيلة لإعلان الحرب على هذا العدو القديم الجديد، وبانت حربها السافرة عليه وعلى أهله من إندونيسيا في الشرق، إلى نيجيريا في الغرب، وأهم أهداف هذه الحرب السيطرة على المنطقة العربية، وأساسها وأخطرها تمكين اليهود من السيطرة الكاملة على الأرض المباركة، وطرد الفلسطينيين منها، وإخضاع الدول العربية للدولة اليهودية...
وكان لهذه الحرب الأمريكية الظالمة أثرها في تأجيج مشاعر المسلمين وإيغار صدورهم، مما جعل بعض الجماعات تتخذ مواقف منفردة في أخذ الثأر من الدولة الظالمة، باسم الجهاد الذي يظهر أن اليهود والصليبيين اخترقوا القائمين به، ويسروا لهم السبل التي تمكنوا بها من تنفيذ ما قاموا به في نيويورك، إن صح أنهم هم الذين قاموا بذلك.
وما إخال المخططين لذلك الهجوم ونحوه والمسهلين لتنفيذه إلا اليهود، وفي كتاب "استئصال الإرهاب" لليهودي "نتنياهو" ما يغلب على ظني أنه كاف لدعم هذه الدعوى، ومن شك في ذلك فليقرأ الكتاب...
استقلال العراق وحريته.
فهل إعلان المحتلين الأمريكان واليهود، إعطاء الحكومة العراقية المؤقتة السيادة على بلادها، وأن قواتها المعتدية سوف لا تبقى إلا بطلب من تلك الحكومة صحيح؟
إن تصريحات القادة الحربيين الأمريكان، وعلى رأسهم زعيمهم الصهيوني في البيت الأبيض، تدل دلالة واضحة، بأن قواتهم ستبقى في العراق حتى تحقق أهدافها التي من أجلها أهلكت الحرث والنسل في العراق.
وأهداف أمريكا واليهود في المنطقة، أهداف دائمة وخطيرة وصعبة التحقيق في فترة قصيرة، كما مضت الإشارة إلى بعضها.
وبقاء جيشها في العراق حتى تحقق تلك الأهداف أمر لا يشك فيه إلا من يجهل تلك الأهداف ويجهل الخداع الأمريكي اليهودي، ولكن أمريكا تريد لهذا البقاء أن يكون مصبوغا بصبغة تظهره مشروعا.
وهو أن تُعين حكومةً عراقية تتفق معها على أن تطلب هذه الحكومة المعينة بقاء هذه القوات، بحجة أنها غير قادرة على حفظ الأمن الداخلي والخارجي، مع العلم أن الجيش العراقي العريق برجال أمنه ورجال دفاعه، جاهز للقيام بمهماته إذا أعيد للعمل.
وجيش العراق ورجال أمنه، هم الأمناء على بلادهم وليس الجيش المعتدي المحتل، وإذا كان يوجد في الجيش العراقي من تلطخت أياديه بدماء الشعب في عهد النظام السابق، فهم قلة لا يجوز تعميم حكمهم على مئات الآلاف من أبناء العراق...
إن القادة الأمريكان يريدون تدريب عدد قليل من الشرطة والجيش في العراق تحت إشرافهم، ليحققوا بهم أهدافهم من حيث يشعر المتدربون أولا يشعرون.
ومن أهم تلك الأهداف ما يأتي:
الهدف الأول: إعادة انتشار القوات الأمريكية، واختفاؤها من الشوارع والميادين في العراق، وتمركزها في قواعد معينة تهمها أكثر من غيرها، ومنها منابع البترول وأنابيب تدفقه، والمناطق الرسمية الحيوية :الإستراتيجية" مثل قصور الحكم التي سمتها "سفارة" مع تشديد الحماية في تلك القواعد...
الهدف الثاني: نشر الشرطة العراقية التي ستُحدد القواتُ الأمريكية عَدَدها وعُدتها وما تحمله وما لا تحمله من سلاح، لتضمن عدم قدرة هذه الشرطة على القيام بمهماتها استقلالا عن تلك القوات، لتبقى ـ في حقيقة الأمر ـ مرتبطة بالقوات المحتلة غير مستغنية عنها، وإن بدت في ظاهر الأمر تابعة لوزارتها، لتثبت بذلك أن الوقت لم يَحِن بعدُ لخروج هذه القوات من العراق، لأنه يترتب على خروجها حدوث فوضى وعد استقرار.
الهدف الثالث: إنشاء جيش هزيل تختار غالبَ قياداتِه وأفرادَه الولايات المتحدةُ في الواقع، وتحدد كذلك ما يملكه من السلاح، بحيث تضمن بذلك عدم قدرة هذا الجيش على حماية حدود العراق ومعابره مع الدول المجاورة، حتى يستمر معه التسلل غير النظامي، سواء في تهريب الممنوعات من الخارج إلى الداخل أم العكس، أو في دخول الفئات المناوئة للحكومة العراقية أو القوات الأمريكية، وهذه حجة أخرى يلزم منها بقاء هذه القوات...
الهدف الرابع: جعل الشرطة العراقية والجيش العراقي هدفا للهجوم الذي تقوم به الفئات المعارضة باسم المقاومة أو غيرها، بحيث يحصل الصدام والقتال بين الجيش والشرطة وبين هذه الفئات، مع نجاة القوات الأمريكية المنحازة إلى قواعدها من الهجمات والتفجيرات التي نالتها في السابق، ولا تتحرك من قواعدها إلا لنجدة القوات العراقية التي يظهر عجزها عن تثبيت الأمن بمفردها، وهذا كما مضى من أهم عوامل بقاء هذه القوات الأمريكية في العراق...
فهل سينال العراق استقلاله وحريته في وقت قريب؟(43/126)
فهل سينال العراق استقلاله وحريته، مع وجود دواعي بقاء القوات المحتلة التي سيتغير اسمها، ويبقى معناها؟
فالاسم الجديد هو قوات الأمم المتحدة، بقيادة القوات الأمريكية، والمعنى هو المعنى الأول: وهو القوات الأمريكية المحتلة، والتسميات المخادعة سهلة، فقد سموا أم الخبائث "المشروبات الروحية" وسموا استعباد الشعوب: "التحرير" كما هو الشأن في العراق اليوم...
أسباب أخرى تجعل طريق الاستقلال والحرية طويلة وعرة
ثم إن هناك أسبابا أخرى كثيرة، تحول بين الشعب العراقي واستقلاله وحريته:
السبب الأول: استمرار الهجمات على الحكومة العراقية وأعضائها، سواء كانت هذه الحكومة مؤقتة كما هو الحال، أو دائمة بالترتيب الأمريكي اليهودي الجديد الذي ستتبعه انتخابات مصنوعة في الغالب صناعة أمريكية يهودية ماكرة، لأن المهاجمين لا يرضون بحكومات مصنوعة على عين الأجنبي المحتل، مهما سمى نفسه...
السبب الثاني: الصراعات الطائفية التي يحاول زعماؤها إخفاءها، وهي صراعات متأصلة قديما وحديثا، وأظهرها الصراع الشيعي السني الذي يحاول زعماء كل من الطائفتين اليوم إخفاءه وإظهار الوئام والتعاون والمصالحة، ونحن نتمنى أن تكون هذه المحاولة صحيحة، ولكن التجارب تدل على خلاف ذلك، وفي معاملة الثورة الخمينية لأهل السنة في إيران، وفي استيلاء الشيعة على بعض مساجد السنة في جنوب العراق بعد الاحتلال الأمريكي، ما يشير إلى خطر الصراع...
السبب الثالث: الخلاف بين طوائف الشيعة أنفسهم، وهو ما نراه اليوم بين الصدر وأنصاره الذين أُهملوا في مجلس الحكم، وبين حزب الحكيم وأنصاره الذين كان لهم الحظ الأوفر فيه، وقد وجهت التهمة إلى الصدر باغتيال الزعيم الشيعي "الخوئي" ولكل أنصاره و جيشه وأسلحته ...
السبب الرابع: اختلاف أعراق السكان، من عرب وإيرانيين وأكراد وتركمان، بعض هذا الاختلاف ظاهر واضح اليوم، كما هو الحال بين الأكراد والعرب، وبعضه فيه خفاء كالعرب والإيرانيين.
فكثير من الشيعة هم إيرانيون وبعضهم لا يحملون الجنسية العراقية إلى الآن، وكل من الطرفين يعرف أصل الطرف الأخر، وعندما يبدأ اقتسام الغنائم الوظيفية والاقتصادية والسياسية، ستبرز النعرات العرقية التي تحاول لغة الدبلوماسية اليوم سترها...
السبب الخامس: الصراعات الحزبية، سواء كانت الأحزاب القائمة الآن، أو التي ستنشأ تحت مظلة الديمقراطية التي يَعِد الأمريكيون بها العراقيين، ومن المتوقع أن تعم الفوضى الشعب العراقي بكثرة هذه الأحزاب...
السبب السادس: التنافس القبلي العشائري، سواء كان هذا التنافس بين عشيرة وعشيرة، أو بين زعماء عشيرة واحدة، فالمعروف عن العرب كما قال ابن خلدون، أنهم لا ينصاع بعضهم لبعض إلا بصبغة دينية، تجمعهم وتبعدهم عن التفرق والأنانية...
ونحن نتمنى من تلك الطوائف والعرقيات والأحزاب والعشائر، أن تراعي مصالح الشعب العراقي العليا التي يفقدها بالاحتلال الأمريكي، فيجتمعوا على تحقيقها، ويراعوا المفاسد التي تصيب هذا الشعب بسبب الاحتلال، فيجتمعوا على دفعها ورفعها.
وعليهم أن يذكروا أنهم جميعا موجودون على أرض العراق، ولكل منهم الحق في العيش على هذه الأرض، مهما كانت أديانهم وعقائدهم، ولا يمكن لفريق منهم أن يزيل وجود فريق آخر ليبقى مستبدا في هذا البلد، فليتعايشوا وليتعاونوا على استئصال سرطان الاحتلال من أرضهم، فهل ستتحقق تمنياتنا؟ نرجو.
السبب السابع: تصادم المصالح الإقليمية، وبخاصة مصالح دول الجوار التي لها تاريخ طويل، قبل المشكلة العراقية، فلكل دولة مصالحها التي ستسعى جاهدة لتحقيق أكبر قدر منها، ضد مصالح الدول الأخرى، وقد تحصل تحالفات بين بعضها ضد بعضها الأخرى، ولكل منها من يؤيد مصالحها من الفئات العراقية السابق ذكرها.
ومعلوم ما تحدثه صراعات الدول الإقليمية على مصالحها في أي دولة مجاورة تَمَّ عَقْرُها، فهم يتصارعون عليها كما تتصارع الحيوانات الضارية على الفريسة، وفي الصراعات الإقليمية على الدولة الأفغانية التي استمرت أكثر من ربع قرن ولا زالت مستمرة إلى الآن عبرة لمن اعتبر.
السبب الثامن: الصراعات الدولية، وبخاصة الصراع الأمريكي الأوربي الروسي، فلكل دولة أو مجموعة دول متحالفة مصالحُ في العراق، وإذا كانت صراعاتها لا تصل إلى درجة الاقتتال، فإن لكل منها أساليبها ووسائلها الخاصة، دبلوماسية وسياسية واقتصادية واستخباراتية، وللشركات المتعددة الجنسيات في كل دولة طريقتها في الصراع، وستتجاوب بعض فئات الشعب العراقي مع هذه الدولة، وبعضها مع تلك...
السبب التاسع: الذهب الأسود الذي يكثر في مناطق من العراق ويقل في مناطق أخرى، وهذا السبب قد يكون أخطر من غيره، لأن كثيرا من الحروب التي حصلت بين دول المنطقة، كان سببها التنافس على قطعة من الأرض فيها مخزون من هذا الذهب، وليس لمجرد أميال فارغة من الصحاري، وإن كان الطمع في التوسع من أسباب تلك الحروب...(43/127)
السبب العاشر: تداعي المغامرين من الشباب المقاتل من العالم كله، وبخاصة أولئك الذين لم يعودوا يجدون ملجأ في أي بلد من البلدان بسبب الحملة العالمية التي تقودها أمريكا عليهم، باسم محاربة الإرهاب، وقد شملت هذه الحملة من لا ناقة له في هذه التهمة ولا جمل.
والدليل على ذلك خروج كثير من المعتقلين في غوانتنامو بعد زمن غير قصير، وهم يحملون شهادة براءة من زبانية التعذيب الأمريكان، وقد رأوا أهوالا من الفتنة والتعذيب والإهانات فيهم وفي زملائهم الذين لا زال الأمريكان الظلمة يعاملونهم معاملة أصحاب الأخدود...
وقد شاهد العالم بعضا مما حصل للمعتقلين العراقيين في سجن "أبي غريب" وهم في بلدهم، فكيف أحوال مَن عزلتهم القوات المعتدية الظالمة في "غوانتنامو" وقد وقف بعض الأمريكان الذين أبت فطرهم ذلك الظلم، ضد تلك المعاملات السيئة الصادرة من دعاة التحرير والديمقراطية وحقوق الإنسان!
يضاف إلى ذلك الإهانات الأمريكية للمسلمين في عقر دارها، عند تمثال الحرية، حيث تعتقل الأبرياء وتزج بهم في السجون، وتبقيهم مدة طويلة بدون محاكمة، ثم إذا حوكموا ظهرت براءتهم...
ولا حاجة إلى تكرار ما قامت به أمريكا، من حرمان اليتامى والأرامل والفقراء في العالم كله، بغلق المؤسسات الخيرية التي كانوا ينالون منها رزقهم...
ولا حاجة لتكرار ما فعلته أمريكا ولا زالت تفعله ضد الشعب الفلسطيني الأعزل...
كل هذه الأمور جعلت الشباب المسلم الذي ظلمته أمريكا وظلمت أقرباءه وبلده وهدمت مساجده ومستشفياته، وقتلت شعوبه، يحاول أن يجد منفذا إلى العراق ليشفي غيظه، وهذا من الأسباب التي ستحول بين الشعب العراقي واستقلاله وحريته، لأن هذا الشباب مستعد للموت، والأمريكان سيحتجون بوجود المقاومة التي تسميها بـ"الإرهاب" الذي لا يمكن أن تخرج قواتها من العراق، مادام هذا الإرهاب موجودا فيه...
السبب العاشر: الإفساد الذي سيقوم به اليهود الحاقدون في الشعب العراقي، عن طريق الموساد وعملائهم من داخل البلاد وخارجها، وما إخال اليهود إلا وراء كثير من التفجيرات التي أصبحت تحصد أبناء العراق حصدا، ولا ينال القوات الأمريكية المحتلة منها إلا القليل، ومن القرائن التي يمكن أن يستدل بها على ذلك، عدم الكشف عن غالب المنفذين لتلك الهجمات، مع سيطرة القوات الأمريكية المحتلة ووجود جواسيسها من داخل البلاد وخارجها، هذا مع العلم أن الجيش الأمريكي لا يمكن أن يخلو من ضباط وجنود يهود، وقد يكون بعضهم من كبار قادة الجيش...
فهل ينتظر أن ينال العراق استقلاله مع وجود تلك الأهداف وهذه الأسباب أو بعضها؟ أقول: كلا.
بل أقول ما هو أعظم من ذلك: لو لم توجد هذه الأسباب التي ستتخذها أمريكا ذريعة لبقاء قواتها في العراق، لأوجدت مئات الأسباب لتحتج بها على ضرورة هذا البقاء الثقيل، وما ذلك إلا لمحاربة الإسلام بشتى الأساليب، ولدعم اليهود ضد شعوب المنطقة كلها، وللسيطرة على خيرات المنطقة...
ولهذا أقول: إن الطريق طويلة وعرة، والنتائج خطيرة مدمرة على الشعب العراقي وعلى القوات الأمريكية المحتلة، وعلى المنطقة العربية كلها!
فلا يركنَنَّ العراقيون إلى وعود الأمريكان لهم بالاستقلال والسيادة على بلدهم ما بقي جندي واحد بطريقة غير مشروعة، وما يظهر من موافقة الحكومات العراقية المؤقتة أو المنتخبة تحت مظلة القوات المحتلة، على بقاء القوات الأمريكية في العراق، لا يعتبر مشروعا، لأن إرادة الشعب الحقيقية تعتبر غائبة عن هذه الموافقة...
وبعدُ: فهل يقطع الشعب العراقي طمعه في الحرية والاستقلال وخروج القوات المعتدية من أرضه؟
أقول أيضا: كلا. لا يجوز أن يصيبه اليأس، فإنه: ?لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ (87)? [يوسف] وإن كان في ذلك صعوبة، لما نرى من صراعات ظاهرة وخفية بين أبناء فئات الشعب العراقي، كغيره من الشعوب العربية.
ولكن هذا الشعب قادر بإذن الله على نيل حريته واستقلاله، وطرد أعدائه الذين استعبدوه باسم الحرية مرغمين، فسوف لا يخرج جيش العدو مختارا، وتاريخ المعتدين على شعوب العالم شاهد على ذلك:
كيف ذلك؟
لقد كتبت عشية سقوط بغداد موضوعا بعنوان: "وبقي العراق"
http://www.saaid.net/Doat/ahdal/79.htm
والجواب باختصار في المخارج الآتية:
المخرج الأول: اتفاق العراقيين على أن القوات الأمريكية قوات مغتصبة ظالمة معتدية، يجب اتخاذ الأسباب المتاحة لإخراجها من العراق، فإذا لم يتم هذا الاتفاق، فلا مخرج، لأن المختلفين سيتصارعون فيما بينهم، فريق يرى هذا المخرج، وفريق آخر يرى بقاء ضده ...
المخرج الثاني: الاتفاق على اتخاذ مواقف موحدة يضطر معها المحتل إلى مغادرة البلاد، ونقل السيادة إلى أهلها حقيقة وليس دعوى وصورة.
ومن تلك المواقف المؤثرة: العصيان المدني للقوات الأمريكية، بعدم التعاون معها في كل ما تحتاج إلى التعاون فيه، من بيع وشراء، وعمل، سواء كان كبيرا أو حقيرا، فلا يعمل معهم عامل نظافة، ولا سائق سيارة، ولا وزير، بل يضرب الشعب كله إضرابا كاملا شاملا عن التعاون معهم.(43/128)
وعندما يرون وجوه الشعب كلها عابسة ساخطة في وجوههم، من الصغير والكبير والغني والفقير، والخادم والوزير، سينزل في قلوبهم الرعب والوهن، واليأس من البقاء في العراق، وهذا لا يمنع من تفاوض أهل الحل والعقد معهم على ترتيب خروجهم من البلد.
ومن تلك المواقف المؤثرة: المظاهرات السلمية الحاشدة المتوالية من جميع أفراد الشعب، في جميع المدن والقرى والأحياء، يشترك فيها الكبار والصغار والنساء والرجال، ورفع اللافتات المعبرة عن كراهة القوة المعتدية المحتلة...
المخرج الثالث: التعاون المتاح مع المقاومة وعدم خذلانها، بالوقوف ضدها مع المحتل، لأن المقاومة مشروعة تدافع عن ضرورات حياة الشعب، والوقوف مع المحتل ظلم وخيانة لا يفعله حر أبي يحب وطنه ودينه وأمته.
وينبغي لرجال المقاومة أن يخصوا بمقاومتهم العدو المحتل، وأن يكفوا عن قتل أبناء شعبهم واغتيالهم، وأن لا يتعمدوا إفساد مرافق بلادهم من مبان وكهرباء وأنابيب بترول وغيرها، لأن في ذلك خسارة لهم وليس للقوات الأمريكية...
المخرج الرابع: إعادة رجال القوات العراقية، من رجال الأمن والجيش لتنظيم وترتيب الشئون الأمنية، من مرور وردع لذوي الإجرام أيا كان نوع إجرامهم، وحماية نفوس الناس وأعراضهم وأموالهم...
المخرج الخامس: كشف العملاء المتواطئين مع الأمريكان، في أي مستوى كانت عمالته، لا فرق بين خادم وضابط ووزير، والأخذ على أيديهم بالحكم الشرعي الذي يستحقونه ويردع أمثالهم من خيانة وطنهم.
وتطبيق هذا الحكم يجب أن يكون عن طريق أهل الحل والعقد، وليس عن طريق الأفراد، لما يحدثه تصرف الأفراد من فوضى ومن تسرع قد يكون فيه تجاوز للمشروع...
هذه هي المخارج المهمة للشعب العراقي من السيطرة الأمريكية اليهودية، وهي التي تتضمنها التوجيهات الربانية التي نزل بها القرآن الكريم.
وأساس تلك المخارج كلها، تقوى الله تعالى:
?وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)? [الطلاق]
واجتماع الكلمة على الحق والاعتصام بكتابه وسنة رسوله:
?َاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)? [آل عمران]
و البعد عن أسباب التنازع المؤدي إلى الفشل:
?وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)? [الأنفال]
وأخذ عقلاء الأمة على أيدي سفهائها الذين يخرقون سفينتها ليغرقوها.
وقد حذر الله تعالى من ترك هؤلاء السفهاء يعيثون فسادا لا تقتصر آثاره عليهم، بل تعمهم وتعم من لا يأخذون على أيديهم:
?وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)? [الأنفال]
كما حذر منهم رسوله صلى الله عليه وسلم
(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا.) [صحيح البخاري (2/882)]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
=============(43/129)
(43/130)
عقيدة الاختيار الحر وجبريات الوضعيين
أ.د عماد الدين خليل 10/12/1427
31/12/2006
في معظم المذاهب الوضعية ليس ثمة اختيار.. فالقوميون ينتمون بالضرورة إلى دائرة لم يكن لهم خيار في الانتماء إليها.. إنهم وجدوا أنفسهم بحكم الوراثة ينتمون إلى هذا العرق أو ذاك.. فأين الخيار اللائق بكرامة الإنسان وحريته؟
والشيوعيون يجدون أنفسهم بحكم ارتباطهم الطبقي في دائرة مقفلة عليهم أن يخضعوا لقوانينها شاؤوا أم أبوا..
والمسلّمون بمعطيات هيغل في مثاليته تأسرهم هم الآخرون مقولات مشيئة العقل الكلي وتجليه المتوحد في العرق الممتاز.
وأما أتباع التحليل النفسي (لفرويد)، والعقل الجمعي ( لدركايم) فيجدون أنفسهم أسرى الجنس والكبت حينا، وسجناء العقل الجمعي حينا آخر..
بينما في الإسلام ينتمي الإنسان بملء حريته إلى هذا الدين بمجرد أن يؤمن إيمانا صادقاً لا شائبة فيه بأن ( لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
وفي آيات قرآنية عديدة يخير الإنسان في الانتماء إلى العقيدة التي يشاء: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ( ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها) ( أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟) ( لست عليهم بجبار) ( لست عليهم بمسيطر)..
بينما في العديد من المذاهب الوضعية يرغم الإنسان بحيثيات المذهب، وجبروت السلطة، وتضليل الإغواء، وحصر الخيارات الفكرية على الانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك.. وكلنا يذكر ما فعلته الشيوعية الأممية والنازية القومية بالشعوب والجماعات التي حكمتها..
إن الفلسفات الوضعية التي تجعل من ( الحتميات) أمراً مبرراً عقلياً، من خلال وضع الخلفيات الفلسفية،( كما فعلت مثالية هيغل ومادية ماركس وانغلز ولنين وستالين على سبيل المثال) إنما توحي أو تغوي أو ترغم بعبارة أدق الانضواء إلى مذهبها.. بينما في الإسلام يتم تجاوز هذه اللعبة بل إدانتها وتعرض الحقائق- كما هي- مستمدة من واقع الوجود الإنساني، ومن ظواهر الكون والعالم والحياة.. ويقال للإنسان ها هو ذا الطريق.. ولك أن تختار..
ولم يكن الفتح الإسلامي يوماً محاولة لقسر الآخر على اعتناق الإسلام، بل على العكس كان الهدف هو تدمير وإزاحة القيادات والطاغوتيات الضالة التي تصد الناس عن اعتناق العقيدة التي تشاء.. ومنح الحرية للشعوب في مشارق الأرض ومغاربها.. لقد كان الفتح عملاً تحريرياً بمعنى الكلمة ولم يكن ينطوي على أي قدر من الاستلاب أو الإكراه.. ولقد عبر قادة الفتح وسفراؤه عن هذه الحقيقة عبر جوابهم الواحد للسؤال المعلق على أفواه كسرى ورستم وقيصر: ما الذي أخرجكم؟!
فيكون الجواب: الله ابتعثنا لكي نخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
والتاريخ دائماً، بوقائعه المتحققة في الزمن والمكان هو خير شاهد على مصداقية المواقف والدعوات.. ولقد اجمع الباحثون من الغربيين أنفسهم على أن النصارى واليهود والصابئة، وأهل الذمة عامة عاشوا في ظلال المسلمين أهنأ حياة ووصلوا أعلى المناصب؛ بل إن بعض الأنشطة الخدمية والمالية كانت من اختصاصهم.
والحديث في هذا الموضوع يطول ويكفي أن يرجع الإنسان إلى كتاب المستشرق البريطاني ( سير توماس أرنولد): الدعوة إلى الإسلام لكي يرى حشوداً هائلة من الوقائع على مدى التاريخ الإسلامي تؤكد هذا الذي ذهبنا إليه. وهو يخاص إلى نتيجة في غاية الأهمية وهي أنه لم يجد، على مدى ثلاثة عشر قرناً من أعمال الفتح وتعامل المسلمين مع الآخر، حالة واحدة أكره فيها غير المسلم على اعتناق الإسلام.
ويقول كذلك إنه لو مورس أي قدر من القسر والإكراه إزاء اليهود والنصارى لما بقي هناك في ديار الإسلام يهودي أو نصراني واحد أما وقد استمرت طوائفهم تنشط وتمارس حريتها الدينية والمدنية فمعنى ذلك أنهم لم يتعرضوا لأي ضغط، خاصة إذا تذكرنا أن العقائد الأدنى بممارستها القسر ضد العقائد والأديان الأعلى فإنها تزيحها من الوجود فكيف الحال بالنسبة للإسلام الذي يحتل موقعاً أعلى من كل العقائد والأديان؟
ثمة مسألة أخرى ونحن نتحدث عن المذاهب الوضعية تلك هي أنها تجبر الإنسان على معطيات نسبية هي وليده انعكاس ظروف زمنية ومكانية محددة قد تصدق وتتلاءم مع مرحلة أو بيئة ما، ولكنها بمرور الوقت تفقد مصداقيتها.. قدرتها على الاستجابة للمتغيرات الإنسانية والموضوعية، ويصير الانتماء إليها نوعا من التشنج على الخطأ والتشبث الأعمى به، وبالتالي نوعاً من التفريط بالحياة البشرية وفرص التاريخ .. بينما يجئ الإسلام وليد رؤية إلهية شاملة تعلو على المتغيرات النسبية المحدودة ، ويضع الانتماء إليها الإنسان في حالة وفاق وتلاؤم مع نفسه ومع الحياة والعالم والكون مهما تبدلت الظروف ومضت عجلة التاريخ.(43/131)
إن المنظور الإسلامي للإنسان أنه من بين الخلائق الكونية كافة منح - ابتداء- حرية الاختيار والانتماء، بسبب من مكانته الخاصة وتفرده وطبيعة تكوينه المزدوج بين الروح والجسد، والعقل والغريزة، وأن حريته هذه قرينة تفوقه وتفرده وسيادته على العالمين. فاختياره إنما هو امتداد لوضعه البشري المتميز. هذا بينما في المذاهب الوضعية يتساوى الإنسان مع الأشياء، بل أنه يخضع لها فيفقد بالتالي تميزه وقدرته على الاختيار
=============(43/132)
(43/133)
الإسلام دين هداية ورحمة واستعصاء.
الإسلام دين رحمة وهداية
أطلق أعداء الإسلام عليه في الغرب مصطلح "العدو الأخضر" في مقابل "العدو الأحمر" وهو "الشيوعية" التي كان الاتحاد السوفييتي يحملها - نيابة عن الدول الشيوعية التي تدور في فلكه - ويحميها ويدافع عنها، ويرد عنها هجمات الغرب الرأسمالي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية...
والإسلام إنما جاء هدى و رحمة للعالمين من يوم نزوله إلى أن تقوم الساعة، وهو ليس عدوا لمن استظل تحت رايته أو سالمه وسالم أهله، بل عدوُّ الناس وعدو تقسه هو الذي يعاديه ويعادي أهله...
الإسلام دين هداية
فقد جاء الإسلام ليهدي الضالين ليتمكنوا بحججه وبيناته من التفريق بين الحق والباطل، كما قال تعالى: ?شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...? [البقرة (185)]
وقال تعالى: ?إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم? [الإسراء (9)]
وهو امتداد للهدى الذي منحه الله تعالى للبشرية من يوم خلق أصلها آدم عليه السلام، وجعله معيارا يفرق به بين المهتدين والضالين، كما قال تعالى:
?قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة(39)]
فمن طلب الهدى في هذا الدين وجَده، ومن أبى فَقَدَه، والناس في ذلك يشبهون المرضى الذين يصف لهم أطباؤهم أدوية أمراضهم، فمن استعمل الدواء شفي بإذن الله، ومن أبى فقد رضي لنفسه بالبقاء في مرضه...
ولهذا خص الله تعالى الهدى في غير ما آية بالمؤمنين المتقين لربهم، لأن هؤلاء هم المنتفعون به، فاستحقوا ذلك التخصيص...
كما قال تعالى: ?ذلك الكتاب هدى للمتقين? [البقرة (2)]
وقال تعالى: ? قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ? [القرة (97)]
رحمة شاملة لكل البشر
والإسلام كذلك رحمة لكل من رغب في رحمة الله من الناس، كما قال تعالى واصفا رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ? [الأنبياء(107)]
فمن طلب رحمة الله في هذا الدين وجدها، ومن أباها ورفضها فقدها، ولهذا خص تعالى رحمته في غير ما آية بمن آمن به وأطاعه، كما قال تعالى: ?وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ? [الأعراف (52)]
وعلى هذا الأساس تُنال رحمةُ الله في الآخرة لمن طلبها في الدنيا بطاعة الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
كما يتبين لك في حديث أبي هريرة، أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى! قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) [صحيح البخاري، برقم (6851)]
ورحمة الإسلام ليست خاصة بالآخرة فقط، وإن كانت رحمة الآخرة هي الأعلى والأغلى والأبقى.
ولكن رحمة الدنيا تسبق رحمة الآخرة، فلا رحمة في الآخرة لمن لم ينل رحمة الله الدينية في الدنيا، ورحمة الله في الدنيا إنما ينالها حقا من اتصل بخالقه إيمانا وعبادة وسلوكا، وطبق شرع الله في حياته، فقام بحق الله وحق نفسه وحق خلقه، على ضوء ما شرع الله في كتابه وسنة رسوله...
وسيأتي بيان شيء من ذلك في سياق أسباب استعصاء الإسلام....
رحمة الله في الآخرة خاصة بالمؤمنين من كل الأمم
وأما رحمته في الآخرة، فهي خاصة بالمؤمنين من عباده، ممن آمنوا برسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، وخاتمهم رسول الله إلى العالمينمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينال رحمة الله إلا من آمن به واتبع صراطه المستقيم.
قال تعالى:
?قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)? [الأعراف]
قال الألوسي رحمه الله:
?ورحمتي وسعت كل شيء? "أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر، ولا مطيع ولا عاص، إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي" [روح المعاني (9/76)]
وقال السعدي رحمه الله:(43/134)
?ورحمتي وسعت كل شيء? من العالم العلوي والسفلي، والبر والفاجر المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا قد وصلت إليه رحمة الله وغمره فضله وإحسانه.
ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: ?فسأكتبها للذين يتقون? المعاصي صغارها وكبارها، ?ويؤتون الزكاة? الواجبة مستحقيها، ?والذين هم بآياتنا يؤمنون? [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان تفسير (1/ص305)]
المسلمون رحماء مجاهدون.
المسلمون هم أهل الإسلام وحاملوه، وهم دعاته وحاموه، وهم أمة إجابة رسوله ومتبعوه، فرض الله عليهم دعوة الناس إلى دينهم كما فرض ذلك على نبيهم:
? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ? [يوسف (108)]
وكلفهم الله بيانَ ما أنزل على رسوله كما كلفه، وحذرهم من التقصير في هذه الوظيفة كما حذره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ? [المائدة (67)]
وقال لهذه الأمة: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)? [البقرة]
وكما أن نبيهم جاء بالهدى والرحمة للعالمين: ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ? [التوبة (128)]
فلهم فيه قدوة حسنة وهدي كريم: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً? [ الأحزاب(21)]
شمول رحمة المسلمين
ورحمة المسلمين لا تحتص بهم فقط، بل هي شاملة لهم ولغيرهم من المخلوقات في الدنيا.
فقد أمر r أمته برحمة كل من أوجده الله تعالى على هذه الأرض، من إنسان وحيوان.
كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء...) [سنن الترمذي (4/323) رقم (1924) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"]
والظاهر أن (مَن) الموصولة في قوله: (ارحموا من في الأرض) شاملة للإنسان مسلما أو كافرا، وللحيوان كذلك، وعلى هذا حمله العلماء.
قال الحافظ رحمه الله: "قال بن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب..." [فتح الباري (10/440)]
وقد وردت أدلة أخرى يدل عمومها على أن هذا الشمول مقصود، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بالتراحم بينهم، كما قال تعالى: ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? [الفتح (29)]
والكفار الذي يكون المؤمنين أشداء عليهم، هم المحاربون لهم المعتدون عليهم، الذين يقاتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، أو يدعمونهم على ذلك ويظاهرونهم، كما هو حال اليهود في فلسطين، وحال قادة أمريكا في مظاهرتهم، وحال هؤلاء في عدوانهم على البلدان الإسلامية.
قال تعالى: ?لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)? [الممتحنة]
ونفى الله تعالى رحمته عمن لم يرحم الناس، كما في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) [صحيح البخاري (6/2686) رقم (6941) و صحيح مسلم (4/1809) رقم (2319)]
وهو نفي عام يدخل فيه كل الناس، والنفي هنا للوعيد والتحذير والتنفير من الغلظة والشدة والعدوان على الناس، ولا يلزم منه حرمان من فقد الرحمة الواجبة من رحمة الله له في الدنيا، بمنحه الرزق والصحة والقوة المادية والذرية وغيرها، سواء كان من المسلمين أو غيرهم، ابتلاء له وامتحانا، لأن رحمة الله في الدنيا تعم جميع خلقه.(43/135)
ومن الأدلة على شمول رحمة لخلق أن جعل من يقوم على اليتامى، بالإنفاق والكفالة الشاملة التي يحتاجون إليها، شركاء لرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما في حديث سهل عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى)
وفرج بينهما شيئا. [صحيح البخاري (5/2032)]
وبين في حديث أبي هريرة أنه يستوي في هذه المنزلة من كفل يتيما من أقاربه أو من غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كافل اليتيم - له أو لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى) [صحيح مسلم (4/2287)]
وهو يشمل كذلك يتامى المسلمين وغيرهم، كما تدل عليه صيغة العموم، لأن "أل" في اليتيم للجنس...
وأنز صلى الله عليه وسلم ، من اهتم بالمحتاجين، وبخاصة الأرامل والمساكين، منزلة المجاهدين في سبيل الله، والمجتهدين في التقرب إلى الله بما يرضيه من فرائض العبادات ونوافلها ليلا ونهارا، كما روى أبو هريرة قال قَال النبي صلى الله عليه وسلم (الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار) [صحيح البخاري (5/2047) وصحيح مسلم صحيح مسلم 4/2286)]
وهذا السعي شامل لكل المحتاجين من المسلمين وغير المسلمين، وشامل كذلك لكل ما يحقق مصالحهم من طعام وشراب وكساء ومسكن وتطبيب ودفع ضر أو ظلم عنهم...
الرحمة بالحيوان
وقد ذكر الرسو صلى الله عليه وسلم لأمته بعض القصص المتعلقة بالرفق والرحمة بالحيوان، حضا لهم على تطبيق ذلك السلوك السوي الذي يحقق رحمة الله العامة بكل مخلوقاته في الدنيا.
ومن أمثلة ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) [صحيح البخاري (2/833) رقم (2234) وصحيح مسلم (4/ص1761) رقم (2244)]
وصح عن صلى الله عليه وسلم ، أن الله غفر لامرأة بغي لسقيها كلبا اشتد عطشه
كما في حديث أبي هريرة: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها) [صحيح مسلم (4/1761) رقم (2245)]
وإذا كان الله تعالى يغفر بعض كبائر الذنوب المسلم برحمة الحيوان والرفق به، فإنه تعالى يعذب من نُزِعت الرحمة من قلبه، فيعذب الحيوان، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:
(دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) [صحيح البخاري (3/1205) رقم (3140) وهو في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (4/2110) رقم (2619]
وفي الجهاد رحمة
الأصل أن يقوم المسلمين بدعوة غيرهم إلى هذا الدين، ليتمتعوا برحمة الله في منهج حياتهم في الدنيا، ولينالوا رضاه ورحمته في الآخرة، تحقيقا لقول الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?
وأساس دعوتهم اللين والحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر الله تعالى بذلك نبيهم، وأمره أمر لهم، فقال تعالى: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ? [النحل(125)]
ولشدة حرص الرسو صلى الله عليه وسلم على إيصال رحمة الله إلى عباده، رغب المجاهدين في سبيل الله في دعوة الناس إلى هذا الدين، ورَبْطِ دعوتهم برجاء ثواب الله الجزيل على هداية خلقه، كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه، عندما أرسله إلى يهود خيبر:
(انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم) [صحيح البخاري (4/1542) و صحيح مسلم (4/1872)
ومع أن المسلمين هداة رحماء، فهم يجاهدون في سبيل الله، من اعتدى عليهم وعلى دينهم، لا يخافون فيه لومة لائم، يحفظون بجهادهم ضرورات حياة البشر، من الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وما يحوطها من الحاجيات والتكميليات، ويحمونها من عدوان المعتدين وظلم الظالمين...
فهم إما يجاهدون دفعا لعدوان المعتدين على المسلمين، وإما لإزالة من وقف أمام دعوة الله في أرض الله، لدعوة الناس إلى عبادة الله، لتقوم بذلك الحجة على خلق الله...
ومن تتبع تاريخ جهاد المسلمين المنضبط بقواعد شرع الله تَبَين له أنه عام شامل لكل نشاط يحقق للمسلمين وللعالم ما فيه صلاحهم وسعادتهم، وأن القتال إنما هو جزء ضئيل من الجهاد الوارد في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وقد بينت أنواع الجهاد وشموله في كتابي "الجهاد في سبيل - الله حقيقته وغايته"(43/136)
ومعلوم كذلك أن الجهاد في سبيل الله لم يشرع لإكراه الناس على ترك دينهم والدخول في الإسلام، وإنما شرع لردعدوان المعتدين، وتحطيم سدود القهر والاستبداد التي تحول بين الناس وبين التمتع بالحرية التي منحهم الله تعالى، فيدخلون في الإسلام بعد إقامة الحجة عليهم بأنه الحق مختارين راضين غير مكرهين، أو يبقون على دينهم الذي اعتقدوه، كما صرح الله تعالى بذلك في كتابه، وجرى على ذلك عمل الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم، وسيبقى كذلك إلى يوم الدين، ما تمسك المسلمون بهذا الدين:
?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [البقرة (256)]
ولكن يجب على من رغب في البقاء على دينه، أن يلتزم بنظام الأمة العام الذي يأمنون فيه على ضرورات حياتهم وما يكملها.
الرائد لا يكذب أهله.
هذه دعوى نعلنها للناس في مشارق الأرض ومغاربها، بأن هذا الدين، ليس عدوا لأحد من البشر، وإنما هو رحمة للعالمين، ونحن نؤمن بذلك إيمانا صادقا لا يشوبه شك، لثلاثة أمور:
الأمر الأول: اعتقادنا الجازم بأن القرآن حق، وأن الرسو صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإسلام هو الدين الحق الذي يعتبر كل ما يخالفه من الأديان والمبادئ باطل وليس بحق...
الأمر الثاني: دلالة الواقع التاريخي في العصور التي طبق فيها الإسلام على صحة ما نقول.
فقد سعد الناس الذين حظيت بلدانهم بدخول المسلمين فيها بما، لم يكونوا يحلمون بع من العدل والرحمة والحضارة، في ظل الإمبراطوريات اليونانية والفارسية والرومانية.
والشاهد على ذلك أن غالب تلك الشعوب أصبحت تدين بالإسلام، بالدعوة المجردة من السلاح في أغلب المعمورة، ولم يستعمل المسلمون السلاح إلا عندما وقف الطغاة المستبدون ضد حرية الدعوة وضد سماع شعوبهم الحق سواء آمنوا به أم لا؟
والدليل على ذلك قلة الشعوب التي فتحها المسلمون عنوة، وكثرة الشعوب التي دخلت في الإسلام عن طريق التجار والدعاة المخلصين... في بلدان آسيا وأفريقيا وغيرها...
الأمر الثالث: المقارنة النظرية بين ما تضمنه القرآن والسنة والسيرة النبوية، وأبواب التشريع الإسلامي في كتب الفقه وغيرها، عن حقوق الإنسان، رجلا وامرأة، صغيرا وكبيرا، فردا وأسرة، ومجتمعا، حاكما ومحكوما، وبين ما تضمنته القوانين الدولية المعاصرة في ذلك...
إن المنصف الذي يقارن بين ما تضمنه الإسلام وبين ما تضمنته تلك القوانين، يتجرد من التعصب والهوى، سيجد في تشريع الإسلام كل ما تضمنته تلك القوانين من إيجابيات في أعلى صورها والمزيد الذي لم تتعرض له، مع تجنبه التشريع الإسلامي من السلبيات التي احتوت عليها تلك القوانين.
ونحن ندعو الشعوب غير الإسلامية وبخاصة المفكرين منهم والمثقفين القادرين على دراسة حقيقة الإسلام، وبخاصة الغربية منها، أن تجتهد في دراسة المبادئ الإسلامية في القرآن والسنة، وفي كتب الفقه الإسلامي، ويُعمِلوا عقولهم متجردين من دعايات من نصبوا أنفسهم أعداء للإسلام والمسلمين، من بعض الساسة والإعلاميين وبعض رجال الكنيسة المتعصبين مع الصهاينة، ليطلعوا بأنفسهم على عظمة الإسلام الذي لو حمله أي شعب من شعوب الأرض، في الغرب أو الشرق، لقاد بع العالم إلى مراقي التقدم والحضارة النافعة السليمة من آفات الظلم والفساد الذي انتشر في الأرض اليوم بسبب البعد عن منهج الله.
الأمر الرابع: المقارنة بين أحوال الأفراد والأسر والشعوب الإسلامية المعاصرة، مع ما هو معلوم من عدم تطبيقها الكامل للإسلام، ومع ما يعانيه كثير منها من فقر وظلم وشظف عيش، وبين أحوال الأفراد والأسر والمجتمعات غير الإسلامية، مع ما هي فيه من غنى ورخاء وحضارة مادية عظيمة، لمعرفة أي الفئتين أكثر سكنا وطمأنينة في الحياة.
إننا ندعو الغني غير المسلم الذي حاز في دنياه كل ما تشتهيه نفسه، أن يقارن بين نفسه وبين كثير من ذوي الفقر المدقع من المسلمين.
وندعو المرأة غير المسلمة التي تيسرت لها غالب سبل الراحة المادية، أن تقارن بين نفسها وبين المرأة المسلمة التي تعيش في وضع يقول عنه الغربيون: إنه وضع بؤس وشقاء...
وندعو الأسرة غير المسلمة المتحضرة ماديا القليلة العدد الكثيرة الرفاه، أن تقارن بين نفسها وبين الأسرة المسلمة، الكثيرة العدد، القليلة الأرزاق....
وندعو المجتمعات غير المسلمة، أن تقارن بين نفسها، وهي تملك المال الوفير، والرزق الكثير ووسائل العيش المادي المريح، وبين المجتمعات الإسلامية التي لا تملك كل ذلك...
ثم ليوازن أولئك الأفراد، وتلك الأسر، وألئك المجتمعات، بين راحتهم النفسية واطمئنانهم المعنوي، وما يحصل بينهم من تعاون وتعاطف، وتراحم وتكاتف، وبين ما يحوزه غالب الأفراد والأسر والمجتمعات المسلمة، ولو لم يطبقوا الإسلام كاملا، في ذلك كله...(43/137)
وإنا لنتمنى أن تتاح الفرص لغير المسلمين، أفرادا وأسرا، أن يزوروا الأسر الإسلامية في البلدان الإسلامية وفي غيرها، ليطلعوا على ما يطبق من الإسلام وأثره على حياة المسلمين، وليعرفوا أن كثيرا من زعمائهم وأجهزة إعلامهم ومثقفيهم، شوهوا صورة الإسلام والمسلمين في عقولهم ونفروهم منه، وأن الأولى بهم أن لا يقلدوا أعداء الإسلام تقليدا أعمى، فيعينوا قادتهم من السياسيين والعسكريين والإعلاميين والمتصهينين، على حربه وهو جدير بالدفاع عنه وبمسالمته...
لقد حرمكم قادتكم بتشويههم حقائق الإسلام والتجني عليه، من رحمته وعدله وأخُوَّته، والنجاة من سلبيات الحضارة المادية التي ذقتم منها القلق والأسى، ولو أنها بنيت على أساس الإسلام لكان لكم شأن آخر، ربما تصبحون بفضل استجابتكم للإسلام قادة العالم بحق، تنشرون فيه وفي أوطانكم الأمن والسلام، بدلا من نشر قادتكم الظلم والعدوان.
لقد خدعكم قادتكم وخانوكم وكذَبُوكم، و الأصل أنه "لا يَكْذِبَ الرائدُ أهلَه!"
ادرسوا الإسلام يا أهل الغرب من مصادره، وإذا رأيتم بعض أهله لا يطبقونه في حياتهم، بل يتعاونون مع زعمائكم على حربه، فانظروا للمنهج ولمن يطبقه وحكموا عقولكم لا عواطفكم وأهواءكم، فالعبرة بالمنهج لا بمن يخالفه من أهله..
=============
معالم في قضيتنا الكبرى.. فلسطين
د. سليمان بن حمد العودة
مهما تحدث الناسُ عن اليهود، ووصفوا طباعهم ونفسياتهم فلن يبلغوا مبلغ القرآن في ذلك، وكفى أن يستيقن المسلمُ شدةَ عداوتهم وهو يقرأ قوله ـ تعالى ـ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [المائدة: 82]، وأن يعلم نوعية سعيهم في الأرض من قوله ـ تعالى ـ: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا } . [المائدة: 64].
أجل إنهم ملعونون على لسان أنبيائهم بما عصوا وكانوا يعتدون، وقساةُ قلوب بشهادة الذي خلقهم وهو العليم الخبير: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [المائدة: 13]، وهم أسرع الناس للإثم والعدوان بشهادة القرآن على أكثرهم: {وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62].
والحديث هنا ليس وصفاً لليهود أو استجماعاً للنصوص التي تكشف طبائعهم ومواقفهم وخبثهم؛ فذلك له حديث خاص ـ وإنما يتركز حديث اليوم على قضيتنا الكبرى مع اليهود بمعالمها وأبعادها وطبيعة الصراع فيها لا سيما ونحن نسمع ونرى ـ هذه الأيام ـ أحداثاً دامية واعتداءاً صارخاً على المسلمين، ومحاولات تتكرر للعبث بمقدساتهم، واستفزازاً أهوج لمشاعرهم، وما الحوادث التي تدور رحاها الآن في فلسطين وراح ضحيتها عددٌ من القتلى ومئات من الجرحى إلا حلقة في هذا المسلسل الإجرامي الحقود.
وحتى ندرك حجم القضية ونعلم طبيعة المعركة مع اليهود نورد سؤالاً ثم نجيب عليه أو على بعضه.. والسؤال يقول: ما هي أبرز المعالم في قضيتنا الكبرى مع اليهود؟
والجواب:
1- ليست قضيتنا مع اليهود قضية أرض مجردة يمكن أن نتقاسم فيها النفوذ وأن نتعايش بسلام: كلا؛ فالقضية قضية مقدسات إسلامية، وحقوق مغتصبة، قضية حق يمثله الإسلام والمسلمون تُطمس هويته ويُشرد أبناؤه، وباطل تمثله اليهودية المحرفة، وينتصر له اليهود المغضوب عليهم والنصارى الضالون ـ قضيتنا لها بُعدها العقدي ولها امتدادها التاريخي.
2- وليست قضية فلسطين بمقدساتها وتاريخها قضية العرب وحدهم ـ كما يريد الغرب ومن سار في ركابه أن يُشيعوه ـ: بل هي قضية كل مسلم على وجه البسيطة يؤمن بالدين الحق ويستشعر عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وينتمي لهذه المقدسات.
3- والقضية ـ كذلك ـ ليست حقاً خاصاً لمسلمي اليوم يتصرفون فيها كيفما شاؤوا، ويتنازلون إذا اتفقوا: كلا.. بل هي ميراث وأمانة.. ميراث عن الآباء وأمانة لا بد من تسليمها للأبناء؛ فقد فتحها أسلافنا بدمائهم، وحرروها بصدق عقيدتهم وجهادهم، ولا يحق لنا أن نهدر هذه الجهود حين غاب المحررون، كما لا يسوغ لنا أن نحجر على مسلمي الغد فنكبلهم بمعاهدات سلام هزيلة، ونبيع حقنا وحقهم بأبخس الأثمان.(43/138)
4- ما هي اللغة التي تفهمها إسرائيل ويحتاجها العرب والمسلمون؟ إنها لغة القوة، وبهذه القوة استسلم اليهود عبر التاريخ؛ وإذا تجاوزنا تاريخهم قبل الإسلام، ووقفنا عند تاريخهم في المدينة مع صلى الله عليه وسلم والمسلمين رأينا كيف كان غدرهم ونقضهم للعهود، ورأينامحمدا صلى الله عليه وسلم يتعامل معهم بالحصار والإجلاء، بل وتقديم طوائف منهم لتحصد رؤوسهم ويساقون إلى الموت وهم ينظرون، وكيف لا يكون ذلك وقد نقضوا العهود، وألَّبوا الأعداء، ودلُّوا المشركين على عورات المسلمين في أُحُد، ثم كانت غزوة الخندق ومجيء الأحزاب بتخطيطهم مع مشركي قريش؛ وآخر طائفة منهم تماسكت على العهد خوفاً من المسلمين حتى إذا لاحت لهم الفرصة غدرت بنو قريظة في أشد الظروف وأحلكها على المسلمين؛ وتلك التي قال الله عنها: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10 } هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . [الأحزاب: 10، 11] .
ذلك نموذج لغدر اليهود في زمن النبوة، وذلك أسلوب نبوي للتعامل معهم، وهدي المرسلين صالحٌ للاعتبار والاقتداء في كل زمان ومكان.
5- ما مفهوم إسرائيل للسلام، وما هدفُها من إشاعة مفاهيم السلام؟ إننا نخادعُ أنفسنا حين نعتقد أن إسرائيل جادةٌ في تحقيق السلام؛ والواقع يشهد بإفلاس المسرحيات الهزيلة للسلام، ومن كامب ديفيد بمراحله المختلفة وأدواره المكشوفة، إلى مدريد أو غيرها من محطات السلام استَسمن المخدوعون بالسلام ورماً، فإذا الجبلُ يلد فأراً، وإذا الانتقام يعقب السلام ومدادُه لم يجف بعد، فتتحدثُ الديانة المجنزَرة باسم السلام الذي تريده (يهود) وينطق الرشاس، وتحوم الطائرات المروحية، وترمى الطلقات المطاطية وغيرها ـ بشكل عشوائي لتصيب الأطفال والنساء والشيوخ .. وتكون هذه وتكون هذه؛ وتلك لغة السلام المعبرة في ذهن إخوان القردة والخنازير؟! وَمَن صنع مسرحية السلام؟
موقف إسرائيل من السلام ليس على ظاهره؛ بل دافعها للسلام إظهارُ نفسها ـ للعالم ـ بصورة الإيجابية المحبة للسلام ـ وذلك لتستقطب الاستثمارات وتفتح الأسواق الخارجية؛ تعزيزاً لاقتصادها. أو هي باختصار كما يقول أحدُ اليهود(1) وهو شاهد من أهلها: «ليست (عملية السلام) سوى حملة علاقات عامة لترويج إسرائيل»(2).
6ـ وقفة إشادة وتقدير لأطفال الحجارة الفلسطينيين الذين أرعبوا اليهود: لكن السؤال المهم: هل بلغت أمة المليار حداً من الضعف حتى أنابت عنها في قتال الأعداء أطفالاً لا يملكون إلا الحجارة يقاتلون بها اليهود ويرهبون بها مَنْ وراء اليهود؟
وفي المقابل فإن أمة مدججة بالقوة وتعد ترسانة للسلاح النووي وغيره يرهبها أطفال عزل من السلاح؛ ليست خليقة بالبقاء ولا قادرة على الصمود والتحدي حين يتوفر المجاهدون الصادقون، عجَّل الله وجودهم.
7- الغرب ومنظمات الجهاد والأصولية: ومن هنا يُعلم سر تخوف الغرب واليهود من تنظيمات الجهاد وصيحات المجاهدين وما يسمونهم بالأصولية، ومحاولاتهم تشويه صورتهم ووصف المجاهدين بالإرهابيين؛ ذلك لأنهم يدركون أن هؤلاء عدوُّهم الحقيقي، وهؤلاء هم خطرهم المستقبلي يصرحون بذلك في كتبهم ولا يكتمونه، يقول الرئيس الأمريكي (نيكسون): «إن صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب وإسرائيل والدول العربية المعتدلة من جانب آخر»(3).
ومن جانب آخر يعلنون بكل صراحة ويقولون في ملتقياتهم العامة: على روسيا وأمريكا أن تعقدا تعاوناً لضرب الأصولية الإسلامية.
ويقولون ـ كذلك ـ: «علينا نحن الأمريكان والروس تناسي خلافاتنا والتحالف معاً لضرب الإسلام»(4) فهل يا تُرى يستفيق المغفلون الذين يرددون ما تردده الدوائر اليهودية والنصرانية في الغرب والشرق عن إخوانهم المسلمين؟ وهل ندعم الجهاد الحق ـ وهو ذروة سنام الإسلام ـ ليكون الفيصل بيننا وبين أعدائنا، وهو أقصر الطرق وأنفعها لاسترداد حقوقنا وتحرير مقدساتنا؛ «وما ترك قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا».
يا للخيبة والعار حين يُسارع ممثلو الفلسطينيين لاستجداء الآخرين في صفقات السلام الهزيل وهم المُعتدى عليهم في الوقت الذي يرفض فيه زعماء إسرائيل حضور هذه الملتقيات وهم المجرمون المعتدون؟
لا بد من تحقيق الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وفي كتابنا العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51 } فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ّ}. [المائدة: 51، 52].(43/139)
8- بين الحماس الشعبي والتَّراخي السياسي يبرز مَعْلَمٌ من معالم الموقف في قضيتنا الكبرى: فالمتأمل في الأحداث الجارية مع اليهود في فلسطين يلاحظ حماساً وعاطفةً إسلامية تنفذ في قلوب الشعوب العربية والإسلامية منددة باليهود، ليس فقط في حدود فلسطين بل وخارجها، ومن أطفال الحجارة إلى المنظمات الجهادية ـ إلى المظاهرات الطلابية. وفي أرض الكنانة (مصر) نموذج لهذا الحماس الإسلامي تجاه المقدسات وتجاه الدماء الإسلامية، وفي مقابل ذلك هناك فتور وتراخ في الموقف السياسي ممن يملكون القرار، ولا يزالون يحملون حقائبهم للمفاوضات الخاسرة على الرغم من النكسات المريعة والصلف اليهودي المثير، ولا تزال الشعوب العربية والمسلمة تتطلع إلى قرار جماعي وموقف بطولي يضع حداً لعنف اليهود وينهي مرحلة الذل والاستسلام.
9- ضعف الإعلام العربي والإسلامي في خدمة قضية فلسطين: نلاحظ ضعفاً في إعلامنا العربي والإسلامي تجاه قضية فلسطين الكبرى، وللإعلام دورُه في إذكاءِ حماس الشعوب، بل وفي الضغط لاتخاذ مواقف جادة مع بني صهيون.. وماذا يصنع الإعلام الغربي واليهودي لو أن طفلاً يهودياً قتله المسلمون؟ فكيف بمجموعة من الأبطال والرجال والنساء يُقتلون؟ وكيف والعبث بالمقدسات والاستفزاز في الزيارات ديدن اليهود؟ والمأساة هي التغفيل من قبل الإعلام إلا عواطف مجردة تخرج عند الحدث ثم لا تلبث أن تخبو وكأن شيئاً لم يكن.
أما الإعلام الكافر فمعروف بتحيزه وخدمته لقضايا فكره والدفاع عن أبناء جنسه وملته، وهو غير ملوم في ألاَّ نخدم قضايا المسلمين، ولكن الملوم إعلام العرب والمسلمين؟ على أن أمر القضية الكبرى ليس مسؤولية الإعلاميين وحدهم، بل ورجال الفكر وأساتذة الجامعات؛ وذلك بإثراء القضية بأحاديثهم وبحوثهم ومقالاتهم وكتبهم؛ فأين هؤلاء جميعاً من قضيتهم وبكل نزاهة وتجرد وصدق وإخلاص؟
10- الهيئات والمنظمات الإسلامية والقضية: إن سؤالاً وجيهاً يطرح نفسه: كم في العالم العربي والإسلامي من هيئة ومنظمة إسلامية، وأين دورها وما أثر هذا الدور في خدمة القضية؟ وهل يقارن أثرها وجرأتها بالمنظمات والهيئات الغربية؟ أم أصيبت بنوع من الإحباط لكثرة رزايا المسلمين، سواء كان هذا أو غيره من الأسباب فلا يُسوَّغ صمتها في بيان الموقف الإسلامي بعيداً عن أي مؤثراتٍ أخرى، ولا يعفيها من المسؤولية إن جاء صوتها متأخراً وهزيلاً؟ وأي هيئة أو منظمة إسلامية لا يعنيها شأن المقدسات ولا تستنكر نزيف الدماء المسلمة، ولا تندد بظلم الطغاة والمجرمين فماذا تُقِرُّ، وماذا تستنكر؟
وللحق أن يُقال: إن ثمة هيئات ومنظمات إسلامية تستنكر؛ لكن الحديث عن الأعم والأغلب، وهو دون المستوى المطلوب في حجمه وفاعليته!
11- بين خسارتين: لا شك أن سقوط عددٍ من القتلى والجرحى في أرض فلسطين خسارة للفلسطينيين والمسلمين، ولا شك أن إرهاب الآمنين من المسلمين في الأراضي المحتلة يُسيء للفلسطينيين وعموم المسلمين، ولكن الخسارة تصبح أعظم لو سار قطارُ السلام واستثمره اليهود والنصارى لصالحهم ضد المسلمين، فتمَّ التطبيع، وصدَّرت إسرائيل أفكارها وعقائدها، وروجت للمخدرات، وانتشر الفساد الخلقي، وراج سوق البغايا. إن حُمق اليهود واستفزازهم أشعل فتيل العداوة ضدهم وذكَّر المسلمين بأهدافهم ومخططاتهم، واستيقن من لم يستيقن من المسلمين بعدم جدوى عمليات السلام وضرورة الاستعداد للمواجهة مع اليهود مستقبلاً، وهذه وتلك إيجابيات للأحداث {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19].
12- تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى: تلك حقيقة قرآنية تكشف عن تنازع اليهود واختلافهم ـ فيما بينهم ـ وهم كذلك في القديم والحديث، وينبغي أن يدرك المسلمون هذا الخلل عند اليهود، ويستفيدوا منه لصالح قضيتهم، ولئن ظهر للناس اليوم أن اليهود متفقون ومتماسكون في فلسطين فليس الأمر كذلك؛ بل تشير الدراسات إلى عددٍ من المشاكل التي تُقلق مضاجعهم؛ فهم أحزاب متناحرون، ووصل الأمر إلى قتل المتطرف منهم ـ للمعتدل ـ في نظرهم ـ وإن كانوا في نظرنا متطرفين، والهجرة المعاكسة والخروج من فلسطين لدى بعض اليهود بسبب عدم توفر الأمن لليهود يقلق الإسرائيليين، كما يقلقهم عدم استجابة السكان اليهود لدعوى تكثير النسل، ولا سيما أنهم اكتشفوا أنه مقابل كل شهيد فلسطيني يُولد عشراتٌ من الفلسطينيين، وهكذا الطبقية المقيتة تزعج اليهود، ولو أن المسلمين صدقوا في جهادهم لاكتشفوا كثيراً من طباعهم وعناصر الضعف فيهم.(43/140)
وأقف ويقف غيري متسائلاً: وماذا ستتمخض عنه هذه المشاعر العربية والإسلامية الغاضبة تجاه ما يصنعه اليهود اليوم في أرض المقدسات؟ ولئن قيل إنها ستنتهي عند حدود الشجب والاستنكار كما حدث في مجزرة الخليل ومذبحة صبرا وشاتيلا وسواها من أحداث دامية ارتكبها اليهود، وهي مسطورة في تاريخهم الأسود؛ فهناك من يقول: إنها وإن كانت كذلك في المنظور القريب، فإنها على المدى البعيد ستشكل ـ هذه المآسي ـ أرضية تنبت العزة والكرامة لدى الشعوب العربية والمسلمة، وستكون سلاحاً يُقاتل به اليهود، وسينشأ في هذه المحاضن الصعبة أطفال يرضعون كره اليهود ومن شايعهم مع حليب أمهاتهم، وسيكونون رجال المستقبل يقاتلون وهم صادقون، ويصبرون حتى ينتصروا.
ولكنها مأساة بحق مسلمي اليوم حين يلوذون بالصمت وهم يرون الحقد اليهودي يتزايد، والدعم الغربي لدولة الصهاينة يتفاقم، والهيئات والمنظمات الدولية تتفرج، بل ربما تتلذذ بمشاهدة المسرحيات وهي تُنفذ وهم خلف الستار.
أجل لا يسوغ لأمة ولدت أطفالاً يقاومون بالحجارة أن تظل تتفرج على هؤلاء الأطفال وهم يقضون نحبهم ـ كما يتفرج غيرهم ـ دون أن ينصروا مظلوماً أو يردعوا ظالماً؛ وماذا سيكون موقف الحكومات الإسلامية التي تورطت بعلاقات واتفاقات اقتصادية أو ثقافية أو عسكرية أو نحوها مع إسرائيل وهي تفعل اليوم ما تفعل بأبناء فلسطين ومقدسات المسلمين وإخوانهم المسلمين؟! إنها مأساة حين يتفرج أبناء الملل الأخرى على ما يحصل لأبناء المسلمين ولسان حالهم يقول: أين أهل هؤلاء؟ أين أبناء ملتهم؟ أليس دينهم يقول لهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10] أليس بينهم من يقول لهم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»(5)، فأين حقوق الأخوة؟ وأين وسائل النصرة؟
البعد الديني في القضية الكبرى:
قضيتنا في فلسطين وحربنا لليهود لها بُعدٌ ديني ليس فقط عندنا معاشرَ المسلمين، بل وعند اليهود والنصارى، ولكن الفرق أن لنا وعداً حقاً ولهم وعدٌ مفترى، أما وعدنا الحق فأساسه الكتاب المحفوظ وبشارات المصطفى صلى الله عليه وسلم بقتل اليهود وبمساعدة الشجر والحجر على قتلهم إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، وأحاديث نزول المسيح ـ عليه السلام ـ في آخر الزمان، وأنه سيقتل اليهود والنصارى ويحكم بالإسلام، وما ورد أن بلاد الشام ستكون معقلاً للمسلمين، ومنها يقاتلون الروم، إلى غير ذلك من وعودٍ صادقة تؤكد أهمية بلاد الشام للمسلمين ومنها فلسطين، وما سيكون فيها من ملاحم بينهم وبين أعدائهم هذا كله فضلاً عن تعلُّق المسلمين بالمقدسات هناك وشعورهم بضرورة حمايتها من الخطر اليهودي والنصراني.
أما الوعد المفترى لليهود فيقوم على نصوص محرفة في التوراة يقول أحدها ـ كما في الإصحاح الخامس عشر ـ: «يقول الرب ـ تعالى عما يقولون ـ لنسلك (يعني يعقوب) أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات».
وفي الإصحاح السابع والعشرين تتمة ذلك: «يُستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين»، ومن هنا قال بن جوريون (رئيس أول حكومة يهودية): «تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته وهو: الوعد الإلهي والأمل بالعودة...» والملاحظ أن هذا البعد الديني لا ينفرد به اليهود بل يشاركهم فيه النصارى، ولا يقتصر الأمر فيه على بني صهيون بل يصرح به ساسة الأمريكان، يقول كارتر: «لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة؛ لأنها متجذرة في ضمير الشعب الأمريكي نفسه وأخلاقه ودينه ومعتقداته، لقد شكَّل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون، ونحن نتقاسم ميراث التوراة»(6).
ويقول الأصولي النصراني (مايك إيفانز) ـ وهو صديق الرئيس (بوش) وصاحب علاقات حميمة معه ـ يقول: «إن تخلي إسرائيل عن الضفة الغربية سوف يجر الدمار على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة الأمريكية من بعدها، ولو تخلت إسرائيل عن الضفة الغربية وأعادتها للفلسطينيين فإن هذا يعني تكذيباً بوعد الله في التوراة، وهذا سيؤدي إلى إهلاك إسرائيل، وهلاك أمريكا من بعدها إذا رأتها تخالف كتاب الله وتقرها على ذلك»(7).(43/141)
ومن هنا يلتقي اليهود والنصارى على هذا الوعد المفترى، ويتكئون على البعد الديني في سياستهم مع المسلمين؛ فهل يفقه المسلمون هذا؟ بل وهل يدركون تخطيط اليهود والنصارى وخطواتهم في إيجاد إسرائيل أصلاً، ذلكم بُعْدٌ آخر يمكن أن نسميه: (أساس المشكلة) فكيف وجدت وقامت إسرائيل؟ إنها ربيبة الغرب، خاض من أجلها الحروب وعقد لها الاتفاقات والتزم لها بالوعود؛ ودونكم هذا التحليل للحروب الكونية فتأملوه وانظروا في آثاره؛ فالحرب العالمية الأولى كان من آثارها بل من أغراضها تقسيم الدولة العثمانية، والقضاء على الخلافة الإسلامية، وإعلان حق اليهود في تأسيس دولتهم رغم أنف عبد الحميد (البطل) الذي رفض عروضهم المغرية، وتأسيس دولة عظمى على العقيدة اليهودية الشيوعية، وحينها دخل الجنرال اللَّنبي أرض الشام وركز الراية قائلاً: «الآن انتهت الحروب الصليبية»، وأصدر الإنجيلي المتعصب (بلفور) وعده المشؤوم بإنشاء وطن قومي لليهود.
أما الحرب العالمية الثانية فكان من أغراضها ونتائجها القضاء على النازية منافسة الصهيونية، وإعلاء شأن الحكومة اليهودية الخفية (الشيوعية)، وإعلان ميلاد إسرائيل.
أما الحدث الثالث فهو الوفاق الدولي (اليهودي والنصراني) حيث تقرر انتهاء دور العقيدة الشيوعية، ليعود اليهود والنصارى عصا غليظة وأداة لتهشيم رأس العدو المشترك (المسلمين) ويفتح الباب لهجرة أكبر تجمُّع يهودي في العالم بعد أمريكا، وليصبح جيش الدفاع الإسرائيلي بوليس المنطقة كلها، وتبعاً لذلك فلا بد من إجهاض أية محاولة عربية وإسلامية للحصول على السلاح النووي أو بديله المحدود الكيميائي، والعمل على تمزيق الأمة، ومن هنا جاء سيناريو حرب الخليج ليقضي على قوة العرب وليقضي معه على تجمع العرب ووحدة المسلمين، ولا تزال التهديدات الغربية لباكستان المسلمة جارية، وكأن العرب والمسلمين سفهاء لا بد من الحَجْر عليهم ومنعهم من صناعة أسلحة نووية أو حيازتها، والهدف حماية اليهود والنصارى من الخطر المستقبلي؛ فهل نفقه اللعبة؟ وهل ننطلق في قضيتنا من البعد الديني والتخطيط المستقبلي، أم أن ذلك حلٌّ لأصحاب الديانات المحرفة حرام على أصحاب الدين الحق؟!
سقوط الشعارات الخادعة
إن وعينا ـ معاشرَ المسلمين ـ بهذا التاريخ ومعرفتنا بهذه المسرحيات يجعلنا لا ننخدع بالشعارات البراقة التي يروجها ويصدرها الغرب لنا، بل إن رؤيتنا للواقع السيئ اليوم يكشف لنا زيف هذه الشعارات الوافدة كالعنف والتطرف والأصولية، وما يسمى بحقوق الإنسان.
فماذا يقول الغرب عامة ـ وأمريكا على وجه الخصوص وهي تتبنى فكراً عالمياً ضد التطرف والعنف؟ ماذا تقول وهي ترى، والعالم من حولها يتابع عنف إسرائيل وتطرفها واستهانتها بأبسط حقوق الإنسان؟ أم أن هذه المصطلحات لازمة للمسلمين فقط، فيقال: العنف الإسلامي، والتطرف الإسلامي، والأصولية الإسلامية... وهكذا تقوم الدنيا ولا تقعد على من يسمونهم بالإرهابيين المسلمين حين يدافعون عن حقوقهم، بينما يُغض الطرف عن الصهاينة وهم يعتدون على غيرهم، ويندد بالأصولية الإسلامية حين يعود المسلمون إلى دينهم ويرفضون التبعية للأمم الكافرة؟ وهكذا تقصر حقوق الإنسان على اليهودي والنصراني وإن كانوا في ميزان الحق مغضوباً عليهم وضالين.
إنها شعارات مكشوفة من قبل لمن نور الله قلوبهم بالوعي والإيمان؛ وأحداث اليوم تزيد في كشفها لمن في قلبه مرض أو على عينيه غشاوة.
إن واقع اليوم نكسة على العلمانيين والليبراليين أدعياء العلمنة ودهاقنة العلمانيين، وضربةٌ على الليبراليين الغربيين الذين ما فتئوا يقتاتون مما يوضع في أفواههم من الغرب؛ فهل يستسيغون اليوم هذا الطعم المرَّ النكد؟ أم يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه، لا كثَّرهم الله في الأمة إن ظلوا على غيهم!
صيحات أطلقناها ونشيد حفظناه:
سبق أن أطلقنا: «ادفع ريالاً تنقذ عربياً» فماذا نقول اليوم، والأقصى برمته ومن فيه من المسلمين يتعرض للخطر، بل ويطال التهديد الإسرائيلي دولاً مجاورة أخرى؟
وما رَجْع الصدى لنشيد حفظناه وردَّدناه أطفالاً وكباراً، وبه استصرخ الشاعر عواطفنا حين قال:
أخي جاوز الظالمون المدى
فحق الجهاد وحق الفدى
وليسوا بغير صليل السيوف
يجيبون صوتاً لنا أو صدى
ثم ردد مع الشاعر الآخر قوله:
وتُردُّ بالدم بقعةٌ أخذت به
ويموت دون عرينه الضرغام
انحياز الأمم وحرب المستقبل:
لقد أصبح واضحاً ـ أكثر من ذي قبل ـ انحيازُ الأمم حسب معتقداتها وفكرها ومصالحها، فلم تُظهر الدول النصرانية والشيوعية امتعاضاً يُذكر لما يصنعه اليهود بالمسلمين.(43/142)
بل انسحبت أمريكا وامتنعت عن التصويت لإدانة (إسرائيل) مع أنها راعيةُ السلام المزعوم، والمناديةُ بعالم لا عنف فيه ولا حرب؛ فماذا يعني ذلك؟ وجاء قرار مجلس الأمن بشكل عام بارداً وضعيفاً. وحري بالأمة المسلمة أن ينحاز بعضها إلى بعض، وتردم الخلافات الفرعية بين أبنائها لمواجهة الأمتين اليهودية والنصرانية؛ فحرب المستقبل ليست صراعاً على النفوذ فحسب بل هي حرب وجود، حرب عقائد وإن سُيِّست، والمعركة القادمة لن تكون نزاعاً بين الفلسطينيين أو حتى العرب مع إسرائيل، بل هي حرب بين المسلمين وأعدائهم من اليهود والنصارى، فلينتبه المسلمون لهذا، وليستعدوا للمعركة بما استطاعوا من قوة ليرهبوا عدو الله وعدوهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ {14 } وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 14، 15].
ثمن الانتفاضة:
لقد نجح الفلسطينيون في التعبير عن مشاعرهم، وأثبتوا لأنفسهم وللعالم أنهم لن يستسلموا لبني صهيون وإن لم تكن قوتهم مكافئة أو مقاربة لقوة عدوهم، وصدق المسلمون في صدق مشاعرهم ومؤازرتهم لإخوانهم، وجددوا أمام العالم حرصهم وانتماءهم لعقيدتهم ومقدساتهم، ولكن هذه الانتفاضة التي راح ضحيتها عدد من أبناء فلسطين قتلى وجرحى، وما نتج عنها من ألم وشكوى، وهذه الانتفاضة والمشاعر الإسلامية المعبرة، ما ثمنها؟ لا سيما أنه يُراد لها أن تنتهي هذه الأيام؛ أفتنتهي بحلول بسيطة ومكاسب محدودة لا تساوي نزيف الدماء ولا تأوهات الجرحى ولا صيحات المسلمين هنا وهنا؟!
وحين يرقب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نتائج مؤتمر القمة فهل كان هدف المؤتمرين امتصاص الغضبة وسحب الغليان، والرضى بالبيانات المجردة.. أم أنهم كان ينبغي أن يتجاوزوا ذلك ويكونوا عند أو فوق تطلعات شعوبهم؟ فما عاد العهد مع اليهود، ولا الوعود مع بني صهيون تجدي فتيلاً لا بد من المطالبة بحلول عملية والانتهاء إلى قرارات جادة تكفي ثمناً لهذه الانتفاضة، وتتجاوب مع هذه العواطف الجياشة، وعلى المسلمين جميعاً ألا يفتُروا ما دام الفتيل أشعل حتى يضيء الحق في أرضنا ويُجلى اليهود عن مقدساتنا.
القضية أمانة وليست للمزايدة:
نعم إن قضية فلسطين مسؤولية إسلامية لا تقبل المزايدة! وسيحتفظ التاريخ بسجلات مواقف البطولة المعاصرة كما حفظ البطولات والمواقف السابقة، وسيسجل في مقابل ذلك كل موقف متخاذل، وكل مزايدة على هذه القضية العالمية المشروعة، وعلى العرب والمسلمين شعوباً وحكومات أن يختاروا نوعية المداد وطبيعة الموقف الذي يسجلونه ويتخذونه لقضية فلسطين، وما يخفى اليوم يظهر غداً، وما يظل غائباً عن أعين البشر فسينكشف يوم التلاق.
إن العالم بملله وأديانه يسخر بالمتزيدين، ويرفض المتاجرة بقضايا الآخرين، ولا تزال الشخصيات الإسلامية ذات الموقف الإسلامي البطولي من قضية فلسطين لا يزالون يُذكَرون بخير وهم محل الحفاوة والتقدير، ليس من المسلمين فحسب بل ومن غيرهم، وذكرى هؤلاء محفورة في أذهان المسلمين، وستظل كذلك وسينضاف إليها من سار على نهجهم فنصح لنفسه ولأمته وأخلص لقضيته ودافع عن مقدسات المسلمين.
جذوة الإيمان وإحباط الأعداء:
وعلى الرغم من سياسات تغريب الأمة المسلمة ومحاولة طمس هويتها واستخدام العولمة للتغريب إلا أن الواقع أثبت بقاء جذوة الإيمان في تكوين المسلمين، وما تزال العواطف والمشاعر الإسلامية مختزنة إذا ما استُجيشت جاشت؛ وهذه وتلك تمثل رصيداً للأمة يمكن أن تستثمره في الوقت المناسب. وتؤكد هذه الانتفاضة أن تعبئة الأمة ليست بالأمر العسير ولا المستحيل ولا يحتاج لمزيد وقت، وحين يتوفر القادة الذين يصدقون مع الأمة ويأخذون بأيدي أبنائها فسيجدون من يسير خلف رايتهم ويشد من أزرهم.
وهكذا تبقى أمة الإسلام أمة فيها خير، يتجدد الإيمان في نفوسها كلما تعاظم الأعداء واشتدت الحاجة وادلهمَّ الظلام، وهذا كله محبطٌ للأعداء، ومشعر لهم بإفلاس وسائلهم في الإفساد، ومؤشرٌ إلى أن النصر في النهاية لهم.
استدامة الشعور ويقظة المشاعر:
ينبغي ألاَّ نضيِّع هذا الرصيد من المشاعر بتفريغه في ساعات المحنة ثم تغيب القضية عن أذهاننا؛ بل إن من أبرز مكاسب هذه الانتفاضة أن تظل قضية فلسطين حُلماً ماثلاً في أذهاننا، وأن تظل المقدسات الإسلامية هدفاً مهماً نسعى جاهدين لتخليصها ممن غضب الله عليهم ولعنهم، وأن يستمر دعمنا لإخواننا في فلسطين بأموالنا وعواطفنا وأنفسنا حتى يرفع الظلم عنهم ويُجلى العدو من أرضهم؛ ذلك درس مهم، وذلك تحدٍ يواجه المسلمين في المستقبل؛ فهل يستمرون في حماسهم لقضيتهم حتى يقضي الله بينهم وبين عدوهم؟ ذلك ما نرجو ونأمل.
---------------------
(1) نعوم تشومسكي (يهودي مشهور).
(2) عبد الوهاب الفايز، مقال في جريدة الرياض 7/7/1421هـ (بين أطفال الحجارة وترسانة الأسلحة النووية).
(3) نصر بلا حرب، 1999م، ص 284.(43/143)
(4) القدس بين الوعد والحق والوعد المفترى.
(5) البعد الديني في السياسة الأمريكية، د. يوسف الحسن، ص 76.
(6 ، 7) القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، ص 42.
المصدر مجلة البيان
=============(43/144)
(43/145)
أفيقوا أيها المسلمون فلقد تداعت عليكم الأمم
د محمد الدسوقى بن على
لقد أثبتت الأيام أن ما حاول الرئيس الأمريكي أن يعتذر عنه- أعني مما قرره أكثر من مرة ومنذ توليه الإدارة الأمريكية من أن حربه القادمة والتي جعل عنوانها (الحرب الصليبية الثالثة)، ستكون ضد المسلمين وضد ثوابت شريعتهم لتخليص العالم من الإرهاب وممن وصفهم بفاعلي الشر على حد قوله، ومن أنها ستكون حرباً صليبية طويلة الأمد- لم يكن ذلة لسان وإنما هو بالضبط ما يسعى له الآن بل ويصرح به دون ما حياء ولا خجل ويعيّن من أجل تنفيذه الصقور، فقد قام بوش بحشد 265ألف جندياً أمريكياً موجودين في قواعد خارج البلاد وباستدعاء 50ألف من جنود الاحتياط الأمريكيين كما أعلن مساء الخميس 20/ 9/ 2001أمام مجلس الكونجرس (الشيوخ والنواب) أن "بلده في حالة حرب وأن من لا يقف معنا ويشارك في الحرب فهو يقف مع الإرهاب".
وقد ظهرت مؤخراً دراسات عديدة من كتاب وصحفيين أمريكان كلها تؤيد وتؤكد أن هدف الحرب الحالية التي تقودها أمريكا هو القضاء على الإسلام بتشويه صورته، وإذابة المسلمين وتغييبهم عن جوهر قضيتهم وتركيعهم، واحتلال أرضهم وتنصيرهم وتصييرهم إلى أمة علمانية تنحي الإسلام جانباً أوتدين بما يدين به غيرها، وقد وجدوا ضالتهم في حاضرة الخلافة العباسية وفي منافقيها وخونتها الذين تخلوا عن شرفهم وفرطوا في أرضهم وعرضهم وساروا في تنفيذ مخططات أعدائهم، كما وجدوها في تخلى حكام المسلين عن أحكام شريعتهم ومبادئ عقيدتهم وفي استعدادهم للتفريط في ثوابت دينهم إرضاء لأمريكا والغرب تحت مسميات تجديد الخطاب الديني والإصلاح السياسي ومحاربة الإرهاب والتطرف وبناء شرق أوسط كبير وتطوير المناهج وحذف كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العنف (الجهاد)، أو يدعو إلى العفة والفضيلة لتواكب متطلبات العصر، في وقت تقوم فيه حروب هؤلاء المعادين للإنسانية ولكل القيم على أساس ديني، وصدق الله القائل: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.. البقرة /109)، ولن نستطرد في إثبات هذه الحقائق كثيراً، فقط نترك الوقائع والأحداث والدراسات التي قاموا هم بكتابتها هي التي تتكلم وتثبت ما نحن بصدد الحديث عنه.
ونذكر من ذلك على سبيل المثال دراسة للباحثة (شيري بنرد) بمؤسسة (راند) بعنوان (الإسلام الديمقراطي المدني)، ومجموعة مقالات لـ (دانيال بايبس) مدير مركز الشرق الأوسط ومعه لفيف من الكتاب يدورون في فلكه، كما نستشهد لذلك بما حدث عقيب الغزو الصليبي لحاضرة الرافدين فقد انكشف الوجه التبشيري القبيح للاحتلال الأمريكي لتلك البلاد في حادثتين منفصلتين وقعتا في مارس 2004.
الأول: هجوم نفذته المقاومة العراقية ضد قافلة أمريكية اتضح فيما بعد أن ضحاياه أربعة منصرين أمريكان، كانوا يقومون بمهام تبشيرية تحت إشراف مجلس الإرسالية المعمدانية الدولية الجنوبية طبقاً لما أكده موقع شبكة (CNN) الأمريكية على الأنترنت، والأربعة هم (لاري إليوت)60 عاماً، و(وفر إليوت)58عاماً، و(كارين دينيس) 38عاماً، و(ديفيد ماكدونال) 28عاماً، وأما الثاني: فكانت بطلته شركة (كلير شايتل كومينيكاشن) وهي شركة إعلام أمريكية عملاقة، حيث أذاعت إحدى محطاتها الإذاعية برنامجاً أكدت فيه أن احتلال القوات الأمريكية قام في بلاد الرافدين على فكرة تعليم أهلها أصول الحضارة الغربية وإنقاذهم من جاهليتهم، وراحت هذه المحطة في سبيل ترسيخ هذه الفكرة تسئ للدين الإسلامي وتتهكم من تعاليمه، وتظهر العرب والمسلمين في صورة أشخاص متخلفين يريدون العودة بالحياة الشخصية والحقوق المدنية ألف عام إلى الوراء، وفي صورة أشخاص همجيين يعشقون إقامة العلاقات الجنسية مع حيواناتهم، واستمرت وقاحات البرنامج الهزلي تصحبها ضحكات هيستيرية تعكس التعصب الأعمى لكل ما هو صليبي، ويأتي كل ذلك في إطار مخطط شامل تشرف عليه الهيئة الدولية لبحوث الإرساليات التبشيرية والتنصيرية التي يعمل بها 16مليون شخص يمثلون الأغلبية البروتستانتينية في أمريكا ويبلغ عدد مؤسساتها مئة وعشرين ألفاً وثمانين مؤسسة وتصل إصداراتها السنوية من الكتب إلى ثمانية وثمانين ألفاً وستمائة وعشرة كتاب، كما يبلغ عدد مجلاتها الأسبوعية 24ألفاً و900مجلة و400محطة، وتوزع بشكل سنوي 53مليون نسخة من الإنجيل طبقاً لنشرات الهيئة.(43/146)
وحسب ما أكدته جريدة الديلي تلجراف البريطانية على لسان (جون برادي) رئيس هيئة الإرساليات الدولية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ونقلته عنها جريدة الأسبوع في 5/ 1/ 2004 فإن الهيئة التي تُعد الجيش التبشيري للكنائس المعمدانية طالبت بجعل العراق مفتوحاً للتنصير وللجماعات التبشيرية بحيث تكون محطة لنقل الأفكار التنصيرية للمنطقة كلها، وهو ما تحقق بالفعل منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق حيث أصبحت العراق مرتعاً للمنصرين البروتستانت الذين جابوا أرض الخلافة العباسية، وراحوا يمارسون نشاطاتهم تحت زعم تقديم المساعدات الإنسانية للشعب العراقي وبدعوى إنقاذ النفوس الضائعة داخل الأراضي العراقية، ولولا أن منّ الله على هذا البلد بتلك الشبيبة المؤمنة التي وقفت ولا زالت لهم وللاحتلال برمته بالمرصاد لتحولت دول الشرق الأوسط كلها إلى النصرانية ولربما راق لهم هدم الكعبة على نحو ما جاء على لسان الكاتب الصهيوني (ريوفن كورت) المدير الناشر لمجلة (إسرائيل من الداخل) وساعتها لن يجد المسلمون "أي قبلة يتجهون إليها حينما يحنون ظهورهم لعبادة إله الخراب الذي يعبدونه" على حد قوله، وصدق الله القائل: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ولقد سبق لرئيس الكنيسة المعمدانية السابق (جيري فينيس) أن وصف النبي محمداً بأنه مولع بمص الدماء وبأنه إرهابي.. كما سبق لأحد أعضائها وهو القس (فرانكلين جراهام) أن وصف الإسلام بأنه دين شيطاني تجب محاربته وبأنه دين شرير جداً لا يعرف التسامح، ويعد (فرانكلين) ووالده من أكبر المشاركين في عمليات جمع التبرعات للشعب العراقي لخدمة الأهداف التنصيرية، كما يعد (فرانكلين) المعلم الديني الأول للرئيس الأمريكي جورج بوش وهو الذي أقام قداس تتويجه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت مكافأة بوش له أن سمح له بممارسة أنشطته داخل الأراضي العراقية، فماذا قدم حكامنا العرب والمسلمين تجاه دينهم وأبناء أوطانهم؟ وحسب ما ذكره (جون حنا) أحد أعضاء الجماعات التنصيرية والذي عاد مؤخراً من العراق، فإنه كان قلقلاً من أن لا تسمح السلطات الأمريكية للجماعات التبشيرية بممارسة نشاطاتها التنصيرية داخل العراق، إلا أنه اكتشف أن كل ما يحتاجه لدخول العراق هو امتلاك جواز سفر أمريكي وبعدها يصبح حراً في أن يفعل داخل العراق ما يشاء .. وهو ما يضع على كاهل المبشرين الأمريكان- حسب قوله- مسئولية كبيرة "فالأبواب كلها مفتوحة وأساليب التنصير متاحة والدعم العسكري موجود .. وكلها عوامل داعمة لإنقاذ العراقيين من الدين الإسلامي المزيف ومن قبضة النازيين المعادين للمسيح والمنكرين لحقيقة أن المسيح هو المخلص"، ويضيف حنا: "أن المسيحيين وهم في طريق تبليغ رسالتهم السماوية مطالبون بتوصيل الطعام إلى الجياع مثلما هم مطالبون بإشباع النفوس الجائعة .. حتى يدركوا أن المعونات التي يتلقونها هي من مسيحيين في أمريكا وليس مجرد أمريكان".
أما (جيم ووكر) أحد المنصرين الذي زار العراق في 10/ 2004ضمن فريق تنصيري حمل معه معونات تم شحنها في 45ألف صندوق فيضيف قائلاً: "لقد قابلت أطفالاً يموتون جوعاً لكن احتياجهم الأول لم يكن للطعام وإنما كان لمعرفة حب المسيح".. كما أكدت السيدة (جاكي كون) إحدى المبشرات البالغ عمرها 72 عاماً أنها نجحت بالفعل في تنصير سيدة كردية وطفلها، وحسب رواية (جاكي) فإنها قابلت السيدة الكردية داخل فندق عراقي وهي تستعد لإجراء عملية جراحية في ساقها فلما صلّت (جاكي) من أجلها داعية الرب أن ينجيها من إجراء تلك العملية، عادت تلك السيدة حاملة طفلها لتخبرها بأن الأطباء أكدوا لها عدم حاجتها لإجراء العملية بعد أن شفاها الرب ببركة صلواتها للمسيح، وأن المرأة الكردية صلت وراءها هي وطفلها شكراً للمسيح، وبعد أداء الصلوات خرجت المرأة الكردية وطفلها "حاملين الإنجيل مكتوباً بالعربية ومعهما شرائط فيديو للمسيح وفوق هذا كله حاملين المسيح في قلبيهما"، وتنهي جاكي حديثها قائلة: "ربما كانت عملية تنصير المسلمين في العراق صعبة، لكن المبشرين تلقوا دورات تدريبية مكثفة قبل الذهاب إلى العراق لتنصير أبناء الشعب العراقي ولتفنيد التعاليم الإسلامية التي تنظر إلى المسيح على أنه مجرد نبي آخر، ويعيشون في ضلالهم معتقدين أن محمداً آخر الأنبياء .. لقد جاءتنا فرصة العمر لحمل رسالة المسيح إلى العراق وفي زيارتنا الماضية حملنا للعراق 8000 إنجيل مكتوب باللغة العربية وهدفنا أن يصبح هذا العدد مليوناً في المستقبل القريب".
وكانت صحيفة (دير شبيجل) الألمانية فيما نشرته في 17/ 2/ 2003 قد أشارت إلى شيء من هذا وأكدت أن الحرب ضد العراق ما هي إلا جزء من حرب صليبية يشنها اليمين المسيحي الصهيوني المتطرف على العالم الإسلامي للإعداد لما يسمى بمعركة (هيرمجيدون) التي تهيئ للعودة الثانية للمسيح.(43/147)
وفي موقف تهكمي عرضته القناة الأولى الألمانية في 24/ 6/ 2004 ذكرت (أنيا راشكة) في برنامجها الأسبوعي (بانوراما) أن "هذه الطوائف التبشيرية تتحدث عن الحرب المقدسة في العراق ويرون أنفسهم شهداء ويعتبرون الأديان الأخرى مجرد زندقة وإلحاد، وهؤلاء الذين يزدادا نفوذهم في أمريكا هم الذين يدين لهم الرئيس بوش بمنصبه كرئيس لأمريكا"، تقول: "والمشكلة أ ن هؤلاء يريدون تنصير العالم أجمع"، وتضيف في استغراب: "أنهم قد وجدوا فرصتهم السانحة في احتلال العراق وأن معظم الأعمال التي يقومون بها سرية لكن يحظون بتأييد كامل من الحكومة الأمريكية، وأن الجيش الأمريكي نفسه يضم مجموعة منهم وهو ما يتبدى من تبرعات ومنح بالملايين وأن الرئيس بوش بنفسه قد قال لبعض أولئك المبشرين: (جميعنا مطالبون بنشر كلمة الله وتحقيق مملكة الرب)" ، وأضافت القناة الألمانية أن (تود نيتلتون) أحد أعضاء هذه المؤسسة قال: "إنه ومن معه يعرفون أن بعض المسلمين سيغضبون لمحاولة تنصيرهم بشدة.. وقد يؤدي ذك إلى تعرضهم- يعني هو وجماعته- للقتل، إلا أنهم لا يخشون ذلك معتبراً أن الموت في سبيل قضاء الخلود في الجنة، يعد تجارة مربحة خاصة حين يتم ذلك في فرض المسيحية على الضالين المسلمين".
ولعلنا بعد كل ما ذكرنا نعذر أولئك الخاطفين الذين ينفذون حكم الإعدام على أمثال هؤلاء الذين لم يكتفوا نساء ورجالاً بما ينغمس فيه الشعب العراقي حتى الثمالة من قهر وبطش وقتل وتعذيب وظلم واحتلال تمارسه حكوماتهم، حتى راحوا يستغلون معاناته أسوأ استغلال ويفتنونه عن دينه وفي بلده التي هي في حكم الشريعة دار حرب لا حرمة فيها لأجنبي أياً ما كان هدفه، وعلى أولئك الواقعين في أيدي المقاتلين ممن تداروا تحت ثياب الإغاثة، وقطعوا آلاف الأميال تحت عباءة تخليص العراقيين من القهر والاستبداد وتحت غطاء المعونات الإنسانية.. على هؤلاء الباكين على الشعب العراقي وتقطر قلوبهم من أجله شفقة ورحمة، عليهم إن كانوا صادقين بحق في رفع المعاناة عن هذا الشعب أن يوفروا جهودهم ويبقوا على أطعمتهم التي لا يحصل ذوو الحاجة إليها على شيء منها، لأنها لا تصل من الأساس إليهم وإن وصلت تصل بعد وفاتهم أو فوات أوانها أو مقابل تنصيرهم، وأن يضغطوا بدل ذلك- وهم كما رأينا قوة لا يستهان بهم- على رؤساء وحكومات بلادهم ليكفوا عن هذا الشعب المغلوب على أمره شرهم ويرفعوا عنه أيديهم ويخرجوا من تلك البلاد التي جاءوا لنهب نفطها وثرواتها ولفرض هيمنتهم عليها بعد استعمارها وإذلال أهلها.
وإذا كانت تلك هي بركة الاحتلال، قد تمثلت في كتائب التنصير، فعن بركته في التغلغل اليهودي داخل بلاد الرافدين حدث ولا حرج، وقطعاً للشك باليقين نسوق من شهادتهم وضمن اعترافاتهم ما كشفت عنه صحيفة (النيويوركر) الأمريكية من مخطط إسرائيلي يهدف إلى تفتيت العراق وجمع معلومات استخبارية واغتيال قادة المقاومة الشيعية والسنية وإقامة دولة كردية في الشمال، فقد ذكرت الصحيفة أن الخطة (B) التي اعتمدتها المخابرات الإسرائيلية، تشير إلى كل ما ذكر وتنادي بالتعاون مع الأكراد في إقامة دولتهم، وتقضي لتحقيق ذلك بتدريب الكوماندوز الأكراد للقيام بعمليات خاصة داخل الأراضي السورية والإيرانية والتركية والتركسانية لصالح إسرائيل تشمل التجسس على البرنامج النووي الإيراني تمهيداً للتخلص منه على غرار ما فعلته مع المفاعل النووي العراقي في عام 1981وأن رجال من الموساد قد دخلوا بالفعل بعض هذه البلاد بجوازات سفر غير إسرائيلية وعلى أنهم رجال أعمال لتحقيق ما تم التخطيط له والاتفاق عليه.(43/148)
كما كشفت جهات أمنية تركية رفيعة المستوى مؤخراً في تقرير لها نشرته صحيفة (جمهوريت) التركية ونقلته عنها صحيفة الأسبوع القاهرية في 22/ 11/ 2004 وأوردته إذاعة الرياض عن سياسات إسرائيل التي تهدف بمساندة من الاحتلال الأمريكي إلى العمل على فصل شمال العراق، وقيام تل أبيب منذ صيف عام 2003 بشراء مبان وأراضي- اعتماداً على نص توراتي يتعلق بتوصيف الأراضي المقدسة لليهود- بلغت6000متراً في مدينة كركوك إضافة لشراء500 منزلاً في محافظة الموصل وألفي متراً وثلاثين مبنى في أربيل، وأفاد التقرير أن إسرائيل قد ضاعفت- مستغلة سوء ورداءة الأوضاع هناك- من حجم تبادلها التجاري مع العراق، وكانت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية قد نقلت عن الحاخام (أرفيننج السون) في عددها الصادر في الأحد 24/ 11/ 2004أن عدداً كبيراً من الضباط والجنود اليهود منهم القناص (مارك افينين) حفيد أكبر الحاخامات اليهود في أمريكا قد قتلوا على أيدي المقاومة العراقية في الفلوجة، وأن الحاخام (أرفيننج) الذي عاد من هناك إلى أمريكا وقدر عدد المنضمين من اليهود بما يقارب 1000 خلاف من يؤثر- لمزيد من الإخلاص- عدم إظهار هويته، وقدر عدد الحاخامات بـ 37موزعين على القوات الجوية والبحرية، وأفاد أن العديد منهم احتفل على أنقاض الجثث العرقية وأشلاء الأطفال بعيد رأس السنة اليهودية.. حث المزيد من الشباب والحاخامات اليهود على الانضمام إلى الخدمة العسكرية على اعتبار أن الموت في العراق شهادة لهم خاصة أن أغلبهم متدينون ويقرأون الكتب الدينية اليهودية، والغريب أن يحدث هذا في الوقت الذي يمنع فيه الشباب المسلم في البلاد المجاورة بحكم الجيرة وأخوة العروبة والإسلام أن يناصروا إخوانهم ضد هذا الاحتلال الجاثم على صدر مسلمي العراق الحبيب.
كما سبق لجريدة الأهرام المصرية في 9/ 7/ 2004أن تحدثت في صدر صفحتها الأولى وفي مقال لرئيس التحرير عن حقيقة التواجد الإسرائيلي والدور الذي تقوم به في أرض العراق وفقاً لما جاء مدعماً بالوثائق على ألسنة مسئولين أمريكيين، وقد خلص تقريرهم إلى وجود خبراء للاستخبارات الإسرائيلية يهدفون إلى الوصول إلى المعتقلين الذين كانوا أعضاء في الاستخبارات العراقية والذين كانوا يختصون بالشئون الإسرائيلية، كما توصلوا إلى وجود خطة إسرائيلية ترمي إلى تفتيت الكيانات العربية، وحسب ما جاء في صحيفة (ديلي ستار) الملحقة بـ (الهيرالد تريبيون) فقد أمدت إسرائيل الأمريكيين بآليات ونظم تعذيب لانتزاع الاعترافات من أسرى ومعتقلي السجون العراقية حتى بات العسكريون الأمريكيون يستمعون بعناية فائقة إلى خبراء إسرائيليين للتزود بخبراتهم في التعامل مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية.. وعملاً بمبدأ أن الفعالية في انتزاع الاعترافات ينبغي أن تكون لها الأسبقية على احترام مقتضيات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد أقيمت تدريبات مشتركة أمريكية إسرائيلية في صحراء النقب، الأمر الذي يؤكد أن سوء المعاملة في سجن أبو غريب ليس من فعل بعض الشواذ كما يروج البعض، وإنما هو جزء من مخطط بسبيله أن يعمم بين الجنود وفي جميع السجون العراقية والأفغانية.
وكانت إسرائيل قد أظهرت منذ بداية الأزمة العراقية تأييداً كاملاً للولايات المتحدة حينما كانت تشن حملة ضخمة داخل أروقة الأمم المتحدة تمهيداً للحرب ضد العراق، وكان الاعتقاد السائد آنذاك أن إسرائيل تؤيد أمريكا في الحرب حتى تتجنب التهديدات العراقية مستقبلاً، ومع تأكيد معظم القادة الإسرائيليين على أن بلادهم لا تتعرض لخطر حقيقي من جانب العراق، فإن تأييدهم للولايات المتحدة يرجع إلى رغبة إسرائيل في أن تكون شريكة لواشنطن فيما يسمى بالحرب ضد الإرهاب وفي محاولة الربط بين العراق وأنشطة حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة وغزة حتى تعطي نفسها الحق في أن تستمر في احتلالها وعدوانها على الأراضي الفلسطينية، وهي من وراء كل ذلك تخفي الرغبة في تحقيق حلمها في إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وما محاولات السعي المستميتة وغير الموفقة بمشيئة الله لتغيير العلم العراقي، إلا سيراً في هذا الاتجاه وإلا خير شاهد على ذلك وإلا خطوة في إخضاع العراق للهيمنة اليهودية.
لقد تحدث ساسة الغرب في كل مناسبة بالعداء الأسود غير المبرر للإسلام ولنبي الإسلام وطفحت بذلك شبكات الإنترنت وكتب الغرب، يقول المستشرق (كانتول سميت) في كتابه (الإسلام في التاريخ الحديث): "إلى أن قام (كارل ماركس) وقامت الشيوعية، كان النبي محمد هو التحدي الوحيد للحضارة الغربية الذي واجهته في تاريخها كله، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدي حقيقياً، وكم كان يبدو في بعض الأوقات تهديداً خطيراً حقاً"، ولكل منصف أن يدرك مدى حنق الحضارة الغربية على الإسلام وأهله عندما يعرف أن (سميت) الذي سقنا عبارته يعد في الأوساط العلمية أحد المعتدلين، ولا ندري ما يكون عليه الحال عند المتعصبين والحانقين؟.(43/149)
وإذا كان هناك عدد من كتاب الغرب وعلى رأسهم (صموئيل هنتنجون) صاحب كتاب (صراع الحضارات)، و(فرانسيس فوكاياما) صاحب كتاب (نهاية التاريخ) وغيرهما قد بشروا بعهد تنتصر فيه الحضارة الغربية على حضارة الإسلام، فإن قادة بوزن (ريتشارد نيكسون) راح يؤكد في كتابه (الفرصة السانحة) الذي صدر منذ عدة سنوات على أن الإسلام قد أضحى هو العدو الرئيسي للغرب بعد سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي، كذا دون إبداء سبب سوى انهيار الشيوعية.
وفي إطار هذه الحملة المحمومة وغير المبررة على الإسلام والمسلمين أكد عضو مجلس النواب البريطاني (جورج جالوب) في حوار نشر في العديد من الصحف البريطانية والأمريكية بتاريخ 9/ 3/ 2003 على "أن الحرب الأمريكية على العراق ستكون مقدمة لحروب أمريكية جديدة على عدة دول عربية وإسلامية"، وقال مضيفاً: "إن أمريكا وبريطانيا ستعملان بعد تدمير العراق على زعزعة دول عربية وإسلامية أخرى بهدف تغيير الأنظمة في هذه الدول وتقسيمها إلى دويلات هزيلة"، وقال: "إنني أستغرب كيف يجلس أي حاكم عربي مرتاحاً على كرسيه في هذه الأجواء"، وأضاف: "إذا كان ثمة بقية من كبرياء لدى قادة الدول العربية فينبغي أن يقفوا ويعارضوا مسألة التغيير في العراق"، يا للخزي والعار!! .. وقال: "إن بوش وبلير يفكران بعد ذلك في تغيير نصوص القرآن"، ولعل هذا ما يفسر لنا مبادرة (أنيس شورش) بعد طباعة ونشر ما أسماه بـ (الفرقان الجديد) بإرسال نسخ منه إلى الرئيس الأمريكي بوش وأعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكي لاعتماده رسمياً في كافة مواقع الإدارة الأمريكية والأخرى المتعاملة مع المسلمين، الأمر الذي ساهم في توزيعه على السفارات العربية والإسلامية في كل من باريس وواشنطن ولندن والعديد من المنظمات والهيئات الإسلامية والعربية بتاريخ 17/ 4/ 2004وإلى جميع الدوريات والمجلات التي تطبع في القدس ولندن فيما بعد.
ومن خلال ما ذكرنا من حقائق يتكشف لدى أي منصف أن الإسلام الذي جاء بأعظم حضارة عرفتها الإنسانية أضحى مستهدفاً، وأن ما يفعله أعداء الإسلام بالمسلمين الذين أضحوا بتخليهم عن ثوابت دينهم- التي يأتي في المقدمة منها الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين- كالأيتام على مائدة اللئام ... هو في الصميم من قبيل صراع الحضارات، ومن شديد ما يؤسف له أن جميع هذه القوى المعادية على اختلاف توجهاتها، أخذت مواقفها المعادية للإسلام دون قراءة واعية له ولا معرفة لقيمه ومبادئه، وقد أداها ذلك لأن تنكر فضله على العالمين وتشوه صورته وتتعامى عن حضارته التي طبقت شهرتها الخافقين، كما أداها عداؤها للإسلام لأن تتظاهر- بجهالة وعن عمد- بالعجز عن أن تتعايش أو أن توفق أوضاعها مع أمته التي تفوق في تعدادها خمس سكان الأرض، وكان المبرر الوحيد لها في معاداتها هو- إلى جانب الحقد- عدم وجود من تعاديه بعد انهيار الشيوعية.
نقول ذلك وننوه به ليعلم المسلمون كيف تداعت علينا الأمم، وتحققت فينا نبوءة نبينا صلى الله عليه وسلم؟ وكم هي الفخاخ التي نصبت لهم وهم يغطون في ثبات طويل ونوم عميق؟ وكم هي الفتنة التي يتعرض لها إخوانهم في الدين في حاضرة الخلافة العباسية وهم في غفلة من الزمن؟ وكم هي المحنة التي يعاني منها مسلمو العراق ولا يحركون رغم كل ما يجري لهم ساكناً ولا يذكرونهم حتى بالدعاء ورفع أكف الضراعة إلى الله حتى يزيل الغمة عن هذه الأمة؟ (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، صدق الله مولانا العظيم.
=============(43/150)
(43/151)
قساة الشيوعيين (الملحدين)
الشيوعيون الروس.
ولننتقل الآن إلى غير أهل الكتاب من أهل الباطل، لنأخذ نتفا أخرى من سلوكهم الدال على القسوة والغلظة وعدم الرحمة، لتكتمل الصورة، ويعلم القارئ أن أهل الحق هم الرحماء، وأن الرحمة هي من الأخلاق التي يريدون غرسها في نفوس الناس، وأن غرس الأخلاق الحميدة هو إحدى غاياتهم في السباق إلى العقول.
الحديث عن قسوة الشيوعيين وغلظتهم لا يأتي للناس بجديد، فقد عرف العالم كله في خلال ما يزيد عن سبعين سنة أن الشيوعيين أقسى الناس قلوبا وأغلظ أفئدة وأبعد عن الرحمة في كل مكان حلوا فيه.
وعداؤهم للإسلام أشد من عدائهم لجميع الأديان، ومعاملتهم للمسلمين، لصرفهم بالقوة عن دينهم بقضائهم على علمائهم وهدمهم مساجدهم ومدارسهم، وتحويل ما بقي من المساجد والمدارس إلى مسارح وحظائر ومخازن ودور للسينما، أمر معروف مشهور.
ويكفي أن نذكر لبالغ قسوتهم ما رواه أحد الناجين من الموت من تعذيبهم، وهو الأستاذ "عيسى يوسف آلب تكين"الذي فر من إدارتهم الجهنمية وكتب كتابه الذي فضحهم فيه وهو: (المسلمون وراء الستار الحديدي). فقد نقل عنه سيد قطب رحمه الله في كتابه دراسات إسلامية ما يلي من صور التعذيب الوحشي فقال: " فلندع كاتبا أخذ يحدثنا عن وسائل التعذيب الجهنمية التي سلطت على العنصر الإسلامي في التركستان الغربية الخاضعة لروسيا، والتركستان الشرقية التابعة للصين الشيوعية اسما، ولروسيا الشيوعية فعلا " إلى أن قال: سيد: "وسنضطر أن نغفل ذكر بعضها-أي صور التعذيب-هنا، لأنها من القذارة بحيث يخدش ذكرها كل أدب إنساني، مكتفين بما تطيق الآداب الإنسانية أن نذكره للناس... وهذه هي:
1- دق مسامير طويلة في الرأس حتى تصل إلى المخ.
2-إحراق المسجون بعد صب البترول عليه وإشعال النار فيه.
3-جعل المسجون هدفا لرصاص الجنود يتمرنون عليه.
4-حبس المسجونين في سجون لا ينفذ إليها هواء ولا نور، وتجويعهم إلى أن يموتوا.
5-وضع خوذات معدنية على الرأس وإمرار التيار الكهربائي فيها.
6-ربط الرأس في طرف آلة ميكانيكية وباقي الجسم في ماكينة أخرى، ثم تدار كل من الماكينتين في اتجاهات متضادة، فتعمل كل وحدة مقتربة من أختها حينا ومبتعدة آخر، حتى يتمدد الجسم الذي بين الآلتين، فإما أن يقر المعذب وإما أن يموت.
7-كي كل عضو من الجسم بقطعة من الحديد مسخنة إلى درجة الاحمرار.
8-صب زيت مغلي على جسم المعذب.
9-دق مسمار حديدي أو إبر الجراموفون في الجسم.
10-تسمير الأظافر بمسمار حديدي حتى يخرج من الجانب الآخر.
11-ربط المسجون على سرير ربطا محكما ثم تركه لأيام عديدة.
12-إجبار المسجون على أن ينام عاريا فوق قطعة من الثلج أيام الشتاء.
13-نتف كتل من شعر الرأس بعنف، مما يسبب اقتلاع جزء من جلد الرأس.
14-تمشيط جسم المسجون بأمشاط حديدية حادة.
15-صب المواد الحارقة والكاوية في فم المسجونين وأنوفهم وعيونهم، بعد ربطهم ربطا محكما.
16-وضع صخرة على ظهر المسجون، بعد أن توثق يداه إلى ظهره.
17-ربط يدي المسجون وتعليقه بهما إلى السقف، وتركه ليلة كاملة أو أكثر.
18-ضرب أجزاء الجسم بعصا فيها مسامير حادة.
19-ضرب الجسم بالكرباج حتى يدميه، ثم يقطع الجسم إلى قطع بالسيف أو بالسكين.
20-إحداث ثقب في الجسم وإدخال حبل ذي عقد واستعماله بعد يومين كمنشار، لتقطيع قطع من أطراف الجرح المتآكل.
21-ولكي يضمنوا أن يظل المسجون واقفا على قدميه طويلا، يلجئون إلى تسمير أذنيه في الجدار.
22-وضع المسجون في برميل مملوء بالماء في فصل الشتاء.
23-خياطة أصابع الرجلين واليدين والرجلين وشبك بعضهما إلى بعض.
24-والنساء حظهن مثل هذا العذاب، أنهن يعرين ويضربن ضربا مبرحا على ثديهن وصدورهن.
أما بقية تعذيب النساء فإننا نمسك عنه، لأن المواقع التي اختاروها من أجسامهن والطرق الدنيئة التي استعملوها تجعلنا نستحي من ذكرها وكتابتها[دراسات إسلامية الطبعة الرابعة ص200، 206.
وعندما كتب سيد هذه الصور لم تكن قد طبقت عليه هو في مصر ولكنه رحمه الله قد ذاق في زنزانات المجرمين هو وإخوانه وأخواته شيئا منها قبل أن يشنقه أعداء الإسلام.].
يكفي هذا النموذج لمعرفة ما إذا كانت توجد في قلوب الشيوعيين الروس رحمة!!!.
تدمير شعب أفغانستان.
ولكن مثالا آخر ظهر أكثر وضوحا في الدلالة على خلو قلوبهم من الرحمة، وهو أنهم غزوا أفغانستان بجيوش جرارة وأسلحة فتاكة، برا وجوا، وقتلوا من الشعب الأفغاني مليونا ونصف المليون، وطردوا ما يقارب ستة ملايين، وعاثوا في الأرض فسادا يندر أن يوجد له مثيل، ومكثوا يزاولون أعمالهم الوحشية في هذا الشعب أكثر من سبع سنوات، هدموا فيها المساجد وأهانوا المصاحف واغتصبوا النساء، وفرقوا كلمة المسلمين وجعلوا بعضهم يقتل بعضا، ولازال الأفغان يعانون الأمرين من آثار غزوهم.(43/152)
ولكن الله تعالى نصر الفئة المؤمنة التي تصدت لهؤلاء القساة، ومع الصبر والمصابرة نصر الله المجاهدين-على قلة عُدَدِهِم-على أعظم قوة عسكرية ضاربة، فهزم الجيش الروسي الشيوعي وعاد إلى بلاده يجر أذيال الهزيمة، وكان الجهاد الأفغاني من أعظم الأسباب التي هيأها الله لانهيار الاتحاد السوفيتي الظالم.
ولعل المسلمين يقطفون آثار هذا الجهاد في تطبيق الإسلام في أفغانستان وفي الشعوب الإسلامية المجاورة التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي المنهار.[لقد خيب المجاهدون الأفغان آمال المسلمين الذين أعانوهم بالمال والرجال والعتاد، لرفع راية الإسلام في بلادهم، حيث أخذوا يقتتلون فيما بينهم بعد انسحاب العدو الشيوعي من بلادهم، ومازالت دماء المدنيين العزل تراق بأسلحة إخوانهم ممن كانوا قادة للجهاد، إلى يومنا هذا (كتبت هذا التعليق في 22/5/1418هـ).]
الشيوعيون في الصين.
ولا تقل قسوة الشيوعيين في الصين وغلظتهم على المسلمين-وعلى كل من يخالفهم-عن قسوة الشيوعيين في الاتحاد السوفيتي السابق، وبخاصة في إقليم "تركستان الشرقية" الذي غيروا اسمه إلى "سانكيانج" وبالغوا في الاعتداء على أهله، فقتلوا علماءهم، وأتلفوا مصاحفهم وكتبهم الدينية، ومنعوهم من أداء شعائرهم الدينية، وأغرقوهم بالمهجرين الشيوعيين من مناطق أخرى، لتصبح نسبة المسلمين في هذا البلد المسلم 10% بعد أن كانت نسبتهم من قبل أكثر من 90%.
وقد ذكر أن المسلمين الذين تم قتلهم من سنة 1950م إلى سنة 1972م بلغ 360 ألفا، وأن الذين سيقوا إلى المعسكرات التعذيبية والأشغال الشاقة بلغ عددهم (500) ألف، وأن الذين هربوا من ديارهم بسبب ذلك العدوان بلغ (100) ألف[ -راجع محلة الإصلاح عدد 219 ص35 ومجلة المجتمع الكويتية عدد 967 ص28.]
هذه الفظائع ذكرت في بلد واحد من بلدان الصين وهو تركستان الشرقية.
أما على مستوى الصين فالأمر أعظم من ذلك، وقد ذكر لي الشيخ عبد الرحمن بن إسحاق الصيني الذي زرته في مدرسة التقوى في مدينة تشانجماي في شمال تايلاند في 24/11/1409هـ. أن الشيوعيين في الصين قتلوا خلال ست عشرة سنة من سنة 1950م إلى 1976م عشرة ملايين (ولا بد أن يكون للمسلمين حظهم الوافر من هذا القتل) ومات بسبب الجوع سبعة ملايين.
أما المسلمون فقد كانت مساجدهم في الصين (45) ألف مسجد، فصادرها الشيوعيون وحولوها إلى مصانع ومسارح ودور سينما، وبنوا في محاريبها الطاهرة التي كان الأئمة يتلون فيها كتاب الله ويسجدون فيها لربهم، المراحيض إهانة لها وللمسلمين، وقتلوا كثيرا من الأئمة والعلماء، وقتلوا من المسلمين ما لا يقل عن مليون شخص.
وكانوا يأمرون العالم المسلم بحمل القاذورات ليسمد بها الأرض الزراعية، ويعلقون في عنقه الكومة من تلك القاذورات، ويقولون له من باب التهكم والإذلال والسخرية بربه وبدينه: إذا كنت تعبد الله فادعه ليساعدك...[المجلد الخاص بتايلاند من سلسلة (في المشارق والمغارب) مخطوط في مكتبة المؤلف.]
وهذه الفظائع هي التي علمت، وما لم يعلم أكثر من ذلك بكثير، وبخاصة إذا علمنا أن الشيوعيين يحيطون بلدانهم وتصرفاتهم بما يسترها من الكتمان والحجر الإعلامي، وعدم الإذن بتسرب تلك التصرفات، ولكن ذلك يكفي لمعرفة أن الرحمة قد نزعت من قلوبهم.
[راجع على سبيل المثال ما نشر على أحد مواقع الإنترنت على الوصلة الآتية: http://www.islam-online.net/A r abic/news/2001-06/17/A r ticle36.shtml ]
وفي هذه الأيام يعيث الشيوعيون ذوو الأسماء الإسلامية في طاجكستان فسادا في هذا البلد المسلم، فقد قتلوا الآلاف من المسلمين الذين يطالبون بالتمتع بالإسلام، وشردوا مئات الآلاف، وأخافوا الآمنين من أبناء البلد متعاونين مع الشيوعيين من ذوي الأسماء الإسلامية في بلدان أخرى ومع الروس بمساعدات من الغرب وبخاصة أمريكا، والكفر ملة واحدة [راجع مجلة المجتمع عدد 1038-25شعبان 1413هـ-ص22.].
بل لقد غزت روسيا الجمهورية الشيشانية في 9/7/1415هـ-الموافق 11/12/1994م-ودمرت عاصمتها جر وزني تدميرا كاملا، وقتلت المسلمين المدنيين، ولا زالت تواصل القتل والتدمير على مرأى ومسمع من دول الصليب التي تدعي أنها ترعى حقوق الإنسان، بل على مرأى ومسمع من حكام الشعوب الإسلامية الذين ماتت الحمية في نفوسه على حفظ ضروراتهم التي لا حياة لهم بدونها.
وقد تكبد الروس خسائر فادحة في جمهورية الشيشان الإسلامية، وخرجوا منها يجرون أذيال الهزيمة، كما خرجوا من أفغانستان، وذلك بفضل الله ثم بفضل قوة إيمان أهلها... ثم غزت روسيا الشيشان مرة أخرى في سنة 1420هـ ـ1999م ودمرت البلد مرة أخرى وعاثت فيه فسادا، ولا زالت القوات الروسية تحتل هذا البلد المسلم، وتقتل أهله وتشردهم وتعتقلهم، وموقف دعاة حقوق الإنسان الغربيين هو موقفهم المعروف، عندما يكون الإنسان مسلما لا يحركون ساكنا، اللهم إلا إظهار شيء من الاستنكار البارد، ليقال عنهم: إنهم أنكروا! وليقارن المسلم موقف الغرب من الشيشان، وموقفهم من تيمور الشرقية التي أجبروا إندونيسيا على التخلي عنها خلال فترة وجيزة!
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============(43/153)
(43/154)
(43/155)
مسلمو سلوفاكيا وشوق طويل لاعتراف رسمي
عبد الرحمن أبو عوف 3/9/1427
25/09/2006
كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر تأثير كبير على أوضاع المسلمين في جمهورية سلوفاكيا؛ إذ سعى المسلمون - والذين لا تتجاوز أعدادهم عشرة آلاف نسمة من مجموع سكان البلاد الذين يصل تعدادهم إلى خمسة ملايين نسمة - إلى محو الصورة السلبية عنهم التي استقرت لدى الرأي العام في سلوفاكيا.
وقد تحرك العشرات من شباب وكوادر الحركة الإسلامية في سلوفاكيا تحركات نشطه عبر المؤسسة الإسلامية في يراتيسلافا والاتحاد العام للطلبة المسلمين والمسجد الموجود في العاصمة لانتزاع اعتراف رسمي من الدولة بالإسلام كدين رسمي بالبلاد، وهو ما يترتب عليه حصول المسلمين على جميع حقوقهم .
ومن الجدير بالذكر أن سلوفاكيا إحدى دول وسط أوروبا، حيث يحدها من الشمال الغربي جمهورية التشيك التي شكلت معها لمدة سبعين عاماً ما عُرف سابقا بـ"تشيكوسلوفاكيا" قبل أن يحدث الانفصال التاريخي بينهما عام 1993، ومن الشمال بولندا، ومن الشرق أوكرانيا، ومن الجنوب المجر، ومن الجنوب الغربي النمسا. ويعيش في سلوفاكيا أغلبية سلافية نصرانية في حين تتواجد أقليات من اليهود والمسلمين؛ إذ عانت البلاد - شأنها شأن جميع دول أوروبا الشرقية - من الشيوعية التي فرضت قيوداً على الأديان وخصوصاً الإسلام، وحوّلت المساجد والمدارس الإسلامية إلى مخازن للغلال ومتاحف ومارست ضغوطاً على الجميع، حتى بزغت شمس التحوّلات التاريخية في سلوفاكيا التي أنهت سيطرة الشيوعيين على مقاليد الحكم .
وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام قد دخل سلوفاكيا عبر الفتح التركي الذي استمر لأكثر من (150) عاماً، غير أنه لم يفلح في تحقيق نتائج جيدة في سلوفاكيا بالمقارنة بما حدث مع دول أوروبية أخرى.
وعن طريق بعض الدعاة القادمين من المجر المجاورة، وكذلك عبر الوجود الطلابي المكثف لطلاب المسلمين في الجامعات التشيكية إبّان الاتحاد مع سلوفاكيا، وقد ساهم هذا الوجود في وضع أساس الوجود إسلامي في سلوفاكيا، كما لعبت الزيجات المتبادلة بين المسلمين والسلفاك دوراً مهماً في انتشار الإسلام هناك.
على الرغم من قدم الوجود الإسلامي في جمهورية سلوفاكيا فإن الدين الإسلامي غير معترف به حتى الآن، مما يشكل صعوبات شديدة أمام نيل المسلمين لحقوقهم في هذا البلد، فغياب الاعتراف الرسمي بالدين الإسلامي وقف حائلاً دون إنشاء مساجد جديدة أو مراكز إسلامية لخدمته في ظل تداعي أحوال المسجد الوحيد الموجود في العاصمة يراتيسلافا، فضلاً عن أن هناك رفضاً شديداً لوجودهم في سلوفاكيا، متأثراً بالحملات القوية التي شُنّت ضد المسلمين، ونظرت إليهم بصفتهم إرهابيين يشكّلون دعماً للقاعدة وزعيمها أسامة بن لادن.
مخاوف من الوجود الإسلامي
وقد لعب هذا التوجّس من الوجود الإسلامي دوراً مهماً في رفض طلب الجالية المسلمة في سلوفاكيا ببناء مركز إسلامي، على الرغم من امتلاكها لقطعة أرض تزيد مساحتها على ألف متر، وساقت الجهات الإدارية حججاً واهية لتسويغ موقفها غير المنطقي.
وزاد من تعقيد وضع المسلمين في سلوفاكيا عدم وجود هيئة إسلامية تشرف على شؤون المسلمين، وتسعى لحل مشاكلهم أمام سلطات الدولة الرسمية، ومع هذا حاول المسلمون تحويل مسجد براتسلافا المتواضع إلى هيئة تتحدث باسم المسلمين، حتى لو كانت غير رسمية، ولا تقف مأساة مسلمي التشيك عند هذا الحد، بل إن الطين يزداد بلة عندما يصطدم المسلمون في سلوفاكيا بوجود معارضة شعبية مناهضة لوجودهم؛ إذ لا يحمل السلوفاك ذكريات طيبة عن الوجود العثماني في البلاد، والذي استمر لأكثر من (150) عاماً لم ينجح خلالها في أسلمة قطاع كبير من البلاد، كما حدث في البانيا والبوسنة ومقدونيا ورومانيا والمجر وغيرها من البلدان، وذلك بسبب التعصب الشديد من قبل الشعب السلوفاكي لهويته النصرانية، سواء الكاثوليكية أو الأرثوذكسية.
وتزداد المسألة صعوبة حين ندرك أن هناك موقفاً مسبقاً لدى السلوفاك ضد أي تجمع إسلامي؛ إذ ينظرون إليه كأنه قنبلة موقوته تستعد للإنفجار في أي لحظة تجاه المواطنين السلوفاك المسلمين، ويستغل اللوبي الصهيوني هذا الموقف المسبق في التحريض على الوجود الإسلامي المحدود في سلوفاكيا، غير أن الأمر لا يبدو كله سيئاً، فللقضية وجه إيجابي؛ فهذا الرفض للوجود الإسلامي لم يوجد حالة من اليأس في أوساط المسلمين، بل على العكس حفز الكثير منهم على السعي لإزالة هذه الصورة المشوهة عنهم، ونقل صورة نقية عن الإسلام وثقافته، محذّرين من سوء الفهم، والصورة النمطية المطبوعة في عقول السلوفاك عن الإسلام، ونظّمت الجالية المسلمة هناك العديد من الفعاليات والبرامج طوال السنوات السابقة، ودشّنت موقعاً على شبكة المعلومات الدولية تحدث فيه عن الإسلام والمسلمين في سلوفاكيا باللغتين العربية والسلوفاكية.
صحوة إسلامية(43/156)
وتواصلت جهود مثقفين مسلمين لإيجاد نوع من الصحوة الإسلامية عن طريق ترجمة العديد من الكتب الإسلامية من اللغة العربية واللغات الأوروبية إلى السلوفاكية، وحرص المسلمون كذلك على إقامة معارض إسلامية تهدف إلى التعريف بالإسلام والرد على أسئلة واستفسارات زائري المعرض.
واختار مسلمو سلوفاكيا مجمع "اوبارك" - الذي يُعدّ واجهة لاستقطاب مواطني البلاد والسياح القادمين من الدول الأوروبية - مقراً لإقامة المعرض الذي يضم (30) لوحة جدارية تتضمن شرحاً موجزاً عن الإسلام والقضايا ذات الصلة، وعلى رأسها مكانة المرأة في الإسلام، وترجمات لمعاني القرآن باللغات الحية، علاوة على فنون الخط العربي، كما وُزّعت على هامش المعرض أعداد كبيرة من المواد التعريفية بالإسلام، والتي حظيت باهتمام الرأي العام السلوفاكي.
كما تحاول عدد من المنظمات والجمعيات الإسلامية دعم نشاط الأقلية المسلمة، وتقديم العون لأبنائها، ومن بين تلك المنظمات جمعية الوقف الإسلامي والاتحاد العام للطلبة المسلمين؛ إذ يعملون على تحسين ثقافتهم الدينية وتنمية وعيهم بقضايا الأمة الإسلامية وتبصيرهم بالأساليب المناسبة لتحسين صورة الإسلام.
مؤامرات صهيونية
وأياً كانت الأوضاع في سلوفاكيا فإن الوجود الإسلامي في هذا البلد الشرقي سينمو باطّراد، ولن تنجح المؤامرات الصهيونية، أو الرفض الشعبي لهذا الوجود في إصابة الجالية الإسلامية باليأس، فالنماذج الناجحة التي يتمتع بها المسلمون المقيمون في سلوفاكيا، ووصولهم إلى مناصب رفيعة المستوى، والخطاب الفاعل الجديد الذى تبنّوه في الفترة الأخيرة والذي يدور حول درء الشبهات عن الدين الحنيف، والتأكيد للشعب السلوفاكي أن الوجود الإسلامي فاعل ويخدم مصالح البلاد، وأن المسلمين لن يكونوا أبداً شريكاً في أي عمل أو تصرف يضر بالمجتمع السلوفاكي، ويعتقد الكثيرون أن هذا الخطاب سيؤتي ثماره في المستقبل، خاصة مع انضمام سلوفاكيا للاتحاد الأوروبي وتوقيعها على اتفاقيات تحافظ على حقوق الأقليات الدينية، وأهمها الاعتراف بالإسلام كدين رسمي، وفتح الباب أمام الجالية المسلمة للحصول على دعم من الدولة وإنشاء مدارس ومساجد ومراكز إسلامية ستكون مهمتها الأولى الحفاظ على هوية مسلمي سلوفاكيا.
=============(43/157)
(43/158)
تلبيس مردود في قضايا حيَّة
1 - المساواة والحرية 2- لا إكراه في الدين 3- الإسلام والرق 4- المرأة
5- الميراث 6- الطلاق 7- تعدد الزوجات 8- حقيقة الجهاد 9- أمم الأرض والقوة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
فقد وصلتني أسئلة من أحد المراكز الإسلامية في بلاد الغرب أثارتها مؤسسة صليبية تنصيرية تسمي نفسها (( الآباء البيض )) .
وحينما اطَّلعت عليها ما وسعني إلا القيام بالإجابة عليها .
وطبيعة الأسئلة وما يقرأ فيها مما بين السطور في الظروف التي تعيشها التوجهات الإسلامية في أوساط الشباب وغير الشباب أشعرتني بلزوم الإجابة .
كما أن هذا التوجه الكنسي في إثارة هذه الأسئلة وأمثالها له أبعاد لا تخفى وحلقة في سلسلة لا تنقطع يدركها القارئ للتاريخ والمعايش للتحركات النصرانية والتطويرات المتسارعة لجهودهم وتنوع أساليب هجومهم على الأصعدة كافة .
فاستعين بالله الكريم رب العرش العظيم على ذلك نصرة لدين الله وغيرة على أهل الإسلام وجهاداً بالقلم واللسان إن شاء الله .
والقضايا المثارة في الأسئلة يمكن تصنيفها حسب المواضيع الرئيسية التالية :
- المساواة .
- الحرية (( حرية الدين - الرق )) .
- المرأة .
- تطبيق الشريعة .
- الجهاد .
توطئة :
1- هذه الأسئلة لم تكن وليدة الساعة ولكنها أسئلة وشُبَهٌ قديمة قِدَمَ الهجوم على الإسلام .
وإن المطلع عليها وعلى أمثالها مما هو مبثوث هنا يدرك أن واضعيها على مختلف إعصارهم وأغراضهم لا يريدون الجواب ولا يقصدون تلمس الحق ولكنهم يلقونها في وسط ضجيج كبير يثيرونه في عمق المجتمع وفي ساحاته الفكرية ثم ينطقون بسرعة خاطفة وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم خوفاً من أن يسمعوا أو يدركوا جواباً سليماً . فكأن مبتغاهم إلقاء متفجرات موقوتة في أشد الساحات ازدحاماً ثم يفرون على عجل قبل أن تنفجر فيصيبهم شيء من شظاياها .
2- كم هو جميل أن يتفق على مُسلَّمات بين المتحاورين ليكون منها المنطلق وإليها المردّ .
ولكن إحساس الباحث أن المقصد من وراء إثارة هذه الأسئلة هو التشكيك وزرع الشبه بل من أجل استعداء الآخرين باسم الانتصار للمرأة ومحاربة التفرقة العنصرية والدندنة حول المساواة وحقوق الإنسان وغير ذلك من الدعاوي العريضة وأنت خبير بأنها مبادئ بل دعاوي لها بريقها عند المستضعفين والمغلوب على أمرهم ولكنها عند التحقيق والتدقيق سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً بل يجد كبيراً مستكبراً يحتضن صغيراً محقوراً يربّت على كتفه ليأكله حالاً أو يحتفظ به ليسمن رقيقة من القانون والمدنية أفرزتها التقنية المعاصرة في جملة ما أفرزته.
3- عند الحوار يجب أن يتقرر النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يحتذى ليكون مرجعاً في التمثيل وهدفاً يسعى إلى بلوغه .
وحيث إن هذه الأسئلة صدرت من مؤسسة تنصيرية اسمها (( الآباء البيض )) فهل تريد هذه المؤسسة أن تكون المبادئ النصرانية هي النموذج المحتذى به ؟ لا أظن ذلك لأن الجميع من النصارى وغيرهم يعلم واقع النصرانية من خلال كتابها المقدس ومن خلال ممارسات البابوات والرهبان في الماضي والحاضر ، وفي ثنايا إجاباتي هذه قد أُلمح إلى نموذج من الانحرافات النصرانية والكنيسة .
وإن كانت اليهودية هي الأنموذج فحقيقة النصرانية وبابواتها وأحبارها ومراجعها يرون أن اليهودية محرفة وغير صالحة .
أما إذا كان الأنموذج هو الحضارة الغربية المعاصرة فما شأن البابوات وأتباعهم بها ؟ وإن كانوا معجبين بها وعندهم قناعة ليعرضوها على الناس ويدعوهم إليها فهذه تبعية مخجلة لأن هذه الحضارة - كما يعلم القاصي والداني - من أهم الأسباب المقررة في ازدهارها بُعْدُها عن الكنيسة ورجالاتها وقد شردت هاربة منها هروباً لا رجوع بعده إلا إذا أرادت هذه الحضارة أن تنتكس في رجعية القرون الوسطى كما يقولون .
أما الكاتب هنا فلا يرى نموذج هذه الحضارة صالحاً ليكون المحتذى إذ أن فيه انحرافاً ظاهراً وبؤساً على البشرية يحيط العالم بسببه خوف وإرهاب وتوتر وقلق يوشك أن ينتهي إلى تدمير حقيقي شامل يعم الحضارة وصنَّاعها . وفيه غير الانحراف مبادئ جوفاء من حقوق الإنسان والمساواة لا واقع لها وإن كان لها شيء من الواقعية فهو مختص بالرجل الأبيض أما من عداه فليس إلا ... قانون الغاب أو مبدأ (( الغاية تبرر الوسيلة )) .
وبهذا يتقرر - مع الأسف - أنه ليس ثمة أرضية مشتركة أرضية مشتركة مقنعة ننطلق منها لنصل إلى نتيجة مقنعة .
4- جميع الأسئلة المثارة لا يوجد لها جواب في الديانة النصرانية والعقيدة المسيحية فكيف تثيرها مؤسسة تنصيرية ؟
فقضايا الرق وقضايا المرأة والحروب المقدسة والتفرقة بين معتنقي النصرانية وغيرهم كلها مقررة في الديانة النصرانية ومن حق القارئ أن يعرف ما هو جواب المسيحية على ذلك .
وحيث إن الجواب بالسلب فلماذا لا يتركون الدعوة إلى النصرانية لأنها تتبنى كل هذه القضايا المثارة ؟
ولكنها أثيرت هذه الأيام باعتبارها معايب ونقائص يقصد منها النيل من الإسلام والمسلمين .(43/159)
5- وأمر أدهى وأمرّ وهو شعور المطلع على هذه الأسئلة بعدم التجرد من قبل واضعيها .
فاتِّباع الهوى فيها هو المسيطر على مجريات الأسئلة مع تبني أحكام وتصورات مسبقة لديهم .
6- إنه ليحزنني أن تكون هذه المقدمة التي أدخل بها إلى هذا الموضوع وأجوبته ، ومع هذا فليعلم كل مطلع وليستيقن كل ناظر أني سأبذل قصارى الجهد في قصد الحق والتماسه خوفاً من الله عز وجل ورجاءً فيما عنده وأداءً للأمانة ونصحاً للبشرية كلها .
7- وأنبه المطلع الكريم أن هذه الإجابة قصد بها خطاب غير المسلمين ممن لا يدينون بالاستدلال بالنصوص الشرعية - كتاباً وسنة - ومن ثم جاءت المناقشة والحوار أقرب لمخاطبة العقل ومحاورة الفكر والنظر من أي شيء آخر .
على أنه قد جرى إيراد حشد من النصوص الشرعية حين اقتضى الأمر ذلك كما يلحظ في موضوع الرق وغيره .....
وأقول بكل ثقة واعتزاز إن ديني هو الإسلام وإيماني به لا يتزعزع والقرآن كلام الله حقيقة و صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وهو رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام من أنبياء الله ومن أولي العزم من الرسل . والله قد بعث في كل أمة رسولاً . والإسلام هو دين الله الخاتم الذي لا يقبل ديناً غيره .
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
هذا وقد أجريت تغييراً في ترتيب الأسئلة وصنفتها حسب موضوعاتها ولم ألتزم ترتيبها الأصلي. وسوف أثبت في آخر الأجوبة مجموعة الأسئلة حسب ترتيب واضعيها .
المساواة
المساواة في البشر ترجع إلى مدى تطابقهم وتماثلهم في الصفات الخَلْقية والخُلُقية فكلما تطابقت هذه الصفات أو تقاربت كانت المساواة والمماثلة أدق وأقرب وإذا تفاوتت لزم التفاوت في الآثار .
وأخذاً من هذه المقدمة فمن المتعذر الجزم بالتساوي المطلق بين بني البشر غير أننا نقول إن الأصل هو التساوي في الحقوق والواجبات لوجود الحد الأدنى من التماثل في القدرات البدنية والكفاءات الذهنية التي تجعلهم قادرين على فهم النظم والقوانين واستيعابها وتطبيقها والاستجابة لها والمحاسبة عليها ولكن من المعلوم أن أصل خلقة البشر جاءت على التفاوت في المواهب والأخلاق مما يجعل هناك موانع جبلية واجتماعية وسياسية على نحو ما هو مثار في الأسئلة .
وبعض هذه الموانع قد يكون مؤقتاً وقد يكون دائماً وبعضها قد يكون قليل الحصول وقد يكون أغلبياً .
غير أن أثر كل مانع مقصور على نفسه فلا يمنع المساواة في الحقوق الأخرى . فصاحب الخُلُق الفاضل لا يساوي دنيء الخلق في مجاله لكنه لا يمنع التساوي معه في الحقوق الأخرى ، والذكي لا يساوي الغبي ، والمرأة ليست كالرجل في صفاتها ومواهبها وقدراتها (( وسيأتي للكلام عن المرأة موضوع مستقل إن شاء الله )) .
هذه بعض الموانع الجبلّية الخَلْقية .
ومن الموانع الاجتماعية أي الموانع التي اتفق عليها المجتمع نتيجة للتجارب وممارسة الحياة وهي في حقيقتها راجعة إلى القناعة العقلية المؤكدة للتفاوت في هذه الصفات . منع التساوي بين العالم والجاهل فإن الناس متفقون على أن الجاهل لا يستحق الصدارة في المسئوليات والاعتماد عليه في قضايا الأمة وشؤون المجتمع .
ومن الموانع السياسية ما يتفق عليه أهل الحكم والإدارة من منع بعض الفئات من تولي مسئوليات في الدولة لأسباب سياسية أو عسكرية وهو أمر معترف به بين الأمم من غير إنكار وذلك كمنع الأجنبي من تولي مسئولية من المسئوليات الحكم في الدولة حيث تقصر هذه الولايات والوظائف على الوطنيين ومثله حق الانتخاب والمنع من بعض الحرف والاستثمار .
والتنظيم الخاص بالعسكريين والدبلوماسيين ومنعهم من الزواج بالأجنبيات وأمثال ذلك كثير، ويندرج في ذلك منع الذميين في دولة الإسلامية من تولي بعض الولايات .
ومثله منع أهل الذمة من الزواج بالمسلمات مما سيأتي له مزيد تفصيل .
ويمكن اعتبار المثالين الأخيرين من الموانع الشرعية لأن هذه أحكام مقررة في الشريعة الإسلامية وهي ترجع - كما يلاحظ القارئ - إلى أمور منطقية أعراف اجتماعية صحيحة .
هذه أمثلة يمكن من خلالها فهم الضوابط ومن ثمَّ القناعة بعدم إمكان المساواة المطلقة بين الناس .
بل لو قيل بالمساواة المطلقة لترتب على ذلك أمور لا يطيقها البشر ولأدَّى بالناس إلى إهمال مواهبهم وإهدار طاقاتهم وذلك فساد قبيح ظاهر يؤول إلى اختلال نظام العالم في إلقاء المميزات والحقوق التي تقود إلى البناء والإصلاح وتقدم العالم . وانهيار الشيوعية الذي نشهده هذه الأيام برهان ماثل لأهل العقل والحكمة .
وإذا كان الأمر كذلك فإن التفاوت في المواهب واستغلالها وطريقة الاستفادة منها يترتب عليه تفاوت مادي فيما يستحقه كل صاحب موهبة يفيد منها أهله ومجتمعه . ومن أجل هذا برز الترتيب الوظيفي في رؤساء المصالح ومديريها ومن دونهم .(43/160)
والشريعة الإسلامية وتمشياً مع الفطرة السليمة - لا يمكن أن تدعو إلى مساواة تُلْغِي فيها هذه الفروق الفردية والمواهب الشخصية والتمايز الموجودة بين بني الإنسان مما له أثر في صلاح العالم أفراداً ومجموعات وذلك الصلاح والإصلاح هو غاية الشريعة ومقصدها .
إذن هذا هو التفاوت المؤثر والمقتضي للمنع من المساواة عند وجوده .
أما التمايز بسبب الجنس أو اللون أو اللغة فهو غير مؤثر في شريعة الإسلام ألبتّة لكنه مشار إليه في الشريعة على أنه آية من آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته واستحقاقه للعبادة سبحانه .
ولهذا النوع من التمايز وظيفة أخرى نبه إليها الإسلام ، وهي وظيفة التعارف والتآلف وفي النص القرآني الكريم : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...} [ سورة الحجرات ، الآية : 13 ] .
يؤكد هذا في دين الإسلام أنه من المتقرر عند المسلمين أن الله لم يخلق شعباً فوق الشعوب ولم يميز قوماً على قوم ، وقيمة الإنسان عند الله وعند الناس ما يحسنه ويقوم به من عمل صالح وجهد طيب في طاعة الله وإتباع أمره ، وهو ما يصطلح عليه في الشريعة : (( التقوى )) ، وفي النص القرآني : { إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ } . [ سورة الحجرات ، الآية : 13 ] .
ويقرر ذلك نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بقوله : (( أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى ...)) . [ أخرجه أحمد والترمذي عن أبي نضرة وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ] .
وقد سئل صلى الله عليه وسلم : (( أي الناس أحب إلى الله ؟ قال أنفع الناس للناس )) .
أخرجه الطبراني وغيره بألفاظ متقاربة ، وهذا لفظ الطبراني من حديث ابن عمر .
الحرية
سوف يكون الكلام في هذا المقام من عدة جوانب :
1- لا إكراه في الدين .
2- الحرية الدينية لغير المسلمين في بلاد الإسلام .
3- حكم الردة .
4- الرق .
مقدمة : حرية الفكر لا حرية الكفر :
جاء في صيغة السؤال حول الحريات العبارات التالية :
(( كيف يمكن التوفيق بين حرية التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان ....... إلخ ))
والذي نقوله : إن حرية التفكير مكفولة وقد منح الله الإنسان الحواس من السمع والبصر والفؤاد ليفكر ويعقل ويصل إلى الحق وهو مسئول عن التفكير الجاد السليم ومسئول عن إهمال حواسه وتعطيلها كما أنه مسئول عن استخدامها فيما يضر .
أما حرية الاعتقاد فلم يمنحها الله سبحانه مطلقة بحيث يعتقد كل إنسان كما يشاء بل الله سبحانه يلزم العقلاء البالغين من البشر باعتقاد ربوبيته وألوهيته وطاعته والخضوع له وحده ولا يقبل منهم غير ذلك .
برهان ذلك : أن هذا العالم الرحب الذي نعيش فيه لم تبن جنباته كيفما اتفق ولم تُركم مواده بعضها فوق بعض بطريق الجزاف بل هو مخلوق مصنوع وفق نظام محكم وقانون دقيق ، فما يطير في الجو انخفاضاً وارتفاعاً محكوم بقانون ، وما يلقى في الماء من أجسام غوصاً وطفواً وسبحاً مضبوط بقانون . وما ينبت في الأرض من نبات فيختلف طعمه ولونه وثمره خاضع لقانون فكل ما في السماء وما في الأرض قد خلق مقروناً بالحق وما على من ينشد الحق والحقيقة إلا أن يتصفح صفحات هذا الكون الفسيح ليعرف من حقائقه ما يزيده بالخالق إيماناً وبصنع هذا العالم دقة وإتقاناً .
والإنسان لا يولد عالماً ولا عارفاً ولكنه يولد مزوداً بوسائل العلم والمعرفة عقلاً وسمعاً وبصراً خلق ليعر الحق ويستدل له ويستدل عليه لا ليعيش على الباطل ويسير في مساكله المعوجة .
والحرية في هذا الميدان مطلقة ما دام أنها في الكون وآياته وفيما تناله وسائل الإنسان وقدراته.
وبهذا الضابط نقول : إن حرية الفكر والتفكير مكفولة مطلقة .
ولكن حرية الشهوة مقيدة فمن غير المقبول في العقول الاندفاع وراء الرغبات والغرائز لأن طاقة الإنسان محدودة فإذا استنفذت في اللهو والعبث والمجون لم يبق فيها ما يدفعها إلى الطريق الجاد ويدلها على مسالك الحق والخير . وبناءً عليه فإن ما يرى في عالمنا المعاصر وحضارته المادية من إيجابيات خيرة فهي من حسن استخدام حرية الفكر والنظر وما يرى من أضرار وانتكاسات وقلاقل نفسية وغير نفسية فهي من إطلاق حرية الهوى والعبث .
ومن أجل هذا فإننا نقول بكل قوة وثقة : (( في الوقت الذي يطلق فيه للفكر حريته يجب أن تحجر النفوس عن أهوائها )) .
فعلينا ونحن نتحدث عن الحرية أن نفرق بين الأمرين ونميز بين النهجين .
الحرية الحقيقية :
حينما قلنا إن الإنسان ليس حراً في الاعتقاد بل يجب أن ينحصر اعتقاده في الله وحده رباً ومعبوداً لا يجوز أن يخضع لغيره أو يطيع سواه فيما يخالف أمر الله .
نقول ذلك لأن هذا هو ضامن الحرية الحقيقية على هذه الأرض ..... لماذا ؟(43/161)
لأن البشرية منذ القدم وحتى اليوم وهي تعاني في كثير من ديارها من طواغيت متنوعة خضعت لها رؤوسها وذلت لها رقابها حتى اندثر كل معنى للحرية وغاب كل أثر للكرامة الإنسانية في نفوس هؤلاء الخاضعين لغير الله .
فالخضوع والخوف والرهبة والانقياد والاستسلام لا يكون إلا الله الذي له صفات الكمال المطلق فهو وحده الغني القادر المسيطر القاهر الحاكم العدل الذي لا يجوز عليه الظلم لأن الظلم أثر من آثار الضعف والحاجة ، والله منزه عن كل ذلك .
أما من خضع لغير الله فقد انتقص من حرية نفسه بمقدار خضوعه وذلته لغير ربه .
والطواغيت التي سلبت الناس حرياتهم كثيرة من أمثال علماء السوء والأحبار والرهبان والكهان والحكام والدرهم والدينار .
وترقى الأمر عند هذه الفئات حتى حرفوا الكتب المنزلة على الرسل لتتمشى مع أهوائهم وأدخلوا فيها ما ليس منها وترقى بهم الأمر إلى أن جعلوا لأنفسهم صلاحية منح الثواب وإنزال العقاب وإعطاء صكوك غفران بمحو الذنوب ودخول الفردوس الأعلى .
ومن صور ذلك في وقتنا المعاصر الطغيان المادي والتفسير المادي للتاريخ والحوادث ، واستعباد الشهوات والملذات .
ومن هنا فإن الدعوة إلى التوحيد والخضوع لله وحده دعوة لإقامة صرح الحرية ورفض ورفع قيود الظالمين عن أعناق البشر .
وبهذا تحمي حرية الإنسان من أن يسلبها أولئك المتطاولون المغرورون فلا يحني الإنسان رأسه أو تذل هامته لأحد من بني البشر أيًّا كان على الإطلاق لأنه خضوع للباطل وتعدٍ على الحرية .
لا إكراه في الدين :
الإكراه في الإسلام على الدين والعقيدة منفي من عدة جهات :
الأولى :
إن من آمن مكرهاً فإن إيمانه لا ينفعه ولا أثر له في الآخرة ، فلا بد في الإيمان أن يكون عن قناعة واعتقاد صادق واطمئنان قلب .
وقد جاء في القرآن الكريم : عن فرعون حين أدركه الغرق أنه أعلن الإيمان والتصديق بالله ربًّا ومعبوداً ولكن ذلك لم ينفعه:{.حَتَّى إِذّا أَدْركَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائِيل وأَنَا من المُسلِمِيِن .آلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِين}.[ سورة يونس،الآيتان :90، 91 ]
وجاء في حكاية قوم آخرين : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُواْ ءآمنَّا بِاللهِ وَحْدهُ وكَفَرْنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يكُ يَنَفعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأواْ بَأسَنَا } [ سورة غافر ، الآيتان : 84 ، 85 ] .
بل التوبة من الذنوب والمعاصي لا تكون مقبولة إلا إذا كانت عن اختيار وعزم صادق .
الثانية :
وظيفة الرسل والدعاة من بعدهم مقصورة على البلاغ وإيصال الحق إلى الناس ، وليسوا مسئولين عن هدايتهم واعتناقهم للدين واعتقادهم الحق فالمهمة هي البلاغ والإرشاد و المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما الاهتداء والإيمان فليس إلى الرسل ولا الدعاة .
وهذا يؤكد جانباً من جوانب الحرية إلا وهو تحرر الإنسان من كل رقابة بينه وبين خالقه فالعلاقة مباشرة بين الإنسان وربه من غير واسطة أو تدخل من أحد مهما كانت منزلته سواء أكان ملكاًً أو نبياً أو غير ذلك .
ومما يؤكد ذلك في القرآن الكريم ما جاء في حق صلى الله عليه وسلم : { فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} . [ سورة الغاشية ، الآيتان : 21 ، 22 ] .
الثالثة : واقع غير المسلمين في بلاد المسلمين :
عاش الذميون وغيرهم في كنف الدولة الإسلامية دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم ، بل لقد جاء في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة ليرسم به منهجاً ودستوراً في التعامل : [ ومن تبعنا من يهود فإنه له النصرة والأسوة ... لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .... وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ] .
وأقرهم على دينهم وأموالهم كما كان الحال مشابهاً مع نصارى نجران .
وصحابة الرسول من بعده ساروا على طريقه في معاملة غير المسلمين .
فكان من أقوال خليفته أبي بكر رضي الله عنه لبعض قواده : (( .. أنتم سوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ... ))
ومن وصايا الخليفة الثاني عمر : (( .... أوصي بأهل الذمة خيراً أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألا يكلفوا فوق طاقاتهم ....... ))
ومن أقوال علي الخليفة الرابع : (( .... من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا ..... )).
وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفلوا لإتباع الأديان الذين يعيشون في ظل الإسلام البقاء على عقائدهم ودياناتهم ولم يرغم أحد على اعتناق الإسلام . ومعلوم لدى القاصي والداني أن هذا لم يكن موقف ضعف من دولة الإسلام بل كان هذا هو مبدأها حتى حين كانت في أوج قوتها أمة فتية قادرة .
ولو أرادت أن تفرض على الأفراد عقيدتها بالقوة القاهرة لكان ذلك في مقدورها لكنها لم تفعل .
الرابعة :
المسلم إذا تزوج كتابية فإنه لا يلزمها بالتخلي عن دينها والدخول في الإسلام بل لها الحق الكامل في البقاء على ديانتها وحقوق الزوجية محفوظة لها كاملة .(43/162)
حكم الردة :
الكلام عن الردة ينتظم عدة جوانب :
أولها : الإيمان بالإسلام المبني على الإكراه والجبر - غير معتد به - كما سبق - أي أنه لا يدخل الداخل فيه حقيقة إلا إذا كان عن اقتناع ورضاً وتبصر .
ذلك أن النظرة العاقلة المنصفة تؤكد كمال هذا الدين وتنزهه عن الباطل وتحقيقهُ لحاجات البشر وتوافقهُ مع الطبائع السليمة التي فطر الله الناس عليها .
الثاني : في تاريخ الإسلام الطويل لا يكاد يذكر مرتد ارتد عن هذا الدين رغبة عنه وسخطاً عليه وإن وجد فلا يخلو من أحد رجلين ، إما أن يكون لمكيدة يقصد بها الصد عن دين الله كما حصل من بعض اليهود في أول عهد الدعوة حينما تمالأ نفر منهم بأن يؤمنوا أول النهار ثم يكفروا آخره من أجل إحداث البلبلة في المؤمنين لأن اليهود أهل كتاب فإذا حصل منهم هذا يختلج في بعض النفوس الضعيفة أن هؤلاء اليهود لو لم يتبينوا خطأ في هذا الدين الجديد لما رجعوا عنه فكان مقصودهم الفتنة والصد عن دين الله . وإما أن يكون هذا المرتد رجلاً يريد أن يطلق لشهواته العنان ويتحلل من ربقة التكاليف .
الثالث : الخروج عن الإسلام يعتبر خروجاً على النظام العام ذلك إن الإسلام دين كامل كما يهتم بعلاقة الإنسان بربه فهو يهتم بعلاقته بغيره من بني جنسه بين المرء وزوجه وبينه وبين أقربائه وجيرانه وفيما بينه وبين أعدائه حرباً وسلماً في شمول منقطع النظير عبادة ومعاملة وجناية وقضاء إلى سائر ما تنقسم إليه قوانين الدنيا بل أوسع من ذلك . وبناءً على هذا فيجب النظر إلى الإسلام ككل متكامل وليس قاصراً فقط على علاقة العبد بربه كما يظنه غير المسلمين.
وإذا كان ذلك كذلك فالردة تعني الخروج على النظام .
الرابع : في جعل العقوبة على الردة إباحة دم المرتد زاجرٌ لمن يريد الدخول في هذا الدين مشايعة ونفاقاً للدولة أو لأهلها وباعثٌ له على التثبت في أمره فلا يعتنقه إلا على بصيرة وسلطان بَيِّن ، فالدِّين تكاليف وشعائر ويتعسر الاستمرار عليها من قبل المنافقين وأصحاب المآرب المدخولة .
الخامس : للإنسان قبل أن يؤمن بالإسلام الحق في أن يؤمن أو يكفر فإذا آثر أي ديانة من الديانات فلا اعتراض عليه ويبقى له حق الحياة والأمن والعيش بسلام ، وإذا آثر الإسلام ودخل فيه وآمن به فعليه أن يخلص له ويتجاوب معه في أمره ونهيه وسائر هديه في أصوله وفروعه .
ثم بعد ذلك نقول : هل من حرية الرأي أن يمكن صاحبها من الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه ؟ هل خيانة الوطن أو التجسس لحساب الأعداء من الحرية ؟ هل إشاعة الفوضى في جنباته والاستهزاء بشعائره ومقدساته من الحرية ؟ إن محاولة إقناع المسلمين بقبول هذا الوضع سفه . ومطالبة المسلمين بتوفير حق الحياة لمن يريد نقض بناء دينهم وتنكيس لوائهِ شيء عجيب !!
ونقول بكل قوة إن سرقة العقائد والنيل من الأخلاق والمثل أضحت حرفة لعصابات وطوائف من دعاة التنصير الكارهين للإسلام وكتابه ونبيه وأتباعه وما فتئوا يثيرون الفتن وأسبابها في كل ناحية من أجل هز كيان المجتمع وقلبه رأساً على عقب .
ويؤكد حقنا في رفع الصوت عالياً ما نرمقه من المواقف المفضوحة في بلاد الحريات - فرنسا وبريطانيا وأمريكا - من المسلمين الذين بدأوا يظهرون تمسكاً بدينهم وظهورهم بالزي المحتشم رجالاً ونساءً مما أثار حفائظهم وبخاصة الفرنسيين في قضية الحجاب على الرغم من أن قوانينهم فيها نصوص تعطي الحق لأهل كل ديانة أن يلتزموا بدياناتهم ولكنهم بحجة الأمن والحفاظ على النظام العام كانت لهم تلك المواقف المكشوفة ومن حقنا كذلك أن نتذكر ما يجري لكثير من الأقليات المسلمة في روسيا وبلغاريا مما هو معلن فكيف بغير المعلن .
ثم إن عقوبة الإعدام موجودة في كثير من القوانين المعاصرة سواء لمهربي المخدرات أو غيرهم وهم لم يقولوا بها إلا لجدواها في القضاء على الجريمة والتخفيف منها وحماية لعموم المجتمع من سوئها ولم يقل أحد أن تشريع عقوبة الإعدام في حق هؤلاء المفسدين مصادم لحريتهم إذا كانوا قد تجاوزوا في حرياتهم حتى سطوا على حريات الآخرين أو نغصوا عليهم حياتهم الطبيعية الآمنة السوية .
وهناك إعدام من أجل الخيانة العظمى أو ما يشبهها ولم يكن هذا مصادماً للحرية أو محل نقد لدى هذه المؤسسة التنصيرية وأشباهها مما يذكِّر بما قلناه أول الحديث من الشك في حسن النية في إثارة مثل هذه التساؤلاة .
وفي الختام هذه الفقرة عن حرية الديانة والارتداد أنقل بعض الوقائع من مواقف الديانات الأخرى نحو المسلمين والتعسف والتعصب والحقد الدفين الذي يظهر واقعاً حياً حين تتاح له فرصة الظهور .(43/163)
يقول الكاتب (( جيبون )) : (( إن الصليبيين خدّام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15/7/1099م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمر ثلاثة أيام بلياليها حطموا رؤوس الصبيان على الجدران وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل وشووا الرجال والنساء بالنار و بقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب ... ثم يقول الكاتب : كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران )) .
ويقول جوستاف لوبون : عن فعل الصليبيين بمسلمي الأندلس : (( لما أجلي العرب - يعني المسلمين - سنة 1610م اتخذت جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم وكان من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاستهم .... وقد بلغ من تسامح العرب طوال حكمهم في أسبانيا مبلغاً قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام )) .
وفي أيامنا هذه نقرأ في وثائق اليهود نحو أهل فلسطين : (( يا أبناء إسرائيل ، اسعدوا واستبشروا خيراً لقد اقتربت الساعة التي سنحشر فيها هذه الكتل الحيوانية في اصطبلاتها وسنخضعها لإرادتنا ونسخرها لخدمتنا )) .
وفي روسيا الشيوعية أغلقت الحكومة أربعة عشر ألف مسجد في مقاطعة تركستان وفي منطقة الأورال سبعة آلاف مسجد وفي القوقاز أربعة آلاف مسجد وكثير من هذه المساجد حولت إلى دور البغاء وحوانيت خمر واصطبلات خيول وحظائر بهائم وفوق ذلك التصفية الجسدية للمسلمين ويكفي أن نعلم أنهم قتلوا في ربع قرن ستة وعشرين مليون مسلم مع تفنن في طرق التعذيب والقتل .
والدول الشيوعية الدائرة في فلك روسيا حذت حذوها ففي يوغسلافيا أباد تيتو ما يقارب مليون مسلم .
وفي سنواتنا الحاضرة هذه تنصب الملاحقة والمتابعة لجميع الحركات الإسلامية والتوجهات الإسلامية في الفلبين وأندونيسيا وشرق أفريقيا بصور ظاهرة مفضوحة فضلاً عن الطرق الخفية في كثير البلاد .
فيا ترى أين الحرية ويا ترى من المتعصب ومن هو المتسامح .... ؟؟؟؟
الرق :
س : ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد دون إدانة للعبودية أو القضاء عليها ؟
الخوض في الحديث عن الرق وإثارة الأسئلة حوله من قبل دعاة التنصير والصادين عن دين الإسلام مما يثير حفيظة المتعقل ومما يشير بأصابع الاتهام نحو الأغراض المستترة وراء هذه التساؤلات .
ذلك أن الرق في اليهودية والنصرانية مقرر ثابت على صور ظالمة وكتبهم بتفاصيل الحديث عنه والاستحسان له طافحة ، وعليه فإن أول ما يستلفت النظر : كيف يسعى الكنسيون للدعوة إلى التنصير ، والنصرانية تقول بالرق ومشروعيته ؟
وبمعنى آخر : كيف يثيرون أمراً هم غارقون فيه إلى الأذقان ؟
أما أمر الرق في الإسلام فمختلف تماماً إذا ما قورن بين النظرتين وإذا ما قورن كذلك بما عليه حال الرق حين مجيء الإسلام .
ولا يسع الباحث وهو ينظر في مثل هذه التساؤلات وقد بسط فيها دعاة التنصير ألسنتهم لينالوا من الإسلام ما وسعهم النيل .
أقول لا يسعه إلا أن يبسط القول في هذا الموضوع مشيراً إلى ما عند اليهودية والنصرانية والحضارة المعاصرة ثم نذكر ما في الإسلام .
وإن الإسلام قد تعرض في هذا لإفك كثير على حين نَجَا مجرمون عريقون في الإجرام لم تشر إليهم - مع الأسف - أصابع الإتاهم .
الإسلام والرق :
يقرر الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية وكلفه بالتكاليف الشرعية ورتب عليها الثواب والعقاب على أساس من إرادته واختياره .
ولا يملك أحد من البشر تقييد هذه الإرادة أو سلب ذلك الاختيار بغير حق ومن اجترأ على ذلك فهو ظالم جائر .
هذا مبدأ ظاهر من مبادئ الإسلام في هذا الباب وحينما يثار التساؤل .
كيف أبارح الإسلام الرق ؟ نقول بكل قوة وبغير استحياء أن الرق مباح في الإسلام ولكن نظرة الإنصاف مع التجرد وقصد الحق توجب النظر في دقائق أحكام الرق في الإسلام من حيث مصدره وأسبابه ثم كيفية معاملة الرق ومساواته في الحقوق والواجبات للحر وطرق كسب الحرية وكثرة أبوابها في الشريعة وبخاصة إذا ما قورنت بغيرها مع الأخذ بالاعتبار نوع الاسترقاق الجديد في هذا العالم المتدثر بدثار الحضارة والعصرية والتقدمية وسوف يلاحظ القارئ أنني سوف أستعين بكثير من نصوص القرآن وأقوال الرسو صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته في هذا الموضوع نظراً لأهمية ذلك والتأكيد على أن الممارسات الخائطة لا يجوز أن تحسب على الإسلام .
وفي هذا الصدد نقول : إن الإسلام يقف من الرقيق موقفاً لم يقفه غيره من الملل والنحل ولو سارت الأمور على وجهها بمقتضى ذلك النهج لما كانت تلك الإشكالات وعلى رأسها استرقاق الأحرار عن طريق والخطف والغصب والاستيلاء بقوة أو بخدعة في القديم وفي الحديث مما استفحل معه الرق بطريقة شائنه ووجه قبيح . وما انتشر الرق ذلك الانتشار الرهيب في قارات الدنيا إلا عن طريق هذا الاختطاف بل كان المصدر الأعظم في أوربا وأمريكا في القرون الأخيرة .(43/164)
والإسلام يقف بنصوص من هذا موقفاً حازماً حاسماً جاء في حديث قدسي : [ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته ، رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره ] أخرجه البخاري .
و صلى الله عليه وسلم يقول : (( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : من تقدم قوماً وهم له كارهون ، ورجل أتى الصلاة دباراً - بمعنى بعد خروج وقتها - ورجل اعتبد محرراً )) رواه أبو داود وابن ماجة كلاهما من رواية عبد الرحمن زياد الأفريقي .
ومن الطريف أنك لا تجد في نصوص القرآن والسنة نصاً يأمر بالاسترقاق بينما تحفل آيات القرآن وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم بالمئات من النصوص الداعية إلى العتق والتحرير.
كانت مصادر الرق ومنابعه كثيرة عند ظهور الإسلام بينما طرق التحرر ووسائله تكاد تكون معدومة فقلب الإسلام في تشريعاته النظرة فأكثر من مصارف الحرية والتحرر وسد مسالك الاسترقاق ووضع من الوصايا ما يسد تلك المسالك .
ولقد كان الأسر في الحروب من أظهر مظاهر الاسترقاق وكل حرب لابد فيها من أسرى وكان العرف السائد يومئذ أن الأسرى لا حرمة لهم ولا حق وهم بين أمرين إما القتل وإما الرق .
ولكن الإسلام حث على طريق ثالث من حسن معاملة الأسير وفك أسره .
في القرآن الكريم : { ويُطعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويتيِماً وأسيراً . إنَّما نُطعِمُكُمْ لِوجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُوراً} [ سورة الإنسان ، الآية 8 -9 ] .
والآية في رقتها وحثها لا تحتاج إلى تعليق ونبي الإسلام عليه السلام في ميدان مكارم الأخلاق
يقول : (( عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني )) . رواه البخاري .
وفي أول مواجهة بين المسلمين وأعدائهم في معركة بدر انتصر فيها المسلمون ووقع فيها أسرى من كبراء العرب ، لقد سقطوا في الأسر كما يسقط الكبراء والأشراف في معارك الدول الكبرى من القياصرة والأكاسرة لو عوقبوا بعقاب شديد لكانوا له مستحقين فقد آذوا المسلمين أشد الإيذاء في أول قيام الدعوة الإسلامية غير أن القرآن الكريم يوجه صلى الله عليه وسلم وصحبه بقوله : { يا أيهُّا النَّبِي قُل لّمَن فِي أيْدِيكُم مِّن الأسْرى إن يَعْلَم ِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خيْراً يُؤْتِكُم خيْراً مِّما أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ واللهُ غفُورٌ رحِيمٌ . وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فقدْ خَانُواْ الله مِن قبْلُ فأمْكنَ منْهُمْ واللهُ علِيمُ حَكيِمُ } [ سورة الأنفال ، الآيتان : 70 -71 ] .
لقد كان هؤلاء الأسرى قبل هذه المعركة ومن أول عهد البعثة يوقعون المظالم الفاجعة بجمهور المسلمين يريدون إفناءهم أو احتلالهم . فهل يا ترى من حسن السياسة أن يطلق سراح الأسرى فوراً ؟؟؟
معلوم أن هذا يتعلق بمصالح الدولة العامة العليا ولهذه تجد أن المسلمين في بدر قبلوا الفداء وفي الفتح قيل لأهل مكة : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وفي غزوة بني المصطلق تزوج الرسول أسيرة من الحي المغلوب ليرفع من مكانتها حيث كانت ابنة أحد زعمائه فما كان من المسلمين إلا أن أطلقوا سراح جميع هؤلاء الأسرى .
ومن هذا تدرك الصورة المحدودة والمسالك الضيقة التي يلجأ إليها في الرق وهو لم يلغه بالكلية لأن هذا الأسير الكافر المناوئ للحق والعدل كان ظالماً أو معيناً على ظلم أو أداة في تنفيذه أو إقراره كانت حريته فرصة لفشو الطغيان والاستعلاء على الآخرين .
ومع كل هذا فإن فرصة استعادة الحرية لهذا وأمثاله في الإسلام كثيرة وواسعة .
كما أن قواعد معاملة الرقيق في الإسلام تجمع بين العدالة والرحمة .
فمن وسائل التحرير : فرض نصيب في الزكاة لتحرير العبيد وكفارات القتل الخطأ والظهار والأيمان والفطر في رمضان إضافة إلى مناشدة عامة في إثارة للعواطف من أجل العتق والتحرير ابتغاء وجه الله .
وهذه إشارات سريعة لبعض قواعد المعاملة المطلوبة عدلاً وإحساناً لهؤلاء :
1- ضمان الغذاء والكساء مثل أوليائهم :
روى أبو داود عن المعرور بن سويد قال : دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله فقال : يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة ، وكسوته ثوباً غيره ؟ قال:سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : (( هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يكتسي ولا يكلفه ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)) . البخاري .
2- حفظ كرامتهم :
روى أبو هريرة قال : قال أبو القاسم نبي التوبة : (( من قذف مملوكه بريئاً مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة ، إلا أن يكون كما قال )) . البخاري .
وأعتق ابن عمر مملوكاً له ، ثم أخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال : مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا سمعت رسول الله يقول : (( من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه )). أبو داود ومسلم.
3- يتقدم العبد على الحر :(43/165)
فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا ، وقد صحت إمامته في الصلاة ، وكان لعائشة أم المؤمنين عبد يؤمها في الصلاة ...... بل لقد أمر المسلمون بالسمع والطاعة إذا ملك أمورهم عبد مادام أكفأ من غيره .
أن الحرية حق أصيل للإنسان ، ولا يسلب امرؤ هذا الحق إلا لعارض نزل به والإسلام - عندما قبل الرق في الحدود التي أوضحناها - فهو قيّد على إنسان استغلَّ حريته أسوأ استغلال .... فإذا سقط أسيراً أثر حرب عدوان انهزم فيها ، فإن إمساكه بمعروف مدة أسره تصرف سليم .
وإذا حدث لأمر ما أن استرق ثم ظهر أنه أقلع عن غيره ، ونسي ماضيه وأضحى إنساناً بعيد الشر قريب الخير . فهل يجاب إلى طلبه بإطلاق سراحه ؟ الإسلام يرى إجابته إلى طلبه ، ومن الفقهاء من يوجب ذلك ومنهم من يستحبه !!!
وقد أوصى صلى الله عليه وسلم بالرقيق كثيراً ، فقد ثبت أنه لما وزع أسرى بدر على الصحابة قال لهم : [ استوصوا بالأسرى خيراً ] .
وروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دَعَك أُذُن عَبْدٍ له على ذنب فعله ، ثم قال له بعد ذلك : تقدم واقرص أذني ، فامتنع العبد فألح عليه ، فبدأ يقرص بخفة ، فقال له : اقرص جيداً ، فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة ، فقال العبد : وكذلك يا سيدي: اليوم الذي تخشاه أنا أخشاه أيضاً.
وكان عبد الرحمن بن عوف إذا مشى بين عبيدة لا يميزه أحد منهم - لأنه لا يتقدمهم ، ولا يلبس إلا من لباسهم .
ومر عمر يوماً فرأى العبيد وقوفاً لا يأكلون مع سادتهم ، فغضب وقال لمواليهم : ما لقوم يستأثرون على خدامهم ؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم .
ودخل رجل على سلمان رضي الله عنه فوجده يعجن ، فقال له : يا أبا عبد الله ما هذا ؟ فقال بعثنا الخادم في شغل فكرهنا أن نجمع عليه عملين .
هذا مما أسداه الإسلام للرقيق من أيادٍ !
موقف اليهود من الرقيق :
ينقسم البشر عند اليهود إلى قسمين : بنو إسرائيل قسم ، وسائر البشر قسم آخر .
فأما بنو إسرائيل فيجوز استرقاق بعضهم حسب تعاليم معينة نص عليها العهد القديم .
وأما غيرهم ،فهم أجناس منحطة ، يمكن استعبادها عن طريق التسلط والقهر ، لأنهم سلالات كتبت عليها الذلة باسم السماء من قديم ، جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج ( 2- 12 ) نصه :
(( إذا اشتريت عبداً عبرانياً فست سنين يخدم ، وفي السابعة يخرج حراً مجاناً ، إن دخل وحده ، فوحده يخرج ، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه, إن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات فالمرأة وأولادها يكونون للسيد ، وهو يخرج وحده ، ولكن إذا قال العبد : أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حراً ، يقدمه سيده إلى الله ، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة ، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد ، وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد ، إن قبحت في عين سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك ، وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها ، وإن خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل لها ، إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها ، وإن لم يفعل لها هذه الثلاث تخرج مجاناً بلا ثمن ))
أما استرقاق غير العبراني فهو بطريق الأسر والتسلط لأنهم يعتقدون أن جنسهم أعلى من جنس غيرهم ، ويلتمسون لهذا الاسترقاق سنداً من توراتهم فيقولون: إن حام بن نوح - وهو أبو كنعان- كان قد أغضب أباه ، لأن نوح سكر يوماً ثم تعرى وهو نائم في خبائه ، فأبصره حام كذلك ، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب ، ولعن نسله الذين هم كنعان ، وقال - كما في التوراة في سفر التكوين إصحاح 9 / 25- 26 - ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته ، وقال : مبارك الرب إله سام ، وليكن كنعان عبداً لهم . وفي الإصحاح نفسه / 27 / : (( ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام ، وليكن كنعان عبداً لهم )) .
وقد اتخذت الملكة (( إليزابيث )) الأولى من هذا النص سنداً يبرر تجارتها في الرقيق التي كانت تسهم فيها بنصيب كبير كما سيتبين قريباً .
موقف النصرانية من الرقيق :
جاء الدين المسيحي فأقرَّ الرق الذي أقره اليهود من قبل ، فليس في الإنجيل نص يحرمه أو يستنكره .
والغريب أن المؤرخ (( وليم موير )) يعيب نبينامحمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبطل الرق حالاً ، مع تغاضيه عن موقف الإنجيل من الرق ، حيث لم ينقل عن المسيح ، ولا عن الحواريين ولا عن الكنائس شيئاً في هذه الناحية .
بل كان بولس يوصي في رسائله بإخلاص العبيد في خدمة سادتهم ، كما قال في رسالته إلى أهل أفسس .
وأضاف القديس الفيلسوف (( توما الأكويني )) . رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينيين ، فلم يعترض على الرق بل زكاه ، لأنه على رأي أستاذه أرسطو حالة من الحالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية .
وأقر القديسون أن الطبعة جعلت بعض الناس أرقاء .
وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (( لاروس )) : (( لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته )) .(43/166)
وفيه : (( الخلاصة أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماماً ، إلى يومنا هذا ، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله )) .
وجاء في قاموس الكتاب المقدس للدكتور (( جورج يوسف )) إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي ، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية ، حتى ولا المباحثة فيها ، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد ، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال ، ولا بحثت عن مضار العبودية ، ولا عن قساوتها ولم تأمر بإطلاق العبيد حالاً ، وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء ، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين و واجباته )) .
وندعو جميع الآباء البيض النصارى والقارئ الكريم ليقارنوا بين تعاليم الإسلام وبين هذه التعاليم .
أوربا المعاصرة والرقيق :
من حق القارئ أن يسأل وهو في عصور النهضة والتقدم عن رائدة التقدم في هذه العصور .
وعدا من كانوا يموتون بسبب طرق الاصطياد هذه وفي الطريق إلى الشواطئ التي ترسو عليها مراكب الشركة الإنجليزية وغيرها فإن ثلث الباقين يموتون بسبب تغير الطقس ويموت 5، 4% أثناء الشحن و 12 % أثناء الرحلة فضلاً عمن يموتون في المستعمرات .
ومكثت تجارة الرقيق في أيدي شركات إنجليزية التي حصلت على حق احتكار ذلك بترخيص من الحكومة البريطانية ثم أطلقت أيدي جميع الرعايا البريطانيين في الاسترقاق ويقدر بعض الخبراء مجموع ما استولى عليه البريطانيون من الرقيق واستعبدوه في المستعمرات من عام 1680 / 1786م حوالي 2130000 شخص .
ومن قوانينهم السوداء في ذلك : من اعتدى على سيده قتل ومن هرب قطعت يده ورجلاه وكوي بالحديد المحمى إذا أبق للمرة الثانية قتل . ولا أدري كما يقال - ماذا صنعت بالرقيق ؟؟
عندما اتصلت أوربا بإفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية تعرض فيها زنوج هذه القارة لبلاء عظيم طوال قرون خمسة . لقد نظمت دول أوربا وتفتقت عقليتها عن طرق خبيثة في اختطاف هؤلاء واستجلابهم إلى بلادهم ليكونوا وقود نهضتها وليكلفوهم من الأعمال مالا يطيقون وحينما اكتشفت أمريكا زاد البلاء لينؤوا بعبء الخدمة في قارتين بدلاً من قارة واحدة .
تقول دائرة المعارف البريطانية جـ2 / ص ( 779 ) مادة Slave r y : (( إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقربة حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من وسائل )) .
كيف سيهرب بعد ما نكل به وقطعت رجلاه ؟؟
ولكن الذي يبدو أن الجحيم الذي يعيشه أشد عليه من قطع يديه ورجليه مما يدعوه إلى محاولة الهرب مرة أخرى .
ومن قوانينهم يحرم التعليم على الرجل الأسود ويحرم على الملونين وظائف البيض .
وفي قوانين أمريكا : إذا تجمع سبعة من العبيد عُدَّ ذلك جريمة ويجوز للأبيض إذا مر بهم أن يبصق عليهم ويجلدهم عشرين جلدة .
ونص قانون آخر : أن العبيد لا نفس لهم ولا روح وليست لهم فطانة ولا ذكاء ولا إرادة وأن الحياة لا توجد إلا في أذرعهم فقط .
والخلاصة في ذلك أن الرقيق من جهة الواجبات والخدمة و الاستخدام عاقل مسئول يعاقب عند التقصير ومن جهة الحقوق شيء لا روح له ولا كيان بل أذرعة فقط .
وهكذا لم تستفق ضمائرهم إلا في هذا القرن الأخير وأي منصف يقارن بين هذا وبين تعاليم دين صلى الله عليه وسلم الذي مضى له أكثر من 14 قرناً يرى أن إقحام الإسلام في هذا الموضوع أحق بالمثل السائر : (( رمتني بدائها وانسلت ........ )) .
المرأة
ما يقال في الرق يقال في المرأة فليس من حق اليهودية ولا النصرانية الحديث عن المرأة فما في دياناتهم في حق المرأة هو شيء نُكُر ، فقد هضموها حقوقها واعتبروها مصدر الخطيئة في الأرض وسلبت حقها في الملكية والمسئولية فعاشت بينهم في إهانة وإذلال واحتقار واعتبروها مخلوقاً نجساً .
وما الزوج عندهم إلا صفقة مبايعة تنتقل فيه المرأة لتكون إحدى ممتلكات الزواج . حتى انعقدت بعض مجامعهم لتنظر في حقيقة المرأة وروحها هل هي من البشر أو لا ؟؟
بل لعل الجاهلية العربية الأولى كانت أخف وطأة على المرأة من هذه النظرة اليهودية النصرانية المنسوبة إلى تعاليم السماء - معاذ الله .
ومن هنا يثور عجبنا من النصارى ليسألوا عن المرأة في الإسلام وموقعها من تشريعه ومجتمعه؟؟
فحضارة الغرب وما فيها من بهارج وبوارق تخدم الناظرين ليس للنصرانية ولا لليهودية صنع فيها .
ومع هذا فنحن المسلمين لا نجري خلف كل ناعق ولسنا بالراضين على ما عليه المرأة المعاصرة
إن المرأة في ديانتنا محل التقدير والاحترام من حيث هي الأم والأخت والبنت .
ونصوص الديانة عندنا صحيحة صريحة في بيان موقع المرأة وموضعها جاءت واضحة جلية منذ أكثرٍ من أربعة عشر قرناً حين كانت الجاهليات تعم الأرض شرقاً وغرباً على نحو مظلم وبخاصة في بخس المرأة حقها بل عدم اعترافه بأي حق لها ........
ويتأكد هنا ما قلته في مقدمة الإجابة على هذه التساؤلات ما هو الأنموذج الذي نتفق عليه ؟(43/167)
اليهودية والنصرانية معلوم ما فيهما وهو غير مرضي من الجميع لأن الأسئلة المثارة ليس في الديانتين إجابة عنهما .
أما الحضارة المعاصرة ففيها وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة شر كثير غير موجود في ديننا وما فيها من أمور مستحسنة فديننا لا يعارضها . ومن أجل مزيد من الإيضاح في ميدان التعليم .
إن من أكثر ما تميزت به هذه الحضارات الاهتمام بالعلم والتعليم والدعوة إلى ذلك والإكثار من البرامج والوسائل مما هو معروف ونقول بكل صراحة إن التعليم في ديننا محمود مطلوب بل منه ما هو فرض عين يأثم تاركه سواء كان ذكراً أو أنثى .
المرأة في التعليم كالرجل مما يحقق وظيفة كل جنس على نحو ما ذكرنا في الكلام على المساواة.
ولكن من حقنا أن نتساءل : ما هي العلاقة بين التعليم والتبرج وإبداء الزينة وإظهار المفاتن ، وكشف الصدور والأفخاذ ؟؟
هل من وسائل التعليم لبس الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة ؟
ميدان آخر : أية كرامة حين توضع صور الحسناوات في الدعاية والإعلان وفي كل ميدان ولا يروج عندهم إلا سوق الحسناء فإذا استنفدت السنون جمالها وزينتها أهملت كأي آلة انتهى مفعولها
ما نصيب قليلة الجمال في هذه الحضارة ؟ وما نصيب الأم المسنة والجدة العجوز ؟ ملجؤها دور الملاجئ حيث لا تزار ولا يسأل عنها وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد أو تأمين اجتماعي تأكل منه حتى تموت ولا رحم ولا صداقة ولا ولي حميم ولكن المرأة في الإسلام إذا تقدَّم بها السن زاد احترامها وعظم حقها أي أنها أدت ما عليها ، وبقي الذي لها عند أبنائها وأحفادها وأهلها والمجتمع .
أما حقها في المال والملك والمسئولية والثواب العقاب الدنيوي والأخروي فيستوي فيه الرجال والنساء . وأما ما اختلف فيه الرجل والمرأة في بعض الأحكام فأمر طبيعي متقرر فيما قلناه في الحديث عن المساواة على أننا سوف نفصل هنا في بعض ما أثير من أسئلة في قضايا الميراث والوصاية وغيرهما ؟؟
الميراث
إن نصيب الذكر في الميراث يختلف عن نصيب الأنثى وذلك يرجع لعدة أمور :
1- الميراث من جملة النظام العام في الإسلام فهو خاضع لعموم المسئوليات والأحكام المناطة بالذكر والأنثى وما اختلف فيه من أحكام فهو راجع إلى القاعدة العامة في عدم لزوم إطراد المساواة بين العاملين لأن لهم حسب أعمالهم ومسئولياتهم فالرجال وهم جنس واحد ليسوا بمتساوي الدخول والمرتبات لدى الجهات الحكومية أو غيرها في جميع الأنظمة وإنما التفاوت راجع إلى طبيعة أعمالهم ومؤهلاتهم وكفاءاتهم ولا تقوم الحياة إلا بهذا ولا يعتبر هذا مؤثراً في أصل المساواة .
2- زيادة الذكر في نصيبه راجعة إلى طبيعة التكاليف المناطة به في النظام الإسلام . فهو المسئول وحده عن تكاليف الزواج من مهر ومسكن ومن أجل مزيد إيضاح لهذا النظام لنفرض أن رجلاً مات وخلف ابناً وبنتاً وكان للابن ضعف نصيب أخته ثم أخذ كل منهما نصيبه وتزوجا فالابن مطالب بالتكاليف السابقة من مهر والسكن والنفقة مدى الحياة .
أما أخته فسوف تأخذ المهر من زوجها حين زواجها وليست محتاجة إلى شيء من نصيبها لتصرفه في زواجها أو نفقة بيتها .
ثم إن دية قتل الخطأ يتحمل الرجال من العصبة والأقارب مساعدة القاتل في دفعها دون النساء . ومن هذا يتضح ما على الرجال من تكاليف مالية ليست على النساء في نظام الإسلام .
من أجل هذا يجب أن نعلم أن الشريعة الإسلامية تختلف عن أنظمة البشر الجائرة التي تحكم كثيراً من بقاع العالم اليوم حيث فيها يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشر لتخرج باحثة عن لقمة العيش وكثيراً ما يكون ذلك على حساب الشرف ونبيل الأخلاق . أما الفتاة في الإسلام فهي مرعية في كنف أبيها أو من يقوم مقامه شرعاً حتى تتزوج .
إن منهج الإسلام أحكاماً وأخلاقاً لا يجوز أن يكون تأمين العيش فيه على حساب العرض والشرف فما ضياع الشرف إلا ضياع للعالم كله ولئن وجد الشاب والشابة في نزواته وصبواته وفترة طيشه لذة عاجلة فإن عاقبتها الدمار والتشتت الأسري وتقطيع الأرحام وانتشار الفساد في الأرض وما نساء الشوارع وفتيات المجلات والأفلام في أوروبا وأتباع أوروبا إلا نتائج ذلك النظام الخاسر فهن إفرازات أخطاء البيوت الخربة والمسئولية الضائعة حينما ألقاها الرجال عن كواهلهم فوقعن حيث وقعن وتبع ذلك التنصل من مسئولية النسل والتربية الصحيحة وأصبح الفرد ذكراً أو أنثى لنفسه لا لأمته ولشهواته القريبة لا للهمم العليا وبهذه يسرع الفساد إلى المجتمع ويعم الخراب الديار .
3- الميراث ملحوظ فيه الجانب المادي فهو مرتب على نظام الزواج فهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة . أي أن الزيادة في الميراث ليست تفضيلاً ولكنها تعويض مادي بحت .(43/168)
وبالنسبة للسؤال حول حق المرأة في الزواج من غير المسلم فهذا خاضع لعموم النظام التشريعي الإسلامي وكما قلنا في المساواة أن بعض الفئات من المجتمع قد تمنع من الزواج من فئات أخرى كالعسكري والدبلوماسي لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة فلا غرابة في أنظمة الدنيا أن تشتمل على نوع من التفرقة في الحكم والتي لا تعني الإخلال بعموم مبدأ المساواة كما هو مشروح مفصل في جوابنا عن المساواة .
الطلاق
لم يعد أحد ينازع في العصر الحاضر بفاعلية الطلاق وحاجة الزوجين إليه حينما يتعذر بينهما العيش تحت سقف واحد بعد المحاولات الجادة في الإصلاح والتوفيق .
ويكفي الإسلام فخراً ومنقبة أنه شرع الطلاق وفصل أحكامه وأعطى فرص الرجعة في الطلاق ثلاث متفرقات يتخلل كل طلقة عدة معدودة بحساب مفصل في أحكام الشريعة مما يعجز نظام بشري أن يأتي بمثله حُكماً وحكمة ونظراً في طبيعة البشر والعلاقة بين الزوجين الذكر والأنثى والعيش في البيوت والرابط الاجتماعية .
وكل القوانين المتمدنة المعاصرة قالت بالطلاق وأخذت به رغماً عن النصرانية المحرفة التي زعمت أن الزواج عقد رُبط في السماء فلا يحل إلا في السماء .
إننا لا ننكر أن هناك أخطاءً في التطبيق يزاولها بعض الأزواج و بخاصة في المجتمعات التي يسود فيها الجهل والأمية ولا يجوز أن تنسحب أخطاء التطبيق على أصل النظام وقواعده وأحكامه ألا ترى أن في دنيا الناس من يصف له الطبيب دواءً بمقادير محددة ومواعيد معينة ثم يخالف المريض التعليمات ويسيء الاستعمال والمسئولية حينئذ تقع كاملة على المريض مادام عاقلاً راشداً .
أما ما قيل في الأسئلة بإمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريراً لعمله ومن دون أن يعاني من أية نتائج لعمله هذا فهذا غير صحيح وليس بموجود في الإسلام ولا في تشريعاته وإذا رأت المرأة من زوجها نشوزاً أو إعراضاً فإما أن تعالجه مباشرة مع زوجها بمصالحة أو أي طريق من طرق العلاج الذي يًبقي على الحياة الزوجية ويحفظ للبيت تماسكه وإذا لم تجد كل هذه السبل فتلجأ للقضاء وإذا تبين للقاضي وجهة الحق مع المرأة فإنه يحكم بفسخ النكاح وافتراق الزوجين وإن لم يرض الزوج .
الحضانة
ما ورد في التساؤل من أن للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائماً وإن كان الأطفال في حضانة الأم فهذا غير سديد وليس من حكم الشريعة وذلك لأمرين أساسيين :
أولهما : ليس في القرآن ولا في سنة الرسو صلى الله عليه وسلم نص عام ينص على تقديم أحد الأبوين دائماً ولا في تخيير أحد الأبوين دائماً .
ثانيها : العلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً
وقد ترتب على ذلك خلاف في المدارس الفقهية مبني على النظر في مصلحة الطفل وعلى صلاحية الأبوين للحضانة والوصاية وقدرتهما على القيام بهذه المسئولية .
وهم متفقون على أنه لو كان أحدهما غير صالح لذلك فلا يجوز أن يتولى الحضانة أو الوصاية.
تعدد الزوجات
جاء في التساؤلات أن من مظاهر تفوق جنس على آخر قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج . وإيضاح الموقف من جهتين :
أولاهما : أن اختلاف الجنس البشري إلى ذكر وأنثى ترتب عليه اختلاف في الطبائع والقدرات وهذا الاختلاف الذي لا ينكر لا يجوز أن يكون دليلاً على تفوق جنس على آخر كما قررناه في الكلام على المساواة .
ثانيهما : جاءت الشريعة الإسلامية بإباحة تعدد الزوجات لأنه منسجم مع مجموعة تعاليمها وهو منسجم كذلك مع الطبيعة البشرية في كل من الذكر والأنثى .
أما أنه منسجم مع عموم تعاليم الشريعة فلأنها حرمت الزنا وشددت في تحريمه ثم فتحت باباً مشروعاً من وجه آخر ألا وهو النكاح ، وأباحت التعدد فيه ولا شك أن المنع من تعدد الزوجات يدفع إلى الزنا لأن عدد النساء يفوق عدد الرجال ويزداد الفرق كلما نشبت الحروب وفي وقتنا الحاضر تنوعت الأسلحة بحيث تقضي في المتحاربين بالعشرات بل المئات في هجمة واحدة أو طلقة مدفعية واحدة بل ينال ذلك حتى غير المتحاربين فقصر الزواج على امرأة واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج وحرمان المرأة من الزواج وبقاؤها عانساً ينتج سلبيات كبيرة من الضيق النفسي وبيع الأعراض وانتشار السفاح وضياع النسل .
ومن جهة أخرى فإن الرجل والمرأة مختلفان من حيث استعدادهما في المعاشرة فالمرأة غير مستعدة كل وقت للمعاشرة ففي الدورة الشهرية مانع قد يصل إلى عشرة أيام أو أسبوعين كل شهر وفي النفاس مانع هو في الغالب أربعون يوماً والمعاشرة في هاتين الفترتين محظورة شرعاً وفي حال العمل قد يضعف استعداد المرأة في ذلك أما الرجل فاستعداده واحد طوال الشهر والعام فإذا منع الرجل من الزيادة على الواحدة كان في ذلك حمل على الزنا في أحوال كثيرة .
ومما سبق يكون التشريع قد قدر الغرائز حق قدرها حسب الظروف من نقص الرجال وزيادة عدد النساء والأحوال التي تعترض المرأة فتقلل من استعدادها واستجابتها .(43/169)
ومقصد آخر من مقاصد الزواج وهو حفظ النوع الإنساني واستمرار التناسل البشري وتكوين الأسرة المستقرة فإذا تزوج امرأة عقيماً ولم يبح له أن يتزوج غيرها فقد تعطلت الوظيفة عن أداء غرضها وتعطل الغرض من الزواج وإذا كان ذلك كذلك فإن بقاءها معه والإذن له بالزواج من أخرى خير من طلاقها ليتزوج أخرى ابتغاء الولد .
ثم إن قدرة الرجل على الإنجاب أوسع بكثير من قدرة المرأة ، فالرجل يستطيع الإنجاب إلى ما بعد الستين من العمر أما المرأة فيقف الإنجاب عندها في حدود الأربعين سنة فلو حرم على الرجل الزيادة على الواحدة لتعطلت وظيفة النسل أكثر من نصف العمر .
هذه هي النظرة في إباحة الشريعة للتعدد جاءت لدفع ضرر ورفع حرج ولتحقيق المساواة بين النساء ورفع مستوى الأخلاق .
ونحن أهل الشريعة نعلم أن القوانين الوضعية الأوروبية لم تعترف بهذا بل أنها جعلته محل تندر واستهجان ومجال طعن على الإسلام .
ولكننا بدأنا نلمس ظهور بعض القبول في نفوس مفكريهم ودعاة الإصلاح منهم . وبخاصة مع انتشار الحروب المدمرة وترمل الأعداد الكبيرة من النساء وزيادة أعداد النساء على الرجال .
ويكفي برهاناً لنا ورداً عليهم انتشار الخليلات فيما بينهم إذ يكون للرجل عدد من الخليلات يشاركن زوجته رجولته وعطفه وماله بل قد يكون لإحداهن في هذا كله أكثر من نصيب الزوجة.
يضم إلى ذلك شيوع الزنا وما ترتب عليه من أمراض وكثرة أبناء السفاح وقتل الأجنة في بطون الأمهات .
بل لقد بنوا علاقاتهم الجنسية على فوضى رهيبة فأولاد الزنا ولقطاء الفواحش تتفاحش نسبتهم حتى قاربوا في بعض أقطارهم نسبة الأولاد الشرعيين .
وحينما يرفعون عقيرتهم في النيل من تشريع التعدد فإن تنقل الرجل عندهم بين لفيف من النساء أمر مفهوم مقبول في أمزجتهم الفاسدة وقد ذكرت امرأة كندي - رئيس أمريكا السابق - أنه كان لزوجها بين / 200 إلى 300 / صديقة .
وطبقة الصعاليك عندهم يستطيعون السطو على المئات من النساء فما بالك بمن فوقهم .
والرجل عندهم يدور بين جيش من العشيقات دون حرج فإذا دار بين بضع زوجات داخل سياج من الأخلاق المحكمة والشريعة الكريمة وضع في قفص الاتهام بل الحرام .
إن جورج كلمنصو نمر السياسة في فرنسا في وقته / 1841 - 1939م / وأحد رجالات أوربا المعدودين له عندهم في السياسة قدم راسخة وتغلب على خصوم كثير حظي بهذه المنزلة الدولية عندهم مع استفاضة خبثة وشهرته في نسبة الخنا إليه وكل ذلك لم يخدش شيئاً من عظمته عندهم .
لقد كانت له ثمانمائة عشيقة وكان له أربعون ابناً غير شرعي . ويقال : إنه عندما علم أن زوجته الأمريكية خانته نهض عند منتصف الليل ورماها في الشارع تهيم على وجهها في الليل البهيم . وتعجبوا لماذا حرم هذا الرجل على غيره ما استباحه لنفسه ؟؟ ويقول بعض المعلقين على هذه القصة كلمنصو مثل كل الذئاب البشرية - من أكثر الناس احتقاراً للمرأة ولم يقل أحد في المرأة أسوأ ولا أبشع مما قاله هو سواء على فراش اللهو أو على فراش المرض .
بقي أن نشير في خاتمة هذا الحديث إلى أن الشريعة حين أباحت التعدد اشترطت فيه وجوب العدل بين الزوجات في السكن والنفقة وكل مظاهر العلاقات وإذا لم يقم بالعدل أو خشي الظلم فإنه لا يجوز له أن يقدم على الزواج من أخرى .
كما أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأكثر من أربع وهذا تحديد ظاهر لفوضى التعدد التي كانت سائدة في عصور الجاهلية .
وأخيراً فإن التعدد لمن استطاع العدل بين الزوجات جائز مشروع وليس بواجب متحتم .
تطبيق الشريعة
النظر في تطبيق الشريعة بالنسبة لغير المسلمين في بلاد الإسلام منظور إليه من شقين .
الأول : فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وأحوال الأسرة فلكل ملة ما يعتقدون ، وتاريخ الإسلام الطويل عاش فيه اليهود والنصارى وغيرهم ولم يكن ثمة مشكلة قطعاً . لا في حال ضعف الدولة الإسلامية ولا في قوتها وكل الشعوب استقبلت المسلمين الفاتحين خير استقبال بدليل أنه عند ضعف الدولة لم يخرج أحد منهم عن إسلامه بل لازال إلى يومنا هذا مستمسكاً به مدافعاً عنه غيوراً عليه بما في ذلك الهندي والتركي والمغربي والعربي وسائر الأجناس .
بخلاف مواقفهم من الاستعمار الأوربي فكان الصراع على أشده منذ دخوله إلى خروجه ويسمى التخلص منه حرية واستقلالاً ولم يكن ذلك يوماً ما من الشعوب الإسلامية نحو الإسلام .
الثاني : فيما عدا الأحوال الشخصية ، فالنظرة المنصفة تقتضي أن ينظر إلى بقية الأحكام كسائر الأحكام في القوانين الأخرى من المعاملات والجنايات وهل القانون بجميع مواده إلا منعُ وإباحةُ ، ويدلك على التجني الظاهر أن واضح الأسئلة وصف تطبيق الشريعة بأنه دكتاتوري .
بينما كل القوانين حينما تطبق يجب أن تطبق بقوة وهو ما يسمى في مصطلحهم (( باحترام القانون )) فحين تحزم الدولة أو الحكومة النظام هل يكون هذا دكتاتورية .(43/170)
وإنني أتساءل في تطبيق الشريعة في مصر أو السودان مثلاً ومن جملة الشعبين نصارى وحينما تكفل لهم أحكامهم الشخصية وشئونهم الأسرية بمقتضى ديانتهم كما أن للمسلمين أحكامهم الأسرية ماذا يريد النصارى في البلدين من قانون بعد ذلك - أي فيما عدا الأحوال الشخصية - هل يريدون قانوناً فرنسياً أو ألمانياً أو إيطالية أو إنجليزياً .
النظرة المنصفة والنظرة الوطنية المعقولة البعيدة عن التحيز أن يميلون إلى ما هو وطني مصري أو سوداني إن كانوا وطنيين .
فما الداعي لأن يفضل نصراني مصري القانون الفرنسي أو النصراني السوداني القانون الإنجليزي . ففيما عدا الأحوال الشخصية وأمور العبادات فإن أحكام الأنظمة والقوانين المدني منها والتجاري وقوانين العقوبة تختلف من قانون إلى قانون وقد تتفق في بعض المواد والأحكام ولعلك تدرك بهذا المدى التحيز والعنصرية ضد الشريعة الإسلامية والانحياز ..... لحضارة الرجل الأبيض .
إن اختلاف قوانين الدول فيما بينها أمر معروف مألوف . ولكن الإلحاح بالمطالبة بإبعاد الشريعة عن الحكم لا يخلو من أحد سببين .
* إما لأنها تعطي إتباعها الاستقلالية التامة والحرية المنشودة مع ما فيها من كمال وشمول وصلاح ومصلحة .
* وإما أنه تسلط محض يراد به الإثارة والبلبلة في المنطقة حتى لا تستقر ويسهل الاصطياد في الأجواء المتعكرة المضطربة .
وأي دكتاتورية في تطبيق الشريعة والكل يعلم من القاصي والداني أنه ما جرى استفتاء في تطبيق الشريعة إلا وكانت الأغلبية تنادي به ولكن الرجل الأبيض وحده لا يريد ذلك بدعوى حفظ حقوق الأقلية ويتساءل المتسائل أين حقوق الأكثرية في كثير من الدول الإفريقية التي يحكمها أقلية نصرانية متمكنة مسيطرة مدعومة من القوى الخارجية .
الحدود والعقوبات الجسدية :
إن الحدود والعقوبات - جسدية أو غير جسدية - ما هي إلا أحكام تنص عليها الشريعة كما ينص على مثلها أي قانون في الدنيا باعتبارها جزاءات توقع على المخالفين .
ويبقى النظر في المصالح المتحققة من جراء القانون ومدى إعطائه أثره ونتيجته كحافظ للأمن مثبت لاستقرار الناس في معاشهم وتنقلاتهم وأخلاقهم .
وليس من الإنصاف انتزاع مادة من قانون أو حكم من شريعة وإبرازه وكأنه مثلبة في هذا القانون أو ذاك . ولكن نظرة الإنصاف تقتضي النظر إلى النظام كله ، شروط الجريمة وتحققها وشروط إيقاع الجزاء وأسباب ذلك .
على سبيل المثال في هذه العقوبات المذكور من القطع والرجم إنك لن تجد في تاريخ الإسلام الطويل تنفيذاً لها إلا بعدد لا يجاوز أصابع اليد الواحدة ليس لأنها غير عملية وإنما من أجل الأمان الذي تحققه الشريعة في صرامة العقوبة ثم الشروط الموضوعة لتطبيقها حيث تدرء الحدود بالشبهات .
وحتى يكون الأمر أكثر واقعية نستشهد بالواقع المعاصر بقوانينه ونظمه .
إن الأمم المعاصرة وبخاصة دول الغرب قد ملكت أسلحة فتاكة وأجهزة نفاذة وتقنيات متقدمة ووسائل دقيقة واستكشافات باهرة وبخاصة في مجال الجريمة ، بحوثاً ودراسات وطرق في الملاحقات وتتبع المجرمين إضافة إلى التوعية الإعلامية الواسعة للجمهور والاستنارة بالثقافة والتقدم العلمي والوعي المعرفي للأفراد والجماعات وعلى الرغم من كل ذلك فإن الجريمة تستفحل ويزداد المجرمون عتواً وطغياناً ، هذا من جهة . ومن جهة أخرى فإن تركيزهم منصب على استصلاح المجرمين وتهذيب الأشرار وقد أرادوا أن يجعلوا من السجون أماكن تهذيب وعنابر إصلاح واعتبروا المجرمين مرضى أحق بالعلاج منهم بالعقاب وألقوا باللائمة على عوامل الوراثة والبيئة والفساد الاجتماعي ، وهذا حق لا ينكر ولكن الأمر ليس مقصوراً على هذا الجانب وحده ، ذلك أن العضو المريض قد تكون المصلحة في بتره حتى لا يسري مرضه إلى الجسم كله وهذا أمر مقرر عقلاً ووقعاً .
والفساد الاجتماعي ما هو إلا من مجموع فساد الأفراد . أما السجون فقد غلظت فيها قلوب كثير من المجرمين وخرجوا منها في ضراوة أشد وشقاوة أعظم ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في رسم الخطط ويجعلوا من السجن ساحات ممهدة للتدريس وتقاسم المهمات يشاركهم في ذلك إخوان لهم في الغي خارج القضبان .
وأنت ملاحظ مدرك أن فكرة الهدف الإصلاحي للمجرمين والمعالجات اللينة قد مضى عليها أكثر من نصف قرن ومع هذا فالإجرام في تزايد مطرد فما كان هذا الهدف إلا وهماً وسراباً .(43/171)
إن المجتمع الإنساني المعاصر بما فيهم العالم المتحضر قد بلغ ذروة من الاستهتار والاستباحة والاسترخاص للدماء والأموال والأعراض جعلت العقوبات في التشريعات الوضعية هزيلة بجانب سوء صنائع هؤلاء العتاة المجرمين ، أي رحمة أو تهذيب يستحقها هؤلاء القتلة والسفاكون ، وهل كان هؤلاء رحماء بضحاياهم الأبرياء ؟ وهل كانوا رحماء بالمجتمع كله بل تطور الأمر كما هو مشاهد إلى تطور المجرمين في وسائلهم فصاروا يشكلون العصابات التي تفوق أحياناً في إمكاناتها ووسائلها وتجهيزاتها الدول والحكومات ولا أدري أي عقاب سوف ينزله هؤلاء الرحماء بتجار المخدرات الذين لا نزال نسمع ازدياد أخبارهم واستفحال إجرامهم حتى أصبحوا ظاهرين غير متسترين بل صاروا يفاوضون الحكومات والجهات المختصة علناً!!
وبناءً على ما سبق فإن العلم والثقافة والحضارة في صورتها الراهنة عاجزة عن دفع الأخطار عن الإنسان الذي يعيش حياة الخوف والإرهاب على الأرض وفي الجو والبحر وفي المنزل والمكتب والمصنع والشارع .
ومجرم اليوم كما أسلفت مزود بالعلم والمعرفة ويتطور مع تطور أنظمة الشرطة وتجدد أساليب الملاحقة والمتابعة ويخطط كما يخطط رجال الأمن والكل في صراع لا يفصله إلا العقاب الزاجر العادل أفلا يفقهون .
وأخيراً فإن هناك عقوبات جسدية تطبقها بعض القوانين المعاصرة وأبرزها عقوبة الإعدام بل هذه العقوبة كانت ملغاة في بعض القوانين ثم عادوا إليها وفي كتابنا نحن المسلمين عبارة جامعة قاطعة : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمَاً لِقَوْم ٍ يُوقِنُونَ} . [ سورة المائدة ، الآية : 50 ] .
الجهاد في سبيل الله
الكلام في الجهاد سوف يتضمن حديثاً عن القوة وضرورتها للفرد والمجتمع والأمة ، ويتضمن كذلك بيان طبيعة الإسلام وافتراقه عن الديانات الأخرى ، ومفهوم الأمة الإسلامية واختلافها عن مفهوم الأمة السائد لدى كتاب الاجتماع ودارسي التاريخ ثم التنبيه كذلك على مغزى الجهاد في الإسلام واختلافه عن مفهوم كلمة الحرب أو القتال المجرد وسر اقتران لفظة (( الجهاد )) بلفظة أخرى تحدد مفهومها وهي (( في سبيل الله .....)) .
القوة :
القوة شيء محمود وأمر مطلوب وهي صفة تتعلق بها النفس البشرية وتحبها . والإنسان حينما يأخذ أموره بحزم وينجز أعماله ويدير شئونه بقوة فإنه منجز ما يريد سواء في ذلك القوة الفكرية العلمية أو القوة المادية .
فالبدن القوي والرأي القوي والشخصية القوية كلها صفات مستحبة .
ومعلوم أن وجه الاستحباب والاستسحان إذا كان في طرق الخير ووجوه المنفعة للنفس والناس أجمعين .
والدولة القوة تحفظ مهابتها مادامت هذه الصفة ملازمة لها .
وهذه سنة إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة فلا خير في حق لا نفاذ له ولا يقوم حق ما لم تسانده قوة تحفظه وتحيط به .
وما فتئت أمم الدنيا ودولها تعد لنفسها القوة بمختلف الأساليب والأنواع حسب ظروف الزمان والمكان وعصرنا الحاضر تفتقت أذهان أبنائه عن أنواع من القوى وأساليب من الاستعداد فاقت كل تصور ، هذه مقدمة في القوة وأهميتها .
ومقدمة أخرى تتعلق بطبيعة الإسلام وأهله ، أما الإسلام فيخطئ غير المسلمين وبخصوص النصارى والغربيون من بعدهم حين يظنون أن الإسلام ملة مقصورة على مجموعة من العقائد الغيبية والشعائر التعبدية مما يجعل الإسلام في مفهومهم لا يعدو أن يكون مسألة شخصية يختار الإنسان لنفسه ما شاء من عقيدة وديانة يعبد ربه بأي طريق رضيها لنفسه لا يعدو الأمر عندهم غير ذلك ولكن الإسلام معناه ومرماه غير ذلك فهو اعتقاد صحيح في القلب - إيماناً بالله إلهاً واحداً لا يستحق العبادة سواه موصوفاً بصفات الكمال منزهاً عن كل عيب ونقص - وهو إلى جانب ذلك شريعة حاكمة شاملة لكل ما يحتاجه البشر في نفسه ومجتمعه في سلمه وحربه في تعامله مع أهله والقريب والبعيد والعدو والصديق في شرائع وأحكام وآداب تشمل النظم السياسية والاجتماعية والخلقية والاقتصادية وسائر شئون الدنيا .
وأما أهل الإسلام فليسوا أمة على المعنى المصطلح عندهم والذي يعني طائفة من الناس توافقت فيما بينها وتألفت في خصائص معينة ، ولكن أمة الإسلام تضم كل من اعتنق الدين من أي جنس أو لون أو قطر في الشرق وفي الغرب .
حقيقة الجهاد :
انطلاقاً من هذا الإيضاح لمفهوم النحلة والأمة . يتبين أن الإسلام ليس بتلك النحلة الضيقة وأهل الإسلام ليسوا بتلك النحلة الضيقة وأهل الإسلام ليسوا بتلك الأمة المنحصرة في نفسها وبناء عليه فإن الجهاد مشروع لنشر الحق وليدخل الناس في الإسلام كافة .
وفي هذا الصدد يحسن التنبيه إلى أن المصطلح الإسلامي هو (( الجهاد )) وليس الحرب أو القتال
فلفظ الحرب غالباً ما يراد به القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية وأهداف مادية والقتال المشروع في الإسلام ليس من هذا القبيل وليس لهذا الأغراض ولا لتلك الأهداف .(43/172)
الإسلام لا ينظر إلى مصلحة أمة دون أمة ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب ولا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك أرض ويستولي عليها هذا القائد أو ذاك ولكن المقصود هو سعادة البشر وفلاحهم فكل توجه غير هذا وكل أهداف سوى هذا فلا اعتبار لها في الإسلام بل لابد من مقاومتها حتى يكون الدين كله لله والأرض كلها لله ويرثها الصالحون من عباد الله والجهاد الإسلامي يتوجه من أجل ذلك كله لا لتستبد أمة بالخيرات أو ينفرد شعب بالثروات بل لينتفع الجنس البشري كله بأجمعه بالسعادة البشرية تحت راية الإسلام .
ومن هنا فتستخدم القوى والوسائل لتحقيق ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ثم الجهاد بمعناه العميق .
بعد هذا الإيضاح لمعنى الجهاد وسر اختياره هذه الكلمة على غيرها من مرادفاتها والتي تعني بذل الجهد والطاقة لا بد من التنبيه إلى كلمة لصيقة بها في المصطلح الإسلامي ألا وهي عبارة (( في سبيل الله )) .
إنها تحدد بجلاء المقصود من هذه القوة الإسلامية ، إنه شرط لا ينفعك عنه أبداً بل لو انفك عنه لبطل المصطلح و لفسد الأمر واضمحل الهدف .
إن معنى (( في سبيل الله )) أن كل عمل يقوم به المسلم يقصد به وجه الله ثم المصالح العامة وسعادة الأمة فهو في سبيل الله ، فإنفاق المال في وجوه الخير والبر إذا قصد به المنفق منافع دنيوية أو ثناء الناس فهو ليس في سبيل الله حتى ولو دفعه إلى مسكين أو معوز .
(( في سبيل الله )) مصطلح يطلق على الأعمال التي تؤدى خالصة لوجه الله من غير أن يشوبها شيء من شوائب الأهواء والشهوات ، والجهاد ما قيد بهذا القيد إلا للدلالة على هذا المعنى . فالجهاد الإسلامي الحق لابد أن يكون مجرداً من كل غرض مبرءاً من كل هوى أو نزعات شخصية لا يقصد إلا تأسيس نظام عادل يقوم عليه الناس بالقسط ينشر الحق وينصر العدل .
وفي النص القرآني:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتلُون في سَبِيل ِالله والَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوت} . [ سورة النساء ، الآية : 76 ] .
وفي النص النبوي : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ... )) البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد .
والقرآن والسنة مملوءان ببيان هذا المعنى وتأكيده وضرورة التزامه .
أمم الأرض والقوة :
إذا كان هذا هو مفهوم الإسلام وأمة الإسلام ومفهوم الجهاد في سبيل الله . كانت القوة أمراً لازماً للأمة والأفراد لتستقيم الحياة بمادياتها ومعنوياتها فلا غرو أن تكون الأمم والشعوب على طول التاريخ تحب القوة وتستعد بها لتحفظ مكانتها وتعيش حياتها كريمة مصانة .
وأحب أن أنبه في خاتمة المطاف إلى تلك القوى الشريرة التي صحبت الاستعمار في كل تاريخه ، تلك القوى والحروب التي أثارها المستعمرون على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها وجاسوا خلال الديار يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لاستعمارهم ليستبدوا بمنابع الثروات ويفتشوا عن المناجم والمعادن وما تغله أرض الله الواسعة من حاصلات غذاء لبطونهم ومدداً لمصانعهم ومعاملهم من دون أصحابها الأصليين .
يبحثون عن ذلك وقلوبهم ملأى بالجشع ونفوسهم مفتوحة بالشره تتقدمهم دبابات مجنزرة وفوق رؤوسهم طائرات في جو السماء محلقة بآلاف مؤلفة من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة ، لم تكن حروبهم في سبيل الله ولكنها في سبيل الشهوات الذاتية والأهواء الأنانية . حملات وغارات على شعوب وادعة آمنة لم يكن ذنبها إلا أن الله قد أنعم عليهم بمعادن الأرض وكنوزها ، ومعادن في الباطن وخصباً في الظاهر . أو أن تكون سوقاً لبضائعهم ومتنزهاً لبني جلدتهم الذين لفظتهم أرضهم . والأدهى والأمر أنهم قد يغيرون على بلاد آمنة لمجرد أنها تقع في طريق بلاد قد استولوا عليها من قبل .
ولكن أظهروا في هذه الأيام تحضراً واستمساكاً بالقوانين الدولية والمواثيق فإنهم ما اطمئنوا إلى ذلك إلا بعد ما ثبتوا أقدامهم ورتبوا أنفسهم ولو اختل شيء من ذلك لما حفظوا عهداً ولما التزموا بقانون وإن لهم من البراعة في تفسير القوانين والتواءات العبارات ما يجعل لهم ألف مخرج وألف معبر ناهيك بما أعدوا به أنفسهم من فنون الأسلحة الفتاكة مما لا يخطر على بال الشيطان الرجيم من متفجرات نووية وهيدروجينية وجرثومية وكيميائية . ومع هذا تجد من يثير قضية الجهاد الإسلامي مصحوبة بتلفيق من صور شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء وما ألقى القنبلة الذرية في هيروشيما إلا أكبر دولة متقدمة .
فيا ليت أنهم قالوا كلمة صادقة لوجه الله وفي سبيل الله .
والله ولي التوفيق وهو يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
وكتبه
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
أسئلة حول الحريات
كيف يمكن التوفيق بين حرية التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان وبين منعه (( مع استخدام العقوبة القصوى وهي القتل )) من تغيير دينه وإن كان هذا التغيير قد نجم عن قرار شخصي نابع عن تفكير عميق ولأسباب جدية ؟(43/173)
المسلمون يعتبرون من الطبيعي جداً أن يعترف النصارى بحق إخوتهم في العقيدة في اعتناق الإسلام .. ألا يمكن للمسلمين الراغبين في دخول النصرانية من التمتع بالحق نفسه ، إقراراً للحرية التي منحها الله للإنسان ؟
هل الإسلام على استعداد - في البلاد الإسلامية - لمنح المسلمين تلك الحريات التي يتمتع بها المسلمون في البلاد المسيحية ، بما في ذلك دخول المساجد والتعبير الحر عن دينهم ودعوة الجماهير لاعتناق العقيدة المسيحية ؟
كيف يكون منطقياً التأكيد بأن الله قد منح الحرية بالتساوي للرجل والمرأة ، ثُمًَّ تُمنع المرأة المسلمة من اختيار الرجل الذي ترغب في الزواج منه ، إن لم يكن مسلماً ؟
كيف يمكننا تفسير العقوبات الجسدية كقطع يد السارق أو الجلد أو الرجم ، وهي المبينة في بعض الآيات القرآنية ؟
أسئلة حول المساواة :
ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد ، دون إدانة للعبودية أو القضاء عليها ؟
لماذا يقال بأن الله قد خلق البشر سواسية في الحقوق والواجبات ، بينما تقبل عدم المساواة لأسباب دينية ؟ كما يعلن عن تفوق المسلم على غير المسلم وإن كان الأخير من ( أهل الكتاب ) أو من أتباع الديانات الأخرى أو من غير المؤمنين ؟
ونجد هذه اللامساواة في الميادين الحقوقية والاجتماعية ، اعتماداً على العقائد الدينية ، ونحن بدورنا نتساءل ، هل يتعارض التعايش - بالحقوق نفسها - بين المسلمين والنصارى واليهود وبقية الناس ، مؤمنين أم غير مؤمنين ، مع العقيدة الإسلامية ، وبخاصة بالنسبة لقضية تطبيق الشريعة دون تمييز على المسلمين وغير المسلمين ؟
ولماذا يقبل تفوق جنس على آخر ؟
وهو أمر نراه من خلال النقاط التالية :
1- قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج .
2- إمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريراً لعمله ومن دون أن يعاني من أية نتائج
لعمله هذا ، بينما لا تستطيع المرأة سوى الحصول وبصعوبة على الطلاق وعن الطريق
القانوني فقط .
3- للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائماً وإن كان الأطفال في حضانة الأم .
4- بالنسبة للمواريث نجد أن نصيب المرأة ، وفي أغلب الأحيان ،هو أقل من نصف حصة
الرجل .
وأخيراً ، أين نجد الترابط المنطقي لله والذي خلق البشر وأحبهم جميعاً , بينما نجد - كما في النصوص القرآنية - يحث على قتال الكفار ؟
وفي الدول الإسلامية التي تطبق فيها الشريعة .. هل التعددية (( في كافة صورها الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعائلية )) ، هل ستعتبر هذه التعددية رحمة إلهية تضمن الحرية والمساواة ، أم أنه ستفرض الشريعة على الجميع بشكل دكتاتوري ، كما نراها حالياً في كثير من الدول الإسلامية ؟
أهم المصادر
1- سيرة ابن هشام .
2- مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية .
3- تاريخ ابن كثير (( البداية والنهاية )) .
4- حقوق الإنسان لمحمد الغزالي .
5- حقوق الإنسان وحرياته الأساسية - د . عبد الوهاب عبد العزيز الشيشاني .
6- أصول النظام الاجتماعي في الإسلام - محمد الطاهر بن عاشور .
7- هذا ديننا - محمد الغزالي .
8- التشريع الجنائي - عبد القادر عودة .
9- الجهاد في سبيل الله - أبو الأعلى المودودي .
10- هذه مشكلاتهم - محمد سعيد رمضان البوطي .
11- الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد - خالد محمد علي الحاج .
==============(43/174)
(43/175)
أليس في الإسلام خلاص البشرية؟!!!
محمد حسن يوسف
ألم يأنِ لنا أن نعود إلى الإسلام؟!
ألم يأنِ لنا أن نتحلى عن النظم الاقتصادية المقتبسة التي أثبتت فشلها بعدما أدت إلى تدمير القيم الإنسانية وفنائها؟!
ألم يأنِ لنا أن نقف مع أنفسنا ونحتكم إلى العقل في الاختيار؟!
أسئلة وتساؤلات حائرة تتردد في النفس كثيرا، بعدما استشرى الفساد وغاب الحق وضاعت القيم. ماذا حدث لعالم الإنسانية اليوم؟ لقد أصبحنا في عالم تحكمه المادة بدلا من أن يتصف بالوفاء، وتموج فيه الرذيلة بدلا من أن تسود فيه الفضيلة!!
حقا ما أتعسنا نحن عالم اليوم، لقد بعدنا عن الحق وتباعدنا عن الدين، وأخذنا نلهث وراء قيم غريبة لا تمت إلينا بصلة، وأصبحنا نرددها بحماس. وكان الأولى بنا أن نرجع إلى الفطرة المتأصلة فينا!!
حقا ما أبعد الشقة بين عالم المسلمين اليوم وعالم المسلمين أبان ظهور الإسلام. لقد بدأ الإسلام وانتشر على أنقاض إمبراطوريتين عظيمتين في ذلك الوقت، هما إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس. ولم يكن ذلك إلا بفضل التمسك بالقيم الجديدة التي كانت تُخضع الفرد لمحاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين، وتضع كرامته فوق كل اعتبار.
أما اليوم، فإننا نسعى لتطبيق النظم الاقتصادية المقتبسة سواء الاشتراكية أم الرأسمالية، بكل ما يحملهما هذان النظامان من قيم وأفكار. وهذا ما حدا بأحد المستشرقين الإنجليز المعاصرين، وهو البروفيسور " جب "، للقول: " الواقع أن الإسلام كعقيدة لم يفقد إلا قليلا من قوته وسلطانه، ولكن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الاجتماعية قد فقد مكانه، فهناك مؤثرات أخرى تعمل إلى جانبه، وهي - في كثير من الأحيان - تتعارض مع تقاليده وتعاليمه تعارضا صريحا، لكنها تشق طريقها - بالرغم من ذلك - إلى المجتمع الإسلامي بقوة وعزم ".
لقد مر علينا وقت ما رددنا فيه الشعارات الاشتراكية. ثم أتى وقت آخر تمسكنا فيه بالرأسمالية وسعينا وراءها. فماذا حدث لتلك الثقافتين في عقر دارهما؟
لقد تقوضت الشيوعية وانهارت النظم الاشتراكية التي كانت تدعو لتطبيقها. فقد دعت الاشتراكية إلى السيطرة الجماعية على وسائل الإنتاج باعتبار أن ذلك هو أفضل السبل للانتاج المادي وزيادته. وبذلك كان الإنتاج يتم في ظل رقابة الدولة، ويتم التوزيع وفقا لمبدأ " من كلٍ بحسب قدرته، ولكلٍ بحسب عمله "، حيث اُعتبر ذلك هو المرحلة الدنيا للاشتراكية، التي تتطور فيما بعد لتصبح " من كلٍ بحسب طاقته، ولكلٍ بحسب حاجته ".
ولكن لم تتحقق مطلقا مثل هذه المبادئ، بعد أن ظن الفرد أن فيها خلاصه. وعلى العكس من ذلك، فقد كان الركن الأساسي الذي بُنيت عليه تلك النظرية، هو العامل الرئيسي وراء انهيارها واندحارها. وتكشف معدلات الدخل الفردي عن تحقيق أدنى مستوياتها في دول الكتلة الاشتراكية السابقة. وكان الإنسان في ظل هذا النظام من أكثر الأفراد بؤسا وشقاء في العالم، وهذا ما دعاه للثورة عليها والتحول إلى نظم أخرى بديلة عنها.
أما النظام الرأسمالي - رغم ابتهاجه بتلاشي عدوه اللدود " الشيوعية " واختفائه - فلا أعتقد أنه سيصمد للبقاء طويلا. وتدلنا التجربة التاريخية على تعرض النظام الرأسمالي للتصدع بالفعل، وأنه كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار - قبل أن يحدث ذلك للنظام الاشتراكي بوقت طويل - وذلك خلال أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن العشرين، فيما عُرف أثناء ذلك بالكساد الكبير.
وبعد أن استعد العالم بالأكفان والحنوط لتشييع النظام الرأسمالي إلي مثواه الأخير، وتم تجهيز مقالات التأبين التي ستُلقى في ذكراه، إذا به يُبعث من جديد، ولكن لأسباب لا تمت للإنسانية بصلة. فقد لاحت تباشير الحرب ودارت عجلة المصانع، بعد طول توقف، لإنتاج أسلحة الدمار. وهكذا كان انبعاث النظام الرأسمالي سببا في شقاء البشرية. أما الآن، وبعد انتهاء الحرب الباردة وإغلاق مصانع المعدات الحربية، فإن الرأسمالية تترنح في عقر دارها.
لقد دخل النظام الرأسمالي في مرحلة انكفاء أخرى لا أظن أنه سيستعيد توازنه سريعا منها، إن كان له أن يخرج منها على الإطلاق. ويتصدع اقتصاد أعتى الدول الرأسمالية الآن من جراء معدلات التضخم المتسارعة التي تأكل معها زيادات الأجور المتباطئة. وتتزايد معدلات البطالة إلى مستويات لم تصل إليها من قبل. فتطالعنا الصحف بأنباء تسريح آلاف العمال في أكبر مصانع إنتاج السيارات في الولايات المتحدة، وفي الصناعات المغذية لصناعة السيارات - مثل الحديد والصلب والمطاط ... الخ. وفي هذا ما يشير لشقاء قطاعات واسعة من البشر في دول النظام الرأسمالي.(43/176)
ومن المؤكد أنه لا خير لنا في أيٍ من هذه النظم جميعا. فلكل منها عيوبه الفاحشة، كما أن له حسناته الواضحة. وقد نشأت هذه النظم في بيئة غير أرضنا، لأوضاع غير أوضاعنا، ومجتمعات فيها غير ما في مجتمعاتنا. فضلا عن أن بين أيدينا النظام الكامل الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل، في توجيهات الإسلام الحنيف، وفيما وضع للاقتصاد القومي من قواعد أساسية لو علمناها وطبقناها تطبيقا سليما لانتهت كافة مشاكلنا، ولظفرنا بكل ما في هذه النظم من حسنات، وتجنبنا كل ما فيها من سيئات، ولعرفنا كيف ترتفع مستويات المعيشة، وتستريح جميع الطبقات، ولوجدنا أقصر الطرق إلى الحياة الطيبة.
فإلى متى سنظل في سباتنا نائمين؟!
وإلى متى سنظل في أماكننا قابعين؟!
وإلى متى سنظل في ضلالنا ماضين؟!
لقد آن الأوان لكي نفيق ونصحو. ولعل ما يحدث حولنا يدق لنا ناقوس الخطر المحدق بنا. إن المؤامرات تُحاك من أجل تدمير العالم الإسلامي، من خلال العوامل الاقتصادية بالأساس، ولكن ليس هناك من يريد الانتباه لذلك.
إن العلاج يكمن فينا نحن - في أنفسنا. لقد قال الله تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ َلا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? ] الرعد: 11 [. فهل سنعمل على إصلاح ذات بيننا؟!! ليبدأ كل منا بنفسه ... ليتحلى كل منا عما دأب عليه من كسل وتراخٍ، وليبدأ مرحلة جديدة من النشاط والجد. لنتخلى عما وقر في أنفسنا من إتباع لقيم وأفكار تبعد كل البعد عن ثقافتنا وديننا، ولنبدأ في تطبيق تعاليم وأوامر ديننا، الذي أثبت أنه صالح لكل زمان ومكان، ولكننا مع الأسف مستمرون في هجرانه والبعد عنه!!
==============(43/177)
(43/178)
الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام
دراسة
السيدة العزيزة .
لقد قرأت ببالغ الأهمية موضوعك حول :" الاسلام بين كينز و ماركس ". و لقد ذهلت لتحليلك العميق للجانب الاقتصادي للإسلام الذي أوحت به الرسالة الإسلامية . فلا أحد تقريباً ،يملك في الوقت الحاضر ما يحيط بالتدابير الاقتصادية العميقة للإسلام سواكِ . و لذا ،فإن إسهامك هذا ، في هذا المجال لا غنى عنه . إنك بذلك تساهمين في تحطيم الأمركة الاقتصادية الحديثة بإقامة الدليل على أن التخلي عن الأخلاقية في الإنسان التي ثبّت دعائمها القانون الإلهي ، أبطلت المفعول المجدي لعلم الاقتصاد الحديث بشكل كامل . إن تأملك العميق حول الإسلام يتماشى مع تأمل الأستاذ :" فرانسوا بيرو " فيما يتعلق بإسهام المسيحية في التحليل الاقتصادي . أنت ، كما هو ، ترفضان هذا التعارض المطلق بين الدين و المجتمع ،بين اليقين و العقل ، هذا التعارض الذي ينبع من الجهل المطبق ، في الوقت نفسه ، لمبادئ الاقتصاد ، و لمضمون النصوص الدينية معاً . و لدى تعمّقي في قراءة نصك ، أعتقد أن الإسلام ذهب أبعد بكثير مما ذهبت إليه المسيحية ،لأنها _ بلا شك_ منذ " سان أوغستان " تحول الاتجاه فيها إلى إبعاد الشعور الروحاني ،بشكل مبالغ فيه، عن المعيار
الأخلاقي .
آمل لعملك هذا أن يصل إلى مدارك أكبر عدد ممكن من الشعوب .
توقيع :
آلان باركر
- ×× -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الهدف من هذا الكتاب ليس الدخول في أحكام النظريتين، الماركسية، والرأسمالية وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة ورفاهية وعدالة وأمان، وكيف استطاعت الامبراطورية، الإسلامية على امتداد مساحاتها الشاسعة والواسعة، حتى في فترة انحلالها في عهودها الأخيرة، أن تتلافى طوابير العاطلين عن العمل من الحاملين لأعلى الشهادات، والألوف المؤلفة من الجائعين المنتظرين منذ أيام للحصول على كأس صغير من الحساء، على بعد عشرات الأمتار من البيت الأبيض الأمريكي صبح مساء، وملايين النائمة في العراء، في قيظ الصيف وقر الشتاء... بينما توصلت اليمن في عهودها الإسلامية النيرة -على سبيل المثال- إلى الحصول على لقب "اليمن السعيد" لشمول السعادة والرفاهية والحياة الكريمة لكل فرد من أفرادها، في طول البلاد وعرضها، وكيف توصلت بعض المدن الإسلامية (الكوفة) في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى إعادة الأموال، التي كانت ترسل إليها لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت المال لعدم وجود من يستحق فيها الزكاة (يوجد في الوقت الحاضر مايزيد على أربع أخماس المعمورة يستحق فيها الزكاة)، وكيف كان الخليفة عمر بن الخطاب يعتبر نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الجائعة ولو كانت في أقصى المدينة، بينما لايعتري أحد من الحكام، في الوقت الحاضر، أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء..؟!
ولابد لنا إذاً، في هذا الكتاب، للوصول إلى هذا الهدف، بعد أن دُوِّل النظامان وفرضت مشاكلهما وحلولهما على العالم أجمع، من دراسة العناصر التالية:
1ً-تحليل المشاكل التي طرحها المذهبان لاستشفاف ما إذا كانت هذه المشاكل، هي بالفعل، مشاكلهما الحقيقية بالذات، قبل أن تصبح مشاكل العالم أجمع، ومشاكل الإنسان في كل مكان...؟
2ً-استعراض الوسائل والحلول المعتمدة لحل هذه المشاكل، وما إذا كانت قد أتت أكلها الطيبة لشعوبها بالذات، قبل أن يعم خيرها على جميع الناس...؟
3ً-ماهي المشاكل التي طرحها الإسلام، وماهي الحلول التي قدمها للشعوب المستضعفة التي استظلت بمظلته، من كافة الأعراق والألوان، على امتداد مسافات شاسعة، من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، خلال قرون عديدة من الزمان، وكيف استطاع أن يؤمن لها صنوفاً من السعادة والحياة الكريمة اللائقة بالإنسان؟....
4ً-وهل مازال المسلمون يملكون ذات الوسائل والمعطيات لتقديم ذات الحلول التي تمكنهم من تطبيق أحكام الإسلام؟...
أم أن ماجرى على هذا الكون من تحكم النظامين وغطرستهما، وتخريبهما، واستهتارهما بالإنسان، ومحاربتهما له خلال قرنٍ من الزمان، وفي كل مكان، لم يبق من الإسلام للمسلمين سوى:
-العبادات المجانية.
-الموت في سبيل الله، الذي هو- في الواقع، في سبيل الأمريكان...!
×××
القسم الأول :
الاقتصاد كعلم أو مذهب
ماهو المذهب الاقتصادي؟
وماهو علم الاقتصاد؟
لابد من التنويه بأن لعلم الاقتصاد، خلافاً لبقية العلوم الطبيعية، تعريفين أو أكثر، تختلف باختلاف المذهب الاقتصادي الذي يراد تطبيقه. وسنتناول أولاً التعريف بشكل عام.
فعلم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم بها.
وأما المذهب الاقتصادي: فهو عبارة عن النهج، الذي يفضل القائمون على تفسير الحياة الاقتصادية، بالطريقة التي يتبعونها، تطبيقه في حياة المجتمع، وحل مشاكله العلمية والعملية وبتعبير آخر:(43/179)
العلوم الاقتصادية: هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع في حياته الاقتصادية، والمذهب الاقتصادي هو عبارة عن نهج خاص
للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية ماتصبو إليه من رخاء وسعادة على الصعيد الاقتصادي.
وعلى هذا، فالمذهب هو دعوة عمل وتصميم، والعلم كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون. لهذا السبب كان المذهب عنصراً فعالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد، وأما العلم فهو يسجل مايقع في مجرى الحوادث الاقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.
وعلى هذا الأساس، فقوانين المادية التاريخية علم، والنهج الاشتراكي مذهب -حسب ماركس- والقوانين الطبيعية علم، والنهج الرأسمالي مذهب -حسب آدم سميث وريكاردو-.
إلا أنه إذا تبين لنا -كما تبين لدى قسم كبير من الباحثين العصريين- أن ماركس لم يكن على صواب في تفسير المادية التاريخية والقوانين الطبيعية التاريخية، بل إنه تصرف بها وأخذ منها ما يناسبه، وأن آدم سميث وريكاردو قد حصرا القوانين الطبيعية في ظل النظام الحر المطلق، أي أنها ليست كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء، تطبق في كل مجتمع، وكل زمان ومكان، وهي بذلك لاتتصف بصفة العلم، أدركنا أن الاقتصاد كعلم ليس له أساس موضوعي، فلم يبق إذاً إلا الاقتصاد كنهج.
إن ماقصد إليه النهجان -في الواقع- من إصباغ صفة العلم على نهجيهما، هو التدويل لكل نهج من جهته، وجعله صالحاً لتطبيقه لكل شعب على وجه الأرض، ولكل زمان ومكان، بغية مد هيمنته وسيطرته على العالم أجمع* .
أما وقد أثبت النظام الماركسي فشله على أرضه بالذات في عمر لم يتعد النصف قرن، وتربع الثاني وحده على عرش متداعي الأركان لسوف لايطول به العهد أيضاً لسنوات، فإن ماكان أساسه هشاً لايؤمل له الصمود "وإن للباطل جولة ثم يضمحل....".
-×××-
الفصل الأول
النظرية الماركسية كعلم أو مذهب
آ-المفهوم العلمي للماركسية:
1ً-المادية التاريخية: تعتبر المادية التاريخية -في رأي الماركسية- أنها الطريقة الوحيدة التي تفسر التاريخ والحياة الإنسانية بكافة ظواهرها. وبتعبير آخر، إن الوضع الاقتصادي، وعلى وجه التحديد، وضع القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، هي التي تصنع تاريخ الناس وتنظمهم وتطورهم، وتحدد أوضاعهم السياسية والدينية والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي.
وهنا، لا حاجة لنا في الدخول في الديالكتيك الفلسفية التي اتبعت أساساً لاستنباط تلك القاعدة العلمية، ولا التساؤلات التي انصبت عليها، وكلها تدور في حلقة مفرغة: (هل الدجاجة أصل البيضة، أم البيضة أصل الدجاجة؟!....) فعلى سبيل -المثال: هل المجتمع يغير الأفكار أم الأفكار تغير المجتمع؟
جواب ماركس: "لا هذا ولا ذاك، إنها وسائل الإنتاج.."
-وإذا كانت وسائل الإنتاج تصنع التاريخ وتغير البشر، فما هو السبب في تغيير وسائل الإنتاج؟ جواب ماركس: "إنها وسائل الإنتاج ذاتها"
ولذا، فلسوف نعتمد على التطبيق والمقارنة والواقع لفحص النظرية الماركسية لنرى ما إذا كانت وسائل الإنتاج هي التي كانت المحرك الأول في نشوء الماركسية ذاتها، وفي البلدان الاشتراكية على وجه التحديد لنحكم من خلال التطبيق على صحة النظرية، وبالتالي درجتها من المحتوى العلمي.
ولابد لنا -في بادئ الأمر- من لفت النظر إلى الفرق الشاسع بين الباحث التاريخي والباحث العلمي في مجال العلوم الطبيعية (كالفيزياء، والكيمياء والرياضيات،... الخ)، فإن الباحث التاريخي الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري ونشوءه وتطوره لايستطيع أن يفحص هذه الظواهر بصورة مباشرة، كالعالم الطبيعي (في مخبره الخاص)، وإنما هو مضطر إلى تكوين فكرة عنها بالاعتماد على النقل والرواية وشتى الآثار العمرانية وغيرها. كما أنه لايملك لتحريها مايملكه العالم الطبيعي من إجراء التجارب وتقديم الدليل التجريبي على نظرياته، وعلى هذا، فهو لايملك سوى الملاحظة التي تعتمد -كما ذكرنا- على الرواية.
فمن ناحية الملاحظة بالذات، فإن الماركسية لم تكن تملك حين وضعت مفهومها الخاص عن التاريخ، سوى الملاحظة المحدودة في نطاق ضيق لاكتشاف قوانين التاريخ كلها واليقين العلمي بها. فقد قال (أنجلز)* :
"وبما أن البحث عن الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً في سائر المراحل السابقة بسبب تعثر علاقتها واختلاطها مع ردود الفعل التي تؤثر بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلاقات كثيراً بحيث أمكن حل اللغز: فمنذ انتصار الصناعة الكبرى في انكلترا، لم يعد خافياً على أحد بأن النضال السياسي كله يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة: الاستقراطية، والبورجوازية".(43/180)
ومعنى هذا، إن ملاحظة الوضع الاجتماعي، في فترة معينة من حياة أوروبا، بل وفي انكلترا وحدها بصورة خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي (انجلز) لليقين العلمي بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ الأخرى لاتكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف هو نفسه، مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع معين، في فترة معينة، لايكفي لتعميم سيطرته الرئيسية في كل أدوار التاريخ، وفي كافة المجتمعات* .
أما الناحية التطبيقية، فهي المقياس الذي سنلجأ إليه لاختيار صحة النظرية الماركسية، على أرضها بالذات، أي في البلدان الاشتراكية وذلك تماشياً مع الأهمية الكبيرة التي يعطيها ماركس نفسه للناحية التطبيقية في كشف مدى صحة المقياس العلمي، وقبل أن يطول العهد ونعتمد على الروايات السليمة منها أو الفاسدة. فالناحية التطبيقية -حسب الماركسية نفسها- هي المقياس الأعلى لاختبار صحة كل نظرية. وكما قال (ماوتسي تونغ):
"إن نظرية المعرفة في المادية الديكالتيكية تضع التطبيق في المكان الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب ألا ينفصل في أية درجة كانت عن التطبيق، إذ أن إهمال التطبيق يوقع في المجرد الذهني.."
ولنأخذ القسم الخاص من التطبيق للنظرية في المجال الذي يتصل بتطور المجتمع الرأسمالي ونشوء الاشتراكية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل حصلت الثورة الاشتراكية نتيجة لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة؟
في الواقع، كلنا نعلم أن الثورة الاشتراكية، في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية تطبيقاً جزئياً مثل: بولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، لم تنبثق عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت فرضاً من الخارج بقوة الجيش الأحمر، أي بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح. وإلا فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين، وأدرج قسمها الشرقي ضمن العالم الاشتراكي، وجزءها الغربي ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى المنتجة (التي هي واحدة في الشطرين) أم قوة الجيش الفاتح؟
وأما في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية بشكل كلي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل طبقاً للنظرية التي حل بها الماركسيون كل ألغاز التاريخ وهي: "المادية التاريخية".
ففي روسيا مثلاً، وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل نتيجة نمو وسائل الإنتاج والقوى المنتجة. فالقوى المنتجة فيها لم تكن لتبلغ الدرجة التي تحددها النظرية لإمكان التحول واندلاع الثورة الاشتراكية. لقد كانت روسيا -في الواقع- في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية لكي يلعب تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، بل -على العكس- نمت تلك القوى في فرنسا وبريطانيا وألمانيا نمواً هائلاً، ودخلت هذه البلاد مرحلة عالية من التصنيع، ومع ذلك، فبمقدار ارتفاعها في هذا المضمار، كان بعدها عن الثورة ونجاتها من الإنفجار الثوري الشيوعي المحتوم في مفاهيم المادية التاريخية. أي أن الاتجاه الثوري في روسيا لم يخلق نتيجة للثورة الصناعية وتطور وسائل الإنتاج، بل العكس هو الصحيح، فقد جاءت الثورة الصناعية كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز الانقلابي في الدولة هو الأداة لتصنيع البلاد وتطور قواها المنتجة، وليس التصنيع هو الخالق لهذا الجهاز.
وإن كان من الضروري أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة التصنيع ووسائل الإنتاج من ناحية أخرى، فالتطبيق أثبت عكس العلاقة التي حددتها الماركسية.
فروسيا، مثلاً لم يدفعها نمو الإنتاج إلى الثورة بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوى وتخلفها الخطر عن ركب الدول الصناعية التي قفزت بخطوات عالية جداً في مضمار الصناعة والإنتاج.
فكان لابد لروسيا، لكي تحتفظ بوجودها الحقيقي في الأسرة الدولية وتنجو من الاحتكارات التي أخذت تقيمها الدول السباقة، وتفرض كيانها كدولة حرة على مسرح التاريخ، من إنشاء الجهاز السياسي والاجتماعي الذي يحميها من تلك الاحتكارات، ويحل مشاكلها التصنيعية حلاً سريعاً، ويدفع بها إلى الأمام في حلبات التصنيع، ومجالات السباق الدولي.
ومن ثم، فإن الثورات الداخلية في روسيا ماكان لها أن تنتصر بفعل التناقضات الطبقية المفروضة -حسب النظرية- بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز السياسي الحاكم انهياراً عسكرياً في ظروف حربية قاسية، كانهيار الحكم القيصري عسكرياً في ظروف حربية (الحرب العالمية الأولى)، الأمر الذي مكن قوى المعارضة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، من الانتصار السياسي، وإقامة الحكومة الاشتراكية.
وشيء آخر جدير بالملاحظة، هو أن الحكومة الاشتراكية نفسها، بحكم السلطة المطلقة التي لاحدود لها، التي مارستها، هي التي ساهمت في خلق أسباب وجودها والمبررات الماركسية لنشوئها؛ فهي التي أنشأت الطبقة التي تزعم أنها تمثلها، كما أنها هي التي نقلت وسائل الإنتاج والقوى المنتجة إلى المرحلة التي أعدها (ماركس) لاشتراكيته العلمية.(43/181)
والصين، البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الاشتراكي بالثورة، ينطق أيضاً بالتناقض الواضح بين النظرية والتطبيق.
فلم تكن الثورة الصناعية -التي لم تبدأ بالفعل إلا بعد وفاة (ماو) وانفتاحها على الغرب وتخليها عن مقومات الاشتراكية الأساسية- هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة، وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج (التي مازالت حتى عهد قريب تقليدية) أي دور في ذلك، ولم يكن لفائض القيمة الصناعي (فالصين بلد زراعي، بل ويحرص على أساليب الزراعة التقليدية)، ولا لتناقضات رأس المال التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور في المعترك السياسي. إن الثورة الشيوعية في الصين كانت قد بدأت قبل الغزو الياباني، وظلت لمدة عقد كامل تنتشر وتتوسع، ولم يتحقق لها النصر إلا بعد تحطيم جهاز الدولة نتيجة ظروف حربية خارجية أدت إلى زعزعته.
وهناك أقطار عديدة عاشت نفس الظروف والعوامل التي أنجحت الثورة الاشتراكية في روسيا، ولكنها لم تأخذ مثلها طابعاً اشتراكياً، رغم التشابه في القوى الإنتاجية، نظراً للظروف الفكرية والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي والمجال الثوري هنا وهناك.
فإذا كان التطبيق يدعم حقاً النظرية، كما يزعم المنطق الديكالكتيكي للماركسية، فإن المادية التاريخية يعوزها حقاً هذا الدليل....!
المادية التاريخية، والحياة الفكرية
لعل أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ عند الماركسية يكمن في العلاقة التي تؤكد على وجودها بين الحياة الفكرية للإنسان بشتى ألوانها (من فلسفية وعلمية، ودينية... الخ). وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى المنتجة. لا بل وإنها تتهم كافة المفكرين بجهلهم المطبق للأسباب التي خلقت. لهم أفكارهم، والتي لم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية.
وهذا الإطار الاقتصادي الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار الإنسان في المعمورة منذ الخليقة حتى تاريخها، جدير بالبحث العلمي والفلسفي المستفيض أكثر من بقية الجوانب الأخرى، وقد خصص له المرحوم (محمد باقر الصدر) كتاباً بعنوان "فلسفتنا" يمكن الرجوع إليه. وإن مايهمنا من هذه العلاقة هو استعراض بعض النواحي التطبيقية.
فالمجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود كانت متقاربة -إلى حدٍ كبير- في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن بينها أي فرق جوهري. فالزراعة التقليدية، والصناعة اليدوية هما الشكلان الرئيسيان للإنتاج في مختلف تلك المجتمعات، وبالرغم من ذلك فإنها كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية. فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته هي العامل الأساسي الذي يحدد لكل مجتمع محتواه العلمي ويطور الحركة العلمية تبعاً لدرجته التاريخية، لما وجدنا تفسيراً لهذا الاختلاف، ولامبرراً لازدهار العلم في مجتمع دون آخر.
فلماذا -على سبيل المثال- اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى عن المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع اشتراكها في نوعية القاعدة؟ وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية الحركة العلمية في مختلف العلوم، وبدرجة عالية جداً، ولم يوجد لها أي تباشير في أوروبا الغربية التي هالها مارأته في حروبها الصليبية من علوم المسلمين ومدنيتهم؟*
ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها (فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في القرن الثامن عشر).
بالإضافة إلى ذلك، فكثير من الحاجات الاقتصادية القديمة العهد بالتاريخ لم يتوصل الفكر إلى تلبيتها إلا بعد مرور قرون عديدة، بينما -على العكس- فقد سبق العلم الحاجات الاقتصادية بعشرات القرون في كثير من الحالات. (فعلى سبيل المثال، فإن اكتشاف المغناطيس في تعيين اتجاه السفن لم يتم إلا في القرن الثالث عشر، مع أن الطريق البحري كان هو الطريق الرئيسي منذ قرون خلت، وعلى العكس، فإن اكتشاف البخار قد تم في القرن الثالث الميلادي، أي قبل المجتمع الرأسمالي الذي دعا إليه بعشرات القرون.
المادية التاريخية وتكون الطبقات
ومايقال في تكون الأفكار لدى الماركسية نتيجة للوضع الاقتصادي والقوى المنتجة، يقال أيضاً بالنسبة لتكون الطبقات: (( إن انقسام الناس-حسب الماركسية- إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لاتملك منها شيئاً، هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع بأشكالها المتنوعة تبعاً لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على المحكومة من عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة)).(43/182)
ونعود هنا إلى السؤال التقليدي: (الدجاجة سبقت أم البيضه)؟ فالتكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة في المجتمع، إذا كان نتاجاً للملكية (الوضع الاقتصادي)، فلابد لها من إيجاد هذه الملكية لكي تصبح رفيعة حاكمة، ولاسبيل إلى حصولها على تلك الملكية إلا عن طريق النشاط في ميادين العمل. ولم يسبق أن كان النشاط في ميادين العمل هو الطريق الأساسي لتكون الطبقة الحاكمة في المجتمع، اللهم إلا بالنسبة للمجتمع الرأسمالي في ظروف تكونه وتكامله، وحتى في هذا المجتمع، فكان السلب والنهب والنفوذ الاستعماري وسيلة الوصول إلى الحكم أكثر منه عن طريق النشاط في ميادين العمل. وكلنا يعلم كيف تكونت الطبقة الحاكمة في أمريكا، وأعمال البطش والإبادة الجماعية التي استعملها الغازون الأوروبيون بالهنود الحمر، الشعوب الأصلية، دون أن يكون لهؤلاء الغازين في هذه القارة أي عنصر من عناصر المادية التاريخية.
وإذا عدنا إلى التاريخ القديم نجد أن طبقة رجال الأعمال في المجتمع الروماني كانت تداني الأشراف في ثرواتها بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي. وعلى العكس، فإن طبقة (الساموراي) ذات النفوذ الكبير في اليابان القديمة، والتي كانت تداني الإقطاع في السلم الاجتماعي، لم تكن تعتمد إلا على فروسيتها وخبرتها في حمل السيف وليس على الملكية. وقس على ذلك طبقة (الآريين الفيديين) الذين غزوا الهند قبل التاريخ الحديث بألفي سنة وسيطروا عليها وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً لم يكن للملكية أي أثر في تكوينه، بل كان قائماً على أسس عسكرية، ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع مكليتهم لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في سلطانها السياسي والديني.
وأخيراً، كيف نفسر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح الجرماني، إذا لم نفسره تفسيراً عسكرياً وسياسياً؟ فكلنا يعلم، وحتى انجلز نفسه قد اعترف بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية، وإنما تكونت ملكيتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العكسرية والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة، وتقاسموها، فكانت الملكية أثراً، ولم تكن هي العامل المؤثر.
وهكذا، فإن الواقع التاريخي للإنسانية لايسير في موكب المادية التاريخية، وبذلك تخسر الماركسية برهانها العلمي، وتبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.
نظرية ماركس بالقيمة الفائضة
لابد لنا قبل أن نعرج على الماركسية كمذهب من إبداء الملاحظتين التاليتين عن نظرية ماركس "بالقيمة الفائضة" التي تعتبر المصدر العام لأرباح الطبقة الرأسمالية، والسبب في الصراع الطبقي المحتوم بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، والذي سيؤدي بالرأسمالية العالمية -حسب رأيه- إلى مصيرها المحتوم.
وكلنا يعلم أن نظرية القيمة الفائضة، تعتبر أن المنبع الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. وإن الفرق بين مايدفعه الرأسمالي إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من إنتاجه من قيمة (إذ أن الرأسمالي يقتطع من العامل جزءاً من القيمة التي يخلقها، كربح له) هو بمثابة السرقة لحقوق العامل. وهذه من شأنها أن تؤدي -بطبيعة الحال- إلى قيام صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة، حسب رأيه.
الملاحظة الأولى:
إن كان العمل يحتل أهمية قصوى في تحديد قيمة السلعة، إلا أن المادة (موضوع العمل) لايمكننا أن ننكر قيمتها. فالعمل المنصب على استخراج معدن كالذهب مثلاً، لاتقارن قيمته بالنسبة للعمل المصروف على استخراج صخور لاتجدي نفعاً. فالعنصران إذاً، (المادة والعمل) متفاعلان ومتضامنان في تكوين القيمة التبادلية للسلع المستخرجة. فليست القيمة كلها -إذاً- نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة الفائضة (الربح) جزءاً من القيمة التي يخلقها العامل دون اعتبار ما لمواد الإنتاج الطبيعية من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.
الملاحظة الثانية:
وهناك عنصر آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة اكتشاف سر الربح، وهو القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب مواهبه التنظيمية والإدارية التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي. فهناك مشاريع متساوية في رؤوس أموالها والأيدي العاملة التي تعمل فيها، ومع ذلك فقد تختلف اختلافاً هائلاً في الأرباح التي تجنيها طبقاً لكفاءات التنظيم ومقدرة الرؤوس الخالقة للثروة من الإشراف على عملية الإنتاج وعلى تصميمها، وتحديد مايلزم، والبحث عن منافذ لتوزيعها.
وإذا كان العمل جوهر القيمة -حسب ماركس- فمن باب أولى أن يكون للعمل القيادي والتنظيمي، والفكر الذي خلق الثروة نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة.(43/183)
وهكذا، فإن انهيار نظرية القيمة الفائضة يتبعه رفض التناقضات الطبقية التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل والمالك بوصفه سارقاً يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها في السلعة موضوع العمل.
والحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد هي أن المالك لا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي، ولايشتري أيضاً منه قوة العمل، كما يقرر الاقتصاد الماركسي* وإنما يشتري المالك من العامل منفعة عمله. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة العمل، وهي بضاعة لها قيمة بمقدار مالتلك المنفعة من أهمية، كتحويل قطعة الخشب إلى منضدة، أو تحويل فلزات الذهب إلى مجوهرات. وهذا المبدأ يفسر انخفاض القيمة التبادلية لسلعة من السلع، تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري أو أي عامل آخر، فتتضاءل قيمة السلعة بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا يبرهن بوضوح على أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الإنتفاع وإشباع الحاجات، أثراً في تكوين القيمة التبادلية.
ب-الماركسية كمذهب اقتصادي
ذكرنا في مطلع هذا الفصل أن العلوم الاقتصادية هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع، كما تجري في حياته الاقتصادية. أما المذهب الاقتصادي فهو المنهج الذي يطالب به أنصار النظرية العلمية لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية، ماتصبو إليه من سعادة ورخاء.
وقد تناولنا العلوم الاقتصادية من وجهة نظر الماركسية بالتحليل والفحص على مجهر الواقع التطبيقي، ورأينا كيف أن المادية التاريخية التي تفسر كافة الفعاليات والنشاطات الإنسانية في التاريخ من خلالها، لاتفتقر فقط إلى الدليل العلمي، وإنما أنها -في أغلب الأحوال- قد قلبت المفاهيم رأساً على عقب. كما أن انهيار نظرية القيمة الفائضة قد اتبع معه كافة التناقضات الطبقية التي استنتجتها الماركسية من هذه النظرية، وتلاشى معها التناقض العلمي المزعوم وبطلت فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.
وبذلك، لم يبق من الماركسية سوى المذهب الذي اتبعه أنصارها لتخليص المجتمع العالمي من تناقضاته -حسب زعمهم- وتحقق للإنسانية كل مايؤمن سعادتها ورخاءها.
وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية بتطبيقهما تباعاً، وهما: المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر -من وجهة نظر المادية التاريخية- أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري، لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى. وأما الاشتراكية فهي تقوم على أنقاض المجتمع الرأسمالي. وهي من ناحية تعبر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار، ومن ناحية أخرى تعتبر شرطاً ضرورياً لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة السفينة إلى شاطئ التاريخ....!
الاشتراكية، ومعالمها الرئيسية:
تتلخص معالم الاشتراكية وأركانها الأساسية فيما يلي:
-محو الطبقية، وخلق المجتمع اللاطبقي.
-استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية.
-تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، واعتبارها ملكاً للمجموع.
-قيام التوزيع على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله).
الشيوعية:
وهي قمة الهرم التاريخي للبشرية. وفيها يحدث التغيير في أكثر المعالم والأركان السابقة، عدا الطبقية التي تحتفظ بها. فهي تهدف للقضاء على قصة الحكومة والسياسية، وتحرر المجتمع منها. كما أنها لاتكتفي بتأميم وسائل الإنتاج، بل تلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الفردية (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لاعن طريق الأجراء)، وتحرم الملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك وأثمانها. وكذلك فإنها تجعل التوزيع مرتكزاً على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته).
وبصورة عامة، فإن ماركس لايستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية إلى قيم ومفاهيم خلقية معينة في المساواة، كغيره من الاشتراكيين الذين يصفهم ماركس بالخياليين. إن القيم والمفاهيم الخلقية ليست في رأي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.
وسنتناول دراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية على ضوء التطبيق العملي، ومدى تماشيه مع الأهداف المحددة.
معالم الاشتراكية بين الأهداف والتطبيق
1ً-من خلال محو الطبقية:
إن محو الطبقية -الركن الأول للاشتراكية- من شأنه -حسب المبدأ- أن يضع حداً فاصلاً لما ذخر به تاريخ البشرية -على مر الزمن- من ألوان الصراع، لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين، فإذا ماقامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد -حسبها- الوئام والسلام إلى الأبد...!(43/184)
إلا أن التطبيق قد أثبت في البلدان الاشتراكية نفسها أن إزالة الملكية الخاصة، وتأميم وسائل الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي، إذ أن تركيباً طبقياً من نوع آخر قد برز إلى الوجود على أساس آخر (الجهاز الحزبي والسياسي). وأن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتع بها الجهاز المذكور تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات على مر التاريخ. فقد كسب رجال الحزب الشيوعي سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، كما كسبوا مركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها تبعاً لمصالحهم الخاصة. وتمتد امتيازاتهم من إدارة الدولة والمؤسسات الصناعية ووسائل الإنتاج إلى كل نواحي الحياة. كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمال ورواتبهم الضخمة.
ولذلك، فإن صراعاً من نوع آخر قد برز إلى الوجود بين الطبقات البديلة ذاتها، صراعاً يفوق إلى حدٍ كبير العنف الذي عرفته الماركسية لأشكال التناقض الطبقي في التاريخ.
وعلى سبيل المثال، فقد شملت عمليات التطهير تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر الذين كانوا يديرون دفة الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية الذين كان يبلغ عددهم ثلاثة وخمسين أميناً، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت، وجميع أعضاء المكتب السياسي الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين، كما أدت عمليات التطهير إلى طرد مايزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين. وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود يوازي الحزب الشيوعي نفسه*.
وهكذا، يبدو جلياً كيف تؤدي طبيعة المادية الدكتاتورية في الجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي الذي يرمي بأهدافه إلى القضاء على الطبقية إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع، وأن هذه التجربة التي جاءت لتمحو الطبقية قد أنشأتها من جديد، ولكن على مستوى لايرعى حرمة لوطن ولا لشعب، ولا لمبدأ؛ فهي نفسها التي انقلبت على الحزب، والطبقة، والوطن في أوائل التسعينيات وفتحت الأبواب على مصراعيها لحثالات الشعوب من المتعطشين للدماء والمال، وأعادت إلى التاريخ بذرة لأفظع ماتصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ.
2ً-من خلال سلطة البروليتاريا المطلقة الوهمية
يشترط الركن الثاني للتجربة الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها، وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤلفوا حزباً جديداً، بلشفي الطراز، إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا بجميع عناصرها قيادة الثورة وتوجيه التجربة. أي أن القيادة الثورية للطبقة العاملة كانت محصورة بمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين، وإن على هذه القيادة أن تتسلم السلطة بصورة مطلقة لتصفية حسابات الرأسماليين نهائياً. وتعتبر هذه السلطة الدكتاتورية ضرورية، ليس فقط لتصفية الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية، بل لابد منها لتنفيذ كل مايتطلبه التخطيط الاقتصادي من سلطة قوية غير خاضعة للمراقبة، ومتمتعة بإمكانيات هائلة، ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد بحجة أن تنمية الإنتاج تتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.
إلا أن مانتج عن هذه السلطة، هو استفحال قوتها إلى أن استفردت وحدها بالإنتاج، والقيمة، وفرق القيمة... وهذا ما أدى إلى تداعي النظام ذاته، لتضطلع -هي نفسها- بمسؤولية حكم ديمقراطي لايختلف، من قريبٍ أو بعيد، عن شريعة الغاب في الماوماو الأسطورية....!
3ً-من خلال التأميم لمصادر الثروة
لقد هدف التأميم -في الواقع- بالإضافة إلى محو الطبقية، إلى تحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. وهنا أيضاً، فقد أثبت التطبيق أنه لا يكفي أن تلغى الملكية الخاصة بقانون، وأن يتم الإعلان عن الملكية الجماعية للثروة بقانون، لكي يتمتع المجموع مثلاً بهذه الملكية...
في الواقع، لقد سمح التأميم للطبقة الحاكمة بأن تتمتع هي وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية بسيطرتها المطلقة على مقدرات البلاد وثرواتها. وحصلت هذه الطبقة على نفس الفرص التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي، كل ذلك مع حق تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرف بممتلكاته، كما أصبحت أقدر من أي رأسمالي، على سرقة القيمة الفائضة.
ولقد اضطر ستالين للاعتراف بأن كبار رجال الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم في الحرب الأخيرة، فجمعوا الثروات الباهظة... وقد أعلن عن ذلك بمنشور أذاعة وعممه على جميع أبناء الشعب...
فالتأميم -في الواقع- لم يقم على أساس روحي أو قناعة بقيم خلقية وإنسانية، وإنما قام على أساس مادي بحت لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج.(43/185)
إن رجال السلطة أنفسهم الغيورين على الإنتاج لزيادة الإنتاج فقط، هم أنفسهم الذين شلوا كافة الفعاليات الإنتاجية في البلاد تمهيداً للثورة المضادة التي قام بها غورباتشوف فيما بعد، مما أدى إلى وقوعها في أزمة اقتصادية عويصة لاسبيل إلى حلها -حسب زعمهم- إلا عن طريق هدم النظام من أركانه الأساسية. وهذا ماحصل بالفعل في أوائل التسعينيات على يد المنقذ الإصلاحي الكبير غورباتشوف، والذي انتهى دوره عند هذا الحد، ليتربع السادة الحقيقيون من الثوريين المحترفين على نظام يتقاذفه الرعاع من كل قطب من أقطاب العالم، لاتربط بينهم أية رابطة من طبقة أو عنصر أو مبدأ، إلا رابطة الفساد والتخريب وتعطيل الإنتاج، والمضاربات، وتهريب الممتلكات والعملات وامتصاص الدماء. ولم يبق من تنمية الإنتاج في مفاهيم المادية التاريخية، التي هي القوة الدافعة للتاريخ على مر الزمن -حسب رأيهم- إلا أضغاث أحلام....!
4ً- من خلال التوزيع وعدالته
إن الركن الأخير من الاشتراكية، وهو التوزيع، فيرتكز على مبدأ: "من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله".
أي حق كل فرد أن يعمل ليعيش في مجتمع، يتألف من طبقة واحدة، وذلك تماشياً مع قانون ماركس للقيمة "بأن العمل هو أساس القيمة"، وأن للعامل نصيباً من الإنتاج بالقدر الذي يتفق مع كمية عمله.
وهنا يبدو التناقض الصارخ بين هذا المبدأ واللاطبقية للمرحلة الاشتراكية. مما لاشك فيه، أن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف كفاءاتهم، ونوعية العمل تخلقها تلك الأعمال. فالعامل الذي يمارس إنتاج أجهزة دقيقة ومعقدة لاتقاس قيمة عمله بالعامل الذي يستخدم في حمل الأثقال مثلاً.
فإذا ماجرى التوزيع حسب قاعدة (لكل حسب عمله)، لابد من أن يجري على درجات متفاوتة، وبذلك سوف يخلق الفروقات الطبقية من جديد، أو أن يجري بالتساوي على جميع العاملين، أي للعامل البسيط كما للعامل المركب، وللعامل الموهوب كما للعامل العادي، وبذلك تكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة التي يتفوق بها على العامل البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً على حساب المادية التاريخية.
ولهذا اضطرت السلطة من خلال التطبيق إلى الاتجاه إلى دفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من جديد، بأن تركت فروقات في الدخل تتراوح بين
1.5 و5%.
إلا أن السلطة قامت فيما بعد بتعميق الفروقات والتناقضات، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتهم لتدعيم كيانها الدكتاتوري التي أوصلت البلاد إلى أسوأ مما جاءت لإصلاحه، إلى أن أتت على النظام برمته كما ذكرنا.
الشيوعية
وهي نهاية المرحلة الاشتراكية، وبداية المجتمع الشيوعي. ولها ركنان:
الأول: توسيع التأميم ليشمل كل وسائل الإنتاج، وكل البضائع الاستهلاكية .
والثاني: تحرير المجتمع من الحكومة والسلطة السياسية بصورة نهائية.
-فمن خلال توسيع التأميم ليشمل البضائع الاستهلاكية وتوزيعها على جميع أفراد الشعب حسب مبدأ "لكل حسب حاجته لا عمله فقط"، فقد بدا فيها المذهب الاشتراكي في قمة إمعانه في الخيال، إذ يتصور أن بالإمكان أن يعطي كل فرد كل مايشبع رغبته ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي سيملكها الشعب من جراء النظام الاشتراكي، سوف تصبح قادرة على إشباع كافة الرغبات. فلا ندرة من بعض البضائع ولاتزاحم على السلع، ولا حاجة للتنظيم...! أي أن الشيوعية كما جنحت في خيالها في صنع المعجزات في الشخصية الإنسانية فحولت الناس إلى عمالقة في الإنتاج، فهي تصنع المعجزات مع الطبيعة نفسها فتجردها من الشح والتقتير والمحل ونفاذ الموارد الطبيعية، وتمنحها روحاً كريمة سخية تغدق بعطائها على كل مايتطلبه الإنتاج الهائل من موارد ومعادن ومياه*.
ويبدو أن قادة التجربة الماركسية قد حاولوا خلق الجنة الشيوعية الموعودة على الأرض ففشلوا، وذلك حين جردوا الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فترة 1928-1930، التي راح ضحيتها مائة ألف قتيل باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد في تقرير أعدائها، ومن ثم إضراب عام 1932، الذي راح نتيجة المجاعة الناجمة عنه ستة ملايين نسمة باعتراف الحكومة نفسها، مما اضطر السلطة إلى التراجع، ومنح الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على أن تبقى الملكية الأساسية للدولة.
-الشيوعية والحكومة
وتزداد الشيوعية تجنيحاً بأخيلتها عندما تفترض الانتقال بالشيوعية من مرحلة حكومات دكتاتورية إلى مرحلة "اللاحكومة".
ولنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفرض أن المعجزة قد تحققت، وأن المجتمع الشيوعي قد وجد وأصبح كل شخص يستطيع أن يشبع كافة حاجاته ورغباته؛ أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجات، وتوافق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج؟ ولذا، فإن الشيوعية لم تر النور، وأن الاشتراكية قد أخمدت جذوتها الرياح الفاسدة من داخلها خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن.
النتيجة:(43/186)
نتيجة لما تقدم يتبين لنا أن إلغاء الملكية الخاصة، وتأميم كافة وسائل الإنتاج، والقضاء المبرم على طبقة، واستبدالها بطبقة أخرى استناداً إلى فلسفات خيالية محضة، وخاصة إذا ماكانت الطبقة الأولى نشيطة ومنتجة ولديها الخبرة والتمرس في إدارة المؤسسات الإنتاجية وإنجاحها، وكانت الطبقة البديلة لاتملك من ذلك شيئاً؛ كانت السبب الرئيسي في فشل الاشتراكية وانحرافها عن أهدافها في إعطاء الطبقة العاملة حقوقها، وبالتالي في تنشيط عجلة الإنتاج وتحسينه في تأمين الحاجات القصوى للشعب من جهة، وتزويد الخزينة بما يسد عجزها ويؤمن متطلباتها من جهة أخرى.
إن إزالة الملكية الخاصة، وتسليم وسائل الإنتاج لإدارة الطبقة الجديدة المصطنعة، لم تكن -بحد ذاتها- حلاً عادلاً وصائباً، وذلك من النواحي الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.. الخ:
-فمن الناحية الاقتصادية، لقد فقدت الدولة بهروب هذه الطبقة وبعثرتها، الرؤوس التي تصنع الثروة، والتي هي -بحد ذاتها- أكبر ثروة، إلى جانب ثرواتهم التي هربوها معهم. وهي -من جهتها- لاتعجز عن استثمارها في أي مكان من العالم. وكلنا يعلم أن أموالها التي نقلتها إلى أوروبا الغربية قد ساهمت إلى أقصى حد في إنعاشها، بينما حاقت بأوروبا الشرقية وحدها الخسارة الفادحة.
إن الملكية الخاصة، في الواقع، لم يحصل عليها المالك إلا لقاء عمل وجهد وفكر وتضحية برأس مال خاص، لم يسرقه أو يستولي عليه من أحد، أو آل إليه من تعب آبائه وأجداده. ولذا، فليس من حق الدولة أن تسلبه إياه، وتسلمه لغيره، ممن لاناقة له فيه ولاجمل.
لقد كان باستطاعة الدولة، الغيورة على مصالح الطبقة العاملة، أن تدع هذه الطبقة تواصل استثمار ثرواتها في بلادها، وتتمتع بملكها ضمن شروط اقتصادية واجتماعية تخدم أهدافها، وتضيف إلى هذه الطبقة طبقة جديدة من المحرومين تضع تحت تصرفها مايوجد تحت تصرف الدولة من ثروات طبيعية غير مستغلة من القطاع العام، لتقوم بإحيائها واستغلالها. وبذلك، فإنها تضيف إلى الملكيات الخاصة السابقة ووسائل الإنتاج الموجودة، وبالتالي للطبقة الغنية، طبقة أخرى، قد تفوقها فكراً وعطاء وغنى، وبذلك، تستفيد الدولة من فعاليات كافة الطبقات العاملة في المجتمع، والذين أثبتوا فعلاً نجاحهم في فعالياتهم، وتتلافى خلق طبقة مصطنعة لاتملك الإمكانيات الفكرية والعملية المطلوبة لنجاح الفعاليات الإنتاجية التي استلمت مقاليدها. هذا، ناهيك عن إفساد هذه الطبقة من جراء حصولها على حقوق الغير دون أن تبذل أي جهد، اللهم إلا موالاة السلطة، مما يجعلها أيضاً عديمة الاهتمام، غير مكترثة سواءً نجح المشروع الذي استولت عليه أو فشل. كما أن من شأن ذلك، توسيع دائرة النصب والاستيلاء على تعب الغير وحقوقهم إلى درجة تطمس كل حق لغيرهم من أبناء الشعب.
-ونتيجة لفشل تلك الطبقة في إدارة المؤسسات الإنتاجية التي آلت إليها وعدم أمانتها على مقاليدها، فقد انعكس ذلك بخسارة فادحة على الدولة وكيانها السياسي، وعلى المجتمع برمته، فتهدم النظام برمته. فبالإضافة إلى كون هذه الطبقة لاتملك الفكر المنظم والخالق للثروة، فهي لاترعى حقاً أو واجباً نحو الدولة، والوطن والمجتمع، لأنها الحصينة بانتسابها إلى الحزب الحاكم قد أطلقت لغرائزها العنان بسلب حقوق الوطن والعاملين فيه بحيث أدى ذلك إلى إفلاس البلاد وإفقار الناس وضياع الوطن، بينما اغتنت هي وحدها غناءً فاحشاً أهلها لتتبوأ عرش النظام الرأسمالي الإنقلابي وويلاته الذي تلاه.
وهذا مايبرر -في الواقع- أن محاولة الانتقال بروسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية، في أوائل التسعينيات، لم تواجه بأية معارضة على الإطلاق، ولم يطوقها الأعداء من الخارج. فقد كانت التحاقية بالكامل، بل وتلقت مكافآت على ذلك، وأخذت الطبقة التي خلقها الحزب الشيوعي نفسه من ثواره الميامين، تسخر نظام الحرية لمصلحتها بشراسة منقطعة النظير، فأحلت لنفسها، باسم الحرية والديموقراطية كل ما يجلب لها الثروة، وبأية طريقة كانت: من تهريب المخدرات والعملات، وبيع ممتلكات الدولة ومؤسساتها وثرواتها واختراعاتها ومخترعيها وأسرارها الحربية، وعلومها الفضائية، وجلود نسائها وأطفالها.. إلى آخر ما هناك من فظائع يندى لها الجبين.. لقد تحولت -في الواقع- إلى أدوات مرتهنة بأيدي المافيا الصهيونية العالمية، تسعى فقط إلى الثروات بنهم وعدم مسؤولية، فتحلم بعمال دون أجور، ومتقاعدين دون رواتب تقاعدية، ومجتمع دون نقابات، وحياة دون ثقافة، واقتصاد دون إنتاج، وأموال دون عمل..! فالأسواق المالية ومضارباتها وبورصاتها غدت المصدر الوحيد للشرعية، وأصبح ارتكاب جرائم القتل والسلب والنهب الخبز اليومي للشعب، وامتلأت الطرقات والأرصفة بالمتسولين والبؤساء والعاطلين عن العمل وفتيات الطريق، وأصبحت تجارة الجنس المورد الرئيسي للبلد لجلب القطع الأجنبي.(43/187)
وبعد أن كان الاقتصاد الحر قد وضع جل أمله في روسيا، بعد أن تدخل في حلبته، ممنياً نفسه بالإنفتاح على أسواقها لحل مشاكله وأزماته، أصبحت الأزمة الاقتصادية المستعصية فيها، وانهيار أسواقها المالية، وتدهور عملتها، من أولى المشاكل التي تهدد الاقتصاد الحر.
فالإسلام -في الواقع، قد تجلت عبقريته الإلهية بأنه لم يقض على طبقة ليستبدلها بطبقة أخرى، وإنما أصلح الطبقة الغنية التي كانت نافذة في السابق، بأن حولها من طبقة مستغله ظالمة وجبارة، إلى معطاءة وخيره وسمحة، تنفذ أوامر الله في عباده في السر والجهر، وتغدق بالأموال على بيت مال المسلمين دون حساب؛ وخلق إلى جانبها، بفضل قيام الدولة بواجباتها تجاه رعاياها، بإسناد ما بحوزتها من الملك العام إلى الطبقة المحرومة، والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، خلق من العبيد أسياداً وعباقرة، ومن المستغلين الباطشين أكرم الناس وأعدلهم، وبذلك تحول المجتمع برمته إلى طبقة واحدة نشيطة ومنتجة وورعة، تعمل لدنياها كأنها تعيش أبداً، وتعمل لآخرتها كأنها تموت غداً...! وبذلك فقد عاش الإسلام في ربوع عديدة من الكرة الأرضية خلال قرون عديدة، ولم يتسن للنظام الاشتراكي أن يبلغ النصف قرن...!
×××
الفصل الثاني
الاقتصاد الرأسمالي كعلم أو مذهب
مقدمة:
كما يقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك، يقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى علم ومذهب.
فمنذ فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان آدم سميث وريكاردو يضعان بذور هذا العلم وبنياته الأولية (الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي) سادت الفكر الاقتصادي آنذاك فكرتان:
- إحداهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعية محدودة تتحكم في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو اكتشاف قوانينها العامة التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.
- والأخرى: أن تلك القوانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة البشرية، إذا عملت في جو من الحرية المطلقة، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بتلك الحرية في مجالات: التملك، والاستغلال، والاستهلاك.
وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، والثانية بذرته المذهبية.
ولقد ارتبطت الفكرتان حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين أن تقيد حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها، وبالتالي يعتبر جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة...!
وهذا اللون من التفكير -في حد ذاته- يخرج علم الاقتصاد من حيِّز العلوم الاقتصادية. فالخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ هذا القانون، وينزع عنه صفة العلم الموضوعي. فالقوانين الطبيعية لا تختلف في ظل الشروط والظروف المختلفة، وإنما تختلف باختلافها آثارها ونتائجها.
وعلى هذا، لا بد من أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية تحتمها القوانين الطبيعية، وإنما تدرس على أساس مدى ما يتيح للإنسان من سعادة وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل...
وفي الواقع، فإن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يدعي لنفسه هذه الصفة، كما أنه لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، كالمذهب الماركسي، وإنما يستمد كيانه من تقديرات مادية بحتة. وتقتصر العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي في تحديد الإطار ومجرى الاتجاه للقوانين العلمية. أي أن القوانين المذكورة لا تعمل إلا في ظل الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومناهجها، وليست مطلقة كالقوانين الفيزيائية والكيميائية، تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان.
ولا بد لإيضاح ذلك من إلقاء بعض الضوء على عدد من القوانين الاقتصادية المذكورة لكي نعلم كيف، وإلى أية درجة يمكن الاعتراف لها بصفة العلم.
آ- قوانين الاقتصاد الرأسمالي العلمية
قانون العرض والطلب :
-هذا القانون القائل: "إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإن ثمن السلعة لا بد أن يرتفع".
هذا -في الواقع- ليس قانوناً موضوعياً كقوانين الفيزياء والفلك. وإنما يمثل ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم -في مثل الحالة المذكورة- على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها، وأن البائع سيمتنع عن البيع إلا بذلك الثمن.
ونظراً لعلاقته بإرادة الإنسان، فهي تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني. فليس صحيحاً من الناحية الإنسانية أن الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية تسير دائماً، وفي كل مجتمع، كما تسير في المجتمع الرأسمالي، ما دامت المجتمعات تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، وليست بالضرورة غارقة في ضرورات المادة ومفاهيمها إلى قمتها.(43/188)
فالرأسمالية، كما رأينا، مثلها مثل الاشتراكية، من أجل تدويل نظامها وفرضه على كافة شعوب العالم، أرغمتهم مسبقاً بأن يتقولبوا بقولبها الفكري والروحي والإحساسي والنفسي، بغسل أدمغتهم -تحت شعار التطور- لكي يتكون لديهم ذات الإحساس بالمشاكل التي ادعتها ومن ثم حتمت عليهم ذات الحلول لكي تفرض -من خلالها- سيطرتها على العالم أجمع..
فالقاعدة الرئيسية التي وضع في ضوئها كثير من القوانين الاقتصادية الكلاسيكية تجرد الإنسان من كل الروابط الاجتماعية -فيما عدا المادة- وتفترض أن كل إنسان، هو في قرارة نفسه، إنسان اقتصادي يؤمن بالمصلحة المادية الشخصية كهدف أعلى. وهذه القاعدة، لا تنطبق إلا على المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعه الفكري والروحي، وأساليبه الخلقية والعملية. إلا أنها -كما رأينا- تسربت، من خلال غسل الأدمغة الدائم، عن طريق الاستعمار الثقافي والعلمي والاقتصادي.. الخ إلى المجتمعات الأخرى في كل ركن من أركان المعمورة.
فأين ما كان دائراً في المجتمعات الإسلامية في عصورها الزاهرة، مما يدور فيها الآن؟ ويمكننا أن نورد -على سبيل المثال- الفقرة التالية في وصف الإجارات والتجارات للشاطبي:
(( نجدهم في الإجارات والتجارات، لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الإجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له. ولذلك بالغوا بالنصيحة فوق ما يلزمهم. فكأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم، بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم -وإن جازت- هي كالغش لغيرهم ))
وإلى عهد غير بعيد، وقبل أن يستفحل الغزو الثقافي الغربي في المجتمع الإسلامي، كان سائداً في أسواق الباعة التقليديين في حلب، عندما يطلب شخص من بائع شراء حاجة أن يجيبه: "اذهب إلى جاري- إنني استفتحت (أي بعت شيئاً)، بينما جاري لم يستفتح بعد...!".
من هنا ندرك مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، كان يتمتع بمثل هذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.
ولقد شهد الربع الأخير من هذا القرن كيف أن المسيطرين على الفكر الرأسمالي يتلاعبون بالعرض والطلب، ويخلقون القوانين العلمية حسب مصلحتهم.
وإلا..! ما الذي أدى في أوائل الثمانينات إلى أن تهبط أسعار البترول من 42 دولاراً للبرميل إلى ما دون السبع دولارات؛ وتنهار أسعار المواد الأولية الأخرى إلى أدنى مستوى شهدته في تاريخها، هذا، بينما كان الاقتصاد الغربي يواصل نموه بشكل جيد في النصف الثاني من الثمانينات؟!.. إن الزوبعة الكاذبة والضالة التي خلقوها بإيهام البلدان البترولية بوصولهم إلى خلق مواد بديلة للطاقة. في ذلك الحين، وتحول البترول إلى مادة نتنة سوف تفسد في آبارها، هي التي أدت إلى السرعة المدهشة في زيادة الإنتاج وفيضان السوق الأوروبية والغربية برمتها ومخازنها بالبترول وتخلي الحكام عن سياساتهم التي كانت معتمدة للحد من إهدار الطاقة، هذه المادة النادرة، والقابلة للنفاد عن قريب، والتي هي بمثابة الشريان الرئيسي الذي يمد الحياة إلى كافة المرافق الحيوية، ليس في الغرب وحده، بل في العالم أجمع، بعد أن أصبحت بفعل التدويل، على النمط الغربي في كافة متطلبات الحياة.
وأين هو القانون الذي كان لا بد أن يعمل في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي لينعكس -كما كان في السابق- بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية بدل انخفاضها؟!..
إن هذا الانخفاض الفاحش لأسعار الطاقة والمواد الأولية الأخرى، كان -في الواقع- هو الذي أدى إلى انخفاض معدلات التضخم في البلدان الغربية إلى مستوى لم تشهده من قبل (من العشرينات إلى الرقم الواحد أو الرقمين)، هذا، بينما تصاعدت في البلدان المسروقة أضعافاً مضاعفة لدرجة أصبحت كلفة الحياة فيها تفوق كلفتها في البلدان الغربية إلى حدٍ كبير، مع الاختلاف الفاحش بمستوى الدخل (من عشرات إلى مئات المرات). وهكذا، فقانونهم في العرض والطلب يسرق المواد الأولية وثروات شعوبهم بأسعار شبه مجانية، ويسرق دخول هذه الشعوب التافهة ببضائعهم الباهظة الثمن.
فكيف لنا ألا نتصور أن هذا النظام سوف يؤول بالقسم الأكبر من بلدان العالم إلى الدمار الكامل، وإلى شعوبها بالإبادة جوعاً وسقماً وبلاءً...!؟
- قوانين توزيع الدخل.
إن هذه القوانين، كما شرحها ريكاردو وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين، تقضي بتخصيص جزء من الإنتاج أجراً للعامل يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية القادرة على إعاشته والاحتفاظ بقواه للعمل، ويقسم الباقي على شكل: ربح، وفائدة، وريع .
لقد استخلص الاقتصاد الرأسمالي من ذلك أن للأجور قانوناً حديدياً لا يمكن بموجبه أن تزيد الأجور أو تنقص، وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل أجره تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها.
ويتلخص هذا القانون الحديدي في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي العاملة، ويتضاعف العرض، فتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي.(43/189)
وإذا حدث العكس أدى ذلك إلى انتشار البؤس والمرض في صفوفهم، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض، فترتفع الأجور.
وبهذا، فقد بات الإنسان في ظل الحرية الرأسمالية نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهناً لهذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور. فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك فرصة حسنة له على حساب أتعاب الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى لا يحفظ لهم حياتهم، كما قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. والأمل الوحيد الذي تقدمه الرأسمالية للطبقة العمالية المذكورة هو في انخفاض عددهم بسبب تراكم البؤس والشقاء والموت من الجوع، لكي يقل عددهم، ويزيد الطلب عليهم على العرض لترتفع أجورهم وتتحسن أحوالهم.
هذا القانون الذي يتقدم به إلينا الاقتصاديون الكلاسيكيون بوصفه تفسيراً علمياً، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، لا ينطبق، في الحقيقة -إلا على المجتمعات الرأسمالية التي لا يوجد فيها ضمان اجتماعي عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. أما في مجتمع يسود فيه مبدأ الضمان الاجتماعي العام لمستوى حياة كريمة كالمجتمع الإسلامي، أو في مجتمع يلغي فيه جهاز السوق ويجرده من وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي، فلا تتحكم فيه تلك القوانين أصلاً.
والآن، بعد أن فاضت سوق العمل الغربية بالأيدي العاملة -على مختلف المستويات- الوافدة من كل حدبٍ وصوب، بسبب الحروب الدائرة في كل مكان بين الشركات العالمية الأمريكية والأوروبية، بأيدي الشعوب نفسها، وما تمخص عن النظم الاقتصادية المفروضة على العالم من استهتار بالإنسان وتشريده وتجويعه، فإن إجرة العامل هبطت -في كل مكان- إلى دون ما يسمى بعتبة الفقر، خالية من أي ضمان صحي أو اجتماعي، كما أصبح العامل معرضاً للطرد في أية لحظة كانت، وأعتقد أن لذلك أيضاً علاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي، فلم يعد هناك من خطر يهدد النظام الرأسمالي من دولة العمال وثورة العمال، بل أصبح العكس هو الصحيح، فالعولمة الأمريكية ومنافستها الأوروبية قد أعلنتا الحرب الطبقية على العمال، وفازت بها...!
وهكذا، فإن الهيكل العلمي للاقتصاد الرأسمالي ليس له صفة القوانين العلمية الموضوعية، فلم يبق منه إلا الإطار المذهبي.
ب- الاقتصاد الرأسمالي كمذهب
يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان ثلاثة رئيسية هي:
حرية التملك، وحرية الاستغلال- وحرية الاستهلاك
1- الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود:
فالملكية الخاصة، في هذا المبدأ، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل المجالات، وميادين الثروة المتنوعة، على العكس من المذهب الاشتراكي، ولا يجوز الخروج عنها إلا بحكم ظروف استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم بعض المشاريع. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
2- حق كل فرد باستغلال ملكيته وتمكينه من ذلك، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها.
وتستهدف هذه الحرية أن تجعل الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد أقدر منه على معرفة منافعه الحقيقية وطرق اكتسابها.
3- ضمان حرية الاستهلاك.
فلكل فرد الحرية في إنفاق ماله كما يشاء واختيار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع ذلك لجوء الدولة -في بعض الأحيان- إلى منع بعض السلع، مثل المخدرات.
والسؤال الذي يقفز إلى مجال البحث هو: ما هو الهدف من الحرية الاقتصادية؟
والجواب على ذلك -حسب الاقتصاديين الرأسماليين يتلخص فيما يلي:
1- لأن مصالح الفرد التي يندفع إلى تحقيقها بحرية كاملة ودوافع ذاتية محضة، تتوافق مع مصالح المجتمع، فالحرية -على هذا الأساس- ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة، وضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه.
2- لأن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ طريقة لتفجير الطاقات والإمكانيات وتجنيدها لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية.
3- وهناك فكرة ثالثة ذات طابع خلقي محض وهي: إن الحرية، بوجه عام، هي حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور الإنسان بها. فليست هي أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج فحسب، وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح. والآن لنستعرض من خلال التطبيق مدى توافق النتائج التي توصلت إليها الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع أهدافها.
1- مفهوم الحرية كوسيلة لتحقيق المصالح العامة.
ذكرنا أن هذه الفكرة ترتكز على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً مع المصالح العامة والرفاه الاجتماعي، شرط أن تعمل في جو من الحرية المطلقة المجردة من كل قيد من القيم الروحية أو الخلقية، لأنها حرية حتى في تقدير هذه القيم. فالأفراد أحرار في التقيد في تلك القيم أو رفضها.(43/190)
فعن طريق التنافس الحر بين مختلف المشاريع الإنتاجية، يعمل صاحب المشروع بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءته حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشاريع. وأن جزاء من يتخلف عن هذا السباق هو إفلاس مشروعه. فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين يطيح بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح.
لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية في ظل الرأسمالية والحرية المطلقة أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد، لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، بل إلى تخفيض نفقات الإنتاج بأقل أجر ممكن لليد العاملة ونقل الإنتاج للخارج، وتسريح العمال، وإعادة الهيكلة. فعلى سبيل المثال، إن أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء (أمريكا) أصبحت أكثر اقتصاديات العالم سرقة للأجور. فالمنافسة المتصاعدة تسببت في إصابة ما يزيد على نصف السكان بالفزع. ففي عام 1995 حصل أربعة أخماس مجمل المستخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأمريكية، عن كل ساعة عمل، على مبلغ تقل قيمته الشرائية عما كانوا يحصلون عليه عام 1973 بمقدار 11%، أي أن المستوى المعيشي الفعلي للغالبية العظمى للشعب الأمريكي قد انهار في العقدين الأخيرين مع بلوغ أمريكا مرتبة "أكثر اقتصاديات العالم إنتاجية"، وفرحة كلينتون بالازدهار الذي يعم الاقتصاد الأمريكي "على نحو لا مثيل له منذ ثلاثين عاماً". هذا، علماً بأن الأجر قد انخفض بالنسبة للثلث الأدنى في سلم الدخول على نحو أشد مما سبق: فهذه الملايين من السكان صارت تحصل على أجر يقل بمقدار 25 % عما كان سائداً قبل عشرين عاماً.
وهذا لا يعني أن المجتمع الأمريكي، إجمالاً، هو الأفقر. إذ لم يسبق أبداً أن حاز الأمريكيون على ما يحوزون عليه اليوم من الثروة والدخول. إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن النمو المتحقق هو برمته من حصة الخمس الثري، أي من حصة العشرين مليون عائلة لا غير، حسب الإحصاءات.
وحتى في إطار هذه الفئة يتوزع الدخل توزيعاً غير عادل على نحو شديد للغاية. فواحد بالمائة من أثرى العائلات تضاعف دخلها مرات عديدة منذ 1980. وهكذا، أضحى أغنى الأغنياء، أي حوالي نصف مليون مواطن يمتلكون اليوم ثلث الثروة التي يمتلكها الأهالي في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكست هذه الثمار على مديري المشروعات الكبيرة. الذين ارتفع دخلهم، العظيم أصلاً، بشكل صاف بمقدار 250% خلال السنوات السبع الأخيرة.
ويحصل غالبية هؤلاء المديرين الكبار على رواتبهم العالية إكراماً لما يبذلون من جهد يرمي إلى تخفيض تكاليف العمل من ناحية الأجور، بكافة السبل بما فيها الانتقال من الوطن إلى أي بقعة من بقاع العالم.
فعلى سبيل المثال، تشغل المشروعات الأمريكية في المكسيك ما يقرب من نصف مليون عامل بأجر يقل عن دولار واحد في اليوم. أضف إلى هذا، أن هؤلاء العاملين لا يحصلون على أية مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي. وفي كافة القطاعات طور المديرون القياديون استراتيجيات يستطيعون من خلالها تفادي تأسيس أية تنظيمات تدافع عن مصالح العاملين لديهم. وكما قال leste r Thu r ou (لستر ثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن من في أمريكا من رأسماليين، قد أعلنوا الحرب الطبقية على عمالهم، وأنهم قد فازوا بها".
والسؤال الذي يفرض نفسه في الوقت الحاضر، إذا كان هذا هو عليه الحال في أمريكا، قلب الحرية النابض؛ فإلى أي مدى يمكن أن تضمن الدوافع الذاتية للرأسماليين فيها تحقيق المصالح العامة في مختلف المجتمعات.
وبمعنى آخر، هل تتوافق المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي مع مصالح غيره من المجتمعات البشرية، وخاصة بعد أن مد أجنحته لتطال، عن طريق العولمة، كل بقعة من بقاع العالم، مع ما ذكرنا من تجرده المذهبي من كل الإطارات الروحية والخلقية. ألسنا نعيش في الوقت الحاضر نظام السخرة واستعباد الشعوب في أراضيها لحسابه واستعبادها لقضاء دوافعه الذاتية فقط؟!
والواقع التاريخي للرأسمالية هو الذي يجيب على هذا السؤال.(43/191)
فكلنا يعلم ما قاسته الإنسانية على أيدي المجتمعات الرأسمالية نتيجة لفراغها الروحي، وانهيارها الخلقي. فالحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، هي من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. لقد كان من نتاج هذه الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا، وفرنسا، وهولندا وغيرها، باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الأفريقية ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وما قيام بريطانيا، فيما بعد بحملة واسعة ضدهم وضد القرصنة، إلا تمهيداً لقرصنتها وحدها، حيث أتت بأسطولها الفخم إلى سواحل أفريقيا، واحتلت مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية وبدأت بعملية استعباد لا نظير لها في التاريخ.
ومن العبودية والاستعمار البريطاني، عانت القارة خلال مدة نصف قرن خلت من فظائع الحروب والانقلابات على أيدي النظامين المسيطرين على العالم، الشرقي والغربي على السواء. وبقيت تتأرجح من أيدي الماركسيين إلى أيدي ما يسمى بالديموقراطيين، مع كل ما تبع ذلك من قلب بنياتها رأساً على عقب، وتبديد ثرواتها، ونهك قيمها الروحية والفكرية، وسرقة كل ما هو ضروري لحياة شعوبها. وها هي تحت ظل نظام العولمة الجديد، تحل فيها قرصنة أمريكا بأجلى صورها. فمع اعتذار الرئيس الأمريكي كلينتون لها من التاريخ، تشعل فيها الحروب الطاحنة من كل حدبٍ وصوب بين الشركات الأمريكية، الغازين الجدد، والشركات الأوروبية الغزاة التقليديين، لاغتصاب ثرواتها المعدنية الدفينة، هذه الحروب التي تجري بأيدي شعوبها بالذات وباسم الديموقراطية والحرية..!
فهل لنا أن نعتقد بأن الحرية الرأسمالية. التي تعمل دون أي اعتبار روحي أو خلقي، بإمكانها أو تستطيع تحويل جهود البشر في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة والرفاه للجميع؟!...
وهذا، في الواقع، لا يقتصر على أفريقيا وحدها، بل يشمل جميع أنحاء العالم التعيس. فحمى التخصيص، في ظل العولمة، وما يرافقها من تسريحات عشوائية للعمال، نتيجة الصهر والإندماج للمؤسسات الإنتاجية والمرافق العامة، والسلب لقواهم الشرائية وحقوقهم الاجتماعية والصحية.. الخ، لم تستثنِ أي بلد على الإطلاق، وهي بصفتها حرب ضارية على الطبقة العاملة، ليست كبقية حروب الطبقات التي شاعت منذ أوائل القرن حتى الآن؛ ذلك أنها تصيب ما يزيد على 95% من الجنس البشري على وجه الكرة الأرضية، بعد أن نسف من الوجود كل منتج خاص أو تقليدي، وتحول القسم الأعظم منها، في كافة فروع الإنتاج إلى عمال، واقتصرت الفعاليات الاقتصادية على الشركات العالمية في كل مكان. وهكذا، تحولت الرأسمالية إلى سلاح جاهز بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبل المجد والثروة على جماجم الآخرين...!
2- الحرية سبب لتنمية الإنتاج
لا بد لإيضاح هذا الخطأ الجسيم من عرض بعض نتائج تنمية الإنتاج في ظل الحرية الرأسمالية:
لنتساءل أولاً: ما هي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الحرية المطلقة المقرونة بألوان لا حصر لها من الظلم والاستهتار والجشع والطمع؟!
إنها -بدون شك- المشاريع القوية التي حطمت غيرها من المشاريع (دون حاجة إلى تأميم)، وبدأت بالاحتكار تدريجياً إلى أن قضت على كل لون من ألوان التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. وتحولت بذلك المنافسة إلى صفر.
فالتنافس الحر الذي يواكب الحرية بالمعنى الذي يسمح بزيادة الإنتاج، لا يواكب الحرية والرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك للاحتكار، الذي ينجم عنه تراجع النمو الاقتصادي نتيجة الجشع والطمع من جهة المنتجين، وتضاؤل القوة الشرائية لدى المستهلكين، وهكذا فإن النظام الاستهلاكي يقضي على المستهلكين...!
إن الزيادة في الإنتاج -في الواقع- لم تقترن بانخفاض الأسعار، لفقدان المزاحمة رغم انخفاض كلفة الإنتاج بسبب انهيار أسعار المواد الأولية، وسرقة حقوق العمال، ولم تترافق بتوفير قدر أكبر من السعادة للمجتمع الرأسمالي نفسه، نظراً لسوء التوزيع الذي رافق الوفرة في الإنتاج.(43/192)
والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية التي تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع. فالرأسمالية -في الواقع- تعتمد في التوزيع على أساس جهاز الثمن. وهذا يعني أن من لا يملك ثمن السلعة ليس له الحق في الحياة. وبذلك يحكم بالموت جوعاً على من كان عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في الإنتاج، أو لعدم تهيئة فرصة له للمساهمة، أو لوقوعه فريسة في يد المساهمين الأقوياء الذين سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة في المجتمعات الرأسمالية من أفجع الكوارث الإنسانية في المجتمعات الأخرى.
فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي وقدرته على تنمية الإنتاج إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، والذي يحكم بالحرمان من التوزيع على من لا يحصل على القطع السحرية من النقود.
فما الفائدة إذاً من زيادة الإنتاج إذا لم يقترن بالرفاه الاجتماعي العام؟ إن الرفاه العام لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد. ولذا فقد قرن الإسلام وشريعته الإلهية التنمية بالتوزيع كما سنرى فيما بعد.
3- الحرية تعبير عن الكرامة الإنسانية
أي بوصفها المظهر الجوهري للكرامة وتحقيق للذات اللذين ليس للحياة بدونهما أي معنى. والمراد بالحرية الجوهرية توفير القدرة والوسائل والشروط التي تعين الفرد على النجاح في عمله كإنسان في ظل الحرية.
والرأسمالية، في الواقع، بعيدة كل البعد عن هذه الحرية بالمعنى الجوهري، وتقتصر على الحرية الشكلية، أي حرية أصحاب الثروات الضخمة في الاستزادة من ثرواتهم بالطرق التي تتفق مع مصالحهم الشخصية، وحريتهم في استخدام العامل أو رفضه، وحرية رجال السلطة في استخدام أتباعهم في أعلى المراكز، ولو لم يملكوا من المؤهلات ما يسمح لهم بذلك وحريتهم في تحويل الخطأ إلى صواب والصواب إلى خطأ، وحريتهم في كم الأفواه التي لا توافقهم، وشطب العلوم التي ليست من مصلحتهم.. الخ.
وهكذا، فإن هذه الحرية الشكلية لا تتأتى إلا لعدد ضئيل جداً من الشعب، بحيث تحولهم -لشدة المبالغة في الحرية- إلى صفة الهمجية، في الوقت الذي يراد منها أن تمثل الصفة الأولى للإنسانية.
فتحت اسم نظام السوق الغوغائي تتحكم في العالم أجمع، في الوقت الحاضر طبقة ضئيلة جداً من الشبان المراهقين، دون علم ولا خبرة ولا إحساس بالمسؤولية، مدعومة بأجهزة تكنولوجية على درجة كبيرة من السرعة والفعالية، ولا تخضع لسيطرة أية حكومة، حتى في أمريكا نفسها، حامية هذا النظام. ويكفي أن يعلن أي مسؤول عن حصول تباطؤ في أي رقم من الفعاليات الاقتصادية في بلاده، حتى تقوم بنزح كل ما لديها من أموال، غدت خفيفة الحركة لاعتمادها على الأسهم والسندات والمضاربات بها وبالعملات، وتؤدي بالبلد، في لمح البصر إلى الإفلاس*.
أما بقية أفراد الشعب، فالحرية الشكلية التي تؤمنها لهم لا تعدو السماح لهم بممارسة مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعون إلى تحقيقها دون أن تعينهم على ذلك.
إن إقرار هذا النوع من الحرية الشكلية، يعني عدم إمكان وضع مبدأ لضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات التي يتمتع بها أصحاب العمل وأرباب الثروة.
وهو ما يتنافى مع مبدأ الحرية الشكلية التي تسمح لكل شخص بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان أي فكرة الحرية الجوهرية. ولكن!... لقد تبين -بما لا يدع أي مجالٍ للشك: "أن من يعمل ليعيش وحده، لا بد من أن يزول هو أيضاً، إن آجلاً أو عاجلاً، مع المجموع...
فالحرية -في الواقع- إن كانت نزعة أصيلة في الإنسان لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لا بد للإنسان من حاجات جوهرية لا معنى للحرية بدونها. فهو بحاجة -مثلاً- إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه، كما ينغص حياته الضغط والإكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما خسر حريته كاملة. فالتوفيق الدقيق والحكيم بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته إلى الاستقرار مثلاً في العمل، والثقة في المستقبل، وسائر حاجاته الأصلية الأخرى في الحياة، هو العملية التي يجب أن يؤديها أي مذهب كان للإنسانية، إذا أراد أن يكون عالمياً قائماً على أسس راسخة من الواقع الإنساني.
وأخيراً، فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان ينسجم كل الانسجام مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي، لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والإنسان.(43/193)
إن الضغط والتحديد في الإسلام، يستمد -في الواقع- مبرره من الإيمان بسلطة عليا تمتلك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد، على ضوء الدين الحنيف، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة لصالحه وصالح الإنسانية جمعاء.
أوجه الالتقاء بين الماركسية والرأسمالية
بعد كل ما تقدم، لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لنبين أن الرأسمالية مقرونة بالحرية المطلقة، تلتقي مع المذهب الماركسي في عدة نقاط جوهرية:
- إن كلا النظامين أعطى القيمة الرئيسية في المجتمع لمالكي وسائل الإنتاج والمسيطرين عليها، وإن مصالح الإنتاج هي التي تحدد القيم التي تحكم المجتمع لا مصالح الإنسان.
- إن وسائل الإنتاج انحصرت في يد الأقوياء في النظامين، في يد رجال الحزب السياسي الذين يملكون السلطة السياسية في النظام الاشتراكي، وفي يد المحتكرين للإنتاج والذين يفرضون رجال السلطة السياسية في النظام الرأسمالي.
وبهذا، فإنهم يجمعون بين السلطة والمال بآن واحد في كلا النظامين*.
ويتساوى النظامان بتدويل نظاميهما وفرضهما على جميع بلدان العالم وشعوبها، وكأن العالم في كل مكان، ورغم بعد المسافات واختلاف العقول والثقافات والمعطيات، يعاني من ذات المشاكل وذات الهموم، ويتقبل ذات الحلول، حتى وإن ثبت أن هذه الحلول غير ناجعة في موطنهم بالذات. هذا، مع كل مازامن هذا التدويل من نبش وقلب للبنيات الأساسية من هذا النظام أو ذاك...
- أليست التحولات التي حصلت لصالح الاشتراكية في بلدان العالم الثالث عن طريق تجريد الزراع والصناع المحليين من وسائل رزقهم وإنتاجهم بغية خلق الطبقة الرأسمالية التي تستطيع أن تشيد المصانع والمزارع الكبيرة التي هي الطريق إلى الاشتراكية، حسب زعمها، أليست هذه التحولات هي نفسها التي فرضها أيضاً النظام الرأسمالي على هذه البلدان باسم التخلص من التخلف، لإحلال الإنتاج المؤسساتي -في الواقع- محلها لصالح الشركات العالمية، وباسم التطور والتقدم؟!...
- أليس في تجريد شعوب بلدان العالم الثالث من ثرواتها الطبيعية، ووسائل إنتاجها، ومهنها، وجعلها تابعة للخارج -في الشرق أو الغرب- ذات المفهوم من العبودية الذي تفسر به الماركسية تحول طبقة أسرى الحرب إلى عبيد للقبائل التي أثرت نتيجة استعبادهم؟
- ألم تعاني شعوب هذه البلدان من سيئات النظامين معاً: جهاز الحكم الدكتاتوري العسكري سياسياً، هبة الماركسية، الذي يبيح لنفسه القتل والسجن والطرد والتعذيب دون حكم أو محاكمة، ويستولي على الممتلكات ويغتصب الحقوق ويتوزعها بين أفراده، والجهاز الاقتصادي الذي لا يرى حرجاً باقتباس النهج الرأسمالي باشنع صوره، والذي يتيح للشركات العالمية الغربية الحرية المطلقة في قلب البلدان أعاليها أسافلها لإبادة كل أثر للإنتاج المحلي بكافة أنواعه، وإعداد البنيات التحتية التي تسهل لها إقامة مؤسساتها الإنتاجية البديلة، على حساب الكروم والبساتين والحقول، التي كانت تغذي الشعوب بأفضل أنواع المنتجات الزراعية وأرخصها*، لإيصال منتجاتها البديلة إلى كل بقعة من بقاع هذه البلدان، وتجعلها تابعة إليها في الغذاء والكساء وكافة الاحتياجات.
- أليس النظامان هما المسؤولان عن إلحاق عملية التفريغ المادي لشعوب بلدان العالم الثالث بالتفريغ الذاتي من الأسس التربوية والأخلاقية والثقافية والعلمية.. الخ وفرض الأسس الغريبة عنهم محلها، من الشرق أو الغرب -حسب الحال- مما جعل السكان الأصليين غرباء في أوطانهم، وعبيداً للأجانب في عقر دارهم؟
هذا، وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه -مما لا شك فيه- قد أفاد المذهب الرأسمالي، وجعل المنتجين يغدقون بعطاءاتهم للعمال ليسدوا بذلك الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبة، بزوال الاشتراكية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت السلطات الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي كانت قد منحتهم إياها، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، واستغنت أكثر فأكثر عن العمال، وقلصت أجورهم إلى أدنى المستويات، وتحول ثلاثة أرباع المعمورة إلى فقراء..
وها هو ميخائيل كورباتشوف، أخذ يصحو -بعد فوات الأوان- من ثمالة أقداح انتصاره في حركته التصحيحية الميمونة، بعد أن نحي جانباً عشية تأديته واجبه كاملاً نحو أسياده ومخدريه، وأخذ يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة، ليعلق في فندق "الفيرمونت" في سان فرنسيسكو عام 1995، رداً على سؤال أحد الصحفيين التالي:
"إن كنتم تعتقدون أن العالم برمته سيتحول إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللامساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"
فأجاب:
"إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث.. إنها لحقيقة أن روسيا نفسها أصبحت على شاكله البرازيل".(43/194)
في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برازيل كبيرة... إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الألكترونية، وكاميرات الليل والنهار، سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المتخمين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمغتصبة حقوقهم والمحرومين، فثورة الجائعين لا ترحم...!
النتيجة.
وهكذا، يتبين لنا مما تقدم أن الاقتصاد كعلم قد خسر برهانه العلمي في النظرية الماركسية والرأسمالية على السواء، وأن الاقتصاد كمذهب، على العكس من الأهداف المرسومة له في كلا المذهبين الدوليين قد أثبت فشله في اكتشاف المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشعوب، لأنه بالأصل لا يهدف فعلاً إلى اكتشافها.
وبالتالي، فإن الحلول التي طرحت لمعالجة المشاكل الوهمية قد أتت على النظام الاشتراكي من أساسه، وأنها، مما لا شك فيه، سوف تأتي -إن آجلاً أو عاجلاً- على النظام الرأسمالي، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وما الانفجارات المالية التي اندلعت في كل مكان من آسيا إلى أوروبا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، وفي القريب العاجل إلى أوروبا الغربية، ومنها إلى كل مكان من المعمورة، سوف لا تستثني أمريكا، القلب النابض في هذا النظام، من الوقوف عن الخفقان...!
وإذا ما كان في تاريخ الإنسانية نظام يستحق أن يعم العالم أجمع لما يغدق على شعوبه من الخير والعدالة والإنسانية والأمان؛ فمما لا شك فيه، إنه النظام السماوي الذي طرحه الإسلام. لقد ضمن فعلاً، في عصوره الزاهرة تحويل شعوب الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت في القسم الأكبر من الكرة الأرضية، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، إلى طبقة واحدة؛ ولكنها واحدة بسعادتها ورفاهيتها، ونبوغها، وإنسانيتها وتكافلها مع بعضها، لا إلى طبقة واحدة بشقائها، وفقرها، وتشردها وخوفها على حاضرها ومستقبلها ومستقبل أجيالها، كالنظام الرأسمالي العالمي الجديد... الذي هيمن على العالم وحده في الوقت الحاضر.
والتحديد للحرية في المجتمع الإسلامي لم يكن فقط لصالح المجتمع على حساب الفرد، ولا لصالح الفرد على حساب المجتمع، ولم يكن زجرياً بأكثريته بل كان يتكون في ظل التربية الخالصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع، ويصوغ شخصيته ضمنها. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة التي توجه الأفراد توجيهاً صالحاً دون أن يشعروا بسلب شيء من حريتهم. ولذا، فإن هذا التحديد الذاتي لم يكن -في الحقيقة- تحديداً للحرية، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءً صالحاً بحيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.
فبينما يقول القرن الثامن عشر: "لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة" (آرثر يونج)؛
ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب"(مالتوك)
يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف سنة: "إن الفقر والحرمان ليسا نابعين من الطبيعة نفسها، وإنما نتيجة لسوء التوزيع والإنحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء"؛ ويقول علي كرم الله وجهه:
" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"
إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والصناعة البدائية اليدوية، رداً على مفهوم المادية التاريخية، ولا وليد الحرية المطلقة في استغلال الإنسان لأخيه الإنسان المشروطة في النظام الرأسمالي، إنه يكمن في الإنسان ذاته، الإنسان الذي رباه الإسلام فأحسن تربيته، والذي تعتبره كافة الأديان السماوية خليفة لله في الأرض...!
فما هو الإسلام؟
وما هي حقوق الإنسان في الإسلام؟.
- ××× -
القسم الثاني :
الاقتصاد في الإسلام
كعلم أو مذهب
مقدمة: الثورة في المفهوم الإسلامي
يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية صالحة لكل زمان ومكان.
لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الاجتماعي فيه يشكل جزءاً لا يتجزأ من المضمون الروحي (لأن الله غني عن العالمين)، وأن هذه الثورة هي وحيدة من نوعها في التاريخ الإنساني.
والوحدانية هي جوهر الإيمان في الإسلام. فهو يحرر الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية ما عدا الله (لا إله إلا الله)، وذلك يعني أنه يرفض كل شكل من أشكال "المعبود"، خلال تعاقب الأزمان. وهذا يقود بالذات إلى تحرير كافة ثروات الطبيعة من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله، وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين في قوله:
"إن العبيد هم عبيد الله، وإن الثروات هي ثروات الله".(43/195)
وبذلك، فقد هدم الإسلام كل القيود الشكلية، وكل السدود التاريخية التي كانت تمنع الإنسان من السعي الدائم والحثيث من الاتصال بربه والسعي في الأرض لكسب رزقه، سواءً ما كان منها مصطنعاً تحت تأثير الخوف من قوى أسطورية، أو ما كان منها بشرياً، كظالم أو متجبر أو جماعة صغيرة مسيطرة ومستغلة تراكم الأموال على حساب الشعوب وتحول بينها وبين تأمين مستلزماتها الحياتية، وتفرض عليها علاقات تتصف بالعبودية.
من هنا، فقد ناضل النبي في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان، نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والاستغلال والعبودية. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل لكل شكل من أشكال العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من الخارج. وقد لقب التحرير الأول: "الجهاد الأكبر"، والتحرير الثاني: "الكفاح الأصغر، بمعنى أن الأخير لا يتسنى له أن ينجح ويحقق هدفه إلا في إطار الأول. ويستنتج من ذلك:
1- أن الثورة لا تسمح بأن يحل مستغل محل مستغل آخر، ولا أي شكل من الظلم محل شكل آخر، ذلك أنه في الوقت نفسه الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، فقد حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.
ولذلك، فالثورة في المفهوم الإسلامي تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل الطبقة الرأسمالية، أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره وتحرير الإنسان من كل شكل منافٍ للعدالة الإنسانية من الخارج ومن داخل نفسه بالذات (لأن النفس أمارة بالسوء...)
2- إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل كفاح الطبقات، كما هو الحال في كثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ، حيث أنها ثورة إنسانية هدفها تحرير كل إنسان، من أية طبقة كان، وتحريره من شيطانه في الداخل أولاً. فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً..! ولذا، فقد سمى النبي الكريم هذا الكفاح "الكفاح الأكبر".
وبفضل هذا الكفاح استطاع الإسلام أن يحقق مطالب الكفاح الأصغر، بحيث أيقظ في كافة النفوس مكامنها الخيرة والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، وقضى على جذور السيئات في أعماقها.
إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، في "الكفاح الأكبر"، ليس بذلك الإنسان المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج، ووسائل السيطرة والنفوذ في الأرض، فيلجأ إلى اقتناصها من أيدي المالكين الأصليين واقتنائها في حوزته، حاسباً بأن انتماءه إلى طبقة المستغلين هو الذي يحدد مكانه في النضال الاجتماعي. إن الثوري الذي يسير في خط الأنبياء، هو ذلك الإنسان الذي يستمد قيمته من جهوده التي يبذلها بالتقرب من الله عن طريق نفعه لعباده "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده"، واتصافه بكافة القيم الإنسانية، والذي يضارع بضراوة كل أشكال الاستغلال التي يعتبرها اختلاساً للقيم الإنسانية، والانحراف بها عن مسيرها الحقيقي وتحقيق أهدافها الكبرى، نحو إلهائها بالتفتيش عن الغنى والإثراء الفاحش بشتى الوسائل.
إن ما يحدد هذا الوصف الثوري الذي يتبع خط الأنبياء هو درجة نجاحه في الكفاح الأكبر، وليس وضعه الاجتماعي، ولا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.
وسنتناول عناصر البحث في الاقتصاد الإسلامي، على منوال البحث في النظامين الماركسي والرأسمالي، بمحاولة الفصل إلى علم ومذهب، علماً بأن الإسلام لا يدعي لاقتصاده بصفة العلم. وقد سبق أن نفينا أيضاً صفة العلم عن كل من النظامين الاقتصاديين السابقين.
آ- الاقتصاد الإسلامي كعلم
إن المذهب الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أي أساس عقائدي معين أو أية نظرة إلى الحياة والكون سوى النفع المادي، كالمذهب الرأسمالي. وقد أثبتنا فيما سبق أنهما لا يملكان بالفعل صفة العلم.
وبمعنى آخر، فالاقتصاد الإسلامي ليس علماً مصطنعاً لقوانين يعتبرها طبيعية، وهي -في الواقع- غير طبيعية (الماركسية)، ولا كعلم الاقتصاد السياسي الذي يراقب ويحسب ليقدم التفاسير والتعليلات التي لا طائل تحتها (فالتعديلات التي تطرأ عليه كل عام تتجاوز الأسس الثابتة، وتذخر بالتناقضات).
فالاقتصاد الإسلامي -كما ذكرنا- هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى سليم. إنه ثورة من داخل النفس على النفس الأمارة بالسوء لكي تصبح كريمة سخية عادلة جديرة بصفة الإنسان. إنه تغيير الواقع، لا وصف وتفسير له. كما أنه ليس علماً افتراضياً مرسوماً في أروقة المكاتب، والذي جاءت نتائجه خاطئة وبعيدة جداً عن الواقع.(43/196)
وما لنا وكلمة العلم في هذا المجال. فلم يسبق في تاريخ الحضارات التليدة التي تعاقبت على الكون، في عظمتها وجلالها وسموها وعبقريتها، أن ادعت حضارة أن اقتصادياتها كانت تقوم على العلم، أو أنها ابتدعت نظريات علمية اقتصادية، خاصة وقد ثبت لنا أن الاقتصاد العلمي، بشقيه الشرقي والغربي، لاقى فشلاً ذريعاً في نظرياته خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن، بينما استمر الإسلام ينشر رايته الخيرة، ويسبغ السعادة والرفاهية على الشعوب كافة مدة قرون عديدة. فما هي الأسس التي بني عليها المذهب الاقتصادي في الإسلام.
ب- الاقتصاد الإسلامي كمذهب
الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي:
يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي بأركان رئيسية ثلاثة تختلف عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:
1- مبدأ الملكية المزدوجة
2- مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
3- مبدأ العدالة الاجتماعية.
1- مبدأ الملكية المزدوجة
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.
فالرأسمالية تؤمن بالملكية الخاصة كقاعدة عامة، لمختلف أنواع الثروة في البلاد، ولا تعترف بالملكية العامة إلا حين تفرضها الضرورة الاجتماعية القصوى.
والاشتراكية، على العكس من ذلك، تعتبر فيها الملكية الاشتراكية أو ملكية الدولة بمثابة المبدأ العام الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد.
أما الإسلام، فيقر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد. فيضع مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص لكل شكل من هذه الأشكال حقلاً خاصاً تعمل فيه. دون أن يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف.
ولهذا، كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن سمح بالملكية الخاصة، لأن الملكية الخاصة بالنسبة إليه ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة، لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه.
وكذلك من الخطأ أن يعتبر مزجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين وأخذ من كل منهما جانباً، وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم تناقض الأسس والقواعد التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الرأسمالية.
فتحديد نوع الملكية يمكن أن يستوحى من الطبيعة ذاتها للثروات الطبيعية:
فالملكية العامة، كمنابع، المياه، والأحراش، والمراعي ومصادر الطاقة، والثروات المعدنية عموماً هي، كالشمس والهواء ملك لكل ما خلق الله على وجه الأرض.
فهي ملكية مشتركة منع الإسلام الفرد من الاختصاص بها، وفرض ألا يتملك منها إلا بقدر حاجته.
وحتى المعامل التي تقوم باستثمار هذه الثروات يجب أن تكون مشتركة لأن الإنتاج من حق المجموعة. فإذا ملك فرد مصنعاً لاستخراج هذه الثروات، فهذا يعني أنه سيستخرج منها أكثر من حقه فيها، أي ما هو حق لمجموع أفراد المجتمع.
ولذا، فعلى الجماعة الممثلة بالدولة أن تتولى تنظيم استخراج هذه المواد وتوزيعها على المجموع لأن الفرد سيلجأ إلى بيعها للناس وهذا لا يجوز لأنها من حقهم على الدولة.
نظرة الإسلام العامة إلى الأرض
تقسم الأرض إلى قسمين:
- الأرض العامرة طبيعياً: وهي التي وفرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء ومرونة في التربة وما إلى ذلك.
- الأرض الميتة: وهي التي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها تلك الشروط.
فالأرض العامرة هي ملك للدولة، وكذلك بالنسبة للأرض الميتة، أي ذات طابع عام للملكية. إلا أن إحياء الأرض الميتة، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، يمنح هذا الفرد الحق بالانتفاع بالأرض، ما دام عمله مستمراً في الأرض، فإذا استهلك عمله، أو توقف عن استثمارها سقط حقه فيها. أي أن العمل في الأرض ليس سبباً لتملك الفرد رقبة الأرض وإنما سبباً لحقه في الانتفاع فيها فقط. ويسمح الإسلام من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة عليه لتساهم الإنسانية كلها في الاستفادة من الأرض، التي هي -في الأصل- ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد، إنها هبة من الله تعالى للإنسانية جمعاء وكافة الكائنات الحية على وجه الأرض.
المواد الأولية:
تأتي المواد الأولية بعد الأرض مباشرة في الأهمية. فكل ما يتمتع به الإنسان من سلع وطيبات مادية مردها إلى الأرض. وما تذخر به من مواد وثروات معدنية.
ويقسم الفقهاء المعادن إلى قسمين: المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة.(43/197)
فالمعادن الظاهرة: هي التي لا تحتاج إلى مزيد من العمل لإجلاء جوهرها، كالملح والنفط مثلاً. أي المعدن الذي تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواءً احتاج الإنسان إلى حفر وجهد للوصول إلى آباره في أعماق الطبيعة، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض (أي كله من عطاء الله، عدا استخراجه)
وأما المعادن الباطنة: فهي كل معدن احتاج في إبراز خصائص المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب (أي يحتاج إلى جهد زائد من البشر)
والرأي الفقهي السائد أن المعادن الظاهرة تعتبر من المشتركات العامة بين كل الناس، فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها، ولأنها مندرجة ضمن الملكيات العامة. ويسمح للأفراد بالحصول منها على قدر حاجتهم، دون أن يستأثروا بها أو يتملكوا ينابيعها.
وعلى هذا، يصبح للدولة وحدها الحق في أن تستثمرها، بقدر ما تتطلبه الشروط المادية للإنتاج والاستخراج من إمكانيات، وتضع ثمارها في خدمة الناس.
أما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعدن، فتمنعها منعاً باتاً. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن واكتشافه في أعماق الأرض، فليس له الحق في تملك المعدن وإخراجه عن نطاق الملكية العامة.
وأما المعادن الباطنة: إنها في الرأي الفقهي السائد من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها وينابيعها في الأرض إلا بالقدر الذي تمتد إليه أبعاد الحفرة عامودياً وشاقولياً، حسب الرأي السائد فقهياً. وإن كان هناك اختلافات كثيرة بين الفقهاء في هذا الصدد*
ويواجه الفرد، منذ البدء في العمل، تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حجز المعدن وقطع المعدن، وجمد الثروة المعدنية. ويكون بذلك حكمه حكم الأرض إذا توقف عن إحيائها.
وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء مشاريع فردية احتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي، ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم، وما تضم من ثروات، لأنها ملك الناس قاطبة. وهكذا، فإن الإسلام قد سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود عديدة.
2-مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
ويتجلى هذا المبدأ في الاقتصاد الإسلامي بالسماح للأفراد بحرية محدودة بحدود القيم المعنوية والخلقية والطبيعية التي يؤمن فيها الإسلام، والتي تؤمن استفادة جميع خلق الله من الثروات الطبيعية التي أنعم الله بها عليهم.
وهنا نجد الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي (لا أخلاق في الاقتصاد والمال) (الغاية تبرر الواسطة)، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع (عدا رجال الحزب)، يسمح الإسلام للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل العليا التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية جمعاء.
والتحديد الإسلامي للحرية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
الأول: التحديد الذاتي، الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والثاني: التحديد الموضوعي، والذي يأتي من قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه.
فالتحديد الذاتي، يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كافة مرافق حياته.
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي مما برهن على كفاءة الإنسان لخلافة الأرض عن الله سبحانه وتعالى، وصنع عالماً جديداً زاخراً بمشاعر العدل والرحمة، واجتث من النفس البشرية عناصر الشر. ودوافع الظلم والفساد.
ويكفي من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة مدة قرون عديدة. فما زال ملايين المسلمين يقدمون بملء حريتهم على دفع الزكاة والضمان الاجتماعي وغيرها من حقوق الله سراً وجهراً حتى الآن. وقد ثبت أنها أشد مضاءً من التحديد الخارجي.
أما التحديد الخارجي، فهو التحديد الذي يفرض على المجتمع الإسلامي من الخارج، بقوة الشرع. ويقوم على المبدأ القائل: "لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها".
ويتم تنفيذ هذا المبدأ عن طريق النصوص التي تنص الشريعة على منع بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، وإشراف ولي الأمر على تنفيذها بصفته سلطة مراقبة وموجهة مستمدة من القرآن: ] وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[.(سورة النساء- الآية 59)(43/198)
ولذا، فالحرية في الإسلام، ليست حيوانية مستهترة متعالية مستكبرة، إنها محدودة في إطار اجتماعي إنساني يضمن مستوى مناسباً من المعيشة لجميع أفراد المجتمع، بحيث لا تكون هذه الحرية على حساب فقدان الآخرين عملياً وواقعياً قدرتهم على التحرك ليسعوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، كما تفعل الشركات العالمية في الوقت الحاضر في ظل نظام العولمة.
وبهذا، فقد حدد الإسلام الملكية الخاصة في حيازة الثروة، ولم يطلقها كما في النظام الرأسمالي دون قيود قانونية أو أخلاقية مما يؤدي إلى اضطراب في توزيع الثروة العامة وخلق الفروق الطبقية.
إلا أنه لم يصادرها كليةً كالنظام الاشتراكي، فمصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان، ذلك أن حيازة الأشياء من مظاهر غريزة البقاء، وهي متأصلة في الإنسان، ولا يمكن تجاهلها. فمن طبيعة الإنسان السعي لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل، وفقد الإنسان القدرة على الإبداع وإعمار الأرض والسعي فيها كما أمره الله. كما أنه لم يطلق يد المالك في ملكيته ولا في الطريقة التي يحصل عليها.
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:
إن الدين الإسلامي- في الحقيقة- هو دين يسر، وليس بدين عسر، أي أنه لم يشدد على البشر في الواجبات والمحرمات، بل ينطلق في شرائعه من مصلحة الفرد والمجتمع معاً. وحتى في العبادات نفسها، وطرق تأديتها تتجلى مصلحة الفرد والمجتمع بأجلى مظاهرها]فالله غني عن العالمين[.وما يهمنا في هذا البحث منها ما له صلة بالنواحي الاقتصادية والمعيشية، أي ما له علاقة بحقوق الإنسان في الحياة: وقبل كل شيء، فقد كرم الإسلام الإنسان ذاته كإنسان في جميع مراحل حياته: كرمه كبويضه منع إتلافها، وجنيناً منع إجهاضه، بل وحض على إكثاره وتبجيله:]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[* ، وكرمه أماً: ]الجنة تحت أقدام الأمهات[، وكرمه امرأة وزوجة، وكرمه شيخاً عجوزاً وعاجزاً فقيراً.. الخ وذلك، بشكل لم يسبق شريعة من الشرائع الدينية أو الدنيوية أن وصلت إليه، حتى توّجه أخيراً بجعله "خليفة الله في الأرض"..
ولذا فقد حض الإسلام، أول ما حض، على تنمية الإنتاج وربطها بالتوزيع. وقد تكون تنمية الإنتاج النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي للاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.
فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب. كما أنها ترفض مالا يتفق مع إطارها المذهبي. فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام يرفض من تلك الأساليب مالا يتفق مع نظرياته في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع، أي أن لكل شكل من الإنتاج نوع خاص من التوزيع، ولا بد لتكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج، عكس الإسلام الذي يحدد الإنتاج لحساب التوزيع.
فالإسلام يريد من الإنسان المسلم أن ينمي الثروة ليسيطر عليها وينتفع منها في تحسين وجوده ككل، لا لتسيطر عليه، وتستلم منه زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى. فالثروة وأساليب التنمية تهدف ضمن الشرائع الإلهية إلى تأكيد صلة الإنسان بربه المنعم عليه، وتهيء له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام مواهبه وطاقاته للنمو والتكامل، وتساعده على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة.
والإسلام، على العكس من الرأسمالية التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن توزيعها، فهو يربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحققه نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء. فليست تنمية الإنتاج للإنتاج ذاته كهدف وإنما كطريق للتوزيع وسعادة البشرية. فإن لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الإنسان. وفي هذه الحالة فالله ينتزعها منهم: ]إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء[ فالتنمية في الإسلام إذاً ليست كما في النظام الرأسمالي، بزيادة دخل المنتج بنسبة كذا، ولو كان ذلك على حساب تسريح العمال، وزيادة معدل البطالة، وسرقة حقوق العاملين، ولا لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية وتنميتها ولا لمضاربيها ومرابيها على كافة المستويات..
2-ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات في التنمية الاقتصادية، ووسيله سهلة لسرقة أموال الناس دون عمل. فالربوي الرأسمالي يقوم بامتصاص أموال المقترضين دون أن يؤدي أي عمل إنتاجي.(43/199)
والبديل في الإسلام هو توظيف هذا المال في مشروعات إنتاجية تؤمن خلق فرص عمل جديدة وزيادة في الإنتاج يتقاسم ريعه العاملون، وأصحاب الأموال، وغير العاملين من المحتاجين، وهو أكثر ضماناً، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما يجري حالياً نتيجة للمضاربات والإفلاسات لكبار المصارف وبيوت المال في العالم الصناعي وما يدور في فلكه.
وتعتبر الفائدة في العرف الرأسمالي بمثابة أجر رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها. وتحدد بنسبة مئوية من المال المسلف. ولا تختلف كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات، وأدوات الإنتاج، نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات.
أما الإسلام، فقد سمح للكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج وحرم أجر رأس المال، وما ذلك إلا للأسباب التالية:
-فالقاعدة التي تجتمع عليها كافة التشريعات هي: أن الكسب لا يقوم إلا على أساس عمل، وبدون المساهمة من شخص بإنفاق عمل لا مبرر لكسبه. فالكسب الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج مسموح به نظراً لما تخزنه الآلة من عمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه خلال استخدام الآلة في عملية الإنتاج التي يباشرها. أما الكسب الناتج عن ملكية رأس المال النقدي (الفائدة) فليس له ما يبرره نظرياً، لأن المستقرض سوف يرد المبلغ للدائن بكامله دون أن يستهلك منه شيئاً.
وكذلك الحال بالنسبة لاستئجار العقار، فالمستأجر يستأجر عملاً سابقا سوف يستهلك المستأجر قسماً منه حين الانتفاع به.
وتبرر الرأسمالية الفائدة بصفتها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل، اعتقاداً منها بأن للزمن دوراً في تكوين القيمة. فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدنيار المستقبل.
إلا أنه إن كان صحيحاً أن العملات الضعيفة في البلدان الفقيرة المستدينة تنخفض قيمتها باستمرار، كما تنخفض معها- في الوقت نفسه- قيمة موادها الأولية، فإن العملات في البلدان الغنية الدائنة، هي في ارتفاع مستمر كما ترتفع معها قيمة بضائعها باستمرار. ولنتصور حجم الخسائر الباهظة والمضاعفة التي تتكبدها البلدان الضعيفة المدينة:
-التسديد لخدمة الدين* بعملات مرتفعة باستمرار، من عملات وبضائع محلية منخفضة باستمرار.
-زيادة الفوائد المتصاعدة باستمرار لتبلغ أضعاف حجم الدين ذاته
-خسارة المشاريع التي تمولها، أو شللها من قبل الدائنين بالذات لكونها تنافس بضائعهم بالذات، أو توقفها عن العمل لعدم وجود أسواق لمنتجاتها في الخارج، وعدم قدرة الأسواق الداخلية على امتصاصها لضعف الدخول.
وكذلك، فمن وجهة نظر الإسلام، ليس للرأسمالي الحق بالفائدة على القرض، حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل، لأن توزيع الثروة في الإسلام يتطلب إنفاق عمل مباشر أو مختزن، ويرتبط بمفاهيم الإسلام المذهبية وتصوراته عن العدالة.
وتعتبر الرأسمالية المخاطرة بالمال مبرراً لحق الرأسمالي بالفائدة، فهي بذلك تحرمه من الانتفاع بالمال المسلف- حسب رأيها- كما أنها بمثابة مكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها، أو أجرٍ يتقاضاه الرأسمالي نظير انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجر الذي يحصل عليه مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها.
والإسلام يعارض ذلك، لأنه لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة إلا على أساس إنفاق عمل مباشر أو مختزن -كما ذكرنا- وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه المقترض ليدفع إليه أجره، ما دام المال المقترض سوف يعود إلى الرأسمالي دون أن يستهلك منه شيئاً.
3-وكذلك، فقد حرم الإسلام كنز المال:
الآية: ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[.
والهدف الاقتصادي في هذا التحريم يكمن في أن كنز المال يعني انخفاض كمية الثروة المنتجة، ومن ثم تقليص فرص العمل، وحصول البطالة، مما يزيد الفروقات الاجتماعية وحالات البؤس وشظف العيش.
وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز (بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول) وتشجع عليه بتشريع نظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها".
ومن مضار كنز المال الاقتصادية أيضا، أن تجميع الثروات الكبيرة في أيدي الأفراد دون استثمارها، يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب. وهذا يؤدي بدوره، إلى عجز هذه الطبقة عن استهلاك ما يشبع حاجتها من السلع، فتتكدس المنتجات دون تصريف، ويسيطر الكساد * على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:(43/200)
انخفاض الاستهلاك = كساد= توقف عن الإنتاج= زيادة بطالة= مجاعة
4-وحرم الإسلام المخاطرة:
كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، وإنما يرتكز على أساس المخاطرة، مما يعرض الفرد وعائلته إلى الإفلاس والضياع، ويعود على المجتمع بالانحلال. والإنفاق فيما حرم الله، كالخمر ولحم والخنزير. وقد تبين ضررهما الشديد في الوقت الحاضر نظراً للأمراض الخطيرة التي نتجت عنهما. وتشن السلطات في البلدان الغربية حرباً إعلامية واسعة النطاق للحد من تعاطي الخمر لصلته الوثيقة بأمراض الشرايين، وتشمع الكبد، بالإضافة إلى ضحايا الطرق، التي تشكل القسم الأكبر من الوفيات كل عام.
5-ونهى -في الوقت نفسه- عن الإسراف والتقتير.
الآية: ] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ً[
وجعل المبذر بمثابة السفيه الذي يجب أن يحجر عليه.
والغاية من ذلك، إن في تبديد الثروة وتقتيرها، منع باقي عباد الله من الاستفادة منها.
ومنع إنتاج المواد ذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، وكذلك المصاريف غير المنتجة التي تصرف على المظاهر والاحتفالات لأن المحرومين من وسائل عيشهم أحق فيها. ويكفي أن نعلم حجم مليارات الدولارات التي تنفق حالياً على ألعاب الكرة وحدها في العالم كل عام، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع، لنعلم فقط زاوية واحدة من زوايا التكاليف الباهظة المبددة للثروة التي تمتص موارد البشرية جمعاء*.
6-وحذر من الوقوع في أخطار التبعية الاقتصادية للغير.
وهي في الواقع من أولى خصائص التخلف الاقتصادي في العالم الثالث:
"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع".
ومن المعلوم أن التبعية الاقتصادية في هذه البلدان تصل إلى ما يزيد على 90% في غذائهم وكسائهم وإنتاجهم وأدوات إنتاجهم.. الخ، بينما لا يتجاوز في البلدان الصناعية 20% ويبدو خطرها أشد ما يبدو من الناحية الغذائية:
فسلاح الغذاء، أشد مضاءً من كافة الأسلحة، وأنه كان وراء انهيار الاتحاد السوفياتي -كما رأينا- إذ لم تتردد أمريكا في استعماله في الماضي والحاضر، ومن أخطاره أيضاً أن يمنع من وصول المواد الغذائية عوائق طبيعية من زلازل وأعاصير، أو فيضانات، أو جفاف.. الخ تقضي على المزروعات في البلد المصدر نفسه أو حتى الحروب، (وما أكثرها!).
كما أن الاعتماد على الغير في تغذية الشعوب يخشى معه تعريضها إلى أخطار صحية عن قصد أو غير قصد، من جراء استيراد مواد فاسدة، أو سامة، أو مشبعة بالهرمونات.. الخ، كما يحصل من وقت لآخر، مثال: لحوم البقر البريطانية المجنونة، والدجاج البلجيكيه، والألبان ومشتقاتها، والزيوت الإسبانية، مما تطالعنا به الأخبار كل يوم..
7-وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي على الاستهلاكي:
حرصاً منه على تنمية الإنتاج وزيادة الثروة. فنهى عن بيع العقار وتبديد ثمنه في الاستهلاك، وحض، حتى في الصدقات على تقديم ما يساعد الفقير على الإنتاج ليأكل من ثماره، على العكس من النظام الرأسمالي- كما رأينا- والذي رفع شعار المجتمع الاستهلاكي ليشجع الإنتاج، فقضى عن الإنتاج والمستهلكين بالذات..
8-ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض وإفساد الطبيعة:
الآية: ]ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون[ (الروم-41).
والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة والانهيارات وعدم التوازن الذي طال المرافق الطبيعية بكافة أشكالها نتيجة التعرض للقوانين الطبيعية بغية التحكم فيها وتعديلها وتعليمها دروسها. فهي إذاً نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته ومن المعلوم أن التلوث هو ابن هذه الحضارة الحديثة واكتشاف الطاقة، والإنتاج على مستوى عالمي لغزو العالم في كافة أصقاعه* وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يمتنعون عن ذلك.
9-وحض على ضرورة التوازن في الطبيعة مراعاة لقوانينها:
الآية: ]الأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين، وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم[ (الحجر 19-20).
وكلنا يعلم أن التنافس على الثروة في الاقتصاد الرأسمالي، ونضح الموارد الطبيعية ببرها، وبحرها، وسمائها ومائها، قد أنهك هذه الأرض، وأربك توازنها** فالهزات المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والحر والقر، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والأعاصير والعواصف، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، ولا يكاد يمر يوم واحد دون حصول هذه النكبات.
10-ولذا فقد وضع الإسلام ضوابطَ للتصرف في الحرية، وفي حق الإنسان في التصرف بملكيته الخاصة "فلا ضرر، ولا ضرار.."
ومن الأمثلة على سوء التصرف بالملكية الخاصة وانعكاسه على أضرار الغير والمجتمع بما فيه المالك نفسه، المثال التالي:(43/201)
"ركب قوم في سفينة، فاقتسموا.. فاختص كل منهم بمكان.. فأخذ أحدهم ينقر مكانه بفأس.. فقالوا له ماذا تفعل؟! قال: هذا مكاني أفعل به ما شئت.. فإن أخذوا على يده (أي منعوه) نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا..!"
وهكذا، فإن المنع من التصرف المطلق بالملك الخاص، يكون ضمن مصلحة الفرد والمجتمع بآن واحد.
فالإسلام إذاً، يؤمن بالملكية الخاصة ضمن حدود، وهي من حق جميع أفراد الشعب وطبقاته وأديانه دون أي تمييز، إلى جانب الملكية العامة وملكية الدولة. وقد برهن الواقع من التجربتين: الاشتراكية والرأسمالية على خطأ الفكرة المعتمدة على شكل واحد للملكية. وما انهيار النظام الاشتراكي إلا نتيجة الاعتداء على الملكية الخاصة، ونسف طبقة كانت تعمل وتنتج وتغذي الخزانة، واستبدالها بطبقة أخرى، تبين أنها أشد من الأولى استغلالاً وظلماً، دون أن تكون لديها ذات المؤهلات للإنتاج، ولا حتى ذات الدوافع لتنمية الثروة وتغذية الخزينة، اللهم إلا دوافعها الخاصة، وما الانفجارات والأزمات في النظام الرأسمالي إلا نتيجة لإطلاق حرية الملكية من عقالها، دون حدود أو قيود، لدرجة أصبحت موارد الكرة الأرضية برمتها بأيدي فئة ضئيلة من البشر، نادراً ما سجل التاريخ مثيلاً لها في الطمع والجشع والظلم والاستهتار، لا وطن لها، ولا دين، ولا حافز ولا هدف إلا جمع المال بأية طريقة كانت "فالغاية تبرر الواسطة" والاستئثار بحقوق البشرية جمعاء، مما لم يعد يدع أي مجال لتطبيق العدالة الاجتماعية الركيزة الأساسية للإسلام، حتى في بلاد الإسلام بالذات دون تحرير الموارد الطبيعية من أيديها.
3-العدالة الاجتماعية في الإسلام
مقدمة: كل ما تقدم، من شمول الملكية العامة في الإسلام للقسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وانحصار الملكية الخاصة ضمن حدود ضيقة تضمن مصلحة المجتمع، يقودنا إلى عمق العدالة الاجتماعية في الإسلام، أي حق جميع أفراد المجتمع، العاملين منهم، والمحرومين من العمل وغير القادرين على العمل، الفقراء والمحتاجين، وكل من يعيش على وجه الأرض بالحياة اللائقة الكريمة، وحقهم في اقتسام موارد الطبيعة وخيراتها التي خلقها الله للناس أجمعين.
ولتأمين ذلك، أوجب الإسلام على الحاكم، الذي يملك -في الواقع- التصرف بالملكية العامة، أن يؤمن العمل ويسهله لجميع القادرين على العمل في حدود صلاحيته، ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم من موارد الملكية العامة وملكية الدولة كما فرض الإسلام على العاملين الذين يستفيدون من استغلال ثروات الله أن يؤدوا لهم نصيبهم من هذه الثروات، أي أن يكفلوا الحياة الكريمة لغير العاملين والفقراء والمحتاجين.. الخ وهي فريضة الزكاة التي:
-تضمن حق المحرومين من ثروات الله.
-وتحول دون احتكار الأقوياء للثروة.
-وتمد الدولة بالنفقات اللازمة لممارسة واجبها بتحقيق الضمان الاجتماعي.
فالضمان الاجتماعي في الإسلام يرتكز إذاً على أساسين:
-التكافل العام بين أفراد المجتمع.
-حق الجماعة على الدولة في الموارد العامة وتأمين العيش الكريم.
ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها.
فالأساس الأول للضمان، لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحة للفرد، بينما يفرض الثاني إشباع الحاجات الكمالية أيضاً، لتصل بالفرد إلى مستوى الغنى. وفي كلا الضمانين تبدو عظمة الإسلام في تحقيق الحرية الجوهرية، وليس فقط الشكلية، عكس الحرية التي يقدمها المبدأ الرأسمالي كما مر معنا.
التكافل العام. وهو الأساس الأول للضمان الاجتماعي.
الحديث و الآية:" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" ]وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه[.
إنه المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام كفاية" على المسلمين، ضمان بعضهم بعضاً في إشباع الحاجات الحياتية الضرورية للفرد، وفي حدود ظروف المسلم وإمكانياته، عن طريق الزكاة التي اعتبرها حقاً لهم، وليست مجرد هبة أو صدقة.
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): "إن الله عز وجل فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عز وجل، ولكن من منع من منعهم حقهم، ولو أن الناس أدوا حقوقهم لعاش الجميع بخير".
أي أن منع الناس من ممارسة حقهم، هو السبب في الفقر. وأن الثروة المنتجة من قبل الأفراد تشكل حجماً كبيراً يتجاوز حق المنتجين وحدهم، ويمتد إلى أصحاب الحق من المحرومين من العمل والإنتاج.
والمكلف في الإسلام لا يكمن في طائفة أو حزب أو دين، وإنما في أبناء المجتمع جميعاً "فالخلافة عامة". وهي الوجه الاجتماعي للعدالة الاجتماعية الإلهية التي نادى بها الأنبياء كافة. وإذا ما كانت "الوحدانية" تعني اجتماعياً أن "المالك هو الإله الواحد" فإن العدالة" تعني أن هذه الملكية التي يختص بها الله لا تسمح باعتبارها عادلة بتفضيل فرد على آخر، ولا تعطي الحق لفئة اجتماعية على حساب فئة أخرى، ولكن تمنح الخلافة للمجموعة بكاملها.(43/202)
وإن كان يحق للدولة أن تمارس حقها في إلزام المكلفين على دفع الزكاة، وامتثال ما يكلفون به بموجب الشرع، إلا أن الإسلام يهتم، لتحقيق أهدافه بالعامل النفسي، أكثر من اهتمامه باستعمال القوة والزجر. أي أنه يلجأ إلى الطريقة الإنسانية، والمفاهيم السامية التي أعطاها للحياة، عن طريق البث في المجموعة المكلفة عنه المشاعر النبيلة التي توجهها لتحقيق الأهداف.
وكلنا يعلم، أن المجتمعات الجاهلية كانت -شأنها شأن المجتمعات المسماة بالمتطورة الآن" لا تنظر للحياة إلا من خلال مرحلتها العابرة التي تنتهي بالموت، ولا تحقق ذاتها وسعادتها إلا بإشباع الغرائز والشهوات الحياتية. ولذا، فإن جمع المال لذاته وتكديسه والتنافس عليه، هو بالنسبة إليها الهدف الطبيعي الذي بموجبه يتمكن الإنسان أن يملأ حياته بالعظمة، وينتهي بها - من الناحية الكمية والمعنوية- على الوجه الذي يؤمن له الخلود على الأرض.
هذا المفهوم الذي تعطيه المجتمعات المادية للحياة، والدور الذي تنيطه بالمال، هما أسباب الجهود التي تبذلها لزيادة الدخل والغنى. كما أنها خلف كل تناقض، وكل نمط من أشكال الاستغلال.
ولكي يحرر الإسلام الإنسان من هذا المفهوم، ويقتله من قرارة نفسه، رفض أن يعطي للمال أية قيمة لذاته، ونهى عن تكديسه، ومحى عنه كل قوة تؤمن له الخلود والعظمة.
وهنا يبدو دور الدين وأثره في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة. فالدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يدعها في حياته على الأرض، أملاً في النعيم الدائم، وتخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة، أرفع من المفاهيم التجارية المادية. فالعناء طريق اللذة، والخسارة لصالح المجتمع سبيل الربح، وحماية مصالح الآخرين تعني حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع.
الآية: ] من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها[.
ولذا، فقد جعل الإسلام الفرائض المالية (التكافل) بمثابة العبادات الشرعية التي تنبع من دافع نفسي، طلباً لرضاء الله، والقرب منه.
فالدين إذاً، هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة* بالترغيب تارة، والوعيد أخرى.
آ-عن طريق الترغيب:
فالإسلام -بصورة عامة- لا يرغم أحداً بالقوة على تنفيذ تعاليمه: ]لا إكراه في الدين، لقد تبين الرشد من الغي[.
وعن طريق الترغيب، يقدم القرآن صوراً رائعة للربط بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية.
الآيات: ]يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرة، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره[.
] من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجري إلا مثلها[ لقد حل الإسلام -في الواقع- قيمة العمل الصالح محل قيمة المال والغنى للخلود، وحض على التنافس فقط سعياً لهذا الهدف. فمنح الإنسان الطمأنينة الحقيقية بأن خلوده لا يتحقق بتكديس الثروة، ولا باكتناز الأموال، وإنما بمقدار ما يقوم به من عمل صالح. فغير بذلك مفهوم الاستثمار: فبدلاً من اعتباره مبدداً لثروته ومقلصاً لنفوذه وخطراً على مستقبله وخلوده، جعل منه -على العكس- ضماناً لخلوده، وكعطاء بمقابل يزيد على عشر أضعافه.
الآيات: ]إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم[.
]مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم[.
فحياة الإنسان على الأرض إذاً، هي بمثابة الاختبار الذي يجتازه الإنسان أمام الخالق، فمن اجتازه بنجاح كان جديراً بالخلود، ومن يفشل كان بمثابة العدم.
الآية: ]أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً[ (115-المؤمنون) أي أن الإنسان ليس بعابر سبيل أتى إلى هذه الأرض ليأكل ويشرب وينهب حياة الآخرين ويكدس الأموال ثم يموت..]وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده[ أي يعيده بالعاملين الذين نجحوا في الاختبار على الأرض.
والآيات التي تعدد انحراف الإنسان عن الغاية من خلقه كمكلف باستثمار خيرات الأرض، وحسن توزيع خيراتها لا تحصى، وهي تلفت النظر إلى انحراف الإنسان عن الهدف الذي كلفه به ربه من ناحيتين:
أولاً: امتناعه عن استثمار الخيرات بذاته، والتوقف بذلك عن الإبداع والابتكار.
ثانياً: امتناعه عن القيام بتوزيع ما يفيض عليه من الخيرات على المحتاجين، سواءً كان المستغل فرداً، أو جماعة أو دولة..
ب-عن طريق الترهيب. وهو نادر جداً في القرآن، كما ذكرنا
الآية: ]ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمه، وما أدراك ما الحطمه، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمدٍ ممدده[.
ففي هذه الآية، يهدد الله الإنسان الذي يكسب المال عن طريق الاستغلال والقوة (الهمزة واللمزة) والذي يجمعه لذاته ويجعل تكديسه الهدف منه (الذي جمع مالاً وعدده) والذي يعتبر هذا المال مخلداً له في الحياة (يحسب أن ماله أخلده)، يتوعده بجهنم (الحطمة)*(43/203)
وفي حديث، أن الإمام جعفر قال: "أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار".
وينتج عن ذلك: أن الكفاية هي في حدود الحاجات الشديدة، وشدة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية، والحياة عسيرة بدون إشباعها.
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي
واجب الدولة
"الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"
لقد أوجب الإسلام على الدولة رعاية شؤون الناس من وجوهها المختلفة، وأناط بها المسؤولية المباشرة في الالتزامات التالية:
- تنفيذ مبدأ التكافل العام
- تطبيق المباحات والمحرمات -سبق ذكرها-
- توجيه الموارد لحاجات المجتمع على أساس الحق العام للجميع في الاستفادة من ثروات الطبيعة.
-تأمين العمل لمن ليس له عمل.
تأمين التوازن الاجتماعي: بكفاية الحاجات المعيشية إلى درجة الغنى حتى للعاملين.
-بتأمين الحاجات الضرورية والكمالية أيضاً لغير العاملين والمحتاجين.
-وتأمين التوازن الاجتماعي بتطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية
-ملء منطقة الفراغ من التشريع.
-فمن حيث الضمان الاجتماعي المفروض على الدولة لتنفيذ مبدأ التكافل العام بين المسلمين، فهو يعبر -في الحقيقة- عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً- بالموعظة الحسنة- من زكاة وصدقة، حتى إنه يحق للوالي أحياناً أن يلجأ إلى إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها، وخاصة في الحالات التي يختل فيها التوازن الاجتماعي اختلالاً جذرياً.
- حق الجماعة على الدولة في مصادر الثروة
لا تستمد الدولة مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من تنفيذ مبدأ الضمان المفروض على الأفراد (التكافل العام) فحسب، بل من أساس آخر للضمان الاجتماعي وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. وعلى هذا الأساس تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم. وترتكز فكرة الضمان الاجتماعي على أساس إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد خلقت للجماعة كافة لا لفئة دون فئة ]خلق لكم ما في الأرض جميعاً[. وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق بالانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها فمن كان منهم قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها. ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم.
وبموجب هذه المسؤولية، لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب (كالتكافل العام) بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي (أي المواد الكمالية أيضاً) ففي حديث أن الإمام موسى بن جعفر قال محدداً ما للإمام وما عليه:
"إنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له".
وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع الحق على ثروات المجتمع كما لو أنها ليست ملكاً لأحد:
"إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد"
وقال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا"
والكل هو الضعيف.
وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، الحق للرعية أن تحجب عن طاعته:
"إن الله استخلفنا على عبادة لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم"
عن الخليفة عمر بن الخطاب.
كما أن ضمان الدولة، لا يختص بالمسلم فقط. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثاً)
عن الإمام علي:
"أنه مر بشيخ مكفوف كبير السن يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني.. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال".
آية: ]فكلهم عباد الله، والله رؤوف بالعباد[.
]أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده[.
أي لكل عباده لا لطائفة دون أخرى ولا لمذهب دون آخر، ولا لجنس ولا لدين دون آخر..
ويمتد هذا الواجب على المسؤول نحو الشاة الجائعة كقول الخليفة عمر بن الخطاب: "لو كان في أقصى المدينة شاة جائعة، لكان عمر المسؤول عنها يوم القيامة".
هذا، بينما لا يعتري أحد من الحكام، في هذه الأيام أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء (إنها بنظرهم ضريبة التطور المحتوم)(43/204)
- وكواجب المسؤول بتأمين العمل لمن ليس له عمل، كان الرسول (ص) والخلفاء من بعده يقطعون الأفراد من الأراضي، ويعطونهم الأموال للاستعانة بها على استثمارها. إلا أنه لم يسمح لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة، إلا بالقدر الذي يتمكن فيه الفرد من استثماره والعمل فيه، لأن إقطاع ما يزيد عن قدرته يبدد ثروات البلاد الطبيعية وإمكانياتها الإنتاجية، ويحرم الغير من حقه فيها، ويخل بالتوازن الاجتماعي.
وكان (ص) قبل أن يسمح بإعطاء أية صدقة يحاول أن يجعل المحتاج يأكل من عمله وجهده. وكمثال على ذلك: جاء رجل يطلب من رسول الله مالاً، فسأله: هل يملك شيئاً.؟ فأخبره بأنه يملك متاعاً معيناً. فأمره بإحضاره، فباعه الرسول (ص) بطريقة المزايدة ثم أعطى الرجل ثمن المتاع ليحتطب ويأكل من عمله.
-تأمين التوازن الاجتماعي المنوط بالمسؤول في الإسلام:
إن مبدأ التوازن الاجتماعي لا يعني -في الواقع- عدم الاعتبار للاختلافات الطبيعية السيكولوجية التي تنبع منها الاختلافات الشخصية في مختلف الخصائص والصفات من فكرية وروحية وجسدية، فهذه كلها يقرها الإسلام، ولا يرى فيها خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه. فالتوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنها تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.
ولتحقيق هذا الهدف، قام الإسلام بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف، ومن أسفل، بالارتفاع بالأفراد الذين يعيشون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أعلى عن طريق الزكاة.
وقد جاء في الحديث لتحديد مسؤولية الوالي حتى الإغناء:
"إن الوالي يأخذ مال الزكاة فيوجهه حسب الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين. يقسمه بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقية. فإن فضل من ذلك شيء، رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء، ولم يكتفوا به، كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر- سعتهم حتى يستغنوا".
وهذا النص يحدد بوضوح: إن الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه ويلقي مسؤوليته على ولي الأمر: هو إغناء كل فرد في المجتمع الإسلامي.
فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه الشريعة أمام ولي الأمر.
ففرضت بإعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً، ومنعت إعطاءه بعد ذلك. أي جعلت الغنى فاصلاً بين جواز الزكاة ومنعها "تعطيه من الزكاة حتى تغنيه" عن الإمام الجعفر.
وعلى هذا الأساس، يمكننا تحديد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام: فالفقير هو الذي لم يظفر بمستوى من المعيشة يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد. أو بتعبير آخر: من يعيش في مستوى تفصله هوة عميقة عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي (كم نحن بعيدون في هذا التعريف للفقر، عن مستواه في الوقت الحاضر، بالملايين الذين يموتون جوعاً كل عام!).
أما الغني فهو من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوة، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد ودرجة رفاهيتها المادية، سواءً كان يملك ثروة كبيرة أم لا.
فالنصوص تأمر الوالي إذاً بإعطاء الزكاة وما إليها، إلى أن يلحق الفرد بالناس، أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج.. الخ ما يتمتع فيه المسلمون في مجتمعه.
ومن واجبات الوالي تطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية التي حضت على حماية التوازن، كإلغاء الفائدة، ومحاربة اكتناز الأموال وتبديدها وتوجيه الموارد بشكل يكفل الموارد الضرورية للمجتمع، والامتناع عن إنتاج المواد الضارة والمحرمة وذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، أو السيطرة على مساحات واسعة من الأرض، والتوقف عن إحيائها.. الخ، كما ذكرنا سابقاً.
ملء منطقة الفراغ من التشريع
إلا أن مسؤولية الدولة لا تقتصر على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل تمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي.
فالإسلام، لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً (نرفع الفائدة ونخفض الفائدة بين يوم وليلة، ونرفع العملة ونهبط العملة بين لحظة والثانية، كالنظام الرأسمالي على سبيل المثال) وتنظيما مرحلياً يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. ولا بد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدر من التكيف وفقاً لظروف مختلفة.(43/205)
فمن الواضح فقهياً -على سبيل المثال- أن يباح للبائع البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. إلا أن الرسول (ص) عندما علم أن بعض التجار يمارسون تضييقاً فاحشاً على الناس، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، منع الرسول الاحتكار، كما أمر الإمام علي واليه الأشتر بتحديد السعر، ومنع التجار من البيع بثمن أكبر، وفرض أن يكون البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين: البائع والمشتري.
وقد صدر عنهما ذلك بصفة "ولي أمر" استعمالاً لصلاحياتهما في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية.
وكمثال آخر على ذلك:
فالمبدأ التشريعي القائل: "إن من عمل في الأرض، وأنفق عليها جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره" يعتبر في نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن يساوي بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره ممن لم يعمل فيها شيئاً ولكن هذا المبدأ بسيطرة قدرة الإنسان على الطبيعة ونموها، أصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن توفرت لدى الإنسان وسائل السيطرة على الطبيعة، أصبح بإمكان أفراد قلائل ممن تؤاتيهم الفرصة، أن يحيوا مساحات هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة. فكان لا بد للصورة التشريعية من منطقة فراغ يمكن ملؤها حسب الظروف. فيسمح بالإحياء حسب الوسائل القديمة، ويمنع في الحالة الثانية إلا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة*.
والدليل التشريعي على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه لملء الفراغ: هو النص القرآني: ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم[.(النساء -29)
إلا أن لصلاحيات ولي الأمر حدود: فيسمح لولي الأمر بالمنع أو الأمر لكل فعل مباح تشريعياً بطبيعته، ولا يوجد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه، فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً. وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام (كالربا) مثلاً، فليس من حق ولي الأمر السماح بها. كما أن الفعل الذي أوجبته الشريعة، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر منعه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة بالحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله، وأحكامه العامة.
فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ.
وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفل أيضاً بتوفير الإمكانيات اللازمة للدولة لكي تمارس ذلك المبدأ وتحقق العدالة الاجتماعية للجميع.
ويمكن تلخيص هذه الإمكانيات في الأمور التالية:
1ً- إيجاد قطاعات لملكية الدولة، تستثمرها وتنفق مواردها لأغراض التوازن الاجتماعي.
2ً- فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة (الزكاة)
إيجاد قطاعات عامة*
لم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة، كالزكاة وما إليها، والتي سنبحثها بالتفصيل مؤخراً، لتنفيذ أحكام العدالة الاجتماعية وإيجاد التوازن بين جميع فئات الشعب وأفراده، بل جعل الدولة مسؤولة إلى جانبها بالإنفاق من القطاع العام بهذا الغرض. فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع): "إن على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة، أن يمون الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
وكلمة (من عنده) تعني أي من غير الزكاة. من موارد بيت المال ويعتبر الفيء، من أحد موارد بيت المال. كقوله تعالى:
الآية: ] ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء
منكم[.(الحشر-7)
ولا يختص الفيء بالغنيمة التي يغنمها المسلمون بدون قتال، بل يمتد إلى الأراضي الموات، وبطون الأودية، والمعادن، وكافة ما تدخل ملكيته في منصب النبي والإمام والتي تستخدم لغرض حفظ التوازن، وضمان تداول المال بين الجميع، كما تستخدم للمصالح العامة.
وكان الرسول (ص) والخلفاء من بعده يقطعون الأفراد من الأراضي، ويعطونهم الأموال للاستعانة بها على استثمارها، وذلك بحدود قدرتهم على استثمارها -كما ذكرنا- وكان الرسول (ص) قبل أن يسمح بإعطاء أية صدقة يحاول أن يجعل المحتاج يأكل من عمل يده.
وهكذا، فإن الإسلام يلزم الحاكم بتقديم مساعدته من أملاك الدولة، كمساعدة للعمل والإنتاج لا للاستهلاك فقط، فيحقق بذلك الفائدة للفرد والمجتمع بآن واحد. وبذلك فقد حض الإسلام على العمل وقدسه كما سنرى فيما بعد.
الزكاة كضريبة ثابتة
فالزكاة، كضريبة مالية مفروضة، هي الركن الرابع من أركان الإسلام الخمس، وهي من أهم العبادات الدينية، لكونها ليست مجانية، بل مادية مكلفة كما أنها أهم وسائل الضمان الاجتماعي، لقيمتها ليس فقط الاجتماعية والإنسانية بتحقيق التوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام، وإنما السياسية والاقتصادية أيضاً.(43/206)
آ-ويبدو دور الزكاة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية جلياً من خلال تحديد مقدار الزكاة: إنه ربع العشر من المال المدخر، ولا تتركه حتى تنخفض به إلى عشرين ديناراً (حسب القوة الشرائية آنذاك).
وهنا تعتبر الزكاة بمثابة مصادرة تدريجية للمال الذي يكنز ويجمد عن العمل وبذلك تندفع جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي بكافة فعالياته.
الآيات: ]الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها من نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون[ (التوبة-34)
وصورة (الهمزة)، وقد مر ذكرها سابقاً.
وهذا المنع من اكتناز المال ومحاربته بفرض ضريبة الزكاة عليه، يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي كما ذكرنا سابقاً، فالنظام الرأسمالي يشجعه، ويخلق له المصارف وبيوت المال لتكديسه وحجبه عن الإنتاج المثمر، ويكافئه بتشريع نظام الفائدة بينما يحاربه الإسلام ويمتصه عن طريق الزكاة ويدخله في حلبة الإنتاج وزيادة الاستهلاك الذي يدير عجلة الإنتاج.
ب- أما من الناحية السياسية، فإن استئثار فئة قليلة بالقسم الأكبر من المال، لابد أن يؤدي إلى أن يطغى نفوذها على الحكام أنفسهم، فلا يصبح بمقدورهم أن يعالجوا الخلل الاقتصادي والاجتماعي.
الآية: ]كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم[ (الحشر-7)
وهو ما نعيشه في الوقت الحاضر، في كافة بقاع العالم، إذ أن الثروات الضخمة التي تكدست في أيدي فئة قليلة من البشر، فاقت الثروات التي تملكها الحكومات ذاتها، ففقدت الدول بذلك هيبتها وسيطرتها على هؤلاء. الأثرياء، وانحصرت مهمتها بتأمين مصالحهم الخاصة فقط وتيسير مهماتهم على حساب استفحال الفقر والجوع والحرمان من أمس الحاجات الضرورية التي تقاسي منها الغالبية العظمى من الشعوب.
جـ- تحقيق التوازن الاجتماعي، وذلك بتأمين التقارب في مستوى المعيشة بين جميع أفراد الأمة، وذلك عن طريق تحويل المجتمع إلى طبقة واحدة غنية ومترفة، أي مساواة الناس بالغنى وليس بالفقر كما هو الحال في النظامين السابقين والدليل الفقهي على علاقة هذه الضريبة، وما إليها (الصدقة، والخمس) حسب المذاهب، بأغراض التوازن الاجتماعي، بالإضافة إلى الناحية الإنسانية والاقتصادية ما يلي:
عن إسحاق بن عمار: "قال: قلت للإمام جعفر بن محمد: هل أعطي الفقير مائة من الزكاة؟ قال: نعم، قلت: مائتين؟ قال: نعم، قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم، قلت: أربعمائة؟ قال نعم، قلت: خمسمائة؟ قال: نعم حتى تغنيه..."
وكما مر معنا عن أبي بصير، عن الإمام جعفر بن الصادق:
"إن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء، ثم نظر في الفقراء، فجعل لهم في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو لم يكفهم لزادهم".
وعن الإمام علي رضي الله عنه: ]إن الله سبحانه وتعالى فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع به غني، والله تعالى جده سائلهم عن ذلك يوم القيامة[. نهج البلاغة.
وفي كل ذلك ما يبين امتداد حق الفقراء في أموال الأغنياء حتى الغنى وتحقيق التوازن الاجتماعي، وتقريب مستويات المعيشة بين جميع أفراد الأمة والمجتمع.
أصحاب الحق في الزكاة
الآيات: ]والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم[(المعارج-25)
]إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله، وابن السبيل[ (التوبة/ 60)
فالزكاة إذاً، هي حق معلوم في أموال الأغنياء، يصرف للفئات التي سمتها الآية 60 من صورة التوبة المذكورة.
الحض على العمل: وإذا كان الإسلام قد جعل لغير العاملين والفقراء والمساكين... الخ، ممن ورد ذكرهم في أحكام الزكاة، حقاً في ثروات الله التي حصل عليها العاملون، فإن هذا لا يعني أنه دفع الناس للخلود إلى الراحة والكسل، والاعتماد على الغير في معيشتهم، بل -على العكس- فقد حض الله تعالى على العمل وقدسه إلى منزلة العبادة
الآيات: ]وقل اعملوا فسيرى الله عملكم[ (التوبه-105)
]هو أنشأكم من الأرض، واستعمركم فيها[ (هود /61) أي كلفكم بإعمارها.
]هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور[ (الملك/ 15)
- وفضل الإسلام من يأكل بعمل يده عمن يقبل الصدقة. وقال (ص)
"اليد العليا خير من اليد السفلى" فأخذ المسلمون يتسابقون إلى العمل وأداء الصدقة بدل قبولها
وقال أيضاً: "من فتح على نفسه باب السؤال، فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر".
ومن تقديسه للعمل إلى منزلة العبادة، جاء في الحديث:
أثنى الصحابة أمام الرسول على رجل يكثر من العبادة، فسألهم: من يعيله؟ قالوا: "كلنا"، فقال: "كلكم أعبد منه".
وعن الرسول (ص): أنه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبلها، وقال:
"طلب الحلال فرض على كل مسلم ومسلمة، ومن أكل من كد يده مر على الصراط كالبرق، ومن أكل من كد يده نظر الله إليه بالرحمة، ثم لا يعذبه أبداً، ومن أكل من كد يده حلالاً فتح الله له أبواب الجنة يدخل من أين شاء.(43/207)
وكان الرسول (ص) كما جاء في سيرته الشريفة، يسأل عن الشخص إذا أعجبه مظهره، فإذا قيل له "ليس له حرفة، ولا عمل يمارسه"، سقط من عينه،
ويقول: "إن المؤمن من إذا لم تكن لديه حرفة يعيش بدينه".
ويقول الصادق:"لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه".
وجعل الإسلام العمل سبباً لتملك الأرض: "من أحيا أرضاً فهي له"، كما جعل عمارة الأرض سبباً لتملكها، فإن توقف عن إعمارها اقتطعت منه. قال(ص): "وليس لمحتجز حق فوق ثلاث"، أي لا يحق لمن يحتجز أرضاً أن يهملها أكثر من ثلاث سنوات.
الحض على العلم:
كان الحصن على العلم أول آية أنزلت على رسول الله (ص)، الآية: ]اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم[.
وجعل الإسلام من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة:
الحديث: ]العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة[.
" كما جعل العلماء بمثابة الأنبياء وفضلهم على سائر البشر:
]هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟![ (الزمره-5)
الآية: ]إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون[. (الرعد-4)
]إنما يخشى الله من عباده العلماء[.(*) (فاطر-28)
]ويتفكرون في خلق السموات والأرض[
وأقرن الإسلام العلم بالعمل: "العلم والعمل توأمان"، وذلك لكي يتم التحقيق من صواب العلم من خلال تطبيقه العملي، ولكي تتم تغذية العمل باستمرار بنتائج العلم الصائب، لتطوير العمل وتحسينه. ولكنه ألح على طلب العلم النافع: "اللهم احمنا من علمٍ لا ينفع"، (للأسف، إننا في عصر يسود فيه العلم الضار - بكافة صنوفه من الطب، للزراعة وأسمدتها الكيماوية ومبيدات أعشابها وتصنيعها، إلى الفضاء وتجسسه وأسلحته الفتاكة، إلى الإشعاعات والجينات وأنابيب خلق الكائنات...الخ)(**)
وبصورة عامة، لابد للعلم والعمل من أن يهدفا إلى تحقيق سعادة الفرد في الدنيا وخلوده في الآخرة: عن علي (ع):
"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
وذلك، لكي لا يفقد الإنسان أمله في الحياة، فلا يتوقف عن العمل المستمر مهما أصيب من أمراض، ومصائب وفشل (فالله يغير من حالٍ إلى حال).
ولابد من أن يكون عمله -في الوقت نفسه- صالحاً لخير المجتمع، فيكسب بذلك دينه ودنياه.
وهكذا، فإن السياسة الاقتصادية في الإسلام توجب على الحاكم تحسين الدخول فرداً فرداً، أي ليس باحتساب الزيادة الإجمالية في الدخل التي قد لا تصيب في التوزيع إلا فئة بسيطة من المستغلين، كما هو الحال في النظامين السابقين.
وبفضل هذه العدالة الاجتماعية، ازداد الشعور بالمسؤولية بين المسلمين، وأقبلوا على العمل بشغف وإتقان ونشاط، لدرجة قلما كان يوجد بين صفوف المسلمين من يستحق الزكاة. ويشهد على ذلك أنه في عهد الخليفة (عمر بن عبدالعزيز)، كان أحد عملائه في الكوفة يعيد الأموال، التي كان يكلفه الخليفة بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت مال المسلمين، وعندما سأله الخليفةعن السبب أجاب:
"لم أجد فيها من يستحق الزكاة".
وكما قال الكاتب الفرنسي الكبير (آلان راود)، في كتابه "اليمن وشعوبها": "أحببت صنعاء كما يحب البستان الماء، لا لأنها بلد الـ(13000) حمام و(13000) جامع، في كامل الجلال والجمال، في عهد هارون الرشيد، ولكن، لأن فيها كل ما يشهد على حضارة ورفاهية شعب بأسره"(*).
والسؤال الآن:
لماذا جعل الإسلام الزكاة حقاً للسائل والمحروم...الخ
وليست مجرد هبة أو صدقة؟!..
مما لاشك فيه، أن للزكاة -كما رأينا - منافع عديدة، اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وهي العبادة الوحيدة المكلفة، والمتوجبة طيلة حياة المسلم المكلف. ولكن...لماذا جعلها الله سبحانه وتعالى حقاً للمستحقين، وليست هبة أو صدقة، كما في قوله تعالى:
الآية: ]الذين في أموالكم حق معلوم للسائل والمحروم[.(النور-33)
والجواب -على ما أعتقد يكمن - بصفتي اقتصادية- في الآيتين الكريمتين التاليتين:
- ] وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [.
- والله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار". (ابراهيم-32)
أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الكائنات على وجه الأرض، خلق لهم فيها ما يكفيهم جميعاً.وأن ما على سطح الأرض، ومافي جوفها، وسمائها هوملك لله وحده، ومخصص لجميع عباده.وما الإنسان العامل إلا مستخلف من قبل الله لاستثمار خيراته. فالامتناع عن استغلالها أو المنع من ذلك، يعتبر ظلماً وكفراً، ويحول دون وصول البشر إلى مرتبة خليفة الله في الأرض.
أما العاجزون عن العمل والمحرومون فيه، والبؤساء والمساكين.. الخ. فهم أيضاً من عباد الله، ولهم نصيبهم مما آتى العاملين والمورثين، فهو خالقهم وكافلهم أيضاً من ثروات الله ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[.(43/208)
في الحقيقة، إن الله الذي خلق هذا الكون بكل مافيه من إنسان وحيوان ونبات، خلق له معه في هذه الطبيعة كل مايكفل له حياته إلى أجل لا يعلمه إلا هو. فالإنسان، يجد في هذه الأرض، كل مايؤمن له، طعامه وشرابه، وكساءه، ودواءه، ومتعته ومأواه.. الخ.. وحضه على العمل لاستثمار هذه الثروات واستغلالها، وجهزه بكل مايلزم لذلك من عقل وطاقة وقوة... الخ. وفرض عليه أن يؤدي من هذا المال الذي آتاه الله به حصة الفقراء والمساكين والمحرومين من العمل.. الخ، أصحاب الحق في الحياة من هذه الثروات مثله.
والحيوان، هداه الله عن طريق الغريزة إلى اكتشاف مايؤمن له غذاءه الذي يتفق مع تكوينه، واختيار مأواه، وحماية نفسه.. الخ( وما تدخل الإنسان في حياة الحيوانات، وتعليمها دروسها، وتكثيرها بطرق اصطناعية تجارية محضة، إلا وراء اندثار القسم الأكبر من هذه الحيوانات، وفسادها)، فالعصفور -على سبيل المثال- يميز من ذاته بين الحبة النافعة التي تلائمه وغير النافعة، أو الحجرة؛ والنحلة، وحتى النملة، أدق مخلوقات الله، تقوم بنفسها بأمهر ما يقوم به أفضل العلماء من بني الإنسان فبيوت النمل الرائعة الصنع استوحيت منها ناطحات السحاب في أمريكا، والنحل -كما نعلم- يقوم بأدهش عملية إنتاجية في الكون، تنظم فيها مراحل الإنتاج، وتوزع الأدوار على العاملات وتقوم كل منها بدورها في أوقات محددة دقيقة، حسب المستلزمات والمعطيات من الطبيعة، دون أن يكون فيها أي دور أوجهد للإنسان، اللهم إلا ليمد يده ويتناول أقراص الشهد، ويأكله هنيئاً مريئاً فيه شفاء للناس.
(وكلنا يعلم أن تدخل الإنسان الحديث في تغذية النحل في الوقت الحاضر، قد أفسد العسل، وشل وظيفته كشفاء للناس، إن لم يكن قد حولها إلى ضرر بالصحة).
فلماذا يختص الشخص الذي حصل على العسل به وحده، وما الذي جعل له الحق به وحده، من دون المحتاج، علماً بأنه خلق للناس أجمعين؟
فعملية الإنتاج في هذا المثال، واليد العاملة، والمواد الأولية، والإشراف على العمل، ورأس المال والعمل والعمال، كلها من عند الله، وهديه لعباده.
وقس على ذلك بالنسبة للأسماك، التي تغص بها البحار والأنهار، والتي لا تتطلب إلا إلقاء الشبكة في الماء(*)، وملايين الأنواع من النباتات الصالحة كغذاء وكساء ودواء، مما اكتشف، ومالم يكتشف بعد، والتي لا حاجة في إنتاجها للإنسان وعمله، فكلها من عند الله، ولصالح عباده أجمعين.
كما أن هناك عدداً لا يحصى من الثروات التي خلقها الله في الطبيعة، والتي لابد للاستفادة منها من عمل الإنسان. كاستخراج المعادن من باطن الأرض، وتصنيعها وتحويلها، وزراعة البساتين والكروم والحقول... الخ. ويتجلى في هذه العمليات الإنتاجية اشتراك الخالق مع البشر جنباً إلى جنب في استخراج ملك الله واستثماره.
ولنأخذ مثال الإنبات في الزراعة، لنحدد ما نتج منه بفضل عمل البشر، وماهو من هبة الإله.
فهناك عدد كبير من النباتات والثمار، لا تحتاج من جهد الإنسان إلا وضع البزرة في التربة، علماً بأن البزرة الأولى، والشجرة الأولى لكل ما ينبت على وجه الأرض من نباتات هي من خلق الله. قال تعالى: ] وآية لهم الأرض الميتة أحييناها، وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون، وجعلنا فيها جناتٍ من نخيل وأعنابٍ، وفجرنا فيها من العيون[.(ياسين-33)
وما التربة وما بداخلها من مواد عضوية لتغذيتها، والأمطار التي تهطل من السماء لسقايتها، والشمس التي تمدها بالحرارة لإنضاجها، والرياح التي تتولى عملية التلقيح، وتمدها بالأوكسجين والهيدروجين إلى آخر ما هنالك،مما نعلم وما لا نعلم.. ما هذا كله إلا من عند الله، وليس لإنسان أي دور فيه(*)، فالمواد الأولية الأساسية في هذا المثال، الضرورية لعملية الإنتاج، كلها هبة من عند الله، ولذا فإن الإنتاج حق لعباده أجمعين.
وهناك عدد آخر من النباتات تحتاج إلى جهد أكبر من الإنسان في زراعتها، وسقايتها، وحصادها، وجنيها، كما تحتاج إلى رأس مال لتأمين ذلك. أي أنها تحتاج إلى:
ـ رأس مال.
ـ أدوات إنتاج، تقليدية أو عصرية.
ـ يد عاملة.
ولكن، هذه الخدمات لا تقاس بالعطاءات المجانية التي يقدمها الإله، وهي الوسائل الرئيسية في الإنتاج، ولا يمكن أن يتم الإنتاج بدونها:
ـ الأرض وما تحتوي تربتها من المواد العضوية.
ـ الماء الذي ينبع من الأرض أو يهبط من السماء.
ـ الشمس، والهواء,....الخ..
وهذه تأتي كلها مجاناً من عند الإله، والحق فيها لعباد الله قاطبة".
فكيف يتم التوزيع حسب النظام الحالي، وكيف يجب أن يتم حسب تعاليم الإسلام؟...
التوزيع حسب النظام الحالي:
يأتي رأس المال، على رأس المستفيدين من حصة الإنتاج، من ربح، وفائدة وريع، علماً بأن صاحبه لايقوم بأي عمل
وإذا ما كان هونفسه الذي يقدم وسائل الإنتاج، كالشركات العالمية، وهذا هو الغالب في الوقت الحاضر، فإنه يستأثر بالإنتاج وحده، ولا يصيب العاملين الذين قدموا الجهد الأكبر سوى نسبة بسيطة كأجر، لا يكفيه قوت يومه، وهو يأخذ بالتضاؤل شيئاً فشيئاً نظراً لكثرة العرض في اليد العاملة على الطلب، والمشردة من كافة بلدان العالم.(43/209)
فتوزيع الإنتاج يقتصر هنا على حق رأس المال وأدواته من الوسائل البشرية، ولا يأخذ بعين الاعتبار وسائل الإنتاج الربانية، والتي بدونها لا يستطيع أي إنسان، وأي رأس مال، وأية وسائل إنتاج بشرية، أن تنتج شيئاً. أي أن التوزيع -بهذه الحالة- لا يصيب حصة الفقراء والمحتاجين...الخ. ممن لهم حق ونصيب في هبات الله، والذين خلقهم وتكفل بهم.
التوزيع حسب أحكام الله:
يجعل الإسلام العمل -بصورة عامة- شرطاً في تملك الثروة الطبيعية التي لا يملكها فرد آخر مثل: الخشب الذي يقتطعه العامل من أشجار الغابة، والأسماك والطيور في البحر والجو، والمواد المعدنية التي يستخرجها المنتج من مناجمها، والأرض الميتة التي يحييها الزراع ويعدونها للإنتاج، وعين الماء التي يستنبطها من أعماق الأرض... الخ. وهي كلها ملك عام كما ذكرنا.
فالعامل -في هذه الحالات- له وحده ملكية الإنتاج الذي أنتجه، على أن يوزع، قبل كل شيء، حصة غير العاملين والمحتاجين... الخ. الوارد ذكرهم في آية التوبة، كما ذكرنا سابقاً، وليس لرأس المال على تلك الثروات إلا الحق بالأجر.
وبهذا، فإن الفرق بين النظرية الإسلامية في التوزيع، مابعد الإنتاج، والنظرية الرأسمالية كبير للغاية. ومرد هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين في تحديد مركز الإنسان، ودوره في عملية الإنتاج. فدور الإنسان في الأولى هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج، ودوره في الإسلام الغاية التي يخدمها الإنتاج. فالإنسان، في النظام الرأسمالي، كما في النظام الاشتراكي، هو بمثابة سائر القوى المساهمة في الإنتاج، يتلقى نصيبه من الثروة الطبيعية التي جهد في استخراجها وتحويلها، بوصفه خادماً للإنتاج، كأجر فقط، لاستمرار حياته وعمله، بينما يصبح مالك رأس المال مستحوذاً على جميع ما يقوم به الأجراء لإنتاجه، ومن حقه بيعه بالثمن الذي يحلو له، دون أن يؤدي حصة من لهم نصيب من ملك الله الذي آتاهم....(*).
أما النظرية الإسلامية، فهي تجعل العمل شرطاً في تملك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده حق ملكية الإنتاج الذي أنتجه، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات، التي يمتلكها في ظل المذهب الرأسمالي لمجرد قدرته على توفير الآلات اللازمة للإنتاج، ودفع نفقاته، وتحل محلها سيطرة الإنسان على ثروات الطبيعة التي خلقها الله لخدمة الإنسان، لأنه الغرض من الإنتاج. ولا يحصل رأس المال وأدواته إلا على أجر لقاء الخدمة التي قدمها، وهي لا تعني المشاركة في الثروة المنتجة.
وإذا لم يكن للوسائل المستعملة في الإنتاج مالك آخر سوى الإنسان العامل نفسه، فلا يشاركه أحد في الإنتاج سوى من لهم نصيب من ملك الله الذي آتاه كحقه تماماً.وهم الفقراء والمحتاجون الوارد ذكرهم في آية التوبة... الخ. كما ذكرنا.
الفرق في التوزيع بين الماركسية والإسلام:
- من الناحية النظرية:
مما لاشك فيه أن النظرية الماركسية كانت قداستوحت من النظام الإسلامي شيئاً من مبدأ العدالة الاجتماعية. وذلك فيما يتعلق بمسؤولية الدولة في تأمين سبل العمل لكافة السكان (وبالفعل، لم يكن قبل انهيار النظام المذكور في أوائل التسعينات عاطل واحد عن العمل)، (يتجاوز عدد العاطلين عن العمل في ظل نظام الحرية الجديد 65% في روسيا عام 1996، وتقارب في الوقت الحاضر ثلاث أرباع السكان)، كما ضمنت للعاجز والمريض الضمانات الضرورية اللازمة للحياة.
وهي تعتبر أيضاً تماشياً مع القواعد الإسلامية، أن للعامل الحق بالإنتاج وليس بالأجر، إلاأنها تقيده بما أضافه العامل بعمله على المادة الأساسية -قبل العمل- من قيمة جديدة تبادلية. ولذا، فإن للعامل في رأي الماركسية الحق في السلعة المنتجة، باستثناء قيمة المادة التي تسلمها من الدولة قبل الإنتاج.
- من الناحية العملية:
أما من خلال التطبيق العملي، فإن القائمين على إدارة المشاريع المؤممة لم يدفعوا للعالم إلا أجراً -كأصحاب المشاريع الرأسمالية- لايكاد يكفيه ليتابع عمله، وكدسوا لأنفسهم الأموال على حساب العامل، والمشاريع الإنتاجية نفسها، التي أفلس معظمها، مما أدى إلى استفحال مديونية الدول الاشتراكية، وتوقفها عن تسديد ديونها، وفقدان الحاجات الضرورية، حتى الغذائية الأساسية. وكلنا يذكر طوابير البشر التي كانت تتدافع، أمام مراكز التوزيع، أياماً وأسابيع، للحصول على قطعة لحم مجمدة، أو حتى ربطة خبز جافة، آخر أيام العهد، والتي كانت السبب الرئيسي في سقوط النظام. ومن الطبيعي أن هؤلاء المستغلين - هم أنفسم - الذين استلموا مقادير الحكم في النظام الجديد، ليعودوا بالشعوب، ليس فقط إلى أيام القياصرة، فهم بعيدون جداً عنها حتى أيام النظام الاشتراكي في عهده المرموق، بل إلىعصور الهمجية والغوغائية في أظلم العهود...!(43/210)
أما الإسلام، فقد منح العامل، نظرياً وعملياً، خلال قرون عديدة من تطبيقه لشريعته، كل الثروة التي أنتجها العامل، إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها العامل في عملية الإنتاج ثروة طبيعية لا يملكها فرد آخر، أي إذا كان هونفسه قداستخرجها من الطبيعة، ومهما كانت هذه الثروة، سواءً كانت ذهباً أو حجراً، أما إذا كانت ملكاً لفرد آخر، فلا مجال لمنحها للإنسان العامل على أساس الإنتاج الجديد الذي أدخله عليها، لأنها تحمل عمل المالك الذي له الحق الثابت بالملك، ويقتصر هنا حق العامل على الأجر فقط، وهذا مايطلق عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية(*).
إلا أن هذه الأحكام، أصبحت في الوقت الحاضر، -على مايبدو- مستحيلة التطبيق، حتى في البلدان التي تتبنى الإسلام في الذات، وأضحت العدالة الاجتماعية حبراً على ورق في اجتهادات الفقهاء في الإسلام، فلا الراعي ولا الرعية بقادرين على تنفيذ أحكامها لفقدان المعطيات في بلاد الإسلام بالذات.
ـ فلا الأرض ومافيها من الثروات الطبيعية بقيت ملكاً للإله -حسب زعمهم- ولا للشعوب ولا الحكام.. إنها فيما فوقها، وماتحتها وما في جوفها وسمائها ومائها بأيدي الشركات الأجنبية العالمية... تتصرف فيها كما تشاء.
ـ وأصبح العمل،ووسائل العمل بأيدي هذه الشركات...
ـ وانحصر المحصول ومردود المحصول في ملكها أيضاً، تحوله أين تشاء وتحرم شعوبه منه.
وهذا يتعارض -في الواقع- مع أحكام الإسلام الذي منع ملكية رقبة الأرض، حتى للعاملين فيها من أبناء الشعب(فهي ملك لله)، وحصر منفعتها فقط بهم، على ألا يتوقفوا عن استثمارها، وإلا أخذت منهم، وسلمت لغيرهم،كما رأينا، ولكن، على أن يوزعوا حقوق المحتاجين.
ـ وكذلك، امتدت سيطرة الشركات المذكورة ــ عن طريق التخصيص ـ إلى كل مرفق من المرافق العامة، التي كانت في عهدة الحكام، وفقدت الحكومات كل سيطرة عليها، مما أدى إلى شلل مهمة الراعي في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين الخدمات العامة للشعوب، واقتصردورهم على سن القوانين التي تفتح للشركات الأجنبية المذكورة، الأبواب على مصراعيها، لسرقة خيرات البلاد، وتكديس الأموال، وتحويلها دون رقابة ولا حساب، إلى أي مكان تشاء.(*)
ولم يبق -في الواقع- للشعوب التي حضها الإسلام على العمل واستثمار خيرات الأرض، أية فرصة للعمل، سوى التمثيل، والرقص، والغناء، واحتلال الأرصفة (من رجال ونساء وأطفال) لإمتاع السياح. فليس لهم الحق في اقتطاع حجر، أو احتطاب خشب، أو زراعة أرض، أو غرس شجر، أو صيد سمك، أوحتى عصفور، كما لم يبق لها الحق في فتح دكان كقصاب أو سمان...!. ولم يبق في ساحة العمل إلا الشركات الأجنبية، ومجمعاتها، وعملاؤها في الداخل، وكأن الله تعالى، قد استخلف فقط الإنسان الأمريكي الصهيوني. على ثروات الأرض بكاملها، ومنحهم إياها بوثيقة مضمونة -كما يعتقدون-. وإنني لأتساءل هل خصهم الإله من المميزات العقلية والجسدية، بما يفوق منها مالدى الشعوب التعيسة الأخرى؟!...
وهل اكتشف، أن خليفة الله هذا، قد حباه الله بأربع عيون، ورأسان وثمانية أطراف؟....
أم أن الله قد خلق البشر كلهم سواسية "كأسنان المشط"، لا فرق بينهم إلا بالتقوى؟!..
وهاهي حضاراتهم التليدة تشهد على عبقرياتهم ومهاراتهم بشكل لا مجال فيه للمقارنة بينها وبين حضارة الصهاينة الأمريكان...!.
والحضارة الإسلامية، في هذا المضمار -والتي نقل القسم الأعظم منها ومن علومها وفنونها إلى متاحفهم، عدا ما حرق وأبيد منها بدافع الحقد والإعاقة، بالطبع، خوفاً منها -شاهدة على ذلك-...
وهي لم تهدم حضارة البلدان التي فتحتها، بل -على العكس-.. فقد رممتها وجددتها، وأضافت عليها من مميزاتها وإبداعها، وذلك بشهادة أقسى أعدائها، كما أنها لم تسلب حق الشعوب في استثمار خيرات بلادها، بل -على العكس- وزعت الحق في إنتاج هذه الثروات وخيراتها، على كل فرد، فرداً فرداً، فمن اليمن السعيد إلى الأندلس العتيد إلى ربوع الصين والهند وكازخستان وإيران... برزت حضارات يعجز اللسان عن وصفها، مصحوبة -قبل كل شيء- بسعادة الإنسان كل إنسان...!
حتى اعترف لها بذلك المؤرخ الإنكليزي الكبير بقوله:
"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"....
ولكنني للأسف الشديد، لست على يقين، بوجود من يملك من المسلمين في هذه الأيام، الجدارة، والحرية، والاستقلال بثروات البلاد، لاستلام مقاليد الإسلام.
لقد تعطل -كما رأينا- دور الراعي في القيام بمسؤولياته، للقيام بتأمين سبل العدالة الاجتماعية، واستثمار خيرات البلاد، وإدارة مرافقها، فلم يعد قادراً على تأمين العمل والعيش الكريم للقادرين على العمل، ولا الحاجات الكمالية، لا بله الحياتية الأساسية، للعاجزين عنه، وكبلت البلدان بالديون، وجفت الموارد العامة من الخزينة، وضغطت النفقات من حساب حياة الشعوب، ليوجه القسم الأكبر منها لتسديد الديون...
- كما تعطل دور الأفراد أيضاً بالقيام بدورهم في كفالة بعضهم بعضاً.(43/211)
فكيف يمكن للعاملين، الذين هبطت دخولهم إلى دون عتبة الفقر بكثير، أن يكفلوا حياة غير العاملين، والمحرومين...الخ. وهم أنفسهم بحاجة لمن يكفل لهم حاجاتهم الرئيسية أيضاً؟!...
فالجميع الآن بحاجة للتكافل...!
فمن الذي سيدفع الزكاة؟!....
أهي الشركات العالمية، والصهيونية التي تمولها، وهي تشن حرباً ضروساً على الشعوب كافة، وخاصة منها الشعوب الإسلامية، بكافة الوسائل، وفي كل مكان؟!...
وإذا لم يحقق الإسلام للمسلمين هذا الضمان، فماذا يبقى للمسلمين من الإسلام؟!...
الموت في سبيل الله!؟...
أم في سبيل الصهاينة الأميركان؟!....
الخلاصة العامة
إن الهدف من هذا البحث، ليس الدخول في أحكام النظريتين الماركسية والرأسمالية، وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة، ورفاهية، وعدالة، وأمان .
ومرد هذا الاختلاف يعود، في الواقع، إلى الاختلاف في تحديد مركز الإنسان ودوره في عملية الإنتاج.
فبالنسبة للنظام الرأسمالي، فإن دور الإنسان هو الوسيلة التي تخدم الإنتاج والربح، لا الغاية التي يخدمها الإنتاج، فهو في صف القوى المساهمة في الإنتاج، من طبيعة وماديه ورأس مال، بل والحلقة الأوهى منه، فيتلقى أجراً على مساهمته في الإنتاج، يعينه فقط على متابعه الإنتاج.
أمافي النظام الماركسي، فإن دوره في عملية الإنتاج هو الوسيلة التي تخدم النظام وتوصل وسائل الإنتاج، ولو بشكل مصطنع، إلى المرحلة المطلوبة حسب المادية التاريخية المبتدعة لتبرير هذا النظام، ولذا، فإن العامل من الناحية النظرية فقط، له الحق من الإنتاج بمقدار ما منحه بعمله من فرق في القيمة التبادلية الجديدة، شأنه في ذلك شأن بقية وسائل الإنتاج. أما من الناحية العملية، فإن نصيبه الفعلي قد انخفض إلى مستوى أدنى بكثير مما حصل عليه العامل من أجر في النظام الرأسمالي، وانفرد الحكام بالقيمة وفرق القيمة معاً.
ولذا، فلا فرق بين النظامين في الواقع، فرأس المال الخاص ينتخب رجال الحكم والحكام في النظام الرأسمالي، الذين يشتركون معه في الربح على حساب العمل والعمال، ويختص رجال الحكم في النظام الماركسي برأس المال ووسائل الإنتاج ليثروا على حساب العمل والعمال.
أما مركز الإنسان في الإسلام، فهومركز الغاية لا الوسيلة، فليس هو في مركز الوسائل المادية لتوزيع الثروة بين الإنسان وتلك الوسائل، بل إن الوسائل المادية تعتبر خادمة للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج، لأن عملية الإنتاج هي نفسها لأجل الإنسان.وبذلك يختلف نصيبه عن نصيب الوسائل المذكورة. فهو وحده صاحب الحق في الإنتاج. بينما تتقاضى الوسائل المادية، ويتقاضى رأس المال مكافأة من الإنسان المنتج، بوصفها خادمة له.
ولابد من خلال النتائج التي آلت إليها التطبيقات للمذهبين الاقتصاديين الدوليين اللذين شملا العالم خلال مدة نصف قرن، لابد أن نشك في أن المشاكل التي تصدى لها المذهبان، كان المراد منها رعاية حقوق الإنسان، بل على العكس محاربة الإنسان في كل مكان، لأن الحلول المطروحة قد أدت إلى استفحال المشاكل الحقيقية، وخلق مشاكل جديدة سدت أمام الشعوب كل حق بالحياة في العالم أجمع، وليس فقط في موطنهما بالذات.
فالسؤال الذي يتحتم علينا أن نجيب عليه بعد دراسة هذين النظامين هو إذاً:
هل كانت المادية التاريخية المبتدعة، ووسائل الإنتاج المصطنعة، والطبقية التي أبيدت لتحل محلها الطبقية التي خلقت، من جهة النظام الماركسي؛ وقوانين العرض والطلب، والحرية المطلقة من عقالها بلا حدود، وتطوير وسائل الإنتاج لتحل محل الإنسان وتكثر من الإنتاج، من جهة النظام الحر، هل كانت بالفعل الحلول الحقيقية الناجعة لمشاكلهم في موطنهم بالذات، قبل أن تصبح الترياق في كل مكان...؟!…
فالمادية التاريخية: التي اتخذت صفة العلم في النظام الماركسي تفسر أوضاع الأمم السياسية والتاريخية والثقافية والحضارية من خلال تطور وسائل الإنتاج، علماً بأن التاريخ يشهد على أن المجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود، كانت متقاربة جداً في وسائل الإنتاج، ومع ذلك، فقد كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية والفكرية والحضارية، فشتان بين المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى المظلمه، وبين المجتمعات الإسلامية وحضاراتها الرائعة في الأندلس، والعراق،ومصر... الخ في ذلك الحين.
ووسائل الإنتاج نفسها، كان قد أجري عليها التغيير بشكل مصطنع، بعد الثورة لكي تصل إلى المرحلة المطلوبة للإيديولوجية الماركسية، إذ أن وسائل الإنتاج في روسيا مثلاً، لم تكن قبل الثورة الاشتراكية لتبلغ الدرجة التي حددتها النظرية لا مكان التحول المطلوب واندلاع الثورة العمالية. فقد كانت في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية. وعلى العكس، فقد كانت تلك القوى في مرحلة القمة من تطورها في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ومع ذلك، فهذه البلدان كانت وبقيت أبعد ما تكون عن التحول العلمي الإجباري المطلوب للمادية التاريخية.(43/212)
أما الطبقية التي دثرت بحجة الظلم والتعسف، لتحل محلها الطبقة الأرحم والأعدل، والأدهي التي خلقت، فإن الاستيلاء على وسائل الإنتاج من طبقة كانت تنتج وتغذي الشعب والخزينة بالحاجات الضرورية، وتسليمها إلى طبقة أخرى هي، بالأصل، لا تملك ذات المؤهلات لإدارة عجلة الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي بل خلق تركيباً من نوع آخر، وإن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتعت بها الطبقة الجديدة تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات ظلماً على مر التاريخ. وسمح لها النظام أن تتمتع وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وحصلت على نفس الفرص التي كان الرأسماليون والاحتكاريون يتمتعون بها، كما أصبحت، أقدر من أي رأسمالي على سرقة فرق القيمة في الإنتاج، والاستئثار بها، دون أن يجرؤ أي لسان أو قلم على انتقادها، إذ كمت الأفواه، وقيدت حرية الفكر والإصلاح.
وهذا ما يفسر الفروق الشاسعة بين ثرواتها الضخمة التي راكمتها، وحالات الضيق والحرمان وفقدان المواد الغذائية الرئيسية التي عانى منها السكان، بل والأزمة الاقتصادية العصيبة التي أتت على النظام في أوائل التسعينات.
كل هذا، وهذا غيض من فيض، يجعلنا نشك بأن المشاكل التي طرحها هذا النظام، والحلول التي طبقها كانت لتخليص الشعوب من ظلم القيصرية وتأمين الحقوق لها والعدل والأمان، ناهيك عن جدواها لمشاكل شعوب العالم قاطبة بعد تدويلها والتي لا ناقة لها ولا جمل بالقيصرية ولا بالمادية التاريخيةووسائلها الإنتاجية - أو سواها من المشاكل المبتدعة.
فقادة التجربة الماركسية الجدد الذين زعموا أنهم يرغبون خلق الجنة الشيوعية الموعودة للشعوب على الأرض بدلاً لجنة الله في السماء، كانوا قد قضوا على قادة الثورة الحقيقيين ورؤوسها المفكرة عشية نجاح الثورة، فقاموا بعمليات تطهير ما يزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف، عدا الوزراء وكافة ضباط الجيش.
كما جردوا الفلاحين المالكين من وسائل إنتاجهم (1928-1930). لأنهم يعتبرون الزراعة تخلفاً، وبوسائل وحشية يندى لها الجبين، راح ضحيتها مائة ألف قتيل، باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد حسب تقرير أعدائها، اتبعوها بالمجاعة الفاحشة (1932)، التي راح ضحيتها ستة ملايين نسمة، وذلك باعتراف الحكومة نفسها.
وهكذا، فقد سقط هذا النظام، ولم يبلغ من العمر نصف قرن، ذلك لأن معدّته لم تعد تهضم صناعة الحديد والصلب، في وقت لجأت معه أمريكا إلى استعمال سلاح الغذاء الأشد مضاءً من كافة ترسانته النووية. سقط وبأيدي قادته الجدد وطليعته المزعومة، ليتربعوا -هم أنفسهم- على عرش ماتلاه من أسوأ نظام يدعي الحرية والديموقراطية، ودون أن يرتفع فيه صوت واحد يعلن الاحتجاج.
وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه مما لاشك فيه قد أفاد المذهب الحر في البلدان الصناعية ذاتها، وجعلها تغدق بعطاءاتها على العمال لتسد الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبه بزوال خطر الشيوعية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت الحقبة المسيطرة على القطاعات الإنتاجية الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي منحهم إياها النظام، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، والأدوات التكنولوجية الحديثة التي تستغني أكثر فأكثر عن العمال (فالتكنولوجيا الحديثة المتطورة هي بالدرجة الأولى، ذات هدف سياسي، الغاية منه تقليص دور العمال وحجمهم وسرقة حقوقهم).
وفي روسيا الديمقراطية الحالية بالذات، تطالعنا آخر المآسي من "عمال بلا أجور"، و"متقاعدين دون تقاعد"، و"ضباط بلا رواتب"، وعاطلين عن العمل تتجاوز نسبتهم العاملين، مع تفشي الجرائم والصراعات من شتى الأنواع: من صراعات عرقية وعنصرية، ودينية وحياتية، في الاتحاد السوفياتي السابق، قل أن يكون لها وجود. وقد تحولت تحت تأثير نظام العولمة الجديد إلى حروب ضد الطبقة العاملة نفسها،، جعلت ميخائيل كورباتشوف يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة في فندق "الفير مونت" في سان فرانسيسكو عام 1995 عندما سئل:
"هل سيتحول العالم بأجمعه إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللا مساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"...
فأجاب: "إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث، إنها لحقيقة أن روسيا نفسها ستصبح على شاكلة البرازيل...".
في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برزايل كبيرة، إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الإلكترونية، وكاميرات الليل والنهار سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المحدثين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمحرومين والمغتصبة حقوقهم، فثورة الجائعين لا ترحم.(43/213)
أما نظام الحرية المطلقة دون حدود، والذي تبنته أمريكا، فقد اتخذ في صراعه مع النظام المغتصب للحرية إلى أبعد الحدود، لتدويل نظامه، طرح مشاكل وحلول أكثر دهاءً وخبثاً ومضاءً. لقد استغل الحربين العالميتين بعدم اشتراكه الظاهري فيهما، وقد يكون هو نفسه قد أشعل فتيلتهما، فزودهما بالسلاح والعتاد والغذاء والجواسيس، واستطاع بذلك أن يحسم نتيجة الحربين لصالحه، استراتيجياً، واقتصادياً، وعسكرياً، ومالياً. وبينما خرج الجميع من الحربين منهارين على كافة الأصعدة، خرج وحده متخماً بالأموال والمنتجات على اختلاف أنواعها، ولابد له من أسواق لها. فشرع بنشر مظلته الإنسانية، مبتدئاً بتقديم مساعداته المالية لإعمار ما خربته الحروب، ومنها مشروع "مارشال" لإعمار أوروبا، الذي أدى في الواقع، إلى سيطرة شركاته الكبيرة الأم على الاقتصاد الأوروبي ذاته، وخلق شركات أوروبية فروعاً لها ملحقه به.
كما هب لمساعدة بلدان العالم الثالث على تخليصها من الاستعمار السياسي الأوروبي -حسب زعمه- ليحل في أسواقها استعماره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي والمالي، باسم التطور والازدهار ومحاربة الفقر والحرمان. وهكذا فقد عانت هذه البلدان من التأرجح، خلال مدة تزيد على النصف قرن، بين أيدي القائمين على النظام الحر الرأسمالي من جهة والنظام الماركسي من جهة أخرى، مع كل ما تلا ذلك من أشكال الانقلابات في البنيات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والعلمية والثقافية.. الخ. من وقت لآخر، حسب النظام، فلم تعد الشعوب تدري ماهي، وماهي هويتها، وماذا تريد...!..
ومن استعراض المشاكل والحلول التي طرحها النظام المذكور، وفرضها على العالم أجمع، والنتائج التي آلت إليها نرى:
أنه نادى بنظام الحرية المطلقة من كل حدود، معتبراً أن مصلحة الفرد دون رقابة ولا توجيه، تتوافق مع مصالح المجتمع، وأنها أكبر قوة دافعة لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية، وأنها أفضل ضامن لتحقيق إنسانية الإنسان وكرامته الشخصية...!.
إن النتائج التي آلى إليها تطبيق نظام الحرية المطلقة المذكور، تحرر الإنسان من كل الروابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية والحضارية والإنسانية...الخ.فيما عدا المادية... إنها تفترض أن كل إنسان على وجه الأرض هو في قرارة نفسه إنسان اقتصادي مادي فردي وجشع كالإنسان الأمريكي، ليس له إلا هدف واحد في الحياة هو المصلحة المادية. إن هذه القاعدة -في الحقيقة- لا تنطبق إلا على المجتمع الأوروبي نفسه الذي غزا أمريكا وأباد شعبها الأصيل بكافة صنوفه الوحشية المادية المستمدة من طابعه الفكري والروحي، ومقاييسه الخلقية والعملية من الجبروت والتسلط والاستهتار بكل إنسان، وتلاه الصهاينة، المتمرسون على يده، في إبادة الشعب الفلسطيني وتشريده طاعة لحكم إلههم المزعوم -كما يدعون-.
إلا أنه من خلال الاستعمار الثقافي وغسل الأدمغة الدائم لكافة شعوب العالم عن طريق التطوير المفروض، سرت هذه المعايير إلى كل ركن من أركان المعمورة. فقوانين الأقطاب الكلاسيكيين الأوائل. والكلاسيكيين الجدد، والتي تقضي بتخصيص العامل بجزء من الإنتاج يكفي فقط لقيمة المواد الغذائية الرئيسية القادرةعلى إعاشته للاحتفاظ بقواه اللازمة للعمل، لم تقتصر فقط على العامل الأمريكي، وتجعل ما يزيد على أربع، أخماس الطبقة العاملة لا تتوصل حتى للكفاف في معيشتها، بل سرت بسرعة البرق إلى كل جزء من أجزاء المعمورة، وحتى للبلدان الاشتراكية بالذات قبل سقوطها، والتي ينادي مذهبها بحق العامل بأكبر حصة من الإنتاج (فرق القيمة)، كما ذكرنا.
لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والمصالح الفردية، في ظل الحرية المطلقة، أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة، بل -على العكس- إلى تخفيض نفقات الإنتاج عن طريق سرقة أجور العمال، فعلى سبيل المثال: إن أمريكا، أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء في الوقت الحاضر، أصبحت أكثر اقتصاديات العالم رخصاً للأجور وسلباً لحقوق العمال، وتسريحاً لهم، دون حق أوضمان. وهذا لايعني أن المجتمع الأمريكي هو الأفقر، كما ذكرنا، إذ لم يسبق أبداً أن حازت أمريكا، في ظل نظام العولمة الجديد، الذي تستغل فيه ثروات العالم أجمع، على ما بحوزتها اليوم من الثروة والدخول.
إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن هذه الثروة والدخول، تنحصر فقط بالخمس الثري فقط من الأمريكان. وحتى في إطار هذه الفئة، فالدخل يتوزع بشكل متفاوت للغاية، فواحد بالمائة من أغنى الأغنياء (أي حوالي نصف مليون أمريكي)، يملكون اليوم ثلث الثروة التي هي من حق جميع السكان، ويحصل غالبية المديرين على رواتب زادت بمعدل 250% خلال سبع سنوات، في الوقت الذي انخفضت فيه القوة الشرائية لبقية العاملين بين 11 و25% حسب الفئات. وما ذلك إلا إكراماً للمديرين المذكورين لجهودهم المبذولة في الوصول إلى تخفيض تكاليف الإنتاج عن طريق سرقة العمال مهما كانت الوسائل.(43/214)
وكما قال (لسترثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن مَنْ في أمريكا من رأسماليين قد أعلنوا الحرب على عمالهم، وأنهم قد فازوا فيها"...
في الواقع، إننا نعيش فترة الثورة المضادة على العمال في جميع بلدان العالم دون أن يتوصلوا -هم أنفسهم- إلى إعلان ثورتهم...!.
أما علاقة الحرية المطلقة بتنمية الإنتاج، وسد حاجات جميع السكان، فإنني لأتساءل ماهي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الاستهتار بالقيم الإنسانية والأخلاقية، والألوان التي لا حد لها من الجشع والطمع؟ إنها -بدون شك- المشاريع التي تكتلت وحطمت غيرها من المشاريع الصغيرة والمتوسطة (دون حاجة إلى تأميم)، وقضت على كل لون من ألوان التزاحم الشريف، عن طريق الاحتكار. كما أن الزيادة في الإنتاج لم تقترن بانخفاض الأسعار لتسد حاجات جميع السكان، لفقدان المزاحمة، بل على العكس، فقد خفضت القوة الشرائية للقوة العاملة إلى أدنى المستويات، لدرجة اضطرت القسم الأكبر من العمال إلى العمل في عدة مجالات لتغطية نفقات عائلاتهم، وحرمتهم من المتعة والراحة العائلية حتى أيام العطل والأعياد.
والأدهى من ذلك، اعتبار الحرية المطلقة تعبيراً عن الكرامة الإنسانية...!
وهنا أيضاً لابد من التساؤل عمن طالتهم هذه الحرية، وهذه الكرامة الإنسانية؟ لقد انحصر حق الحرية والديمقراطية المزعومة قطعاً، في حرية قبضة من الأمريكان الصهاينة، وأتباعهم وأذنابهم في كل مكان: من مجرمين، وقطاع طرق،ومضاربين، وتجار جنس، وخاطفين للأطفال، والشبان، من فتيان وفتيات، وتجار الدم الفاسد الملوث بجراثيم الإيدز، ومهربي المخدرات، والمتجولين في الملوثات المبيدة للجنس البشري، ومفجري الحروب، وبائعي الأسلحة، وزارعي المتفجرات...!.
فهؤلاء هم الذين يملكون في الوقت الحاضر، القسم الأكبر من الثروة، ويتحكمون بحياة الشعوب ومصيرهم، وهم أصحاب الكرامات، وأصحاب الحق في الحياة وهم دعاة حقوق الإنسان، والذين يصلبون الإنسان في كل مكان....
ومن أبرز تناقضات هذا النظام بأنه يرتكز -بالدرجة الأولى- على زيادة الاستهلاك لتسريع جملة الإنتاج -وإذا به يقضي على مستهلكيه بالذات، ويراكم الإنتاج ليفسد في مخازنه ومستودعاته، وكأن زيادة الإنتاج هي للإنتاج بالذات فإلى متى سيعيش هذا النظام؟!….
مما لاشك فيه أن المبالغة في التطرف التي وصل إليها هذا النظام، سوف تقضي على النظام ذاته بذاته، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وهاهي الأنظمة المتفرعة عنه تتساقط تباعاً، فلجوء المرابين إلى المضاربات بالأسهم والعملات بدلاً عن الإنتاج لكسادة وللحصول علىأرباح ولو بالقيود أدى إلى الانفجار الرهيب لفقاعاتها منذ عام 1997، ابتداءً من النمور الآسيوية، إلى الأعجوبة اليابانية إلى كبريات الدول الاشتراكية منذ أن بزغ فيها أول شعاع من الحرية، فدول أمريكا اللاتينية والبترولية، والبقية تأتي...
كما أن عام 1999 يحمل في طياته الأخطار المرتقبة والانهيارات المتوقعة لبداية القرن المقبل في كل من أمريكا وأوروبا بالذات، والذي تحاول الكتلتان الحاليتان معالجته، في الوقت الحاضر -عن طريق الحروب الطاحنة بكافة أنواع الأسلحة، للهدم، وإعادة إنتاج الأسلحة وإعادة البناء... إنها -في الواقع- بذور الانحلال التي سوف تقضي على هذا النظام، ولم تعد تنتظر الإمهال...
فما هو البديل إذاً...؟
مما لاشك فيه أنه لا يوجد ثمة بديل واحد ناجع للعالم أجمع، وإلا فإننا سنقع، بأخطاء النظامين السابقين نفسها. بل هناك لكل شعب بديل ولكل حضارة بديل... وإذا كنت أرى أن الإسلام الذي أثبت خلال قرون عديدة أنه خير نظام أخرج للناس، وخير من خلص الشعوب التي خضعت لامبراطوريته الممتدة شرقاًوغرباً وشمالاً وجنوباً من الظلم والفقر والحرمان، ودفعها إلى استثمار خيرات بلادها بذاتها ولذاتها، وحسب طاقاتها وعلومها وثقافاتها وحضاراتها دون أن يزيلها، بل زاد عليها، وزود النفوس من الداخل بوقود من المميزات الحسنة التي اختارها الله لبني الإنسان، وشذبها من الشرور العالقة فيها، والتي تأتمر فيها نفس الإنسان، وحثها على أن تسعى جاهدة لاكتشاف المزيد من خيرات الله فتأكل من رزقه وتقاسم المحرومين والعاجزين عن العمل في حقهم بثروات الله.. إذا كنت أرى ذلك، فإنني لأتساءل هل ترك النظامان الجائران أي مجال أو خيار للحاكمين والمحكومين لتطبيق تعاليم الإسلام في بلاد الإسلام بالذات....؟
فما هو الإسلام؟
الإسلام ثورة تختلف اختلافاً جذرياً عن النظامين السابقين.
يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين العرب والمسلمين، أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة، وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية لخير الإنسانية جمعاء.
لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام، هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الروحي يشكل جزءاً لا يتجزأ من المفهوم الاقتصادي والاجتماعي "لأن الله غني عن العالمين"... و"وما أرسلناك إلا رحمةً بالعالمين"...(43/215)
ففي الوقت الذي يحرر فيه الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية لغير الله، يحرر فيه الثروات الطبيعية من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله. وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين بقوله: "إن العبيد هم عبيدالله، وإن الثروات هي ثروات الله".
من هنا، فقد ناضل النبي(ص) في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والعبودية والاستغلال. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل من العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من المستغلين من الخارج والداخل، ولقب التحرير الأول "الجهاد الأكبر"، والثاني: "الجهاد الأصغر"..
وفي الوقت الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.
فالثورة في الإسلام تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل البورجوازية. أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره، ومن نفس الإنسان بالذات (فالنفس أمارة بالسوء)، إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل صراع الطبقات، وإنما اتخذ طابعاً إنسانياً هدفه تحرير كل إنسان من أية طبقة كان، فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً، ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً.
وإن بإمكان الإسلام أن يحول الجميع إلى خيرين، صالحين، ونبلاء... وبالفعل، فقد أيقظ الإسلام من النفوس، حتى الشريره، مكامنها الخيرة، والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، ووجهها لخير المجتمع وسعادته.
ـ إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، ليس بذلك المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج أو تكديس الأموال على حساب الشعوب، إنه يستمد قيمته من الجهود التي يبذلها بالتقرب من الله، ليس فقط عن طريق الصوم والصلاة، وإنما لنجاحه بمسؤولياته كخليفة الله في الأرض، أي في جهده وابتكاره ونفعه لعباد الله: "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده".
للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي ثلاثة أسس رئيسية تميزه عن المذهبين السابقين التاليين:
1 ـ الملكية متنوعة ومحدودة:
يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي باختلافه عن المذهبين السابقين، بإقراره للأشكال المختلفة للملكية بآن واحد، بدلاً من مبدأ الملكية الخاصة كقاعدة للنظام الرأسمالي، وملكية الدولة للنظام الماركسي.
فهو يقر الملكية العامة، والخاصة، وملكية الدولة.
وينطلق من قاعدة: "الملك على الأرض لله، والإنسان مستخلف فيه لمصلحة كافة عباد الله"، ويستوحي نوع الملكية من الطبيعة ذاتها للثروة الطبيعية وودرجة شموليتها لعناصر الحياة لجميع خلق الله.
فالملكية العامة: كمنابع المياه، والمراعي، والأحراش، ومصادر الطاقة...الخ..! عموماً هي كالشمس والهواء والماء، ملك لجميع مخلوقات الله. فهي ملكية مشتركة لا يجوز الاختصاص بها.
والأرض العامرة، هي ملك الخليفة ، باعتبار المنصب لا الشخص، وكذلك الأرض الميتة، أي أنها ذات طابع عام (ملك دولة)، ولا يجوز تملكها إلا بحدود العمل فيها. والعمل في الأرض يعطي العامل حق الانتفاع بالأرض فقط مادام عمله مستمراً فيها، فإذا ما توقف عن استغلالها انتزعت منه وأعطيت لغيره. فالإسلام إذاً سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود، أي قلص منها وضغطها لتتحول إلى أداة لتحقيق الهدف وهو خلافة الله في تحمل المسؤوليات لإشباع حاجات الإنسانية المتنوعة، وليس غاية بذاتها، تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شرهاً لا يرتوي ولا يشبع. قال رسول الله (ص): ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدقت فأبقيت (أبقيت أي معوض عليك)، وما سوى ذلك، فأنت ذاهب وتاركه للناس.
2 - الحرية الاقتصادية في نطاق محدود:
وكذلك، فالحرية في النظام الإسلامي محدودة أيضاً، فليست منطلقه من عقالها، كالنظام الرأسمالي، وليست مسروقة كالنظام الماركسي، والتحديد الإسلامي إما أن ينبع من أعماق النفس، ويستوحي من المحتوى الروحي والفكري للإسلام ويسمى التحديد الذاتي، أو يأتي من قوة خارجيه تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه حسب أحكام الشريعة ويسمى التحديد الموضوعي. وقد ثبت أن التحديد الذاتي أشد مضاءً من التحديد الخارجي، وقد كانت له نتائج رائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي، ويكفي من نتائجه أنه ظل وحده الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح التجربة مدة قرون عديدة، فما زال عدد كبير من المسلمين يقدمون بملء حريتهم علىدفع الزكاة، والتضامن مع أخواتهم المحتاجين، سراً وجهراً حتى الآن.
لقد ثبت أن مصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان. فحيازة الأشياء من مظاهر غريزة البقاء في الإنسان،ومن طبيعة الإنسان السعي في الأرض لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا ما انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل.(43/216)
كما ثبت أن إطلاق الحرية من عقالها، أدى إلى انحصارها في طبقة ضئيلة أزاحت من طريقها الطبقات الأخرى، واستأثرت وحدها بالثروات على اختلاف أنواعها، إنه مخالف أيضاً لطبيعة الإنسان، ومانع له من السعي في الأرض، وتحطيم له ولميزاته في الإبداع. فكأن الأمريكي وحده خليفة الله في الأرض، وحده المكلف بالإبداع، وحده المكلف بالإعمار، ولوحده الحق بثروات الله، وله مطلق الحرية أن يبيد ما سواه من عباد الله.
وهكذا، فالحدود التي فرضها الإسلام، والمحرمات التي منعها والمباحات التي أباحها، تنبع -في الوقت نفسه- من مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:
لقد حضّ الإسلام على تنمية الإنتاج، كالنظام الرأسمالي، إلا أنه ربطها بالتوزيع، فتنمية الثروة في الإسلام ليست غاية بذاتها، وإنما لما تحققه لأفراد الأمة من يسر ورخاء، وما توفره لهم من الشروط التي تمكنهم من الانطلاق لتحقيق مواهبهم الخيرة والإبداعية وتحقيق رسالتهم كخليفة لله في الأرض، فإن لم يفعلوا لانتزعها الله منهم (إن يشأ يذهبكم، ويستخلف من بعدكم ما يشاء).
فالتنمية إذاً، ليست للأجنبي ورؤوس أمواله ومضاربيه ومرابيه على كافة المستويات.
ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات أمام التنمية والازدهار الاقتصادي، لكونه يحجز المال عن الإنتاج، وأنجع الوسائل لسرقة أموال الناس وتكديس الأموال دون جهد وعناء.
والبديل عنه في الإسلام هو توظيف هذه الأموال في مشروعات إنتاجية لاستثمار الثروات، وتأمين خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الإنتاج ليتقاسم ريعه العاملون وغير العاملين من المحتاجين والمحرومين من العمل. كما أنه أكثر ضماناً لصاحب رأس المال، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما هو الحال في المضاربات المالية والإفلاسات المصرفية السائدة حالياً.
وكذلك فقد حرم كنز المال، لأنه يعني أيضاً انخفاض كمية الثروة المنتجه، ومن ثم تقليص فرص العمل وحصول البطالة، مما يزيد حالات البؤس والشقاء:
الآية: ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[.والآية:]ويل لكل همزة لمزة....[ الخ، وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز، بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول، وتشجع عليه بنظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر بن الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها..".
ومن مضار كنز المال الاقتصادية أن تجميع الثروات في أيدي الأفراد دون استثمارها يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب فتتوقف عن الاستهلاك، فتتكدس المنتجات دون تصريف ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:
انخفاض الاستهلاك= كساد= توقف عن الإنتاج= إفلاس= زيادة بطاله= مجاعة...
وحض الإسلام على الاكتفاء الذاتي، ونهى عن التبعية الاقتصادية في المأكل والملبس، وهي ما فرضه النظام الرأسمالي على كافة شعوب العالم:
"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع"..
فهو يحصن الأمة من الوقوع تحت رحمة غيرها من الاستعمار الغذائي، الذي هو أشد مضاءً من كافة أنواع الاستعمار، ويحميها من حالات وقوع الكوارث لدى الطرف الآخر فيتوقف عن تغذيتها...
كما حض الإسلام على توجيه المال للإنتاج أكثر منه للاستهلاك، على عكس المجتمع الاستهلاكي، فيأكل الإنسان بذلك من إنتاجه وليس من رأس ماله، فيستفيد ويفيد المجتمع معه.
وحرم المخاطرة كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، ويعرض الفرد وعائلته، ومن ثم المجتمع من خلفه إلى الانحلال.
ومنع إنتاج المواد الضارة والمحرمة وذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة، ونهى عن التقتير والإسراف. ويكفي أن نعلم حجم المليارات من الدولارات التي تتفق حالياً على مباريات الكرة وحدها في العالم، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع كل عام، بالإضافة إلىمايبدده المجتمع الاستهلاكي من ثروات الطبيعة ليكدسها، في جبال شاهقة من المزابل، أفسدت الأرض والسماء والبحار والأنهار.
ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض، وإفساد الطبيعة قبل أن تفسد في الوقت الحاضر: الآية: "ظهر الفساد في البر والبحر بماكسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"(صورة الروم-41).
والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة، وهو نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واستهتاره بقوانين الطبيعة، واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته، وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يرتدعون.
ولذا فقد حض الإسلام على ضرورة المحافظة على التوازن في الطبيعة:
مراعاة لقوانينها، وذلك قبل قرون عديدة من علماء العصر الحاضر...(43/217)
الآية: ]الأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزون، لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين[.
والآية :]وإن من شيء إلا وعندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر ٍمعلوم[.
(سورة الحجر 19-20)
وكلنا يعلم أن التنافس المستشري على الثروة في النظام الحر، ونضح الموارد الطبيعية بنهم، قد أنهك هذه الكرة الأرضية، وأربك توازنها. فالهزات الأرضية المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والعواصف والأعاصير المتلاحقة، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، وهي مثال صارخ على اختلال التوازن في الطبيعة.
ولذا، تقرر القاعدة الفقهية الشهيرة أن "لا ضرر ولا ضرار". فحرية الفرد محدودة بمصلحة المجتمع والعالم أجمع.
من كل ما تقدم، وهذا غيض من فيض، نرى أن الملكية العامة تشمل القسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وهي كملك الله، بالإضافة إلى الملكية الخاصة المحدودة بمصالح المجتمع، تضمن تطبيق العدالة الاجتماعية في الإسلام.
3 ـ العدالة الاجتماعية:
وهي تعني حق جميع الناس، العاملين منهم والمحرومين من العمل، والفقراء والمحتاجين بأخذ نصيبهم من موارد الطبيعة، وخيراتها التي خلقها الله لعباده، وحقهم بالحياة الكريمة اللائقة كبشر.
ويرتكز الضمان الاجتماعي في الإسلام على أساسين:
ـ الأول: التكافل العام بين أفراد المجتمع.
ـ الثاني: حق الجماعة على الدولة في تأمين الضمان الاجتماعي وفرص العمل للجميع. فالأول مفروض على الأفراد فيما بينهم، ]إن في أموالكم حقٌّ معلوم، للسائل والمحروم[، ]كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[، أي تعتبر هذه القاعدة جميع العاملين والمستثمرين لخيرات الله بمنزلة الحاكم المسؤول عن الرعية في إشباع الحاجات الضرورية للمحتاجين، عن طريق الزكاة.
وإنها حق لهم وليست هبة أو صدقة.
ـ والثاني يفرض على الحاكم أن يؤمن العمل لمن ليس له عمل، والحياة الكريمة لمن لا يقدر على العمل"الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته".
وإذا كانت الزكاة هي وسيلة التكافل بين الأفراد، فإن إقطاع الأراضي غير المستثمرة وتقديمها هي وسيلة الحاكم. أي أن الإسلام يلزم الحاكم بتقديم مساعدته من أملاك الدولة، كمساعدة للعمل والإنتاج، لا للاستهلاك فقط، فيحقق بذلك الفائدة للفرد والمجتمع بآن واحد.
وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع، الحق على مال المجتمع كما لو أنه ليس ملكاً لأحد:
"إذا بات مؤمن جائعاً، فلا مال لأحد".
ولذا، فعلى الدولة أو الحاكم أن تضمن للعاجز عن العمل حقه في ثروات الله باعتباره من مخلوقات الله التي تكفل بها سبحانه وتعالى:
قال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فإلينا"..
والكل هو الضعيف...
وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، أن تحجب الرعية عن طاعته: "إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم... عن الخليفة عمر بن الخطاب.
ولا يختص هذا الحق بالمسلم فقط من المحتاجين، وإنما يشملهم إلى الذمي أيضاً" فكلهم عباد الله، والله رؤوف بالعباد". من كل دين وكل طائفة وكل مذهب وكل عرق أو لون...
ويمتد هذا الحق، وهذه المسؤولية حتى إلى الشاة الجائعة:
"إن كان في أقصى المدينة شاة جائعة، لكان عمر المسؤول عنها".
ولا تقتصر مسؤولية الدولة أو الحاكم بضمان الحاجات الأساسية فقط، للمحتاجين، بل تعدتها إلى الحاجات الكمالية أيضاً:
عن الإمام الصادق: "إن الله فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم".
وبفضل هذه العدالة الاجتماعية ازداد الشعور بالمسؤولية لدى المسلمين، وأقبلوا على الإنتاج والإبداع وتسابقوا إلى عمل الخير بشغف دون إكراه أو إرغام، لدرجة قلما كان يوجد في بعض المناطق من يستحق الزكاة.
وهكذا، فقد لعب الدين دوراً هاماً في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية، مما لم يتمكن المذهب الماركسي العلماني من الوصول إليه عن طريق القوة وسلب الملكية، ولا المذهب الرأسمالي من إيقاف الدوافع الذاتية عند حدها دون دافع ديني. فالمكلف بالضريبة في النظام الرأسمالي يلجأ إلى التهرب منها بكافة الوسائل، إذ يرى فيها خسارة حقيقية غير معوضه، فلا خلود لغير المال ولا سعادة بغيره.
من كل ذلك إنني لم آت بشيء جديد، فقد أسهب العلماء والفقهاء في بيانه إلا أن السؤال الذي أطرحه بصفتي اقتصادية هو:
لماذا جعل الله للسائل والمحروم والعاجزين عن العمل... الخ. حقاً في مال الأغنياء، وليس مجرد هبة أو صدقة؟....
فالزكاة، أهم مورد يغذي بيت المسلمين، هي من أهم وسائل الضمان الاجتماعي لقيمتها، ليس فقط الاجتماعية والإنسانية، وإنما الاقتصاديه أيضاً. وتقدر بربع العشر من المال المدخر،وتهبط إلى عشرين ديناراً.
(حسب القوة الشرائية آنذاك).
وأصحاب الحق في الزكاة هم حسب قوله تعالى:
]إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل[(التوبة /60/).
ـ كما تتوجب في حالة حصول خلل في التوازن الاقتصادي.(43/218)
"حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم".
كما هو الحال في الوقت الحاضر. فرأس المال يمسك زمام الحكم في كل مكان.
ـ كما تعتبر ضريبة تمنع تمركز الثروة بأيدي ضئيلة تجردها عن الاستثمار. فهي بمثابة مصادرة تدريجية للمال المجمد وإدخاله في حوزة النشاط الاقتصادي. ولئلا تخلد الناس إلى الكسل والتواكل على الغير، فقد حض الإسلام على العمل في كسب الرزق، وجعل: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، أي كلفكم بإعمارها.وجعل العمل سبباً لتملك الأرض: "من أحيا أرضاً فهي له"..
وحض في الوقت نفسه على العلم وجعله توأماً للعمل:
"العلم والعمل توأمان"، لكي يستفيد العلم من خبرة العمل، ويستفيد العمل من صحة العلم.وجعل العلماء بمثابة الأنبياء.
فللزكاة، مما لاشك فيه، منافع اقتصادية عديدة، ولكن لماذا جعلها الله حقاً للسائل والمحروم... الخ... وليست هبة أوصدقة؟.. بقوله تعالى: ]إوالذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم[...
والجواب على ذلك يكمن -على ما أعتقد في الآيتين الكريمتين التاليتين:
ـ ]الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار[.
ـ ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[..
أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق جميع الكائنات على وجه الأرض، خلق لهم فيها مايكفيهم جميعاً. وإن ما على سطح الأرض ومافي جوفها وسمائها هو ملك لله وحده، ومخصص لجميع عباد الله. وما الإنسان العامل إلا مستخلف من قبل الله لاستثمار خيراته. فالامتناع، عن استغلالها أو المنع من ذلك، يحول دون الوصول إلى مرتبة خليفة الله.
أما العاجزون عن العمل والمحرومون منه، والبؤساء.. الخ، منهم أيضاً عبادالله، ولهم نصيبهم مما خلق الله، فهو خالقهم وكافلهم أيضاً.
وتبدو نعمة الله تعالى على الإنسان في زراعة الأرض، على سبيل المثال، بتقديم التربة الصالحة للزراعة، والمواد العضوية التي يحتاجها البذار للإنبات، بل والبذرة الأولى، والشجرة الأولى، والماء الذي يهبط من السماء أو ينبع من الأرض، والشمس التي تؤدي إلى عملية الإنضاج، والرياح للإلقاح... إلى آخر ما هناك مما نعلم وما لا نعلم: فهذه كلها حصل عليها الزارع هبة من عند الله وهي لعباده كافة.
كما أن النحل، ليس بحاجة لأي جهد من الإنسان في صنع العسل فكله من عند الله.
وبينما لا يصيب التوزيع الحالي من الإنتاج، سوى المالكين للأرض ورأس المال وأدوات الإنتاج، ويعطي أجراً للعامل فقط، فالإسلام يصيب بالتوزيع من الإنتاج نفسه بالدرجة الأولى العامل، والمحرومين من العمل، ولا يعطي رأس المال وأدوات الإنتاج إلا أجراً فقط.
فالمحروم من العمل له الحق إذاً بحصته من وسائل الإنتاج الإلهية المخصصة لجميع عباد الله، لعظم أهميتها في عملية الإنتاج، واستحالة الإنتاج بدونها. وقس على ذلك في استخراج البترول، والحديد، والذهب، وكافة الفعاليات الإنتاجية.
هذا، وختاماً للمقارنة، بينما يقول "آرثر يونج"، في القرن الثامن عشر: لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة وإلا فإنها لن تكون مجتهدة".
ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء، إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله، أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب (مالتوك)؛ يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف عام: "إن الفقر والحرمان ليس نابعاً من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي تربط الأغنياء بالفقراء"، فيقول الإمام علي كرم الله وجهه:"ماجاع فقير إلا بما متع به غني".
إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع لا يمكن أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية، أو الصناعة اليدوية، إنه يكمن في الإنسان ذاته الذي رباه الإله فأحسن تربيته. ولذا فإنهم يخشون الإسلام، ويتعاون النظامان على طعن الإسلام والمسلمين في كل مكان..
إنني على يقين، إذا ما طبق هذا النظام من العدالة الاجتماعية بشكل عالمي، لكان بالإمكان مكافحة الجوع والموت جوعاً (نتائج النظامين المذكورين)، في غضون أشهر، بل وأيام. فالخزائن تغص بالمواد الغذائية على اختلاف أنواعها، بينما يفضل المحتكرون أن تفسد في مخابئها، أو ترمى إلى البحر، على أن يمد بها في عمر الأحياء المتضورة من الجوع...
إن مكافحة الجوع لا تحتاج للمؤتمرات والتسويفات التي، حتى إذا صدقت النوايا فإنها (كمؤتمر القمة العالمي للأغذية المجتمع عام 1998)، تمهل الهياكل العظمية التي نخرها الجوع إلى عام 2005 لتغذية نصف عددهم البالغ 800 مليون نسمة (حسب أرقام المؤتمر العام 1996)، وهي ليست جادة في ذلك، وعلى أية حال، فحتى ذلك التاريخ، فإن العدد المذكور، سوف يتضاعف مرات عديدة وإن مات القسم الأكبر منهم.(43/219)
والسؤال الأخير: كيف يمكن في الوقت الحاضر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بمضمون العدالة الاجتماعية، حتى في البلاد الإسلامية بالذات، إذا كانت الأرض (التي، من المفروض، حسب الإسلام، أن تبقى ملكاً لله، لا يحق للعامل فيها أن يمتلك رقبتها وله فقط حق بالانتفاع منها) وما فوقها وما تحتها إلى أعماق جوفها، بأيدي الشركات الأجنبية، وأصبح العمل فيها ووسائل العمل بأيدي هذه الشركات، وأصبح المحصول ومردود المحصول أيضاً ملكاً لها؟!...
وكيف يمكن أن يبقى في هذه البلدان حق من الإنتاج لغير العامل والسائل والمحروم من العمل، وما أكثرهم، إذا كان العامل نفسه وابن البلد نفسه محروماً من هذا الحق؟! لم يبق، في الواقع، للشعوب في بلادها ثمة حق في اقتطاع حجر، أو احتطاب شجر، أو زراعة أرض، أو صيد سمكه، أو حتى عصفور، وليس له حتى حق بمكان للعمل كقصاب أوسمان...؟!...
إنني لأتساءل: من الذي سيقوم بدفع الزكاة؟
أهي الشركات العالمية التي لا تدفع حتى أجراً للعامل الذي تستخدمه يكفيه قوت يومه؟!
أما العمال الذين هم أنفسهم يستحقون الزكاة:
وإذا لم يتحقق هذا الهدف، فماذا يبقى للمسلمين من الإسلام؟!
الموت في سبيل الله؟....!...
أم في سبيل الأمريكان؟....
وكلمتي الأخيرة التي أختم بها هذا الكتاب:
إن أخشى ما نخشاه في هذا الزمان: إذا ماقال أحدنا: "أشهد ألا إله إلا الله"، درج في عداد المتعصبين الإرهابيين، وإذا ما جادل، ولو بالحسنى، صنف في عداد الملحدين المارقين.. وإذا ما لهج لسانه بذكر الماضي، قيل أنه من المقوقعين الرجعيين المنبوذين...
وإذا ما محص في علومه الذاتية، وصم بالجهل والانغلاق...
وإذا مااستند إلى مايدعمه في علوم غيره، فهو عميل محترف... فماذا يريد هذا الزمان من الإنسان؟!...
إنه يرفض الإنسان، كل إنسان...
ولا يسند ويساعد سوى الحروب والتشاحن، والتصادم، والشتات، والجوع، والتجويع، والحرمان، وإهراق الدماء للإنسان في كل مكان....!.
الحصيلة الإجمالية لتدويل النظامين
نعم!... إنها الحروب ضد الشعوب...!
قرن من الحروب، كل أنواع الحروب نتجت عن تطبيق النظامين وتدويلهما ضد الإنسان في كل مكان...
من حروب ضد الأنظمة الملكية تارة، وضد الإقطاعية أخرى؛ ضد البورجوازية تارة، والرأسمالية أخرى؛ وضد الاشتراكية تارة، والطبقة العاملة بالذات أخرى...
قرن من الحروب ضد كل مذهب وكل دين.. ضد البروتستانتيه تارة. والأورثوذكسية أخرى؛ ضد اليهودية تارة، والإسلام والمذاهب الإسلامية فيما بينها أخرى؛ ضد كل عنصر، وكل جنس، وكل عرق، وكل لون، وكل لسان. ضد الآري تارة، والسامي أخرى؛ ضد الأسود تارة، والأحمر والأصفر والأبيض أخرى؛ ضد العرب تارة، والبربر والعجم أخرى؛ ضد العثمانيين تارة والأرمن والأكراد أخرى؛ ضد الأوتو والتوتسي، ضد البوذيين والهندوس والسيخ، إلى ما هنالك على سطح الكرة الأرضية من عناصر وأعراق لا حصر لها....
من حروب مباشرة، تسيل فيها الدماء، وتقوض البيوت على السكان، وتشرد الشعوب المغلوبة على أمرها، من شيوخ وأطفال ونساء، حاملة متاعها على أكتافها عبر التلال والوديان، منبوذة من اللجوء إلى أي مكان، من الشرق إلى الغرب ومن اليمين إلى الشمال...
وحروب غير مباشرة، باسم التطهير والتحديث التعيس.. حروب ضد مأواهم في مدنهم وقراهم ومأوى آبائهم وأجدادهم منذ غابر الأزمان، ضد كرومهم وبساتينهم ولقمة عيشهم، ضد مهنهم وفنونهم ووسائل إنتاجهم، ضد عاداتهم وعلومهم وثقافاتهم، وأديانهم، ضد أجدادهم وأجيالهم وأصولهم وفروعهم، ضد سمائهم ومائهم وبحرهم وبرهم، وضد الطبيعة التي تغذي وجودهم وجميع وسائل حياتهم...!
والأوهى من ذلك، أن كل ما تقدم قد جرى تحت اسم العلم والتطور والازدهار، من العلوم السياسية وثوراتها الديموقراطية، إلى العلوم الاقتصادية وقوانينها التطورية، إلى قواعد حقوق الإنسان، والتي تدعي إنقاذه من الجهل والفقر والتخلف والحرمان وهي التي تصلب الإنسان في كل مكان...
وهي تنحصر، في الوقت الحاضر، بعد أن قضت على الماركسية، وحولت العالم إلى ركام، والبلدان إلى قطعان بلا رعيان، إلى الأهداف التالية:
- إحاطة روسيا وتحطيم آخر معسكر لها فيما حولها
- إبادة جماعية للمسلمين وتشتيتهم في أصقاع الأرض عن طريق إلهائهم في حروب حدودية وداخلية ومذهبية فيما بينهم وثورات، وثورات مضادة تحت حجة رفع راية الإسلام، كما هو الحال في أفغانستان والصومال ومصر والجزائر والسودان، ومجاهدي خلق المعسكرة في العراق ضد الثورة الإسلامية في إيران، والثورة المضادة للإسلام المتوقعة من الطلاب الإيرانيين في أقرب وقت ممكن..
- السيطرة الكاملة على الثروات الطبيعية والبترولية وممراتها، موضوع الصراع في الوقت الحاضر بين الشركات الأمريكية وعولمتها، والشركات الأوروبية وعولمتها المضادة، الذي يجري بحروب ضارية بأيدي الشعوب المغلوبة على أمرها نفسها، وباسم الديموقراطية والحرية.
ما الحل إذاً؟!... وما هو البديل؟!...(43/220)
لا يوجد ثمة بديل واحد صالح لكافة شعوب العالم، وإنما هناك لكل شعب بديل، ولكل حضارة بديل، وإلا فإننا سنقع في كافة أخطاء التدويل السابقة ولكن لابد قبل كل شيء، من إنقاذ ما يمكن إنقاذه:
- خنق رأس المال العالمي وشركاته الاستغلالية بعدم التعامل معها.
- الاعتماد على الذات مهما كانت التضحيات، لتقوم الشعوب ذاتها باكتشاف النهج الذي يلائمها، والذي يتماشى مع تاريخها وحضارتها وعاداتها وعلومها وثقافاتها، ويفجر طاقاتها الإبداعية، ويحفظ لها هويتها ووجودها.
- اختيار مبدأ العدالة الاجتماعية من الإسلام، إلى جانب ما منحتهم حضاراتهم من ضمان. فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه في هذا المجال.
- ولابد لذلك من أن تربى الشعوب على أسس دينية رفيعة، فبدون العامل الديني لا يمكن النجاح والوصول إلى أي هدف من الأهداف. لقد ثبت أن العلمانية والكفر بالله، والتجبر عليه هي من أولى العوامل التي صبغت القلوب بالقسوة، والعقول بالجدب، والنفوس بالظلم والطغيان، والطبيعة بالغضب والانتقام. وهي وراء فشل النظامين في موطنهما وفي كل مكان...!
×××
ملحق
إلى إذاعة لندن
موضوع
حقوق الإنسان في الإسلام
رداً على ما جاء في إذاعة لندن الناطقة باللغة العربية بتاريخ9/11/1998، من مقابلة ومناظرة بين مهاجم لحقوق الإنسان في الإسلام ومدافع عنه* إنني أجيب:
استمعت في التاسع من شهر تشرين الثاني إلى مناظرة إذاعية حول موضوع حقوق الإنسان في الإسلام الذي أثير في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في جنيف من الشهر نفسه. وقد لفت انتباهي أن المهاجم لحقوق الإنسان في الإسلام جاء باتهامات للدين الإسلامي لا تقل ضلالاً عن تهجمات الصهاينة على الإسلام. ومما التقطته منه بشكل سريع:
- أن الإسلام يأمر بقطع الأيدي والأرجل وسائر أعضاء الجسم، في حالة السرقة، حتى الموت
- أن الإسلام يسرق حقوق المرأة، فهي ترث نصف حق الرجل، وجعل الرجل فوقها درجة.. الخ
- الإسلام يأمر بالجلد للزاني والزانية حتى الموت..
- الإسلام غير ديموقراطي
هذا، إلى آخر ما أحاطت به ذاكرتي بسرعة.
ومما لفت انتباهي أيضاً أن رد المدافع، عن الإسلام جاء مقتضباً للغاية ولم يزد عن قوله:
"العلة في المسلمين وليست في الإسلام"
ولم يفند ويدعم رده بالتفاصيل المقنعة التي تبين أن في هذه الأحكام تكمن حقوق الإنسان، مما جعل كفة المتهجم على الإسلام ترجح كثيراً على كفة المدافع، وفي نظر المسلمين بالذات، وأغلبهم جاهل بحقيقة الإسلام...
ولذا، فإنني أسمح لنفسي بأن أجيب على حجج المتهجم على الإسلام ونعته له بأنه ضد حقوق الإنسان، بشيء أكثر من التفصيل، مع اعترافي بأن المسلمين في الوقت الحاضر ليسوا من الإسلام في شيء.
فيما يتعلق بقطع يد السارق..
- إن كان حقاً أن الإسلام قد أمر بقطع يد السارق أو السارقة، إلا أن كتب التاريخ، عن تلك الحقبة من الزمن لم تحدثنا عن وجود مقطوعي الأيدي والأرجل سائر الأعضاء في الطرق بالمئات، بل- على العكس- عن مظاهر السعادة والرفاهية للشعوب بأسرها التي طالتها الفتوحات الإسلامية، بشكل لم يسبق لها مثل قبلها، ولا بعدها. ويمكننا أن نفسر ذلك بالأسباب التالية:
1ً- لأن الإسلام، عن طريق الترغيب أو الوعيد قد حصَّن المؤمن ذاتياً من الداخل ضد المخالفات لتعاليمه ومنها السرقة. لقد صنع الإسلام بذلك ثورة من الإنسان على ما بداخل نفسه من عناصر الشر ودوافع الظلم والفساد والانحلال، وحقنه بفيض من مشاعر النبل والكرامة والعزة والرحمة. فكان المسلم يقبل بنفس طائعة على الأعمال الكريمة، ويحجم عن الأعمال الفاسدة التي نهى عنها الإسلام، أيضاً من ذاته. دون أن يحتاج إلى حسيب أو رقيب.. أو جزاء أو عقاب.
2ً- وليس أدل على ذلك من أنه لم يكن يوجد في بعض المدن الإسلامية (الكوفة) شخص واحد يستحق الزكاة أو يقبل بها، فالأموال التي كانت ترسل إليها كانت تعاد إلى بيت مال المسلمين، فكيف بوجود من يسرق ويستحق قطع اليد؟!…
3ً- إن عدم وجود سارق واحد يستحق قطع اليد في العهود الإسلامية الزاهرة يعود، ليس فقط، إلى الترغيب في الجنة والترهيب من النار فقط، وإنما لعدم الحاجة إلى السرقة. لقد أتاح الإسلام فرص العمل وأمنه لجميع أفراد المجتمع، وحضَّ على دفع الحقوق للعاملين كاملة غير منقوصة "قبل أن يجف عرقهم"، وأنذر الذين يسرقون حقوق العامل من أرباب العمل بقطع أيديهم إذا اضطر العامل أن يعود إلى السرقة مرة أخرى.
"إن عاد عاملك إلى السرقة مرة أخرى قطعت يدك أنت"
أي يد رب العمل..
4ً- أما المحرومون من العمل (لا بدافع البطالة والتسريح والطرد كما يجري حالياً)، فهؤلاء لا وجود لهم في المجتمعات الإسلامية)، وإنما بسبب العجز، والبؤساء والمساكين، فقد جعل لهم الحق شرعاً في جزء مما حصل عليه العاملون من استثمار ثروات الأرض وخيراتها، والتي خلقها الله للناس أجمعين وليست بحسنة أو هبة..
]والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم".(43/221)
فكان ما تدره عليهم الزكاة يكفيهم، ليس فقط لحاجاتهم الأساسية، وإنما الكمالية أيضاً. ولذا، فلم يكونوا بحاجة إلى السرقة، وبالتالي لقطع الأيدي والأرجل وسائر الأعضاء حتى الموت..!
هذا، بالإضافة إلى التكافل والتضامن في المجتمع الإسلامي، حيث يتكفل المسلمون، من أنفسهم، بالمحتاجين من جيرانهم وأقربائهم وحتى الغرباء لشدة ما حضَّ الإسلام المسلمين على ذلك دون أن يشعروهم بذل السؤال
"وأوصاني بالجار حتى حسبت كأن الجار قد يرث"
وما زالت هذه العادة سائرة في المملكة العربية السعودية حتى الآن.
5ً- ولكي لا يدع الإسلام الناس مستسهلين قبول الصدقة، فقد كرم العمل والإنسان العامل أكثر من تكريمه للعابد، وجعل الذي يقدم الصدقة أفضل من يتلقاها: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
لذا، فقد كان الناس يتسابقون على تقديم الصدقة (اليد العليا) أكثر منهم على قبولها (اليد السفلى)، مما لا يدع مجالاً لمن يسرق وتقطع أوصاله الحين، أن الباعة كانوا يدعون مخازنهم ودكاكينهم مفتوحة، ويذهبون لتأديه الصلاة دون أن تمتد إليها يد سارق واحد. وما زال في المملكة العربية السعودية هذا الإجراء ساري المفعول حتى الآن رغم بعد الزمن منذ ذلك الحين حتى الآن.
6ً- وليس أدل على عدم وجود من يسرق في ذلك.
إنهم بفضل التربية الرشيدة للإنسان في الإسلام لم يكونوا بحاجة إلى كافة أنواع الأجهزة الألكترونية لتفادي السرقات كما في مجتمعات حقوق الإنسان في عصرنا الحالي، هذه المجتمعات التي تحولت بجملتها إلى لصوص من كافة المستويات، من أعلى الهرم حتى أسفله. ولو كان علينا أن نطبق عقوبة الإسلام، في الوقت الحاضر، لما وجدنا، إلا النادر من الناس، كامل اليدين أو الأطراف -حسب قول المتهجم-. وهذا، ما يفسر جزءاً من خوفهم من الإسلام.
ففي الوقت الذي لم يكن هناك شخص واحد يستحق الزكاة في عهد الإسلام، وفي الوقت الذي كان يعتبر فيه أحد الخلفاء الراشدين نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الواحدة إن جاعت، "لو كان في أقصى المدينة شاة جائعة لكان عمر المسؤول عنها" يوجد في الوقت الحاضر، في ظل حقوق الإنسان، ما يزيد على أربع مليارات نسمة على وجه الكرة الأرضية حسب الافتتاحية المنشورة في جريدة لوموند ديبلوماتيك لشهر شباط لعام 2000، جائعة تستحق الزكاة، وبما فيها البلدان المدعية أنها ترعى حقوق الإنسان بالذات (في أمريكا، ربع السكان عليهم أن يكفوا حاجاتهم بما يقل عن دولار واحد في اليوم)، ودون أن يوجد مسؤول واحد يرى نفسه مسؤولاً عنهم، بل على العكس، إنهم يعتبرونهم غير أهل للحياة لعدم تلاؤمهم مع الحضارة الحديثة، وعليهم أن يرحلوا، فليس لهم على خوان الحضارة الحديثة شيئاً. هذا، دون الكلام عمن ماتوا ويموتون من الجوع يومياً، ومن يعانون من الحشرجات الأخيرة بؤساً وتشرداً وضياعاً...
إن لنا الحق أن نتساءل في ظل حقوق الإنسان هذه، إنها لأي إنسان؟!…
لاشك أنها لحفنة من المسيطرين المتجبرين الطغاة، الذين وضعوا أيديهم الحديدية على كافة ثروات العالم في الكرة الأرضية بأجمعها، والتي خلقها الله لعباده قاطبة. إنهم مصاصي الدماء، ورجال الشركات العالمية الكبرى، وعلى رأسهم الصهاينة، وإلى جانبهم رجال أعمال من كافة البلدان يساعدونهم في مهمتهم ويتقاسمون معهم جزءاً من حصتهم من السرقة، إلى جانب مهربي المخدرات* الذين ارتقوا إلى الصفوف العليا بين المرموقين المحترمين أصحاب الحقوق في نظام حقوق الإنسان. وهؤلاء لا تتجاوز نسبتهم 2% من الشعوب في بلدان العالم الثالث، و 10% في البلدان المتحضرة.
ب- أما ما يتعلق بالزعم بإساءة الإسلام لحقوق المرأة، وسلبها حقها في الإرث إلى نصف حصة الرجل، فإنني أجيب:
إذا كان الإسلام قد حكم للمرأة بنصف حق الرجل من الإرث، فما ذلك إلا للأسباب التالية:
- إنه جعل واجب إعالتها على الزوج إن كانت متزوجة، وعلى الأخ إن كانت عزباء، وهذا ما لا تحلم به أية امرأة في كافة الشرائع والديانات الإلهية وغير الإلهية (فالمرأة في غير الإسلام، وخاصة في المجتمعات الغربية، لا تحلم حتى بكأس ماء لا تشارك في دفع ثمنه).
- وبذلك، فإن المال الذي ترثه المرأة هو حق لها وحدها لتدخره لمستقبلها فقط، فلا تحتاج إذا ما توفي زوجها أو أخوها أن تمد يدها لأحد، أو تتصرف تصرفاً مشيناً... ولذا، فهي لا تصرف درهماً واحداً من مالها على طعامها وشرابها وكسائها وسائر احتياجاتها.. في ظل حياة زوجها أو أخيها.
- بالإضافة إلى ذلك، جعل الإسلام المرأة مستقلة مالياً عن زوجها وأخيها تتصرف بمالها بمنتهى الحرية، وذلك على العكس من المدافعين عن المرأة في ظل حقوق الإنسان، حيث تحرم المرأة الغربية من الاستقلال المالي، ولا يحق لها أن تتصرف بما لها بحرية، أو تفتح به حساباً خاصاً بها في المصارف مستقلاً عن زوجها، كما أنها لا تنال من أجر على عملها إلا ثلث حق الرجل، للعمل نفسه.(43/222)
- لقد رفع الإسلام من قدر المرأة ومكانتها حين الزواج، ففرض لها حقوقاً على الزوج ولم يدعها لقمة سائغة لكل عابر سبيل وكل مضلل، حتى أن الخليفة علي ابن أبي طالب(ع) أجبره الرسول على بيع درعه وفرسه لكي يجهز بقيمتيهما بيته قبل زواجه من ابنته فاطمة كرم الله وجهها، وذلك لكي لا يدع للمسلمين سابقة بتزويج بناتهم دون حقوق* وصان حقوقها في حال الطلاق لتعويضها عن شبابها الذي وهبته للرجل، ولتستطيع أن تمارس حياتها من جديد بالاعتماد على نفسها.
هذا، عكس ما وصلت إليه المرأة في ظل حقوق الإنسان المعاصر، حيث جعل جسدها مطية لكل مفترس أو عابر سبيل، وشجعها على ذلك بكافة الأساليب، موهماً إياها بأنه يمنحها حقها في الحرية، والتي هي -في الواقع- حرية الرجل بالتمتع بكل امرأة اشتهتها نفسه، وحريته في أن يلفظها، بعد حين، للتمتع بأخرى أصغر وأجمل.. وهكذا.. بعد أن يكون قد سحق نضارتها وشبابها دون أي تعويض أو حساب أو عقاب.
- ولشدة تكريم الإسلام للمرأة، لم يكلفها بأي جهد في رعاية شؤون بيتها، إذ أوجب على الزوج تأمين من يقوم بخدمتها، كما لم يكلفها حتى: بإرضاع طفلها. وكلنا يعلم انتشار وجود المرضعات على نطاق واسع في ظل الحضارة الإسلامية. ولذا، فقد كانت المرأة ترفل بثياب العز والكرامة وتسبغ السعادة والطمأنينة على الأسرة الإسلامية ولم يكن هناك مجال للجلد حتى الموت، لعدم وجود الزاني والزانية في الأسرة الإسلاميه، بينما كلهم زناة في ظل حقوق الإنسان... فلو طبق حكم الإسلام في الوقت الحاضر لما كنا نعلم منْ يجلد مَنْ...! ولذا فهم يخشون الإسلام...
- لقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حقها بالعلم "العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، كما ساوى بينهما في الحق في العمل في كافة الميادين، دون أن يطالبها بكثير من الواجبات وأعطاها ذات الأجر لذات العمل.
فأين المرأة في الإسلام من المرأة في حضن دعاة حقوق الإنسان حيث تعمل كادحة من الصباح حتى المساء، وبأجر لا يوازي ثلث أجر الرجل، وتعود إلى البيت مكدودة بعد أن تلملم أطفالها جارية من مؤسسة إلى أخرى.
وغالباً ما ينحصر عملها بأعمال تافهة عديمة الشأن (سكرتارية، عاملة هاتف.. الخ) فالأعمال الهامة محصورة قطعاً بالرجال.
- أما تفضيل الرجال على النساء بقوله تعالى:
]الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وللرجال عليهن درجة[
فإن كلمة قوامون لا تعني السيطرة والتحكم وإنما القيام بمسؤوليتها والقيام بمساعدتها، وحمل أثقالها، وطفلها، وجلب حاجياتها، وكل ما يعتبر الإسلام أن جسم المرأة وكرامتها لا تسمحان بذلك. ولذلك فإنه شرحها بقوله: "بما فضل الله بعضهم على بعض" أي بما فضل الله الرجل على المرأة بعضلات قوية تقوى على الحمل وتحمل النساء. وحض الرجل على الرفق في معاملة النساء بقوله: "رفقاً بالقوارير" أي النساء*.
على العكس تماماً من الواجبات التي تلقى على جسم المرأة في مجتمعات حقوق الإنسان من قيام المرأة بكافة الأعمال الجسدية المرهقة في المنزل وخارجه. فقلما نجد رجلاً واحداً يتسوق حاجاته في الأسواق أو حاجات بيته، أو يحمل كيساً أو طفلاً أو سواه. وإذا ما اضطر لشراء خبز (باكيت بالفرنسية) فإنه يواريها في محفظته الدبلوماسية عن عيون الإنسان تحاشياً للعار (للأسف، فقد انتقلت هذه العادات إلى مجتمعاتنا الإسلامية، مع الغزو الاقتصادي والثقافي من الغرب، واعتبرت -فوق ذلك- من حقوق المرأة المسلوبة في عهد حقوق الإنسان). أي أن على المرأة أن تكافح لتنال حقها هذا في العبودية...
أما عن الديموقراطية في الإسلام فحدث ولا حرج
فالشورى في الإسلام تستفيض بها كتب الشريعة كقوله (تعالى)
]وأمرهم شورى بينهم[
وكان رأي الشورى مفروضاً ولو كان مخالفاً لرأي الرسول نفسه (ص) مثال: غزوة أحد.
والأمثلة لا تعد ولا تحصى على الديموقراطية والعدالة في الإسلام مما لا يتسع المكان هنا لسردها. ويكفي أن نذكر -على سبيل المثال- أن الخلفية عمر ابن الخطاب قال في معرض إحدى خطبه:
"إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني"
فأجابه أحد المستمعين:
"إن رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا"
فأجابه عمر:
"أحمد الله أنه وجد في أمة محمد من يقوم عمراً بسيفه إن أخطأ"
ولنا في قضية "الإزار الجريح" أفضل مثال على العدالة في الإسلام حيث اشتكى أعرابي للخليفة أن واليه داس على إزاره. فاستدعى الخليفة واليه بحضور الأعرابي وطلب من الأخير أن يدوس على إزار الوالي كما داس الوالي على إزاره...
فائتونا يا دعاة حقوق الإنسان بمثال مثله في ظل حقوق الإنسان في هذا الزمان...(43/223)
ألا فاتقوا الله يا دعاة حقوق الإنسان في الإسلام. فإنه لم يطلب من الجار أن يرفع الفأس ويهوي به على رأس جاره (كدعاة الدين اليهودي، والدين منهم براء) ولا بإبادة شعب بكامله من رجاله لنسائه لأطفاله لشيوخه، بالفؤوس* ولم يجعل من كل عضو من أعضاء المرأة سلعة استهلاكية لرواج بضائعه، ولم يتاجر بالأطفال ويشرد الشعوب التي وقعت تحت حكمه، ويحكم عليها بالموت جوعاً، ويسلبها أوطانها وثروات بلادها، بل على العكس. كانت إسبانيا قبل الإسلام قاحلة جرداء لا تعرف معنى الزراعة، فجعلها الإسلام جنة يانعة، وكانت الهند تعتبر الأرض قبل الإسلام، مقدسة (كالبقرة) لا تمس بمحراث، ففجر فيها الثروات الدفينة لدرجة أنها أصبحت تملك أغنى ثروة طبيعية في العالم. لم يكن في الإمبراطورية الإسلامية شبر واحد من الأرض دون استثمار، إذ كانت القوافل تقطع الطرق الصحراوية التي تفصل بين المدن تحت ظلال الأشجار. ولذا، فقد عمت السعادة والبهجة والرفاهية كافة الشعوب التي استظلت بمظلة الإسلام، وفتحت الأبواب على مصراعيها لدخول الفاتحين المسلمين بناءً على طلب الشعوب المظلومة من حكم الرومان دون حروب أو قتال.
وكما قال أحد المؤرخين الإنكليز "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"...
لقد أوصى الإسلام في فتوحاته لنشر الدعوى الإسلامية بألا يقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً عجوزاً، ولا يقطعوا شجرة، وأن يكونوا رؤوفين بالعباد.
أي أن هذه الفتوحات كانت لصالح الشعوب ولم تكن للهيمنة والسيطرة وضد الشعوب بالذات، كالغازين الحاليين -باسم التطور- لكافة ثروات الشعوب وممتلكاتها. إنهم -في الواقع- يخوضون حروباً ضارية، بلا هوادة، منذ ما ينوف على قرن من الزمن ضد الشعوب بالذات، كافة الشعوب البريئة، بالثورات والثورات المضادة المفتعلة، يبيدون كرومهم وبساتينهم وحقولهم برمتها، يهجرونهم من ديارهم، من القرى إلى المدن فإلى البراكات (براكات الموت) يقضون على مهنهم ويدثرونها، يحولونهم عن ثقافاتهم وعلومهم ولغاتهم وحضاراتهم وكل ما يصبغ ذاتيتهم، ويقطعون موارد رزقهم من أية جهة كانت، ويفرضون عليهم الحصار لكي يموتوا جوعاً، إلى آخر ما هناك من أساليب الإبادة الجماعية في حروبهم فيما بينهم، باسم الحرية والديموقراطية، والتي هي -في الواقع- حرية المبتدعين لحقوق الإنسان بأنها تنحصر فيهم وحدهم كإنسان...
في ظل حقوق الإنسان هذه، سلب وطن بأكمله من شعبه، الذي كان يعرف منذ الخليقة باسمه (فلسطين). وأبيد القسم الأكبر منه، وشرد الأكثر، وحكم على الباقين، ليس فقط بقطع الأرزاق -الذي هو أمر وأشقى من قطع الأعناق- وإنما بالإبادة الجماعية السريعة والموت البطيء معاً. هذا، دون أن يصبح وضع الشعب اليهودي بأفضل مما كان عليه. فالشعب اليهودي -في الوقت الحاضر- في فلسطين، من أتعس الشعوب وأشقاها، دون الأخذ بعين الاعتبار للمظاهر البراقة. لقد حرموا من أوطانهم الأصلية، وأصبحوا عرضة للكره الشديد والرفض من الشعوب الأصلية، مع كل ما يرافق ذلك من عداوات سوف تزداد عمقاً للأبد. وكم من اليهود الشرقيين يشعرون في قرارة أنفسهم بالحسرة واللوعة لمفارقتهم أوطانهم الأصلية التي دفن فيها آباؤهم وأجدادهم الحقيقيون منذ قرون عديدة، ويحنون إلى المعاملة الحسنة التي كانوا يحصلون عليها من العرب في كافة البلدان العربية التي عاشوا فيها سوية.
مما لا شك فيه أن الصهيونية العالمية هي على رأس المبدعين والمخططين والمنفذين لكل هذه المآسي التي اصطبغ فيها هذا العصر. ولم ينج منها اليهود في كافة بقاع العالم. فالدولة اليهودية لم تقم حقاً على الهدف الروحاني المقدس، بل كان هذا هو المحرك للشعوب اليهودية المتدنية لوصول الصهيونية العالمية إلى الهدف الحقيقي وهو الهيمنة على العالم بأسره بكافة صنوفها. فقامت بحملة شعواء لاجتثاث اليهود الأمريكيين والأوروبيين والأفارقة والشرقيين من بلادهم وأوطانهم التي رسخوا فيها منذ قرون، وهم يحملون صبغتها في لون بشرتهم، وعيونهم وشعورهم. وأحجامهم وقاماتهم.. الخ، مع كل ما رافق ذلك من عذاب التشتيت والضياع. فشتات اليهود الفعلي بدأ -في الواقع- منذ تحريضهم على الهجرة إلى فلسطين، بدعوى أنها موطن أجدادهم الأقدمين بوثيقة مختومة من الإله رب العالمين. لقد تركوا -بالفعل- في بلادهم الأصلية، جثث آبائهم وأجدادهم الحقيقيين، بدمائهم التي مازالت ساخنة في قبورهم، لكي يأتوا وينبشوا القبور في فلسطين، ويهدموا الجوامع والمساكن بحثاً عن عظمة واحدة لأجدادهم الأقدمين، ولم ولن يعثروا على شيء، اللهم إلا إبادة الفلسطينيين، ومحو جذورهم وأصولهم وذريتهم...
فالدافع الديني ليس له وجود بالفعل بين 90% من يهود فلسطين، وأن الدينين الحقيقيين فيها هم أكثر شعوبها فقراً وشظفاً في العيش، وخاصة الشرقيين منهم. وهم -في نظر الصهيونية العالمية- لا خير فيهم إلا كترسانة على الحدود، وفداءً لهم في الحروب، وأجرهم على الله، كما يقولون...(43/224)
هذا هو الإنسان المصلح الذي ساد الكون في هذه الأيام، وسن القوانين لحماية حقوق الإنسان (التي هي- بالأصل- حقوقه وحده، والذي أخذ يتجرأ -بكل وقاحة- وظلم- على الإسلام.
ما هذه الحملات الظالمة -في الحقيقة- على الإسلام، إلا لأنهم يخشون الإسلام... نعم! إنهم يخشونه ويعتبرونه عدوهم الأكبر، في الوقت الذي ما عرف اليهود في التاريخ المعاملة الإنسانية الحقة، إلا من الإسلام* لقد عرفوا جميع أصناف الحروب والإبادة من العصور الغابرة حتى العصور الحديثة، ومن الشرق إلى الغرب، ولم يسددوا سهامهم إلا إلى جهة العرب المسلمين.. "اتق شر من أحسنت إليه" هذا صحيح ولكن... إذا اتجه الإحسان للئام:
"إن أنت أكرمت الكريم ملكته
… …وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا"
نعم! إنهم يخشون الإسلام، وإنهم إذ يخشونه فما ذلك إلا لأن الإسلام جاء لسعادة الإنسان، وهم لإبادته وشقائه...
فالإسلام أينما حل، في عهوده الزاهرة، شحن عقول الشعوب بالخلق والعبقرية والإبداع، وأيقظها من كبوتها، فأبدعت بأيديها بالذات، حضارات فريدة من نوعها يعجز القلم عن رسمها، وحلق بها في سماء الكون، وأطفأ الشرور من ثناياها، وبذلك فلم يخشاها...
والإسلام لم يشمخ، ولم يتعال، ولم يصنف الشعوب إلى بهائم وبجم من دونهم، ولا إلى شعب الله وشعب الشيطان، حسب هواهم، بل حض على التواضع والرحمة والإنس في المعاشرة:
]ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا[
] والله رؤوف بالعباد[.
"الناس سواسيه كأسنان المشط"
ولا يكون المسلم مسلماً حقاً، مستحقاً لحب الله ورضاه إلا إذا قام بالقول والفعل بنفع عباد الله كافة
]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[
]أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده[
أي لجميع عباده، لا لطائفة دون أخرى، ولا لدين دون آخر، ولا لجنس ولون وعرق على وجه الخصوص، ولم يفرق بين شعب الله وشعب الشيطان..
والإسلام، لم يضغط بكافة الأساليب الوحشية على الشعوب الأخرى لإبادة نسلها وتعقيمها، واستئصال أجهزتها، لإبادة نسلها واجتثاث أصولها، بل حض الشعوب على الإنجاب:
]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[
وحض الأبناء على رعاية آبائهم في شيخوختهم، لا أن يدعوهم يموتون كما في البلدان المتطورة وحيدين لا يشعر بهم أحد إلا بعد أن تنتشر روائح جثثهم المتفسخة، فيهرع الجيران للإبلاغ عنهم، أو بين أيدي الغرباء الفظة في المصحات وبيوت العجزة
]وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.. الخ[
وبذلك، رانت السعادة على الشعوب التي دخلت في الإسلام بشكل لم تعرفها في أي عهد من عهودها السابقة، وهكذا، فإن المتجول في أنحائها لم يجد أثراً لمقطوعي الأيدي والأرجل وسائر الأعضاء تزحف على بطونها...
أعتقد أنني بمثل هذه التفاصيل أستطيع -لحد ما- أن ألقي بعض الضوء على ما جاء في مناظرة السيدين المذكورين سابقاً حول حقوق الإنسان في الإسلام.
إن ما جئت به ما هو -في الواقع- إلا غيض من فيض، يحتاج إلى مجلدات لتغطيته، مما يتعذر على كافة العلماء والفقهاء أن يحيطوا به مجتمعين.
وهل يمكن لأية قوة الكترونية أو سواها، مهما كانت درجة فعاليتها، أن تحصي الذرات المنطلقة من شعاع من النور أضاء الكون بأسره من رب العالمين، وبلسان نبيٍ كريم؛ بجله تعالى بقوله:
]وإنك لعلى خلق عظيم[
صدق الله العظيم...
- ×××× -
المصادر:
- القرآن الكريم
"نهج البلاغة"، الإمام علي بن أبي طالب (ع)
- "اقتصادنا"، السيد محمد باقر الصدر، الجزء الأول والثاني، وهو -على ما أعتقد- أفضل كتاب إسلامي تناول النظريات الثلاث وقد اعتمدت عليه في قسم كبير من المعلومات الإسلامية،
-وعنه المصادر التالية:
- "دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع"، ستالين
- "ضد دوهريك"- انجلز
- "التفسير الاشتراكي للتاريخ"، إنجلز
- "المادية الديالكتيكية"، موريس كونفورت
- "دور الفرد في التاريخ"، بليخانوف
- "رأس المال"، ماركس
- محمد باقر الصدر "L, Islam conduit la vie"
- "دور الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية"، العلامة السيد محمد باقر الحكيم- مجلة الثقافة الإسلامية- دمشق
- "بعض اتجاهات المنهج الإسلامي في المسألة الاقتصادية"، الدكتور: أحمد فتحي بدرخان، المرجع السابق
- "الروح الحزبية في الفلسفة" بليخانوف
- "العلاقات بين النظم الاشتراكية ودول العالم الثالث"، رسالة دكتوراه في العلوم الاقتصادية والمالية- جامعة السوربون- باريس -1- 1976 (عن الفرنسية)، للمؤلف.
- "التكنولوجيا الحديثة، الديون والجوع، وربما نهاية العالم" رسالة دكتوراه في العلوم الاقتصادية والمالية -1985- للمؤلف (مترجمه للغة العربية)
- "العولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، والتفتيش عن طريق بديل" للمؤلف
محاضرة في مؤتمر أوتاوا في كندا 1997، ومؤتمر ليليا باسو في روما 1998 (مترجم للغة العربية) للمؤلف
- "اليمن بين قديمه وحديثه" للمؤلف.
- "الأوضاع الاقتصادية والمالية للدول العربية"، التقارير السنوية لاتحاد المصارف العربية الفرنسية في باريس للأعوام (1976 حتى 1982) للمؤلف.
وعن كتاب اقتصادنا للإمام محمد باقر الصدر:(43/225)
- "الوسائل" للشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن
- "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" الشيخ محمد حسن النجفي
- "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"
- "الأحكام السلطانية" للماوردي
- "قواعد الأحكام" للعلامة الحلي
- "المغني" لابن قدامة
- أصول الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليبي.
××××
ضبط الآيات القرآنية
م …الآية الكريمة …رقمها …السورة …ترتيبها …الصفحة في الكتاب
1 …(إنّ الله غني عن العالمين …97 …آل عمران …3 …47
2 …(إنّ النفس لأمارة بالسوء) …53 …يوسف …12 …48
3 …(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) …59 …النساء …4 …54
4 …(إنّ الله غنيٌّ عن العالمين) …97 …آل عمران …3 …55
5 …(المال والبنون زينة الحياة الدنيا …46 …الكهف …18 …55
6 …(وإذ قال ربّك إني جاعل في الأرض خليفة) …30 …البقرة …2 …56
7 …(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) …133 …الأنعام …6 …57
8 …(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) …34 …التوبة …9 …59
9 …(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) …29 …الإسراء …17 …60
10 …(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) …41 …الروم …30 …61
11 …(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) …19-20 …الحجر …15 …62
12 …(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) …7 …الحديد …57 …64
13 …(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) …46 …فصلت …41 …65
14 …(لا إكراه في الدين، لقد تبين الرشد من الغي) …256 …البقرة …2 …66
15 …(يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالها، فمن يعمل مثقال ذرة يره، ومن يعمل مثقال شراً يره) …6-7-8 …الزلزلة …99 …66
16 …(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا بمثلها وهم لا يظلمون …160 …الأنعام …6 …66
17 …(إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم) …17 …التغابن …64 …67
18 …(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم) …261 …البقرة …2 …67
19 …(أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً) …115 …المؤمنون …23 …67
20 …(وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده) …27 …الروم …30 …67
21 …(ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدّده، يحسب أنّ ما له أخلده كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلّع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة) …1-2-3-4-5-6-7-8-9 …الهمزة …104 …67
22 …(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله) …39 …يونس …10 …68
23 …(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) …29 …البقرة …2 …69
24 …(والله رؤوف بالعباد) …30 …آل عمران …3 …70
25 …(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم) …59 …النساء …4 …74
26 …(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) …7 …الحشر …59 …75
27 …(والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) …34-35 …التوبة …9 …76
28 …(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) …7 …الحشر …59 …76
29 …(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) …24-25 …المعارج …70 …77
30 …(إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) …60 …التوبة …9 …77
31 …(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) …105 …التوبة …9 …77
32 …(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم) …61 …هود …11 …77
33 …(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه وإليه النشور) …15 …الملك …67 …77
34 …(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) …1-2-3-4-5 …العلق …96 …78
35 …(هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون) …9 …الزّمر …39 …79
36 …(إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون) …4 …الرعد …13 …79
37 …(إنما يخشى الله من عباده العلماء) …28 …فاطر …35 …79
38 …(ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) …191 …آل عمران …3 …79
39 …(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) …256 …البقرة …2 …79
40 …(أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) …59 …الواقعة …56 …79
41 …(علم الإنسان ما لم يعلم) …5 …العلق …96 …79
42 …(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم …24-25 …المعارج …70 …81
43 …(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) …33 …النور …24 …81(43/226)
44 …(والله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار) …32-33-34 …إبراهيم …14 …18
45 …(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) …33 …النور …24 …81
46 …(وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون) …33-34 …ياسين …36 …83
47 …(فإن الله غني عن العالمين) …97 …آل عمران …3 …98
48 …(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) …107 …الأنبياء …21 …98
49 …(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) …133 …الأنعام …6 …101
50 …(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) …34 …التوبة …9 …101
51 …(ويل كل همزة لمزة) …1 …الهمزة …104 …101
52 …(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) …41 …الروم …30 …102
53 …(والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)
(وإن من شيء إلا وعندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)
…19-20-21 …الحجر …15 …103
54 …(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) …24-25 …المعارج …70 …103
55 …(والله رؤوف بالعباد) …30 …آل عمران …3 …104
56 …(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) …60 …التوبة …9 …105
57 …(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) …7 …الحشر …59 …105
58 …(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) …61 …هود …11 …106
59 …(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) …24-25 …المعارج …70 …106
60 …(الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) …32-33-34 …إبراهيم …14 …106
61 …(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) …33 …النور …24 …106
62 …(والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) …24-25 …المعارج …70 …114
63 …(الرجال قوامون على النساء كما فضل بعضهم على بعض) …34 …النساء …4 …117
64 …(وللرجال عليهن درجة) …28 …البقرة …2 …117
65 …(وأمرهم شورى بينهم) …38 …الشورى …42 …118
66 …(وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت) …8 …التكوير …81 …118
67 …(ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) …37 …الإسراء …17 …122
68 …(والله رؤوف بالعباد) …30 …آل عمران …3 …122
69 …(المال والبنون زينة الحياة الدنيا) …46 …الكهف …18 …122
70 …(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) …23 …الإسراء …17 …122
71 …(وإنك لعلى خلق عظيم) …4 …القلم …68 …123
الفهرس
صدر للمؤلفة
1. التكنولوجيا الحديثة، الديون والجوع، وربما نهاية العالم- مؤسسة الرسالة ، دمشق 1996 وصدر عن ذات المؤسسة.
2. أثر التكنولوجيا الحديثة على الجسم البشري، لعام 1996.
3. اليمن بين قديمه وحيثه، لعام 1998.
4. العولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، والتفتيش عن طريق بديل، لعام1998.
×××
هذا الكتاب
دراسة تعرض لأسس علم الاقتصاد ومنطلقاته إضافة إلى المذهب الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي لتنتقل إلى عرض الموضوع نفسه في المجتمع الاشتراكي وذلك من خلال إبراز الثغرات والسلبيات التي ظهرت في كلا النظامين من خلال مفاهيم وسائل الإنتاج، والملكية والتوزيع، والعمل والحرية وسواها من العناصر التي تتحكم في مسيرة هذا النظام أو ذاك لتدلف إلى مكونات علم الاقتصاد في المجتمع الإسلامي محللة المذهب الاقتصادي فيه، شارحة منطلقاته وأسسه ومكوناته وذلك من خلال أشكال الملكية في الإسلام ونظام المحرمات في الاقتصاد مبينة أهمية النظرية الاقتصادية الإسلامية من خلال التركيز على مفهوم العدالة الاجتماعية.
==============(43/227)
(43/228)
الصواعق السماوية
علي منكري آيات الكتاب و صحيح السنة النبوية
إعداد
الفقير إلي عفو ربه الغفور
راشد بن عبد المعطي بن محفوظ
عفا الله عنه ووالديه
آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تقريظ
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عبده الذي اصطفى وعلى آله وصحبه أولي المروءات وأهل الوفا ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد فلقد اطلعت على رسالة أخي الحبيب فضيلة الشيخ الداعية / راشد بن عبد المعطي بن محفوظ ، والتي وَسَمَهَا بعنوان الصواعق المرسلة على منكري آياتِ الكتاب والسنة النبوية ، فألفيتُها رسالةً جامعةً ولمستُ فيها الردودَ القويةَ والحججَ الساطعةَ ، التي تبددُ ظلام الشُّبَهِ وتتصدى بحسمٍ لرياح التغريب وأعاصيرِ الفتن التي تهبُّ علينا ، عن طريق أذناب الغرب وعملائهم المأجورين من أدعياء التنوير ودعيَّات التحريرِ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم بل انطوت على حقدٍ دفينٍ واستشرت فيها كلُّ الأمراضِ الفتاكة ، فصارت مرتعا للشياطين .
والشيخ محفوظ يخوض معركةً حاسمةً على صفحات هذا البحث ، بحماسه الملتهب وعاطفته القوية ونفسِه الأبية وفكره المستنير يكشف لنا عن تلك الأقلام المسمومة والألسنة الحداد المأجورة التي تمتطي صهوة الفضائيات تارة وتصول وتجول على صفحات الجرائد والمجلات تارةً أخرى ، ولا ندري لماذا يفسحُ لهم المجال لترويج أباطيلهم ونشر ضلالهم ، وفسادُهم لا يخفى على ذي لُبٍّ ! ناهيك عما تقذفُ به ألسنتُهم من كفرٍ بواحٍ وكذبٍ صُراح! ألا ليت الغيورين المخلصين من ولاة أمورِنا يفطنون إلى أخطارهم ، ويتصدون بحسمٍ لمكائدهم ومخططاتهم . والله المستعان
وأترك القارئ الكريم مع هذا البحثِ الطيب الذي خطَّهَ علم من أعلام الأزهر عسى الله تعالى أن يعيد لهذه الجامعة العريقةِ والمنارة الشامخةِ مجدَها وعزتها وريادتها وأن يولي عليها من يصلح من علمائنا العاملين ومشائخنا الصادقين ، .
كتبه
أحمد بن محمد الشرقاوي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الأزهر
وكلية التربية بالقصيم
Sha r kawe2000@yahoo.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الأول
إن الحمد لله ، نحمدهُ و نستعينهُ ، ونستغفرهُ ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهدهِ الله ؛ فلا مضل لهُ ، ومن يضلل ؛ فلا هادي لهُ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ ، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسولهُ .
" يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاتهُ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " [ آل عمران/ 103 ].
" يا أيها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا اله الذي تُساءلون بهِ والرحام إن الله كان عليكم رقيباً " [ النساء : 1]
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسولهُ فقد فاز فوزاً عظيماً " [ الأحزاب 70- 71 ] ثم أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله جل وعلا ، وخير الهدى هدى صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثه بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فلقد استخرت الله جل وعلا في كتابه هذه الرسالة والعمل على نشرها ليتم الانتفاع بها - وقد رجعت في مادة هذه الرسالة إلى مصادر عدة حديثية وفقهية وما نشر على بعض مواقع الإنترنيت والعديد من الكتب والمراجع لمحاولة استيفاء هذا الأمر- وأسأل الله جل وعلا أن أكون قد وُفقت فيها وأديت بها حق الله ثم حق العلم علىَّ- لأننا نحن طلاب العلم مكلفون بتوصيل العلم الصحيح إلى عامة الناس ومن ليست لهم دراية بهذا الفن - لأننا سنُسأل عن ذلك يوم القيامة لحديث صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدماً عبد حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه ما فعل فيه ، وعن مالهِ من أين اكتسبه وفيم أنفقهُ ، وعن جسمهِ فيما أبلاه ".
[ صحيح الجامع ( 2/ 1221 ) حديث 7300/2531 .. صحيح ].
من أجل هذه الأمانة كتبت هذه الرسائل رداً على بعض الذين أنكروا آيات القرآن الكريم .. وردوا حديث صلى الله عليه وسلم ، وتجاوزوا حدود الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم . ونسوا أو تناسوا يوماً سيقفون فيه أمام الله الواحد الأحد .. لتجادل كل نفس عن نفسها .
ومنهم من أنكر ما جاء في القرآن من أحكام خالدة ثابتة لا تقبل التغيير أو التبديل .. ومنهم من رد أحاديث النبي الهادي صلى الله عليه وسلم وأفرزت عقولهم المريضة أشياء لم يأت ذكرها في الكتاب ولا في السنة وزعموا أن بعض قضايا الدين الثابتة لا تتواكب ما حسبوه بزعمهم حضارة وتمدنا .. وأعماهم الجهل فأنكروا ثوابت ما هو معلوم من الدين بالضرورة .. وأعرضوا عن كل ذلك وحسبوا أنهم هم الفائزون المنتصرون - ألا ساء ما يحكمون - وخاطب القرآن الكريم كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديهِ ولا من خلفهِ - قال تعالى في مخاطبة هؤلاء وأمثالهم :(43/229)
" فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " [ فصلت / 13] وولوا ظهورهم لكتاب الله ولسنة صلى الله عليه وسلم وكلاهما وحي ُ من عند الله تعالى وإن كان القرآن الكريم كلام الله يُتعبد ويقرأ بهِ في الصلوات وغُشيّت أعينهم وصُمّت آذانهم عن إرشاد صلى الله عليه وسلم القائل :
" تركت فيكم شيئين ، لن تضلوا بعدهما ؛ كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ( صحيح الجامع 1/ 566 ) ح = 2937 .
لكنه العمى والحقد والبغضاء التي ملأت قلوبهم وأعمت أبصارهم وصدق الله العظيم القائل في مُحكم كتابهِ".
" .... قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون " [ آل عمران / 118] جزء من الآية .
وقد أحدثوا بكذبهم على الله وعلى رسول صلى الله عليه وسلم أموراً كثيرة حذر منها النبي الهادي r في أحاديثه الصحيحة المضيئة كالشمس في رابعة النهار قا صلى الله عليه وسلم :
" من أحدث في أمرنا هذا - أي في ديننا هذا - ما ليس منه فهو رد " أي مردود عليه ( صحيح الجامع ( 2 / 1035 ) حديث : 5970) .
وقا صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم رحمهُ اله تعالى في صحيحه :
" إنهُ ستكون هنّات وهنّات ( أي فتن وأمور حادثة ) فمن أراد أن يُفرق هذه الأمة وهي جميع ؛ فاضربوه بالسيف كائناً من كان ".
( مسلم / نووي 12/202 ) حديث : 59 .
ويحذر r من التكذيب بأيّ من القرآن أو السنة فكلاهما أتيا صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء .. قا صلى الله عليه وسلم :
" لا أُلفّين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنهُ، فيقول : لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه "
( صحيح الجامع ( 2/ 1204 ) حديث 7172/2454 ، والمشكاة / 162 ) .
وفي رواية أخرى لهذا الحديث قا صلى الله عليه وسلم :
" ألا إني أوتيت الكتاب ومِثلَهُ معهُ ، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه .... الحديث ....( صحيح الجامع ( 1/ 516 ) حديث 2643/ 1229 ).
أقول : كل هذه المحدثات وغيرها كثير جاء بها هؤلاء الجهلاء البعيدون عن رحمة الله .. أرحم الراحمين..
وقد أخرج عدد من العلماء والفقهاء الثقات أخرج هؤلاء الذين أعنيهم في هذه الرسالة من عروة الإسلام الوثقي إلى الكفر والردة والإلحاد .
وسيرى القارئ الكريم هول ما أحدثهُ هؤلاء من هزة عنيفة في كيان المجتمع المسلم الذي لم يسمع هذا الافتراء إلا من هؤلاء .
وما أعنيهم في هذه الرسالة هم :
1. د . نوال السعداوي وابنتها د. منى... وزوج نوال السعداوي شريف حتاتة الشيوعي المعروف .
2. جمال البنا .. الأخ الأصغر للشيخ حسن البنا رحمهُ الله ويسمونهُ داعية إسلامي بزعمهم - وبون شاسع بين الأخوين فذاك داعية لا نزكيه علي الله .. وهذا فاسق ضال مضل .
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن من كذّب بالقرآن أو السنة فهو كافر لأنهُ بدّل كلام الله .. وحي السماء الصادق على النبي الصادق صلى الله عليه وسلم
ومن المعلوم أيضا أن صِدق النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تجربة حتى ولو جهل بما جاء بهِ أهل الأرض جميعاً.
و المتتبع لكتابات الدكتورة الأم وما جاء فيها من كُفر بواح يُخرج من الملة وتبعتها على طريق الضلال ابنتها" منى " .. ومعهما " شريف حتاته " رمح الشيوعية الملتهب كما يسميه أشباهه في مصر .
لأنهم ثلاثتهم يسيرون في نفق مظلم واحد تقودهم الصعيدية المصرية التي ولدت في " كفر طلحة " بالصعيد عام 1930 .. فهم في الضلالة سواء وإن كانت كبيرتهم ( نوال ) هي رأس الأفعي - وسيكون معها النزال والحرب ..
أما جمال البنا .. فقد نادي هو الآخر في كتاباته وعلى شاشات الفضائيات العربية ..!! بأفكاره المسمومة المدسوسة على الفكر الإسلامي الطاهر .. ولعل أخطر ما نادى بهِ : هو إمامة المرأة للرجال في الصلاة وغيره من الأفكار والمبادئ الهدامة التي تتفق من قريب ومن بعيد مع فكر هذه المرأة الضال ..
وليصغوا السمع هؤلاء الضالون المأجورون المدسوسون على الإسلام لقول ربنا جل جلالهُ .
" ... وأنزلنا إليكَ الذكر لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم لعلهم يتفكرون " ( النمل / 44 جزء من الآية ) .
فهل تفكر هؤلاء ؟!! أم كانوا مثل ما قال القائل في أمثالهم :
تُلى الكتاب فأطرقوا لا خيفةَ
لكنهُ إطراق ساهٍ لاهي
ثَقُل الكتاب عليهمُ لما رأوْا
تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا لهُ رعداً وبرقاً إذ حِوىً
زجراً وتخويفاً بفعل مناهي
ونردد على أسماعهم التي أصموها بأيديهم قول الحق تبارك وتعالى :
" أفحكم الجاهلية يبغونج ومن أحسن من الله حُكماً لقوم يوقنون "
( المائدة / 50)
وسأعرض فِرَى هذه المرأة ، فرية فرية وندحض فريتها بكلام الله جل وعلا وقول صلى الله عليه وسلم لتصم آذانهم ليعلموا أن الله هو الحق .. إن كان فيهم بقية من فهم .. !!
الفرية الأولى
تقول نوال السعداوي بالحرف الواحد على قناة دبي :
الدين الإسلامي فيه تمرد والرسولل محمد كان متمرداً على قريش حتى أنهم حاولوا قتلهُ .. لا نريد أن تكون متمردين كمحمد .. !!.
ونقول لها ولأمثالها وبالله التوفيق :
هل كان صلى الله عليه وسلم متمرداً ؟
وهو الذي بعثهُ الله جل وعلا رحمة للعاملين ؟!!(43/230)
وما قالتهُ هذه المرأة الكافرة ليس أمراً سهلاً أو هيناً على مسامع المسلمين المؤمنين الذين يحبون رسولهم r أكثر من أي شيء في هذه الدنيا .. وإنما هو إهانة وسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع علماء الأمة قديمها وحديثها على قتل من يسب صلى الله عليه وسلم حَدّاً ولا يُستتاب !!
قال الله تعالى:
" ... والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم " [ التوبة 61]ٍ.
وقال تعالى :
" ألم يعلموا أنهُ من يحادد الله ورسولهُ فأن لهُ نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم " [ التوبة /63 ].
وما هو معلوم من الدين بالضرورة أن سٌبِّ الرسو صلى الله عليه وسلم والانتقاص منه والطعن فيه وفي رسالته من نواقض الإيمان التي توجب الكفر ظاهراً وباطناً سواء استحل ذلك أم لم يستحلهُ .
وقد أجمع العلماء والفقهاء منذ وفاة الرسو صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن سابّ الرسو صلى الله عليه وسلم يقتل حدا ولا يُستتاب .. !! .
وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاباً قيماً سماه :
" الصارم المسلول على شاتم الرسول " جمع فيه بالإضافة إلى علمهِ الفياض أقوال جميع أهل العلم قاطبة وبلا استثناء على قتل شاتم صلى الله عليه وسلم حداً من غير استتابة أو إعذار .
وقال رحمة الله :
" إن من سب صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر فإنهُ يجب قتلهُ . هذا مذهب ما هو عليه عامة أهل العلم.
وقال ابن المنذر :
" أجمع عوام أهل العلم على أن حدّ من سب صلى الله عليه وسلم " القتل " .. وممن قالهُ : مالك والليث وأحمد وإسحاق .. وهو مذهب الشافعي .
وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام :
أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسول صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً مما
أنزل عز وجل أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل : أنهُ كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله .
وقال الخطابي : لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتلهِ .
وقال محمد بن سحنون :
أجمع العلماء على أن شاتم صلى الله عليه وسلم والمنتقص لهُ كافر .. والوعيد جاء عليه بعذاب الله فيه .. وحكمة عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كَفَرَ .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :
كل من شتم صلى الله عليه وسلم أو تنقصهُ مسلماً كان أو كافراً .. فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب .
وكذلك قصة قتل كعب بن الأشرف اليهودي التي احتج بها الشافعي رحمة الله على أن الذّمي إذا سب .. أي رسول الله صلى الله عليه وسلم . قُتل وبرئت منهُ الذمة.
وروى النسائي عن سعد قال :
لما كان يوم فتح مكة آمن رسول ا صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر : وقال أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة .
عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومِقَيسُ بن حبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح .
فأما عبد الله بن خطل فَأُدرِك وهو متعلق بأستار الكعبة فقُتل ..
وأما مقيس بن حبابة فأدركهُ الناس في السوق فقتلوه .
وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا .. فقال عكرمة : والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا يُنجِّني في البر غيره .. اللهم لك علىّ عهدُ إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفواً كريماً .. فجاء وأسلم ..
أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان أخاً له من الرضاعة ..
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :
كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول ا صلى الله عليه وسلم فأزلهُ الشيطان فلحق بالكفار .. فأمر بهِ رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار لهُ عثمان .. فأجارهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .أما عبد الله بن خطل وكان أشدهم تطاولاً على رسول ا صلى الله عليه وسلم وسَبّه وسب نسائه وكان من بني تميم وكان يقال لهُ عبد العُزّى بن خطل فلما أسلم سُمي عبد الله وبعثه رسول ا صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقاً - أي جابياً يجمع الأكوات - وبعث معهُ رجلاً من الأنصار وكان معه مولي له فغضب عليه غضبة فقتله ثم ارتد مشركاً .. وكانت لهُ قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلهذا أهدر دمهُ صلى الله عليه وسلم ودم قينتيه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .
النصراني الذي أسلم ثم أرتد
روى البخاري ومسلم في صحيحهما رحمهما الله رحمة واسعة من حديث أنس : " كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران ، وكان يكتب للنبي r ، فعاد نصرانياً وكان يقول :
لا يدري محمد إلا ما كتبت له - فأماتهُ الله .. فدفنوه فأصبح وقد لفظتهُ الأرض فقالوا : فِعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظتهُ فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه ..
فلماذا يُسَبُّ صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة الكافرة نوال السعداوي ويُتهم بالتمرد ؟!! ولا يتحرك أحد دفاعاً عن نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم .
فيلم : شفرة دافينشي
تحركت كل الجهات المسئولة في مصر ابتداء من الأمن إلى شيخ الأزهر لمنع عرض الفيلم في مصر لأنهُ يسيء إلى النصارى .. ويمس عقيدتهم .
وطالبت منظمات حقوقية في مصر بإلزام وزير الثقافة بمنع عرض الفيلم في مصر - وفي الفاتيكان طالب الأسقف " أماتو" أمين سر مجمع العقيدة في ايطاليا بمعاقبة القائمين على الفيلم(43/231)
فهلا فعل الأزهر والغيورين من المسلمين مع نبيهم ما فعلوه مع النصارى ؟أم أصاب المسلمون أتباع صلى الله عليه وسلم غُثاءٌ كغثاء السيل ؟ أم أصبحوا كما قال القائل :
إذا الذئب إستحال بمصر ظبياً فمن يحمي البلاد من الذئاب ؟
لكن الله جل وعلا بوعده لحق ناصر رسلهِ . والذين يحادون الله ورسولهُ أولئك في الآذلين .. قال تعالى :
) إن الذين يحادون الله ورسولهُ أولئك في الأذلين * كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ( [ المجادلة / 20، 21 ..].
وأقسم الله جل وعلا بحياة رسول صلى الله عليه وسلم ولم يقسم جل وعلا بحياة أحد من رسله من قبل كما قال تعالى :
" لَغَمرُكَ إنهم لفي سَكرَتهم يَعمهون " [ الحجر / 72 ].
ولقد كفاه الله جل وعلا في حياتهِ المستهزئين الذين كانوا يسخرون منه .. وقصم ظهورهم وكانوا عبرة لكل من ينتقص أو يستهزيء بهِ صلى الله عليه وسلم . قال تعالى :
" إنا كفيناك المستهزئين " [ الحجر / 95 ].
وإذا كان هؤلاء قد أغواهم الشيطان لفعل ما قالوا وفعلوا فإن الله منذرهم بأخذهم بالنواصي والأقدام قال تعالى :
" يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام " [ الرحمن / 41 ] وقال تعالى :
" ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويُلهِهِمُ الأمل فسوف يعلمون " [ الحجر / 3 ].
وقال تعالى:
" فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون * يوم
يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم
ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون " [ المعارج / 42- 44 ].
وليعلم هؤلاء الذين حادوا الله ورسولهُ أن يوم الحساب آت لا ريب فيه ..!!
قال تعالى :
" .. وإن الساعة لآتية ... " [ الحِْجر /85 جزء من الآية ] .
هؤلاء : " الذين جعلوا القرآن عضين *فوربك لنسألهم أجمعين * عما كانوا يعملون " [ الحجر / 91- 63 ](وعضين : جعلوه أكاذيب فأكثروا البهت والكذب عليه)0 (صفوة البيان / حسنين مخلوف / 341 )
" .. ومن أصدق من الله حديثاً " [ النساء / 87 جزء من الآية ].
" ... وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلاً " [ النساء / 122 جزء من الآية ] نقول لا أحد ..!!
الفرية الثانية
رَفْضَهَا للختان للذكور والخفض للإناث .. وتقول في الختان للذكور أن الأطفال يتعرضون للنزيف عند الختان وأيضاً لأسباب جنسية خاصة بالذكور .. وهي بأقوالها الفاسدة تعارض سنن الفطرة وما جاء في الكتاب العظيم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم . وتقول بجهلها المعهود والمتكرر أنهُ لا يوجد في القرآن آية تدعو للختان .. فأين هي من السنة المفَصَّلة والشارحة لمجمل القرآن الكريم .
وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد أنهُ رُوى أن قص الشارب والاختتان مما ابتلى بهِ إبراهيم علية السلام .. وذكر أقوال العلماء وتأويل القرآن في قولهُ تعالى : " وإذا ابتلى إبراهيمَ ربهُ بكلمات فأتمهن "
[ البقرة / 124 جزء من الآية ]
وقال الإمام النسفي رحمه الله في شرحهِ لهذه الآية :
" والكلمات على القراءة المشهورة : خمس في الرأس ؛ الفرق وقص الشارب
والسواك والمضمضة والاستنشاق . وخمس في الجسد ؛ الختان وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء ".
" مدارك التنزيل وحقائق التأويل للإمام النسفي " ( 1/ 80 ) .
وجاء كذلك هذا المعنى في" المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير"/78 .:
وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن عباس " وإذ ابتلى إبراهيم ربهُ بكلمات ... الآية قال : ابتلاه بالطهارة : خمس في الرأس وخمس في الجسد ؛ في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس ، وفي الجسد ؛ تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء .
فهل لا يوجد في القرآن ما يدعو إلى الختان ؟!! لكن أين هي من فهم آي القرآن ؟ أو من سنة صلى الله عليه وسلم الموضحة لآي الكتاب العظيم ؟
أما ما جاء في السنة فلا يخفى على أحد من الناس إلا من كان في عينيه عَمى:
قا صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
" اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة ".
[صحيح الجامع ( 1/ 104 ) ح: 221 ].
ورواه البخاري ومسلم وأحمد .. وجاء في الأرواء برقم : 78.
وقا صلى الله عليه وسلم :
" خمس من الفطرة : الختان ، والإستحداد - أي إزالة شعر العانة - ، وقص الشارب وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط "
[ صحيح الجامع ( 1/ 618 ) حديث : 3250].
وقال الشيخ ناصر الألباني رحمه الله في كتابه " تمام المنة على كتاب فقه السنة " للشيخ سيد سابق رحمه الله .. قال :
باب : ومن سنن الفطرة
قولهُ :- أي الشيخ سيد سابق - " أحاديث الختان الخاصة بالمرأة ضعيفة لم يصح منها شيء ".
قلت : - أي الشيخ الألباني - ليس هذا على إطلاقهِ .. فقد صح قولهُ r لبعض الخاتنات في المدينة :(43/232)
" اخفضي ولا تنهكي فإنهُ أنضر للوجه وأحظى للزوج " رواه أبو داوود والبزار والطبراني وغيرهم ولهُ طرق وشواهد عن جمع من الصحابة خرجتها في الصحيحة ( 2/ 353- 358 ) ببسط قد لا تراه في مكان آخر - وبينت فيه أن ختان النساء كان معروفاً عند السلف خلافاً لبعض من لا علم بالآثار وعندهُ - وإنهُ مما يؤكد ذلك كله الحديث المشهور " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " وهو مخرج في الأرواء برقم ( 80) وفي صحيح الجامع
( 1/ 130 ) حديث : 385.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : وفي هذا دليل على أن النساء كُنَّ يُختَّن.
وانظر تحفة المودود في أحكام المولود لابن القيم /60.
[ تمام المنة في التعليق على فقه السنة / 67 ) الشيخ ناصر الألباني رحمه الله
قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اله في الختان
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عن المرأة هل تُختن أم لا ؟ فأجاب : الحمد لله ، نعم ، وختانها أنها تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك - قا صلى الله عليه وسلم للخافضة وهي الخاتنة : " أشمي ولا تنهكي فإنهُ أبهى للوجه وأحظى لها عند زوجها " يعني لا تبالغي في القطع .
وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة والمقصود من ختان المرأة ؛ تعديل شهوتها فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة .. ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتر ونساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين .. انتهى .
ما جاء في كتاب الاستذكار لابن عبد البر عن الختان
وجاء في كتاب الاستذكار لابن عبد البر رحمه الله .. قولهُ : باب ما جاء في السنة في الفطرة : مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال " خمس من الفطرة تقليم الأظافر ، وقص الشارب ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاختتان "
وقال رحمه الله : وهو حديث محفوظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى صلى الله عليه وسلم من رواية الأئمة الثقات.
وقد رُوى أن قص الشارب والاختتان مما أبتلى به إبراهيم عليه السلام .
وقد ذكرنا في "التمهيد " أقوال العلماء وتأويل القرآن في معنى قوله تعالى : " وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن .. الآية " [ البقرة / 124 ].
و لا خلاف بين العلماء في قص الأظافر ونتف الإبط وحلقه لمن صعب عليه النتف ولا في الاختتان .. أن كل ذلك عندهم سنة مسنونة مُجْمع عليها مندوب إليها إلا الاختتان فإن بعضهم جعله فرضاً .. واحتج بأن إبراهيم اختتن وأن الله عز وجل أمر نبيهُ r أن يتبع ملة إبراهيم وأما الاختتان فذكر مالك رحمهُ الله في الموطأ حديث رقم :2608.
عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال : " كان إبراهيم r أول الناس ضيَّف الضيف ، وأول الناس اختتن ، وأول الناس قص الشارب وأول الناس رأي الشيب .. فقال يا رب : ما هذا ؟ فقال الله تبارك وتعالى :وقارٌ يا إبراهيم .. فقال : رب زدني وقاراً ..
وقال أبو عمر : كانت العرب تختتن في زمن إسماعيل ، ودليل ذلك حديث ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في حديث هرقل .. وكانت اليهود تختتن ، وذلك في شرعهم أيضاً .
وروى يونس عن ابن شهاب قال :
" كان الرجل إذا أسلم يُؤمر بالختان وإن كان كبيراً .
وكان عطاء يقول : " لا يتم إسلامهُ حتى يختتن ".
ورأي مالك والشافعي وأبو حنيفة للكبير أن يختتن إذا أسلم واستحبوه للنساء وروى عن ابن عباس وجابر بن زيد وعكرمة أن الأقلف لا تؤكل ذبيحتهُ ولا تجوز
شهادتهُ.
[ الاستذكار لابن عبد البر ( 10/ 18-22 ) ] أحاديث : 2606 ، 2607 ، 2608.
فهل بعد الذي ذكرناه يا دكتورة الشؤم والمعصية والتمرد والإصرار على مخالفة شرع الله من كتاب وسنة .. هل بعد ذلك من رفض منك ومن أمثالك رؤوس الجهل والعناد والمخالفة .. للختان للذكور والخفض للإناث ؟ أم أنك تريدين من بناتنا ونسائنا أن يكن كنساء التتر والأوروبيات الساقطات في بحور الفاحشة والبغاء ؟ أم أنه الفكر المقلوب الذي حملتيه من أمريكا واسكنه في عقلك وقلبك أعداء الإسلام هناك والحاقدين على طهارة ما في الإسلام من عفة وطهارة ؟ أم أن شذوذك الأنثوي وشيطانك الخبيث هو الذي أوحى إليك بهذا الفكر الضال المضل ؟!!
ولا أخالك أيتها العجوز الشمطاء إلا كما قال القائل :
لا ترجع النفس عن غيِّها
ما لم يكن بها منها رادع .
الفرية الثالثة
مناداتها بأن يكون اسم الأم مع الأب لأي طفل .. ذكراً كان أو أنثى..
قال جل وعلا في البقرة : / 281 " واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم تُوفّى كل نفس ما كسبتْ وهم لا يُظلمون " فهل عقلت نوال السعداوي ومن يدفعها إلى هذا السخف المرفوض شرعاً وعرفاً - هل عَقلتْ معنى هذه الآيات وخافت يوماً ستقف فيه أمام الله وتتقي غضبه ؟!! يا ليتها وعت ذلك أو تعيه- وتتذكر ظلمة القبر وأول ليلة فيه .. ليلةٍ صبحها يوم القيامة..!!
تقول نوال السعداوي في حديث خاص " للعربية نت " أُذيع مؤخراً أنها هي شخصياً ستوقع إسمها من الآن فصاعداً باسم أمها ووالدها وسيصبح اسمها : نوال زينب السعداوي ..!!(43/233)
وتقول أنها لا ترى في ذلك مدعاة للانتقاد والرفض لأن ذلك لا يتعارض مع الدين ..!! سبحانك ربي ما أحلمك على مثل هؤلاء الضالين المضلين وقالت ابنتها د.منى حلمي في أحد المجلات المصرية والتي حملت عنوان :" من اليوم سأحمل اسم أمي ليصبح اسمها : منى نوال حلمي .
نعم - فإن هذا الشبل من ذاك الأسد - ولكنهُ أسد كسيح عجوز ستلعب بهِ الطيور والفئران والجرذان والخفافيش.
فأي جهل .. وأي تدني في الفكر تعيشهُ هذه المرأة العجوز وأسرتها تراها في عقلها المريض أنه التطور .. وأنهُ التحرر .. وأنهُ المدنية ؟!!.
فأين علماء مصر ؟ أين شيوخها ومفكروها الغيورين على دينهم ؟أليست هذه أمانة العلماء .. وميراث النبوة ؟؟
ألم يقرءوا في كتاب الله :
" إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهُدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " [ البقرة / 159 ].
ألم يقرءوا حديث صلى الله عليه وسلم :
" من كتم علماً ألجمهُ الله يوم القيامة بلجام من نار "
حديث أخرجهُ ابن حبان في صحيحة رقم ( 296 ) والحاكم ( 1/ 102 ) وصححهُ ووافقهُ الذهبي . إن إصرار هذه المرأة على مناداة الأبناء والبنات بأسماء أمهاتهم لَمِنْ أَفْرى الفِرَى على الله وعلى رسول صلى الله عليه وسلم وهو القائل جل وعلا :
" أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله .. الآية " [ الأحزاب / 5 جزء من الآية ].
وتقول الابنة المقلدة لباطل أمها لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية :
" نعجب ممن يتحدثون عن قيمة الأم في المجتمع ودورها .. وضرورة تكريمها ثم يستنكرون أن يحمل الأبناء اسمها .. لقد أعلنت أنني سأحمل اسم أمي لأنها تستحق كل تكريم وأنا أعتز بها " .. ثم تقول هذه الجاهلة الصغيرة : " ثم في يوم القيامة سنُنادي بأسماء أمهاتنا .. فَلِم لا يحدث اتساق بين الدين والدنيا " ؟.
وأضافت الأم العجوز المخرِّفة : أنها ستطالب بإصدار قانون يؤكد على أن كل طفل يولد هو طفل شرعي بصرف النظر عن شكل العلاقة بين الزوجين .. ولهذا ما المانع في أن ينسب الطفل لأمه ؟ ولماذا نحقر من شأن الطفل الذي يُنسب لها ؟.
وتقول قديماً كان الأطفال يتسموّن بأمهاتهم ..!! إذ أن اسم الأم محترم جداً عندنا .. ويتمشى ذلك مع الإسلام الذي جعل الجنة تحت أقدام الأمهات .. وهناك مشايخ كثيرون أيَّدوا ذلك ولم يَرْوا في ذلك مشكلة دينية ..!!
وتخوض هذه الجاهلة حتى في تفسير القرآن وأسباب النزول .. وليس ذلك غريباً منها .. فما قالتهُ أغرب مما يتصورهُ الإنسان .. أي إنسان .
تقول :
" إن آية الأحزاب : " أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ... الآية/ 5 جزء من الآية " نزلت لسبب معين، ولا يجب تعميمها ، وأن النسب الأبوي فقط وتحريم أن يحمل الأطفال أسم الأم .. هو قانون سياسي لا علاقة لهُ بالأديان ..!!
وأشارت الدكتورة بأن هناك آراء فقهية متقدمة وحركة تجديد كتلك التي أبداها حسن الترابي في فناويه الأخيرة ؛ " أُرَحِّب بأي تجديد فكري طالما استند إلى العلم والتاريخ ، وكان محترماً وهادئاً يخاطب العقل والمنطق ..!!
أقول : حتى أنت يا ترابي .. ترّب الله وجهك بما أقدمت عليه من فكر كُفري إلحادي كفرّك به أهل الحل والعقد في السودان الشقيق .. ونقول مرة أخرى" الطيور على أشكالها تقع ".
ونرد على جهالات هذه المرأة الكافرة مستعينين بالله على جهل هؤلاء
تقول الابنة الجاهلة ومن قبلها أمها أن الناس سينادون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم وعندما يتكلم المرء يبحث دائماً عن القول الصحيح ويقول بهِ .. لكن نقول : ماذا في أقوال هؤلاء من الصحيح حتى نعتب عليهم في هذه الفرية .. والإنسان عندما يكون خاوياً فكرياً .. فإنما يقول بأول كلام يسمعهُ أو يُدس إليه .. وهؤلاء إنما يبحثون عن الشاذ من القول والمنكر .. ومما هو غريب عن الناس .. والذي يقولون بهِ إنما هو حديث منكر لا يصح عن صلى الله عليه وسلم أتُهم راويه " إسحاق بن إبراهيم " بالكذب ويرويه عن الثقات فيتصور من يقرأهُ أو يسمعهُ أنهُ صحيح .. وقد روى هذا الحديث المكذوب إسحاق بن إبراهيم الطبري .. قال : حدثنا مروان الفزاري ، عن حميد الطويل ، عن أنس قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
" يُدعى الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً من الله عز وجل عليهم " وقد ذكرهُ ابن الجوزي رحمه الله في الموضوعات وقال :
* هذا حديث لا يصح والمتهم بهِ إسحاق .
* وقال ابن عدي : هو منكر الحديث ومن حديثهِ هذا الحديث .
* وقال ابن حيان : يأتي من الثقات بالأشياء الموضوعات ولا يحل كَتْبُ حديثهِ إلا على التعجب .
[ الموضوعات لابن الجوزي / 124- 125 ]
حديث : 1697
فماذا تقولان عن هذا الكذب الذي جئتما بهِ لتبرير فِرْيَتكُما في هذا الموضوع ؟
وسنورد لكما الصحيح في هذا الباب لكن أقول لكم جميعاً يا عصبة الشر والبغي أنهُ يحضرني حديث صلى الله عليه وسلم الذي يناسب أفعالكم وأقوالكم قا صلى الله عليه وسلم من حديث أبي مسعود رضي الله عنهُ كما في صحيح سنن أبي داود رحمه الله :
" إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : " إذا لم تَسْتَح ؛ فأفعل ما شِئْتَ " [ صحيح سنن ابن داود ( 3/ 178 ) حديث : 4797 وابن ماجة ( 4183 ).(43/234)
ونقول لك أيتها الدكتورة المقلدة عن جهل وعمى أنت كأمك ونقول لكما كما قال القائل : فهل يستقيم الظِّلُ والعودُ أَعْوَجُ.؟!!
وإليك أيتها الدكتورة العجوز وابنتك وزوجك وقبيح البنا وليس جمال البنا فالجمال جمال الدين والخلق و الاستقامة والحياء والخوف من الله وحب رسول الله
r أكثر من أنفسنا وأولادنا وآبائنا وأموالنا .. ذلك هو الجمال .
عن ابن عمر رضي الله عنهما كما جاء في فتح الباري لمصنفه وشارحهِ عليهما وافر الرحمات :
عن صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الغادر يُرفع لهُ لواء يوم القيامة ؛ يقال هذه غدرة فلان بن فلان " وقال ابن حجر رحمه الله : " متضمن الحديث أن ينسب الرجل إلى أبيه في الموقف الأعظم .
وقال ابن بطال : في هذا الحديث رد لقول من زعمّ أنهم لا يُدْعَوْنَ يوم القيامة إلا بأمهاتهم ستراً على آبائهم " - وهم أولاد الزنى والسفاح -
قلت ( أي ابن حجر ) هو حديث أخرجهُ الطبراني من حديث ابن عباس وسندهُ ضعيف جداً .. وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثلهُ وقال : " منكر .. وقال ابن بطال : " الدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز " [ فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر ( 10/ 578-579 ) حديث: 6177، 6178 ] .
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا .. ولا في عقولنا ..!! يا رب ..!!
وقد جاء في فرية الدكتورة نوال وابنتها ومعهما جمال البنا .. ورابعهم .!! في مقال نُشر لها بالقاهرة في 8 ابريل 2006.
وتقول الدكتورة نوال السعداوي : " سمعت آراء بعض الأساتذة العلماء في صحيح الدين ، ومنهم الأستاذ جمال البنا .. الذي أكد على شاشة التليفزيون ان اسم الأم شرف في الإسلام ومن المفروض أن يحمل الأطفال اسم الأم والأب معاً لأنهما يشتركان " في إنتاج الطفل " !!! بل إن دور الأم أكبر في "إنتاج الطفل " عبارة انقبضت منها نفسي وزاغت منها عيني .. لأنها عبارة شاذة باطلة .. فالأب والأم لا يُنتجان الطفل بزعمهم .. بل الأمر كلهُ يرجع في أوله وآخره إلى إرادة الله جل وعلا ومشيئتهِ .. وليس كما تزعمين يا طبيبة الجهل والضلال .
ألم تسمعي قول الحق تبارك وتعالى في الشورى :
" لله مُلك السموات و الأرض يخلقُ ما يشاءج يَهَب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور " [ الشورى / 49 ]
ألا هل من مدّكر ؟!!
ونقول فيك وفي أمثالك : اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل .
مصدر هذه المعلومات وغيرها ما جاء في جريدة الخليج الإماراتية بتاريخ الثلاثاء 16/3/1999 رقم الصفحة 32.
الحياء شعبة من الإيمان
قا صلى الله عليه وسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما :
" الحياءُ لا يأتي إلا بخير " متفق عليه.
وفي رواية لمسلم رحمه الله تعالى :
" الحياء كلهُ خير " أو قال " الحياء خير كلهُ "
[رياض الصالحين / 294 ] حديث : 687، 688.
فإذا ضاع الحياء من المرء .. فلا خير فيه .. وليقل بعد ذلك ما يقول فإنهُ لا يُلام .. وقد سبق آنفاً ذكر حديث صلى الله عليه وسلم :
" إذا لم تستحِ ؛ فأفعل ما شئت " وسبق تخريجهُ.
وفي الحديث الحسن من رواية ابن مسعود رضي الله عنهُ .. قا صلى الله عليه وسلم :
" إستحيوا من الله حق الحياء ، من استحيا من الله حق الحياء ؛ فليحفظ الرأس وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبِلا ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد إستحيا من الله حق الحياء "
[ صحيح الجامع ( 2/ 222) حديث: 935- والروض النضير : 601]
أقول ذلك قبل البدء في عرض الفرية الرابعة وهي تتعلق بالكتب والمقالات واللقاءات التي تنسب إلى نوال السعداوي لأن الحياء فيها قد ذهب ولم يَعُد في الوجه منها قطرة دم .
الفرية الرابعة
كتبت هذه المرأة عدة كتب وقالت في لقاءاتها على شاشات التلفاز وعلى صفحات الصحف .. ما لا يستطيع مسلم عاقل أن يتصورهُ أن يصدر من امرأة تطعن في الإسلام وفي أهم مصادره الطاهرة النقية : القرآن العظيم وسنة النبي الهادي محمد صلى الله عليه وسلم . وتظن وعصابتها أنهم مسلمون ..!! كلا وألف كلا .. فالإسلام منهم جميعاً بريء .. لأن من كان مسلماً لا يسب النبي صلى الله عليه وسلم . وسب صلى الله عليه وسلم كما سبق القول كفر بواح يُخرج من الملة ويُحِلّ دم صاحبهِ من غير إستتابة ومن بين كتبها الساقطة :
1. سقوط الإمام : وأصدر مجمع البحوث الإسلامية فتوى بالإجماع بمصادرة هذه الرواية .. أو هذا الكتاب .
2. المرأة عند نقطة الصفر :
3. كتاب " المرأة والجنس " : الذي نشرتهُ عام 1973 .. وهو كتاب يعج بالشذوذ والخروج على طبيعة العلاقة الشرعية المنضبطة بين الرجل والمرأة بشكل صارخ .. ويهزأ من الشرف وعذرية الفتيات .. وطُردت على أثره من وظيفتها في وزارة الصحة حيث كانت تعمل بها تلك الأيام.
4. كتاب أصدرتهُ في لندن منذ سنوات بعنوان:
أيها المسلمون إني أَبْصُقْ عليكم
نعم ورب الكعبة .. هكذا اسمهُ كان .. وليتهُ ما كان !!
إلى هذا الحد من التدني والإسفاف والاستخفاف بأتباع محمد صلى الله عليه وسلم . نبي الهدى والرحمة .. الذين قال الله جلا وعلا فيهم :
" كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ للناس تأْمُرون بالمعروف وتنهونَ عن المُنكَرِ وتؤمنون بالله ...الآية " [ آل عمران /110 جزء من الآية ].
لا إله إلا الله .. سبحانك ربي ما أحلمك .. !!(43/235)
" ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يُؤخرهُمْ ليوم تشخص فيه الأبصار " ( إبراهيم / 42 ).
وقد مُنع الكتاب من دخول مصر .. لكني لا أظنهُ كذلك فالأيادي القذرة كثيرة والقلوب الحاقدة على الإسلام أكثر .
والكتاب لم أقرأه وإنما قرأ بعض ما جاء منهُ في صحيفة الأهرام المصرية أحد الأخوة المسلمين ممن أحسبهم من محبي الله ورسولهُ صلى الله عليه وسلم
وقال هذا الأخ المسلم في طرحه هذا الموضوع على موقع على الإنترنت
ولا نلوم نوال السعداوي لأنها تعلم أنه لن تصلها حتى المساءلة عما قالت وعما كَتَبَتْ.
وهذا المناخ الآن في مصر حيث المشروع الخطير والكبير وهدفهُ هو تغريب مصر ، وجعلها دولة علمانية .
ويقول هذا الأخ الغيور على دينهِ :
فمن فرج فودة إلى أبو زيد إلى نوال السعداوي إلى أندية الليونز و الروتاري إلى عبدة الشيطان إلى تجمعات آلاف اليهود في دلتا مصر سنوياً إحياء لمولد أبو حصيرة إلى مراقب أمريكي في السفارة لمراقبة مشروع التغريب وحمايتهِ إلى آلاف الكتب التي تشكك في العقيدة ، وتدعو إلى الانحلال .. إلى الدعوة إلى استخدام المفردات والكلمات الإنجليزية والفرنسية بدل العربية - إلى إعلام كامل يساند ذلك ويقف خلفهُ .. يريدونها علمانية فاجرة تقضي على ثوابت وقيم ديننا ومرتكزاته الثابتة القوية .. انتهي .
كل ذلك وللأسف الشديد يخرج من بنت الريف الصعيدية التي ضربت بقيم الريف المصري وثوابتهِ الدينية عرض الحائط وجاءت لنا بأفكار غريبة عن قيمنا وقواعد ديننا الحنيف الذي جاء للمرأة المسلمة بأكثر مما كانت تتمنى ثم يأتي هؤلاء الجهلاء المأجورين ليزلزلوا هذه القواعد الأصيلة الثابتة ابتداء من قاسم أمين - قصم الله ظهره - إلى هدى شعراوي إلى نوال السعداوي وعصابتها المستأسدة على مجتمع كريم أعطاها الكثير منذ طفولتها في قرية كفر طلحة إلى المرحلة الإعدادية فالثانوية فالجامعة ثم تنقلب على هذا المجتمع الخيّر بمخالب وأنياب الكارهين للإسلام في خارج البلاد وداخلها .. ولا يحدث ذلك إلا إذأ ذهب الصالحون كما أخبر الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم . وتقوم الساعة على شرار الناس .. " يذهب الصالحون ، الأوّل فالأوّل ، ويبقى حُفالةُ كحُفَالَةِ الشعير أو التمر لا يباليهم الله تعالى بالةٌ " .. نعم ..صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم [ صحيح الجامع ( 2/ 1342 ( حديث : 8078]. و يقال حفالة وحثالة .
الفرية الخامسة
رفض نُسك الحج واعتباره عملاً وثنياً
قال تعالى في الأعراف / 146:
" سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يَروْا كُلَّ آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرُّشْد لا يتخذوهُ سبيلاً وإن يروا سبيل ألغَىِّ يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذَّبُوا بآياتِنا وكانوا عنها غافلين "
ولقد جاءت آيات القرآن العظيم كلام رب العالمين بالآيات الواضحة في الحث بل الأمر على الحج باعتباره ركناً من أركان الإسلام .. قال تعالى " .. ولله على الناسِ حِجُّ البيتِ من إستَطاعَ إليه سَبيلاً " [ آل عمران /97 .. جزء من آية ].
وقال تعالى :
"وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرة لله .. الآية [ البقرة / 196 جزء من الآية ]
وقال تعالى :
" الحَجُّ أشهر معلوماتج ... الآية [ البقرة /197 جزء من الآية ].
وقال تعالى :
" وأَذَّنْ في الناسِ بالحَجَّ يأتوك رجالاً .. الآية [ الحج /27 جزء من الآية ].
ولقد جاءت لفظة " ح ج " بمشتقاتها في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة [ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن / 194 ] محمد فؤاد عبد الباقي .
والقرآن الكريم كلام رب العالمين وحي صادق من السماء على الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك السنة النبوية المحمدية وحي سماوي صادق أيضاً .. ومن ينكر أو يرد أو يكفر بأيهما فهو كافر مرتد مُهْدر الدم .
وطاعة رسول ا صلى الله عليه وسلم من طاعة الله جل وعلا كما أن معصية الرسو صلى الله عليه وسلم معصية لله جل وعلا .
فقد قا صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث متفق عليه :
" من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله .. الحديث "
[ رياض الصالحين /290 حديث : 676 متفق عليه ].
وتطاولت هذه المرأة الجاهلة على كتاب الله جل وعلا فأنكرت آياتهُ الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وقد أنكرت كذلك سُنة النبي الهادي صلى الله عليه وسلم بالتالي عندما قالت في مقابلة أجرتها معها صحيفة " الأسبوع " المستقلة منذ فترة قالت :
" إن الحج من بقايا الوثنية ".
وقد جاءت هذه الأقوال الشاذة أيضاً في مقال نشرتهُ صحيفة " الميدان المصرية الأسبوعية المستقلة في السادس من مارس عام 2005م وقد رفع المحامي " نبيه الوحش " شكوى للمدعي العام بالقاهرة ضد نوال السعداوي بإنكارها المعلوم من الدين بالضرورة.
وكانت قد قالت في هذا المقال أيضاً : أنهُ لا يوجد نص يوجب ارتداء الحجاب للنساء في القرآن الكريم .(43/236)
و لكي تعرف مدى الجهل الذي وقعت فيه هذه المرأة والتي أَهْدَرَت بعض الجماعات الأصولية والسلفية دمها بسبب كفرها ورِدَّتها بتلك الأقوال الشاذة والغريبة التي جاءت بوحي شيطانها وفكرها الخبيث نعرض طرفاً مما كان يحدث في الجاهلية وقبل الإسلام من أمور ثم جاءت رسالة سيدنا صلى الله عليه وسلم بأمر ربهِ وبوحي السماء لتزيلها وتمحوها لمخالفتها نقاء الإسلام وطهارتهُ .. ثم تأتي هذه المرأة لتقول إن الحج آثر من آثار الجاهلية ..!!
الحج في الجاهلية
لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج مواقف مخزية ، إنما هي خليط ممزوج من
الأضداد والمتناقضات .. يظهر ذلك جلياً في بعض المواقف المنكرة ؛ ومن ذلك مثلاً تلبيتهم في الحج التي يخلطون معها الشرك ؛ " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكهُ وما لك ".
من أجل ذلك ألغى صلى الله عليه وسلم كل أمور الجاهلية .. وفي خطبة عرفات قا صلى الله عليه وسلم في جزء من الخطبة القيمة:
" .. ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع .. ودماء الجاهلية موضوعة .. وقا صلى الله عليه وسلم أيضا :
" وأوّل ربا أضعه ربانا .. ربا عباس بن عبد المطلب فإنهُ موضوع كلهُ " [ صحيح سنن ابي داود ( 1/534) حديث : 1905] .
فكيف يكون الحج في نظر هذه الدكتورة رمزاً من رموز الجاهلية ؟ وقد أبطل صلى الله عليه وسلم كل هذه المخالفات التي كانت في الجاهلية والتي تتناقض مع نقاء الإسلام وطُهرِهِ .. ومن المعلوم أن كل العبادات وما جاء فيها من أوامر ونواه كلها أمور توقيفية .. لا دخل للاجتهاد فيها ؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأمور التي جاء بها الشرع الحكيم.
وتضيف هذه المرأة - الجاهلة بأبسط معالم دينها - وأنّى لها ذلك العلم وهي التي شغلت نفسها وشغلت الناس معها بذلك المروق من الدين كما يخرج السهم من الرمية ... قالت :
" الله وحدهُ الحب " وليس أن أُقبِّل الحَجَر الأسود ، وألْبِسُ حجاباً وأطوف ..!! هذه وثنية ..!!والحج بقايا الوثنية "
فأي كُفرٍ وأي رِدَّة كالذي وقعت فيه هذه " الدكتورة " وعصابتها التي تلتزم خطواتها .. وتروّج لفكرها الضال .. لكننا نشكوهم جميعاً إلى الله القائل وقولهُ الحق في محكم التنزيل :
" فَذَرْني ومن يُكذِّبُ بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون* وأملي لهمج إن كيدي متين " [ القلم/ 44-45 ].
ولتقرأ وليقرأ معها أهل الجهل والعَمَى ما جاء في صحيح سنن الترمذي رحمه الله تعالى من حديث الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال :
" رأيت عمر بن الخطاب يُقبّل الحجر ويقول :
" إنيّ أقبلّك وأعلم أنك حجر ، ولولا أني رأيت رسول ا صلى الله عليه وسلم يُقبّلك لمْ أقبّلك " !!
وأين هؤلاء من عمر ؟ [ صحيح الترمذي ( 1/443-444 ) حديث : 860 ] ، [ وصحيح ابن ماجة ( 2943 ) ] .
وأحاديث الحج في السنة كثيرة متواترة ونذكرُ طرفاً منها.
قا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:
" مَنْ حَجّ ، فلم يرقث ( قول الفحش ) ، ولم يَفْسُق - أي يأتي بالمعاصي - رَجَع كيوم ولدتْهُ أمهُ " [ رياض الصالحين /453 ) حديث: 1282 ].
ومن حديث السائب بن يزيد t قال :
"حُجَّ بي مع رسول ا صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين " رواه البخاري رحمه الله تعالى [ رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله /454] حديث: 1289.
فهل بعد ذلك كله من مُنْكِر للقرآن أو السنة النبوية من أمر الحج في الإسلام الذي هو أحد أركانه كما بيَّنا ذلك آنفاً ..؟!!
ويخاطب النبي الهادي r أمثال وأشباه هذه المرأة ومن يوافقها ويروّج لفكرها الضال الفاسد - قا صلى الله عليه وسلم :
" ألا تُؤمِّنُوني ، وأنا أمينٌ في السماء ؟ يأتيني خبر السَّماء صباحاً ومساءاً ؟ [ صحيح الجامع ( 1/517 ) حديث: 2645/1231 ]، [ والأرواء : 684] .
نعم .. وألف نعم يا رسول الله نؤمِّنك فأنت أهل لكل ذلك .. وكيف لا نؤمنك وأنت أمين رسالة السماء إلى الأرض و إلى الناس جميعاً ؟ وأنت خاتم الأنبياء والمرسلين .. وأنت خليل الله .. وصاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة .. وحامل لواء الحمد ؟! فجزاك الله عنا خير الجزاء أن أخرجتنا من الظلمات إلى النور .. وهدانا الله تعالى بك صراطهُ المستقيم .. فالحمد لله على نعمة الإسلام ، والحمد لله على نعمة الإيمان ، ، والحمد لله على نعمة القرآن .. أما هؤلاء الذين حادَّوا الله ورسوله فسوف يأتيهم يوم يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها .. ولن يُغني عنهم جمعهم ولا تطاولهم على الله ورسوله وتكذيب ما جاء في كتاب الله تعالى والسنة النبوية المحمدية .
وبعد :
فإن الذي قالته هذه الدكتورة التي طمس الشيطان على عقلها وبصرها حتى خرجت على المسلمين بهذه الفِرَى الباطلة التي للدين الحنيف فيها موقف واضح وصريح ؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن من يَسُبُّ رسول ا صلى الله عليه وسلم يُقتل حَدّاً ولا يُستتاب كما سبق أن أوضحنا آنفاً.
ومن رفض القرآن العظيم كلام رب العالمين كُلَّه أو آية واحدة منه أو سنة صلى الله عليه وسلم فقد كَفَر وبدّل واحدث في الدين ما ليس منه .. ومَنْ بدَّل دينهُ يُقْتل.(43/237)
ولقد خالفت هذه المرأة النصوص الواضحة من الكتاب العظيم ومن سُنة النبي الهادي محمد صلى الله عليه وسلم . كرفض آيات الميراث ومحاولة تسوية النساء بالرجال والمطالبة بالسفور والفجور.
كل ذلك قد بيناه على الصفحات السابقة .. ولم نفتر عليها في كلمة واحدة مما ذكرناه .. وإنما أعلنتهُ هي على شاشات الفضائيات المصرية والعربية ومسجل كل ذلك على صفحات الإنترنيت بالكلمة والصورة .. وكذلك الصحف المصرية والمجلات ؛ روزا اليوسف وغيرها وصحيفة الخليج الإماراتية .. بالإضافة إلى ما جاء في كتبها التي تفوح بالكفر البواح والخروج الصارخ على تعاليم ديننا وضوابطه .. ولم يعد شيئاً يحدث في أي مكان في العالم إلا ويعرفهُ القاصي والداني ولا يخالجني شك في أن هذه المرأة قد جَنَّدتْها جهات أجنبية كارهة بل حاقدة على الإسلام بعدما عاشت في أمريكا سنوات عديدة .. وما أدراك ما أمريكا وما فيها من " اللوبي الصهيوني " و" اليمين المسيحي المتطرف " الذي يقف وراء إسرائيل في باطلها وظلمها .. ومع ذلك كله " الموساد الإسرائيلي " الذي يقف وراء كل المصائب التي تحدث في العالم الإسلامي خاصة .. ثم الإعلام المصري والعربي الذي أفسح لهذه المرأة وأمثالها مساحات كبيرة لنشر هذه الآراء والأفكار الهدامة خاصة القنوات الفضائية الخاصة وأخطر من ذلك كله هو صمت الأزهر الشريف برجالهِ وعلمائه والاكتفاء بشجب ورفض مثل هذه الآراء التي يصدقها بعض الناس .. وعدم صدور فتوى صريحة من شيخ الأزهر أو مجمع البحوث الإسلامية بمنع مثل هذه المرأة وأمثالها من الجهلاء والعملاء الذين يهدفون إلى تشويه هذا الدين الطاهر .. الإسلام الذي ارتضاه الله جل وعلا لنا ديناً .. والذي أكمله الله تعالى في حجة الوداع عندما نزل على رسولهُ الكريم صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :
" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً "
تمنع هؤلاء المحرَّفين المبطلين وغيرهم من التحدث في أمر الدين لجهلهم بأبجدياتهُ الأولى .. وقصر الفتوى على علماء الدين الصالحين لأنهم ورثة الأنبياء .. والأمناء على هذا الدين .. أم لم يقرأ علماؤنا ذلك الأثر الصحيح الذي رواه ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان :
" يَحْمِل هذا العِلَم من كل خَلَف عُدُولَه يَنْفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " [ ابن القيم - إغاثة اللهفان ( 1/ 251 ) ].
وعلى العكس من ذلك نجد الشيخ " نصر فريد " مفتي مصر السابق يعلن ردهُ على هذه الجهالات التي جاءت بها هذه المرأة ومَنْ هم على شاكلتها من الضلال والعمى يقول في صحيفة " الميدان " المصرية الأسبوعية المستقلة التي جاء فيها أغلب هذه التحريفات للدين الحنيف .. يقول :
" إن إنكار نوال للمعلوم من الدين يخرجها بالضرورة من دائرة الإسلام " .. فهل يكفي هذا القول لردع مثل هؤلاء المفترين على الله جل وعلا ورسول صلى الله عليه وسلم ؟!!.
وهذه المرأة الكافرة بكل ما جاءت به من إنكار للقرآن وللسنة النبوية وما تطاولت به على سيد الخلق جميعاً محمد بن عبد الله حبيب رب العالمين r - لم يكن ذلك من باب " خالف تُعْرَفْ " كما قال فضيلة المفتي وأنما هي دراسة وافكار هدامة مدروسة استوعبها عقلها الفاسد الضال - وهذا جزء من مؤامرة كبرى لزعزعة عقيدة الإسلام في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية - لكن ذلك كله وهم وخيالات شيطانية لن تحقق لنوال ومن هم على شاكلتها أي نصرٍ إلا غضب الله وسخطه وتقدم قومها الذين اتبعوها .. كما يقدم فرعون قومه كما قال تعالى في هود:
) يقدمُ قومهُ يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( هود/ 98 . إن مما جعل هذه المرأة تتطاول على الإسلام والمسلمين هو الموقف السلبي من الجهات المسئولة من الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية .. والجهات الحكومية المسئولة كوزارة الأوقاف .. والإعلام الهزيل كل ذلك .. كان سبباً لما رأيناه وما سنراه من هذه المرأة وأمثالها وأنني أخشى ما أخشاه كمسلم غيور على دينه أن نكون قد وصل بنا الحال كما قال النبي الهادي صلى الله عليه وسلم
" كيف أنتم إذا لَبِسْتكُم فتنة يَهْرُمُ فيها الكبير ، ويَرْبو فيها الصغير ويتخذها الناس سُنّة ، إذا تُرك منها شيء قيل : تركت السُّنة .. !!
قالوا : ومتى ذاك ؟ قال : إذا ذهبت علماؤكم ، وكثرت قراؤكم ، وقلّتْ فقهاؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، وقلّت أمناؤكم ، والتُمِسَتْ الدنيا بعمل الآخرة وتُفُقّة لغير الدين " [ رواه الدارمي ( 1/64 ) بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن ، والحاكم ( 4/514 ) وغيرهما ] [ قيام الليل / الشيخ ناصر الألباني /4 ].
فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟.(43/238)
وكنت قد عزمت على ضم ما قاله الرجل الجاهل : جمال البنا إلى هذا البحث .. ولكني وجدت أن الكلام سيطول فيه .. فقررت بعون الله تعالى أن أجعل موضوع هذا الرجل الذي تبناه بجهله وضحالة علمه وبعده عن فهم الدين ألا وهو " إمامة المرأة للرجال " في الصلاة ، وحقها في خطبة الجمعة والذي التقى فيه فكره الضال مع نوال السعداوي وعصابتها ومع المرأة العربية المتأمركة " أمينة ودود " التي خالفت بفعلها كل الأصول الثابتة في هذا الدين وخروجها على النصوص الثابتة الواضحة لقواعد هذا الدين .. ألا وهي صلاتها الجمعة في كاتدرائية مسيحية .. ثم إمامتها للرجال والنساء وهو ما أنكره جمهور العلماء والفقهاء .. لكنها وجمال البنا وغيرهما قد تجاوزا حدود ما شرع الله وجاء به الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم
وسوف أفرد لهذا الموضوع مقالاً مستقلاً حتى أستوفيه بما يستحقهُ من استيفاء لخطورتهِ وبما يمثلهُ من هجمة شرسة على الإسلام والمسلمين . وأسأل الله العلي القدير أن يمدّني بمدده وعونه .. فهو ولي ذلك القادر عليه . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآلهِ وصحبهِ ومن تبعهُ وسار على نهجهُ القويم إلى يوم الدين .. اللهم آمين .
الجزء الثاني
الحمد لله رب العلمين .. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد :
فإنه في الآونة الأخيرة وفي أماكن متعددة من العالم .. كثرت الفِرَى على ديننا الحنيف .. وعلى رسولنا الهادي صلى الله عليه وسلم . ولعل مِنْ أكثر هذه الفِرَى خطورة ؛ فرية إمامة المرأة للرجال في الصلاة وخطبة الجمعة وإمامتها للرجال والنساء .. كما حدث في الموقف الشاذ والغريب عن تعاليم ديننا الحنيف الذي فعلتهُ المتأمركة " أمينة ودود " وقيامها بخطبة الجمعة والصلاة بالرجال والنساء في كاتدرائية مسيحية في مدينة نيويورك الأمريكية بعدما رفض المسلمون في أمريكا هذه المُحْدَثة البدعية الضالة .. ورفضوا كذلك أن تؤدي هذه الصلاة في مسجد من مساجد المسلمين هناك.
* فهل هناك من يقف وراء هذه البدعة السيئة ويقويها ويغذيها ؟
* وهل هناك من المسلمين من وافق هذه المرأة على خروجها على قواعد الدين الحنيف الثابتة بالقرآن والسنة ؟
* وهل هناك علاقة بين فكر الداعية الإسلامي - بزعمهم - " جمال البنا " وما فعلتهُ " أمينة ودود " بفكرها الضال والمنحرف ؟
فأين علماء المسلمين الربانيين ورثة الأنبياء وحملة رسالات السماء ؟ من كل هذه الافتراءات والضلالات التي تحدث لعالمنا الإسلامي ولديننا الحنيف الذي ارتضاه الله جل وعلا لنا ديناً ؟
* وهل هناك علاقة بين ما يحدث وبين بدعية قضية " تحرير المرأة " - بزعمهم- ومساواتها بالرجل ابتداء من عصر قاسم أمين - قصم الله عنقهُ في نار جهنم إلى يومنا هذا ؟
كل هذه التساؤلات مرت بخاطري وأنا أسمع وأرى ما يحدث حولنا من كل هذه البدع والمفتريات على الله جل وعلا ورسول صلى الله عليه وسلم وللأمانة مع الله ورسول صلى الله عليه وسلم في التصدي لهؤلاء الأقزام الجهلاء المأجورين . استخرت الله جل وعلا في الكتابة في هذا الموضوع للرد على هؤلاء بما يخرسهم ويصم آذانهم .. غِيرةً على ديني .. وعلى نبيي صلى الله عليه وسلم . فأقول و بالله التوفيق .. ومنه المدد والعون :
ولعل القضية التي أدت إلى كل هذه النتائج والآثار السيئة التي يعيشها عالمنا الإسلامي اليوم هي قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل - بزعمهم الباطل - وجذور هذه القضية تمتد منذ مناداة " قاسم أمين " بتحرير المرأة مروراً " بهدى شعراوي " ثم بنوال السعداوي ثم " أمينة ودود " .. أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة " فرجينيا كومنولث " الأمريكية .
ومناداة هؤلاء وغيرهم بتحرير المرأة .. وهي قضية باطلة من أساسها فالرجال قواّمون على النساء بنص آية النساء /34 .. قال تعالى :
" الرجال قوامون على النساء بما فَضَل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم .. الآية ".
وقوله تعالى في البقرة /228 :
" .. ولَهُنَّ مِثْلُ الذي عليهنَّ بالمعروف وللرجال عليهنَّ درجة والله عزيز حكيم "
والنكاح والطلاق بيد الرجل وهذا من كمال القوامة التي للرجال على النساء ثم تحريرها من ماذا ؟ فلو نظر هؤلاء الجهلاء في شريعة الله كتاباً وسنة إلى فضل الإسلام على المرأة في جميع جوانب حياتها لما تكلموا بهذا الهُراء ولما تعلقوا بتلك الأوهام التي هي بزعمهم الباطل حقائق ثابتة لا جدال فيها ,,ولو علم هؤلاء بما كانت عليه المرأة في الجاهلية ثم جاء الإسلام ليضعها في مكانها الصحيح .. وهؤلاء قد عميت أبصارهم وصُمَّتْ آذانهم عما جاء في كتاب الله تعالى وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم التي جاءت مفسرة للقرآن الكريم في قضاياه الكلية والمجملة .. قال تعالى :
" .. وأنزلنا إليك الذكر لِتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون " [ النمل / 44] .
وقا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من رواية أبي رافع رضي الله عنه:
" لا أُلْفيّن أحدكم متكئاً على أريكتهِ يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيتُ عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه "(43/239)
[ صحيح الجامع ( 2/1204) حديث رقم 7172/2454] .
وفي جزء من حديث الترمذي رحمه الله موضحاً لمعنى الحديث السابق :
" .... و إنَّ ما حرّم رسول ا صلى الله عليه وسلم كما حرّم الله "
[ صحيح سنن الترمذي ( 3/64 ) حديث : 2664 ].
ولنقف مرة أخرى مع هَدْي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالخير كل الخير للناس في كل مكان و في كل زمان - ليصم آذان هؤلاء الضالين المضلين الذين ينادون بتحرير المرأة - بزعمهم - حديث عظيم رواه الشيخان الجليلان البخاري وسلم رحمهما الله رحمة واسعة كما رواه غيرهم كثير رحمهم الله جميعاً من المحدثين الثقات .. ففي حديث زينب بنت أم سلمة عن أمها : أن امرأة تُوفىّّ زوجها ، فخشوا على عينيها ، فأتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال : لا تكتحل ، قد كان إحداكن تمكث في شر أحلاسها - أو شربيتها - فإذا كان حولٌ فمرّ كلبٌ رمت ببعرةٍ ".. فلا .. حتى تمضي أربعة أشهر وعشرا "
[ فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر ( 9/400 ) حديث : 5338 ]
وفي رواية مسلم رحمه الله لهذا الأمر كرواية البخاري رحمه الله .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا .. ( مرتين أو ثلاثاً .. كل ذلك يقول : لا ) ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تَرْميِ بالبعرة على رأس الحول " [ مسلم النووي 8/96 )ح : 1488 ].
وبعد أن كانت المرأة المتوفى عنها زوجها تَحِدُّ عليه سنةً كاملة كما في الحديثين السابقين - فأُمرت في الإسلام أن لا تحد على أحد مات لها فوق ثلاث إلا على الزوج تحد عليه أربعة أشهر وعشراً كما في الحديث المشهور في هذا الأمر - ثم نالت المرأة نصف ميراث الرجل كما قال تعالى في جزء من آية النساء /11 " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلُ حظ الأنثيين ... الآية "
وما تنالهُ المرأة في ميراثها هذا يبقى لها كله والزوج هو الذي يقوم بكل شيء من توفير المسكن والصداق والنفقة .. وبهذا يصير مع المرأة أكثر مما هو مع زوجها .
وأعطى الشارع الحكيم المرأة حقها كاملاً في اختيار الزوج فقال e : " لا تُنكح الثيَّب حتى تُستأمر ، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن وإذنها الصموت " وفي رواية أخرى صحيحة " وإذنها صُماتها ".
[ صحيح الترمذي ( 1/562 ) ح: 1107 .. وابن ماجة ( 1871) ].
وكانت البنت في الجاهلية تُوأد .. فجاء الإسلام وحرّم قتل النفس إلا بالحق .. وتطالب " نوال السعداوي " بإبطال آية الميراث لأن فيها غُبنٌ للمرأة وتدعو للسفور والإباحية وتعتبر الزواج بالنسبة للمرأة قيد على حريتها يجب إلغاؤه .
ثم تأتي " د. أمينة ودود " تطالب بحسب تعبيرها بحق النساء المسلمات في المساواة مع الرجال في التكاليف الدينية كحق المرأة في الإمامة وعدم ضرورة أن يصلي النساء في صفوف خلفية وراء الرجال باعتبار أن هذا الأمر هو ناتج عن عادات وتقاليد بالية وليس في الدين منه شيء .
سبحانك ربي ما أحلمك على هؤلاء المنكرين لآيات كتابك وسنة نبيك الهادي
محمد e الذي أُرسل رحمة للناس جميعاً لكن هؤلاء لا يعقلون.
ونقول " لأمينة ودود " وغيرها كما قال القائل :
أمور يضحك السفهاء منها .... ويبكي من عواقبها اللبيب
وألّفت هذه المرأة كتاباً بعنوان " القرآن والمرأة " وطرحت في هذا الكتاب وجهة نظر نسائية وحق المرأة في إمامة المسلمين .. وترى " ودود " أن عدم إعطاء المرأة هذا الحق أمر خاطئ مُتجذّر داخل المجتمعات الإسلامية دون أن يقوم أحد بمحاولة جادة لتصويبه .. وتقول أيضاً في هذا الكتاب أنه لا يوجد في سلوكيات النبي محمد ما يمنع أن تؤم المرأة المسلمين رجالاً ونساء وتؤكد في كتابها أن الرسول الكريم وافق على إمامة المرأة المسلمة .. وعدم إعطائها هذا الحق جعلها تفقد مكانتها كقائدة روحية وفكرية .
وهذا الذي قالتهُ " أمينة ودود " قال بهِ " جمال البنا " الذي يصفونهُ زوراً وبهتاناً بـ " الداعية الإسلامي " وأكثر من ذلك فقد قال هذا الجاهل المعاند لله ولرسوله e .. وهو الأخ الأصغر للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر .. قال :
* لا لزوم للحجاب وشعر المرأة ليس بعورة .. وقد شاهدنا على شاشات التلفاز النساء وهن يصلين خلف " أمينة ودود " حاسرات كاسيات عاريات حتى أن المؤذن ( وهي فتاة مصرية ) حاسرة الرأس تلبس بنطلوناً وهو ما قال بهِ ذلك الجاهل في رأي من آرائه : ارتداء المرأة للبنطلون أكثر حشمة وسترة ..!! .
* وقال أيضاً : ليس في القرآن والسنة أمر بالحجاب .. وهو ما قالتهُ من قبل " نوال السعداوي " وقد فندت أباطيلها تلك في الجزء الأول من هذه الرسالة .
* ويقول الاختلاط ضروري ومن الطبيعة والفطرة .
* لا شهود ولا مهر ولا ولي - يعني في النكاح - وما فيه من الجهل واضح.
* المرأة الأكثر علماً تؤم الرجال في الصلاة !!.
ولم يكن جمال هذا هو المتفرد بهذا الشذوذ والتخريف في القول .. بل إن لهُ أيضاً أحد الأحفاد في سويسرا ويدعى " طارق رمضان البنا " بجامعة سويسرا .
ويقولون في نعته " ناشط إسلامي " ويسمونهُ في الغرب " مارتن لوثر العرب " ..!!(43/240)
ومن تشبّه بقوم فهو منهم كما قال الصادق المصدوق e في الحديث الصحيح " من تشبّه بقوم فهو منهم " [ صحيح الجامع ( 2/1059 ) ح: 6149 ] .
نادى هذا الجاهل هو الآخر بتعطيل الحدود الشرعية ( الإسلامية ) وتجميدها ..وجَهَلَ أو تجاهل هو الآخر فضل الشريعة الإسلامية في ضبط سلوكيات وأعمال الناس .. وقد استقامت الدنيا للمسلمين في غابر العصور بفضل الله تعالى ثم بفضل محاسن وعظمة شريعتهم .. ونسى هذا كما نسى جدهُ جمال البنا أن الشريعة الإسلامية سياج للبشر جميعاً بما يحفظ عليهم : حق النفس وحق العِرض ، وحق العقل،وحق الدين .. ولكنهم عَمُوا .. وصموا .. فأضلهم الله .. وحين قال مثقف قديم :
يَدٌ بخمس مئين عسجدٍ ( العسجد : الذهب والجوهر كله )
ما بالها قُطعت في ربع دينار ؟
رد عليه عالم غيور :
عِزُّ الأمانةِ أعلاها .. وأرْخَصَها
ُلُّ الخيانة فأنظر حكمة الباري .
والله جل وعلا الذي أنزل الشريعة من قرآن وسنة .. ورضي لنا الإسلام ديناً هو أرحم بعبادهِ من الأم يولدها وأعلم بما فيه صلاحنا .
" ألا يعْلَمُ من خلق وهو اللطيف الخبير " [ المُلك / 14 ].
وإذا كان ذلك يصدر من آل البنا .. فليتقوا الله في أنفسهم وفي المسلمين .. لأن ما يقولونهُ لا يخدم إلا أعداء الإسلام .. وهم كثير ..!!
ونقول لهم كما قال القائل :
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
فلا غرو أن يرتاب .. والصبح مسفر
ومن يتَّبع لهواه أعمى بصيرة
ومن كان أعمى في الدُّجى كيف يَبصر؟
ونقول لآل البنا - وأمينة ودود .. ونوال السعداوي ومن على شاكلتهم :
إذا لم تخش عاقبة الليالي
ولم تستحي فأصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
و نَسِىَ هؤلاء أو تناسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح " لن يُفلح قومٌ ولُّوا أمرهم امرأة " [ صحيح الجامع ( 2/928 ) ح:5225]
ولعل هؤلاء الذين ينادون بإمامة المرأة للرجال والنساء قد اعتمدوا على حديث أم ورقة رضي الله عنها عندما استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتخذ مؤذناً فأذن لها كما جاء في صحيح سنن أبي داود رحمه الله :
" ... فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دارها مؤذناً فَأَذِِنَ لها "
وفي الحديث الآخر ( 591 ) عن أم ورقة ؛ بهذا الحديث .. قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها ، وجعل لها مؤذناً يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها .. وكانت تدعى " الشهيدة " وهي على قيد الحياة .
قال ( عبد الرحمن ) راوية : فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً " حديث حسن [ صحيح سنن أبي داود ( 1/176،177 ) حديث : 591-592 ] .
والحديث الذي بين يدينا حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج بهِ لا للنقل ولا للاستدلال .. رغم تحسين الألباني له كما في سنن أبي داود .. والدليل على ضعفهِ كما قال ابن حجر رحمه الله في " التلخيص الحبير " ( 2/26 ) قال : في إسناده عبد الرحمن ابن خلاّد .. فيه جهالة .. أي مجهول الحال .. وقد ضعّفه كذلك الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظهُ الله .. في دروسهِ التي خصص بعضها في دحض فِرية إمامة المرأة للرجال في الصلاة .. وحتى لو صح الحديث أو أنه حَسَن فإن كل الأئمة الذين احتجوا به .. إنما وضعوه في إمامة النساء للنساء .. ولم يفهم أحد منهم ذلك الفهم المنقوص المقلوب .. ولو رجعنا إلى علماء الشريعة وفقهائها ومحدّثيها لتجلي لنا :
* قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه " الأم " :ولو صلّت امرأة بنساء ورجال وصبيان ذكور .. أجزأت صلاة النساء ولم تجزيء صلاة الرجال ولا الصبيان .
* و ذهب المالكية إلى أنهُ لا تصح إمامة النساء مطلقاً ولا لبنات جنسها لا في الفرض ولا في النفل .
* وكره الأحناف ذلك أي صلاة النساء للنساء .
* وأجازها الشافعية والحنابلة - أي صلاة النساء للنساء - لورود الآثار الصحيحة في ذلك .
والأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى يبطلون صلاة الرجال خلف النساء وهو إجماع من أقوى الإجماعات العملية .. ولا نعلم حالة في الدنيا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم أنه أُجيز لامرأة أن تؤم رجلاً .
ومن الأمور التي تعكر على الناس حياتهم وعبادتهم أن نرى بعض الجهات تتقدم بآرائها لتشيع هذه الفرية على الناس بدلاً من حماية هذا الدين من عبث العابثين ، وإضلال المضلين ، وهو ما يساعد هؤلاء الضالين على الاستمرار في غّيهم وضلالهم .(43/241)
فقد قال المستشار الثقافي لوزارة الأوقاف المصرية : لا بأس أن تؤم المرأة الرجل في الصلاة لأن ابن جرير الطبري وأبي ثور - إبراهيم بن خالد - وافقا على ذلك وقالا به .. وقال بذلك أيضاً مفتي مصر الدكتور على جمعة عندما صرح على شاشة التلفاز بقوله : إن جمهور علماء المسلمين بينهم خلاف في مسألة إمامة المرأة للرجال .. وقال : إن الجمهور وهم معظم الأئمة المعترف بهم لا يجيزون إمامة النساء للرجال في حين أن عدداً من الأئمة مثل الطبري والإمام ابن عربي و إن كانوا أيضاً يختلفون في مكان وقوفها هل يكون أمام الرجال أم بمحازاتهم ثم أضاف أن الأمر في مثل هذه الحالات يكون مرجعهُ لأهل الشأن فإذا ما قبلوا أن تؤمهم امرأة فهذا شأنهم ولا حرج عليهم طالما لا يخالف ما تعارفوا عليه ، و إذا ما رفضوا فهذا شأنهم أيضاً وهو ما يسير عليه الناس في معظم البلاد الإسلامية ومنها مصر التي لا يتوقع أن يحدث فيها مثل هذا الأمر لأنهُ يتنافى مع تفكير وأعراف الناس وما اعتادوا عليه طوال حياتهم .[ هذه الفتوى من على موقع العربية نت - موقع المسلم تحت عنوان " اختلاف العلماء يجيز للدكتورة أمينة ودود أن تؤم الرجال " !!!] .
وهذه الفتوى إن صحت عن الدكتور على جمعة مفتي مصر فهي تحمل في طياتها مخاطر كثيرة تخالف الشريعة الإسلامية الكاملة المتكاملة .
* منها قوله من الأئمة مثل الطبري والإمام ابن عربي .. فأيهما بقصد الدكتور ؟ هل هو ابن العربي المالكي ؟ والمالكية يرفضون إمامة المرأة للصلاة وأن كان يقصد " ابن عربي " الصوفي المعروف .. فهذه زلة كبيرة لعالم من العلماء بمثل ما قال يسند فيه رأياً لهذا الرجل الصوفي ,, ولم يقل أحد من العلماء بمثل ما قال به الدكتور على جمعة في هذه الجزئية من فتواه.
* ثم إنه يُرجع الأمر لأهل الشأن:مَنْ هُم أهل الشأن في نظر الدكتور ؟!!
أليسوا هم ورثة الأنبياء ؟ أليس هو منهم ويحمل على عاتقه أمانة العلم الشرعي الذي يسير الناس عليه ؟.
ألستم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم " : يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدُولَه يُنفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " ؟
[ إغاثة اللهفان لابن القيم الجوزية ( 1/251 ) وسنده حسن .
يا علماء مصر إن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم كما قال عمر بن الخطاب لابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ونقف الآن مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل دلالة واضحة على رفض ونفي تقدم المرأة صفوف الرجال ناهيك عن خطبة الجمعة التي هي من أوليات أعمال الرجال : قال e :
" خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " [ صحيح الجامع ( 1/625 - 626 ) ح : 3310 ].
فأين موقع المرأة هنا .. إذا كان الشرع يلزمها بالتأخر عن الرجال ؟ .
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه : " رأيت الرجل منّا يلزق كعبهُ بكعب صاحبه " فهل يجوز إلزاق كعب رجل بكعب امرأة ؟
وفي حديث أنس رضي الله عنه وفي جزء منه : " قال e : " وكان أحدنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه " فهل يصح ذلك بين الرجل والمرأة إذا اختلطا في صلاتهما ؟!! [ فتح الباري ( 2/247 ) ح : 725].
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدتهُ مُليكه دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته ، فأكل منه ثم قال : قوموا ، فلنصل ِّ بكم قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لُبس فنضحته بالماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وصففت عليه أنا واليتيم وراءه .. والعجوز من ورائنا ، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف " [ سنن الترمذي ( 1/144 ) حديث: 234 ].
وفي صحيح البخاري رحمه الله تعالى باب : المرأة وحدها تكون صفاً .. قال e من حديث أنس رضي الله عنه قال :
" صلّيت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأُميِّ أم - سُلَيْم - خلفنا "
[ فتح الباري ( 1/248 ) ح: 727 ].
فهل في الأحاديث الصحيحة السابقة ما يشير من قريب أو من بعيد إلى تقدّم المرأة في الصلاة ؟ .. وفي الحديثين السابقين في سنن الترمذي والبخاري رحمهما الله تعالى وقوف المرأة خلف الصبيان .. ولو كان لها حق الوقوف أمامهم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .. ولكنه e لا ينطق عن الهوى .. إنما هو وحي يوحي .. فأي دليل بعد ذلك يرجوه هؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله e بمخالفة أمره وإتباع هوى النفس التي يحركها الشيطان إلى فعل ما لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به ؟
وليعلم هؤلاء المجادلون بالباطل أن صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد .. كما قال e:
" خيرُ صلاةِ النِّساء في قعر بيوتِهنّ " [ صحيح الجامع ( 1/626 ) ح: 3311 ] .
وهكذا يكون مكان المرأة خلف صفوف الرجال امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً كما في صحيح ابن خزيمة رحمه الله تعالي " أخروهن من حيث أخرهن الله " وقال الألباني رحمة الله : إسناده صحيح موقوف ولم يصح مرفوعاً .. حديث رقم : 700 .(43/242)
وقد ألف الدكتور أحمد محمد الشرقاوي كتاباً طيباً بعنوان " فصل المقال في إمامة المرأة للرجال " جمع فيه كثيراً من الآراء والفتاوى الشرعية التي أصدرها العلماء الثقات .. ويحسن الرجوع إليه لمن أراد المزيد حول هذا الموضوع الذي ابتدعه المبتدعون كأمثال جمال البنا وأمينة داود وغيرهما من شياطين الإنس الذين يقولون على الله الكذب وعلى رسوله e.. وذهب منهم الحياء ذهاباً .. ولم يعد في وجوههم قطرة ماء يواجهون الله بها يوم القيامة يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها .
ولله در من قال :
إذا بم تَخش عاقبة الليالي
ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
ولتتمة الفائدة فإنني أذكر هنا بعض الفتاوي والآراء الفقهية لعدد من العلماء والهيئات العلمية الشرعية التي لها وزنها وثقلها .
1. سؤال الدكتور خالد الماجد في 6/2/1426 رقم السؤال : 6559
هل يجوز للمرأة أن تصلي بالرجال في يوم الجمعة وتخطب فيهم ؟
أجاب :
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد :
فلا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة مطلقاً ومنها صلاة الجمعة ولا أن تخطب فيهم خطبة الجمعة فضلاً عن أن تتولاها .. ولا يجوز للرجال أن يصلوا خلفها أو يستمعوا خطبتها بل لا يجوز لجماعة النساء إقامة الجمعة إذا لم يحضرهم رجال تصح بهم الجمعة ولو فعلن شيئاً من ذلك لم تصح الصلاة ولا الجمعة ووجب عليهن إعادتها ظهراً ووجب على من صلى خلفهن من الرجال إعادة صلاته.
والفقهاء والعلماء على اختلاف مذاهبهم يشترطون لصحة الإمامة بالرجال أن يكون إمامهم ذكراً ولصحة إقامة الجمعة أن يحضر عدد لا يقل عن ثلاثة من الذكور المميزين .. ولم يسجل التاريخ فيما أعلم أن امرأة خطبت الجمعة بالمسلمين .
وهذا التقرير مستند إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية وسنة الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين فقد كان من الصحابيات من هن من أكابر أهل العلم ومرجح كبار الصحابة في الفتوى كعائشة وغيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يسند النبي صلى الله عليه وسلم إليهن إمامة الرجال أو خطبة الجمعة بهم ولا في واقعة واحدة.
فكيف تكون إماماً للرجال يقتضيها أن تكون أمام صفوفهم .. كما أن تولي المرأة الخطبة يقتضيها رفع صوتها وهذا منكر آخر حيث نهى الشرع المرأة أن ترفع صوتها ولو في العبادة كما في الذكر والتكبير والتلبية في الحج والعمرة .
وبناء عليه يكون من خالف هذا الحكم فأفتى بضده أو عمل بغير مقتضاه مُرتكباً خطأ صريحاً ومعصية بيّنة ومنكراً ظاهراً وهو شذوذ عن جماعة المسلمين وخروج على قولهم ما كان ليقع لولا ضعف أهل الحق وقوة أهل الباطل المادية حتى طمعوا أن يقلبوا الباطل حقاً .. [ موقع المسلم على الانترنيت .. المشرف العام د. ناصر سليمان العمر ] .
فتوى مجمع الفقه الإسلامي بالمملكة العربية السعودية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبهُ أجمعين ..
وبعد :
إن الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي تعبّر باسم علماء الأمة الإسلامية وفقهائها عن استنكارها وأسفها على ظهور بدعة مضلة وفتنة قائمة تمثلت في تقدم امرأة لأول مرة لإمامة جماعة من المصلين في صلاة جمعة بكاتدرائية مسيحية في مدينة " مانهاتن " وفي هذا مخالفة لأحكام الشريعة من وجوه تولي المرأة خطبة الجمعة وإمامتها للرجال في صلاتها ووقوف الرجال والنساء متجاورين مختلطين في كاتدرائية مسيحية وهي أمور تخالف ما عليه اتفاق جمهور العلماء والفقهاء المعتمدين .. وقد يكون المقيمون لهذه الصلاة على هذا الوجه معتمدين على أقوال ضعيفة أو غير معتمدة وردت في بعض الكتب الفقهية .
والمعتبر عند فقهاء الإسلام أن الجمعة فرض على الرجال دون النساء .. فهم الذين يقيمونها خطبة وصلاة .. والمرأة يجوز لها الحضور استحبابا لا فرضاً فكيف يسوغ لها أن تتقدم على من هو أحق منها بأدائها كما أن من المعلوم أن تقدم المرأة على الرجل مما يبطل صلاة الرجل فكيف تؤمه وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أماكن وقوف النساء في الصفوف من حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها .. وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " .. رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي .
وأن من شروط إقامة الجمعة عند الفقهاء أن تكون في مسجد جامع فضلاً عن إقامتها في غيره .. فكيف تصح في كنيسة أو كاتدرائية مع وجود المساجد.
وبناء على ما سبق فإن هذه الصلاة غير مستوفية للشروط وعلى من أداها أن يعيدها ظهراً قضاء .(43/243)
والمجمع إذا يستنكر هذا الحدث ويحث المسلمين كافة على التمسك بأحكام الدين الإسلامي المستمدة من الكتاب والسنة المطهرة .. ويدعو الباحثين إلى الرجوع إلى أهل الدين المعتمدين فيما يعرض عليهم من مشاكل وقضايا محذراً إياهم بالطعن في ألفاظها أو أسانيدها أو بالعمل على تأويل معانيها الأصلية الثابتة بين الناس وبإجماع الأمة من عهده e ومن بعده من الصحابة والتابعين إلى أن انتهى الأمر للأئمة المجتهدين .. والرسولل صلى الله عليه وسلم هو المبلغ والداعي إلى تحكيم الشرع بما صدر منه من أوامر ونواهٍ وإقرارات وأن الدين وبخاصة في العبادات لا يجوز أن يتصرف فيه لأن التوجيه فيها ينبغي أن يقصد به وجه الله والامتثال له فيما أمر به ولكن طائفة من المبطلين ترمي إلى تحقيق مصالح خاصة على حساب المباديء الإسلامية السامية وتروم عقلنة الشريعة وإخراج الدين الإسلامي من كونه إلهيا إلى دين طبيعي .. قال الله تعالى : ) ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون(
وفي هذا إشارة إلى أن الناس مَذْهَبيْن لا ثالث لها ؛ مذهب الملتزمين بالشريعة التي تلقوها عن الله ، ومذهب المنحرفين الذين يَحْكُمونَ بأهوائهم وبما لا يعلمون منحرفين عن شريعة الله وأحكام دينه.
وينبه المجمع كل مسلم عاقل يَقُدم على الاجتهاد في الدين ويعرف قدره ولا يتعدى طوره قال الله تعالى :
" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمهُ الذين يستنبطونهُ منهم " وقال عز وجل : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وأتقوا الله إن الله شديد العقاب "
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وآلهِ وصحبهِ أجمعين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتبهُ
الفقير إلى عفو ربهِ الغفور
وخادم الكتاب والسنة
راشد بن عبد المعطي بن محفوظ
الموجه بالأزهر الشريف سابقاً
================(43/244)
(43/245)
حرية الرأي في الإسلام
ما أكثر الأصوات المؤيدة والمناصرة والداعمة التي ترتفع بحزم وقوة كلما أثيرت قضية تتعلق بالدين والقيم ، حيث نرى الناس - من كل الطوائف دون استثناء - يجتمعون في أضخم تجمع بشري للدفاع عن الثقافة والمثثقفين الذين تنتهك حرمتهم في عقر ديارهم ويمنعون من التعبير والإبداع الذي لا يجد له الشغل الشاغل للإعلام المرئي والمسموع ، هذا الإعلام الذي لا يكتفي بالدفاع عن ( المثقف ) بل إن بعض أحهزته تحضر - وعلى نفقتها الخاصة - ( مثقفين ) من خارج البلد ( وكأن الموجودين لا يفون بالغرض ) وذلك بهدف بحث مواضيع فكرية وإسلامية تمس العقيدة والشريعة الإسلامية وتؤدي إلى إثارة الفتنة بين المسلمين .
إن ما يلفت النظر في هذه القضية نقاط عدة منها :
1- أن أبرز من يقوم بهذه الأعمال هم علمانيون مهما كان انتماؤهم الطائفي ، وهم يسعون بجهد متواصل إلى أن " يكفّ المسلمون عن إسلامهم ويكفّ علماء الدين عن دراسة الدين والدعوة إليه وأن يكف المفكرون الإسلاميون عن استلهام الدين في مختلف شؤون الحياة ، ، لأنهم يخشون- كما يخشى العالم بأسره - من المدّ الإسلامي الذي أصبح بعد انهيار الشيوعية الخطر الأول الذي يهدد القُوى الغربية الذين يدافعون عن مصالحها في لبنان .
وهم من أجل تنتفيذ هدفهم التدميري هذا يستخدمون الوسائل المتاحة لهم كافة فيستضيفون الأشخاص الذين أجمع علماء الأمة على تكفيرهم ، ويتحدثون معهم في مواضيع فكرية لا يفقهها المتكلم ولا المحاور ولا حتى المُشاهد ، والهدف طبعاً لا يُخفى على المسلم البسيط الذي يدرك أن الحرب انواع وهي وإن انتهت على الأرض فهي لم تنته في مَيدان العقول والأفكار .
كما أن لرجال الأعلام أيضاً ضيوفاً من ( المثقفين )وضعوا دينهم جانباً وشمّروا عن سواعد أقلامهم وموهبتهم الروائية والشعرية للدفاع عن حرية الرأي والكلمة والإبداع مستخدمين كل وسائل السخرية والاستهزاء والتطاول على المقامات الدينية الإسلامية معتبرين ان الرأي الصادر عن العلماء هو رأي شخصي وليس حكم الإسلام .
2- أن من يتبجّح بالحرية دون إدراك لمعناها الأدبي والشرعي ولحدودها - إلا كونها تُطلق العِنان للجاهل والكافر على حد سواء- يخدع نفسه قبل ان يخدع الآخرين لأنه يريد أن يثبت أن ما يفعله هو دليل عقلانية وتنوير وإعمال الفكر ، بينما في الحقيقة إن ما يسعى إليه هو إطلاق العنان لغرائزه وأهوائه التي تقرّبه للبهيمية ، لذلك فهو يسعى لإيجاد ستار عقلي يبيح له هذا الفعل ، وقد أحسن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حين وصف الملحد بقوله : " إن المُلحد الذي يمارس أمامك حياة التحلل والإلحاد ليس مشدوداً إلى حياته بسبب فكر مجرد كما تظن ، ولكنه مشدود إليها بأهواء نفسية مستحكمة" .
وهؤلاء الملحدون الذين حرمهم الله عز وجل من الهداية وقال فيهم : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هُداها ولكن حقَّ القول مني لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين " السجدة ، 13.
إنما منحهم هذه المنزلة نتيجة ممارستهم لحريتهم في الاعتقاد الشخصي ، لأن الإيمان فعل قلبي ولا يمكن ان يكون بالإكراه ، لهذا قال عز وجل : " لا أكراه في الدين" البقرة،256 . وقال أيضاً : " ولو شاء ربّك لآمن مَن في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تركه الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس ، 99.
إن الإيمان بالله عز وجل شرف وتكريم وهؤلاء لا يستحقون هذا الشرف لهذا حرمهم الله منه ، إلا أنه سبحانه وتعالى جعل حرية المعتقد عند هؤلاء مشروطة بعدم نشر الفساد بين المسلمين وعدم الاعتداء على حرمة هذا الدين .
لهذا فهناك فرق بين حرية المعتقد وحرية الرأي والتعبير في الإسلام ، فحرية الرأي في الإسلام تستلزم شروطاً ومبادئ لا يمكن التغافل عنها منها :
أ- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية لا بد أن يكون صادراً عن مسلم عاقل يتمتع بالأهلية كما يتمتع بمقدرة ثقافية علمية ، فليس من حق أي انسان ان يتكلم في موضوع يجهل أبعاده .
ب- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية يجب أن يصدر عن المعنيين بالأمر، فليس من حق الإنسان ان يُدلي برأيه في موضوع لا يخصّه ولا يربطه به صلة مباشرة ، فرسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : " مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " رواه الترمذي .
ج- أن إبداء الرأي يجب أن لا يتطاول على الإسلام والمقدَّسات الدينية للمسلمين ، لهذا فحرية إبداء الرأي يجب أن تخضع للقاعدة الفقهية الهامّة المستقاة من حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم : " لاضرر ولا ضرار " .
إن العبث بالنصوص الشرعية المتمثلة في القرآن والسُّنة على وجه التحديد ، ينبغي أن يظل بمنأى عن الذين بتذرعون بحرية التعبير أو البحث ، ويرّوجون لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها باسم تاريخية النصوص ، أو نسبية الأحكام الشرعية ، أو غير ذلك من مداخل العدوان على عقيدة المجتمع وضميره " .(43/246)
3- أن مما يساهم بشكل غير مباشر في ازدياد هذه الموجة التهجّمية على الإسلام هو غياب الدَّور الذي أناطه الإسلام بكل مسلم ، الا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيما تتجمع ألوف الأصوات لدعم المنكر يختفي الصوت الذي يدافع ويبرر ويدعو ويرشد ، مما جعل الآخرين يتمادَوْن في غيهم لعدم وجود من يردعهم وقد استخدم احدهم مثلاً شعبياص عندما تهجم على مقام الإفتاء نعيده إليه هنا " يا فرعون من فَرعنَك ؟ قال : ما لقيت حدا يردني ".
ألا يكفي انتهاك حرمة القرآن سبباً للوقوف في وجه اعدء هذا الدين ؟ ألا يجب على كل مسلم نصرة هذا الدين بما أُتيح له من وسائل ؟ ورسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم .
لماذا يريد المسلم اليوم ان يقفز إلى الاستنكار بالقلب ويتخلى عن باقي الوسائل التي لا تزال متاحة أمامه ؟
إن اعداء الإسلام يستخدمون سلاح اللسان ويتمسكون به ويقاتلون من أجله ، فلماذا لا يستخدمه المسلمون ليدافعوا عن أنفسهم وعقيدتهم ويسيتفيدوا من حرية الرأي التي يريد الآخرون احتكارها لنفسهم ؟
إن من أسباب فقدان النصر الجُبن والضعف وعدم التوكل على الله عز وجل ، قال سبحانه وتعالى : " ولينصرن الله من ينصره " الحج ، 40.
إن المسلم اليوم يتوكل على الله في حظوظه وشهواته ولا يتوكل عليه في نصرة دينه وإعلاء كلمته ، ولا يقوم بواجبه الديني في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يظنن أحد أن الجهاد يكون فقط بالسلاح بل إن " الجهاد بمفهومه الواسع يعني أي حركة إيجابية للمسلم ( وفق منهج الله ) يقاوم بها أي فكرة أو سلوك او نظام منحرف داخل نفسه أو داخل المجتمع ( المحلي والعالمي )" .
إن المسلمين اليوم لم يكتفوا بترك هذه السنن بل منهم مَن وقف في صَفّ الكفار والملحدين إما جهلاً بدينه أو جُبناً وتمسكاً بمصالح دنيوية وصل إليها ، وقد وصف ابن تيمية حال مثل هؤلاء بقوله : " كثيراً ما يجتمع في كثير من الناس أمران بُغض الكفر وأهله وبُغض نَهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال ، وقد قال تعالى : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " الحجرات ، 15.
وقال تعالى : " قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بامره والله لا يهدي القوم الفاسقين " التوبة ، 24.
وفي الختام نذكر بعاقبة تَرك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من أن يمسّنا عذاب الله الذي حذّر منه رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله : "والذي نفسي بيده لتامُرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُوُنه فلا يستجاب لكم " رواه أحمد .
د. نهى قاطرجي
============(43/247)
(43/248)
سنوا بهم سنة الاتحاد السوفييتي
الاتحاد السوفييتي طغى وتجبر وحشد جيشه وعتاده، وفتح خزائنه وبنوكه، واضعا نصب عينيه الاستيلاء الكامل على أراضي أفغانستان، ليعبر من ورائها إلى البلد المجاور له(باكستان) وليتمتع بالمياه الدافئة التي تمكن فلكه من الدخول إلى دول الخليج عن طريق مضيق هرمز، ويضع يده على منابع البترول، ويحتل المنطقة بأكملها، فتتصل عدن الماركسية بالبصرة العلمانية، ويحولها كلها إلى الشيوعية الحتمية التي كان ينادي بها ويعمل من أجل تحقيقها في العالم، ويحرم منها عدوه اللدود "الغرب" وبخاصة " الولايات المتحدة الأمريكية" ذات المطامع الكبير الجاثمة على مداخلها ومخارجها، المستأثرة بكنوز خيراتها.
ملأت جيوش هذا الغازي السهل والجبل من أفغانستان، وسيطرت أسراب طائراته الحربية على سمائه، فدمرت قراه ومدنه، وأهلكت حرثه ونسله، وقتلت من شعبه الملايين، وشردت الكثير منهم، يتمت الأطفال من آبائهم وأمهاتهم، ورملت النساء من أزواجهن، وأصابت الكثير من السكان بالإعاقات المزمنة، وهنا برزت فئة قليلة العدد، ضعيفة العدد لا تملك منها إلا المعاول والفئوس، وشيئا لا يذكر من الأسلحة الخفيفة القديمة.
فصمموا على مقاومة الغزاة بذلك العدد القليل، وتلك العدد الضعيفة، حتى كان الناس يصفونهم بـ"المجانين" لوقوفهم أمام تلك الدولة المسماة بـ"العظمى" ولكن "المجانين" صمدوا وصبروا وصابروا، وعظم خطرهم بعد كان محل الهزء والسخرية، فأدرك شباب المسلمين ذلك اللغز "الجهاد في سبيل الله" الذي كان في غاية الخفاء والغموض عليهم فعرفوا أنه سفينة النجاة وقارب العزة، فهبوا من كل حدب وصوب في مشارق الأرض ومغاربها، والتحموا بصفوف إخوانهم المجاهدين "المجانين" وهزوا "الدولة الشرقية العظمى" هزا.
وأسعفتهم المؤسسات الخيرية بما يحتاجون من مال وطعام ودواء، ووفد إلى مخيماتهم المعلمون والدعاة والعلماء، فاشتدت قوتهم وبدأت الخسائر تزداد في صفوف عدوهم، فشعرت "الدولة العظمى الغربية" المحا ربة لـ"لدولة العظمى الشرقية" بأن هؤلاء "المجانين" ذوو قدرة هائلة يمكن أن تهزم الاتحاد السوفييتي الجبار، إذا ما وجدت قليلا من الدعم المادي، فأمدتهم هي وبعض حلفائها بما مكنهم - مع قوة إيمانهم - من الصمود والاستمرار في مقاومة العدو جهاده، واشتهروا في وسائل الإعلام الغربية، ومنها وسائل الإعلام الأمريكية بـ"المجاهدين" وفي أقل من عقد من الزمان انتصر المجاهدون على عدوهم، كانوا قادرين على حسم الموقف في وقت أقصر، لولا ما أصابهم به الشيطان من تنازع وتصدع.
فخرجت "الدولة العظمى الشرقية" تجر أذيال الهزيمة، وقد أنهكت في اقتصادها، وفشلت في سياستها، وذهبت ريحها وهيبتها، فكان ذلك سبيا في تصدعها وانفراط عقدها، فتناثرت دولها كما تتناثر حبات السبحة التي ينقطع سلكها، وبرز من يقول لها "لا" ممن تربى في حصنها "الكرملين" وفي "جوهر داودايف" وإخوانه في الشيشان لذلك مثال، كما تربى موسى في قصر فرعون الذي عتا وتجبر، فلقي مصرعه وهو في عنفوان قوته وجبروته.
وهاهي روسيا تصارع من أجل البقاء على الحياة، تشاهد دولها السابقة تنضم إلى الدول الغربية وتكون معها الاتحاد الأوربي الذي أضحى كتلة قد تبرز قريبا دولة غربية عظمى أخرى يتحقق بها التوازن السياسي والعسكري الذي يحد من تفرد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم.
ولقد تنفست الولايات المتحدة الأمريكية الصعداء بسقوط الاتحاد السوفييتي الذي مكثت تصارعه سبعين عاما، واتجهت بعد سقوطه لمحاربة عدو قديم جديد لقادة الصليبيين المتشددين، ألا وهو "الإسلام" الذي سموه بـ"العدو الأخضر" محققين بذلك أحلام بعض زعمائهم الذين تنبئوا بالفرصة السانحة" بعد ذلك السقوط بالسيطرة على العالم و"إعادة ترتيبه" من جديد ليحققوا بذلك الترتيب مصالحهم في العالم والسيطرة على "المناطق الحيوية" ومنها دول الخليج التي أصبحت قواعدها العسكرية تسيطر عليها جوا وبرا وبحرا والمناطق "الحساسة" كما ذكر ذلك أحد قادتهم "نيكسون" في كتابه "الفرصة السانحة"
ولقد غطست الولايات المتحدة الأمريكية في أوحال نهري دجلة والفرات إلى الحلقوم، فليغتنم المجاهدون في العراق "الفرصة السانحة" لهم في أرض العراق، ولا يسمحوا للقوات المعتدية تخرج من بلادهم حتى يحققوا فيهم ما قال الله: ((فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) [محمد (4)]
فلا يبعد أن ينزل الله بهذه بقادة هذه القوة المعتدية ما هو أشد مما أنزله بالاتحاد السوفييتي، فيخرج ما بقي من جندهم مقهورا يجر أذيال هزيمته فتتصدع بذلك دولته كما تصدعت دول الاتحاد السوفييتي، وليس ذلك ببعيد إذا اجتمعت كلمة المجاهدين على الحق واجتنبوا التفرق والتصدع المؤديين إلى الخسارة والفشل، والذي صدع الاتحاد السوفييتي قادر على صدع الولايات المتحدة المعتدية بإذن الله.(43/249)
ولا يهولنهم كثرة عدد العدو، وكثرة عُدَدِه، فالكثرة تهزمها القلة، إذا كان الله معها:
((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ...)) [البقرة (251)]
والمال ينفقه أهله في الباطل فيكون عليهم حسرة ويغلبون: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) [الأنفال (36)]
فسنوا بالأمريكان سنة الاتحاد السوفييتي ولا تستبعدوا أن ينزل الله بهم ما هو أشد مما أنزله به، وما عليكم إلا بذل ما تقدرون عليه: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [التغابن (16)]
((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)) [الأنفال (60)]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
============(43/250)
(43/251)
فرصة لا تضيعوها
بدأ اليهود باحتلال بعض أراضي فلسطين قبل أكثر من نصف قرن، بعون من دول غربية جاثمة على قلب العالم الإسلامي، بفرق مدربة قليلة في وسط الدول العربية التي كان أغلبها تحت الاحتلال الأجنبي، وكانت ضعيفة في اقتصادها وفي سياستها وفي جيشها وفي سلاحها، بحيث هزَمَتْ جيوشَها مجتمعةً فرقُ اليهود القليلة آنذاك، إضافة إلى أن الدول الغربية المحتلة وبخاصة بريطانيا التي كانت تفرض سيادتها على الدول الإسلامية وبخاصة العربية منها، وكانت تسهل لليهود الهجرة إلى فلسطين وتمدهم بما يحتاجون، تحقيقا لوعد بلفور الماكر الذي أطلقه سنة 1917
وأحست الشعوب الإسلامية بالخطر اليهودي، فحاول شبابهم بتوجيه من بعض دعاة الإسلام ومفكريه الوقوف ضد اليهود بما عندهم من الإمكانات المحدودة، ولكن إيمانهم القوي وبسالتهم الجهادية وتوكلهم على الله قوت عزائمهم وكان العدد القليل الضعيف التسليح منهم يهزم العدد الكبير القوي العُدَّة من اليهود.
فصدرت الأوامر من أعداء الإسلام والمسلمين إلى السلطات العربية الفاقدة للسيادة على شعوبها باعتقال المجاهدين والزج بهم في السجون، فنفذت ذلك، فخلا الجو لليهود الذي تتابعت هجراتهم من الدول الغربية وغيرها، فسحقوا البلد سحقا قتلا لبعض السكان وتهجيرا لآخرين.
وحاول علماء المسلمين ومفكروهم جمع الأمة وقادتها وتعاونهم على تحرير الأرض من الأعداء، فعقدوا المؤتمرات دون جدوى، لأنهم لم يكونوا مستعدين لمخالفة المحتلين الأجانب، ولم يكن عندهم من التوكل على الله ما يجعلهم يواجهون المعتدين.
فقاد بعض علماء الإسلام فرق الجهاد محاولين طرد اليهود المغتصبين، ولكن القوتين لم تكونا متكافئتين لا من حيث العَدَد ولا من حيث العُدَد، فنال الشهادة من نالها منهم، واضطر غيرهم إلى الانسحاب من المعركة.
وبذلك خلا الجو لليهود الذين أطبق حكام الدول الغربية ومؤسساتها على دعمهم بالمال والرجال والسلاح، إضافة إلى كثرة الهجرات اليهودية من العالم كله، بما فيه الدول العربية.
وصدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكان اليهود يتمنون تنفيذ ذلك القرار، مؤقتا ليعدوا عدة المستقبل ليقيموا الدولة اليهودية "الكبرى من الفرات إلى النيل" ورفض العرب ذلك.
وفي سنة 1948 أعلن اليهود دولتهم من جانب واحد دولتهم على الأرض التي أصبحت تحت سيطرتهم، فأصبحت أمرا واقعا لاعتراف الدول الغربية الرأسمالية والدولة الشرقية الشيوعية، فقويت بذلك شوكتهم ماديا ومعنويا.
واستمر اليهود في عدوانهم على الفلسطينيين، بل تجاوزوا ذلك إلى العدوان على دول الجوار: مصر والأردن وسوريا ولبنان.
وفي سنة أنشئت 9741 أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية على أمل أن تدعمها الدول العربية التي منيت بالفشل والهزائم، ولكن العرب كعادتهم، لا يجتمعون على هدف يحقق لهم مصالحهم، مع كثرة القرارات في الجامعة العربية التي شحنت بالمشاريع المتنوعة التي لو نفذ 25% منها، ومنها "اتفاقية الدفاع العربي المشترك" لما بقيت الدولة اليهودية التي تهز لهم العصا ومن ورائها البيت الأبيض الظالم، فدفنوا تلك الملفات، وتصارعوا فيما بينهم بدلا من أن يجتمعوا على عدوهم.
ولهذا كثرت الضغوط على المنظمة من الدول الغربية بدعم من الدول العربية ترتب عليها اجتماع مدريد العلني، واتفاقية "أوسلو السرية" التي تمت بعدها زفة السلطة إلى بيت الطاعة، حيث أصبحت محاصرة حصارا جعلها تحت رحمة اليهود، في جميع حالاتها، التي لا يحتاج العالم إلى الكلام عنها بالتفصيل، لأن الصحافة بكل أجهزتها قد كفتنا الحديث عنها.
ولهذا اضطرت السلطة إلى التنازل إثر التنازل لدولة اليهود، وكلما تحقق للعدو تنازل، شرع في اتخاذ وسائل ضغوط جديدة للحصول على تنازل جديد، دون أن يتنازل هو عن أي أمر ذي بال.
واشتغلت السلطة بفتات الغنائم التي يقدمها من يسمون بالمانحين، استئثارا بها من دون الشعب فاستشرى فيها الفساد الإداري والمالي الذي كانت تنكره غاية الإنكار، قبل الانتخابات الأخيرة.
ولهذا آثر الشعب بأصواته الحركة المجاهدة التي كانت تقف كالجبال الشم لمقاومة المحتل، وتقدم خدمات للشعب لم تقدمه السلطة المسئولة عنه، وهنا فقط اعترف قادة السلطة القديمة تحت وطأة الفشل الذريع بذلك الفساد وأعلنت أنها ستتجه للإصلاح لتنجح في انتخابات قادمة!
والتقت تصريحات قادتها ضد حماس مع تصريحات قادة اليهود وأعوانهم من صهاينة نصارى أمريكا والدول الغربية، ودعمتها تصريحات زعماء بعض الدول العربية، خلاصتها جميعها: تنازل حماس عن برنامجها الذي انتخبها الشعب على أساسه، والالتزام ببرنامج السلطة الذي أسقطها الشعب بسببه، تحقيقا للديمقراطية الأمريكية التي تريد تطبيقها في المنطقة(43/252)
وإن على العالم الإسلامي أن يعلم أن فرصة الخيار الصحيح قد أتت بدون ترتيب بشري، بل بترتيب رباني، جعل حماسا تقعد على كرسي قيادة قطار الأرض المباركة، وأن برنامجها في حقيقة الأمر هو الذي سيحطم كبرياء اليهود ويقلقهم ويجعلهم على المدى البعيد يخضعون للمفاوضات الجادة التي أجهدت السلطة القديمة ووراءها كافة الدول العربية للحصول عليها من اليهود دون جدوى، لأن حركة حماس ستكون في إحدى يديها ورقة "السياسة" وفي اليد الأخرى ورقة "المقاومة الجهادية" التي لا يلقي اليهود بالا لغيرها، هذه الفرصة يجب أن يغتنمها قادة الشعوب الإسلامية، وبالأخص العربية منها، فيقدموا الدعم الكافي لهذه الحكومة التي ستعدل مسار من الصلف اليهودي الذي ظل أكثر من نصف قرن يهزأ بالعرب ويخادعهم وفي طليعتهم قادة السلطة الفلسطينية القديمة، ويجعل اليهود يفاوضون وهم يعلمون أنه لا خيار لهم سوى المفاوضات الصادقة، التي لم يكونوا يرضون بها، فكم قدمتم أيها القادة العرب من مبادرات داسها اليهود بأرجلهم، وردوا عليها بالطائرات المقاتلة والدبابات والصواريخ.
فاغتنموا أيها الزعماء العرب هذه الفرصة التي قد تكون الخطوة الأولى لرفعتكم وخضوع عدوكم، وثقوا تماما ألا سبيل لكم إلى إخضاع اليهود لمبادراتكم، وإن كانت خفيفة الوزن، إلا بوجود سلطة ذات مبادئ تقوم عليها سياستها الحكيمة ومقاومتها العظيمة، ونرجو أن تكون حماس مؤهلة لذلك، وإذا خذلتم هذه السلطة، وخذلانها خذلان للشعب الفلسطيني بأكمله، فستندمون عندما لا ينفع الندم، وستذكرون ما أقول لكم!
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
- - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الخامس عشر ... 2
الشيوعية والماركسية ... 2(43/253)
(43/254)
الشيوعية ... 2(43/255)
(43/256)
من منظّري الشيوعية ... 8(43/257)
(43/258)
الماركسية داء لا دواء ... 12(43/259)
(43/260)
اليهود والشيوعية ... 14(43/261)
(43/262)
الشيوعية ... 23(43/263)
(43/264)
النظرية الشيوعية ... 188(43/265)
(43/266)
الشيوعية الماركسية واهم رموزها ... 221(43/267)
(43/268)
أبناؤنا في ظل الواقع المفتون ... 228(43/269)
(43/270)
الحزبان الشيوعيان : المصري والعراقي ... 234(43/271)
(43/272)
الصين وأفريقيا من الثورية الشيوعية إلى الواقعية الاقتصادية ... 237(43/273)
(43/274)
جمهورية قرغيزستان بين خيارين .. ... 241
التوجه الإسلامي ، والاحتواء الغربي ..!! ... 241(43/275)
(43/276)
المتمسلمون ... 261(43/277)
(43/278)
نقض اسس الماركسية ... 266(43/279)
(43/280)
فساد مقولة ( إرادة الشعب من إرادة الله ) ... 298(43/281)
(43/282)
الإسلام في بريطانيا.. ... 299(43/283)
(43/284)
الأدلة الواقعية على بطلان مذهب الشيوعية ... 303(43/285)
(43/286)
حرب العقائد والدرس المستفاد ... 305(43/287)
(43/288)
الشيوعية وموقفها المعادي للإسلام ... 311(43/289)
(43/290)
حل القضية الفلسطينية ... 314(43/291)
(43/292)
الشيوعية ... 315(43/293)
(43/294)
نقض الاشتراكية الماركسية ... 322(43/295)
(43/296)
العصابة الشيوعية تواصل جرائمها ضد الشعب التركماني ... 358(43/297)
(43/298)
مؤتمر المسلمين والعودة لرب العالمين ... 361(43/299)
(43/300)
طاجستان (1-2) ... 367
بين مطرقة الاحتلال الروسي وسندان الاحتواء الغربي ... 368(43/301)
(43/302)
تاريخ العلاقات الشيوعية الصهيونية ... 386(43/303)
(43/304)
صاحب الـ(15) مؤلفاً عن الإسلام: ... 399
عندما سقطت الشيوعية دخل العديد من المجريين في الإسلام ... 399(43/305)
(43/306)
مسلمو الصين .. ... 402
بين اضطهاد الشيوعية ومخططات التنصير ... 402(43/307)
(43/308)
ما هي العولمة ، الرأسمالية ، الاشتراكية ، الشيوعية ، حزب البعث ؟ ... 406(43/309)
(43/310)
التاريخ الدموي للشيوعية ... 411(43/311)
(43/312)
هل الإسلام يساوي بين الرجل والمرأة ... 413(43/313)
(43/314)
حكم زواج المسلم من غير المسلمة والعكس ... 418(43/315)
(43/316)
مسلم أحب فتاة هندوكية ويريد الزواج بها ... 420(43/317)
(43/318)
هل ينضم لحزب إسلامي في بلد علماني ؟ ... 421(43/319)
(43/320)
الحكومة الأوزبكية تغلق أكثر من 3000 مسجد خلال سنتين! ... 427(43/321)
(43/322)
المادية الجدلية ... 430(43/323)
(43/324)
الشيوعية بين النظرية والتطبيق ... 431(43/325)
(43/326)
تحريم الشيوعية ... 437(43/327)
(43/328)
القلم الطيب والقلم الخبيث ... 440(43/329)
(43/330)
حقائق الشيوعية وعقائدها البالية ... 449(43/331)
(43/332)
الشيوعية بين الماضي والمستقبل ... ... 454
بين النظرية والتطبيق ... 454(43/333)
(43/334)
احذروا : كتاب يُكفِّرُ ويَشتمُ الله ؟! ... 500(43/335)
(43/336)
حين يشدو الشعراء للشهداء! ... 511(43/337)
(43/338)
بيجوفيتش..وحكاية(المنفستوالإسلامي) ... 518(43/339)
(43/340)
حكم الإسلام فى مبادىء الشيوعية ... 525(43/341)
(43/342)
الشيوعية ... 529(43/343)
(43/344)
الماسونية - الشيوعية - العلمانية. ... 534(43/345)
(43/346)
حكم التحاكم إلى المحاكم الشيوعية ... 541(43/347)
(43/348)
حكم الشيوعية والانتماء إليها ... 541(43/349)
(43/350)
معتنق الشيوعية مرتد ... 543(43/351)
(43/352)
9 - حكم اللحوم المستوردة من البلاد الشيوعية والمجوسية والوثنية ... 545(43/353)
(43/354)
الفرع الثاني - مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الشيوعية : ... 545(43/355)
(43/356)
مسمار جديد في نعش الشيوعية ... 546(43/357)
(43/358)
من تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية ... 548
وموقفها من قضية فلسطين ... 548(43/359)
(43/360)
المسلمون البلغاريون بين ناري الشيوعية والصليبية ... 559(43/361)
(43/362)
من أسس الشيوعية؟ ... 566(43/363)
(43/364)
الشيوعية.. وموقفها المعادي للإسلام ... 568(43/365)
(43/366)
الشيوعية في الميزان ... 572(43/367)
(43/368)
كيف دخلت الشيوعية في أفغانستان؟ ... 586(43/369)
(43/370)
تعاون الصهيونية مع الشيوعية والمأسونية ... 588(43/371)
(43/372)
القرار الثالث -حكم الشيوعية والانتماء إليها ... 593(43/373)
(43/374)
حكم من يطالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية ... 597
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 1 / ص 275) ... 597(43/375)
(43/376)
الاشتراكية مذهب كفري يحرم اعتناقه والدعوة إليه ... 599(43/377)
(43/378)
الإسلام والمذاهب الاشتراكية ... 599(43/379)
(43/380)
الجزائر .. سقوط الاشتراكية ... 614(43/381)
(43/382)
دور الدول الاشتراكية في تكوين إسرائيل ... 615(43/383)
(43/384)
السنن الاجتماعية الإلهية في تغيير المجتمعات الإنسانية ... 617(43/385)
(43/386)
جراءة المنصرين على المسلمين ..!! ... 626(43/387)
(43/388)
مختارات صحفية ... 630(43/389)
(43/390)
الحرب النفسية دفاعاً وهجوماً ... 634(43/391)
(43/392)
فاعتبروا يا أُولي الأبصار ... 647(43/393)
(43/394)
الصهيونية.. قائدة التوجهات المعادية للإسلام ... 652(43/395)
(43/396)
الغزو الفكري المنظم ... 663(43/397)
(43/398)
مأساة تركستان الشرقية 1/2 ... 671(43/399)
(43/400)
ظاهرة الصراع في الفكر الغربي بين الفردية والجماعية ... 681(43/401)
(43/402)
الفكر الإسلامي على مفارق طرق ... 699(43/403)
(43/404)
التعصب الأوربي الصليبي!! ... 711(43/405)
(43/406)
سقوط أكاييف .. وبداية الزلزال في آسيا الوسطى ... 716(43/407)
(43/408)
استراتيجية بوتين الروسية: من دولة عظمى إلى دولة إقليمية ... 721(43/409)
(43/410)
أبخازيا .... أرض الروح( 1/3) ... 727(43/411)
(43/412)
معاداة النبي والصهيونية المسيحية ... 739(43/413)
(43/414)
العدو يخطط وينفذ ونحن لاهون ... 744(43/415)
(43/416)
مسلمو تترستان ثبات وتحدي ... 747(43/417)
(43/418)
قضية كوسوفا في سطور ... 752(43/419)
(43/420)
ينقصنا تطبيق النظرية الشورية في واقعنا ... 760(43/421)
(43/422)
الدولة والثورة ... 767(43/423)
(43/424)
المسلمون في الصين ... 769(43/425)
(43/426)
هذه الحرب ليست عن الإرهاب إنها عن الإسلام ... 776(43/427)
(43/428)
مفتي سيبيريا : ... 780
الإسلام أول دين سماوي عرف في سيبيريا ... 780(43/429)
(43/430)
كريموف وميراث الشيوعية.. بداية النهاية! ... 785(43/431)
(43/432)
رسالة العصر ( 1 / 4 ) ... 789(43/433)
(43/434)
مسلمو روسيا:نهار طال انتظاره ... 807(43/435)
(43/436)
رحلة في أعماق طاجيكستان ... 814(43/437)
(43/438)
أوزبكستان..مأساة شعب مسلم ... 825(43/439)
(43/440)
المناعة الفكرية (1) ... 829(43/441)
(43/442)
الهجمة الشرسة على التعليم (1) ... 858(43/443)
(43/444)
الواقعية ... 868(43/445)
(43/446)
بدايات السفور في العالم الإسلامي ( 8 ) : ... 873
المرأة الألبانية ... 873(43/447)
(43/448)
الجولة السادسة : الشيوعية .. أقدم من ماركس ... 875(43/449)
(43/450)
التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان ... 880(43/451)
(43/452)
هل الجمهوريون من الفرق المارقة؟ ... 887(43/453)
(43/454)
قوانين النهضة ... 890(43/455)
(43/456)
نهاية التاريخ أم نهاية المثقف؟(1/2) ... 1017(43/457)
(43/458)
حرب الأفكار بين بأس الأمريكان ويأسهم ... 1026(43/459)
(43/460)
الإسلام وتوازن المجتمع ... 1040(43/461)
(43/462)
الابتعاث ومخاطره ... 1044(43/463)
(43/464)
إقرأ وابكي دماً على مذابح أمتنا في العصر الحديث ... 1071(43/465)
(43/466)
العالم العربي أمام مرحلة جديدة ! ... 1078(43/467)
(43/468)
العراق آمالُ .... الطريقٍ إلى القدس!! ... 1081(43/469)
(43/470)
تعرف على الملحد .. ( صادق العظم ) ... 1106(43/471)
(43/472)
كازاخستان والبحث عن هُوِيّة ... 1115(43/473)
(43/474)
حول نهاية التاريخ وسقوط الإيديولوجيات ... 1119(43/475)
(43/476)
طريق وعرة، ونتائج خطرة ... 1122(43/477)
(43/478)
عقيدة الاختيار الحر وجبريات الوضعيين ... 1133(43/479)
(43/480)
الإسلام دين هداية ورحمة واستعصاء. ... 1136(43/481)
(43/482)
أفيقوا أيها المسلمون فلقد تداعت عليكم الأمم ... 1160(43/483)
(43/484)
قساة الشيوعيين (الملحدين) ... 1170(43/485)
(43/486)
مسلمو سلوفاكيا وشوق طويل لاعتراف رسمي ... 1175(43/487)
(43/488)
تلبيس مردود في قضايا حيَّة ... 1178(43/489)
(43/490)
أليس في الإسلام خلاص البشرية؟!!! ... 1219(43/491)
(43/492)
الإسلام بين كينز وماركس ... 1222
وحقوق الإنسان في الإسلام ... 1222(43/493)
(43/494)
الصواعق السماوية ... 1345
علي منكري آيات الكتاب و صحيح السنة النبوية ... 1345(43/495)
(43/496)
حرية الرأي في الإسلام ... 1386(43/497)
(43/498)
سنوا بهم سنة الاتحاد السوفييتي ... 1390(43/499)
(43/500)
فرصة لا تضيعوها ... 1393(44/1)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (16) الإلحاد
الباب السادس عشر
الإلحاد
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السادس عشر
الإلحاد(45/1)
(45/2)
مقدمة في الإلحاد
الإلحاد في اللغة
الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والجور والعدول ، قال أبو عبيدة : لحدت له وألحدت له ولحد إلى الشيء يلحد وألحد : مال وعدل ، وقيل لحد : مال وجار ، وقال ابن السكيت : الملحد : العادل عن الحق ، المدخل فيه ما ليس فيه ، يقال قد ألحد في الدين ولحد أي حاد عنه .
وألحد مارى وجادل ، وألحد في الحرم أي ظلم فيه وكل ظالم فيه ملحد ، وفي الحديث: [ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ] ( رواه أبو داود ) أي ظلم وعدوان.
الإلحاد في الاصطلاح :
هو الميل عما يجب اعتقاده أو عمله وهو قسمان : أحدهما في أسماء الله ، والثاني في آياته .
في أسمائه : وهو العدول عن الحق الواجب فيها ، وهو أربعة أنواع :
1. أن ينكر شيئاً منها أو مما دلت عليه الصفات كما فعلت المعطلة .
2. أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه كما فعل المشبهة .
3. أن يسمي الله بما لم يسم به نفسه لأن أسماء الله توقيفية كتسمية النصارى له ( أباً ) وتسمية الفلاسفة له ( علّة فاعلة ) .
4. أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام ،كاشتقاق اللات من الله ، والعزى من العزيز .
وأما الالحاد في آياته : فيكون في الآيات الشرعية ، وهو ما جاءت به الرسل من الأحكام والأخبار ، وفي الآيات الكونية ، وهي ما خلقه الله من السموات والأرض وما - ومن - فيهن ، ويكون الإلحاد بتكذيب الآيات الشرعية أو تحريفها أو عصيانها ، وبنسبة الآيات الكونية لغير الله أو اعتقاد شريك أو معين له فيها .
الإلحاد في القرآن الكريم :
وردت لفظة ( إلحاد ) في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى ( ومن يُردْ فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) ( الحج:25 ) ، قال ابن كثير : أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار ، عاقداً قاصداً ، ومن هذه المعاصي احتكار الطعام ، وشتم الخادم فما فوقه كما قال سعيد بن جبير ، وورد ( يلحدون ) ثلاث مرات ، في أسماء الله ، وفي القرآن الكريم ، وفي الآيات ، ففي أسماء الله عدلوا بها عما هي عليه وسموا بها آلهتهم وأوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها ، وفي القرآن زعموا أن الذي يعلم محمداً عبدٌ رومي ، وهذا إلحاد وكذب لأن لسان الرومي أعجمي والقرآن عربي مبين ، وفي الآيات كذبوا بها وعاندوا وكفروا وأشركوا وألغوا .
وورد أيضاً ( ملتحداً ) بمعنى موئلاً تئل إليه ومهرباً تهرب من الله إليه ، ولعل هذا الموضع يشير إلى أن الإلحاد لا يصلح ملاذاً من الله ولا ملجأ من غضبه ولا منجاة من عقابه سبحانه وتعالى ، والإلحاد في تلك المواضع الصريحة يعني كما مرّ بنا : الشرك والكفر والظلم والمعاصي من الصغائر - إذا كانت في الحرم - إلى أكبرها من الشرك والكفر ، هذا عدا عن المواضع التي تحدثت عن الإلحاد بالمعنى - وهي عشرات - ولم تتحدث عنه صراحة .
الإلحاد في الواقع التاريخي والمعاصر :
53048.jpg (25542 bytes)
يقول الأستاذ محمد قطب - حفظه الله - ( الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله ، والقول بأن الكون وجد بلا خالق أو أن المادة أزلية أبدية ، وهي الخالق والمخلوق في ذات الوقت - بدعة جديدة في الضلالة فيما أحسب ، لم توجد من قبل في جاهليات التاريخ السابقة ، ومن المؤكد على أي حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذي تمارسه الجاهلية المعاصرة ، في أي فترة سابقة من فترات التاريخ ، وبعض الناس يشير إلى الآية الكريمة
: ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) ( الجاثية : 24 ) ، ويستدلون منها على أنه وجد في الجاهلية العربية ( وبالتالي في غيرها ) من ينكر وجود الله ، وأن هؤلاء الدهريين _ كما أطلق عليهم _ هم صنو القائلين بالطبيعة المنكرين لوجود الله ، والآية - فيما أرى - لا تعطي هذه الدلالة بصورة قاطعة ، فإنها تقطع فقط بأن القوم المشار إليهم ينكرون البعث ولكنها لا تقطع بأنهم ينكرون وجود الله .(45/3)
هذا النوع من الإلحاد الذي تكلم عنه الأستاذ محمد قطب ضيق جداً ، ومع ذلك فهو ضارب في أعماق التاريخ ، وقد حدثنا القرآن الكريم عن الدنيا القديمة وأقوامها وكيف أن هذه الأقوام أنكرت وجود إله ، حتى جاء على لسان فرعون - وهو واحد من المنكرين لوجود الله - في القرآن الكريم قال : ( ما علمت لكم من إله غيري ) ( القصص :38 ) وقال : ( أنا ربكم الأعلى ) ( النازعات :24 ) فعطّل بهذا كل ما يتعلق بالإله ، يقول ابن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان ) ( ص233 ) : فكان منهم إمام المعطلين فرعون ، فإنه أخرج التعطيل إلى العمل ، وصرح به ، وأذن به بين قومه ، ودعا إليه وأنكر أن يكون لقومه إله غيره ، وأنكر أن يكون الله تعالى فوق سمواته على عرشه ، وأن يكون كلم موسى تكليماً ، وكذّب موسى في ذلك وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً ليطّلع - بزعمه - إلى إله موسى ، وكذبه في ذلك فاقتدى به كل جهمي فكذب أن يكون الله مكلماً متكلماً ، أو أن يكون فوق سمواته على عرشه ، بائنًا من خلقه ، على العرش استوى ، ودرج قومه وأصحابه على ذلك ، حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق ، وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين ونكالاً لأعدائه المعطلين . ( أ هـ ) .
إذن فالإلحاد قديم _ وقديم جداً _ سواء كان هذا الإلحاد بالمعنى الذي ذكره الأستاذ محمد قطب أو كان بمعناه الاصطلاحي الواسع الذي مرّ معنا ، ولكنه كان يزيد ويتسع ، ويعلو ويرتفع كلما أرسل رسول لذلك نجد موجة الإلحاد عالية مع رسالة نوح ومع إبراهيم وموسى ومع عيسى ومع محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين .
وللإلحاد فرق وطوائف وجماعات وديانات وفلسفات قد تستعصي على الحصر ، ولكن جهود الباحثين جمعت الكثير الكثير عنها قديماً وحديثاً ، ونحن في هذا المحور نعرض - من هذه الديانات والفرق - أكابر ملحديها لعلنا بذلك نذكر ، والذكرى- كما أخبر الحق تبارك وتعالى - تنفع المؤمنين وبالله التوفيق .
بقلم : محمود عوض
==================(45/4)
(45/5)
الخلاصة في أحكام الإلحاد
وفي الموسوعة الفقهية :
إلحاد *
التّعريف :
1 - الإلحاد في اللّغة ، واللّحد : الميل والعدول عن الشّيء ، ومنه : لحد القبر وإلحاده أي جعل الشّقّ في جانبه لا في وسطه . وألحدت الميّت ، ولحدته : جعلته في اللّحد ، أو عملت له لحداً .
ويستعمل الإلحاد في الاصطلاح بمعانٍ منها :
الإلحاد في الدّين ، وهو : الطّعن فيه أو الخروج عنه .
ومنها : الإخلال بما يستحقّه المسجد الحرام بفعل المحرّمات فيه ، أو منع عمارته والصّدّ عنه . قال ابن عابدين : الإلحاد في الدّين : هو الميل عن الشّرع القويم إلى جهةٍ من جهات الكفر كالباطنيّة الّذين يدّعون أنّ للقرآن ظاهراً ، وأنّهم يعلمون الباطن ، فأحالوا بذلك الشّريعة ، لأنّهم تأوّلوا بما يخالف العربيّة الّتي نزل بها القرآن .
ومن الإلحاد : الطّعن في الدّين مع ادّعاء الإسلام ، أو التّأويل في ضرورات الدّين لإجراء الأهواء .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّدّة :
2 - الرّدّة لغةً : هي الرّجعة مطلقاً .
وشرعاً : هي كفر المسلم البالغ العاقل المختار الّذي ثبت إسلامه ولو ببنوّته لمسلمٍ ، وإن لم ينطق بالشّهادتين . أو كفر من نطق بهما عالماً بأركان الإسلام ملتزماً بها ، ويكون ذلك بالإتيان بصريح الكفر بلفظٍ يقتضيه ، أو فعلٍ يتضمّنه ونحو ذلك . وهذا التّعريف هو أجمع التّعاريف في الرّدّة .
ب - النّفاق :
3 - النّفاق : إظهار الإيمان باللّسان ، وكتمان الكفر بالقلب . ولا يطلق هذا الاسم على من يظهر شيئاً ويخفي غيره ممّا لا يختصّ بالعقيدة .
ج - الزّندقة :
4 - الزّندقة : إبطان الكفر والاعتراف بنبوّة نبيّنا محمّدٍ r ويعرف ذلك من أقوال الزّنديق وأفعاله . وقيل : هو من لا دين له .
ومن الزّندقة : الإباحيّة ، وهي : الاعتقاد بإباحة المحرّمات ، وأنّ الأموال والحرم مشتركة .
د - الدّهريّة :
5 - الدّهريّ : من يقول بقدم الدّهر ، ولا يؤمن بالبعث ، وينكر حشر الأجساد ويقول : { إن هي إلاّ حياتنا الدّنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدّهر } مع إنكار إسناد الحوادث إلى الصّانع المختار سبحانه وتعالى .
الفرق بين كلٍّ من الزّندقة والنّفاق والدّهريّة وبين الإلحاد :
6 - نقل ابن عابدين عن ابن كمالٍ باشا قوله : الزّنديق في لغة العرب يطلق على : من ينفي الباري تعالى ، وعلى من يثبت الشّريك ، وعلى من ينكر حكمته . والفرق بينه وبين المرتدّ العموم الوجهيّ ، لأنّه قد لا يكون مرتدّاً ، كما لو كان زنديقاً أصليّاً غير منتقلٍ عن دين الإسلام . والمرتدّ قد لا يكون زنديقاً ، كما لو تنصّر أو تهوّد . وقد يكون مسلماً فيتزندق . وأمّا في اصطلاح الشّرع فالفرق أظهر ، لاعتبارهم فيه إبطان الكفر والاعتراف بنبوّة نبيّنا محمّدٍ r ، والفرق بين الزّنديق والمنافق والدّهريّ والملحد - مع الاشتراك في إبطان الكفر - أنّ المنافق غير معترفٍ بنبوّة نبيّنا محمّدٍ r والدّهريّ كذلك مع إنكار إسناد الحوادث إلى الصّانع المختار سبحانه وتعالى ، والملحد لا يشترط فيه الاعتراف بنبوّة نبيّنا r ولا بوجود الصّانع تعالى . وبهذا فارق الدّهريّ أيضاً . ولا يعتبر فيه إضمار الكفر ، وبه فارق المنافق . كما لا يعتبر فيه سبق الإسلام وبه فارق المرتدّ . فالملحد أوسع فرق الكفر حدّاً ، وأعمّ في الجملة من الكلّ . أي هو معنى الكافر مطلقاً ، تقدّمه إسلامه أم لا ، أظهر كفره أم أبطنه .
الإلحاد في الحرم :
7 - الإلحاد في الحرم هو الميل بالظّلم فيه . قال اللّه تعالى : { إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام الّذي جعلناه للنّاس سواءً العاكف فيه والبّاد ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ } وقد اختلف في معنى الإلحاد في الحرم على أقوالٍ منها :
أ - قال ابن مسعودٍ : الإلحاد هو الشّرك ، وقال أيضاً هو استحلال الحرام .
ب - قال الجصّاص : المراد به انتهاك حرمة الحرم بالظّلم فيه .
ج - قال مجاهد : هو العمل السّيّئ .
د - الإلحاد في الحرم هو منع النّاس عن عمارته .
هـ- قال سعيد بن جبيرٍ هو الاحتكار . قال ابن حيّان : الأولى حمل هذه الأقوال في الآية على التّمثيل لا على الحصر ، إذ الكلام يدلّ على العموم .
وقد عظّم اللّه الذّنب في الحرم ، وبيّن أنّ الجنايات تعظم على قدر عظم الزّمان كالأشهر الحرم ، وعلى قدر المكان كالبلد الحرام ، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما المخالفة ، والثّانية إسقاط حرمة الشّهر الحرام أو البلد الحرام .
إلحاد الميّت :
8 - إلحاد الميّت في القبر سنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اللّحد لنا والشّقّ لغيرنا » ولما رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه « أنّه قال في مرضه الّذي مات فيه الحدوا لي لحداً ، وانصبوا عليّ اللّبن ، كما صنع برسول اللّ صلى الله عليه وسلم » .(45/6)
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه مستحبّ ، لما روي أنّ النّبيّ r قال للحافر : « أوسع من قبل رأسه ، وأوسع من قبل رجله » . ولقول الرّسو صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ : « احفروا ، وأوسعوا ، وعمّقوا » ولما روى ابن ماجه عن أنسٍ « لمّا توفّي النّبيّ r وكان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح ، فقالوا : نستخير ربّنا ونبعث إليهما ، فأيّهما سبق تركناه ، فأرسل إليهما ، فسبق صاحب اللّحد ، فلحدوا النّبيّ r » وهذا عند الجميع إذا كانت الأرض صلبةً ، أمّا إذا كانت رخوةً فإنّه يصار إلى الشّقّ بدون خلافٍ ويكون أفضل ، ويكون اللّحد إلى جهة القبلة بقدر الميّت ..
الإلحاد في الدّين :
9 - الملحد إمّا أن يكون في الأصل على الشّرك ، فحكمه ينظر تحت عنوان ( إشراك ) ، أو يكون ذمّيّاً فيلحد أي يطعن في الدّين جهاراً ، فينتقض بذلك عهده ، وينظر حكمه تحت عنوان ( أهل الذّمّة ) أو يكون مسلماً فيلحد ، فينظر حكمه تحت عنوان ( ارتداد - زندقة ) .
الآثار المترتّبة على الإلحاد :
10 - من ألحد بعد إسلامٍ والعياذ باللّه ، إمّا أن يستتاب على رأي من قال بذلك ، فيأخذ حكم المرتدّ في العبادات في الجملة في حالة رجوعه عن إلحاده ، من نقض وضوئه بالإلحاد وعدمه ، ومن قضائه للعبادات ، وأدائه ما عليه من زكاةٍ ، وقضائه للحجّ قبل الإلحاد وبعده . كما يأخذ حكمه كذلك في غير العبادات ، من سقوط شفعته بالرّدّة ونفاذ عقوده وعدمها ، وبينونة امرأته ، ولزوم المهر ، والنّفقة ، وانفساخ النّكاح . كما يأخذ حكمه في الجنايات والدّيون على الخلاف المذكور بين العلماء . والّذي يرجع إليه في مصطلح ( ردّة ) .
وأمّا إذا لم يستتب فإنّه يأخذ حكم المرتدّ المقتول في الرّدّة ، من حيث زوال ملكه عن أمواله ، وحكم تلك الأموال بعد الموت في الميراث ، ومن حيث سقوط وصيّته أو عدمه ، وقضاء ديونه بعد الموت ، ويراجع في ذلك مصطلح ( ردّة ) .
===================(45/7)
(45/8)
نقول منعا للإحراج :أيها الملحد لماذا أنت ملحد ؟!!
هل هذا السؤال محرجا لهذه الدرجة
كلما ناظرت ملحدا سألته سؤالا محددا ما هى أدلتك على الإلحاد ؟
وكأننى نطقت بكلمة الكفر لا تجد منه إلا النفور والتهرب أو التذرع بضيق الوقت أو سوء الخلق أو يرد على السؤال بسؤال أو ...ولو أجاب بعضهم تجد العجب العجاب :
يقول أحدهم أنا ملحد لأن الإيمان يتطلب يقينا ولا يوجد شىء اسمه اليقين والناس جميعا مثلى يعيشون فى الشك المريب !!
ويقول بعضهم أنا ملحد لأنه لا يمكن أن يوجد دليل حسى على وجود الخالق !!
ويقول بعضهم أنا ملحد لأن الله اراد أن أكون كذلك وإلا فلماذا لم يرنى نفسه أو يكلمنى أو على الأقل ينزل على كتابا من السماء !!
ويقول بعضهم أنا ملحد بمعنى أننى أشك فى وجود الخالق دون أن يبرر سبب ترجيحه للإلحاد !!
ويقول بعضهم أنا ملحد لوجود كوارث طبيعية تنفى عدل الخالق ولم يبين كيف تنفى وجود الخالق !!
ويقول آخر أنا ملحد لأن الله ( تعالى عما يقول الكافرون ) يلتصق بأمور مناقضة للعلم !!
ويقول بعضهم أنا ملحد لأنهم حكموا على بالإلحاد !!
ولا زلنا نسمع الكثير والكثير من تلك التبريرات التافهة للإلحاد فهل لدى بعض الملحدين أى دليل يبرر إلحاده ؟
أوجه السؤال إلى الزميل دارون بصفة خاصة وإلى كل ملحد بصفة عامة .
اسمح لى أولا أن أهديك هذه
لماذا هل لأنك صادق ربما هل لأنك خذلت الملاحدة فى موطن يحبون فيه نصرتهم ربما هل لأنك قصرت علينا الطريق ربما ..
ولكن لماذا قصرت العلم علينا ورتبت مصيرك على مدى براعة بعض الأشخاص وقدرتهم على الإقناع هل أنت تثق بنا وبقدرتك على الفهم لهذه الدرجة .
إذا كنت حقا تؤمن بوجود خالق لهذا الكون فمشكلتك ليست حول تلك النقطة بل حول مدى صحة الإسلام ,انصحك بقراءة موضوعات الأخ القلم الحر ..
وعلى كل فجميع الإخوة فى المنتدى مستعدون للرد على كل أسئلتك قدر المستتطاع على أن تحاول أنت أيضا قدر المستطاع أن تكون منطقيا وأن تتخلى عن أحكامك المسبقة ومنها حتمية التفسير المادى والخلط بين موضوعات العلم وموضوعات الدين إلى غير ذلك من المآخذ التى أخذت عليك فى الحوارات السابقة على أننى لازلت أؤكد لك أنه من الخطأ أن تبلغ ثقتك فينا للدرجة التى تجعلك تبنى عليها مصيرك وأن علمك ومعارفك المحدودة خاصة بلغة القرآن ستؤثر كثيرا على شفافية رؤيتك وعليك أن تضع ذلك موضع الاعتبار .
أخيرا إذا كنت تؤمن بوجود الله تعالى حقا فاسأله أن يهديك للحق .
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Da r win
أنا أميل الى وجود الخالق ، وبهذا أريح رأسي من الجدل والحرب الكلامية.
غريب هذا الرد ؟؟؟ يقول أميل لوجود الخالق ، ثم يتحدث عن الصدفة والنشأة من (حمض أميني)
دعني أصحح لك ياداروين أنك قلت أنك ملحد في موضوع (أنت تسأل وداروين يجيب) ، وأن نظرية التطور هي سبب الإلحاد .
حتى الملحدين من نوع (-) لا يقولون قولك ولكنهم فقط يقولون (بغياب الإيمان بوجود إله من دون تأكيد) أما الملحدين من نوع (+) فهم يقولون (لا يوجد إله أبداً) .
وبغض النظر كنت ملحد أو ربوبي أو لاأدريي او أي فلسفة لادينية ، فأنت في كل الأحوال (ملحد) . وبهذا ريح رأسك من الجدل ، حول أنك لا تؤمن بإله او خالق .
والظاهر أنك اخترعت (لادينية) جديدة آخر صرعة في سوق اللادينية : (ملحد) يميل إلى وجود (خالق)
_______ ____________
أما الزميل العزيز أبو مريم فأضيف لما ذكرته من أسباب ما يلي :
اللاديني العربي أول سبب لإلحاده بل وأكاد أجزم بذلك من عدة دلالات واضحة أنه يريد (حرية لا أخلاقية) .
المقصود من اللادينية العربية ما يلي:
هل تريد يا شاب ويا صبية أن لا تكون هناك قيود على (تصرفاتكم) ؟
هل سئمتم من (أعراف المجتمع الأخلاقية) ومفاهيم (الحرام والخطأ والعيب) ؟
هل تريدون كل شيئ على (هواكم) ، دون (حدود) ؟
إذن اللادينية هي الحل ..............
تعالوا إلى اللادينية ..... تعالوا إلى اللاحدود اللاأخلاقية
أنظر إلى منتدى الزنادقة العرب وما يطرح فيه من مواضيع . قوم يزعمون أنهم كانوا من أهل الإسلام يتحدثون عن (سفاح المحارم) واللواط بأنه مثل الزواج ولا فرق !!!!!
آخرون منهم يرون أن معاملة الابن مع والديه في كبرهم هي من منظور (المصالح) !!!!!
مفهوم (صح أو خطأ) غير موجود أبداً ، فلا قواعد يرتكز إليها اللاديني (في ذاته) توضح له (صح وخطأ) عمل ما ... فقط مفهوم واحد .............. (اللذة و الألم)
الأخلاق هي (ما تراه انت) أيها اللاديني العربي من منظورك الخاص .... من عقلك ... أما المجتمع فهو قيود مفروضة ...
وهذا واضح من التفريق بين اللاديني العربي واللاديني الغربي :
اللاديني الغربي لا يرى بأس في هذه الأمور سواء كان نصراني أو بعد ان يصير لاديني ، لأنه عايش معها كل يوم وهي من (واقع مجتمعه) . لذلك عندما يتحول نصراني غربي إلى الإلحاد ، فلن يتغير شيئ في (لا أخلاقيته) ....
أما اللاديني العربي ، فهناك فرق كبير ......
اللاديني العربي ينتقل للإلحاد لأنه يرى في أعماله وأفكاره اللاأخلاقية (قناعة لا أخلاقية) مبررة بقاعدة تقول (لاقيود)(45/9)
وباختصار ... أنت لاديني عربي ......... انت حيوان يجري وراء (اللذة)
الاخوة الكرام إسمحوا لي بإضافة. هناك أمر آخر أكبر من مجرد "اللبيدو" ألا وهو أن من يقرأ بتمعن لمن يسمون بالملحدين العرب (هنا استثني النوع المحترف) ويحاول ان يقرأ ما بين السطور يجد اغلبهم يعاني من شيئين أو أحدهما:
1) مركب الإحباط والإحساس بالدونية والقهر أغلب الظن ناتج عن طفولة صعبة (عنف, إعتداءات جسدية, إغتصاب) يجعلهم يحاولون إخفاء الماضي في ذاكرتهم وراء ستار دارويني. القناعة بأنهم كانوا حيوانات ثم تغيروا إلى بشر تعطيهم الآمل برفض الطفولة الصعبة - التي ترفضها الذاكرة - مع المرحلة الحيوانية, وربط فترة بعد التطور مع واقعهم الحالي. هؤلاء تلاحظ عليهم إضطراب وتميّزهم حساسية شديدة (أغلب الظن هي وراء تغيير اسماءهم الاستيعارية بشكل متكرر -هروب مستمر) عدوانية مع تظاهر مبالغ فيه بالوداعة. يمارسون الكذب بدون خجل (ناتج عن الرفض الداحلي) مع مديح مستمر للنفس يشير إلى إصابتهم بالنرجسية.
2) ما أسميه بعقدة المدرس (في علم النفس يُسمى بالوسم). هذا النوع هو من الطلبة الذين يعانون من إحباط كلي أو جزئي في الدراسة بالرغم من أنهم يقضون أوقات طويلة في المطالعة. النتائج التي يتحصلون عليها لا تتناسب مع جهدهم الكبير. يعتمدون على الذاكرة (تخزين معلومات كثيرة) مع قدرة محدودة جدًا في فقه هذه المعلومات, يكون هذا سبب في الوسم (تصورهم أنهم يملكون قدرات كبيرة وفي الواقع غير ذلك). هذا الإحباط قد يصل إلى درجة " الفوغية". يمكن معرفة هؤلاء من طريقة نقاشهم حيث يمتاز بسرد معلومات طويلة غير محددة وفي العادة منقولة, عدوانية عند إفحامهم بالاسئلة. يحاولون محاورة غير المتخصصين في تخصصهم حتى يتم لهم سبق وهمي. يقومون بتغريق محاورهم بكم كبير من المعلومات حتى إذا اراد أن يتأكد من كلامهم فلن يجد عمليًا وقت لذلك وهذا كخط دفاع أخير - حتى لا تتكرر معهم حكاية المدرس. حديثهم يمكن وصفه كما يقولون الاخوة في السودان "كلام جميل بس مو معقول".
الملحد هو تشكيلة من الشك والتشتت الفكرى .
اذا تحدثت مع اى ملحد ستجدة ينقض الدين بشكل غير عادى ويبحث عن اجابات هنا وهناك ويعصر مخة من اجل نقض الدين . . اما اذا سألتة عن الحادة . . فسيكتفى بالوقوف والنظر مثل تمثال رمسيس . . لانة غير واثق فى الحادة تمام الوثوق ويعلم تماماً ان الحق ليس طريقة .
-------
سبب الالحاد الرئيسى فى رأيى هو جهل بالدين . . فأكيد ان الملحد لم يولد ملحد . . اكيد انة كان لة ديانة يدين بها قبل الحادة . . . مسلم ــ مسيحى ــ يهودى الخ . . وبعد ان كبر شك فى دينة ( بسبب الجهل ) ثم شك فى خالقة ( بسبب الجهل ) ولو كان فكر قليلاً لما كان هذا حالة . .
لان المادة غير عاقلة ولايصح ان يأتى شىء عاقل ( الانسان ) من شىء غير عاقل ( المادة ). والمعترض على هذا الكلام فليأتى لنا بمثال حدث على ارض الواقع .
-------
الدين المسيحى ارى انة سبب رئيسى للالحاد . . ومعظم ملحدى العالم كانوا مسيحين ثم الحدو بسبب الخرافات الغير معقولة فى العهد القديم والجديد . .
-------
الالحاد قديم قدم المادة نفسها . :D::
وحل مشكلة الالحاد فى رأيى هو قتل جميع الملحدين فى العالم واعتبارهم مرتكبين جرائم فى حق الانسانية .
==================(45/10)
(45/11)
أحفاد ابن الراوندى
من أعجب الشخصيات فى التاريخ العربى الإسلامى ، بل فى التاريخ الإنسانى كله ، شخصية ابن الراوندى الملحد (أو بالحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق ، المتوفى فى حدود سنة 301 هجرية ) فقد عاش هذا الرجل حياة غربية ، تنقَّل فيها بين الديانات والمذاهب على نحو عجيب .
كان ابن الراوندى فى أول الأمر يهودياً ، وسرعان ما أعلن إسلامه ليدخل فى نطاق عزة الإسلام -آنذاك- ويستظل فى ظل الدولة العباسية التى كانت -آنذاك- فى أوج مجدها .. ووجد ابن الراوندى أن فرقة المعتزلة هى أكثر الفرق الإسلامية اقتراباً من الخفاء العباسيين ، فصار معتزليا ! وألَّف مجموعة من الكتب على مذهب المعتزلة .. لكن المعتزلة لم يفسحوا له مكانا لائقا بينهم ، ولم ينل ابن الراوندى ما كان يطمح إليه ، فانقلب على المعتزلة وهاجمهم فى كتاب مشهور له ، عنوانه : فضيحة المعتزلة (نقض فيه كتاب الجاحظ : فضيلة المعتزلة!)
وقام المعتزلة بالهجوم على ابن الراوندى ، ويبدو أنهم أوغروا صدر الخليفة ضده، فهرب والتجأ لأعداء الدولة - آنذاك- من الشيعة الباطنية ، وألف لهم كتابا ضد مذهب أهل السُّنة ، نظير مبلغ 33 ديناراً ! وكان عنوان الكتاب : فى الإمامة .. وبعد فترة ، شعر ابن الراوندى أن الشيعة لن يحموه من السُّنة ، وأنه من الممكن أن يتقرب للسنة مرة أخرى ، فكتب كتابه : فى التوحيد .
ثم اكتشف ابن الراوندى أنه لم يحقق مأربه عند أهل السنة ، وانقلب عليه الشيعة أيضاً .. فخرج عن نطاق الإسلام بما فيه من سُنة وشيعة ، ولجأ إلى اليهود. ومرة أخرى يستخدم ابن الراوندى فكره وقلمه لتحقيق أغراضه الدنيوية التافهة ، فيؤلف لليهود كتاب (البصيرة) ينتصر فيه لليهودية ويرد على الإسلام ، وتقاضى ابن الراوندى مبلغ 400 درهم من اليهود نظير تأليفه لهذا الكتاب .. ثم أراد بعد فترة أن ينقضه ويرد على ما ذكره فيه من آراء ضد المسلمين والإسلام ، فأعطاه اليهود 100 درهم أخرى ، فعدل عن الرد على الكتاب ! .
وفى نهاية الأمر ، يقف ابن الراوندى ضد كل الديانات وجميع الأنبياء ، فيضع كتاب الفرند ليطعن فيه على الأنبياء والنبوة ، ثم يضع كتابه المشهور الزمردة فيطعن فيه ضد الرسالات السماوية كلها ، ويشكك فى الألوهية ذاتها ..
وهكذا عاش ابن الراوندى حياته متنقلاً بين المذاهب والديانات ، وقضى أيامه (الدرامية) البائسة ساعيا وراء المجد الدنيوى ، وهو المجد الذى ما ناله ابن الراوندى قط ، وإنما نال لقب : الملحد الأكبر فى تاريخ الإسلام .
ويبدو أن نسل ابن الراوندى لم ينقطع من بعده - مع أنه لم يترك أولادا - ففى كل زمن نجد زمرة من هؤلاء الذين يتوسلون بالكلمة المكتوبة لتحقيق المآرب الدنيوية .. وقد كان لابن الراوندى بالأمس أحفاد ساروا على نهجه، ولابن الراوندى اليوم أحفاد أكثر .. هم أولئك الذين يبيعون أقلامهم لكل من يدفع ، وكثيراً ما ينقلبون من الضد إلى الضد .
وأحفاد ابن الراوندى تجمع بينهم أمور .. أولها أنهم لايؤمنون أبداً بشئ، ففى زمن الماركسية والاشتراكية هم الماركسيون الاشتراكيون ، فإذا جاءت دولة الانفتاح صاروا - هم أنفسهم- الانفتاحيين ! وثانيها أن غرضهم الأول والأخير هو المال ، والمنصب الذى يتحول بشكل ما إلى أموال .. وثالثها أنهم يعرفون كيف يكتبون .
فكيف لنا : اليوم ، أن نتعامل مع أحفاد ابن الراوندى ؟
لابدَّ لنا أولاً أن نعى درس الماضى ونستخرج منه العبرة ، فنرى كيف تعامل القدماء مع ابن الراوندى ، فنستفيد من ذلك فى تعاملنا مع أحفاده الحاليين. وأول ما يستوقفنا من درس الماضى ، هو أن ابن الراوندى لم يقتل ولم يسع أحد لأغتياله ، وإنما مات ميتة طبيعية فى منزل رجل يهودى كان يأويه .
والدرس الثانى أن ابن الراوندى قدم أفكاراً ولم يحمل السلاح ، وبالتالى رد عليه القدماء بالقلم لا بالسيف ، فكتب الخياط المعتزلى كتابا بعنوان (الانتصار فى الرد على ابن الراوندى الملحد) فجاء الرد على الأفكار بالأفكار ، دون أن يسرف القدماء فىتأليف الكتب ردا على ابن الراوندى .. وذلك هو الدرس الثالث ، فكثرة الرد من شأنها أن تعطى قيمة للمردود ! فالقدماء عرفوا أن (التهميش) وغض النظر عن أمثال ابن الراوندى ، هو أفضل تعامل معه . ولذلك ، لم تذكر كتب التاريخ عن ابن الراوندى إلا شذرات قليلة ، ولم يبق الزمان من مؤلَّفاته التى بلغت 114 كتاباً ورقةً واحدة ولولا أن الخياط قد أورد بعض فقرات من كتاب الزمردة لابن الراوندى فى كتابه (الانتصار) ، لما كان اليوم نعرف عن الألحاد ابن الراوندى شيئاً ..
وهناك درس رابع نتعلمه من التاريخ ، فقد روت الكتب أن ابن الراوندى اجتمع يوماً مع أبى على الجبائى شيخ المعتزلة ، على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا على ، ألا أسمعك شيئاً من معارضتى للقرآن ونقضى له ؟ فقال الجبائى: أنا أعلم بمخازى علومك وعلوم أهل دهرك ، ولكنى أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد فى معارضتك للقرآن عذوبة وهشاشة ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته ؟ قال ابن الراوندى : لا والله ! قال أبو على الجبائى : قد كفيتنى فانصرف حيث شئت .(45/12)
من هذه الدروس نتعلَّم ، ونستهدى فى إيجاد أفضل السبل للتعامل مع أحفاد ابن الراوندى مع معاصرينا الذين يشوشون العقول بأقلامهم ، ويتعالون بالقول ثم ينقضونه بعد فترة ، كلما قبضوا المال أو لاحت المناصب .. أولئك الزمرة لاحل معهم إلا الرد -بالكلمات لا بالطلقات- على تناقضاتهم ، كما فعل الخياط مع جدهم ابن الراوندى دون أن نسرف فى تتبع أقوالهم كلها بالرد، حتى لانعطى لأقوالهم قيمة ليست لها .. علينا -إذن- الانصراف عن تشويش هؤلاء، والاهتمام بما هو حقيقى من الفكر والكتابات ، وأعنى بالحقيقى : ما ليس مدفوع الأجر !
ولعلنا بانصرافنا عن الاهتمام بما يكتبه أحفاد ابن الراوندى ، نغض من قيمتهم، فلا يجدوا من يدفع لهم ، ويكفون فى النهاية عن الكتابة البهلوانية الحربائية .. وهذا -بالطبع- يقتضى أن يكون للقارئ حسُّ نقدى يتعرف به على صحيح الأقوال من فاسدها ، ويقتضى أيضاً ، أن تكون لنا ذاكرة تحفظ تاريخ الكاتب من هؤلاء ، وترصد تقلباته العابثة بعقل الأمة .
وأخيراً ، فعلينا أن نكتشف التناقضات الكامنة فى أفكار أحفاد ابن الراوندى كما اكتشف الجبائى تناقضات جدهم الأكبر .. ولنتركهم من بعد ذلك يتوحلون فى تناقضاتهم الذاتية .
ولاشك فى أن أحفاد ابن الراوندى قد طوروا منهجه الانتهازى المتلون، وجاءوا بما لم يعرفه الأوائل من حيل والتفافات .. ولذلك ، فلابد لنا -أيضاً- من تطوير آليات القراءة وتعميق النزعة النقدية الفاحصة فيما نطالعه ؛ وبهذا نردهم ونتقى شرَّهم .
من مجلة أكتوبر(27/3/1994- 17/4/1994)
=================(45/13)
(45/14)
الإلحادُ في العالمِ العربيِّ : دعاتُهُ وأسبابُهُ
بقلم الاخ فتى الادغال
تجتاحُ العالمَ العربيَّ منذ ُ بداياتِ هذا القرن ِ ، موجة ٌ من الإلحادِ والرّدةِ ، لم تعرفْ لها المنطقة ُ مثيلاً ، في الوقتِ الذي بدأتْ فيهِ هذه المذاهبُ بالانحسار ِ في العالم ِ الغربيِّ ، وأخذتِ الناسُ تناغمُ بينَ العلم ِ والدين ِ ، وتُهادنُ بينهما ، بعدَ مرحلةِ قطيعةٍ كبرى بينهما ، نشأتْ في منتصفِ القرن ِ الثامن عشر الميلاديِّ ، وأدّتْ إلى اجتياح ِ الإلحادِ والكفر ِ ، في أوساطِ المفكّرينَ والفلاسفةِ ، واجتياح ِ النظام ِ العلمانيِّ للحياةِ العامّةِ في أوروبا ، بعدَ أن هيمنتْ عليها الكنيسة ُ قروناً طويلة ً من الزمان ِ .
الإلحادُ يحملُ أحدَ معنيين ِ :
أوّلهما : إنكارُ وجودِ الخالق ِ ، والقولُ بأزليّةِ المادّةِ ، وأنّها خالقة ٌ مخلوقة ٌ .
ثانيهما - وهو من إضافاتِ أفلاطونَ - : إثباتُ وجودِ خالق ٍ أو صانع ٍ ، ولكنّها لا تُعنى بشيءٍ من حياةِ الخلق ِ ، فهي موجدة ٌ للخلق ِ ، لكنّها تركتْ التصرّفَ في الكون ِ ، وتفرّغتْ في حياتها المثاليّةِ ، وقد كانَ يقولُ بهذا القول ِ من الفلاسفةِ : أبيقور .
لم تعرفِ الأرضُ انتشاراً للإلحادِ ، ونفوذاً قويّاً لهُ ، إلا في العصور ِ المتأخرةِ ، فقد كان يوجدُ منهم فئامٌ وأشتاتٌ ، ولكنّهم قلائلُ ، ولا يجمعهم مذهبٌ ، أو يُقيّدهم فكرٌ ، وإنّما بحسبِ ما يعنو للواحدِ منهم ويظهرُ ، وقد كانوا يسمّونَ قديماً بالدهريينَ ، وحكى الإمامُ الشهرستانيُّ في كتابهِ " الملل ِ والنِحَل ِ " أنّ الدهريينَ من كفّار ِ مكّة َ وغيرها ، كانوا أقلّ النّاس ِ ، وإنّما غلبَ على أهل ِ مكّة َ وجزيرةِ العربِ الشركُ ، وعبادة ُ غير ِ اللهِ معهُ ، مع إثباتِ أنّهُ الخالقُ وحدهُ ، خلافاً للمانويّةِ الذين يُبتونَ خالقين ِ أحدهما النورُ وهو خالقُ الخير ِ ، والآخرُ الظلامُ وهو خالقُ الشرِّ .
يذكرُ الدكتورُ جعفر شيخ إدريس أنّ أوّلَ كتابٍ مُصرّح ٍ بالإلحادِ ، وداع ٍ لهُ ، ظهرَ في أوروبا في سنةِ 1770 م ، وهذه الفترة ُ الحرجة ُ هي الفترة ُ التي بدأتْ فيها الشعوبُ الأوربيّة ُ تضجُّ من حكم ِ الكنيسةِ ، وتدعو للثورةِ عليهِ ، وقد تبنّى الفكرَ الإلحاديَّ في أوروبا كبارُ الفلاسفةِ والمؤرخينَ ، من أمثال ِ : نيتشة ، وفولتيير ، وكارل ماركس ، وإنجلز ، وراسل ، وكونت ، وغيرهم من كِبار ِ الفلاسفةِ وعلماءِ الاجتماع ِ والتأريخ ِ ، ممّا حدا النّاسَ إلى الوثوق ِ بهم ، والتحوّل ِ إلى آرائهم ، كردّةِ فعل ٍ للمواقفِ المُتسلّطةِ للكنيسةِ ، وكذلكَ ظهور ِ مجموعةِ من التناقضاتِ بينَ الدين ِ النصرانيِّ المُحرّفِ ، وبينَ بعض ِ المُخترعاتِ والمُكتشفاتِ العلميّةِ .
ومع ظهور ِ بوادر ِ الإلحادِ ، نشأتْ العديدُ من المدارس ِ والمذاهبِ الفكريّةِ والاجتماعيّةِ ، والتي تصُبُ في مصبِّ الإلحادِ ، وتستلهمُ منهُ مادّتها ، وترسّخُ مبادئهُ ، ومن أشهر ِ تلكَ المذاهبِ والمدارس ِ :
- العلمانيّة ُ : وهو مذهبٌ كفريٌّ ، نشأ في ظروفٍ عصيبةٍ في أوروبا ، خلالَ القرن ِ الثامن عشر ، وذلكَ بسببِ طغيان ِ الكنيسةِ ، وتبرّم ِ الناس ِ منها ومن نفوذِ رجالها ، ومُحاربةِ الكنيسةِ للعلوم ِ الطبيعيّةِ ، خاصّة َ بعدَ تطوّر ِ ونموِّ الحركاتِ العلميّةِ والبحوثِ ، وخلاصة ُ العلمانيّةِ أنّها حركة ٌ جديدة ٌ تهدفُ إلى إقصاءِ الدين ِ عن الحياةِ ، وبناءِ مؤسساتِ المجتمع ِ على أصول ٍ مادّيةٍ بحتةٍ ، لا دخلَ للدين ِ فيها من قريبٍ أو بعيدٍ .
- الوجوديّة ُ : وهي مذهبٌ معاصرٌ ذو جذور ٍ قديمةٍ ، يقومُ على أساس ِ إبراز ِ قيمةِ الفردِ ، والتأكيدِ على حرّيتهِ ، وأنّهُ هو أساسُ كلِّ شيءٍ ومنطلقهُ ، وهي مذهبٌ إلحاديٌّ ، أسّسها قديماً كير كجرد ، وفي العصر ِ الحاضر ِ قامَ أبو الوجوديّةِ جان بول سارتر بإرساءِ دعائم ِ هذا المذهبِ ، وإقامةِ أصولهِ ، وبناهُ على الإلحادِ والكفر ِ بكلِّ المُثُل ِ والقيم ِ ، وأنّ للإنسان ِ أن يفعلَ ما شاءَ ، دونَ وازع ٍ أو رقيبٍ .
- الشيوعيّة ُ : وهي مذهبٌ فلسفيٌّ مُعاصرٌ ، أنشأهُ اليهوديُّ كارل ماركس ، يدعو إلى تعظيم ِ المادّةِ ، وأنّها أزليّة ٌ ، ويُفسّرُ كارل ماركس التاريخَ تفسيراً ماديّاً بحتاً ، ولهم شعاراتٌ عدّة ٌ من ضمنها : لا إلهَ والحياة ُ مادّة ٌ ، وقد انتشرتْ الشيوعيّة ُ بالقوّةِ والاستعبادِ ، واجتاحتْ بثوراتها أغلبَ أرجاءِ الأرض ِ ، حتى أذنَ اللهُ بسقوطها ، وبقاءِ بعض ِ فلولها مشتتة ً هنا وهناكَ .
- الوضعية ُ : وهي مذهبٌ فلسفيٌّ إلحاديٌّ ، يُنكرُ وجودَ أي معرفةٍ تتجاوزُ التجربة َ الحسّية َ ، أسّسهُ اوغست كونت ، ودعى حينَ تأسيسهِ إلى قيام ِ دين ٍ جديدٍ ، يقومُ على أساس ِ عبادةِ الإنسانيّةِ ، وإحلالها محلَّ الأديان ِ .(45/15)
- الداروينيّة ُ : نسبة ً إلى شارلز داروين ، أقامَ مدرستهُ هذه على أساس ِ أنّ الأحياءَ جميعاً لم تُخلقْ كلُّ واحدةٍ منها خلقاً مُستقلاً ، بل كانَ لها أصلٌ واحدٌ وهو الخليّة ُ البسيطة ُ ، ثمّ أختْ تتطوّرُ وترتقي من طور ٍ إلى طور ٍ آخرَ ، حتى نشأتِ البشريّاتُ والإنسانُ ، وأنّ الطبيعة َ هي التي كانت تختارُ الأصلحَ للبقاءِ ، وذلكَ ما عبّرَ عنهُ بمصطلح ِ : الانتخابِ الطبيعيِّ ، أو بقاءِ الأصلح ِ ، ومدرسة ُ داروين تجمعُ في ثنياها كبارَ ملاحدةِ العالم ِ ، والذين يرونَ أنّ الإنسانَ لا خالقَ لهُ ، وأنّهُ وليدُ ملايين ِ السنواتِ من التطوّر ِ الطبيعي ، والنشوءِ والارتقاءِ بينَ الأنواع ِ المختلفةِ ، وبالرغم ِ من عدم ِ وجودِ أي دليل ٍ علميٍّ ، يُبتُ صحّة َ نظريّةِ داروين ، إلا أنّها اجتاحت العالمَ الغربيَّ اجتياح ٍ غريباً ، وأثرتْ فيهِ وفي ثقافتهِ ، حتى بدأتْ تنحسرُ في الآونةِ الأخيرةِ .
وهناكَ العديدُ من المدارس ِ غيرُ ما ذُكرَ ، وكذلكَ النظريّاتِ ، سواءً ما كانَ منها علميّاً بحتاً ، أو اجتماعيّاً ، أثّرتْ أو تأثرتْ بالإلحادِ ، وقامت بترسيخ ِ مفاهيمهِ ، ودعتْ إليهِ .
ومن المؤسفِ حقّاً ، أنّ الإلحادَ حينما صبغَ الحياة َ العامّة َ في أوروبا ، أصبحَ أمرُ التديّن ِ ، والتمسّكِ بدين ٍ ، أو الإيمان ِ بالخالق ِ ، شيئاً غريباً ! ، وظاهرة ً تدعو إلى العجّبِ ! ، بعد أن كانت هي السائدة ُ على نظام ِ الحياةِ ، ومؤسساتِ الحُكم ِ ، وإن كانَ ثمَّ شيءٌ يدعو إلى التعجّبِ والاستغرابِ ، فهو انتشارُ الإلحادِ في تلكَ الفترةِ ، وانحسارُ الإيمان ِ باللهِ ، وتعلّقُ الناس ِ بالمادّةِ والطبيعةِ ، ووصفهم للدين ِ بأنّهُ تخلّفٌ ورجعيّة ٌ .
هذا كانَ عرضاً موجزاً عن بداياتِ الإلحادِ في العالم ِ الغربيِّ ، فماذا عن العالم ِ العربيِّ والإسلاميِّ ! .
الكلامُ عن حركاتِ الإلحادِ المنظّمةِ في العالم ِ العربيِّ ، وكذلكَ المُجاهرة ُ بهِ ، وإعلانُهُ على الملأ ، نشأ بعدَ منتصفِ القرن ِ التاسعَ عشرَ ، حينما بدأ العالمُ الإسلاميُّ والعربيُّ ، يتّصلُ بالعالم ِ الغربيِّ ، عن طريق ِ إرسالياتِ الدراسةِ ، أو التدريبِ ، وتسبّبَ ذلكَ في رجوع ِ مجموعةٍ من الطلاّبِ متأثّرينَ بالفكر ِ الأوربيِّ الماديِّ ، والذي كانَ يقومُ على أساس ِ تعظيم ِ علوم ِ الطبيعةِ ، ورفع ِ شأن ِ العقل ِ ، وكذلكَ تنحية ُ الدين ِ والشرع ِ ، عن حكم ِ الحياةِ والناس ِ وإدارةِ شئونهم .
في بدايةِ الأمر ِ لم يكن ثمَّ دعوة ٌ صريحة ٌ للإلحادِ أوالرّدةِ ، وإنّما كانتْ هناكَ دعواتٌ للتحرّر ِ ، أو التغريبِ ، أو فتح ِ المجال ِ أمامَ العقل ِ ، ومُحاكمةِ بعض ِ النصوص ِ الشرعيّةِ إلى العقل ِ أوالحسِّ والواقع ِ ، ومحاولةِ إنشاءِ خلافٍ وهميٍّ ، وصراع ٍ مُفتعل ٍ ، بينَ العقل ِ والشرع ِ .
ومع مرورِ الوقتِ ، وزيادةِ الاتصال ِ بالغربِ وتراثهِ ، وانتشار ِ موجةِ التغريبِ بينَ الناس ِ ، ظهرتْ بعضُ الدعواتِ الصريحةِ للإلحادِ وفتح ِ بابِ الرّدةِ ، باسم ِ الحريّةِ الفرديّةِ .
وحينما نشطَ اليهودُ في تركيا ، ودعوا إلى إقامةِ قوميّةٍ تركيّةٍ ، تحُلُّ محلَّ الرابطةِ الدينيّةِ ، ظهرتْ مظاهرُ عدّة ٌ في الواقع ِ ، تدعو إلى نبذِ الدين ِ ، وتظهرُ العداءَ لبعض ِ شعائرهِ ، ومع مرورِ الوقتِ ، تطوّرتْ هذه الحركة ُ ، حتى جاءَ مصطفى كمال أتاتورك ، وقامَ بإلغاءِ الخلافةِ ، وأنشأ الدولة َ التركيّة َ العلمانيّة َ ، وحاربَ جميعَ العلماءِ وسجنهم ، وراجَ على إثرَ ذلكَ الكفرُ والإلحادُ ، وظهرتْ عدّة ُ كتبٍ تدعو إلى الإلحادِ ، وتطعنُ في الأديان ِ ، ومنها كتابٌ بعنوان ِ " مصطفى كمال " ، لكاتبٍ اسمهُ قابيل آدم .
هذه الجرأة ُ في تركيا قابلها جرأة ٌ مماثلة ٌ ، في مصرَ ، سمّيتْ ظلماً وزوراً عصرَ النهضةِ الأدبيّةِ والفكريّةِ ، بينما هي في حقيقتها حركة ٌ تغريبيّة ٌ ، تهدفُ إلى إلحاق ِ مصرَ بالعالم ِ الغربيِّ ، والتخلّق ِ بأخلاقهِ ، واحتذائها في ذلكَ حذوَ تركيّا ، التي خلعتْ جلبابِ الحياءِ والدين ِ ، وصبغتْ حياتها بطابع ِ العلمانيّةِ والسفور ِ والتمرّدِ .
في تلكَ الحقبةِ في مصرَ ، ظهرَ العديدُ من المفكّرينَ والأدباءِ ، يدعونَ إلى التغريبِ والإلحادِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ ، باسم التنوير ِ تارة ً ، وباسم النهضةِ الأدبيّةِ تارة ً أخرى ، ومرّة ً باسم الحرّياتِ الفكريّةِ ، وتلقّفتْ مصرُ - في تلكَ الفترةِ - دونَ تمييز ٍ ، جميعَ أمراض ِ المجتمع ِ الأوربيِّ ، وكذلكَ أخلاقهُ المنحلّة َ ، وأصبحتْ قطعة ً من أوروبا ، ومن فرنسا تحديداً ، وعاثَ في أرضها بعضُ المستشرقينَ فساداً وإفساداً ، ثمّ سلّموا دفّة َ الإفسادِ إلى بعض ِ المصريينَ ، ممن لم يتوانوا في نشر ِ الكفر ِ والإلحادِ ، وسعوا سعياً حثيثاً إلى إلغاءِ الفضيلةِ والأخلاق ِ الإسلاميّةِ ، وإحلال ِ النفعيّةِ والماديّةِ محلّها ، حتّى أصبحَ دُعاة ُ الإسلام ِ والمُحافظةِ غرباءَ على المُجتمع ِ دُخلاءَ عليهِ ، ويوصفونَ بالجمودِ والتخلّفِ والعداءِ للحضارةِ !! .(45/16)
وبما أنّ مصرَ هي رئة ُ العالم ِ في ذلكَ الوقتِ ، فقد انتقلتْ حمّى الردةِ والإلحادِ ، إلى جميع ِ دول ِ الجوار ِ ، ابتداءً من الشام ِ ، ومروراً بالعراق ِ ، والخليج ِ بما فيها السعودية ُ ، وانتهاءً ببلادِ اليمن ِ .
وسأذكرُ الآنَ بعضَ أشهر ِ الملاحدةِ والمرتدينَ ، الذينَ نبذوا الدينَ جانباً ، واستبدلوا بهِ الإلحادَ أو اللادينيّة َ أو كفروا بكلِّ شرائع ِ الإسلام ِ ، من الذينَ كانوا في تلكَ الفترةِ ، أو بعضَ من يعيشُ في عصرنا الحاضر ِ ، والذين أعملوا معاولَ الهدم ِ والتخريبِ ، في الأخلاق ِ والدين ِ ، وأرادوا جعلَ المجتمعاتِ نماذجَ مكرّرة ً من الدول ِ الأوربيّةِ المُنحلةِ الفاسدةِ ، وحاولوا صُنعَ فجوةٍ بينَ العلم ِ والدين ِ ، وأوهموا أنّ الدينَ يُعارضُ العلمَ والواقعَ ، ويقفُ دونَ الانطلاق ِ إلى آفاق ٍ جديدةٍ ، ويُحرّمُ الإبداعَ ، ويدعو إلى الكهنوتيّةِ والتقوقع ِ .
فمن أشهرهم :
- جميل صدقي بنُ محمدِ بن ِ فيضي الزهاوي ، شاعرٌ من شُعراءِ العراق ِ ، وُلدَ سنة َ 1279 هـ في بغدادَ ، وكانَ أبوهُ مُفتي بغدادَ في تلكَ الفترةِ ، وقد تنقّلَ كثيراً في المناصبِ والوظائفِ ، وهو أحدُ أعمدةِ التشكيكِ في شعرهِ وآراءهِ ، وقد كانَ ينحى منحى الفلاسفةِ ، ويُقرّرُ طريقة َ الفلاسفةِ في التعامل ِ مع الأديان ِ ، ومع الغيبياتِ ، حتّى سمّاهُ النّاسُ زنديقاً ! ، وقد كانَ من المفتونينَ بالعالم ِ الماديِّ ، وبالظواهر ِ الطبيعيّةِ ، مُعظّماً لها ، وصنّفَ في ذلكَ الكثيرَ من الرسائل ِ والكُتبِ .
- إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنُ إسماعيلَ ، والمعروفُ اختصاراً بإسماعيل أدهم ، أحدُ أبأس ِ الملاحدةِ ، وأشقاهم ، وأكثرهم مأساوية ً وشقاءً ، كانَ من دُعاةِ الشعوبيّةِ ، تنقّلَ في الدراسةِ بينَ مصرَ وتركيّا وروسيا ، وتخصّصَ في الرياضياتِ ، وحصلَ على شهادةِ الدكتوراةِ فيها ، وكتبَ وألّفَ العديدَ من الرسائل ِ ، وفي سيرتهِ أشياءُ كثيرة ٌ من نبوغهِ وتقدّمهِ ، منها أنّهُ كانَ يعرفُ العديدَ من اللغاتِ ، وكذلكَ حصلَ على العديدِ من الشهاداتِ العلميّةِ ، وبعدَ موتهِ حصلَ تشكيكٌ كثيرٌ في ذلكَ وتكذيبٌ لها ، وقد طعنَ فيهِ الناسُ في حياتهِ وبعدَ موتهِ ، وشكّكوا كذلكَ في رسائلهِ وبحوثهِ ، وهو أحدُ كُتّابِ مجلّةِ الرسالةِ والمقتطفِ المصريتين ِ ، وقد كانَ من دعاةِ الألحادِ ، يطعنُ في المسلّماتِ ، ويُشكّكُ في الكثير ِ من الأمور ِ ، وألّفَ رسالة ً أسماها " لماذا أنا مُلحدٌ " ! ، طُبعتْ في مصرَ بمطبعةِ التعاون ِ سنة َ 1937 م ، كان عزوبيّاً ، أصيبَ بالسلِّ ، وتعبَ من الحياةِ ، فآثرَ الموتَ منتحراً غرقاً في الاسكندريّةِ سنة َ 1940 م ، وعثرَ البوليسُ في جيبِ معطفهِ على رسالةٍ يذكرُ فيها أنّهُ ماتَ منتحراً ، كراهية ً في الحياةِ ، وطالبَ فيها كذلكَ بإحراق ِ جُثّتهِ ، وعدم ِ دفنها بمقابرِ المُسلمينَ ، وأن يُشرّحَ رأسهُ ! ، نعوذُ باللهِ من الخذلان ِ والهوان ِ ! .
- إسماعيل مظْهر بنُ مُحمّد بن ِ عبدالمجيدِ ، كان أحدَ دعاةِ الداروينيّةِ في العصر ِ الحاضر ِ ، ومن دعاةِ الشعوبيّةِ ، أنشأ مجلّةِ العصور ِ في مصرَ وذلكَ في سنةِ 1927 م ، وجعلَ من مجلّتهِ باباً للطعن ِ في الدين ِ ، ونشر ِ الشعوبيّةِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ و الإلحادِ ، كانَ معظّماً لليهودِ ، وداعياً للسير ِ على نهجهم وطريقتهم ، وكانَ يُسمّي نفسهُ : صديقَ دارون ، وألّفَ في الانتصار ِ لنظريّةِ داروين مجموعة ً من المؤلفاتِ ، ثمّ اعتنقَ الفكرَ الشيوعيَّ ، وأنشأ حزباً أسماهُ حزبَ الفلاح ِ ، جعلهُ منبراً لنشر ِ الشيوعيّةِ والاشتراكيّةِ ، ثمّ في آخر ِ عمرهِ أعرضَ عن كلِّ ذلكَ ، ورجعَ عن الكثير ِ من آراءهِ ، وألّفَ كتاباً أسماهُ " الإسلامُ لا الشيوعيّة ُ " ، وقد كانتْ وفاتهُ سنة َ 1381 هـ بينما ميلادهُ سنّة َ 1308 هـ .(45/17)
- أحمدُ لطفي بنُ السيّدِ أبي علي ، أحدُ دعاةِ التغريبِ الكبار ِ ، من المُعادينَ للعالم ِ الإسلاميِّ ، وأحدُ الذين يُحاربونَ الفُصحى ، ويُحاربونَ الرابطة َ الدينيّة َ ، ولهُ مواقفُ تدلُّ على كرههِ الشديدِ للتعاليم ِ الدينيّةِ ، وللتديّن ِ عموماً ، وهو من دعاةِ العلمانيّةِ البارزينَ ، وهو الذي قامَ بترجمةِ كتبِ أرسطو إلى اللغةِ العربيّةِ ، فاتحاً باباً جديداً للتغريبِ ، ولم يكن يقصدُ من ذلكَ نشرَ المعرفةِ والعلم ِ ، وإنّما أرادَ نشرَ الثقافةِ الغربيّةِ ، وأصولهم المعرفيّة َ ، حتى يبتعدَ المسلمونَ عن دينهم ، ويقتفونَ أثرَ الغربِ ، وكانتْ لهُ مواقفُ مخزية ٌ ، منها أنّهُ سافرَ إلى إسرائيلَ ، وألقى محاضرة ً في الجامعةِ العبريّةِ ، وكانَ أحدَ من استقبلَ الوفدَ اليهوديَّ بمصرَ ، وضيّفهم عندهُ ، ولهُ مواقفُ سافرة ٌ يدعو فيها إلى التعاون ِ مع البريطانيينَ إبّانَ احتلالهم لمصرَ ، ويبحثُ لهم عن المسوّغاتِ والمبرّرات ِ لسياستهم الاحتلاليّةِ ، ويسمّيهِ بعضهم أستاذَ الجيل ِ ، وتولّى آخر ِ عمرهِ رئاسة َ مجمع ِ اللغةِ العربيّةِ بالقاهرةِ وظلَّ رئيساً لها مدّة َ 18 عاماً ، وقد توفيَ سنة َ 1382 هـ بالقاهرةِ ، بينما كانَ مولدهُ سنة َ 1288 هـ .
- طه بنُ حسينَ بن ِ علي بن ِ سلامة َ ، الأديبُ المصريُّ الشهيرُ ، وأحدُ روّادِ ما يُسمّى بالنهضةِ الأدبيّةِ في مصرَ ، ومن كِبارَ التغريبيينَ ، وأحدِ أعمدةِ مدرسةِ التشكيكِ ، لم يكن يؤمنُ بشيءٍ إلا الغربَ وقيمَهُ وتعاليمَهُ ، كانَ مُتشكّكاً وحائراً ، ووصفَ فتحَ المُسلمينَ لمصرَ بأنّهُ احتلالٌ غاشمٌ ! ، ودعا إلى تحرير ِ وتجريدِ مصرَ من هوّيتها العربيّةِ والإسلاميّةِ ، وهو من الذينَ يقفونَ موقفاً عدائياً ضدَّ جميع ِ حركاتِ المقاومةِ الشعبيّةِ ، ضدّ المُحتلِّ والغازي ، بل كانَ يدعو الأوربيّين لاحتلال ِ العالم ِ العربيِّ ، حتى يستفيدَ العربُ من علومهم وتطوّرهم ، وقد أشيعَ أنّهُ تنصّر في فرنسا ، وزوجتهُ فرنسيّة ٌ ، وهو كذلك أحدُ أخلص ِ طلاّبِ وأتباع ِ مرجليوث اليهوديُّ الحاقدُ على الدين ِ ، ولطه حسين مواقفُ معادية ٌ للدين ِ وأهلهِ ، كفّرهُ فيها جمعٌ غفيرٌ من العلماءِ ، وأصولهُ أصولُ الملاحدةِ في أكثرِ ما يكتبهُ وينشرهُ ، توفيَ سنة َ 1393 هـ ، بينما كانت ولادتهُ سنة َ 1307 هـ .
- صادق جلال العظم : أحدُ أساطين ِ الفكر ِ الشيوعيِّ الماديِّ ، ومُلحدٌ من كِبار ِ الملاحدةِ ، ممّن أخذَ يُجاهرُ بالإلحادِ ، ويدعو إليهِ ، قضى عمره في السخريّةِ من المُسلمينَ ومن دينهم ، وكفرَ بكلِّ شيءٍ إلا المادّة ، وألّفَ كتاباً يقرّرُ فيهِ الإلحاد أسماهُ " نقد الفكر ِ الدينيِّ " ، وقد حشاهُ بالمغالطاتِ والسفسطةِ ، وزعمَ أنّهُ أقامَ فيهِ براهينُ تُبتُ عدمَ وجودِ اللهِ ، وأنّ كلَّ ذلكَ من الأوهام ِ والأساطير ِ ، وقد ردَّ عليهِ الكثيرونَ ، من أشهرهم الشيخُ : عبدالرحمن حبنّكة الميداني ، في كتابهِ " صراعٌ مع الملاحدةِ حتى العظم ِ " .
- عبداللهِ بنُ عليٍّ القصيميُّ : أحدُ أشهر ِ الملاحدةِ المُعاصرينَ ، وأكثرهم غلواً وتطرّفاً ، وأوقحهم جرأة ً وتبجّحاً ، وأقساهم عبارة ً ، وأقلّهم أدباً ، كانَ قبلَ إلحادهِ صاحبَ علم ٍ ، وقد كتبَ في شبابهِ مجموعة ً من الكُتبِ والبحوثِ العلميّةِ ، كانَ بعضها بطلبِ علاّمةِ الحجازِ الشيخ ِ : محمد حُسين نصيف - رحمهُ اللهُ - ، ومن أشهرها كتابهُ " الصراعُ بينَ الوثنيّةِ والإسلام ِ " ، وقد ألّفَ الجزءَ الأوّلَ منهُ في وقتٍ يسير ٍ جدّاً ، وقد طُبعَ في المكتبةِ السلفيّةِ ، ولهُ كتبٌ أخرى في فترتهِ تلكَ ، ولا تخلو كتبهُ من لغةِ الكبرياءِ والغرور ِ ، وظهور ِ سقطاتٍ تدلُّ على سوءِ طويّةٍ ، واحتقار ٍ للنّاس ِ ، وهذا ما ظهرَ مع مرورِ الزمن ِ ، إذا قامَ بإعلان ِ ردّتهِ وإلحادهِ ، وألّفَ كتابهُ " هذه الأغلالُ " ، وجاهرَ بدعوتهِ الجديدةِ ، ولقيَ أذىً كثيراً ، وخرجَ متغرّباً بينَ البلدان ِ ، وعاشَ في حيرةٍ وقلق ٍ كبيرين ِ ، دعتهُ إلى محاولةِ الانتحار ِ ثلاثَ مرّاتٍ ، واستقرّ آخرَ حياتهِ بمصرَ ، وألّفَ مجموعة ً كبيرة ً من الكتبِ الداعيةِ للتحرّر ِ من سلطةِ الدين ِ والفضيلةِ والأخلاق ِ ، ولهُ منهجٌ غلا فيهِ كثيراً ، حتّى تحاماهُ النّاسُ وأعرضوا عنهُ بسببهِ ، وهو من دعاةِ الصهيونيّةِ العربِ ، ولهُ مقالاتٌ وعباراتٌ بشعة ٌ في حقِّ اللهِ وحقِّ رسلهِ ، لم تصدرْ إلا من أوقح ِ النّاس ِ وأخبثهم قلباً وسريرة ً ، فلعنهُ اللهُ ما كان أقسى قلبهُ وأشدَّ جرأتهُ على خالقهِ ومولى نعمهِ ! ، من أكثر ِ كتبهِ تطرّفاً كتابهُ " أيّها العقلُ من رآكَ ؟ " وكتابُ " الإنسانُ يعصي لهذا يصنعُ الحضاراتِ " ، توفّي سنة َ 1422 هـ بالقاهرةِ ، بينما كانتْ ولادتهُ سنة َ 1327 هـ .(45/18)
- فهدُ بنُ صالح بن ِ محمّد ٍ العسكرُ : شاعرٌ كويتيٌّ ماجنٌ ، وداعية ٌ إلى التمرّدِ على الأخلاق ِ والفضيلةِ ، ومن كبار ِ المتشككّينَ والساخرينَ بالأديان ِ في شعرهِ ، نشأ وترعرعَ في كنفِ أبيهِ ، وكانَ في شبابهِ مُحافظاً ، ثمَّ قرأ في مجموعةٍ من الكتبِ والدواوين ِ الفكريّةِ ، ممّا أوجبَ لديهِ الحيرة َ والشكَّ ، فمالَ معها ، وتعاطى الخمرَ وأدمنها ، وطفحَ شعرهُ بالكفر ِ والاستهزاءِ والعهر ِ والمجون ِ ، ولمّا زادَ أمرهُ واستفحلَّ تبرّأ منهُ أهلهُ ، فاعتزلَ النّاسَ بغرفةٍ صغيرةٍ مُظلمةٍ ، وأصبحَ سميرهُ فيها الخمرُ والشعرُ والقلقُ والحيرة ُ ، عميَ في آخر ِ عمرهِ ، ونصحهُ الأطباءُ بتركِ الخمرةِ فأبى ، فساءتْ صحّتهُ جداً ، وأدخلَ المُستشفى فماتَ بعدَ فترةٍ ، ولم يُصلِّ عليهِ أحدٌ من أهلهِ ، وقاموا بإحراق ِ جميع ِ أوراقهِ وبقايا شعرهِ ، توفّي سنة َ 1370 هـ بالكويتِ ، بينما كانتْ ولادتهُ سنة َ 1327 هـ .
- زكي نجيب محمود : فيلسوفٌ مصريٌّ مُعاصرٌ ، من روّادِ المدرسةِ الوضعيّة المنطقيّةِ المُلحدةِ ، والتي أسّسها اوجست كونت ، ومن زعماءِ التغريبِ في العالم ِ العربيِّ ، وقد حملَ لواءها بعد هلاكِ طه حُسين ، وعملَ على إرساءِ دعائمها ، محارباً كلَّ دعوةٍ للتمسّكِ بالتراثِ الأصيل ِ ، وداعياً إلى بتر ِ العلاقةِ بينَ الشعوبِ ، وبينَ ماضيها ، ولهُ مصنّفٌ في الغيبِ سمّاهُ " خرافة َ الميتافيزيقيا " ، أنكرَ فيهِ الغيبياتِ ، ودعى إلى تقديس ِ العقل ِ ، واعتبارهِ أساسَ المعرفةِ ، كما أنّ لهُ كتاباتٍ تدعو إلى أحياءِ فكر ِ الباطنيّةِ والشعوبيّةِ ، وقد تقلّدَ عدّة َ مناصبَ في حياتهِ ، وتولّى رئاسة َ بعض ِ المجلاّتِ ، توفّي سنّة َ 1414 هـ ، بينما كانتْ ولادتهُ في سنةِ 1323 هـ .
- عليٌّ بنُ أحمدَ بن ِ سعيدٍ المعروفُ بأدونيسَ : صنمُ الحداثةِ المُعاصرُ ، ورأسها في العالم ِ العربيِّ ، وأحدُ الملاحدةِ المشاهير ِ ، تسمّى باسم ِ أدونيسَ ، وهو أحدُ أصنام ِ الفينيقيينَ ، كانَ في أوّل ِ أمرهِ نُصيرياً ، ثمّ أنتحلَ الطريقة َ الشيوعيّة َ ، وأعلنَ إلحادهُ ، وهو من دعاةِ الحداثةِ الكبار ِ ، ولهُ مؤلفاتٌ تضجُّ بالكفر ِ الصُراح ِ ، وبالإلحادِ والكفر ِ بكلِّ شيءٍ ، مع ما فيها من الجرأةِ السافرةِ ، والتطاول ِ المقيتِ على ذاتِ اللهِ جلَّ وعلا .
هؤلاءِ هم بعضُ روّادِ الإلحادِ والرّدةِ في العالم ِ العربيِّ ، ولهم أتباعٌ ومحبّونَ ومريدونَ ، وهناكَ من يُعظمُ هؤلاءِ ويُقدسهم ، ويجعلهم في أعلى المراتبِ والمنازل ِ ، وينشرُ كُتبهم ويّذيعُ أخبارهم ، ويدعو إلى انتهاج ِ طرقهم ، وخلع ِ أكبر ِ الأوصافِ والنعوتُ عليهم ! .
عندما نقرأ في سير ِ وكتبِ هؤلاءِ الملاحدةِ ، فإنّنا نجدُ فيها قواسمَ مشتركةٍ ، تتجلّى بوضوح ٍ لكلِّ قارئ ، ومن أبرز ِ ذلكَ :
- إنكارهم للغيبِ جملة ً وتفصيلاً ، وقصرهم الإيمانَ بحدودِ الملموس ِ والمحسوس ِ - فقط - ، دونَ ما غابَ عن العين ِ ، أو لم يُمكن إدراكهُ بالحسِّ .
- استهزائهم بالشعائر ِ الدينيّةِ جميعها ، ووصفهم لأهلها بالرجعيينَ والمتخلّفينَ ، ومحاربة ُ أي دعوةٍ تدعو إلى التديّن ِ ، أو صبغ ِ الحياةِ بمظاهر ِ الدين ِ .
- ميلهم نحوَ احتقار ِ العربِ ، واحتقار ِ عاداتهم وسلوكهم ، ومدحهم للشعوبيّةِ والباطنيّةِ .
- دعوتهم للتغريبِ والالتحاق ِ بالغربِ ، والأخذِ بجميع ِ ثقافاتهم وأمورهم الحياتيّةِ ، والتعلّمُ منهم ومن سلوكيّاتهم .
- حربهم الشرسة ُ على الأخلاق ِ والعاداتِ الحميدةِ ، وادّعائهم أنّهُ لا يوجدُ شيءٌ ثابتٌ مُطلقاً ، وأنَّ الحياة َ والأخلاقَ والعاداتِ ، في تطوّر ٍ مستمرٍّ ، وأنّ الثباتَ على الشيءِ إنّما هو من شأن ِ الغوغائيينَ والمُتخلّفينَ والرجعيينَ .
- تعظيمُ المادّةِ والطبيعةِ ، وكذلكَ تعظيمُ جميع ِ العلوم ِ الطبيعيّةِ ، وجعلهُ أساسَ كلِّ الحضاراتِ ، وافتعال ِ صراع ٍ مزعوم ٍ بينَ الدين ِ والعلم ِ التطبيقيِّ .
- منعهم من محاربةِ الاحتلال ِ ، ووقوفهم دائماً ضدّ المقاوماتِ الشعبيّةِ ، ووصفها بصفاتٍ بشعةٍ ، والدعوة ُ إلى مهادنةِ الغازي والتعايشُ معهُ .
- تعاونهم الوثيقُ مع الصهيونيّةِ والماسونيّةِ ، ومدحهم اللامحدودَ لليهودِ وللصهاينةِ ، وهذه سمة ٌ غالبة ٌ على جميع ِ الملاحدةِ والمرتدّينَ ، حيثُ يجعلونَ إسرائيلَ أفضلَ أهل ِ الأرض ِ ، ويميلونَ إليهم ويمدحونهم ، ويدعونَ إلى التعايش ِ معهم وقبولهم ، ويقدحونَ في حركاتِ المقاومةِ وفي أطفال ِ الحجارةِ .
- يدّعي الملاحدة ُ أنّ الدينَ سببٌ للتناحر ِ ونشر ِ البغضاءِ في الأرض ِ ، وأنّهُ تسبّبَ في إشعال ِ وإذكاءِ نار ِ الحروبِ ، في الكثير ِ من بقاع ِ الأرض ِ ، وقد حانَ الوقتُ لتركهِ والتخلّي عنهُ .(45/19)
أيّها الإخوة ُ الكرامُ : إنّ القراءة َ في سير ِ هؤلاءِ المرضى ، والوقوفُ على دقائق ِ حياتهم ، ومدى ما كانوا يعيشونهُ من أمراض ٍ وشكوكٍ وساوسَ وحيرةٍ وقلق ٍ ، ليدعونَ إلى التسائل ِ : ما الذي جنوهُ من إعراضهم عن الدين ِ غيرَ الهمِّ والغمِّ والنكدِ ! ، ولمذا كفرَ هؤلاءِ بالإسلام ِ ، ثمّ آمنوا باليهودِ وبقوّتهم ، وأصبحوا صفّاً واحداً مع اليهودِ ، ضدَّ العربِ والمسلمينَ ! .
إنّ انتشارَ الإلحادِ والرّدةِ ورواجهما ، لا يعني بحال ٍ من الأحوال ِ صحّةِ هذا النهج ِ ، وبخاصّةٍ ونحنُ نرى كيفَ تحوّلَ هؤلاءِ إلى مسوخ ٍ ، تُدارُ بيدِ اليهودِ ، ويستغلّها اليهودُ لصالحهم ، وكيفَ أصبحوا ضدّ شعوبهم ، وضدّ أوطانهم في صفِّ الغازي والمُحتلِّ ، وما انتشارُ الإلحادِ والرّدةِ ، إلا مثلُ انتشار ِ السرقةِ والزنا والخنا والفجورَ ، كلاهما سوءٌ وشرٌّ انتشرَ ، والنّاسُ تهوى التحرّرَ ، وتعشقُ التمرّدَ ، وتُحبُّ الانفلاتَ ، سواءً كانَ في الأخلاق ِ ، أو كانَ في الأفكار ِ ، وهذا هو ما يُفسّرُ لنا سببَ شرع ِ الحدودِ ، والدعوة َ إلى إقامتها ، ذلكَ أنّ الحدودَ حائلة ٌ بينَ النّاس ِ وبين انفلاتهم ، ومانعة ٌ لهم من التمرّدِ على القيم ِ والفضائل ِ ، ورادعة ٌ لهم عن كلِّ ما يسبّبُ لهم الحيرة َ والاضطرابَ ولو بدا في منظر ٍ حسن ٍ وبهيٍّ .
إنّ الحدودَ لم تُشرعْ حتّى يتشفّى الحاكمُ في المحكومينَ ، أو شُرعتْ لتكونَ مانعاً من الحرّياتِ ، كلاّ ، إنّما شُرعتْ لتكونَ مانعاً من الفوضى الفكريّةِ ، والفوضى السلوكيّةِ ، وحائلاً بينَ الإنسان ِ وبينَ مشابهةِ البهائم ِ ، والتي تعيشُ بلا هدفٍ وبلا قيدٍ أو ضابطٍ ، ولو أنّ كلَّ شخصٍ تُركَ على هواهُ ومبتغاهُ لفسدتِ الأرضُ ، وفسدتِ الأعراضُ ، وانتشرتِ الرذيلة ُ .
أليسَ حدُّ الرّدةِ وتطبيقهُ ، والأخذُ على يدِ السفهاءِ من الملاحدةِ والزنادقةِ ، بأولى أن يُطبقَ من حدِّ الزنا وحدِّ الحرابةِ ! .
أليسَ العدوُّ الصائلُ الذي يُغيرُ على الأديان ِ ، بأولى أن يُكفَّ ، من العدوِّ الذي يصولُ على الأموال ِ والأبدان ِ ! .
أليسَ الأمنُ الفكريُّ ، والانضباطُ المعرفيُّ ، أولى بالتشريع ِ والمحافظةِ ، من المُحافظةِ على الأملاكِ العامّةِ وعلى القطع ِ الأثريةِ وبقايا الحصون ِ والقلاع ِ ! .
وأنا إذ أرى هذه الموجة َ الغريبة َ ، الجانحة َ نحوَ نبذِ الدين ِ ، ونبذِ جميع ِ الموروثِ منهُ ، لأتعجبُ إذ أقرأ إحصائية ً نُشرتْ في أمريكا ، حيثُ قمّة التطوّر ِ ، وبلوغ ِ الغايةِ القصوى من الحضارةِ والتكنولوجيا ، أجرتها مجلّة ُ نيويورك تايمز ، في عددها الصادر ِ بتاريخ ِ 27/2/1993 ص 6 ، ذكرتْ هذه الإحصائية ُ أنّ عددَ الأمريكان ِ الذين يؤمنون بوجودِ اللهِ ، يشكّلونَ ما نسبتهُ 96 % من الشعبِ الأمريكيِّ .
لاحظوا ارتفاعَ النّسبةِ ، في دولةٍ هي أكبرُ دولةٍ صناعيّةٍ ومتحضّرةٍ في العالم ِ ، فأينَ أوهامُ الملاحدةِ وظنونهم الداعية ُ إلى نبذِ الدين ِ والإيمان ِ بالغيبِ ، لأنّهُ يُعارضُ الحضارة َ ، ويجعلَ من الشعوبِ متخلّفة ً ورجعية ً !! .
ربّنا لا تُزغْ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهبْ لنا من لدنكَ رحمة ً إنّكَ أنتَ الوهّابُ .
دمتم بخير ٍ .
====================(45/20)
(45/21)
الإلحاد هو الوثن الأكبر
كلما أنحرف الناس عن عبادة ربهم, و نسوا إرشاد رسلهم, و حاولوا أن يجعلوا الله رمزا في الأرض مجسدا, يعتقدون فيه, أولا أن فيه من العناية الإلهية, أو فيه سر إلهي خاص, فيقدسونه, و تمر الأيام و هم يزدادون مغالاة في تقدس هذه المخلوقات, حتى ينسب إليها الأعمال الخارقة و تجعل شريكا الله في التقديس و العبادة
و قد تزداد الجهالة فتتخذ هذه الأصنام آلهة من دون الله فيعبدونها
و قد تزداد الجهالة كما حدث لنا التاريخ كثير منها:
عبادة الفراعنة و العجول و الأبقار و النجوم و الأحجار و البحار و الرعد و الشمس و القمر و المطر و غير ذالك من المظاهر الطبيعية و كذالك في الأديان السماوية نسب إلى الله الذي ليس كمثله شيء نسبوا له والد و بعضهم الزوجة و بعضهم............................................. ......الخ
[align=cente r ]الإلحاد هو الوثن الأكبر [/align]
يزعم الملحدة أن الدين هو خرافة و أساطير و لكنهم في المقابل اعتنقوا ا الدين الجديد هو الوثن الأكبر:
هذا الوثن الأكبر هو مجموع الأوثان السابقة: إي إذا جمعنا ( الشمس بخصائصها و القمر بخصائصه و البحار بخصائصها و الأمطار و البقر و العجول و الأحجار و الإنسان بخصائصه وو.... الخ )) نحصل على الوثن الأكبر و هو الطبيعة التي تحوي جميع تلك الخصائص و بالتالي تم جمع جميع تلك الأوثان في الوثن الواحد هو (الوثن الأكبر ) و زعم الوثنيين الجدد أنه الخالق
كيف تأسس هذا الدين الوثني الجديد
شاهد بعض العلماء الطبيعيين من تكون (دود) على براز الإنسان أو الحيوان, و تكون بكتريا تأكل الطعام فتفسده, فقالوا: هاهي ذي حنونات تتولد من الطبيعة و حدها و راحت هذه النضرية التي مكنت للوثن الجديد في القلوب
لكن الباطل يزهق و الحجة تقام من رب العالمين فما لبت أن كشف باطل هذه النظرية على يد عالم الفرنسي المشهور (باستور) الذي أثبت أن الدود المتكون, و البكتريا المشار إليها لم تتولد ذاتيا من الطبيعة و إنما من أصول الصغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها
الفرق بين الوثن الأكبر و الأوثان القديمة:
كانت الأوثان القديمة تزعم أن هذه الخصائص من الطبيعة مثل الشمس فهي ملك من ملائكة و القمر هو فلان و الأصنام هي وساطة تقربنا من الإله و هلم جر أما الوثن الأكبر يزعم بأن هذه الطبيعة هي كل شيء و انتهي الأمر فهي خالق و هي مصور و هي محكم و هي المنظم و هي.... الخ وحدها
فمن هو أفضل عقليا و علميا من الآخر ؟؟
الفرق بين الوثن الأكبر و الإنسان:
إذا تأملت الإنسان في نفسه و قارنته مع الطبيعة فإنك ستجد :
الإنسان عاقل ------------------ الطبيعة لا عقل لها
الإنسان عالم -------------------الطبيعة لا علم لها
الإنسان مريد -------------------الطبيعة لا إرادة لها
الإنسان سميع -----------------الطبيعة لا سمع لها
الإنسان بصير ------------------الطبيعة لا بصر لها
إنه صاحب المشاعر ------------الطبيعة لا مشاعر لها
إنه صاحب أحاسيس ------------الطبيعة لا إحساسا لها
يحكم الأعمال --------------------و الطبيعة لا حكم لها
صاحب الأخلاق ------------------و الطبيعة لا أخلاق لها
فهل يصدق عاقل أن يكون المخلوق أرقى من خالقه ؟؟
و هل يعقل أن يكون العقل في الإنسان مما لا عقل له, و العلم في الإنسان مما لا علم له ؟
و الإرادة في الإنسان مما لا إرادة له ؟
و السمع في الإنسان مما لا سمع له ؟
و البصر في الإنسان مما لا بصر له ؟
و المشاعر و الأحاسيس في الإنسان مما لا مشاعر و لا إحساس له ؟
و أحكام العمل في الإنسان مما لا حكمة له ؟
و الأخلاق في الإنسان مما لا خلق له ؟
كيف و الحكمة العالمية تقول ( فاقد شيء لا يعطيه ) ؟؟
الإنسان يقهر و يسخر إلهه في خدمته:
نجد أن الطبيعة مسخرة للإنسان و مذلل له. فسخر الهواء و البحر و الشمس و القمر و النجوم و التراب و الرياح, و أستخدم الإنسان المعادن و النبات و الحيوانات لمنفعته و.... الخ حتى لوث البيئة و انتشرت الأمراض و ثقب طبقة أوزون
فعجبا لهذا الإله الحقير الذي يخلق من يقهره و يذله و يتحكم فيه كيفما يشاء. و عجبا للخالق لا يستطيع أن يرد الأذى عن نفسه
الحمد الله على نعمة الإسلام و نعمة الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له لا كما يزعم الوثنيين و لا والد له و لا شبيه له لا كما يزعم النصارى و اليهود و لا نغلو في البشر كما يزعم الشيعة
=====================(45/22)
(45/23)
عظيمة نعم الله علينا -- وجحود أن نقابلها بالكفر
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
عظيمة نعم الله
وجحود أن نقابلها بالكفر
وتستحق الحمد بالطاعة
والطاعة المفروضة أولى
كبيرة وكثيرة نعم الله علينا
يقيلنا من عثرتنا ويترفق بنا
يحب لنا أن نكون صالحين
يرسل إلينا الفتن ليس إضلالا لنا بل تعليما ورفع درجات
عرفنا الهدف من خلقنا
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
ورزقنا عقلا صالحا لعبادته
ورزقنا عمرا يكفى لنتعلم ديننا
ويكفى لأن نعبد الله حق عبادته
ورزقنا وقتا يكفى لتعلم دين الله
ورزقنا أرزاقا حتى لا تشغلنا الدنيا عن خالق الدنيا والآخرة
الدنيا وشغلنا رزق الله عن السبب الذى يسر الله لنا رزقنا من أجله
شغلتنا الدنيا عن عبادة الله وعن تعلم الدين
(من أراد الله به خيرا يفقهه فى الدين)حديث شريف
وظننا أن أرزاق الله لنا فى الدنيا حق لنا
وغرتنا نعم الله علينا فظننا فى أنفسنا خيرا كثيرا لمجرد أننا عرفنا الله وفعلنا بعض الطاعات المفروضة
وما قدرنا الله حق قدره
فهو المنعم بالأحباب وهو المنعم بما لا نستطيع إحصاءه من النعم
نعمة البصر/ونعمة اللمس ونعمة التذوق ونعمة السمع ونعمة الساقين والقدمين ونعم الأصابع
نعمة العقل لنعلم كم هذه النعم هامة ونعلم أن غيرنا يفتقر إليها
ولنعلم أن المعطى المنعم يستطيع أن يأخذ بعض نعمه
أخذ الله من البعض نعمة البصر
ضع نفسك مكانه
وقس ذلك على كل النعم
نعمة الزوج أو الزوجة ماذا لو أخذ الله هذه النعمة دون بديل
ماذا لوكان ابتلاءك بزوجتك فتكون عليك نقمة
نعمة الولد
ماذا لو كان الولد معتوها أو منحرفا أو مجرما
ماذا لو ضاع دين الإبنة واحترفت الفسق والبغاء
نعمة التذكر ونعمة النسيان
نعمة المتعة بالملامسة ونعمة الألم
ماذا لو لم تتألم ولم تشعر أن يدك تحترق
أليس الألم نعمة
نعم الله كثيرة كثرة ما يستعصى على الحصر
ونعم الله عظيمة عظم افتقادها عند الحاجة إليها
هل تعرف أخى القارىء نعمة التبول
ماذا لواحتبس البول
أو احتبس الغائط من إمساك أو غيره
نعمة هضم الطعام ونعمة امتصاص ما يحتاج إليه الجسد دون غيره
نعم بصمة الإصبع وبصمة الشفاه وبصمة الصوت
إعجاز فى خلق النعم
بل إعجاز فى خلق كل نعمة
مهما أطلت فى ذكر النعم لن أحصيها
ولن أقدر فائدة كل منها إلا بقدر علمى المحدود
من حمد الله وشكره على كل نعمة
وكيف وأنت لا تستطيع حصر نعم الله عليك
حمد الله أول كلمة فى أول آية بعد البسملة من كتاب الله ورسالته إلينا القرآن الكريم
هذه الكلمة نعجز عن الوفاء بها
وكم فى كتاب الله من كلمات
تعجبنا عقولنا والله هو خالق العقول
ونمرر بعقولنا أفكارا تغضب الله علينا
فمن أكون
ما أنا إلا فرد من بلايين البشر الأحياء الآن
وما البشر
نوع من الأحياء على الأرض
وما الأرض
كوكب ضئيل الحجم من مجموعة الشمس وهناك بلايين الشموس والنجوم التى تزين سمائنا الدنيا وفوقها سماوات أخرى وفوقهم سدرة المنتهى والكرسى والعرش
من أنا ومن أكون
ما أكثر اغترار الإنسان بربه الكريم
يحبنا الله ويعطى كل منا حبا
ولا نقدم حبا مقابلا لحبه
ونظن أننا نحب الله ولم نعمل ما نطمئن به إلى حب الله لنا
عصيناه فى الفروض ونظن فى أنفسنا حبا لله
كذبنا على أنفسنا
فمن يحب بشرا يتزين للقائه ويسعى إليه ويفكر الساعات فيه
ويتودد إليه
أنعم الله علينا بدينه الحق
أفلا نتطهر للقائه
أفلا نتزين للقائه
أفلا نهرع للقائه فى الموعد الذى طلب لقاءنا فيه وهو أوقات الصلاة
أفلا نهرع للمكان الذى طلب لقاءنا فيه فى بيوت الله
أفلا نناجيه ونسبحه ونحمده ونركع ونسجد له لما أنعم به علينا شكرا وحمدا ولأنه هو الله
ما أصغر الإنسان وما أقل شأنه
وما أكثر اغتراره بعقله
وما أكثر اغتراره بربه الكريم
ما شاء الله أعطى
وما شاء الله أخذ
فمن تكون أيها العبد
أفلا تكون عبدا شكورا
تطيع الله حمدا له
وماذا يكون من كفرك وتضييعك لحب ربك
لن تساوى شيئا وأنت تحترق فى العذاب الأبدى ولن تساوى أن ينظر الله إليك بعد الكفر
فلا يرضى الله لعباده الكفر
وماذا يكون من طاعتك
ملك الله عظيم وأنت من ملكه ولن يعجز الله أن يسعدك فى نعيم أبدى إلى ما شاء الله
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)
فكيف يكون اللقاء
إدعوا الله أن يغفر لى ولكم وللمؤمنين والمؤمنات
وأن يصرف عنا السوء يوم يقوم الناس لرب العالمين
====================(45/24)
(45/25)
التفكر ...... فى نعم الله
من كتاب زاد على الطريق
مصطفى مشهور
تجد الناس يحمد بعضهم بعضاً حينما يُقدِّم أحدهم عوناً لأخيه ولو كان صغيراً ولا تجد الكثيرين منهم يحمدون الله على نعمه عليهم رغم عظمها وكثرتها ، وكأن هذه النعم حق مكتسب لافضل لله عليهم فيها ، بل كثيراً ما يستعملونها فى معصيته ، إنها الغفلة و الجحود و الكفران بالنعمة .
لايقدرون قيمة هذه النعم إلا إذا حُرِمُوا منها أو أصيبوا فيها فيجأرون لله بالدعاء ومنهم من يضيق بالحياة وقد يلجأ الى الانتحار :{ وما بكم من نعمة فمن الله ، ثم إذا مسكم الضرُّ فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضرَّ عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } ، { وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } .
ولهذا نجد القرآن الكريم يدعونا الى التفكر والتعرف على نعم الله التى لا تحصى ، وأن نقدرها قدرها ونستشعر فضل الله علينا ، ونقوم بواجب الحمد والشكر له على ما أنعم ، فما أجدرنا أن نقف عند هذه الآيات وقفة تدبر وتقدير لهذه النعم لنزداد شعوراً بفضل الله وكرمه ورحمته وإحسانه ومدى فقرنا وحاجتنا إليه سبحانه فى كل لحظة وفى كل حركة وسكنة ، وكذا مدى تقصيرنا فى واجب الشكر وضرورة استعمال هذه النعم فى طاعته و البعد بها عن معصيته .
ولنبدأ بكبرى النعم وأعظمها وهى نعمة الإسلام :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا } ، { إن الدين عند الله الإسلام } ، { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين } بهذا الدين تكون السعادة و الهناءة و السكينة فى الدنيا و الفوز و النعيم والنجاة فى الآخرة ، وبدونه يكون الشقاء و الضياع و التمزق فى الدنيا و الخسران و العقاب و الحرمان من رضوان الله ومن النعيم فى الآخرة .
إن الكثير من المسلمين لايقدرون ما هم فيه من نعمة بانتسابهم الى هذا الدين العظيم ربما لأنهم ورثوه دون جهد منهم ، ولم يحاولوا التعرف على ما يحققه لهم من خير فى دنياهم وآخرتهم ، إن نعمة الإسلام هى كل شىء وما عداها لا شىء ، لأن يصاب الواحد منا فى ماله أو ولده أو سمعه أو بصره أو أى شىء من متاع الدنيا أهون عليه من أن تكون مصيبته فى دينه ، وها هو ذا رسولنا الحبيب r يوجهنا ال ذلك فى هذا الدعاء :( اللهم لاتجعل مصيبتنا فى ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ) ما أحوجنا أن نردد دائماً حمدنا لله على هذه النعمة :{ الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله } والله سبحانه وتعالى يدعونا للمحافظة على هذه النعمة حتى نلقى الله عليها :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون } لأن الأمور بخواتيمها ، وها هو ذا سيدنا يوسف عليه السلام بعدما آتاه الله الملك يدعو الله أن يتوفاه مسلماً :{ رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولىِّ فى الدنيا توفنى مسلماً وألحقنى بالصالحين } .
ولكى تكمل علينا هذه النعمة يجب أن نكون مسلمين حقاً .
ونعمة الأخوة فى الله و الحب فى الله هذه الرابطة القوية الخالصة لوجه الله ما أعظم ما تضفيه على أصحابها من سعادة وراحة نفسية لايقدرها إلا من عاشها فمن ذاق عرف من خلال التعاون على البر و التناصح و التذكير بالخير و التكافل و المودة و الرحمة ، والله سبحانه يذكرنا بهذه النعمة فيقول :{ وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيز حكيم } { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
وأن حياة وسط قوم يملأ قلوبهم الحقد و الغلَّ و الشحناء و البغضاء حياة لا تطاق كلها همٌّ وغمٌّ وكربٌ و العياذ بالله .
وبعد هذه النعم الكبرى ننتقل الى ما دونها فنفكر فيها لنعرف قدرها ، فأطلب منك أن تخلو لنفسك وتتصور أنك أصبت فى بصرك وفقدته وعجز الأطباء أن يردوه إليك ، وفكِّر فى التغيير الذى سيطرأ على حياتك بشىء من التفصيل : فى عملك وعلمك وحركتك وكل ما يتصل بحياتك ومدى ما ستتعرض له من قيود وحرج وضيق . بقدر عمق تفكرك ذلك بقدر تقديرك لهذه النعمة بحيث لو خيِّرت بينها وبين المال الوفير لاخترتها دونه . وتكون حينئذ على استعداد كامل لأن تعطى المواثيق لله لو رد إليك بصرك لسخرته لطاعة الله وما استعملته فى معصية الله ، فهلاَّ ألزمنا أنفسنا بذلك أم نتظر حتى نصاب ثم نعطى المواثيق .
تصور ياأخى بعد ذلك أنك بسبب أو بآخر فقدت السمع مع فقد البصر ، كيف يكون الحال حينئذ ستجد نفسك فى سجن مظلم لاترى ولا تسمع من حولك وسيزداد الحرج و العنت و الضيق أو القيود فى الحركة وكل أمور الحياة .
وستعرف حينئذ قيمة هذه النعم وفضل الله عليك وعظم رحمته وإحسانه وفقرك واحتياجك إليه وأنك لو صمت النهار كله وقمت الليل كله وأنفقت العمر كله فى طاعة الله ما وفيت حق الشكر على هاتين النعمتين .(45/26)
لاتضق يا أخى واستمر معى وتصور مع فقدان السمع و البصر فقدت النطق أيضاً وتصور حالك حينئذ سيزداد السجن ظلاماً وتزداد القيود ويصعب التعامل مع الحياة ، فإذا أردت شيئاً أو أراد أحد منك شيئاً كان من العسير التعرف على هذه الرغبات إسأل نفسك عن مدى صبرك ورضاك بهذه الحال ما لم تكن متمتعاً بنعمة الإيمان ما تحملت مثل هذه الحياة ، فهلاَّ نلزم أنفسنا أن نستعمل هذه النعم فى طاعة الله فلا ننظر إلا الى حلال ولا نستمع إلا الى حلال ، ولا ننطق إلا خيراً .
ونعمة العقل ما أعظمها وما أجملها نعمة من الله ، لو ردت إليك حواسك الثلاثة السابقة ولكن طرأت عليك إصابة أو لوثة بالعقل مجرد تصور فأنت و الحمد لله بعقلك وإلا لما تابعت معى ما أكتب ولأرحت نفسى ، كيف يكون الحال ؟ لا انضباط ، لا وعى ، لا إدراك لأى خطر ، ولا تفاهم ، ولا أمان من حدوث أى تصرف فى أى وقت ، ثم يكون المصير الحبس مع أمثاله حتى توافيه منيته . فهلاَّ نستشعر قيمة نعمة العقل ونستعملها فى التعرف على الله وما ينفعنا وما ينفع ديننا ولا نسخرها فيما يغضب الله .
هكذا لو فكَّرنا فى غير ذلك من النعم التى يحتويها جسدنا كالأيدى وأصابعها والأرجل وأقدامها وكل أجهزة الجسم وكل أعضائه الداخلية وأن الواحد لو أصيب بعطب فى شىء من ذلك لشل حركته وربما جعله سجين الفراش معظم حياته .
ومثل هذه الصور موجودة وماثلة أمامنا وعلى سبيل المثال جلطة بسيطة فى شعيرة من شعيرات المخ يمكن أن تحدث شللاً وفقداً للنطق وغير ذلك فهل نحمد الله على نعمة العافية ونقرأ قول الله تعالى فى تدبر وخشوع :{ يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما شاء ركبك } .
وهذه النعم الكثيرة التى يحتاجها الجسم من غذاء وماء وهواء ودفء ، هذه الحيوانات و النباتات و الطيور وكل هذه النعم التى لو حرمنا منها لتعرضنا للموت و الهلاك ، هذا الماء الذى جعل الله منه كل شىء حى ، هل فكَّرت كيف يصل إليك ميسراً هذه الدورة التى يسير فيها من بخار من ماء المحيطات فتحمله الرياح ليصير سحاباً تسير به الرياح ويسقط مطراً وبسب الجبال و الهضاب يجرى فى أنهار حتى يصل إليك .
هذا الهواء وما فيه من غازات لازمة للحياة وهكذا لو تصورنا حرمانك من الماء أو الهواء أو الغذاء أو الدفء لما طقت الحياة ولتعرضت للهلاك .وما أجمل سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم التى تذكرنا بفضل الله وإنعامه علينا كلما استمتعنا بشىء من هذه النعم .
وهل ننسى نعمة الزوجة الصالحة و الذرية الصالحة :{ ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً } .
تصور حياتك مع زوجة غير صالحة وما تسببه لك من إزعاج ونصب بل وفتنة ، أو حياتك بدون زوجة ، وكذلك الذرية إذا لم تكن صالحة مثار هم وكرب ، وانظر أيضاً الى من لم يرزقوا ذرية وكم شوقهم إليها .
فلنحمد الله على هذه النعم ولنتق الله فيها ونقوم بواجباتنا نحوها ، وصدق الله العظيم :{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون } .
{ الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخَّر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخَّر لكم الأنهار وسخَّر لكم الشمس و القمر دائبين وسخَّر لكم الليل و النهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } .
صدقت ربنا لن نحصيها ولن نستطيع أن نقوم بما تستحقه من الثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، هل فكَّرت يا أخى فى نعمة الليل و النهار ، هل فكَّرت فى نعمة النوم ، وما يكون عليه حالك لو حرمت هذه النعمة ، ما أجمل قول الله تعالى وهو يذكرنا بذلك بقوله :{ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ، ومن رحمته جعل لكم الليل و النهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } .
إننا لن نستطيع أن نستمر فى سرد نعم الله علينا ولكن يا أخى استشعر نعمة الله عليك فى كل شىء عندما تتحرك أو تنطق أو تأكل أو تشرب أو تلبس أو تنام أو تستيقظ أو ترى أو تسمع أو تشم أو تتذوق أو تباشر أى أمر من أمور حياتك وأنه لولا فضل الله ورحمته ما استطعت أن تفعل شيئاً من ذلك .
فراقب الله سبحانه واجعل كل ما يصدر منك لله وباسم الله وموافقاً لشرع الله .
يخطىء الكثير من الناس ويحصرون نظرتهم الى نعم الله عليهم بدخلهم الشهرى أو السنوى من دراهم أو ما شابه ذلك وينسون باقى النعم التى ذكرنا بعضها و التى لا يعدلها ملايين الملايين من المال ، وصدق الله العظيم :{ فأما الإنسان إذا ماابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول رب أكرمن ، وأما إذا ماابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن } .(45/27)
فما أحوجنا الى تصحيح مثل هذه النظرة ونعلم أننا فى هذه الحياة فى امتحان ونبتلى بالخير كما نبتلى بالشر :{ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر و الخير فتنة وإلينا ترجعون } .
بعد مثل هذه الجولة من التفكر فى نعم الله أحسب أننا نخرج بزاد من معرفة فضل الله علينا وجميل إحسانه ومدى فقرنا إليه سبحانه .
هذا الزاد يدفعنا على تعظيم الله وإجلاله وطاعته وشكره وحسن عبادته ويحفظنا من الجرأة عل استعمال نعمه علينا فى معصيته ، ولو أمسك الله رحمته عن إنسان لتحولت هذه النعم الى نقم يشقى بها ويأثم بسببها .
==================(45/28)
(45/29)
الشكر
الشكر خير عيش السعداء لم يترقوا إلى أعلى المنازل إلا بشكرهم ، ولمّا كان الإيمان صفين ، نصفٌ شكر ونصفٌ صبر ، كان حقيقاً على من نصح نفسه وآثر نجاتها وسعادتها. تعريف الشكر الشكر لغةً: الاعتراف بالإحسان، شكرت الله- شكرت لله- شكرت نعمة الله . فالشكر في اللغة هو ظهور أذر الغذاء في جسم الحيوان، والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل أو الذي يسمن على العلف القليل. والشكر خلاف الكفر. والشكر الثناء على المحسن بما أولاه من معروف ، وتقول شكرته وشكرت له وقيل اللام أنصح ، و الشكران خلاف الكفران. اشتكرت السماء أي اشتد وقع مطرها. و اشتكر الضرع أي امتلأ لبناً . والشكر الزيادة والنماء. والشكر في الاصطلاح: ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيماناً وفي لسانه حمداً وثناءً وفي جوارحه عبادة وطاعة ويكون القليل من النعمة مستوحياً الكثير من الشكر فكيف إذا كانت النعم كثيرة؟، ومن العباد من هو شاكر ومنهم من هو كافر. شكرت له، يتعدى باللام ، وكفرت به ؛ يتعدى بالباء!، ولابن القيم نكتة طرفة في هذا فيقول: [المشكور في الحقيقة هي النعمة وهي مضافة إلى المنعم لذلك تقول شكرت له فيتعدى باللام ، أما الكفر ففيه تكذيب وجحد بالنعمة لذلك قالوا كفر بالله وكفر بنعمته وكفر بآلائه فلذلك تعدى بالباء]. هذا الشكر له مقامات عظيمة في الدين: 1- قرن الله ذكره بشكره وكلاهما المراد بالخلق والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة إليهما وعوناً عليهما، فقد قرن الله الشكر بالذكر فقال: ((فاذكروني أذكركم واشكروني ولا تكفرون)). 2- قرن الشكر بالإيمان ، وأنه لا غرض له في عذاب الخلق إذا قالوا آمنا (( ماذا يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم))، أي وفيتم حقه وما خلقتم من أجله وهو الشكر بالإيمان. 3- أهل الشكر هم المخصوصين بمنته عليهم من بين عباده فقال تعالى: (( وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين)). 4- قسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهل الكفر وأحب الأشياء إليه الشكر وأهل الشكر (( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)). 5- يبتلي عباده ليستخرج الشكور فقال تعالى على لسان سليمان عليه السلام : ((هذا من فضل ربي يبلوني أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)). 6- وعد الشاكرين بالزيادة (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)). 7- الله يرضى عمل الشاكرين ويرضى الشكر (( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)). فيقارن الله بين الشكر والكفر وأنهما ضدّان (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)). والشاكرون في هذه الآيات الذين ثبتوا على نعمة الإيمان ولم ينقلبوا على أعقابهم. فمن الناس من لا يصمد عند الابتلاء والمحنة فيكفر ولا يثبت، ومنهم من يظهر لربه حقيقة ما في قلبه عند المحنة والابتلاء ، فيتعالى لسانه بذكر ربه وحمده فيثبت ويشكر شكراً عملياً بالقلب واللسان والجوارح. 8- علّق الله المزيد بالشكر والمزيد من لا نهاية له، كما أن الشكر لا نهاية له، ووقف الله الكثير من الجزاء على المشيئة.. - (( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)). - في الإجابة (( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء)). - في المغفرة ((يغفر لمن يشاء)). - في الرزق (( يرزق من يشاء)). - في التوبة ((ويتوب الله على من يشاء)). أما الشكر فإنه أطلقه (( وسنجزي الشاكرين))،((وسيجزي الله الشاكرين) ولم يقل ((إن شاء))!! 9- أخبر سبحانه وتعالى أن إبليس من مقاصده أن يمنع العباد من الشكر، فتعهد إبليس بأشياء (( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)) فإبليس يريد حرمانهم من الشكر والقعود بينهم وبينه. 10- وصف الله الشاكرين بأنهم قليل من عباده (( وقليل من عبادي الشكور))، وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: [اللهم اجعلني من الأقلين] فقال ما هذا؟ قال: [ يا أمير المؤمنين : الله تعالى يقول ((وما آمن معه إلا قليل)) ويقول (( وقليل من عبادي الشكور)) ويقول ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم))] قال عمر: صدقت..!!، وإذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين فإنه ليس كذلك عند كل الناس فإن كثيراً منهم يتمتعون بالنعم ولا يشكرونها. 11- أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر وهو نوح عليه السلام (( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً)) إشارة إلى الاقتداء به. 12- أخبر الله أنه يعبده من شكره وأن من لم يشكره فإنه ليس من أهل عبادته : (( واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)). 13- أمر سبحانه وتعالى عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر (( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين)). 14- أول وصية أوصى بها الإنسان بعدما عقل(45/30)
أن يشكر له ثم لوالديه (( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير)). 15- أخبر الله أن رضاه في شكره (( إن تشكروا يرضه لكم)). 16- أخبر عن خليله إبراهيم بشكر نعمته (( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم)). فمن صفات الأمة القدوة الذي يؤتم به بالخير يعدل مثاقيل من أهل الأرض أنه كان قانتاً لله شاكراً لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله. 17- الشكر هو الغاية من الخلق(( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)). فهذه غاية الخلق، أما غاية الأمر (( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون))فكما قضى الله لهم بالنصر فليشكروا هذه النعمة. والخلاصة أن الشكر غاية الخلق وغاية الأمر فخلق ليشكر وأمر ليشكر (( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون))، والشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره، أنت تصبر لأجل أن يحدث ما يترتب عليه وما يؤدي إليه من الأشياء، والشكر غاية في نفسه والصبر وسيلة إلى غيره وإلى ما يحمد وليس مقصوداً لنفسه. وفي منازل (( إياك نعبد وإياك نستعين )) ذكر ابن القيم في الشكر أيضاً سبعة عشر وجهاً وهي: 1- أنه من أعلى المنازل. 2- فوق منزلة الرضا والزيادة، فالرضا مندرج في الشكر ويستحيل وجود الشكر بدونه. 3- نصف الإيمان شكر ونصفه صبر. 4- أمر الله به ونهى عن ضده. 5- أثنى على أهله ووصفهم بخواص خلقه. 6- جعله غاية خلقه وأمره. 7- وعد أهله بأحسن الجزاء. 8- جعله سبباً للمزيد من فضله. 9- حارساً وحافظاً للنعمة. 10- أهل الشكر هم المنتفعون بآياته. 11- اشتق لهم اسماً من أسمائه (الشكور) وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكوراً. 12- غاية الرب من عبده. 13- سمى نفسه شاكراً وشكوراً ، وسمى الشاكرين بهذا الاسم فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً. 14- أخبر الله عن قلة الشاكرين في عباده. 15- الشكر لابد معه من مزيد. الشكر عكوف القلب على محبة المنعم، والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه. والشكر يتعلق بأمور ثلاث : القلب واللسان والجوارح، ومعنى الشكر ينطوي على معرفة ثلاثة أمور وهي معاني الشكر الثلاثة. 1- معرفة النعمة: استحضارها في الذهن وتمييزها والتيقن منها، فإذا عرف النعمة توصل إلى معرفتها بمعرفة المنعم بها ولو على وجه التفصيل، وهذا ما نجده في القرآن الكريم ليستحضر العبد هذه النعم فيشكر. وإذا عرف النعمة سيبحث العقل عن المنعم فإذا عرف المنعم أحبّه فإذا أحبه جد في طلبه وشكره ومن هنا تحصل العبادة لأنها طريق شكر المنعم وهو الله. 2- قبول النعمة: تلقيها بإظهار الفقر إلى المنعم والحاجة إليه وأن وصول النعم تمّ بغير استحقاق ، فالله أعطانا النعم منّة وتفضّل . 3- الثناء بها: الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان : عام وهو أن تصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك. خاص وهو أن تتحدث بنعمه عليك وتخبر بوصولها إليك (( وأما بنعمة ربك فحدث)). والتحديث المأمور به هنا فيه قولان: 1- أن تذكر وتعدد ( أنعم الله علي ب كذا وكذا...) ولذلك قال بعض المفسرين اشكر ما ذكره من النعم عليك في هذه السورة من جبرك يتيماً وهدايتك بعد الضلال وإغنائك بعد العيلة. 2- أن تستعملها في طاعته. وسيأتي تفصيله. فالتحدث بالنعمة من الثناء على الله، فتثني على الله بالأسماء المناسبة لمقام الشكر(المنان-الكريم-ذو الفضل العظيم - الله واسع - عطاؤه كثير). حديث جابر مرفوعاً: [ من صنع إليه معروفاً فليجزِ به فإن لم يجد ما يجزي به فليثني فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلّى بما لم يُعطَ كان كلابس ثوبي زور). ومن الثناء كقول جزاك الله خير، و الدعاء أيضاً وسيلة للشكر. أقسام الخلق في شكر النعمة ثلاثة: 1- شاكر للنعمة مثني بها. 2- جاحد لها كاتم لها. 3- مظهر أنه من أهلها وهو ليس من أهلها ، وكما في الحديث فالمتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور. وقد روى النعمان بن بشير: [ من لم يشكر القليل؛ لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس؛ لم يشكر الله]. والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب [ رواه أحمد]. والتحدث بالنعمة المأمور به ينبغي أن يكون ذلك في النفس وعند الآخرين ولكن إذا كان عند حاسديها فإن كتم ذكرها ليس من كفرها فهو لم يكتم ذكر النعمة شحاً بذلك وتقصيراً في حق الله لكن لدرء مفسدة وهي حسد صاحب العين وكيده وضرره ودفع الضرر من المقاصد الشرعية. أما مقابلة النعمة فلا يمكن في حق الله (( لن ينال الله لحومها ولا دماءها)) ، فلا سبيل إلى المجازاة ويبقى في قضية الثناء عليه استعمالها فيما يرضيه ، أما المجازاة فلا سبيل إليها ولا ينتفع الله بخلقه شيء. و واجبنا نحو الله في النعم : 1- الخضوع له، خضوع الشاكر للمشكور. 2- حبه له، حب الشاكر للمشكور. 3- اعترافه بنعمته عليه( الإقرار). 4- الثناء عليه بها. 5- أن(45/31)
لايستعملها فيما يكره بل يستعملها فيما يرضيه . وإذا كانت النعم تتفاضل فهل يتفاضل الشكر؟ نعم. والشكر لله يكون بالقلب واللسان والجوارح. الشكر بالقلب علم القلب وذلك بأن يعلم أن الله هو المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها [الناس يشكرون المعبر ولا يشكرون المصدر!!]، وهذا مهم في تربية الأطفال، أن يُعرَّف من أين جاءت النعم((يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون))!! أول نعمة ؛ نعمة الخلق والإيجاد، ورصد النعم والتعرف إليها مرحلة تمهيدية للشكر، وجاءت كثير من الآيات بإحصاء النعم ليكتشف الإنسان كثرتها فيعلم أن النعم لا يمكن حصرها (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)). ولكن ذُكِر لنا أشياء فرعية وأصلية ، والفروع نردها إلى أصولها ، كالصحة فهي نعمة أصلية وما يتفرع منها من النعم ( الحركة- المشي-العمل - الرياضة-النوم- الأكل - الشرب - السفر)، كذلك المال والوقت والعلم كلها نعم أصلية. وتستطيع أن تضم النعم إلى ما يحاذيها ويشابهها، أنعم علينا بوصفنا مخلوقات بعد الخلق والإيجاد ثم نعمة الآدمية والإنسانية وأنعم علينا بوصفنا مسلمين من نعمة الهداية والإيمان. ونعمة التربية التي ترتقي بالفرد درجة بعد درجة وتعلم علماً بعد علم حتى يبلغ كماله، وفوق كل ذلك نعمة النبوة للذين اصطفاهم الله ، والصديقين والشهداء و الصالحين. إن عرض النعم على العامة أمر مهم جداً وهو قضية في الدعوة، فالله عز وجل خص الآدمي أنه خلقه بيده (( لما خلقت بيدي)). (( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)). وذكر في سورة النحل(سورة النعم): (( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون * أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون* و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم)) . (( والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون)). هذه المنة للإيمان بعد الإسلام أو الإسلام اولاً (( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)). (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)). ومن نعمة الهداية يكون الأمن والسكينة والفرج والمغفرة والرحمة والبركة والتيسير وسعة الرزق. ومن مقاصد ووسائل الدعوة أنك تحدث المدعوين بنعم الله عليهم ليحصل الشكر (( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)). فبعض الناس اتجهوا إلى أشياء غريبة في تفسير النعم أو نسبتها إلى مصادر باطلة ليست هي، مثل الذي فعله قارون لما ذكر بنعمة الله عليه فقال (( إنما أوتيته على علم عندي))، فالغرور يجعلهم ينسبون النعمة إلى غير المنعم، وهذا فعل الأشقياء فالله تعالى يقول: (( وما بكم من نعمة فمن الله))((فلينظر الإنسان مما خلق))((فلينظر الإنسان إلى طعامه))((أءنتم أنزلتموه من المزن)) (( وما أنتم له بخازنين)) (( أفرءيتم الماء الذي تشربون*أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء لجعلناه أجاجاً فلولا تشكرون)). الشكر باللسان لسان المرء يعرب عما في قلبه ، فإذا امتلأ القلب بشكر الله لهج اللسان بحمده والثناء عليه، وتأمل ما في أذكار صلى الله عليه وسلم من الحمد والشكر لرب العالمين.. 1- كان لما يفيق من نومه يقول :[الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور]، [الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره]. 2- وإذا أوى إلى فراشه لينام يقول: [الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا فكم ممن لا كافي له وملا مؤوي]. 3- ومن أذكار الصباح والمساء[ اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد والشكر] من قالها حين يصبح فقد أدى شكر ليله. 4- سيد الاستغفار[أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي] اعتراف بالنعمة واعتراف بالتقصير في شكرها لأنه يذنب. 5- يفتتح الأدعية بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله. 6- في كل خطبة أو نكاح أو أمر ذي بال يحمد الله. 7- دعاء الاستفتاح - سورة الفاتحة - الرفع من الركوع - أذكار ما بعد السلام - ربنا ولك الحمد - أدعية التهجد - اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن - الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً. 8- إذا أكل أو شرب أو سئل عن حال أو سافر أو عطس. 9- في أي ساعة يحمد ربه من ليل ونهار ، له في كل تحميدة صدقة. وقعت يد عائشة على يد(45/32)
صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في بطن الليل وقدماه منصوبتان يقول: [ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك]. قا صلى الله عليه وسلم : [ يا معاذ إني أحبك فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعنّي على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك]. الشكر بالجوارح وهي ما سوى القلب واللسان من جوارح، فما من عمل يعمله ابن آدم من الطاعات والعبادات إلا وهو شاكر فيه لنعم ربه سبحانه وتعالى. والخلاصة في الشكر بالجوارح ؛ العمل الصالح، فعند بلوغ الأربعين (( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه))، فسأل الله العمل الصالح عقب سؤاله التوفيق على شكر نعمته يعني أن الشكر باللسان وحده لا يكفي. ومن وسائل الشكر بالجوارح حديث (( كل ابن آدم يصبح وعلى كل سلام ومفصل صدقة)) فكيف يؤدي شكر 360 مفصل؟، كل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وعدد المفاصل 360 إذا شكرها المرء [أمسى يومه وقد زحزح عن النار]. والصدقات كثيرة جمعها ابن رجب في شرحه الأربعين النووية[الصدقات البدنية- المالية-الخبرة من تعليم صنعة أو تصنع لأخرق- التفهيم - التعليم - الوقت - الجاه...]، فذو القرنين مثلاً علم شعباً جاهلاً صناعة السدود حتى تقيهم شر أعدائهم. المقصود أن المسلم عليه أن يشكر ربه بجوارحه بسائر أنواع الصدقات وكل معروف صدقة ولا يغني شكر يوم عن يوم آخر. وليس هناك تعارض بين شكر الله وشكر الناس، لأن الله أمر بشكر الناس ، وهو سبحانه الذي أرشدنا إلى شكر الناس إذا صنعوا لنا معروفاً أن نكافئهم وأولهم الوالدين (( اشكر لي ولوالديك)) (( لا يشكر الله من لا يشكر الناس))، فليس شكر المخلوق قادحاً في شكر الخالق بل المشكلة فيمن يشكر المخلوق ولا يشكر الخالق وهذه هي المصيبة، وهناك فرق بين شكر العبد وشكر الرب، فشكر الرب فيه خضوع وذل وعبودية ولا يجوز لشكر العبد أن تعبده وإنما تعطيه شيء مقابل شيء، وتدعو له وتثني عليه .. شكر الله أيضاً يختلف عن شكر الناس من جهة العبودية والدرجة وما فيه من أنواع الطاعات له سبحانه وتعالى.. والإنسان الذي لا يشكر الناس إنسان لئيم وحريٌ به أن لا يشكر الله.. والنعم تزيد بالشكر وتحفظ من الزوال بالشكر((لئن شكرتم لأزيدنكم)) (( ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله)). من الأشياء التي تؤدي إلى الشكر: 1- أنك تنظر إلى من هو دونك، قا صلى الله عليه وسلم : [انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله ]. فمما يحفظ العبد من ترك الشكر عندما ينظر إلى من هو فوقه أن هذه قسمة الله (( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما أتاكم)). 2- أن يعلم العبد أنه مسئول عن النعمة (( ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم)) ومحاسب عليها حتى الماء البارد، ومن نوقش الحساب عُذِّب. ويشتط الناس في فهم شكر ما أسبغ الله عليهم من النعم لدرجة أنهم يحرمون أنفسهم منها، والله رضي لنا أن نستمتع وأن نشكر (( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين))((كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)). فلا يمكن أن يكون الشكر بتحريم الحلال وهذا من مباديء الصوفية، فالله رضي لنا أن نستخدم النعم المباحات ونشكره عليها سبحانه وتعالى، ولو كان شرطاً في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها شكراً ؛ ما وفّت كل أعمال العباد ولا على نعمة واحدة[أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي ] فتشكر الله وتعترف بالنعم وتستغفر من التقصير بشكر النعمة. فالحل أن نستخدم النعم فيما يرضي الله ونثني عليه ونشكره ونستغفره من التقصير في الشكر وهو تعالى رضي منا بهذا.. وقد جاء في الصحيحين عن صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تفطرت قدماه وتشققت قيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟قال: [ أفلا كون عبداً شكوراً!!]. فتشكر الله على المغفرة. ومن الوسائل أن ندعو الله أن يعيننا على الشكر[ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك]، قالها لمعاذ، وسئل الرسو صلى الله عليه وسلم : أي المال نتخذ؟ فلفت نظرهم r فقال: [ ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر دينه ودنياه]. قا صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليرضى على العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)). قال الحسن البصري رحمه الله : إن الله ليمتع بالنعمة ماشاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً ولهذا كانوا يسمون الشكر(الحافظ) لأنه يحفظ النعم الموجودة و ( الجالب) لأنه يجلب النعم المفقودة. هكذا يحفظ ويحصّل من علو منزلة الشكر وعظمه عند الله، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبدك قيد النعم، فهو يقيد النعمة ألا تنقلب ولا تهرب. قال عمر بن عبد العزيز: [قيدوا نعم الله بشكر(45/33)
الله]، والشكر مع المعافاة عند بعض أهل العلم أعظم من الصبر على الابتلاء. فقال مطرف بن عبد الله: [لأن أعافي فأشكر أحبُّ إليّ من أن أُبتلى فأصبر]. فإذا رزقت الشكر على النعمة فإن هذا لا يقل عن الصبر على المصيبة. وقال الحسن: [ أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه (( وأما بنعمة ربك فحدث)) والله يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته فإن ذلك شكرها بلسان الحال]. وقال أبو رجاء العطاردي: خرج علينا عمران بن حصين وعليه معطف من خزّ لم نره عليه من قبل ولا من بعد فقال: [إن رسول الله قال إذا أنعم الله على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده]. وقا صلى الله عليه وسلم : [كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده]، وهنا الضابط والحد الشرعي، فإذا أردت أن تظهر نعم الله عليك فإن ذلك مقيد في عدم الخيلاء والإسراف . عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة فقال هل لك من مال؟قلت نعم قال من أي المال؟ قلت من كل المال ، الإبل ، الرقيق، النعم، الخيل.. قال: [ إذا آتاك الله مالاً فليرَ عليك]. وقال الحسن: إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادراً على أن يزيدهم وإذا كفروه كان قادراً على أن يبعث عليهم عذاباً. وقد ذم الله الكنود وهو الذي لا يشكر نعمه ، قال الحسن: (إن الإنسان لربه لكنود) أي يعد المصائب وينسى النعم. وفي النساء أظهر، فلو أحسنت إلى إحداهن الدهر وطيلة العمر ثم رأت منك تقصيراً قالت مارأيت منك خيراً قط!، وهذا ظلم ، والنساء أكثر أهل النار لأنهم يكفرن العشير، وإذا كان ترك شكر نعمة الزوج يؤدي إلى جهنم فما حال من يكفر نعمة الله..؟!! يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم والتحدث بالنعم شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله. قرأ الرسو صلى الله عليه وسلم على أصحابه سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم فلما قرأت (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب ربنا ولك الحمد.. وقال شُريح: وما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم: 1- ألا تكون في دينك. 2- أنها لا تكون أعظم مما كانت. 3- أنها لابد كائنة فقد كانت. (( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)). كان عمر بن عبد العزيز إذا قلّب بصره في نعمة أنعمها الله عليه قال: [ اللهم إني أعوذ بك أن أبدّل نعمتك كفراً وأن أكفرها بعد أن عرفتها وأن أنساها ولا أثني بها]، لأن الله ذم الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار. و صلى الله عليه وسلم كان إذا رُفعت مائدته قال: [ الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفيٍّ ولا مكفور، الحمد لله ربنا غير مكفي ولا مودّع ولا مستغنٍ ربنا]. وكذلك من شكر النعم المتجددة أنك تسجد سجود الشكر وفي ذلك أن صلى الله عليه وسلم أتاه أمر فسرّ به فخرّ لله ساجداً، وأبو بكر لما جاءه قتل مسيلمة المرتد الذي ألب عليه العرب وأشد الناس على المسلمين خرّ لله ساجداً، وعلي رضي الله عنه لما رأى ذا الثدية في الخوارج أسود مخدّج مقطوع اليد عند العضد مثل حلمة المرأة، وأنه علامة وآية أنه سيقاتل الخوارج أمرهم فبحثوا في جثث القتلى وأخرجوه ؛ سجد علي رضي الله عنه شكراً لله. وكعب بن مالك سجد في عهد صلى الله عليه وسلم لما بشر بتوبة الله عليه. والسنة لم ترد بسجود الشكر يومياً لكنها وردت في النعم المتجددة والتي تذكر بالنعمة المستديمة، ولأن هذه النعم المتجددة العظيمة لها وقع في النفوس والقلوب أعلق بها وأهنأ والإنسان يُعزّى بفقدها فإن ما توجبه من فرح النفس وانبساطها والذي يدفع الأشر والبطر عند نزول النعمة فجأة. ومن النعم المتجددة كما يقول أحد السلف: بشّرت الحسن بموت الحجاج وهو مختفٍ فخرّ لله ساجداً،فموت ظالم نعمة و ولادة مولود ، وجاء الخبر في الانتصار. قال ابن القيم: [ الدين نصفان، نصف شكر ونصف صبر، فهو قاعدة كل خير، والشكر مما يحبه الله فهو يحب أن يُشكر عقلاً وشرعاً وفطرةُ]، فوجوب شكره أظهر من كل واجب، وقد فاوت الله بين عباده بالنسبة للنعم الظاهرة والباطنة وفي خلقهم وأخلاقهم و أديانهم وأرزاقهم ومعايشهم. لذلك فقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: [ قال موسى هلاّ سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر]، فالتفاوت بين العباد يؤدي إلى الشكر. وقد تنازع أهل العلم بين الفقير الصابر والغني الشاكر، أيهما أفضل في كلام طويل، والظاهر أن كل واحد في حق صاحبه أفضل، فالشطر في حق الغني أفضل والصبر في حق الفقير أفضل. أسئلة من درس الشكر كيف نوفق بين (( وأما بنعمة ربك فحدث)) و (( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود))؟ إظهار النعم عام، كيف يحدث بنعم(45/34)
الله قولاً وفعلاً بأن يظهرها وأن الإظهار ليس فيه إسراف ولا خيلاء ولا كسر لنفوس الفقراء، وأن لا يغترّ بها ، كذلك إن وُجد حاسد فله أن يكتم النعمة عنده فهذا خاص. فإذا وجد حاسد فكتمانها لأجل الحسد وليس كفران بالنعمة. ما هو الفرق بين الحمد والشكر؟ الحمد يتضمن مدح المحمود والثناء عليه بذكر محاسنه ولو لم يحسن إليك بشيء لأنه مستحق للحمد بصفاته، ويكون باللسان أكثر ما يكون بغيره، والشكر لمن أحسن إليك و إحسان الشاكر إلى المشكور يكون بالقلب واللسان والجوارح. كيف نجمع بين شكر الله على الإيجاد وتمني أبو بكر لو كان طيراً؟ أبو بكر رضي الله عنه قال ذلك لما عرض عليه الخوف من الله، قالها خوفاً من ربّه وليس في سائر أحواله. هل الحمد بعد العطاس واجب؟ قال بعض العلماء بوجوبه لوروده في الحديث بصيغة الأمر[فليقل الحمد لله وليقل صاحبه يرحمك الله ] . ماذا عن شكر المفاصل؟ إذا لم يستطع فإن ركعتي الضحى تجزيان عن ذلك وتصلى ركعتان أو أربع أو ستة أو ثمانية أو اثنتا عشرة، من بعد ارتفاع الشمس إلى قبيل الظهر قبل أن تسير الشمس في وسط السماء، وقبل أذان الظهر برُبع ساعة. هل هناك تسليم في سجود الشكر؟ لا، بل يخرّ ساجد ثم يرفع. هل المال والأولاد نعمة وهم فتنة؟ نعم (( المال والبنون زينة الحياة الدنيا))، والنعم كلها ممكن أن يفتن بها إذا استعملت في معصية الله.
المصدر
موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامى
http://www.islamicaudiovideo.com/zpa...f1020dbc934ba2
=================(45/35)
(45/36)
إني أري الإلحاد عاريًا . (1)
كان أحد الملوك يستمتع بنفاق حاشيته و شعبه ، فخرج عليهم في الاحتفال بذكري تتويجه ، خرج عليهم عاريًا ، فأخذت الحاشية التي تغلغل النفاق إلي خوافيها تمدح الملك و تثني علي جميل ثيابه و عظيم حيائه و مرهف حسه ، و من وراء الحاشية ردد المنافقون من الشعب مثل مقالهم ، و لكن طفلًا نظر إلي الملك و تعجب و قال ببراءة الأطفال ( لكني أري الملك عاريًا !! )
كذلك الحال !!
الملحد يعرض عورته الفكرية - و الإلحاد عورة فكرية - علي أقرانه ، فيتسارعون إليه زرافاتٍ و وحدانًا ، و يكيلون له الثناء أشكالًا و ألوانًا ، لكني رغم هذا الكلام أقولها ببساطة بعيدًا عن النفاق ( لكني أري الإلحاد عاريًا !! )
أخي المسلم!! يا من رأيت رماد الإلحاد فحسبته نورًا ، سأنزع هذه الأردية الكاذبة التي تحول دون رؤية الفكر الإلحادي و عريه الفاضح ، فخذ عني بعضًا مني .
الرداء الأول : مدح المادحين و كذب المنافقين .
( إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )
أخي المسلم المتردد : اسمع مني و لا تعجل علي !!
يا من اغتر بشيء من كتابات الملاحدة .. اسمع مني .. فلست ممن ينافقك .. إنما أنا لك ناصح أمين .. لو علم القلم خوفي عليك لانفلق .. و لو علم الورق فحوي مقالي لاحترق .
اسمع خطابي للملحد و عهدي بك أنك ستفهم ما وراء الكلام .
أيها الملحد !!
لا تعجل علي حتي لو قلت لك كما قال برنارد شو ( إني لا أجد عقلًا يستحق احتقاره إلا عقل شكسبير )
لا تعجل علي حتي لو قلت لك ( إني أري إلحادك عاريًا !! )
أقول لك : إن هؤلاء الذين يمدحون مقالك ، و يرددون أقوالك ، لو علمت منهم ما أعلم من شأنهم مع أمثالك ، لأحرقت مقالك ، و لنبزت أقوالك ، إذ أثني عليها الكذاب المنافق .
ما مثلهم و مثلك إلا كهذا المجرم الفاتك الذي قال له المنفلوطي :
( شريكك في الجريمة هذا المجتمع الإنساني الفاسد الذي أغراك بها ، و مهد لك السبيل إليها ، فقد كان يسميك شجاعًا إذا قتلت ، و ذكيًّا فطنًا إذا سرقت ، و عالمًا إذا احتلت ، و عاقلًا إذا خدعت ، و كان يهابك هيبته للفاتحين ، و يجلك إجلاله للفاضلين ، و كثيرًا ما كنت تحب أن تري وجهك في مرآته فتراه وجهًا أبيض ناصعًا فتتمني لو دام لك هذا الجمال ، و لو أنه كان يؤثر نصحك ، و يصدقك الحديث عن نفسك ، لمثل لك جريمتك في صورتها الشوهاء ، و هنالك ربما وددت بجدع الأنف لو طواك بطن الأرض عنها ، و حالت المنية بينك و بينها )
هذه حالهم معك ، و تلك حالك معهم !!
ينافقونك و تحب النفاق ، و يداهنونك و تحب المداهنة !!
فاسمع !! لعل كلامي هذا يكون أصدق ما تسمع !!
* بعضهم يمدحك أملًا أن تصير مثله لتحصل له الطمأنينة ، فهو يزخرف لك طريق الإلحاد بخادع الزينة .
إن كنت مسلمًا تعبر عن ترددك مدح فيك الصدق مع الذات ، و طالبك بالسير في هذا الطريق - تحت عينه - علك تجد الهداية !!
إن أعلنت عدم اقتناعك بالإسلام و توجهك للملذات ، طالبك بمزيد من البحث في المذاهب و الأديان علك تجد في إحداها الغاية !!
إن أعلنت لادينيتك و رفضك للترهات ، طالبك بالمزيد لربما تصير مثله في النهاية !!
فإن أعلنت إلحادك ، فمرحي مرحي ، فقد تحقق المراد ، و ما مدحك أولًا و آخرًا إلا لتنضم إليه لتحصل له الطمأنينة !!
علك تسأل : و ماذا تقصد بالطمأنينة ؟
ألا تعرف ؟!!
ألا تدري أن الملحد مهما أظهر من الثقة بكلامه فهو في شك و ريب ؟ و كم تمني لو علم الغيب !!
الملحد دائمًا يسأل " ماذا لو كنت مخطئًا ؟!! " ، تأمل هذا السؤال يدور في خلده بين الفينة و الأخري .
إنه يقول : حياةٌ ثم موتٌ ثم بعثٌ حديث خرافات ، لكن ماذا لو كان بعد الموت بعثٌ و بعد البعث نُحشَر أجمعينَ ؟!
هو يخاف ، فيريد أن يزيد من عدد أقرانه عله يحس الطمأنينة ، و لكن هذا لا ينفعه ، اقرأ قوله تعالي :
( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ )
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أزواجهم : أشباههم و نظراءهم )
* بعضهم يمدحك لصداقة بينك و بينه ، و لكن لا تظلم نفسك و تصدق هذا المدح الكاذب ، ألم تسمع بنداء من يفعل ذلك يوم القيامة ؟؟
اقرأ قوله تعالي :
( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً )
* بعضهم يظن نفسه الملحد المخضرم ، و أنه في نظر الملاحدة كبيرهم الذي علمهم الكفر ، فيمدح مقالك لترد عليه ( يكفيني تشريف مثلك لمقالي ، فأنت .. و أنت .. )
و هو ما راغ إلي مدحك باليمين ، إلا لينال أضعاف ذلك بالشمال و اليمين .
* بعضهم يمدحك لمحبة بينك و بينه .
إن هواك الذي بقلبي *** صيرني سامعًا مطيعًا .(45/37)
و هذا المدح الكاذب لا يصدر إلا عن غشاش مخادع .
* بعضهم لا يترك لك مقالًا إلا سجل تقديره و إعجابه ، حتي تطبع اسمه في ذهنك ، و تحفظ له جميل صنعه ، و تحمل في قلبك من الود ما تحمل لمادح مثله ، فإذا أراد التعرف عليك وجد ذلك سهلًا ميسورًا ، و ما مدحك ابتداءً إلا ليلج إليك من هذا الباب ، باب حبك للمادح الكذاب .
لست تنفك راجيًا لوصال *** من حبيب أو راجيًا لنوال .
أي ماء يبقي لوجهك هذا *** بين ذل الهوي و ذل السؤال ؟!
* بعضهم يجد لك مقالًا قد ضمنتَه الأبحاث العلمية ، فيسجل موافقته و رضاه ، و كأنه قرأ و فهم ، و فكر و قدر ، و عن علمٍ حكم ، و ما قرأ إلا تلك الإشارات إلي الأبحاث الموسومة بأنها علمية مع بعض الكلمات الأعجمية ، فقال في نفسه ( إن سجلت التأييد ، فسيقول الناس : ليتنا أوتينا من الفهم مثل هذا الصنديد !! )
* قد يجد مقالك من المسلمين منتقد ، و لم يثنِ عليه أحد ، فيسارع إلي تسجيل الإعجاب ، لا عن اقتناع ، و لكنها إشارة إلي اللبيب ، أن إذا وجدته في مثل حالك ، فبادر بمساندته من باب ( هذه بتلك ) .
* قد يكون مقالك ضد علم من أعلام المسلمين أو عقيدة من عقائدهم ، فإذا وجد ذلك دفعه الحقد علي الإسلام إلي المبادرة بالمديح ، ليس لأنه قرأ مقالك و لكن من باب ( ليس حبًّا في علي ، و لكنْ بغضًا لمعاوية !! )
* بعضهم يمدحك إذا وجد غيره من الملاحدة قد صدقك القول و بين لك أنك افتريت ، فيبادر إلي مدحك لتعلم أن الملاحدة منهم من يمدحك و من يذمك فلا تكره الإلحاد فيهم فتظل علي الإلحاد مثلهم !!
* بعضهم يقنع نفسه أن الذين انتقدوا المقال من ذوي العقليات الرجعية ، فيمدحك ليدفع عن نفسه الشعور بالدونية !!
* بعضهم يمدحك لأنه رأي غيره مدحك ، و كما يقال في المثل ( كلبٌ ينبح لأنه رأي شبحًا ، و ألف كلب ينبحون لنباحه ) ، هذا مثل علي ما أظن من الصين ، يبين لك الموقف واضحًا ، و إن لم أقصد به - في الغالب - الإسقاطات الشخصية .
هذا حال من غرك مدحه ؟
أتريد اختبار صدق المادح ؟
اسأل : أفهمت الفكرة و استوعبت العِبرة ؟
فلابد من ( نعم ، و لم مدحتك إذن ؟!! )
فقل له : فخذ هذا المقال و اعرضه علي المسلمين العالمين و نافح عنه و جادل !!
فستري الفرار المشين !
و مالي أذهب بعيدًا ؟!!
أنت نفسك تصدق هذه الهالة الكاذبة من المدح و تحبها و تسعي إليها و تكتب من أجلها .
سل نفسك : لماذا أسأل الملاحدة عن أمر أشكل علي في الإسلام و لا أسأل عنه طلبة العلم المسلمين فضلًا عن علمائهم ؟
سل نفسك : لماذا أضع ما أزعم أنه " سورة " أعارض بها القرآن عند الملاحدة المستعجمين ، و لا تسعفني الشجاعة لعرضها عند أرباب الفصاحة و البيان ؟!
سل نفسك : كم من كلمة لفظتها أمام الملحد متراخيًا و أنا علي يقين أني لا أستطيع إثباتها مع طفل مسلم ذي علم ؟
سل نفسك : لماذا أناقش علم الأجنة في القرآن و السنة مع الملاحدة و لا أناقشه مع أطباء المسلمين ؟
تدري لماذا ؟
لأنك تبحث عن الضلالة لا الهداية ، الفراغ لا الحقيقة ، تريد المنافقين لشخصك لا المخلصين في نصحك ، تبحث في النفاق عن الراحة ، و لا راحة إلا في الصراحة ، تريد الهزل لا القول الفصل ، تخشي أن :
تري إلحادك عاريًا !!
أيها المسلم المتردد الذي اغتررت ببعض كتابات الملحدين : هذا المدح من الأقنعة الزائفة التي تحول دون رؤية الفكر الإلحادي علي حقيقته ، أرجو الله أن أكون وفقت في كشفه و بيان زيفه .
أيها الملحد :
لقد صدرت كلامي بقول خليل الله إبراهيم لقومه ( إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )
و آن الأوان لتعلم نهاية هذه المودة ، فاقرأ :
( إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً )
فيوم القيامة :
( الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ )
سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك .
صمام الأمان من الكفر والهزيمة باتباع الكتاب والسنة ..
قال أخي الحبيب .. حسام
--------------------------------------------------------------------------
نعم أخي الحبيب ، و يكفي أن نعلم أن الله عز و جل بين ما يوده هؤلاء .
" إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ "
هذا ما يتمناه ، و يسعي خلفه ، لأنه يود لو كان مثلنا فلما عدم العزيمة علي ذلك أرادنا معه :
" مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ "
و ها هو الدليل علي تمنيهم أن يكونوا مثلنا :
" رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ "
--------------------------------------------------------------------------(45/38)
قال تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم ءايات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"
وفي هذا السياق الكريم فائدتان هما:
الأولى: عصمة أتباع الوحيين من الكفر، قال ابن كثير رحمه الله: يعني أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه، فإن ءايات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم.
والثانية: أن الله اقتصر على ذكر أعظم كيد يدبره الكفار للمسلمين وهو إرادة تكفيرهم، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق"، فكأن الله يقول: مهما كان مكرهم الكبار الذي تزول منه الجبال، فإن إيمانكم لا يزول ما أقمتم على تلاوة الوحي كتاباً وسنة.
وبهذا يدق فهمك لقول النبي صلى الله عليه وسلم تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض.(رواه الحاكم ومالك وهو حسن).
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركاً شيئاً كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: ولهذا، كل من كان متبعاً للرسول كان الله معه بحسب هذا الاتباع، قال الله تعالى: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين". أي حسبك وحسب من اتبعك، فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه، وهذا معنى كون الله معه، والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق، والناقصة مع الناقص.
ثم قال رحمه الله: ولو انفرد الرجل في مصر من الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول، ولم تنصره الناس عليه، فإن الله معه، وله نصيب من قوله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان، ومن وافقه، صاحبه عليه في المعنى، فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله فإن الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به. انتهى كلامه رحمه الله.
لذلك كله كان صمام الأمان من الكفر والهزيمة باتباع الكتاب والسنة، والناظر إلى حال المسلمين اليوم من ذلة وهوان يتجلى له وجه العلاقة السببية بين الاتباع والعزة ، فعجباً لقوم يرون منابع الوحيين، فيبحثون عن عزتهم في سراب البدع ومستنقعات الالحاد!!
قال عمر ابن الخطاب: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام .. ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله ..
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ..
==========(45/39)
(45/40)
أيها الملحد ... تعال إلى كلمة سواء ...
]بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
أيها الملحد
لقد حث الدين على التفكر والتأمل .. وهو حق مشروع لكل أحد ... بيد أن الدين لم يطلق لعقلك العنان .. يجوب في أي أفق أنّا شاء وكيفما يشاء .. لأن الله أعلم منك بقصور عقلك ... ولذلك فقد إختزل لك بعض الإجابات لتقف عند حدها ولا تتجاوزها ..!؟
فهناك أمور .. قدرية .. وهناك أمور غيبية .. أمور أخرى أشد تعقيداً لا يعلمها الا الله .. وقد كفاك الله مؤنة البحث عن الإجابة في تلك المسائل .. بأن تكل السؤال وإجابته لله
وبالتأكيد .. فالشيطان .. حريص كل الحرص على الدخول الى روح ابن آدم .. لغرس الشك والريبة .. المؤدية الى الحيرة .. والتشتت في نفس ذلك العبد
إعلم هداك الله ... أن عقلي وعقلك وعقل كل من على الكرة الأرضية .. سيظل عاجزاً عن فهم مكنونات الكثير الكثير من الأمور ... وهذا ليس عيباً فينا .. بل لأن هذا هو جل ما نستطيعه
أيها الملحد
إننا عندما نؤمن بالله إنما ننسجم مع عقولنا وضمائرنا التي تؤكد وجوده ... أما الماديون من أمثالكم عندما يكفرون بالله إنما يخالفون عقولهم وضمائرهم .... فإذا كان المؤمن يتوقف عند السؤال ... مَن خلق الله ...!!؟؟
فلا يعني ذلك أن عليه أن يكفر بالله ... إنما عليه أن يعتقد أنه لا يستطيع أن يفهم ذلك... كما أن الذي لا يعرف من اخترع السيارة لا يجوز له أن يكفر بمخترعه
أما الملحد فهو عندما يتوقف عند السؤال... مَن خلق المادة ويكفر بالله إنما يخالف عقله وضميره وكل جزء في الكون
أيها الملحد
هذا هو عقل الإنسان ... خلقه الله واعطاه قدرة محدودة وطاقه استيعابيه لايستطيع بعدها أن يستوعب أمور لم يخلق ليستوعبها ... فالعقل يستوعب وجود الله عز وجل وانه الخالق وانه الرازق لأنه يرى مخلوقات الله ويرى أن هذه الأشياء لابد لها ان تكون مخلوقة فيستدل على الخالق بمخلوقاته
وقد ضرب الله للناس في القرآن الكريم ما يجيب على تساؤلاتهم قبل أن يؤمنوا ... ولكن عليهم بعد أن يؤمنوا أن يلتزموا بما أمر الله به وبما أمر رسوله عليه السلام به ... الله تعالى يقول
(( ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ))
ويقول عليه الصلاة والسلام
(( فكروا في مخلوقات الله ولاتفكروا في ذاته فتهلكوا ))
أو كما قال عليه الصلاة والسلام
أيها الملحد
لماذا تجبر عقلك على شيء لايمكن أن يستوعبه بل من المستحيل أن يستوعبه ... سأضرب لك مثلاً ... لماذا استيعاب القرص المرن أقل من استيعاب الـ
CD !!؟؟
القرص المرن والـ
CD
لهما طاقة استيعابيه ... بعدها لو عملت المستحيل ... لن تحمل عليهما حرف واحد فوق طاقتهما الاستيعابيه ... واذا حاولت ربما تتسبب في توقفهما عن العمل لكن هذا أمرها بسيط ستجد في المحلات مايعوضك عن فقدهما ولكن لو انفرط عقلك فمن أين لك عقل ..!!؟؟
لو أتيت بجهاز كهربائي خط 110 واوصلت له تيار 220 سينفجر هذا الجهاز ويحترق ... لماذا ؟؟؟؟؟ لأنك اوصلت له شيء لايستطيع أن يتحمله ؟؟؟
الكفار كانوا يسألون الأنبياء عليهم السلام اسئلة كلها تدور حول هذه الأمور كيف ؟؟ ولماذا ؟؟
الكفار يقولون من يحيي العظام وهي رميم ... عقولهم لم تستوعب هذا الشيء كيف يكون الانسان عظم بالي ثم يرجع كما كان ؟؟
العقل لايستوعب هذا الأمر إذا اخذ هذه الأمور كتشكيك بالخالق ... أما المؤمن فيطمئن قلبه ويعلم جيداً أن الخالق عز وجل والذي خلق هذا العظم وأنشأه إنسان قادراً على خلقه من جديد فهو الذي خلقه وهو الذي يميته وهو الذي يحييه
(( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ))
هذا هو السؤال فاسمع الجواب
(( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ))
بعض الكفار انكر البعث وانكر عذاب القبر ونعيمه لماذا ؟؟؟
لأنه لم يؤمن بالقادر على كل شيء ...خذ مثلاً النوم ... النوم موتة صغرى وهو أخو الموت فانظر للنائم عندما تكون بجانبه وانت صاحي ربما يكون في كوابيس وعذاب ويطارد ويصرخ باعلى صوته ويعدوا ويسقط وأنت بجانبه .... لاتسمع شيء من ذلك ولاتدري عنه وأنت بجانبه ... وربما يعيش في حلم سعيد ويحلم بالافراح ويعيش سعادة كبيرة وأنت لاتدري عنه ... هذا هو حال الأموات فالمعذب يصرخ ويعذب ... ولن تستطيع سماعة أو معرفة أحواله والسعيد يعيش بسعادة ورضوان من الله ولا احد يدري عنهم ... ولو وقفت على قبورهم
أيها الملحد
ان السؤال عن (( هل )) و (( لماذا )) ... سؤال يستبد بالعقول ويلعب بها
فاذا لم يكن هناك خالق ... فما هي وظيفتنا على هذه الارض ... وما هي اصولنا !!؟؟
واذا كان هناك خالق ... فلماذا خلقنا !!؟؟؟
والسؤالان مرتبطان ببعضهما لان في طياتهم اجابة متشابهة
فالبعض يرى أن الجواب هو الالتزام وتبرئة الذمة أمام الله وخلقه ... فتجده يعمل بكد وجد ليؤدي حقوق الخالق عليه بأداء الفروض والصلوات والعبادات ويؤدي حقوق خلقه بصلة الرحم والعدل بين الناس إن كان صاحب منصب أو صاحب وظيفة تقتضي ذلك...الخ(45/41)
وهناك من يجاوب ويقول "المال!" ... فإن كان ذا مبادي يئس من عمل أي شئ ليقينه أن صاحب المال سيحصل على ما يريد بحق أو بغير حق يقضي أيامه ساخطا ً على مجتمع يسمح لأصحاب الأموال باللعب والمرح كما يريدون ... ومن لا مبادئ له سيجعل من المال مفتاحا ً لكل باب
يقابل المثالين السابقين ... الذان يتبعهما أمثلة كثيرة أخرى ... من لا يستطيع التوصل إلى الإجابة بهذه السرعة... فتجده يجلس بالساعات حائرا ً/متأملا ً ولا يقنع بأي إجابة ويملك إشكالية وشبهة لكل إجابة تأتيه أو حتى لا تروق لهواه .... وغيره تجده ينصرف لمتع الحياة متناسيا ً هذه الأسئلة وإعراضا ً عنها لعلمه أنه حيت يفرغ بينه وبين نفسه ستقطعه هذه الأسئلة كالسيف فهو لا يقوى عليها ولا يعلم كيف يواجهها ... وتأتيه الإجابة في النهاية بعد أن استهلك نفسه وضيعها ولا ضمان أنه سيقدر على الوقوف مرة أخرى أو أنه سيحصل على الإجابة بعد فوات الأوان!؟
المثالين السابقين ... الذين يتبعهما أمثلة كثيرة أخرى ... هما نتيجة تزواج العقل مع الهوى ويتقمص كل منهما الآخر فتمتزج أحكام العقل بأحكام الهوى ويخبو صوت الضمير أمام صوت العقل/الهوى فتضيع النفس !!؟؟
اختلاف ٌ عظيم بين سواد البشر حول إجابة"هل؟" و "لماذا؟" يجعلنا نتساءل عن ماهية هذا المخلوق العجيب "الإنسان" وعن معنى الحياة والموت ويجعلنا نتيقن أنه لابد أن الإنسان أكثر من مجرد كائن مادي!؟
هنا يأتي دور خالق البشر ... الله عز وجل ... فأعطانا إجابتان للسؤال وأمرنا بالعمل على أساسهما
فأعطانا جوابا ميتافيزيقيا
((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ))
وأعطانا جوابا فيزيائيا
((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ))
وبين لنا كافة السبل والوسائل التي نحقق بها الإجابة الأولى بينما جعل وسائل وسبل الجواب الثاني من وظائف العقل البشري ومكانا ً لإبداعه
وهنا تلاحظ أن الله عز وجل جعل ما لا تقوى عليه عقولنا إجابته "عبادة" وهو مفهوم ضيق ... بينما جعل ما خلقت من أجله عقولنا إجابته "خليفة" وهو مفهوم واسع
وأنا شخصيا ً أرى حكمة عجيبة تتجلى في الإجابتين ... فما تتحير فيه العقول تأتيك إجابته من غير عناء ومن غير تعب رحمة بالعباد ... بينما ما يدخل في حيز قدرة العقل وطاقته يحتاج لكد وتعب وجهد عظيم في سبيل تحقيق معنى "الخلافة في الإرض" و"إعمار الأرض" ونرى في ذلك تحفيزا ً للعقول لسبر هذه الأغوار والغوص فيها
من هنا أجد نفسي مقتنعا ً أن هناك مناطق معرفية لا يستطيع خيال الانسان وفكره وفضوله التعايش فيها ... لأن هذا الخيال وهذا الفضول لا يعيشان من غير تهذيب بأسس منطقية عقلية علمية... وهذه الأسس يصل إليها الإنسان بسهولة في عالم الشهادة (( الحياة الدنيا )) أما عالم الغيب فلا نستطيع التعرف على قوانينها ولا نملك الأدوات لنتمكن من ذلك
بل إن بعض جوانب عالم الشهادة لا يزال على قدر كبير من الغيب !!!
فالجذابية مثلا ما تزال اليوم لغزا محيرا
واليوم ينقسم علماء الفيزياء على مذهبين كبيرين في تفسير الجاذبية وبينهما نقاشات وحورات يعرفها من يتابعها
وقبل ذكر المذهبين أود أن أذكر خلفية الموضوع
اصطلح أهل الفيزياء النظرية في هذا العصر على أن هناك 4 قوى أساسية ... القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة النووية الشديدة والقوة الجاذبية ... وقد نجحت نظرية "المياكنيكا الكوانتية" في توفير تفسير مقبول للقوى الثلاث الأولى بينما تم تفسير القوة الجاذبية بالنظرية النسبية العامة
ويزعم أهل الفيزياء النظرية أنهم إن تمكنوا من التوفيق بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة فإنهم سيصلون إلى ما يسمى
"نظرية المجال الموحد"
Unified Feild Theo r y
أو
"النظرية الاتحادية العظمى"
G r and Unified Theo r y
أو
"نظرية كل شئ"
The Theo r y of Eve r ything
الخلاف هنا هو التوفيق على حساب من؟
فبينما ترى مجموعة من العلماء الغلبة ستكون للنظرية النسبية العامة وأنهم سيستخلصون منها نظرية تفسر جميع القوى ... ترى مجموعة أخرى أن الغلبة ستكون لميكانيكا الكم التي سيستخصلون منها
"نظرية الجاذبية الكوانتية"
Quantum G r avitation Theo r y
وكلما ظن أحد العلماء أنه اقترب من تفسير وجد بعد عقبته عقبات وعاد لنقطة الصفر!!!؟؟
فهاهي الجهود التي تبذل في سبيل تحقيق "الخلافة" و"العمارة" تتحول إلى ألغاز وأحاجي أمام عقول البشر التي لا تقف عند حد ولا تعرف موانع!!!؟؟
فلو بحث العقل عن إجابة فيما وراء "العبادة" بخياله وفضوله ... فكم من الجهد سيبذل وكم من التعب سيذهب سدى!!!؟ وبلا نتيجة!!!؟؟
السبب؟؟؟
لا يوجد ما يهذب به خياله وفضوله ليصل إلى إجابة لأسئلة تشكل الحياة وتحدد المصير الأخروي
أيها الملحد
أن مجال العقل هو المحسوس والمادي يصول فيه ويجول ... ففيه ينمو وفيه يهذب الخيال والفضول ليصل إلى إجابات عملية عن أسئلة حقيقية ذات قيمة في عالمنا ... عالم الشهادة(45/42)
أما ما هو غير محسوس ... البيئة التي لم يتمرن فيها العقل على العمل ولا يملك أسسا ً يستند عليها ولا قواعد ثابتة ينطلق منها ... فقد تكفل الله عز وجل ببيان ما نحن بحاجة إليه حسب قدرة عقولنا على استيعابها ... ومن أعلم بها من خالقها ... حتى نوفر طاقة هذه العقول فيما فيه فائدة لنا من علم وعمل وتقنية وفن
ولذا تراه يقول
(( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ))
واليك يا عزيزي بعض الدلائل على أن فسحة السؤال لديك .. على سعتها ورحابتها .. الا أن لها سقفاً .. تتوقف عنده .. ولا تتعداه
فهذا نوح عليه السلام .. حينما قال
(( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ))
.. وهو سؤال مشروع .. لكل أحد
لكن ماذا كان الرد من العلي القدير
(( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ))
أحياناً .. يكون الجهل بالشيء .. هو سقف العلم به ..!؟؟
فتأمل
:)
حاول ان تتعلم التأمل ... و ستصل إلى شفافية رائعة في الروح
:)
يا ربي لك الحمد .. على منك وكرمك
اللهم يامقلب القلوب والابصار ثبت قلوبنا على دينك
واعتذر اليك بشدة على الاطالة ... فسامحني
اسأل الله لي ولك وللجميع الهدايه
تحياتي الحارة لك
والسلام على من اتبع الهدى
==============(45/43)
(45/44)
أيها الملحد .. أنت في النهاية عبد .. شئت أم أبيت!
لا تعجب علي .. وتمهل!
فأعجب من كلامي أن تقول: أنا سيد نفسي بلا منازع .. حرٌ في سلوكي واعتقادي .. لا يحدني حد .. ولا يمنعني مانع ..
أرفض العبودية بكل أطيافها وألوانها .. رفضاً قاطع .. مهما كان الشعار الدي تحمله .. وتحت أي بند تبرره .. يا سيدي!
أنا سيد نفسي .. رغماً عن الفطرة والعرف والمنطق والعقل والواقع!
قلت لك مهلاً ..
أما أنا فأعترف بأني عبد! نعم .. أنا عبد .. عبد لله وحده .. وأي حرية وسيادة ورفعة بعد هدا !!!
هو سيدي ومليكي ومولاي ..
خلقني ورزقني وتعهدني في صباي ..
وكان أرحم علي من أبواي ..
كم أتشرف بأن أكون عبداً له .. معترفا بفضله .. واثقاً بعدله ..
متيقناً .. أن أسمى درجات الحرية والسيادة في تمام الخضوع له ..
كلما انغمست في عبوديته .. كلما رفضت عبودية غيره .. وزادت إشراقة الحرية في قلبي .. واعتزازي بنفسي ..
لأني في النهاية عبد!
فلأكن عبداً له وحده .. ولأكفر إداً فيما سواه ..
[align= r ight][align=justify][align= r ight][align= r ight][align=cente r ]نعم أيها الملحد .. [/align][/align][align=cente r ]إن قمة الحرية .. في أن تكون عبداً لله (وحده)![/align][/align][/align][/align]
أما أنت فلست-سيد نفسك- كما قلت .. وإنت صُلتَ وجُلت !
فهدا خبرٌ .. يكدبه الواقع .. ويرفضه السامع .. إن كان فيه بقية عقل .. ومُسكة عدل ..
فأنت في كل لحظة .. وفي أي حال .. عبدٌ لـ(.....) بشكل من الأشكال ..
لا تقل لا .. لا تتسرع .. فكر .. تأمل .. لا تحلق في الخيال ..
ألست تعبد عقلك .. حين تبني نتائج حتمية على أدلة ظنية ..!
ألست تعبد المجازفة .. حيث تعلق مصيرك على اللاأدرية ..!!!
ألست تعبد هواك .. حيث لا ضوابط ولا حدود ولا معايير لتصرفاتك السلوكية ..!
ألست تعبد غريزتك .. حين تنساق وراء شهواتك الحيوانية ..!
ألست تعبد ضعفك وقلة حيلتك .. حين تيأس من الأسباب المادية ..
ألست .. ألست .. ألست !!!
مهلاً .. مهلاً .. يارجل! .. لقد طف الصاع .. طف الصاع .. فاضت آلهتك .. ولم يعد لها في العقل مكان ..
تهرب-عبثاً- من الواحد الديان .. لتعبد ألف إلهٍ وإله!
هده والله من عجائب الحياه ..
آلهة بالجملة .. حسب المقاس .. وبالمجان ..!
من يشتري .. من يبيع .. العرض مفتوح إلى آخر الزمان !
أما أنا فأعبد إلهاً واحداً .. عليماً حكيماً رحيماً عادلاً .. بديع السماوات والأرض .. المنان ..
لحظة .. اسمع معي أيها الملحد .. اسمع ..
لن تخسر شيئاً .. اسمع قبل فوات الآوان ..
سيدي ..ومليكي .. ومولاي .. إني أسمعك ..
"قل يا عبادي الدين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله .. إن الله يغفر الدنوب جميعا .. إنه هو الغفور الرحيم"
أيها الناس .. هل تسمعون ما أسمع! ..
"وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العداب بغتةً ثم لا تنصرون"
ما أجمل أن أكون عبدك ..
"أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله .."
ما أعظم أن تكون إلهي ..
"أو تقول حين ترى العداب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين"
اللهم لا تجعلنا من النادمين .. اللهم لا تجعلنا من النادمين .. اللهم لا تجعلنا من النادمين ..
أيها الملحد .. دعك من كل ما سبق .. وقل لي بالله عليك!
هي لحظة آتية ..مهما طال انتظارك لها .. لا بد آتية .. وكل آتٍ قريب!
بدأت يداك ترتخيان .. ولسانك يثقل .. ساقك تلتف بالأخرى ..عيناك تشخصان .. الكل من حولك يناديك لكنك تعجز عن
الكلام .. الكل يبكون .. يصرخون .. وأنت لا حول لك يدفع .. ولا قوة تمنع ..ولا ندم ينفع!
أسألك برب الأرض والسماوات ..
أنت عبدٌ لمن .. في تلك اللحظات ..!
==============(45/45)
(45/46)
كيف ندعو المرتدين ؟…العنوان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
قرأت في بعض المواقع غير الإسلامية عن قصص لمسلمين ارتدوا عن الإسلام، فإذا كانت طريقة الدعوة لغير المسلمين تكون عن طريق إظهار السلوك الإسلامي الحسن وتعريفهم بروح الإسلام.
فكيف تكون الدعوة لمسلم عاش فترة من حياته كمسلم يقرأ القرآن ويقيم شعائر الدين ثم ارتد عن الإسلام؟
…السؤال
دعوة غير المسلمين …الموضوع
مجموعة مستشارين…المستشار
……الحل …
…** يقول الدكتور مجدي سعيد، المشرف على وحدة الأبحاث والتطوير، بشبكة إسلام أون لاين.نت:
أخي الكريم؛
من الضروري بدايةً عند التعرض لهذه القضية التنبيه والتأكيد على عدة أمور:
أولها ضرورة استحضار طبيعة هذه الرسالة وهذه الدعوة، وأنها رحمة للعالمين، فنحن حين ندعو الناس يحركنا ويتملكنا شعور من الرحمة بهم والشفقة عليهم، وهذا الشعور هو الذي يدفعنا إلى بذل أقصى الجهد حتى نأخذ بأيديهم إلى طريق الله والتزام منهجه.. وهذا الشعور يحكمنا في التعامل مع كل الخلق بلا اختلاف، وقدوتنا في هذا هو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه فقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ثاني هذه الأمور، أننا في دعوتنا للناس إنما نأخذ بأسباب الهداية والإصلاح، ونبذل الوسع في التغيير والإرشاد، ونترك النتائج لله سبحانه وتعالى، (وما على الرسول إلا البلاغ).
وثالثها إدراك صعوبة الحالة التي نواجهها -حين ندعو من كان مسلما ثم ترك دينه- وخصوصيتها، والسبب في ذلك ما تفضلت بالإشارة إليه في سؤالك من أنه "عاش فترة من حياته كمسلم يقرأ القرآن ويقيم شعائر الدين"، ثم تحول عن ذلك وتركه؛ وهذا يختلف بالتأكيد عن دعوة غيره من الناس سواء المسلم غير الملتزم، أو غير المسلم.
أخي الكريم؛
إن تحول إنسان عن دينه ليس بالأمر السهل، وليس قرارا هينا يمكن لإنسان أن يتخذه هكذا دون أسباب يراها -من وجهة نظره- مقنعة، بل ودافعة بقوة نحو هذا القرار؛ ولا يصح أبدا أن نتعامل مع إنسان يمر بهذه الحالة دون محاولة الوقوف على أسبابها بشكل واضح ومحدد حتى يمكننا التفكير في طريقة لعلاجها وتحديد الأسلوب الأمثل لدعوته.
وإذا أردنا تحليل الأسباب التي قد تؤدي بإنسان إلى الخروج عن دينه، فيمكن التفريق بين اتجاهين مختلفين ينتجان عن هذا الخروج، لكل منهما أسبابه ودوافعه.. هذا الاتجاهان هما:
- أن يخرج إنسان عن دينه إلى "لا دين"، فلا يعتنق دينا آخر، ولا يتقيد بملة غير التي كان عليها.
- أو يخرج الإنسان من دينه متحولا إلى ديانة أخرى.
* الخروج إلى "اللا دين"، وهو الإلحاد:
غالبا ما يكون الإلحاد نوع من أنواع التمرد على واقع تجربة مر بها الإنسان سلبته خصيصة من خصائص إنسانيته، أو مارست عليه نوعا من القهر والتقييد لم يتقبلها.. فيتمرد محاولا الخروج على سلطان هذا القهر والانخلاع عن ربقة هذا القيد.
وقد يأتي ذلك عن طريق تحول الدين -بفعل العلماء الفاسدين، أو السلطان الظالم الذي يتلبس بالدين ويتخذه ذريعة لتبرير ظلمه- إلى سلطة قهر للإنسان وسجن لحريته.. ويساعد على هذا الفهم الخاطئ ضعف تكوين الشخص وعلمه بدينه.
أو يأتي نتيجة تنشئة دينية غير سليمة تستخدم القهر والإجبار وسيلة لها، وذلك بسبب جهل القائمين على هذه التنشئة في البيت والأسرة أو في المدرسة أو المسجد، ومحاولتهم إجبار هذا الشخص على الطاعة.
فيكون الإلحاد نوعا من التمرد على واقع لا يحقق الصورة المنشودة لدى الشخص ويتصادم مع صورة مثلى يتمناها هو ويرسمها في مخيلته.
والأصل أن الله خلق الإنسان وفي أصل فطرته الإيمان، وأن دور التنشئة أن تربي هذا الإيمان الفطري وتقوي مكانه ودوره في شخصية الإنسان، وأن تهيئ المناخ لأن يقوم الإنسان بالاختيار الحر لما ستكون عليه حياته.. لا أن تجبره على التدين أو الطاعة، فالطاعة لا تأتي قبل الإيمان، وإنما هي من نتائجه؛ فالإنسان إذا آمن بالله أحبه، وإذا أحب الله أطاعه وانقاد لأمره.. فحرية الإرادة والعقل المميز تؤدي إلى حرية الاختيار الذي يترتب عليه أن يكون الإنسان مسئولا عن نتائج اختياره.
* الخروج إلى دين آخر، وقد يكون السبب في ذلك:
- أن يُغلب الإنسان على عقله ومنطقه بسبب ضعف تأسيسه وقلة علمه في دينه، فلا يصمد أمام أية مجادلة من صاحب دين آخر فيتشكك ويتلجلج، فيترك الفطرة السوية المقبولة المحكمة، إلى عقيدة أخرى تواجه كثيرا من علامات الاستفهام عند من لديه عقل ومنطق.
فالإنسان إذا تأمل في القرآن الكريم يجده قد تحدى عقول من لا يؤمنون به مطالبا إياهم بالتفكر والتدبر والنظر، لأن يفهم القرآن جيدا يجده متسقا ومتماشيا مع طبيعة الكون ونواميسه.. وهذا مما تفردت به هذه الرسالة الخاتمة.(45/47)
- أن يواجه الإنسان إغراء ما يدفعه إلى تغيير دينه، ومحاولة لإشباع بعض الرغبات أو الشهوات لديه، فالمبشرون -مثلا- يستغلون ظروف بعض المجتمعات التي قد تعاني من ظروف اقتصادية أو اجتماعية صعبة، ويعملون على مساعدة أهلها في التغلب على ما يقاسونه داعين إياهم إلى التحول إلى دينهم.. وتحت وطأة الحاجة قد يستجيب البعض بالفعل إلى هذه الدعوة، وقد يظهر آخرون التحول حتى يحصلوا على المكاسب المعروضة ويبطنون التمسك بدينهم.
- أن تنقطع صلة الإنسان بأهل دينه ومجتمعه، سواء كان انقطاعا ماديا.. بهجرته إلى مجتمع غير مسلم، وعدم وجود من يعينه على دينه في غربته؛ أو يكون انقطاعا معنويا بغياب مشاعر التواصل والتراحم بينه وبين أعضاء المجتمع المسلم الذي يعيش فيه.. فلا يجد صلة للرحم، أو عدم وفاء الأصدقاء أو غيرها من مظاهر الانقطاع أو الانعزال عن المجتمع.
وفي المقابل يجد مجتمعا بديلا يحتضنه، ويصنع له صورة من التواصل يفتقدها في حياته، فتجده شيئا فشيئا يتأثر بهذا المجتمع الجديد المصنوع، حتى يصل الأمر إلى تأثره بعقيدتهم.. خاصة إذا كانت علاقة هذا المجتمع الجديد به مقصودة ومصنوعة ومرتبة.
كانت هذه -من وجهة نظري- الأسباب العامة لخروج إنسان عن دينه، ويحتاج الأمر -إذا أردنا دعوة من تعرض لهذه الفتنة- أن نعرف الأسباب التي كانت وراء تحوله ونحددها حتى نستطيع التعامل معها وعلاجها.
* وأحسب أن أهم ما نحتاج إلى التركيز عليه في دعوة من وقع في هذه الفتنة هو:
- أن نعمل على حسن تأسيس الإيمان لدى المسلم ابتداءً، حتى يتمكن من دينه عن قناعة ولا يكون من السهل وقوعه في مثل هذه الفتنة.. فلا يجوز التقليد مجال العقيدة، ولكن يجب على المسلم أن يؤمن بدينه عن قناعة وتفكر وتدبر في آيات الله وتعايشٍ معها.
- حسن تقديم الإسلام.. تقديمه رحمة للعالمين، تقديمه كأخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، خاصة الأخلاق الاجتماعية، فإذا لم نستطع أن نوجد الدولة التي تحكمها قيم الإسلام، فعلى الأقل نسعى لإيجاد المجتمع الخلوق الرحيم، الذي يسوده العدل والتراحم والتواصل الإنساني السوي.
- أن يتم مناقشته مناقشة عقلية لدحض ما يواجهه من شبهات.
- أن يحكمنا في دعوته الحب والرحمة به والصبر عليه، وأن نريه منا صورة الإسلام بشكلها السليم والناصع، وأن يرى منا الحب الخالص لوجه الله.
ومع الوقت والصبر يمكن أن نرد هذا الشارد إلى حظيرة الإسلام والإيمان مرة أخرى بإذن الله، إذا كان فعلا يريد الحق.. والله المستعان.
** وبعد هذه الإجابة الطيبة للدكتور مجدي سعيد بارك الله فيه، نقدم لك هذه الإجابة الصوتية لفضيلة الأستاذ الدكتور طلعت عفيفي، والتي نلخصها لك في الكلمات التالية:
بالنسبة لمن كان مسلما ثم تعرض لفتنة الارتداد، فإن الواجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أوصلتها إلى هذه الفتنة، ومعالجتها.. فإذا عرف الداء أمكن وصف الدواء المناسب له.
فربما كانت هناك شبهة تسببت في اتخاذه هذا القرار..
وربما كان الجو العام الذي كان يحيط به هو السبب، من ظروف اجتماعية أو اقتصادية..
ومن الضروري توفير الصحبة الصالحة التي يمكنها أن تأخذ بيده، فيحيط به أصحابه وأصدقاؤه ومعارفه حتى يأخذوا بيده، لا أن يشتدوا عليه أو ينفضوا عنه.. لأنه كالغريق يحتاج إلى من يمد له يد العون.
استمع إلى إجابة فضيلة الأستاذ الدكتور طلعت عفيفي
دعوة المرتد
** ويضيف الدكتور علاء السيوفي:
أخي الكريم؛
إن الله عز وجل قد خلق القلب وجعل حاله كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء) رواه مسلم، ويقول الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ....... وما القلب إلا أنه يتقلب
ويصف صلى الله عليه وسلم القلب فيقول: (لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وهو رسول ا صلى الله عليه وسلم وخير البشر، وأحبهم إلى الله.. ومع ذلك يدعو أن يثبت الله قلبه على الإيمان.
ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يراقبون قلوبهم أشد المراقبة، حتى إنهم ليعلمون متى يزيد الإيمان فيها ومتى ينقص، بل ويعلمون ما الذي يُزيد الإيمان في قلوبهم وما الذي ينقصه؛ وحديث حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه في هذا مشهور ومعروف؛ وهذه هي طبيعة القلب أنه ساعة يزيد فيه الإيمان وساعة يقل، ويجب على المؤمن الحرص الشديد على الحفاظ على إيمانه من النقصان ومن التأثر السلبي بأمور الحياة الدنيا.
وفي هذا كله دلالة على أن الذي يثبت القلوب هو الله، وأن المسألة تحتاج من الإنسان بعض المقدمات التي أهمها الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه في الحفاظ على إيمانه.
* وأما عن دعوة المسلم الذي حسن إسلامه في فترة، ثم ارتد عن الإسلام فمن أهمها:
1- ملازمته وعدم البعد عنه، ومحاولة تذكيره بالأعمال الصالحة التي كان يعملها أيام إسلامه.(45/48)
2- تهيئة المناخ الإسلامي الذي يحيط به من محبيه وإخوانه المسلمين الحريصين عليه.
3- تقديم يد العون له بصفة مستمرة، ومحاولة معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا التحول لديه ومعالجتها بحكمة وتروٍّ، وبدون مواجهة حادة حتى لا يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية معه.
4- الدعاء له بظهر الغيب، فإن له أثرًا كبيرا، وهو مستجاب بإذن الله تعالى، ولكن ينبغي أن يكون فيه إخلاص.
5- مراعاة حال زوجته وأولاده إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فقد تكون الزوجة أحيانا سببا في كثير من الخير أو في كثير من الشر، وإن كانت مسلمة فينبغي أن تدفع في سبيل إعادته إلى حظيرة الإسلام.
أسأل الله له الهداية والأوبة العاجلة، وأن يفتح الله قلبه للهدى والخير.
==========(45/49)
(45/50)
كنت مرتدا !!
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم..
أنا من أتباع الشيوعية، ومن معاديّي الإسلام، ومن الناس الذين أشركوا بالله، وكذبوا باليوم الآخر، وها أنا الآن قد سئمت من حياتي، ومن كل ما صنعت يداي، وأريد التوبة والمغفرة، وقد نويت الالتزام.
أريد أن يكون ذلك عن طريق هذا الموقع، سائلاً منكم أن تدلوني على الطريق الصواب، وإن كان في الإمكان أن أتعلم الإسلام، وأن أكون من شيوخ الإسلام على أيديكم ومن موقعكم هذا.
وأنا جاهز أن أكون في كل محاضرات وتعاليم الإسلام.
كما أريد أن أعلم شيئًا عن هاتين الآيتين: (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرِك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا)، (إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
هل معناها أن الله لا يغفر لمن يشرك به أحدًا و لو تاب عن ذلك؟؟
مع العلم أني في الأساس مسلم مُرتد عن الدين.
وشكرًا.…السؤال
قضايا وشبهات, إيمانيات …الموضوع
الأستاذ محمد حسين …المستشار
……الحل …
…الأخ الحبيب هيثم؛
حمدًا لله سبحانه أن أعادك إلى بحبوحة رحمته، ورضوان طاعته، ومرحبًا بك أخًا مسلمًا مع أهل الإيمان، تزيد بهم ويزيدون بك، وتقوَى بهم ويقوون بك.
وهنيئًا لك ذلك النعيم الذي فتح الله له قلبك، نعيم الطاعة وحلاوة القرب من الله والأنس به سبحانه، والاطمئنان بمعيَّته، ففي الدنيا جنَّةٌ، مَن لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة، تلكم هي جنَّة القرب من الله والأنس به.
وما هداك الله سبحانه إلى رحابه، وأنقذك من خبيث الشرك ودرن المعصية، إلا لأنَّه يحبُّك، وإلا لتركك كالكثيرين ممَّن هانوا عليه فتركهم يرتعون في عفن المعصية وحمأة التمرُّد على الحقّ، فإنَّه سبحانه ما عُصي في الدنيا إلا بإرادته الكونيَّة، ولو شاء لهدى الناس جميعًا، ولكن تركهم، فعصاه عاصيهم لهوانه على الله، وأطاعه طائعهم لمكانته عند الله.
فالله - عزَّ وجلَّ - يُعطِى الدنيا مَن يحبُّ ومن لا يُحبّ، ولكنَّه لا يُعطِى الدين إلا لمن يحبّ، ولا يهدي لرحابه إلا من يريد أن يقرِّبه منه ويدخله جنَّته في الدنيا قبل الآخرة.
فهنيئًا لك - أخي - هذه التوبة وتلك الأوبة، وهنيئًا لك هذا الرجوع إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها.
واعلم أنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها، كما أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأنَّ خيار الناس في الجاهليَّة هم خيارهم في الإسلام، ولأن الله مَنَّ عليك بنعمة الإيمان، وأنقذك من دنس المعصية، فإنَّه مِن شُكر هذه النعمة أن تنتقل إلى الإسلام بخير ما أودعه الله فيك من علمٍ ومعرفةٍ ومن إمكاناتٍ ومواهب، فتسخِّر كلَّ ذلك في الدعوة لدين الله والذَّوْد عنه، وتفنيد شُبَه خصومه ودحض حججهم، وأنت بذلك أعلم ممَّن لم تكن له مثل تجربتك، ومَن لم يطرق ما طرقت من ميادين، فالذي يعرف الشرَّ والجاهليَّة أكثر من غيره قدرةً على أن يتصدَّى لها فكريّا، وعلى أن يفضحها أخلاقيّا وقيميّا.
وإن تكن ذنوبك عظُمَت فالله أعظم، أو كثُرت فالله أكثر، وكم من حائدٍ عن طريقه أصبح من أخلص أوليائه، وكم من محاربٍ له أصبح محاربًا عن دينه ومنهجه، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد كان الفضيل بن عياض قاطعًا للطريق، ثمَّ أصبح من علامات الطريق إلى الله وأدلَّته.
وجاء عمير بن وهب من مكة متوشِّحًا سيفه عازمًا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاد وقد فتح الله قلبه للإيمان، وأخذ على نفسه عهدًا ألا يدع موطنًا نال فيه من الإسلام ونبيِّه إلا ويدعو فيه إلى الإسلام ويذُبّ عنه.
على أنَّني - أخي الكريم - يُهمُّني أن أتوجَّه إليك ببعض النصائح - والدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامتهم -:
أوَّلاً: لقد عشتَ وحشة البعد عن الله، وجرَّبتَ معصيته، ثمَّ ها أنت ذا تعود إلى رحابه بفضلٍ منه سبحانه، فاستمسك بهذه النعمة العظيمة التي منَّ الله بها عليك، وأدِّ حقَّها، وحقُّ النعمة شكرها، وشكرها كما يكون باللسان والقلب يكون بالعمل، والعمل هنا يتمثَّل في أكثر من ناحية:
- يتمثل في أن تعمل دومًا على الارتقاء بذاتك علميّا بالمعنى الشامل للعلم: العلم الشرعي الذي تصِح به عقيدتك وعبادتك وقراءتك لكتاب الله، ولئن كنتَ قد أمضيت سنوات تطَّلع فيها على أبواب من المعرفة قد تكون نافعة، لكنها لا تبنى شخصيتك المسلمة، فإنه حق عليك الآن بعد أن عرفت الحق أن تلزمه، ولن يكون ذلك إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، ولذا فإني أنصحك أخي أن يكون لك منهج في الانفتاح على العلوم الشرعية، ولنبدأ بما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة بسند صحيح.
والعلم الذي هو فريضة هو الذي لا يسع مسلمًا الجهل به في جوانب: العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق.
فلتتعلم ما تصح به عقيدتك، وتصح به عبادتك، وتسلم به معاملتك، من بيع أو شراء أو تجارة أو نكاح أو غيرها، وتستقيم به أخلاقك؛ لأن أكثر ما يدخل الناس الجنة حُسن الخلق، كما ورد عن الصادق المصدوق r.(45/51)
فإذا أسستَ هذا الأساس، فلتنتقل إلى البناء المعرفي المتكامل من العلوم الشرعية، وهذا بالطبع لن يكون بين عشية وضحاها، ولكن يتحقق بالجهد والإخلاص في طلب العلم.
وهذا باب واسع، ولكن لا أقل من قدر من الإلمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وشيء عن علوم القرآن والحديث الشريف، مع الاهتمام بواقع المسلمين، فمَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
وأرجو أن يكون في موقفنا هذا ما يدلك على منهج للبناء العلمي والمعرفي في هذا السبيل.
ثم لنعمل على الارتقاء بنفسك روحيّا، فالعلم سبيل إلى العمل، والقلب له حياة وغذاء، كما أن الجسد كذلك، ولا شك أنك بتجربتك التي خُضتها، وبالإيمان الذي أفاض الله به عليك تعلم ذلك وتحسه.
ولهذا لابد أن تعمل دومًا على الارتقاء في هذا الجانب، وذلك أيضًا بقدر من التعلم من كتب القوم، كمنهاج العابدين للغزالي، وأخبار الغزالي أيضًا، وتقوى القلوب لأبي طالب المكي، والرسالة التفسيرية شرح الحكم العطائية، إلى غير ذلك من الكتب التي رسم بها هؤلاء الأعلام الطريق إلى الله تعالى والمسلمون معاني الإخلاص والتوكل والتسليم والصبر والرضى، على أن العلم هنا لا ينفع وحده، بل لابد من السلوك، فليكن لك زادك الروحي من ورد قرآني، ومحافظة على أذكار الصباح والمساء، وحبذا لو استمسكت بركعتين في جوف الليل أو صيام بعض النوافل.
ثم يأتي دورك كمسلم، مُطالَب أن يقوم بدعوة غيره إلى الإيمان والطاعة على أنني هنا - أخي الكريم - أنبهك ألا تتصدى لقضايا خلافية أو تدخل في مشكلات فقهية، ففي أساسيات الإسلام والإيمان، وفي المتفق عليه، كفاية لأن نقوم بدورنا في الدعوة.
وكل مسلم قادر على أن يقوم بواجبه في الدعوة إلى الله بعمله الصالح وسلوكه القويم، وبالحكمة والموعظة الحسنة، في الأمور الواضحة البيّنة التي يجهلها كثير من المسلمين.
واعلم أن إخلاص الداعية وصدقه هو أهم ما يؤثر فيمَن يدعوه، ولعلك بإخلاصك وصدقك في نقل تجربتك لآخرين ستكون إن شاء الله خير هادٍ لغيرك ممَّن لا يزال بعيدًا عن الله سبحانه وتعالى.
ثانيًا: اعلم يا أخي أن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فهنيئًا لك هداية الله، ويُحمَد لك رغبتك الدافعة في أن تتعرف على أمور دينك، وأن تكون من دعاته، ولكن الأمر - أخي - يحتاج إلى رفق وتؤدة، حتى تقيم بناءك الروحي والعلمي بشكل صحيح، فإياك أن تأخذك العاطفة والحماسة، فتندفع تريد أن تعرف كل شيء وتقوم بكل شيء، وتتصدى لكل باطل، هكذا بلا تدرج ولا تخطيط.
فالتدرج سُنَّة من سنن هذا الدين، ومعلم من أهم معالمه، هكذا علمنا الله سبحانه، فقد ذمَّ الخمر مرتين وحرمها في الثالثة، وبدأ بتأسيس العقيدة، واستغرق في ذلك المرحلة المكية بأكملها، ثم شرع في بناء المجتمع والدولة، فنزلت التشريعات تنظم حياة الناس، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها: (إنما نَزَل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المُفصَّل، فيها ذِكْر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنُوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا) رواه البخاري.
والشاهد من هذا - أخي - أن التدرج في التعبير لابد منه، فلتبدأ في بناء ذاتك روحيّا وعلميّا، وبالالتزام عباديّا وأخلاقيّا، ولكن حبذا لو كان ذلك رويدًا رويدًا، وفي الحديث القدسي العظيم قوله تعالى: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه) رواه البخاري.
فانظر كيف بدأ عز وجل بالفرائض، وجعلها أفضل ما يتقرب إليه سبحانه به، ثم ثنَّى بالنوافل، وعدها طريقًا لنيل محبة الله سبحانه.
ومن مقولات أبي بكر في نصيحته لعمر - رضي الله عنهما - عندما استخلف على الناس: (اعلم أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة).
والإنسان - أخي - لا يولَد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقه.
وقد رأينا نماذج عديدة لأناس اندفعوا بحماس شديد في طريق الهداية، لكنهم لم يثبِّتوا أقدامهم على الطريق، فكان أن عادوا من حيث أتوا - وقانا الله وإياك ذلك - أو فترت همتهم بعد حين.
وفي الحديث: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) رواه أحمد بسند صحيح.
أي أن العمل له فترة اندفاع، يبلغ فيها ذروته، ثم يعتريه فتور بعد الاندفاع، لكن هذا الفتور ينبغي أن يكون في حدود الهدي النبوي العظيم، وإلا ضل صاحبه، (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).(45/52)
لذلك - أخي الكريم - أرجو أن تكون حماستك المحمودة ورغبتك القوية في أن تستدرك ما فاتك وتستقيم على طريق الله، أرجو أن يعقبها سير هادئ متزن في طريق الله، تثبت به الأقدام على طريق الهداية، ويستنير فيه العقل والقلب، وتكون بمشيئة الله سبحانه من دعاته العاملين الثابتين على طريق الهداية.
أما بالنسبة لتساؤلك عن قول الله سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرِك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا)، وقوله عز وجل: (إنه من يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)، فالمعني أخي الكريم أن الذي يموت على الشرك - والعياذ بالله - قد حُرِم من ولوج هذا الباب العظيم، وهو وقوعه تحت رحمة الله في الآخرة، وحُرمت عليه الجنة ومأواه النار.
أما أن الله لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك، أي أن الإنسان ما لم يمت على الشرك بل مات موحدًا على ملة الإسلام، فهو في مشيئة الله سبحانه بالنسبة لذنوبه التي ارتكبها، إن شاء سبحانه عذَّبه عليها، وإن شاء غفرها له بفضله سبحانه، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقِب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، و إن شاء عفا عنه) متفق عليه.
أي أن من ارتكب ما يوجب معاقبته في الدنيا ووقعت عليه العقوبة فهي كفارة له، أي لا يُعذَّب بهذا الجُرْم في الآخرة.
ومن ارتكب ما يوجب الحد ولكنه لم يُقَم عليه، وظل ذنبه مستورًا عن العباد فهو في الآخرة تحت مشيئته سبحانه، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ذلك إذا مات على ملة التوحيد.
أماتنا الله وإياك على ملة التوحيد، وجمعنا في فردوسه الأعلى.. آمين.
============(45/53)
(45/54)
الإلحاد: أسبابه، أنواعه، ونصائح في دعوة الملحدين…
الإخوة الكرام؛
أريد منكم أن ترشدوني إلى الأسلوب الأفضل لدعوة ملحد، وما الذي أحتاجه حتى أؤثر فيه أو أقنعه؟
…السؤال
دعوة غير المسلمين …الموضوع
فريق الاستشارات الدعوية…المستشار
……الحل …
…يقول الشيخ عماد أبو الرب، إمام المركز الإسلامي في كييف:
أخي الكريم؛
إن التعامل مع الملحدين بهدف دعوتهم تحتاج إلى معرفة بعض الأسس، حتى يستطيع المسلم المتصدي لهذا الأمر أن يحفظ نفسه من الزلل في شبهاتهم من ناحية، وأن يعرف مداخل التأثير فيهم من ناحية أخرى.
وللإفادة أضع بين يديك -أخي الحبيب- هذه المعلومات المختصرة حول الإلحاد، لتكون ركائز لك لتبني عليها وتضيف، حتى نصل معًا إلى دعوة الآخر بعلم وفهم وحكمة:
* تعريف الإلحاد:
الإلحاد هو مذهب فئة أنكرت وجود الله وما آمنت به، وهو صديق الجهل كما قيل: (الإلحاد صديق الجهل)؛ وهناك ملحدون لا يعترفون بإله لهذا الكون لأنهم لا يرونه، فهم لا يؤمنون بشيء غير محسوس!! رغم أن العقل البشري يعلم أن حواسنا قاصرة عن معرفة أو إثبات وجود كل شيء، ولهذا صحّ ما قال البعض عن الإلحاد: أنه عدم العلم.. لا العلم.
ولفهم قضية الإلحاد أذكر لك بإيجاز النقاط التالية:
- الملحد يقيم إيمانه على عمى، بينما المسلم يقيم إيمانه على بصيرة.
- يستند الكثير من الملحدين لقانون السببية الذي يعني أن هناك سببا من وراء كل عمل، والمسلمون يعلمون أن هذا القانون هو عمدة براهين إثبات وجود الله.
- ذكر علماء الفلسفة أن الشيء لا يكون علّة نفسه، فلا بد من وجود علّة أولى هي الله الخالق لكل هذا الوجود.
- من المعروف أن اليهود ساهموا في نشر الإلحاد خاصة في القرن السابق من خلال نشر نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي، ونظريات فرويد وغيرها.. مستغلين محاربة الكنيسة للعلم واضطهادها له، ومما قاله دعاة الشيوعية المنهارة:
ماركس: الدين أفيون الشعوب، لينين: الإلحاد هو شيء طبيعي في الماركسية بل هو روح الماركسية.
- من خطورة الإلحاد أنه يؤدي بالإنسان إلى الكفر بيوم القيامة، وبالثواب والعقاب، وبالجنة والنار، وبكل المعتقدات والعبادات لتي بها ينال العبد رضاء ربه، وكذلك يصلح حال البشر في الدنيا، ويكفيهم عقابًا أن طمس الله على قلوبهم.
* أنواع الإلحاد:
1- الإلحاد الإنكاري "إلحاد كامل":
وهو لفئة قرأت وتعمّقت في دراسة وجود الخالق لكنها وصلت إلى إنكار وجوده، وبالتالي رفض الأديان جملة وما يتعلق بها؟!! وهذا النوع مخرج عن الملة لأنه أوجب الكفر.
2- الإلحاد الرافض "إلحاد جزئي":
وهو لفئة تعلم أن الله موجود، لكن غلبت عليها شقوتها وباتت تتصرّف كأن الله غير موجود، فتنتهك المحرّمات وتسخر من الدين.. وهذا النوع يمكننا أن نطلق عليه الإلحاد الكاذب، وهو مخرج عن الملة كذلك، غير أنه في منزلة أقل من سابقتها.
ومن هنا لا بد معرفة المخاطبين وأفكارهم للبدء منها والبناء عليها، ولا بد أيضا معرفة أسباب الإلحاد.
* أسباب الإلحاد:
يتعجب البعض ويتساءلون: وهل للإلحاد أسباب؟؟!!
نقول ببساطة، بما أننا بشر وتراودنا الأفكار المتناقضة فلا بد من وجود أسباب يمكنك بمعرفتها أن تضع يدك على ما تواجه به صديقك، ومنها:
1- الأهواء البشرية:
فحب الشهوات من غريزة جنسية ومال وعجب وغرور وكبرياء يجد فيها الملحد ضالته، فهو يريد أن يفرغ شهوته بدون ضوابط ولا حساب ولا عتاب، ويحب أن يجمع المال كيفما شاء وينفقه فيما شاء دون أن يجد محاسبة وتقييدا له في حياته، وحبه للظهور والخروج عن المألوف بين معارفه فيظهر نفسه كأنه الأكثر فهما وجرأة.. والكثير من الأهواء التي تعتري البشر فتوصلهم أو تسهل عليهم الإلحاد والعياذ بالله.
2- الرغبة القاصرة:
لأن الملحد عندما يخاف وجود الله يفكر في إنكاره ويصل بعدها لعدم الإيمان به.
** نصائح في مناقشة الملحدين:
1- لا بد لمن تصدى لمناقشة الملحدين والرد عليهم من أن يخلص نيته لله تعالى، فبها وحدها ينال الأجر والثواب العظيم من الله العلي الحكيم.
2- لا بد من ثقافة ووعي في الدين يعينه على أن يحصن نفسه بداية، وأن يعرض بعدها لغيره الحجة الدامغة والدليل القاطع على كلامه وحديثه، خاصة أن الملحد يرفض مبدأ الإيمان القلبي بوجود الله لإصراره على معرفته بحواسه.
3- لا بد من استخدام الحجة العقلية والدليل المنطقي مع الملحدين، وعليك أن تحذر من الأساليب الفلسفية وقلب الحقائق وطرح المتناقضات.. وهذا يعني أن تبدأ النقاش معه عن سبب الوجود ومصدره، كونها أصل الموضوع؛ ثم عن صفات الموجد وهو الله؛ ثم عن الإسلام.. وهكذا حتى تصل به إلى الفهم المطلوب.
4- لا بد أن تتفق وإياه على قواعد للحوار بحيث لا يجوز تجاوزها، وإن وصلتم إلى طريق مسدود فتذكر قول الله تعالى: (ومن أظلم ممَّن ذكِّر بآيات ربِّه فأعرض عنها ونسي ما قدَّمت يداه إنَّا جعلنا على قلوبهم أكنَّةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذًا أبدًا).(45/55)
5- تذكر أن الإيمان يدخل القلب عن طريق العقل ثم يستقر في القلب عاطفة، وهذا هو أسلوب القرآن الذي خاطب العقل ولفت انتباهه ومداركه للكون والحياة، كما أنه لا يستطيع أن يقيم الدليل على عدم وجود الله لا بالعقل ولا بالنقل.
6- ذكّره بداية أن إثبات وجود الله ليس كإثبات أن الماء يتكون من الهيدروجين والأوكسجين، فالإنسان -كما هو معروف- محدود بقدراته، كما قال أرسطو: (الإنسان كائن محدود)، وفيه نقص وضعف لا يمكّنه من أن يلم بالله عز وجل، ثم إن هناك موجودات لا نراها ولا نستطيع إثبات وجودها.
7- استفد من كلامه المتناقض، فقوله: أين الرب الرحيم؟ يعني أنه يثبت الله ولكنه يتساءل عن غيابه.
8- اضرب له صورًا افتراضية كالتي يطرحها، فمثلاً قل له ماذا لو سلّمنا أن الخالق موجود، فماذا يكون بعد موتك؟ لا بد أنه سيعينك يوم القيامة إذا كنت من المؤمنين به، أما إذا ما كان هناك خالق فلن تخسر شيئًا سوى بعض الأمور التي حرمت نفسك منها في الدنيا؛ وهكذا تعرض له الفكرة تلو الأخرى لعل الله يفتح على يديك وتجد ما تطرق به قلبه.
9- لا بد من نقض فكر الملحد قبل أن تبني أفكارك، فابدأ بإزالة ثقته بأفكاره وإلحاده والتدليل على وجود الخالق، ثم أتبعها بإزالة الشبهات، مع عرض صورة الإسلام الزاهية.
10- تذكر أن الكثير من النظريات يبنى على عدد قليل من البدهيات، ووجود الله أمر بديهي من الناحية الفلسفية، والكون وما فيه من نظام وتوافق يؤكد صحة هذه البديهية.
أسأل الله أن يجري الخير على يديك، وتابعنا بإنجازاتك.
==============(45/56)
(45/57)
الملحدون..…
السلام عليكم أيُّها الأعزَّاء، أنا أحضِّر الدكتوراه في جمهوريَّة التشيك، وأقابل عادةً العديد من الملحدين.
وسؤالي: ما أفضل الطرق التي تمكِّنني من جعلهم يؤمنون بالله تعالى كخطوةٍ أولى، ثمَّ بعد ذلك كيف يمكنني دعوتهم للإسلام؟
سلام، خالد.
…السؤال
دعوة غير المسلمين, فنون ومهارات, ثقافة ومعارف, وسائل الكترونية …الموضوع
……الحل …
…
…يقول الأستاذ الدكتورعبد المعز حريز:
دعوة الملحدين إلى الإيمان يتوقَّف على حسب ثقافتهم ودائرة
اهتمامهم، فإن كانوا من المهتمِّين بالقضايا العلميَّة الطبيَّة مثلاً فيمكن الاستعانة ببعض الأمور الطبيَّة التي أخبر عنها القرآن، وإن كانوا من المهتمِّين بالقضايا العلميَّة العامَّة فيمكن الاستعانة ببعض الأمور الفلكيَّة وما شابهها من القضايا العلميَّة، وهذا الأسلوب استخدمه القرآن في مخاطبة العرب: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت، وإلى السماء كيف رُفِعت، وإلى الجبال كيف نُصِبت"، فخاطَب القرآن العرب بما تعرف، ونحن مأمورون بأن نخاطب الناس بما توصَّلوا إليه من علمٍ ممَّا ورد في كتاب الله الحكيم، وأنصح بأشرطة فيديو للشيخ الدكتور عبد المجيد الزنداني، ففيها موضوعاتٌ علميَّةٌ شيِّقة، ونماذج لأناسٍ أسلموا من خلال عرض الموضوعات العلميَّة.
وقبل هذا أو ذاك، استخدم القرآن في مخاطبة الناس كما بدأت الدعوة الإسلاميَّة وبخاصَّةٍ السور المكيَّة، ففيها نماذج عديدةٌ ومفيدةٌ أنصح بقراءتها والنظر في تفسيرها.
وبختم الدكتور عبد المعزِّ حديثه، اسمح لي أن أفتح لك حديثاً آخر في دعوة الملحدين، وسأدخل إليه من المسلك الذي سلكه القرآن الكريم في دعوته للملحدين، وهو لفت الأنظار والانتباه لعظمة الكون وما فيه، واستثارة التفكير في مخلوقات الله عزَّ وجلّ، بما فيها من عظمةٍ وروعة، وبما فيها من إبداعٍ وجمال، وبما فيها من تقديرٍ وإتقانٍ وتنوُّعٍ وحكمة، كلُّ ذلك للوصول بهم أوَّلاً إلى حتميَّة وجودٍ خالقٍ لهذا الكون البديع الكبير المتناثر.
والناظر للقرآن الكريم يجده تطرَّق إلى آيات الله في الكون في خطابه للمشركين، من خلال ملمحَيْن أساسيَّيْن:
1- في الإنسان نفسه: حيث ذكَّر سبحانه الإنسان بنفسه، وبكيفيَّة خلقه، وبما وهبه من شكلٍ حسنٍ وهيئةٍ طيِّبة، وسمعٍ وبصرٍ وفؤاد، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: قال الله تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، وقال سبحانه: "يا أيُّها الإنسان ما غرَّك بربِّك الكريم، الذي خلقك فسوَّاك فعَدَلك، في أيِّ صورةٍ ما شاء ركَّبك"، وقال عزَّ وجلّ: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، وقال جلَّ شأنه: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين، ثمَّ جعلناه نطفةً في قرارٍ مكين، ثمَّ خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين"، وقال تعالى: "فلينظر الإنسان ممَّ خُلِق، خُلِق من ماءٍ دافق، يخرج من بين الصُّلْب والترائب"، وقال سبحانه: "وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون"، وقال جلَّ شأنه: "والله أخرجكم من بطون أمَّهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلَّكم تشكرون".
2- النظر في الكون والمخلوقات من حولنا: فكلُّ ما حولنا، وكلُّ ما هو قريبٌ منَّا أو بعيدٌ عنّا، وكلُّ ما هو تحت أيدينا، وتحت سمعنا، وتحت بصرنا من مخلوقاتٍ وأشياء، يمكن أن يشكِّلَ مادَّةً ومصدراً لإظهار وجود الخالق البارئ المصوِّر سبحانه، ولإظهار قدرته وعظمته، ولإظهار استحالة العبث والصدفة والعشوائيَّة في هذا العالم وفي هذه المخلوقات، والدليل على ذلك: قال الله تعالى: "فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنَّا صببنا الماء صبّا، ثمَّ شققنا الأرض شقّا، فأنبتنا فيها حبّا، وعنباً وقضبا، وزيتوناً ونخلا، وحدائق غُلْبا، وفاكهةً وأَبّا، متاعاً لكم ولأنعامكم"، وقال سبحانه: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقَت، وإلى السماء كيف رُفِعت، وإلى الجبال كيف نُصبِت، وإلى الأرض كيف سُطِحت"، "ألم يروا إلى الطير مسخراتٍ في جوِّ السماء ما يُمْسكهنَّ إلا الله إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يؤمنون"، وقال تعالى: "وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السحاب صنعَ الله الذي أتقن كلَّ شيء"، وقال عزَّ وجلّ: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إلهٌ غير الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَنْ إلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه أفلا تُبصرون، ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون"، وغيرها كثير.(45/58)
وهكذا فكلُّ ما نعرفه وما نراه ونسمعه، وكلُّ ما نملكه ونستعمله يمكن أن يكون موضوعاً للتأمُّل والنقاش، ووسيلةً للإقناع والإفحام لكلِّ من ينكر أو يتشكَّك في وجود الله تعالى، ذلك أنَّ الإلحاد والكفر بالخالق إنَّما يأتي من الغفلة وتبلُّد الحسِّ والفكر، كما قال الله تعالى: "وكأيِّن من آيةٍ في السماوات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها معرضون"، وقال سبحانه: "لهم قلوبٌ لا يعقلون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون".
ثمَّ الانتقال بهم إلى حتميَّة كون هذا الخالق سبحانه واحداً لا شريك له، إذ لو كان هناك إلهَيْن أو أكثر لكان الفساد مصير التنازع بينهم، "لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا"، "ما اتَّخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كلُّ إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعض"، فسبحان الله ربِّ العرش عمَّا يصفون.
وصدق أبو العتاهية رحمه الله تعالى حين أبدع فقال:
فوا عجبُ كيف يُعصَى الإلهُ……. أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ……. تدلُّ على أنَّه واحدُ
ولله في كلِّ تسبيحةٍ ……. وتحريكةٍ في الورى شاهدُ
وسبقه إلى ذلك أعرابيٌّ بسيط، حين وجد مجموعةً من العلماء جالسين يجمعون الأدلَّة
على وجود الله تعالى، فقال لهم: "الأثر يدلُّ على المسير، والبعرة تدلُّ على البعير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدلاَّن على اللطيف الخبير؟".
وبعد توثيق مبدأ الوحدانيَّة في النفوس، ننتقل إلى الدعوة للإسلام، بعرض مبادئه وقواعده العامَّة، وبإثبات صدق القرآن الكريم، واستحالة كونه من عند غير الله تعالى، ثمَّ البدء -بعد اقتناع المدعوِّ بذلك- بتعريفه بأركان الإسلام وكيفيَّة الدخول فيه.
وعموماً فهناك العديد من الكتب التي تحدَّثت في هذا الموضوع، يمكن الرجوع إليها:
أ- كتبٌ باللغة العربيَّة:
- "قصَّة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن" للشيخ نديم الجسر.
- "طريق الإيمان" للشيخ عبد المجيد الزنداني.
- "توحيد الخالق" للشيخ عبد المجيد الزنداني.
- "كبرى اليقينيَّات الكونيَّة" للدكتور محمَّد سعيد رمضان البوطي.
- "وجود الله تعالى" للدكتور يوسف القرضاوي.
- "حوارٌ مع صديقي الملحد" للدكتور مصطفى محمود.
- "الله جلَّ جلاله" للأستاذ سعيد حوَّى.
- "إنَّه الحقّ" من منشورات هيئة الإعجاز العلميِّ في القرآن والسنَّة.
- "القرآن والعلم الحديث" لموريس بوكاي.
- "العلم يدعو إلى الإيمان" لكريسي موريسون.
- "البرهان على صدق تنزيل القرآن" للدكتور نبيل عبد السلام هارون.
ب- كتبٌ باللغة الإنجليزيَّة:
- ترجمة كتاب: طريق الإيمان(The Path of Faith) للشيخ عبد المجيد الزنداني- من منشورات الندوة العالميَّة للشباب الإسلاميّ - السعوديَّة.
- ترجمة كتاب: إنَّه الحق (This is the T r uth) - من منشورات هيئة الإعجاز العلميِّ في القرآن والسنَّة - السعوديَّة.
- ترجمة كتاب: لماذا نؤمن بالإسلام؟ (Why Islam?) للدكتور نبيل عبد السلام هارون - نشر دار النشر للجامعات - مصر.
- ترجمة كتاب: حوار مع صديقي الملحد (Dialogue with an Athiest) للدكتور مصطفى محمود - Islamic Foundation, Ma r kfield Confe r ence Cent r e, UK.
- القرآن والعلم الحديث (The Qu r 'an and Mode r n Science) لموريس بوكاي - من منشورات الندوة العالميَّة للشباب الإسلاميّ - السعوديَّة.
كما هناك مواقع على الإنترنت يمكن الاستفادة منها:
- islamonline.net
- islam wo r ld
- Islamic r esea r ch Foundation
وفَّقك الله يا أخي وسدَّد خطاك، وفتح عليك في الدكتوراه التي تحضِّرها، وفي الدعوة التي تشغل فكرك بها رغم همِّ الرسالة والغربة... المحرر.
==============(45/59)
(45/60)
أخواي ملحدان.. هل أقاطعهما؟…
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
عندي سؤال، وهو أنَّ اثنين من أشقَّائي كافران ملحدان، أحدهما يتبجَّح بإلحاده ويسخر من الإسلام والمسلمين وهو كثير الجدال والنقاش، والثاني أكثر هدوءاً منه، ومع أنَّه كثير الجدال والنقاش أيضا، إلا أنَّه يرى أنَّ على الجميع احترام آراء الآخرين، ويجب أن يسود جوُّ الحبِّ والتفاهم والوئام بين الجميع رغم اختلاف الأفكار.
أبي وأمِّي وجميع الأقارب تقريباً لا يرون بأساً في هذا الأمر، ويقولون: إنَّ اختلاف الرأي لا يفسد للودِّ قضيَّة!
لكنَّني حذِرٌ من هذه القضيَّة لالتزامي بشرع الله وتقيُّدي بأحكامه، وأودُّ أن أعلم كيف أتعامل معهما خاصَّةً في أمور المجاملات والسهرات العائليَّة التي تتَّسم بقول النكات والضحك والمرح، مع العلم أنَّنا نسكن تحت سقفٍ واحد.
أرجو أخذ هذه الرسالة بعين الجديَّة والإجابة عنها بالتفصيل المدعوم بالأدلَّة من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، وسيرة الأعلام من الصحابة والتابعين.…السؤال
الدعوة الفردية, آداب وأخلاق, ثقافة ومعارف, العائلة …الموضوع
فريق الاستشارات الدعوية…المستشار
……الحل …
…
…يقول د. محمَّد منصور من فريق الاستشارات:
أخي الكريم، عليك أوَّلاً أن تتحرَّى الدقَّة في تحديد موقف أخويك من الإسلام، وهل هما من الكفَّار أم أنَّك قد تسرَّعت في الحكم عليهما؟.
لقد حذَّرنا الإسلام تحذيراً شديداً من رمي أيِّ إنسانٍ بالكفر، حتى ولو أتى بالكبائر، نعم هو من العصاة، لكنَّه ما زال من المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم "أيَّما رجلٍ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"رواه البخاري، ولذا اجتهد العلماء في فهم حديث الرسو صلى الله عليه وسلم هذا، فوصلوا إلى الشروط الآتية لكي يُطْلَق على شخصٍ ما أنَّه كافر:
1- أن يقول صراحةً أنَّه كافر.
2- أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً لا يحتمل تأويلاً إلا الكفر، كمن يضع المصحف تحت قدمه مثلا.
3- أن يُنْكِر معلوماً من الدين بالضرورة، أي ينكر أساسيَّات الإسلام التي يجب أن يعلمها كلُّ من أراد الدخول فيه ليكون مسلما، كمن ينكر مثلاً فرضيَّة الصلاة أو الصوم، أو يستحلَّ الخمر والزنا والسرقة أو نحو ذلك، دون شبهة تأويلٍ أو تفسير.
أمَّا ما عدا هذه الشروط، فالحذر كلَّ الحذر من تأويل أفعال النَّاس وأقوالهم من أجل تكفيرهم، وإلا أثِم من فعل ذلك إثماً عظيماً بموجب الحديث السابق، فالمسلمون مطالبون بأن يأخذوا من النَّاس ظاهر أقوالهم وأفعالهم، أمَّا قلوبهم ونواياهم فليسوا مطالبين بالتحقُّق منها، فهي متروكةٌ لخالقهم سبحانه الذي يعلم السرَّ وأخفى، لأنَّ تأويل السرائر قد يخطئ وقد يصيب، وضرره على الأفراد والمجتمع كبير، ويدلُّ على ذلك القصَّة المشهورة التي قَتل فيها أسامة بن زيد رضي الله عنه في إحدى الغزوات رجلاً من الكفَّار' فيما رواه الإمام مسلم عن أسامة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول ا صلى الله عليه وسلم في سريَّة، فصبَّحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبيِّ r، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنَّما قالها خوفاً من السلاح، قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟"، فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنَّيت أنِّي أسلمت يومئذ.
إنَّ المسلمين -أخي الحبيب- يجب أن يكونوا دُعاةً لا قُضاة، فالواجب عليهم الذي يثابون إذا فعلوه ويأثمون إذا لم يفعلوه هو توصيل دعوة الله تعالى للنَّاس، وهذا الذي يفيدهم ويفيد المجتمع حولهم حين يسعدون بتطبيق الإسلام في كلِّ شؤون حياتهم، ولكن ما الفائدة التي تعود عليهم أو على الداعي أو على المجتمع كلِّه حين يُنَصِّب الداعي نفسه قاضياً عليهم، يحكم على هذا بالكفر وعلى ذاك بالإلحاد؟!!.
وللإمام مالك رحمه الله قولٌ طيِّبٌ في هذا الأمر، قال: "من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعةٍ وتسعين وجهاً ويحتمل الإيمان من وجه، حُمِل أمره على الإيمان".
أخي الكريم،
إنَّنا نعتقد أنَّ عليك معاملة أخويك بطريقةٍ هدفها الأخذ بأيديهما إلى طريق الله، والعودة لنظام الإسلام، لا تيئيسهما وإبعادهما أكثر؛ ولذا فمعاملتهما تعتمد على الأسس الآتية:
1- الرفق بهما:
كما أمر سبحانه وتعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يفعلا مع أشدِّ الكفار طغيانا: فرعون، حيث أوصاهما: "فَقُولا له قولاً ليِّنا لعلَّه يتذكَّر أو يخشى"، فإذا كان اللين والرفق مع مَن مثل فرعون، فمن باب أولى يكون مع الذي لم يصل بعد إلى مرحلته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم "إنَّ الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه"رواه مسلم.
2- خدمتهما ومشاركتهما في أحزانهما وأفراحهما والصبر عليهما:
كما قال صلى الله عليه وسلم "المؤمن الذي يخالط النَّاس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط النَّاس ولا يصبر على آذاهم"رواه ابن ماجه بسندٍ صحيح.(45/61)
فإن صدرت منهما المعاصي تُنكرها بقلبك أوَّلا، فإن كانت ظروفهما النفسيَّة والظروف المحيطة بهما تسمح بالكلام معهما، وتذكيرهما بالله تعالى، وضرر المعصية عليهما في الدنيا وفي الآخرة، وكانت عندك المقدرة على ذلك -العلميَّة والكلاميَّة وغيرهما- وغلب على ظنِّك أنَّ كلامك سيأتي بنتائجٍ طيِّبةٍ وجب عليك الكلام برفقٍ ولينٍ وأدبٍ وإشفاقٍ عليهم، أمَّا إن غلب على ظنِّك أنَّ كلامك لن يأتي بنتيجةٍ إيجابيَّة -وهذا أمرٌ مستبعدٌ إذ فطرة كلِّ إنسانٍ أنَّه يفكِّر فيما يسمع ولو بعد حين- فيُستحَبُّ لك الكلام، ولكن إن غلب على ظنِّك أنَّ كلامك سيأتي بنتيجةٍ عكسيَّةٍ وأنَّه سيسَّبب مشكلاتٍ أكبر من حجم الإثم نفسه، فيجب عليك ألاَّ تتكلَّم درءاً لما قد يحدث من مفاسدٍ وأضرار.
3- أن تقدِّم لهما القدوة:
فتعرض إسلامك في مواقف عمليَّة -مع توضيحٍ بسيطٍ بالكلام كلَّما تيسَّر ذلك- كأن تبرَّ والديك بخدمتهما وطاعتهما في المعروف، وتُحْسِن إلى إخوتك وجيرانك وأقاربك وزملائك وأصحابك، فتزورهم، وتتودَّد إليهم، وتعينهم، وتكظم غيظك، وتغضَّ من بصرك، وتحفظ لسانك عن الغيبة، والنميمة، والسخرية، والكذب، والكلام الفاحش، وتكون عادلاً متوسِّطاً معتدلا، أقرب للتيسير في كلِّ تصرُّفاتك، كما قال صلى الله عليه وسلم "يسِّروا ولا تُعَسِّروا وَبَشِّروا ولا تُنَفِّروا"رواه البخاري، وتبتعد عن المعاصي، وتُحسن العبادات، وتلتزم بمواعيدك وعهودك وعقودك، وتُجيد في عملك ومهنتك، وتتعاون مع كلِّ من يمدُّ يده بالخير لمجتمعه.. ونحو ذلك.
3- الزم التدرُّج معهما:
فلقد تدرَّج سبحانه في تحريم الخمر، وراعى نشأة العرب على الخمر وارتباط حياتهم بها، ففهَّمهم أنَّ فيها أضرارا، كغياب العقل الذي هو أساس العمل والإنتاج، وأنَّ فيها بعض المنافع كالتجارة فيها والتربُّح منها، لكنَّ الضرر أكبر، قال تعالى: "يسألونكَ عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما"، وطلب منهم الامتناع عنها قبل الصلاة بفترةٍ حتى يدركوا معاني الصلاة، قال تعالى: "يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأَنتم سُكَارَى حتى تعلموا ما تقولون"، فلمَّا أحبُّوا الله تعالى ورسوله والإسلام، وفهموا أنَّ فيه مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، طلب الله عزَّ وجلَّ منهم الامتناع عنها نهائيّا، قال تعالى: "إنَّما الخمر والمَيسِر والأنصاب والأزْلام رِجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلَّكم تُفلحون".
فعليك أن تبيِّن لهما -بالودِّ والحبِّ والتدريج- الحلال والحرام، والصواب والخطأ، ومنافع الأوَّل وأضرار الثاني، لكن ليس عليك أن تجبرهما على اتِّباعه، يقول تعالى: "لا إكراه في الدين"، ويقول: "ليس عليك هداهم"، وذلك لأنَّ الإسلام -لعظمته- لا يقبل أن يكون أتباعه مجبَرين عليه، بل هم الذين يسعون إليه ويحرصون عليه لمصلحتهم، فإن بدءوا في التغيُّر وتدرَّجوا، فالله عونهم، "إنَّ الله لا يُغَيِّر ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم".
4- لا تنسَ رصيد الفطرة:
اطمئنَّ إلى أنَّ معك رصيد الفطرة فيهم، والتي مع دوام التذكرة وحسن المعاملة ستتحرك للحقِّ يوماً ما إن شاء الله تعالى، وقد تغيَّر من قبلُ خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فأصبحوا حماةً للإسلام بعد أن كانوا جبابرةً ضدَّه.
5- احذر أمرين:
- لا تفكِّر في هجرهما ومقاطعتهما واعتزالهما، فإنَّ هذه خسارةٌ عليك وعلى الإسلام؛ إذ لن تتمكَّن من أداء واجب دعوتهما وتبصيرهما، وستخسر مقام الرجال وتكون من الجبناء، قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "الزهَّاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالةٌ حسنةٌ إذا لم تمنع من خير، إلا أنَّها حالة الجبناء، فأمَّا الشجعان فهم يتعلَّمون ويُعَلِّمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام".
- إيَّاك والجدال، فإنَّه مضيعةٌ للأوقات وإيغارٌ للصدور، قال صلى الله عليه وسلم "أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنَّة لمن ترك المِرَاء وإن كان مُحِقّا"رواه أبو داود بسندٍ حسن.
أمَّا لو ثبت لك -أخي الكريم- بالدليل القاطع الذي لا يحتمل أيَّ تأويلٍ أنَّهما من الكفار، بأن يفعلا بصورةٍ واضحةٍ أمراً من الأمور الثلاثة السابق ذكرها -وهو الواضح من حديثك خاصَّةً من أحدهما- فالمطلوب منك أن تعلم أنَّ الأصل في معاملتهما الإحسان والعدل، يقول تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرِجوكم من دياركم أن تَبَرُّوهم وتُقسطُوا إليهم إنَّ الله يحبُّ المُقسِطين"؛ وذلك لأنَّ المعاملة الحسنة قد تهديهما إلى الحقِّ والخير، ولقد زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم غلاماً يهوديًّا مريضاً كان يخدمه، فأسلم ذلك الصبيُّ اليهودي، كما في الحديث الذي رواه الإمام البخاريّ، كما أنَّ المعاملة الحسنة تجنِّب المسلمين شرورهما وإفسادهما إن وُجِد.(45/62)
كما عليك مواساتهما في الأحزان، ومشاركتهما في الأفراح (مع تجنُّب المُحَرَّمات)، وإعانتهما في المصائب، وما شابه ذلك من الأمور الاجتماعيَّة، كذلك الزم أن تُوَفِّي إليهما حقوقهما ووعودهما، فإذا كان لأحدهما حقٌّ فلتقف بجواره ليأخذه، حتى ولو كان هذا الحقُّ عند مسلم، فذلك هو عدل الإسلام، يقول تعالى: "ولا يجرمنَّكم شَنَآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" والشَّنَآن: الكراهية.
فنحن لا نبغض ذوات الكفَّار، وإنَّما نبغض كفرهم وأعمالهم المترتِّبة على هذا الكفر،
وكلُّ ذلك لا يعني أن تسكت حين يستهزئ أحدهما بالله تعالى أو بكلامه أو برسوله ودينه، بل عليك أن تعلن موقفك الرافض لما يقول، وأن تردَّ على ما يقول، وأن تنبِّهه إلى خطئه، وتنبِّه المستمعين إلى عِظمَ ذنب ووزر من يسمع هذا الكلام ولا يردَّه أو يترك المكان الذي يُذكَر فيه الكفر، قال تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"، قال الإمام القرطبي تعليقاً على الآية: "ودلَّ بهذا على أنَّ الرجل إذا علم من الآخر منكراً وعلم أنَّه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراضَ منكِرٍ ولا يُقبِل عليه"، وأذكِّرك إلى أنَّ درجات رفضِّك وردِّك تتفاوت بتفاوت ما يقول من كفر.
الزم -أخي- برَّهما ودعوتهما، مع توضيح موقفك الرافض لكفرهما واستهزائهما، ولك ثوابك العظيم، سواءً استجابوا لك أم لم يستجيبوا، كما قال تعالى: "ما على الرسول إلا البلاغ"، وكما قال صلى الله عليه وسلم "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا"رواه مسلم.
جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، ووفَّقك الله، وشرح صدر أخويك للإيمان، ونتمنَّى مداومة الاتِّصال ب
===========(45/63)
(45/64)
أدعو ملحدة.. أتريد الله بغير نظامه؟؟!!…
السلام عليكم..
تعرَّفت على مواطنةٍ من لتوانيا، وأردت أن أدعوها للإسلام كي تعتنقه كما فعلت من قبل مع شخص آخر، ولكن هذه المرة أصعب.. لأنها كانت لا تؤمن بوجود الله، ولكنها بعد فترة اقتنعت بوجوده سبحانه، ولكنها لا تعتقد بالأديان نهائيا، وهي متصورة أنها ليست من عند الله؛ كما أنها معقدة من الدين المسيحي ومن الأديان عامةً، لأنها تضع لها القوانين والقواعد وهي تريد أن تعيش حياتها كما تريد، وتعتقد أن الأديان كانت للناس القدماء وأنها أصبحت غير مواكبة للعصر، وأنها سبب في النزاعات والقتل، وأنها تهدف في النهاية إلى عبادة الله.. ولذلك فهي تريد أن تعبده كيف تشاء.
أرجوكم ساعدوني، وأخبروني من أيِّ مدخلٍ أبدأ معها.
وجزاكم الله خيرًا.…السؤال
دعوة غير المسلمين …الموضوع
الدكتور محمد محمود منصور…المستشار
……الحل …
…
…الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وبعد؛
شكر الله لكم، وجزاكم خيرًا على حبكم لإسلامكم وحرصكم عليه وعملكم له.
أخي الكريم هاني؛
عليك أن تبدأ الحديث بناءً على القواعد العامة الآتية، والتي عليك أنت أولا أن تستوعبها جيدًا حتى يمكنك أن تنقلها بالأسلوب المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب.
* أولا: لم يخلق الله تعالى ليتعسهم، وإنما خلقهم ليسعدهم.
ففي قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، يقول في تفسيرها الإمام القرطبي، والإمام ابن كثير نقلا عن بعض العلماء: "إلا ليعرفون"، أي ليتعرفوا علي وعلى أرضي وعلى كوني وعلى خيراتي وليستكشفوها ولينتفعوا بها، وليتمتعوا بمتعها الحلال ليسعدوا بذلك.
ويؤكد ذلك أيضًا قوله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، حيث جاء في تفسير القرطبي: أي أعمركم فيها، أي أعطاها لكم عمرى، أي هِبَةً تنتفعون بها أنتم وورثتكم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويؤكده أيضًا قوله: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه)، وقوله: (ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين)، قال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية الأخيرة: الله جل ثناؤه جعل حياة كل حي متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعًا، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله من الأقوات والثمار والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ.. وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن يبدلكم بها غيرها (أي جنة الخلد).. ثم بعد فترة استمتاعهم في الدنيا يدخلهم سبحانه بكرمه وفضله وحبه لهم جنته حيث النعيم الهائل المقيم الخالد -للمؤمنين بذلك- الذي لا يشوبه أي تعكير قد يحدث في الدنيا، كما يقول الإمام القرطبي: (إلى حين) بشارةٌ إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه منتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها.
ولم يخلقهم سبحانه مباشرةً في الجنة، لأنه لو كان فعل ذلك لكان من المحتمل ألا يشعر بعضهم بعظمتها!!!
فأنزلهم إلى الأرض لفترةٍ حتى تكون المقارنة واضحة وعملية بين نعيمها المتقطع ونعيم الآخرة الهائل الدائم بعد العودة إليها.. فذلك مثل قوله عز وجل: (وإنْ منكم إلاَّ واردها)، أي تمرون يوم القيامة على النار لتقارنوا بينها وبين نعيم الجنة الذي أنتم فيه يا مؤمنون فتعرفوا نعم الله الجزيلة عليكم وتشكروها، (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم).
قال الإمام القرطبي في هذا المعني في تفسيره لقوله تعالى (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو): لم يكن إخراج الله تعالى لآدم من الجنة وإهباطه منها عقوبةً له، لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته، والصحيح في إهباطه وسكناه الأرض ما قد ظهر من الحكمة في ذلك وهي نشر نسله فيها.
* ثانيًا: من رحمته سبحانه أنه لم يترك بني آدم علىالأرض بدون نظام (إن الله بالناس لرءوفٌ رحيم)، وإنما أنزل لهم شرعا يسعدهم، كما يقول (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي)، قال الإمام القرطبي في تفسيره: دين الإسلام، وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
وأنزل للناس رسلا ليتعلموا منهم كيف يسيروا بهذا النظام بسهولة (رسلا مبشرين ومنذرين)، (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)، وجعل فيهم فطرة توجههم لربهم وللاستعانة به (فطرة الله التي فطر الناس عليها).
لذا فالإسلام سعادة الناس، لأنه ينظم لهم كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، في كل شئونهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والإعلامية والرياضية والفنية والصحية والإدارية وغيرها، يقول تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).. فهو يعلمهم كيف يأكلون ويشربون وينامون ويستيقظون ويلبسون ويلعبون ويتزوجون وينتجون ويكسبون ويعملون ويتطورون ويتعلمون ويبتكرون ويتفاعلون فيما بينهم وغيرهم ويتحابون ويتصاحبون ويتصافون ويتعاونون ويترابطون ويتناصحون ويتشاورون ويتجنبون خلافاتهم ويتصالحون إذا اختلفوا ويزدوادون تمساكًا بعدها.
يقول تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).(45/65)
فهو يبين لهم أين الصواب والخطأ دون احتياجٍ لتجربةٍ قد تنجح أو تفشل، منذ يولدون حتى يموتوا.. يقول تعالى: (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
ولقد نزل الشرع بما يناسب كل عصر، فكانت اليهودية مناسبة لمن شرعت لهم، وكذلك المسيحية، جاءت لتناسب بني إسرائيل وقت عيسى عليه السلام، ثم اكتمل التشريع تمامًا في صورة الإسلام بعباداته ومعاملاته، فمن اكتفى باليهودية بعد نزول المسيحية رغم علمه بها فدينه ناقص، ومن اكتفي بالمسيحية أو اليهودية بعد نزول الإسلام رغم علمه بوجوده فدينه ناقص ومعاملاته ناقصة، وسيشقى بذلك لأنه اتبع جزءًا فقط من الخير والصواب ولم يتبعه كله، يقول تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، ويقول: (ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا * ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا).
ثم إن الشعائر سعادات، فالإنسان هو الذي يستفيد من فعلها وليس الله! كما يقول: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)، فلن يستفيد سبحانه من ذبح ذبيحةٍ أو فعل طاعة، وإنما الإنسان هو الذي يستفيد.. يستفيد صلةً بربه، وحبًا له، وعونًا منه وتوفيقا وإسعادًا، إذ هي تشحن القلب ليدفع الجسد لحسن التعامل.
وكذلك المعاملات سعادات، فالبصدق مثلا تتحقق الثقة والطمأنينة، فتقوى العلاقات ويربح صاحب كل عمل ويسعد، كما يقول تعالى عن فائدته في الدنيا: (فلو صدقوا الله لكان خيرًا لهم)، ويقول صلى الله عليه وسلم (.. فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) جزء من حديث أخرجه الترمذي، وبالتقوى يرعى كلُّ فردٍ من حوله، وهي سببٌ للرزق والتيسير في كل شئون الحياة وإسعادها، كما يقول تعالى: (ومن يتَّق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيث لا يحتسب)، ويقول: (ومن يتَّق الله يجعل له من أمره يسرًا).
وهكذا كل العبادات والمعاملات.. فليس صحيحًا أن أسس وأخلاق ونظم الإسلام التي شرعها الله تعالى للناس هي قيودٌ تمنعهم مما يحبون؛ بل هي تعنيهم على تنظيم حياتهم فتيسرها وتسعدها (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وتبين لهم أين الحلال الصواب النافع وتبعدهم عن الحرام الخطأ الضار، فكل حرام لابد أن يتعس حتى ولو بعد حين، فمثلا يقول تعالى في الزنا: (ولا تقربوا الزِّنى إنَّه كان فاحشةً وساء سبيلاً)، فهو سبب الأمراض التي يصعب علاجها "كالإيدز"، ويأتي بأطفال مشردين يصبحون مجرمين يؤذون المجتمع ويتعسونه.. وهكذا كل المحرمات، لم يحرمها سبحانه لإتعاس الناس! وإنما لضررها عليهم، ثم أعطاها لهم في الحلال بصورةٍ منظمةٍ تسعدهم.. كالزواج مثلا بدلاً من الزنا، والبيع والشراء بدلا من الربا.. وهكذا.
إن الإيمان القلبي والعمل بنظام الإسلام يسعدان القلب بالرضا والطمأنينة والسكينة والتوكل والعزة والحب والرحمة والبركة واليسر والأمل والبشر، ويمنعان تعاسته بالشك والقلق والحيرة والسخط والبغض واليأس.. يقول تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
ولذا، فكل من يعبد الله -أي يطيعه ويتبع نظامه- فهو لابد سعيدٌ عزيزٌ قويٌّ في الدنيا، مستبشرٌ بانتظاره الثواب العظيم الذي ينتظره في الآخرة التي يؤمن بالرجوع إليها، والتي من العدل والعقل أنها لابد أن تكون.. لأنها لو لم تكن لكان ظلما، والله تعالى يقول عن ذاته: (إنَّ الله لا يظلم مثقال ذرَّةٍ)، لأنه ليس من العقل ولا من العدل أن من أساء كمن أحسن.. (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون)، ولا من العدل أن يكون من أحسن قليلا وانتفع قليلا بالكون واستكشف قليلا، كمن أحسن واستكشف كثيرًا.. (هم درجاتٌ عند الله)، وليس من العقل أن تنتهي كل هذه الدقة الكونية إلى دمار فيكون الأمر عبثا دون فائدة، والله تعالى يقول عن نفسه: (أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثًا وأنَّكم إلينا لا ترجعون).
والعكس صحيحٌ بالنسبة لكل من لم يعرف ربه ولم يطعه، فهو تعيسٌ ضعيفٌ ذليلٌ في الدنيا لشهواته متشائمٌ حائرٌ قلقٌ لا يعرف مصيره المنتظر ولا سبب وجوده أصلا!!
* ثالثًا: من صفات تشريعات الله في المعاملات أنها عامة.. (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، ثم يترك سبحانه التفاصيل للبشر يضعون من لوائح وقوانين ما يناسبهم ويناسب عصرهم وبيئتهم وظروفهم في إطار هذه التشريعات، كما يقول صلى الله عليه وسلم (أنتم أعلم بأمور دنياكم) جزء من حديث أخرجه مسلم، وذلك حتى يظل الإسلام صالحا لكل الناس في كل الأماكن وفي كل العصور، لأنه لو كان جاء بتفاصيل لكانت مناسبةً لعصرٍ دون آخر، أو لمكانٍ دون غيره، أو لطائفةٍ دون أخرى.
وإذا كان بعض الناس قد حرَّف في بعض التشريعات السابقة ونسي فوائدها، وذلك من أجل بعض شهواته، فإن الله تعالى برحمته بخلقه تكفل بنفسه بحماية الشرع الأخير وهو الإسلام، لأنه ليس بعده تشريعٌ آخر وإلا ضلَّ الناس وتعسوا.. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).(45/66)
* رابعًا: حتى الشيطان.. من حكم خلقه، أن يحاول جر الإنسان للشر.. (إنه لكم عدو مبين)، فتزداد قوة إرادة نفسه وإدراك عقله حتى لا يقع في الخطأ الذي سيضره وسيعوقه عن حسن التمتع بالحياة، فكلما قاوم هذا الشيطان كلما ازدادت خبراته العقلية وقواه النفسية.. (إن كيد الشيطان كان ضعيفا)، فيؤدي ذلك إلى مزيد من اقتحام الحياة واستكشافها والانتفاع بها، وما يتبع ذلك من مزيدٍ من الارتفاع في درجات الجنات التي تنتظره بعد موته.
* خامسًا: وإذا أصابت الإنسان مصيبةٌ ما فعليه أن يبدأ أولا بمراجعة نفسه، فقد يكون قصر في شيءٍ ما، أو ارتكب معصيةً ما، كما يقول تعالى: (وما أصابك من سيِّئةٍ فمن نفسك)، فيستفيد مراجعة أحواله، وعلاقاته بربه وبمن حوله، ويخطط ويبتكر حتى يخرج من المصيبة أكثر صلابةً وجلدًا وقدرةً على الاستفادة من الدنيا والتنعُّم بها، فإن رأي أنه لا دخل له في المصيبة فالأمر حينئذ اختبارٌ من ربه له -وسيعينه عليه- ليزيده قوَّة إيمانٍ به، وقربًا منه وخبرات في الدنيا ودرجات في الآخرة.. لحبه له.
يقول صلى الله عليه وسلم (عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) أخرجه مسلم.
وختامًا -أخي الكريم- نوصيك بمراعاة الضوابط الشرعية عند التعامل مع النساء.. كغضِّ البصر، وعدم التحديق أو النظر بشهوة، وعدم الخلوة، والكلام يكون لسببٍ مع عدم التميع فيه.
كما نوصيك بأن تكون قدوةً حسنةً في كلِّ أقوالك وأفعالك، فذلك هو أول المداخل لمن تدعوه، ثم بعد ذلك عليك بالفهم الجيد، وبالنصيحة المختارة الطيبة، وبالخدمة، وبالسؤال عن الأحوال، والمشاركة في الأفراج والأحزان.. ونحو ذلك مما يوصل الإسلام تدريجيًا من الداعي إلى المدعو، مع الأمل الكبير في التغير نحو الخير.. فقد تغير الكثيرون من قبل وكانوا أسوأ حالا!
وفقك الله وأعانك.. ولك ثوابك العظيم كما يقول صلى الله عليه وسلم (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خيرًا لك من أن يكون لك حمر النعم) جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم.
-=============(45/67)
(45/68)
صديقي غير مسلم.. كيف أدعوه؟…
السلام عليكم، إخوانى الكرام: لدي صديق غير مسلم وأود أن أدعوه إلى أن يتعرف على الدين الإسلامي، ومن ثَم -إن شاء الله- يسلم. أود أن تخبروني عن الطريقة السليمة إلى ذلك مع جزيل الشكر…السؤال
دعوة غير المسلمين, فنون ومهارات …الموضوع
……الحل …
…أخي الكريم، بارك الله فيك، وأسأل الله أن يجزيك خير الجزاء.
نقدم لك إجابة فضيلة الشيخ عبد المجيد صبح :
كيف ندعو غير المسلم؟ فأول مبادئها القدوة، كما يقول لك الشيخ عبد المجيد صبح: "أولا: كلما كان الداعي إلى أي فكرة يتمثلها عملا وسلوكا يكون ذا أثر، والدعوة إلى الإسلام بالذات، باعتباره ديناً له منهج عملي ولا فصل بين الاعتقاد والعمل -أشد حاجة إلى تطبيق هذا المبدأ- فكلما كان المسلم ملتزما في نفسه ، ومع غيره من الناس عامة بأخلاق الإسلام العملية كان دعوة إلى الإسلام من غير كلام".
وهو قولٌ حقٌّ ولا شك، تريد أن تجعل الناس مسلمين مثلك؟ ابدأ بنفسك، واستمع إلى عبد الواحد بن زياد يقول: "ما بلغ الحسن البصري كما يقول إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه"، وتذكَّر كيف فتح المسلمون التجارُ بلاد الدنيا بأخلاقهم وحسن تعاملهم.
وقد أكثرنا الحديث عن أهمية القدوة في غير استشارة، يمكنك الرجوع إليها من فضلك.
ثاني مبادئ الدعوة: ما وصفه الشيخ عبد المجيد يقوله: "ثانياً: من أين تبدأ دعوة غير المسلم؟ الحقيقة النفسية والواقع التجريبي يجيبان بأن البدء من العقيدة، وتتركز العقيدة في ثلاث نقاط: الله الواحد، التيقن بلقائه، العمل على منهاجه. ثم بيان منهج الإسلام في معاملات الناس عامة وأهل الأديان الأخرى خاصة، والحذر كل الحذر من إجراء موازنة تنتقص من دين الآخرين".
وهذا هو المنهج الرباني ولا شك، فأول دعوة الرسل كانت عبادة الله وحده: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ"، وهكذا فعل الرسل عليهم السلام: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"، "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ"، "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، "وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ".
النقطة الثانية: التيقن من لقائه سبحانه: "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ"، وامتدح المؤمنين بقوله: "الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"، "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ".
النقطة الثالثة: العمل على منهاجه: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا".
والقضية الهامة جداً التي طالما يغفلها الدعاة هي ما ذكره الشيخ عبد المجيد: "والحذر كل الحذر من إجراء موازنة تنتقص من دين الآخرين"، وهذا تصديقٌ لقوله تعالى: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".(45/69)
فيا أخي الكريم، آمن أنت بفكرتك أولاً، والتزم بها حتى يكون ظاهرك كباطنك، واقتدِ بسلفك الصالح تكن دعوتك العملية أهم وأكثر تأثيراً من الشخصية، وكما يقول المثل الإنجليزي: "الأفعال تتحدث أعلى من الأقوال"، وأول هذه الأفعال - يرحمك الله- المعاملة الشخصية الطيبة، اسأله دائماً عن نفسه وأهله، تفقَّد أحواله، قدِّم له الخدمات تطوُّعاً،..إلخ، باختصار: تعامل معه بالمبدأ الإسلامي الذي يكرم الإنسان في الدنيا ويحفظ كرامته أيُّا كانت عقيدته، وإياك ثم إياك أن تتغير علاقتك به أو أن تشعره بشيءٍ من الفتور والملل، إن لم يستجبْ هو لك، لأننا في أحيان كثيرة نتصرف دون أن نشعر بدافعٍ مما في قلوبنا نحو من نتعامل معه، فإذا لم نجد استجابةً من الطرف الآخر نبدأ لا شعورياً في إهماله وعدم الحرص عليه وعلى علاقتنا به، فانتبه لذلك أكرمك الله.
ركز مع صديقك على المعاني العامة لوجودنا في الحياة، لماذا خلقنا الله؟ ما الهدف الذي من أجله خُلِقنا؟ وألمِحْ من طرفٍ خفيٍّ إلى مبادئ الإسلام في هذا المجال، ولكن احذر من التصريح بذلك حتى لا تجعل بينك وبينه ساتراً، إلا إذا طلب هو منك ذلك، فعندها قل له، ولكن انتبه أيضاً إلى ألا يتحول ذلك إلى ممارسة صريحة واضحة للدعوة للإسلام معه، فالمسألة ليست بتلك البساطة: أن يغير إنسانٌ ديناً وعقيدةً نشأ عليها، وأهله جميعاً ينتمون إليها.
احذر أخي الكريم من التطاول على ما يعتقده صديقك، حتى وإن فعل هو ذلك، فلا تفعل أنت، حتى لا تفتح للشيطان باباً في نفسه كي يوسوس له: "انظر كيف يستهزئ بدينك؟ لماذا تتركه يفعل ذلك؟ هو يتعمد إهانتك بذلك" وهكذا، ومن ناحيةٍ أخرى حتى لا تجعله يسبَّ الله تعصُّباً لدينه وحَمِيًّة له.
كل ما نطلبه: بعضاً من الحصافة والكياسة، قدراً من الحكمة والذكاء، والمعاملة الشخصية الطيبة، والله معك، وأسأله أن يثيبك ثواب حديث علي كرم الله وجهه: "لأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من أن يكون لك حُمُر النَّعَم" رواه البخاري، وفي رواية الحاكم: "خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس". اللهم آمين.. وأنا بانتظار الأخبار السارة إن شاء الله يا أخي... المحرر
==================(45/70)
(45/71)
دعوة غير المسلمين.. دع الخطوات تتبع الكلمات…
لديَّ صديقةٌ نصرانيَّةٌ مؤمنة، ونحن أصدقاء منذ ما يقرب من ستِّ سنوات الآن، كانت تكلِّمني دائماً عن النصرانيَّة، وكنت فقط أسمع لها دون أخذ أيِّ موقف، كنت أكلِّمها بعض الأحيان عن الإسلام، ولكنَّني علمت أنَّها لا تنوي فهم ما أقول، فتركتها تتحدَّث فيما تريد الحديث عنه. كانت تريني بعض الأشياء من "الإنجيل"، كما كانت تحضر لي بعض الأشرطة عن سيِّدنا عيسى عليه السلام، كنت آخذ كلَّ ما تحضره لي ولكن دون أن أقرأه، وكانت في بعض الأحيان تسألني عن بعض المواضيع كالزنا في المسيحيَّة والإسلام، أو أيِّ مواضيع أخرى، وكنت أقول لها رأيي بصراحةٍ ولكنَّني كنت أحرص على إرضائها دون لومٍ أو جرحٍ للمسلمين.
والآن بعد ستِّ سنوات، تسألني عن الإسلام، وبما أنَّنا كنَّا وقتها في رمضان، بدأت تسألني عن الإسلام عامَّةً وعن شهر رمضان خاصَّة، وقالت لي أنَّنا أصدقاء منذ ستِّ سنوات، وأنَّها الآن تريد معرفة المزيد عن الإسلام.
طلبت مني عنوان موقعٍ إسلاميٍّ جيِّدٍ عن الإسلام فأعطيتها هذا العنوان:www.islamonline.net أظنُّ أنَّه لم يأت بعد الوقت المناسب للحديث معها عن الإسلام وإقناعها به، فبأيِّ الخطوات القادمة تنصحونني؟
شكراً جزيلا.…السؤال
دعوة غير المسلمين, فنون ومهارات …الموضوع
……الحل …
…
…يقول فضيلة الشيخ يوسف إيستيس:
الأخت الكريمة فاطمة،
أحيِّيكِ أوَّلاً على تصرُّفك السليم بأن توجَّهتِ إلى أهل العلم لتستشيريهم، فلسنا كلُّنا علماء، والله سبحانه وتعالى يقول: "وأمرهم شورى بينهم"، ويقول: "فاسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون".
ثانيا: أودُّ أن أوضِّح أنَّ الدعوة ليست الحديث الجذَّاب والكلام المنمَّق، إنَّما الدعوة هي أفعال، والإسلام ليس بحاجةٍ إلى متكلِّمين بقدر حاجته إلى ممارسين.
وعلى هذا، فإنَّك قد مارست الدعوة بالفعل بكونك ملتزمةً بتعاليم الإسلام، فصلاتك وصيامك وحجابك وإجابتك عن أسئلتها… كلُّ هذا دعوةٌ إلى الإسلام، فكما يُقال: "Actions speak loude r than wo r ds " الأفعال أعلى صوتاً من الكلمات.
ما عليك الآن هو القيام بالخطوات التالية:
1. مارسي الإسلام ممارسةً صحيحة، وكوني قدوةً لغيرك، ثم ادعي غيرك إلى الإسلام بعد ذلك، واحرصي ألا يخالف فعلك قولك: "Let the walk follow the talk"، وهذا ما فعلته في الغالب، وأدَّى إلى سؤالها عن الإسلام.
2. لا تدفعيها دفعاً إلى الإسلام، فلا أحد يحبُّ من يضغط عليه ليتقبَّل أيَّ أمر، فكيف بالعقيدة؟
3. احرصي ألا تجرحي كرامتها، فلا يصحُّ مثلاً أن تقولي لها: "يا للحماقة!! كيف تعتقدون أن 1=3 و3=1 ؟؟!".
4. لا تتقمَّصي دور الواعظ أو المحاضر، إنَّما كوني كما أنت.
5. لا تتعاملي مع النصارى عامَّةً على أنَّهم سيغيِّرون معتقداتهم 100% وسينقلب حالهم 180 درجة، إنَّما عامليهم على أنَّ المطلوب فقط هو تصحيح بعض المعتقدات.
6. راعي التدرُّج في عرض الإسلام، فالرسو صلى الله عليه وسلم أمضى 13 عاماً ليثبِّت مفهوم التوحيد في نفوس المسلمين الجدد، ولم يُنزِل الله التكليفات والأحكام إلا بعد أن تمكَّنت العقيدة من قلوبهم تمكُّناً قويّا، فإذا وجدت منها تجاوباً فحافظي على التدرُّج، وإياك والاندفاع.
7. ابدئي معها بالعقيدة، ولا تطلبي منها أكثر ممَّا افترضه الله عليها.
وفَّقك الله تعالى لهدايتها، وأثابك الثواب الجزيل، ووالينا بالأخبار.
===============(45/72)
(45/73)
في دعوة غير المسلمين: تدرَّج.. لا تهاجم.. والعقيدة أولا…
أنا متزوِّجٌ من غير مسلمة، أودُّ أن أعرف:
هل هذا صحيحٌ شرعا؟
وكيف أجعلها مسلمة؟
من فضلكم أخبروني.
…السؤال
دعوة غير المسلمين, فنون ومهارات …الموضوع
الدكتور كمال المصري…المستشار
……الحل …
…
…أخي الكريم صبري،
أهلاً بك ومرحبا.
سؤالك ذو شقَّين:
الأوَّل حكم الزواج من غير المسلمة.
الثاني: كيف تدعوها للإسلام؟
أمَّا الشقُّ الأوَّل:
فقد أفتى العلماء بجواز زواج المسلم من الكتابيَّات "النصرانيَّة واليهوديَّة"، لقوله تعالى: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنَّ أجورهنَّ محصنين غير مسافحين ولا متَّخذي أخدان"، أمَّا غير الكتابيَّات فلا يجوز، وللتفصيل في الأمر ارجع من فضلك للفتوى التالية:
زواج المسلم بغير المسلمة
كما أفضِّل أن تقرأ الفتوى التالية أيضا:
الزواج بغير المسلمات
أمَّا الشقُّ الثاني من سؤالك، حول كيفيَّة جعلها مسلمة، فيقول فيها مستشارنا الشيخ يوسف إيستس أكرمه الله تعالى:
"أحيِّيك أوَّلاً على تصرُّفك السليم بأن توجَّهت إلى أهل العلم لتستشيريهم، فلسنا كلُّنا علماء، والله سبحانه وتعالى يقول: "وأمرهم شورى بينهم"، ويقول: "فاسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون".
ثانيا: أودُّ أن أوضِّح أنَّ الدعوة ليست الحديث الجذَّاب والكلام المنمَّق، إنَّما الدعوة هي أفعال، والإسلام ليس بحاجةٍ إلى متكلِّمين بقدر حاجته إلى ممارسين.
وعلى هذا، فإنَّك عليك ممارسة الدعوة بالفعل بكونك ملتزماً بتعاليم الإسلام، فصلاتك وصيامك وأخلاقك وإجابتك عن أسئلتها… كلُّ هذا دعوةٌ إلى الإسلام، فكما يُقال: "Actions speak loude r than wo r ds " الأفعال أعلى صوتاً من الكلمات.
ما عليك الآن هو القيام بالخطوات التالية:
1. مارس الإسلام ممارسةً صحيحة، وكن قدوةً لغيرك، ثم ادعوا غيرك إلى الإسلام بعد ذلك، واحرص ألا يخالف فعلك قولك: "Let the walk follow the talk".
2. لا تدفعها دفعاً إلى الإسلام، فلا أحد يحبُّ من يضغط عليه ليتقبَّل أيَّ أمر، فكيف بالعقيدة؟
3. احرص ألا تجرح كرامتها، فلا يصحُّ مثلاً أن تقول لها: "يا للحماقة!! كيف تعتقدون أن 1=3 و3=1 ؟!".
4. لا تتقمَّص دور الواعظ أو المحاضر، إنَّما كن كما أنت.
5. لا تتعامل مع غير المسلمين عامَّةً على أنَّهم سيغيِّرون معتقداتهم 100% وسينقلب حالهم 180 درجة، إنَّما عاملهم على أنَّ المطلوب فقط هو تصحيح بعض المعتقدات.
6. راعِ التدرُّج في عرض الإسلام، فالرسو صلى الله عليه وسلم أمضى 13 عاماً ليثبِّت مفهوم التوحيد في نفوس المسلمين الجدد، ولم يُنزِل الله التكليفات والأحكام إلا بعد أن تمكَّنت العقيدة من قلوبهم تمكُّناً قويّا، وحتى إذا وجدتَّ منها تجاوباً فحافظ على التدرُّج، وإيَّاك والاندفاع.
7. ابدأ معها بالعقيدة، ولا تطلب منها أكثر ممَّا افترضه الله عليها.
وفَّقك الله تعالى لهدايتها، وأثابك الثواب الجزيل، ووالِنا بالأخبار".
وهكذا يكون الفعل والخلق والمعاملة هم الأساس في الدعوة، فاستخدم أسلوب الحبِّ لدعوتها، وإيَّاك أن تستخدم أسلوب الضغط لإجبارها على الإسلام، فهذا لن يأتي بنتيجة، وإن أتى فستكون نتيجةً ظاهريَّةً فقط لا عن إيمانٍ ورغبة، والإسلام لا يُكرِه أحداً على الدخول فيه.
الله معك، وشرح صدر زوجتك للإسلام، وأَبْقِنا في بالك
===============(45/74)
(45/75)
دعوة المرتدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
قرأت في بعض المواقع غير الإسلامية عن قصص لمسلمين ارتدوا عن الإسلام، فإذا كانت طريقة الدعوة لغير المسلمين تكون عن طريق إظهار السلوك الإسلامي الحسن وتعريفهم بروح الإسلام.
فكيف تكون الدعوة لمسلم عاش فترة من حياته كمسلم يقرأ القرآن ويقيم شعائر الدين ثم ارتد عن الإسلام؟
** يقول الدكتور مجدي سعيد، المشرف على وحدة الأبحاث والتطوير، بشبكة إسلام أون لاين.نت:
أخي الكريم؛
من الضروري بدايةً عند التعرض لهذه القضية التنبيه والتأكيد على عدة أمور:
أولها ضرورة استحضار طبيعة هذه الرسالة وهذه الدعوة، وأنها رحمة للعالمين، فنحن حين ندعو الناس يحركنا ويتملكنا شعور من الرحمة بهم والشفقة عليهم، وهذا الشعور هو الذي يدفعنا إلى بذل أقصى الجهد حتى نأخذ بأيديهم إلى طريق الله والتزام منهجه.. وهذا الشعور يحكمنا في التعامل مع كل الخلق بلا اختلاف، وقدوتنا في هذا هو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه فقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ثاني هذه الأمور، أننا في دعوتنا للناس إنما نأخذ بأسباب الهداية والإصلاح، ونبذل الوسع في التغيير والإرشاد، ونترك النتائج لله سبحانه وتعالى، (وما على الرسول إلا البلاغ).
وثالثها إدراك صعوبة الحالة التي نواجهها -حين ندعو من كان مسلما ثم ترك دينه- وخصوصيتها، والسبب في ذلك ما تفضلت بالإشارة إليه في سؤالك من أنه "عاش فترة من حياته كمسلم يقرأ القرآن ويقيم شعائر الدين"، ثم تحول عن ذلك وتركه؛ وهذا يختلف بالتأكيد عن دعوة غيره من الناس سواء المسلم غير الملتزم، أو غير المسلم.
أخي الكريم؛
إن تحول إنسان عن دينه ليس بالأمر السهل، وليس قرارا هينا يمكن لإنسان أن يتخذه هكذا دون أسباب يراها -من وجهة نظره- مقنعة، بل ودافعة بقوة نحو هذا القرار؛ ولا يصح أبدا أن نتعامل مع إنسان يمر بهذه الحالة دون محاولة الوقوف على أسبابها بشكل واضح ومحدد حتى يمكننا التفكير في طريقة لعلاجها وتحديد الأسلوب الأمثل لدعوته.
وإذا أردنا تحليل الأسباب التي قد تؤدي بإنسان إلى الخروج عن دينه، فيمكن التفريق بين اتجاهين مختلفين ينتجان عن هذا الخروج، لكل منهما أسبابه ودوافعه.. هذا الاتجاهان هما:
- أن يخرج إنسان عن دينه إلى "لا دين"، فلا يعتنق دينا آخر، ولا يتقيد بملة غير التي كان عليها.
- أو يخرج الإنسان من دينه متحولا إلى ديانة أخرى.
* الخروج إلى "اللا دين"، وهو الإلحاد:
غالبا ما يكون الإلحاد نوع من أنواع التمرد على واقع تجربة مر بها الإنسان سلبته خصيصة من خصائص إنسانيته، أو مارست عليه نوعا من القهر والتقييد لم يتقبلها.. فيتمرد محاولا الخروج على سلطان هذا القهر والانخلاع عن ربقة هذا القيد.
وقد يأتي ذلك عن طريق تحول الدين -بفعل العلماء الفاسدين، أو السلطان الظالم الذي يتلبس بالدين ويتخذه ذريعة لتبرير ظلمه- إلى سلطة قهر للإنسان وسجن لحريته.. ويساعد على هذا الفهم الخاطئ ضعف تكوين الشخص وعلمه بدينه.
أو يأتي نتيجة تنشئة دينية غير سليمة تستخدم القهر والإجبار وسيلة لها، وذلك بسبب جهل القائمين على هذه التنشئة في البيت والأسرة أو في المدرسة أو المسجد، ومحاولتهم إجبار هذا الشخص على الطاعة.
فيكون الإلحاد نوعا من التمرد على واقع لا يحقق الصورة المنشودة لدى الشخص ويتصادم مع صورة مثلى يتمناها هو ويرسمها في مخيلته.
والأصل أن الله خلق الإنسان وفي أصل فطرته الإيمان، وأن دور التنشئة أن تربي هذا الإيمان الفطري وتقوي مكانه ودوره في شخصية الإنسان، وأن تهيئ المناخ لأن يقوم الإنسان بالاختيار الحر لما ستكون عليه حياته.. لا أن تجبره على التدين أو الطاعة، فالطاعة لا تأتي قبل الإيمان، وإنما هي من نتائجه؛ فالإنسان إذا آمن بالله أحبه، وإذا أحب الله أطاعه وانقاد لأمره.. فحرية الإرادة والعقل المميز تؤدي إلى حرية الاختيار الذي يترتب عليه أن يكون الإنسان مسئولا عن نتائج اختياره.
* الخروج إلى دين آخر، وقد يكون السبب في ذلك:
- أن يُغلب الإنسان على عقله ومنطقه بسبب ضعف تأسيسه وقلة علمه في دينه، فلا يصمد أمام أية مجادلة من صاحب دين آخر فيتشكك ويتلجلج، فيترك الفطرة السوية المقبولة المحكمة، إلى عقيدة أخرى تواجه كثيرا من علامات الاستفهام عند من لديه عقل ومنطق.
فالإنسان إذا تأمل في القرآن الكريم يجده قد تحدى عقول من لا يؤمنون به مطالبا إياهم بالتفكر والتدبر والنظر، لأن يفهم القرآن جيدا يجده متسقا ومتماشيا مع طبيعة الكون ونواميسه.. وهذا مما تفردت به هذه الرسالة الخاتمة.
- أن يواجه الإنسان إغراء ما يدفعه إلى تغيير دينه، ومحاولة لإشباع بعض الرغبات أو الشهوات لديه، فالمبشرون -مثلا- يستغلون ظروف بعض المجتمعات التي قد تعاني من ظروف اقتصادية أو اجتماعية صعبة، ويعملون على مساعدة أهلها في التغلب على ما يقاسونه داعين إياهم إلى التحول إلى دينهم.. وتحت وطأة الحاجة قد يستجيب البعض بالفعل إلى هذه الدعوة، وقد يظهر آخرون التحول حتى يحصلوا على المكاسب المعروضة ويبطنون التمسك بدينهم.(45/76)
- أن تنقطع صلة الإنسان بأهل دينه ومجتمعه، سواء كان انقطاعا ماديا.. بهجرته إلى مجتمع غير مسلم، وعدم وجود من يعينه على دينه في غربته؛ أو يكون انقطاعا معنويا بغياب مشاعر التواصل والتراحم بينه وبين أعضاء المجتمع المسلم الذي يعيش فيه.. فلا يجد صلة للرحم، أو عدم وفاء الأصدقاء أو غيرها من مظاهر الانقطاع أو الانعزال عن المجتمع.
وفي المقابل يجد مجتمعا بديلا يحتضنه، ويصنع له صورة من التواصل يفتقدها في حياته، فتجده شيئا فشيئا يتأثر بهذا المجتمع الجديد المصنوع، حتى يصل الأمر إلى تأثره بعقيدتهم.. خاصة إذا كانت علاقة هذا المجتمع الجديد به مقصودة ومصنوعة ومرتبة.
كانت هذه -من وجهة نظري- الأسباب العامة لخروج إنسان عن دينه، ويحتاج الأمر -إذا أردنا دعوة من تعرض لهذه الفتنة- أن نعرف الأسباب التي كانت وراء تحوله ونحددها حتى نستطيع التعامل معها وعلاجها.
* وأحسب أن أهم ما نحتاج إلى التركيز عليه في دعوة من وقع في هذه الفتنة هو:
- أن نعمل على حسن تأسيس الإيمان لدى المسلم ابتداءً، حتى يتمكن من دينه عن قناعة ولا يكون من السهل وقوعه في مثل هذه الفتنة.. فلا يجوز التقليد مجال العقيدة، ولكن يجب على المسلم أن يؤمن بدينه عن قناعة وتفكر وتدبر في آيات الله وتعايشٍ معها.
- حسن تقديم الإسلام.. تقديمه رحمة للعالمين، تقديمه كأخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، خاصة الأخلاق الاجتماعية، فإذا لم نستطع أن نوجد الدولة التي تحكمها قيم الإسلام، فعلى الأقل نسعى لإيجاد المجتمع الخلوق الرحيم، الذي يسوده العدل والتراحم والتواصل الإنساني السوي.
- أن يتم مناقشته مناقشة عقلية لدحض ما يواجهه من شبهات.
- أن يحكمنا في دعوته الحب والرحمة به والصبر عليه، وأن نريه منا صورة الإسلام بشكلها السليم والناصع، وأن يرى منا الحب الخالص لوجه الله.
ومع الوقت والصبر يمكن أن نرد هذا الشارد إلى حظيرة الإسلام والإيمان مرة أخرى بإذن الله، إذا كان فعلا يريد الحق.. والله المستعان.
** وبعد هذه الإجابة الطيبة للدكتور مجدي سعيد بارك الله فيه، نقدم لك هذه الإجابة الصوتية لفضيلة الأستاذ الدكتور طلعت عفيفي، والتي نلخصها لك في الكلمات التالية:
بالنسبة لمن كان مسلما ثم تعرض لفتنة الارتداد، فإن الواجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أوصلتها إلى هذه الفتنة، ومعالجتها.. فإذا عرف الداء أمكن وصف الدواء المناسب له.
فربما كانت هناك شبهة تسببت في اتخاذه هذا القرار..
وربما كان الجو العام الذي كان يحيط به هو السبب، من ظروف اجتماعية أو اقتصادية..
ومن الضروري توفير الصحبة الصالحة التي يمكنها أن تأخذ بيده، فيحيط به أصحابه وأصدقاؤه ومعارفه حتى يأخذوا بيده، لا أن يشتدوا عليه أو ينفضوا عنه.. لأنه كالغريق يحتاج إلى من يمد له يد العون.
استمع إلى إجابة فضيلة الأستاذ الدكتور طلعت عفيفي
دعوة المرتد
** ويضيف الدكتور علاء السيوفي:
أخي الكريم؛
إن الله عز وجل قد خلق القلب وجعل حاله كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء) رواه مسلم، ويقول الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ....... وما القلب إلا أنه يتقلب
ويصف صلى الله عليه وسلم القلب فيقول: (لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وهو رسول ا صلى الله عليه وسلم وخير البشر، وأحبهم إلى الله.. ومع ذلك يدعو أن يثبت الله قلبه على الإيمان.
ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يراقبون قلوبهم أشد المراقبة، حتى إنهم ليعلمون متى يزيد الإيمان فيها ومتى ينقص، بل ويعلمون ما الذي يُزيد الإيمان في قلوبهم وما الذي ينقصه؛ وحديث حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه في هذا مشهور ومعروف؛ وهذه هي طبيعة القلب أنه ساعة يزيد فيه الإيمان وساعة يقل، ويجب على المؤمن الحرص الشديد على الحفاظ على إيمانه من النقصان ومن التأثر السلبي بأمور الحياة الدنيا.
وفي هذا كله دلالة على أن الذي يثبت القلوب هو الله، وأن المسألة تحتاج من الإنسان بعض المقدمات التي أهمها الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه في الحفاظ على إيمانه.
* وأما عن دعوة المسلم الذي حسن إسلامه في فترة، ثم ارتد عن الإسلام فمن أهمها:
1- ملازمته وعدم البعد عنه، ومحاولة تذكيره بالأعمال الصالحة التي كان يعملها أيام إسلامه.
2- تهيئة المناخ الإسلامي الذي يحيط به من محبيه وإخوانه المسلمين الحريصين عليه.
3- تقديم يد العون له بصفة مستمرة، ومحاولة معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا التحول لديه ومعالجتها بحكمة وتروٍّ، وبدون مواجهة حادة حتى لا يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية معه.
4- الدعاء له بظهر الغيب، فإن له أثرًا كبيرا، وهو مستجاب بإذن الله تعالى، ولكن ينبغي أن يكون فيه إخلاص.(45/77)
5- مراعاة حال زوجته وأولاده إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فقد تكون الزوجة أحيانا سببا في كثير من الخير أو في كثير من الشر، وإن كانت مسلمة فينبغي أن تدفع في سبيل إعادته إلى حظيرة الإسلام.
أسأل الله له الهداية والأوبة العاجلة، وأن يفتح الله قلبه للهدى والخير.
=====================(45/78)
(45/79)
توبة الملحد
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم..
أنا من أتباع الشيوعية، ومن معاديّي الإسلام، ومن الناس الذين أشركوا بالله، وكذبوا باليوم الآخر، وها أنا الآن قد سئمت من حياتي، ومن كل ما صنعت يداي، وأريد التوبة والمغفرة، وقد نويت الالتزام.
أريد أن يكون ذلك عن طريق هذا الموقع، سائلاً منكم أن تدلوني على الطريق الصواب، وإن كان في الإمكان أن أتعلم الإسلام، وأن أكون من شيوخ الإسلام على أيديكم ومن موقعكم هذا.
وأنا جاهز أن أكون في كل محاضرات وتعاليم الإسلام.
كما أريد أن أعلم شيئًا عن هاتين الآيتين: (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرِك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا)، (إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
هل معناها أن الله لا يغفر لمن يشرك به أحدًا و لو تاب عن ذلك؟؟
مع العلم أني في الأساس مسلم مُرتد عن الدين.
وشكرًا.
الأخ الحبيب هيثم؛
حمدًا لله سبحانه أن أعادك إلى بحبوحة رحمته، ورضوان طاعته، ومرحبًا بك أخًا مسلمًا مع أهل الإيمان، تزيد بهم ويزيدون بك، وتقوَى بهم ويقوون بك.
وهنيئًا لك ذلك النعيم الذي فتح الله له قلبك، نعيم الطاعة وحلاوة القرب من الله والأنس به سبحانه، والاطمئنان بمعيَّته، ففي الدنيا جنَّةٌ، مَن لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة، تلكم هي جنَّة القرب من الله والأنس به.
وما هداك الله سبحانه إلى رحابه، وأنقذك من خبيث الشرك ودرن المعصية، إلا لأنَّه يحبُّك، وإلا لتركك كالكثيرين ممَّن هانوا عليه فتركهم يرتعون في عفن المعصية وحمأة التمرُّد على الحقّ، فإنَّه سبحانه ما عُصي في الدنيا إلا بإرادته الكونيَّة، ولو شاء لهدى الناس جميعًا، ولكن تركهم، فعصاه عاصيهم لهوانه على الله، وأطاعه طائعهم لمكانته عند الله.
فالله - عزَّ وجلَّ - يُعطِى الدنيا مَن يحبُّ ومن لا يُحبّ، ولكنَّه لا يُعطِى الدين إلا لمن يحبّ، ولا يهدي لرحابه إلا من يريد أن يقرِّبه منه ويدخله جنَّته في الدنيا قبل الآخرة.
فهنيئًا لك - أخي - هذه التوبة وتلك الأوبة، وهنيئًا لك هذا الرجوع إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها.
واعلم أنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها، كما أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأنَّ خيار الناس في الجاهليَّة هم خيارهم في الإسلام، ولأن الله مَنَّ عليك بنعمة الإيمان، وأنقذك من دنس المعصية، فإنَّه مِن شُكر هذه النعمة أن تنتقل إلى الإسلام بخير ما أودعه الله فيك من علمٍ ومعرفةٍ ومن إمكاناتٍ ومواهب، فتسخِّر كلَّ ذلك في الدعوة لدين الله والذَّوْد عنه، وتفنيد شُبَه خصومه ودحض حججهم، وأنت بذلك أعلم ممَّن لم تكن له مثل تجربتك، ومَن لم يطرق ما طرقت من ميادين، فالذي يعرف الشرَّ والجاهليَّة أكثر من غيره قدرةً على أن يتصدَّى لها فكريّا، وعلى أن يفضحها أخلاقيّا وقيميّا.
وإن تكن ذنوبك عظُمَت فالله أعظم، أو كثُرت فالله أكثر، وكم من حائدٍ عن طريقه أصبح من أخلص أوليائه، وكم من محاربٍ له أصبح محاربًا عن دينه ومنهجه، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد كان الفضيل بن عياض قاطعًا للطريق، ثمَّ أصبح من علامات الطريق إلى الله وأدلَّته.
وجاء عمير بن وهب من مكة متوشِّحًا سيفه عازمًا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاد وقد فتح الله قلبه للإيمان، وأخذ على نفسه عهدًا ألا يدع موطنًا نال فيه من الإسلام ونبيِّه إلا ويدعو فيه إلى الإسلام ويذُبّ عنه.
على أنَّني - أخي الكريم - يُهمُّني أن أتوجَّه إليك ببعض النصائح - والدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامتهم -:
أوَّلاً: لقد عشتَ وحشة البعد عن الله، وجرَّبتَ معصيته، ثمَّ ها أنت ذا تعود إلى رحابه بفضلٍ منه سبحانه، فاستمسك بهذه النعمة العظيمة التي منَّ الله بها عليك، وأدِّ حقَّها، وحقُّ النعمة شكرها، وشكرها كما يكون باللسان والقلب يكون بالعمل، والعمل هنا يتمثَّل في أكثر من ناحية:
- يتمثل في أن تعمل دومًا على الارتقاء بذاتك علميّا بالمعنى الشامل للعلم: العلم الشرعي الذي تصِح به عقيدتك وعبادتك وقراءتك لكتاب الله، ولئن كنتَ قد أمضيت سنوات تطَّلع فيها على أبواب من المعرفة قد تكون نافعة، لكنها لا تبنى شخصيتك المسلمة، فإنه حق عليك الآن بعد أن عرفت الحق أن تلزمه، ولن يكون ذلك إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، ولذا فإني أنصحك أخي أن يكون لك منهج في الانفتاح على العلوم الشرعية، ولنبدأ بما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة بسند صحيح.
والعلم الذي هو فريضة هو الذي لا يسع مسلمًا الجهل به في جوانب: العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق.
فلتتعلم ما تصح به عقيدتك، وتصح به عبادتك، وتسلم به معاملتك، من بيع أو شراء أو تجارة أو نكاح أو غيرها، وتستقيم به أخلاقك؛ لأن أكثر ما يدخل الناس الجنة حُسن الخلق، كما ورد عن الصادق المصدوق r.(45/80)
فإذا أسستَ هذا الأساس، فلتنتقل إلى البناء المعرفي المتكامل من العلوم الشرعية، وهذا بالطبع لن يكون بين عشية وضحاها، ولكن يتحقق بالجهد والإخلاص في طلب العلم.
وهذا باب واسع، ولكن لا أقل من قدر من الإلمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وشيء عن علوم القرآن والحديث الشريف، مع الاهتمام بواقع المسلمين، فمَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
وأرجو أن يكون في موقفنا هذا ما يدلك على منهج للبناء العلمي والمعرفي في هذا السبيل.
ثم لنعمل على الارتقاء بنفسك روحيّا، فالعلم سبيل إلى العمل، والقلب له حياة وغذاء، كما أن الجسد كذلك، ولا شك أنك بتجربتك التي خُضتها، وبالإيمان الذي أفاض الله به عليك تعلم ذلك وتحسه.
ولهذا لابد أن تعمل دومًا على الارتقاء في هذا الجانب، وذلك أيضًا بقدر من التعلم من كتب القوم، كمنهاج العابدين للغزالي، وأخبار الغزالي أيضًا، وتقوى القلوب لأبي طالب المكي، والرسالة التفسيرية شرح الحكم العطائية، إلى غير ذلك من الكتب التي رسم بها هؤلاء الأعلام الطريق إلى الله تعالى والمسلمون معاني الإخلاص والتوكل والتسليم والصبر والرضى، على أن العلم هنا لا ينفع وحده، بل لابد من السلوك، فليكن لك زادك الروحي من ورد قرآني، ومحافظة على أذكار الصباح والمساء، وحبذا لو استمسكت بركعتين في جوف الليل أو صيام بعض النوافل.
ثم يأتي دورك كمسلم، مُطالَب أن يقوم بدعوة غيره إلى الإيمان والطاعة على أنني هنا - أخي الكريم - أنبهك ألا تتصدى لقضايا خلافية أو تدخل في مشكلات فقهية، ففي أساسيات الإسلام والإيمان، وفي المتفق عليه، كفاية لأن نقوم بدورنا في الدعوة.
وكل مسلم قادر على أن يقوم بواجبه في الدعوة إلى الله بعمله الصالح وسلوكه القويم، وبالحكمة والموعظة الحسنة، في الأمور الواضحة البيّنة التي يجهلها كثير من المسلمين.
واعلم أن إخلاص الداعية وصدقه هو أهم ما يؤثر فيمَن يدعوه، ولعلك بإخلاصك وصدقك في نقل تجربتك لآخرين ستكون إن شاء الله خير هادٍ لغيرك ممَّن لا يزال بعيدًا عن الله سبحانه وتعالى.
ثانيًا: اعلم يا أخي أن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فهنيئًا لك هداية الله، ويُحمَد لك رغبتك الدافعة في أن تتعرف على أمور دينك، وأن تكون من دعاته، ولكن الأمر - أخي - يحتاج إلى رفق وتؤدة، حتى تقيم بناءك الروحي والعلمي بشكل صحيح، فإياك أن تأخذك العاطفة والحماسة، فتندفع تريد أن تعرف كل شيء وتقوم بكل شيء، وتتصدى لكل باطل، هكذا بلا تدرج ولا تخطيط.
فالتدرج سُنَّة من سنن هذا الدين، ومعلم من أهم معالمه، هكذا علمنا الله سبحانه، فقد ذمَّ الخمر مرتين وحرمها في الثالثة، وبدأ بتأسيس العقيدة، واستغرق في ذلك المرحلة المكية بأكملها، ثم شرع في بناء المجتمع والدولة، فنزلت التشريعات تنظم حياة الناس، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها: (إنما نَزَل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المُفصَّل، فيها ذِكْر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنُوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا) رواه البخاري.
والشاهد من هذا - أخي - أن التدرج في التعبير لابد منه، فلتبدأ في بناء ذاتك روحيّا وعلميّا، وبالالتزام عباديّا وأخلاقيّا، ولكن حبذا لو كان ذلك رويدًا رويدًا، وفي الحديث القدسي العظيم قوله تعالى: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه) رواه البخاري.
فانظر كيف بدأ عز وجل بالفرائض، وجعلها أفضل ما يتقرب إليه سبحانه به، ثم ثنَّى بالنوافل، وعدها طريقًا لنيل محبة الله سبحانه.
ومن مقولات أبي بكر في نصيحته لعمر - رضي الله عنهما - عندما استخلف على الناس: (اعلم أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة).
والإنسان - أخي - لا يولَد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقه.
وقد رأينا نماذج عديدة لأناس اندفعوا بحماس شديد في طريق الهداية، لكنهم لم يثبِّتوا أقدامهم على الطريق، فكان أن عادوا من حيث أتوا - وقانا الله وإياك ذلك - أو فترت همتهم بعد حين.
وفي الحديث: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) رواه أحمد بسند صحيح.
أي أن العمل له فترة اندفاع، يبلغ فيها ذروته، ثم يعتريه فتور بعد الاندفاع، لكن هذا الفتور ينبغي أن يكون في حدود الهدي النبوي العظيم، وإلا ضل صاحبه، (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).(45/81)
لذلك - أخي الكريم - أرجو أن تكون حماستك المحمودة ورغبتك القوية في أن تستدرك ما فاتك وتستقيم على طريق الله، أرجو أن يعقبها سير هادئ متزن في طريق الله، تثبت به الأقدام على طريق الهداية، ويستنير فيه العقل والقلب، وتكون بمشيئة الله سبحانه من دعاته العاملين الثابتين على طريق الهداية.
أما بالنسبة لتساؤلك عن قول الله سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرِك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا)، وقوله عز وجل: (إنه من يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)، فالمعني أخي الكريم أن الذي يموت على الشرك - والعياذ بالله - قد حُرِم من ولوج هذا الباب العظيم، وهو وقوعه تحت رحمة الله في الآخرة، وحُرمت عليه الجنة ومأواه النار.
أما أن الله لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك، أي أن الإنسان ما لم يمت على الشرك بل مات موحدًا على ملة الإسلام، فهو في مشيئة الله سبحانه بالنسبة لذنوبه التي ارتكبها، إن شاء سبحانه عذَّبه عليها، وإن شاء غفرها له بفضله سبحانه، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقِب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، و إن شاء عفا عنه) متفق عليه.
أي أن من ارتكب ما يوجب معاقبته في الدنيا ووقعت عليه العقوبة فهي كفارة له، أي لا يُعذَّب بهذا الجُرْم في الآخرة.
ومن ارتكب ما يوجب الحد ولكنه لم يُقَم عليه، وظل ذنبه مستورًا عن العباد فهو في الآخرة تحت مشيئته سبحانه، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ذلك إذا مات على ملة التوحيد.
أماتنا الله وإياك على ملة التوحيد، وجمعنا في فردوسه الأعلى.. آمين.
=============(45/82)
(45/83)
دعوة الملحدين للحق
الإخوة الكرام؛
أريد منكم أن ترشدوني إلى الأسلوب الأفضل لدعوة ملحد، وما الذي أحتاجه حتى أؤثر فيه أو أقنعه؟
يقول الشيخ عماد أبو الرب، إمام المركز الإسلامي في كييف:
أخي الكريم؛
إن التعامل مع الملحدين بهدف دعوتهم تحتاج إلى معرفة بعض الأسس، حتى يستطيع المسلم المتصدي لهذا الأمر أن يحفظ نفسه من الزلل في شبهاتهم من ناحية، وأن يعرف مداخل التأثير فيهم من ناحية أخرى.
وللإفادة أضع بين يديك -أخي الحبيب- هذه المعلومات المختصرة حول الإلحاد، لتكون ركائز لك لتبني عليها وتضيف، حتى نصل معًا إلى دعوة الآخر بعلم وفهم وحكمة:
* تعريف الإلحاد:
الإلحاد هو مذهب فئة أنكرت وجود الله وما آمنت به، وهو صديق الجهل كما قيل: (الإلحاد صديق الجهل)؛ وهناك ملحدون لا يعترفون بإله لهذا الكون لأنهم لا يرونه، فهم لا يؤمنون بشيء غير محسوس!! رغم أن العقل البشري يعلم أن حواسنا قاصرة عن معرفة أو إثبات وجود كل شيء، ولهذا صحّ ما قال البعض عن الإلحاد: أنه عدم العلم.. لا العلم.
ولفهم قضية الإلحاد أذكر لك بإيجاز النقاط التالية:
- الملحد يقيم إيمانه على عمى، بينما المسلم يقيم إيمانه على بصيرة.
- يستند الكثير من الملحدين لقانون السببية الذي يعني أن هناك سببا من وراء كل عمل، والمسلمون يعلمون أن هذا القانون هو عمدة براهين إثبات وجود الله.
- ذكر علماء الفلسفة أن الشيء لا يكون علّة نفسه، فلا بد من وجود علّة أولى هي الله الخالق لكل هذا الوجود.
- من المعروف أن اليهود ساهموا في نشر الإلحاد خاصة في القرن السابق من خلال نشر نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي، ونظريات فرويد وغيرها.. مستغلين محاربة الكنيسة للعلم واضطهادها له، ومما قاله دعاة الشيوعية المنهارة:
ماركس: الدين أفيون الشعوب، لينين: الإلحاد هو شيء طبيعي في الماركسية بل هو روح الماركسية.
- من خطورة الإلحاد أنه يؤدي بالإنسان إلى الكفر بيوم القيامة، وبالثواب والعقاب، وبالجنة والنار، وبكل المعتقدات والعبادات لتي بها ينال العبد رضاء ربه، وكذلك يصلح حال البشر في الدنيا، ويكفيهم عقابًا أن طمس الله على قلوبهم.
* أنواع الإلحاد:
1- الإلحاد الإنكاري "إلحاد كامل":
وهو لفئة قرأت وتعمّقت في دراسة وجود الخالق لكنها وصلت إلى إنكار وجوده، وبالتالي رفض الأديان جملة وما يتعلق بها؟!! وهذا النوع مخرج عن الملة لأنه أوجب الكفر.
2- الإلحاد الرافض "إلحاد جزئي":
وهو لفئة تعلم أن الله موجود، لكن غلبت عليها شقوتها وباتت تتصرّف كأن الله غير موجود، فتنتهك المحرّمات وتسخر من الدين.. وهذا النوع يمكننا أن نطلق عليه الإلحاد الكاذب، وهو مخرج عن الملة كذلك، غير أنه في منزلة أقل من سابقتها.
ومن هنا لا بد معرفة المخاطبين وأفكارهم للبدء منها والبناء عليها، ولا بد أيضا معرفة أسباب الإلحاد.
* أسباب الإلحاد:
يتعجب البعض ويتساءلون: وهل للإلحاد أسباب؟؟!!
نقول ببساطة، بما أننا بشر وتراودنا الأفكار المتناقضة فلا بد من وجود أسباب يمكنك بمعرفتها أن تضع يدك على ما تواجه به صديقك، ومنها:
1- الأهواء البشرية:
فحب الشهوات من غريزة جنسية ومال وعجب وغرور وكبرياء يجد فيها الملحد ضالته، فهو يريد أن يفرغ شهوته بدون ضوابط ولا حساب ولا عتاب، ويحب أن يجمع المال كيفما شاء وينفقه فيما شاء دون أن يجد محاسبة وتقييدا له في حياته، وحبه للظهور والخروج عن المألوف بين معارفه فيظهر نفسه كأنه الأكثر فهما وجرأة.. والكثير من الأهواء التي تعتري البشر فتوصلهم أو تسهل عليهم الإلحاد والعياذ بالله.
2- الرغبة القاصرة:
لأن الملحد عندما يخاف وجود الله يفكر في إنكاره ويصل بعدها لعدم الإيمان به.
** نصائح في مناقشة الملحدين:
1- لا بد لمن تصدى لمناقشة الملحدين والرد عليهم من أن يخلص نيته لله تعالى، فبها وحدها ينال الأجر والثواب العظيم من الله العلي الحكيم.
2- لا بد من ثقافة ووعي في الدين يعينه على أن يحصن نفسه بداية، وأن يعرض بعدها لغيره الحجة الدامغة والدليل القاطع على كلامه وحديثه، خاصة أن الملحد يرفض مبدأ الإيمان القلبي بوجود الله لإصراره على معرفته بحواسه.
3- لا بد من استخدام الحجة العقلية والدليل المنطقي مع الملحدين، وعليك أن تحذر من الأساليب الفلسفية وقلب الحقائق وطرح المتناقضات.. وهذا يعني أن تبدأ النقاش معه عن سبب الوجود ومصدره، كونها أصل الموضوع؛ ثم عن صفات الموجد وهو الله؛ ثم عن الإسلام.. وهكذا حتى تصل به إلى الفهم المطلوب.
4- لا بد أن تتفق وإياه على قواعد للحوار بحيث لا يجوز تجاوزها، وإن وصلتم إلى طريق مسدود فتذكر قول الله تعالى: (ومن أظلم ممَّن ذكِّر بآيات ربِّه فأعرض عنها ونسي ما قدَّمت يداه إنَّا جعلنا على قلوبهم أكنَّةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذًا أبدًا).(45/84)
5- تذكر أن الإيمان يدخل القلب عن طريق العقل ثم يستقر في القلب عاطفة، وهذا هو أسلوب القرآن الذي خاطب العقل ولفت انتباهه ومداركه للكون والحياة، كما أنه لا يستطيع أن يقيم الدليل على عدم وجود الله لا بالعقل ولا بالنقل.
6- ذكّره بداية أن إثبات وجود الله ليس كإثبات أن الماء يتكون من الهيدروجين والأوكسجين، فالإنسان -كما هو معروف- محدود بقدراته، كما قال أرسطو: (الإنسان كائن محدود)، وفيه نقص وضعف لا يمكّنه من أن يلم بالله عز وجل، ثم إن هناك موجودات لا نراها ولا نستطيع إثبات وجودها.
7- استفد من كلامه المتناقض، فقوله: أين الرب الرحيم؟ يعني أنه يثبت الله ولكنه يتساءل عن غيابه.
8- اضرب له صورًا افتراضية كالتي يطرحها، فمثلاً قل له ماذا لو سلّمنا أن الخالق موجود، فماذا يكون بعد موتك؟ لا بد أنه سيعينك يوم القيامة إذا كنت من المؤمنين به، أما إذا ما كان هناك خالق فلن تخسر شيئًا سوى بعض الأمور التي حرمت نفسك منها في الدنيا؛ وهكذا تعرض له الفكرة تلو الأخرى لعل الله يفتح على يديك وتجد ما تطرق به قلبه.
9- لا بد من نقض فكر الملحد قبل أن تبني أفكارك، فابدأ بإزالة ثقته بأفكاره وإلحاده والتدليل على وجود الخالق، ثم أتبعها بإزالة الشبهات، مع عرض صورة الإسلام الزاهية.
10- تذكر أن الكثير من النظريات يبنى على عدد قليل من البدهيات، ووجود الله أمر بديهي من الناحية الفلسفية، والكون وما فيه من نظام وتوافق يؤكد صحة هذه البديهية.
أسأل الله أن يجري الخير على يديك، وتابعنا بإنجازاتك.
================(45/85)
(45/86)
حوار ثنائي بين القبطان وحاتم3
حول الإيمان والإلحاد
موضوع الحوار:
• الإيمان والإلحاد
مقدمة قصيرة
هدفي من هذا الحوار هو تعريف موقفي الإلحادي وتبريره في مقابل توضيح ضعف مبررات الإيمان الديني.
بينما هدف زميلي في الحوار سيكون معاكسا، أي تبرير موقفه الإيماني مقابل نقض الموقف الإلحادي.
مجرى الحوار:
- مداخلة افتتاحية من القبطان
- مداخلة افتتاحية من حاتم3
- رد أول من القبطان
- رد أول من حاتم3
- رد ثاني وخاتمة من القبطان
- رد ثاني وخاتمة من حاتم3
الهدف من هذه البنية هو تقنين سير الحوار لئلا يتشعب ويطول كثيرا.
في الحوار الأول من نوعه لن نقوم بعد الكلمات أو الأحرف لتحديد عددها.
هذه هي التجربة الأولى، وهناك الكثير من الأخطاء الإجرائية التي قد نقع فيها.
ولكن الأمل هو أن نتعلم من هذه الأخطاء فنقوم بتلافيها في المستقبل.
القبطان
-----
مقدمة:
كتبت "مقالات في الإلحاد" على شكل خواطر في منتدى أثير قبل سنة ونصف..
(تم ازالة الرابط)
ثم نشرت جزءا أول من هذه النصوص في موقعنا:
(تم ازالة الرابط)
وطالما خطر لي أن أكتب نصوصا أكثر تفصيلا، بمنهجية مختلفة، وإلقاء الضوء على جوانب أخرى، خصوصا وأن المكتبة العربية تشكو من نقص حاد في هذا المجال.
ولكن الوقت لم يساعدني في ذلك.
وهذا الحوار هو خطوة أولى، لتعميق النقاط المطروحة.
أشكر الزميل حاتم3 على مشاركته في هذا الحوار.
وأرجو له ولبقية الزملاء وقتا طيبا.
أولا:
تعريفات مبدئية:
- الآلهة:
كائنات "فوق الطبيعة" تؤثر في الطبيعة بطرق شتى دون أن تخضع لها، وتختلف في صفاتها حسب الثقافة التي تنتجها.
ولكن موضوعنا الأساسي سيتعلق بالإيمان الإسلامي، وهنا لدينا "الله".
وهو كائن لا يخضع للزمان أو المكان
مطلق القدرة، مطلق المعرفة
خلق الكون والإنسان بتخطيط وإرادة
يؤثر في الكون حاليا (يدبره)، يتواصل مع البشر، خصوصا مع بعضهم (الرسل والأنبياء)
لديه اهتمام بالسلوك البشري، ويخطط لمكافأة البعض ومعاقبة الآخرين، خصوصا بعد موتهم (خلود الروح).
والكثير من الصفات الأخرى تبعا لنصوص القرآن والسنة وغيرها من أعمال الأجيال الإسلامية التالية.
- الإلحاد:
عدم الإعتقاد بما سبق وصفه.
لا يهمني في هذا السياق الأصل اللغوي للكلمة، أو التعريفات المتباينة لها، علاقتها بمدارس فكرية مختلفة، أو أن كلمات أخرى أقل شيوعا قد تكون أكثر دلالة (مثلا الدهرية، الطبيعانية..الخ)
ثانيا:
الإيمان والاعتقاد:
جميعنا نعتقد بأشياء كثيرة في حياتنا اليومية، بعضها عادي، ولا يستحق الذكر في أغلب الأحيان أو قد لا ندري أننا نحمل هذه المعتقدات.
الكثير من هذه المعتقدات ننسخه من المحيط الاجتماعي حولنا، من التراث الثقافي المحيط بنا.
فنلاحظ لكل مجتمع معتقدات خاصة بما يحدث لأفراده بعد الموت، وطريقة تفسير الكوارث الطبيعية أو التفاوتات في الأوضاع الإجتماعية وتوزيع الثروة أو الصحة والنجاح بين الأفراد.
بوجود هذه التفاوتات يصبح السؤال عن صحة هذه التصورات المتوارثة ضروريا، فمن الصعب أن تكون كلها صحيحة بالشكل نفسه، ولكن قد تكون كلها خاطئة، وقد يكون من الصعب الحسم في هذا المجال..
ليصبح الاعتقاد مبررا، فهو يحتاج إلى أدلة تدعمه لترجيح صحته.
بعض هذه المعتقدات "استثنائي"، والمعتقدات الإستثنائية تحتاج إلى أدلة استثنائية، دون ذلك فنحن نرفض مثل هذه المعتقدات دون أن نبرهن على خطئها.
فقد أعتقد أن لدي ما يكفي من اللبن في الثلاجة، ثم أذهب لأتأكد، فأكتشف خطأي.
ورغم ذلك فمن المبرر عادة أن نصدق شخصا يزعم بوجود اللبن في ثلاجته، لمجرد أنه يقول ذلك.
بينما من يزعم بأن لديه تنين في بيته، فهو لن يحظى بهذه السهولة بالتصديق حتى ولو أرانا صورة له (فقد تكون مزورة..الخ).
سنختار لهذا الحوار الاعتقاد الشائع بوجود الله..
الزعم بوجود إله أو آلهة، هو زعم استثنائي بكل المقاييس.
فلم ير أحد منا إلها في حياته اليومية، ولا يعرف أحد شكل مثل هذا الإله، ملمسه، أو يستطيع التخاطب معه للتأكد من أفكاره حوله.
ولذلك فهذا الإعتقاد بحاجة إلى أدلة استثنائية لتبريره.
وهذا ما نراه في ردة فعل كل المؤمنين بدين معين تجاه إيمان الأديان الأخرى.
عدم تفهم للغيبيات المختلفة عن قناعاتهم، ورفض مباشر مع الإشارة إلى نقص الأدلة لتبرير هذه المعتقدات، والبحث عن تبريرات أخرى، غير غيبية، لهذه المعتقدات.
ما نراه لدى جميع الأديان هو عدم وجود أي أدلة استثنائية، تتناسب مع الطبيعة الاستثنائية للزعم بوجود الآلهة.
وإنما بالدرجة الأولى آليات اجتماعية ثقافية لانتقال المعتقدات بشكل وراثي بين الأجيال.
وكما أن المؤمن بالله يرفض وجود إله الإغريق "زيوس" لعدم كفاية الأدلة، فكذلك يرفض الملحد وجود "الله" لعدم وجود الأدلة.
لذلك فعلى المؤمن بإله أو آلهة أن يبرر إيمانه بأدلة استثنائية.
ويكفي لتبرير الموقف الإلحادي، أن أظهر ضعف هذه الأدلة وعدم تماسكها.
بينما ليس من الضروري لتبرير الإلحاد بالمعنى الذي أقصده أن أبرهن على عدم وجود هذه الآلهة.
أو حتى تقديم تفسيرات بديلة.(45/87)
(البعض يسمي هذا الموقف "الإلحاد السلبي"، أو اللاأدرية المعرفية مع الإلحاد العملي)
ثالثا:
مع ذلك سأمر على الأدلة المعتادة لتوضيح نقاط ضعفها:
المعجزات والكوارث الطبيعية والظواهر الخارجة عن المألوف:
هذا هو الدليل الأكثر رواجا في المعتقدات الشعبية لتبرير فكرة النبوة (القرآن معجزة محمد)، أو تجسد الآلهة (المسيحية، الهندوسية).
وهي أهم دليل على الإهتمام المفترض الذي توليه الآلهة بالجنس البشري، والتخاطب معه والتدخل في مجرى حياته والتعامل مع سلوكه بالرضى أو الغضب.
ولكن يكفيني عدم اعتراف المعتقدين بدين بمعجزات الأديان الأخرى، لكي نرى التأثير "المحلي جدا" لهذه المعجزات.
فهي وليدة ثقافتها، والأغلبية الساحقة لهذه المعجزات قد حصلت في عصور سحيقة، بذلك يصعب التأكد من حصولها، بينما الإيمان بها لدى أبنائها لا يتأثر بضعف الأدلة.
كل من يزعم بوجود معجزة عليه أن يشير إلى أدلة استثنائية على أن التفسير الإعجازي هو الوحيد الممكن.
دون ذلك فالمعجزة تبقى في "عين المؤمن"، والطريقة الأمثل لدراستها هي علوم الاجتماع والنفس (انتشار الإشاعات، خداع الحواس..الخ)، وليس العلوم الطبيعية، ناهيك عن صحة النتائج الدينية التي تستتبع ذلك.
العلة الأولى:
"نظرا لأن لكل شيء سبب، فلا بد لهذه الأسباب أن تلتقي في سبب أول، هو الله".
نقطة الضعف الأساسية هي أن افتراض وجود "سبب أول" ينقض الفرضية الأولى، وهي أن "لكل شيء سبب".
بعد ذلك تبدأ دوامة طويلة، لتبرير الرغبة في استثناء الله من هذه السببية.
فيصبح البرهان دائريا.
أي عوضا عن الانطلاق من فرضية عامة، إلى استنتاج خاص.
يتم تفصيل البرهان ليناسب النتيجة التي يريد المؤمن التوصل إليها.
ناهيك عن أن قاعدة "لكل شيء سبب" إنما استنتجناها من ملاحظاتنا للظواهر ضمن الكون.
وهذا يدخلنا في مشكلة الاستقراء، حيث قد نكتشف ظاهرة جديدة ليس لها مسبب، فتسقط القاعدة وجميع استنتاجاتها.
ناهيك عن أن تعميم صفات الأجزاء على الكل، هو مغالطة لا مبرر لها.
أي حتى إن كانت جميع الأشياء ضمن الكون لها سبب، فهذا لا يسمح بالاستنتاج بأن للكون سبب أيضا.
ولكن حتى في حال الموافقة جدلا على العلة الأولى (رغم عدم خبرتنا بأي "علة أولى" حولنا)، فلا يوجد أي مبرر لافتراض أن "الله" هو تلك العلة الأولى.
فالعلة الأولى كما يتم استنتاجها لا تظهر صفات أخرى تزيد عما يحتاجه ذلك البرهان، فهي ليست بالضرورة واعية، عالمة أو مطلقة القدرة..الخ
فقد يكون الكون، أو ظاهرة طبيعية أخرى، هو تلك العلة الأولى.
في بداية القرن العشرين أظهرت التجارب الفيزيائية والنظريات الحديثة لتفسيرها (النسبية، الكم)، تناقضات جوهرية مع المفاهيم المعتادة، طالت مفهوم السببية، ومفاهيم الزمان والمكان.
بذلك أصبحت مقولة "لكل شيء سبب"، هي مجرد تعبير عن عادة فكرية من الحياة اليومية، ولكن لا يمكن تطبيقها بهذه البساطة على جميع الظواهر في الكون.
بمعنى آخر فالسببية هي مجرد ربط فكري لظواهر نعتاد على رؤيتها ضمن تتابع زمني، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن علاقة سببية حقيقة في عالم الواقع خارج تفكيرنا.
الغائية:
أو حجة التصميم.. الانتظام في حركة كواكب المجموعة الشمسية، مناسبة الأرض للحياة البشرية، تناسب أعضاء الجسم الإنساني ليعيش حياته.
ألا يظهر ذلك قصدا وإرادة لتتلائم هذه الأمور بهذا الشكل؟
وما هو البديل؟
مشكلة الغائية هو أنها دليل قائم على التشابه. يرى المؤمن الانتظام في الكون، فيقارنه بالانتظام الذي تحققه الأدوات التي اخترعها الانسان لتناسب حاجته، فيقوم بتصميمها حرفي حاذق، يضع مخططا وتصورا في تفكيره، قبل أن ينفذه مستخدما مهارته اليدوية.
فيستنتج من ذلك أن إلها قام بعمل مشابه، فربط الأجزاء بشكل منتظم ليحقق غايته.
ولكن وجود التشابه لا يسمح بافتراض أن سبب الشبه واحد، وهو العقل والإرادة..
فنحن لا نعرف صاحب غاية غير الإنسان، ولا يمكننا تعريف العقل والإرادة بمعزل عنه.
وبذلك فالمقارنة تطرح بين المصنوعات البشرية محدودة العدد، وبين بقية موجودات الكون التي لا نعرف لها غاية. أي أن التعميم هو من مجموعة صغيرة جدا إلى مجموعة أكبر، لا تشبه الأولى كثيرا.
الفيزياء النيوتنية، بقوانينها البسيطة، وتشبيه الكون بالساعة، زادت من محبي هذا الدليل على وجود إله صمم الكون ورفده بقوانين، ثم تركه لينفذ مخططه الكوني.
وذلك على حساب إله المعجزات وتدخله المزاجي في مجريات الحياة البشرية.
ولكن ليس من الضرورة أن يكون سبب الانتظام غاية أو إرادة.
ومن الأصعب تبرير أن الغاية هي تلك التي يزعمها دين معين (خلق البشر لعبادة إلههم، ومعاقبة من يخالف ذلك).
في الفيزياء المعاصرة نرى أن النظام تقابله الفوضى والصدفة، وهي من صفات الكون التي نلاحظها أيضا.
ناهيك عن الصعوبة في تعريف مفهوم "النظام" إذا كان "كل شيء منتظم".
فالفوضى المطلقة بالمعنى الرياضي، تحتوي على انتظامات عديدة كحالات خاصة ضمن تلك الفوضى.(45/88)
والانتظام الذي يظهر في مطابقة الظواهر الطبيعية مع المعادلات الرياضية، ليس إلا نتيجة عملية التبسيط والاختزال الضرورية أثناء البحث العلمي في طرح الفرضيات وفحصها.
بذلك يبدو دليل الغائية مجرد حالة من "الإسقاط النفسي"، ومن بقايا "روحانية الطبيعة" التي ترى في كل الجمادات روحا، يمكن للإنسان مخاطبتها والتعامل معها باستجداء رضاها وتجنب غضبها.
رابعا:
تبريرات إضافية للموقف الإلحادي:
دليل تناقض الأديان:
إذا كانت الغاية الإلهية هي "هداية" البشر إلى دين الإسلام، فقد فشلت في ذلك بشكل غريب.
فالإسلام نفسه انقسم إلى فرق مختلفة لا تتفق بينها على الكثير، وتصعب علي رؤية الغاية الإلهية وراء ذلك.
ومن سكان الأرض ليس أكثر من سدسهم على دين الإسلام (ولو على الهوية).
والسبب الرئيسي في ازدياد عدد المؤمنين بالإسلام إنما هو نسب الولادة المرتفعة في المناطق الجغرافية التي تم إخضاعها لحكم إسلامي خلال القرون الإسلامية الأولى.
بينما تغيير الناس لدينهم (إلى الإسلام أو إلى غيره)، عملية لا علاقة لها بالاقناع أو الإقتناع في معظم الحالات.
بذلك تبدو الطريقة السائدة لتنفيذ المخطط الإلهي لنشر الدين، عبر كثرة الأولاد، أو عبر حروب وفتوحات حصلت في الماضي البعيد ثم توقفت وتراجعت، فكرة غريبة جدا.
إن كان يريد هدايتهم ومكافأة أكبر عدد منهم لعبادتهم له، خصوصا عن اقتناع عميق، فلماذا يعتمد على هذه الطريقة الغريبة؟
هناك طرق أبسط من ذلك بكثير.. خصوصا اليوم في عصر العولمة.
كأن يستخدم التلفزيون، فيحجز جميع الأقنية، كل يوم، في ساعة محددة، ويخاطب البشر بما يحتاجونه (مثلا يتلو لهم القرآن).. دون أن يكون هناك تفسير طبيعي لما يحدث.
الطريقة الحالية تنتج مليارات من البشر الذين لا خيار لهم إلا الذهاب إلى الجحيم لنقص الأدلة المقنعة (رغم "إقامة الحجة عليهم حسب المفهوم الشرعي")، فهي لا تتناسب مع الآليات النفسية للبشر عند اعتناق الأديان أو تغييرها..
دليل التطور المعرفي:
في النصوص المقدسة (التوراة، القرآن) كان الله يتدخل بشكل كثيف في حياة البشر وفي الظواهر التي يرونها حولهم.
مع التطورات في المعرفة العلمية، نرى أن الله يبتعد شيئا فشيئا عن كونه المسبب المباشر لما يحصل في حياة البشر والطبيعة من حولهم. وتحل محله تفسيرات "ميكانيكية".
المطر لم يعد يهطل بسبب تدخل إلهي مباشر، وإنما هناك "دورة الماء في الطبيعة".
الزلازل لم تعد تعبيرا عن الغضب الإلهي، وإنما هناك الطبقات التكتونية وتحركاتها.
لم يتم خلق الكون في ستة أيام، بل هو عملية تستمر منذ 13 مليار سنة حتى اليوم.
وحتى خلق الإنسان لا يبدو نتيجة لصناعته من طين ونفخ للروح، وإنما عملية تطور بطيئة تعتمد على آليات طبيعية "ميكانيكية".
الذي يبقى هو ما يسمى بـ"إله الفجوات".
أي أن الفجوات في المعرفة الإنسانية يتم رتقها باستخدام فكرة الإله.
وكلما تم سد بعض هذه الفجوات بطريقة علمية "ميكانيكية"، كلما انسحب الإله إلى فجوات أخرى ليفسرها حتى إشعار آخر.
تناقض فكرة الإله:
من ناحية معرفية، يكفيني رفض الإعتقاد بإله لضعف الأدلة.
فمن الضروري الحذر في جميع عمليات الاستنتاج والاستنباط المجردة، وتدقيق نتائج التفكير النظري بالتجربة العملية.
وفي حال حصول تناقض بين ما يظهر في التجربة العملية، والتفكير الاستنباطي النظري، فمن الواضح أن علينا تعديل النظرية أولا.
عالم الميتافيزيقيا، هو تفكير نظري محض، ودحضه بالتجربة ممكن حيث يتقاطع العالم الغيبي مع عالمنا (إله الفجوات).
ولكن فكرة الإله لدى أتباعه تبقى زئبقية، فتهرب من التحقق كلما حاولنا الاقتراب منها (إلى الفجوة التالية).
ولكن من الممكن النظر إليها في عالمها الخاص، والتحقق من كونها تحقق على الأقل عدم التناقض الضروري لعالم الأفكار النظرية.
في هذه الحالة نرى قصصا مثل "الله والصخرة"، أو التناقض بين علم الله الأزلي وبين الحرية الإنسانية في الاختيار (كأساس للمحاسبة فيما بعد).
أو حتى التناقض بين علم الله وحريته (راجع المقالات)..
ومن ذلك كثير، بحيث أن الجواب الوحيد المتبقي لدى المؤمن هو "لا ندري"، "ليس من الممكن أن نفهم"، "ما ينطبق علينا لا ينطبق على الله"..
فما فائدة إضافة هذه الفكرة النظرية البعيدة عن التحقق الواقعي، إن كنا لا نفهمها ولا نجيد التعامل معها.
في هذه الحالة يصبح "الله" مصطلحا يستخدم ككناية عن الجهل وعدم المعرفة.
المعضلة الأخلاقية:
كثيرا ما يستعين المؤمنون بإلههم وتعاليمه كمصدر للسلوك الأخلاقي السليم.
ولكن إحدى مشاكل الإيمان بإله كمصدر للأخلاق هو أنها تواجه صعوبات كبيرة في معرفة الرغبة الحقيقية لذلك الإله، عبر معرفة الدين الصحيح، ثم معرفة التفسير الصحيح مع تناقض التفسيرات والتأويلات.
ولكن الأهم من ذلك هو تناقض فكرة الأخلاق مع الإله كمصدر لها.
فهل الخير خير لأنه "خير بذاته" أم لأن لأن الله أمر به فأصبح خيرا.
وإن كان الخير هو ما يطلبه الله، فهذه مشكلة كبيرة. فلا يوجد مقياس أخلاقي على الإطلاق.(45/89)
ولكن على العكس، وقتها نرى تعصب كل شعب لدينه وإبادتهم للآخرين باسم ذلك الإله، دون أي وازع من أي ضمير، فلا شك في الأوامر الإلهية.
بينما إن كان الخير صحيحا بذاته، فمن الممكن قياس أعمال الإله وأوامره (حسب دين معين، مثلا ما ورد في القرآن) على ذلك المبدأ العام.
فيمكننا أن نسأل عن مدى أخلاقية أن يطلب الله من شخص التضحية بابنه دون سبب مقنع (قصة ابراهيم)، أو أن يعذب من لا يؤمن به دون نهاية.
وقتها لا بد لي من رفض هذا الإله، لأسباب أخلاقية.
حاتم3
-----
إنَّ في خلق السَّماوات والأرض واختلاف الليل والنَّهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكَّرون في خلق السَّماوات والأرض ربَّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك"
إتفقنا أنا والزميل القبطان على أن يتقدم كل منا بمداخلة أولية يعرض فيها أدلته على موقفه. وفيما يلي مداخلتي الأولى في أدلة الأيمان لم أكتبها ردا على مداخلة زميلي القبطان ،لأن الرد عليها سيكون في التعقيب الخاص بها ،بل كتبت مداخلتي عارضا أدلة الأيمان وناقدا الموقف الألحادي عامة لا الموقف الالحادي الذي عبر عنه زميلي في مداخلته.كما أنني لم أتحدث عن الأله الذي نستدل عليه من هو ؟ هل هو الإله الذي يتحدث عنه القرآن أم إله غيره من كتب الأديان،لأن موضوع حوارنا الآن هو إثبات وجود الأله/الخالق أولا ،فاقتصرت عليه.
وأدخل في الموضوع بلا مقدمات فأقول :
أدلة الأيمان
ثمة أدلة متعددة للأعتقاد بالله، لا سبيل إلى ذكرها كلها هنا. ولذا ستجدني أستثني بعض طرق الاستدلال ليس لضعفها ،بل اكتفاء بما سأطرحه الآن.
شخصيا بلورت دليلا من خلال قراءتي للفلسفة ،أسميه بدليل الإلحاد!!!!
قد يبدو قولي السابق غامضا . أو يحمل مفارقة مناقضة ،إذ كيف يكون الألحاد دليلا على الأيمان؟!!
أوضح ،فأقول :
من بين أدلتي على وجود الله "أدلة" الملحدين على عدم وجوده!
إذ أنني كلما وازنت بين النظرتين الألحادية والأيمانية وتأملت في أدلة الألحاد،ازددت إيمانا واعتقادا !! وذلك لتهافت واختلال تلك الأدلة التي يقدمها الملحدون ، وسيأتي بيان تهافتها عندما أعرض لمداخلة زميلي القبطان.
ولنبدأ بدليل مبسط وواضح ،فأقول :
إن منطلقي في الأستدلال على وجود الله هو القول بأن العالم حادث غير أزلي .
لكن هنا من حق الملحد المشاكس أن يطرح السؤال ما الدليل على كون العالم له بداية؟
هنا أقدم دليلين:
لكن قبل ذلك أنبه إلى حقيقة امتاز بها التفكير الاسلامي بالقياس إلى الفلسفة اليونانية وهي :
إن التفكير اليوناني كان يقول بقدم العالم ،وقِدم مادته الأولى (الهيولى)،ثم لما جاء الفكر الاسلامي ،ودون حدوث أي تطور علمي يستوجب نقض الفكرة الفيزيائة اليونانية قال هذا الفكر مستهديا بالوحي السماوي :إن العالم محدث مخلوق وليس قديما.
ووضع استدلالات عقلية على ذلك.
ثم جاء الفكر العلمي المعاصر ليؤكد هذه الحقيقة من خلال القول بوجود لحظة ابتداء للكون أخذ الآن يحدد لها توقيتها بالضبط في لحظة مغرقة في القدم تصل إلى حوالي 15 مليار سنة.
وهذه ملحوظة تثمن للفكر الديني ،وللفكر الأسلامي أيضا.
والآن لنعرض أدلة حدوث الكون ، ثم الإستدلال على كون هذا الحدوث له محدث خالق.
-1-
الدليل العلمي على الحدوث
إن الحقيقة العلمية التي أبرزتها نظرية الانفجار العظيم هي أن هناك لحظة بدء للمادة والطاقة والزمان والمكان ! ومن بين الاستدلالات التي اعتمدها علم الفزياء للقول بحدوث الكون هو القانون الثاني للترموديناميك والذي يقضي بانتقال الحرارة من الجسم الحار إلى الجسم البارد دون عودة في الاتجاه المعكوس. ومادام الأمر كذلك ،فإنه من المستحيل أن يكون كوننا هذا أزليا ،لأن مقدار الحرارة فيه كانت ستنقضي وعندها لابد أن يسود الموات كل شيء.وبما أن ذلك لم يحدث بعد ،فالنتيجة التي يخلص إليها التفكير هي أن الكون حادث.
ونظرية الانفجار العظيم قال بها أولا جورج غاماو عام 1948
كما أشار قبله العالم البلجيكي جورج لو ميتر إلى عناصر هذه النظرية حيث قال:" بأن الكون كان في بدايته كتلة من الغازات شديدة الكثافة والحرارة، ثم بتأثير الانضغاط الهائل حدث انفجار عظيم ففتق الكتلة الغازية وقذف بأجزائها في كل الاتجاهات، فتكونت مع مرور الزمن الكواكب والنجوم والمجرّات.
وبقيت هذه النظرية فرضية معلقة ،حتى حصل لها دعم علمي في سنة 1964 حيث "اكتشف العالمان "بانزياس" Penziaz و"ويلسون" Wilson موجات راديو منبعثة من جميع أرجاء الكون لها نفس الميزات الفيزيائية في أي مكان سجلت فيه، سُمّيت بالنور المتحجّر وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة ومن بقايا الانفجار العظيم الذي حصل في الثواني التي تلت نشأة الكون."
ومن أشهر الكتب المتداولة في شرح نظرية الأنفجار العظيم كتاب ستيفن فاينبيرغ "الدقائق الثلاث الأولى" وهو كتاب مثير حيث يذهب إلى شرح ما حدث في الدقائق الثلاث الأولى لبدء الإنفجار العظيم!!
ونظرية الأنفجار العظيم أصبحت من الأفكار العلمية الشائعة ، التي يعرفها الكثير من القراء ،ولاداعي لأن أصرف فيها مزيد شرح .(45/90)
لذا لننتقل إلى مناقشة الاعتراضات التي تواجه النظرية .
قد يقول الملحد معترضا :
إن الكون لا بداية له ،والإنفجار العظيم تكرر مرات على نحو لانهائي.
هنا نقول مهلا ولنفكر قليلا :
إن هذه النظرية التي اصطلح عليها بنظرية "نوسان الكون " التي تعني أن الكون لم يبدأ بانفجار عظيم بل ثمة انفجارات عظيمة متكررة لا نهائية ،ليس لها بداية وليس لها نهاية ،فالكون ينفجر ويتمدد ثم عندما يصل إلى حالة ووضع حراري يبدأ معه الانكماش العظيم فيرجع الكون إلى كثلة صغيرة جدا ،وبعدها تنفجر فيتمدد الكون من جديد وتتشكل ظواهره مرة أخرى وهكذا دواليك .
هل يمكن القبول بنظرية النوسان هذه ؟
يشير فاينبيرغ في كتابه السابق ذكره إلى الوظيفة الميتافزيقية لنظرية النوسان قائلا :
"إن بعض الكوسمولوجيين تجذبهم فلسفيا نظرية نوسان الكون ،خاصة وأنها تراوغ ببراعة متجنبة ...إشكالية النشأة الأولى." ثم ينتقد هذه النظرية بالإشارة إلى أن القول بتكرار لا نهائي للأنفجار العظيم (النوسان) تعترضه من الناحية العلمية صعوبة وهي :أنه لابد أن تطرأ على " درجة التعادل الحراري لكل جسيم نووي زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم (bulk viscosity). وفي هذه الحالة، في حدود ما نعلم، سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات النووية تكون أكبر من سابقتها بقليل. وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مر في السابق بعدد من الدورات غير متناه"
بمعنى أن تكرار الإنفجار العظيم كان يفرض أن يجعل درجة حرارة الكون أعلى مما هي عليه الآن (أي 3.5درجة مطلقة).
إذن تبقى نظرية الأنفجار العظيم دالة على حدوث وابتداء الكون.وهي اليوم - باعتراف العلماء -أفضل نظرية علمية تعلو غيرها من النظريات في القدرة على تفسير حدوث الكون ونشأته.
- 2-
النقد العقلي لفكرة أزلية الكون
لكن لنفترض أن الملحد يرفض العلم ويرفض الدليل العلمي على بطلان نوسان الكون ،ويقول بأزلية المادة والتكرار اللانهائي لتكون الكون.
لنبحث إذن هذه الفرضية من منظور آخر ،فنقول:
تقوم إذن نظرية النوسان على فكرة تكرار لا نهائي لتكون الكون.
وهذا ما يجعلها تفتقر إلى المعقولية في المجال المادي .
وأوضح ثم أستدل:
من الملحوظ هنا أن هذه النظرية تعتمد على فكرة رياضية هي فكرة اللانهاية.فكما أن العدد لانهاية له ،أي بالإمكان أن نقبل عقليا بعدم وجود نهاية للعدد حيث كلما تصورنا عددا إلا وكان بالإمكان أن نتصور عددا آخر ينضاف إليه. ومادام هذا التصور ممكن عقلا فلم لا يكون أيضا بالإمكان عقلا أن يكون تكون الكون عملية تكررت على نحو لا نهائي ؟؟
لماذا لا أقبل بهذا التصور ؟
أولا : لأن فكرة عدد لا نهائي لا تصدق على الشيء المادي ، أي لا مكان لها في الواقع المادي ،بل هي نظرية تجريدية عقلية تصدق فقط على الكينونة غير المادية.
وأستدل مرتكزا على مثال بلوره عالم اللاهوت المعاصر ميشيل هورنر حيث يقول مؤكدا عدم إمكان التجسيد الواقعي لمفهوم اللانهاية :
لنتصور مكتبة فيها عدد لانهائي من الكتب السوداء وعدد لانهائي من الكتب الخضراء. هل من الواقعي أن نقول إن في المكتبة مقدارا من الكتب الخضراء يساوي مجموع الكتب الخضراء زائد الكتب السوداء ؟
ألا تحس أن هذا القول مجرد لغو كلام؟
لكي يتجلى اللغو بوضوح في فكرة وجود واقع لانهائي لنتصور هذا المثال الذي بلورته شخصيا بناء على فكرة ميشيل هورنر فأقول :
إذا طلبت منك أن تأتينا بعدد من العربات وتدخل عدد من العمال ليخرجوا لنا من المكتبة جميع أعداد الكتب الخضراء .
هل يستطيع هؤلاء أن يخرجوا الكتب الخضراء من المكتبة؟
لا !! لأنه مهما أخرجوا من أعداد الكتب يبقى دائما ثمة في داخل المكتبة عدد لانهائي ؟ أي أنه غير قابل للإنتهاء .
ثم تأمل اللغو الذي تسقط فيه فكرة اللانهاية عندما يراد لها أن تطبق على الشيء المادي :
لنفترض أن هؤلاء العمال اشتغلوا مليون سنة ،وأخرجو عددا هائلا من الكتب الخضراء .
فهل يستساغ واقعيا أن نقول :
إن عدد الكتب الخضراء في المكتبة لم ينقص!!
إنك رياضيا مضطر أن تقول :إنه لم ينقص لأنه يبقى دائما لانهائيا! ومفهوم اللانهاية لا يطرح في علم الرياضيات إلا مصاحبا بفكرة قد تبدو غير رياضية وهي أن العدد اللانهائي هو العدد الذي لا يقبل الزيادة ولا النقصان !!!
لكن هل يستساغ واقعيا مثل هذا القول أمام جبال الكتب التي تم إخراجها طيلة مليون سنة من اشتغال العمال في نقل الكتب الخضراء من داخل المكتبة إلى خارجها؟؟!!
إذن إن تطبيق مفهوم اللانهاية على الشيء المادي يسقط الملحد في مآزق مضحكة!(45/91)