وكذلك هو حال الأحزاب الاشتراكية ، فهي رغم كونها فكرة عالمية فهي الأخرى مرتبطة بهذا أو ذاك من الأحزاب الاشتراكية في هذه أو تلك من الدول المستعمرة، تستمد منها الوحي والدعم معاً، وحتى الأحزاب الشيوعية وبالرغم من وجود النظام الماركسي الروسي الذي ترتبط به الشيوعية العالمية والأحزاب الشيوعية في العالم والذي يعتبر الأب الروحي لها، إلا أن ارتباط الأحزاب الشيوعية في الدول العربية بروسيا يمر خلال الأحزاب الشيوعية في دول الاستعمار هذه ، التي أنشأتها ودعمتها منذ البداية ، إذ يذكر مجيد خدوري في كتابة"الاتجاهات السياسية في العالم العربي " مثلاً أن الحزب الشيوعي اللبناني كان يتلقى دعمه من الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان مقتصراً على الجالية اليهودية ومقاطع من قبل العرب ولكن بعد تأسيس الحزب الشيوعي السوري في أوائل الثلاثينات اتجه الحزبان السوري واللبناني إلى الحزب الشيوعي الفرنسي طلباً للمساعدة والتوجيه .
وكل هذا تخطيط من أجل ما بعد الجلاء، فأي حزب يسيطر على الساحة السياسية في البلاد بعد الجلاء، لا يعدم الاستعمار من أن يجد من بين صفوفه من يواليه ويحقق مصالحه ويضمن استمرار تبعية البلاد له .
وليس هذا فقط ،وإنما عمل الاستعمار أيضاً وخاصة الإنكليزي على بناء زعامات وطنية يقوم بتربيتها وإبرازها وإشهارها كشخصية عبقرية فذة مؤكداً على وطنيتها من خلال ما يرتبه لها من موقف وطنية مناهضة للاستعمار فيلتف حولها الوطنيون، وتنال دعماً شعبياً كبيراً فتصبح هذه الزعامة بفضل هذه المواقف التمثيلية المرتبة، والحزب الملتف حولها هي القوة الغالبة. وبهذا يهيئها لتسلم دفة الحكم عندما تزف ساعة الرحيل بعد أن ينتهي دور الاحتلال بتحقيق أهدافه، فالاستعمار لا يمكن كما يقول مالك بن نبي: "أن يلغي من حسابه مبدئياً احتمال الاستقلال... إن الاستعمار لواثق اتجاه هذا الاحتمال، ولمواجهته في الوقت اللازم" ، ولذلك يهيئ لمن يُسلم البلاد، ويقول عن حال الجزائر: "إن الصراع لم يكن صراع أفكار، وإنما صراع مصالح تشرف عليها السلطات العليا، متظاهرة بمقاومته أحياناً، عندما تعلن غضبها على هذا -العدو لفرنسا- أو ذاك حتى يرى الشعب المغرور في تلك العداوات بطولات توجب عليه السمع والطاعة لأصحابها..." ، وليس أدل على ذلك من الكيفية التي ظهر فيها سعد زغلول وأصبح أكبر زعيم وطني في مصر، وهو الذي استوزر لأول مرة وهو شاب صغير بترشيح من بلنت وكرومر وأصبح وزيراً مزمنا في الوزارات المختلفة والمتعاقبة في الدولة ينتقل من وزارة إلى أخرى منفذاً للإنكليز كل استبدادهم ومكرساً احتلالهم لمصر !! فمن المعروف أن الوزير آنذاك هو المنفذ لسياسة الإنجليز وقد اعترف بذلك اللورد ويفل Wavel الذي قال عن كيفية الحكم في مصر: "إن الإنجليز ليس لديهم سلطات تنفيذية بأنفسهم ولكنهم يباشرون التنفيذ عن طريق الوزراء المصريين..." ولما أنشأ كتشنر عام 1913 الجمعية التشريعية استقال سعد وانتخب رئيساً لها، وتحول إلى معارض للإنكليز بقدرة قادر!! وتطرف سعد بعد ذلك لينافس الحزب الوطني المتطرف ضد الإنكليز إلا أنه احتوى هو وجماعته من أعضاء حزب الأمة هذا التطرف ضد الإنكليز ووجهوه ضد الخديوي وإن عارضوا الإنكليز كما يقول محمد محمد حسين: "فهم لا يعارضونهم إلا في تسامحهم مع الخديوي" .
وبدأ بعد ذلك سلسلة من الخلافات والمهاترات التي يفتعلها مع هذا وذاك من أعضاء الحكومة ومن أعضاء الجمعية التشريعية مما عرقل نشاطها، حتى الوفد الذي ذهب للمفاوضات مع الإنكليز والذي كان هو أحد أعضائه لم يسلم من هذه الخلافات ، إذا افتعل سعد زغلول خلافاً مع أعضاء الوفد ونازع عدلي باشا رئيس الحكومة على رئاسة الوفد مما أضعف موقف المفاوضين! ولما اشتدت هذه الخلافات التي صارت إلى مهاترات سخيفة يمكن أن تضر به! نفي ولمدة شهر واحد في مارس 1919 فقط ليعود بعدها بطلاً مقداماً وشخصية جماهيرية فذة تنزهه الجماهير وتبرر له كل أفعاله. فأصبح يحرك الجماهير كيفما يشاء، وطغى بشخصيته هذه على كل معارضيه، وأصبح الزعيم الذي جعل مصر رهن إشارته.
فماذا حقق ؟!
أضعف موقف الحكومة والمفاوضين في مفاوضاتهم مع المحتلين، شغل الأمة، حكومة وشعباً بخلافات جانبية تافهة لا طائل ورائها، وامتص النقمة والثورة على الإنكليز وحماسة الشباب بخطبه الحماسية ، وحولها كما يقول محمد محمد حسين: "إلى الاشتغال بالتوافه وبما لا طائل تحته، فبعثر هذه الطاقة الضخمة وبددها، وفوت على الأمة أن تستفيد بها حين كان يمكن الانتفاع بها فيما يجدي وينفع" وبعد أن أدى دوره هذا عاد إلى الواقعية وموالاة الإنكليز مرة أخرى كما كان من قبل ! فلم يكد يصل اللورد لويد عام 1925 إلى مصر حتى سارع سعد إلى زيارته ، ولم تلبث الصحف الوفدية أن مالت إلى مهادنة الإنكليز والدعوة إلى مسالمتهم والانتفاع بمزايا وجودهم والانشغال بالأمور الاقتصادية والزراعية وتأجيل مسألة الجهاد السياسي إلى إشعار آخر حتى تحين الفرص !!(40/241)
وبدأ سعد يدافع عن الامتيازات الأجنبية ويشيد بالأعمال الجليلة التي تقوم بها الحكومة الإنكليزية، ولكنه مات ولم يمهله الأجل ليحقق ما كان الإنكليز قد عقدوا عليه من آمال، وفوت موته على الإنكليز فرصة كبيرة في الاستفادة من استثمارهم فيه، ولذلك قال نيومان متأسفاً على موته: "كان من الممكن أن يكون سعد زغلول عاملاً قوياً في هذه الفترة من العلاقات المصرية الإنجليزية " ، وقد كان هناك أدلة لا تحتمل إلا قليلاً من الشك على ما ذهب إليه اللورد لويد والحكومة الإنجليزية من انتظار معونته وعطفه، وقد كان عطف زغلول على وجهة النظر الإنجليزية يعني عطف المصريين جميع ) .
( وكون الديمقراطية والحزبية نبتة أجنبية لا يحتاج منا إلى دليل فهي لم تدخل كفكرة وكممارسة إلا مع أوائل الغزو الأوروبي الذي تمثل أول الأمر بالمدارس الأجنبية والإرساليات التبشيرية ومن ثم الماسونية وما نسخ عنها من الأحزاب، فالعراق مثلاً لم يعرف الحياة الحزبية العلنية إلا في عهد الانتداب الإنكليزي عام 1921-1932 وتألفت عشرة أحزاب لم تدم طويلا حتى أن مواد القانون الأساسي الذي نص على أن السيادة للأمة ووضع مواد لحماية حقوق الشعب الأساسية كانت مترجمة عن الإنكليزية وأن القانون وضع نتيجة معاهدة فرضتها بريطانيا على العراق ، ولم يدخل الإنكليز الديمقراطية إلى البلاد حرصاً على مصالح الأمة وحكمها لنفسها! كما قد يعتقد البعض ، بل العكس ؛حتى يحكموا سيطرتهم عليها ويسيروها باسم الديمقراطية كيفما شاءوا. أدخلوها لأنها مهزلة ليس إلا، وقد وصفها السر ارنولدويلسن، نائب الحاكم المدني في العراق 1918-1920 كذلك ؛ إذ كتب مقالة عام 1936 إثر انقلاب بكر صدقي في العراق قال فيها: "حررناهم من حكم الأتراك الخفيف الوطء والكسول حينما احتللنا العراق بقصد منع الألمان من الوصول إلى الخليج، ولقد حملناهم على تبني نظام برلماني، بمجلسين أعلى وأدنى، وانتخابات دورية، في وقت كان الأتراك والإيرانيون قد ألغوا فيه برلماناتهم باعتبارها سبب دمارهم، لقد أخذنا العراق من الأتراك الذين لهم تقاليد الحكم وخبرته، وأودعناهم أناساً ليس لهم حظ من أيهما" وبعد أن يلوم بريطانيا يقول عن الانقلاب: "...وهذا الانقلاب يعني نهاية مهزلة الحكومة البرلمانية في العراق" ، ومهزلة الديمقراطية التي أرسى دعائمها الاستعمار الإنكليزي تظهر في الاستفتاءات التي أجراها في أول أمر الاحتلال ليعطي الشرعية لأعماله. فقد أجري استفتاء شعبي! شبه رسمي في العراق، وكان هناك مرشحان لحكم العراق، وكانت إنكلترا قد وعدت أن تجري انتخابات عامة حرة في البلاد لاختيار مجلس نيابي يناط به تقرير دستور للبلاد واختيار رئيس الدولة المقبلة، وكانت الحكومة الإنكليزية تعلم أنه سوف لن يختار هذا المجلس مرشحها فقررت فرضه على البلاد، فقامت قوة باختطاف المرشح الآخر، بناء على أوامر كوكس بينما كان ينزل ضيفاً عليه في منزله، وحمل إلى عربة مدرعة توجهت به إلى زورق نقله إلى البصرة ومنها إلى السجن في سيلان، ونظم بيرس كوكس هذا استفتاء شعبياً! يقوم على سؤال وحيد يجعل البديل هو استمرار الحكم الأجنبي مما اضطر المستفتون إلى قول "نعم" !! فبريطانيا لم تحكم البلاد العربية التي احتلتها بشكل مباشر بل من خلال ما توجده من تنظيمات ومنها الأحزاب والمجالس النيابية، وقد ذكر خدوري ما يؤكد هذا الأمر إذ قال: "أصرت فرنسا بصفتها السلطة المنتدبة على ضرورة تضمين دستور كل من سوريا ولبنان مواد تشترط موافقتها -فرنسا- المسبقة على كل إجراء رسمي، أما بريطانيا، فقد آثرت إخضاع الشكل للمضمون، فلم تشترط مثل هذه السلطات بل فضلت الاعتماد على نفوذ غير مباشر عوضاً عن النفوذ المباشر..." .
أما بعد الحرب العالمية الثانية، (وبعد أن انتصرت الديمقراطية الأوروبية متمثلة بالحلفاء على جبهة المحور أو عزت الأولى إلى الأنظمة السائرة في ركابها بالسماح لشعوبها بممارسة الديمقراطية كأسلوب لإيقاف الاتجاهات التبشيرية الشيوعية) والتي كان نشاطها قد تزايد بفضل دعم الحلفاء لها خلال السنوات الأخيرة من الحرب من أجل الاستفادة من تنظيماتها في الدعاية للحرب الاستعمارية هذه، وجعلها حرب تحرير وديمقراطية!!، ولكن بعد أن حطت الحرب أوزارها، وتقاسم الحلفاء من جديد مناطق النفوذ ظهر التخوف من انتشار الشيوعية من جديد، إذ قال تشرشل مثلاً: "لقد خيم ظل على المناطق التي أضاءتها انتصارات الحلفاء مؤخراً ولا يدري إنسان ماذا تنوي روسيا السوفيتية ومنظماتها الشيوعية الدولية أن تفعلا في المستقبل القريب أو ما هي الحدود، إن وجدت ؛ لاتجاهاتها الواسعة التبشيرية" . فبدأوا في بعث الحياة الحزبية هنا وهناك ودعموا نشاطاتها بغير حدود من أجل القيام بواجباتها في توجيه الأمم ونشر مفاهيم الحرية والديمقراطية والاشتراكية أيضاً ليفرغوا الدعوة الشيوعية من محتواها ويعملوا على صدها.(40/242)
أما السبب التنظيمي الذي يجعل الديمقراطية أداة هدم فيتمثل في غياب القيادة لعملية الديمقراطية متمثلة بأحزاب وانتخابات، ففي أوروبا كان الإقطاع في أول الأمر هو مركز القوة في الدولة والذي يسير كل شيء فيها وعلى رأس ذلك نظام الحكم أياً كان، فالنبلاء الإقطاعيون ورجال الدين كانوا هم الطبقة الحاكمة في البلاد. ولما بدأ العمل في فكرة الانتخابات وتمثيل الأمة آنذاك كان الإقطاع والكنيسة هما اللذان يقودانها ويسيرانها بحسب ما تقتضي مصالحهما . فمنذ عام 1483، في فرنسا على سبيل المثال، وحتى قيام الثورة الفرنسية لم يكن كما يقول ثومبسن: "قوانين مكتوبة وواضحة للانتخابات، ولم يكن هناك برلمان في باريس أو فرساي، ولا يستطيع أحد أن يعرف كيف ينتخب النواب أو ما هي واجباتهم وكان النواب يخضعون لسيطرة النبلاء ورجال الدين وهذا ما لم يعد يناسب الطبقة المتوسطة الناشئة" وحتى البرلمان الذي اجتمع يوم 5 مارس 1789 قبيل الثورة بقرار من لويس السادس عشر كان يعطي الكثير من الامتيازات للنبلاء ورجال الدين ولا يخدم العامة إلا قليل وبدأت هذه الطبقة المتوسطة الناشئة ذات التوجهات العلمية والصناعية تعمل عملها في المجتمع الأوروبي من أجل تغييره فقضت على الإقطاع وعلى نظام الحكم الخاضع له وأخذت منه زمام الأمور وقيادة المجتمع، فأوجدت نظام الحكم كما هو عليه اليوم، وحلت الرأسمالية الصناعية -أو لنقل الإقطاع الصناعي إن جاز التعبير- محل الإقطاع القديم في قيادة الديمقراطية وجعلتها بالشكل الذي هي عليه الآن في أوروبا تأتمر بأمرها وتتحرك بإرادتها.
فمن يقود الديمقراطية في البلاد العربية إن وجدت؟
ليس في البلاد حتى قبل الأنظمة السائدة إقطاع ذو نفوذ طاغ كما كان الحال في أوروبا وذلك ؛ لأنه في أوروبا سبق الإقطاع الدولة في الوجود وهو الذي أوجد الدولة لخدمة مصالحه فهو الذي كان يسيطر عليها. أما في البلاد العربية والعالم الإسلامي ككل فإن الإقطاع وجد بعد وجود الدولة بزمن طويل، إذ هو ظهر كأحد المقتبسات الأوروبية من أجل التقدم والمدنية! وبالتالي فقد كان نظاماً مشوهاً لمثيله الأوروبي ويستمد قوته من الدولة أو من الدول الأجنبية الداعمة له، ولذلك لم يستطع حتى حين وجوده من قيادة الديمقراطية وتوجيهها حتى وإن كان لمصلحته. وفي ذات الوقت ليس هناك احتكارات صناعية رأسمالية كبيرة، تمثل مركز قوة، لها من النفوذ ما يؤلها لأن تقود مسيرة الديمقراطية، كما هو الحال في أوروبا وأمريكا اليوم . وما يوجد في البلاد العربية من هذه القوة الرأسمالية النامية في الوقت الحاضر، هو نتف صناعية مرتبطة بالرأسمالية الصناعية الأجنبية.
ولا كياناً مستقلاً لها ولا يمكن أن يكون لها ذلك في يوم من الأيام، وذلك لأنها كلها لا تعدوا أن تكون فروعاً أو امتيازاتاً لشركات واحتكارات عالمية أجنبية، ولذلك فإن أي تدخل منها سيكون في حقيقته تدخلاً أجنبياً مرفوضاً من جهة، ومن جهة أخرى لن يكون للصالح العام بل لتحقيق مصالحها الآنية ومصالح الاحتكارات الأجنبية المرتبطة بها على المدى القريب والبعيد ، حتى وإن كانت على حساب المصالح العامة، فليس في البلاد العربية مركز قوة لها وزنها سوى الحكومة، أو لنقل الحاكم، والحاكم أو الحكومة ككل لا يمكنها قيادة الديمقراطية لأنها طرف في العملية التي تستهدف محاسبتها ومراقبتها !! وبالتالي فمن الطبيعي أن تستخدم نفوذها لجعل هذا التنظيم أو السلطة التي هي المجلس النيابي في صفها ويرى رؤيتها، مما يجعل الأمر تمثيلية لا معنى لها!
وفيما عدا الحكومة فليس هناك في البلاد العربية غير مراكز قوى صغيرة مبعثرة تتمثل بالعشائرية والطائفية والحزبية والفئوية الخ... وهذه كلها ذات أثر محدود إذ يبرز من كل منها فرد -أو أفراد- يستطيع أن يستغل إمكانات مجموعته بشتى الطرق! ليصل من خلالها إلى رحاب المجلس المنتخب ،الذي تصل إليه هذه الأشتات المتنافرة والمتناحرة فتنقل إليه تناحرها، والشواهد على ذلك كثيرة.
فقد انحل أكثر من مجلس في دول الخليج لأن أعضاءه ذوي الانتماءات المتنافسة لم يقتصروا في حل خلافاتهم على الشتائم والاشتباك بالأيدي وإنما استخدموا مقاعد المجلس!! أيضاً. ومسألة حل المحامين المصريين خلافاتهم بإطلاق الرصاص على بعضهم ليست بعيدة عن الأذهان!
هذا بالإضافة إلى أن من ضمن مفاهيم الديمقراطية كما نشرها الأوائل أمثال الأفغاني وعبده والكواكبي وغيرهم واقتبسها عنهم المعاصرون هي: أن أفضل الخلق وأعظم الوطنية هو أن تعارض الحكام ولا تقرب مجلسهم!! مما جعل النواب يفهمون أن مهمتهم إن كانوا وطنيين شرفاء أن يتناحروا مع أعضاء الحكومة، أو أن أفضل طريق لعرض وطنيتهم وتحقيق الشهرة لأنفسهم هي المعارضة لكل ما تفعله الحكومة بالحق أو بالباطل !! ولذلك لم تقتصر مسألة الشتم والضرب على بعضهم البعض ، وإنما صار بينهم وبين الوزراء أيضاً، كما حدث في مجلس النواب المصري مؤخراً ومر ذكره .
وهذا يجعل القول إن الديمقراطية الغربية إن طبقت في البلاد الأخرى، وخاصة البلاد النامية تصبح أداة هدم هو الحقيقة.(40/243)
ثم إن الديمقراطية ليست هدفاً كما تصورها الدعاة وتبنوها وصوروها للناس، وكما دعاهم إليها الأوربيون قبل ذلك، حتى صار كل حزب يزين بها اسمه أو برنامجه على اعتبار أنه سيحقق الديمقراطية، وكل حكومة تدعى في برنامجها ذلك وكل دولة تجعله شعاراً له وتلحقه باسمها ! إن الديمقراطية الأوروبية هي حل لمشكلات سياسية واجتماعية عانت منها مجتمعات أوروبا وتطلبتها الظروف السائدة فيه والخاصة بها ، التي لا تنطبق على كل المجتمعات الأخرى -كما أن الدواء لا يصلح لكل المرضى- وعلى رأس ذلك ظهور الرأسمالية الصناعية، التي تطلب نشوؤها وازدهارها المرور بثلاث مراحل:
1- الثورات الداخلية للقضاء على مراكز القوى التي كانت سائدة في البلاد والتي تقف في طريق سيطرتها، وهما الإقطاع والكنيسة المحرفة ، الذين كانوا بالإضافة إلى كونهم إقطاعيين نافس البعض منهم الملوك والأباطرة على امتلاك الاقتطاعات الواسعة، يسيطرون على أمور الحياة ويقفون في سبيل التقدم العلمي والصناعي اللذين تحتاجهما الثورة الصناعية.
2- النظام الديمقراطي في الحكم ليوفر لهم الاستقرار بعد تلك الثورات التي بعد أن قضت على الأنظمة القديمة لم تعد تخدم مصالحهم وخاصة في القرن الثامن عشر إذ يقول ثومبسون في كتابه الثورة الفرنسية: إنه كان "عالم اتفق فيه المتنظرون مع السياسيين الواقعيين، على أنه لا يمكن أن يتحقق شيء بعنف الثورة، لا يمكن تحقيقه بالإصلاح القانوني، وأنه كان عالم فيه فجوة عميقة بين طبقة وأخرى، إلا أنه لم يكن هناك حرب طبقات... الكل يرغب بحرية أكبر ويدين بالولاء لملكية محدودة الصلاحية تسمح بالمشاركة في حكم البلاد" .
3- الحروب الاستعمارية وغزو البلاد الأخرى واحتلالها لتوفير المواد الأولية اللازمة لصناعاتهم ولتأمين الأسواق الدائمة لهذه الصناعات، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فالحروب كانت تهدف أيضاً إشغال أبناء الأمة عما كانت تعاني مجتمعاتهم من فجوة طبقية شديدة ومن فقر واستغلال بشع لهذا الفقر، تبدو آثاره في حياة الطبقة العاملة في المصانع والمدن الصناعية الكبيرة التي كانت تستدعي الثورة عليها.
وهكذا تولت مراكز القوى الرأسمالية قيادة البلاد الأوروبية ونظام الحكم الديمقراطي فيها توجهه كما تشاء لخدمة مصالحها وتنظم نشاطات الناخبين والمنتخبين بوسائلها المختلفة لتحقق الفوز لمن تريد والفشل لمن لا تريد! وهذا هو ذات ما تسعى لتحقيقه في البلاد الأخرى لتتحقق لها تبعيتها بشكل نهائي وإلى الأبد ، ولا يعود هناك حاجة للثورات!! ).
( إن إلحاح الدول الأوربية على الديمقراطية وتحريض الشعوب على المطالبة بها كحقوق إنسانية قبل الاحتلال وهدرها بعده كما حدث في مصر وغيرها من البلاد المحتلة، واستخدامها وسيلة لإسقاط الحكام المعارضين ولإضعاف الدولة العثمانية وإسقاطها، جعل الزعماء العرب الأوائل والأواخر، يفهمونها كذلك وسيلة للمعارضة وهدم الأنظمة القائمة لا غير ، تنتهي مهمتها عندما تحقق أغراضها هذه وليس حلاً لأزمة الحكم، خاصة وأنه لم يكن هناك قبل الاحتلال وقبل التدخل الأوروبي أزمة حكم، ولهذا جعلوا أشخاصهم وأحزابهم فوق هذه الديمقراطية التي يدعون لها مع الداعين، وقد أكد الأفغاني هذا الاتجاه عند الزعماء والأحزاب عندما قال: تتخيل الأمة من وراء وعود الحزب سعادة ورفاه وحرية واستقلال ومساواة... فيؤازرون الحزب بكل معاني الطاعة والانقياد والنصرة والتضحية و... الخ فإذا ما تم للحزب ما طلبه من الأمة واستحكم له الأمر، ظهرت هنالك في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية...الخ. .
ولذلك نجد مثلاً أن الملك فيصل الذي قاد الثورة العربية باسم الحرية والديمقراطية والذي استفاد مما أحدثته الدعوات هذه من فجوة بين الحكام العثمانيين والرعية رفض إعطاء المجلس حق طرح الثقة بالحكومة فقال في المؤتمر السوري الوطني الذي كان مجتمعاً لوضع دستور لسوريا: "إنني أنا الذي أوجدته فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة" !! مما جعل رشيد رضا يقول له: "نعم إن لك فضلاً بالسماح بجمعه إذ كنت تحكم هذه البلاد... أما وقد اجتمع - المؤتمر- باسم الأمة وهي صاحبة السلطان الأعلى بمقتضى الشرع الإسلامي وبمقتضى أصول القوانين العصرية... أن تكون الحكومة مسؤولة تجاهه" . ويذكر مجيد خدوري أن الملك فيصل تابع، حتى بعد أن أصبح ملكاً على العراق (1921-1932) سيطرته على الحكومة، ولم يلتفت إلى الدستور في العراق أكثر مما فعل في سوري .(40/244)
وكان سعد زغلول لدكتاتوريته وغروره يعتبر نفسه الأمة كلها إذ قال في رده على خصومه: "إن من يتحداه يتحدى المصلحة المصرية القومية" وقال: "إن إحراجي هو إحراج الأمة" ، وعمل دائماً على شل حركة مجلس النواب بما يفتعله من خلافات مع الأعضاء، وهكذا كانت سيرة معظم الحكام والدعاة في تعاملهم مع الديمقراطية مما سبب عجزها وفشلها. فالزعماء العرب كما يرى مجيد خدوري كانوا غير مستعدين ذهنياً لمثل هذا النوع من التجديد الذي فرض عليهم من الدول الأوروبية التي أوجدتهم ودعمتهم حتى كانت قراراتهم بهذا الصدد تعتمد على توجيهات الدول الأوروبية التي بسطت سيطرتها على البلاد العربية...
إن الديمقراطية دخلت البلاد العربية مشوهة وكوسيلة لتكريس الاستعمار لا غير. لقد فرضت الدول الأوروبية على الدول العربية نظامها الديمقراطي، ولم تدع للعرب حرية اختيار نظامهم السياسي الذي ينسجم مع ظروفهم الخاصة بهم، وجعلت الزعماء المحليين الذين وضعتهم على رأس السلطة يتبنون مؤسساتها هذه:
المؤسسات الفرنسية في الدول الخاضعة لفرنسا والمؤسسات البريطانية في الدول الخاضعة للنفوذ البريطاني، بغض النظر عن ملاءمة هذه المؤسسات لحال الدول العربية وأوضاعها المحلية. وفوق كل ذلك لم تسمح للمؤسسات التي أوجدتها هذه أن تعمل بحرية بحيث تتمكن من تكييف نفسها للأوضاع القائمة في البلاد ؛ بل كثيراً ما كانت تفرض القيود عليها كلما لاح من هذه المؤسسات ما يناقض مصالحها، فنجد بريطانيا مثلاً في الوقت الذي تؤيد فيه سيطرة البرلمان على الحكومة ضد رغبة الملك كان قناصلتها في العراق وغيره يفضلون تعزيز سلطة الحكام وإعطاءهم حق النقض لقرارات البرلمان ، هذا غير أن النماذج التي طبقتها الدول الأوروبية من مفاهيم الديمقراطية في البلاد العربية كان مهلهلا، إذ هي فرضت على هذه البلاد ما شاءت من أنظمة ودساتير، وحتى عندما كانت تجري استفتاء على أمر ما، كانت تدبره بشكل يجعل نتيجته توافق ما كانت قد قررته مسبقاً ويحقق مصالحها، وكانت تعامل الحكام بصلف وتفرض عليهم إرادتها، ففي العراق مثلاً كان تعامل بريطانيا مع الملك -وورثته ونظام الحكم ككل- ومنذ أول إنشاء الدولة خرقاً للديمقراطية ؛ فبعد مرور 28 يوماً على تنصيب فيصل ملكاً على العراق قدم بيرس كوكس، المندوب البريطاني مسودة معاهدة مع بريطانيا تتضمن أسس الانتداب ومطالبه وأغراضه ، والتي كانت كلها لصالح بريطانيا ؛ مما جعل الحركة الوطنية - الأحزاب التي أجيزت بعد ذلك- تعارضها وتطالب من التعديلات فيها ما لا يتفق ومطامع بريطانيا، فعمد كوكس منتهزاً مرض الملك فيصل إلى اعتقال زعماء الحركة والأحزاب هذه ونفيهم إلى جزيرة هنجام، على مضيق هرمز، وعزل بعض المسؤولين في الألوية وأرسل الطائرات لتقصف العشائر المؤيدة للحركة الوطنية !!
وبعد شفاء الملك من مرضه زاره كوكس وهنأه قائلا له: "إن الحكومة البريطانية سوف لا تتحمل بعد الآن اتصاله بأية حركة وطنية ولا تتساهل في أي تأخير قد يحدث في شأن تصديق المعاهدة " وطلب منه أن يكون ملكاً دستورياً ويترك التدخل غير الضروري في شؤون الإدارة والموظفين" . وذكر فيليب أيرلند أن الملك فيصل اعتذر عن أعماله السابقة بأنه إنما قام بها لعدم وجود الدستور ولأن الوزارة كانت غير متجانسة وأنه حالما يحصل على الدستور والمعاهدة سوف يقوم بتنفيذ ما يطلب منه بطيبة خاطر ، وقدم كوكس إلى الملك مسودة كتاب يصادق فيه على الإجراءات القمعية التي قام بها كوكس من نفي وسجن وقصف للقرى والمدن ويشكره عليه ،وقد فعل الملك ما أراد كوكس !! وهذا نص الكتاب: "عزيزي السيد بيرس، الآن وقد تم شفائي بحمد الله تعالى، وسمح لي أطبائي أن أستأنف أشغالي في الدولة، أرى من واجبي قبل أن أتولى هذه التبعة أن أقدم إلى فخامتكم تشكراتي القلبية، وأن أعبر عن إعجابي الشديد للسياسة الحازمة والتدابير الضرورية التي اتخذها فخامتكم بصفتكم ممثلاً لحكومة صاحب الجلالة لصيانة المصالح العامة والمحافظة على النظام والأمن أثناء مرضي المفاجئ الذي صدف وقوعه بغتة في المدة التي تنقضي عادة بين استقالة الوزارة وتأليف وزارة غيرها، وختاماً أكرر تشكراتي الخالصة لفخامتكم على مساعدتكم الثمينة ( !! )
بغداد 11 أيلول 1922 صديقكم المخلص فيصل
وبعد هذا صارت العلاقة بين الملك وكوكس علاقة ودية وعمل الملك بحسب اقتراحاته بالنسبة لتشكيل الوزارة ووافق على جميع ما طلب كوكس منه!!!
وموقف آخر يدل على تشوه الديمقراطية في بلادنا ذكره سلامة موسى في كتاب الثورات إذ قال: "كان الإنجليز في حاجة إلى تأييد الشعب لنظام الحكم لأن هدير الحرب الكبرى الثانية التي بدأت في 1939م كانت له ذبذبة تحس وإن لم تسمع في 1934م ، واحتاج الإنجليز إلى أن يربطونا بمعاهدة تكفل لهم الأمان والمعونة إذا وقعت الحرب. ولم يكن من المعقول أن يوقع المعاهدة هذه -إسماعيل صدقي وفؤاد- التركيان أو الشركسيان دون نواب الشعب! وجيء بالوفد للحكم ووقعت معاهدة 1936 ونال مصطفى النحاس رئيس الوزراء لقب سير من الإنجليز مكافأة له على هذه المعاهدة" !!(40/245)
وهذا قليل من كثير من المواقف التي تدل على ديمقراطية أصحاب الديمقراطية وعلى الشكل الديمقراطي الذي غرسوا نبته في بلادنا! هذا غير تعطيل الصحف والمجالس وفضها والتدخل في انتخاباتها بشكل مباشر وغير مباشر. مما جعل الديمقراطية شكلاً من غير مضمون إن وجدت ومتى وجدت.
لعب التشتت الفكري دوراً كبيراً في عجز الديمقراطية في البلاد العربية، ففي أوروبا هناك حزبان -في الغالب مثلماً هو الحال في أمريكا وإنكلترا- يتنافسان على السلطة، ينطلقان من عقيدة واحدة في الأساس ولذلك لا تختلف سياسة أحدهما عن الآخر في حقيقة أمرها، وكل خلافاتهما لا يكون إلا ظاهرياً وبحسب ما تتطلبه لعبة الكراسي التي يلعبونها باسم الديمقراطية! فكل من هو خارج الحكم يعارض من فيه بالحق وبالباطل ، وما أن يصل هو نفسه إلى الحكم حتى يؤيد كل ما قام به سابقه ويزيد عنه في ذات الاتجاه، مما جعل الأفغاني مثلاً يهاجم حزب الأحرار الذي كان يعارض المحافظين ويدعوهم إلى تحرير البلاد المستعمرة إذ قال: "صاروا على الأمم أشد من الحزب المحافظ، وزادوا في التحريج والتضييق وأحكموا خلق العبودية وشددوا ربط الرقبة وضيقوا المجال على النفوس التي تهوى الحرية وتميل إليها... بعد أن نادوا بأعلى صوتهم بفك رقاب الأمم من العبودية وكأنهم عن انعزالهم ما كانوا يحامون عن حرية الأمم، إلا لأن يأخذوا زمام الحكومة بأيديهم فجعلوا المحاماة عن الحق آلة للوصول إلى باطلهم" . وحتى في حالة وجود أحزاب أخرى فهي صغيرة وأضعف من أن تكون مؤثرة بجانب هذين الحزبين ؛ مما يجعلها تأتلف مع أحدهما أو تتلاشى من نفسها من غير أن تمثل لهما منافسة لها خطرها عليهما أو على دولهما الصناعية الكبيرة ، التي كل ما عداها أصغر وأضعف من أن يستطيع التأثير في أحزابها وديمقراطيتها!
بينما في بلادنا العربية فالأحزاب ذات الانتماءات المختلفة لا حصر لها وكل منها يريد التسلط في الحكم وأصغر وأضعف حزب يمكن أن يصبح الأقوى والأكثر تأثيراً في وقت الحاجة بما يتلقاه من دعم أصحاب المصالح من الأجانب، فإن كانت الديمقراطية في الدول التي ابتدعتها لعبة يلعبها أبناء الأمة فيما بين بعضهم البعض أو تمثيلية المخرجين والممثلين فيها من أبناء البلاد ؛ فإنها في البلاد الأخرى وخاصة في الدول النامية تصبح لعبة يلعبها الأجانب ، ودور أبناء الأمة فيها لا يتعدى دور حجر الشطرنج، أو تمثيلية يخرجها الأجانب بممثلين من أبناء الأمة. وقد حاولت الدول الأوروبية في أول الأمر حصر أمر الديمقراطية في البلاد التابعة لها، بحزبين أو أكثر لهما ذات العقيدة العلمانية المستوردة منها ويعملان بتوجيهاتها ليتناوبا الأدوار كما هو حال الديمقراطية في موطنها ، ولكن لم يكن ذلك ممكنا لعدة أسباب منها ما يلي: -
أ- أن العقيدة الإسلامية السائدة في البلاد والمعارضة للعلمانية ظلت حية ولم تستطع الضربات التي وجهوها إليها أن تنال من حيويتها بما يكفي للقضاء عليها، بل ظلت تشكل اتجاها مخالفاً تماماً للاتجاه العلماني التابع لهم.
ب- إن التنافس الشديد بين الدول الأوروبية وخاصة بين فرنسا وبريطانيا على السيطرة على البلاد العربية وإخضاعها لتبعيتها جعلت هذه الأحزاب العلمانية ذات العقيدة الواحدة والتي تنطلق من فلسفة واحدة تنقسم بحسب انتماءاتها لهذه أو تلك من الدول المتنافسة ؛كما حدث في حالة الأفغاني وخروجه من المحفل الماسوني البريطاني وانضمامه إلى المحفل الفرنسي، مع أن الماسونية كعقيدة هي ذاتها! مما زاد من تشتت الأحزاب.(40/246)
ج- عندما ظهر الفكر الاشتراكي والشيوعي أرادت الدول الأوروبية احتواءه فدعمته وأنشأت له الأحزاب في البلاد العربية ودعمتها ليكون جزءا من الاتجاه العلماني التابع لها، ولكن ظهور روسيا ثم الصين كدولتين كبيرتين تدعمان الشيوعية، أفشل خططها بعض الشيء، في احتواء الحركة هذه وجعلها تحت سيطرتها وحدها، وبانقسام هذه الأحزاب العلمانية الليبرالية والشيوعية والاشتراكية إلى فروع وفروع الفروع وتعدد انتماءاتها جعل مسألة الأحزاب أكبر من أن يحصرها ذلك الاتجاه الواحد الذي أرادت الدولة الأوروبية حصر الديمقراطية في إطاره ؛ مما أفشل مشروع الديمقراطية في البلاد العربية وجعلها إن وجدت، مجرد سوق يتزايد فيه المرشحون على الشعارات وبيع الكلام، وقد ذكر مالك بن نبي مثلاً على ذلك ما صار إليه حال الجزائر في فترة الثلاثينات إذ قال: "إن الوضع تهيأ آنذاك لـ "السوق الانتخابية التي ستفتح أبوابها على مصراعيه... عندما تدق ساعة المزايدة في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي اكتسبها الوطن خلال الثلاثينات والتي ستباع فعلاً بالمزايدة الديماغوجية التي أعلنتها اتحادية المرشحين..." ويقول عن ضرر طغيان الحزبيات وشعاراتها: "لا يستطيع أحد تقييم ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، كانت قبل ذلك الأفكار نقية صافية، والنوايا خالصة، صادقة ، والقلوب رحيمة خيرة... فاستحال كل ذلك إلى الخلط، والخبط ،والتباغض والانتهازية والثرثرة ، وأصبح كل فرد مهتماً بـ (نوتته) الشخصية في العزف العام، ويسعى لمصلحته الخاصة، باسم الصلاح وباسم الوطنية..."
وريبة الأمة العربية في الديمقراطية وسوء الظن بها زاد عجزها عجزاً، فهي قد دخلت مع الاستعمار، الذي أدخلها ولم يستخدمها إلا لإذلال الأمة وفرض إرادته عليها، فقد قسم أراضيها وشتت شملها باسم الديمقراطية واستفتاءاتها، وفرض عليها من الحكام والملوك من يشاء غصباً عنها وباسمها، أخرجها من دينها وتقاليدها ونظمها التي تفهمها وارتضتها لنفسها وفرض عليها عقائده العلمانية ونظمه وباسمها! ومنح أجزاء عزيزة عليها من أراضيها إلى الآخرين، وباسمها، وارتكب ويرتكب حتى اليوم كل الجرائم بحق الأمة وباسمها!! فكيف لا ترتاب وتستهزئ بها وتتهمها بالتزييف مهما كانت نزيهة، فكل ما يأتي من دول الاستعمار لابد أن يكون مزيفاً، ولابد أن تكون هذه الدول قد تدخلت فيها لمصحتها ، فهكذا علمتها التجارب !
وخلاصة القول، فإن الديمقراطية الأوروبية كما دعا إليها الأوروبيون في البلاد الأخرى ما هي إلا وهم أو سراب استخدمته الدول الاستعمارية قبل الاحتلال لتغليف مقاصدها اللئيمة ولإغراء بعض أبناء الأمة بالأماني والآمال الكاذبة لكسبهم إلى جانبها، ليمهدوا لها احتلال البلاد، وبعد الاحتلال صار وسيلتها لاختراق الأمة وتسييرها كما تشاء لخدمة مصالحها، وبعد الاستقلال أصبح وسيلة لاستمرار تبعية البلاد لها . واستخدمه الأفراد والأحزاب من أبناء الأمة وسيلة للوصول إلى الحكم. فما داموا بعيداً عن السلطة والحكم فهم باسم الحرية والديمقراطية يهدرون حريات الآخرين ويعتدون بما ينشرون من الأكاذيب والأباطيل عن أصحاب السلطة ما يشوشون به الحقائق على الأمة، ليبنوا لأنفسهم محفة فاخرة تنقلهم باسم الديمقراطية إلى مواقع السلطة ليستبدوا بها ويركلوا الديمقراطية بعد ذلك بعيداً عنهم، ولذلك وبعد أكثر من مائة عام على الدعوة الديمقراطية لا نجد حولنا إلا استبداداً تطور مع مرور الأيام وانتقل من مرحلة إلى أخرى ليصل إلى ما وصل إليه اليوم من الشدة التي يصفها دعاة الديمقراطية أيضاً ، ولم يتحقق للأمة من خلال هذه المسيرة الطويلة سوى هوان التبعية للدول الأجنبية صاحبة الديمقراطيات! ) .
( وعلى رأس هذه السلبيات ما يلي:(40/247)
1-الحزبية ؛ سواء التعددية أو الحزب الواحد، فالديمقراطية كفكرة تقوم على انتخاب الحكام والممثلين عن الشعب ليشارك هذا الأخير بواسطتهم في اتخاذ القرارات، مثل طبخة شهية ومغذية وغنية بكل ما يفيد الإنسان والمجتمع ككل، ولكن ومع الأسف، فإن اعتبار الحزبية والتعددية إحدى مقوماتها يصيبها بالعفن والفساد وتصبح سما قاتلا لحكم الشعب. وأسباب هذا العفن والفساد عديدة، منها ما قيل في صفحات سابقة عن الحكم الدكتاتوري الذي يجعل الفرد يفقد حريته ويجعله آلة تطيع القوانين وتتبع الأنظمة ، ويحوله من قوة فعالة مبدعة إلى قوة مسيرة تخضع لما يكتب لها، هو عين ما يحدث للمنتمين للأحزاب المختلفة الذين عليهم طاعة القوانين والأنظمة التي يضعها قادة الحزب ومفكروه، والفرق الوحيد بين الاثنين هو أنه بدلاً من أن يكون الفرد تابعاً للهيئة الحاكمة يصبح تابعاً للهيئة الحزبية ويعمل بأمرها، وهذا أسوأ بكثير من حال الأول ؛ لأن الحالة الأولى قد تؤدي إلى تماسك الشعب وسيادة القوانين أما في الحالة الحزبية فتسود الفوضى والاستهانة بالقوانين والأنظمة، ومن أسباب هذا العفن أيضاً أن الحزب عادة يدعم مرشحه، بالحق أو بالباطل، ويلمع صورته ويوفر له من الدعم المادي والمعنوي ما لا يمكن أن يتوفر للمرشح المنافس، المستقل أو المنتمي لحزب آخر لا تتوفر له الإمكانات المادية والمعنوية التي للأول،ويحرم بالتالي الأمة من الإفادة من أفضل عناصرها، فالحزبية هنا قتلت الديمقراطية وجعلتها حكم الأقوى وليس حكم الشعب.
وبما أن بعض الأحزاب تعتمد فكراً أجنبياً في تحديد أهدافها ووسائل تحقيقها فالضرر سيكون أكبر ؛لأن حكم الشعب سيصبح ليس فقط حكم الأقوى بل حكم التبعية للأجانب وسيطرتهم. هذا غير ما تتلقاه بعض الأحزاب من دعم مادي ومعنوي من الأجانب مما يزيد الأمر سوءا والأجانب سيطرة.!!
ثم إن الحزب الحاكم حتى يمثل الشعب حقيقة يجب أن يضم القسم الأكبر من البالغين من أبناء الشعب الذي يمثله، وهذا لم ينطبق على أي حزب في العالم، فالأحزاب الشيوعية مثلاً، في البلاد التي حكمت فيها ،لم تكن تضم إلا جزءاً صغيراً من شعوبها وحكمت البلاد الشيوعية بالحديد والنار . وباسم الشعب! ألغت وحاربت كل ما عداها من الأفكار والتوجهات ، مع أن نسبتها إلى السكان لم تكن تتجاوز 3-5% بحسب ما كان ينشر من إحصاءات، وما يدل على صدق ذلك هو انهيار هذه الأحزاب بهذه السرعة وبجرة قلم من جوربا تشوف وأعوانه!! أما في بلادنا فالمنتمون إلى الأحزاب المختلفة لا يتعدون العشرات وليس المئات فقط!! حتى إن البعض وصفها بكونها رؤوساً بلا أجسام، ولكن ما أن يصل الحزب بطريقة أو بأخرى إلى السلطة حتى يفرض نفسه على كل من عداه ويصبح الممثل الوحيد للشعب!! وهذا ينطبق على الدول التي فيها انتخابات تدعي الديمقراطية تماماً كما ينطبق على غيرها.
هذا غير أن الحزب الذي يدعى أنه يمثل الشعب حقيقة يجب أن يتبنى قيم ذلك الشعب وطموحاته وآماله ، وهذا أيضاً لم يحدث في العالم أجمع ؛ إذ أن الأحزاب في كل البلاد فصلت لنفسها ثوباً يناسبها ويحقق مطامحها ومطامعها وحشرت الشعب فيه بالقوة، فهذه الأحزاب الليبرالية التي نراها اليوم هي أبناء وأحفاد الحركات الثورية التي على رأسها الثورة الفرنسية التي قامت على أكتاف قلة من الفرنسيين استدعت مصالحها الخاصة القضاء على كل من كان في سبيل تحقيق هذه المصالح من الطبقة الحاكمة والإقطاع ورجال الكنيسة، وارتكبت الفئة الأولى من المجازر ما يخجل منه الفرنسيون حتى اليوم ، وفرضوا بواسطة تلك المجازر التي استمرت لسنوات طويلة : أفكارهم ونظام حكمهم وكل ما يحقق مصالحهم على الأكثرية التي بعد أن أنهكتها المقاومة صمتت فاعتبر صمتها تأييداً للفئة صاحبة الثورة وصاحبة المصالح من الثورة .
وهكذا حتى اليوم، فكل حزب أو فئة حاكمة تعتبر الأكثرية الصامتة معها وتؤيدها بهذا الصمت ، ولم يخطر ببالها أن هذا الصمت قد يكون يأساً ورفضاً أبلغ من الكلام، وما حدث في أوروبا الليبرالية حدث في أمريكا وحدث أيضاً في المجموعة الاشتراكية والصين وكل مكان فرضت فيه الدساتير على الشعوب والأفكار والأحزاب أيضاً وباسم الشعب!!!
ولكن أي فئة من الشعب تمثل هذه الأحزاب؟ أهي الملايين التي دفعت حياتها ثمناً لرفضها كما حدث ولا يزال يحدث في معظم دول العالم من الثورة الفرنسية والأمريكية والإنكليزية والروسية والصينية إلى اليوم ؟! أم الملايين الصامتة التي لا تفهم هذه الأفكار والقوانين التي تفرض على الناس ولا تريدها لنفسها ولم تكن في يوم من الأيام من طموحاتها، ولما تعجز عن فعل شيء حيالها تصمت وتنسحب وتترك الساحة للاعبين يلعبون وحدهم ؛ مثل لاعبي السرك في ساحة عامة مفتوحة للمتفرجين، قد يمر البعض ولا يُلتفت إليهم ، وقد يحدث أن يقف البعض الآخر لدقائق يشارك خلالها بالتصفيق لهذا المهرج أو ذاك.(40/248)
أما في بلادنا : فالأحزاب - العلمانية منها بشكل خاص- لم تستطع حتى أن تفصل لنفسها ثوبها الذي يناسبها ، وإنما استوردت أشكالاً شتى من الأثواب الأجنبية وحاول ويحاول كل منها أن يحشر الشعب بالترهيب أو بالترغيب في هذا الثوب المستورد. وكل منهم يباهي بثوبه المستورد ويعتبره الأفضل ويعتبر الأكثرية الصامتة هذه معه وتؤيده!!!
أما المشكلة الأهم فهي أن الحزبية في بلادنا تقوم على أفكار متضادة ومتناحرة، وكل حزب ينطلق من مبادئ ومفاهيم وأهداف معينة يريد تحقيقها في جميع مجالات الحياة ، فلو وصل حزب علماني اشتراكي إلى السلطة عن طريق الديمقراطية والحصول على الأكثرية! فلا بد أنه سيعمل على تحقيق هذه الأهداف وقلب المؤسسات القائمة، الاقتصادية والسياسية والتربوية الخ... المبنية على أسس ومفاهيم أخرى مخالفة ، ويحولها إلى مؤسسات تقوم على مفاهيمه الاشتراكية وسياسته الموجهة، وإلا كان انتهازياً وخائناً لمبادئه.
ثم بعد أربع سنوات أو خمس سنوات يحصل حزب آخر على الأكثرية ويأتي للسلطة وهو يحمل مفاهيم معاكسة تعتمد الليبرالية بما فيها من مفاهيم الحرية والتحرر واقتصاد السوق وغير ذلك من مفاهيم مخالفة لمفاهيم الأول، وهذا أيضاً لابد له من قلب هذه المؤسسات ليحقق ما ينادي به وإلا أصبح وصولياً وخائناً لمبادئه! ثم قد يأتي بعد ذلك حزب آخر ينطلق من مفاهيم تختلف، قد تعارض فكر ومفاهيم الحزبين السابقين، وعليه هو الآخر ليكون منسجماً مع مبادئه ودعوته أن يغير هذه المؤسسات لتنسجم مع ذلك.
فإن حصل هذا الذي ذكر أعلاه، وهو لابد سيحصل ما دام التأكيد على الحزبية والتعددية مستمراً، ماذا سيحدث لهذه الأمة ولهذه الأوطان وهي تتحول من النقيض إلى النقيض كل أربع أو خمس سنوات؟!! هذا إن لم تعمل المعارضة في كل مرة على إشعال نار لا تنطفئ ؛ مما يوقف العمل ويبدد الأمل!!!
2-الحملات الانتخابية هي الأخرى من سلبيات الديمقراطية. عندما يرى المرء هذه الحملات وما تهدر من الأموال والأخلاق والقيم أيضاً! لابد أن يتساءل: لماذا هذه الحملات الانتخابية التي تكلف الملايين من الأموال التي يمكن استخدامها لأغراض تخدم الشعب بدل هذه الحملات التي تغش الشعب وتنشر السطحية والتفاهة بين أبنائه؟!! خاصة وأنه من المفروض أن المرشح يمثل شريحة من الشعب يعرفها وتعرفه، يفهم مشاكلها ومطامحها ويعمل على معالجتها، وقد أثبت من خلال تعاملها الطويل معه أنه أهل للثقة وأنه يمثلها أحسن تمثيل وأنه أفضل من غيره في ذلك، وبغير هذا يصبح الأمر تمثيلية سخيفة لا معنى لها ولا علاقة لحكم الشعب بها، فلماذا مرة أخرى هذه الحملات؟
حتى أن الحملات الانتخابية في البلاد الديمقراطية تبدو للمتمعن فيها مجرد "سيرك" كبير يضم مجموعة من المهرجين يتبارون بالكلام المنمق والملفق، في الغالب، وإعطاء الوعود بالجنة الموعودة في حالة انتخابهم ، مما لا يمكن تحقيق ولو جزء يسير منها، ويكيلون الاتهامات لبعضهم البعض ويقللون من شأن بعضهم البعض مقابل إعلاء شأن الذات ووصفها بما ليس فيها من المؤهلات والحسنات ، التي كلها لا تخرج عن كونها كذباً وتلفيقاً تسقط أهلية المتبارين لتولي أية مسؤولية، هذا غير المشاهد التمثيلية التي تجعلهم يقفون أمام شاشات التلفزيون ليعرضونها على المشاهدين، فهذا المرشح المعروف عنه خيانته لزوجته وإهماله بيته وعائلته يظهر على شاشات التلفزيون وقد احتضن زوجته وأولاده، إن وجدوا، وتواجد معهم في البيت ليثبت عكس ذلك !!
وهذا المرشح المفصول عن زوجته وعلى وشك طلاقها، يظهر معها مبتسماً وقد حمل معها أكياس ما تسوقاه، ليساعدها في ترتيبه في المطبخ ، وكأن مهارته في ذلك هي من أهم مؤهلات رجل الدولة!!
وذاك المرشح المعروف عنه العنصرية واضطهاد الأقليات يظهر معهم مبتسماً يربت على رأس هذا العجوز ويقبل ذاك الطفل منهم!!
وغير ذلك الكثير من مشاهد الحملات الانتخابية المضحكة المبكية التي تثير القرف والاشمئزاز قبل أي شيء آخر، والتي كلها لا تهدف إلا إلى ابتزاز أصوات البسطاء من الناس وإشغال الناس بما لا ينفع الناس، هذا غير ما خفي من مساومات وصفقات وأعمال سرية لا تبدو للناظر المتأمل للديمقراطية والانتخابات من بعيد .
وإذا علمنا أن هذا يحدث كل ثلاث أو أربع سنوات وأن التحضير للانتخابات يبدأ قبل سنة أو حتى سنتين من موعد إجرائها ، ثم تبدأ الاحتفالات بالنصر وتقاسم المكاسب للمنتصرين وجلد الذات والبحث عن أسباب الفشل للذين فشلوا بعد الانتخابات مباشرة وتستمر لأشهر عديدة أو حتى سنة أخرى ، لابد أن يفرض التساؤل نفسه: متى يعمل هؤلاء إن هم انشغلوا وشغلوا الأعداد الكبيرة ممن حولهم لأكثر من نصف الدورة بهذا التهريج وهذه المهاترات؟!! ولماذا تفرض الأحزاب على الناس مرشحين غير معروفين لديهم ، ثم تقوم بكل هذا التلميع والتزويق لعرض بضاعتها عليهم وتعريفهم؟!!(40/249)
3- ثم هذا التنافس على السلطة والحكم في لعبة الديمقراطية والتناوب على السلطة والتي تجعل الجالسين على مقاعد المعارضة -أحزاباً وأفراداً- يعارضون بالحق قليلاً وبالباطل كثيراً لا لشيء إلا لإظهار عجز الحكومة القائمة وإحداث الأزمات لها، مما يضر بمصالح الشعب ويعرقل مسيرته وتحقيق أهدافه، أليس في هذا عجز في الديمقراطية يجب معالجته والتخلص منه قبل الدعوة إلى اقتباسها وتطبيقها في بلادنا؟! فالمفروض في المجلس النيابي أن يكون ليس فقط مراقباً يتصيد أفراد الحزب المعارض من أعضائه الأخطاء للحكومة لإسقاطها على أمل تولي المسؤولية مكانها ليتابع ذات سياستها ويقوم بكل الأعمال التي اعتبرها أخطاء يجب أن تسقط الحكومة لأجلها ، ليتولى الحزب الحاكم السابق موقع المعارضة ويبدأ بمعارضة الحزب الحاكم الجديد ويعارض ما كان هو يعتبره إنجازاً عندما كان هو يحكم !! وهكذا.
وإنما المفروض من المجلس أن يكون مراقباً نزيها ومرشداً وناصحاً أميناً للحكومة، فكيف يتسنى له ذلك وهو يضم من هو معني بإسقاطها ليحل محلها؟ بينما القسم الآخر من الأعضاء معني بالإبقاء على الحكومة التي هي من حزبه ، فينشغل المجلس بالخطب الرنانة والمناقشات السقيمة، هذا إن لم تصل إلى التراشق بالكلمات الجارحة أو حتى بكراسي المجلس مثلما حصل في أكثر من مجلس ليس فقط في العالم العربي بل حتى في العالم الديمقراطي .
4- ثم هناك مسألة ترشيح الفرد لنفسه وفرض نفسه على الآخرين (الشعب) مستنداً إلى قوة قد تكون حزبية أو حكومية أو قبلية الخ... أليست هي الأخرى من أمراض الديمقراطية التي كان يجب على مفكرينا معالجتها قبل الدعوة إلى اقتباس هذه الديمقراطية ؟ خاصة وإننا أمة لها تراث يغوص في أعماق التاريخ وفيه من نماذج الحكم الشيء الكثير، حتى القبلية التي نحاربها اليوم كان فيها في عصرها الذهبي الكثير من مبادئ الديمقراطية، وإن نحن عدنا إلى ديننا وتراثنا الإسلامي لوجدنا الكثير مما يمكن أن يفيدنا ويكون الأساس الذي نبني عليه في هذا المضمار، ففي مسألة ترشيح الفرد لنفسه، على سبيل المثال، نجد أن الله سبحانه وتعالى قال: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) وقال الرسو صلى الله عليه وسلم لأبي موسى وأبناء عمه الذين جاءوا الرسو صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يوليهم مما ولاه الله قال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه" . وعن عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي الرسول صلى الله عليه وسلم "يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة إن أعطيتها عن مسألة أوكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها..." .
وفي عدم جواز طلب الولاية حكمة كبيرة لعدة أسباب منها: أن يكون لطالبها أغراض خاصة يريد تحقيقها كالجاه والعلو في الأرض، أو استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية، إلى آخر ذلك من الأغراض الدنيوية التي تتمثل فيها الأنانية الإنسانية المنبثقة من شهواته الدنيوية ، وفي هذه الحالة يجب أن يحال بينه وبين الولاية التي توصله إلى أغراضه الأنانية هذه لما فيها من ضرر عام .فالولاية والمنصب أياً كان في الإسلام ليس ترفاً، ولا مرتبة للتباهي ولا شركاً لاستغلال الآخرين، كما أنه ليس سيفاً مسلطاً على رقاب الناس، بل هو عكس ذلك، فهو مسؤولية، المسؤول فيها مغبون وخاسر غير رابح... لأنها تعب وشقاء في الدنيا وحساب عسير في الآخرة ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مؤكداً المسؤولية الجسيمة التي تقع على عاتق أولي الأمر: "ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم معلقة بالثريا يتخلخلون بين السماء والأرض" ، وقال أيضاً: "من عمد على عشرة أتى يوم القيامة مغلولاً لا يفكه من غله إلا العدل" . ولذلك أيضاً قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ولايته: (فوالذي نفسي بيده لو وددت أني خرجت منها كما دخلت فيه لا أجر ولا وزر) وقال عندما أصيب وطلب منه الصحابة أن يستخلف: (أتحمل أمركم حياً وميتا، لوددت أن أحظى منها الكفاف لا علي ولا لي) .
وهذا قليل من كثير مما يدل على أن المنصب العام أمانة ومسؤولية جسيمة فلا يطلبه أحد لنفسه إلا إن كان له غرض فيه، وحتى عندما يكلف به يرفض البعض هذا التكليف ، وقد قال الطرطوشي: (لولا أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه لم يرض عاقل بها ولم يعدها لبيب مرتبة) . فسيد القوم في نظره (أشقاهم) .(40/250)
وحتى إن كانت أغراض طالب المنصب العام والمسؤولية سليمة وخالية من الأنانية والشهوات الدنيوية، ومن أجل تحقيق الصالح فقط لا غير، فإنه قد يكون أساء الحكم في تقدير طاقاته وتصور لنفسه من الإمكانات ما ليست له، فالإنسان معروف بحبه لذاته، ذلك الحب الذي يجعله يضخم حسناته ويقلل من شأن نواقصه وجوانب ضعفه، فيتولى المسؤولية من ليس مؤهلاً لها مما يؤدي إلى الضرر العام بالإضافة إلى الضرر للفرد نفسه في تحميله ما لا طاقة له به، فعن أبي ذر أنه عندما طلب لنفسه ولاية قال له الرسول صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم... إنك ضعيف وإنها أمانة يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" .
وهذا قليل جداً من كثير جداً من مساوئ الديمقراطية ونواقصها التي قد لا تبدو للمتأمل الذي ينظر إليها من بعيد، ولو دخل المرء في خضمها لوضع يده على الكثير مما يجري فيها من مساومات وصفقات ورشاوى وغش وخداع وغير ذلك من وسائل ابتزاز الأصوات ، وكلها تبعد الشعب عن حكم الشعب أو حتى المشاركة في حكم نفسه ).
( المرجع : " الديمقراطية : تأملات وطموحات " ، مفيدة محمد إبراهيم ، - مواضع متفرقة - ) .
===========(40/251)
(40/252)
الفيدرالية .. الخطر القادم !
نعم.. نعم للإسلام لا أميركا ولا صدام
[ في ظل رائحة التقسيم والتفتيت التي فاحت من كل مكان يصبح حديث المسئولين والإعلاميين العراقيين عن أهمية الفيدرالية ومحاسنها استخفاف بالعقل والدين والوطن ]
بقلم: عبد الله الرشيد
1426هـ - 2005م
بسم الله الرحمن الرحيم
? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ?
مقدمة
الحمد لله حمداً يبلغ رضاه ، وصلى الله على أشرف من اجتباه وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه ، وبعد ..
فقد دفع اليَّ أحد مشايخنا الفضلاء كراساً بعنوان : " تصورات عن الفدرالية في العراق .. الاسباب والمنطلق " للسيد واثب العامود ( وهو على ما يبدو من أهالي محافظة البصرة ) فقرأته قراءة سريعة ، فلما وصلت الى ( النظريات المحتملة في شكل النظام الفيدرالي في العراق وخصائص كلٍ منها ص 13 ) تعجبت من طرح الرجل وأفكاره وتصوراته حول بلده الذي غاب عنه دهراً !
فالرجل يؤسس لفيدرالية تفتيتية قائمة على تبريرات طائفية ( وقد قمنا بالرد عليه في ص 32 وما بعدها ) ، فهو يستعمل لغة طائفية متشنجة يكرهها العراقيون ، انظر إليه وهو يقول في ( ص4) : " وقد عانى أبناء المناطق الجنوبية ما عانى من التفريق الطائفي حيث أصبح مواطن المنطقة الجنوبية ( البصرة - العمارة - الناصرية ) من أفقر المواطنين " .
وكأن ابناء الحلة أو ديالى أو الانبار من أغنى الأغنياء ؟!
ثم يواصل فيقول ( ص5 ) : " فكانت جميع الوظائف تقوم على اساس طائفي مغاير لمعتقدات الأغلبية الا الوظائف الخدمية والمدنية " ثم يربط بشكل ظالم بين أهل السنة والنظام البعثي السابق فيقول في نفس الصفحة : " وما ان نجحت ما تسمى بثورة 14 تموز بقيادة عبد الكريم قاسم وحل الأمل في نفوس الناس بالتحرر من قسوة الحكم الطائفي السني في الجنوب " .. الى قوله : " وكان صدام ونظامه بكل أطرافه نظاماً طائفياً صريحاً حاقداً ومستأصلاً للجذور " !
وهي لهجة تصعيدية طائفية في وقت يدعو فيه العقلاء الى التهدئة والنأي بالخطاب الوطني عن المفردات العنصرية والطائفية ، ثم اننا نسأل الأخ العامود عن مراده ( بكل أطرافه ) ونقول له : هل أنت واثق من هذا العموم ؟ لاسيما وان صاحبنا يكثر من استعمال ألفاظ العموم ( جميع .. ) و ( كل .. ) !
وعندما تحدث عن سياسة توزيع الثروة في زمن النظام البائد قال كما في ( ص6 ) بأن الحكومة السابقة كانت " توزع الثروات على أسس طائفية أو عنصرية أو جغرافية .. " وهي عبارة مطاطة لأنها مشتملة على ( أو .. أو .. أو ) وبهذا فكل الاحتمالات مفتوحة !
وبما أن الحقيقة هي غير ما ذكر وبالغ فيه كثيراً ، وكأن إقناع الجماهير الشيعية بالفيدرالية لا يمكن أن يتم إلا على جسر من المبالغات في الحديث عن طائفية النظام السني السابق على حد تعبيره!
فتهييج المشاعر الطائفية من خلال التركيز على ( عقدة الماضي ) أصل عند القوم على ما يبدو .
ولأن الحقيقة لا بد أن تظهر أبى الله إلا أن تظهر على لسانه هو وبعد أسطر مما سبق ، فها هو يشير الى ظلم الشيعة الذين في السلطة لإخوانهم فيقول ( ص6 ) : " فكان الشيعي أشد قسوة على الشيعي " وقال ( ص5 ) : " .. فلم يكتب التاريخ تعيين أي محافظ أو مدير شرطة ومدراء الدوائر الآخرين من نفس أبناء المحافظة نفسها وقد يكون قدير ( كذا ) على اضطهاد أبناء تلك المحافظة ولو كان ينتمي لهم طائفياً " !
وقال عن طبيعة النظام السابق ( ص9 ) : " .. من خلال عائلة وجماعة حاكمة " وهذا عين الصواب ، فالنظام السابق شئ وأهل السنة شئ آخر ، وقال مؤكداً هذه الحقيقة ومتناقضاً مع نفسه ( ص9 أيضاً ) : " وإنما طغت الاعتبارات الشخصية والقرابية والحزبية " وقال في ( ص11 ) : " بحيث أصبحت ممارسة السلطة خاضعة لقيود ذاتية وشخصية وليست خاضعة للدستور والقوانين " أ.هـ ، لا الطائفية كما زعم قبل ذلك .أقول : لما وقع الرجل في مغالطات مكشوفة في موضوعة الفيدرالية وطائفية النظام البعثي العفلقي السابق ، كان لزاماً علينا أن نرد هذه التقولات وهاتيك التصورات ، لا سيما وأن هناك جمعاً من المفكرين والحزبيين والإعلاميين من يروج لفيدرالية الجنوب ويدعو اليها بحماسة مفرطة ، فالواجب الشرعي والوطني يقتضي بيان الأمر على جليّته ليحيى من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة .
وقد جعلت البحث في مقدمة ومطلبين وخاتمة :
تحدثت في المقدمة عن الأسباب والدواعي لكتابة هذا البحث .
والمطلب الأول : خصصته لبيان أن النظام السابق لم يكن نظاماً سنياً طائفياً .
والمطلب الثاني : جعلته لب البحث وشامته وفيه ناقشت ( المشروع الفيدرالي المقترح للعراق والمدون في مواد مسودة الدستور ) نقاشاً مستفيضاً نقلت فيه أقوال أهل الاختصاص مع تعليقات يسيرة تعرفها في مواضعها .
وأما الخاتمة - رزقنا الله حسنها - فقد ذكرت فيها الحل للخروج من هذا المأزق الخطير .
والله أسأل أن يفتح به مغاليق القلوب والابصار ، وأن ينفع به كاتبه وقارئه وطابعه وناشره انه ولي ذلك والقادر عليه .(40/253)
المطلب الأول : صدام وأهل السنة ( هل كان النظام السابق نظاماً طائفياً ؟ )
إن بعض وسائل الإعلام " ومنها قناة العراقية " و " الفيحاء " و "الأنوار" و" الفرات " وبعض الناس في مجلس الحكم الانتقالي سابقاً والجمعية العمومية لاحقاَ والسيد واثب العامود حالياً ( وهو عضو مجلس محافظة ) كانوا قد أثاروا قضية الطائفية، و أرادوا أن يربطوا بين النظام السابق والمذهب السني ، وزعموا انه كان نظاما طائفيا بغيضا بل ومتعصبا باتجاه الشيعة ولأسباب مذهبية وهذه المغالطة قد سمعناها تتكرر على الألسنة مراراً في وسائل الإعلام - ووردت بعض الإشارات لها في مشاريع مسودة الدستور !!- فلزم البيان والإيضاح لإظهار الحقيقة في هذه القضية المهمة وان كنا نكره الخوض في مثل هذه الأمور فنقول : إن النظام البعثي السابق لم يكن نظاماً إسلاميا وبالتالي لم يكن نظاما سنيا لان التسنن فرع عن الإسلام ، ويتبين هذا من وجوه :
( الوجه الأول) إن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب علماني معروف ، والعلمانية لاتقوم على أساس ديني أبدا ، ومؤسس البعث رجل علماني منحدر من أصول مسيحية مستنبت في التربة السورية وهو " ميشيل عفلق " ، كما أن عامة مفكري حزب البعث ليسوا من المسلمين كشبلي العيسمي والياس فرح ونحوهما . ومن ثم فان الأيدلوجية السياسية المتبعة في الحكم لحزب البعث تقوم على أساس الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة .
( الوجه الثاني ) لم يفرق النظام السابق في تعامله مع الآخرين بين السنة والشيعة ، فقد وقع الاضطهاد والظلم على الفريقين سواء بسواء ، فقد اعدم النظام البعثي الكافر عددا من رجالات أهل السنة ودعاتهم ومنهم الشيخ عبد العزيز البدري والأستاذ ربيع كمونة ورفاقه ، والشيخ محمود العزاوي ، والأخ فايز البغدادي ، والشيخ تلعة الجنابي وغيرهم ..
أما الإعدامات التي نفذت بحق الضباط من أهل السنة فحدث عنها ولا حرج ، وعامتها لأسباب أمنية وسياسية .
أما الاعتقالات والإيداع في السجون لأسباب أمنية فأمر عجيب وهو اشهر من أن يذكر ، فاعتقال الإخوان والسلفيين كان مفتوحا على طول الخط ، ولم يتورع النظام السابق عن تعذيبهم وإرهابهم بشتى أنواع التعذيب التي كانت متبعة في سجون الأمن العامة والمخابرات العامة مما يعرفه جميع العراقيين ، وهذا مثبت بالمستندات والأوراق الرسمية وشهادة الشهود ، وكثير من الناس مات تحت وطأة التعذيب ، فكيف يقال بعد ذلك بان النظام البعثي الصدامي السابق كان طائفيا أو سنيا ؟!
وفي هذا الصدد يقول الدكتور سلمان الظفيري : " بعد مجيء البعثيين عملوا على مصادرة الحريات، فقلَّ النشاط الإسلامي السني، ولا سيما بعد إغلاق كلية الدراسات الإسلامية عام 1975م وإلغاء الحلقات العلمية كحلقة الشيخ عبد الكريم المدرس في مسجد القادرية، وكذلك إلغاء المدرسة الآصفية في بغداد، وإلغاء منصب المفتي عام 1976م وهي سنة وفاة أخر مفتي للعراق، وإلغاء كلية الإمام الأعظم وتأسيس كلية شرعية مختلطة ومسيسة، وكانوا قد أجبروا الأستاذ الشيخ عبد الكريم زيدان على وقف نشاط الإخوان المسلمين في العراق وحل التنظيم " .
[ اليقظة السنية المعاصرة في العراق ( ص 2) ] .
( الوجه الثالث ) كما انه لم يميز بين السنة والشيعة فيما يتعلق بالامتيازات والمكاسب الوطنية أو المصلحية فمن كان بعثياً موالياً لصدام حصل على شيء من المكاسب من أي دين كان ومن أي طائفة كان ، ومن لم يكن بعثياً موالياً لصدام حرم من كل ذلك وضيق عليه في معيشته وعمله .
وما وقع على الإسلاميين من أهل السنة في زمن النظام البائد من " التهميش المعيشي والاقتصادي " حقيقة ثابتة لا يماري فيها إلا جاهل مغرض !!
فقد اتبع النظام معهم " سياسة التضييق والتجويع والحرمان " ولم يسلم من ذلك إلا من كان موسراً بالوراثة أو ناشطاً في التجارة أو ممن قدم شيئاً من التنازلات !!
والخلاصة : إن صداماً ( وهو راس النظام السابق وقائده ) لم يكن مسلماً متمذهباً ولا سنياً ولا طائفياً بحالٍ من الأحوال، وانما هو من أصول سنية ـ على التسليم بان أصوله كذلك ـ وإلا فان هناك من يشكك بإسلامية أصوله أو عربيتها !!
وما وقع على السنة من الظلم هو شبيه بما وقع على الشيعة منه وإلا فان الشيعة قد ظلموا اكثر من غيرهم ، وهناك طائفة ثالثة قد ظلمت اكثر من الشيعة " وهم الأكراد " وهم من أهل السنة عموما ..
ونحن لا ننكر وقوع بعض " الحلقات الطائفية " أو " الانحياز المذهبي" من قبل بعض المسؤولين في الدولة أو في بعض الممارسات لاسباب معقدة ومتداخلة تارة لمصلحة أهل السنة وتارة لمصلحة الشيعة بحسب مناطق النفوذ المذهبي في الوسط والجنوب ( وهذا في الظاهر لبعض المتوهمين وإلا فان اللاعب الوحيد والمستفيد الأوحد هو نفس النظام ) ، إلا أن هذا لا يبرر مطلقا وصف النظام بالطائفية أو انه كان يعتمد الأسلوب الطائفي في الحكم !
والحق انه ما من دين أو عرق أو طائفة أو مذهب أو فكر أو جامع أو حسينية أو كنيسة أو شجر أو ماء في العراق إلا وامتهن واهدرت كرامته أو قيمته !!
* اعتراضات والرد عليها :
فان قيل :(40/254)
1. انه كان يحظى بتأييد علماء أهل السنة .
2. إن المقاومة الحالية للاحتلال محصورة بالمثلث السني مما يشعرك بولائهم للنظام السابق
3. منع الشيعة من ممارسة شعائرهم وطقوسهم المذهبية الخاصة دليل على طائفية النظام .
4. إن هيكل النظام الأساسي كان من أبناء السنة ولم يكن من أبناء الشيعة !
5. قمع الانتفاضة الشيعية في الجنوب عام 1991م بوحشية ودموية دليل على ذلك أيضا .
والجواب عن هذه الإشكاليات وباختصار شديد :
فأما (1) فيجاب عنه بالنفي فالمؤسسة السنية - في الجملة - كانت تعارض النظام إلا أنها أدركت عجزها عن الإطاحة به إذ لا سبيل إلى ذلك إلا بإفناء المسلمين وتمزيق البلد ، وهذا لا ينفي وقوف بعض المتمشيخين إلى جانبه وولائهم لصدام إما لمصلحة دنيوية عاجلة وإما لاعتقادهم عدم كفره ، وانه أولى من مجيء الأجنبي إلى البلاد كما هو حاصل اليوم وهذا كان رأيا لبعض علماء الشيعة أيضا وهم معروفون فلا موجب للتسمية وهذه في جملتها " حالات فردية " لا تمثل التوجه العام لدى أهل السنة ولا الشيعة حتى !
وأما (2) فيمكن القول بان المقاومة الحالية - باستبعاد الجماعات التي تفجر في أوساط المدنيين - هي " مقاومة إسلامية جهادية وطنية " منطلقها الجهاد في سبيل الله تعالى وهدفها طرد الاحتلال وهي لا تمت إلى النظام السابق بصلة ، وهي لا تهدف إلى إعادته إلى السلطة لأنها كانت قد اكتوت بناره في السابق ، ولأنها كانت تكفره ولا تعترف بشرعيته وهذا يظهر من مواقعهم على الانترنيت ومن بياناتهم ، واكبر دليل على هذا أنها لم تقف إلى جانب النظام خلال الحرب عليه لبغضها له ولعدم إمكان اللقاء معه ، هذا هو الإطار العام للموضوع ، أما إمكانية وجود بعض الأفراد ممن يوالى النظام ويدافع عنه فأمر وارد ضمن التصور الجزئي إلا أنهم لا يشكلون وزناَ ثقيلاً في المقاومة الحالية .
أما (3) فيجاب عنه بعدم خصوصية الشيعة ، فقد دأب النظام المخلوع على طمس معالم الهوية الإسلامية لأهل السنة فمنعهم ـ وغيرهم ـ من التمثيل السياسي وتشكيل الأحزاب والجمعيات العلمية والخيرية ، ومنعهم من ممارسة كثير من شعائرهم الدينية ( وما محاربة اللحى والثوب القصير إلا حلقة في هذا المسلسل ) ، وحال بينهم وبين الاتصال ببقية المؤسسات السنية في العالم الإسلامي وفرض عليهم عزلة مذهبية رهيبة ـ لاسيما بعد الأزمة السياسية التي خلفتها حرب الخليج عام 1991م ـ الأمر الذي لم يصب الشيعة بمثله خلال تلك الفترة لا سيما بعد ضعف النظام وانكشاف الحدود مع إيران وانفتاحه عليها اقتصاديا وسياسيا إلى حد ما !!
وكان النظام يحارب بشكل محموم الناشطين من الدعاة إلى الله ، ويحارب الذين يدعون إلى الإصلاح والى تحكيم الشريعة الإسلامية ويتهمهم بـ : " تسييس الدين " و " التكفيرية " وهذا أمر يعرفه الممارس !
فهذه النقطة دليل على انغلاقية النظام ومدى حنقه على الإسلام وأهله لاسيما الدعاة من أهل السنة وليست دليلا على طائفيته كما يزعم البعض !
وأما (4) فيمكن القول بان هؤلاء وان كان بعضهم قد انحدر من أصول سنية ومن عائلات سنية ضعيفة التدين غالباً إلا انهم بصعودهم إلى المراكز العليا في النظام والحزب قد فقدوا انتماءهم القديم وصاروا " صداميين " إلى النخاع والبحث في كفرهم كان يشغل بال العاملين من أهل السنة ، وعامة أولئك البعثيين لا يقيمون وزنا للشريعة الإسلامية فضلا عن المذهب أو الطائفة ، فرئيسهم المعظم ومعبود هم الأكبر هو " صدام " أو قل إن شئت " المصلحة الشخصية " !!
ثم إن النظام كان يعتمد عليهم لعصبتهم القبلية القوية ، ولم يكن يخصهم بالتقريب فقرب إليه الشيعة واليزيدية والصابئة والنصارى _ ولو وجد اليهود لقربهم إليه ! _ فالمعيار عنده " الولاء لشخص الرئيس " لا غير .
ثم إن " الكادر الحزبي المتقدم " و" القاعدة الشعبية من الذيول " وهي أدوات أساسية للنظام الهيكلي للحزب ، وظهر قوي يعتمد عليه النظام في الميدان وفي الأزمات لرفع التقارير ورسم الموقف وللبطش والتنكيل بالمعارضين خصوصا في مناطق الجنوب إنما هي في اغلبها من " أبناء الشيعة " وهذا لوحده كفيل بإسقاط الشبهة من أساسها ، فأي طائفية هذه التي يتحدث عنها القوم ؟!
ثم إن القرآن الكريم لم يفرق بين الرئيس والوزير والجنود في اصل المؤاخذة فالكل في الوزر سواء وفي الحكم مشتركون قال تعالى : (ً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)[القصص: من الآية8].
وأما (5) فيجاب عن ذلك بان ما فعله بالأكراد ـ وهم من أهل السنة في العموم ـ أبشع و اشد وحشية وهمجية ، فهناك اكثر من ( 250 ) قرية كردية قد أبيدت تماما وقصف أهلها من الشيوخ والنساء والأطفال بقنابل ( النابالم ) وبعضها بالغازات الكيماوية السامة ، وهذه قضية إسلامية سنية إنسانية ولا تخص الأكراد وحدهم ، فهل يعقل بعد هذا بان يقال إن : ( علي كيماوي وقصي وطه الجزراوي وأياد فتيح الراوي وسلطان هاشم وعبد حمود وسواهم من المجرمين ) كانوا من أهل السنة ومن قادة أهل السنة ؟!!
سبحانك هذا بهتان عظيم .(40/255)
وأخيرا فان العقلاء توحدهم الجراح والمصائب لا أن تكون موجبا لمزيد من الفرقة والاختلاف والتدابر ، وإيذاء " صدام المجرم " حجاج هذا الزمان للسنة والشيعة في القديم ينبغي أن يوحدهم في الجديد .
المطلب الثاني : مناقشات في الفيدرالية
يصول اليوم في الساحة السياسية اشكال من الفرسان وكما يقول المثل ( كل واحد راضي بعقله ) ومنهم من ينظر للفدرالية وكأنه يخطط لقطعة ارض، لا مصير دولة وشعب فتجد بين الفرسان الانتهازي الوصولي المشغول بإرضاء عجبه وانانيته ومكاسبه الدنيوية، فتراه يطل علينا من تلفاز النظام السابق المرتبط بالحزب يصرف علينا من الكلام ما لايغني ولا يسمن، واليوم ينظّر بما يناسب المقام والمصلحة، وهؤلاء أفرد لهم الامام ابو حامد الغزالي فصلاً في الاحياء ولاجدوى في خطابهم. وترى في الساحة فريقاً اكاديمياً مؤمناً بما قرأه في الكتب عن الفيدرالية واللامركزية الادارية قاصراً النظر عن النتائج والعواقب على ارض الواقع العراقي، وفريقاً يجد في الفيدرالية تحقيقاً لمصلحة متوهمة .
النظام السابق حرم طوائف الشعب من ممارسة العمل السياسي طيلة خمسة وثلاثين عاماً خلت ولذلك تجد الكثير منهم لايملك شيئاً من المعرفة والدراية والحنكة والتجربة وبعد النظر للمناورة السياسية وتحديد المواقف.
[ عزيزي الفدرالي تمهل ، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات (ص1 ) بتصرف ].
* مفهوم الفيدرالية
تبدو الفيدرالية اليوم من القضايا الأكثر إثارة للجدل في الواقع العراقي إذ أن قليلاً من العراقيين يملكون فكرة واضحة عن ما تعنيه الفيدرالية، ويرى المختصون إن إشكالية فهم الفيدرالية لدى المواطن العراقي باتت تشكل تحديا خطيرا إذ كيف سيقرر العراقيون مستقبل بلادهم من خلال صناديق الاقتراع اذا كانوا لايدركون الفيدرالية كمفهوم ؟!
ومع هذا ذهب آلاف من الناس وصوتوا ( بنعم ) على مشروع الفيدرالية الذي تضمنه الدستور وهم بعد لم يدركوا خطورة الأمر ، ولم يعرفوا الفيدرالية من أصلها !!
ومن اجل إيضاح الفكرة هنا لابد لنا من إدراك الفيدرالية كمفهوم يقوم على أساس انه نظام سياسي عالمي يوجد فيه مستويان حكوميان يحكمان نفس المنطقة الجغرافية ونفس السكان، واصل الكلمة قادم من كلمة لاتينية (فيدير) وتعني الثقة.
ليست "الفيدرالية" بكلمة عربية ومن أصل اللغة، وإنما كلمة دخلت قاموس هذه اللغة وغيرها (الكردية والتركمانية والسريانية..الخ) في العراق، ، في فترات مختلفة، وأصبح يجري تداولها بعد انتفاضة آذار 1991 .
وهي تترجم عادةً بكلمة "الإتحاد" كأقرب عبارة لها ،وهي في الحقيقة ، تعني شكلاً محدداً من أشكال الإتحاد.
وتقوم الدولة الفيدرالية على أساس وجود حكومتين حكومة مركزية وحكومات موجودة في وحدات سياسية صغيرة تدعى بالأقاليم اوالولايات أو المناطق ،وهذه الوحدات الصغيرة تعطي بعض قوتها السياسية للحكومة المركزية لكي تعمل من اجل المواطن . وفي ظل هذا النوع من النظام تقع على الحكومة المركزية مسؤولية البت بالأمور التي تتعلق بالدولة مثل الإشراف على الجيش وعقد المعاهدات ... الخ من الأمور التي تمس سيادة الدولة، وبمعنى آخر تعني توزيع صلاحيات الدولة أفقياً أي جغرافيا بين الاتحاد المؤلفة منها او عموديا بين السلطة الفيدرالية وهي أعلاها وسلطات الأقاليم الاتحادية وبهذا تؤسس الدولة بطرقتين إما عن طريق اتحاد مناطق مختلفة لم تكن تشكل دولة واحدة وبقرار جماعي منها لكي تشكل دولة لامركزية أي دولة فيدرالية للاستجابة الفعلية إلى الواقع القومي او الجغرافي والاقتصادي والتاريخي.
أما الكونفدرالية فهي نظام تتحد فيه دولتين او أكثر وفقا لمعاهدة يتم بموجبها تشكيل هيئات مشتركة في شتى المجالات لتوحيد سياسة الدول الأعضاء مع احتفاظ كل دولة بشخصيتها الدولية .
[ الفيدرالية في العراق وإشكالية الفهم الغامض ، سهيله عبد الانيس (ص 1-2 ) بتصرف ].
فالفيدرالية نظام سياسي يفترض تنازل عدد من الدول أو القوميات،الصغيرة في أغلب الأحيان،عن بعض صلاحياتها وامتيازاتها واستقلاليتها لمصلحة سلطة عليا موحدة تمثلها على الساحة الدولية وتكون مرجعها الأخير في كل ما يتعلق بالسيادة والأمن القومي والدفاع والسياسة الخارجية .
والفيدرالية السمة الأساسية في الأنظمة الحديثة التي تعمل على حل مشكلاتها القانونية والتنظيمية والسياسية التي تعقد بفعل التبادل الاجتماعي والعلاقات الدولية. فهي على الصعيد الداخلي تسعى لتنظيم أمور الدولة الداخلية، بهدف تسيير العمل والوظائف وتوزيعها مابين السلطات المركزية والسلطات المحلية، بحيث تحترم السلطة الفيدرالية
المصالح الخاصة للقوى المؤلفة للدولة الأم، ومقابل تنازلها عن صلاحيات الأمة العامة .
وعلى الصعيد الخارجي تلجأ الدولة الفيدرالية إلى رسم علاقاتها الدولية لصالح مجموع الوحدات والكيانات التي تتكون منها .(40/256)
فالفيدرالية إذن تتعلق بالنظام السياسي وبالنظام الإداري وبتقسيم صلاحيات السلطة الحاكمة وتنظيم العلاقات فيما بينها ، وتأمين انسجامها لتمنع تغلب طرف على طرف آخر ، فتحصر قرارات الدولة الفيدرالية المركزية بالقمة ، وتترك الأمور المحليّة للسلطات الإقليمية ، والسلطات المحلية بدورها لا تخرج عن نطاق صلاحياتها ، فهي لا تشرع للقضايا التي تتعلق بالدولة المركزية ، رغم أنها تشارك في المؤسسات التي تعالج الأمور القومية ، وتنظم هذه المؤسسات الصلاحيات وتوزعها بشكل يؤمن استقلالية الوحدات المكونة للسلطة الفيدرالية ويضمن لها المشاركة الفعالة في القرارات المركزية والمصيرية
وفي القرن العشرين ارتبطت ظاهرة الفيدرالية بمبادئ الدفاع عن حقوق الأقليات والأثنيات القومية والدينية الصغيرة بالتوجه نحو إضعاف مفهوم الدولة المركزية.
فتكثر الأنظمة الفيدرالية حيث يكثر التنوع القومي والأثني والديني . فهي مطبقة في كل من الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل والمكسيك وسويسرا والاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وأستراليا والهند واندونيسيا وغيرها من الدول .
وقد اختلف مفهوم الفيدرالية وكيفية تطبيقها من دولة إلى أخرى. وبما إنها مفهوم سياسي يتعلق بالنظام السياسي والسلطة، وبما أن الديمقراطية ، والتمثيل السياسي وتقرير المصير، هي من المقومات الأساسية للفدرالية فإنها بذلك دائماً عرضة لسوء الفهم والتطبيق، ومعيارها الوحيد هو _ ما يسمى _ بالديمقراطية واحترام المصالح والسيادة للدولة والقوميات.
ويكاد مفهوم الفيدرالية يترادف مع قول الفيلسوف (جفرسون) في القرن الثامن عشر" الدولة التي تحكم جيداً هي التي تحكم أقل" فالتجاوب مع الحاجات القومية والإقليمية، هو معيار آخر للفدرالية.
ومن هنا فأن الدول الفيدرالية تكاد تكون النقيض للإمبراطورية التي تتميز بمركزية شديدة وبسيطرة المركز على الأطراف .
والفيدرالية على أنواع ودرجات متفاوتة في الأشكال والصيغ التطبيقية، إذ تتراوح ما بين وحدة مطلقة أو الاتحاد ما بين مجموعات متمايزة تماماً، وتتمتع بحرية كبيرة تكاد تصل حتى الى الانفصال .
ومسيرة تكوّن الفيدرالية نفسها تتبدل من دولة إلى أخرى ، فبعض الفدراليات، بدأت من وجود مجموعات وقوميات سياسية متفرقة، تعاقدت على تبني سياسة مشتركة، فعقدت فيما بينها وحدة فدرالية لتتخذ قرارات مصيرية مشتركة ، بينما فدرالية أخرى بدأت كدولة مركزية موحّدة تفرقت إلى وحدات وقوميات متميزة ومنفصلة نسبياً سعياً إلى التمتع بحرية في قراراتها واكتفت بإقامة علاقة فدرالية مع مجموعاتها الموحدة.
وغالبية الدول الفيدرالية تعتمد نظام فصل السلطات. والتمثيل الشعبي في الدول الفيدرالية يكون عادة على مستويين يتجسدان في نوعين من المجالس التمثيلية :
مجالس منتخبة مباشرة من الشعب، ومجالس أخرى لها صفات فدرالية موحدة.
المجالس الأولى تعكس المصالح ووجهات النظر المحليّة المختلفة للدول المؤلفة للكيان الفدرالي وللوحدات الإقليمية السياسية وتسهر على القرارات التشريعية للمجلس الثاني (الممثل للسلطة الفيدرالية المركزية) لكي تحمي كياناتها ومواطنيها ضد أية إجراءات فدرالية فوقية أو مضرّة بمصالحها. والأمثلة كثيرة على الدول الفيدرالية في العالم ويمكن الإطلاع على طريقة عملها وتنظيمها بالرجوع إلى النظام السياسي والدستوري فيها .
[الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق ، د عبد علي محمد سوادي ( ص 1-7 ) بتصرف/ شبكة النبأ المعلوماتية ] .
* صور الفيدرالية ، ومميزات الدولة الفيدرالية
يذكر رجال القانون أن الدول الفيدرالية تكونت إما من اتحاد كيانات مستقلة، أو من كيانات تنفصل من جسد دولة واحدة كبيرة، ثم تعقد العزم على الاتحاد ضمن صيغ قانونية واجتماعية جديدة. وهي كالتالي:
1- اتحاد ولايات متقاربة: تنشأ الدولة الفيدرالية من إتحاد ولايتين أو عدة ولايات متقابلة تشترك شعوبها في ملامح اجتماعية وجغرافية وتاريخية، فتتنازل كل واحدة عن بعض سلطاتها الداخلية، وعن سيادتها الخارجية، ثم تتوحد ثانية لتكون الدولة الفيدرالية على أساس الدستور الفدرالي، مثال الولايات أو الإمارات المتحدة: الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 والاتحاد السويسري عام 1874 وجمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 واتحاد الأمارات العربية عام 1971.
2- تفكك دولة كبيرة: تنشأ الدولة الفيدرالية من تفكك دولة كبيرة بسيطة، يعاني سكانها من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، كاختلاف اللغة والعادات والثقافات والموارد والثروات، فيعمل شعبها على المطالبة باستقلال تام عن سيطرة الحكومة المركزية، وتقرير مصيرها دون تدخل من الآخرين، ثم تعمل الولايات المفككة على تشكيل دولة واحدة هي الدولة الفيدرالية، وفق نظام إداري فدرالي. مثال الدولة الفيدرالية الناشئة عن تفكك دولة بسيطة هي المكسيك 1857 والأرجنتين 1860 والبرازيل سنة 1891 وتشيكوسلوفاكيا سنة 1969.
تتميز الدولة الفيدرالية عن غيرها من الدول البسيطة بأمرين:(40/257)
1- الدولة الفيدرالية دولة مركبة: تتصف الدولة الفيدرالية بأنها دولة مركبة من أجزاء متميزة، وهذا التركيب هو الذي يميز الدولة الفيدرالية عن الدولة البسيطة ، حيث تتكون الدولة الفيدرالية من دولتين أو أكثر، أو من إقليمين أو أكثر، يكون لكل منهما نظامه الخاص، واستقلاله الذاتي، مثل أن يكون لكل ولاية أو إقليم دستور خاص، برلمان خاص، حكومة خاصة، وقوانين خاصة، وعسكر خاص، وموارد خاصة، ولغة خاصة بها.
2- الدولة الفيدرالية دولة واحدة: تتصف الدولة الفيدرالية بأنها دولة واحدة، كالدولة البسيطة تماما، من حيث وجود دستور اتحادي واحد، وحكومة اتحادية واحدة، وبرلمان اتحادي واحد، ومحكمة اتحادية واحدة، وجيش اتحادي واحد .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث (ص 3 ) ] .
* أشكال الفيدرالية
وتأخذ الفيدرالية ثلاثة أشكال للحكم :
اولاً : شكل الارتباط الإداري .
ثانيا: شكل الارتباط السياسي .
ثالثاً : شكل الارتباط السياسي القومي _ العرقي_ الاثني .
ماهية الفروقات بين الحكم الذاتي والفيدرالية :
1. أن شكلي الحكم والفيدرالية يأخذان صيغة وحدة سياسية إدارية إقليمية .
2. يدون قانون الحكم في مواثيق تشريعية خاصة , بينما الفيدرالية يتم تدوينها كحقوق دستورية في دستور الدولة المركزية .
3. كلا شكلي الحكم الذاتي والفيدرالية يتم ممارستهما في أطار وحدة الدولة المركزية.
4. يحدد الدستور صلاحيات الحكومة الفيدرالية المركزية وكل ما تبقى من صلاحيات تمنح لحكومة الإقليم الفيدرالية.
[ الفيدرالية خطوة أولية على طريق الحل السلمي للقضية القومية ، ماجد لفته العبيدي ، موقع بحزاني للحوار ( ص 5 ) ] .
* ضمانات إنجاح الفيدرالية
الفيدرالية ليست لباساً جاهزاً r eady Made يستطيع كل شعب أن يلبسه ويتخذه زياً سياسياً ..
ينبغي أن يتزامن إدخال الأنظمة الفيدرالية مع القيام بإجراءات محددة وقوية المفعول تتخطى "شكلية" إعداد نصوص الدستور والقوانين لتكرّس "واقعا" دستوريا سليما يشمل الحفاظ على حقوق الإنسان وسيادة القانون في الدولة والعدالة والحرية.
لكن هذا يتطلب أيضا رغم عقد الاتفاق على قاعدة الأغلبية ضرورة احترام الأقليات الدينية والعرقية والاجتماعية ومعاملتها بروح التسامح.
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي " ،عارف حجاج ( ص5 / موقع قنطرة ) بتصرف ].
خلاصة تطبيق الفيدرالية في أي دولة، يعتمد على التالي:
- ضرورة وجود تعريف مستفيض للنهج الفيدرالي، ليتمكن الغالبية من الشعب من الوصول إلى قناعات ذاتية حول مدى صلاحية إقامة نظام فيدرالي في بلادهم.
- ضرورة عقد المؤتمرات والندوات العامة لتحديد المداليل العملية للنهج الفيدرالي الخاص بتلك الدولة.
- ضرورة وضع الضمانات الدستورية والإجرائية للحفاظ على وحدة الدولة أرضا وشعبا.
- منح الحرية الكاملة لأبناء الأقاليم في تحديد العلاقة الإدارية بين الإقليم والعاصمة بما يحقق الحد الأدنى من الانسجام في إدارة شؤون الأقاليم.
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث (ص 7 ) ].
ومن المهم أيضاً أن لا يكون المشروع الفيدرالي داخلاً ضمن (مؤامرات الهيمنة الأجنبية ) .
سويسرا نموذجاً :
إن 25دولة في العالم وبما يقرب من 45%من سكان العالم تعيش في ظل نظام فيدرالي ولعلنا نأخذ من التأريخ الحديث التجربة السويسرية , حيث كانت البداية الحقيقية في القرن الثالث عشر حين تشكل أول تنظيم إتحادي بين ثلاث محافظات , إنضمت إليها فيما بعد خمس أخري وذلك في عام 1291, وهناك بعض الدراسات تشير إلى أن السويسريين عرفوا ومنذ الألف الميلادي الأول المجالس البرلمانية في جميع المقاطعات السويسرية ,حيث ثمة برلمان لكل كانتون , له السلطة العليا ,وحق إتخاذ قرارات الحرب والسلم.
ومع هذا يجنح الكثير من المؤرخين إلى اعتبار الثاني عشر من شهر أيلول عام 1848البداية الحقيقية للنظام الفيدرالي بعد إتحاد ثلاثة وعشرين كانتونا , اشتركوا في صياغة الدستور الجديد , الذي حدد صلاحيات السلطات الاتحادية ( السياسة الخارجية , الدفاع , الحرات الفردية , العدل , المالية , الاقتصاد العام ) .
والكانتون يتألف من عدة كومونات .
عدد الكومونات في سويسرا ثلاثة آلاف وأثنين وعشرين وعدد السكان لكل كومون يتراوح بين 250 ألف نسمة الى 300 ألف نسمة .
وبفضل الوعي السياسي نجحت التجربة السويسرية وأصبحت مثالا يُحتذى به من قبل بعض الشعوب , ويذكر ( الكاتب علاء اللامي ) ان بلجيكا أوفدت سنة 1988وفدا كبيرا من البرلمانيين ورجال الدولة الى سويسرا ليدرس عن قرب هذه التجربة الفريدة والخصبة ويأخذ مايفيد المجتمع البلجيكي الذي يعاني أصلاً من صراع بين المكونين المجتمعيين له ( قومية الفلامون والفالون) .
اهم المرتكزات لهذه الفيدرالية في النموذج الغربي :
1. حرية الدين والمعتقد.
2. التسامح الديني.
3. منع الترويج لمذهب طائفي ضد مذهب آخر .(40/258)
4. منع فرض لغة على أخرى بالإكراه .
5. إعتماد المواطنة في التعامل واعتبارها مُثل عليا تؤهل ممن يلتزم بها للعمل في هيئات الدولة والسلطات الثلاث .
6. لايجوز الإعلان عن الهوية الدينية او القومية او اللغوية لأي إتحاد فيدرالي..
[ لا فيدرالية دون التطبيقات الديمقراطية الضرورية .رشيد كَرمة ، موقع بحزاني للحوار ( ص2-3 ) ] .
لاحظ أيها القاريء المرتكز السادس ينسجم مع قيم ومفاهيم المجتمع الغربي وهو يتعارض كلياً مع قيمنا ومفاهيمنا الإسلامية ، ولهذا لا يصلح تطبيق هذه النماذج كمستنسخات عن الأصل في المجتمعات العربية والإسلامية إلا إذا اختارت هذه المجتمعات والعياذ بالله طريقاً غير طريق الإسلام !
وهذه التطبيقات الديمقراطية الضرورية التي يتشدق بها دعاة الفيدرالية هل يمكن تطبيقها في العراق كما حصل في المانيا وسويسرا وأمريكا ؟!
لا أعتقد !
ثم من يصدق أن أمريكا عبرت المحيط لتقديم الديمقراطية على طبق من ذهب للمستضعفين من العراقيين أو للوارثين الجدد !!
يقول مايك وتني : " من السخف القول بأن إدارة الرئيس بوش ملتزمة بالديمقراطية في الشرق الأوسط " .
[ تقسيم العراق استراتيجية أمريكية ، الشرق القطرية 1/9/2005 ]
وهؤلاء الذين يحدثون الشعب كل يوم عن نماذج فيدرالية ناجحة نقول لهم : عندما تطلُّون علينا مروّجين لدعوتكم الجديدة وتذكروا لنا كيف ان اقواماً متفرقة اجتمعت في فدراليات كسويسرا والمانيا ويوغسلافيا والولايات المتحدة والإمارات العربية والاتحاد الهاشمي(1958) قد فاتكم أن تذكروا لنا مثالاً واحداً عن بلد صغير كالعراق لا تتجاوز مساحته مساحة كاليفورنيا وسكانه لايتجاوزون الخمسة وعشرين مليوناً وثرواته هائلة قائماً بمؤسساته ومكانته الدولية منذ عشرات السنين اختار ابناؤه تجزئته الى أقاليم فدرالية؟؟ هذا لم يحصل قط، شتان بين الفيدرالية كنظام سياسي وبين اللامركزية كنظام إداري فالفيدرالية لاتتبع اللامركزية الإدارية بالضرورة. هل تتعاملون مع قطعة ارض أم مع مجتمع بشري؟ أتريدون اعادة بناء العراق أم قلبه على البطانة وإعادة تفصيله من جديد على هواكم دون إدراك النتائج والآثار الخطيرة التي ستترتب على فعلكم ؟!
[ عزيزي الفدرالي تمهل ، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات ( ص3 ) ] .
إن الفيدرالية في جميع بقاع العالم حتي في مملكة جورج بوش لم تقم علي أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية بل علي أسس أخرى غير تلك والا لكان للهسبانك في الولايات المتحدة الأمريكية محافظات مستقلة بهم وكان للسود إقليم خاص بهم حيث تكاثرهم في الجنوب ولخمسة مليون مسلم أمريكي أيضاً إقليم يخصهم ويعملون علي تعديل الدستور الأمريكي حسب عقائدهم الدينية والعرقية وغيرها ..
ملحوظة : لا يوجد تناقض بين الفيدرالية والنظام المركزي أو الدولة المركزية في النماذج المذكورة ، وإنما هما تنظيم لإقامة علاقة اتحادية بين الأقاليم ودولة المركز، كما هو في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن فدراليتها قامت على أساس ديموغرافي وليس على أساس ديني أو عرقي.
وكذلك لا تتناقض الديمقراطية بحسب المفهوم الغربي مع النظام المركزي في تلك البلدان، إذ أن فرنسا دولة ديمقراطية وهي دولة نظام مركزي، ومثلها ايطاليا والهند وأكثر دول أوربا يحكمها النظام المركزي، ومع ذلك فإنها ديمقراطية المنهج والتوجه.
[ فدرالية تقسيم العراق، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات ( ص1 ) ] .
فلا مانع من إقامة نظام مركزي في العراق يطبق فيه مبدأ العدالة أو ما يسمى بالديمقراطية ( مع عدم تسليمنا بالمفهوم الغربي لها ) مع وجود ضمانات تحول دون الرجوع إلى مربع الديكتاتورية ، أو تطبيق ( اللامركزية الإدارية ) وهي أشكال تحول دون الانزلاق في المخطط الأمريكي !
* موقف العرب والأكراد والأقليات من الفيدرالية
تبنت القوى الكردية على وجه خاص ومنذ البداية فكرة الفيدرالية بهياكلها الجغرافية والإثنية. ومع أنها لم تتبن بصورة صريحة معلنة خيار الانشقاق عن الدولة إلا أنها لا تبدو مكتفية بمبدأ التوزيع التكميلي للسلطات بين الاتحاد وأجزائه داخل الدولة الاتحادية المشتركة.
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي ، عارف حجاج ( ص2 / موقع قنطرة ) ] .
هذا على عكس الحال لدى الأغلبية العربية (وداخل النخب السنية بطبيعة الحال) التي لم تبد حماسا في البداية لخيار الفيدرالية. إذ جاءت أولوياتها تنص على استعادة استقلال العراق وسيادته ووحدته الإقليمية في إطار دولة مركزية قوية.
وتوجد دلائل على أن القوى الرئيسية داخل المحور الشيعي تسعى إلى تبني نظام شبيه بنظام توزيع السلطة في لبنان وفقا للانتماء المذهبي .
ويبدو أن كثيراً من أتباع هذين المذهبين لو حصل توضيح دقيق للمشروع الفيدرالي وكان لابد من اختياره ضرورةً وبفرضٍ أمريكيٍ فإنهم يحبذون الخيار الفيدرالي المبني على قواعد إقليمية إدارية وليس على أسس دينية مذهبية ، ويصبح الأمر كما قال الشاعر :
إذا لم تكن إلا الأسنّة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها !(40/259)
[ موقف الأكراد والمحللين السوريين من الفيدرالية الكردية في العراق، وحيد تاجا ، موقع الاختلاف ثروة ، ( ص2 ) 20 آذار، 2004 بتصرف ]
أين المشكلة ؟
والمشكلة أن بعض القيادات الشيعية والكردية -وليست كل القيادات بدليل معارضة الزعيم الشيعي السيد مقتدى الصدر والشيخ جواد الخالصي- تروج لمخاوف بأن يعود حكم البعث وسيطرة السنة مرة أخرى، وترى بالتالي أن الحل يكمن في فيدرالية شيعية في الجنوب وأخرى كردية في الشمال يتوافر لهما الأساس القانوني (حق الإقليم في رفض تنفيذ قرارات المركز) والمعيشي (تقسيم الثروات)، غير أن هذا يعني على الأرض انفصال كل منهما فعلياً بدولة مستقلة حتى لو لم ينص الدستور صراحة على ذلك.
وكان المراهنون على وحدة بلادنا يعولون على طرح فكرة الفيدرالية في الشمال الكردي فقط المنفصل عمليا عن العراق منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وبشروط وتصورات معينة، ولكن يبدو أن المناقشات حول الدستور العراقي، إضافة إلى تسرب أنباء عن رغبة واشنطن في انسحاب مبكر من العراق للخلاص من دوامة القتل التي تطال جنودها كل يوم، وتعاظم قوة المقاومة العراقية -كل ذلك أدى للإفصاح أكثر عن نوايا الانفصال، ليس فقط بالأرض والثروة (النفط)، ولكن أيضا الانفصال عن العالم العربي _ أي من قبل الكورد _.
وقد قاد الطرح الكردي للفدرالية إلى تحرك المجموعات العرقية والطائفية الأخرى، فأعلنت ممثلة التركمان في مجلس الحكم الانتقالي " شن كول" ان الفيدرالية يجب أن تكون على أساس إداري وليس عرقيا وطالبت بأن تكون كركوك خارج الفيدرالية الكردية لان التركمان يشكلون الأغلبية الكبيرة فيها، وان وجودهم وجود تاريخي.
[ المصدر السابق ] .
بل إن الأمر لم يتوقف على ذلك، فقد زادت دعاوى الانفصال مؤخرا، وأصبحت أكثر وضوحا وصراحة تحت شعار الفيدرالية أو الحكم الذاتي، بعدما بدأت مجموعات عرقية أخرى -بجانب الشيعة والأكراد- تطالب وسط كل هذه الأجواء بالحكم الذاتي الكامل، مثل الآشوريين العراقيين المسيحيين، وغيرهم، وأطلق كل فريق محطات تلفزيونية خاصة وفضائيات تروج للفيدرالية بطرق ودعاوى شتى وتعتبرها أمرا واقعا!
حيث طالب المؤتمر الآشوري العام (الآشوريون نصارى يتحدثون الآرامية) الذي عقد في المدة من 5 - 7 آب 2005م بفيدرالية آشورية في سهل نينوى وسائر مناطق وجود الآشوريين بدعوى أن تعدادهم قرابة مليون إلى مليون ونصف، كما دعا إلى "حق العودة للمهجرين الآشوريين إلى قراهم ومساكنهم التي تركوها، وإدراج رمز آشوري تاريخي في العلم العراقي الجديد".
أيضا دعا الفيليون (وهم أكراد شيعة ينتشرون جنوب مدينة السليمانية مرورا بكركوك ومحافظة ديالي) بالاعتراف بحقوقهم، فيما طالب "الشبك" (وهم جماعة تضم في صفوفها خليطا من قوميات عربية وكردية وتركمانية) بالحفاظ على حقوقهم في الدستور الجديد، وعدم فرض الانتماء إلى القومية العربية عليهم، أو الكردية.
وكان من الممكن، بدلا من توسيع دائرة الفيدرالية الانفصالية بهذا الشكل، استرضاء أو احتواء المطالب الكردية خاصة بعد تعيين (جلال الطالباني) رئيسا لكل البلاد، بيد أن السيد عبد العزيز الحكيم أجج مشاعر أهل السنة وغيرهم بالدعوة إلى إنشاء كيان وحكومة فيدرالية في المحافظات الوسطى والجنوبية التسع ذات الأغلبية الشيعية، ما يعني تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية هي: كيان شيعي في الوسط والجنوب، وعربي سني في الغرب، وكردي في الشمال كما سيأتي بيانه.
وفي ذلك يقول صالح المطلك العضو في مجلس الحوار الوطني معلقا على مطالبة الشيعة بإقليم فيدرالي في الجنوب: "نتمنى ألا يأتي هذا اليوم. نحن نعتقد أن العرب في العراق بسنتهم وشيعتهم هم كيان واحد؛ لذلك فإن أي محاولة لإثارة موضوع طائفي لتقسيم العراق موضوع مرفوض كليا"، فيما قال عبد الكريم هاني الناطق الرسمي باسم المؤتمر التأسيسي العراقي المعارض: "إن هذا الطرح للأسف يؤدي إلى تمزيق العراق عرقيا وطائفيا ولا يخدم مصلحة البلد إطلاقا".
[ انظر : دستور العراق يمزق العراق! ، محمد جمال عرفة ، بتصرف ، موقع اسلام اون لاين / شئون سياسية ، 29/8/2005].
* بدايات المطالبة بالفيدرالية وإقرارها في العراق
إن أطروحة الفيدرالية في النسيج الاجتماعي العراقي أطروحة حديثة العهد، ظهرت شيئا فشيئا في فترة التسعينات من القرن المنصرم، وذلك بعد غزو دولة الكويت وانتفاضة آذار 1991، حيث تحررت منطقة شمال العراق ذات الأغلبية الكردية من قبضة السلطة المركزية في بغداد بدعم من قوات التحالف الدولية.
ففي 4/10/ 1992 اتخذ البرلمان الكردستاني قرارا بتبني النظام الفدرالي للعراق، الأمر الذي أثار جدلا واسعا من الناحية السياسية والفكرية حول الآثار المستقبلية المترتبة على العلاقات الاجتماعية للمكونات العراقية ودول الجوار.(40/260)
منذ تلك الفترة كان مبدأ الفيدرالية يطرح بين الحين والآخر من قبل القوى الكردية لاسيما الحزبين الكبيرين الديمقراطي والاتحاد الكردستاني في المحافل والمؤتمرات والندوات والتحالفات التي كانت تجريها المعارضة خارج العراق، كان منتهاها مؤتمر لندن وهو آخر مؤتمر تعقده المعارضة العراقية في المنفى، هذا فضلا عن الندوات الفكرية والثقافية التي تتبناها النخب المفكرة الداعية للفيدرالية العراقية.
بعد سقوط النظام السابق، أُقر قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت الفيدرالية، فقد جاء في المادة الرابعة: نظام الحكم في العراق جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب.
وفي المادة الرابعة والعشرين(أ) ـ تتألف الحكومة العراقية الانتقالية والمشار إليها أيضا في هذا القانون بالحكومة الاتحادية من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة، ومجلس الوزراء وبضمنه رئيس الوزراء، والسلطة القضائية....
وجاء في المادة الثانية والخمسين: يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية، ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق. إن هذا النظام سيشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسئولين المحليين في كل إقليم ومحافظة، ما يخلق عراقاً موحدا يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحررا من التسلط .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث ( ص 4 ) ].
* مبررات دعاة الفيدرالية
الداعون لتثبيت مبدأ الفدراليات في الدستور العراقي القادم، يرون أنه الشكل الأكثر ملاءمة لتعايش مكونات الشعب العراقي المختلفة، وأداة فعالة ومرنة لردم ثغرة التنمية المفوتة في بعض المناطق، وإحداث وتائر متسارعة لها، قارنين ذلك بين التوجه العالمي نحو اللامركزية كوسيلة للتنمية البشرية، وبين الموروث السياسي العراقي الذي حول مركزية الدولة إلى أداة لسيطرة مناطقية معينة، أخضعت باقي العراق لها كعصبية غالبة، مما اشعر أبناء المحافظات المهملة بالحيف والقهر والتغييب، وجعلهم متطلعين لفرصة الانفكاك من سيطرة المركز وظلمه التاريخي .
[ فدراليات العراق.. من أين وإلى أين ؟ ، جريدة الشرق الأوسط ، الثلاثاء 19 جمادى الثانى 1426 هـ 26 يوليو 2005 العدد 9737 ] .
ويقولون : أن تطبيق سياسة اللامركزية في أي بلد يحقق الكثير من المزايا، لعل أهمها: أنها ممارسة فعلية لمبدأ الاستشارية السياسية الذي يقوم على أساس اشتراك المواطنين لإدارة شؤونهم والمشاركة في صنع القرار بأنفسهم، وهذا ما يعبر عنه في السياسات الحديثة "بالديمقراطية" فإن النظام الديمقراطي السياسي يمنح الفرد السلطة عن طريق الآخرين الذين يمنحونه هذه السلطة، ولذلك فهي ذلك النظام الذي يستطيع من خلاله المواطنون تحقيق أهدافهم، عن طريق الحكم بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب .
وبالتالي، فأن نقل السلطات إلى المحليات، ومنح المحافظين كافة السلطات والمسؤوليات دون الرجوع إلى سلطة مركزية في العاصمة، واختيار المحافظين من أبناء المحافظات، أو ما أشبه من الوحدات الإدارية أو الحكومات المحلية، هو تطبيق عملي للاستشارية بمفهومها الشامل لما في ذلك النظام من توافر للمبادئ التي تكفل له أعلى درجة من الاستشارية التي تستمد السلطة في صنع القرار من أبناء الشعب مباشرة بالمحافظات دون الرجوع إلى السلطة المركزية.
ونظام اللامركزية الإدارية كما هو مطلوب بالنسبة إلى المجال السياسي، كذلك هو مطلوب بالنسبة إلى سائر المجالات كالمجال الاقتصادي، فإن هذا النظام يعد دعامة أساسية لنهوض الاقتصادي والاجتماعي للمحافظات أو الحكومات المحلية، أو ما أشبه ذلك من خلال الاهتمام بالتنمية الإقليمية، وتطوير أداء الخدمات، وتحقيق برامج الأمن الغذائي، وما أشبه ذلك من سائر ما يكون مقوماً للحكم الشعبي، فإن هذا النظام هو في الحقيقة أقدر على التعرف على الاحتياجات الحقيقية لكل محافظة وتنسيق العمل داخلها، وتوجيه الجهود نحو إشباع رغبات واحتياجات المواطنين، والتيسير عليهم، والبدء في مرحلة جديدة من العمل لزيادة الإنتاج لتحقيق النمو والتقدم والرخاء .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث ( ص 5 ) ].(40/261)
ويقولون : إن الفيدرالية في العراق ضرورة ملحة اليوم وغداً . ويجب الاعتراف بالاختلافات والتباينات بين الشعوب العديدة والتي تقطن داخل الأسوار نفسها . لا يمكن اليوم فتح الأحضان إلى آخرها أمام خرافة العيش المشترك الذي يكون في أغلب حالاته عيشاً مشتركاً إجبارياً برعاية الفروع الأمنية التي ترسم سياسات بلداننا وفاقاً لموازينها ونحن المواطنون إنما كائنات غريبة وكأننا من كوكب آخر . إن أدوار الدولة/ الأمة التي فرضت التناغم والتجانس الإثني والثقافي والديني بغية قيامها على أسس صلبة ومتينة قد ولى وإلى غير رجعة وذلك بفعل مناخات العولمة التي تسبب جزء من عملياتها كثورات الاتصالات والمعرفة التقانية في تصاعد خطاب الاثنيات أينما كانت في العالم . لا مكان في عالمنا الحالي لدولة تقوم على جماعة مهيمنة تهدر كل مرافق الدولة ومؤسساتها وتحول خيراتها إلى مجرد حطب لموقدها .
[ هل الفيدرالية الكردية رعب نووي ؟ ، مصطفى اسماعيل ، موقع الحوار المتمدن ] .
* نصيحة إلى الفيدراليين ( قبل المناقشة )
أنت أيها الفيدرالي بحاجة إلى:
* نظام ديمقراطي برلماني يمارس فيه السكان دوراً فاعلاً في التشريع والرقابة على أجهزة الدولة ومرافقها بالتنسيق مع الصحافة، ومن خلال هذا البرلمان والدستور يجري تحديد نوع الفيدرالية لمنطقة كردستان وحدودها وأبعاد علاقتها بالعراق الأم.
* تشكيل لجان مختصة في الإدارة والاقتصاد من عراقيين وأجانب لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة.
* خصخصة المشاريع والشركات العامة التي كانت عبئاً على الدولة وتشجيع المستثمر الأجنبي مع إلزامه بمشاركة رأس المال العراقي وإعطاء الاولولية في العمل والاستخدام للعراقيين بضمان إنجاح المشاريع والتورع عن سرقة المال العام !
* السعي لاسترداد قاصة النفط وتحرير العراق من الديون.
* تفعيل دور مكاتب العمل والتشغيل والتأهيل في وزارة العمل وتشجيع مكاتب العمل الأهلية ووضع الضوابط لها.
* تفعيل دور المفتش المالي والمفتش الإداري والمفتش العدلي من العناصر الكفوءة والنزيهة.
* إعادة النظر في تركيبة الجهاز القضائي وإعادة تأهيله وخاصة المواقع المتقدمة منه وتطهيره من العناصر الكسولة والمشغولة بنفسها والمتشبعة بالبيروقراطية والفاقدة لعمق النظرة بعد أن عايش خمسة وثلاثين عاماً من ارهاصات النظام السابق وضمان الرقابة الشعبية البرلمانية على هذا الجهاز.
* تشكيل مجلس يضم ممثلين عن كافة الوزارات له شخصية معنوية لإعادة بناء العراق بوضع دراسات عن أوضاع البلد وحاجاته وإمكانياته وتدرجها في الأهمية والأولوية من الشمال إلى الجنوب والإشراف على تنفيذها بعد رصد نسبة من الميزانية السنوية التي يقرها البرلمان لأغراض هذا المجلس.
* اعتماد شعار الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن انتماءاته الحزبية او العرقية.
[ وانظر:عزيزي الفدرالي .. تمهل ، موقع جريدة البصائر، قسم المقالات ( ص2-3) ]
* الفيدرالية المذهبية
قال السيد عبد العزيزالحكيم، ان «هناك خمسة مواضيع رئيسية نؤكد عليها في الوقت الحاضر، وهي الدستور والأمن والإعمار وتشكيل إقليم الجنوب والوسط». وأضاف: «نحن نؤكد على ضرورة إقامة إقليم واحد في جنوب ووسط العراق لوجود مصالح مشتركة بين ساكني هذه المناطق». وقال الحكيم بخصوص الفيدرالية : « نحن نعتقد بأنه من الضروري تشكيل إقليم في الجنوب » .
وقال هادي العامري، زعيم «منظمة بدر» التابعة للمجلس الأعلى : «الفيدرالية يجب أن تكون في جميع العراق. يحاولون منع الشيعة من التمتع بفيدراليتهم».
[ جريدة الشرق الأوسط الجمعة 07 رجب 1426 هـ 12 أغسطس 2005 العدد 9754] .
وعلق الأستاذ احمد الربعي وهو سياسي كويتي معروف على مطالبة السيد عبد العزيز الحكيم بفيدرالية شيعية بقوله : " آخر ما كنا ننتظره من شخصية بحجم عبد العزيز الحكيم هي هذه الدعوة الخطيرة لإقامة فيدرالية شيعية في العراق. وأسوأ مناسبة يقال فيها هذا الكلام هي مناسبة كبيرة وهي استشهاد آية الله محمد باقر الحكيم ذلك الرجل الذي ضحى بروحه من اجل العراق وليس من اجل مشروع فيدرالية شيعية!!
وكان آخر ما كنا نفكر فيه ان يكون مشروع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق هو دولة طائفية مقسمة على أساس طائفي وعرقي!!
هل مثل هذه الأطروحات هي البديل الذي كان يحلم فيه العراقيون. هل كان من الضروري أن تقدم كل التضحيات ضد حكم الدكتاتورية والإرهاب والطائفية لتنتهي هذه التضحيات بمشروع انتحاري جديد يعيد العراق الى المربع الأول.
يقول أمين عام منظمة بدر، الجناح العسكري للمجلس الأعلى إن «على الشيعة المضي قدما في إقامة فيدرالية في الجنوب وإلا سيندمون على ذلك». فسبحان الله ما هي هذه الدولة ـ الحلم او هذا الكانتون الذي سيحقق أحلام الشيعة، وبأية مواصفات حضارية يمكن أن تقوم دولة للشيعة او للسنة او للأكراد في العراق!!(40/262)
لقد عانى العراق من العبث الذي مارسه صدام وبعده الإرهاب الدولي داخل في العراق .. ويعاني العراق من بعض غلاة ومتطرفي الاكراد الذين يريدون فيدرالية طائفية موزعة على أساس جغرافية القومية بديلا للفيدرالية الديمقراطية التي ضحى الأكراد من أجلها. وتأتي دعوة الأخ عبد العزيز الحكيم لتشكل لكل محبي العراق ردة عنيفة عن مشروع العراق الديمقراطي.
ندعو السيد عبد العزيز الحكيم، الذي نحبه ونحترمه، إلى إعادة النظر في هذه الأطروحات الجديدة التي تشكل في النهاية مشروعا انتحاريا ربما يتم بنوايا طيبة.
ونقول للأخ عبد العزيز الحكيم إننا لم نخف على العراق منذ سقط صدام، لم نخف عليه من الإرهاب الأسود، ولا من الخلافات السياسية. ولكننا نخاف الآن فعلا على العراق من اطروحات التقسيم ومشاريع الانتحار التي نتمنى أن يعود عنها السيد الحكيم وغيره من السياسيين العراقيين من كافة الطوائف ".
[ مشروع انتحاري في العراق ،احمد الربعي ، جريدة الشرق الأوسط ، السبت 08 رجب 1426 هـ 13 اغسطس 2005 العدد 9755 ] .
وبعضهم يستحسن فكرة إقامة فيدرالية في الجنوب ولكن بعيداً عن الأسس الطائفية وفي ذلك يقول منذر الفضل : " فان مشروع إنشاء فيدرالية كجزء من الإقليم العربي في جنوب العراق لا يعد وجودها كيانا طائفيا ولا نريده كذلك و لا يمكن اعتباره تقسيما للعراق إذ ليس الاتحاد الفيدرالي الاختياري تقسيم للعراق و ما مقولات تأسيس الدولة الشيعية في الجنوب بعد سقوط النظام إلا محض خرافة وفهم خاطئ في التفكير والاستنتاجات لان في الجنوب يعيش العديد من العرب السنة والعديد من النصارى والصابئة وغيرهم مما يوجب الابتعاد كليا عن طروحات طائفية او عرقية في هذا المجال .
ولهذا نعتقد أن هذا المقترح يجب أن يتخذ شكلا أخر أي أن هذه المنطقة من الجنوب يجب أن تأخذ شكلا دستوريا وقانونيا في صورة فيدرالية وتؤسس حكومة إقليم لها يديرها أبناء المنطقة بمشاركة واسعة وتعددية سياسية ووفقا للقانون ويكون لهم وللكرد (( ولغيرهم من الأقليات المتآخية)) حق المشاركة في سلطة المركز السياسي أيضا لان النظام الفيدرالي هو نمط إداري لا مركزي من الناحية السياسية وأسلوب تعددي في إدارة الدولة العراقية بما يحقق العدالة والمساواة والمشاركة الفاعلة في إدارة الدولة إقليميا ومن حق حكومة كل إقليم المشاركة مع سلطة المركز في إدارة الدولة العراقية وهو حق ثابت لكل العراقيين إذ لا يعقل بعد الآن تصريف و إدارة شؤون الدولة العراقية من شخص واحد فقط يديرها وفق هواه ودون حسيب ولا رقيب يدخلها في حرب ويورطها في أخرى ويمارس أبشع صنوف العدوان والإرهاب ضد الشعوب العراقية ( لاحظ : هؤلاء يستخدمون لفظ الشعوب العراقية لا الشعب العراقي لغاية لا تخفى على اللبيب ! ) ... ثم ما الذي يمنع من وجود أكثر من حكومة فيدرالية في مناطق العراق , في الجنوب , وفي الوسط وفي الغرب وفي غيرها من مناطق العراق مادامت أسس الحكم الفيدرالي واضحة وتقوم على الاتحاد الاختياري .
و لا يمكن أن نقبل القول أن الفيدرالية أو الكيان الذي يقوم في غرب العراق مثلا هو كيان طائفي ؟ فالعلاقة بين الأقاليم الفيدرالية تحكمها قواعد دستورية وحين نص قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وقرار مجلس الأمن رقم 1546 على ان العراق الجديد سيكون شكله فيدراليا تعدديا وديمقراطيا لم يتم الدخول في التفاصيل لهذا الأمر وهو متروك للعراقيين في اختيار المناسب للمستقبل بقرار من المؤسسات الدستورية القادمة " .
[ الفيدرالية في جنوب العراق ، منذر الفضل ، موقع الحوار المتقدم ، ( ص 4-5 ) ] .
وبعضهم أبعد النجعة كما تقول العرب وطرح تصوراً غريباً لشكل الفيدرالية التي يريدها لبلده بعد أن قضى طرفاً من عمره في لندن ! ، فهو يريد تقسيم العراق إلى خمسة أقاليم :
1. إقليم الشمال : ويضم ( السليمانية واربيل ودهوك ونينوى ) .
2. إقليم الجنوب ويضم ( البصرة وميسان والناصرية ).
3. إقليم الشرق ويضم ( كركوك وصلاح الدين وديالى والكوت ) .
4. إقليم الغرب ويضم ( الانبار والنجف والمثنى ) .
5. وإقليم الوسط ويضم ( كربلاء والحلة والقادسية ) .
وتبقى بغداد حسب تصوره إقليم منفرد وعاصمة الدولة الاتحادية ، ويحتج على ذلك بقوله : " في هذا النظام تذوب فيه ( كذا ! ) آثار ونزعات العرقية والطائفية ، ويعبر عن وحدة وامتداد الراضي لكل إقليم ، ويكون أقوى رباط وحفاظ على وحدة العراق الجغرافية ، وهناك تجانس اجتماعي في مكونات هذا النظام " .. مع أنه اعترف في نهاية المطاف بصعوبة السيطرة على الوضع الإداري في مثل هذه الأقاليم الكبيرة !(40/263)
ولم يكتفِ بهذا ( التصور الخيالي ) بل راح يحلق بعيداً ففاجأنا بتصوره ( الرابع ) حول ما سماه بـ : " نظام فدرالية المحافظات ، وفيه تكون كل محافظة فدرالية بحد ذاتها وهنا تتكون الدولة الفدرالية من 18 فدرالية تتمتع بجميع حقوق الحكم اللامركزي أو الحكم الذاتي ضمن حكومة اتحادية واحدة ، وفي مثل هذه الحالة تكون الوحدة الوطنية أكثر التزاماً وتماسكاً ، والتنافس الوطني أقوى " .. ثم رجع وقال : " ولكن ستكون بعض المحافظات أقوى اقتصادياً من البعض الآخر ... ولا نعتقد قبول وموافقة إخواننا الأكراد "
[ انظر : تصورات عن الفيدرالية في العراق ، الدكتور واثب العامود ( عضو مجلس محافظة البصرة كما كتب على غلاف كراسه ! ) ، (ص14 ) ] .
ولا أدري هل يملك هؤلاء قراراً بابوياً يقسمون بلاد الرافدين كما يشتهون ، أم أنها مجرد تصورات وأحلام واجتهادات فردية ينقض بعضها بعضاً ، وتفتقر إلى مقومات الواقعية لاسيما إذا قرأنا عبارته عن ( التجانس الاجتماعي بين أهل النجف والانبار وضمهما في فيدرالية واحدة ) ، أو ضم كركوك _ مثار النزاع _ إلى صلاح الدين وديالى والكوت هكذا بجرة قلم !!
أما عن ( فدرالية المحافظات ) فلا أملك إلا أن أقول : بمثل ذلك فلتقر عيون الأمريكان !!
المحللون السياسيون والوطنيون والإسلاميون وبعض المفكرين الغربيين يتخوفون من تفتيت العراق وتجزئته إلى ثلاث مناطق رئيسة ، والعامود يقترح على أمريكا تجزئته إلى 18 منطقة تتهارج فيما بينها !
ثم انه يخلط خلطاً عجيباً بين الحكم الذاتي واللامركزية الادارية والفيدرالية ، فهل قصده التلبيس أم أنه فعلاً ممن لا يعلم الفرق ؟!
نرجوا أن تكون عموداً في الحق يا دكتور واثب !
* وشخصيات سنية تطالب بالفيدرالية أيضاً !
" ففي موقع " دار الحياة " يوم 6/5/2005 نقرأ أن " الشيخ فصال الكعود " محافظ الأنبار يرغب في إقامة إقليم فيدرالي تعددي لمناطق غرب العراق تضم محافظات الموصل وتكريت والأنبار . ويقول : " نحن مع الفيدرالية في عراق واحد وإقرارها ضرورة لأنها ستدفع الأقاليم إلى التسابق لتحسين وضعها الاقتصادي والأمني ".
ولا أدري هل الضرورة يحددها الكعود أم التشريع الإسلامي وإجماع الأمة ؟!
ثم ما الذي يحمل هؤلاء على التهالك على المشروع الأمريكي وهم يزعمون أنهم من جملة أهل السنة !
إن هذا المصطلح ( أهل السنة ) مصطلح شرعي فلا يدخل فيه إلا من يقول بأصولهم العقدية والمنهجية ، ويلتزم بالرأي الاجماعي أو الأغلبي لعلمائهم ومرجعياتهم لا سيما مع ظهور البرهان وتحقق المصلحة الشرعية والوطنية .
* موقف بعض القوى الشيعية من الفيدرالية ( الشيخ الخالصي نموذجاً )
نص الحوار على قناة الجزيرة مع الشيخ جواد الخالصي ومهدي خوشناو :
" غسان بن جدو ( مقدم الجزيرة ) : إن قضية الفيدرالية قضية أساسية، قضية مصيرية وغير قابلة للتراجع مطلقاً، هل أنتم تتبنون أيضاً هذا الخيار أم لا؟
جواد الخالصي: من الذي سيقرر هذا؟ مصير بلد أو شكل من أشكال الإدارة في البلد من الذي سيقرره؟ يجب أن يقرره الشعب العراقي.
غسان بن جدو: كيف؟
جواد الخالصي: خلال الانتخابات ووجود ممثلين لهذا الشعب، انتخابات حرة وحقيقية، يُشكل مجلس تأسيسي سيقرر وحدة العراق وأشكال الإدارة..
غسان بن جدو[مقاطعاً]: أنتم هل مع الفيدرالية أم لا؟
جواد الخالصي: إذا لا يؤدي إلى التقسيم، ولا يتم تحت حراب الاحتلال، فهو موضوع قابل للدراسة، على أن تكون فيدرالية إدارية.
غسان بن جدو: بمعنى.
جواد الخالصي: بمعنى ليست فيدرالية مؤسسة على أساس تقسيم قومي للعراق يؤدي إلى انفصال كما حصل في الاتحاد السوفيتي وفي يوغسلافيا.
غسان بن جدو[مقاطعاً]: الكرد يعتبرون الانقسام لهم ثقافة خاصة..
جواد الخالصي: كردستان مقسمة أيضاً، سنجعلها ولايتين إذا أرادوا، كما حصل فعلاً.
غسان بن جدو: مقسمة تقصد يعني منطقة الطالباني.
جواد الخالصي: السليمانية وأربيل، فإذا أردنا أن نجعلها فيدرالية إدارية.. فستشمل الجميع، الكرد في أماكنهم، والعرب في أماكنهم، والتركمان في أماكنهم، كما يحصل في كثير من دول العالم المتقدمة، لا تبنى الفيدرالية على أساس التقسيم العرقي الذي قد يؤدي إلى التطهير العرقي كما حصل في يوغسلافيا.
غسان بن جدو: كيف.. كيف ترى هذه النقطة سيد مهدي في أربيل؟
مهدي خوشناو: في العالم فيدرالية على أساس قومي أو عرقي، أرجو من السيد أن يراجع الأطلس السياسي، فمقاطعة (الكيبك) في كندا، الذين يتكلمون بالفرنسية يتمتعون بفيدرالية قومية، وهذا لا يتعارض مع انتمائنا العراقي، وهذا إلحاح وتأكيد من طرف شعبنا الكردي بعراقيتنا وارتباط مصيرنا بكافة الشعوب العراقية وهذا لا تعني.. لا تعني..(40/264)
جواد الخالصي: للأخ العزيز وللإخوة الآخرين في كل مكان: نحن لا نريد ( أن ) نخادعهم كما خادعهم صدام حسين، حين قدم لهم الحكم الذاتي، وأباد كردستان، يوم أُصيبت كردستان بالقذائف، نحن كنا مع الشعب الكردي، نحن كنا في حلبجة، كنا في مناطق القتال وضد النظام الفاشي ونحن نتكلم معهم الحقيقة، الحقيقة هي أنهم _ أي الأكراد _ جزء من أمة هي أمة الإسلام، وجزء من شعب هو شعب العراق وليس الشعوب العراقية كما تفضل به.
غسان بن جدو[مقاطعاً]: لكن ليس بالضرورة أن تفرض عليه، هو.. حتى العراقي يقول الشعوب العراقية ولا يتحدث عن الشعب العراقي.
جواد الخالصي: لن.. لن أفرض عليه، أنا لا أقول شعوب عراقية، أنا أقول الشعب العراقي، ولن أفرض عليه شيئاً، أنا أقول: إذا كانت هنالك فيدرالية إدارية تريد أن تنتقل بالعراق إلى شكل جديد من أشكال الإدارة، يجب أن يؤخذ بهذا رأي الشعب العراقي ككل، وأنا شخصياً لست متشنجاً ضد هذا الفرض، حين يكون فرضاً حراً ديمقراطياً صحيحاً، على فرض الديمقراطية التي يقولونها، أما أن يُفرض هذا الأمر بهذه الكيفية وبشكل لعبة سياسية فهذا لا يقبله أحد ولا يؤدي إلى نتيجة، صدام قال: سأعطيكم كل شيء، ولم يعطهم إلا الدمار، لأن صدام فاشي " انتهى الحوار .
* وآخرون رفضوا الدستور المُنَظِّرِ للفيدرالية
والموقف منه هو أيضا ليس موضع إجماع من العراقيين أنفسهم، ومن العرب.. بل وحتى في الداخل الأمريكي. فعلى سبيل المثال، تقف شرائح واسعة من النسيج العراقي من مختلف التلاوين والطوائف ضد هذا المشروع.
فهناك الأحزاب السياسية القومية تقف علنا ضد المشروع، وترى فيه شرعنة للاحتلال واعترافا بنتائجه. وهناك أيضا هيئة كبار علماء السنة، وعناصر المقاومة الوطنية.. وهي عناصر، أيا يكن موقف السعداء بالاحتلال منها، فإنها تفعل فعلها على الأرض وتقض مضاجع المحتلين، وتدفع بقوى العدوان إلى الخلف. وهناك أيضا، التيار الصدري. وهو تيار يحسب حسابه، ويتواجد في معظم المدن العراقية في الوسط والجنوب. وإضافة إلى ذلك، فإن هناك علماء كبار من الطائفة الشيعية يقفون بحزم في مواجهة هذه الخطوة يأتي في المقدمة منهم آية الله الحائري وآية الله البغدادي ، والشيخ محمد جواد الخالصي، الأمين العام للمؤتمر التأسيسي العراقي. وقد برز عدد منهم في الفضائيات العربية وأدانوا الاحتلال وإفرازاته، واعتبروا التصويت على الدستور هو الأخطر من بين تلك الإفرازات. فها هو الشيخ الخالصي يقول بوضوح في مقابلة له في فضائية الجزيرة: "نحن نعارض هذه المُسودة لأنها ناتجة من عملية سياسية رفضناها منذ البداية، لأنها قامت على رغبة خارجية لا تمثل إرادة شعبنا ونرفض أن يقال إن هنالك فئة واحدة من العراقيين تعارض هذه العملية ثم تعارض هذه المُسودة، هنالك عراقيون في كل أنحاء العراق يعارضون هذا المشروع الخطير الذي يمس سيادة البلد ويمس وحدة البلد".
وقال أيضا: "إن الكلمات الواردة في الدستور ليست جيدة وفيها الكثير من المغالطات ومن الألغام الخطيرة المستقبلية، والحديث عن المساواة بين المواطنين ليس جديدا. إنه موجود في كل دساتير المنطقة وفي الدستور العراقي منذ العشرينات، فهل هذا جدير ليكون مصدر إلهام في هذا الشأن؟
النقطة الأخرى الخطيرة في هذه القضية هي أن هذا الدستور يجري في خلال وضعه انتهاك خطير لحقوق الإنسان في العراق، فمن الآن بدأت القضية.. العبارات حتى لو كانت جميلة فإن الممارسات خطيرة ومتعددة وثقيلة. الانتخابات السابقة جرت في ظل تدمير مدينة عراقية اسمها الفلوجة وقبلها دمرت النجف وقبلها دمرت مدينة الصدر في بغداد والأزمة مازالت مستمرة ( كما حصل لاحقاً تدمير القائم وتلعفر وراوه وغيرها من المدن العراقية ) وانتهاكات حقوق الإنسان تجري".
وعلى الصعيد العربي، انبرى العشرات من الكتاب والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، لإدانة هذه الخطوة باعتبارها إسفينا في خاصرة الأمة العربية، ومحاولة استعمارية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. والمقالات في هذا الاتجاه هي بالعشرات ( بل المئات ! ).
أما على صعيد الإعلام الأمريكي، فحسب ما ورد في جريدة الشرق الأوسط بعددها الصادر في 24 أغسطس 2005 وجهت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية انتقادات لاذعة إلى مسودة الدستور العراقي، واعتبرت أنها "لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم". وقد خصصت هذه الجريدة افتتاحيتها في 23 أغسطس للتعليق على مسودة الدستور العراقي. ولم توفر بانتقاداتها إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش التي "لأسباب سياسية" حسب تعبير الصحيفة" فرضت "مهلة زمنية تعسفية" لتقديم مسودة الدستور. واعتبرت أنها "لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم" .
[ حول الفيدرالية والدستور العراقي ، يوسف مكي ، التجديد العربي 7/9/2005 ] .(40/265)
والخلاصة هنا : شطب الهوية العراقية أولاً، ومن ثم الولوج في مكيدة إيقاظ نوّم الفتن، المؤدية، كما يؤمل منها، إلى الاحتراب الأهلي، وذلك ببث الروح في غوائل هذه الفتن المطلة برأسها والمتجسدة في الشقاقات الطائفية والمذهبية والعرقية، وذلك عبر الفدرلة، والمحاصصات، وإغراءات كعكة تقسيم الثروة... أي تحويل العراق من ثم إلى مزارع فسيفسائية تابعة لا تملك في واقعها ما يبشر بأن تقوم لهذا البلد قائمة. ولعل أفضل ما نعت به هذا الدستور، والذي عارضته شريحة واسعة من العراقيين يمثلها أكثر من 19 من الأحزاب والقوى، هو ما أطلق عليه بعض العراقيين: "دستور الفصل الطائفي والعنصري"، ويمكن أن نضيف والأمركة المستدامة أيضاً!
[ دستور الفصل الطائفي ومخططات الأمركة المستدامة ، عبد اللطيف مهنا ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قسم المقالات ، 16/10/2005 ]
* مساوئ النظام الفيدرالي ( أسباب رفض أهل السنة وكثير من القوى الوطنية للفيدرالية المزعومة )
[ لا... للفيدرالية... فالغرباء لا يحق لهم تمزيق وحدة العراق ]
الرافضون للمشاريع الفيدرالية هم تحديدا المقاطعون للانتخابات والتصويت على مسودة الدستور في المراحل السياسية السابقة لأسباب شرعية معلومة، ويقف وراءهم المحيط العربي والإسلامي الذي يخشى على وحدة العراق وهويته العروبية والإسلامية ، وعلى وقوعه فريسة للنفوذ الإيراني، وهو كلام واقعي يتفق معه كثير من أبناء الشعب العراقي.
[ فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري ، جريدة الشرق الأوسط ، الأحد 16 رجب 1426 هـ 21 أغسطس 2005 العدد 9763 ، بتصرف ] .
تنبيه : العروبية مغايرة تماماً للقومية العربية ، فدعاة المحافظة على الهوية العروبية ليس بالضرورة أن يكونوا من أنصار الفكر القومي الذي نظّر له ساطع الحصري في القرن المنصرم .
• والأسباب الداعية إلى الرفض تتلخص بالآتي :
أولاً : نظام الحكم في الإسلام هو نظام وحدة وليس نظاماً اتحادياً ..
الإسلام يفرض الوحدة بين البلاد الإسلامية ويحرم الاتحاد بينها ، والنظام الصحيح للحكم هو نظام وحدة ليس غير فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " ، لدلالة الشرع عليه وتحريم ما سواه ويقول : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" .
فالحديث الأول يقرر تحريم تجزئة الدولة ، ويحث على عدم السماح بتقسيمها ومنع الانفصال عنها ولو بقوة السيف ، والحديث الثاني يقرر تحريم جعل الدولة دولاً فلا يسمح بوجود غير خليفة واحد .
وهكذا فالاتحاد الفيدرالي من حيث الأصل حرام قطعاً فكيف إذا علم أنه يتم وفقاً لمشروع صليبي في المنطقة لخدمة أمريكا وإسرائيل .
فالاتحاد الفيدرالي ليس وحدة خاصيته الاحتفاظ بالكيان ، لأنه في واقع مثل العراق يكون مدعاة للتنازع والاختلاف وما يتبع ذلك من الانشقاقات والتصدعات في البناء الداخلي نظراً للاختلاف حول سلطات الأقاليم من جهة وتوزيع الثروات مع هذا التباين من جهة أخرى كما سيتم توضيحه في النقاط التالية ..
وأول خطوات النظام الفدرالي انتخاب برلمان اتحادي ، ووضع دستور اتحادي تحدد فيه الشؤون المراد أن تتوحد بين دول الاتحاد أو أقاليمه ، فقد ينص على توحيد التشريع القضائي ، أو على القوانين الإدارية ، أو على السياسة الخارجية أو الاقتصادية، أو توحيد الجيش،وقد ينص على توحيد هذه الأمور كلها أو بعضها أو زيادة عليها وقد ينص على توحيد أجهزة الدولة مع بقاء الكيانات كالولايات المتحدة الأمريكية ، أو ينص على بقاء أجهزة الدولة وتوحيد بعض الشؤون كاتحاد الجمهوريات السوفياتية سابقاً وهكذا يحدد الدستور نوع الاتحاد ويقر هذا الدستور من قبل البرلمان الاتحادي ، ومن برلمان كل دولة أو إقليم من دول أو أقاليم الاتحاد إن كان هناك برلمانات ، فتمارس الدولة الاتحادية الصلاحيات التي حددها الدستور فقط ، وتبقى باقي الصلاحيات لكل دولة أو إقليم على حدة تمارسها كما تريد ، فتبقى كل دولة أو إقليم كياناً متميزاً محتفظاً بكيانه لا سيما بعد هذه الصلاحيات الإدارية الواسعة التي ضمنها الدستور الجديد محل الخلاف .
هذا هو واقع الاتحاد الفيدرالي ، ولذلك فإلغاء جوازات السفر بين دولتين أو الوحدة الاقتصادية بين دولتين ، أو توحيد مناهج التعليم ، أو توحيد التشريع هذه كلها ليس لها علاقة بالاتحاد الفيدرالي . فقد تحصل بين الدول دون اتحاد فيما بينها . وكذلك ليس من الاتحاد الفيدرالي في شيء أن يقرر البرلمان أو البرلمانات أو المؤتمرات أو المشيخات قيام مثل هذا الاتحاد فيما بينها ، لأن مثل هذا القرار ليس إلاّ مجرد تعبير عن رغبة فقط . والمهم تقرير دستور يحدد نوع الاتحاد ودولته وصلاحياته .(40/266)
وعليه فإن الشرع الإسلامي لا يجيزه بين المسلمين مطلقاً مهما كان نوع الاتحاد ، لأن نظام الحكم عند المسلمين نظام وحدة ، لا نظام اتحاد . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن السيادة في الإسلام للشرع ، فهو الذي يقرر نظام الحكم والتشريع والمال ، فلا خيار لأحد في تقرير شيء منها ، ثم إن أحكام الشرع واحدة لكل مسلم ، فلا يصح أن يختلف حكم الشرع في بلد عن بلد ، فلا يجوز اختلاف التشريع . ومالية المسلمين واحدة ينفق عليهم من بيت مال المسلمين بغض النظر عما إذا كانت لبلادهم واردات أم لم تكن . والجهاد فرض على المسلمين فيجب أن ينفروا للجهاد إذا غزيت أي بلد من بلدان المسلمين لاسيما إذا عجز أهل ذلك البلد عن القيام بأعباء الدفع والجهاد ، فكيان المسلمين كيان واحد جبراً ، وتشريعهم وأموالهم وكل شيء يتعلق بالحكم واحد لا يجوز أن يتعدد ، فنظام الحكم ونظام الحياة عندهم نظام وحدة ، لا نظام اتحاد . وعليه فالإسلام يوجب نظام الكيان الواحد ، لا نظام اتحاد الكيانات المتعددة ، وهو يُحرِّم الاتحاد ، ويوجب الوحدة ويوجب الحرب لتحقيقها " .
[ الفيدرالية والكونفدراليه ، موقع إذاعة العقاب ، 9 ايلول 2005م ، بتصرف ] .
هذا رأي فقهي معتبر وهو ينظر إلى الموضوع من حيث الحكم الأصلي ، فان حصل عارض أو ضرورة فمع القول بعدم شرعيتها إلا أن لها ما يقننها في التشريع الإسلامي عملاً بقاعدة (الضرورات) وهي تقدر بقدرها ، ومن هنا لا يجوز لأي جماعة إسلامية أو حزب إسلامي أن يدعو إلى النظام الفيدرالي ابتداءً لما بيناه من الحرمة ، ولكن إن وقع قدراً فالمسلمون مأمورون حينئذٍ بتخفيف ودفع المفاسد ما أمكن وهذا باب واسعٌ يترك البت به لهيئة علماء المسلمين والمجامع الفقهية في العالم العربي والإسلامي.
فنظام الدولة في الإسلام من حيث الأصل يقوم " على نبذ كل ما من شأنه إضعاف أعمدة وبنيان الدولة والانتماء الوطني ولو بشكل ظاهري بحت.
من هنا لاحت المركزية على أنها نظام الحكم الأمثل بالنسبة للحكام إن لم نقل حتى الذي لا بديل له، لا سيما وأن المركزية تؤدي إلى تسهيل وتفعيل استخدام آليات المراقبة تجاه شعوبهم وفيما يختص بمواجهة أخطار التهديد من الخارج ".
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي، عارف حجاج ( ص3 / موقع قنطرة ) ] .
فلو كانت الدولة مركزية قوية سيادية وطبق فيها ( النظام العادل ) الذي يضمن للجميع حقوقه وحرياته ضمن آليات تحول دون الاستبداد والاستئثار بالسلطة على نحوٍ يتعارض مع القواعد الإسلامية ، فان ذلك هو الأمثل والأليق بقواعد الشرع الداعية إلى الوحدة لا الاتحاد !
ثانياً : ينفرد العراق.. أو ما اصطلح على تسميته بحضارة مابين النهرين . بأنه الأرض الوحيدة في الدنيا , التي احتضنت ست حضارات مشرقة. كلُ حضارةٍ حفرت في أديم الأرض لتاريخها. وصدرت للبشريةِ أعظم العلوم والفكر والقوانين. فالسومريون هم أول من أوجد الكتابةَ وعلم الرياضيات. وخلفهم الأكديون الذين انبهروا بالسماء وما حوته من علوم الفلك. ثم جاء البابليون... وكانت مسلة حمورابي أول تشريعٍ دنيوي يحاكي الدساتير الحديثة، لما جاءت به من قوانين وتشريعاتٍ سبقت كل قوانين الأرض ( الوضعية ).
وفي عصر نبوخذنصر بنيت الجنائن المعلقة. لتكون شاهداً على تقدم العراقيين في هندسة البناء والري. ثم تلاهم الكلدانيون فالآشوريون الذين بسطوا سيطرتهم على العالم القديم، فكانوا أول من اخترع العجلةَ، فامتد نفوذهم إلى النيل غرباً وآخر بلاد فارس شرقاً. ويوم اكتسح الاسكندر المقدوني الشرق، احتفى به الفرس وطلبوا منه أن يلتقي بسفراء الدنيا في عاصمة العالم القديم وقتذاك بابل. فاستغرب الاسكندر ان تكون هناك عاصمةٌ للدنيا غيرُ عاصمة بلاده أثينا. وفي بابل دس الفرس السم كعادتهم للإسكندر وقتلوه، حيث تم حرق جسده ونثر رماده في نهر الفرات. ولما وفدت آخر الحضارات إلى العراق... وفي عصر الإسلام وهي الدولة العباسية. حيث أصبحت بغداد آنذاك قبلةُ شعوب الأرض لتكون حاضرة الدنيا, عادة تفد الأجناسُ والملل من مختلف أنحاء العالم إلى المدن الشهيرة والتي يطبق اسمها الآفاق. وهكذا قُدِّرَ أن تسكن أرض العراق أجناسٌ ما زالت باقيةٌ حتى يومنا هذا ، ومنها ما زالت باقيةٌ ولكن بأعدادٍ قد لا تزيد عن الألفين أو ثلاثة آلاف. احتفظت بتركيبتها وحتى بطقوس أديانها. وهذا يفسر كثرة الأعراق والأديان والملل في العراق اليوم.
ولعل أكراد العراق من هذه الشعوب التي سكنت الأطراف الشمالية الشرقية من العراق. قادمةٌ من مناطق القوقاز وغيرها، وبتأثير الدولة الصفوية العنصرية التي حكمت العراق ردحاً من الزمن أيام ضعف الدولة العباسية، دانت أقوامٌ بالمذهب الصفوي، وساد هذا المذهب الأطراف الشرقية من العراق وما لبث أن توغل إلى العمق العراقي.(40/267)
نخلص إلى القول... هل يعطى الحق لمثل هذه الأعراق أو الملل أن تعتبر الأرض التي وفدت إليها أرضها بالتقادم. وتطالب باقتطاعها لتشكل عليها وطناً قومياً لها ؟ طبعاً لا... فالعراق أرضٌ قديمةٌ قَدمَ التاريخ. تكاد أن تكون حدودها موثقةٌ. ولم يحدث أن اتهم العراق بأنه ابتلع شبراً من أراضي الغير. لهذا فإن إثارة مشاريع الفيدرالية والتقسيمات، سيجلب إلى المنطقةِ كارثةً هي في غنىً عنها. ولعل دولة الشعوب الإيرانية ستكون المتضرر الأول من تقسيم العراق ، لإنها هي الأخرى خليطٌ من الأعراق والملل والأديان والأجناس، تنفرد بقيادتهم الأمة الفارسية القومية العنصرية، والتي لا يزيد عدد سكانها على الـ 25 مليون نسمة، مقابل 15 مليون كردي في الشمال الغربي لها الملاصق للعراق ، فيما تشكل الشعوب العربية والتركمانية والبلوشية والاذربيجانية بقية الدولة .
إذن... لا جدوى من الفيدرالية. فالغرباء لا يحق لهم تمزيق وحدة العراق.
[ لا للفيدرالية ، طلال معروف نجم ، موقع اذاعة العقاب 1/3/2005م ] .
ثالثاً : إن المشروع الأميركي لبناء (النموذج الديمقراطي المشع) في العراق، وهو الحجة الرسمية المتبقية للدعاية الأميركية بعد تهافت وانهيار الذرائع الأخرى، قد ينتهي إلى تحقيق الحلم الصهيوني في تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية وعرقية متناحرة حتماً، هي شمال كردي ووسط سني وجنوب شيعي ( أو الى أكثر من ذلك كما يحلو للدكتور واثب العامود في تصوراته عن الفيدرالية حتى غدا العراق ثوباً يختلف الخائطون في تفصيله كلٌ على هواه !! )، وهو ما سبق أن حذرنا منه مراراً وتكراراً وتخوف منه الكثيرون غيرنا ممن يحدوهم الأمل بألا تنتهي كارثة غزو واحتلال العراق إلى كارثة أعظم، وهي تفتيت وتقسيم هذا البلد العربي الكبير والعريق وإدخاله في دوامة حرب أهلية لا يعرف أحد متى يمكن لها أن تنتهي.
[ انظر : مصير العراق في ظل صدمة الفيدرالية وشبح التقسيم ، عبد المالك سالمان ، ( ص 1-5 ) بتصرف].
كلنا نذكر أن الحديث عن تقسيم العراق لم يكن وليد الساعة، بل بدأ منذ سنوات عدة، ومن أوائل من بدأ بتعميم تلك الفكرة هم الصهاينة، حيث كان ما ذكره وزير الخارجية الأمريكية السابق الصهيوني هنري كيسنجر حول ضرورة تقسيم العراق يمثل أنصع مثال على التدخل المباشر للصهيونية العالمية والداعمين لها من اليمين الأمريكي.
كما تبعت تصريحات الصهاينة من اليمين المتطرف الأمريكي حول تقسيم العراق دعوات مماثلة من قبل مستشارين في الإدارة الأمريكية ممن يشاركون في وضع ستراتيجات أمريكا العسكرية والسياسية. فقد دلتنا التجارب الخاصة بالسياسة الأمريكية في العقود القليلة الماضية أنه حين تكون الإدارة الأمريكية قد قررت المضي فيما نصحها به مستشاروها، تبدأ علامات ما ستقوم به الولايات المتحدة بالظهور على سطح الأحداث، وبشكل خاص في وسائل الإعلام الصهيونية المرتبطة باليمين الفاشي الأمريكي، وهذا ما حدث بالضبط حين بدأت دعوات تقسيم العراق بالظهور علناً. وبمتابعتنا لما كتبه الإعلام الصهيوني الأمريكي مؤخراً، وجدنا الكثير منه حول هذا الموضوع، وكان أبرز ما نشر عن تقسيم العراق في الآونة الأخيرة هما مقالين جديرين بالتوقف عندهما. أولهما كتبه «جون يو»، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي والباحث في منظمة اليمين المتطرف الإجرامية المعروفة بإسم Ame r ican Ente r p r ise Institute، في صحيفة «لوس أنجيليس تايمز» إقترح فيه تقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق/أقاليم. علماً بأن «جون يو» هذا هو نفسه من إقترح على الإدارة الأمريكية مسبقاً بذر الشقاق بين فصائل المقاومة الوطنية العراقية من خلال إنشاء فصائل مقاومة وهمية تقوم بأعمال إجرامية بحق المواطنين العراقيين الآمنين الهدف منها تقليص الدعم الشعبي الواسع للعمليات النوعية التي تقوم بها المقاومة ضد قوات الإحتلال
.. وما شاهدناه على الأرض بهذا الخصوص، وبالذات في الأشهر القليلة الماضية كان خير دليل على ما كان «جون يو» قد إقترحه على الإدارة الأمريكية المتصهينة والموغلة في عنجهيتها وغطرستها وجبروتها.
والمقال المهم الثاني هو ما كتبه رجل القانون الأمريكي «ألان توبول» في نفس الأسبوع الذي نشر فيه «جون يو» مقاله عن تقسيم العراق. و«توبول» هذا عمل هو الآخر على مدى أربعين عاماً مستشاراً للإدارات الأمريكية ومنها إدارة بوش الحالية، حيث يعتبر واحداً من كبار منظري الستراتيجية العسكرية والسياسية لليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية.
وقد كان ما كتبه «توبول» مؤخراً في موقع Milita r y.com الخاص بالجيش الأمريكي هو دعوة الإدارة الأمريكية إلى تقسيم العراق تماماً بنفس الأفكار والأسلوب التي دعى إليها"جون يو" كما نقلنا عنه ذلك آنفاً وهو يدل علة وجود توجه استراتيجي .(40/268)
فعلى سبيل المثال، ذكر كلا الكاتبين بالتوافق، أو بالصدفة (لنسمها ما شئنا) أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 كانت هناك 74 دولة مستقلة فقط، في حين أن عدد الدول المستقلة الآن هو 193 دولة !!! وهنا حاول هذان الكاتبان توجيه الأنظار إلى أن زيادة هذا العدد من الدول المستقلة !!! إلى 196 دولة سيكون حقيقة واقعة بعد تفتيت العراق إلى ثلاث دويلات. كما ذكرا وبكل وقاحة الدور الأمريكي بتفتيت الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وعدد من دول أوربا الشرقية الأخرى مثل تشيكوسلوفاكيا (التي نتج عن تفتيها جمهوريتين تحملان الآن إسمي التشيك وسلوفاكيا)، على سبيل المثال. وينتهي كاتبا المقالين بالاعتراف أن أمريكا تسعى الآن وبكل قوتها إلى تفتيت العراق.
[ انظر : تقسيم العراق هدف أمريكي ـ صهيوني مسبق التحضير ، محمد العبيدي ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قسم المقالات 1/9/2005 ] .
لم تكن المفاجأة في إصرار الأكراد على رفع سقف مطالبهم القومية، لتأكيد وترسيخ النزعة الرامية كهدف استراتيجي إلى تحقيق انفصال كامل لإقليم الشمال وتكوين دويلة كردية هناك، حيث بلغت هذه المطالب حداً غير مسبوق مثل المطالبة بجعل اللغة الكردية لغة رسمية موازية للغة العربية في العراق ككل، وليس في منطقة كردستان فقط، وكذلك المطالبة بوجود تمثيل كردي دبلوماسي مميز داخل السفارات العراقية بالخارج بأسلوب يكرس فكرة (الدولة داخل الدولة) تمهيدا لانتهاز أية فرصة قريبة مثل اندلاع اضطرابات في العراق أو نشوب حرب أهلية للمسارعة إلى إعلان استقلال كردستان، وهو ما تكرس عبر الإصرار على عدم حل الميليشيات المسلحة الكردية (البشمركة)، حتى بعد الاتجاه إلى بناء جيش وطني اتحادي جديد للعراق بعد جلاء الاحتلال الأميركي.
وهو الأمر الذي يعكس نية مبيتة للانفصال في أية لحظة، وقد جاءت المظاهرات الحاشدة التي تم تنظيمها في الأيام أخيرة في عدة مدن كردية في شمال العراق من قبل الأكراد والمطالبة بوضوح بضرورة انفصال كردستان ومنحها حق تقرير المصير لتحقيق استقلال الأكراد لتؤكد هذه النوازع الانفصالية، وأن الأكراد يركزون كل جهودهم من أجل تكريس فكرة انجاز الطلاق النهائي مع الدولة العراقية.
وقد ظهر ذلك جلياً خلال مداولات كتابة الدستور العراقي الجديد، فقد أصر الأكراد على رفض إعطاء أي هوية عربية للدولة العراقية، ورفضوا بشدة قبول أن العراق البلد والكيان هو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وطالبوا باعتبار العرب في العراق فقط (أي السكان العرب) هم فقط من يشكلون جزءاً من الأمة العربية في أول الامر ثم عدلت المادة لتُصيِّر من العراق عضواً فاعلاً ومؤسساً في الجامعة العربية وملتزماً بميثاقها !
وسخرت البيانات السياسية والخطابات الإعلامية للأكراد في الفترة الأخيرة من فكرة (الأخوة العربية - الكردية) وأكثر من ذلك فقد كثف الأكراد جهودهم من أجل انتزاع منطقة كركوك وضمها إلى إقليم كردستان بحجة أن غالبية سكان كركوك هم من الأكراد وأن العرب هناك يشكلون الأقلية وطبعا الهدف الأساسي هو الاستحواذ على ثروات كركوك النفطية التي تحتوي على معظم النفط العراقي في الشمال.
وبالرغم من أن هذه المطالب الكردية كانت شبه معلومة من قبل، إلا أن المفاجأة كانت في درجة الإلحاح عليها ومحاولة الأكراد استغلال الموقف والظروف الناجمة عن الاحتلال الأميركي للعراق، لمحاولة فرض واقع جديد يقود فعلياً لانفصال كردستان وفرض ذلك على بقية أجزاء العراق.
لكن المفاجأة الأعظم جاءت من الجنوب العراقي، عندما أظهرت قيادات سياسية شيعية، لأول مرة فكرة فصل جنوب العراق وطالبت بإنشاء إقليم شيعي في الجنوب والوسط العراقي يضم 9 محافظات ليكون إقليما شبه مستقل على غرار إقليم كردستان في الشمال، وواكب ذلك المطالبة أيضا بالاستحواذ على نفط الجنوب أسوة بمطالب الأكراد بالاستحواذ على نفط الشمال العراقي في كركوك وما حولها، وجاءت صيغة الفيدرالية لتشكل حصان طروادة الذي يمكن من خلاله تنفيذ مخطط تقسيم العراق على أساس عرقي (الأكراد في الشمال) وطائفي (الشيعة في الجنوب)، على أن يترك للسنة العرب في الوسط أن يتدبروا أمرهم حيث لا توجد اكتشافات نفطية ذات بال في مناطق الوسط حول بغداد وفي غرب العراق على الحدود مع الأردن وسوريا.
ولا يمكن فصل محاولات تقسيم العراق على هذا النحو على أساس عرقي وطائفي (الشمال الكردي، والجنوب الشيعي)، عن واقع التوزيع الطبوغرافي للثروة النفطية العراقية المكتشفة حتى الآن والتي تتركز في الشمال والجنوب.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لو أن الثروة النفطية العراقية تتركز في إقليم الوسط وحول بغداد حيث تتركز غالبية السنة العرب، كانت سوف تظهر مثل هذه المطالب الانفصالية لأكراد الشمال وشيعة الجنوب؟!
الأمر المؤكد هو أن الإجابة ستكون بالنفي، بل على العكس من ذلك ربما رأينا أهل الشمال والجنوب يزايدون على أهل الوسط من السنة العرب في التمسك بوحدة الدولة العراقية.(40/269)
أما السبب الآخر المرجح لانفجار هذه المطالب الانفصالية المتدثرة بعباءة الفيدرالية (في الشمال والجنوب) فيمكن القول انه ناجم عن تأثير القوى الإقليمية وفي مقدمتها "إسرائيل".
فـ"اسرائيل" تطمح إلى إضعاف العراق وتفتيته لأسباب تاريخية وسيكولوجية تتعلق بمخاوف الصهاينة المتجددة من عقدة تدمير "الدولة العبرية" عن طريق غزو قادم من المشرق العربي، وبالتحديد من العراق على غرار محنة السبي البابلي لليهود في التاريخ القديم عندما أطاح البابليون العراقيون بمملكة "اسرائيل" القديمة وجروا الأسرى اليهود في سلاسل إلى العراق القديم ، ولكن هذه المرة تحت ظلال الإسلام والجهاد .
ومازال شبح الهجوم العراقي الزاحف من الشرق لتدمير "اسرائيل" من جديد يشكل هاجسا قائما في الوعي واللاوعي السياسي لقادة "اسرائيل".
ولذلك فمن هذا المنظور التاريخي يعتبر الصهاينة أي تفتيت أو تمزيق أو إضعاف للعراق بمثابة إبعاد لشبح تهديد مصير "الدولة العبرية" عبر غزو عراقي (بابلي) جديد.
ومن المنظور الاسترايتيجي العسكري المعاصر، فقد ظلت "اسرائيل" تخشى دوما من توحيد الجبهة العسكرية العربية والتي قاعدتها (التحالف أو الوحدة بين سوريا والعراق)، واعتبرت ذلك دوما يشكل خطرا جسيما على مصير "اسرائيل".
وقد كانت "اسرائيل" في غاية السعادة عندما استفحل واحتدم الصراع بين جناحي حزب البعث في دمشق وبغداد أبان حكم كل من الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين، وقد أدى ذلك إلى فشل محاولات توحيد القوة العسكرية العراقية والسورية في مواجهة "اسرائيل".
ولهذا ترغب "اسرائيل" في ألا تقوم للعراق قائمة مرة أخرى بحيث يظل احتمال التقارب العسكري السوري - العراقي أمرا غير ممكن، وليس بعيدا عن هذا التفكير الاستراتيجي الصهيوني قيام بول بريمر الحاكم الأميركي السابق للعراق بعد احتلاله بحل الجيش العسكري العراقي ، فقد جاء هذا القرار الأميركي من جانب بريمر (بالحل المفاجيء) للجيش بمثابة خدمة مباشرة للمخططات الصهيونية تجاه العراق.
والإصرار الكردي، الآن، على بلورة كيان قابل للانفصال في أية لحظة في شمال العراق وإعلان قيام دولة أو دويلة كردية هناك، لا يمكن وضعه فقط في سياق الطموحات القومية الكردية التاريخية المعروفة، التي قوبلت دوما بحسابات المناوأة من قبل المحيط الإقليمي، حيث لا تقبل أية دولة من الدول التي يوجد بها كثافة سكانية كردية بفكرة قيام دولة مستقلة للأكراد في أي منها خشية أن تؤدي إلى انفصال الأقاليم الكردية في تلك الدول وهي: (تركيا، إيران وسوريا وبالإضافة إلى العراق).
وفي خضم تداعيات المشهد السياسي في العراق منذ الغزو الأميركي للعراق، هددت تركيا بوضوح بأنه لو قامت دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فإن تركيا سوف تقوم باجتياح الشمال العراقي لإجهاض هذا التهديد للأمن القومي التركي.
لكن الأمر المؤكد أن الأكراد في شمال العراق يحظون بتأييد غير محدود من جانب "اسرائيل"، التي تدعم فكرة قيام كيان كردي مستقل في شمال العراق يكون حليفا للدولة العبرية ويتناغم معها في مناهضة أحلام القومية العربية في المنطقة أو الأصولية الجهادية المتنامية .
والوثائق تشير إلى صلات تاريخية وثيقة بين الأكراد و"اسرائيل" منذ الستينيات حيث لعبت "اسرائيل" دوراً أساسياً في دعم التمرد الكردستاني في شمال العراق وإمداده بالأسلحة منذ عهد الزعيم التاريخي للأكراد الملا مصطفى البارزاني والد مسعود البارزاني أحد القطبين الكبيرين في زعامة الأكراد في الوقت الراهن بالإضافة إلى جلال الطالباني.
وقد أدت هذه التطلعات "الاسرائيلية" إلى اقامة كيان كردي حليف في شمال العراق إلى الاصطدام مع السياسة التركية وإضعاف علاقات التعاون الاستراتيجي بين تركيا و"اسرائيل" منذ الغزو الأميركي للعراق.
وقد كانت الدوائر الاستراتيجية التركية أول من تحدثت عن تغلغل "اسرائيلي" واسع النطاق في كردستان في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، وهو الأمر الذي أماط عنه اللثام بشكل سافر الكاتب الصحفي الأميركي الشهير سيمور هيرش بعد ذلك في مجلة (النيويوركر).
وفي تقديرنا أن الدعم الاستراتيجي اللامحدود الذي تقدمه "اسرائيل" لفكرة انفصال كردستان العراق وإقامة كيان كردي مستقل في شمال العراق بحيث لا يعود العراق دولة إقليمية كبيرة ذات وزن وثقل استراتيجي، هو أحد الأسباب القوية وراء إصرار الأكراد على أن يتضمن الدستور العراقي الجديد فكرة إعطاء الأكراد حق تقرير المصير بعد ست أو ثماني سنوات (على غرار نموذج جنوب السودان أو استلهاما منه).
فالأكراد يشعرون أن "اسرائيل" ستقف بقوة إلى جانب قيام دولة كردية في شمال العراق، وستعمل على توفير الدعم الأميركي لهذه الدويلة الجديدة رغم المعارضة التركية الجلية لها.(40/270)
وفي تقديرنا، أن الأكراد بإصرارهم على الانفصال وتكريس فكرة الحق في تقرير المصير عبر الفيدرالية، والمطالبة بإجراء استفتاء على ذلك بعد عدة سنوات وهم واثقون من الانفصال بدليل أن استفتاءاً نظم في كردستان إبان الانتخابات الأخيرة أظهر فيه نحو 98% من الأكراد رغبتهم في الاستقلال والانفصال عن العراق، وهم إنما يرتكبون خطيئة تاريخية ويراهنون مرة أخرى الرهان الخطأ عبر توهم أن "اسرائيل" ستكفل لهم الحماية عندما تتحول دويلة كردستان في شمال العراق إلى كيان خاضع للحماية أو الوصاية الصهيونية.
إن الأكراد مطالبون بإعادة التفكير جيدا في قراءة الخريطة (الجغرا سياسية) الإقليمية، ومعرفة أن إقامة دولة كردية سيفتح عليها نيرانا إقليمية لا تنتهي وستجد تحالفاً ايرانياً سورياً تركياً عراقياً ضد هذه الدولة مما سيدخلها في دوامات صراع لا تنتهي.
كما أن على الأكراد استشفاف الدروس المستفادة من الغزو الأميركي للعراق، فأميركا بعد أن تدبر سيناريو خروج غير مهين من العراق، لن تفكر في العودة إليه ثانية، فلا يتوهم الأكراد أن قوات أميركية سوف تهبط في جبال كردستان مرة أخرى من أجل حماية الدولة الكردية المستقلة.
إن الرهان الحقيقي والخيار الاستراتيجي التاريخي لأكراد العراق هو في الحفاظ على روح التلاحم والأخوة الكردية ـ العربية في إطار أخوة الإسلام العظيم فهو الرابطة العظيمة التي ستبقى فوق كل حسابات سياسية مؤقتة أو أطماع ومطامح اقتصادية زائلة، وعليهم الاستفادة من حقيقة أن العراق هو أكثر دولة منحت الأكراد حقوقا ثقافية وسياسية وقومية في كل المحيط الإقليمي واعترف لهم بالحكم الذاتي الواسع الصلاحيات، وهو ما يمكن ترسيخه عبر تأكيد ذلك في دستور يحفظ وحدة العراق ولا يقود إلى تفكيكه أو تقسيمه، كما كشفت عن ذلك المداولات بشأن الفيدرالية في إطار الدستور الجديد.
وإذا كان النظام السابق قد عطل بنود قانون الحكم الذاتي للأكراد فانه بالإمكان الآن وأثناء صياغة دستور جديد أن يكفل تفعيل ذلك القانون ويضمن تطبيقه.وهنا لابد من القول أن هذه الحقوق الممنوحة للقومية الكردية هي ليست منحة أو منّة من أحد،فالكرد مواطنون عراقيون أصلاً لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم في هذا الوطن، وهي لا تقل عن حقوق وواجبات العراقيين العرب أو بقية طوائف المجتمع العراقي.ولا أحد يستطيع أن ينكر مواقفهم الوطنية في انجاز استقلال العراق ، وما قدموه من تضحيات في إطار الحركة الوطنية لا تقل شأناً عمّا قدمته باقي القوميات الأخرى المتآخيه دون تمييز أو تفريق فالجميع شركاء في هذا الوطن وان معيار المفاضلة يكمن في التعبير عن الولاء له والانتماء إليه .
لقد بات المصير العراقي مهددا ليس فقط بتأثيرات المشروع الاستعماري الأميركي والذي يتعرض للفشل بفعل المأزق الذي خلفته المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، ولكن أيضا بفعل المخططات والأطماع الاستراتيجية للقوى الإقليمية، وهو ما زاد من مخاطر تعاظم حدوث سيناريو شبح التقسيم العرقي والطائفي في العراق.
لكن أي محاولة لتكريس واقع هذا التقسيم عبر الدستور الجديد الذي مرر بارادة امريكية بعد أن رفضته محافظات( الانبار/ الموصل / صلاح الدين / ديالى / السماوة / الديوانية ) بأغلبية ساحقة، سوف تقود إلى نشوب حرب أهلية طاحنة لا سامح الله أو الى مزيد من الوهن والمشاكل والاضطرابات ولو لم يكن على شكل حرب أهلية مفتوحة لأننا ما زلنا نثق بوعي العراقيين من أن ينزلقوا اليها .
فأهل السنة في العراق لن يقبلوا بسيناريو التقسيم، وسيتلقون فيما لو خرج الأمريكان من العراق دعما عربيا غير محدود، ولن يقبلوا بفكرة استئثار أكراد العراق بنفط كركوك والشمال وشيعة الجنوب بنفط البصرة والجنوب العراقي [ نتألم كثيراً عندما نضطر الى ذكر هذه التسميات الطائفية ، لكنه واقع مفروض اليم علينا مواجهته بروح متألقة ] ، كما لن يقبلوا بفكرة انهيار (الدولة العراقية الموحدة).
وإذا لم يتدارك أكراد وشيعة العراق _ ومنهم الدكتور العامود ! _ مخاطر السير في سيناريو تقسيم العراق عبر فكرة الفيدرالية، فإن الرهان على إمكانية أن تحمي أميركا النزعات الانفصالية بعد انسحابها من العراق سيكون رهانا خاسرا وعقيما ووخيم العواقب، وقد يفتح أبواباً من الجحيم لا أحد يستطيع التنبؤ بمساره أو تداعياته الخطيرة والتي لن تنتهي حتما بنجاح سيناريو التقسيم.
إن قدر العراقيين هو العيش معا في إطار دولة موحدة تحترم وتصون التنوع الثقافي والعرقي والطائفي، وتكفل تقاسم ثروة العراق النفطية وثرواته الأخرى في إطار من العدالة والمساواة، وإزالة أخطاء الماضي في هذا المجال، وذلك في إطار نظام العدالة التعددي وليس في سياق محاصصة عرقية وطائفية لن تقود إلا إلى دمار وخسارة الجميع.
وعلى القيادات السياسية في العراق أن تتحلى بروح المسؤولية التاريخية والوطنية وتنظر ببصيرتها إلى الأفق البعيد، إلى ما بعد خروج قوات الاحتلال الأميركي، فلا مستقبل إلا في إطار العراق الموحد أما الرهان على مؤازرة قوى خارج العراق فلن يكون مصيره إلا الفشل.(40/271)
فالعراق الموحد الحر القائم على التعايش بين الثقافات والانتماءات وتعميق التآلف والوحدة الوطنية والمنتمي لروابطه التاريخية المتمثلة في العروبة والإسلام هو الطريق الوحيد لبناء العراق العصري الذي يتطلع إليه كل العراقيين على مر السنين.
[ انظر : مصير العراق في ظل صدمة الفيدرالية وشبح التقسيم ، عبد المالك سالمان ، ( ص 1-5 ) بتصرف].
رابعاً : وفق المقاييس والمعايير الموضوعية نلاحظ إن مطلب الفيدرالية كما طرحت مشروعه وتصر عليه القيادات الكردية وأكثر القيادات الشيعية هو أقرب إلى الكونفدرالية واتحاد دولتين ذات سيادة منه إلى الفيدرالية بين أقاليم دولة واحدة ، مما يثبت عدم ملاءمته لظروف شعبنا وتطلعاته المستقبلية .
وهي لا تعني المطالبة بها في ظل الظروف التي يمر بها القطر سوى تقطيع كيان العراق الجغرافي وتمزيق أواصر وحدته الوطنية وإضعاف عوامل هيبته السياسية ، فخطورتها تكمن في إن الدول الفيدرالية إذا ما تفككت لأي سبب كان مستقبلاً فإنها ستنقسم إلى كيانات ودول جديدة على أساس المقاطعات الفيدرالية المكونة لها سابقاً وهذا مالا يرضاه كل مواطن عراقي غيور .
[ الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق ، د عبد علي محمد سوادي ( ص 8-9 ) بتصرف/ شبكة النبأ المعلوماتية ] .
خامساً : المشروع المطروح للفيدرالية، والذي فصل في عدد من مواد مسودة الدستور، يضع نهاية للكيان الوطني العراقي ولهوية العراق العربية، ويدعو إلى تقسيم طائفي للعراق. وهذا المشروع يهدد كل الكيانات الوطنية العربية الكبرى، التي لا تخلو جميعها من تعددية إثنية أو دينية.
ما يشهده العراق اليوم هو تطور غير مسبوق في تاريخ الجماعات العربية الوطنية منذ ولادتها قبل زهاء قرن من الزمان. لم يسبق أن وقفت قيادات سياسية تدعي الحديث باسم كتلة رئيسة من كتل الجماعة الوطنية، كما تقف القيادات الشيعية العراقية، لتطالب بكيان منفصل لهذه الكتلة.
ويجب ألا يخطئ أحد في مطالب بعض القيادات الشيعية العراقية؛ فهي مطالب انفصال بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فالفيدرالية الشيعية تشمل كل محافظات جنوب العراق، من بغداد إلى البصرة؛ وما توفره مواد مسودة الدستور على صعيد توزيع الثروة، ومنح الكيانات الفيدرالية (حقوق حفظ الأمن والتشريع والتمثيل الدبلوماسي)، يؤسس لتقسيم فعلي يمكن أن يتحول إلى تقسيم نهائي ورسمي في المستقبل.
في العراق، ستفتح الفيدرالية الشيعية الباب لتطهير طائفي دموي؛ فلا الجنوب شيعي خالص ولا الوسط والشمال سنيون خالصون. بل إن الوجود السني في الجنوب، لاسيما في مناطق البصرة والكوت والناصرية والحلة والصحراء جنوب الفرات، هو وجود كثيف وعميق الجذور. ذلك أن التحول إلى التشيع بين العشائر الجنوبية هو ظاهرة حديثة نسبياً، لا تتجاوز القرن إلى القرنين من الزمان، وهذا التحول لم يكن مكتملاً.
وإذا أخذنا التوجهات الطائفية الحالية لدى بعض القوى الشيعية السياسية في الاعتبار، فلنا أن نتصور أن الفيدرالية ستقود حتماً إلى تطهير طائفي في الجنوب. ولعل القمع الأمني الدموي الذي تعيشه منطقة المدائن وجوارها ليس إلا محاولة لكسر الحزام السني جنوب بغداد، يحركها تصور لربط الكيان الشيعي في الجنوب بالكتلة الشيعية في العاصمة. التطهير الطائفي في الجنوب سيؤدي إلى تطهير طائفي في الوسط والشمال، لاسيما في مناطق بلد وتلعفر وكركوك، وإلى صراع دموي في بغداد.
بيد أن التقسيم الطائفي لن يقتصر على العراق. فمن دول الخليج إلى شمال شرق السعودية، أي في الجوار العراقي نفسه، حيث توجد أقليات عربية شيعية، لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد انفجارات طائفية متلاحقة.
بل إن مؤشرات التوتر الطائفي تكاد تكون واضحة تحت سطح الوضع البحريني السياسي. سيكسر الانفجار السني-الشيعي في العراق والخليج حرمة الجماعات الوطنية العربية، وقد يبث حياة جديدة في مشاريع تقسيم إيران وتركيا إلى كيانات قومية، وتأسيس كيان علوي في سوريا وجنوب تركيا، وتقسيم السعودية إلى كيانات شيعية ونجدية وحجازية، وإقامة كيان بربري في المغرب العربي، وهكذا.
هذه المنطقة من العالم تربطها أواصر ثقافية وسياسية وتاريخية، وليس ثمة حدث أو متغير كبير في إحدى مناطقها يمكن عزله عن بقية المناطق. والفيدرالية الطائفية في العراق هي حدث وتطور كبيران في واحد من أهم بلدان المنطقة وأكبرها.
ما يدفع القيادات الشيعية إلى المطالبة بتأسيس كيان شيعي هو مزيج من المصالح الضيقة، والشعور المتزايد بعدم قدرتها على التحكم في العراق كله، والتغافل عن تاريخ العراق والقوى الحاكمة لتاريخه الطويل ، وفي حين من الضروري عدم تجاهل الدعم الذي يجده مشروع الفيدرالية من العراقيين الشيعة في الجنوب، لا تنبغي المبالغة في هذا الدعم أو في إمكان استمراره.(40/272)
ففترات الحروب والاحتلالات الأجنبية وعدم الاستقرار السياسي والمعاشي هي بطبيعتها فترات خوف جماعي وشعور متزايد بالحاجة إلى الحماية واعتزال مصادر الاضطراب والقلق. ومشروع الفيدرالية الشيعية يؤسس الآن على هذا الخوف الجمعي، وعلى وعود وهمية بالاستقرار الانفصالي والرفاه.
لإفشال هذا المشروع يجب أن تتضافر جهود عراقية وعربية معاً؛ جهود سنية وشيعية على السواء. ينبغي كشف وتعرية التوجهات الطائفية الشيعية التي تهدد وحدة الجماعة والأمة، والتوجهات الطائفية السنية الوافدة أو المحلية التي تستخدم عصا التخويف لشيعة العراق. ينبغي إدراك المخاطر التي يحملها هذا المشروع الانقسامي على مستقبل العراق والعراقيين، وعلى مستقبل المنطقة ككل، بكل تنوعها الطائفي والإثني.
كما ينبغي التصدي للأساطير التاريخية التي يجري توظيفها من أجل تسويغ مخطط يوشك أن يأخذ العراق والمنطقة إلى حقبة طويلة من الموت والدمار.
[ انظر : الفيدرالية وتفكيك الجماعة الوطنية العراقية ، بشير موسى ، موقع المعرفة ، الثلاثاء 9/8/1426 هـ - الموافق13/9/2005 م ، بتصرف ] .
سادساً : الموارد في الدولة الفيدرالية بحسب الدستور الجديد : إن الدستور تحدث عن مركزية توزيعها، الا انه قصر ذلك على الموارد المستثمرة حاليا وسكت عن التي ستستكشف لاحقا، وهذا ما سيكون بذرة لنزاعات مستقبلية. الا انه قبل ذلك يجب ان يكون حرصا حقيقيا على هذه الموارد، اذ ما لم يحدث توقف او تقليل فعلي للتخريب الذي يلحق بأنابيب النفط وشبكات الطاقة والبنى التحتية بسبب الاعمال المسلحة، فلن يكون هناك من العائدات والموارد ما يستحق اقتسامه.
[ مسودة الدستور العراقي: ملاحظات أولية ، جريدة الشرق الأوسط ، الأحد 23 رجب 1426 هـ 28 اغسطس 2005 العدد 9770 ] .
من ناحية أخرى : طالب خبراء عراقيون بتعديل الدستور لتفادي انعكاسات سلبية على الصناعة النفطية , منهم الوزير السابق السيد غضبان , وقد وجهوا الرسالة المفتوحة الى رئيس الجمعية الوطنية ( حاجم الحسني ) للاعتراض على فقرات الدستور .
المواد الدستورية قسمت نفط العراق اجمالا على جغرافيا , بحيث يصبح كل جزء جغرافي له دفع سياسي وفق ما تكون حصته في الكعكة بصورة عامة.
فعليه التنافس بين الاقاليم اصبح مبرمجا وفق توزيع القرار الاقتصادي السياسي.
هنا وجب طرح سؤال مهم : هل ان هذا التنافس سيكون سلبياً ام ايجابيأ؟ لكي تتصدى الجمعية الوطنية بقرارات تشريعية تمنع السلبية وتبقي على الايجابية.
من اخطر سلبيات تلك المنافسة بين الأقاليم هو التنافس من اجل الحصول على المستثمر الأجنبي. أي كل إقليم من الأقاليم يقدم نفسه الأرخص بين الأقاليم لكي يجذب المستثمر.
السلبية الأخرى, هي ضعف الموقف التفاوضي بالنسبة للحكومة الاتحادية أمام شركات النفط العملاقة منها الأجنبية والوطنية.إذا كان للحكومة الاتحادية حق النقض , (كما لرئيس الولايات المتحدة),على أي عقد من عقود النفط التي تبرمها الفدراليات, قد تم دفع البلاء المحتمل.وحلت محله مصلحة الشخص العراقي, ذلك يتم بتوقيع الحكومة الاتحادية على العقد المقدم من قبل الشركات ,التي تقدم أكثر لكل جنسية عراقية أي الى خزينة الحكومة الاتحادية. هنا يصبح التنافس بين الأقاليم من مصلحة الحكومة الفيدرالية بما فيها قوتها التفاوضية أمام المستثمر.
[ انظر : هل ضيع دستورنا الفدرالي نفطنا؟ الدكتور لطيف الوكيل ، موقع بحزاني للحوار ( ص 1-2 ) ] .(40/273)
أيضاً ومما له علاقة بالموارد ما طرحته بعض الأطراف العراقية خلال مناقشات الدستور حول موضوع تقاسم المياه او حق التحكم بها من قبل بعض الأقاليم الفيدرالية. وكانت مشكلة المياه قد برزت بشكل حاد في الثلث الأخير من القرن الماضي، عندما بدأت تركيا في إقامة سدود ضخمة علي نهر الفرات ـ أكبرها سد اتاتورك ـ مما ادى الي خفض نسبة المياه المتدفقة نحو سوريا والعراق الي درجة خطيرة، وارتفاع نسبة التلوث في النهر وميزت تركيا ـ وهي الدولة الوحيدة في ذلك ـ بين الأنهار الدولية والانهارالعابرة للحدود للهروب من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأنهار مثل اتفاقية هلسنكي »1966« وإعلان فيينا عام 1978 اللذين نصا علي عدالة توزيع واستثمار المياه، وامتناع الدول عن تحويل مجري النهر او إنشاء خزانات او سدود علي مجري النهر من شأنها خفض حصة دولة اخري، واعتبرت نهري دجلة والفرات انهارا عابرة للحدود وليس انهارا دولية وكان أول من أثار قضية المياه في العراق في الفترة الحالية هم الأكراد الذين طالبوا بحق استثمارها من قبل ادارة الاقاليم الفيدرالية اخذين في الاعتبار تعدد مصادر المياه في الشمال العراقي »كردستان« وارتفاع نسبة تساقط الأمطار بها إضافة الي كثافة تساقط الثلوج بكمية وفيرة، وهو ما يؤدي الي تشكيل العديد من الينابيع والروافد التي تصب بمجملها في دجلة وتشكل احد اهم مصادره ومنح الأقاليم الفيدرالية حق التصرف بالثروة المائية سيؤدي الي مقايضة المياه مع بقية أقاليم العراق بأثمان اقتصادية وسياسية عالية القيمة في المستقبل.أما ادارة الثروة النفطية فهي بدورها موضوع حساس فعوائد النفط هي الأساس في الحياة الاقتصادية للدولة العراقية، وسلطة القرار في إدارة هذه الثروة غير واضحة في الدستور، فمركز القرار غامض، وهناك تداخل بين سلطات الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات وهو ما قد يؤدي الى بروز مشاكل ونزاعات وصراعات في المستقبل بين المحافظات والأقاليم حول استثمار الثروة النفطية، وحول الآبار المنتجة للنفط والتنقيب والاستكشاف .
[ دستور العراق.. خطوة للأمام أم للخلف ، حسين عبد الرازق ، جريدة الوفد المصرية ، السبت 29 أكتوبر 2005] .
نحن نخشى من انتخاب مجالس أقاليم يسيطر عليها بعض الأفراد وعوائلهم بصورة مستديمة ليتحكموا في مقدرات الإقليم المالية ومشاريعه وعقوده مع الشركات المحلية والأجنبية ويمضي الوقت وتضخم الأموال ويسيطر هؤلاء على الأجهزة الإدارية والقضائية والأمنية وتبرز مع الوقت رموز استبداد تتحكم بالإقليم مدى الدهر تحت واجهة الديمقراطية والفيدرالية وتتحول الأجهزة الى جزء من هرم استبدادي غير معلن يخدم القمة. هل فكرتم في كيفية توزيع الثروة القومية للوطن العراقي على الإقليم؟ أهي حصص سيجري الاتفاق عليها عشوائياً في المجالس ام هي مستلزمات اقتصاد دولة تفرض نفسها بالأرقام والدراسات السنوية المتغيرة؟ اذا قلت بحصة للإقليم فهذا يعني ان منتسب الإقليم سينتفع بمشاريع وخدمات حصة إقليمية فضلاً عن المنافسة في الانتفاع بحصة إقليم آخر كبغداد مثلاً (ياكل من جهتين)، ومن جهة أخرى فإنه تكريس للطائفية وإشعال فتيلها بهذا الشكل سيقود الى مغادرة السني للإقليم الشيعي ومغادرة الشيعي للإقليم السني بعد استحالة التنافس الحياتي في الإقليم.
إن اللعبة لن تنطلي على احد إذ أن مشروع التقسيم لازال قائما وحاضراً بقوة ليس عبر الفدراليات فحسب بل عبر موضوع تقاسم الثروات فهو التقسيم الحقيقي للبلاد أيضاً ، حيث ان توزيع الثروة حسب الأقاليم او المحافظات يلغي تماما ملكيتها القومية للعراق الموحد الذي سيكون مجرد كيان هش يتلاعب بمصيره أمراء الطوائف وسراق الثروات والمتحكمين بها ، لذا فالكل الآن يريد حصته الأكبر منها لإيجاد الأرضية المادية لحالة التقسيم فيما بعد ، فان بدا ظاهريا انهم قد يتنحون مؤقتا عن موضوع التقسيم العاجل للعراق عبر جغرافيته التي وضعوا لها خصوصيات مصطنعة فإنهم يمضون في تقيسمه عبر قاعدته المادية وثرواته القومية الأمر الذي سيحول مسألة التقسيم الى واقع حال عبر التنازع على الثروات والاقتتال من اجلها ولا يتطلب الأمر عندها اي جهد لعملية التقسيم إذا ما أريد لها أن تقر يوما ما لا سامح الله.
[حقيقة تقسيم العراق.. ولعبة الدستور ، موقع جريدة البصائر / قسم المقالات ( ص3 ) ] .(40/274)
سابعاً : من الناحية الشكلية أو القانونية لا تتناقض الفيدرالية مع وحدة الدولة وسيادتها , ولكن من الناحية الفعلية, وفي الشرط العراقي خاصة , نرى حالة غريبة بالنسبة للتجارب الفيدرالية المؤسسية التي تمت في العالم , وهذه الغرابة تتمثل في أن الفيدرالية قد قامت في البلدان القارية أو البلدان الواسعة والممتدة الكبيرة انطلاقا من المقسم إلى الأكثر توحيدا , في حين أنها تتم الآن في الشرط العراقي من الموحد إلى المقسم , وتتضاعف هذه المشكلة مع حقيقة أن مفهوم فدرلة العراق او تحويله الى فدرالية يرتبط باضعافه كدولة في محيطه الاقليمي , وهنا نتذكر كيف ان فرنسا , وهي الدولة الام في نموذج الدولة الأمة , قد اشترطت تقسيم المانيا أو جعلها فدرالية بعد الحرب العالمية الثانية كي تقضي على قوتها داخل المجال الأوروبي في تلك الفترة , بالطبع المانيا استطاعت أن تعيد حضورها وان تنسق مع الفرنسيين وان يشكلا معا قاطرة الاتحاد الأوروبي لاحقا الأمر الذي يعجز العراق عنه .
أضف أن الفيدرالية في العراق مطروحة اليوم على أساس اثني وإذا قامت على هذا الأساس فانها لابد ان تفرز حروبا اثنية واقوامية ومذهبية لايستطيع احد ان يتكهن بنتائجها ولكن الفدرلة الاثنية شيء والفدرلة المناطقية الجغرافية شيء اخر, فالمجتمع العراقي مايزال في طور استكمال هويته الوطنية وتدعيمها وهذا يحتاج الى الانتماء الى دولة واحدة موحدة .
[ موقف الأكراد والمحللين السوريين من الفيدرالية الكردية في العراق ،وحيد تاجا ، موقع الاختلاف ثروة ، ( ص3 ) ، 20 آذار، 2004 ]
ثامناً : الفيدرالية شكل إداري لا يرقى الى الحل السياسي , ويمكن استخدامه كوسيلة لبسط النفوذ السياسي لهذا الحزب أو ذاك على صعيد السلطات المحلية تمهيدا لفرض ديكتاتورية مقنعة برداء ديمقراطي براق !!
تاسعاً : إن تكوين دولة فدرالية ثلاثية تقوم على أساس طائفي وقومي في الشمال والجنوب والوسط، سيؤدي إلى إيجاد مناطق إدارية تملك نوعاً من الاستقلال الذاتي خاصة بالأقليات الأخرى داخل الدولة (كانتونات) .
وبذلك يتمزق العراق ويقطع لتحقيق الأهداف المشتركة للتحالف الأمريكي الصهيوني مع اطماع بعض دول الجوار، وهذا بالاساس هدف صهيوني إذ أن الصهاينة كانوا أول من أطلق فكرة إن العراق دولة مصطنعة، وان تركيبتها الاساسية التي تبلورت عام 1920 كانت تركيبة خاطئة ولا بد من اعادة صياغته وفق تقسيمات طائفية وعرقية.
فقد تحدث بها المؤرخ الاسرائيلي (بيني موريس) في لقاءات للاذاعات الأمريكية قبل الحرب على العراق قائلاً ((بان العراق دولة مصطنعة رسمها الانكليز وخلط فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة ان تتعايش مع بعضها))
كما تحدث عنها المؤرخ اليهودي الأمريكي (برناردلويس) معتبراً أن العراق هو دولة مصطنعة، وان احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه إلى عدة دويلات بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية.
ونشرت مجلة (كيفونيم الإسرائيلية) مقالاً للمنظمة العالمية الصهيونية بالقدس (العدد 14 شباط 1982) جاء فيه عرض لاستراتيجية إسرائيل في الثمانينات لتقسيم وتفتيت وتجزئة الدول العربية إلى اقاليم جغرافية متباينة على أساس عنصري أو ديني، وأعطت الأولوية إلى تفكيك العراق الذي يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل.
وقد علق عليه الفيلسوف الفرنسي المسلم (روجيه غارودجي) قائلاً: (وفي هذا النص كشف واضح للأساليب التي تنوي إسرائيل إتباعها من أجل التدخل المنظم والعام ضد أنظمة الحكم في جميع البلدان العربية بغية تفكيكها وتفتيتها مما يتجاوز نطاق كل الاعتداءات السابقة، ومشروع بمثل هذه الضخامة تؤيده الولايات المتحدة الأمريكية تأييداً غير مشروط وغير محدود..)) ! [ ملف إسرائيلي، دراسة للصهيونية الاساسية، ص 160-163 ] .
[ وانظر : فدرالية تقسيم العراق ، موقع جريدة البصائر ، قسم المقالات ( ص3) ] .
الخلاصة : إن مشروع الفيدرالية في العراق نقيض لرابطة الدين والدم واللغة والثقافة والمصالح والأهداف المشتركة، وقد يؤدي إلى حروب أهلية وفتنة كبرى لا يعلم مداها إلا الله ، وسيخسر العراقيون جميعاً كما خسرت الأمة من قبل في اتفاقية (سايكس بيكو) المشؤومة سنة (1916) التي مزقت امتنا شر ممزق، وقطعت أوصالها وأصبحت فريسة للاستعمار تلتهمها بكل شراهة ووحشية ببدعة القوميات والموالاة والتبعية، ولا زالت تعيش آثار هذه المؤامرة الاستعمارية وتئن من وطئتها ذليلة في دويلات صغيرة وضعيفة ترزح تحت وصاية الاستعمار وهيمنته إلى يومنا هذا.
إن هذه الرؤية التجزيئية للمجتمع العراقي تعبر عن هوس تحكمه العواطف وردود الأفعال وضيق الأفق والمزايدات السياسية وقوى الاحتلال وأذنابه لنحر العراق وأهله بيد جزار كافر صليبي، ولكن بعض الساسة لم يستفيدوا ويعتبروا بحوادث التأريخ ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ? [البقرة : 7].
[ السابق ( ص4) ] .(40/275)
الرافضون يرون بانها صيغة تجميلية للتقسيم أو التفكيك وأنها ستكون مجالا لنفوذ دول الجوار، فيما صرح سكنة المناطق الغربية بمخاوفهم بأن تظل لهم الصحراء، اذ ان النفط سيكون في اقليم الجنوب وكركوك، هذا اضافة لمصادمة الفيدرالية لطبيعة شكل الدولة والامة في الاسلام لهذا فالخلاف جوهري وحقيقي وهذه الهواجس تظل مشروعة ، اذ ان كل الحروب والنزاعات انما تنشب على ما هو أقل من ذلك .
* السياسة الأمريكية في التفكيك والتقسيم
الخطط الأمريكية:
لم تكن الخطط الأمريكية الساعية إلى تقسيم دول العالم الإسلامي ومن بينها العراق وليدة الوقت الحاضر، بل هي مشاريع حاضرة في مراكز الأبحاث الأمريكية وأذهان السياسيين الأمريكيين منذ القديم، حتى أن 'هنري كيسنجر' أحد أشهر السياسيين الأمريكيين كتب في مذاكرته: 'من يريد السيطرة على الأمة العربية والإسلامية عليه أن يدمر إرادة الأمة العراقية فهي الحلقة الرئيسية فيها'، وفي الثامن من مارس العام الماضي [عام 2004] أعلن هنري كيسنجر عبر برنامج حوار [Ha r t Toke] في هيئة الإذاعة البريطانية [BBC] أن العراق يسير باتجاه مصير يوغسلافيا السابقة, ودعا كيسنجر في مرات عديدة بعد احتلال العراق إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب.
وفي عدة لقاءات مع 'بول بريمر' إبان توليه الحكم الأمريكي للعراق أكد أن مشروع الفيدرالية هو من الأولويات التي تسعى واشنطن لتحقيقها في العراق، وبالتأكيد فإن هذه الفيدرالية لا يقصد منها في حقيقة الأمر إلا تقسيم العراق .
أولاً: تعريفات:
التقسيم السياسي للدول؛ مصطلح معروف ومتداول ومعناه ظاهر للأفهام. أما التفكيك؛ فنعني به: سعي قوة خارجية إلى سلب قدرة نظام ما على نَظْم القوى السياسية الداخلية - عرقية أو طائفية أو سياسية - في عقد واحد ينبثق من عقيدته السياسية.
وبمعنى آخر؛ فإن التفكيك مرادف لانفراط العقد الداخلي، وتداعي مركزية النظام وسيطرته على القوى الداخلية. وينبغي الانتباه إلى أن التفكيك بهذه الوضعية لا يماثل الانهيار، بل هو مرحلة سابقة عليه، وفي حال نجحت القوة الخارجية في إحداثه؛ فإنها يمكن أن تحافظ على الاستقرار الداخلي بإعادة تركيب القوى الداخلية وفق نظم خاص بها.
ثانياً: الأهداف الأمريكية في العالم الإسلامي:
لماذا تريد الولايات المتحدة أن تفكك أو تقسم الدول الإسلامية؟ الإجابة عن ذلك تتضح من خلال خمسة أهداف، اثنان منها يتعلقان بالدولة الصهيونية، ويتحددان وفق مصالح دينية وسياسية مختلطة، وهذه الأهداف هي غاية ما يريده الأمريكيون، وليست أهدافاً مرحلية:
1 - تدشين القوة الأمريكية كإمبراطورية معاصرة تسيطر على دول العالم التي لا تعتنق الحضارة الغربية.
2 - ضمان أن تفقد الدول الإسلامية أي قدرة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو ثقافية على مواجهة أو تهديد أمن «إسرائيل» وسلامتها، والفقد هنا ينبغي أن يكون شاملاً ودائماً.
3 - التهيئة لدولة «إسرائيل» الكبرى وإقامتها وفق الحدود والتعاليم التوارتية، أو قوة «إسرائيل» العظمى وفق الحدود الحالية، وفي النطاق العربي والإسلامي.
4 - يتعلق بالإرهاب؛ الوصول بالدول الإسلامية إلى حالة العجز الكامل عن تخريج حركات إسلامية «متطرفة وإرهابية» حسب المفهوم الأمريكي، عن طريق إصابة الشعوب بالعقم الديني والثقافي والسياسي؛ بما يقلل من أي احتمال لانبعاث إسلامي يهدد المصالح الأمريكية.
5 - ضمان استمرار الدول الإسلامية مصدراً مأموناً للمواد الأولية وفي مقدمتها البترول، وسوقاً استهلاكية مفتوحة للمنتوجات الأمريكية.
ثالثاًً: التفكيك السياسي وليس التقسيم؛ هو المرحلة المقبلة (على رأي البعض ) :
تقسيم بعض الدول الإسلامية هو وسيلة ـ أمريكية ـ وليس غاية، والغاية ما ذكرناه سابقاً، وإن كان التقسيم وسيلة جذرية لتحقيق المقصود؛ إلا أنها تبقى غير عملية في كل وقت لأسباب كثيرة:
- هناك دول إسلامية غير قابلة للتقسيم؛ من حيث عدم وجود تمايز عرقي أو طائفي داخلها.
- كثير من الدول القابلة للتقسيم لا يشترط أن يتوفر فيها عوامل أساسية ـ مُحفزة ـ؛ توفرت في النموذجين العراقي والأفغاني ـ الأكثر عرضة لخطر التقسيم ـ؛ مثل القمع الداخلي، وتمايز الأقليات جغرافياً، أو حتى توفر معارضة سياسية ناشطة ذات مطالب انفصالية واضحة.
- في بعض الحالات، مثل السودان، يكون التقسيم مطلباً مرفوضاً، فقد أبدى جون جارانج ذو التبعية الأمريكية( في وقت سابق ) رغبة واضحة في الحفاظ على وحدة السودان، وهذا يعني أن تقسيم الدين يأتي في مرتبة متقدمة على تقسيم الدولة في المفهوم الأمريكي.
- التقسيم بدون إعدادت مسبقة قد يؤدي إلى حالة من الفوضى يعتبرها الأمريكيون المجال الخصب لنشأة الحركات «الإرهابية» في زعمهم؛ حيث تكثر الكيانات ذات السيطرة المركزية المحدودة، كما أنه يتطلب تغطية عسكرية مكثفة قد لا تتوفر في ظل التجربتين الأفغانية والعراقية، كما أن الدول الغنية بمواردها مثل العراق؛ لن يستقيم الانتفاع بثرواتها في ظل فوضى سياسية وعسكرية.(40/276)
- لا توجد سيناريوهات مقنعة إلى الآن لتنفيذ انتقال تعسفي من مرحلة الدولة الواحدة إلى كيانات متعددة، وهو ما يقوي الحاجة إلى مرحلة انتقالية تحقق جل فوائد التقسيم دون التعرض لمفاسده.
وكان التفكيك السياسي - بدون احتلال عسكري - هو المرحلة الملائمة للواقع الإسلامي، وخاصة أنه أسلوب يناسب الدول كافة؛ كونه: يتضمن ليس فقط الدول ذات التمايز العرقي والطائفي؛ بل ذات التمايز السياسي والقبلي أيضاً، كما أنه يوفر القوة العسكرية لمناطق أخرى، ولا يسبب التورط فيه أزمات داخلية أمريكية.
لكن في المقابل يبقى التفكيك مرحلة انتقالية لما بعدها، يعني التقسيم إلى دول وكيانات صغيرة، أو إعادة رسم الحدود بين الدول الحالية. وننبه إلى أمر مهم، وهو أن الأمريكيين لا ينظرون في هذا الصدد إلى أي دولة بوصفها واقعاً، وإنما بوصفها قدرة؛ بمعنى أنه قد تكون دولة ما حليفة لهم في الوقت الحالي، وهذا واقع، ولكن الدولة نفسها بوصفها قدرة تصنف خطراً محتملاً على المصالح الأمريكية لمجرد كونها إسلامية، واحتمالات التفكيك والتقسيم تعنى - فقط - بقدرة الدولة، وليس واقعها، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير كثير من المتناقضات في الأداء السياسي الأمريكي، بل والأوروبي مع دول مثل تركيا والسعودية.
رابعاً : آلية التفكيك السياسي في الدول الإسلامية:
تملك الولايات المتحدة أوراق ضغط كثيرة على الدول الإسلامية، بعضها للأسف سُلمت من قِبَل هذه الدول عن طواعية؛ لذا تبقى المسؤولية موزعة بين طغيان الأمريكيين، وتخاذل المسلمين.
ويمكن بلورة مراحل التفكيك السياسي وصوره في النقاط الآتية:
أ- القوة العسكرية:
وهي الوسيلة الآكد في هذا المجال، ولكن الإشكالية الأزلية في العمل العسكري ليست هي تحقيق المكاسب، وإنما الحفاظ عليها بعد ذلك، وفي العراق وأفغانستان يمكن تلمس الخطوات الإجرائية التي قامت بها الإدارة الأمريكية: إيجاد المسوِّغ لضربة عسكرية ـ تنفيذ عملية احتلال قوية وسريعة ـ إقامة نظام سياسي داخلي صوري، على رأسه زعماء لهم صلة بالمخابرات الأمريكية أو وجودها العسكري ؛ لذا فتش دائماً عن المعارضين المدعومين أمريكياً، فهم رؤساء المستقبل.
وبعد ذلك يؤسس الأمريكيون توازناً داخلياً يكون الوجود الأمريكي العسكري حجر الزاوية فيه، بل يتحول ـ كما في العراق ـ إلى مطلب لفئات كثيرة داخلياً وخارجياً، وقد مر بنا كيف أن بعض الإسلاميين يطالبون أمريكا بعدم الرحيل قبل أن تستقر الأوضاع، وهذه قمة البراعة السياسية الأمريكية، والتي تكتمل بكون الانسحاب الأمريكي في حال تحققه يعني تدشين مرحلة التقسيم فعلياً على أرض الواقع، وبأيدي العراقيين أنفسهم، يعني بأسلوب ديمقراطي، وهو ما يتجنب كثيرون الخوض فيه، وإلا فماذا يمكن أن يحدث لو قرر الأمريكيون الانسحاب فوراً من أفغانستان والعراق؟ وهو ما ينقلنا إلى سؤال أصعب: هل بقاء الأمريكيين في هذه المرحلة أفضل أو انسحابهم؟ ومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل هي الفتنة التي وقع فيها بعض الإسلاميين في العراق ـ كما سبق ـ، والسر يكمن ليس في معرفة الجواب؛ بل في تحديد السؤال الصحيح.
ب- التفريغ السياسي:
هناك مفهوم سياسي يمكن أن نطلق عليه «تزاحم القوى»، يمكنه تفسير ديناميكية التوازن بين القوى السياسية الإقليمية والمحلية، ومن ثَمَّ تفسير طريقة التفكيك السياسي لأي دولة، ويفيد هذا المفهوم أن: منطقة النفوذ التي تتنازل عنها قوة دولية أو إقليمية أو محلية ـ جبراً أو طوعاً ـ لا تبقى أبداً فارغة، بل تُشغل على الفور من قِبَل قوة أخرى فاعلة؛ لكي يتحقق التوازن وفق الوضع الجديد.
وهذا المفهوم يستخدم ـ بتوسع ـ من قِبَل الأمريكيين في إحداث تفريغ سياسي داخل الدولة الإسلامية المستهدفة عن طريق ممارسة ضغوط على نظامها السياسي الحاكم؛ بحيث يتخلى عن بعض نفوذه، وفي مقدمة ذلك العقد الذي تنتظم فيه القوى السياسية المحلية؛ بحيث تحدث خلخلة سياسية تتيح للأمريكيين الدخول كشريك رئيس في اللعبة السياسية الداخلية، ويُستخدم النفوذ الأمريكي من قِبَل أطراف مختلفة في تدعيم مواقفهم في مواجهة النظام الحاكم، ويعاد رسم الخريطة السياسية من جديد بعد إضافة الشريك الأمريكي.(40/277)
ويمكن فهم الأمر بطريقة أخرى، فمن المفترض أن أي دولة لها أهداف استراتيجية كبرى يكون العمل على تحقيقها مهمة النظام الرئيسة، وهذه الأهداف مثل: تحقيق الاستقرار والتقدم، والتحول إلى قوة إقليمية، والحفاظ على الوحدة الداخلية، وتطوير القوات المسلحة، ونصرة القضايا العربية، ومنها أيضاً حماية النظام لنفسه، وهو أمر معتبر، والذي يحدث أن الضغوط الأمريكية ـ ومنها إشاعة مخططات التقسيم وترويجها ـ تؤدي تدريجياً إلى اختزال الأهداف الاستراتيجية للنظام، حتى لا تترك له غاية إلا حماية نفسه، وذلك يعني فراغاً سياسياً داخلياً كبيراً لا بد أن تشغله قوى أخرى، ويعني أيضاً سهولة توجيه النظام لخدمة المصالح الأمريكية، والمتأمل في حال أغلب الدول الإسلامية يلحظ بسهولة أنه لم يعد لها أدوار خارجية مؤثرة، وتآكل دورها الإقليمي إلى حد كبير، وطرأ خلل واضح على مفهوم العلاقة بين الدولة والنظام؛ متمثلاً في سؤال: هل النظام يحفظ الدولة، أو أن الدولة تتولى حماية النظام؟
ج- تحفيز الأقليات:
كثير من الدول الإسلامية ذات تمايز عرقي أو طائفي أو قبلي، ويعتبر وجود الأقليات أحد عوامل التوتر وعدم الاستقرار الدائمين في أي دولة، ومدخل رئيس لأعدائها في محاربتها. وتحرص أجهزة المخابرات الأمريكية على ترسيخ علاقات قوية مع جميع الأقليات في الدول الإسلامية، في السر والعلن، حسب كون المعارضة خارجية أو داخلية، وتعتبر الأقليات أحد وسائل الضغط السياسي لخلخلة النظام في الدولة وإضعاف مركزيته، ويمكن تقسيم الأقليات باعتبار تأثيرها إلى: أقليات ناشطة، وأقليات نائمة، والأولى تتميز بحركة سياسية قوية، ومطالب واضحة، وعلاقات راسخة مع الأمريكيين، ويصل نفوذها في بعض الدول درجة مواجهة السلطات، والاتصال بالمسؤولين الأمريكيين عند حدوث أي أزمة، ويصح أن يطلق عليها دولة داخل الدولة، ومثل هذه الأقلية تصبح عنصراً مهماً في تفكيك الدولة، وفسح المجال للنفوذ الأمريكي.
أما الأقليات النائمة؛ فليس لها مطالب واضحة، ولا نشاط سياسي قوي، ويحاول الأمريكيون في الفترة الأخيرة الاتصال بممثلين لهذه الأقليات في دول مختلفة، والعمل على إيقاظها وتحفيزها، للاضطلاع بدور مستقبلي.
د- العد التنازلي:
وهو مرحلة متقدمة من الضغط السياسي، تصبح فيها الأزمة مع الأمريكيين أزمة وجود، بالنسبة إلى نظام الدولة الإسلامية بالطبع، وتعطي الإدارة الأمريكية تحذيرات واضحة، ومهلة محددة أحياناً لتنفيذ المطالب.
وقد تعرضت لهذا الأسلوب بالتحديد أربع دول إسلامية (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا)، في اثنتين منها (أفغانستان، العراق) وصل العد إلى الصفر، وفي واحدة منها (ليبيا) تدارك النظام نفسه وأوقف العد على الطريقة الأمريكية، وفي الأخيرة (سوريا) يبدو الحال متأزماً، وخاصة أن الخيارات الأمريكية كثيراً ما تحصر الدولة المهددة بين: سُمٍّ وسيف، وفي النموذج السوري؛ جاء الهجوم «الإسرائيلي» قرب دمشق ليعلن بصراحة أن لا قابلية لوجود دولة البين بين؛ فإما التحول إلى نموذج صدام الرافض وتحمل العواقب، وإما التحول مائة وثمانين درجة بطريقة درامية.. كما فعل القذافي.
هـ- الشرعية التاريخية:
يعتقد الغربيون بقوة في قدرة المرجعية التاريخية على التأثير في الواقع، وبصفة عامة؛ فإن أي قوة سياسية في أي بلد تتخذ من إحدى نقاط التاريخ محوراً ومرجعية لها، ففي مصر ـ مثلاً ـ يرى الليبراليون أن فترة حكم الوفد والانتخابات الديمقراطية فترة ذهبية، ويرى الناصريون أن فترة حكم عبد الناصر ينبغي أن تكون مرجعاً محورياً للأمة كلها، والإسلاميون يتخذون من الخلافة العثمانية أقرب مرجعية تاريخية لهم، وتسعى كل قوة إلى العودة بالواقع لمطابقة مرجعيتها التاريخية، ويتسلل الأمريكيون من هذه الرؤية التاريخية؛ لتسويغ تفكيك بعض الدول الإسلامية، حيث تفترض أن وضعاً ما في التاريخ المعاصر لهذه الدولة هو وضع طبيعي، ويكون هذا الوضع عادة تفكيكياً قبل التوحد، فتعتبر هذه المرحلة من التاريخ هي المرجع، وأن الواقع ينبغي أن يدور لمطابقتها مرة أخرى، ولا شك أن ذلك سوف يكون لحساب أطراف دون أخرى.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية استخدام هذه المرجعية التاريخية في كل من أفغانستان والعراق، عن طريق الملك ظاهر شاه، والشريف حسين.
و- الضربات العسكرية الخاطفة:(40/278)
دشنت الحكومة (الإسرائيلية) أسلوباً جديداً في هذا المجال، وذلك بضربتها الجوية الخاطفة لمخيم «عين الصاحب» في سوريا، وهذه الخطوة ربما يكون الدافع الرئيس لها هو النيابة عن الإدارة الأمريكية المتورطة عراقياً في معاقبة بعض الدول المشاغبة، لكن بأسلوب «الأنماط الحاكمة» الأمريكي الذي سبق الحديث عنه، وبذلك تكون هذه الضربة نمطاً حاكماً لما يليها بالصورة الآتية: ضربة لمخيم فارغ ـ ضربات داخل دمشق لمراكز الفصائل الفلسطينية ـ ضربة جوية للمفاعل الإيراني ـ ضربات جوية لتحييد القدرة النووية الباكستانية، وقد تستغرق هذه التتابعية أشهراً أو سنوات، لكن ما يهمنا هنا أن هذه الضربات تنشئ نوعاً من الاضطراب السياسي الداخلي؛ لأن النظام المستهدف يتم ضربه دون أن يقدر على الرد؛ لأنه يعلم أنه يُستدرج إلى حتفه، ومن ثَمّ تتزايد حالة الاحتقان الداخلي، وتضعف سيطرة النظام.
وهذا الأسلوب يعتبر حلاً بديلاً ـ أو مؤقتاً ـ للخطة الأمريكية الأصلية، والتي سربها الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك المرشح الأمريكي الديمقراطي لانتخابات الرئاسة القادمة، في كتاب له؛ أنه بلغته معلومات منذ عام 2001م، وقبل هجمات سبتمبر، بوجود خطة أمريكية لاحتلال خمس دول بعد العراق؛ هي: سوريا وليبيا ولبنان والصومال وإيران.
وتبقى قدرة الأمريكيين والإسرائيليين على إيجاد المسوّغات لتوجيه مثل هذه الضربات عاملاً محدداً، ويلاحظ مؤخراً أن هناك نشاطاً غير معتاد في توجيه باقة متنوعة من الاتهامات لمختلف دول المنطقة، وهذا بدوره يثير حالة من القلق والتوقعات غير المرغوب فيها.
[ انظر ما تقدم في : الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم " ، احمد فهمي ، مجلة البيان ( ص 1-10 ) بتصرف ] .
* ما يخشى على العراق
في كتابه الشهير المسمى "ليفياتان"، وصف الفيلسوف توماس هوبز " دولة بدائية " نظرية لا تقوم على "سلطة مشتركة" (حكومة)، وإنما تكون فيها "الحرب قائمة بين كل الأفراد وضد كل الأفراد" من مواطنيها. و"بطبيعة الحال، يكون لكل شخص فيها الحق في كل شيء.
إن العراق ما زال بعيداً عن تحقيق الاستقرار، بل ليس هناك ما يدعو إلى القول بأن العراق يمكن أن يعرف استقراراً من خلال العمل وفق البرامج السياسية والعسكرية الحالية .
ويرى هوبز أنه لا يمكن التخلص من "الدولة البدائية" إلا من خلال إقامة حكومة قوية تتمتع بالسيادة وتكون قادرة على كبح التنافس الجامح القائم بين الأفراد. ولكن العراق ليس له مثل هذه الحكومة القوية حتى ولو كان مدعما بحوالي 140ألف جندي أمريكي من أحسن القوات تدريباً وتجهيزاً وفاعلية.
فهل بإمكان العراق أن يتحرر من "الدولة البدائية" القائمة فيه حالياً؟ وما البرامج الجديدة والسياسات، إن وجدت، التي يمكنها أن تقيم حكومة قوية، تكون قادرة على إنهاء الخوف والشكوك التي يعيشها كل عراقي اليوم؟ ويبقى الجواب متوقفاً على تحقيق إجماع وطني بين صفوف العراقيين، وتحويل إحساس التهميش والخسارة لدى السنة العرب إلى شعور بالفاعلية والاندماج. وإذا أتيحت فرصة لدمج العرب السنة كشركاء كاملي الحقوق ضمن إطار عقد ثابت حول الحكم، فلا مناص من أن يبدأ القادة العراقيون وحلفاؤهم الأمريكيون مفاوضات مع جماعات المتمردين ( على حد وصفه ) الأكثر صلابة وتزمتاً والتي تنشط في العراق حالياً، وإذا تمت مثل هذه المفاوضات، فقد يكون من الممكن صياغة عقد حكم جديد يقنع المتمردين بالالتحاق بالمسار السياسي.
[ العراق يقترب من حالة "الدولة البدائية" الكاتب: كينيث كاتزمان / مركز الامارات للبحوث والدراسات ] .
" وتشير بعض الدراسات الي ثلاثة اخطار تهدد العراق :
ـ خطر الحرب الأهلية : واذا لم يكن العراق حاليا في اتونها، فهو عند مداخلها او علي حافتها وهذه الحرب قد تمتد الي العالمين العربي والإسلامي وخصوصا دول الجوار، والحرب الأهلية لا تبدأ بين السنة والشيعة او بين العرب والأكراد او بين الأكراد والتركمان، بل بإشعال فتنة يقوم بها متطرفون ومندفعون من هذا الفريق او ذاك بدعم من مغامرين وطامعين لتنتهي بحرب الجميع ضد الجميع بعد ان تبدأ بتفجير جامع او حسينية او مقر او اغتيال او تصعيد واستقطاب طائفي او اثني وبشكل مستمر فيؤدي هذا الى الفلتان وعدم السيطرة ، ( الأمر الذي لا نتمنى حصوله ، وربنا الرحيم يدفع عنا وان راهن تجار الطائفية على الحرب وأوقدوا نارها ).
? كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ? [المائدة : 64] .
ـ خطر التقسيم : فبعد حرب أهلية طاحنة طائفية واثنية شديدة الشراسة، يصبح قبول الامرالواقع لا مفر منه، لدرجة ان استمرار القتل والتفجير والتطهير قد يفرض مطلب او شرط التقسيم باعتباره أحسن الحلول السيئة بحيث يمكن التحكم والتأثير في الأجزاء المتشظية سواء من جانب ايران في الوسط والجنوب (الشيعة) او من جانب تركيا في كردستان في الشمال.(40/279)
ـ خطر اتجاه العراق بعيدا عن محيطه العربي وغرقه في محلية وعراقية ضيقة : مثلما يدعو البعض حاليا الي مفهوم الامة العراقية، بحسن نية او من دونها، وادارة الظهر الي كل ما يمت للعروبة بصلة، خاصة اللغة العربية فلا يمكن ان يبقي العراق موحدا من دون هوية العراق القومية ولغته الرسمية العربية.[ دستور العراق.. خطوة للأمام أم للخلف ، حسين عبدالرازق ، جريدة الوفد المصرية ، السبت 29 أكتوبر 2005] .
" الولايات المتحدة الامريكية تسير على نهج التفتيت وشرذمة المجتمع في العراق. انها تفعل ما فعلته في التسعينات في رواندا عندما تركت الملايين من الناس عرضة لتصفيات عرقية وحشية لم تر البشرية لها مثيل من قبل. الفرق انها اليوم مسؤولة مباشرة عما "يمكن ان" يحدث من مذابح في العراق مقارنة برواندا التي وقفت فيها امريكا متواطئة مع لوردات الحرب الاثنية من قبائل الهوتو الذين امروا بقتل مئآت الالاف من المدنيين التوتسي. امريكا اليوم تهئ لرواندا اخرى في العراق من خلال محاولة امرار دستور (الدولة الفيدرالية) .. والتأجيج المذهبي الحقير بين صفوف الجماهير " .[ انهم يخططون لرواندا جديدة في العراق ، عصام شكري ، موقع الحوار المتمدن ، بتصرف ]
الخاتمة
الحَل
العراق منذ القديم يشكل وحدة جغرافية سياسية واحدة من عهد حمورابي قبل الميلاد مرورا بعصر الخلفاء الراشدين والي الدولة الاموية ثم العباسية والتي دامت 800 عام وجاءت بعدها دول ودول مرورا بالدولة العثمانية وانتهاء بجمهورية العراق التي احتلها الغزاة عام 2003.
[ تقسيم العراق نموذجا في المنطقة العربية ، محمد صالح المسفر، القدس العربي 30/8/2005 ].
أن العراق لم تكن به مشكلة في يوم ما فيما يتعلق بوجود نقص في موارده أو شحّة في ثرواته الأمر الذي يؤدي إلى الفتن والاقتتال كما يحصل في بعض الدول، بل إن محنته تتمحور بحق في طبيعة أنظمة الحكم التي أساءت استخدام مصادر السلطة والثروة بعيداً عن كل ما يمت إلى مبادئ العدل والأنصاف بصلة، وافتقاره إلى مؤسسات مدنية رصينة كان آخرها النظام الشمولي السابق والذي حوّل العراق بشعبه وأرضه وثرواته إلى ممتلكات تعود إلى عائلته وأقطاعات توزّع على عشيرته فأساء بالنتيجة إلى نفسه ولكل العراقيين بمختلف مذاهبهم.
ولم تكن من أولويات مشاكل المجتمع تلك الفسيفساء المتجانسة من القوميات والأديان، كما لم يكن الإنسان العراقي- حينما يكون متحرراً من الاعتبارات الحزبية والعشائرية والنعرات الانفصالية- حسّاساً تجاه التنوع العرقي أو الطائفي إذ طالما تعايش الجميع لمئات السنين تحت خيمة العراق الواحد، وتسنم مقاليد السلطة وتبّوء المناصب الرفيعة سواء في الإدارة أم في القضاء أفراداً من قوميات مختلفة، ولم يكن ذلك مثار جدل أو مدعاة مشكلة.
وإذا كان الخطاب السياسي لمن كانوا يسمون أنفسهم مسبقاً بالمعارضة كان يستند على أساس رجم الحكم المستبد الدكتاتوري وإدانة ممارساته القمعية مما يستوجب الآن أن يعاد تفكيكه وتعاد صياغته لأن النظام السابق أصبح في ذمة التأريخ، كما وأن الظلم والاضطهاد الذي مارسه النظام السابق قد تم توزيعه بعدالة على جميع أطياف المجتمع العراقي بدون استثناء ويشهد قادة الأكراد أنفسهم بنزوح أعداد كبيرة من العوائل من مناطق الجنوب والوسط باتجاه الشمال هرباً من بطش الأجهزة القمعية للنظام السابق، أي أن الموقف من المعارضين لم يكن في الجنوب أقل منه وحشية عما هو في الشمال أو الوسط.لهذا يجب على القوى الوطنية العراقية الالتفات إلى مستقبل العراق من منطلق الحفاظ على هويته وبلورة ثوابته وعدم السماح بجني مكاسب يتم الحصول عليها في عراق محتل ،وأن لا تكون الفيدرالية والمطالبة بمدينة كركوك الغنية بالنفط وترحيل العرب منها أساس للمساومة لأن من شأن ذلك الأضرار بالمصلحة النهائية للعراق الواحد الذي يتطلب الآن مقارعة العصبية القبلية أو التطرف الديني والطائفية والعنصرية والنزاعات الانفصالية التي تقف وراءها أطراف عديدة وإنما يجب إلغاؤها من قاموسه .(40/280)
لم يكن العراق ليصل إلى هذا المفترق الخطير لولا الديكتاتورية التي أدت إلى الاحتلال، ولولا أن المشاعر الدينية طغت على الشعور الوطني المشترك، ولولا أن استشراء التعصب الطائفي لمتهوري السنة والشيعة دمّر إمكان التوحد بعدما أعلى شأن الماضي على المستقبل ، واستمد زاده الفكري من تواريخ التفرقة بدل الوحدة ، لذلك فإن العراق اليوم أمام تحدٍ كبير يحاول عقلنة النزعات الطائفية السنية والشيعية المتفجرة والقومية الكردية الناهضة من قمع تاريخي، لترويضها جميعاً في إطار ولاء عراقي يصعب أن نسميه هوية جامعة بل مجموعة قوانين وتوجهات ذات مرجعية ثقافية وتاريخية مشتركة وذات مضمون تعددي حضاري ولا نجد معيناً على ذلك أفضل من ( الاسلام ) بمفهومه الواسع مظلة لاستيعاب الجميع . هذا هو تحدي العراقيين، إنه تشكيل هوية جديدة ليست عربية خالصة ولا عراقية خالصة ولا مذهبية خالصة ، إنها خلاصة تأخذ من كل شيء بطرف، بل إنها تسوية حول هوية جديدة لا تزال بحاجة إلى تحديد ، يكون منطلقها دين الله العالمي والخاتم لسائر الاديان الا وهو الاسلام بسماحته وعدله .
تنبيه : هذا الكلام لا يتعارض مع الأحتفاظ بالخصوصية المذهبية ، أو معقد الولاء والبراء في العقيدة الاسلامية .
إذا كانت الفيدرالية أرقى نظام سياسي تم التوصل إليه في العالم حتى اليوم، فإنها فيما يعني العراق تبدو مدخلاً إلى أسوأ التطورات التي واجهها شعب من الشعوب. ذلك أن العراق الواقع تحت الاحتلال الأمريكي من جهة، والساقط في قبضة الإرهاب من جهة أخرى يجد نفسه، رغم الجهود الجبارة التي تبذلها قواه السياسية الرئيسة، فريسة رغبة جامحة تتمثل بالديمقراطية القسرية عبر تنظيم فيدرالية تشكل صيغة للتعايش بين فئات المجتمع الرئيسة؛ أي الأكراد والسنة العرب والشيعة وهي في جوهرها تفتيت أو تقسيم أو اضعاف للبلد الواحد .
في ظل هذا الوضع يعاني العراق مأساة يومية يدخل العنف الانتحاري والتفجير العشوائي بين المدنيين فيها عاملاً غامضاً في الحسابات السياسية النهائية لطرفي المعادلة. ذلك أن اختباءه خلف عناوين المقاومة، ونزعته التكفيرية، واستهدافه الشيعة بالقتل تجعل منه عنصراً مشجعاً للطرف المتعصب للفيدرالية، فينزع إلى مزيد من التجزئة تحت ستار "الوحدة الممكنة" واستحالة استعادة التعايش السابق!
[ وانظر : العراق الجديد... هوية تحتاج إلى تحديد ، الكاتب: بشارة نصار شربل ، ( 1-3 ) بتصرف ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ] .
هذا وان كنا نجزم بأن كثيراً من هذه العمليات انما تقوم بها ( مخابرات الدول الشيطانية ) بالتنسيق - ربما - مع حفنة من الشذّاذ والمرتزقة !
ما المطلوب لإبقاء العراق موحدا؟
الجواب ببساطة يتركز في شقين: الاول، جعل وحدة العراق مصلحة للجميع. والثاني، اتفاق اطرافه ومكوناته على مشروع وطني. اذ لا يكفي ان نضع الضوابط الدستورية ضد الانفصال، بل الاهم ان يشعر الكردي ان مصلحته هي البقاء ضمن العراق، وان يكون هناك قبول وتبنّ للمتغيرات السياسية الجديدة، حيث ان الذي جرى عند سقوط النظام في نيسان 2003، هو ان جزءا من العراق اختار المقاومة ورفض عمليا المشروع السياسي لارتباطه بالاحتلال ، في حين ان اجزاء العراق الاخرى فضلت الدخول في اللعبة السياسية في سباق محموم على المكاسب السياسية يسمونها ( استحقاقات وطنية ) !
ان من يقولون بالفيدرالية ويسبّبون ذلك بالمشكل الامني، يريدون ان يحصروا خيار العنف وتبعاته بمن تبناه، وان تنأى المناطق التي فضلت السلم بنفسها عن ذلك لتشرع في التنمية، كما هو جار في اقليم كردستان، اذ الى متى تظل البصرة مثلا التي تنتج 80% من نفط العراق المصدر، وتلتقي عندها انهره وهي عطشى لماء صالح للشرب، والبصرة رئة العراق البحرية الوحيدة مصابة بذات الرئة بسبب الفقر والحرمان !
لذا، فإن الذين يرفضون الفدراليات يجب ان لا يكتفوا بالرفض، اذ يكفي اضاعة سنتين ونصف السنة من عمر العراق وثرواته ودماء ابنائه. ان من يتصدى ويدعي تمثيل من قاطعوا الانتخابات عليه ان يكون كذلك على الارض وليس في الفضائيات وكواليس المساومات السياسية .
[ فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري ، جريدة الشرق الأوسط ، الاحد 16 رجب 1426 هـ 21 اغسطس 2005 العدد 9763 ، بتصرف ] .
وكما قلنا سابقاً : لإفشال هذا المشروع يجب أن تتضافر جهود عراقية وعربية معاً؛ جهود سنية وشيعية على السواء. ينبغي كشف وتعرية التوجهات الطائفية الشيعية التي تهدد وحدة الجماعة والأمة، والتوجهات الطائفية السنية الوافدة أو المحلية التي تستخدم عصا التخويف لشيعة العراق. ينبغي إدراك المخاطر التي يحملها هذا المشروع الانقسامي على مستقبل العراق والعراقيين، وعلى مستقبل المنطقة ككل، بكل تنوعها الطائفي والإثني.
فلا مانع من رفض الفيدرالية ومسودة الدستور وكل ما له صلة بالاحتلال ومع ذلك يكون هناك اعداد جدي على مستوى القوى السنية وسائر القوى المناهضة للاحتلال للدخول في العملية السياسية من باب ( اختيار أهون الشرين ) ..(40/281)
قال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ? [هود : 88].
================(40/282)
(40/283)
نهاية صدام وقفات ودروس وعبر
ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، قاصم الجبابرة والمتكبرين، ومذل الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله و خاتم أنبيائه محمد السيف البتار والسراج الوهاج وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فلقد تناقلت وسائل الإعلام صباح هذا اليوم، يوم عيد الأضحى، خبر قتل صدام حسين شنقا على إثر محاكمة أقامتها حكومة الاحتلال العراقية (العميلة) في ظل قوات الاحتلال الأمريكية والسيطرة الصفوية .
وللناس من هذا الحدث مواقف شتى ؛ تبعاً للزوايا التي ينظرون من خلالها إلى هذه القضية،وبالنظر إلى اعتبارات دون أخرى، مما قد يعطى تصوراً منقوصاً، وحكماً غير موفق على هذه القضية .
والذي أراه أنه يجب التأكيد على عدة أمور،وأخذها بعين الاعتبار قبل الانتهاء إلى أي موقف، أو الوصول إلى أي نتيجة، فأقول وبالله التوفيق :
أولاً : المسلم في نظره لما يحدث حوله من أحداث،وما يترتب عليها من نتائج،وفي حكمه على من يكون طرفاً فيها، إنما يقيس بمقاييس الشريعة،ويزن بميزان الدليل من الكتاب والسنة،مع استقصاء الحقائق الميدانية والمعطيات الواقعية، وإن اعتبار أي ميزان غير ميزان الشرع المبني على التصور الكامل للمسألة كفيل بأن تطيش بصاحبه الأحلام،وينتهي إلى نتائج مضللة خادعة.
ثانياً : عرفنا صدام حسين قديماً، حين كان يحتفي به الناس، ويعدونه زعيماً عربياً ومثالاً يسيرون وراءه ، عرفناه يعلن الحرب على الإسلام، فيقتل علماءه ويضيق على دعاته ويحاول طمس معالمه في بلاد الرافدين ؛ لصالح دعايات القومية العربية والبعثية الاشتراكية، حتى خلا البلد من العلماء إلا النزر اليسير،وغيب الشعب العراقي عن حكم الإسلام طوال عقود. والرجل لم يعلن براءته من حزب البعث في يوم من الأيام إلى أن قتل، ولكن من العدل أن نشير إلى وقوفه بحزم أمام المد الصفوي الفارسي و كيف خاض من أجل ذلك حرباً ضروساً ، مما زاد من حنق الرافضة وأخر تنفيذ مخططهم عدة سنوات.
ولكنه ـ بطريقته في الحكم، وسياساته الطائشة ، وسيره وراء غايات حزبية وشخصية ـ قاد بلده إلى الدمار،وانتهى بشعبه إلى الفقر،رغم أن العراق مليء بأعظم الثروات كالنفط والزراعة وغيرها، حتى انتهى الأمر بالعراق إلى أن يصبح بلداً محتلاً في ظل الاحتلالين الصهيوني الأمريكي، والصفوي المجوسي .
أما فيما يتعلق بحاله ومواقفه الشخصية في آخر حياته فلن نتحدث عنها إذ لا نعلم بم ختم له، وقد قدم على ربه ، فأمره إليه سبحانه وتعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) .
ثالثاً : المحاكمة التي خضع لها صدام حسين محاكمة غير عادلة، فهي محاكمة صورية ، نهايتها معلومة من بدايتها ، يقوم عليها خصوم الرجل وأعداؤه ؛ لذا فلم يكن ينتظر منها أن تسعى إلى إحقاق حق أو إبطال باطل، فهي محكمة متهمة، قام عليها متهمون، و أحاطت بها ملابسات عديدة،وأديرت بطريقة غير عادلة،وذلك بشهادة الغربيين أنفسهم فضلاً عن غيرهم من عقلاء العالم ومنصفيه .
رابعاً : انتشاء الاحتلال وأعوانه بقتل صدام إنما هو مظهر لمدى عجزهم، وقلة حيلتهم وتخبطهم في تحقيق غاياتهم. فليس في الأمر ما يدعو إلى الفرح، فالرجل من حين القبض عليه إلى حين إعدامه لم يكن يمثل شيئا ذا قيمة،ولم يكن يملك أي قرار مؤثر على الساحة العراقية منذ اعتقاله.
خامساً : مقاومة الاحتلال في العراق هي مقاومة إسلامية سنية ، لم ترتبط يوماً بصدام ، ولا بحزب البعث ، ولا بغير ذلك من الدعوات الجاهلية ؛ بل إن أهل السنة اليوم في العراق هم من يدفع الثمن باهظا بسبب سياسات صدام الجائرة وحكمه الظالم ، لذا لن يكون للحدث أي تأثير على المقاومة ،وسوف تستمر بإذن الله في جهاد الاحتلال ومناوئته ، حتى يعود العراق عربياً إسلامياً، وترفع فيه راية الإسلام عالية خفاقة وإن بدا في ظاهر الأمر خلاف ذلك (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية21)
سادساً : هذا الحدث يظهر جرأة الرافضة، ومدى استئثارهم بحكم العراق والتصرف في شئونه ؛ نتيجة تحالفهم مع الأمريكان،وسواء كان قتل صدام باتفاق مع الأمريكيين،أو بقرار رافضي صفوي فإنه دليل على عظم الخطر وفداحة الخطب.
سابعاً : اختيار حكومة الاحتلال الرافضية ـ في العراق ـ لتوقيت تنفيذ حكم الإعدام في صدام ـ سواء في الزمان أو المكان ، يدل على مدى ما يضمره الرافضة الصفويون من عداء وحنق لأهل السنة في العراق،وفي أرجاء العالم الإسلامي كله . فهم يسعون ـ في محاولات مستميتة ـ لربط صدام بالسنة، وتحميلهم أخطاءه،وإظهار إعدامه على أنه انتصار للرافضة على أهل السنة، فقد اختاروا يوم الأضحى المبارك يوماً لتنفيذ الحكم، وهي لفتة مهمة تستحق التأمل،وتطرح تساؤلات واستفهامات ، عن السر في هذا الاختيار من حكومة الاحتلال في بغداد.(40/284)
ثامناً : لا يلزم أن نقف من الحدث أحد الموقفين،إما موقف الفرح وإما موقف الحزن، فكلا طرفاه ظالم لنفسه ، وأمر صدام إلى الله لكن ما سبق من تاريخه لا يخفى والله اعلم بتوبته وما ختم له به، وإن حزنا فنحزن لا لمقتل صدام ولكن لما بلغه شأن الرافضة من تسلط وتشفي من أهل السنة.
تاسعاً : دروس من الحدث :
• نهاية الظالم مهما علا شانه وبلغ الذروة في التسلط (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(ابراهيم: من الآية42) وقال تعالى(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(الشعراء: من الآية227)
• على كل أولياء أمور المسلمين أن يعودوا إلى الله تعالى ويحكموا بشرعه ويسعوا لإعلاء كلمته قال تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41) وعليهم أن لا يرتهنوا لأعدائه فحينها سيكونون أدوات ترمى ويتخلى عنها حين ينتهي دورها (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113). والتاريخ المعاصر مليء بالشواهد والدلائل، وما قضية صدام إلا حلقة في المسلسل الطويل.
• أن من ربط أمره بالله ونصر دينه فإنه منصور بإذن الله سواء تغلب على أعدائه أم قتل شهيدا والانتصار هو انتصار المبادئ لا بقاء الأشخاص أو القيادات، وتأمل سورة البروج، وتذكر قوله تعالى( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51).
• على أهل السنة في العراق أن يروا في الحدث واقع حال الرافضة ومدى ما بلغوه من أمر العراق ولذا فيجب عليهم أن يقفوا صفا واحدا ضد الاحتلال الأمريكي والاحتلال الصفوي ، فالاحتلالان يتفقان حينا ويختلفان أحيانا والمستهدف دوما هم أهل السنة حيث لايختلفون على ذلك، بل إن على أهل السنة في العالم كله وبالأخص في الخليج أن يدركوا أهداف الرافضة الصفويين في المنطقة كلها وأن يتخذوا الوسائل العملية الجادة لمواجهة هذا الخطر قبل فوات الأوان، وفي أحداث العراق عبرة للمعتبرين، وموعظة لأولي الألباب .
ومن أولى الواجبات لمواجهة هذا المد الفارسي المجوسي هو الوقوف مع إخواننا المرابطين في العراق، ودعم أهل السنة بكل وسائل الدعم الحسية والمعنوية فلا تزال الفرصة مواتية فأهل السنة صابرون مصابرون والمجاهدون مرابطون صامدون ويكبدون الأعداء الخسائر المتوالية مع ضعف إمكاناتهم وقلة حيلتهم، فإن تخلينا عنهم فلا نأمن عقوبة الله، لأن هذا ظلم عظيم وخذلان ظاهر وعقوبته عاجلة، كما جرت بذلك سنن الله في الكون.وقال سبحانه (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59) وقال تعالى(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43).
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب/ ناصر بن سليمان العمر
البلد الأمين 10، ذوالحجة،1427هـ
=============(40/285)
(40/286)
أسطورة غاندي
د. خالد بن محمد الغيث
لقد كان الزعيم الهندي غاندي من الزعماء القلائل الذين نالوا شهرة واسعة في هذا العصر ، وحيثما ذكر نجد الثناء العطر يرافق سيرته ، وأنه بطل المقاومة السلمية التي يحرص الغرب على تصديرها إلى العالم الإسلامي ، وتذكيرهم بها في كل مناسبة.. فيا ترى ما سر هذا الرجل الذي ظهر فجأة على المسرح السياسي في الديار الهندية ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا العودة إلى القرن 16م ، الذي شهد الانطلاقة الحديثة للحروب الصليبية.
لقد كان هدف الموجة الجديدة من الحروب الصليبية الأوربية في القرن 16م هو الالتفاف حول العالم الإسلامي من الخلف لخنقه اقتصادياً ، من أجل إضعاف الدولتين المملوكية والعثمانية ، لكن أوربا فوجئت بأن العمق الإسلامي يمتد في وحدة دينية فريدة وخطيرة حتى يصل إلى جزر الفلبين ، ماراً بالهند ، التي أثارت لوحدها شهية الأوربيين بشكل عجيب ، لكونها من أعظم المراكز الاقتصادية الإسلامية في ذلك الوقت ، هذا وقد استغل الأوربيون سماحة السلطان المغولي المسلم (جها نكير) فبدأوا بالتسلل إلى الهند كتجار ، حتى تمكن الإنجليزي (وليم هوكنز) من مقابلة السلطان (جها نكير) في عام (1017هـ / 1608م) بصفته مبعوثاً من الملك الانجليزي (جيمس الأول) ، وقد حاول (وليم هوكنز) استثمار مقابلته للسلطان (جها نكير) بأن يأخذ منه خطاب مجاملة إلى الملك (جيمس الأول) لكن الوزير الأول في بلاط السلطان رد عليه قائلاً : (إنه مما لا يناسب قدر ملك مغولي مسلم أن يكتب كتاباً إلى سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون !).
لقد عرف الإنجليز أن وجود الحكم الإسلامي في الهند كفيل بتعطيل أحلامهم الصليبية لذا فقد اكتفوا بما كان من تأسيسهم لشركة الهند الشرقية للتجارة الإنجليزية في الهند والأقطار المجاورة في عام (1009هـ /1600م). ومع الوقت كانت شركة الهند الشرقية تتوسع وتزداد فروعها في أرجاء الهند ، ومع الوقت بدأت حقيقة هذه الشركة وفروعها تتكشف فلم تكن إلا قواعد عسكرية إنجليزية ، وبؤر تجسسية كان هدفها تجنيد المنافقين من أبناء المسلمين ، والعملاء من أبناء الهندوس ، والسيخ.
وفي عام (1170هـ / 1757م) وفي إبان الغزو الشيعي الصفوي الإيراني للهند قام الجيش البريطاني التابع لشركة الهند الشرقية باستغلال هذا الظرف الحرج فتمكن من هزيمة المسلمين في منطقة البنغال في معركة (بلاسي) التي تعد أول المعارك الحاسمة بين الطرفين ، وقد تم لهم ذلك بمساعدة المنافقين والعملاء الذين تم تجنيدهم عبر عشرات السنين ، إلا أن احتلال الإنجليز للهند لم يتم إلا بعد قرن من الزمان وبعد معارك طاحنة بين الطرفين ، انتهت بعزل (بهادر شاه) آخر السلاطين المسلمين ونفيه إلى بورما حيث توفي عام (1279هـ / 1862م) لذلك فقد قامت بريطانيا في عام (1275هـ /1858م) بضم الهند إلى التاج البريطاني رسمياً ، لتصبح درة التاج البريطاني منذ ذلك التاريخ.
تقريب الهنادكة :
لقد عرف الاحتلال البريطاني أنه من المستحيل أن يقبل المسلمون في الهند الرضوخ لسياسة الأمر الواقع وفي ذلك يقول (النبرو) الحاكم البريطاني في الهند : (إن العنصر الإسلامي في الهند عدو بريطانيا اللدود ، وإن السياسة البريطانية يجب أن تهدف إلى تقريب العناصر الهندوكية إليها ، لتساعدهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في هذه البلاد).
وفي عام (1303هـ / 1885م) قامت بريطانيا بتأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي ، ومن خلال هذا الحزب تم إحياء القومية الهندوسية الوثنية القديمة ، لتكون عوناً لبريطانيا في محاربتها للإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية.
سياسة بريطانيا تجاه المسلمين :
لقد كانت بريطانيا تعلم أن بقاءها في الهند لن يكتب له الاستمرار في ظل مقاومة إسلامية صلبة ترفض الذوبان والانبطاح والتوسل للمحتل ، لذا فقد لجأت إلى تنفيذ سلسلة من الخطوات الرامية إلى خلخلة هذه المقاومة وكسرها ، ومن ذلك :
1- إقامة المذابح للمسلمين في كل مكان ، وفي ذلك يقول أحد الكتاب الإنجليز : (إن ما ارتكبه جنودنا من ظلم ووحشية ، ومن حرق وتقتيل ، لا نجد له مثيلاً في أي عصر).
2- زرع العصبية الجاهلية داخل المجتمع المسلم ، حيث قسموا المسلمين إلى طوائف اجتماعية ، وأجبروهم على تسجيل أنفسهم رسمياً حسب هذا التقسيم الطائفي.
3- العبث بمناهج التعليم لتخدم سياسة الاحتلال البريطاني ، مما جعل المسلمين ينفرون من المدارس العلمانية خوفاً على عقيدة أبنائهم.
4- نشر الانحلال والمجون والإباحية والفساد.
5- تأسيس الحركات الهدامة التي تتسمى باسم الإسلام مثل القاديانية ، التي نفت مبدأ ختم النبوة ، ونبذت الجهاد ومقاومة المحتل ، ودعت إلى طاعة الإنجليز والقبول بسياسة الأمر الواقع.
6- تزوير التاريخ الجهادي للأمة المسلمة عن طريق نشر الكتب والمؤلفات التي تنبذ الجهاد والمقاومة ، ومن ذلك كتاب المستشرق ، تومس آرنولد : الدعوة إلى الإسلام.
7- إبعاد العلماء وعزلهم عن قيادة وتوجيه الجماهير المسلمة.(40/287)
8- إيجاد زعامات قومية إسلامية ، تفتخر بقوميتها على حساب انتمائها إلى دينها وإسلامها ، وقد كان هؤلاء ممن تخرجوا من المدارس والكليات العلمانية.
صناعة غاندي :
عندما توفي السلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله (886هـ) وهو يحاصر روما دعا بابا الفاتيكان في روما النصارى في أوروبا إلى الصلاة شكراً لله ابتهاجاً بوفاة محمد الفاتح.
هذه الحالة من الرعب والفزع لم تكن لتغيب عن أوروبا الصليبية في نظرتها إلى العالم الإسلامي ، لذا فقد كان أخطر عمل قامت به بريطانيا هو إلغاء الخلافة الإسلامية وإسقاط الدولة العثمانية وتفتيت العالمين العربي والإسلامي ، حتى لا تضطر أوربا لإقامة صلاة الشكر مرة أخرى.
لقد أدى قيام بريطانيا الصليبية بإلغاء الخلافة الإسلامية إلى إذكاء روح المقاومة الإسلامية في الهند ، ومن ذلك تأسيس المسلمين جمعية إنقاذ الخلافة في عام (1920م) ، وقاموا بجمع (سبعة عشر مليون روبية) لأجل هذا الغرض.
وهنا طفا على السطح فجأة شخص هندوسي اسمه (غاندي) وقام بالتقرب إلى جمعية إنقاذ الخلافة وطرح عليهم فكرة التعاون مع حزب المؤتمر الوطني الهندي ، فرحب المسلمون بذلك ، ولما عقد أول اجتماع بين الطرفين ، طرح المسلمون شعار استقلال الهند عن بريطانيا ، بدلاً عن فكرة إصلاح حالة الهند التي كانت شعار المؤتمر الوطني ، لكن (غاندي) عارض هذا المقترح وثبط الهمم ، وفي عام (1921م) عقد الطرفان اجتماعاً مهما تمكن فيه المسلمون من فرض شعار الاستقلال عن بريطانيا وقاموا بتشكيل حكومة وطنية لإدارة البلاد.
هذا التطور الخطير لم تكن بريطانيا لتسمح له بإفساد فرحتها بإسقاط الدولة العثمانية وتقسيم العالم الإسلامي ، لذا فقد قام (ريدينج) الحاكم البريطاني للهند بالاجتماع (بغاندي) وقال له : (إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون ، وأهدافها بأيدي زعمائهم ، ولو أجبنا مطالبكم ، وسلمنا لكم مقاليد الحكم ، صارت البلاد للمسلمين ، وإن الطريق الصحيح هو أن تسعوا أولاً لكسر شوكة المسلمين ، بالتعاون مع بريطانيا ، وحينئذ لن تتمهل بريطانيا في الاعتراف لكم بالاستقلال ، وتسليم مقاليد الحكم في البلاد إليكم).
وبناء على التنسيق والتفاهم الذي تم بين (ريدينج) و (غاندي) قامت بريطانيا بالقبض على الزعماء المسلمين المنادين بالاستقلال ، فأصبح الطريق ممهداً أمام (غاندي) الذي طلب من هيئة المؤتمر الإسلامي الهندوسي ، بأن تسلم له مقاليد الأمور بصفة مؤقتة نظراً لقبض بريطانيا على الزعماء المسلمين ، وعندما عقد أول اجتماع برئاسة (غاندي) نفذ ما تم الاتفاق عليه مع الحاكم البريطاني (ريدينج) وأعلن أن الوقت لم يحن بعد لاستقلال الهند.
وفي الفترة من (1921- 1948م) نجد أن بريطانيا قد طبقت في الهند ما طبقته في فلسطين مع الصهاينة [ انظر الجذور التوراتية للسياسة البريطانية - مقال بصفحة الكاتب في الموقع ]، حيث قامت بتسليح الهندوس وتدريبهم ، والتنسيق معهم لإقامة المذابح للمسلمين ، أما غاندي الذي أصبح كل شيء بعد تلميعه في مسرحية نفيه المؤقت إلى جنوب أفريقيا فقد قام بمذبحة ثقافية بشعة للحضارة الإسلامية في الهند ، وفي ذلك يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله : (لقد كانت دعوة غاندي إلى ما سماه اكتشاف الروح الهندي الصميم ، والرجوع إلى الحضارة الهندية ، هو بمثابة إعلان حرب على الحضارة الإسلامية التي عاشت على أرض الهند أربعة عشر قرناً ، وغيرت كل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، بل إنها قد غيرت مفاهيم الهندوكية نفسها).
وعندما اطمأنت بريطانيا على مقدرة الهندوس على حكم الهند قامت بترتيب الأمور لاستقلال الهند.
لقد كان عام (1948م) الفصل الأخير من مسرحية غاندي وبريطانيا حيث سلب الحق من أهله بإعلان استقلال الهند عن بريطانيا في تلك السنة ، لكن مسرحية المقاومة السلمية التي قام غاندي فيها بدور البطل لا تزال تعرض إلى يومنا هذا.
بقي أن نشير إلى أن من يطلق شرارة الحقد والكراهية لا بد أن يكتوي بنارها ، فقد مات غاندي مقتولاً عند استقلال الهند ، ثم تبعه في عام 1978م آخر حاكم بريطاني للهند حيث قتل على أيدي الثوار الإيرلنديين ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كتبه
د. خالد بن محمد الغيث
جامعة أم القرى - كلية الشريعة
قسم التاريخ والحضارة الإسلامية
Km750@alta r eekh.com
==============(40/288)
(40/289)
قبل أن تضيع الفرصة رسالة إلى علماء الأمة ودعاتها
محمد جلال القصاص
إخواني وشيوخي الكرام !
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : ــــ
عجلة الأحداث تدور سريعا وتجرنا ــ نحن الإسلاميين ـــ ورائها ، فإلى اليوم نقف موقف المشاهد للحدث نحكيه ، وفي أحسن الأحوال نحلله .
إن فريقا منا أصبحت الغاية عندهم معرفة الأخبار . دون التحرك إيجابيا نحو حلٍّ عملي لوقف نزيف الدم الذي يسيل من العروق ومن الفروج .
وفريقا آخر جلس هادئا مستريحا يحلل الحدث ... يبحث عن دوافعه وأهدافه ، ليصبغها مقالا أو كتابا ... ربما ليقتات منه رزقا .
وتضج الأصوات على المنابر تحكي عن غدر يهود وجبنهم وخيانتهم للعهود ، وعن حرية أمريكا الكاذبة ، وحقوق الإنسان التي جعلته كالحيوان . . . ، وكله خير ، إلا أنه دون ما نريد .
وعلى مستوى العلماء والدعاة وطلبة العلم ، لا زلنا وراء الأحداث ، نتحرك بحركتها ، نبحث في شرعيتها ، ونرد على من خالف رأينا من إخواننا ، نكشف شيئا من خطط أعدائنا . وهو خير إلا أنه دون ما نريد .
شيوخي الكرام !
هناك من يفعل ويتركنا نكتب ، ولا ينبغي أن يظل الأمر هكذا ، فلابد من اتخاذ الخطوات اللازمة للأخذ بزمام الأحداث . وفي رسالتي هذه أعرض بعض الأمور التي تؤرقني على الساحة الإسلامية . وأتبعها ببعض المقترحات . والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي هذه ، وأن تجد أذنا تسمع .
في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي ، فيما عرف تاريخيا بفترة الثورات ، كانت الأمة تعيش حالة من الغليان على الغرب كله ، وكانت جماهير الأمة تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية ، وطرد اليهود من بيت المقدس وفلسطين ، ثم انتهت هذه الحقبة بالعلمانية ــ فصل الدين عن الحياة ــ كمنهج حياة ، وبالعلمانيين في سدة الحكم الذين أضاعوا الثورات ، ومزقوا الأمة ، ومهدوا لمجيء المحتل ثانية .ولم تستطع الصحوة الإسلامية يومها قيادة الأمة الإسلامية ، وخسرت معركتها مع العلمانية المدعومة من الغرب . وكتبرير لما حدث قيل أن الصحوة لم تنضج بعد .
وبعد أكثر من ستين عاما عادت الفرصة مرة ثانية .
فهاهي القومية العربية تسقط جماهيريا ، بعد أن فشلت في تحقيق أي من أهدافها ، وأتت أمريكا تجر الغرب الصليبي الضال والشرق الوثني الملحد ــ يحركهم جميعا اليهود ـــ وتتدرع بعملائها من بني جلدتنا للقضاء على ( الإرهاب ) وتجفيف منابعه ، ووضِع العمل الإسلامي بكل حركاته ومؤسساته ورموزه هدفا للقضاء عليه ، وباتت كل الخطط مكشوفة ، وأصبحنا في موطن الدفاع غاية ما يرجوه أغلبنا هو السلامة والخروج بالكفاف لا له ولا عليه ، فماذا أنتم فاعلون ؟!
وأمريكا اليوم تتكلم عن البديل ( الإسلامي ) ، بعد أن قسمت الإسلام إلى إسلام سياسي ، وإسلام سلفي ، وإسلام جهادي ( متشدد ) ، وهي تغازل من تصفهم بالتيارات المعتدلة للتحاور معهم كي يكونوا بدلاء أو شركاء في التغيرات القادمة . أو أنهم أخبث من هذا ويرمون إلى تشتيت صف الحركة الإسلامية بين مؤيد لهم ومعارض ، وينشأ تصادم داخلي ( إسلامي إسلامي ) حين يتولى المؤيدون الرد على المعارضين ، وندخل في دوامة جديدة تستقطب جهدنا ، وتشتت شملنا .
وقبل أن يحدث أي شيء على الأرض اشرأبت بعض الرؤوس تريد أن تحظى بعطية أمريكا وتشارك في السياسة مُدعية أنه ظرف تاريخي قد لا يتكرر ، وأنها فرصة سانحة ( للتخلص من هذه الأنظمة التي أذاقتهم كل صنوف التعذيب والقتل خارج دائرة القانون ) . وأنه ( لابد من الفصل بين ( الدروشة ) و السياسة ) .
أو أن الكفر يستثير الأنظمة العلمانية لتقدم مزيدا من التنازلات ، وكثيرا من التعاون في حرب ( الإرهاب ) . وكله شر . فماذا انتم فاعلون ؟
ومع كثرة الدماء التي تسيل من فروج نساء الأمة ومن شرايين رجالها ، ومع انتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر , ومع كثرة المُفتين ، ومع قلة الفقهاء الراسخين ، وكثرة الخطباء الحماسيين ، بدأت طائفة من أحداث الأسنان .. تتحرك من تلقاء نفسها لنصرة الدين ، وفي حادث تفجير المدرسة البريطانية في قطر ، وتفجيرات طابا ، وتفجير الأزهر بالقاهرة وما تلاه من أحداث ، دليل على قولي ، فيجمعها جميعا أنها حوادث فردية أو شبه فردية من أناس لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي المنظم . ودوافعها جميعا ما يحدث للمسلمين في العراق وفلسطين ، وهذه الأحداث قابلة للتكرار ، ويمكن أن تصبح ظاهرة ، وهي حالة صحية تحتاج من يرشدها ويستثمرها ، لا من يفسِّقُها ويُبدعها فيدفعها للشطط والغلو وأخذ موقف معادي من علماء الأمة ورموزها ، ويعطي مسوغا للأنظمة العلمانية المجرمة لمزيد من البطش بأبناء الصحوة الإسلامية . فما ذا أنتم فاعلون ؟
وأفرزت الحملة الصليبية الجديدة ـ العولمة [1]ـــ في بعدها الفكري توجها جديدا داخل التيار الإسلامي ، يدَّعي الليبرالية ( الإسلامية ) ، ويدعو إلى إزالة العقبات من أجل التقدم الحضاري والرقي المادي(40/290)
ويعتبر ــ أهل هذا التيار أن ( الإصلاح والتجديد هو المدخل المناسب للتقدم والقوة والمنعة ، وأن الإصلاح الديني يقع في مقدمة أوليات الإصلاح )[2] ثم هم تحت دعوى التجديد هذه تسللوا إلى الفقه الإسلامي من باب المقاصد لإعادة صياغته [3] .
ولو سلمت النفوس من أهوائها لعلمت أن الإشكال ليس في الشرع وإنما فيمن يحملون الشرع . وكل هؤلاء الليبراليين يحاولون أخذ زمام الأمة والسير بها خلف الغرب ، وإن ألبسها البعض حلة الدين .
وهذا شر ـــ في جملته ـــ يحتاج من يتصدى له ، فما ذا أنتم فاعلون ؟
ـــ وهناك أمر أكثر أهمية مما مضى من وجهة نظري ، وهو يتعلق بما يحدث في العراق وفلسطين وفي باقي المواطن التي تُرفع فيها للجهاد راية . ولي بخصوص هؤلاء عدّة ملاحظات :
ـــ الأولى : تتعلق بأهل الجهاد أنفسهم ، وهو أن مرجعيتهم في تحديد الأهداف والوسائل ذاتية ، والشأن أن يكون أهل الجهاد تبع للعلماء الربانيين الراسخين في العلم الناصحين للأمة . وأن إمارتهم إمارة سرايا لا إمارة حل وعقد . وأنهم ليسوا أهلا للفتوى ، فلا بد ـــ من وجهة نظري ـــ من توجيه الرسائل إلي أعيانهم ، ومناصحتهم ، والاتصال بهم ، كي يثمر الحوار , أعرف أن هناك رسائل ومناصحات . ولكنها تأخذ شكل العموم الذي قد يُصغى إليه وقد لا يصغى إليه ، وما أنادي به هو الحوار المباشر . . . أشبه ما يكون بالمناظرة .
أيها الكرام !
من بديهيات العقل أنه لابد للحق من قوة تحميه . . . لا بد من أهل الجهاد كي يقوم سلطان الرحمن ويندحر سلطان الشيطان , ولا أحسب أن عاقلا ــ فضلا عن عالم ـــ يخالف في هذا . ثم هم قاموا ولن يتراجعوا . ولهم مدد من بين أجيال الصاعدة . فلكل قوم وريث . فلا مناص إذا من الاتصال بهم ومناصحتهم شفويا وجها لوجه . وهذا الأمر يحتاج من يتجشم الصعاب ، وموضوع الحوار معهم يتبين من الملاحظات التالية .
أولاً : يَغضُ كلُ من يتابع ما يحدث في العراق الطرفَ عن ظاهرة تعدد فرق المجاهدين [4] أو ( المقاومة ) ولم أرَ أحدا حاول قراءتها على غرار التجربة الأفغانية ، رغم التشابه الكبير بين التجربتين ، فالجهاد من أجل تحرير العراق ـــ الأرض ـــ وهذا من شأنه أن يعيد القضية ثانية أدبارها إلى قضية وطنية ، و إن أخذت مَسحة دينية .وبين الصفوف وطنيون ، وليس بعيدا أن يدخل بين الصفوف حين تبدوا بشائر النصر بعض المنافقين ويتكرر ما حدث في الجزائر من قبل . . لذا نريد حوارا يدعوا إلى وحدة الصف وتنقيته . فهل تفعلون ؟
ثانيا : نظر حكيم [5] للتاريخ , فوجد أن من قاتلهم السلف الصالح ... رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم أسلموا ودخل الإسلام بلادهم وصاروا جنداً من جنود الإسلام , ومن قاتلهم الخلف ـ الذين تخلو عن هدي السلف ـ لم يسلموا بل عاندوا واستكبروا وملئت قلوبهم حقداً وغِلاً على الإسلام والمسلمين . فقد رأوا مقاتلين ولم يجدوا دعاة . وهذا هو الحال اليوم قتال أكثر منه جهاد ــ لا أشكك في النوايا وإنما أصف الفعال ـــ فحرق وتمثيل ، وثأر للأشخاص ، وشعارات جاهلية تبرز من حين لآخر , مما يضيع به غاية الجهاد . ونحتاج منكم أيها الكرام أن تبينوا لهؤلاء أنهم دعاة قبل أن يكونوا مقاتلين . . . أعرف جيدا ما يطرح من نصائح وما أطالب به غير ذلك . . . حوار مباشر كما أسلفت .
ثالثا : اتصال العلماء المباشر بالمجاهدين ، وقيادتهم لصفوفهم فيه حماية للمجاهدين من أنفسهم ، إذ أنه لو استمر الحال على ما هو عليه اليوم ربما تكرر ما حدث في أفغانستان من قبل كما أسلفت ، وحماية للأمة وعلمائها من المجاهدين ، فما ذا لو انتصروا وهم قد صنفوا كثيرا من علماء الأمة ودعاتها ضمن ( مََن خالفهم أو مَن خذلهم ) ؟ .
رابعا : نريد من طلبة العلم ( تغطية ) الأحداث ، وأن لا يتركوا الأمر للصحافيين و ( المفكرين ) ، فهؤلاء غير هؤلاء . الصحفيون يتكلمون عن فلسطين الأرض والعراق الأرض ، وأمريكا ( البلد ) ، ويتكلمون عن ( المقاومة الوطنية الشريفة ) ، وجُلهم بادي الرأي يبحث عن سبقٍ صحفي .
ومنطق طلبة العلم أنه جهاد يستهدف الكفر أيا كان جنسه أو لغته أو موطنه ، وأن الغزاة مشركون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وإن كان المال أحد أهدافهم ، وأن للنصر أسباب أخرى غير التي يدندن بها العلمانيون . . . نعم هؤلاء غير هؤلاء في الأهداف والمنطلقات . وهم ـــ أي طلبة العلم ـــ تبعا لكم أيها العلماء . فهل توجهونهم لتغطية الأحداث ؟
وحتى لا أطيل عليكم أعرض بعض الأمور كحل للخروج من هذه الأزمة :
ـــــ قبل أي شيء لم شمل علماء الأمة ، وليس العدد من الأهمية بمكان , ففي كل مواطن الفتن عبر التاريخ ، نجد أن من يثبتون قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة . ويصور لي الخيال الأيام كأنها أرض والرجال فيها نبت طيب ونبت خبيث ، وفي أيام الإمام أحمد مثلا . . . أجد أن أرض العراق بها شجرة أو اثنتين ، وكذا الشام ومصر والجزيرة العربية ، والباقي عشب أخضر طيب الرائحة نضر ، بيد أنه ضعيف الساق ، لا تَحْمِلُ عليه متاعا ولا تجد له ظلا تفيء إليه .(40/291)
ثم إن فكرة تجميع أكبر قدر ممكن مع التنازل عن بعض الضروريات تحتاج إلى مراجعة على ضوء قوله تعالى " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " .
ـــ كان جمال الدين الأفغاني عجولا يريد أن ينقلب على أبناء جيله في يوم وليلة ، وأن يعتنق الناس أفكاره بخطبة أو خطبتين ، فجلس إليه تلميذه المخلص محمد عبده ـــ وكلاهما إلي بغيض ــــ وقال له : عَلِّم عشرة وكل واحد من هؤلاء العشرة يعلم عشرة فيكون عندك في ثلاثين أو أربعين عاما مائة من القيادات التي تستطيع الأخذ بزمام الأمة حيث تريد[6] . وهو ما كان ، فإن رحت تعدد من اشتركوا في تغريب الأمة والسير بها على درب الكافرين وهي تحسب أنها مهتدية وجدتهم قلة . وهو ما أنادي به اليوم .
ثم إن الاهتمام بخاصة الطلبة له بُعد آخر ، وهو حفظ التراث العلمي للشيخ ، فما ضيع الليث بن سعد إلا إهمال طلبته ، ولم يترك أبو حنيفة كتبا وإنما ترك أبرارا عرفوا فضل أستاذهم فدونوا ودرَّسوا .
فمن أراد أن تكون له صدقة جارية ، وأن يترك أثرا فليجب طلبي .
ثم إنه لا بد من الأخذ بيد الأمة ــ أعني عامة الناس ــــ وإشراكهم في الحلول .
أي يكون الخطاب ذو شقين شق تربوي للخاصة ، وآخر يخاطب به العامة .ولعل النقاط التالية تزيد الأمر بيانا .
ــــ زمام الأمة ليس بيد علمائها . وهناك من تنصت إليه الجماهير من غير العلماء ، بل إن الجماهير تشارك في صناعة القرار ،وما أراه هو أن نتوجه بخطاب إلى عامة الناس يبين حق العلماء في قيادة الأمة أو بكلمات أوضح : لَمِّ العامة على الأئمة الربانيين . وإسناد الأمر إلى أهله .
ــ (الكثرة الغالبة من المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة . ولا رغبةً في المعرفة ، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة . والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول معهم في معركة جدلية ولو أفحمهم الرد في لحظتهم !
إنما الرد الحقيقي يكون بإخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة ، يراه الناس فيحبونه ويسعون إلى الإكثار منه وتوسيع رقعته في واقع الحياة . هذا هو الذي ( ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [7] أطالب بالاستقلال في الخطاب وعدم السير وراء ردود الأفعال . . . . عدم الانشغال بالآخر كثيرا ، وإنما خط طريق جديد في الطرح ، ويكون بيان فساد آراء المخالف ضمن بيان الحق .
محمد جلال القصاص
صباح الاثنين 15 /04 /1426
الموافق 23 /05 /2005
--------------------------------------
[1] هكذا أرى أن العولمة بأبعادها الثلاث ــــ الفكرية والعسكرية والاقتصادية ــــ هي المسمى الحقيقي للحملة الصليبية ،وقد شرحت هذا في تقريري عن المقاومة الإسلامية في العراق المنشور في موقع المسلم بعنوان " المقاومة الإسلامية في العراق من يحصد ثمارها ؟
[2] محمد أبو رمان ــ من مقال ( محمد عبده وعوده لمشروع الإصلاح الديني ) . موقع الإسلام اليوم . قلتُ : الهوى هو السبب في الانحراف عن الجادة بإفراط أو تفريط , و النصوص بريئة من ذلك . و يقيني بأن الانهزامية والانبهار بالآخر وثقل الواقع في حس الليبراليين ــ كل الليبراليين إسلاميين وعلمانيين ـــ هما اللذان أوجد الرغبة عند هؤلاء في تحسين الصورة أمام الغرب الكافر ، والتشبه به واقتفاء أثره عند بعضهم . وهما ــ الانهزامية والهوى ــ السبب في إلقاء هؤلاء تبعية التخلف الذي وصلت إليه الأمة في عصورها الأخيرة على الشريعة الإسلامية لا على الإنسان المعاصر الذي أقعده الإرجاء عن حمل الرسالة الصحيحة كما حملها الجيل الأول رضوان الله عليهم . وهذا أمر بين الفساد ، إذ أن الفكرة هي التي تصوغ الواقع ، لا أن الواقع هو الذي يصوغ الفكرة . وهذا أمر بديهي لو تدبروا ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . ثم الجهل المطبق هو الذي جعل هؤلاء يتناسون أن الرسالة التي نحملها هي تعبيد الناس لله وليس النهوض بمستوياتهم المعيشية . وإن كانت الثانية ــــ النهوض المادي ــ إحدى نتائج الاستقامة على شرع الله .
[3] ومن يتدبر يعرف أن الأحكام الشرعية سابقة على المقاصد . فمن الأحكام تستنبط المقاصد . لا العكس كما يريدون اليوم . راجع إن شئت مقال ( المقاصديون الجدد ) لسعد مقيل العنزي . المحايد العدد : 132
[4] قرات في موقع المفكرة ــ وهي أقرب المواقع لهم ـــ أن هناك 23 مجموعة ضمن المقامة . وكذا الحال في فلسطين .
[5] هو الشيخ الدكتور سفر الحوالي في " مقدمة في التطور الفكري والحداثة "
[6] أكتب من حفظي والمقصود هو المعنى .
[7] . محمد قطب مقدمة شبهات حول الإسلام بتصرف يسير
==============(40/292)
(40/293)
حتى لا يتحول الحوار عن المسار!!
د.سعيد بن ناصر الغامديّ *
عناوين فرعية:
- الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي)
- فرق بين من يتخذ الإسلام فرصة لتثبيت كمال الإسلام وبين من ينظر إليه بمنظار غربي أو يقيسه بمقياس بنيوي أو أركوني أو صفوي أو طرقي .
- يجب التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة .
- يحدث الخلل عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية .
- ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية .
- عند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار .
- الغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة .
- المطلوب هو ثقافة سوية( تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث ) به ، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) .
المتابع لمجريات الحوار الوطني يسمع كثيراً من الثناء والمدح، والتفاؤل وهذا ظاهرة صحية جيدة، لها آثارها الجيدة في تخفيف الاحتقان، وتفريغ الشحنات السلبية، بيد أن من المهم في تقديري - الالتفات إلى جوانب مهمة حتى يؤدي الحوار وما يليه من مشروعات نتائجه الإيجابية المتوخاة، يمكن الإشارة إلى جوانب مهمة، لا أدري هل ذكرت ونوقشت أو وضعت كضوابط ومعايير أم لا:
الجانب الأول : أحسب أن من الأهمية بمكان الاتفاق على معايير أساسية لتقييم الأقوال والأفعال والمواقف والمشروعات وأهم هذه المعايير في نظري أمران:
الأول:
معيار الحرص على حفظ حقيقة الإسلام وصورته - كما هي - من غير إضافات أهل " الإحداث"، ولا انتقاصات أهل " الحداثة" وأحلافهم، ولا تشويهات أهل الغلو، ولا تفلتتات أهل التفريط.
الثاني:
الحرص على المصالح العامة للوطن حرصاً ينأى عن كل وسيلة تؤدي إلى ما يفسد هذه المصالح أو يضعفها أو يقللها.
وتحت مظلة هذين المعيارين يمكن أن يتحاور العقلاء والحكماء بعقل وحكمة بعيداً عن تصفية الحسابات وتنفيس الضغائن.
فإن حصل ذلك فسوف نجد البرهان القاطع على جودة عقول المتحاورين وسلامتها من نوازع الشبهات التي تشوه جمال دين الإسلام وروعة عقائده وأصوله وتشريعاته، ونجد البرهان أيضاً على سلامة قلوبهم من الحظوظ الذاتية والأنانية الشخصية أو الفكرية أو الفئوية، مع الإقرار بأن كل طرف من الأطراف له هدفه (السياسي) المعلن أو المضمر، بيد أنه يجب وفق المعيارين السابقين دمج المطالب السياسية الخاصة في التيار المصلحي العام القائم أصلا على الثابتين السابقين.
الجانب الثاني: من المستفيض تاريخياً أنه لن يستقيم السلوك الإنساني حتى يستقم (الفكر) أولاً، فالفكر المنحرف ينبني عليه سلوك منحرف، والتفجيرات دليل ذلك، والفكر المستقيم ينتج سلوكاً مستقيماً.
فإن صح المنطلق الفكري ـ للحوار أو غيره ـ صح العمل والتصرف والإجراء المتخذ والنتائج المتوخاه. فمن تعامل مع الحوار على أساس أنه فرصة لتثبيت حقائق الإسلام وتجلية كلياته وترسيخ أصوله وإظهار كمال عدله وكمال تضمنه مصلحة البشرية، فسيكون سلوكه مغايراً لسلوك من يرى الإسلام بمنظار غربي، أو يقيسه بمقياس (بنيوي) أو (أركوني) أو (صفوي) أو (طرقي).
وقل مثل ذلك عن مصلحة البلد ومنافع الناس.
الجانب الثالث: الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي) فإن ذلك - إن حدث - سيؤدي في المستقبل إلى نار ذات (جو حار) وليس إلى (جو حوار) وقد تستفز هذه الأجندة الأغلبية التي ترى أن حقها قد هضم، لصالح آخرين، وقد يفسرون ذلك بأنه هجوم على (منابرهم) و (مناهجهم) واستخفاف (برموزهم وعلمائهم) وغير ذلك من مفردات، تتم ممارستها واقعيا تحت مظلة المتاح من فرص التعبير والحرية، ويخشى أن تتحول من وصفة دواء، إلى جرعة سم، وأن تصبح ملحاً يوضع على الجراح، فيكون الحال كمن أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً، ولا حاجة إلى التنبيه هنا إلى مزايدات متوقّعة تحاول أن تصف هذا التنبيه وأمثاله بالتحجر والخوف والتراجع، والجمود والطائفية والفئوية ومحاكمة النوايا، إلى آخر مفردات الردح المتداولة والمعهودة.
الجانب الرابع: التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة، فإن ذلك - وإن تستر بالمصلحة العامة والموضوعية التامة - سيقود حتماً إلى أزمات أشد ومشكلات أكبر، ومضاعفات، ربما أبشع مما نحن فيه الآن ، والمعيار الصحيح لكل عمل صالح نافع هو مراعاة مصالح الأمة وتحصينها وتكثيرها واستدامتها، وليس مراعاة مصالح فئة محدودة أو طائفة معينة، أو الانزلاق إلى مستنقعات ضيّقي الأهداف.(40/294)
الجانب الخامس: يجب أن يدرك الجميع نسبة التوزيع الفكري والعقدي في هذه البلاد، حيث الأغلبية الكبيرة هم أهل السنة والجماعة، وهناك ثلاث طوائف عقدية ذات نسبة ضئيلة، كما أن هناك أفراد قلائل من أصحاب التوجهات الفكرية الحديثة (ليبراليون ، بقايا القومية ، واليسار ، عصرانيون) ومن المعروف أن حقوق الأغلبية في كل مكان في الدنيا غير حقوق الأقليات، ونتاج الاستقراء الموضوعي الفاحص لاضطرابات البلدان والمشاكل الداخلية فيها يشير إلى أن الخلل يحدث عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية، أو تسعى في النيل من مرتكزات ومنطلقات أكثرية الناس، أو يعلو صوتها الفئوي أو الطائفي وهيمنتها الإعلامية على صوت وحضور الأغلبية.
الجانب السادس: ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية، ولو على المدى البعيد، ويبرهن على استلاب وانخزال واستعارة خطيرة العاقبة.
الجانب السابع: لا يمكن بحال القبول في الحوار بمنطق "الثأر" فالثأر عادة جاهلية، وعند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار.
فعندما تحاول امرأة ما - مثلا - ممارسة شيء ما من السلوك الشخصي (الليبرالي) في أجواء الحوار ومناخاته تحت حجّة مقاومة الكبت، فهي تمارس "الثأر" من عادة اجتماعية ذات أصل ديني.
وقل مثل ذلك في التعاطي مع الأفكار والاتجاهات.
وقد لا تستطيع النية الحسنة أن تطفي نيران (الثأر) المتأججة في الألفاظ والسلوكيات.
ومن خير الحوار وأهله أن يلغي كلية مفهوم الثأر والانتقام لمخالفته للحوار أولاً، ولقدرته الهائلة على تأجيج ثأر مقابل.
الجانب الثامن: من الخطأ العظيم الاعتقاد بأن التخفيف من صيغ التديّن والتضييق على مفاهيم الإسلام وعلومه سبيل إلى مكافحة الإرهاب المستتر بالدين.
فإن هذا المسلك غير سوي ولا ذكي.
فالغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة، في التوسط والاعتدال والتسامح والرفق والعدل والأناة وحقوق الإنسان وغيرها، وسوف يخطئ من يظن أن (تخفيفاً) لما يظنه (سمنة) إسلامية في المجتمع سيؤدي إلى استقرار.
لأن هذا المسلك المفتقر (للذكاء) سينشئ الإرهاب إنشاء، ويوقد نيرانه، ويمنح أصحابه الحجة القوية لمزيد من التطرف، ومزيد من العنف والدمار والشتات، تحت ذريعة أن الحوار ودعاته ورعاته إنما تصدو للدين نفسه تشذيباً وتقليصاً من خلال تقليل حظه في الإعلام والتعليم والثقافة، فحقيقة الصراع - حسب هذا المؤدي عندهم - ليس بين فئة معينة ودولة، بل بين الإسلام والدولة، فتعظم الفتنة ويشتد الخطر من حيث أردنا أن ندرأها.
ودرءاً للمقتنصين أقول بأن هذا وصف للحال والمآل وليس تسويغاً للباطل والضلال.
الجانب التاسع : الحذر من المعالجة الانتقائية.
فإذا أريد - مثلاً - معالجة الإرهاب - ثقافياً - فلابد من النظر الشمولي لأسبابه، وعدم قصرها في اتجاه واحد كالمناهج التعليمية التي حاول بعض التيارات تحميلها إثم ما حصل.
فأين الحديث عن " الإعلام" وما ينطوي عليه من ثقافات غير سوية حيث يوجد في إعلاميات عديدة ، وبوضوح صارخ أحياناً، تلك المعطيات المتمثلة في : (الثقافة المهملة للدين، والمعادية له، أو المحذرة منه والمخوفة منه) ويوجد ـأحياناًـ (الثقافة المنحرفة باسم الدين ، فضلاً عن الحضور القوي لثقافة الضياع والتيه اللهو، وثقافة العنف غير الديني، وثقافة التبعية والهزيمة والاستلاب، وثقافة الاستغراب).
ولا يجترئ منصف على إنكار هذه الثقافات الإعلامية وآثارها الخطيرة في إيجاد أجيال هشة، وإيجاد براهين لأهل الغلو يتذرّعون بها لتسويغ غلوهم وعنفهم، وسيجدون من يصغي إليهم في حال قبول الطرح المناوئ للمناهج والسكوت عن الحمولات الهائلة للثقافة الإعلامية المنحازة في الجملة.
ومهما كان إعداد لقاءات الحوار وأعداد المتحاورين وقوة التوصيات، وسرعة الإجراءات فإنها لا تكفي وحدها في معالجة ظاهرة العنف، بل قد تكون في حال الانحياز ضد الصيغ الدينية في المناهج -والسكوت عن الصيغ الأخرى في الإعلام- سبباً في تفاقم المشكلة، أو نشوئها في أزمنة لاحقة بشكل أخطر مما هي عليه الآن.
وأعنى بكل هذا أن الاهتمام بالمعالجة الثقافيّة يستوجب (استراتيجية ثقافية) حقل نشاطها الذهن والتفكير والتصور، بصورة شمولية يمكن معها حل مشكلة (التطرف والتطرف المضاد) في أدوارها الأولى باعتبار أن التفكير والتصور هو الأساس الذي تنبثق منه المشاعر والسلوكيات، ولنا أن نتساءل:
كيف يمكن أن نقنع شاباً بجدوى المقترحات الموجهة نحو السمة الدينية في المناهج وهم يتصورون قصوراً في شمولية أو عمق هذه السمة؟ بل كيف يمكن أن نثبت لهم جودة المقترحات وهم يرون أنها ركزت على جانب ثقافي واحد بل على جزء من هذا الجانب، وأهملت أو تغاضت عن الجوانب الثقافية (الإعلامية خصوصاً) وهي الأكثر حضوراً والأقوى جذباً والأعمق تأثيراً.(40/295)
فلنتصور أن بعض المفاهيم الإسلامية قلصت حظوظها في الثقافة والتعليم، وشذبت المناهج مما يتصور أنه سبب العنف والغلو، وترك الحال الثقافي في وجهه الإعلامي على ما هو عليه في غلو وتسارع وقوة تأثير، ماذا سيكون الحال عليه بعد عقد أو عقدين من الزمن على أبعد تقدير؟
إن النظر العاقل الحصيف ليدرك أن المطلوب هو ثقافة سوية( تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث ) به ، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) وتحرراً فكرياً منضبط الاتجاه لا فوضوياً مدمراً، ومفاهيم دينية سوية تغسل العقول من لوثاث الغلو الديني والشهواني والأهوائي.
وبهذا تتم المعالجة الثقافية الشاملة التي لا يجرؤ عاقل ذو ضمير وعلم وعدل على إنكار وجوبها وحتمية العناية بها.
الجانب العاشر: التنبه من عمليات الاختطاف
فمع أن إحسان الظن ينبغي أن يكون أساساً ومنطلقاً، إلا أنه في الوقت ذاته يجب الحذر من اختطاف الحوار، وارتهان أجواء الانفتاح، وتوجيهها توجيها منحازاً (طائفياً ، أو فكرياً فئوياً ، أو سياسياً أو أمنياً) ومما يأسف له كثير من المتابعين تلك الممارسات الإعلامية القائمة على مبدأ اختطاف المشروعات، ومن أدواته:
- التركيز على بعض المشاجرات ( الحوارية) في أروقة اللقاء.
- انتقائية المقابلات وانحيازها لمفاهيم فئة مسيطرة على الإعلام أساساً أو لها نصيب كبير منه.
- انحيازية المقالات والتحليلات الإعلامية نحو أفكار واتجاهات ومقاصد فئوية.
- اقتطاع أجزاء من الأبحاث المقدمة وإغفال أجزاء أخرى، بل أحياناً إهمال شبه كامل لأبحاث مخالفة لنسق فئة معينة.
- انتقاء فقرات معينة من التوصيات، وتوسيع حاشيتها، لأنها تخدم أغراضاً معينة لدى فئة محدودة.
- أخيراً بروز اللهجة الخطابية المتوشّحة بالفئوية من البعض في لقاء ولي العهد لاختطاف النتائج والتوصيات وتوجيهها توجيهاً منحازاً، وتكييفها تكييفاً إقصائياً ولَكْم المتحاورين - المتفقين على نتائج محددة - بقفازات الحوار والتفاهم، في (نسق مضمر أصله الهجاء وتفكرته تدمير الخصم عبر تصوير بصورة بشعة.. كتوظيف للقانون الثقافي النسقي قانون الرغبة والرغبة والرهبة) [انظر: كتاب النقد الثقافي د/ عبد الله الغذامي ص 162].
إن مفاهيم الابتسار والاختزال والانحياز تشكل بؤرة (افتراق) و(فتنة) طائفية أو فئوية أو حزبية (والفتنة أكبر من القتل) ولا فكاك من ذلك إلا بإقرار فرص شبه متكافئة إعلامياً، ولا أقول فرص بحسب نسب الأغلبية والأقلية؛ لأن ذلك ـ بكل وضوح ـ لن يحدث في ظل هيمنة تيارات معينة على الإعلام، وعجز المقابل -رغم كثرته- عن التوغل.
ومن المهم -جداً- تثبيت فرص التعامل الفكري والثقافي وجعلها واضحة سافرة مثل الشمس في جو من الصدق، وعلى قاعدة من العلم والعدل.
-------------------
* عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
المصدر : موقع إسلاميات - صفحة المرأة والحوار
=================(40/296)
(40/297)
فأى الأمرين غلب ؟!أمر هؤلاء أم أمر الله رب العالمين ؟!
منير عرفه
فى الوقت الذى أراد فيه أعداء الإسلام أن يقوموا بتجهيل المسلمين وبمسخ أجيالهم متبعين فى ذلك أمورًا ثلاثة:
أولا : اخلاء المناهج الدراسية من تعاليم الاسلام .
ثانيًا : اعلام فاسد موجه علينا ليل نهار .
ثالثًا : تشجيع البنات على أن يخرجن متبرجات .
حين أرادوا ذلك وخططوا له جيدًا ...
فانظر ماذا كانت النتيجة ..
وأى الأمرين غلب ؟! أمر هؤلاء أم أمر الله رب العالمين ؟!
إذا بهؤلاء الشباب هم عباد الله تعالى ، وعمار مساجده ، وحافظوا قرآنه ، وحاملوا دعوته .
وإذا بالفتيات أكثر تحشما وتعلقا بردائها الشرعى وانتشر الخمار أكثر من ذى قبل .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
* وأضرب لذلك مثلا أثر فىَّ جدًا ألا وهو :
منذ عدة أشهر حدث كسوف للقمر فجاء إلىَّ بعض الأولاد فى المرحلة الاعدادية ، يقولون لى: ألا تصلى بنا صلاة الكسوف؟! سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
فنظرت إليهم متعجبًا - لا لقولهم - إنما قائلا فى نفسى : من أين جاء هؤلاء الأولاد والشباب ؟!..
...................
* ولمَّ نذهبُ بعيدًا أنا أو أنت يا أخى ؟! ومعنا مثال عشناه جميعًا ألا وهو :
حين جاءت أمريكا بكل ما أوتيت من قوة وطاقة تضرب أهل العراق دعا المسلمون فى صلواتهم أن ينصرهم الله تعالى على عدوهم . وكان أئمة المساجد يقنتون فى صلواتهم والمصلون يأمنون ..
فلما دخلت أمريكا إلى أرض العراق ظن كثير من الناس أن الأمر قد انتهى حتى إنى رأيت أئمة مساجد (مشايخ كانوا يقنتون) تركوا مساجدهم عدة أيام خجلاً من لقاء الناس .
وظن الناس أمرًا وأراد ربك أمرًا آخر .
وزاد الطين بلة أن داخل العراق نفسها سارعت كل الأحزاب العراقية ( القومية منها وحتى الاسلامية ) بالانضمام إلى مجلس الحكم الأمريكى ( ذلك المجلس الذى صنعه الاحتلال ) ..
وأخذت أمريكا تهدد دول العالم الإسلامى أجمع حتى أن القذافى فعل ما تعلمون ..
هنا وهنا فقط ..
فجرَّ الله تعالى برحمته الجهاد كما يتفجر النار فى الهشيم ، وكما يخرج الماء من بين الصخر .. ودب الجهاد فى أهل العراق كما تدب العافية فى الجسد المريض فينشط .
وقام علماء العراق بعمل هيئة علماء المسلمين لا تنتمى إلى طائفة دون أخرى ولا لحزب دون آخر إنما ينطوى تحتها علماء المسلمين يقودهم رجل معروف بعلمه وورعه وجهاده ألا وهو الشيخ حارث الضارى حفظه الله مجاهد من بيت مجاهدين ، حيث إن والده رحمه الله هو الذى قتل المنتدب البريطانى على العراق حين احتلت انجلترا العراق .
قام هؤلاء العلماء يوجهون الجهاد فى العراق فاستهدفت أمريكا هؤلاء العلماء وأخذت تصفيهم جسديًا عالمًا تلو عالم ، حتى قتلوا منهم الكثير واعتقلوا من اعتقلوا . لكنهم صابرون مجاهدون ، رافعون رءوسهم لعنان السماء ، واضعون أنف أمريكا تحت أقدامهم أمام العالم ، رافعون رأس هذه الأمة إلى عنان السماء .
نعم إن أهل العراق يعانون ويضربون لكنهم يجاهدون ...
ويمرغون أنف أمريكا وكبرياءها فى التراب ...
وتتمنى أمريكا أنها لم تكن قد دخلت العراق .
فأى الأمرين غلب ؟! .. أمر أمريكا ، أم أمر الله رب العالمين ؟!
نلوذ بالله لا نبغى به بدلا ... ومن يلوذ بباب ينصره
نرضى به وهو يرضينا ويغمرنا ... بعفوه وبهذا العلم نعبده
وكيف نرضى بغير الله متجها ... والكل والجزء والأعضاء تعبده
نخلى قلوبنا له من كل شائبة ... إن عشنا أو متنا أعضاؤنا توحده
أخى المسلم فى كل مكان .. هذه رسالة موجهة إليك
لقد أعزك الله سبحانه وتعالى بأن اختارك واصطفاك لتكون فردًا من أمة الإسلام ولتكون وريثا لكل كتب الله السماوية . أنت يا أخى المسلم وريث آدم الذى خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود له . أنت يا أخى المسلم وريث نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكل أنبياء الله تعالى، وقد يظن بعضكم أنه ليس أهلا لهذه المهمة لأنه صاحب ذنوب وخطايا أقول له : حتى لو كنت كذلك . فأنت أيضًا ممن اصطفاهم الله لأنك انسان مسلم واسمع الى كلام مولانا جل وعلا وهو يقول :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }[سورة فاطر آية 32].
فلا يصغرن أحدكم أمام نفسه وليعلم أنه أسد من أبناء أسود . لا نعجة من أبناء نعاج ..
أنت يا أخى المسلم من أتباع حمزة أسد الله وأسد رسوله ..
أنت يا أخى المسلم من أتباع جعفر الطيار الذى اختار أن تقطع يداه ولا يسلم الراية ..
أنت يا أخى المسلم ممثل لهذه الأمة فأحيانا تتمثل الأمة كلها فى رجل ويتمثل الرجل منا فى أمة { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } .(40/298)
ألا لا يكتفى كل واحد منكم بأن يقول إن الأمة فى ضياع وتفرق وضعف وهوان إنما قم بدورك أنت بصدق واصدق الله يصدقك من مجاهدة نفسك ورعاية أولادك وأهلك وذويك وانشر الخير حيث أنت واستعن بالله ولا تعجز .. مقتديًا فى ذلك بإبراهيم عليه السلام الذى أمره الله تعالى بأن يصعد على جبل أبى قبيس ويؤذن فى الناس بالحج .
فقال إبراهيم : يا رب كيف ولن يسمعنى أحد فى هذا المكان القفر ؟
فقال له الله : يا إبراهيم ، عليك الآذان وعلينا البلاغ ...
وها هى ملايين الحجاج تحج بيت الله الحرام مستجيبة لأذان إبراهيم عليه السلام .
كيف بلغهم الأذان من أعماق الصحراء ؟!
إنها قدرة الله ..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
================(40/299)
(40/300)
المنارة المفقودة
بقلم: الدكتور عبد الله عزام
الطبعة: الأولى
نشر وتوزيع
مركز شهيد عزام الإعلامي
بيشاور-باكستان
إعادة جمع وترتيب:
أبو تميم النجدي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى أخي الحبيب الدكتور عبد الرحمن.
رمزا للإخوة وعنوانا للمودة وذكرى لأيام ماضية عشناها في الجامعة في كنفه يحفنا بالحفاوة والتكريم واعترافا بالجميل بأن هذه ثمرات قلمك ونتاج جهدك، جمعتها في كتيب بعد التنسيق والتبويب مع تضرعي إلى الله عز وجل أن ينفعنا جميعا وينفع بنا وأن يجمعنا في الصالحين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
العبد الفقير إليه تعالى/ د. عبد الله عزام
صدا-حدود أفغانستان
غرة ذي القعدة (1407هـ 26/يونيو/1987م)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
تدمير الخلافة:
لا شك أن تركيا كانت تشكل خطراً رهيباً على أوروبا ، وقد عانت أوروبا من هذا المارد العملاق الذي وقف على أبواب فينا مرتين ودق أبواب (لنين غراد) وكان اسمها آنذاك (بطرس بيرغ).
ولذا فإن تدمير تركيا كان شغل أوروبا الشاغل وبخاصة العناصر اليهودية المبثوثة في كل مكان تحرك بأصابعها الخفية الدوائر السياسية في العالم الغربي من خلال رؤوس الأموال المملوكة بين أيدي اليهود وفي مصارفهم خاصة عائلة (روتشليد).
ولذا فقد كانت ممتلكات تركيا هي الصيد الذي ترنو إليه كل العيون الغربية ، ثم الإسلام الذي كانت القلوب تقطر عليه حقداً وسماً ، وتتربص به الدوائر وتنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض فوقه والإجهاز عليه ، وقد رأت أوروبا أن أسهل الطرق للإجهاز عليه أن تأتي الضربة القاصمة بيد أبنائه الذين يتسمون باسم المسلمين ، وعليه فقد جاء مصطفى كمال ليحقق ما لم تحلم أوروبا به في يوم من الأيام .
لقد كان شخص مثل مصطفى كمال حلماً يداعب خيال أوروبا ، ثم أصبح الحلم واقعاً أغرب من لخيال ، ولذا حرصت أوروبا على رفعه فوق مستوى البشر في أعين الناس ليصبح معبود الجماهير يعتبر نقده جريمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام.
ثم حرصت أوروبا على الحفاظ على مكاسب التدمير الأتاتوركي ، وحاولت أن تكرر التجربة من خلال النموذج الفذ الرائد الفريد ، وذلك عن طريق الإنقلابات العسكرية التي تلهج بذكر القائد الرائد أتاتورك والتي تسير على نهجه وتغزل على منواله.
وعلى هذا فلا بد من الوقوف طويلاً أمام هذه الظاهرة ودراستها لنعرف كيف وصل مصطفى كمال إلى قمة المجد..!!
مصطفى كمال أتاتورك (1880-1983)
مولده:
ولد سنة (1880) في مدينة سلانيك (مدينة يهودية) حيث يقطنها (140) ألف منهم (80) ألفاً من اليهود الأسبان و (20) ألفا من يهود الدونمة (أي المتظاهرين بالإسلام) (1) .
نسبه(2): ينسب مصطفى كمال رسمياً إلى (علي رضا) وأمه (زبيده) وتحيط شكوك كثيفة حول نسبه فمصطفى لا يعترف بأبيه علي رضا ويقال: إن أصل أبويه من ألبانيا.
ولقد راجع مصطفى كمال دائرة النفوس في (سلانيك) وأسقط قيد الأبوة عنه.
ويقال أن زبيدة حملت به سفاحاً من شخص اسمه (أبدو مسن آغا) لأنها كانت تعمل في أحد مواخير سلانيك، فولد مصطفى كمال حراماً لا يعلم اسم جده لأمه ولا لأبيه.
وكان الزواج بين علي رضا وزبيدة غير موفق لفارق السن الذي يصل إلى عشرين سنة ، ولأن زبيدة كانت جميلة جداً وغير مستقيمة.
كان والده غير متدين ومعجبا بالأفكار الغربية، مات بالسل سنة (1886م) وقد خلف وراءه (مصطفى وأخته مقبولة)(3)
نفسيته:
كان منعزلاً مكروهاً من زملائه كثير الشغب والمشاكلة مع أساتذته ، وكان يشعر بالفرح حين يعتدي على الآخرين، وكان يحب التعدي على الآخرين كما قال عنه (عرفان أوركا)(4): وكان كثير الخلاف مع أقطاب جمعية الإتحاد والترقي التي انخرط فيها أمثال أنور وطلعت وجاويد لأنه لا يطيق أن يكون أحد مسؤولاً عنه.
فقد قال أنور ذات مرة عنه وهو يناقش أعضاء الإتحاد والترقي حول ترقيته: ليكن في علمكم أن مصطفى كمال إذا ترقى إلى رتبة الباشا فإنه يرغب أن يكون سلطانا وإذا أصبح سلطانا، فإنه يرغب أن يكون إلها (5)
حياته الدراسية والعسكرية:
التحق بمدرسة دينية، ثم ألحقته أمه بمدرسة عصرية، وبعد موت أبيه أخذته أمه إلى مزرعة أخيها (حسين آغا) قرب سلانيك واشتغل في تنظيف الحظائر وإطعام الماشية والحراسة (6).
ثم ألحقته أمه بمدرسة في سلانيك، فكثرت مشاجراته مع التلاميذ فضربه المدرس ففر من المدرسة ولم يعد إليها.
دخل المدرسة الحربية في سلانيك سنة (1893م) وبعد أربع سنوات تخرج من المدرسة الابتدائية العسكرية ثم الثانوية في (موناستر) بالبلقان حيث الفتنة المتأججة على الخلافة (7) .(40/301)
وتخرج من موناستر سنة (1899م) ثم أرسل إلى الكلية الحربية في اسطنبول وتخرج منها سنة (1902م) ، ثم التحق بكلية أركان الحرب وتخرج منها سنة (1905م) ، والتحق بالجيش الخامس (في دمشق)(8)، ضابطاً برتبة رائد وهو لا زال في الخامسة والعشرين من عمره، وفي الشام عين في لواء الفرسان الثلاثين.
وبقي في الشام سنتين فأتم تدريبه في لواء الفرسان وأصبح برتبة (آغاس) بين الرائد والمقدم.
وبمعونة أصحابه نقل إلى سلانيك في صيف سنة (1907م) وعين في دائرة أركان الجيش الثالث(9)، وهناك دخل في جمعية الإتحاد والترقي فوجد فيها منافسين أقوى منه مثل أنور، وطلعت، فحصل بينه وبينهم نزاع وفي سنة (1908م) قام الانقلاب العثماني على السلطان عبد الحميد من أجل إعلان الدستور (للتسوية بين اليهود والنصارى والمسلمين) ونجحت الحركة ولم يشترك مصطفى كمال فيها.
وفي هذا العام نفسه سنة (1908م) أرسل إلى (طرابلس ليبيا) لإبعاده، ثم رجع واشترك مع حركة (محمود شوكت) سنة (1909م) لإسقاط السلطان عبد الحميد، وكان آنذاك أحد ضباط الأركان وليس رئيسا للأركان(10).
وفي سنة (1910م) أُرسل إلى فرنسا لحضور مناورات عسكرية ، وبعد أن رجع من فرنسا عين مشرفا على مدرسة الضباط فامتلأ حقداً على الاتحاديين لتجاهله فنقلوه قائداً لفرقة المشاة الثامنة والثلاثين في سلانيك.
ثم أغارت إيطاليا على ليبيا فأُرسل مصطفى كمال إلى ليبيا ورقي إلى درجة بكباش ثم حصلت حرب البلقان ، فوضع أنور خطة لسحق البلغار.
ولكن مصطفى كمال خالف أمر أنور ، ففشلت خطته فسبب للأتراك كارثة ، وذلك حقداً منه على أنور لئلا ينال شرف النصر وسقطت (أورنه) نتيجة لخيانته.
ثم رقي بعد فترة إلى رتبة قائمقام ، ولكن أخرج بعيداً عن مسرح السياسة والتوجيه لأنه كان مكروهاً من الاتحاديين فيما عدا صلته بجمال باشا الذي يجمعه به كراهيتهما للألمان(11) ، ولما كثر نقده للاتحاديين أبعدوه ملحقاً عسكرياً في صوفيا.
ولما اندلعت الحرب الأولى طلب أتاتورك من أنور أن يوليه قيادة إحدى الجبهات ، وبعد طلبه عدة مرات تولى قيادة القطاع الجنوبي في شبه جزيرة (غاليبولي)(12) ، فأبدى شجاعة فائقة وانتصاراً كبيراً ، وبعد انسحاب الحلفاء من (غاليبولي) رجع مزهواً بالنصر منتفخاً بالغرور إلا أن أنور تجاهله ، فلجأ إلى الدس والمؤامرة على الاتحاديين فألقي القبض عليه وعلى المتآمرين وشنق أنور مجموعة منهم إلا أنه لم يشنق مصطفى وأبعده إلى (بلاد القوقاز حيث الجيش السادس) ثم إلى ديار بكر حيث الجيش الثاني ، ولم يكن له هناك شأن يذكر لانسحاب الروس إثر الثورة الشيوعية سنة (1917م).
ثم أرسلوه إلى الشام سنة (1917م) وكان قد وصل إلى رتبة لواء(13) أي باشا وصار مساعداً لقائد الجيش الثاني.
ثم عين قائداً لجبهة فلسطين:
وفي فلسطين تمت الصفقة مع أللنبي القائد الإنجليزي واتفق الإنجليز مع مصطفى كمال(14) ، على الانسحاب ليدخل أللنبي برداً وسلاماً وليضرب الجيوش التركية الأربعة ضربة قاصمة بعد أن ارتد أللنبي خائباً من أبواب السلط بعد أن هزمه جمال باشا قائد الجيش الرابع(15) .
وكانت نتيجة هذه الخيانة تحطيم تركيا إلى الأبد، وأما نتيجة المعركة فكانت كارثة:
كان عدد الأسرى يقرب من مائة ألف جندي عدا القتلى برصاص الدروز والأرمن(16)
الأدلة على خيانة مصطفى كمال واتفاقه مع الإنجليز:
هناك أدلة كثيرة على خيانة مصطفى كمال واتفاقه على الانسحاب من فلسطين وتدمير الإسلام:
1- إن انسحاب مصطفى كان من موقع حصين وهو شرق نابلس الوعرة ، وقد تم الانسحاب في نفس الليلة التي دخل فيها أللنبي وهي ليلة(19/9/1917) ، وقم تم الانسحاب من نابلس إلى شرق الأردن فدمشق فحلب فجبال طوروس ، وقد كان الانسحاب فجائياً بسرعة البرق(17) .
2- ولم يكن وضع أللنبي العسكري بحالة تمكنه من هذا النصر الساحق.
يقول لورانس: لقد قال لي أللنبي في (5) أيار سنة (1917م) : إن كلينا مرغم على البقاء حيث هو والدفاع عن هذا البقاء بأي ثمن(18) ، (إن مصيرنا كله على كف عفريت)(19).
يقول الجنرال التركي (مؤلف كتاب الرجل الصنم): وهنا يتفق مصطفى كمال مع القائد الإنجليزي الجنرال أللنبي سراً وبانسحاب فجائي يحرم الجيش التركي من ذراعي (ركني) الاستناد ، ويؤدي بذلك إلى وقوع الجيش بيد الأعداء(20 ) يقول ضابط تركي معاصر(21 ) : كان رفقائي في السلاح في جبهة فلسطين يذكرون أن الخيالة الإنجليز قاموا باختراق جبهة الجيش الذي كان تحت إمرة مصطفى كمال ، وأنهم بذلك وصلوا إلى مؤخرة أربعة جيوش حيث تمت الكارثة التي لا يتحملها العقل والخيال.
وكان قائد الجيش الرابع (جمال باشا) يرى على الدوام أن مصطفى كمال هو المسؤول عن الهزيمة(22) ، ويقول الدكتور على حسون: وفي سنة (1337هـ) عين مصطفى كمال قائداً لأحد الجيوش في فلسطين حيث قام بإنهاء القتال مع الإنجليز فوراً وبصورة تامة وسمح للعدو بالتقدم شمالاً دون مقاومة ، وسحب قواته شمالاً لما بعد حلب حسب مخطط متفق عليه.(40/302)
3- اتصل الإنجليز بمصطفى كمال يوم أن كان قائداً في فلسطين وطلبوا إليه أن يقوم بثورة على السلطنة ، ووعدوه أن يساعدوه على ذلك ، فاتصل مصطفى كمال بقائدين عثمانيين من زملائه كانا يتوليان قيادة جيشين قريبين منه وطلب وفاقهما في الأمر ، فلما سمعا الخبر استعظماه واستنكراه وقالا له: بما أنك لم تحاول العصيان الذي يوجب الإعدام فإننا سنكتم الأمر وننصحك أن تعتبره منسيا(23).
4- بعد اندحار أللنبي أمام (جمال باشا) في السلط أرسل جمال إلى الأمير (فيصل بن الحسين) قائد القوات العربية يعرض الصلح بين الأتراك والعرب ، وهذا الصلح لو تم لأصبح من شبه المستحيل على أللنبي أن ينتصر على العرب والترك معاً.
قال لورانس: وكان جواب فيصل على تلك المذكرة أنه سيأتي الوقت المناسب لعقد تلك المعاهدة وفي إمكانه ضمان ولاء جيش لجمال باشا إذا أخلى الأتراك (عمان) لحكومة عربية تشكل فيها على الأثر.
قال لورانس: وما أن وصلت هذه الأخبار إلى (مصطفى كمال) الثائر على السلطات التركية فإذا بمصطفى يرجو فيصلا عدم الانصياع لرغبات جمال باشا وطعنه ويعد بالمساندة في حالة نجاحه في إخلاء دمشق لإقامة دولة عربية مستقلة(24).
وهنا نتساءل ما الذي أوصل هذه المكالمات السرية إلى مصطفى كمال؟ أليسوا الإنجليز؟ ولماذا يجهد مصطفى كمال في منع عقد الصلح الذي هو في مصلحة تركيا؟
أوليس ووراء الكواليس شيء يوعد به مصطفى كمال من قبل الإنجليز؟ وما معنى في حالة نجاحه؟ أوليس نجاحه فيما اتفق عليه مع الإنجليز؟ وهو إسقاط الدولة العثمانية مقابل الوعد والأماني الشيطانية الإنجليزية؟
إن كلام أللنبي ومصطفى كمال واحد يتفق في الهدف والصيغة، إنه ليس كلام قائد تركي يقاتل الإنجليز، إنه كلام قائد يحمي جبهة بريطانيا من الانهيار، ويحرم العرب الأتراك من النصر وهذا الذي حصل.
5- بعد انتصار أللنبي حضر إلى اسطنبول فطلب من الدولة التركية المهزومة أن تعين مصطفى كمال قائدا للجيش السادس قرب الموصل حيث النفوذ الإنجليزي ومنطقة البترول لحماية مصالح الإنجليز وأمنهم هناك(25) .
6- إن مصطفى كمال بعد الهزيمة الكبرى التي كبدها تركيا ، وبعد رجوعه كان على صلة بالقس المشهور (F r ID) فرد الذي كان رئيسا للاستخبارات الإنجليزية في تركيا(26) .
7- كان مصطفى كمال على صلة وثيقة بالسلطان وحيد الدين (محمد السادس) ، وذلك لأنه عين في ربيع سنة (1918م) مرافقاً عسكرياً له ، وكان آنذاك ولياً للعهد ، وأظهر مصطفى كمال آنذاك لوحيد الدين كراهيته للإتحاد والترقي ، وأبدى صلاحاً وحرصاً على مصلحة تركيا ، وسرعان ما أصبح الاثنان صديقين حميمين ، وغدا مصطفى جندياً للأمير وأميناً لسره.
وفي أثناء الحرب مات السلطان محمد رشاد (الخامس) وتولى وحيد الدين الخلافة، فقرب مصطفى كمال ورفع من مكانته، وأرسله وحيد الدين ليتولى مكافحة المستعمرين في الأناضول، وأعطاه مبلغا كبيرا من الذهب (عشرين ألف ليرة ذهبية)(27)
يقول الشيخ مصطفى صبري(28): لقد شاعت كلمة سمعتها على لسان أحد الإنجليز أن السلطان أراد أن يكيد الإنجليز بمصطفى كمال، فكاد الإنجليز به السلطان.
وفي الأناضول اتفق مصطفى كمال على أن يتولى عن غربي الأناضول ، وأما القائد (كاظم قره بكر) فيتولى الدفاع عن شرقي الأناضول.
قال كاظم: ولكن بعد أن مر (18) يوما على تثبيت هذه الخطة (أي في 3 شباط سنة 1920م) تلقيت رسالة بالشفرة من سيادة مصطفى كمال يقول فيها: ليس هناك مجال للمقاومة المسلحة ضد شروط الصلح الفاسدة إلا في القفقاس... أما في الجهات الأخرى فليس في الإمكان عمل أي شيء فإذا ساعدت تركيا البلاشفة في الاستيلاء على قفقاسيا ، ووحدت جهودها معهم فإن الأناضول -من الغرب إلى الشرق- وكذلك العراق وإيران وأبواب الهند تكون قد فتحت على مصاريعها(29) .
فجاء خليل باشا عم (أنور باشا) إلى أهل أذربيجان (قفقاسيا) وقال لهم: إن تركيا ترغب منكم السماح للجيش الروسي بالعبور لتقديم المساعدة إلى تركيا ، فقال أهل أذربيجان: وقد خدعنا بهذا القول وأدخل الروس علينا دون أن نبدي أي مقاومة ، مع أننا كنا نملك جيشاً وكنا على استعداد للدفاع ، ولكن لم يدعنا ندافع وهكذا دخلنا مرة أخرى تحت السيطرة الروسية(30) .
وكانت هذه خطة إنجليزية ليظهر مصطفى كمال أنه عدو لبريطانيا ، ولقد جاء (راولنسوون-شقيق اللورد كيرزون) وزير خارجية بريطانيا واجتمع مع كاظم وعرض عليه نفس الخطة ، فذهل كاظم للتوافق العجيب والفجائي بين رغبة مصطفى كمال الذي تظاهر بعداوة الإنجليز وبين رغبة الإنجليز أنفسهم(31).
لقد خطط -راولنسون- وبصفقة متبادلة مع روسيا لذبح الشعب القفقاسي المسلم وألقوا خطتهم إلى عميلهم مصطفى كمال ، ونفذها كاظم باشا وخليل باشا ووقعت القفقاس المسلمة في قبضة الشيوعيين ليذبح أهلها في مفارم اللحم (البلوبيف) ، وليساموا سوء العذاب إلى يومنا هذا منذ نيف وستين سنة ، وليمسح الإسلام من أرضها نهائياً ويجتث منها اجتثاثاً ، وقد ثبت أن العقيد (راولنسون) قد اجتمع مع مصطفى كمال في بيت في أرضروم اجتماعاً في غاية السرية والأهمية دام حتى الصباح(32).(40/303)
8- تصريح دهاقيين السياسة الإنجليزية آنذاك بوجوب إقامة معاهدات صداقة مع مصطفى كمال.
يقول اللورد كيرزون وزير خارجية بريطانيا: لا يمكن لأي فرد تركي بعد هذا الاحتلال المنحوس (لأزمير) من قبل اليونان إلا أن يتعاطف بعمق مع القضية الوطنية التي عليها الآن مصطفى كمال(33) .
ويقول رئيس الأركان سير هنري ولسون: ليس أمام الدبلوماسية الإنجليزية إلا أن تعقد الصداقة مع مصطفى كمال.
9- مسرحيات الانتصارات الساحقة في الأناضول وخاصة في سقاريا أفيون ، أزمير التي جعلت من مصطفى كمال خارقة من الخوارق تغنى بمدحها الشعراء حتى قال أحمد شوقي:
الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب
لقد تمت المسرحية بهذا الإخراج الساحر الذي يأخذ بالألباب، لقد شدد الإنجليز في فرض الشروط على الخليفة ليبدو عاجزاً ضعيفاً وتساهلت مع مصطفى كمال ليظهر بطلاً فريداً.
يقول الشيخ مصطفى صبري(34): لقد أبلغتنا لجنة الحلفاء العليا المقيمة في باريس والمؤلفة من رؤساء وزارات كل من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان في مساء (14) مايو سنة (1919) قرارا يقضي بنزول الجيوش اليونانية في أزمير ومقدونية ، ويحذرنا من المقاومة التي يعتبرونا نقضا للهدنة ، في اليوم الثاني أي في (15) مايو سنة (1919م) نزل اليونان في أزمير.
معركة سقاريا:
لقد شد الحلفاء من جهة على السلطان وهيئوا فرصة انتصار مصطفى في سقاريا ، فقد أوعزت قوات الحلفاء لليونان أن يتقدموا في الأناضول ، وفي منتصف الطريق تلقت الأوامر من الحلفاء(35) أن تتوقف بين الجبال حيث لا طرقات تربط بين أجزائها ولم تستطع أن تقيم خطاً دفاعياً حصيناً.
لقد توقف الهجوم اليوناني فجأة في الساعة الثامنة صباحا ، ثم بدأ الانسحاب فتحول الأتراك إلى الهجوم ، وتقهقر اليونان وانتصر البطل في معركة سقاريا الحاسمة الفاصلة(36)..!! ولما هزم اليونان في مسرحية جنت الجماهير فرحاً في أنقره ، واحتفوا بزعيمهم الظافر (مصطفى كمال) وخلعوا عليه لقب الغازي وجاءته برقيات التهنئة تترى من روسيا وأفغانستان والهند وأمريكا وحتى من فرنسا وإيطاليا(37) .
وبعد رجوعه من سقاريا ظافراً طلب من مجلس النواب التركي منحه لقب الغازي وأربعة ملايين ليره مكافأة.
وهنا ثار النواب فأعطوه لقب الغازي أي المجاهد، ولم يعطوه شيئا من المال(38).
أما معركة أفيون:
فقد كانت مسرحية كذلك ، إذ ترك قائد الجيش اليوناني (هاجيانستس) جنده دون طعام أو شراب يتسكع بين مقاهي أزمير ليتذمر الجنود وتتبدد منهم روح الحماسة ، وليدخل مصطفى كمال وينتصر عليها بسرعة البرق الخاطف في الجانب الأسيوي.
أما أزمير:
في الجانب الأسيوي فقد كانت في أيدي اليونان ومركزهم فيها قوي، ومع ذلك انسحبوا وأخلوها لمصطفى كمال دون أن يطلقوا طلقة واحدة(39).
وكانت المسرحيات متلاحقة، وجيوش الحلفاء تنتظر تدير المعركة من وراء ستار، فهي تأمر حلفاءها اليونان أن يتقدموا ثم يتوقفوا ثم ينسحبوا ويتقدم مصطفى كمال أمام سمعهم وأبصارهم يطارد اليونانيين ويفرق جموعهم ويشتت جنودهم دون أن يطلقوا طلقة واحدة... بل يتظاهرون بالعجز عن عمل أي حركه.
ودخل مصطفى كمال أزمير ومر ببوارج الحلفاء الرابضة في الميناء بمدافعها الضخمة ، ولكنها صامتة صمت القبور، بل يدعي آرمسترنج أنها كانت عاجزة عن التدخل(40).
واقتحم مصطفى كمال منطقة البسفور والدردنيل التي تربض وتحتشد فيها القوات البريطانية ، ويخترق جنوده الأسلاك الشائكة حول المواقع العسكرية البريطانية دون أن يطلق الإنجليز طلقة أو الأتراك طلقة واحدة(41).
بل أكثر من هذا أن الأسلحة التي يحارب بها مصطفى كمال جاءت كالسيل المنهمر من روسيا عبر الخطوط الإنجليزية في البسفور والبحر الأسود(42).
10- تظاهر الحلفاء بالعطف على الخليفة والسخط على مصطفى كمال ، فقد احتل الإنجليز القسطنطينية في (16) مارس سنة (1920)، وطلب الحلفاء من الأهليين إطاعة الأوامر التي تصدر إليهم من الخليفة مما أدى إلى ازدياد النقمة عليه ، وفي المقابل تم الجلاء عن (أسكى شهر) والمحاصرة من قبل مصطفى كمال وعن (قونيه) بدون حصول أدنى اشتباكات وتنظف الأناضول من القوات الحليفة، والناس مبهورون بهذه الانتصارات.
وفي نفس المدة تخرج فتوى من شيخ الإسلام تصف مصطفى كمال وجماعته بالكفر، فيزداد سخط الناس على السلطان والمفتي.
معاهدة سيفر:
وعندما تزعزع مركز مصطفى كمال وأصبح على وشك السقوط أنقذه الحلفاء بمعاهدة سيفر وبمقتضاها قسمت البلاد (تركيا) بين الأوروبيين ، وأصبحت اسطنبول دولة ، وسلخت بلاد العرب من تركيا ، وألحقت تركيا الأوروبية والجزر الأيحية وغيرها بإدارة اليونان ، وتصبح أرمينيا دولة مستقلة وتعطى كردستان حكما ذاتيا ، وتوضع المضايق تحت إشراف الدولة ويحدد عدد الجيش بعد إخضاعه لتوجيهات الحلفاء الذي أعطوا السيطرة المالية واحتفظوا بالامتيازات القديمة ، وأعطيت الأقليات النصرانية حقوقاً خاصة إضافية ، ثم نشرت نصوص معاهدة سيفر على أوسع نطاق فهاج الرأي العام ضد الخليفة ورئيس وزرائه وصبت النقمة على الإنجليز.(40/304)
وفي المقابل أخبار الانتصارات عن مصطفى كمال متوالية ومتزايدة، كان كمال يصيح بهم (انتصروا) أو دعوا العدو يسحق جثثكم، فكانوا يجيبونه بعاصفة من التصفيق وتنتابهم نوبة من الحماسة الجارفة التي تكتسح من يقف في طريقها.
وهكذا أوقفوا الزحف اليوناني وأخمدوا الثورات المتفرقة التي أشعلها أعوان السلطان ، وحرروا أنقرة من الخطر المحدق بها ، ثم هاجموا (مرعش) وأبادوا حاميتها الفرنسية والأرمن الذين جندتهم ، ثم حطموا شوكة الأكراد ، واكتسحوا القوات الإيطالية الرابضة على طول السكة الحديدية في قونية وهاجموا الحامية الإنجليزية عند السكة الحديدية في (أسكى شهر) ثم طاردوها إلى البحر، واعتقلوا جميع ضباط مراقبة الحلفاء الذين استطاعوا أن يضعوا أيديهم عليهم في الداخل ، واحتفظوا بهم كرهائن مقابل النواب المعتقلين في مالطة.
وكان مصطفى كمال يصب جام غضبه أثناء الخطة على الإنجليز ، هؤلاء الإنجليز سوف يعلمون أننا مثلهم بل أفضل منهم بكثير ، ولسوف يعاملوننا على قدم المساواة ولن نحني لهم هاماتنا يوما سنقف ضدهم حتى آخر نسمة حتى نحطم حضارتهم فوق رؤوسهم.
وبمعاهدات سرية واتفاقات خفية مع أتاتورك يقرر الحلفاء الجلاء عن استانبول ، وكان جيش الحلفاء في قسطنطينية قد خفض إلى بضعة آلاف ، فرسم القائد العام خطته وأعد جميع المعدات على أساس الجلاء العاجل ، فأحرقت المستندات ودمرت المخازن وأتلفت الذخائر ، ولغمت القناطر كي تنسف عند الاقتضاء وربضت سفن الأسطول في الخليج (خليج القرن الذهبي) على تمام الأهبة للرحيل.
بل أكثر من ذلك ، لقد قرر الحلفاء طرد اليونانيين مع أنهم حلفاؤهم من تراقيا (الجزء الأوروبي من تركيا)، وقرروا الرحيل من تركيا نهائياً وذلك ليقوم البطل بأضعاف أضعاف ما تستطيع أوروبا كلها أن تعمله لو بقيت..!!
المخطط التدميري:
إن هذا المخطط يكشف الصلة الوثيقة المبكرة بين مصطفى كمال وبين الإنجليز والحلفاء، ويبين لك بوضوح سر إبراز مصطفى كمال وانسحاب جيوش الحلفاء.
وقد كشف عن هذه الوثيقة صديقه الحميم وأمين سره (مظهر مفييد قنصوه) في مذكراته فيقول: وفي (7/7/1919م) قرب الفجر وفي أرضروم بالأناضول أسر إلي مصطفى كمال وأكد كثيراً في وجوب كتمان السر وقال: هذا الدفتر سيبقى سرا ً حتى النهاية بيني وبينك وبين ثريا (شوكة ثريا ايدمير).
وبعد أن أكدنا له حفظ السر قال: إذن فسجل التاريخ أولاً ... قال مظهر فسجلت التاريخ (7/8) تموز سنة (1919م) قرب الفجر بعد أن رأى أنني سجلت التاريخ على الصفحة قال: حسناً أكتب ثم تابع أولا: ستكون الجمهورية هي شكل الحكومة بعد الانتصار، هذه واحدة.
ثانيا : سيؤخذ التدبير اللازم بحق السلطان والعائلة المالكة عندما يحين الوقت المناسب.
ثالثا : سيرفع الستر عن النساء.
رابعا: سيلغى الطربوش وسنلبس القبعة مثل سائر الأمم المتمدنة.
قال مظهر مفيد: هنا سقط القلم من يدي بدون إرادة ، تطلعت إليه كان يتطلع إلي قال لي: لماذا توقفت؟ قلت له: أرجو أن لا تؤاخذني يا باشا إذا قلت لك بأن لك جانباً خيالياً قال لي ضاحكاً : سيكون الزمن هو الحكم في هذا ، أما أنت فاكتب ، استمررت في الكتابة.
خامسا : سنأخذ الأحرف اللاتينية... يكفي يا باشا يكفي.
ثم نفذ البرنامج التدميري ، وبعد أن نفذ بعضه لمح مظهر مفيد ، فقال له: يا عزيزي السيد مظهر مفيد ما هو رقم الفقرة التي وصلنا إليها؟ هل تلقي نظرة على دفتر ملاحظاتك؟ أرأيت كيف يصنع الأبطال؟ أرأيت كيف تكون الضرائب الغالية التي يدفعها الشعب وهم يهتفون لجزاريهم ويصفقون لقاتليهم؟ كم لاقى العالم الإسلامي من هؤلاء الذين صنعت منهم أجهزة الإعلام المعادية للإسلام أبطالاً من صانعي التاريخ ومحركي خط الحضارة للأمة؟ كم ساقت لنا الأقدار من خلال الانقلابات العسكرية بأمثال أتاتورك؟ وكم جادت علينا -وبقدر من العليم الحكيم- بزعانف ورويبضات وأصبحوا يملكون بين أيديهم أقوات الأمة ويتحكمون بمصائرها ، ويحكمون بدمائها وأرواحها وأموالها؟ وكم قاسينا ولا زلنا ممن لا يستطيع إدارة أنفسهم بعد أن أصبح أحدهم بفضل سادته الحاكم الأوحد والزعيم الفذ والقائد الملهم والعبقري الفريد..!!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها(43).
وروى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وأن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ...(44)(40/305)
لقد أعاذ الله هذه الأمة أن يسلط عليها أعداءها، ولو دخلت عليهم من أقطارها وإنما جعل الله هلكة هذه الأمة على أيدي أناس من أبنائها ممن يحملون عناوين المسلمين وشاراتهم وكان مصطفى كمال من هؤلاء الذين أبادوا خضراءها وأهلكوا الحرث والنسل.
وبعد أن أفردنا فصلاً لنبين صلته وعمالته للإنجليز لا بد أن نوضح أنه كان على وفائه مع الإنجليز وحبه لهم إلى درجة العبادة.
وبقي كذلك حتى الموت إذ أنه صمم وهو على فراش الموت أن يوصي برئاسة الجمهورية إلى السفير البريطاني (بيرس لورين)(45).
وثيقة يوصي بها مصطفى كمال لسفير بريطانيا لورين برئاسة تركيا:
إليكم الوثيقة التي ننقلها بنصها الحرفي من جريدة الأهرام التي قامت بنقلها من جريدة صندي تايمز في يوم الخميس (16) ذي القعدة (1387هـ) المصادف (15) فبراير (1968م) تحت عنوان (كمال أتاتورك يستدعي سفير بريطانيا ليخلفه في رئاسة الجمهورية التركية).
نشرت (صندي تايمز) أغرب صفحات التاريخ الدبلوماسي بعنوان (كيف رفض رجلنا أن يحكم تركيا) قالت الصحيفة: أنه في نوفمبر (1938م) كان (كمال أتاتورك) رئيس تركيا يرقد على فراش الموت وعلى امتداد (15) سنة حاول أتاتورك بدكتاتورية صارمة أن يجرجر تركيا رغم أنفها ويدخلها إلى القرن العشرين ، ومنع لبس الطربوش والحجاب وحطم سلطان الدين وأدخل نظام اللغة التركية بالحروف اللاتينية.
11- وعندما رقد أتاتورك على فراش الموت كان يخشى ألا يجد شخصاً يخلفه قادراً على استمرار هذا العمل الذي بدأه ، فاستدعى السفير (بيرسي لورين) السفير البريطاني إلى قصر الرياسة في اسطنبول ، أما ما دار بينهما فقد ظل سراً أكثر من ثلاثين عاماً وها هو اليوم يكشف النقاب عنه على يد (بيرزديكسون) عن حياة والده (بيرسون ديسكون) فقد كان بين أوراق (ديسكون) برقية بعث بها (بيرسي لورين) إلى اللورد (هاليفاكس) وزير الخارجية وربما كانت هذه البرقية أغرب وثيقة في التاريخ البريطاني المعاصر على الإطلاق ، ففيها يروي (لورين) تفاصيل مقابلته غير المألوفة مع الديكتاتور المحتضر وها هي الوثيقة: عندما وصلت وجدت صاحب الفخامة يجلس على فراشه تسنده بعض الوسائد ويحيط به طبيب وممرضات ، وما أن دخلت حتى صرف الطبيب والممرضتين قائلاً: إنه سيضرب الجرس إذا احتاج لهم ، وعندئذ بدأ فخامته يتحدث ببطء ولكن بعناية شديدة، وقال لي: إنه أرسل في طلبي لأنه يريد أن يطلب مني طلبا عاجلا راجيا أن أعطيه جوابي عليه بطريقة قاطعة.
ثم قال السفير: لقد كانت صداقتي ونصيحتي إليه هي الوحيدة التي كان يحفل بها ويقدرها أكثر من أية نصيحة أخرى لأنها كانت ثابتة لا تتغير ، وكان هذا هو السبب الذي جعله يستشيرني في مناسبات متعددة.. بحرية تامة كما لو كنت وزيراً في مجلس الوزراء التركي، ثم قال: وقد كان من سلطاته(كرئيس للجمهورية) أن يختار خليفة له قبل وفاته، وقد كانت أخلص رغبة له أن أخلفه في منصب الرئيس ومن ثم فقد كان يريد أن يعرف رد فعلي لمثل هذا الاقتراح، ثم بعد التفكير العميق اعتذر السفير وشكر العميل الذي ظهر عليه التأثر، ومال بظهره إلى الوسائد.
12- وعندما كان أتاتورك في معركة مع مجلس النواب لإعلان الجمهورية وإلغاء الخلافة هاجم أحد النواب (الكولونيل خليل) عصمت اينونو، فقتله أحد أنصار مصطفى كمال برصاصة في المجلس.
هاجم النائب (علي شكري) سياسة مصطفى كمال فخنقه (عثمان آغا) رئيس حرس أتاتورك وكشف الأمر فتأزم موقف مصطفى كمال كثيراً فأقال عصمت اينونو من رئاسة الوزراء -وعين فتحي أوفيار- لكن المعارضة ازدادت حدة فتحرج موقف أتاتورك وبقي في قصره كسيراً حزيناً وغارقاً في الخمر(46).
وهنا تحركت بريطانيا لإنقاذه (فطالب بالموصل) فأعطته فرصة لتجميع الناس ضد العدو الخارجي (بريطانيا)، وكذلك ثار الأكراد في الشرق، ولا ندري هل حركها الإنجليز لإنقاذ أتاتورك، ولكن الثابت أنه استغل تلك الثورات لصالحه.
لقد صاح في الشعب: إن تركيا في خطر فالعدو الأجنبي الأصيل -إنجلترا- يظاهر الأكراد ويمدهم بالمال والسلاح(47).
هذه أنجح طريقة لإنقاذ العملاء عند اهتزاز الأرض تحت أقدامهم، ولذلك رأينا كيف عاد أتاتورك بهذه المسرحية القائد الأوحد.
يقول آرمسترنج(48): وهب كل تركي ليمتشق السلاح وصهرت وطنيته الشعب كل الخلافات السياسية والمقاومة الدينية وانهالت على الغازي من كل أنحاء تركيا ومختلف طبقاتها برقيات الولاء والتطوع بتقديم العون المطلوب، فإن تركيا في خطر والغازي وحده هو الذي يستطيع أن ينقذها..!!
كانت مسرحية كتلك المسرحية مع اليونان، ولذا بعد أن أخمدت الثورة، شكل محاكم الاستقلال التي أمعنت في الشنق والنفي والسجن والتعذيب، وشنق (46) من زعماء قبائل (ديار بكر) كان آخرهم (الشيخ سعيد) اتخذ هذه الثورة ذريعة لتصفية المعارضة واتهمهم بالاتصال بالإنجليز، فأثار النواب ضدهم ففروا من البلاد، وأقرت الجمعية الوطنية وقف الدستور وتخويل الغازي سلطة كاملة لإنقاذ البلاد.(40/306)
وألغيت حصانة النواب وفرضت الرقابة الصارمة على الصحف، وصار أي إجراء أو نقد شفوي للحكومة خيانة وطنية عظمى تعاقب عليها محاكم الاستقلال بالإعدام.
13- بعد أن جمع كل السلطات في يده جاءت معاهدة (لوزان) التي استمرت محادثاتها ثلاثة أشهر من نوفمبر (1922م) إلى فبراير (1923م)، ومعاهدة لوزان كانت إنقاذاً لأتاتورك من وضعه الحرج، إذ اشتدت المعارضة ضده في البلد، وفي مجلس النواب وكانت شروط لوزان قاسية جداً على الشعب التركي، ولكن الشروط الحقيقية أخفيت وهي (إلغاء الخلافة وتحطيم أية محاولة لإعادتها ومحاربة الشعائر الإسلامية في تركيا واتخاذ قانون أوروبي بدل الإسلام).
وأما الذي ظهر للناس من المعاهدة أن جيوش الاحتلال الإنجليزية جلت عن العاصمة وذيولها بين سيقانها، ويكفي أن نعلم أن مندوب أتاتورك في مفاوضات لوزان هو عصمت إينونو والحاخام (حاييم ناحوم).
عندما تأزمت المفاوضات بين كرزون -وزير خارجية بريطانيا- وبين عصمت إينونو وكان ناحوم آنذاك مسافراً فأرسل ناحوم برقية أنه قادم وقال في البرقية: (عصمت صديقي، وطوع أمري، ولا يخالف لي كلمة).
وبعد معاهدة لوزان لمع اسم مصطفى كمال وظهر أنه القائد الظافر، فأعلن الجمهورية، وبدأ يضيق على الخليفة تمهيداً لإنهاء الخلافة، ولكن لا بد من بدء مسرحية تقدم لهذه العملية الخطيرة، فأوعزت بريطانيا إلى أحد عملائها (آغا خان زعيم الطائفة الإسماعيلية) وعميل آخر هو (أمير علي) بإرسال خطاب احتجاج إلى مصطفى كمال بسبب معاملته السيئة للخليفة ولا تليق بمقام الخلافة، وكأنه ليس بين المسلمين سوى آغا خان (رجل الخمر والنساء الذي وزنه أتباعه بالماس والبلاتين) وهنا جاءت الفرصة المناسبة لنبش تاريخ (آغا خان) وبدأ يهاجم بريطانيا وعملاءها مثل (آغا خان)، وأثار الجمعية الوطنية فشن أعضاؤها حملة شعواء على الخلافة ورجال الدين وزعماء المعارضة ، ثم أقروا قانونا يقضي باعتبار كل معارضة للجمهورية وكل ميل إلى السلطان المخلوع يعاقب عليها بالموت.
وحوكم رجال الصحف الذين نشروا خطاب آغا خان، وأرسل مصطفى كمال أمراً جازماً إلى حاكم القسطنطينية بوجوب إلغاء مظاهر الأبهة التي تحيط بموكب الخليفة أثناء تأدية الصلاة كما خفض مرتبه إلى الحد الأدنى وأنذر أتباعه بوجوب التخلي عنه(49).
وفي (3) مارس سنة (1924م) ألغيت الخلافة:
إذ تقدم أتاتورك بمرسوم يقضي بإلغاء الخلافة وفصل الدين عن الدولة والمحاكم العتيقة، وقوانينها يجب أن تستبدل بها محاكم وقوانين عصرية.
ومدارس رجال الدين يجب أن تخلي مكانها لمدارس حكومية غير دينية، وأقرت الجمعية الوطنية القانون بلا مناقشة، وبعد يومين حشد مصطفى كمال أمراء العهد القديم وأميراته ورحلوا إلى خارج البلاد، وكان قبلها بيوم أصدر قرارا بطرد الخليفة.
لقد اقتلع مصطفى كمال هذا الصرح الشامخ من الجذور ، هذا الصرح الذي بقي منارة للمسلمين في أرض تركيا لمدة خمسة قرون، وفرق الراية الإسلامية التي يأوي إليها المسلمون منذ أربعة عشر قرنا ، وتشتت الناس متفرقين في سبل شتى كالغنم في الليلة الشاتية، وأصبحت الذئاب تنهش من هذه الفئام المتفرقة، كل يسن سلاحه ويمتشق حسامه ليذبح من شاء وكيف شاء.
وهذا طرف من صلة أتاتورك بالإنجليز ، وهذا شيء مما تبدى لنا -كبشر- من خلال المذاكرات وبعض التصريحات ونشر بعض الوثائق السرية.
أما ما خفي فالله الله سبحانه وتعالى يظهره يوم تبلى السرائر.
صلة مصطفى كمال باليهود:
لقد كان مصطفى كمال على صلة وثيقة باليهود إن لم تزد عن صلته بالإنجليز فإنها لا تقل عنها، وقد خدم اليهود خدمة جليلة بهدم الإسلام في تركيا، وكذلك فإن صلاته باليهود مباشرة أكثر من أن تحصى وإليك نبذة عن العلاقة الوثيقة بهم:
1- أنه من مواليد سلانيك -بلد اليهود- وهذا يضع علامات استفهام كبيرة على نسبه ، وسلانيك كما مر بلد اليهود فيها مائة ألف من اليهود من مجموع سكانها البالغ مائة وأربعين ألفا(50).
2- هناك كثير من المؤرخين والكتاب يرجعون مصطفى كمال في نسبه إلى اليهود، فهم يقولون بأنه يهودي في عرقه ونسبه وعمله ، ومن هؤلاء سبير جعيبس (كاتب فرنسي مسيحي) في كتابه جمهورية إسرائيل العالمية ، وكذلك جبران شاميه وعبد الله التل في كتابه (الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام) وأنور الجندي في كتابه (العروبة والإسلام) ومصطفى صادق الرافعي في كتابه (وحي القلم) قال: اللفافة اليهودية في مخه(51).
3- وفي (شيشلي): بلدة تركية كان ضابطا بها يلازم يهود الدونمة(52).
4- في أغسطس سنة (1923م) أنشأ حزب الشعب الجمهوري يهود الدونمة والماسون(53).
5- لقد كان أحد أعضاء جمعية الإتحاد والترقي ومعظم أقطابها من اليهود كما يقول ستون وطسون: لقد كان مصطفى ماسونيا كما يؤكد هذا (الدكتور أرنست رامزر).
وقال بينوميشان: اعتنق مصطفى كمال الماسونية رسميا وانتسب إلى محفل (نيدانا).
وفي دائرة المعارف الماسونية: (فمن يماثل أتاتورك من رجاله الماسون)(54).(40/307)
ومن المعلوم أن الماسونية لافتة من لافتات اليهود وتعمل من خلالها أصابع خفية، فالماسونية شعارهم (الفرجار والزاوية وفي داخلها النجمة السداسية) نجمة داوود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وهو منهم براء وذلك رمزاً لإعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى الذي يحلم اليهود أن يتربع فوقه أحد أبناء داوود يدير العالم من فوق عرشه.
والماسونية وفروعها وقع في شباكها الكثيرون الذين يستخدمهم اليهود لتنفيذ أغراضهم وتحقيق أهدافهم.
ومن فروعها نوادي الليونز، الروتاري، بني برث، أبناء العهد.
7- لقد ارتفع شأن اليهود كثيرا أيام مصطفى كمال وولاهم إدارة البلاد وتوجيه دفة الحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والتنظيم، وعلى رأس هؤلاء (حاييم ناحوم أفندي) حاخام تركيا والذي انتقل بعد تدمير تركيا على يد أتاتورك إلى مصر واشتغل في تدميرها، وكان له القدح المعلى في إدارة مصر أيام عبد الناصر ولكن من وراء ستار.
وقد كشف ليفي أبو عسل في كتابه (يقظة العالم اليهودي (253-259)) عن علاقة مصطفى كمال باليهود وقال: إن الغازي قد فتح لليهود أبواب تركيا: (وفتح لهم أبواب تركيا على مصراعيه، وأنه اعتمد عليهم لتنظيم الجامعة التركية أي توجيهها وجهة معادية للإسلام والمسلمين، وقال المؤلف اليهودي: (وقبل مشروع العالم الشهير فيليب سوارشي الذي يرمي إلى إنشاء معقل عظيم للعلوم فيها، واستدعى ما ينيف عن أربعين أستاذاً من هؤلاء اليهود لتوسيع نطاق أقسام تلك الجامعة، من بينهم الاقتصادي الشهير (ريك) الذي كان له شهرة ومكانة عظيمة في كلية (ماربورج) ولا غرابة أن يبالغ هذا المؤلف اليهودي في تعظيم بني قومه، فهذا لن يغير في حقيقة اليهود المفسدين في الأرض الذين ما وضعوا يدهم في شيء ولا في قطر إلا خربوه.
(ويسعون في الأرض فسادا والله لا يجب المفسدين) (المائده: 64)
وقال إيلي ليفي مرة أخرى إن مصطفى كمال اهتزت جوانحه عطفا وحنانا على اليهود، ولذلك سمح لعدد كثير منهم بالدخول في تركيا والانتشار في جميع أنحائها، ثم قال عبارة أفهم منها احتمال كون مصطفى كمال من اليهود قال: على أن هذا القدر العظيم من المكارم التي أبداها نحو اليهود كان غريزياً في نفس مصطفى كمال فهذا الميل الغريزي إلى اليهود لا يكون إلا من يهودي.
ثم بالغ في مدح العميل الكبير قالا : (هذا المصلح الذي قلما يأتي الزمان بمثله) ولا يمكن أن يقول اليهود مثل هذا القول في مصطفى كمال جزافا ، ثم قال: نكتفي بالتلميح إلى ما كان بينه وبين صاحب الفضيلة أية فضيلة؟حاخام مصر الأكبر الحالي (حاييم ناحوم أفندي)، عندما تعين في الأستانة بأغلبية مطلقة، إذ حل محل الحاخام الأكبر (موشيه هاليفي) الذي مات شهيدا في جهاده.
ثم قال: إن حاييم ناحوم سمت مكانته وارتفعت منزلته في عين مصطفى كمال باشا والوزراء وغيرهم من ذوي الحل والعقد، وأخذت جميع أعماله تكلل بالنجاح والفوز.
ومن منجزاته إزالة القيود عن هجرة اليهود من تركيا إلى فلسطين، والمساهمة بإنشاء كلية الهندسة الإسرائيلية بحيفا، تسهيل إجراءات تمليك العقارات لليهود.
وأوفدته الحكومة التركية (مصطفى كمال) إلى لاهاي ممثلاً لتركيا، ومثل تركيا في مؤتمر لوزان، ثم أراد الغازي تعيينه وزيرا مفوضاً في واشنطن فاعتذر، وساهم في دعم نقابة الاستعمار الإسرائيلية في أنقره.
وانظر ما وصل إليه هذا الحاخام في عهد الغازي الدنيء الحقير، أب هذا السياسي المحنك والخطيب المصفع إلى الآستانة، وما كاد يطأ هذه الحاضرة الكريمة حتى توافد الناس على جانبي الطرق، وغصت الشوارع بالأهالي فاخترق الطريق بين الهتاف والتصفيق.
ونشرت صحف تركيا المقال، وطفقت تصنيف مناقبه ومآثره وتطنب في مدحه أيما إطناب، وتسجل له الثناء على تفانيه في نهضة تركيا، وقد لقبوه وقتها بمنقذ تركيا (55) .
فهل بقي أي فرق بين هذا الحقير الذي اسمه (مصطفى) وبين اليهود إخوان القردة والخنازير.
إن الانقلاب التركي سنة (1918م) الذي قام به الأخ العظيم مصطفى كمال أتاتورك أفاد الأمة، فقد أبطل السلطنة، وألغى الخلافة، وأبطل المحاكم الشرعية، وألغى الدين الإسلامي، وألغى وزارة الأوقاف..!!
أليس هذا ما تبتغيه الماسونية في كل أمة ناهضة، فمن يماثل أتاتورك من رجالات الماسون سابقاً ولاحقاً ؟(56).
8- لقد آذت الكمالية والاتحاديون من قبل كل الملل والقوميات إلا اليهود.
يقول الشيخ مصطفى صبري: (ولن تجد ملة أو قوماً خارج بلادنا وداخلها دامت مودة الاتحاديين والكماليين معهم إلا اليهود.
فلهذا لم يسلم من اعتدائهم في تركيا من بين ألبانها وعربها وأكرادها وأرمنها وأروامها وشراكسها وأتراكها إلا اليهود(57).
9- استمرت سيطرت اليهود على تركيا بعد موت مصطفى كمال، وقد جاء بعده عصمت إينونو.
وعصمت كما يقول عنه حاخام اليهودي (حاييم ناحوم): عصمت صديقي وطوع أمري ولا يخالف لي كلمة.(40/308)
وعندما حاول عدنان مندريس (رئيس الحزب الديمقراطي ورئيس الوزراء من (1950م-1960م)) أقول: عندما حاول أن يعيد بعض الشعائر الإسلامية -كإعادة الأذان بالعربية وحرية اللباس وحرية تدريس الدين، وتقارب مندريس مع العرب ضد إسرائيل، وفرض رقابة على الأدوية والبضائع التي تصنع في إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي سنة (1956م) ، بدأت الحملة اليهودية العالمية ضده وتولى (أحمد أمين بالمان) اليهودي العريق إشعال الفتيل وتأجيج المعركة في جريدته وطن وساعده أقطاب الدونمة في البلاد، وحرك اليهود الماسونية في الجيش، وتحرك الجيش بقيادة الجنرال الماسوني جمال جورسيل في مايو (1960م) وشنق عدنان مندريس.
وكتب الصحفي اليهودي (سامي كوهين) عن أسباب شنق مندريس في صحيفة (جوين كرونيكل) اللندنية قال: (لقد كان السبب المباشر الذي قاد مندريس إلى حبل المشنقة سياسته القاضية بالتقارب من العالم الإسلامي ، والجفاء والفتور التدريجي في علاقته مع إسرائيل).
10- عندما حاول سليمان ديميريل التقرب من العرب وتقليل العلاقة مع إسرائيل، واشترك في المظاهرة الإسلامية ضد إسرائيل في الرباط بعد حرق المسجد الأقصى حرك اليهود الماسونية في الجيش التركي ونحي دميريل من رئاسة الوزراء.
11- انتخب الدكتور نجم الدين أربكان الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة استانبول سنة (1968م) رئيساً للغرف التجارية والصناعية في تركيا، وبعد توليه هذا المنصب منع الاستيراد والتصدير إلى اليهود في فلسطين، فأقالته الحكومة من منصبه ظلما، فعمل على تشكيل حزب النظام، ثم حل هذا الحزب فشكل حزب السلامة.
12- وقف حزب السلامة في وجه اليهود وإسرائيل، فخطوط العال الإسرائيلية من استانبول لا يفتش ركابها والمخابرات الإسرائيلية (الموساد) تسرح وتمرح في تركيا، وللسفارة الإسرائيلية في أنقرة مركز كبير للتجسس.
وقام حزب السلامة بفضح اليهود ومهاجمة الحكومة التركية في مجلس النواب، لأن الحكومة قد اجتمعت مع اليهود اثنتي عشرة مرة، وبينوا دور اليهود في تخريب نظام التعليم، وإفساد أبناء المسلمين، وتدمير القيم والأخلاق.
وأخيراً قام الحزب بمظاهرة في (7) سبتمبر(1980م) ضمت أكثر من (150) ألفاً في قونيه وأحرقوا العلم الإسرائيلي، وهنا تحركت الأصابع اليهودية في داخل الجيش وأطاحت بالحكومة المدنية، وجاءت (بكنعان إيفرين) بعد المظاهرة بخمسة أيام (12 سبتمبر 1980م) لتوقف التيار الإسلامي وتحافظ على الخط الكمالي وتحفظ مصالح اليهود التي تمتص دماء الشعب التركي.
ومن اليهود المحيطين بمصطفى كمال (رشدي آراس) وزير خارجيته، وكذلك (جاويد) أوبا (فيد) واليهودي (حسين جاهد) وكذلك (يونس نادي)، وهو من رجال الصحافة الذين أشهر الغازي اسمهم، وبقي يواجه الجمهور التركي من خلال الصحافة لفترة طويلة.
ومن المقربين لديه من اليهود (حينا صفت) صفوت، وكان أحد الثلاثة المقربين إليه وكان سكرتيراً لحزب الشعب الحاكم.
وكذلك من اليهود (ماترسالم)، وكان أحد أعضاء بنك (سلانيك) في استانبول، وكان يقوم بامتصاص الاقتصاد التركي وبإدارة الجو السياسي وتيسيره.
ومن المقربين لديه عشيقته العاهرة اليهودية (خالده أديب) وزيرة المعارف عنده، وكان أتاتورك يتفاءل بالنصر إذا حضرت..!!
وكان قبل مسرحية معركة (أفيون) وقونيه غائبة فأبرق لها بالحضور فوصلت فأيقن من الانتصار..!!
وأما زوجته فهي (لطيفه هانم) ابنة أحد الأغنياء، وفي أزمير الذين كانوا على صلة كبيرة مع اليهود أزمير، وكانت تلميذة لليهودية (خالدة أديب).
ومن اليهود المشهورين (موئير كوهين الذي سمى نفسه تكين ألب وهو أستاذ (ضياكوك ألب) عمل في الصحافة في أنقرة ابتداء من سنة (1922م).
أصبح سنة (1946م) عضواً في المجلس الإقليمي لحزب الشعب الجمهوري في استانبول، وفي سنة (1948م) أقيم احتفال العيد الفضي تكريماً لثلاثة كتاب يهود، منهم هذا ومات سنة (1962م) وأقامت جمعية التراث التركي اجتماعاً لتأبينه حضرها ابنه (إسحاق كوهين)، وكتب موئير ثلاثة كتب (سياسة التتريك) سنة(1928م) وكتاب (لكمالية) سنة (1936م) وكتاب (الروح التركية).
ومن أقوال كوهين المشهورة: (إن الذي يمثل الكمالية ليس بإنسان فقط بل هو فوق الإنسان)(58).
(إن الكمالية وجهت حملتها الأولى نحو حكم الدين وقد انهارت هذه السلطة الغاشمة بضربة واحدة وجهها إليها أتاتورك).
(إن رب الكمالية الذي عبدته منذ البداية هو: القومية).
(قبل البدء بالبناء لا بد من تسوية الساحة التي يملوها عقبتان رهيبتان هما الدين والخلافة فلتسقط حكومة التشريع).
وثيقة السفير البريطاني (لاوزر) سنة (1910م)
حول العلاقة بين الاتحاديين واليهود والماسونية
هذه الوثيقة السرية هي أصلاً رسالة سرية جداً أرسلها السفير البريطاني في قسطنطينية(السير جبرار ولاوزر) بتاريخ (29/5/1910م) إلى وزير خارجية بريطانيا (السير ش.هارونج) وتحوي معلومات دقيقة حول العلاقة بين جمعية الإتحاد والترقي واليهود والماسونية.(40/309)
وهذه الوثيقة السرية كشف عنها النقاب في بريطانيا حديثاً، وقد نشرتها مجلة(المجتمع الكويتية)ابتداء من (25/12/1978م) في الأعداد (425،429) نقلا عن مجلة آفاق العراقية نقتطف منها الأجزاء الأهم :
في مدينة سلانيك مائة وأربعون ألفاً ، منهم ثمانون ألف نسمة يهودي من أصل إسباني (أي هربوا من إسبانيا) (000،20) يهودي من سبط (لاوي) أو من يهود المتظاهرين بإسلام (دونمه).
ومعظم اليهود الإسبان يتمتعون بالجنسية الإيطالية ، وهم ماسونيون ينتمون إلى المحافل الإيطالية ، فهم لذالك يتمتعون بالحصانة الممنوحة للأجانب في الدولة العثمانية ضد الملاحقة والتفتيش.
أسس اليهودي (قره صو) قبل بضعة أعوام في سلانيك -بالتعاون مع الماسونية الإيطالية- محفل (ماسيدونيا روزيتا) ، وأقنع رجال تركيا الفتاة ضباطاً ومدنيين بالانتماء إلى الماسونية، وهدفه فرض النفوذ اليهودي على الأوضاع الجديدة في تركيا.
- يظهر أ ن المخططين لحركة تركيا الفتاة في سلانيك كانوا بالدرجة الأولى من اليهود.
- بعد ثورة (1908م) بقليل أصبح من المعروف بأن عدداً كبيراً من قادتها كانوا من الماسونيين.
- جميع اليهود على الإطلاق كانوا مؤيدين متحمسين للعهد الجديد.
- أصبح كل يهودي جاسوساً لجمعية الإتحاد والترقي.
- بدأ الناس يقولون: إن الحركة يهودية أكثر منها تركية.
- عينت إيطاليا اليهودي (بريموليفي) قنصلاً عاماً في سلانيك، وعينت الولايات المتحدة (أوسكار شتراوس) سفيراً لها في قسطنطينية، وكان شتراوس بالتعاون مع (جاكوب شنب) قد أثر على يهود الولايات المتحدة ليهاجروا إلى العراق ، معنى ذلك أن شتراوس يهودي.
- العقيد اليهودي الدونمه (رمزي بيك) كان قائد الأفواج الأربعة التي أرسلت خصيصاً من سلانيك إلى القسطنطينية ، وقد عينه رئيساً لأركان حرب السلطان (محمد الخامس)، وعندما خلع السلطان (عبد الحميد) واعتقل في سلانيك عين أخ لرمزي بيك مشرفاً على السلطان في سجنه.
- أعلن المؤتمر الصهيوني التاسع المنعقد في هاسبورج في شهر كانون الأول سنة (1909م) أن انقسام اليهود إلى صهيونيين ودعاة للهجرة إلى مناطق أخرى غير فلسطين قد انتهى بفضل (معجزة الثورة التركية) بمعنى أن فلسطين أصبحت مضمونة بلا شك.
- بعد خلع عبد الحميد أعلنت الأحكام العرفية لمدة سنتين، وكان معظم الضباط في المحاكم العرفية ماسونيين.
- مدير المطبوعات في الدولة يهودي من سلانيك وله سلطة إيقاف أي جريده.
- وكالة الأنباء التلغرافية -التي تقدم رأي الإتحاديين في الأحداث الداخلية والخارجية- مديرها يهودي من بغداد.
- رئيس الفرع الرئيسي لجمعية الإتحاد والترقي في القسطنطينية يهودي من سلانيك.
- مديرية الأمن العام في الدولة بيد ماسوني من سلانيك.
- في مقدونيا والقسطنطينية ظهر خلال العام الماضي (1909م) اثنا عشر محفلاً ماسونياً جديداً .
- أفهم الموظفون وغيرهم -من ذوي المناصب المهمة- أن مناصبهم وموارد رزقهم تتوقف على دخولهم في المحافل الماسونية.
- لكي تشدد الجمعية قبضتها على الجيش أدخل عدد كبير من الضباط -وخاصة من ذوي الرتب الصغيرة- في محفل ماسوني يسمى (ريسنا) بلد نيازي بيك ، ويرأس المحفل أخوه النقيب (عثمان فهمي بك).
- دخل في الماسونية معظم نواب الجمعية في مجلس المبعوثات والأعيان في المحفل الذي يسمى (الدستور) وكان من كبار رؤسائه طلعت.
- نواب المعارضة وخاصة العرب بدأوا ينشئون لهم محافل خاصة بهم مثل (محفل التآخي العثماني) (أصدقاء الحرية) أو ينضمون إلى المحافل القائمة.
- طائفة البكتاشية تفشت بينهم الماسونية.
- في المدة التي بين (1909م-1910م) أنشئت المحافل الماسونية التالية: (الوفاء الشرقي، نهضة بيزنطة، الأصدقاء الحميمون للإتحاد والترقي، الحقيقة، الوطن، النهضة، وفرع من محفل (نهضة مقدونيا)، (الفجر)، ويبدوا أن جميع هذه المحافل الماسونية -مثل شبكة المحافل الماسونية في سلانيك ومقدونيا- كان يقودها أو يخطط لها اليهود.
- الأمير المصري سعيد حليم وأخوه الأمير عباس حليم والأمير عزيز حسن ماسونيون.
- إدريس بيك راغب -رئيس المحفل المصري الأعظم- هو المؤسس والمهيمن على عدد من المحافل الماسونية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان.
- عدد كبير من الروم الكاثوليك في لبنان ماسونيون.
- محمد أورفي باشا أسس عدداً من المحافل الماسونية في مصر والقدس وجنوب سوريا.
- يوسف بيك السكاكيني من زعماء الماسون.
- الزعيم الوطني المصري (محمد فريد) ماسوني كبير عين ممثلاً في مصر لمحفل الشرق العثماني الأعظم وأقيمت حفلة التنصيب في محفل ماسوني في (طنطا).
- حاييم ناحوم حاخام الطائفة اليهودية الأكبر الجديد في تركيا كان زميل دراسة لعدد من أعضاء جمعية أعضاء الإتحاد والترقي البارزين.
- طلعت وجاويد يمثلان قمة الماسونية في تركيا، وطبعاً جاويد يهودي.
ومنذ أن أصبح طلعت وزيراً للداخلية -قبل حوالي سنة- عمل على نشر شبكة الماسونية في جميع مناطق الدولة ، وأخذ يسند إلى الماسونية الوظائف الكبرى في الأقاليم.(40/310)
- قال (لاوزر) يتبين من هذا أن الحكومة الخفية لتركيا إنما هي محفل الشرق الأعظم الماسوني وعلى رأسه الأستاذ الأعظم (طلعت بيك).
- الماسونية تمد نشاطها من تركيا إلى إيران، وجمعية الإتحاد والترقي الماسونية وراء الإنقلاب الذي وقع في إيران ، ويدور الحديث الآن حول البدء بإنشاء محفل الشرق الماسوني في إيران، و (فرح الله خان) القائم بأعمال السفارة الإيرانية الجديدة في القسطنطينية انضم إلى الماسونية حديثاً.
- يهتم اليهود أعظم الاهتمام بالاحتفاظ بنفوذهم المطلق في مجلس وزراء تركيا الجديدة.
- يهتم اليهود أعظم الاهتمام بإيقاد شعلة الفرقة والخصام بين الأتراك وبين خصوم اليهود المحتلين.
- الممولون اليهود يرحبون بتقديم القروض للعهد الجديد في تركيا مقابل مكاسب اقتصادية.
- اليهود نفوذ هائل في الصحافة الأوروبية.
- اليهود يسعون إلى تحقيق أهداف إسرائيل العليا في المستقبل.
- قد أحكم اليهود سيطرتهم على هؤلاء الأتراك الشبان.
- اليهود يمولون جريدة (تركيا الفتاة) وعدداً آخر من الجرائد في القسطنطينية.
- الممولون الأوروبيون -ومعظمهم من اليهود- يزودون تركيا الآن بالمبالغ المطلوبة.
- جمعية الإتحاد والترقي الماسونية تشجع الثوريين اليهود والأرمن على تفجير القلاقل والاضطرابات والتوازن في روسيا القيصرية.
- أعضاء جمعية الإتحاد والترقي يقلدون الثورة الفرنسية في أساليبها بتوجيه من اليهود.
- اليهود يزينون للأتراك الالتقاء مع الهنغاريين (المجر) بدافع القومية الطورانية، لأن المجريين من أصل طوراني.
وجميع هذه المعلومات حصلنا عليها من ماسونيين محليين في سرية تامة.
انتهت وثيقة السفير البريطاني (لاوزر) التي كتبها سنة (1910م)
حكم مصطفى كمال لتركيا
1- يكاد المتتبع لتاريخ مصطفى كمال يجزم أن هذا الرجل وحده حكم تركيا حكماً مطلقاً لا ينازعه فيه أحد ، حكماً دكتاتورياً يقوم على السحق والإبادة والدماء والأشلاء.
يقول أتاتورك لعشيقته اليهودية خالده أديب: إن النظام الناجح في نظم الحكم هو حكم الرجل الواحد المطلق اليد.
سوف أجعل كل إنسان ينفذ رغباتي ويطيع أوامري، ولن أقبل نقداً أو نصيحة.
سأسير في طريقي الخاص وسوف تنفذون أنتم جميعاً ما أريده دون منقاشة(59) ، وطلب من مجلس النواب -عندما كان اليونان يهددون أنقرة- أن يعينوه قائدا ويزودوه بكل سلطات الحكام المطلق(60) .
2- استعمل البطش والإرهاب وسيلة لإخماد أنفاس الناس (شنق خمسة وعشرين من الضباط)(61) .
3- عندما عرض قضية فصل السلطة عن الخلافة عارض النواب فقال: إن السلطنة يجب أن تفصل عن الخلافة وتلغى ، وسواء وافقتم أم لم توافقوا فسوف يحدث هذا ، كل ما في الأمر أن بعض رؤوسكم سوف تسقط في غضون ذلك ، ثم أعلن النتيجة بإجماع الآراء قررت الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا إلغاء السلطنة، وصاح النواب هذا كذب ولكنه لم يأبه لأحد(62).
4- ألغى الحصانة عن النواب وفرض الرقابة على الصحف وحل مجلس النواب، عندما اشتدت المعارضة وانتخب مجلساً جديداً، ولكن المجلس جاء أكثر معارضة، وهنا كانت معاهدة لوزان لإنقاذه من الموقف المتأزم ، وقد استمرت مفاوضات لوزان ثلاثة أشهر (نوفمبر (1922م) إلى فبراير (1923م)، وكانت الشروط في لوزان قاسية جداً دفع فيها الشعب التركي أثمن ما لديه من كنوز وهو الإسلام والخلافة، ولكن الذي أعلن هو خروج أخر جيوش الاحتلال الإنجليزية من العاصمة وذيولها بين ساقيها.
5- أعلن الجمهورية بعد مؤامرة حاكها مع أصحابه وكان يرى وجوب اقتلاع سيطرة الدين من تركيا، ثم ألغى الخلافة وأقر قانوناً يقضي اعتبار كمعارضة للجمهورية وكل ميل إلى السلطان المخلوع خيانة يعاقب عليها بالموت.
6- وفي (3) مارس سنة (1964م) تقدم بمشروع إلغاء الخلافة وطرد الخليفة، وفصل الدين عن الدولة وإلغاء المحاكم الدينية العتيقة وقوانينها ليحل محلها محاكم وقوانين عصرية، وإلغاء المدارس الدينية ليحل مكانها مدارس حكومية علمانية.
وفي اليوم الثاني أصدر أمراً بطرد الخليفة وجميع الأمراء والأميرات ورحلوا خارج البلاد(63) .
7- بعد إلغاء الخلافة أصبح الفقر يعم البلاد، فقد قل الطعام وازداد الغلاء وشحت النقود، واختفت البضائع من الأسواق، وانهارت البيوت والمزارع على أصحابها، وماتت الماشية لقلة العلف، وأتلف الجدب أكثر الحاصلات الزراعية، وصارت الحياة عبئاً لا يطاق بعد أن بلغت الفاقة والعوز حداً لم يسمع بمثله من قبل(64).
8- هنا تجرأ بعض النواب المعارضين وشكلوا حزباً اسمه التقدميون الجمهوريون برئاسة (رؤوف) حاكم اسطنبول.
وعندما هاجم أحد النواب واسمه (الكولونيل خليل) عصمت إينونو قتل في نفس المجلس.
وهاجم (علي شكري) سياسة مصطفى كمال فخنقه عثمان آغا -رئيس حرس أتاتورك- وألقى جثته في العراء، وفضح الأمر وتحرج الموقف فأقال أتاتورك عصمت إينونو من رئاسة الوزراء وعين فتحي أوقيا.(40/311)
ولكن المعارضة ازدادت شدة، وهنا تحركت بريطانيا لإنقاذ عميلها أتاتورك، فأرسلت إنذاراً بشأن امتلاك الموصل، وجاءت ثورة الأكراد فصاح إن البلاد في خطر، وأثار حمية الأتراك ضد الإنجليز والأكراد وألقى القبض على ستة وأربعين من زعماء الأكراد -منهم الشيخ سعيد- وشنقهم، ثم اتهم حزب الجمهوريين التقدميين بالاتصال بالإنجليز، وكون محكمة الاستقلال وأمرهم أن يحكموا بالإعدام على معارضيه السياسيين -وخاصة الباشوات الأربعة العسكريين- فأصدرت حكمها عليهم جميعا بالشنق.
وكذلك عصابة أنور من أعضاء الإتحاد والترقي القدماء، فأصدرت حكمها عليهم جميعاً بالشنق ووقع أتاتورك على أحكام الشنق -ما عدا الباشوات الأربعة العسكريين- وأطلق سراحهم بعد أن لطخ سمعتهم، وصار مصطفى كمال الحاكم لأمره في جميع أنحاء البلاد.
9- بعد أن تخلص من خصومه واصل تدميره للإسلام والبلاد ففرض القبعة -التي كانت رمز الكفر في نظر الأتراك- فعارضها الأتراك، فنصب المشانق في ميادين المدن، وكأنها مراجيح الأطفال في أيام الأعياد، وقال شاهد عيان: كنت أمر من الميدان الذي يتدلى فيه المشنوقون ولا أستطيع أن أنسى مناظر اللحى البيضاء على الوجوه الميتة وهي تلف مع الريح(65).
10- ثم استورد القوانين الوضعية الأوروبية، فاستدعى الخبراء الأجانب ليضعوا القوانين الجنائية والمدنية والتجارية المأخوذة من القوانين الإيطالية والسويسرية والألمانية على الترتيب(66).
11- رفع راية القومية التركية وأعادوا عقائد الترك الوثنية القديمة مثل عبادة الذئب الأبيض (بوزقورت) الذي صوره على طوابع البريد، ووضعوا له الأناشيد وصاروا في المدارس يعتبرون جنكيز خان كإله، وكتبت عشيقته اليهودية (خالدة أديب) كتاباً سمته طوران الجديدة، وكتب موئيز كوهين (تكين ألب) اليهودي كتاب (الكمالية والروح التركية) وقال: إن رب الكمالية الذي عبدته منذ بدايتها هو القومية.
وكذلك الشاعر القومي (ضياكوك ألب) الذي كان يقول: أنا أنتمي لثلاث: الأمة التركية والأمة الإسلامية والحضارة الأوروبية.
12- ثم ألغى الحروف العربية التي يكتب بها الأتراك والتي كتب بها التراث الإسلامي كله من فقه وحديث وتفسير وتاريخ، وأرغمهم على الكتابة بالأحرف اللاتينية حتى يفصلهم نهائياً عن دينهم وتراثهم.
وحددوا يوماً ليعاقب بعده كل من لم يتقن الحروف اللاتينية من حرمان وظيفة وتجريد جنسية وطرد من البلاد وسجن(67).
13- منع تعدد الزوجات، وقرر المساواة بين الرجال والنساء في جميع الحقوق والواجبات، وإنشاء مدارس الفنون للشباب والشابات، ومدارس لتعليم الرقص الشرقي والغربي، ومنع الحجاب، وأخرج المرأة من بيتها وأدخلها في مناصب الدولة، وأنشأ المسارح المختلطة، وشجع الحفلات الراقصة.
14- حول المسجدين العظيمين -أيا صوفيا ومسجد الفاتح- إلى متحفين.
15- أنشأ مزرعة نموذجية فيها الأبقار والخنازير يتحدى كل القيم الإسلامية.
16- نصب تماثيله في كل مكان.
17- ألزم الناس الأذان باللغة التركية وألزمهم تلاوة القرآن الكريم باللغة التركية لا بالعربية، وسمع مرة أذان الفجر من مسجد مجاور فأمر بهدم المأذنة.
18- أدخل التقويم الجريجوري الغربي محل التقويم الهجري.
19- ألغى عيد الفطر والأضحى.
20- جعل يوم الأحد هو العطلة الأسبوعية بدل الجمعة.
21- منع الحج، ومنع الحجاب(68).
وخلاصة القول لقد كان يحكم وكأنه ليس في تركيا أحد.
كان يقول: أنا تركيا وتركيا هي أنا، أنا رئتها التي تتنفس بها، فكل محاولة لتدميري هي محاولة لتدمير تركيا(69).
وهكذا استمر يدمر تركيا ويمسح عن وجهها هذا الدين -الذي رفعها- لتحكم خمسة قرون متتالية أراض لا تغيب عنها الشمس، وواصل تدميره لكل الأعمدة التي أقيم عليها صرح هذه الدولة المسلمة الشامخ إلى أن أصبحت تركيا في ذيل قافلة الرقيق، وفي كل مناحي الحياة.
حياته الخاصة:
إن إغراق مصطفى كمال في شهواته هو العنوان البارز لحياته، ويمكن تلخيص حياته في ثلاث كلمات: النساء، الخمر، وجنون العظمة.
1- فقد زنى وهو في سن الرابعة عشر في بنت الجيران.
2- حيثما ذهب وأينما حل تجده بين الحانات والملاهي التي تغص بالعاهرات وتتدفق بالخمور والمشروبات، ففي دمشق هذه حياته وفي سلانيك قلما كنت تراه إلا في الكازينوهات (أوليمبوس بالاس ويونيو كرستال).
وفي صوفيا -عاصمة رومانيا- كان ملحقا عسكريا تفرغ للفسق والخمر حتى الصبح، وفي حلب وفي أنقره وفي مدرسة الزراعة في أنقره أسكن العاهراة (خالده أديب) مع زوجها بجانبه، حيث اللقاءات معها(70).
2- كانت فلسفته في الحياة على الفرد والأمة أن لا تدع النشوة والفرح أن تفلت من يديها(71).
3- ولشدة شربه للخمر المسمى بالعرق كانت الأوردة الشعرية ظاهرة على وجنتيه وعلى وجه خاصة، وأصبح أحمر كالطماطمه.
وبعد أن أصبح رئيساً للجمهورية سكر وعربدة وفسق بالنساء والولدان، وقال زميله رضا نور: أنه أصيب بمرض السيلان وأمر بإزاحة الستائر عن نوافذ بيته حتى يراه الناس وهو يشرب الخمر(72).(40/312)
4- كان له سماسرة لاختطاف الفتيات وقوادين لإحضار النساء، منهم جواد عباس ووزير خارجيته توفيق رشدي، الذي جعل بيته في أنقرة (ماخورا ) لأتاتورك.
ومن عشيقاته (صالحة) التي قدمها زوجها إلى أتاتورك، و (فكرية) والبروفسورة (أفة) التي عشقها أربعة عشر عاما -دون انقطاع- فسميت العشيقة الدائمة، والبلغارية الجميلة التي قدمها زوجها المحامي لطفي إلى الغازي نظير الحصول على بعض الإمتيازات في (مشروع بارون) وبنت (مفيد بك).
وكذلك خليل باشا الذي قدم زوجته لأتاتورك نظير الحصول على امتياز للبترول، فأعطاه أتاتورك (3000) ليره مصاريف جيب(73).
5- اتخذ مجموعة من العاهرات الفاتنات كخدامات دائمات في القصر وسماهن (بناته بالتبني).
والآن يقلده بعض الثوريون بتجميع حشود الساقطات في القصر الجمهوري اللتي يسموهن (راهبات الثورة).
ولو أردنا أن نستطرد في هذا الموضوع لاستغرق ذلك منا وقتا طويلا وصفحات كثيرة، والخمر والنساء قد سببت له أمراضا كثيرة فأصبح جسده ينحل ويضعف يوما بعد يوم.
مرضه وموته:
لقد أصيب بمرض الكبد - بسبب الكحول التي في الخمر- وأصبح الماء يجتمع في بطنه باستمرار، وصار يثور بسرعة عجيبة وضعفت ذاكرته وصار الدم ينزف من أنفه بلا انقطاع وأصيب بالأمراض الجنسية، وصار يحك بين فخذيه باستمرار.
كانت المياه القاتلة في جوف الكبد تتجمع فيسحبونها بالإبر، انتفخ بطنه وتورمت قدماه.
صار يضعف يوما بعد يوم ويستطيل وجهه ويختفي الدم منه ويبيض بياض العاج، ثم صار عاجزاً عن الحركة بمفرده(74)
وفي أثناء مرض الموت استدعى أتاتورك السفير البريطاني (لورين) ليوصي له برئاسة الجمهورية التركية.
ويحدث الأتراك عن العذاب الذي كان يعاني منه أثناء مرضه العجب العجاب.
(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) (السجدة: 12)
(لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون) (فصلت: 16)
كان يصيح صياحا يخترق شرفات القصر الذي يقيم فيه (دولمة باغجة) في القسطنطينية(75).
وأصبح جلدا على عظم، وبقي يذوب ويصغر ويتفتت حتى يتحول إلى فضلة امتص ماؤها.
كان وزنه عندما مات (48) كغم فقط، سقط طاقم أسنانه، فمه يكاد يصل إلى حاجبيه، أوصى أن لا يصلى عليه صلاة الجنازة، وفي يوم الخميس (10) نوفمبر سنة (1938م) الساعة التاسعة وخمس دقائق رحل أتاتورك من الدنيا ملعوناً في السماء والأرض.
(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) (الدخان: 29)
رحل بعد أن دمر تركيا ودمر الإسلام ومزق الأسرة وحطم الأخلاق وداس القيم وانتهك الشعائر وحول المساجد إلى مخازن للحبوب.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) (الأنعام: 93-94)
يقول عرفان أوركا: (إن أتاتورك قد اقتنع بأن كفاحه يجب أن يوجه إلى الدين وكان يعتقد من صغره أن لا حاجة إلى الله، وكان يقول: إن قوة العقل والإرادة تتغلبان على قوة الإله، وكان في آخر عهده يرفع قبضته ويشير إلى السماء ساخرا مهددا )(76).
تركيا بعد أتاتورك..؟؟
1- مات أتاتورك بعد أن خلف تركيا قفراً بلقعاً، وكانت أعماله محط أنظار الغرب فعض الغرب على إنجازاته التدميرية بالنواجذ، وجيء بنائبه عصمت إينونو ليصبح رئيساً للجمهورية، فاعترف بإسرائيل سنة (1948م)، وبدأت أمريكا فيها القواعد العسكرية.
2- ثم أراد الغرب أن يسبر غور التجربة الكمالية في الشعب التركي فأجبروا عصمت إينونو على إنشاء الأحزاب السياسية، فاختار إينونو (جلال بايار) وكلفه بتشكيل الحزب المعارض والحزب الديمقراطي، وكان يساعد جلال بيار عدنان مندريس فأصبح عدنان قطب الرحى في الحزب.
3- ويشاء الله أن تحصل في هذه الفترة حادثة عجيبة لعدنان مندريس حينما كان ذات مرة يركب طائرة توقف أحد محركاتها وأعلن الربان حالة الخطر، فعاهد مندريس ربه لأن أنجيتني لأعيدن الإسلام إلى تركيا واحترقت الطائرة وكان الشخص الوحيد الذي نجا هو مندريس.
4- دخل الحزب الديمقراطي سنة (1950م) الانتخابات ببرنامج عجيب توقعت له كل الدراسات الأمريكية الفشل المطلق.
كان برنامجه لا يتضمن أكثر من عودة الأذان باللغة العربية، والسماح للأتراك بالحج، وإعادة إنشاء وتدريس الدين بالمدارس، وإلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة.
فإذا كان التقدم يأبى أن تفرض الدولة الحجاب على المرأة فإن التقدم يتنافى أيضاً مع فرض الدولة العري عليها وإعادة (أيا صوفيا) مسجداً كما كان طوال خمسة قرون(77).(40/313)
ويبدوا أن عدنان مندريس كان صادقاً في اتجاهه نحو الإسلام بعد أن وجد السير على طريق (أتاتورك) وخليفته يؤدي إلى تدمير تركيا، وقد بنى دعايته الإنتخابية على أساس العودة التدريجية إلى الإسلام كمصدر أساسي لقوة الشعب التركي المتدين(78).
5- فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة مذهلة، سقط حزب أتاتورك إلى اثنين وثلاثين نائباً، وفاز الحزب الديمقراطي بثلاثمائة وثمانية عشر مقعداً، وكانت دهشة اليهودية العالمية والماسونية عظيمة حين اكتسح مندريس خليفة أتاتورك، ويومها صاح إينونو قائلا : لقد انتصر عدنان مندريس بدعايته الدينية.
وتسلم عدنان مندريس مقاليد الحكم رئيساً للوزراء، وجلال بايار رئيساً للجمهورية، وشرع لتوه ينفذ وعوده التي بذلها للشعب أثناء عملية الإنتخابات(79).
واستجاب مندريس لمطالب الشعب فعقد أول جلسة بمجلس الوزراء في غرة رمضان، وقدم للشعب هدية الشهر الكريم: (الأذان بالعربية وحرية اللبس وحرية تدريس الدين وبدأ بتعمير المساجد).
وجاءت انتخابات عام (1954م) وهبط نواب حزب أتاتورك إلى (24) نائبا، وسمح بتعليم اللغة العربية وقراءة القرآن وتدريسه في جميع المدارس حتى الثانوية وأنشأ عشرة آلاف مسجد، وأنشأ اثنين وعشرين معهداً في الأناضول لتخريج الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين، وسمح بإصدار مجلات وكتب تدعو إلى التمسك بالإسلام والسير على هديه، وأخلى المساجد التي كانت الحكومة السابقة تستعملها مخازن للحبوب وأعادها أماكن للعبادة.
وتقارب مندريس مع العرب ضد إسرائيل، وفرض الرقابة على الأدوية والبضائع التي تصنع في إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي سنة (1956م)، وفتح (35) ألف مدرسة لتحفيظ القرآن.
6- تحركت اليهودية العالمية ضد مندريس، وخاصة الصحفي اليهودي (أحمد أمين يالمان) -صاحب جريدة وطن- وحركت أمريكا والدول الغربية الماسونية في الجيش، فقام الجنرال الماسوني (جمال جورسل) سنة (1960م) بانقلاب وشنق عدنان مندريس، وفطين زورلو، وحسن بلكثاني(80).
وكتب الصحفي اليهودي سامي كوهين: لقد كان السبب المباشر الذي قاد مندريس إلى حبل المشنقة سياسته القاضية بالتقارب مع العالم الإسلامي والجفاء والفتور التدريجي في علاقتنا مع إسرائيل، ثم ضرب حزب العدالة.
4- في سنة (1965م) أجريت انتخابات مرة أخرى ربح فيها حزب العدالة بأغلبية ساحقة، وكان رئيسه سليمان ديميريل، وقال إينونو: أنا لم يهزمني ديميريل... بل هزمتني جماعة النور أتباع الشيخ سعيد نورسي.
وحصل حزب العدالة على (263) مقعداً من (450) مقعداً، وضاعف ديميريل مدارس الأئمة إلى (72) ومدارس تحفيظ القرآن إلى اثنتي عشر ألف مدرسة، وتقرب للعرب وفترت علاقاته مع إسرائيل واشترك بالمظاهرة الإسلامية ضد إسرائيل في الرباط، فتحركت أمريكا ومن ورائها اليهودية العالمية وحركت الجيش وجاء انقلاب عسكري نحي فيه ديميريل عن الحكم، ولكن لم يعدم بسبب أنه ماسوني.
8- تزداد الديون على تركيا يوماً بعد يوم بالإضافة إلى أن نسبة التضخم بلغت (42%-60%) سنة (1970م) والبطالة (20%) والديون كانت سنة (1970م) (21) مليار دولار، وفي سنة (1979م) أصبحت (71) مليار.
واستسلمت الحكومة للبنك الدولي وخفضت فيمة الليرة التركية إلى (8) مرات وفي سنة (1980م) ارتفعت نسبة الربا إلى (30%) أعلى نسبه في العالم (81).
9- ظهر حزب السلامة الوطني الإسلامي سنة (1972م) يقوده الدكتور (نجم الدين أربكان) الحاصل على دكتوراه من جامعة ألمانيا، والتف كثير من الشباب التركي حول هذا الحزب، ووقف الحزب ضد الغرب الصليبي بزعامة أمريكا، فطالب بالخروج من حلف الأطلسي وتحرير تركيا من القواعد الأمريكية، ووقف ضد إسرائيل، واليهود وعارض انضمام تركيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، وطالب بإرسال كتائب من الجيش التركي لمساعدة المجاهدين الأفغان، كما أرسلت الحكومة جيشاً يحارب مع أمريكا في كوريا.
10- تشكل حزب السلامة سنة (1972م)، وفي سنة (1972م) دخل الحزب المعركة الانتخابية وفاز بثمانية وأربعين مقعداً ، وشارك في الحكم مع حزب الشعب الذي يرأسه أجاويد، وشرط أربكان أن يكون هو نائباً لرئيس الوزراء وأن يكون له ثمانية من الوزراء في الحكومة التركية.
وبدأ الحزب يحاول إعادة تربية الأتراك على الإسلام، ففتح أبواب الحج للشعب فبلغ عدد الحجاج (150) ألف سنوياً، وهذا رقم خيالي بالسنة لما سبق.
11- افتتح الحزب (3000) مركز لتعليم القرآن في القرى و (300) مدرسة لإعداد الأئمة والخطباء، ووضع خطة لإنشاء جامعة إسلامية، والتحق بمدارس الأئمة والخطباء ما يقرب من مائتي ألف طالب، وقد كان الشخص الذي يؤدي الصلوات الخمس يحرم من الوظيفة حتى وظيفة الحاجب، وبفضل الله ثم بجهود حزب السلامة أصبح نصف الولاة يجاهرون بأداء الصلوات الخمس، وطالب الحزب بجعل العطلة الرسمية يوم الجمعة بدل الأحد، وبإجراء عقود الزواج حسب الشريعة وبتعليم القرآن واللغة العربية في المدارس.(40/314)
12- وسيطر الحزب على الإتحاد العام لطلبة تركيا، وهذا الإتحاد تتبع له ست وتسعون جمعية، وتضم مائة وخمسون وثلاثون ألف طالب، وفي ذكرى فتح القسطنطينية يتجهون إلى مسجد (أيا صوفيا) -الذي حوله أتاتورك إلى متحف- ويصلون فيه، للحزب مطبعة ومخيم دائم للصيف، ويقول (أحمد سازفيا) رئيس الإتحاد أول أهداف الإتحاد هو أن نجعل الإنسان التركي بعيداً عن الجاهلية.
ولحزب السلامة جريدتان يوميتان (ملي جازينا) ويوزع منها مائة ألف يوميا ويني دوير (الدور الجديد)، ويوزع منها (15) ألف يوميا.
ويصدر المجلات التالية:
1- إسلام. 2- هجرت (ألمانيا). 3- ماورا (أديبة). 4- أدبيات. 5- جل رستا (باقة الزهر). 6- اقتباس جمع الأخبار. 7- سلام.
المجلات الممنوعة من الدولة:
1- التوحيد منعت عام (1979م).
2- الشورى منعت عام (1978م).
3- هجرت. 4- اكنجلا (سرية). 5- تبليغ. 6- أديم معناها (خطوه). 7- حركة، السبيل.
ومن الجرائد اليومية الممنوعة بوكون (يعني اليوم).
منهاج التربية:
1- تربية فكرية.
2- تربية أخلاقية (روحية).
3- تربية بدنية.
13- رفع الحزب شعار لكل مدينة مصنع، وأنشأ مائتي مصنع للصناعات الثقيلة، وصنع محركات لطائرات الجامبو.
14- في (7/9/1980م) عمل الحزب مظاهرة تحت شعار يوم إنقاذ القدس، وحرق العلم الإسرائيلي وطالب بإقامة دولة إسلامية وحكم الشريعة الإسلامية، وهنا حركت أمريكا الجيش التركي وأقام كنعان إيفرين الإنقلاب الأمريكي في (12/9/1980م).
فقد نشرت الأهرام القاهرية في (13/9/1980م) في واشنطن صرح متحدث باسم الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة أبلغت بالانقلاب قبل وقوعه.
كما صرح بعض المسؤولين الأمريكيين أن هناك مخاوف متزايدة من قيام حكم إسلامي وبصورة تتعارض مع خط الزعيم التركي (أتاتورك) الذي أرسى دعائم الدولة العلمانية في تركيا، فالانقلاب التركي أنقذ تركيا من دولة علمانية إلى دولة تحكمها التقاليد الدينية الإسلامية(82) ومدح واينبرغر إفرين وزمرته وأعطوا تركيا سبعمائة وثلاثة ملايين دولار.
15- اعتقل إيفرين أربكان ورجال حزب السلامة، وافتتح عهده بوضع إكليل من الزهور على قبر أتاتورك، واعتبر إيفرين وحكومته عام (1981م) هو عام أتاتورك.
16- منع إيفرين الملتحين من البقاء في الجامعات خاصة أكاديمية (سكاريا) ومنع الحجاب.
17- في (24) إبريل سنة (1981م) مثل نجم الدين أربكان زعيم حزب السلامة الوطني هو وثلاثون من أعضاء الحزب أمام محكمة عرفية عسكرية، وقد قرأ المدعي العام العسكري لائحة الاتهام.. أما الجرائم التي جاءت في لائحة الاتهام فهي:
أ- العمل على استبدال مبادئ الدولة القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمبادئ تقوم على أساس الإسلام.
ب- قيام عدد من المنظمات الشبابية والطلابية والعمالية والمهنية والمرخصة والمرتبطة سراً بالحزب والتي تعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية في تركيا.
ج- اجتماعات الحزب وهتافات تكشف أهدافه، ومن هذه الهتافات (محمد قائدنا)، (سنحطم الأصنام ونقيم الدولة دولة الإسلام)، ومن لافتاته:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44)
(وقل جاء الحق وزهق الباطل) (الإسراء: 81)
د- ترديدهم لذكر الله في اجتماعاتهم وتذكيرهم الأمة بأنها حاربت خلال تاريخها من أجل الإسلام لا من أجل أشخاص أو أبطال.
ه- ألقى أربكان كلمة في الحجاج الأتراك في مكة عام (1977م) جاء فيها: (يجب أن نبحث فيما إذا كنا نطبق القرآن أم لا).
و- إصرار أربكان على افتتاح مدارس تعليم القرآن في كل قرية وإصراره على فتح مسجد أيا صوفيا.
ز - أحد خريجي كلية الشريعة في جامعة الرياض قال في أحد اجتماعات الحزب: (يشرفني أن أشترك في هذا الاجتماع الإسلامي).
ح- ذكر (ممثل كرم ملا أوغلو) في خطابه في المعسكر الذي أقامته الندوة العالمية للشباب الإسلامي في (جنة قلعة) أن ثورات أتاتورك قطعت الصلة بين الشعب التركي وماضيه وأن إصلاحاته أفسدت قيم الأمة الروحية، وهاجم معاهد لوزان وتغيير الحروف العربية واستبدال القوانين، وختم حديثه بأن تركيا اليوم جمهورية ملحدة.
ط- أعلن أربكان في إحدى خطبه أنه عندما شارك في السلطة صار كثير من حكام الأقاليم التركية يتعلمون الصلاة.
ي- طالب الحزب بأن تكون الجمعة يوم العطلة الرسمية وأن يكون الزواج شرعياً.
ك- قال أربكان إن حرية العبادات مسموح بها في روسيا وألمانيا وفي تركيا أيضاً، والعبادات ليست كل الدين.
ل- يتهمون الماسونية بإسقاط السلطان عبد الحميد، وأول محفل ماسوني تآمر على الدولة كان في سالونيك وكان أتاتورك واحداً منهم، وفي هذا إهانة له.
م- يتهمون (حزب الإتحاد والترقي) الذي أسقط (عبد الحميد) بأنه ماسوني وصهيوني.
ن- وجدت في مكتب أربكان أوراق تثبت مبايعته من قبل أعضاء بارزين في اسطنبول، وهذا يعني أنه كان مرشحا للخلافة(83).
وقد طلبت النيابة العامة بسجن أربكان وإخوانه (14-36) عاما.(40/315)
ولا ينقضي عجبك وأنت تتملى هذه الاتهامات في بلد محمد الفاتح والسلطان عبد الحميد ومركز الخلافة، التي بقيت حصناً شامخاً ومنارة سامقة تجمع شتات المسلمين ويهتدي بنورها المدلجون على طريق هذا الدين.
18- إن الغرب وعلى رأسه أمريكا بعد أن ربح هذه الصفقة الضخمة في تركيا على يدي أتاتورك لا يمكن أن يفرط فيها بسهولة، ولذا فقد جعل من شخصية أتاتورك إلهاً لا بد للجماهير أن تخضع إليه وأن تركع بين يدي ذكر اسمه، ولو بعد نصف قرن من تعفنه، ومن هنا فالمساس بشخصية أتاتورك جريمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام، وحرمة أتاتورك في الدستور تعتبر أقدس المقدسات تقدم على إجلال الله تعالى وحرمة نبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن هذا كيد البشر وكيد الله أعظم وبطشه أشد.
(إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيدا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) (الطارق: 15-17)
19- إن الشعب التركي عريق التدين وجذور هذا الدين عميقة في عروقه، ولا يمكن لبشرة أو دمل ظهر على جلده مثل أتاتورك أن يغير طبيعته أو يقلب كيانه، ولن ينسى الشعب التركي أنه حكم رقعة كبيرة من المعمورة خمسة قرون بالخلافة والإسلام، وأنه عاد حسيراً ذليلاً في ذيل قافلة البشرية بقومية أتاتورك وعلمانيته، حتى وصلت الديون على الدولة سنة (1979م) سبعة عشر ملياراً من الدولارات.
20- ولذا فالشعب التركي راجع إلى الله مهما طال الزمان، وفي تركيا الآن مئات الألوف من الجيل الناشئ من حفظة القرآن الكريم حفظاً يأخذ بالألباب، إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها.
(فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30)
أصداء الحركة الكمالية وانعكاساتها على العالم الإسلامي
من المعلوم أن مصطفى كمال كان من أعضاء (جمعية الإتحاد والترقي) التي كان يتزعمها أناس ليسوا بأتراك ولا مسلمين أصلا ، أمثال أنور باشا (بولندي) وجاويد (يهود الدونمة) وكراسوا (يهودي إسباني) وطلعت باشا (غجري) وأحمد رضا (مجري).... إلخ، وكلهم من الماسونيين.
وقد جاء مصطفى كمال إلى الحكم بعد معاهدة لوزان التي اشترط فيها كرزون (مستشار الخارجية البريطانية) عليه أن يهدم الخلافة وأن يسحق أي محاولة لإعادة الخلافة وأن يهدم الشعائر الإسلامية وأن يتخذ قانوناً أوروبياً بدل الشريعة الإسلامية، فسخر حياته في الحكم من سنة (1922م) إلى سنة (1938م) لتنفيذ هذه المبادئ، فمنع الأذان بالعربية، وحول الأحرف العربية إلى اللاتينية، وفرض لبس القبعة ومنع اللباس الشرعي، وحول مسجد أيا صوفيا إلى متحف.
ومات كمال أتاتورك وواصل عصمت إينونو نفس الخط، وعندما ظهر أخيراً حزب السلامة الإسلامي وعقد زعيمه (نجم الدين أربكان) مؤتمر قونيه، وحضره قرابة مائة وخمسين ألفاً خافت أمريكا على الكمالية، فقام الانقلاب العسكري ليضرب الاتجاه الإسلامي وليحافظ على الخط الكمالي المدمر.
وتتلخص إنجازات الحكومة العسكرية بنحت تماثيل لكمال وتوزيعها في كل مكان، ويمكن تلخيص التجربة الكمالية بالنقاط التالية:
1- إن التجربة كانت تنفيساً لأحقاد الغرب الصليبي على المسلمين نفذها هذا المسكين الضائع طمعاً في الدنيا وإشباعاً لجنون العظمة عنده.
يقول توينبي(84): من المؤكد أننا لم نكن نحب التركي التقليدي المسلم المتحمس الذي كان يثير حنقنا عندما ينظر إلينا من أعلى على أننا (فرنسيين زناديق).
حاولنا أن نحط من كبريائه إلى أن استطعنا أخيراً أن نحطم سلاحه النفسي، وحرضناه على القيام بهذه الثورة التي استهلكها الآن أمام أعيننا.
والآن وبعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة لجعل نفسه مماثلاً لنا وللشعوب الغربية من حوله، الآن نحس نحن بالضيق والحرج بل ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق، وللتركي أن يردد الآن (لقد نفخنا معكم في القرب فلم ترقصوا وحزنا فلم تبكوا) هذا قول توينبي، وصدق الله العظيم:
(كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) (الحشر: 16)
(إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) (البقرة: 166)
2- إن مصطفى كمال كنس الشريعة نهائيا -على حد تعبير توينبي- من تركيا.
3- إنه حاول أن يصنع تركيا قطعة من باريس أو لندن، فما نقل منهما سوى الفساد والتفسخ وليته نقل الصناعة والعلوم.
4- إنه أقام هوة عميقة بين التركي والعربي كما يقول كانتول سمث(85) .
5- إن الأصابع اليهودية كانت وراء الحكومة منذ البداية، يقول ونستون ستون(86): إن أصحاب العقول المحركة وراء الحركة - الإتحاد والترقي- كانوا يهوداً أو مسلمين من أصل يهودي، وأما العون المالي فكان يجيء لهم عن طريق الدونمة ويهود سالونيكا الأثرياء، ولذلك فإن اليهود مع الغرب يحاولون أن يسموا التدمير الكمالي باسم الإصلاح الإسلامي، وهذا مما لا ينقضي منه العجب، يقول (سمث): إن تسمية الإصلاح الكمالي (فسق وانحراف) وهم(87).(40/316)
6- إن الغرب يتمنى أن تتكرر التجربة الكمالية في العالم الإسلامي فيتسائل سمث عن إمكانية ظهور أتاتورك جديد في باكستان(88).
7- حصلت في العالم الإسلامي بعض الاستجابات الكمالية، فأصدر الشيخ الأظهري (علي عبد الرزاق) سنة (1925م) كتاب الإسلام وأصول الحكم، يبرر لكمال عمله وأنكر عبد الرزاق أن الإسلام يحتوي أصولاً للحكم أو خطوطاً للسياسة، وترجم الكتاب إلى الإنجليزية والأردية، ونقل إلى باكستان منه أعداد ضخمة ليركز في أذهان الباكستانيين علمانية الدولة في الإسلام، ويقول سمث(89): إن باكستان لا تنجح كدولة علمانية إلا إذا اقتنع الناس أن الدولة الإسلامية هي في حقيقتها دولة علمانية.
وصدرت عدة فتاوى من الأزهر كذلك بجواز ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية، (ليبرروا لكمال جواز الصلاة بغير العربية).
8- وقد حاول مصطفى كمال أن يغرب تركيا تماماً ويقطع صلتها بالإسلام والعربية، فحول الأحرف العربية إلى لاتينية، واعتمد على الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة المسيحية المنسوبة للإسلام، ليحل محل دين رب العالمين، ولذلك أمر (حسن علي يوسيل) -وزير المعارف التركي- سنة (1946م) أي بعد وفاة كمال بترجمة مائة كتاب من اليونانية و(22) كتاباً من اللاتينية و(18) كتاباً من الفارسية و(12) كتاباً من اللغة العربية و(629) كتاباً كلاسيكياً منقولاً من اللغات الأوروبية الحديثة(90) .
أرأيت نصيب الأدب العربي ولغة القرآن بين الثقافة الكمالية لشعب مسلم عريق..؟!
9- تكريس انفصال تركيا عن العالم الإسلامي والتركيز على شعار (تركيا للأتراك) وفي مصر: (مصر للمصريين).
يقول (كوبلرينغ) عن لويس توماس(91): إنه قد استطاع أن يرسم الخطوط العريضة للظروف التاريخية والاجتماعية للحركة التي انتهت بالزعماء الأتراك المحدثين إلى تحقيق مبدأ (تركيا للأتراك) هذا المبدأ الذي سار عليه أغلب الشعوب المنطقة، ولذلك كان الكماليون يقولون(92): نريد أن نبني إسلاماً تركياً يصبح ملكاً لنا وجزء من مجتمعنا الجديد على نحو الكنيسة الإنجليكانية التي هي مسيحية على النمط الإنجليزي.
وفي مصر العربية الإسلامية كانت أصداء هذه الصيحات فتتحرك الببغاوات المصرية التي تلعب بها الأصابع الغربية الإنجليزية بالذات فتنادي (بفرعونية مصر) فقال طه حسين: المصري فرعوني قبل يكون عربيا ، وقال طه: لو وقف الإسلام بيني وبين فرعونيتي لنبذت إسلامي.
وقال أحمد شوقي:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم أن تجعلوه كوجهه معبودا
ويقول مخاطبا مصر:
أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت(93) الشهادت والمتابا
ويقول حافظ إبراهيم:
أنا مصري بناتي من بني هرم الدهر الذي أعيا القنا
وعليه فإنه ليس من الغريب أن نفسر اهتمام الغرب الكبير بالآثار والمتاحف الوطنية فتأسست قبل قرن تقريباً هيئات غربية للإشراف على التنقيب في العالم الإسلامي لربط المسلمين بالآثار والقيم والأعلام الذين كانوا قبل مجيء الإسلام، فجاء (بواتا) و (لايارد) إلى العراق وماريت في مصر و(شليمان) في تركيا، ثم أنشأوا دوائر الآثار والمتاحف الوطنية.
وليس عجيباً بعد هذا أن ندرك سر تبرع مؤسسة (روكفلر) اليهودية بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف الآثار الفرعونية ومعهد لتخريج رجال الآثار، ولعلنا بعد هذا نفطن إلى سبب النص في صك الانتداب البريطاني على فلسطين مادة رقم (2): يجب أن تضع الدولة المنتدبة في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانونا خاصا بالآثار والعاديات.
كل هذا لقطع صلة المسلمين بإسلامهم وربطهم بالجاهليات الأولى حتى يتسنى للغرب أن يستعبدهم ويذل هم تحت يده.
يقول الدكتور (ولسون) في مؤتمر الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة -الذي عقد في جامعة برنستون سنة (1953م)-: إن في بلاد الشرقين- الأدنى والأوسط- في هذه الأيام نهضة حضارية هي من ناحية جديدة، ومن ناحية أخرى بعث للقديم.
إن نهضة الغرب المسيحي وحركة إحياء المعارف فيه قامت عمليات التفكر والجدل فيها على الأعمال الكلاسيكية الوثنية.
10- إن الغرب يظهر مصطفى كمال على أنه بطل من صانعي التاريخ الحديث، من أجل أن تكرر التجربة الكمالية في العالم الإسلامي عن طريق فئة العسكر -ذوي الأحذية الثقيلة- ليكون كمال مثلهم الأعلى وأسوتهم العليا والنموذج الذي يحتذى والقائد الذي يقتفى، ونسمع من هنا وهناك بعض القادة العسكريين من الذين تربعوا على منصة الحكم يرددون اسم مصطفى كمال في خطاباتهم ومذكراتهم كرائد وقائد وصانع للتاريخ.
يقول سمث: من الواضح أننا لا نتمنى فشل الثورة الكمالية ولا نعتقد أن التجربة سوف تمحق وتباد.
11- التركيز على نشر الخط العلماني الذي عاش مصطفى كمال حياته كلها من أجله في العالم الإسلامي، ويحاول الغرب طمس أي محاولة لإيقاف هذا التيار.
ولذا أعدم مندريس الحاكم التركي الذي حاول إعادة بعض شعائر الإسلام إلى تركيا.
ولذا فقد جيء بالعسكريين ليطبقوها بالقوة.(40/317)
ولذا فإن كلمة السادات: (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة)، هي نفس الكلمة التي يرددها الكماليون ويقول سمث(94): إن العلمانية تشق طريقها في العالم الإسلامي في تقدم مستمر وإن من الممكن تطبيقها بالسلاح؟ أو بالضغط السياسي، لكن من المهم أن تستند في تقدمها إلى سماح الدين بها وإباحته لها وإلا انعدم السلام والانسجام في كل من الفرد والجماعة.
ولذا فعندما حاول مصطفى كمال -وبغباء شديد- أن يوصي برئاسة الجمهورية للسفير البريطاني -لورين- أثناء تقلب كمال على فراش المرض العضال، رفضت بريطانيا بشدة حتى لا تنكشف الخطة.
وقد كنت أحتفظ بين أوراقي بصورة للصحيفة البريطانية التي نشرت هذا في الستينات، ومن المعلوم أن الدستور التركي يعطي الحق بالوصية برئاسة الجمهورية لمن شاء.
12- اضطرت الكمالية أن تسمح ببعض الشعائر لذر الرماد في العيون باحترام مشاعر المسلمين وخوفاً من أن يؤدي الكبت الشديد إلى انفجار شعبي مزلزل، يعصف بالثورة الكمالية وبرجلها الثاني بعد مصطفى كمال وهو عصمت إينونو.
فسمحت تركيا سنة (1946م) بإدخال التعليم الديني في المدارس وفي سنة (1947م) سمحت بالحج بعد أن ظل سنوات طويلة ممنوعاً، وسمحت بإنشاء مدارس للوعاظ والأئمة سنة (1948م) وسمحت بزيارة القبور سنة (1950م).
13- لقد أصيب الشعب التركي بالأمية الفكرية بعد أن حرم من تراث وعقيدة وثقافة عاش معها أكثر من خمسة قرون، وبعد أن حرم الكتابة بالأحرف التي توارثها جيلاً بعد جيل فخلف خلوف من الأتراك لا تعرف عقيدة ولا ثقافة ولا دينا ولا مبادئ (ضائعون تائهون حائرون ممزقون).
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) (الحجر: 72)
ولكن الفطرة الطيبة التركية ستنبذ هذه الأفكار الدخيلة وستدوس هذه المبادئ الكمالية يوماً والبشائر تلوح بالأفق أليس الصبح بقريب؟
(ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا) (الإسراء: 51)
فحزب السلامة الإسلامي لن يموت بإذن الله ورغم حركات العسكر القمعية الإرهابية.
(وما النصر إلا من عند الله) (آل عمران: 126)
وقبل أن أختم مقالي أريد أن أقول كلمة للحكومة العسكرية التركية على رسلك..! فلن تستطيعي أن تبعثي الأموات من القبور، فالتجربة الكمالية في طريقها إلى الاندثار، بعد أن ذاق الشعب من ويلاتها ودمارها مرارة العيش وحرم لذة الحياة الإنسانية وعانى من حرمان السكينة والطمأنينة في ظلال هذا الدين.
أقول للنظام القائم: وفر القروض التي تستلفها وسد بها دينك حتى لا يعلن البنك الدولي إفلاسك، وفر النقود التي تنفقها على التماثيل الكمالية لتملأ بها مفارق الطرق.
14- لقد بدأت تركيا مسيرتها الحديثة مع اليابان وأين اليابان اليوم من تركيا؟
إن اليابان تعتبر أرقى بلد صناعي في العالم بينما تركيا الآن مهددة بالإفلاس.
وقد هددها البنك الدولي قبل ثلاث سنوات بإعلان إفلاسها لولا تدخل السعودية لإنقاذها من هذا السقوط المصيري.
15- سيطر اليهود على أجهزة الدولة المختلفة، وقد مكن لهم مصطفى كمال من هذه السيطرة فمثلا : خالده أديب -وزيرة المعارف التركية أيام كمال- يهودية وهي لكثرة نفخ الصحافة فيها سموها جان دارك الأتراك.
ووالدها اليهودي أديب أفندي، وكانت من دعاة القومية الطورانية المتطرفين، وهي على جانب كبير من الجمال، مؤهلها عند مصطفى كمال، مع تهتكها وتحللها وانحرافها.
وقد كتبت روايتها المشهورة (طوران الجديدة)، ورواية أخرى (اضربوا الغانية)(95) وأخيراً اختلفت مع مصطفى كمال وهربت من تركيا وعادت بعد موته، واستمر الخط اليهودي في تركيا.
أما الإعلام فيكاد يكون خالصاً لهم من دون المسلمين والأتراك، فمثلاً جريدة (حريت) يهودية توزع مليون نسخة يوميا وتصدر عن دار النشر فيها مجلات مثل (مجلة الحياة) ومجلة (التاريخ)، هذه الدار تملكها أسرة يهودية من الدونمة وتحتضن كبار كتاب اليسار التركي.
وتأتي بعد جريدة (حريت) جريدة أخرى اسمها (مليت التركية) وتديرها عائلة يهودية اسمها (ايبكجي) وفيها الكاتب اليهودي المعروف (سامي كوهين) وإلى جانبه كتاب اليسار التركي(96) ثم جريدة (جمهوريت) التي أسسها يونس نادي وهي جريدة اليسار التي كان يرأسها يهودي الدونمة (نوري تورن)، ومنذ سنة (1972م) واسمه المحامي اليهودي (رشاد أتايك).
أما الإذاعة والتلفزيون فكان المدير فيها اليهودي المعروف (حم ايبكجي)، وبقي مديراً حتى اتخذ أربكان أثناء وجوده في الوزارة قراراً بعزله.
ورفض رئيس الجمهورية التوقيع على قرار عزله ولكن الوزارة أصرت واضطر رئيس الجمهورية أخيراً التوقيع سنة (1975م).
ومرة أخرى نقول للحكومة العسكرية التركية الأولى أن تربطي الشعب التركي بإسلامه، وأن تحاولي بناءه مرة أخرى بمبادئ هذا الدين بدلاً من توزيع الأوثان في الشوارع.
أحم الليرة التركية من السقوط، وفري أيتها الدولة جهودك فلقد عفا الزمن على مصطفى كمال ولفظه التاريخ من صفحات الوطنيين أو البشر أو الأناسي أو المسلمين.(40/318)
ولا يسعني أن أختم مقالي قبل أن أشير إلى قصة حقيقية: أنه قبل هلاك مصطفى كمال أوصى مصطفى كمال أن لا يصلوا عليه صلاة الجنازة، فاختلف الملأ الذين استكبروا من قومه حول صلاة الجنازة عليه، فقسم يقول لا نصلى عليه لأن الدستور يمنع هذا العمل، وقسم يرى تجاوز الدستور في هذه القضية وأخيراً تقدم أحد عبيد...... مصطفى كمال وصلى عليه متحملا نتيجة هذه الجريمة النكراء..!!
وقديماً قال المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات وإن كان في شأنه كالبكاء
ونحن نقول: وكم في تركيا من المضحكات المؤلمات المبكيات المهلكات.
(ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) (النمل: 50-53)
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
جريدة المراجع
1- حوار في أنقره (كشك).
2- تاريخ الدولة العثمانية (علي حسون).
3- الرجل الصنم (ضابط تركي سابق).
4- تاريخ الدولة العلية (محمد فريد بك، تعليق إحسان حقي).
5- مصطفى كمال الذئب الأغبر (آرمسترنج، ترجمة حلمي مراد).
6- الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية (أبو الحسن الندوي).
7- أعمدة الحكمة السبعة (لورنس).
8- الرجل الأوحد -ثلاثة أجزاء- (شوكت ثريا آيدمير).
9- جانقايا قصر مصطفى كمال في أنقره (فالح رفقي
================(40/319)
(40/320)
وفي المقاطعة فوائد سبع
انطلقت انتفاضة الشعوب الغاضبة من المحيط الاطلنطي إلي المحيط الهادي ثائرة لدينها وقدسها واقصاها.. مدافعة عن كرامتها وشرفها وعزتها.. مساندة انتفاضة الاقصي الشريف التي انطلقت في القدس والأراضي المحتلة يوم 28 من سبتمبر 2000 إلي يومنا هذا حتي تتطهر الأرض وتتحرر القدس وكان من آليات هذه الانتفاضة المباركة من الشعوب العربية والإسلامية سلاح المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية علي السواء وهي تضرب المثل في هذا للقادة العرب والمسلمين كي يحذوا حذوها دون ان يخشوا في الله لومة لائم ولا يخشوا علي شعوبهم من أي بأس فالشعوب هي صاحبة المبادرة و المطالبة بالمقاطعة ولابد من الاشارة إلي أن مقاطعة الحكومات إجدي وانجع ألف مرة من مقاطعة الشعوب وإن كانت مطلوبة لرمزها وروحها ومعانيها السامية و فوائدها الجمة علي الدول والشعوب العربية والاسلامية ومنها: -
أولاً: التخلص من التبعية والهيمنة الأمريكية علي حياتنا:
فقوائم المقاطعة اللمنتجات الأمريكية كشفت تغلغل العم سام في كل شيء في حياتنا اليومية مطاعم أمريكية - سجائر أمريكية - ملابس أمريكية - دواء أمريكي - تسال وألعاب أمريكية - مشروبات غازية أمريكية - لبان وشكولاته وكيك أمريكي ناهيك عن الأجهزة والمعدات الأمريكية ناهيك عن السلاح الأمريكي الذي نناشد الحكومات العربية والإسلامية والصديقة والمحبة للعدل ان تقاطع شراء الأسلحة الأمريكية فرب صفقة سلاح والتي تبلغ المليارات من الدولارات تجعل الإدارة الأمريكية تفكر ألف مرة في قرار المساندة لإسرائيل.
ثانيا: ترشيد عادة الاستهلاك المفرط لدي شعوبنا:
فاصبحت الدول العربية والإسلامية أكبر كتلة مستهلكة علي وجه الأرض وليتها تستهلك ما تنتج ولكن المصيبة الكبري انها تستهلك ما تستورد والمصيبة الأعظم أن تستهلك ما ينتج اعداؤها فتصبح هي قوة ضعيفة مستهلكة ويصبح الاعداء قوة اقتصادية منتجة تهيمن علي الاقتصاد ومن ثم علي السياسة وهذا هو الاستعمار الحديث.
ثالثا: ترشيد أزمة الدولار المستحكمة:
ان احتياطي مصر علي سبيل المثال من العملة الصعبة انخفض من 26 مليار دولار الي 16 مليار دولار تقريبا في سنوات قليلة وذلك بفضل حمي الاستيراد الاستفزازي، ففي المقاطعة ترشيد لهذا الاستيراد المجنون وبالتالي ترشيد لاستهلاك العملة الصعبة والمساهمة في حل أزمة الدولار الطاحنة وحبذا لو اتجهت الحكومات لمقاطعة الدولار الأمريكي فتجعل احتياطها من العملة الصعبة بعملة اخري فاليورو الأوروبي و الين الياباني لا يقل شأنا عن الدولار ان لم يتفوق عليه.. علي الأقل نجعل احتياطنا ما يعرف بسلة العملات ولا نحصر انفسنا في عملة واحدة تتحكم في رقابنا واقتصادنا.
رابعا: حماية الصحة العامة في مجتمعاتنا:
من بين قوائم المقاطعة الأمريكية تبرز بعض السلع الضارة جدا بالصحة باعتراف منتجيها فالسجائر الأمريكية »مارلبورو - ميريت - LM« من أولي السلع الضارة جدا بالصحة.
كذلك المشروبات الغازية مثل الكولا والبيبسي والسفن والميرندا مسئولة مسئولية مباشرة عن قرح المعدة وأمراض السمنة وحالات التهيج لدي الأطفال وقس علي ذلك المأكولات سابقة التجهيز الأمريكية.
خامسا: تشجيع صناعتنا المحلية والقومية:
فإن المقاطعة للمنتجات الأمريكية والإسرائيلية تقتل عندنا عقدة الخواجة لننطلق ونبحث عن البدائل الوطنية او القومية عربية أو إسلامية أو صديقة فإذا قاطعنا منظفات اريال مثلا برزت عشرات الشركات الوطنية التي تنتج المنظفات المماثلة والبديلة ومهما شكونا من ضعف الجودة فإن كثرة الاقبال عليها سيحتم عليها تحسين الجودة وإرضاء جموع المستهلكين وهكذا سائر الصناعات.
سادسا: تحقيق الاكتفاء الذاتي:
ان نجاح سلاح المقاطعة الحقيقي في تحقيق الاكتفاء الذاتي خاصة من السلع الضرورية وهنا نقول للذين يتباكون علي العمالة الوطنية إذا قاطعنا بعض السلع الأمريكية: وجهوا هذا العمالة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بزراعته في صحرائنا الواسعة او وجهوا هذه العمالة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السكر بزراعة أرض البنجر التي انشئت من اجل هذا الغرض .. ان اكتفاءنا الذاتي افضل الف مرة من توظيف عمالتنا عند توكيلات الاعداء فتصبح الحصيلة في صالح العدو علي حساب أمننا واقتصادنا وقرارنا.
سابعا: توظيف اسواقنا في خدمة أمن شعوبنا وقضاياها:(40/321)
إن أسواقنا تمثل أهم الأسواق للمنتج الأمريكي فأسواقنا العربية تقوم علي تعداد 300 مليون نسمة وأسواقنا الإسلامية تقوم علي تعداد 1200 مليون نسمة. إن استجابة هذه الأسواق لخيار المقاطعة من شأنه حرمان المنتجات الأمريكية من أهم أسواقها بداية من الألعاب والتسالي والحلويات إلي الأجهزة والمعدات إلي السلاح بأنواعه إلي الطائرات بأنواعها، فماذا لو استجابت شركات الطيران العربية والإسلامية وامتنعت عن شراء صفقات الطائرات البوينج وتكفي حوادثها واعطالها الفنية القاتلة سببا للمقاطعة والامتناع؟ تري كم ستكون خسائرها والتي ستدفع الإدارة الأمريكية الداعمة لها بكل ما تملك إلي التفكير ألف مرة في قرار المساندة لإسرائيل؟!.
إن سلاح المقاطعة ليس بدعة وإنما هو سلاح ناجح جربته الهند غاندي ونجحت في هز اقتصاد انجلترا وجربته مصر مع الانجليز بدعوة سعد زغلول وجربته كوبا مع أمريكا فلا يعرف شعبها ما يسمي بالمنتج الأمريكي أبدا وجربته اليابان مع أمريكا بتلقائية ووعي الشعب الياباني جعل العم سام يقوم بجولات مكوكية أكثر من مرة يستجدي فتح السوق الياباني وتشجيع شراء المنتج الأمريكي ولكن هيهات هيهات ان تستجيب الشعوب الواعية إلا للثأر لكرامتها وعزتها ومقدساتها.
أحمد مخيمر
===========(40/322)
(40/323)
بيان من الشيخ د/ بشر البشر للمسلمين في فلسطين
الحمد لله رب العالمين ، أحمده واستعينه واستغفره ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد :
فإن فلسطين بلادُ مباركة لها مكانة خاصة في قلوب عامة المسلمين ، والمسجدُ الأقصى الأسير بأيدي اليهود ثالث مسجد تشد الرحال إليه ، والقضية الفلسطينية لا تخص أهل فلسطين و لا تخص العرب بل حصرها في الفلسطينيين أو في العرب هدف اليهود و النصارى كما لا يخفى فهي قضية المسلمين جميعا، والحرب في فلسطين حربٌ دينية بين المسلمين من جانب واليهود ومعهم النصارى البروتستانت الإنجليز ثم الأمريكان من جانب آخر ، وهي صراع عقدي ديني ينطلقون فيه من نصوص العهد القديم حسب زعمهم ، ونحن ننطلق من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
إذا تبين هذا فألخص ما أود قوله في نقاط على وجه الإيجاز :
الأولى : أحيي الأخوة المجاهدين و المرابطين في فلسطين وأسأل الله تعالى لهم النصر و التمكين و الهدى و السداد .. وأذكرهم بقول الله تبارك وتعالى ( ولا تهنوا و لا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرحٌِ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )
الثانية : أوصيهم بالحرص على التربية الإيمانية العقائدية الجهادية ، تربية أنفسهم وأولادهم وأهليهم و ذلك بالعناية بالعقيدة الصحيحة الصافية المأخوذة من كتاب الله تعالى وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ثم الاجتهاد في إصلاح القلوب والجوارح ، باتباع المنهج النبوي القويم ، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله .
الثالثة : أن يحرصوا على غرس عقيدة الولاء و البراء التي أمر الله تعالى بها في كتابه في آيات كثيرات ، ولو كان ذلك مع الأقربين ، فيوالون المؤمنين الصادقين وعامة المسلمين ، ويبرؤن من الكافرين و المرتدين والعلمانيين ولو كانوا من أهل فلسطين طاعةً لله تعالى ، وسيراً على منهاج نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون و من يتولى الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون ) . وقال تعالى ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أم عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ..) الآية .
الرابعة : أوصيهم بأن يحرصوا على وضوح الراية الجهادية وأن يحذروا من الرايات الجاهلية القومية و العلمانية ، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، والرجل يقاتل حميّة ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ولذا فالحذر من المنافقين والعلمانيين مطلوبٌ واجب ، وأحسب أن المجاهدين يعلمون ذلك ، وفقهم الله .
الخامسة : أن يحرصوا على وحدة الصف الإسلامي ، وجمع كلمة المسلمين والمنظمات الإسلامية الجهادية والتأليف بينها والتنسيق للعمل المشترك ، وجذب العناصر المسلمة التي لم ترتكب ناقضا من نواقض الإسلام ، في المنظمات الأخرى فإن الاجتماع قوة ، والاختلاف شرٌ وضعف ، واتفاق المسلمين واجتماعهم من مقاصد الشريعة المعلومة لمن تدبر الكتاب العزيز والسنة المطهرة .
السادسة : أوصيهم بالعناية بكتاب الله تعالى وفهمه وتدبره وبالسنة النبوية دراسة ً وفهماً وعملاً ففيهما الخير كل الخير ، وفيهما بيانٌ شافِ لأسباب النصر والهزيمة ، ومن تدبر سورة آل عمران على سبيل المثال علم ذلك .
السابعة : لقد بينت الأحداث أنه لا حل لقضية فلسطين ولا يمكن تحرير الديار إلا بالجهاد الإسلامي على منهاج النبوة ، لذا فلا بد من الاستمرار في الجهاد والإثخان في العدو الكافر بالعمليات الإستشهادية وغيرها ، فذلك يرهب العدو ويدخل الرعب في قلوب اليهود وينهك اقتصادهم كما هو مشاهد ، ثم إن استمرار الجهاد يعمل على حفظ هوية المسلمين في فلسطين وجمع كلمتهم على الإسلام ، ويبعدهم عن التحلل و الفسوق ويمنع من الذوبان في المناهج العلمانية التي يريدها الكافرون ، وأرجو أن تستخدم لفظة الجهاد بدل لفظة الانتفاضة فإن الالتزام بالألفاظ والمصطلحات الإسلامية مقصد شرعي ثم هي تعطي مدلولا خاصا وبعدا دينيا لما يقوم به المجاهدون والمرابطون.(40/324)
الثامنة : أن المؤتمرات والمبادرات والمفاوضات مُضِيعة للوقت ، مُهدرة للجهود ، تخدم العدو الكافر وتحقق أهدافه أكثر من المسلمين، كما تبين ذلك في الخمسين سنة الماضية ، فلا ينبغي أن يلتفت لها أهل الجهاد والرباط ، خاصةً ،و المسلمون عامة ولا يعيروها اهتماماً .
التاسعة : هناك من جعل القضية سلعة يقتات عليها ويبيع فيها ويشتري ليكسب من ورائها المناصب والأموال مثل هذا لا مكان له عند أهل الإيمان ،ويكفيه أن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم في سورة آل عمران ( لا تحسبن الذين يفرحون بما ءاتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازةٍِ من العذاب ولهم عذاب أليم ) .
العاشرة : أقول للمسلمين جميعاً إنه يجب عليهم مناصرة إخوانهم في فلسطين بكل ما يحتاجون إليه من رجال ومال وسلاح ، ومن كان قادراً على إعانتهم ومساعدتهم ولم يفعل كان آثماً ،وأضعف الإيمان مقاطعة البضائع والشركات الأمريكية التي هي أكبر داعم للكيان اليهودي .
وقد بينت الأحداث أن أميركا عدوةٌ للمسلمين ، حاميةٌ لليهود ، معينةٌ لهم على احتلالهم لفلسطين وتقتيلهم للمسلمين .
وفي الختام ، فإني أذكر الأخوة في فلسطين بالحرص على تقوى الله تعالى والتوبة النصوح واستحضار النية الصالحة فيما يقوم به من أعمال الجهاد والرباط ،كما أذكرهم بضرورة اجتناب الذنوب فإنها من أسباب الهزيمة و الخذلان وأدعو من يقاتل اليهود من غير المجاهدين في منظمة فتح وغيرها ، بالمسارعة بالتوبة و الإنابة إلى الله تعالى قبل الموت فإن من مات ميتة جاهلية كان على خطر عظيم ، فقد ثبت في الحديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أنه قال " من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية " والراية العِمّية هي الراية الجاهلية، وعليهم أن يتفكروا في الخمسين سنة الماضية كيف كان اليهود فيها غالبين وهم قلّة جبناء والمسلمون مع كثرتهم كأنهم لا شيء ، إن القضية لن تحل إلا بالجهاد الحق في سبيل الله تعالى لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله ، لا من أجل تحرير أرض و لا من أجل مصالح مادية فقط .
وعلى العموم إذا أراد المسلمون تحرير الأقصى وفلسطين وسائر أراضيهم المحتلة في المشارق المغارب ، فلا بد قبل ذلك من تحقيق شرط الله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فعليهم إصلاح الأوضاع وتطبيق الشريعة والسير على المنهاج الإسلامي النبوي عقيدةً وعبادةً وأخلاقاً ومظهرا وسلوكا وخاصة في البلدان المحيطة بفلسطين لتكون منطلقاً للجهاد ومدداً لأهل الرباط في داخل فلسطين ومكاناً يتحيز إليه المجاهدون في سبيل الله عند الحاجة ، وبذلك تعود للمسلمين أمجادهم ومكانتهم ، ويتحرر الأقصى وكل فلسطين وسائر بلاد المسلمين المحتلة من قبضة الكفرة والفجرة ،و الله تعالى أسأل أن ينصر دينه ،ويعلي كلمته ، ويعز أولياءه ، ويذل أعدائه وينصر إخواننا المجاهدين في فلسطين ويمكن لهم في الأرض ويمكنهم من رقاب اليهود والكفرة ويقرّ أعيننا وأعينهم بتحرير الأقصى و الأرض المباركة من تدنيس الكافرين ، وأسأله سبحانه أن يصلح حال المسلمين ويردهم إليه رداً جميلاً ...
إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد ، والحمد لله رب العالمين .
د. بشر البشر
الرياض 25/2/1423
============(40/325)
(40/326)
قصة نزع الحجاب
ـ لفتات من كتاب الشيخ بكر أبو زيد ( حراسة الفضيلة )
فهد بن سعد أبا حسين
تعيش هذه البلاد موجة من الهجمات الفكرية الخطيرة . أعدها أعداءها ومن تربى في أحضان أعدائها . تربى في أحضانهم الفكرية والعقدية .
حتى صارت الصحف والقنوات تنضح بكلمات هؤلاء في موجة من العفن المتسلط على أهل هذه البلاد ، كل ذلك سخر لحرب الإسلام على خطط محكمة والمسلمون أكثرهم غافلون.
يجدُّ أعداؤهم ويهزلون ، ويسهر خصومهم وينامون .
وكان من أخطر ما أفرزته علينا تلك الهجمات فتنة الاختلاط التي سرت في العالم الإسلامي .
لقد بدأت الدعوة لها بعد دخول الاستعمار الغربي الكافر على المسلمين وكانت أول شرارة قُدحت لضرب الأمة الإسلامية هي في سفور نسائهم عن وجوههن ، وذلك على أرض الكنانة في مصر .
حيث بُذِرت البذرة الأولى للدعوة إلى تحرير المرأة ، على يد رفاعة رافع الطهطاوي .
ثم تتابع على هذا العمل عدد من المفتونين المستغربين وقد تولى كبر هذه الفتنة داعية السفور قاسم أمين الهالك الذي ألف كتابه "تحرير المرأة" ووقف أمامه العلماء .
ثم ظهرت الحركة النسائية في القاهرة لتحرير المرأة برئاسة هدى شعراوي .
وهكذا تتابع دعاة الفساد ، وهرول معهم الكتاب الماجنون بمقالاتهم الفاسدة ، التي تدعو للسفور والفساد ، والهجوم على الفضائل والأخلاق ، من خلال وسائل شتى نشر صور النساء الفاضحة ، والدمجُ بين الرجل والمرأة في المناقشة والدعوة إلى المساواة بينهما ، وتسفيه قيام الرجل على المرأة .
يساند ذلك الهجوم الخطير أمران :
إسنادهم من الداخل .
وضعف مقاومة المصلحين لهم بالقلم واللسان ، والسكوت عن فحشهم ، وعدم نشر مقالاتهم ، أو تعويقها ، وإلصاق تُهم التطرف والرجعية بهم ، وإسناد الولايات إلى غير أهلها من المسلمين الأمناء الأقوياء.
هكذا صارت البداية المشؤومة للسفور في هذه الأمة .
ثم أخذت تدب في العالم الإسلامي في ظرف سنوات ، كالنار الموقدة في الهشيم .
حتى آل الأمر إلى وضع قوانين ملزمة بالسفور .
ففي تركيا أصدر الملحد أتاتورك قانوناً بنزع الحجاب وفي ألبانيا وتونس وغيرها صدرت القوانين بذلك .
وفي العراق تولى كبر هذه القضية ـ المناداة بنزع الحجاب ـ الزهاوي والرُّصافي ، نعوذ بالله من حالهما فسقط الحجاب في العراق.
وفي الجزائر قصة نزع الحجاب ... قصة تتقطع منها النفس حسرات ـ ذلك أنه سُخِّر خطيب جمعة بالنداء في خطبته إلى نزع الحجاب ، ففعل المبتلى ، وبعدها .
قامت فتاة جزائرية فنادة بمكبر الصوت بخلع الحجاب ، فخلعت حجابها ورمت به ، وتبعها فتيات ـ منظمات لهذا الغرض ـ نزعن الحجاب ، فصفق المسخَّرون ومثله حصل في مدينة وهران ، ومثله حصل في عاصمة الجزائر الجزائر ، والصحافة وراء هذا إشاعة وتأييداً .
وفي المغرب الأقصى وفي الشام وما أدراك مالشام . إنه أعظم معقل للإسلام أمام اليهود فكيف لا تسلط عليه الأضواء ، وكيف يترك بلا طعنات مسمومة انتشر السفور والتبرج والإباحية على أيدي القومية تارة ، وعلى دعاة البعث تارة أخرى .
أما في الهند وباكستان فكانت حال النساء المؤمنين على خير حال من الحجاب ـ دَرْعُ الحشمة والحياء ـ وفي عام 1950 م بدأت حركة تحرير المرأة والمناداة بجناحيها : الحرية والمساواة ، وتُرجم كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" ثم من وراء ذلك الصحافة في الدعاية للتعليم المختلط ونزع الخمار ، حتى بلغت هذه القارة من الحال ما لا يُشكى إلا إلى الله تعالى منه .
وكان سعاة الفتنة ينادون بالنداء إلى تحرير المرأة وباسم الحرية والمساواة.
فباسم الحرية والمساواة :
• أخرجت المرأة من البيت تزاحم الرجل في مجالات حياته .
• وخُلع منها الحجاب وما يتبعه من فضائل العفة والحياء والطهر والنقاء .
• وغمسوها بأسفل دركات الخلاعة والمجون ، لإشباع رغباتهم الجنسية .
• ورفعوا عنها يدَ قيامِ الرجال عليها ؛ لتسويغ التجارة بعرضها دون رقيب عليها .
• ورفعوا حواجز منعَ الاختلاط والخلوة ، لتحطيم فضائلها على صخرة التحرر ، والحرية والمساواة.
• وتم القضاء على رسالتها الحياتية ، أمّا وزوجة ، ومربية أجيال ، وسكناً لراحة الأزواج، إلى جعلها سلعة رخيصة مهينة مبتذلة في كف كل لاقط من خائن وفاجر .
إلى آخر ما هنالك من البلاء المتناسل ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ }
واليوم تُعاد المطالب المنحرفة ؛ لضرب الفضيلة ، في آخر معقل للإسلام ، وجعلها مهاداً للجهر بفساد الأخلاق : إن البداية مدخل النهاية ، وإن أول عقبة يصطدم بها دعاة المرأة إلى الرذيلة ، هي الفضيلة الإسلامية : "الحجاب لنساء المؤمنين" فإذا أسفرن عن وجوههن ، حسرن عن أبدانهن وزينتهن التي أمر الله بحجبها وسترها عن الرجال الأجانب عنهن ، وآلت حال نساء المؤمنين إلى الانسلاخ من الفضائل إلى الرذائل ؛ من الانحلال والتهتك والإباحية ، كما هي سائدة في جل العالم الإسلامي ، نسأل الله صلاح أحوال المسلمين .(40/327)
واليوم يمشي المستغربون الأجراء على الخطى نفسها ، فيبذلون جهودهم مهرولين ؛ لضرب فضيلة الحجاب في آخر معقل للإسلام ، حتى تصل الحال ـ سواء أرادوا أم لم يريدوا ـ إلى هذه الغايات الألحادية في وسط دار الإسلام الأولى والأخيرة ، وعاصمة المسلمين ، وحبيبة المؤمنين : "جزيرة العرب" التي حمى الله قلبها وقبلتها ، منذ أسلمت ، فنسأل الله جل وعلا أن يرد كيدهم في نحورهم .
=================(40/328)
(40/329)
سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
أبو عبدالله الذهبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
لقد أذن الله سبحانه وتعالى بظهور دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني الهجري ، بعد أن أطبقت الجهالة على الأرض و خيمت الظلمات على البلاد ، وانتشر الشرك والضلال والابتداع في الدين ، وانطمس نور الإسلام ، و خفي منار الحق والهدى ، و ذهب الصالحون من أهل العلم فلم يبق سوى قلة قليلة لا يملكون من الأمر شيئاً ، واختفت السنة وظهرت البدعة ، وترأس أهل الضلال والأهواء ، وأضحى الدين غريباً والباطل قريباً ، حتى لكأن الناظر إلى تلك الحقبة السوداء المدلهمة ليقطع الأمل في الإصلاح و يصاب بيأس قاتل في أية محاولة تهدف إلى ذلك . للمزيد من أخبار هذه الحقبة راجع كتاب عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/48 105 ) .
ولكن الله عز وجل قضى بحفظ دينه وكتابه وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، وكان من رحمته تبارك وتعالى بهذه الأمة أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه . انظر الحديث في صحيح سنن أبي داود برقم (3606 ) في كتاب الملاحم .
فكان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بتوفيق الله عز وجل هو مجدد القرن الثاني عشر الهجري وهو أمر في حكم المتفق عليه . انظر من قال من العلماء بهذا في كتاب : عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي (1/19 21 ) .
و يمكننا القول إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعد البداية الحقيقية لما حدث في العالم الإسلامي من يقظة جاءت بعد سبات طويل ، و ما تمخض عنها من صحوة مباركة ورجعة صادقة إلى الدين .
إن الدعوة السلفية التي دعا إليها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري لم تكن سوى الدعوة التي نادى بها المصلح العظيم والإمام المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القرن الثامن الهجري ، و هي نفس الدعوة التي أوذي من أجلها إما أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله في القرن الثالث الهجري ، و هي تعني باختصار الرجوع إلى الإسلام كما أنزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، و فهم الصحابة والتابعون وتابعوهم من أهل القرون المفضلة ، عقيدة و شريعة و سلوكاً .
وهي الدعوة التي تكفل الله بحفظها ووعد من حملها بالظهور والنصر إلى قيام الساعة مهما خذلها المتخاذلون وخالفها الخصوم والمناوئون وأخبر بذلك سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ) . البخاري مع الفتح (6/632 ) .
إننا اليوم لتمر علينا أيام حالكة الظلام ، ظلام يحجب عن معظم الناس الرؤية الواضحة في التصور : فليس هناك فرق لدى العامة بين ما يقوله الله تعالى وبين ما يقوله الجهلاء من بني البشر ، وظلام في التلقي ، فهذا يتلقى عن داعية القومية ، وذاك ينادي بالوطنية وثالث يرفع عقيرته منادياً بالعدالة الاجتماعية ، ورابع يعبد الرأسمالية والديمقراطية .
وكثير ممن يزعمون أنهم من علماء الدين وقد أضلهم الله على علم نراهم يرقصون ويترنحون ما بين قبر البدوي ومقام الحسين ، وغيره مما عُرف بالعتبات المقدسة ، و إذا ما أراد أحدهم أن يؤلف كتاباً عن إمام من أئمة الابتداع والتخريف ، ذهب إلى قبره يستشيره في تأليف هذا الكتاب .
وآخر نراه يتحدث في كل مناسبة بأن تلاميذه يصافحون رسول ا صلى الله عليه وسلم حقيقة و ليس في المنام ، وإذا ما زار أحدهم المدينة النبوية ، دعاه رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى حفل غذاء أو عشاء ، يحضره كبار الصحابة والتابعين وأولياء الله .
أما حديث التلاميذ عن شيخهم المعمم ففيه العجب العجاب ، فإن الواحد منهم يقول : إنه إذا هم بمعصية يرى صورة شيخه أمامه محذراً متوعداً له ، فيخشاه ويتراجع عن معصيته خوفاً من شيخه وليس خشية من الله ، وهذا ليس افتراء منا على الشيخ ، فهو يتحدث في دروسه العامة بهذا وبأكثر منه .
وإذا كان هذا شأن المنسوبين إلى العلم ، فماذا ننتظر من دهماء الناس ؟! إن عبادة الآلهة من دون الله مازالت قائمة وإن تغيرت الأسماء وتباينت الألفاظ ، فالقومية بدلاً من اللات ، والوطنية بدلاً من هبل ، و الديمقراطية بدلاً من العزى .
والعواصم العربية مزدحمة بالأصنام ، فهذه الأهرامات ، وهذا صنم الزعيم فلان ، وهذا تمثال للعامل ، وذاك وثن للجندي المجهول .. وهي أصنام أشد خبثاً وشركاً من أصنام الجاهلية ، إذ إن أصنام الجاهلية ، بدائية وساذجة ، أما هذه الأصنام فالواحد منها يكلف مليوناً أو أكثر من ذلك ، لأنه قد صنع من معدن البرونز الثمين .. وفي هذا الليل الذي أرخى سدوله وزادت ظلمته وتباعد فجره ، تفتقد الأمة إلى أمثال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب .
نسب الشيخ و سيرته ..(40/330)
ترجم للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، كثير من المؤرخين والأدباء والكتاب وأصحاب التراجم والعلماء .. كثرة لم تقع إلا للأعلام المجددين ، بل لو استقرأنا عدد التراجم للعلماء والأعلام في جميع الميادين الإسلامية من بعد عصره ؛ لوجدنا أن ترجمة الشيخ تأخذ أعلى رقم من بين هذه التراجم ، وقل أن تجد كتاب تاريخ أو تراجم لأهل عصره أو ليقظة المسلمين الحديثة وحاضر العالم الإسلامي ، أو لآل سعود على الخصوص ؛ إلا وتجد للشيخ ترجمة أو شيئاً منها .
أولاً : نسبه :
هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
أما والدة الشيخ محمد رحمه الله ؛ فهي بنت محمد بن عزاز بن المشرفي الوهيبي التميمي ، فهي من عشيرته الأدنين . انظر : علماء نجد خلال ستة قرون للبسام (1/26 ) .
فيقال : ( المشرفي ) نسبة إلى جده مشرف وأسرته آل مشرف ، ويقال : ( الوهيبي ) نسبة إلى جده وهيب جد الوهبية ، والوهبية يجتمعون في محمد بن علوي بن وهيب ، و هم بطن كبير من حنظلة ، و حنظلة بيت من بيوت بني تميم الأربعة الكبار . ويقال : ( التميمي ) نسبة إلى تميم أبي القبيلة الشهيرة ، والتي ورد فيها ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب العتق (3/122 ) وفي كتاب المغازي (5/115- 116 ) ومسلم في فضائل الصحابة برقم ( 198 ) عن أبي هريرة واللفظ هنا لمسلم : عن أبي زرعة قال : قال أبو هريرة : لا أزال أحب بني تميم من ثلاث سمعتهن من رسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : ( هم أشد أمتي على الدجال ) ، قال : وجاءت صدقاتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( هذه صدقات قومنا ) ، قال وكانت سبية منهم عند عائشة ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( أعتقيها ؛ فإنها من ولد إسماعيل ) .
و يتضح من سرد نسب الشيخ المتقدم أنه يلتقي مع نسب الرسو صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر .
ولا أريد أن أتوسع في الحديث عن أسرة الشيخ رحمه الله حتى لا يخرج الموضوع عن أصله ، و من أراد التوسع في ذلك فليراجع الكتب التالية : عنوان المجد لابن بشر (1/22 23 ، 62 - 63 ) و علماء نجد للبسام (1/310 - 311 ) و الدكتور العثيمين في كتابه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( ص 24 ) .
مولده ونشأته العلمية ..
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة ألف ومائة و خمس عشرة ( 1115 هـ ) ، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، في بلدة العيينة على الصحيح . انظر : روضة الأفكار لابن غنام (1/25 ) .
تعلم القرآن وحفظه عن ظهر قلب قبل بلوغه عشر سنين ، و كان حاد الفهم وقّاد الذهن ذكي القلب سريع الحفظ ، قرأ على أبيه في الفقه ، و كان رحمه الله في صغره كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام ، فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه ، و جد في طلب العلم وأدرك و هو في سن مبكرة حظاً وافراً من العلم ، حتى إن أباه كان يتعجب من فهمه ويقول : لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام . انظر : روضة ابن غنام (1/25 ) وعنوان المجد لابن بشر (1/6 ) .
وهكذا نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب نشأة علمية ؛ فأبوه القاضي كان يحثه على طلب العلم و يرشده إلى طريق معرفته ، ومكتبة جده العلامة القاضي سليمان بن علي بأيديهم ، و كان يجالس بعض أقاربه من آل مشرف وغيرهم من طلاب العلم ، و بيتهم في الغالب ملتقى طلاب العلم وخواص الفقهاء سيما الوافدين باعتباره بيت القاضي ، ولا بد أن يتخلل اجتماعاتهم مناقشات ومباحث علمية يحضرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
أثر البيئة في توجيه الشيخ علمياً ..
لقد أبصر الشيخ البيئة من حوله بواقعها والناس في حياتهم ويدنهم على الغالب في تناقض وتصادم مع ما نشأ عليه من علم وما عرفه من الحق على بد أبيه ومن خلال مطالعته لكتب المحققين من علماء السلف الصالح ، فما تعلمه في واد ، والواقع الجاري من الناس على العموم والغالب في واد آخر .
ذلك أن البيئة في نجد على الخصوص كما هو سائر البلاد الأخرى على العموم بيئة جاهلية بيئة خرافة وبدعة امتزجت بالنفوس فأصبحت جزءاً من عقيدتها إن لم تكن هي عقيدتها .
ولاشك أن بيئة هذه عقيدتها مناقضة لما نشأ عليه الشيخ ولما تربى وتعلمه .. فكان لابد أن يخرج إلى هذه البيئة يعاملها بمقتضى سنة الله في خلقه ، والشيخ بين أمرين :(40/331)
إما أن يستسلم للبيئة ويصبح مثل الآخرين ، وإما أن يصمم على محاربة الخرافة المنتشرة .. لكن قد اختار الشيخ رحمه الله على أن يقوم لله قومة انصدعت لها جبال الجاهلية وتقطعت بها غيوم الباطل و شبهاته ، فعزم على تنحية البدع من الحياة التي حوله ، و إيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين ، والعمل على نشر الإسلام والنور من الكتاب والسنة وسيرة الصالحين .
رحلة الشيخ وطلبه للعلم ..
هنا توجه الشيخ للرحلة في طلب العلم ؛ للتسلح بسلاح ماض قاطع ؛ فإن إنكار الشيخ لهذه الأمور الشائعة جعلته في مواجهة مع علماء السوء وتلبيساتهم وشبهاتهم ، وتأليب العامة عليه ، و تهتمهم إياه بالانحراف والجهل ، فكان كل ذلك يزيد من حرصه على تحصيل العلم وإدراك الحق ؛ فلابد أن يرحل في طلب العلم وتحقيق ما شرح الله له صدره من حقيقة هذا الدين القيم .
رحل الشيخ إلى مكة والمدينة والبصرة غير مرة ، طلباً للعلم .. ولم يتمكن من الرحلة إلى الشام وعاد إلى نجد يدعوهم إلى التوحيد . راجع حول موضوع رحلات الشيخ المختلفة في طلب العلم و شيوخه الذين أخذ عنهم ، كتاب : عقيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/133 174 ) .
ولم يثبت أن الشيخ رحمه الله قد تجاوز الحجاز والعراق والأحساء في طلب العلم ، أما ما تجاوز الحد من أنه سافر إلى الشام كما ذكره خير الدين الزركلي في الأعلام ، وإلى فارس وإيران و قم وأصفهان كما يذكره بعض المستشرقين ونحوهم في مؤلفاتهم المعروفة بالأخطاء و مجانبة الحقيقة ، فهذه الأشياء غير مقبولة ؛ لأن حفيد الشيخ ابن حسن وابنه عبد اللطيف بن ابن بشر نصوا على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتمكن من السفر إلى الشام ، أما ما يذكر من أنه سافر إلى فارس و غيرها من البلاد ، فإن أغلبهم قد اعتمدوا على كتاب لمع الشهاب لمؤلف مجهول ، قال علامة الجزيرة حمد الجاسر : ولا تفوت الإشارة إلى أن كثيراً ممن كتبوا عن الشيخ محمد رحمه الله انخدعوا بما جاء في كتاب لمع الشهاب ، .. إلى أن قال : وهذا الكتاب الذي لا يصح التعويل عليه .. وبالإجمال ؛ فقد حرص مترجمو الشيخ محمد على تدوين كل ما يتصل برحلاته وبأسماء العلماء الذين تلقى العلم عنهم ، وبذكر البلاد التي زارها ، ويكادون يتفقون على عدم صحة ما ورد في كتاب لمع الشهاب من ذلك . انظر : مجلة العرب ( ج 10 ، السنة الرابعة ، ربيع الثاني عام 1390 هـ ، ( ص 943 944 ) .
أم ما زعم أن الشيخ درس اللغتين الفارسية و التركية ، والحكمة الإشراقية والفلسفة والتصوف ولبس جبة خضراء في أصفهان ؛ فليس بثابت ، بل إنه أمر باطل و يستبعد .. وليس في مؤلفات الشيخ وآثاره ما يدل على شيء من هذا .. ثم إن من ذكر ذلك عن الشيخ كان ممن انخدع بمثل كتاب لمع الشهاب . وقد رد على هذه الفرية العلامة حمد الجاسر انظر : نفس المرجع السابق ( ص 944 ) .
بعد مضي سنوات على رحلة الشيخ رحمه الله في طلب العلم ، عاد إلى بلدة حريملاء التي انتقل إليها والده بعد أن تعين عليها أمير جديد يلقب بخرفاش بن معمر والذي لم يرق له بقاء الشيخ عبد الوهاب في القضاء ، فعزله عنه ، فغادرها الشيخ عبد الوهاب إلى حريملاء وتولى قضاءها وأقام بها . فأقام الشيخ محمد بعد عودته من رحلته العلمية في حريملاء مع أبيه يدرس عليه ويدعو إلى التوحيد و يبين بطلان دعوة غير الله . انظر : الدرر السنية (12/5 ) .
لقد ابتلي الشيخ رحمه الله .. فصبر على البلاء و ثبت حتى جاوز الامتحان والابتلاء ، و ما ذلك إلا تأييد الله له بروح منه وتقويته لإيمانه .. وأمثلة ذلك في حياته كثيرة ..
و لنأخذ مثلاً من أحوال الشيخ التي وقعت له ؛ ففي حالة إخراجه من العيينة طريداً منها كان سبب إخراجه رحمه الله من العيينة هو أن ابن معمر خاف من حاكم الإحساء من أن يقطع عنه المعونة ، فأخرج الشيخ رحمه الله من العيينة وتوجه إلى الدرعية ، فكان ابن معمر ممن آثر الدنيا على الدين وباع العاجل بالآجل لما تعارض في صدره أمر صاحب الإحساء وأمر الله تعالى - ، قد افتقد كل حظ من حظوظه الدنيوية المباحة ؛ افتقد ثقة الأمير وثقة الناس من حوله به و بما يدعو إليه من عقيد السلف الصالح ، وافتقد المسكن و المكانة و جميع الحظوظ النفسية والغايات الدنيوية ومشى وحيداً أعزل من أي سلاح ليس بيده إلا مروحة من خوص النخيل ، لكن كان على ثقة من ربه ، والله قد قوي إيمانه حتى صغر في ميزانه أمر صاحب الأحساء وخذلان ابن معمر له وفراق الوطن والمال والأهل والزوجة والمسكن وما بقي لديه سوى الإيمان القوي بصحة عقيدة السلف الصالح ، و حسن الظن بالله .. لقد سار من العيينة إلى الدرعية يمشي راجلاً ليس معه أحد في غاية الحر في فصل الصيف لا يلتفت عن طريقه ويلهج بقوله تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } و يلهج بالتسبيح .. فلما وصل الدرعية قصد بيت ابن سويلم العريني ، فلما دخل عليه ؛ ضاقت عليه داره وخاف على نفسه من محمد بن سعود ، فوعظه الشيخ وأسكن جأشه وقال : سيجعل الله لنا ولك فرجاً و مخرجاً . انظر : عنوان المجد لابن بشر (1/11 ) .(40/332)
ثم انتقل الشيخ إلى دار تلميذ الشيخ ابن سويلم الشيخ أحمد بن سويلم ، و هناك بدأ التزاور بين خصائص أهل العلم من الدرعية ولما علموا بثبات دعوة الشيخ و أنها على سبيل الرسو صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يشيروا على ابن سعود بنصرته ، فهابوه ، فأتوا إلى زوجته موضي بنت أبي وهطان من آل كثير و أخيه ثنيان .. وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة فأخبروها بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به و ينهى عنه ، فوقر في قلوبهما معرفة التوحيد وقف الله في قلوبهما محبة الشيخ . روضة ابن غنام (1/3 ) .
دخل محمد بن سعود على زوجته فأخبرته بمكان الشيخ وقالت له هذا الرجل ساقه الله إليك و هو غنيمة فاغتم ما خصك الله به ، فقبل قولها ثم دخل على أخوه ثنيان وأخوه مشاري وأشاروا عليه مساعدته و نصرته .. أراد أن يرسل إليه ، فقالوا : سر إليه برجلك في مكانه وأظهر تعظيمه والاحتفال به ، لعل الناس أن يكرموه ويعظموه ، فذهب محمد بن سعود إلى مكان الشيخ و رحب به وأبدى غاية الإكرام والتبجيل وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده .. قال : أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعزة والمنعة ، فقال الشيخ : وأنا أبشرك بالعزة والتمكين وهذه كلمة لا إليه إلا الله من تمسك بها وعمل بها ونصرها ؛ ملك بها البلاد والعباد ، وهي كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وأنت ترى نجداً وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم بعض ؛ فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك . عنوان المجد (1/11 12 ) .
و هكذا تم اللقاء التاريخي وحصلت البيعة المباركة على ذلك .. و أخذ الشيخ رحمه الله بالدعوة والجهاد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ..
ونتجاوز بعض الأمور من حياة الشيخ رحمه الله .. لأن الهدف من سرد هذه الأحداث ليس فقط طرح سيرة الشيخ أو ذكرها مفصلة .. وإنما الغاية والهدف هو الوصول إلى الحقيقة والتي نادى بها الشيخ رحمه الله .. ورد الشبه التي ألصقت بالدعوة وبصاحبها ..
أما عن عقيدة الشيخ رحمه الله فهي عقيدة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .. عقيدة الرسو صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان .. عقيدة أئمة الهدى .. أبي حنيفة والشافعي و مالك وأحمد وابن عيينة والثوري وابن المبارك والبخاري وسلم وأبي داود وسائر أصحاب السنن وأهل الفقه وأثر رحمهم الله ..
يقول رحمه الله : ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم .. بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين .. ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي ، وحاشا رسول ا صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق . انظر للمزيد عن عقيدة الشيخ الإمام رحمه الله كتاب : عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي للدكتور : صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن العبود .
أما عن مؤلفات الشيخ فهي كثيرة جداً نذكر بعضاً منها ..
قام الشيخ رحمه الله تعالى بتأليف عدد من الكتب والرسائل المهمة ، و قد امتازت مؤلفات الشيخ رحمه الله بالأسلوب القرآني المحض و أدلته كلها مأخوذة من القرآن والسنة ، و ذو أسلوب واضح لا يوجد فيه أي تعقيد ، إلا أن اللغة ليست عالية جداً كما نشاهدها عند ابن تيمية (ت 728 هـ ) وابن القيم (ت 756 هـ) .
و قد عرفنا من مؤلفات الشيخ الكتب التالية :-
1- كتاب التوحيد : و هذه الرسالة هي من أشهر مؤلفاته ، و الاسم الكامل هذا الكتاب هو : كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد . و ذكر فيه الشيخ حقيقة التوحيد و حدوده ، و الشرك و مفاسده .
2- كتاب كشف الشبهات : ونستطيع أن نسميه تكملة لكتاب التوحيد ، والحقيقة أن جميع كتب الشيخ تتعلق بالتوحيد و يمكن أن يقال أنها كلها تكملة لكتاب التوحيد .
3- كتاب الأصول الثلاثة : و هي معرفة الرب ، و معرفة دين الإسلام ، و معرفة الرسول ، و هذه هي الأصول الثلاثة التي وضحت في هذه الرسالة في أسلوب جذاب .
4- كتاب شروط الصلاة و أركانها : و قد شرحت هذه الرسالة شروط الصلاة وهي : الإسلام ، والعقل ، التميز ، رفع الحدث و إزالة النجاسة ، و ستر العورة و دخول الوقت واستقبال القبلة ، والنية ، و ذكرت أركان الصلاة و واجباتها .
5- كتاب القواعد الأربع : حيث ذكر في هذه الرسالة بعض نواحي التوحيد على طريقة مؤثرة و سهلة .
6- كتاب أصول الإيمان : و بين أبواب مختلفة من الإيمان بالأحاديث ، و يظهر من عبارة في البداية ، أن بعض أولاد الشيخ قد أضاف إليها ، و نصها : و قد زاد فيه بعض أولاده زيادة حسنة .
7- كتاب فضل الإسلام : و قد وضح فيه مفاسد البدع و الشرك ، كما وضح شروط الإسلام .(40/333)
8- كتاب الكبائر : ذكر فيه جميع أقسام الكبائر ، واحدة و احدة ، مفصلة في أبواب ، و قد دعمت الأبواب كلها بنصوص الكتاب والسنة .
9- كتاب نصيحة المسلمين : و هذا كتاب مستقل قد جمع فيه أحاديث تتعلق بجميع نواحي التعليمات الإسلامية .
10- كتاب ستة مواضع من السيرة : و هي رسالة مختصرة توضح ستة أحداث من السيرة النبوية ، والمواضع الستة هي :
أ - ابتداء نزول الوحي .
ب - تعليم التوحيد و الرد على الكفار .
ج- قصة تلك الغرانيق العلى .
د- ختام أبي طالب .
هـ منافع الهجرة و عظاتها .
و- قصة الارتداد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
11- كتاب تفسير الفاتحة : و هو تفسير موجز جداً لسورة الفاتحة .
12- كتاب مسائل الجاهلية : و ذكر فيه الشيخ مائة و إحدى و ثلاثين مسألة خالف الرسو صلى الله عليه وسلم فيها معتقدات أهل الجاهلية .
13- كتاب تفسير الشهادة : و هو تفسير لكلمة لا إله إلا الله ، و قد ذكر فيها أهمية التوحيد في أسلوب آخاذ و واضح .
14- كتاب تفسير لبعض سور القرآن : و هي مجموعة لبعض تعليقات الشيخ على آيات و سور مختلفة من القرآن و قد استنبط عشرات من المسائل من آية واحدة ، و هذه هي أهم مزاياها .
15- كتاب السيرة : و هو ملخص من كتاب السيرة لابن هشام .
16- الهدي النبوي : و هو ملخص لكتاب زاد المعاد للإمام ابن القيم رحمه الله .
و للشيخ عدة رسائل صغيرة أخرى غير ما ذكرنا ، و لا أرى حاجة إلى ذكرها ، و توجد بعض هذه الرسائل في كتاب روضة الأفكار المجلد الأول الفصل الثالث والرابع . وانظر أيضاً حول مؤلفات الشيخ كتاب : محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم مفترى عليه (ص 135-144) . ونظر أيضاً كتاب : عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 191 235 ) ، وقد فصل في خلالها القول في هذه الكتب و تحدث أيضاً عن الكتب التي نسبت إلى الشيخ مثل كتاب : أحكام تمني الموت ، و كتاب :نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين ، كذلك رسالة : أوثق عرى الإيمان .
وفاته الشيخ رحمه الله ..
في عام ست ومئتين وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم (1206 هـ ) توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، قال ابن غنام في الروضة (2/154 ) : كان ابتداء المرض به في شوال ، ثم كان وفاته في يوم الاثنين من آخر الشهر .
وكذا قال عبد الرحمن بن قاسم في الدرر السنية (12/20 ) ، أما ابن بشر فيقول : كانت وفاته آخر ذي القعدة من السنة المذكورة . عنوان المجد (1/95 ) . وقول ابن غنام أرجح ؛ لتقدمه في الزمن على ابن بشر ومعاصرته للشيخ وشهوده زمن وفاته وتدوينه لتاريخه .
وكان للشيخ من العمر نحو اثنتين وتسعين سنة ، وتوفي ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ، فلم يوزع بين ورثته مال ولم يقسم . انظر : روضة ابن غنام (2/155 ) .
للمزيد عن حياة الشيخ و سيرته انظر الكتب التالية :
محمد بن عبد الوهاب لأحمد بن عبد الغفور عطار ، و داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب لعبد العزيز سيد الأهل ، و سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب لأمين سعيد ، و الشيخ محمد بن عبد الوهاب للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي ، و الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ، والإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ لعبد الله بن سعد الرويشد ، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته للدكتور عبد الله يوسف الشبل ، و محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم مفترى عليه لمسعود عالم الندوي و دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية لأحمد بن عبد العزيز الحصين .. هذا عدا المصادر الأصلية مثل : تاريخ ابن غنام ، وتاريخ ابن بشر و تاريخ ابن عيسى ..
أما الرسائل الجامعية فقد كتب فيه على سبيل المثال : دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي ، رسالة دكتوراه للدكتور أحمد بن عطية الزهراني من قسم العقيدة في جامعة أم القرى ، و عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي ، رسالة دكتوراه للدكتور صالح بن عبد الله العبود ، من قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية .. و رسالة دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد للأستاذ عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف ، رسالة ماجستير .. و رسالة الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة للأستاذ علي بن بخيت الزهراني ، رسالة ماجستير تحدث في الباب الرابع من رسالته عن الصحوة الإسلامية وكان موضوع الفصل الأول لهذا الباب هو أثر حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي و هو فصل مهم وقيم ..
ذكر المفتريات التي ألصقت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، مع دحض لتلك المفتريات .. ثم نتبعه إن شاء الله إن كان في العمر بقية بالشبهات التي أثيرت حول الدعوة إلى غيرها من الأمور ... و سأعتمد في طرح هذا الموضوع على كتاب قيم في هذا الباب وهو : ( دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ) .. مع تصرف بسيط لا يخل في الطرح ..(40/334)
الافتراء الأول : ادعاء الشيخ النبوة وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم .
الذي يظهر من العنوان أن هذه الفرية تتكون من شقين ، لذا فإننا سنتحدث عن كل شق على حدة ..
إن معتقد الشيخ رحمه الله في مسألة ختم النبوة واضحة و منتشرة في مواضع كثيرة من مؤلفاته ، ففي رسالته لأهل القصيم لما سألوه عن عقيدته قال : ( وأومن بأن نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين و المرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ) انظر : مجموعة مؤلفات الشيخ (5/10 ) ، وانظر كلاماً مشابهاً في نفس المصدر (1/155 ، 195 ) و (3/8 ) ، و الدرر السنية (1/262 ) . و يعتقد جلياً مما سبق ذكره اعتقاد الشيخ في مسألة ختم النبوة .
ومع هذا فإننا نرى بعض خصوم الشيخ و خصوم هذه الدعوة يسطرون فرية ادعاء النبوة للشيخ ويسودون الصحائف بهذا البهتان ، ومن أوائل الذين ألصقوا بالشيخ هذه الفرية ابن عفالق حيث يقول في رسالته التي ألفها رداً على عثمان بن معمر أمير العيينة آنذاك : ( كما ادعا نزيله مسيلمة أي النبوة بلسان مقاله وابن عبد الوهاب حاله ) ، وفي موضع آخر : ( والله لقد ادعا النبوة بلسان حاله لا بلسان مقاله ، بل زاد على دعوى النبوة وأقمتموه مقام الرسول وأخذتم بأوامره ونواهيه ) . إلى غيرها من المفتريات . انظر كتاب : دعاوى المناوئين (ص 81 82 ) .
ثم تبعه عدد من المفترين من أمثال : علوي الحداد في كتابه مصباح الأنام ( ص 4 ) ، و حسن بن عمر الشطي في تعليقه على رسالة في إثبات الصفات للحازمي ، و أحمد بن زيني دحلان الذي أشاع هذه الفرية وسطرها في كتبه ، انظر : خلاصة الكلام ( ص 239 ) و الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص 47 ) ، وتلقفها من بعده خصوم آخرون من أمثال : العاملي في كتابه :كشف الارتياب عن أتباع ابن عبد الوهاب ( ص 3 ) و جميل صدقي الزهاوي في كتابه : الفجر الصادق ( ص 17 ) ، و مختار أحمد باشا المؤيد في كتابه : جلاء الأوهام ( ص 5 ) ، و عبد القادر الاسكندراني ، انظر الرد عليه في كتابه : النفخة على النفحة لناصر الدين الحجازي ( ص 6 ) .
ثم أتى من بعدهم آخرون حاولوا نشر تلك الفرية بوسائل أخرى ، من أمثال : السمنودي في كتابه : سعادة الدارين ( 1/36 ) ، و محمد توفيق سوقية في كتابه : تبيين الحق والصواب ( ص 6 ) .
مما سبق نقله و ما ذكرته من اعتقاد الشيخ في مسألة ختم النبوة هو بحد ذاته أعظم وابلغ الحجج في دحض ورد تلك الفرية الكاذبة الخاطئة .. ومع ذلك فسأورد رداً واحداً في قمع هذه الفرية من باب الزيادة في إسقاطها ..
يقول الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه : الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد : والجواب أن يقال لهذا الملحد المفتري : هذا من أبطل الباطل وأمحل المحال وبطلانه من وجوه :
أنه زعم أنه يضمر دعوى النبوة ، وهذا أمر قلبي لا يطلع عليه إلى الله ، فكيف ساغ له أن يدعي علم ما في القلوب مما لا يطلع عليه إلا علام الغيوب ، أيدعي علم الغيب أو أنه يوحى إليه ، ومن ادعى ذلك فهو كافر ، ثم ما هذه القرائن التي يزعم هذا الدجال المفتري أنها تظهر عليه بسان الحال ، فهلا ذكر قرينة واحدة من ذلك فإنا لا نعلم إلا دعوة الحق إلى إخلاص العبادة لله وحده .. الخ ( ص 12 ) . انظر الردود على هذه الفرية : دعاوى المناوئين ( ص 84 90 ) .
و ننتقل إلى الشق الآخر من هذه الفرية وهو اتهام الشيخ وأتباعه بانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الشأن : ولما أراد الله سبحانه إظهار توحيده وإكمال دينه وأن تكون كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى بعث محمداً خاتم النبيين و حبيب رب العالمين ، .. إلى أن قال : إلى أن أخرج تلك الدرة من بني كنانة وبني زهرة ، فأرسله على حين فترة من الرسل وهداه إلى أقوم السبل ، فكان ل صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على نبوته قبل بعثته ما يعجز أهل عصره .. انظر : مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (4/28 ) ، وانظر كلاماً آخر في : مجموعة مؤلفات الشيخ (1/190 ) و (5/113 ) و (4/339 ) إلى غيرها من المؤلفات .. وانظر معتقد أتباع الشيخ رحمه الله في هذه المسألة كتاب : دعاوى المناوئين ( ص 91 - 95 ) .
فهذه النقول السباقة ما هي إلا إشارات سريعة تعطي بياناً مجملاً لمعتقد الشيخ رحمه الله في حقوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . أما افتراء الخصوم على الشيخ وأتباعه بأنهم يتنقصون رسول ا صلى الله عليه وسلم ، انظرها في نفس الكتاب السابق ( ص 95 99 ) .
يقول الشيخ رحمه الله في تكذيب هذا الافتراء : وما ذكره المشركون عليّ أني أنهى عن الصلاة على النبي أو أني أقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم . فكل هذا كذب وبهتان ، افتراه عليّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل .. انظر : مجموعة مؤلفات الشيخ (5/52 ) . وانظر ردوداً أخرى من الشيخ ومن أتباعه من بعده في كتاب : دعوى المناوئين ( ص 99 112 ) .
-=================(40/335)
(40/336)
حقيقة العداوة بين المسلمين واليهود
محمد صالح المنجد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن الأمة المسلمة تمرّ هذه الأيام بأحوال عصيبة وأحداث مؤلمة ومن أكبرها تسلّط اليهود على المسلمين في أرض فلسطين يقتّلون رجالهم وأبناءهم ويروّعون نساءهم وأطفالهم ويحرقون مساجدهم ويهدمون بيوتهم ويحاصرونهم ويجوّعونهم :
والمسلم ينطلق في رؤيته وحكمه على الأحداث من الكتاب والسنة ، ولنا مع هذه الأحداث الوقفات التالية نذكّر بها أنفسنا ونستبصر طريقنا ونعدّ العدّة لعدونا .
لماذا نكره اليهود : نحن نكره اليهود لأجل ربنا ، ونبغضهم في الله لأنهم سبّوا الله وقتلوا أنبياءه وشتموهم .
- فهم الذين أخبرنا الله عنهم في كتابه بقوله : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .. الآية ) : المائدة 64 .
- وهم الذين قالوا : ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) آل عمران .
- وهم الذين ادّعوا الولد لله : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) التوبة 30 ، تعالى الله عن قولهم ( لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( 2 ) .
- هؤلاء أنفسهم الذين قالوا في تلمودهم المزعوم : ليس الله - نستغفره سبحانه - معصوماً من الطيش والغضب والكذب .
- وفي تلمودهم أيضا : للحاخامات السيادة على الله , وعليه أجْراء ما يرغبون فيه .
- ويقولون : يقضي الله ثلاث ساعات من النهار يلعب مع ملك الأسماك .
تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِين َ(17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(18) سورة الأنبياء
- وفي تلمودهم : اليهودي أحب إلى الله من الملائكة , فالذي يصفع اليهودي كمن يصفع العزة الإلهية .
- وقد أكذبهم الله فقال : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18) سورة المائدة .
- ومما قالوه في تلمودهم أيضا : إن الله يستشير الحاخامات على الأرض حين توجد معضلة لا يستطيع حلها في السماء . تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
وهل يوجد شيء لا يقدر عليه الربّ ؟ سبحانه وتعالى وهو على كل شيئ قدير ، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) سورة يس .
- وقالوا في التلمود بوقاحة فاجرة : أن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها أو تغييرها ولو بأمر الله .
سبحان الله وهو القائل عن اليهود : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) التوبة 31 ، وهؤلاء الذين قال الله عنهم : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) التوبة 34
- هؤلاء اليهود الذين يرون أنفسهم كل شيئا ولا يعدّون غيرهم شيئا ، ومن أقوالهم في غير اليهود كما جاء في تلمودهم :
• نطفة غير اليهودي كنطفة باقي الحيوانات
• يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأمم في الأرض لتبقى السلطة لليهود وحدهم .
• لو لم يخلق الله اليهود لانعدمت البركة في الأرض .
• الخارجون عن دين اليهود خنازير نجسة .
• أرواح اليهود عزيزة عند الله , وبالنسبة لباقي الأرواح فالأرواح غير اليهودية أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات .
• اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض غير اليهودية , لأن كل عقد زواج عند غير اليهود باطل , فالمرأة غير اليهودية تعتبر بهيمة , والعقد لا يقوم بين البهائم .
• لليهود الحق في اغتصاب النساء غير اليهوديات .
• الزنا بغير اليهود ذكورا كانوا أو إناثا لا عقاب عليه لأنهم من نسل الحيوانات
• ليس للمرأة اليهودية أن تشكوا إذا زنى زوجها بأجنبية في بيت الزوجية .
وليس بمستبعد أن يقولوا هذا الكلام وهم الذين قال الله فيهم : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) سورة آل عمران .
- ومن اعتقادهم في مصير غير اليهود في الآخرة ما نصّوا عليه في تلمودهم :
• النعيم مأوى أرواح اليهود ولا يدخل الجنة إلا اليهود .(40/337)
وهذا موافق لما ذكره الله عنهم بقوله : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) سورة البقرة .
- وهؤلاء اليهود هم الذين قتلوا أنبياء الله وسبوهم وشتموهم وقالوا عن عيسى عليه السلام في تلمودهم : إنه ابن زنا وإن أمه حملت به خلال فترة الحيض وأنه مشعوذ ومضلل وأحمق وغشاش بني إسرائيل وأنّه صلب ومات ودفن في جهنم وأنه يعذّب فيها في أتون ماء منتن يغلي .
وقد قال الله تعالى في فريتهم على المسيح عليه السلام وأمه : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا(156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) سورة النساء .
- وهم الذين قالوا في تلمودهم في عداوة نبينا صلى الله عليه وسلم : حيث أن المسيح كذاب وحيث أن محمدا اعترف به والمعترف بالكذاب كذاب مثله ، يجب أن نقاتل الكذاب الثاني كما قاتلنا الكذاب الأول .
( لبقية أقوالهم في التلمود ينظر : فضائح التلمود : آي براناتيس ص : 57 وما بعدها وكتاب دفائن النفس اليهودية : محمد الزعبي )
وهاهم اليوم يقولون إن الله ندم على خلق الفلسطينيين ، ويلفّون رأس خنزير في أوراق مصحف مكتوب عليها " محمد " لإلقائها في المسجد الأقصى إغاظة للمسلمين ، ورسموا خنزيرا على جدار وكتبوا عليه اسم نبينا ووقّعوا تحت ذلك بنجمة داود .
- فعداوتنا لهم إذا عداوة عقدية وليست سياسية ، إننا لا نبغضهم فقط لأنهم محتلين بل لأمر قبل ذلك هو أكبر بكثير كما تقدّم ، ثم نحن نبغضهم أيضا لجرائمهم في حقّ بيت الله المسجد الأقصى وقيامهم بإحراقه ومحاولات هدمه وحفر الأنفاق الكثيرة تحته ثم قتلهم إخواننا واستعمال الأسلحة الفتاكة التي تحفر رصاصاتها في رؤوس المسلمين ثم تنفجر داخلها :
- 10 شظايا وجدت في دماغ طفل مسلم ورصاص يُطلق من أسلحة كاتمة للصوت حتى لا ينتبه المسلمون أنّ أحدا من إخوانهم سقط جريحا فيسارعون إلى إسعافه وصواريخ تنفجر في أجساد المسلمين العزّل حتى لا تعرف عائلة أحدهم ملامحه ولا يستطيعون التعرّف عليه وغازات سامة يُزعم أنها لتفريق المظاهرات وهي في الحقيقة تصيب بالاختناق القاتل وإطلاق الرصاص على سيارات الإسعاف وقتلوا بعض رجال الإسعاف وجرحوا آخرين ومنعوا سيارة تقلّ امرأة مسلمة على وشك الوضع من إكمال طريقها إلى المستشفى حتى وضعت جنينها في السيارة وأطلقوا رصاص 500 و800 ورصاص الدمدم ففجّروا رؤوس الضحايا المسلمين : مائة وستون قتيلا وخمسة آلاف جريح ومئات المعوقين وأصحاب العاهات الذين باتوا لا يستطيعون الإنفاق على أسرهم . ومواد كيماوية في خزانات مياه الشرب في فلسطين لتعقيم النساء المسلمات وإصابتهن بعدم القدرة على الإنجاب وتغيير المناهج الدراسية للمسلمين في فلسطين حذفا وإضافة بما يوافق أهواءهم .
- إننا نؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى ليس في أفعاله تعالى شرّ محض بل لا بدّ أن يكون في خير بوجه من الوجوه كما هو معتقد أهل السنة والجماعة ، فها نحن رأينا خلال الأحداث الدامية على أرض فلسطين مظاهر إيجابية صدرت من المسلمين تبشّر بمستقبل مشرق ونصر قادم بإذن الله فمن ذلك :
- وجود القناعة العظيمة عند جماهير المسلمين بأنّ الطريق الوحيد لهزيمة اليهود هو الجهاد في سبيل الله فعظمت المطالبة بإقامة هذه الفريضة وذروة سنام الإسلام .
- سقوط الرايات القومية والثورية والوطنية والديموقراطية وكلّ الطّرق الجاهلية وارتفاع رايات لا إله إلا الله بأيدي المسلمين .
- وجود الجرأة العجيبة والشجاعة الكبيرة لدى الجموع المسلمة الغفيرة في فلسطين للتصدي لليهود بدباباتهم ومركباتهم وأسلحتهم وعدتهم وعتادهم .
- عودة قاعدة الجسد الواحد إلى جموع هذه الأمة وبوادر التطبيق العملي للصورة التي بينها صلى الله عليه وسلم بقوله : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر : حديث صحيح .
- وقد تجلى ذلك في هذه الصدقات العظيمة المبذولة من المسلمين لإخوانهم ، والبوادر الطيبة في نقل بعض الجرحى لعلاجهم وعيادة المسلمين لهم ، وأدعية القنوت المرفوعة في طول البلاد الإسلامية وعرضها ، وتعبير جموع المسلمين بشتى مستوياتهم عن وقوفهم بجانب إخوانهم ، بل محاولة بعض أطفال المسلمين الذّهاب إلى أرض فلسطين لإلقاء الحجارة على اليهود !! .(40/338)
- وضوح المنطلق الإسلامي للقضية عند الكثيرين من المسلمين وتجلّى ذلك في شعاراتهم المبيّنة لإسلامية القضيّة ومكانة المسجد الأقصى عند المسلمين وكان أشدّ ما آذى اليهود - كما اعترف بعض منظّريهم - شعار : خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود ، وقال أحد اليهود : علينا أن نعي حراجة الوضع الذي نحن فيه ، فهؤلاء لا يقصدون أنّ جيش محمد سيأتي فقط من مدن الضفّة الغربية وقطاع غزّة ، إنهم يقصدون أنّ هذا الجيش سيأتي من كل مكان فيه من يحترم محمدا ويصدّق أنه نبي ، فلا تتحدّثوا بعد ذلك عن السلام .
- توقّف عملية التطبيع مع اليهود أو تباطئها وهي من أشدّ الأخطار على الأمّة ، وخفتت أصوات دعاة السلام مع اليهود وهم يرونهم ينقضون مواثيقهم واتفاقياتهم وعهودهم عهدا بعد عهد ، مصداقا لقول الله تعالى فيهم : ( أَو َكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(100) سورة البقرة .
وإننا بالرغم ما رأينا من المظاهر العظيمة التي تدعو إلى التفاؤل فإننا يجب أن لا ننسى ما يلي :
- أن سبب هذا الذلّ والهوان الذي نعيشه هو حالنا نحن ، وأنّ كلّ ما أصابنا من سيئات فمن أنفسنا ، وإذا أردنا أن يرفع الله عنا الذلّ فلا بدّ من العودة إليه سبحانه : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) . وأنّ الأمة يجب أن تتوب مما وقعت فيه من الشّرك والبدع والمعاصي والموبقات .
- أنّ هناك غبشاً لا يزال عند البعض في طلب النّصرة من المشركين والاعتماد على الكفّار والوقوع في الخلط بين الرايات الإسلامية ورايات أهل الشّرك ، ومن شروط النصر أن يزول هذا الخلط : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) . وأنّ طريقنا يبدأ بكلمة التوحيد حتى يصل إلى توحيد الكلمة بناء على منهج الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
- أنّ بيننا وبين إعداد العدّة التي أمر الله بها بونا شاسعا ، فأين العمل بقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ(60)
وأخيرا فإننا نسأل الله تعالى أن ينجيّ المستضعفين من المؤمنين وأن يذلّ اليهود والمشركين وأن ينصر الموحدّين ويخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
موقع الإسلام سؤال وجواب
-================(40/339)
(40/340)
بدايات سفور المرأة في العالم الإسلامي (4) :المرأة اللبنانية
سليمان بن صالح الخراشي
هذه الحلقة من سلسلة " بدايات السفور" ستفاجئ كثيرين ؛ لأنها تتحدث عن نساء لبنان !
ونساءُ لبنان قد ارتبطن في أذهان كثير منا باللهو والطرب والغناء والرقص والبعد عن الأخلاق فضلا عن الدين ..
لأن هذا ما استطاع الإعلام العربي ترسيخه في عقولنا عن أولئك النسوة .
وأعلم أن في هذا ظلمًا وإجحافًا وبُعدًا عن الحقيقة التي يعلمها من زار تلك البلاد ، وتجول في مدنها وقراها وضيعاتها .. ورأى محافظة أهلها - رجالا ونساء - على دينهم وأخلاقهم الطيبة ؛ ولكن القلة الشاذة في بيروت خاصة - ومعظمهم من النصارى - قد شوهت صورتهم بين الناس .
ولهذا ينبغي على العقلاء من أهل تلك البلاد بذل الجهد لمحو الصورة الإعلامية المشوهة ، واستبدالها بصورة حقيقية حسنة ؛ ويكون ذلك بتأليف المؤلفات ، ونشر المقالات ، وتنفيذ البرامج عن الوجه الآخر للبنان المسلمة من خلال القنوات الإسلامية .. الخ
نعم : إن ضغوط الدول الغربية النصرانية على هذا البلد المسلم كبيرة وضخمة ، منذ سلخه من الدولة العثمانية ، حيث تصدير إخوانهم النصارى فيه ، وتمليكهم البلاد باشتراط أن يكون الحاكم نصرانيًا مارونيًا ، ومحاربة مظاهر الإسلام فيه ، والسعي في تغريب المسلمين .. الخ جهودهم . ومع هذا كله لابد من مواجهة هذا الكيد بنشر الدعوة الصحيحة ، وتوعية المسلمين هناك بدينهم وأخلاقهم ، والتأليف بينهم ؛ حتى يعود لبنان كما كان بلدًا إسلاميًا محافظًا .
أما عن حال المرأة في لبنان إلى وقت قريب قبل أن يغزوها التغريب في عهد الاستعمار الغربي ، فقد تعجب إذا أخبرتك بأن المسلمة هناك كانت تستر وجهها بالنقاب ! وسيزداد عجبك إذا علمت أن المرأة اللبنانية النصرانية كانت مثلها تستر وجهها بالنقاب !
يقول الدكتور النصراني فيليب حِتي في كتابه " تاريخ لبنان " ( ص 516 - 5518 ) متحدثًا عن أحوال بيروت :
( أثناء السنوات العشر التي احتل فيها المصريون سورية تغلغل النفوذ الغربي إلى داخل البلاد ، وأصبحت بيروت الميناء الرئيس ، وهو وضع احتفظت به إلى يومنا هذا .. - إلى أن يقول في وصفها - لم يكن مألوفًا أن يُرى الرجل متأبطًا ساعد امرأة خارج البيت ، وقلّ أن يرى المرء في شوارع بيروت رجالا أوربيين يرتدون ملابسهم الغربية . وإذا تجرأت امرأة غربية - زوجة قنصل أو تاجر - أن تنتقل خلسة من بيت إلى بيت فإن ذلك كان أمرًا يسترعي انتباه الناس ) .
إلى أن يقول :
( لم تكن هنالك مدينة لبنانية أخرى تستطيع أن تنافس بيروت . فطرابلس كانت بلدة صغيرة سكانها سبعة آلاف نسمة ، وكانت صيدا فقدت عظمتها ورونقها ، أما صور فقد كانت تغط في سبات العصور المتوسطة . وفي جميع هذه المدن كانت المرأة النصرانية تغطي وجهها بحجاب كما تفعل المرأة المسلمة ) . انتهى كلامه .
أما عن المرأة المسلمة هناك ؛ فيقول الشيخ محمد رشيد رضا ( اللبناني الأصل ) متحدثًا عن زيارته للبنان وأحوالها في زمنه القريب :
( كانت المسلمات في بيروت أشد محافظة على التقاليد القومية من أمثالهن في سائر المدن السورية، فلم تؤثر فيهن عوامل التفرنج الذي غلب على نساء النصارى لا النافع الصالح منها ولا الضار المفسد ولا عوامل التترك الذي سرى إلى مسلمات دمشق ، فكن أشد مسلمات سورية جمودًا وكان رجالهن راضين بذلك ، ثم رغبوا في تعليم البنات فأنشأوا لهن مدارس ابتدائية ، وأنشأت الحكومة العثمانية مدرسة للبنات في بيروت كان جميع تلميذاتها من المسلمات ؛ لأن النصارى لا يرغبون إلا في مدارس الإفرنج .
ثم وجد في بعض شبان المسلمين الذين تعلموا في المدارس الأوربية والأمريكية وأثر فيهم التفرنج ميل إلى فرنجة النساء ، كان الرأي الاسلامي العام يقاومهم فيه وما زال صديقنا الأستاذ الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت زعيم هؤلاء المقاومين على عنايته بتعليم البنات وإشرافه عليه في عدة مدارس ) .
ثم تحدث عن تجربة " عزمي بك " والي بيروت ، و " أحمد مختار بك بيهم " في إنشاء الجمعيات النسائية الإسلامية - إلى أن قال - :
( أنشأ الزعيمان ناديا للنساء في سنة 1335 (1971م ) وألفا له جمعية من كرائم المتعلمات منهن باسم " جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات " ثم أسس هؤلاء الكرائم مدرسة لتعليم البنات ، وكان النادي يعقد اجتماعات نسائية يحضرها النساء والمستحسنون لهذا العمل من الأدباء والأطباء ويلقون فيها الخطب والدروس التي اصطلح كتاب العصر على تسميتها بالمحاضرات ، ويسمعون من أعضاء النادي الكرائم ما يلقينه فيه ويتحدثون معهن في المسائل الأدبية والاقتصادية والصحية وتدبير المنزل والتربية ، وإنما يكن مع الرجال سادلات على وجوههن النقاب الإسلامبولي الأسود ، لا سافرات ) ، ثم ذكر موجز محاضرته التي ألقاها في الجمعية السابقة . ( انظر : رحلات محمد رشيد رضا ؛ للدكتور يوسف ايبش ، ص 244 - 247 ) .
متى بدأ تغريب المرأة اللبنانية ؟!(40/341)
يقول الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله - في كتابه " الفكر العربي المعاصر في معركة التغريب والتبعية الثقافية " ( ص 621 - 622 ) :
( وفي لبنان ارتفعت صيحة الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة باسم الآنسة " نظيرة زين الدين " عام 1929في كتاب ضخم بلغ 420 صفحة من القطع الكبير اسمه " السفور والحجاب " اعتمد على الدعوة العاطفية واستغلال الآيات القرآنية والأحاديث فيما ذهب إليه من حرية السفور ).
( وقد هاجم الشيخ مصطفى الغلاييني هدف كتاب نظيرة زين الدين وقال : إن هذا الكتاب قد اجتمع على تأليفه عدد كبير من اللادينيين والمسيحيين والمبشرين ، وإن الآنسة وأباها ( الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في الجمهورية اللبنانية ) كانا إما مخدوعين أو شريكين لهؤلاء الدساسين ، وانه كشف النقاب عن غايات مؤلفي الكتاب وغيرهم ممن يسعون لإفساد المسلمين والقضاء على عقائدهم وأخلاقهم بالقضاء على المرأة المسلمة .
وقال : إن هذه هي الوسيلة التي وصل إليها أخيرًا المبشرون بعد أن عجزوا عن الطعن في الإسلام ؛ وهي استخدام بعض أهله ، وقال : إنه في عام 1928 كثر اللغط والحديث حول مسألة المرأة في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان والعراق في آن واحد ، ثم ظهر كتاب " السفور والحجاب " المكتوب بأقلام أذناب هؤلاء المبشرين الذين نعرف أسماءهم كلهم ونعرف أكثر أشخاصهم ، وقال : إن مؤلفوا الكتاب قصدوا إلى الطعن في الإسلام في صور من الأساليب خلابة مموهة بالباطل من القول والزخرف من الكلام .. ) . انتهى .
قلتُ : كتاب الشيخ الغلاييني الذي هاجم فيه كتاب نظيرة عنوانه " نظرات في كتاب السفور والحجاب المنسوب إلى الآنسة نظيرة زين الدين " ، ألفه في نفس العام الذي صدر فيه كتاب نظيرة ، مشككا في أن يكون الكتاب من تأليفها ؛ لأنه يعلم حقيقته !
يقول الشيخ في مقدمة كتابه ( ص 5 ) : ( أهدت إليّ الآنسة نظيرة زين الدين كتابها " السفور والحجاب " وأصحبته بكتاب ترغب إليّ فيه أن أنظر في كتابها ، وأبدي رأيي فيما تضمنه من الأفكار والآراء . وما كنتُ جاهلا أمر هذا الكتاب ، ولا من كان يكتب فصوله ، ويُصحح أمثلته في المطبعة . فقد كنتُ أعلم أنه اجتمع على تأليفه المسلم السني ، والمسلم الشيعي ، والنصراني ، واللاديني ) .
ثم أخذ يرد عليها فصلا فصلا ..
قائلا في فصل " النقاب " ( ص 53 ) : ( قد اعتاد نساؤنا النقاب الذي يدفع عنهن نظرات السوء ومقالة الفاسقين ، فأي شأنٍ لكِ فيهن وهن لا يرضين ما تدعيهن إليه ؟! ) .
قلتُ : وقد أعادت إحدى دور النشر العلمانية في لبنان طباعة كتاب " السفور والحجاب " لنظيرة ، عام 1998، بمراجعة وتقديم من الدكتورة المتحررة بثينة شعبان - هداها الله - . فحريٌ بدعاة الفضيلة إعادة طباعة كتاب الشيخ الغلاييني ، الذي لم يُطبع - حسب علمي - منذ طبعته الأولى .
ختامًا : لمعرفة تطور حركة تغريب المرأة في لبنان ؛ طالع كتاب " أضواء على الحركة النسائية المعاصرة " لروز غريب ، ( ص 346 - 353 ) .
=================(40/342)
(40/343)
التوحيد في الحاكمية
السؤال :
سمعنا كثيراً في السنوات الأخيرة عن مصطلح ( توحيد الحاكمية ) فما حقيقة هذا التوحيد ؟ و ما حكم استعمال هذا المصطلح في الطرح الإسلامي المعاصر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لفظ ( الحاكميّة ) من الألفاظ المولّدة القائمة على غير مثال سابق في اللغة العربية ، و أول من استخدمها في خطابه السياسي و الديني هو العلامة الهندي الشهير أبو الأعلى المودودي ، ثم أخذها عنه الأستاذ سيد قطب رحمهما الله فبثها في كتاباته كمَعْلَم من معالم العمل الإسلامي الذي جاد بنفسه في الدعوة إليه و التركيز عليه .
هذا عن أصل استعمال ( الحاكمية ) كلفظٍ في لغة العرب ، و قد أصبحت مرادفة للحكم في اصطلاح كثير من المتأخرين ، و إذا وقف الأمر عند حد إطلاق هذا المصطلح على المراد الشرعي منه ، و هو إفراد الله بالتحكيم و التشريع فلا بأس في ذلك إذ لا مشاحّة فى الاصطلاح كما هو مقرر عند الأصوليين .
و ممّا لا خلاف فيه بين الموحدين قاطبةً وجوب توحيد الله تعالى في التحكيم و الرد إلى شريعته المحكمة المنزلة في كتابه المبين ، و سنة نبيّه خاتم المرسلين صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم ، قال تعالى : ( و لا يشرك في حكمه أحداً ) و في قراءة ابن عامر ، و هو من القراء السبعة : ( و لا تُشرك في حكمه أحداً ) ، و قال سبحانه : ( ألا له الخلق و الأمر ) ، و قال أيضاً : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
فمن أعطى حق التشريع أو الحكم فيما شجر بين الخلق لغير الخالق أو أقر بذلك أو دعا إليه أو انتصر له أو سلّم به دونما إكراهٍ فقد أشرك بالله شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام ، و العياذ بالله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ في منهاج السنّة النبويّة : 5 / 130 ] : ( و لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل ، و قد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ... فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار ) .
و قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله [ في أضواء البيان : 7 / 162 ] : ( الإشراك بالله في حكمه و الإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما ألبتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، و تشريعاً غير تشريع الله ، و من كان يعبد الصنم ، و يسجد للوثن لا فرق بينهم ألبتة ؛ فهما واحد ، و كلاهما مشرك بالله ) .
و قال رحمه الله أيضاً [ في أضواء البيان : 7 / 169 ] : ( لما كان التشريع و جميع الأحكام ؛ شرعية كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً ، و أشركه مع الله ) .
و خلاصة ما بينه رحمه الله تعقيباً على الآيات البينات التي سقناها آنفاً يوجزه قوله : ( إن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركون بالله ) .
و ليس بعيداً عنه قول مفتى الديار السعودية في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : ( أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع فهذا كفر و إن قالوا أخطأنا و حكم الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
و للمشائخ المعاصرين حفظ الله حيهم و نفع به و رحم ميتهم و أجزل مثوبته من الكلام في وجوب توحيد الله في الحكم و التشريع ، و تسمية العدول عنه شركاً ، و الحكم على صاحبه بالكفر الأكبر الناقل عن الملة الشيء الكثير مما لا يسمح المقام بتتبعه و سرده مطولاً ، و من أراد التوسع فعليه بفتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله و رسائله ، و بخاصة رسالة نقد القومية العربية .
قلت : و إذا تقرر وجوب إفراد الله بالتحكيم و أن من الكفر الأكبر أن يُشرَكَ في حكمه أحدٌ من خلقه سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو سلطاناً أو زعيماً أو مجلساً تشريعياً أو سلطةً مدنية أو عسكرية أو فرداً من العامة أو الخاصة أو غير ذلك ، و أن ذلك مما أجمعت عليه الأمة ، و لا يسوغ لأحد أن يخالف أو يجادل فيه ، فلن يكون للخلاف حول إطلاق مصطلح ( توحيد الحاكمية ) أو عدمه أثر في الواقع ، و لا داعي للانشغال بتقرير هذا التوحيد كقسمٍ رابع من أقسام التوحيد المعروفة ، أو رده إلى الأقسام الأخرى ، و خاصة توحيد الربوبية و توحيد الألوهية .
بل يجب أن يبقى الأمر في دائرة المصطلحات السائغة التي لا مشاحة فيها لأحد ، مع التسليم بجدوى التقسيم إذا كان فيه مصلحة معتبرة لطالب العلم كتسهيل دراسته و تحصيله ، أو لضرورة تنبيه الناس إلى ما غاب عنهم أو انشغلوا عنه بغيره من أبواب العلم و العمل .(40/344)
فإن أبى من جمد على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام إلا أن يبدّع من خالفه في هذا التقسيم و يغمز قناته بإطلاق لسانه بثلبه أو نبذه بالتحزب و الخروج و نحو ذلك ؛ قلنا له : من أين لك أن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة مرده إلى الكتاب أو السنة أو هدي سلف الأمة ؟
أما إن اعتُرض على توحيد الحاكمية كاصطلاح و ليس على مجرد التقسيم إلى قسمين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر أو أقل ، فيقال للمعترض : إن الدعوة إلى إفراد الله و رسوله بالحكم ليس مما ابتدعه المعاصرون بل هو من القدم بمكان .
قال ابن أبي العزّ الحنفي [ في شرح الطحاويّة ، ص : 200 ] في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم ( فنوحّده بالتحكيم و التسليم و الانقياد و الإذعان ، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة و الخضوع و الذلّ و الإنابة و التوكّل ، فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرِسل ، و توحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ، و لا نرضى بحُكم غيره ) .
فإن شغب علينا من يقول : إن الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر توحيد الرسول بالتحكيم و لم يكن حديثه عن توحيد الله .
قلنا : الأبعَدُ ثكلته أمه !! و هل ثمة فرق بين تحكيم الله و تحكيم رسوله الذي لا ينطق عن الهوى ؟
و إن قيل : إن الكلام عن الطاعة و التسليم و الانقياد و ليس عن التحكيم بمعناه المستخدم عند المعاصرين و هو التحكيم في التشريع !
قلنا : أوليس ردّ التشريع إلى الله تعالى من صميم التسليم و الانقياد و الإذعان للشارع الحكيم سبحانه ؟!
بل هو من أدق مسائل التوحيد في الربوبية التي تثبت لله دون سواه الحق في التشريع ، و في الربوبية التي توجب صرف هذا الحق لله تعالى على الإفراد و التوحيد ؛ كما هو مقرر في كتب أصول الدين ، و الموفق من وفقه الله لفهم كلام السلف ، و نهج نهجهم ، و سلوك سبيلهم ، على كان عليه ، لا على ما قد يتوهمه بعض الخلف ، و ينسبونه إلى السلف ظناً منهم أو زعماً أنه منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
==================(40/345)
(40/346)
بعد سبّ النبي بطل سحرهم ، وانتهى كيدهم
محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com
حين غزا الشرقُ والغربُ في القرن التاسع عشر الميلادي العالمَ الإسلامي ، هَالَ فريقٌ من المنتسبين للعلم حال الغرب ، وأخذهم الإعجاب بهم كل مأخذ ، فالتفتوا إليهم ينظرون حالهم ثم التفوا حول الشريعة الإسلامية وراحوا يحملونها ليسيروا بها على هوى الغرب الكافر والشرق الملحد .
فزعم نفر منهم أن الاشتراكية من الإسلام ، وأن أول اشتراكي كان من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الأديان متكاملة ، وأن الإسلام نزع منا بغض ( الآخر ) .!!
وراح نفر من هؤلاء المنهزمين المنبهرين يَكذبون على أنفسهم قبل قومهم وربهم ويقولون للقوم أن ما عندكم عندنا ، فحبُّ الأوطان هو الولاء والبراء عندنا ، والقوانين الكلية ( الدستور ) هي القواعد الفقيه عندنا ... !!
ونفر من هؤلاء صدَّّّق أن القوم عقلاء حكماء قد فهموا وأبصروا وغيرهم ـ من المسلمين ـ ما زالوا في غيهم يعهمون ، فتنكر للنصوص وخط للعقل و ( العقلاء ) خطا في عمق الشريعة فابتدع المقاصد ـ بمفهومها الجديد ـ ليقول للقوم أننا مثلكم نحترم العقل على ذات طريقتكم .!!
وظل هذا الركب من المنهزمين المنبهرين يسير فجاء فيما بعد من حاولوا تفسير القرآن ـ تفسيرا ( علميا ) حديثا يتماشى مع العقل ـ فزعموا أن الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أبرها الحبشي وجنده ترميهم بحجارة من سجيل هي مرض ( الجُدري ) ، وأن آية الدم التي أرسلها الله على فرعون هي البلهارسيا وغير ذلك . كل ذلك ليحسنوا صورة الإسلام أما الغرب .!!
والذين جاؤوا من بعدهم قالوا بـ ( اشتراكية الإسلام ) وأن ( الديمقراطية من الإسلام ) . و أن الحجاب عادة كانت وما عادت . وأن الأخوة أخوة الأوطان واللغة لا الدين والمِلَّة .
وإن كنا نحسن الظن بنفرٍ منهم ونرى أنهم كانوا يريدون حقا الصلاح لأمتهم ، إلا أن حُسن النية قد يرفع العقوبة أو يخففها إلا أنه لا يكفي لتصحيح الفعل وتمريره .
ومضت الأيام لتقول لنا أن القوم كانوا جسورا ركبها الكفر ، وغزا بها ثوابتنا العقدية فتغير مفهوم الولاء والبراء وظهرت ( القومية ) و( الوطنية و ( الجامعة العربية ) بدلا من الخلافة الإسلامية ، وتغير مفهوم الحجاب والجهاد وتحكيم الشريعة والتحاكم إليها . والمنهزمون يُؤولون أو ( يتفهمون ) .!!
ثم نادي الكفار بالحوار ( الحضاري ) فبرز إليهم ثلة من المنهزمين ـ وما أخرجهم أحد من المسلمين ـ وهم يتصببون عرقا ويتوارون من ( سوء ) ما يفعله المنتسبون للإسلام من ( إرهاب ) . يجلسون جلسة الخائف المذنب أمام من يحاكمه ، وانتهى الحوار بكل ما يسئ الصديق ويفرِّح العدو .
وحين ظهرت ( العولمة ) اشتدَّ الدجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وخرج ( الليبراليون )
على الناس وألقوا حبالهم وعصيهم يريدون أن يجعلوا الكل سواء ... عقيدة الكفر كعقيدة الإيمان ... والمسلمين كالمجرمين ... حاولوا إعادة قراءة الدين من جديد ليكون إسلامي الأُطر غربي المحتوى .
إلى يومهم هذا وهم مازالوا يقيمون الجسور والكباري بين الكفر والإيمان بدعوى أن القوم ( عقلاء ) ( مؤدبون ) ، وأن ما يصدر منهم من قتل وتعذيب للمسلمين والمسلمات في كل مكان وتطاول على الدين الإسلامي ، إنما هو من فعل الساسة والمتشددين وأن القوم ليسوا سواء ، بل جُلُّهم عقلاء .
واليوم ـ بعد سب صلى الله عليه وسلم وإهانة المصحف ـ بطل سحرهم ، وانكشف جهلهم ، وراحت تأويلاتهم وتصويغاتهم ، فها هو الغرب يسبُّ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ليس الدينمارك وحدها ، وإنما دول أوروبا ومن قبلهم أمريكا .
وليس المتشددون ، وإنما الكل .
لم نسمع من احتج ، وإنما أحسنُهم من يُبرر .
كلهم يسبون ، وكلهم يسخرون منا ومن شرعنا ، وليس الدافع هو ( إرهاب ) إخواننا .
فأين الجسور التي يبنيها القوم من قرون ؟!
اليوم ، وبعد سبِّ الحبيب صلى الله عليه وسلم وما حدث في ( أبو غريب ) و ( جوانتنامو ) و( قلعة حاجي ) في أفغانستان ، تبين للعُميان أن ( العلمانية ) ولّت أدبارها ، وانتهى من التاريخ دورها ، فها هي الأمة الإسلامية تتفاعل مع قضايا إخوانها في فلسطين والعراق وأفغانستان وجوانتنامو ، وها هو الغرب كله يسفر عن وجهه الصليبي الكالح ، ليقول لكل مغفل ما زال يؤمن بالعلمانية وأنه لا دين .أن الصراع بدأ يتجدد على خلفيات دينية ، وأن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، وقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، وأن المنافقين يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ،
وأن الأمة الإسلامية بدأت ترجع إلى شرع ربها ،
وأهمس في أذن علمائنا وشيوخ صحوتنا : ها هي سَوْءة العلمانيين والليبراليين وكل المخذِّلين انكشفت ، وهي هي الأمة تلقي بزمامها إليكم فلا تفرطوا فيه ، والأجر على قدر المشقة ، ولا يدوم عسر ولا يسر ، ولكل جيل رجال ، فأنتم أنتم . والله نسأل أن يعجل بنصرة وعزِّة أولياءه . وأن يكون سبّ الحبيب صلى الله عليه وسلم بداية النصر والتمكين ، وما ذلك على الله بعزيز .
==================(40/347)
(40/348)
(40/349)
علام نُعطِي الدَّنية أما آن لها أن تنتهي؟
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى بالسيف بين يدي الساعة، وجعلَ الذلة والصغار على من خالف أمره أما بعد
فالعدو اليهودي يَفْجُر وبقذائفه يقصف فتحرق الأخضر واليابس، والأرض تلتهب والنيران تشتعل، يُقتل الرجال والأطفال والنساء، ومن نجا فلا يجد ملجأ ولا عائلا، أنحن في حلم مزعج؟ لا بل نحن في لظى الحقيقة، هاهم اليهود لعنهم الله تعالى يقتلون إخواننا في فلسطين التي بها بيت المقدس مسرى رسول ا صلى الله عليه وسلم يدكون الحصون يقتلعون الأشجار يهدمون البيوت، ينسفون الجسور، يهاجمون محطات الكهرباء والمياه والمستشفيات وكأنها قلاع عسكرية، فماذا نحن فاعلون؟ إن أمتنا العربية والإسلامية اليوم وأكثر من أي يوم مضى على محك الاختبار، فإما أن تكون وإلا فعليها العفاء، ماذا ننتظر حتى نتحرك التحرك الصحيح في الزمن الصحيح وفي المكان الصحيح؟ إذا لم نتحرك اليوم فمتى نتحرك ؟.
منذ عدة عقود استولى اليهود الشعب المقطع الأوصال في بلدان العالم، على أرض فلسطين وأقام على أشلاء الكثيرين من أهله دولته، فماذا كان موقف العالم الذي يدعونه متحضرا لقد اعترف بتلك الدولة، وأقرها على ما فعلت ليكون الغصب والقدرة على الفعل هو القانون الذي يسير العالم، بغض النظر عن كون القوة مساندة للحق، أم هي لفرض الباطل، وظل كثير من زعماء الأمة فيما مضى يخدِّرون الناس بوهم القومية العربية والدفاع العربي المشترك، حتى نُحر ذلك كله قُربانا لرعاة البقر، ومغتصبي الحقوق من أصحابها.
إن من حق إخواننا في فلسطين أن يبذلوا كل ما وسعته طاقتهم، في تحرير أرضهم ممن اغتصبها بأي طريق كان، فالظالم أظلم وعلى الباغي تدور الدوائر، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّار" ، لقد قام إخواننا الفلسطينيون بأسر أحد جنود الظلم والعدوان وهذا حقهم، فلقد خطف اليهود من قبل أرضهم وخطفوا الكثير من شعبهم، وقتلوا منهم أكثر مما خطفوا بلا حق لهم في ذلك، فماذا فعل العالم الذي يتشدق صباح مساء بحقوق الإنسان والشرعية الدولية حينذاك؟ ِدعوة للتهدئة، دعوة لضبط الأعصاب، الإعلان عن الشعور بالقلق لما يجري، دعوة للفلسطينيين للاحتكام إلى العقل وقبول ما هو متاح، دعوة للتنازل عن دم الشهداء عن الديار عن الأوطان، وأما اليوم فالضغوط تتوالى من كل حدب وصوب، ومن العدو والصديق بالسياسة حينا وبالقوة العسكرية أحيانا، وكأن شعبا بأكمله من المسلمين لا يساوي جنديا من اليهود.
إن الفلسطينيين عندما أسروا ذلك الجندي لم يقوموا بقتله ولم يطلبوا نظير فكه فديه كل ما طلبوه نظير ذلك فك أسراهم الذين امتلأت بهم سجون اليهود، حتى النساء الحوامل لم يسلمن من الأسر حتى تضع الأسيرة طفلها هناك فيكون الآخر هو مأسورا من أول لحظة يقدم فيها إلى الدنيا
قد لا يكون الخطأ خطأ العالم (المتحضر) فإنه لم يخالف أصوله، بل ظل وفيا لتاريخه القائم على الظلم والبغي والعدوان، وإنما الخطأ راجع إلى من صدَّق هذه الخزعبلات واطمأن إليها وراح يبشر بها، ومن أجلها يتنكر لثوابته ويقفز على تاريخه، أليس العالم (المتحضر) عالم استعماري احتلوا الكثير من البلدان وأزهقوا أرواح الأهالي واستنزفوا الخيرات، فكيف يرجى منهم نصر حق أو إزالة باطل، وإلا فقولوا لنا: كيف يحتل اليهود أرض فلسطين منذ ما يقارب ستين عاما ثم لا يحصل الفلسطينيون على حقوقهم، بينما العالم (المتحضر) يمتلك كل الوسائل التي من شأنها أن تحقق له ما يريد، وقد بيَّن القرآن أن من كانت له إرادة وكانت عنده القوة الكافية فلا بد أن يحصل مراده، ولا يتخلف مراده إلا في أحد حالين: أن تكون القوة غير كافية، أو تكون الإرادة غير جازمة، قال الله تعالى: [ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة] {التوبة:46} فبين الله تعالى أنه لم تكن لهم إرادة الخروج، ولو أرادت الدول (المتحضرة) نصرة الفلسطينيين لفعلوا، ألم يقفوا بجوار تيمور الشرقية (ذات الأغلبية النصرانية) حتى فصلوها عن الدولة الأم (إندونيسيا الإسلامية) في زمن يسير، والأمثلة كثيرة، لكن لماذا نحن ننتظر من غيرنا أن يدافع عن حقنا أو أن يحصل لنا عليه؟ إنه ما لم تكن لدينا القدرة على انتزاع حقوقنا انتزاعا فلن يعطيناها أحد من الناس ولن يسمع لشكوانا أو يستمع لأنيننا أحد، فإن العالم اليوم أشبه ما يكون بحديقة الوحوش لا يحترم فيها إلا الأقوياء(40/350)
واليوم بعدما حاول الفلسطينيون أن يردوا شيئا هو أقل من القليل بكثير مما لحق بهم وقاموا بأسر جندي من جنود اليهود، هاج اليهود كأنهم بغال شموس وعاثوا في الأرض الفساد، واستباحوا الحمى وقتلوا أكثر من أربعين قتيلا (نحسبهم شهداء ولا نزكي على الله أحدا) والمئات من الجرحى، واختطفوا العديد من الوزراء والنواب، الذين لهم حصانة بمقتضى (الشرعية الدولية المزعومة).
فماذا كان موقف أمريكا (راعية الحريات ونشر الديمقراطية في العالم) من ذلك؟، لقد صرحت على لسان المسئولين فيها: إن لليهود حق الدفاع عن النفس، أي نفس هذه؟ النفس الظالمة المحتلة التي استولت على الأرض من أصحابها، أما أصحابها الأصليون فلا حق لهم في الدفاع عن النفس، ألا شاهت وجوه أقوام لا يستحون من الكيل بمكيالين، وينصرون الظالم المعتدي، ويتبجحون بذلك أمام الناس ولا يبالون بأنات الأيتام والأرامل والجرحى والمرضى،ألم يقتل اليهود من قَبْل الفلسطينيين؟ ألم يخرجوهم من ديارهم؟، ألم يذهبوا وراءهم آلاف الأميال في تونس ليقتلوهم هناك؟، ألم يخطفوهم من بيوتهم بل حتى من السجون التي كانت تحت حراسة القوات الدولية؟ لكن هل فعلت أمريكا ومن مشى في دربها المظلم شيئا يخالف منهجها الظالم، الذي ما ترك قضية للإسلام، إلا وقف ضدها وساند من يعاديها، فماذا كان رد فعل العالم-الذي تحرك من أجل أسر جندي محارب والسلاح في يده-إزاء ذلك كله؟
وها هي الدول الكبيرة لا تكاد ترى خللا في بلاد المسلمين-وقد تكون هي الداعمة له-إلا طالبت بالتدخل الدولي وإرسال قوات من الأمم المتحدة، لتكون بمثابة رأس الحربة التي يتوكأ عليها أعداء الإسلام، فها هم اليوم يحاولون التدخل في شئون السودان بحجة مشكلة دارفور الداخلية، بينما لا نجد أحدا يتكلم عن مثل هذا في أرض فلسطين رغم أنهم في أشد الحاجة لمن يكف عنهم بأس اليهود، وهاهي أمريكا تستصدر من الأمم المتحدة قرارا يعطي جنود الاحتلال في العراق-الذين عذبوا المواطنين وهتكوا لأعراض وقتلوا النفوس المعصومة ومثلوا بالجثث-الحصانة ضد المحاكمات، بينما لا يستحون من المطالبة بمحاكمة أعضاء من الحكومة السودانية أمام المحاكم المعنية بمحاكمة مجرمي الحرب من أجل المشاكل المصطنعة التي في دارفور .
فيا حكام قومي ويا حكام أمتي إن كنتم تريدون أن يكون لكم شأن في هذا العالم، ولا تكون بلدانكم مجرد بقرة حلوب يستدرون منها الحليب والدسم، فقد جاء دوركم وحانت الساعة، قفوا وقفة رجل واحد، وهبوا هبة لا التواء فيها ولا تلعثم، إن العالم اليوم لم يعد يعترف بالأخلاق ولا بالمثاليات، ولا يفهم إلا لغة واحدة، لغة القوة التي تذهل الخليل عن خليله كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وهو بين يدي رسول ا صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية:
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله
قال الله تعالى وهو يستحثنا على نصرة المظلومين: [ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا] {النساء:75}
إن الهرولة أمام اليهود والمشي في ركابهم وفتح السفارات، والاستعداد لفتح سفرات أخرى، وإقامة العلاقات الاقتصادية لا يزيدكم إلا وهنا على وهن، ولا تزيدهم إلا طغيانا وتجبرا، كما الله تعالى في الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن فزادوهم بالاستعاذة بهم طغيانا قال الله تعالى:[وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا]{الجنّ:6} والرهق: الطغيان
إن المعركة ليست معركة اليهود مع الفلسطينيين، إن المعركة هي معركة الأمة جميعها وهي معركة الكفر مع الإسلام، وقد ظن الكفر أن الساعة قد حانت، وأن أوان القضاء على الإسلام قد حل، وما يجري اليوم بالفلسطينيين ليس إلا صورة لمن يمكن أن يحدث لغيرهم، وحينئذ لن ينفع القائل قوله: [ياليتني قدمت لحياتي ] {الفجر:24} وما تجرأ الأمريكان على غزو أفغانستان والعراق من بعدها، إلا لما رأوه من رد فعل المسلمين الذي لم يرق لمستوى الحدث الجلل في فلسطين.
لقد ملأت أمريكا والغرب من وراءها الدنيا ضجيجا بالحديث عن الإرهاب، فماذا تسمون الهجوم بالطائرات والدبابات على شعب أعزل، وماذا تسمون تدمير الجسور ومحطات الكهرباء والمياه أليس ذلك إرهابا، بل ماذا تسمون ضرب الشواطئ وقتل الأطفال الأبرياء الذين يلعبون على رمالها ألا يستحق هؤلاء أن تقف الدنيا كلها أمام ظلمهم وعدوانهم لكن الأمر كما قال الشاعر العربي
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا(40/351)
فيا دعاة التطبيع ويا دعاة الاستسلام باسم السلام كُفُّوا عنا جُشاءكم، فما جنت أمتنا من وراء لهاثكم وراء ذلكم السراب سوى التعب والإرهاق الفكري والعقدي، ثم حصدت ذلك ذلا وضعفا وتخاذلا وهوانا على الناس، حتى لم يعد يحسب أحد حسابا لهذه الأمة ولولا هوانها على الكفار ما تجرأ أحد أن يسخر من خير البرية r لكنهم قاتلهم الله سخروا ولما طلب منهم مجرد الاعتذار لم يعتذروا، فما تحركت جيوش ولا أساطيل، ولا أقلعت الطائرات من مطاراتها، ولا خرجت النيران عن مرابضها، وكل ما قدمته الشعوب المسكينة هو مجرد المقاطعة الاقتصادية، لقد ظللنا زمانا نتعجب ونستغرب من اقتصار الرد الرسمي على مجرد الشجب والإدانة وإصدار بعض البيانات، فصرنا اليوم لا نجد إلا الصمت والسكون.
إن الواجب اليوم ليس واجب الفلسطينيين وحدهم، لكنهم هم الواجهة والطليعة، وهؤلاء هم أصحاب أرض الشام، الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم ، وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قلنا : يا رسول الله وأين هم ؟ قال : « بأكناف بيت المقدس"
وأنتم أيها الفلسطينيون الأباة اثبتوا على اختياركم واثبتوا على دينكم وعضوا عليه بالنواجذ ولا تفرطوا فيه ولا تستمعوا لصوت ضعيف كليل قد أجهده السير، أو قد رغب في الدنيا ورضي بالدَّنية، ولماذا ترضون أنتم بها أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ؟
وأنتم أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إن حيل بينكم وبين مناصرة إخوانكم بأجسادكم، فأين أموالكم لماذا لا تصل إليهم؟ وإن منعت أموالكم من الوصول إليهم فأين أنتم من سهام الليل التي لا تخطئ؟ فاجتهدوا في الدعاء لهم كأنكم تدعون لأنفسكم أو لأولادكم من أصلابكم، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الذين ظلموا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، وحينها لا ينفع الندم ، وما ذلك على الله بعزيز، ولعل أيامه قد اقتربت، اللهم أنت القوي العزيز انصر إخواننا في فلسطين وفي سائر البلدان على من عاداهم وناوأهم واجعل عاقبتهم خيرا
===============(40/352)
(40/353)
ركب المنهزمين
محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com
في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي نزل نابليون مصر بنسائه العاريات ، وبنادقه ومدافعه ، ونقب عن الفراعنة ثم ارتحل وقد تعلقت به النفوس المريضة تريد التقليد .
رحلَ ورحلَتْ في إثره العمائم ثم عادت تثني على ديار الكفر تريد محاكاتها ، فكان تيار المتفرنجين - إن صح التعبير -
ونهض المشايخ (الأئمة ) - بحسن نية[1] - يريدون الذّود عن الدين .. نهضوا بروح منهزمة منبهرة بعدوها ، فالتفتوا إلى عدوهم ينظرون حاله .. ثم التفوا حول النصوص يريدون حملها ليسيروا بها على هوى الغرب تارة و الشرق تارة أخرى .
فزعم الأسد أ بادي ( جمال الدين الإيراني ) أن الاشتراكية من الإسلام .وهو كاذب . وان أول اشتراكيي عرفه التاريخ كان من الصحابة رضوان الله عليهم !! ، وقال بوحدة الأديان وتكاملها !! ،وراح يستجدي النصرة من أمريكا ، وما نصرته أمريكا .
وعلى دربه صار تلميذه محمد عبده فصاحبَ الإنجليز حتى تخذه ( كرومر ) صديقاً !! وأحل الربا في شكل صناديق التوفير ، وأباح التشبه بالكفار في الفتوى الترنسفالية ،وشارك مع المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر في إنشاء معهد للإعداد ( الدعاة المتحررين ) ، فكان جسرا عبر عليه العدو إلى حلالنا وحرامنا ، فحلل الحرام وحرم الحلال تحت دعوى ( الإصلاح ) ، وخطط لإنشاء جامعة علمانية كانت فيما بعد جامعة القاهرة ، وكان ظهيراً لقاسم أمين ، بل زعم البعض أن جُلَّ كتاب ( تحرير المرأة ) خُط بيدي الشيخ .[2]
لا أحد يستطيع أن يشكك في نوايا محمد عبده ، فقد كان حقيقة يريد ( الإصلاح ) ، ولكن غلبه الجهل والانبهار بالغرب ، وصار تحت ردود الأفعال فأوجد انحرافا وأحدث خرقا .[3]
ثم في خطوة أخرى جاء بعض المنهزمين .. المنبهرين وعمد إلى كتاب الله يفسره بما يتفق مع العلم الحديث ، فزعم أن الطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل هي الطاعون ، وأن آية الدم التي أرسلت على فرعون وقومه هي البلهارسيا !!
ثم نبت في ربوعنا الدّغل ( الاشتراكية أعني ) يتاجر بالقضية الاجتماعية وفقر الجماهير وتقبلته الجماهير فانتفش وعَلَى الزرع .
وبعد حين جاءته رياح القومية الخبيثة ذات الأصل النصراني الكافر تلقحه وتنميه على بُغض الإسلام ، فأصبحت الأنظمة الجديدة لا تريد الإسلام لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في أي شيء وأضحى واضحا ( أننا نحن الاسلاميين0 أشد الناس عداوة عند العلمانيين من اليهود والذين أشركوا ) ، وبات القوم وقد انسلخت من قلوبهم الغيرة على المقدسات والأعراض حتى تسائل الأحبة بكل مرارة ( لماذا .. ولماذا .. ولماذا .. ثم لماذا يصر المنافقون على الصدام مع مطلب الإسلاميين ثقافياً وسياسيا وإعلامياً وبوليسياً وعسكرياً بل ووعظياً رسمياً ) ؟؟[4]
وليس ذاك إلا لأنهم كرهوا ما أنزل الله ).
وتحت وطئة هذه الهجمة اليسارية الشرسة عاد المنهزمون ثانية ليكتبوا عن ( اشتراكية الإسلام)
واليوم أو بالأحرى في الآونة الأخيرة انضم إلى الصحوة - دون إذن أو استشارة - فريق ينزع إلى الاجتهاد العقلاني في فهم النصوص والواقع ، كثير منهم منحدر من تجارب عقدية ومنهجية مغايرة للمنهج الإسلامي وعقيدته ، من ماركسيين وقوميين وبعثيين وليبراليين لا دينيين .
وهذا الفريق لديه جرأة عجيبة على تجاوز النص الشرعي أو تأويله إذا لم يوافق تأملهم العقلي ، ولديهم حالة من الاستعلاء على الأبناء الشرعيين للدعوة الإسلامية ممن لا يوافقونهم في نزعتهم ، ولهذا الفريق جولات على الساحة الفكرية منها جولته للطعن في رموز الأمة مثل الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله [5]،
وهم من تكلموا في أحكام الديار وطالبوا بإلغائها [6]،وهم من أثاروا الخلاف حول حجية السنة النبوية المطهرة .وفيهم من تكلم بأن الحجاب عادة جاهلية تخص بدو الجزيرة قبل أربعة عشر قرنا ، وجلهم انشغلوا ( بتحسين ) صورة الإسلام عن الغرب ، وتطويع الإسلام ليصبح عصريا .
وأخطر ما في أمر هذا التيار - كما يقول الأستاذ جمال سلطان - أنهم اقتربوا من بعض " المشايخ " إنسانيا وفكرياً ، وأثروا فيهم تأثيرا كبيرا ، وخاصة عندما دخلوا إليهم من باب نظر الغرب إلى الإسلام ، وتحسين صورة الإسلام أمام الإنسان الغربي الجديد ، وما تصوروه تيسيرا على الناس في الأحكام ونحوها .
وانتهى الأمر- عند هؤلاء - إلى مسخ الشريعة باسم التجديد ، وتيسر أسباب الفساد باسم فقه التيسير، وفتح أبواب الرذيلة باسم الاجتهاد، وتهوين السنن باسم فقه الأولويات ، وموالاة الكفار تحت دعوى تحسين صورة الإسلام .
ومن هؤلاء ـ المنهزمين ـ من ادعى أن ما نأخذه نحن على الشيعة من سبّهم الصحابة الكرام ، وتحريفهم القرآن ، وقولهم بعصمة الأئمة ، وحجهم للمشاهد وغيرها (خلافات على هامش العقيدة)!!
واليوم برز فريق من الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم وقالوا بأن للمسلمة أن تتزوج النصراني ، ولا شيء عليها ، وشهادتها كشهادة الرجل ، ولا اعتراض إلا من كل متزمت لا يفهم الدين ... حقودٍ يكره النساء !!
ويا أذيال المنهزمين : حتى تتبعوا ملتهم !(40/354)
لم يرض القوم بمحمد عبده ولا بمن خلعوا ( العَّمة ) ولبسوا الطربوش ، إنها نفوس مريضة تحمل أحقادا دفينة . وربكم أعلم بهم منكم (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة : 120 )
------------------------
[1] هكذا أحسبهم
[2] قال ذلك نصاً الشيخ محمد اسماعيل المقدم حفظه الله في محاضرة له بعنوان المؤامرة على المرأة المسلمة ، وعلل ذلك بأن الكتاب مليء بالمسائل الفقهية التي لا علم لقاسم امين بها . وصرح بذلك الهالك أحمد لطفي السيد في مذكراته .
[3] انظر إن شئت مقدمة مقومات التصوير الإسلامي للأستاذ سيد قطب، وانظر للكاتب مقال ( محمد عبده نموذجا . من زرعه ومن جصده ؟منشور بموقع القلم .
[4] هو تساءل الدكتور عبد العزيز كامل ـ حفظه الله ـ في إحدى مقالاته بمجلة البيان .
[5] ( انظر كتاب تجديد الفكر الإسلامي لمحمد عمارة وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرت في مجلة العربي الكويتية )
[6] ( المسلمون وآخرون أشواك وعقد على الطريق) لفهمي هويدي )
===========(40/355)
(40/356)
قراءة في "الثقافة العربية في عصر العولمة"
مبارك عامر بقنه
كتاب "الثقافة العربية في عصر العولمة " ، هو عبارة عن مجموعة مقالات ومحاضرات ألقاها تركي الحمد في مؤتمرات متنوعة، وفي قراءة سريعة لهذا الكتاب يلحظ القارئ المخالفات الشرعية البينة، والتجاوزات الفكرية الواضحة، ومحاولة الخروج عن قيم ومبادئ المجتمع المسلم. مستخدماً أسلوب التكرار الممل لكثير من العبارات والأفكار، وذلك لترسيخ الأفكار ـ المراد نشرها وتعميمها ـ في الذهن. وقد حاول الكاتب نقد الثقافة العربية بطريقة موضوعوية [1] وليست موضوعية، مما جعل الكتاب بلا هوية أو انتماء وهذا النهج الفكري القصد منه تمييع القضايا التي يتناولها للدراسة.
الكاتب ونشأة العولمة:
كثر القول في بداية تحديد بداية نشأة العولمة فبعض الباحثين يرجع ذلك إلى نهاية القرن التاسع عشر مع اكتشاف التلغراف، وبعضهم يرجعها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية مع انقسام العالم إلى معسكر شرقي وآخر غربي، ويذهب كثير من المثقفين في تحديد نشأة العلومة إلى نهاية القرن الخامس عشر، معللين ذلك ببداية ظهور الدولة القومية الحديثة، وهذا القول هو القول السائد عند الغربيين، وكثير ممن نقل وترجم عنهم أخذ بهذا القول تقليداً، ومن هؤلاء الكاتب إذ يقول:" إن العلومة ليست شيئاً جديداً جاء مع الثورة المعاصرة في الاتصالات والمعلومات، فهي بدأت منذ أن دخلت، أو أنتجت، أوروبا الحداثة في نهاية القرن الخامس عشر[2]"
ومن سبر أغوار التاريخ وقلّب صفحات الماضي يجد أنه في هذا العهد سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس، وطرد الصليبيون المسلمين من قرناطة عام 1492م، وبدءوا زحفهم على العالم الإسلامي. ولهذا يصف الغربي هذا العهد بأنه بداية العلومة؛ إذ هو بداية إرسال البعثات التنصيرية للعالم الإسلامي. ومن الخطأ الفادح أن نجعل بداية هزائمنا، وتراجعنا عن الريادة، وتعميم النمط الحضاري الغربي والفكر الصليبي في بلاد المسلمين هو بداية العلومة.
ولكن يظهر أن الكاتب لن يبالي بذلك فهو يرى أن التقدم والتحديث لا يتم إلا بالتغريب كما يقول:" الحداثة ليست مجرد غشاء مادي؛ بل هي حالة عقلية إما أن تأخذ كلها أو تترك كلها، والتحديث عملية متكاملة، وغير ذلك هو المسخ[3]" فلقد وصل الكاتب مرحلة من الانهزامية، وفقدان للهوية، واستسلام مطلق للحداثة الغربية مما يجعله عاجزاً عن المقاومة ومحاولة النهوض والتحدي، فيقول:" لن تستطيع الثقافات التقليدية العريقة أن تفعل شيئاً، أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وإمكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة.[4]"
الكاتب والثقافة:
الكاتب يسعى إلى تمييع مفهوم الثقافة، وتجريد الأمة من خصوصيتها، وإذابة شخصيتها في ثقافة واحدة غربية المفهوم، علمانية التصور، مادية التوجيه. زاعماً أن ثقافتنا من طبيعتها التعايش مع الثقافات الأخرى ولكن التشبث بها هو الذي ولّد التصادم، ولا استطيع أن أصف هذا القول إلا بالجهل والتضليل على القارئ، فإن من خصائص الثقافة الإسلامية أنها ثقافة استقلالية لا تقبل الترقيع والتمزيق، أو التمازج مع أي ثقافة أخرى مغايرة لها، فهي لها نظرتها الفريدة للكون والإنسان والحياة وتتميز بأنها ثقافة تعتمد على الوحي والإيمان بالغيب، ومحاولة إلغاء الفارق بيننا وبين الآخر هو مرفوض من كلا الثقافات، فالصراع والمواجهة لابد أن تستمر ما دامت الحياة كما يقول الله تعالى ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(البقرة: من الآية217) ولا يزالون مستمرون أبداً في مقاتلتنا حتى نكفر ونتخلى عن ديننا وعقيدتنا وثقافتنا ونكون مثلهم، عند ذلك يرضون عنا ويتعايشون معنا كما قال الله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120) فهل نتخلى عن ديننا حتى نكون ذو ثقافة عالمية؟!
ثم لا أدري لماذا هذه التبعية والإعجاب لثقافة الغرب، فهم والله وإن كانوا تقدموا علينا مادياً وتقنياً وإدارياً لا يعني ذلك سلامة منهجهم الثقافي، وصحة تصوراتهم العقدية. ولكنهم وفقوا في الأخذ بالسنن الكونية في التعامل مع الحياة، وسنن الله لا تحابي أحداً ولا تتخلف عن فرد أو أمة أو جماعة من أخذ بها وعرف كيف يتعامل معها وفّق للصواب، فهي تسري على جميع الخلق. وتخلفنا اليوم نشأ عندما تركنا "فاتبع سببا" وأهملنا الأخذ بالسنن الطبيعية. فليس تخلفنا نتيجة خلل في ثقافتنا أو تصورنا للحياة والكون. وبروز الثقافة الغربية في العالم لا ينطلق من طبيعتها وذاتها وإنما يسند هذه الثقافة القوة السياسية والاقتصادية والإعلامية التي يملكها الغرب في نشر ما يريد. فثقافة الغرب سادت وانتشرت بعوامل مساعدة أخرى. وهذا خلاف الثقافة الإسلامية التي انتشرت في العالم بذاتها بدون أي مؤثرات خارجية وإنما بما تحمله في طياتها من حقيقة وصدق ووضوح وتكامل وتوازن شامل لجميع أشكال الحياة.(40/357)
إن النظرة السطحية للثقافة الغربية والأخذ بالظاهر شكّل لدى بعض المثقفين انهزامية ثقافية، فالتقدم الحضاري دليل عند هؤلاء المثقفين على مصداقية الثقافة، وهذا التلازم خاطئ إذ أن الأمة قد تفصل أو تبعد عن مصدر التلقي لديها فيحدث التخلف، فالخلل ليس ناتجاً عن الثقافة الإسلامية وإنما عن عدم التطبيق لهذه الثقافة. وهذا مصدر البلاء أن يكون حكمنا على الإسلام هو تطبيق الفرد له وليس على ذات المنهج وطبيعته.
ومن هذه المنطلقات جعل الكاتب العقائد والأفكار من "الثقافة"، ولم يستثن من ذلك أي أمة على وجه الأرض؛ بل يسري ذلك التعريف على جميع الملل والنحل فيقول عن الثقافة بأنها:" مجمل العقائد التي تؤمن بها جماعة ما، وتمنح المعنى للأشياء من حولها، وما ينبثق عن ذلك من سلوك وعلاقات.[5]" ويقول أيضاً:" الثقافة بكل بساطة، هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها، فهي مجمل العقائد والقناعات المطلقة[6] التي تؤمن بها جماعة ما.[7]" ولم يقف الأمر عند هذا الحد بأن جعل العقيدة من "الثقافة"؛ بل استرسل الكاتب في مفهوم الثقافة ليجعلها من صنع ونسج الإنسان فيقول:" الثقافة، في نهاية التحليل، هي شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان بنفسه، لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حوله.[8] " ويقول أيضاً :" تشبث الإنسان "بشبكة المعاني" التي نسجها بنفسه، يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان، ناسياً جيناتها الأولى، ومبتدأ أصلها، ويدفعه هذا التشبث بالتالي إلى الأحادية في تعامله مع ثقافته في مقابل ثقافات الآخرين، على أساس أنها هي وحدها التي تحمل "المعنى" وتحمل الغا!
ية ببساطة، على أنها هي وحدها المتضمنة لحقيقة الوجود.[9]"
وهذه المقولة من رقى إبليس والتي تصف أن الثقافة الإسلامية كالثقافات الأخرى التي تستمد ثقافتها بما أنتجه مثقوفها، وقرره فلاسفتها، فألبسوه لباس القدسية والسمو، ولا يعجب هذا الوصف من الكاتب للثقافة فهو ينطلق من مفهوم "ماكس فيبر" للثقافة، والتي هي مستوحاة من قول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان:5) فقريش زعمت أن القرآن العظيم من نسج البشر. والتي استمد ماهيته ومبادئه وقيمه من أهل الكتاب، وجعل صلى الله عليه وسلم له خصوصية ، ناسياً جيناتها الأولى وهي أن أصله من أهل الكتاب، الله أكبر، كيف تشابهت قلوبهم فقال مثل ما قالوا.
ثم إن تعجب فعجب قوله:" الثقافات ليست متصادمة بطبيعتها، ولكن التشبث المطلق بها وبرموزها، وما يحمله ذلك من إضفاء السمو والقدسية عليها، هو الذي يدفعها إلى التصادم.[10]" ثم يتمادى الكاتب في غيه منادياً إلى العالمية معللاً ذلك بأن الثقافة الإنسانية مشتركة في بنودها وقيمها فهي:" إرثاً إنسانياً مشتركاً وإيماناً إنسانياً عاماً .[11]" ويقصد بهذه الثقافة العالمية الديموقراطية كما فيقول:" الديموقراطية بصفتها مثلاً يسعى إليه وليس واقعاً معاشاً في كل أنحاء المعمورة. بصفتها تلك، فإن الديموقراطية اليوم أصبحت جزءاً من الثقافة العالمية المشتركة والذي يزداد الإيمان بقيمه يوماً بعد يوم. وهذا بذاته مؤشر كبير على مدى العالمية التي اكتسبها مفهوم الديموقراطية والمثل الديموقراطية.[12]"
الكاتب والديموقراطية:
حدّث ولا حرج عن إعجاب الكاتب بالديموقراطية الليبرالية فهو يرى أنها: " هي فعلاً اليوم أفضل نظام سياسي ممكن ابتكره الإنسان في التاريخ[13]" ثم لا يقف عند هذا الحد؛ بل يجعل ذلك من المسلمات التي لا تقبل الجدل فيقول:" لا مجال للنقاش في القول إن الحضارة في الغرب المعاصر هي أرقى ما توصل إليه الإنسان في تاريخه حتى هذه النقطة من الزمان، سواء تحدثنا عن المنجزات المادية البحتة، أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية[14]"
ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول، ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما قال السفهاء منا، فالدعوة إلى النظام الديموقراطي دعوة كفرية ، وردة شرعية. وقد قرر علماؤنا بكفر هذه الأنظمة، وكفر من يتبعها، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب :" من أعتقد أن هناك هدياً أفضل أو أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، أو متمم له فهذا كفر"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر[15]"
وقال الحافظ ابن كثير :" فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كفر: فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين [16] "(40/358)
وقال الشيخ الشنقيطي :" إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشرهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم [17] "
ويقول الشيخ بن عثيمين:" من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاُ عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية، أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. [18] "
والنظام الديموقراطي نظام كفري لا يتحاكم إلى الله؛ بل يتحاكم إلى الشعب، فالشعب هو المشرع للقوانين وليس الله، ومعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع من خصائص الله فلا يحق لأحد أن يشارك الله في التشريع، وتنظيم شؤون الناس الفردية والاجتماعية حق لله وحده لا يحل لأحد أن يشارك الله فيه ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(يوسف: من الآية40) في كل شيء يجب أن ترجع أمورنا وقضايانا إلى شريعة الله المطهرة المنزهة من كل عيب ونقص. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .
ومن لوازم تطبيق النظام الديموقراطي تشكيل الأحزاب المناهضة للإسلام، ولا فرق بين الناس وإن اختلفت دياناتهم ومعتقداتهم، ولا بد أن تصاغ الأفكار الدينية والآراء السياسية وفق النظام الليبرالي، فلا تقييد على الحرية الشخصية، فيعتقد الشخص ما يشاء، يرتد عن دينه، يدعو إلى الإلحاد والإباحية ونشر الفساد كل ذلك تحت شعار " دعه يعمل ما يشاء دعه يمر" كل هذا وغيره من لوازم النظام الديمقراطي والذي يتناقض مع النظام الإسلامي.
مصدر التلقي لدى الكاتب:
يقول الكاتب :" إن جوهر الوجود يتكون من خالق ومخلوق وموضوع لا رابع لذلك. ونقصد بالمخلوق هنا الكائنات العاقلة فقط (الإنسان وفق المعلومات المتاحة) [19] ."
أولاً: لا نسلم للكاتب أن حوهر الوجود يتكون من ثلاثة لا رابع لها؛ بل الوجود خالق ومخلوق لا ثالث لهما، فكل ما سوى الله فهو مخلوق. ولم يبين الكاتب ما المقصود بالموضوع، ويحتمل أن يراد به المعاني، وهذه لا شك أنها من أفعال العباد وهي مخلوقة.
ثانياً: لم يذكر الكاتب ما هذه المصادر المتاحة التي تلقى عنها العلم بأن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد في هذا الكون. ولا يمكن أن تكون هذه المصادر المتاحة القرآن والسنة لأنهما تقرران أن الكائنات العاقلة: الملائكة، والإنس، والجن. ويكفي أظهر دليل على ذلك إجماع الأمة بأنهم مكلفين، والتكليف لا يكون إلا لعاقل. وهذا أمر واضح بين، ولكنه مبهم لدى الكاتب لأن الملائكة والجن ليست من الأشياء الحسية التي يدركها بالحواس وهذا شيء لا يؤمن به الغرب.
والملاحظ على الكاتب كثرة استشهاده بالغربيين، واستدلاله بأقوالهم، بل لا تكاد تجد له استدلال على أقواله بقول من كلام السلف فهو يستنكف أن تكون هناك مرجعية ثابتة ينطلق منها الإنسان، ويستمد منها أصول التفكير إذ يقول:" إن النقد وثقافة النقد المتحدث عنها هي ذلك الأسلوب الذهني الذي يرى أن كل شيء قابل للنقد وإعادة التفكير والصياغة. إنه، بكلمات موجزة، ذلك الأسلوب المضاد للأسلوب أو العقلية "الدوغمائية[20]" المرتهنة لمرجعية معينة غير قابلة للنقد أو المراجعة أو المناقشة .[21]" ويقول أيضاً:" القول بالمرجعية لا يعني الديموقراطية المطلقة أو الثبات الدائم لمثل هذه المرجعية على مر الدهور والعصور، إذ أنها، أي المرجعية، ليست إلا متغيراً معيناً لا بد أن يتغير بتغير الظروف التي أنشأته أو على الأقل تتعدل وفق قدرة انفتاحية معينة [22]"
الثوابت والمتغيرات لدى الكاتب:
يرى الكاتب أن الأزمة التي يعاني منها العقل العربي هو التزامه بمبدأ الثبات فيقول:" إن علة العقل العربي، وما ينتجه من فكر، ومن يمثله من مثقف أو مفكر، إنما تمكن في سلفيته غير القابلة للتغيير. فالعقل العربي اليوم ليس إلا امتداداً لعقل الأمس ومواقفه من شتى الأمور، طالما أن الآلية التي يعمل بها بقيت ثابتة لا تتغير [23] ."(40/359)
فهذه هي العلة لدى الكاتب وهو الالتزام بالآلية السلفية التي لا تتغير، فالثبات على المبدأ، والالتزام بالقيم هو نوع من الانهزامية التي يراها الكاتب، والمخرج لدى ـ الكاتب بزعمه ـ هو الخروج على هذه المسلمات، وكسر المبادئ والقيم التي قد تخلى عنها الناس إلا نحن، فيقول بهذيان عجيب:" المثقف العربي غالباً ما لا يعيد النظر في مسلماته الفكرية، ملقياً باللوم على كل شيء، إلا المسلمات ذاتها، وكل ذلك يأتي من باب الثبات على المبدأ، والإخلاص للمثل العليا التي تخلى عنها الجميع إلا هو بطبيعة الحال. وذلك يشكل، عند التحليل، نوعاً من آليات الدفاع عن الذات في وجه متغيرات تهدد بسلب دور الوصاية والتخويبة عنه [24]."
فكل شيء جب أن يتغير كما يقول الكاتب:" كل شيء يتغير، ولا بد أن يتغير [25] " وكل هنا من ألفاظ العموم التي تشمل جميع الأفراد؛ فيدخل في ذلك كل القضايا الإنسانية من عقيدة وفكر وسياسة واجتماع واقتصاد … إلا إن الكاتب قد استثنى في موقع آخر من كتابه العقيدة فقال:" العلاقة بين الخالق والمخلوق فتنظيمها عقيدي عبادي ثابت، لأن مناط العقيدة والعبادة ثابت أبد الدهر لا يطرأ عليه تغير [26]." وهذا حسن من الكاتب وإن كانت هدنة على دخن فهو لم يبرز ما هو مفهوم العقيدة لديه ، وكما أنه يقر أن العقيدة والعبادة وهي العلاقة بين العبد وربه لا بد فيها الثبات إلا إنه لم يلتزم بذلك في الشريعة فهو يرى أن الشريعة لا بد أن تكون متغيرة فيقول:" إن مضمونها العلمي ـ أي الشريعة ـ لا بد وأن يكون متغيراً ومتحولاً تبعاً لتحولات الزمان والمكان [27] " ويا ليت شعري، كيف قرر الكاتب هذه القاعدة بأن الشريعة لا بد أن تتغير وتتحول؟ من أين أتى بهذه المقولة الزائفة؟ فهل في كتاب الله أو سنة رسوله أو أحد من العلماء المعتبرين من قال بذلك؟ ثم ما مدى هذا التغير والتحول؟ أم أن المسألة مطاطية ليس لها ضابط أوحد؟ ثم من هو الذي يقرر بتحول وتغير الشريعة هل هو نبي مرسل أم عالم أم مفكر أم سياسي؟ من له الحق بالتغيير والتبديل؟ ومن أين حصل على هذا الحق في تغيير الشريعة؟ وهل التغيير والتحويل يشمل النصوص الثابتة أم يلحق فقط القضايا الاجتهادية؟ فمن هو الذي يقرر المصلحة والمفسدة؟ أسئلة وإشكاليات كثيرة يتحتم على الكاتب إيجاد أجوبة لها حتى يثبت ما أدعاه.
إن تغيير الشريعة وتحويلها هو في الحقيقة تحويل للعقيدة، فإننا نعتقد أن نصوص الشريعة من الله، وأنها تتوافق مع الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان ولن تضيق أو تعجز يوماً في تقديم أرقى وأسمى ما يصبو إليه الإنسان، وإننا نعتقد أنه لا يحل لأحد من البشر كائناً من كان أن يبدل شريعة الله، فيحل الربا والخمر والزنا من أجل ضرورات المجتمع وطبيعة الحياة المعاصرة، فهذا نوع من رفض وإعراض عن شرع الله، فتغيير وتبديل الشريعة هو عزل للدين عن الحياة.(40/360)
وعقيدة الأمة في باب الأسماء والصفات وأفعال الرب لم تحارب من المتغربين كما حاربت الشريعة، والتي تمثل نظام متميز بقوانينه ومبادئه في جميع شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفيما يتعلق بشؤون المرأة والتعليم، وقد أرتأ أهل الزيغ والضلال بعزل النظام الإسلامي عن الحياة وعن المجتمع وجعل الدين هو علاقة بين العبد وربه، وأما الشريعة وتطبيقها فهي مسألة متغيرة متحولة ليست ثابتة تتشكل وفق حاجة الزمان والمكان فلا يمنع من تطبيق النظام الرأسمالي مثلاً لأنه هو الأنسب في هذا العصر، ونحن لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة؛ إذ أن الشريعة متحولة متغيرة فيمكن تغيرها إلى النظام الغربي. سخف من القول وزورا. إن موقف المؤمن المسلّم بأمر الله هو الاستسلام والانصياع لأمر الله كما قال الله تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" وهذا القضاء يكون في الأمر الشرعي ؛ فإن قضاء الرسول عليه الصلاة والسلام يكون في الأمر الشرعي التعبدي ، فالآية صريحة بأنه لا خيرة لنا في حكم الله وقضاءه الشرعي لا تغيراً ولا تبديلاً ولا تحويلاً لأحكام الله وأحكام رسول صلى الله عليه وسلم . وهذا القول الكريم مطلق لا يقيده زمان أو مكان ، وتقييد ما أطلقه الله من غير دليل هو تحريف للكلم عن مواضعه، فليس لنا الخيرة فيما قضى الله ورسوله في جميع الأزمنة والأمكنة؛ حتى وإن بدأ لنا أن حكم الله ورسوله لا يتناسب مع الزمان والمكان، وهذا افتراض لا يمكن وقوعه، ولكن نذكره جدلاً ، فإن المؤمن ليس له الخيرة إلا التسليم لله ولرسوله ، وعدم تغيير النصوص وتبديلها. وما حدث للأمة من انتكاسة وتخلف هو نتيجة عن تعطيلهم نصوص الشريعة عن التطبيق والامتثال، وتأويل النصوص عن غير مراد الله ، فأحدثوا في الدين ما ليس منه ، فكثرت البدع والخرافات والانحرافات الفكرية والعملية فكان ذلك سبباً في تسلط العدو علينا. فالخلل ليس من الشريعة؛ وإنما الخلل في تطبيق الشريعة وفي فهمها وكيفية التعامل معها. وهذا ما وقع فيه الكاتب، فهو لم يدرك حقيقة الشريعة الربانية ، وتوائمها مع الطبيعة البشرية ، وخلله ينبع من انبهاره بالحضارة الغربية المادية ، وجعلها المقياس الصحيح لصحة النظم وتقدم البشرية.
الكاتب وتطفله على العلم الشرعي:
مما يحزن المرء ويمرضه هو تطفل كثير من الكتاب والمثقفين على العلم الشرعي، والتعامل مع العلم الشرعي كأي علم إنساني آخر ليس له خصوصية أو ميزة، فالكل له حق الطرح في القضايا الشرعية وانتقاد مناهج العلماء بزعم أن هذا الدين ليس حكراً على طائفة.
ولا شك أن الدين ليس مخصوصاً لطائفة معينة ولكن الفتى وتقرير المسائل العلمية هو لطائفة معينة لا يشاركهم فيها إلا من اتصف بصفاتهم، فالله عز وجل لم يجعل لكل أحد أن يتكلم في القضايا الشريعة بما شاء؛ بل جعل هناك مرجعية لمعرفة أحكام الله، وهم العلماء الربانيين الذين بذلوا مهجهم في طلب العلم وتحصيله ، فهم الذين لهم الحق في الحكم والفتيا كما قال الله تعالى:" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" فهذه الطائفة قد خصصت نفسها في التفقه في دين الله ، فجعل الله لها الحق في إنذار أقوامهم.
ومن آفات هذا العصر عدم احترام التخصص، وهذا ما سقط فيه الكاتب فقد انتقد مناهج العلماء ، وحاول رفض رأيهم من غير استدلال يستدل به فهو يمنع القياس ويجعل القياس يقيد العقل فيقول:" بقي العقل العربي الإسلامي، بصفة عامة، أسير قضية القياس، دون اعتبار لحركة الواقع [28] " فالذي يحكم على النص هي حاجة الواقع، ومتطلبات العصر وليس النص فيقول :" الانطلاق من الحادثة نفسها للحكم عليها، في إطار متغيرات وحاجات المجتمع المتجددة، وليس مجرد إخضاعها لقياس شاهد حديث على غائب قديم، أو حتى إخضاعها لنص أصلي، طالما أن التغيرات التي أحاطت بإنتاج النص، ليست هي ذاتها المحيطة بتكرار الحادثة [29] "(40/361)
وهكذا يضع أصلاً جديداً للتشريع هو حاجات المجتمع، وكأن الإسلام يتصادم مع حاجات المجتمع. وفي رأي الكاتب أن النص يعالج قضية آنية حادثة لا يصح نقلها إلى مجتمع أو عصر مغاير ، فالنصوص ليست كلية ؛ بل هي لحالات فردية لا يحق لنا إصباغها بالعمومية والشمول. وقصر الأحكام الشريعة في زمن صلى الله عليه وسلم هو دعوة صريحة لتعطيل الشريعة وأنها غير صالحة لهذا الزمن إذ أن تركيبة وطبيعة المجتمع الحديث يختلف عن المجتمع الذي انتج في النص، ويمكن من هذا الباب مثلاً تحليل الربا لأن تحريم الربا جاء في عصر ساد فيه ظلم الأغنياء للفقراء، أما في هذا العصر والذي اصبح فيه التعامل المالي عن طريق المصاريف المالية فإن الفقير لا يلحقه ظلم ، وهذا ما قرره الكاتب بأن التحريم مبني على مقدمات غير صحيحة وهو التشابه بين واقعة حادثة مع واقعة سابقة ، فيقول:" إن التشابه منطقياً لا يفيد التجانس المطلق، لدرجة التوحد. بقدر ما يفيد الاختلاف بحسب درجاته. فالبنوك، وهي مؤسسات حديثة، تتعامل بالفائدة، والفائدة تبدو متشابهة مع الربا القديم. وطالما أن الربا محرم، فالفائدة ربا أذن، وبالتالي فهي محرمة ، نقطة الانطلاق إذن ليست هي الحدث ذاته أو المتغير ذاته، البنوك هنا، ولكنها العملية الذهنية نفسها، التي تحولت إلى هدف باذته، وبذلك انقلبت المعادلة. [30] " وهذا الكلام يشعرك أن الكاتب لا يفقه معنى القياس، وما ضوابط ثوابت العلة وانتفائها، ولا أظنه قرأ أقوال العلماء في هذا الباب العظيم، فقوله أنها عملية ذهنية يدل دلالة قطعية أنه لا يدرك من القياس إلا قوله التشابه بين واقعتين لاحقة وسابقة، فالضوابط التي قررها علماء الأصول من تحقيق المناط ، وتنقيحه ، وتخريجه ، وشروط ثبوت العلة، وقوادح العلة ، كل ذلك يجهله الكاتب لذلك أتى بالعجائب .
وهذه السفسطة من الكاتب هي تلاعب بالأصول الثابتة، ومحاولة لعزل الدين عن واقع الناس، وإشعارنا أن الدين يتعامل مع قضايا سابقة قد اندثرت، وأنه لا صلة بين الدين والواقع وإن تشابهت الواقعة لأن الحدث تغير، وأن النص محدود لا يمكن أن يكون لكل زمان ومكان.
وتجد مسألة التحريم عند الكاتب من أشد المسائل وأعسرها، فيقول :" التحريم لا يكون إلا بنص جامع ومانع أي بنص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة. وحتى في مثل توافر مثل هذا النص فإن القراءة وفهم النص خاضعة للظروف المحيطة بمن يقرأ ،وكيف يقرأ، وأين ومتى [31] " وهذا الحد للتحريم لم يسبقه أحد من العالمين، فهنيئاً له هذا العلم! وبهذا الحد للتحريم لن يكون هناك حرام مطلقاً ، حتى وإن وجد النص الجامع المانع فإن الظروف المحيطة تغيير الحكم.
لم أر جرأة مثل هذه الجرأة في التطاول على أحكام الشريعة ، تغيير وتبديل وتعطيل وتمييع لأحكام الله من غير ذكر لدليل يستند عليه أو ذكر لقول عالم يستأنس به ، وإنما مجرد تعالم مبني على جهل مركب وهوى أعمى وغايات خبيثة ، ولم يكتف بهذا الكذب على الشريعة في حد التحريم؛ بل يرى أن التحريم عند علمائنا ليس مبني على علم؛ بل الغلو والمصالح هي وراء التحريم وليس النص، فيقول:" المشكلة أن الغلو، والأغراض السياسية، والمصالح الشخصية في التاريخ الإسلامي، قلبت القاعدة، فتحول التحريم إلى أصل، والتعددية إلى أحادية، والشريعة إلى تفصيلات قياسية اجتهادية فردية تتعلق بكل شأن من شؤون الدنيا، منحت صفة النص المقدس، رغم أن النص المقدس قليل وعام في أضيق الحدود لقد أصبحت مقولة "الإسلام دين ودنيا" مقولة مضللة أكثر الأحيان، وأدت إلى ظهور طبقة من رجال الدين المتحكمين في كل تفاصيل الحياة [32] " وهذا اتهام لعلماء الإسلام ، وتشويه لتاريخنا، وهذا إن كان يصدق على بعض العلماء ـ وهم قلة في التاريخ الإسلامي ـ إلا أن البحث العلمي يتحتم الإنصاف في الحكم وعدم التعميم للقضايا الفردية . واحترام علماء الأمة والذين هم رم!
وز وقدوات يستضيئون بعلمهم، فهو يقول عن الشافعي العبقري واضع علم أصول الفقه :" فما قام به الشافعي هو أنه وضع قيوداً على عمل العقل، أي عقلن العقل [33] " وهو حق أن الشافعي وضعاً قيوداً ليمنع العقول الفاسدة من التلاعب بأحكام الشريعة ، فحجز السفهاء وحجر على عقولهم وقولهم من أن ينال من هذه الشريعة الغراء، فهي محفوظة باقية ثابتة ما دامت السموات والأرض، فهذه القواعد التي وضعها الشافعي وغيره كفيلة بأذن الله أن تجعل الشريعة الإسلامية نقية ناصعة صالحة لكل زمان ومكان.(40/362)
ولم يكتف الكاتب بهذه الأباطيل، بل جعل مذهب الأشاعرة هو الوحيد لمعرفة الحقيقة وهو مذهب أهل السنة والجماعة. يقول:" مع الاعتراف بمنهج الإمام الشافعي في الشريعة، والأشعري في العقيدة، والغزالي في الفكر، بصفتها سبلاً شبه وحيدة للوصول إلى الحقيقة، وبصفتها الأركان الثلاثة للوسطية الإسلامية... لقد تشكلت هذه الأركان تحديداً، بالإضافة إلى روافد فرعية، ما أصبح يعرف بمذهب أهل السنة والجماعة [34]" لست أدري لمن يكتب الكاتب! أيظن أن القارئ جاهل أحمق حتى لا يعرف منهاج أهل السنة والجماعة! والزعم أن مذهب الأشعري هو المسلك الوحيد لمعرفة الحقيقة وأنه هومذهب أهل السنة والجماعة فهذا الإدعاء يرده الأشعري والغزالي كلاهما؛ فقد تبرأ الأشعري من منهجه ووضع كتابه "الإبانة" معلناً فيه رجوعه إلى ما عليه الإمام أحمد وهو مذهب أهل السنة والجماعة، والغزالي يتبرأ من علم الكلام ومسلك الفلاسفة كما في كتابه " تهافت الفلاسفة" وأن العقل محكوم بالنص ولا يستطيع لوحده أن يدرك الغيبيات.
كنت أتمنى أن يحترم الكاتب عقل القارئ وأنه ليس عقلاً ساذجاً يقبل كل فرية تقال، فالكاتب لا يتردد بأن يسطر ما شاء دون مبالاة بما يقول، ولذلك تجد كتابه خال من البرهان العقلي أو الدليل الشرعي، فيثبت وينفي حقائق علمية بدون ذكر أي برهان على صحة قوله ومن ذلك مثلاً قوله :" لظروف عملية، وسياسية تحديداً، لا علاقة لها بالمسألة المعرفية، صنف الأئمةالأربعة على أنهم ينتمون إلى منهج واحد، بغض النظر عن الدقة المنهجية [35] " وكذلك تقريره أن منهج المرجئة والمعتزلة هما كمنهج أهل السنة ولكن لأمور سياسية هي التي خرجتهما من هذا المنهج، فيقول :" المرجئة والمعتزلة مثلاً، يستمدان شريعتهما من المرجع ذاته، القرآن والسنة، وبالتالي فإنهما معرفياً يقفان على قدم المساواة، والشيء نفسه يمكن يقال عن البقة. ولكن، الأيديولوجيا، وليست الابستمولوجيا [36] ، هي التي تقف وراء سلطة مذهب دون آخر، أوتار سياسي دون آخر، وبالتالي هذه الأحادية التي يحاول البعض، قديماً وحديثاً، فرضها على الإسلام [37] "
وهكذا يلقي الكاتب الكلام على عواهنه من غير ذكر أي دليل يثبت صحة مزاعمه، فألفاظ زور يلقيها الكاتب الأكاديمي لا يبنى على أسس علمية، أوحقائق تاريخية مبنية علىالبحث والاستقراء، فليدرك القارئ أن هذه محاولات من الكاتب وأمثاله لتشويه تاريخنا، وتمييع العقيدة وأنها عامة غير منضبطة بقواعد وأصول، وأن التصنيف العقدي نتج بسبب قضايا سياسية ليس لها علاقة بالمنهج الإسلامي. كل ذلك من أجل تغريب الأمة.
رأي الكاتب في الصحوة:
يشتد الكاتب غضباً، ويتحسرألماً عندما يرى الاكتساح الأصولي ـ على حسب وصفه ـ في هذا العصر، فيقول ـ وقد ركب السيل الدّرج ـ بتبجح ووقاحة :" هل استطاع المثقفون والمفكرون العرب على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم ومذاهبهم، وما أنتجوه من فكر، أن يزرعوا قيما معينة تظهر في سلوك المواطن العادي (العامة) الذي هو محل كل خطاب يطرحه المثقف المنشغل بإشكاليات العصر، وقضاياه ... الجواب بصفة عامة هو لا، وإلا كيف نفسر ذلك الاكتساح الأصولي للساحة السياسية والثقافة العربية المعاصرة، والذي هو دعوة إلى قيم تقليدية بحتة بأفج صورها وسطحيتها، وأنماط سلوك لا تنتمي للفترة المعيشة، رغم مرور قرنين من محاولات التنوير والحداثة والنهضة [38]"
والسؤال هل الدعوة إلى التمسك بقيم الوحي، قيم تقليدية فجة سطحية لا تتناسب مع العصر؟ كلام في غاية الخطورة؛ إذ فيه استحقار وإزدراء واستهانة بقيم الدين، وهذا هو ديدن الكاتب دائماً الاستهجان بكل ما يتعلق بثقافتنا الإسلامية الأصيلة، ولا يرى التقدم والتنوير إلا من الغرب، فتأمل كيف يصف بتبجح بداية الغزو الفرنسي على مصر (1798ـ1801) بأنها بداية التنوير والحداثة فهذا يدل على جهل وانهزامية نفسية عميقة لدى الكاتب، فالحملة الفرنسية التي قام بها " نابليون" على مصر حملة صليبية يراد منها هدم معقل من أكبر معاقل الإسلام الفكرية والعلمية، لقد كان يهدف هذا التنوير إلى " تنحية الشريعة الإسلامية وهي أول نقاط المخطط التي بدأ بتنفيذها بالفعل [39]. وهذا التنوير هو الذي ضرب الأزهر، وجلب البغايا ونشر الفاحشة.
ختاماً: فهذه مقتطفات خاطفة لبعض ما كتبه الكاتب، وقد حاولت أن تكون هذه الكتابة مختصرة، فلم أذكر كل ما رصده القلم، وذلك خشية الملالة، فاقتصرت على البعض، والبعض يدل على الكل. وخطر الكاتب واضح بيّن لذلك لم أذكر الأدلة الشرعية والعقلية على ما ضل به قلم الكاتب؛ إذ أن الهدف هو تحذير الأمة من هذا الكتاب لما فيه من مخالفات عقدية، وتجاوزات شرعية. ولولا أنه يباع في أسواقنا لما كتبت عنه . فالكتاب ليس له هوية، أو طرح علمي رصين، يستحق المناقشة العلمية الجادة، لذلك اكتفيت بالعرض لهذه المفاهيم الخاطئة.
وكتبه: مبارك عامر بقنه
--------------------------------(40/363)
[1] يتصف الكاتب باستخدام مصطلحات كثيرة تتسم بالغموض والإبهام والرمزية، فكثير من الأحيان لا يعرف أحد معنى هذه المصطلحات أحد إلا هو وشيطانه، ويقصد بالموضوعوية هنا أنها نزعة علموية تقف موقفاً نهلستياً (عدمياً) وليس حيادياً تجاه القضايا التي تثيرها حياة الإنسان. بخلاف الموضوعية والتي تقف موقف الحياد لكنها لا تقف موقف العدمية. ولا شك أنه لا يمكن أن يكون الإنسان في لحظة من لحظات حياته في خالة عدمية تجاه القضايا الإنسانية، فهذه افترضات ذهنية لا توجد في الخارج.
[2] ص (11) [3] ص (45) [4] ص(118) [5] ص(63)،(42)
[6] كثيراً ما يذكر الكاتب المطلق مع أنه يرفض المطلق.
[7] ص (90) [8] ص (17) [9] ص(17) [10] ص(17)
[11] ص(178) [12] ص (179) [13] ص(46) [14] ص (80)
[15] مجموع الفتاوى (28/217) [16] البداية والنهاية (3/128) [17] أضواء البيان (4/91ـ92)
[18] مجموع فتاوى ورسائل فضيلة بن عثيمين (2/140) [19] ص (201)
[20] الدوغمائية: مصطلح نصراني كاثولكي مشتق من كلمة (دوجما) ومعناها: المبدأ ذو الصحة المطلقة، ويرتبط هذا المصطلح بالإلهام الذي تزعمه الكنيسة لنفسها، ويدخل في نطاقه الإدعاء المثير للسخرية وفحواه أن بابا الفاتيكان معصوم، وذلك بموجب دوجما صدرت عام (1870م)، وأصبحت الدوجماتية وصفاً يطلق على الحركات الشمولية كالشيوعية والفاشية. وفي نطاق ببغاوية اللادينيين العرب أصبحوا يفترون على الإسلام بإلصاق الدوجماتية به ظلماً وعدواناً، مع أنهم هم الأجدر به، لأن الاقتناع بالإسلام أمر اختياري يلي التفكير والتدبر. (المغني الوجيز) للأسعد. نقلاً من كتاب (تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة) للخراشي.
[21] ص (189) [22] ص (189) [23] ص (138) [24] ص (139)
[25] ص (139) [26] ص (202) [27] ص (203) [28] ص (36)
[29] ص (123) [30] ص (118) [31] ص (112) [32] ص (125)
[33] ص (123) [34] ص (112) [35] ص (112)
[36] ابستمولوجية: من اليونانية، تعني نظرية المعرفة العلمية، استخدم مع بداية القرن العشرين كمصطلح دال على فلسفة العلم، ثم اتسع مدلوله ليعني الدراسة الفكرية المحضة لطبيعة العلم، ولذلك فإنه يعني تناول الموضوعات على المستوى المعرفي.
[37] ص (125) [38] ص (122) [39] انظر واقعنا المعاصر(201)
==========(40/364)
(40/365)
النزعة الإنسانية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
النزعة الإنسانية هي اتجاه فكري عام تشترك فيه العديد من المذاهب(*) الفلسفية والأدبية والأخلاقية والعلمية، ظهرت النزعة الإنسانية في عصر النهضة(*).
التأسيس وأبرز الشخصيات:
ظهر المذهب الإنساني في إيطاليا في بداية عصر النهضة الأوروبية.
وأبجديات النزعة إنما تترجم الانتفاضة التي عبّرت عنها النهضة الأوروبية باعتبارها تغيراً في الفكر نجم عنه تغير في جميع شؤون الحياة. فالإنسان الأول كان مكبلاً بقيود الكنيسة(*) طوال فترة الإظلام الفكري المسماة بالعصور الوسطى والتي استطالت إلى أكثر من عشرة قرون، إذ كان خلالها مطالباً بالطاعة العمياء لرجال الدين وكان يُساق كما يساق القطيع، ويكفي أنه من طبيعة فاسدة بسبب الخطيئة الأصلية!! أما المرأة، فهي لا ينبغي أن تُحب لأنها سبب الخطيئة، لذا عزف رجال الدين عن الزواج بها. وإذا سمحوا لغيرهم بالارتباط بها بالزواج فذلك فقط باعتبارها وسيلة للإنجاب واستمرار البشرية. أما الرجال فهم وسيلة أيضاً لتحقيق أهداف الكنيسة، وكل من خرج على هذه الأهداف يواجه الموت حرقاً.
ومن أسماء الرواد الأوائل للمذهب الإنساني بوجيو وبروني، والمحامي البارز مونتبلشيانو وكلهم عاشوا خلال القرن الخامس عشر الميلادي.
أراسمس ولد في روتردام سنة 1466م ويعد من أكبر ممثلي المذهب الإنساني من ناحية معرفته بالأدب اليوناني واللاتيني.
في فرنسا مثل المذهب ستيفانوس وسكاليجر ودوليه.
ويعد رينيه ديكارت 1956 - 1650م الفيلسوف الفرنسي من أنصار المذهب الإنساني ولكنه يؤمن بوجود الله تعالى.
وكذلك سبينوزا 1632 - 1677م الفيلسوف الهولندي وهو يشبه ديكارت في الاعتقاد.
وكتابات جان جاك روسو 1712 - 1778م تحمل الطابع الإنساني.
وجون لوك 1632 - 1704م الفيلسوف الإنجليزي كان إنساني المذهب(*).
والفيلسوف الألماني كانت 1724 - 1804م في مذهبه الانتقادي كان إنساني المذهب.
والفيلسوف شيلر المتوفى سنة 1937م الإنجليزي الألماني الأصل.
والكاتب الفرنسي فرانسيس بوتر، ألف كتاباً بعنوان المذهب الإنساني بوصفه ديانة جديدة.
والأديب الإنجليزي ت.س. إليوت 1888 - 1965م يعتبر نفسه من أتباع المذهب الإنساني، وهو من أبرز ممثلي الشعر الحر.
الأفكار والمعتقدات :
تأكيد الفردية الإنسانية:
في مجال الدين(*): الاستجابة لحكم الفرد الخاص ضد سلطة الكنيسة(*) وتأييد فكرة ظهور الدول القومية.
في مجال الفلسفة(*): تأكيد ديكارت للوعي الفردي عند المفكر وشدة الاعتماد على الفعل وتغليب وجهة النظر المادية الدنيوية.
قصر الاهتمام الإنساني على المظاهر المادية للإنسان في الزمان والمكان.
المذهب الإنساني أوحى بالأفكار التحررية لقادة الفكر في عصر النهضة(*) الأوروبية ووصل إلى ذروته إبان الثورة(*) الفرنسية.
الثقة بطبيعة الإنسان وقابليته للكمال، وإمكان حدوث التقدم المستمر.
تأكيد أن الشرور والنقائض التي اعترضت طريق الإنسان لم يكن سببها الخطيئة كما تقرر النصرانية، وإنما كان سببها النظام الاجتماعي السيئ.
الدفاع عن حرية(*) الفرد.
إمكان مجيء العصر السعيد والفردوس الأرضي، ويكون ذلك بالرخاء الاقتصادي، وتحقيق ذلك يكون بتبديد الخرافات والأوهام ونشر التربية العملية.
وقد نقد الفلاسفة والمفكرون الإنسانية ومن أهم ما جاء في نقدهم:
إن تقدم العلم الحديث لم يصحبه تقدم في قدرة الإنسان على حسن استعمال العلم.
وإن البشر وجهوا اهتماماتهم جميعاً إلى المسائل الدنيوية، ونسوا كل ما يسمو على ذلك وتركزت مطامعهم في الأشياء الزائلة التي يسرها لهم العلم، وحدث من جراء ذلك صدع بين تقدم الإنسان في المعرفة وتقدمه الأخلاقي.
إن الإنسانية تؤكد على زيادة خطر الإسراف في الاعتماد على الآلة، فهذا الإسراف قد يقضي على الأصالة والابتكار.
كما أن الأسس الأخلاقية لا تصلح إلا إذا استندت إلى الاعتقاد بوجود نظام أسمى من النظام الدنيوي والإيمان بالمبادئ الخالدة المطلقة، أما إذا اقتصرت الآداب على أن تكوم خاضعة للمواءمة بين الإنسان وبيئته، كلما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، فإنها بذلك تفقد قيمتها العامة.
وطريق الخلاص هو رفع الأخلاق(*)، ولا يحدث هذا إلا بإيحاء من الإيمان الديني، أما الآداب العلمانية فلا تمنحنا الخلاص.
إن المذهب الإنساني قدم للإنسانية وعوداً لم يحققها، كما أنه أفقد الناس الشعور بالحقائق الروحية، وجعل الناس عبيداً للقوى المادية(*) العمياء.
إن وجود الشر ينقض أداء المذهب(*) الإنساني لصلاح الإنسان وقابليته للتقدم.
وقد عزى الناقدون إخفاق عصبة الأمم في تسوية المشكلات في العالم وانتشار الفاشية والنازية إلى ظهور المذهب الإنساني.
إن عيوب المدنية الغربية ترجع في الغالب الأعم منها إلى المذهب الإنساني في تياره الإلحادي(*).
ومن أهم الأفكار التي تبنتها النزعة الإنسانية ما يلي:
يجب على الإنسان أن يبحث دائماً عن معنى وجوده وحياته.
الحياة في حد ذاتها شيء رائع ويستحق أن يعيشها الإنسان مهما احتوت على صراعات وتناقضات وآلام.(40/366)
على الإنسان أن يواجه الألم ويتسلح بالأمل في نفس الوقت.
على الإنسان أن يهتم بالمادة قبل الروح لأنها الشيء الوحيد الذي يستطيع إدراكه والسيطرة عليه.
إن الطريقة الوحيدة كي يحقق الإنسان إنسانيته هي في التمتع بكل الملذات الجسدية والحسية لأنها الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان لمسه وإدراكه.
الإنسانية ترحب بالقومية والوطنية والمحلية، ولكنها تأبى العنصرية لأنها امتهان صارخ لبقية العوامل المشكلة للنسيج الإنساني الشامل، والأدب العنصري ليس سوى جسماً غريباً في نسيج الأدب الإنساني سرعان ما يلفظه ويأباه.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إن الحركة الفكرية التي نشأت في عصر النهضة(*) الأوروبية هي الأساس في ظهور الإنسانية. وكان الوقود الذي أشعل هذه الحركة يحتوي على الفكر اليوناني الوثني(*) المعارض للفكر الديني، والآداب اليونانية واللاتينية ومن هنا كان شعار الإنسانية كلمة الفيلسوف اليوناني القديم "إن الإنسان مقياس للأشياء جميعها" فضلاً عن انغماس الإنسان بالمادة في بدايته، وحب اكتناز المال والثروات، والاستمتاع بالحياة الزائلة.
أماكن الانتشار:
انتشرت الإنسانية في أوروبا ثم عمت الغرب والشرق ومعظم سلبيات المدنية الغربية الحاضرة تعتبر ثمرة من ثمارها.
ويتضح مما سبق:
أن النزعة الإنسانية هي مذهب(*) فلسفي أدبي مادي لا ديني، يؤكد فردية الإنسان ضد الدين(*) ويغلب وجهة النظر المادية(*) الدنيوية وهو من أسس فلسفة(*) كونت الوضعية وفلسفة بتنام النفعية وكتابات برتراند راسل الإلحادية(*)، وهذا يعني فشل هذا المذهب على الصعيد العقدي، أما فشله على الصعيد العملي الواقعي المؤثر بصورة ملموسة في أسلوب سلوك الفرد، فدليله أنه منَّى الإنسان بأمان كاذبة لم تتحقق على الإطلاق، ونسي أن طريق الخلاص لا يمكن أن يتم إلا من خلال خاتم الأديان . وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له المسلم وهو يتعامل مع نتاج هذا المذهب حيث أن الإسلام قد كرم الإنسان، وتعاليمه كلها إنسانية(ولقد كرمنا بني آدم..) ؛ لكن بعض الناس يختار الكفر فيسلبه الله هذا التكريم ( أولئك هم شر البرية ) .
------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع:
- شيلر: من نوابغ الفكر الغربي، د. عثمان أمين.
- مجلة عالم الفكر، المجلد الثاني العدد الثالث 1974م. مقال بعنوان الهيومانزم.
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه، دار القلم - بيروت.
- Studies in Humanism by F.C.S. Schille r , Macmillan, London, 2nd ed. 1912.
- Humanism: Phillosophical Essays by F.C.S. Schille r , Macmillan. London 1912.
- Essay Conce r ning Human Unde r standing by J. Locke ed. صلى الله عليه وسلم Wilbu r n. London 1947.
- Histo r y of Philosophy by F.C. Copleston Bu r ns, London 1947.
- Histo r y of Mode r n Philosophy by H. Hoffding, London 1956.
============(40/367)
(40/368)
لو أن العقلاء من تكلموا ؟!
محمد جلال القصاص
منذ ظهر الشرك في بني آدم ـ في عهد نوح عليه السلام ـ والحق والباطل يعتركان ، والأيام دول .. جولة للحق وجولة للباطل ، والطيور تطير بأرزاقها ، فَمُجِدٌ رابح ومُجدٌّ خاسر ( كل الناس يغدوا فبائع لنفسه فمُعْتِقُها أو موبقها ) . وجاءت رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة في هذا الصراع ، وما انتهى القرن الأول الهجري إلا والمسلمون على أبواب باريس غربا وحول أسوار القسطنطينية شرقا ....وانحسر الكفر وكاد يقضى عليه . فَفَترت الهمم وركن الناس إلى الدنيا ، وتخلوا عن أسباب النصر المادية والمعنوية ، وعلى الجانب الآخر ، استمسك الباطل بباطله ووحد الشيطان جنده ، ورفعت راية الصليب ، فكانت الحملات الصليبية على أرض الإسلام ، وظلت قرابة قرنين من الزمان . انهزم بعدها الصليب وعاد أدراجه إلى بلاده .
عادوا يتساءلون كيف انهزموا ؟ ... كيف أخرجوا من هذه الديار ؟! وكيف السبيل إلى العودة إليها ؟!
وانتهوا إلى أنهم حين رفعوا الصليب أشعلوا جذوة الإيمان في قلوب المسلمين . وقالوا لا يُأْتى هؤلاء القومُ من قبل دينهم .. انظروا راية أخرى تقاتلونهم تحتها .
ومضت سنون طويلة ، عادت جيوش الكفر بعدها بذات القلوب الحاقدة ، وذات الثارات القديمة ولكنها لا تحمل الصليب . وكانت أول حملة قدمت أرض الإسلام بعد الحملات الصليبية هي حملة نابليون بونابرت ... جاء إلى مصر ، وأصدر منشورا يخاطب فيه شعب مصر كَتب في أعلاه : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وزعم أنه جاء مرسولا من قبل الخليفة العثماني ... خليفة المسلمين آنذاك .وأنه يحب الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم . ثم ادعى الإسلام وسمى نفسه الشيخ محمد ـ وقد لا تصدقني ولكنها حقيقة في بطون الكتب واقرأ تاريخ مصر للجابرتي ـ ، وسمح لأهل التصوف بممارسة بدعهم الموسمية المسماه بـ ( الموالد ) . وترأس هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف ... وأخذ الخبيث يهدم في الإسلام ، فاصدر فرمانات ( وهي القوانين بلغة عصرنا الحالي ) تضاد الشريعة الإسلامية، وأجبر الناس على اتباعها . وسمح لنسائه العاريات المائلات المميلات بالمشي في الشوارع ، كي يفتتن أصحاب القلوب المريضة ، وتشيع الفاحشة في اللذين آمنوا ، ونقب عن الفراعنة وضخَّمَ في أمرهم ، يريد الخبيث أن يُشعل نعرة القومية ويفتخر الناس بآبائهم وأجدادهم ويضيع الفخر بالإسلام ... وقد كان .
. وحين كُشف أمره ، ووقف على حاله وبانت طويته الخبيثة خلع النقاب عن وجهه ، فدنس المقدسات الإسلامية ، إذ أنه دخل الأزهر بالخيول واحرق الكتب .. وبال وغاط ..وأعمل سيفه في عوام الناس .
ومما يذكر أن نابليون وهو على فراش الموت قال : أردت أن أهدم إمبراطورية محمد ـ يعني رسول ا صلى الله عليه وسلم ـ ولكنني لم أستطع ، واعترف أن محمد اعظم شخصية في التاريخ .
وكانت السنون قد تطاولت على هذه الأمة وبعدت عن مصدري عزتها ( الكتاب والسنة ) ، ونسيت حظا مما ذكرت به ، بل نسيت جُلَّ ما ذكرت به . فانبهرت بالفرنسيس وذهبت ورائهم تقلدهم وتقتفي أثرهم ، فكانت البعثات العلمية إلى فرنسا ... ذهبت فئة من هذه الأمة إليهم وشربت من مائهم الكدر الآسن ، وعادت إلينا تريد سقيانا مما ارتوت به . ومن هنا كانت البداية ... بداية الحداثة والتغريب .
عادت هذه الطليعة تعالج أمةً مريضةً موحلةً في طين الإرجاء ، موغلةً في ظلمات الجهل والبعد عن شرع الله . فبدَلَ أن يأتوها بالنور المبين ، وتنشط الهمم للتنقيب عن آثار السلف الصالحين من الصحابة والتابعين . أخذوا بأيديها من ظلمة الجهل البسيط إلى ظلمات الجهل المركب ، لتنقاد إلى طاغوت العلم الحديث بدعوى التقدم والرقي والنهوض كمن نهضوا .
وكلها دعاوى كاذبة فقد مضى مائة وخمسون عاما أو يزيد وما زلنا في زيل القافلة لم ندرك شيئا . ولكن أين من يعقل ؟
وحلّت الأمة في مستنقع الغرب الآسن تحسبه المرتع الذكي ، وسارت في ظلمات الحضارة الغربية تحسبها النور الوضيئ .يحدو الركب نصارى الشام والمنهزمين من أبناء الأمة ، وخلف الركب جند (الاستعمار) يزجره إن تباطأ أو تململ .
مكمن الداء
ومكمن الداء في الإرجاء . نعم ... في الإرجاء . إذ أن جرثومة الإرجاء عملت عملها في عقيدة الأمة ، فأخرجت العمل من مسمى الإيمان ليكون شرط كمال لا شرط صحة واقتضاء ، فانحسر الإيمان في ذهن العوام إلى نطق بالشهادتين ، وإقرار باللسان ، وانتساب في الجملة إلى الإسلام . واحتضر الولاء واحتضر البراء .وبدأ المخاض تحت ظل شجرة ( الاستعمار ) لينذر عن ميلاد فصيل جديد هو فصيل الوطنية .
ولولاه ـ أعني الإرجاء ـ ما انبهر بهم الشعب ولا من ذهبوا مبعوثين عن الشعب . لولاه ما ذهبت النخبة من أبناء الأمة بل من طلبة العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، إلى هذه البلدان الكافرة تتلمذ على يد أبنائها ، وتثني عليهم ، وتريد منا تقليدهم والسير في ركابهم .(40/369)
لولا الخلل العقدي الذي أحدثته جرثومة الإرجاء في المفاهيم الإسلامية ، والتصورات العقدية عند هذه النخبة ، لوقفوا في ديارهم حين رأوا حالهم يقولون لهم : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ." قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " "
ولعادوا إلينا يقولون لنا : إنهم أهل دياسة ، لا يغار الرجل على عرضه ، وأهل كفر لا يتحاكمون إلى شرع الله ...ولكن شيئا من هذا لم يحدث . بل أشربت قلوبهم الفسق بضلالهم وبُعدهم عن منهج الله الصحيح ، فعادوا يريدون من الأمة أن تسير في ركاب الضالين ... وان تقتفي أثر باريس وبرلين ، وأن تحمل على أعناقها الفسقة والمجرمين .
هكذا خاطبوا الأمة
استحضروا للأمة صورة أوروبا التي ارتقت وتحضرت ـ بزعمهم ـ وركبت البحر والجو ومشت في بطن الأرض وارتقت السماء حين تخلصت من سلطان الدين وجعلته في الكنائس والمعابد بعيداً عن الحياة ... وقالوا للامة : إن شئت التقدمَ فلا بد أن نحذوا حذوا القوم ... فننزع غلّ الدين عن أعناقنا كما فعلت أوروبا ، وان نحرر المرأة كما فعلت أوروبا ، وأن نعتنق الديمقراطية كما فعلت أوروبا .. إننا تخلفنا حين حكمنا بسلطان الدين ، وكذا كانت أوروبا ... وإننا تخلفنا لأننا نعطل نصف المجتمع ـ يعنون المرأة ـ ، وكذا كانت أوروبا . وتم الربط ـ ظلما وعدوانا ـ بين تحسين أوضاع الناس ماديا وبين التخلي عن الدين في التعامل والتحاكم .
وقد جاءوا ظلما وزورا .فالحال غير الحال .
أوروبا كان يحكمها دين منحرف أعاق كل جهد بناء ، فقد قتل العلماء باسم الدين ، وجمع الأموال باسم الدين ، واستعبد الناس باسم الدين . وأوروبا قبل أن يأتيها دين بولس ـ المسيحية المحرفة اليوم ـ يوم كانت مشركة بربها تعبد الأصنام من دون الله كان عندها شيء من الرقي والتمدن وسعة في الرزق ، ثم حين اجتاح البربر ( القوط والنورمانديون ) أوروبا واعتنقوا دين ( بولس ) إنْغَطَّتْ أوروبا في ظلمات الجهل ، والتخلف المدني ، وحين تخلصت من هذا الدين المنحرف الذي لا يقاس عليه تقدمت ، فارتبط في عقل الأوربيين أن الدين والتخلف قرينان لا يفترقان ... وهذا تفسير لا تبرير .
أما عندنا فلم يكن الحال هو الحال .. (( كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأت الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف )) ، فجاء الإسلام فذكى النفوس ، وألف بين القلوب وأخرج للناس أمة هي خير أمة ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . وانتشر العدل والأمان بين الناس ... وصار بأيدينا كل شيء ، ثم حين غيرنا غيَّر الله علينا ." وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا كثير " ، " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم "
فكان الطريق الصحيح هو أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم لنتقدم ونرتقي ماديا ومعنويا وسياسيا وعسكريا كما تقدموا رضوان الله عليهم . نُرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة ، والقرآن بين أيدينا يرشدنا " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
وندعوا أوروبا وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها ، أن تنبذه وراء ظهرها ، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر ، ونقول لهم ما امرنا الله بتبليغه " يا أهل الكتاب قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " " ... تعالوا إلى كلمات سواء بيننا وبينكم ، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا ....."
ولكن برز فريق من الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم ، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم فانزل الله رجسا على هذه الأمة . فلو أن العقلاء هم من تكلموا لقالوا : نعود إلى ما كان عليه سلفنا وندعوا أوروبا . ولكن هذا ما حدث . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
============
سألني سائل عن الدكتور عبدالله الحامد ...!
سليمان بن صالح الخراشي
……
كنت قد كتبتُ مقالاً ضمن سلسلة "ثقافة التلبيس" بعنوان "مصطلح الإصلاح" بينت فيه أن هذا الوصف أطلق في القرآن على صنفين من الناس:
1- على المصلحين الحقيقيين من أتباع الأنبياء -عليهم السلام-.
2- وعلى مدعي الإصلاح من المنحرفين عن الكتاب والسنة، الذين يُغلفون إفسادهم وباطلهم بهذا الوصف الجميل بغية تضليل الناس وحرفهم إلى مضمونه الفاسد.
وللأسف فإن بعض المخادعين لا زالوا يُطلقون هذا الوصف الجميل على النوع الثاني ، كذباً وزوراً.
وقد رأينا جميعًا في قضية "الدميني والفالح والحامد" كيف صورهم البعض بتلك الصورة الإصلاحية الجميلة، ولكن من علم أفكارهم وأهدافهم علم أنهم خلاف ذلك .
ويتضاعف الأسف عندما ينساق بعض الطيبين - من الأشخاص أو المواقع! - خلف هؤلاء مروجين لهم ولقضيتهم ومصورينهم بصورة المظلوم، نكاية بالدولة . وقد بين أخي طالوت المعافري -وفقه الله- في مقال له بُعد هؤلاء عن الإصلاح الشرعي المأمول؛ وأنهم ما بين حداثي ، و قومي ، و عصراني .
وفي ظني أن الذي جمع الثلاثة وألف بين قلوبهم ! أمران:(40/370)
1- معارضة الدولة السعودية -وفقها الله للخير-.
2- الافتتان بما يسمى "المجتمع المدني" الذي جعلوا منه "المدينة الفاضلة" التي يحلمون بها ويعيشون رغم اختلافهم متعاونين في سبيل إقامتها! (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى).
وقد اختاروا - للأسف - ظرفًا عصيبًا تمر به الدولة ليقيموا تجمعاتهم وينادوا بأفكارهم .. غافلين عن العدو المتربص الذي يطرب لمثل هذه الأصوات متخذًا منها ذريعة للتدخل في شؤون المسلمين الداخلية وفرض مايراه من " إصلاح " ! عليها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأولهم هو أحد المشرفين على مجلة الحداثيين في هذه البلاد : " النص الجديد " التي خصصت عددًا كاملا للحديث عن " مجتمعهم المدني " المراد تحقيقه بدلا من المجتمع الإسلامي الذي قامت عليه هذه البلاد .
وثانيهم له كتاب بعنوان " المجتمع المدني والديمقراطية .." نشر مركز دراسات الوحدة ، الذي لازال يعيش أوهام القومية العربية البائدة .
وثالثهم تحول من الاهتمام بالأدب والكتابة فيه إلى الترويج لهذا المجتمع المدني الذي فُتن به بعد أزمة الكويت ، وجعله همه الأكبر .
وقد سبق لي أن بينتُ حقيقة هذا المجتمع ، وأنه عبارة عن مجتمع علماني دنيوي - باعتراف دعاته - لا تحكمه شريعة الله -عز وجل- ؛ مهما حاول المرقعون أن يُجروا له من عمليات تجميل تغير من شكله القبيح ، مجتمع يعيش فيه الموحدون والزنادقة والكفار جنبًا إلى جنب دون فوارق بينهم ، همهم أن يأكلوا ويشربوا ويتمتعوا ؛ ليعمروا دنياهم -زعموا- بخراب دينهم ، ومناقضة أحكامه .
ومثل هذا المجتمع - ولو بلغ ما بلغ - ( وما هو ببالغ ! ) لا عبرة له في دين الله ، فكم أهلك الله قبله من مجتمعات عمرت دنياها بتدمير توحيدها وعبوديتها لله وتمايزها عن أعدائه ؛ قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}، وقال سبحانه : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .. وغيرها من الآيات التي تبين للمؤمنين أن العمران والإنتاج الدنيوي دون إقامة لدين الله وشرعه بلا تحريف أوتلبيس أومداهنة .. ستكون عاقبته الهلاك وعدم الفلاح ؛ وسيشابه أصحابه الكافرين الذين قال الله عنهم : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} .
انظر الرابط التالي : http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/m/38.htm
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومشكلة هؤلاء الثلاثة وأمثالهم أنهم أرادوا أن يفروا من ظلم الدولة -كما يزعمون- (سواء في توزيع الثروات أو الاستبداد بالقرارات ..) ولو كان الفرار إلى مجتمع كفري "وهمي" يحكمه دستور البشر، يظنون أنهم من خلاله سيحققون العدالة المنشودة.
فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا .
ومشكلة هؤلاء أيضاً أنهم في دعوتهم لمثل هذا المجتمع المدني الكفري يستعملون الألفاظ الموهمة المحتملة لكل تفسير! التي لا تدل على مشروع عملي واضح.
فلو قلت لهم: لنفترض أن الشعب انساق وراء أفكاركم وآمن بها، فأخبرونا: ما الذي تريدون الوصول إليه؟
لقالوا لك: نريد أن نحقق المجتمع المدني العادل ،والمشاركة الشعبية، وضمان حقوق الإنسان و...الخ
شعارات وراء شعارات دون أي نتيجة عملية ملموسة.
حسناً: كل هذه مجرد شعارات ولا تعدو كونها وسائل ، ولكن: بماذا ستحكمون؟! وكيف ستحكمون؟! وما هي الحقوق التي ستحققونها للإنسان ؟! و و
الجواب: لا جواب! وفي ظني أنهم سيختلفون لاختلاف مرجعية كل واحد منهم عن الآخر. فالأمر مجرد تأجيل للخلافات والصراعات إلى حين الخلاص من الدولة السعودية!
فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد يقول قائل : ولكن الدكتور الحامد من" الإسلاميين " ! ولانعلم عنه إلاخيرًا ، وقضيته الكبرى : أن ترتقي الأمة في المجال الدنيوي الذي فاقها فيه الأعداء ، وأن تواجه الظلم والاستبداد ... فلماذا التحامل عليه وحشره مع من سبق ؟!
فأقول :
أولا : أنا لم أحشره معهم ، بل هو من حشر نفسه ! و " المرء مع من أحب " .
ثانيًا : وصف " الإسلاميين " لم يعد وصف تزكية ؛ لأنه أصبح يُطلق على المبتدعة والمنحرفين والمخلطين ممن يخالفون حقيقة الإسلام ؛ فلا بد حينئذ من عرض أفكار كل إسلامي يتصدر الأمة على نصوص الكتاب والسنة حتى لا نُخدع .
ثالثًا : أنه لا يلزم من كونه من الإسلاميين أو حسَن النية والقصد أن نغض الطرف عن انحرافاته وتجاوزاته التي قد تجر على بلادنا وشبابنا ما تجر من مصائب وفتن نحن في غنىً عنها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(40/371)
أما عن فكره ؛ فقد كان الرجل من المتخصصين في الأدب العرب بأطواره ، وتخرج في جامعة الإمام ، وألف في ذلك مؤلفات ، من أفضلها رسالته عن شعراء الدعوة الإسلامية .. ثم بعد أن حدثت أزمة الكويت استهوته قضية الإصلاح ، فأصبح من المطالبين به مع من طالب ذاك الحين ، ثم تطور فكره إلى الافتتان بالمجتمع المدني وألف في ذلك كتيبات - كما سيأتي - وحث الأمة على التقدم الدنيوي ، والاهتمام بـ" عالم الشهادة " كما تهتم بـ" عالم الغيب " - كما يقول - .
أما فكرة " المجتمع المدني " فقد تم بحثها - كما سبق - وبيان ما فيها من مخالفات .
انظر الرابط التالي : http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/m/16.htm
وأما حث الأمة على التقدم الدنيوي فحيّ هلا به لو لم يشوهه بالمعاني الباطلة ، والتحامل على أهل السنة ؛ بسبب ضعفه في العلم الشرعي ، ومجالسته لأهل البدع من أمثال حسن المالكي وغيره .
وتوضيح ذلك يكون بتسليط الضوء - في نقاط - على أقواله التي عبر بها عن مشروعه هذا ، والتي فاه بها في مقابلته مع الجزيرة أو خطها بنانه في آخر كتبه " البحث عن عيني الزرقاء " :
1- قال في المقابلة : (هناك شيء قد يفوت كثيراً من الناس وهو أن صياغة الفكر الإسلامي إنما تمت في العصر العباسي، وهذه الصياغة نظر إليها على أنها هي الإسلام) ! وردد مثل هذا كثيرًا في المقابلة وفي كتيبه المذكور . وأحيانًا يدعي أنهم ركنوا إلى العهد المماليكي إضافة إلى العباسي !! يقول في كتابه ( ص 15) : ( فالتيارات المحافظة الساكنة فكراً وسلوكاً، ماتت دماغياً أو هي تحتضر، مهما كانت أسماؤها لأنها ركنت إلى تقليد الفكر العباسي والمماليكي) !! ( ومثلها في ص 83،54،30،28).
ولم يوضح كيف صاغ السلفيون فكرهم وعقيدتهم من العصر العباسي والمملوكي ! ( وهما عصر الإمام أحمد وشيخ الإسلام !). إنما هو يردد دون وعي .
ولا أدري كيف يكون ذلك ؟ وهم إنما يقوم دينهم على اتّباع الكتاب والسنة بفهم السلف ، وبهذا عرفوا وتميزوا عن غيرهم ، واعترف لهم به أعداؤهم .
قد يقول : ولكنهم يُكثرون من النقل عن الإمام أحمد وابن تيمية . فأقول : فكان ماذا ؟!
إذا نصر الإمام أو شيخ الإسلام أو غيرهما مذهب الكتاب والسنة فماالذي يمنع من الاحتجاج أو الاستشهاد بأقوالهم ؟! وهو يعلم قبل غيره أن أتباع الكتاب والسنة يردون قولهما وغيرهما لو خالف الحق . وكم في هذا من أمثلة .
فإلقاء الكلام على عواهنه دون فهم أو عقل لمجرد التشبث بشيئ لرمي الخصوم وتشويه دعوتهم أمام الآخرين يدل على رقة في الديانة وفقدان للأمانة .
فالحامد أو غيره يلزمه أحد أمرين في هذا المقام :
الأول : أن يقول : قال الإمام أحمد كذا أو قال ابن تيمية كذا ،وقد تبعهما السلفيون على هذا ونسبوه للسلف ، وهو أمر مخالف للكتاب والسنة ، ثم يبين ذلك . أو :
الثاني : أن يقول : الحقيقة أنني استشكلت أمورًا وردت في العقيدة السلفية لها أدلتها ، أظن أنها لاتناسب هذا العصر ؛ ولهذا فأنا لا أملك التصريح بهذا ؛ ولكني وغيري سنتخلص من هذا الأمر بادعاء أنه مُقحم على العقيدة من بقايا العصر العباسي أو المملوكي !!
قد يقال : ولكن بعض القضايا التي طُرحت في عهد أحمد أو ابن تيمية قد كان لها ظرفها المناسب لتضخيمها آنذاك ، وقد تغيرت الظروف اليوم ؛ كقضية " خلق القرآن " وتفريعاتها مثلا .
فأقول : هذا لايعني أن ندعي إقحامها على عقيدة السلف بحجة أنها ضُخمت وأشغلت الأمة ولم نعد نحتاج لها ؛ بل هي من صلب عقيدة المسلم لثبوتها بالنصوص . أما تضخيمها والانشغال بها من عدمه فهذا يخضع لظروف العصر . أي أن المبتدعة لولم يخوضوا فيها ويشغلوا الأمة بها بل يمتحنوهم عليها ! لما أعاد السلف فيها وكرروا ، بل اكتفوا بالتنبيه المجمل لها . وقل مثل ذلك في مسائل أخرى اضطر السلف إلى تفصيل القول فيها اضطرارًا .
فاللوم في الحقيقة يقع على أهل البدع الذين أشغلوا أهل الأمة عن نشر الإسلام بين الناس ، والسعي في منافسة الآخرين في مجال الدنيا .
قلت : ولظهور ارتباط الدعوة السلفية بالنصوص الشرعية ، مما يريد الحامد نفيه ! فقد استشكل مقدم اللقاء - وهو من هو - قول الحامد ؛ ورد عليه قائلا : (كيف تتهمهم بأنهم لا يعتمدون على الكتاب والسنة، وجوهر منهجهم قائم على اتباع الكتاب والسنة؟ ) . فتخبط في الجواب ! حيث ادعى أنهم نعم يعودون للكتاب والسنة !! ولكنهم لا يُقدمون حلولا منهما !!
مرة يرى أنهم يعودون للعصر العباسي أو المملوكي ، ومرة يعودون للنصوص !
ثم سأله المقدم سؤالا محرجًا ينقض عليه زعمه جمود السلفيين أتباع الكتاب والسنة قائلا : (طيب كيف تفسر إذن هذا الانتشار؟ إذا كان هذا الفكر بهذه التقليدية بهذا البعد عن الإبداع، بهذا البعد عن روح العصر، كيف تفسر انتشاره علماً بأننا نعيش على الأقل في الخمسين سنة الماضية فترة حيوية جداً مليئة بالتغيرات، مليئة بالتحديات، كيف ينتشر فكر جامد بهذه الطريقة محافظ كما أسميته ونحن نعيش هذه الفترة المليئة بالتغيرات؟ ) .
فماذا كان جوابه ؟(40/372)
استمع إلى التشويش واللف والدوران ! يقول : ( سبب الانتشار أن الزمن الذي أوجد تراكماً ثقافياً في الأمة صار من الصعب على المفكرين والمثقفين إصلاح الفكر الديني، لأن الناس في هذا المضمار نوعان، إما مثقف ديني لا يكاد يعرف من الأمور الحديثة شيئاً مذكوراً، وإما مثقف غير ديني يعرف الأمور الحديثة لكن لا يعرف كيف يؤسس مثلاً حقوق الناس على الدين، كيف يؤسس مثلاً فكرة المجتمع المدني على الدين، فبالتالي تظل الفجوة حتى توجد ومن أسبابه، أيضاً أن خطاب النهضة الذي صاغه المفكرون الأوائل كمحمد عبده والأفغاني، لم يكد يتجاوز تقديم النهضة أو تقديم الإسلام، قدمه كخطاب، لم يتوسعوا في بناء النظريات، خذ مثلاً نظرية الحرية، نظرية حقوق الإنسان، نظرية.. نظريات المجتمع المدني، لم يكتب فيها الإسلاميون شيئاً كثيراً، لو كتب الإسلاميون في المجتمع المدني وحقوق الإنسان مثلما كتبوا في السواك أو في الوتر أو تقليم الأظافر، لاستطعنا أن نجد تأسسياً دينياً لنهضتنا، فبالتالي عبر الزمن حصل حصر للدين، ممكن أن تسميه رهبنة أو دروشة، هذا هو الذي يبدو ) .
قلت : السؤال كان واضحًا وصريحًا ، ولكن الدكتور - كحال إخوانه التنويريين - يُحسن الحيدة والمراوغة !
ومادام أنه يعد المنحرفَين ( الأفغاني وعبده ) من رجال النهضة ، فعلى فكره العفاء !
أي نهضة حصلتها الأمة من هذين ، وهذه نتائج دعوتهما المتميعة أمامك حاضرة في بلدهما بعد أكثر من نصف قرن من رحيلهما ؟ إن العقلاء لا يرون سوى الضعف الديني والتخلف الدنيوي ، وسقوط البلاد بيد المستعمر الأجنبي ثم العلماني .. فلماذا تريد تكرار التجربة المرة ؟!
ثم ختم الحامد حلقته بقوله : (الشيء اللي أطالب فيه أنا هو الرجوع إلى منهج السلف الصالح، لا إلى متون السلف الصالح، يعني إلى كتب الحديث، إلى القرآن الكريم ) !! وهذه لا تحتاج لتعليق ! لأنها تنقض كل مابناه ؛ ولأنها مطلب أهل السنة . ولكن المهم التطبيق لا مجرد الدعاوى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- من شدة افتتان الدكتور وهوسه بالمجتمع المدني فقد وصل إلى مرحلة جعلته يرى أن كل سوء يحدث في هذا العالم هو بسبب تضييع هذا المجتمع ! وكل فضيلة يفوز بها الناس تعود إلى تعظيمهم وحرصهم على تحقيق هذا المجتمع .
( انظر : ص 67،29،24،21من كتابه ) ، وقد أعلن عن تأليفه لكتابين في هذا المجتمع " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " ، " نظرية المجتمع المدني في الإسلام ! " .
ومن طريف ما وقع فيه ( ص 71 ) أنه عزى سقوط الأندلس إلى تفريط أهلها بالمجتمع المدني !! دون تفريطهم في دين الله وأوامره ، وتفرقهم وتنازعهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- يحمل الحامد على الأمة حملة عنيفة ؛ لاهتمامها - كما يدعي - بعالم الغيب وتحقيرها لعالم الشهادة " الدنيا " ، وأن ثقافتها وأدبياتها تدعم هذا الأمر ؛ مما أدى بنا إلى التأخر عن ركب الحضارة .
ولو اكتفى الرجل بنقد القيم السلبية التي أحدثتها الصوفية بين الناس في كثير من المجتمعات الإسلامية من خلال نشر الخرافة والجهل والقذارة، والخلط بين التوكل والتواكل، والتهوين من شأن الأسباب الدنيوية .
أو أنه حث الأمة وحكامها على الاهتمام بالتقدم الدنيوي والمسارعة فيه بنقل التقنية من عدة مصادر ، وتشجيع العلماء والباحثين والنابغين ، وتسهيل أمور البحث والاختراع ، والحرص على التخلص من السيطرة الغربية ، واستغلال الثروات فيما ينفع الأمة ، وتوحيد صفوف دولها في رابطة متكاملة ...الخ الأفكار النافعة ؛ لوفعل هذا لكنا أول المؤازرين والمعاضدين له ، ولكنه - هداه الله - لفرط حماسه لمجتمعه المدني ولتضخم أمر الدنيا في عقله لجأ للتهويل ، وتجرأ بالنقد أو التحريف لبعض المعاني الواردة في الكتاب والسنة! وشكك أو كذب بعض الأحاديث الصحيحة ؛ لأنه لم يفهمها حق فهمها أو رأى أنها تعارض ما هو مفتون به ، وتطاول على العلماء ، وهون من شأن الاهتمام بالكتاب والسنة . وخذ هذه الشواهد من كتابه :
يقول : (نحن بين أمرين: إما أن نقدم الإسلام مشروعاً تنويرياً تجديدياً، كي نبقى. أو أن نُلقى في آخر قاطرة من قطار الحضارة، ولن ينفعنا آنذاك أن يُنقش القرآن في صدرونا أو في مصاحفنا، لأن دوره لن يتجاوز دور أي نقش في متحف الآثار ) .
ويقول : ( التعليم الديني الشائع، يكرّس القطيعة المعرفية، بين التقدم الروحي والتقدم المدني، وهذه القطيعة المعرفية الثقافية، تفرز قطيعة تربوية اجتماعية، أي أن ثقافة القطيعة بين الدنيا والآخرة، تفضي إلى ترسيخ قيم القطيعة، بين الروحي المدني، ولابد من إعادة ربط الحبل المقطوع، بين العبادتين، العبادة الروحية والعبادة المدنية ) .
فهل صحيحٌ أن تعليمنا الديني يفعل ذلك ؟! أم أنه يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا كما يعرف هذا كل دارس ، حتى أصبحنا نخشى أن تتقلص الأولى على حساب الثانية ! ، أم أن الدكتور يردد مايردده الآخرون لكي يظهروا بصورة " المصلحين " " المنقذين " الذين يُعيدون الحق إلى نصابه ؟! كما فعل أخويه من قبل ؛ صاحبا بحث المناهج .(40/373)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- من أخطر أقوال الدكتور في كتابه : قوله : (ومن ما ينتج عن الروح الحوارية المتسامحة، أن يدرك الإسلاميون، أنهم يقدمون وجهات نظر، قابلة للأخذ والرد، ولا يلزم من دعواهم صدق زعمهم، فقد يقدمون تقاليد المكان مطلية بدهان الإيمان، وقد يقدمون أعراف القبيلة البدوية، في عباءة السنة المهدية، وقد يقدمون المفاهيم التراثية الكديرة، على أنها وحي الشريعة الصافية، وقد يقدمون أحد مذاهب أهل القبلة، على أنه المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا الهالكون ) !!!
نعوذ بالله من الشك والريب في دين الله ؟! فالحق - في نظر الدكتور - قد يكون مع اليهود أو النصارى أو البوذيين ، أو غيرهم من أهل الكفر والضلال ؛ فلا يحق لأهل الإسلام أن يجزموا بصحة دينهم وأنه الحق الذي لا يقبل الله غيره ، إنما هو " وجهة نظر " من وجهات أخرى !!
هذا ما يُفهمه كلامه الخطير هذا . فهل يعي الدكتور خطورة ما يقول ؟! ومعلومٌ حكم من شك في كفر الكفار عند العلماء .
كما أن الحق عنده داخل نطاق الإسلام قد يكون في مذهب الرافضة أو الصوفية أو الباطنية أو غيرها من الفرق المنحرفة عن السنة !
ظلمات بعضها فوق بعض .
وحيرة ما بعدها حيرة .
وسقوط في شراك أهل " الحقيقة النسبية " وشكوكهم .
فعقل الدكتور مشوش جدا ؛ مما جعله يخلط بين المسائل الاجتهادية داخل نطاق أهل السنة ؛ وبين الخلاف بينهم وغيرهم من المبتدعة ، بل بين أهل الإسلام والكفار ! فلم يعد يُفرق بين الحق والباطل . وهذه إحدى نتائج العكوف على كتب من يُسمون المفكرين وأهل " التنوير " المزعوم ممن اتخذوا دينهم الحق هزوًا ، وفرطوا فيه وفي أحكامه مقدمين أهواءهم عليه . فمابال الدكتور وهو خريج جامعة شرعية يتابعهم في ضلالهم الذي يدركه صبيان أهل التوحيد ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5- يدعو الدكتور في كتابه إلى : ( دين بمعنى الجنسية الحضارية العامة للجميع، أي أنه يحتضن التعددية، في إطار المواطنة، وإن كان ديناً خاصاً بالمسلمين) !
فهو - هداه الله - يتابع شيوخ العصرنة في تقديمهم " المواطنة وحقوقها " على دين الله وأحكامه الفارقة بين المسلمين والكافرين ؛ فيساوي بين الطائفتين اللتين أمر الله بالتفريق بينهما في أحكام كثيرة يرونها تتعارض مع " وطنيتهم " المزعومة .
6- لتضخم أمر الدنيا والمجتمع المدني في ذهن الدكتور فقد أتى بفهم غريب عجيب لمبدأ الولاء والبراء في الإسلام ؛ حيث قسمه ثلاثة أقسام ! فصلها بقوله :
( إن لمفهوم الموالاة صوراً عديدة:
1- الموالاة النموذجية : هي موالاة من صلح دنيا وأخرى ؛ أي في نيته وعمله معاً، أي في شطر الإسلام الروحي والمدني معاً.
2- وهناك موالاة (ناقصة) عملية في الدين، (تراعي الناحية العملية)، حين يوالي المسلم الأشخاص لا لصلاحهم الذاتي ولا الروحي، بل بسبب عملهم المدني الصالح للمجتمع، فهي موالاة دينية للصواب المدني، مبنية على إدراك أن الولاء للإسلام يوجب الولاء للنفع العام، فالولاء للصالحات المدنية يوجب الولاء للصالحين مدنياً في عمارة الأرض، فهو ولاء للعبادة المدنية، فالقدرة على تمثيل مبادئ الدين الإدارية والاجتماعية، أساس الموالاة المدنية في الدين.
فهذا الناجح هو أحد أفراد الأمة الإسلامية بالمفهوم الحضاري، سواء أكان فاسقاً أم كتابياً.
هذه عمادها المصلحة العامة المدنية للمسلمين، فهي موالاة أصحاب العمل المدني الصالح.
3- ثم هناك ثالثاً الموالاة الدينية الروحية الأخروية، وعمادها الأخوة الإسلامية، فهي موالاة أصحاب العمل الروحي والأخلاقي الصالح، ولكنها عندما يكون النجاح المدني هو الهدف، لا تقدم عليه، لأن الولاء للأشخاص، يتأخر عن رتبة الولاء للجماعة ) !!!!
فالكافر الناجح في أمور دنياه ينبغي أن " يوالى " من المؤمنين ، وتقدم موالاته على موالاة المؤمن غير المنتج " دنيويًا " !!
تقسيم غريب عجيب مخترع قاده إليه تعظيم أمر الدنيا على حساب الدين ؛ مما جعله يهدم ركنًا من أركان العقيدة رأى أنه يصادم قوله المخترع .
ماكان أسهلها على الدكتور لو صان نفسه عن التورط في هذا الباطل وقال : الموالاة لاتكون إلا لأهل الإيمان كما أوجب الله ، ولكن لا مانع أن نستفيد من الكافر في أمور " الدنيا " . كما يقوله علماء الإسلام إلى اليوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- وكما حرف الدكتور مبدأ الولاء والبراء ، واخترع له مفهومًا جديدًا من عنده فقد تجرأ ثانية - جرأة تُذكرنا بصاحبه خالص جلبي ! - باختراع معنى جديد لمصطلح " السلف الصالح " يتماشى مع غلوه في الحياة الدنيا .
يقول الدكتور :
( إذا عرفنا أن الصلاح المدني في العقيدة الإسلامية، هو الشطر الثاني، وهو مهر النجاح الدنيوي، عرفنا من هم السلف الصالح، من خلال العودة بمفهوم الصلاح إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة والتطبيق النبوي ثم الراشدي، فأدركنا أن هناك "سلفاً صالحاً" من أهل الشطر الروحي في مجال الصلوات والتنسك والورع الفردي، ورواية الأحاديث والتفسير والمغازي والأخبار.(40/374)
وأن هناك "سلفاً صالحاً" من أهل الشطر المدني، حاولوا التجديد والكلام على تأصيل العلوم والثقافة، بعد استيعاب الثقافات الأجنبية، وحاولوا توصيف العقيدة وأصول الفقه والتاريخ واللغة والأدب عليها، فَجُلَّ المنهجية العلمية بعد الشافعي، من إنجاز أهل الكلام الذين تمتلئ ثقافتنا الدينية بثلبهم وغمرهم.
وأدركنا أن هناك "سلفاً صالحاً في مجال العمران"، أدرك كيف تبنى المصانع والمزارع والجوامع معاً، وكيف تكون الإدارة والسياسة والحضارة.
وأدركنا ما هو أبعد من ذلك وهو أن هناك أيضاً "سلفاً صالحاً" في إنجازه المدني التطبيقي، قد لا يكون ملتزماً في جانب صحة العقيدة الغيبية أو الشعائر الخاصة، بل قد لا يكون قرأ شيئاً من كتب سلفنا الصالح الروحية، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون فاجراً، بل قد يكون كافراً، ولكن الحكمة المؤمن، لـ"أن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاسق" أو "الكافر" فلنا صلاح عمله المدني الاجتماعي والتقني، وعليه فساد خلقه الشخصي وعقيدته الروحية..الخ ) .
ثم يؤكد هذا الغلو بقوله : ( بمراعاة الصلاح المدني، ندرك أن "أديسون" الذي اخترع المصباح الكهربائي، له فضل على كل من استنارت عيناه بضوء شمعة في أي مكان، وأن عمله أجدى للأمة من المسلم الذي اخترع نعشاً تقنياً، لتقليب الأموات أثناء التغسيل.. ) الخ سخريته !
فعند الدكتور : أي إنسان بارع في أمر الدنيا - مهما كان دينه ومذهبه - هو في المحل الأرفع ، وهو الذي يستحق " الموالاة " ويستحق أن يكون من " السلف الصالح " ... حتى أخشى لفرط حماس الدكتور الدنيوي أن يجعله من المسلمين الموحدين الذين يدخلون الجنة من أي أبوابها الثمانية دون حساب أو عقاب !!
ولا تعجب ! فالتدرج في هذا المسلك المعوج يقود - حتمًا إلى ذلك - إن لم يعصم الله ؛ وقد قاد شيوخ الدكتور من قبل ؛ فرأى بعضهم أن الكفار إخوان لنا ، ورأى آخر منهم عدم كفر اليهود والنصارى ، وقال ثالث قولته الشنيعة المشابهة لما يدندن الدكتور حوله ! : ( أنه شهد مجلسًا لبعض المشايخ وجرى الحديث فيه عمن سيدخلون الجنة ومن سيُحرمون منها . فسألهم : ماقولكم في أديسون مخترع النور الكهربائي ؟ فقالوا : إنه سيدخل النار . فقال لهم : بعد أن أضاء العالم كله حتى مساجدكم وبيوتكم باختراعه ؟ ... ) الخ دفاعه عن الكفار وانتصاره لعدم تكفيرهم ! ( والقائل هو الهالك أبورية الذي ألف كتابًا بعنوان " دين الله واحد " يزعم فيه أن اليهود والنصارى ناجون يوم القيامة ولو لم يُسلموا ! وقد رد عليه الدكتور الفاضل محمد بن سعد الشويعر في كتابه " وقفات مع كتاب دين الله واحد " وانظر " العصريون معتزلة اليوم ، ص 112ومنه نقلت ما سبق ) .
فيادكتور .. احذر أن يتدرج بك الأمر كما تدرج بهؤلاء . وقف عند حدود الله لاتتجاوزها بتأويل أو تحريف . ولاتجاوز بمن أخبر الله عنهم بأنهم أضل من الأنعام قدرهم ومكانهم الذي أراده الله لهم . فالكافر يبقى كافرًا تشمله أحكام الكفار وأوصافهم مهما بلغ في تقدمه وعلمه الدنيوي ، ومهما انتفع البشر بأفكاره ومخترعاته . فالعبرة عند الله بالتزام دينه الذي ارتضاه خاتمًا للأديان .
ولايمنعنا هذا من أن نستفيد من الكافر المبدع في أمور الدنيا - كما سبق - وكما هو مقرر عند العقلاء .
أما عن مدحه " لأهل الكلام " فهو دليل على قلة فهمه ؛ لأن أهل الكلام صرفوا الأمة عن صفاء الكتاب والسنة الذي يدعو له الدكتور ! بما شققوه من التفريعات والحواشي الكلامية المتكلفة ، وبما ابتدعوا من البدع التي استنزفت طاقات الأمة ؛ وصرفتا عن ركب الحضارة .
فكانوا أحرى بذم الدكتور من غيرهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8- هون الدكتور من أمر إقامة الحدود الشرعية قائلا : ( ومن النماذج التي يلتبس فيها الحق النظري بالعلمي: إذا طبق الحاكم حداً من حدود الله، ثم أنتج تطبيق هذا الحد منكرات أكبر وأعظم، فإن تطبيق ذلك خطأ شرعي، كما ذكر العلامة علال الفاسي رحمنا الله وإياه: إذا كان تطبيق جزئي من الشريعة، يؤدي إلى خلل في التطبيق الكلي؛ فليس ذلك التطبيق من العلم بالشريعة ) !
ولم يوضح لنا متى يكون تطبيق الحد الشرعي يؤدي إلى مفسدة أو منكر أعظم منه ! فإطلاق الكلام هكذا يُفهم الاستهانة بإقامة الحدود الشرعية التي " تملص " منها المنهزمون أمام الغرب بدعاوى كثيرة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
9- لم يستعمل الدكتور في كتابه المسميات الشرعية المتعارف عليها : ( المسلم ) ، ( الكافر ) ، ( المبتدع ) .. إنما استعمل مسميات عصرية : ( الصلاح المدني ) ، ( العقيدة الروحية ) ! .. الخ .
والسبب أن الأولى محددة مقيدة ؛ بخلاف الثانية التي تقبل " التمطيط " والتوسع في إدراج المعاني الباطلة تحتها .
____________________________
تنبيهات مهمة :
1- ذكرتُ سابقًا أن للدكتور علاقة بالمبتدع الزيدي حسن المالكي . وقد أكد هذا المالكي نفسه في كتابه عن " الصحبة والصحابة " ( ص 20 ) وشكر صاحبه الدكتور !(40/375)
2- من قرأ كتاب الدكتور السابق ، وقدر له قراءة كتاب الملحد القصيمي " هذه هي الأغلال " سيجد التشابه الكبير بين الكتابين من حيث تعظيم أمر الدنيا على حساب الدين ، وتحريف كل مايقف أمام هذا التعظيم والغلو من آيات وأحاديث ، حتى لو أدى الأمر إلى ردها ، والخلط بينها وبين المعاني الباطلة عند الصوفية ، بل سيجد تشابهًا في العبارات والشواهد .
ومن حنكة العلماء الربانيين الذين ردوا على كتاب القصيمي وفطنتهم أنهم لمحوا في كتابه ثورة غير منضبطة ستقوده لزامًا إن مشى معها إلى الثورة على الدين نفسه . وهذا ما ألمحه في كتاب الدكتور ! فليتبصر الدكتور أمره قبل أن يندفع في هذا الطريق الشائك الذي سقط فيه من هم أعظم منه علمًا وعقلا .
3- أتمنى أن لا يفهم أحدُ من مقالي هذا أنني أؤيد ما قد يحصل ظلم ، أو أني أقف ضد الإصلاح الحقيقي الذي نتمناه من بلادنا - حرسها الله - .
لا .... ولكني أرى أن يكون ذلك بالطريقة الشرعية القائمة على النصيحة ، وتقديم المشورة والاقتراحات النافعة . فإن أخذ بها فالحمد لله ، وإلا فقد أعذرنا أمام الله وأمام خلقه .
أما الطريق الأخرى فقد يكتشف صاحبها أنه أراد أن يفر من " الظلم " فوقع في " الكفر " ولم يتخلص من " الظلم " !
أسأل الله أن يهدي الحامد ورفيقيه إلى الحق ، وأن يوفق بلادنا إلى الأخذ بالإصلاح الحقيقي الذي يجمع لها بين التمكين لدين الله وحراسة الفضيلة مع التطور الدنيوي النافع ، وأن يباعد بينها وبين كل من يريد صرفها عن دينها وأخلاقها ، وأن يجعلها رحيمة برعاياها ، آخذة بيدهم إلى كل خير
===========(40/376)
(40/377)
كيف احتل الإنجليز بلاد الهند المسلمة ؟!
سليمان بن صالح الخراشي
يجد القارئ الكريم على ( هذا الرابط ) مبحثًا سابقًا متعلقًا بهذا المقال ، عنوانه " كيف احتل الإنجليز مصر ؟ " ، فيه عبرة لكل معتبر بأساليب العدو في إضعاف أو احتلال بلاد المسلمين ، وسيجد أن الخطة واحدة ، تتكرر في كل بلد ، وتنجح للأسف ! لأن المقابل لهم ساذج أو غافل ، لا يُبادر إلى التصدي للشر وهو في مهده ، بما يُفشله ويُحبطه ويقضي عليه .
والإنجليز - كما هو معلوم - من أمهر الناس في الوصول إلى أهدافهم بطريقة هادئة ، طويلة النَفَس ، ذاق منها المسلمون العلقم ، لأسباب كثيرة ؛ على رأسها انصرافهم عن دينهم الصحيح ، وتفريطهم في اتخاذ القوة المادية الرادعة ، وتشبثهم إما بالبدع أو بالأفكار القومية و الوطنية التي تُغيّب عنهم الحقائق . والله يقول : ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) .
ومن أراد معرفة شيئ من كيد الإنجليز وتاريخهم فعليه بكتاب الأستاذ محمد العُبيدي الموصلي - رحمه الله - : ( جنايات الإنكليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة ) - وقد طُبع حديثًا - .
ملخص الخطة المتكررة للإنجليز ووارثيهم
1- التمهيد للاحتلال أو الإضعاف بنشر الفكر المخلخل لوحدة البلاد المسلمة - بواسطة العملاء - ، تحت شعارات : " التسامح " ، " المحبة " ، " التعددية " .. الخ الشعارات التي تُذيب الفوارق بين المسلم والكافر ، والسني والبدعي ، وتكسر الحواجز ، وتُفتت الوحدة ، وتُحدث " الفراغ " الذي يملؤه العدو القادم . ولهذا : فمن يُعين - بجهل أو غفلة أو خبث - على نشر مثل هذه الأفكار في صحيفته أو وسيلته ، ويُمكن لأصحابها من الليبراليين والعصريين ؛ فهو خائن لأمته ووطنه . ويجد القارئ على ( هذا الرابط )
اعترافًا مهمًا لأحد رؤوس العصريين حول هذا الموضوع .
2- التعاون مع الأقليات ، ومحاولة " تضخيمها " ، واستغلال مطامحها ؛ لتفتيت المجتمع وتقسيمه .
3- إحداث نزاعات مختلفة بين أهل البلاد وحكامهم ؛ ليلجأ الجميع - في نهاية الأمر - إليهم ! ( فرق تسُد ) .
4- استغلال طموحات المتطلعين أو المتنازعين على الحكم إن وجدوا ، والتوازن في دعم الجميع بما يحفظ مصالحهم ، ويُسهل مهمتهم .
5- استخدام المال والرشاوى .
هذه أبرز وسائلهم . وأما بعد وقوع البلد في الاحتلال فتنتقل مهمتهم إلى : نهب خيرات البلاد ، التمكين لحلفائهم ، تسريح الجيش ، نشر الفساد الأخلاقي ، دعم الأقليات ، بعث التاريخ قبل الإسلامي ..
وقد اطلعت على رسالة جامعية مقدمة لنيل الدكتوراة بجامعة أم القرى ، جديرة بالنشر ، تتحدث عن كيفية احتلال الإنجليز للهند ، وسقوط الدولة الإسلامية فيها ، عنوانها :
( شركة الهند الشرقية الإنجليزية منذ تأسيسها حتى سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند )
للباحث الأستاذ نصير أحمد نور أحمد
تتبع فيها الباحث خطة الإنجليز - وهي لا تخرج كثيرًا عما سبق - لتحقيق هذا الهدف بواسطة شركتهم السابقة ، وهو ماكان يظنه كثيرون مستحيلا ؛ إذ كيف تستولي شركة تجارية على دولة عظيمة كالهند ؟! ولكنهم غفلوا عن أن معظم النار من مستصغر الشرر ، وأن التفريط في دين الله ونصره ، والتهاون في مواجهة الأخطار المحتملة ، وعدم المبادرة بحسمها ، يُحدث ذلك وأكثر .
وأنتقي من الرسالة هذه العبارات مع ذكر الفهرس
- إلى أن يتيسر طبعها -
- ( انتهجت دولة المغول الإسلامية في الهند سياسة تسامحية تجاه مختلف المعتقدات والطوائف الموجودة بالهند والقادمة من خارج الهند، بشكل لم ير عالمٌ ذلك الزمان مثيلاً لها، وقد وضع أسس هذه السياسة مؤسس الدولة المغولية في الهند ظهير الدين محمد بابر شاه ) .
- ( لقد أخذ حفيد بابر شاه السلطان أكبر الأول بهذه الوصايا جملة وتفصيلاً، بل ذهب في تطبيقها إلى درجة مفرطة تحول فيها التسامح إلى التهاون تجاه القيام بمسئولياته في نشر الدعوة الإسلامية، وفي هذا الإطار قام أكبر شاه بعقد المصاهرات مع الراجيوت الطبقة العسكرية الهندوكية ، وأباح المناصب الكبيرة لهم ولغيرهم من الهندوكيين، ولم يتعرض لمعابدهم وطقوسهم الدينية، وتزوج بالهندوكيات زواج مصلحة وسياسة ) .
- ( أصبحت الدولة لا تتمتع بحماية دين أو عصبية في مجتمع بدأ ولاؤه ينقسم إلى الطوائف، ومعنى هذا أن السياسة التي أريد منها كسب ود الجميع انتهت إلى أن خسرت الدولة ود الجميع، لتبقى الدولة المغولية في نهابة المطاف في حالة يرثى لها ؛ بحيث لم يبق لسلاطينها إلا التغني بالأمجاد الماضية، دون أن يجدوا من يقف إلى جانبهم بإخلاص ويعمل إلى إعادة تلك الأمجاد الغابرة إلى واقع ملموس ) .
- ( كانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية تتحين الفرص لكسب ود سلطات دولة المغول الإسلامية في الهند، وكانت الشركة تعرف تماماً أنه ليس بمقدورها تحدي الدولة المغولية التي كانت قوية ومتماسكة وتضرب بيد عن حديد كل من يعبث بأمنها واستقرارها في البر الهندي، ومن هنا اختارت الشركة في هذه الفترة التذلل والتودد أمام سلطات الدولة على أمل أن يسمحوا لها بمزاولة نشاطاتها التجارية داخل أراضي الدولة ) .(40/378)
- حدث احتكاك عسكري بين الشركة والدولة : فتصدت له الدولة بقوة : ( وهكذا فشلت أولى محاولات الشركة في اختبار عرض القوة، وكان السلطان أورنكزيب أول من وجه ضربة قاسية إلى أطماع شركة الهند الشرقية الإنجليزية وأجبرها على التقهقر في المناطق التي كانت بحوزتها وتعهدت بأن لا تعود إلى مثل هذا السلوك في المستقبل ) .
- تعاون الإنجليز مع الأقلية السيخية : ( لقد رحب الإنجليز بنمو قوة الإمارة السيخية المتعاونة معهم في العداء السافر ضد الإسلام والمسلمين، واعتبروها إمارة حاجزة بينهم وبين أي هجوم محتمل من آسيا الوسطى لنجدة المسلمين في الهند ، كما جرى في خلال قرون عديدة مضت، وبارك الإنجليز نهج السيخ الإرهابي ضد المسلمين وأطلقوا يدهم ضمن الحدود التي سمحوا بها ) . ( بعد مرور ثلاث سنوات رأوا أن يقضوا على الإمارة السيخية نهائياً ويلحقوها بالأراضي التي تخضع لسيادة الشركة ) . ( وهكذا انتهت عن الوجود دولة السيخ بيد أصدقائها وحلفائها الإنجليز، بعد أن استنفذت خدماتها للأصدقاء ) .
- أعمالهم مع المسلمين : ( استمر الإنجليز على صب جام غضبهم على المسلمين واتبعوا معهم سياسة الإبعاد عن الوظائف وخيرات البلاد ، وتشجيع الهندوس وتثبيت أقدامهم في المراكز العليا والمناصب الرفيعة، كما فتحوا لهم أبواب الرخاء وميادين الرقي ويسروا أمام أبنائهم التعليم بالمدارس في حين كانوا يعملون على إبقاء المسلمين في ظلمات الجهل والتخلف ليكونوا آمنين من أي محاولة منهم لاسترجاع السيادة التي سلبها منهم الإنجليز بمساندة وتمهيد من جماعات الهندوس ) .
- مهمة تنصيرية : ( كانت لشركة الهند الشرقية الإنجليزية مهمة تنصيرية منذ تأسيسها، إلى جانب مهامها الأساسية في التجارة والكشف والاستعمار، وتبدو تلك المهمة واضحة في البراءة الملكية التي تم بموجبها تأسيس الشركة، إذ تنص على عدم السماح للشركة بالدخول في حرب مع أي أمير نصراني، في حين خولتها الصلاحية بإعلان الحرب أو عقد اتفاقيات السلام مع الحكام غير النصرانيين.
إن الصبغة الاستعمارية وبسط السيطرة الأوربية كانت هي الأخرى واضحة تمام الوضوح في المراسيم التي تأسست بموجبها الشركات الأوربية الاستعمارية وفي مقدمتها شركة الهند الشرقية الإنجليزية، إذ على الرغم من تظاهر الشركات بالتجارة أمام الحكام المحليين في بدايات قدومهم إلى الهند وسائر البلدان الشرقية، كانت مراسيم التأسيس تنص على منح هذه الشركات الصلاحية في إعلان الحرب وعقد المعاهدات وفتح ما تشاء من الأراضي وإقامة الحصون والقلاع، وامتلاك الجيوش والأساطيل الحربية ) .
- لماذا ضاع حكم المسلمين ؟ : ( ضاع حكم الهند من أيدي المسلمين نتيجة تفكك الجبهة الإسلامية الهندية واضمحلالها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وكان في مقدمة العوامل التي أدت إلى ذلك التفكك والاضمحلال الحروب العائلية التي كانت تنشب عند تولي كل سلطان مغولي العرش منذ النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري الموافق للنصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، ولقد أنهكت هذه الحروب الدولة وقضت على هيبتها وأفقرتها بشرياً واقتصادياً وأضعفتها عسكرياً وسياسياً وأمنياً ، وفتحت المجال لزعزعة السلطة المركزية وزوالها وانفصال الأقاليم عن هذه السلطة واحدة بعد الأخرى، كما فتحت المجال للحاقدين على الحكم الإسلامي وللانتهازيين الذين لا تهمهم مصالح ومصير أمة، وأوقعت السلاطين الضعاف في أحضان المتغلبين الذين لعبوا بهم وفق أهوائهم وأغراضهم الضيقة على حساب مصلحة الدولة واستقرارها وثباتها، وكذلك مهدت هذه الأحداث المؤسفة الطريق أمام القادم الجديد الغريب في تاريخ الهند الإسلامي ليملأ ذلك الفراغ وليتحكم في مصير الهنود ، وليحول دون عودة الحكم الإسلامي في الهند بعد أن استمر قروناً متمادية يتداول بين الأسر الحاكمة المسلمة ) .
- أهم عامل للضياع : ( يبقى عامل العوامل في كل ما حدث من وضع مآساوي للمسلمين في الهند هو أخطاء حكامهم التي تأتي في مقدمتها عدم قيامهم خير قيام بأداء واجبهم تجاه نشر وترسيخ العقيدة الإسلامية الصافية المستمدة من الكتاب والسنة، ونتيجة النتائج لذلك التهاون والتقاعس - الذي يتحمل قسطاً من مسئوليته العلماء - هي أن المسلمين بقوا أقلية رغم حكمهم الطويل في شبه القارة الهندية، وحتى هذه الأقلية لم تهيأ لها فرصة توعيتها بالإسلام الصافي من البدع ، وما يطلب من المسلم القيام به تجاه ربه ونفسه وأمته وبني نوعه ومستقبل بلده، والاهتمام بالتربية والتعليم والبحث والتحقيق ، والأخذ بوسائل التقدم العلمي الحضاري التي لا تتوقف عند حد معين بل تتقدم وتتطور مع تقدم الزمن وتوالي الأجيال، وإن نتيجة النتائج هذه كانت العامل الحاسم فيما آلت إليه أوضاع المسلمين في شبه القارة الهندية من استضعاف ومأساة ، ونجاح التحالف الصليبي الهندوكي من إقصاء المسلمين عن السيادة والريادة في شبه القارة الهندية الموحد ) .
فهرس الموضوعات
1- المقدمة .
2- صدى سياسة التسامح في دولة المغول الإسلامية في الهند.
الفصل الأول
تأسيس شركات الهند(40/379)
- شركة الهند الشرقية الإنجليزية.
- شركة الهند الشرقية الهولندية.
- شركة الهند الشرقية الفرنسية.
الفصل الثاني
صراع الشركات الاستعمارية في الهند المغولية الإسلامية
- موقف السلطان جهانكير من القوى الأوربية الاستعمارية.
- تصاعد النفوذ الإنجليزي في عصر أورنكزيب.
- حروب الوراثة النمساوية في أوربا وحرب السنين السبع:
اشتداد الصراع بين الشركة الفرنسية والشركة الإنجليزية.
الفصل الثالث
وضع ثنائي في الهند
- معاهدة إله آباد بين شركة الهند الشرقية الإنجليزية والسلطان شاه عالم الثاني.
- وارن هستنجز وتنظيمات الشركة .
- الشركة دولة داخل دولة المغول الإسلامية في الهند.
- استيلاء الشركة على دهلي وتقدمها في أكثر أنحاء الهند.
- اتساع ممتلكات الشركة، كلكته عاصمة.
الفصل الرابع
وسائل شركة الهند الشرقية الإنجليزية
لإحكام سيطرتها على جميع الهند
- سياسة الإلحاق.
- قانون الثغور .
- عصر السكك الحديدية.
- التنصير .
- اللغة الإنجليزية وتطبيق القوانين الإنجليزية.
الفصل الخامس
الثورة الهندية (1273هـ / 1857م)
- رد الفعل لسيطرة شركة الهند الشرقية الإنجليزية على كل الهند.
- إخماد الثورة، سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند.
- إنهاء حكم الشركة:
- الهند الإمبراطورية، طريق الإمبراطورية.
الخاتمة
- التحليل والنتائج.
- سلاطين دولة المغول الإسلامية في الهند خلال فترة البحث.
- الحكام العامون لشركة الهند الشرقية الإنجليزية خلال فترة البحث.
==============(40/380)
(40/381)
رسالة إلى شعب العراق
سليمان بن ناصر العلوان
بكل أسى وحرقة ، نسمع ونبصر جرائم أمريكا وحلفائها في أرض العراق ، من قتل لأنفس بريئة ، وإراقة لدماء معصومة ، وتدمير لمساكن حصينة ، وتشريد للنساء والولدان ، وتجويع لأطفال رضع ، وبث روح الأحزان والأسى على الثكلى والأرامل والمستضعفين ، وجلب الخوف والقلق على الآمنين ، ونهب لأموال محرمة ، وغصب لثروات ممتلكة ، وبذل كل الجهود والطاقات في فرض القوة على شعبكم ، وبقية الشعوب العربية والإسلامية ، وتعبيد العالمين كلهم لبني الأصفر ، وعباد الصليب ووضعهم تحت سيطرتها ، وهيمنتها ، وسيادتها .
يا شعب العراق : مرت عليكم بضعة عشرة سنة ، عجاف على بلادكم - عاصمة المسلمين في الدولة العباسية - ، قُتِّل فيها الرجال ، وشردت فيها النساء ، ويتم فيها الأطفال ، وتوالت عليكم الجراح ، وسالت الدماء ، وانعدم الدواء ، وذقتم فيها أمر المُر وفسد فيها الحرث والزرع ، وكانت حياتكم في هذه الحقبة ضرباً من النكد والعناء فلكم الله يا شعب العراق
يا شعب العراق : إننا ننظر إليكم بعين الرحمة ، والإنسانية ، ونشارككم في أحزانكم وأتراحكم ، يسؤنا ما يسؤكم ، ويسرنا ما يسركم ، على ما توجبه القيم العالية والعدالة الحنيفية ، والعقيدة الإسلامية ، يحزننا أن ننظر إلى المأساة التي تطل على وجوهكم بصورة يهتز من شدتها القلب ، وتنفطر منها النفس ، ويندى لها الجبين ، كم نالكم من القتل والتهجير والتدمير والجوع والخوف أكثر مما كان من ذي قبل ، فقدتم ممتلكاتكم وحوصرتم من قراكم ومدنكم وحرمتم من أبسط مقومات الحياة ، وتمطر عليكم في هذه الأيام العصيبة حمم القذائف والنار ، من الطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع في أبشع صور الوحشية والطغيان واللإنسانية من قبل رأس الكفر العالمي ، وراعية الشر والوحشية ومحترفة القتل والعنف فأعمل فيكم القتل الرهيب ، رجالاً ونساءً وأطفالاً ، ولم يستثن من ذلك العجزة والمسنين وما تفرق من عجائب الإجرام ، والأعمال العدوانية عبر القرون تجمع فيهم ، وتوالت عليكم الصور المأسوية ، وحرم الفرد من آدميته ، وزرع الخوف والفزع والجوع في صدور وعيون أطفالكم ونسائكم ، وشرد الملايين ، والقذائف تدك ما بقي من أجسادكم ، تحولت جلدة الشباب إلى ضعف وهزل ، وهذا في الشباب أولي القوة ، فما بالكم بالشيوخ والعجزة ، الذين أسقطهم الجوع فلا تسمع إلا دوي نحيبهم ، والثكالى اللاتي أنهكهن الأسى فلا ترى إلا دموعهن ، واليتامى الذين فقدوا آباءهم فلا تسمع إلا صراخهم يعيشون الآم والأحزان ، ويعلوهم صراخ الأنين والزفرات وحياتهم قائمة على القلق والهلع ، يحملون على أكتافهم جراحات وآلاماً تنهد لها الجبال إذ أنهم يعيشون بصورة محزنة ، يتفصد من شدتها الجبين عرقاً
ونحن في خضم هذه الحرب الصليبية الشرسة ، وعلى صعيد هذا التقتيل والتشريد وما حل بكم من بلايا ومحن ، نتواصل معكم في محنتكم هذه بتذكيركم بأهم شيء لديكم والذي به قوامكم ، ومجدكم ، وعزكم ، والذي خلقتم لأجله ، وتبعثون لأجله ، والذي هو من أكبر العوامل الأساسية لا الثانوية في نصركم على عدوكم الظالم الغاشم الصليبي والذي إن حققتموه فسيحق لكم - يقيناً - الانتصار عاجلاً على هذا العدو الأحمق وكسر شوكته ، وتوهين زحفه ، ألا وهو توحيد الله تعالى ، وإخلاص الدين له والتحاكم إلى شرعه ، والاهتداء بوحيه ، ونبذ كل ما يخل به ، ويخدش بكماله ، أو يتنافى معه ، من شعارات قومية ، ولغات ضالة ، ومذاهب فاسدة ، فكم جرت هذه على أمة الإسلام من الشرور والويلات ، وكم أشعلت من حروب وملاحم وكوارث ، والتوحيد هو الذي جعل الأمة تتحمل الرسالة ، وتشعر بالمسؤولية ، وتحول العربي إلى إنسان لا تأسره الأوهام والتقاليد ، ولا الإقليمية والقومية . إن الدعوة إلى القومية وما يحمله هذا الفكر من علمانية ، واشتراكية ، ونحو ذلك من الأفكار التي تعيد للأذهان واقع الناس قبل الإسلام ، غيبوبة عن الحق ، وبذرة للفتنة وعودة بالأمة إلى الفوضى ، والاستبداد ، وحلول الظلم مكان العدل ، والشر مكان الخير والتشتت مكان الوحدة الشرعية . قال الله تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وإن رسول البشرية r بعث في قوم تحكمه العصبية وتسودهم الوثنية ، فكان السلاح الذي رفعه رسول ا صلى الله عليه وسلم في وجوه أولئك ، هو شهادة أن لا إله إلا الله ، محمداً رسول الله ، فكان من ذلك جمعهم بعد تفرقهم ، وغناهم بعد فقرهم ، وعزهم بعد ذلهم ، فلا إله إلا الله تذيب كل الفوارق والعناصر والطبقات ، وتحت مظلة الإسلام عقدت أعظم مؤاخاة في التاريخ ، جمعت بين العربي والرومي ، والفارسي ، والحبشي ، والخزرجي ، والأوسي، ولم يكن هناك أدنى اعتبار لميزان الجنس واللون والعنصر بل جعل الله الميزان ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(40/382)
وإن العرب حين ينسون معقد عزهم ، وعروة مجدهم ، ويظنون أنهم يكونون شيئاً بغير الإسلام ، لا نحسبهم إلا في ضيعة ، ونكسة ، فالعرب - بعيدين عن الإسلام - لن يكونوا إلا صيداً سهلاً للحملة الصليبية ، هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فحطب جهنم والذين يقولون نؤمن بالقومية ، ونؤمن بالعلمانية ، ونؤمن بالاشتراكية ونؤمن بالإسلام ونأخذ من ذاك كذا ، ومن الإسلام كذا ، ومن العلمانية كذا ، ونظل مسلمين يخطئون في فهم الإسلام
ونرجو من الله أن تكون هذه الرسالة مذكرة بالحق موصلة إليه - حتى لا تكون النهاية مؤلمة - ومؤازرة في هذه الحرب ، ورد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً
ونحن نبارك ونقدر وقوفكم وصمودكم في هذه الحرب ، ونبحث معكم عن المزيد من الوقوف في وجه العدوان الصليبي ، ودفعه بكل قوة ممكنة ، ووسيلة مقدورة من عمليات فدائية ، وضربات بطولية ، فأهل الإسلام - حيثما كانوا - يبغضون الظالمين ويرفضون التواجد الأمريكي والغربي في أرض المسلمين ، فإلى المزيد من نسف جماجم أعدائكم ؛ بل وأعداء الإنسانية أجمع ، وامضوا قدماً في التنكيل بهم ، وتسخير قوتكم في حربهم فمفارقة الحياة أحب من الذل المهين ، وقد كان من شعار العرب الأول (مت كريماً ولا تعش ذليلاً)
وكان شاعرهم يقول
حكم سيوفك في رقاب العذل *** وإذا نزلت بدار ذل فارحل
وإذا بليت بظالم كن ظالماً *** وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل
واختر لنفسك منزلاً تعلو به *** أو مت كريماً تحت ظل القسطل
لا تسقنى ماء الحياة بذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
وحرية النفس ، والإقامة على الضيم ، لا يجتمعان أبداً ، أينما حل هذا أدبر ذاك
والإسلام بسمو تعاليمه يطارد الضيم ، والمذلة ، ويشعل نار المقاومة ، ويربط ذلك بالإخلاص ، وابتغاء مرضاة الله ، ونصر دينه ، وإذلال أعدائه ، وما هي إلا نفس واحدة فلا تذهب إلا في سبيل الله ، وطاعته ، ومرضاته . قال تعالى ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً . وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً . الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً )
وثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ) رواه مسلم
وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) متفق عليه
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
القصيم - بريدة
27/1/1424هـ
===========(40/383)
(40/384)
لا ننسى..ولن نغفر
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
بيت حانون، قصة ليست بحاجة لكاتب يكتبها، وليست بحاجة لمن يذكرنا بها أو بغيرها، فقد تكفل هؤلاء بترسيخ كره ـ حتى ـ المنصفين تجاههم، واستحقوا عن جدارة وصفهم بقتلة الأطفال والنساء
(لا ننسى) العبارة ليست من وحي الإنسان الفلسطيني أو العراقي، عبارة صاغها اليهود بفكرهم ومن ثم مجدوها جاعلين منها أهم مرتكزات الأيديولوجية الصهيونية، لهدف اعتبروه من أول أولوياتهم القومية، ألا وهو إحياء الذاكرة اليهودية.
إلا أنهم بعد ما تعرضوا لاضطهاد نازي في أوروبا، تحول ذاك الشعار ليكون (لا ننسى.. ولن نغفر).. وهكذا حول هؤلاء ما تعرضوا له من اضطهاد إلى ذكريات نيرانها لا تنطفئ، إذ ما كانوا ليسمحوا أن تمحى تفاصيلها وما أضافوه إليها.. سواء من ذاكرة العالم، أو من ذاكرتهم بصفة خاصة، وبالتالي حرصوا وما زالوا حريصين على إبقاء وعي الإنسان اليهودي العام في حالة انشغال وترقب لخطر محدق، وعلى تعطش دائم لإشباع حاجته النفسية للانتقام.
مما يلاحظ على الساحة الثقافية الصهيونية أن الأدباء الصهاينة لا يملون الكتابة عن مشكلة اليهودي المضطهد، إذ كثيرا ما يتعمدون الكتابة عنه، وهذا الاهتمام يصل بهم للكتابة عن هذه القضية حتى في الكتب والصحف الخاصة بالأطفال، وهم يمارسون هذا النوع من الكتابة بدهاء مطلق، مدركين أنهم بفعلهم هذا يرسخون التوجه الصهيوني في نفوس الأجيال، داعمين بذلك القول إن تاريخ الاضطهاد اليهودي من أهم مرتكزات الأيديولوجية للفكر الصهيوني.
ومن تلك القصص الصهيونية التي تحكي تاريخ الاضطهاد اليهودي، استوقفتني قصة "حائط الدموع " للكاتب "دافيد كوهين" فهي تتحدث عن فترة اضطهاد الحكم الروماني لليهود في فلسطين، أما السبب من وراء اختياري لهذه القصة دون غيرها، فأمر أعلم أنكم مع نهاية هذا المقال، ستدركونه دون تدخل مني، ومع ذلك، أعدكم بتوضيح الغاية من ذكرها دون غيرها، وإن كنت أشك بحاجتكم لذلك.
وإليكم بعض ما جاء في قصة "حائط الدموع": (فرض الرومانيون الحصار على القدس لأيام كثيرة، ووضعوا راجمات حديد لهدم السور، ولكن حالة سكان القدس المحاصرين كانت صعبة، فقد كان الجوع والعطش في المدينة آخذين في الازدياد، لأنه في وقت الحصار نفد فائض الحبوب، وحتى آبار المياه جفت هي الأخرى! كان المحاصرون يحصلون على كمية قليلة جدا من المياه وكانت كل قطرة أغلى عليهم من الذهب.. مرت أيام صعبة على المحاصرين في القدس، ومات كثير منهم من الجوع والعطش..)!!
هلا رجعت أيها القارئ الفاضل إلى بداية الفقرة السابقة، هلا قمت بتغيير بعض الكلمات، فوضعت بدل القدس، قطاع غزة، وهلا استبدلت الرومان بالنازيين الصهاينة، والآن هل تعتقد أن ما يمارس يوميا وبشهادة العالم على الفلسطينيين وقطاع غزة بالذات، يشابه ما أصاب هؤلاء على يد الرومان؟! لن أتعجب إن سمعتك تقرر أن صورة النص بعد التغيير، لا تطابق الواقع حاليا على الأرض، فشتان بين ما أصاب هؤلاء على يد الحكم الروماني، وما أصاب الشعب الفلسطيني على يد النازيين الصهاينة، فقد عم الجوع والعطش في قطاع غزة، وانعدم الأمن الصحي والاجتماعي والنفسي، فالقتل الصهيوني يطرق الأبواب في الليل أو النهار، وسواء قطع أجساد أطفال رضع، أو أحدث إبادة جماعية.. فلا بأس فالعالم الأعمى الأصم الأبكم، سيتفهم كما عودهم، العالم سيقبل اعتذارهم لا لأنه مقبول عقلا ومنطقا، بل لأنه يريد ممسحة ولو قذرة يتمسح بها، ويتوارى خلفها.!
يبدو أن العالم أصبح من هواة القصص التراجيدية، بل يبدو أنه أصبح مدمن هذه النوعية من القصص، بل يبدو أن جرعتها اليومية الحالية على أرض فلسطين المحتلة لا تفي بالغرض، لذا نتابع تطلعه للمزيد.. فلم تعد الدماء الفلسطينية المسفوكة لتحركه أو تحقق نشوته، فما يراه على مدار الساعة من جرائم ضد الإنسانية على يد رموز هذا النوع من الجرائم، لا تطربه، ولا تهز كيانه.
بيت حانون، قصة ليست بحاجة لكاتب يكتبها، وليست بحاجة لمن يذكرنا بها أو بغيرها، فقد تكفل هؤلاء بترسيخ كره ـ حتى ـ المنصفين تجاههم، واستحقوا عن جدارة وصفهم بقتلة الأطفال والنساء.
ولا أعرف كيف نجد بيننا من يطالبنا بالسكوت عن القضية الفلسطينية، وعن معاناة الإنسان الفلسطيني، وكيف يعلل ذلك بقوله بدعوى أن التوجه العالمي يسعى للسلام، وهل السلام الذي نبغي هو ما تحقق لسكان بيت حانون؟! أو لسكان غزة؟! وهل سنقبل بغير حدود 67م؟! هل سنبيع القدس لهؤلاء؟! وهل سنغير القناة كلما ظهرت أشلاء أطفال فلسطين ونحيب أمهاتهم، وبكاء رجالهم؟!
ثم هل سنقبل من العالم ردة فعل كهذه لو كنا نحن سكان بيت حانون، لو كنا نحن أسرة (العثامنة) التي فقدت في المجزرة الأخيرة قرابة عشرين فردا، إضافة إلى عشرات من الجرحى قطعت أطرافهم، وأحرقت أجسادهم..؟!
-===========(40/385)
(40/386)
مناهجنا وشيء اسمه الإرهاب
د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
ليس عجيباً أن يكون من مظاهر النعرة الأمريكية، وزهو القوة وغرورها التدخل في خصوصيات المسلمين، وصميم حقوقهم المعنوية، وكان هذا ظاهراً في خطاب الكاتب اليهودي الأمريكي (فريد مان) عن مناهج التعليم لدينا، وأنها المسؤولة عن الإرهاب، ولكن الأعجب الذي لا ينقضي منه العجب أن نسمع رجع الصدى في كتابات لكتاب خليجيين في صحفنا المهاجرة، ثم تبعهم بعض إخواننا في صحفنا المحلية.
وليس بخاف أن المقصود بالهجوم على المناهج والمطالبة بتغييرها ليس إلا مناهجنا في المملكة السعودية، وليس المناهج التي صنعها (اللورد كرومر)، ولا مناهج بلدان شقيقة ليس لمواد الدين فيها قدر العشر مما للرسم والرياضة والموسيقى.
وليس لدي من تعليق إلا بعض الأسئلة والتساؤلات حول الموضوع.
- هل من الموضوعية توحيد السبب وقصره في سبب واحد بعيد كل البعد عما حدث، وتجاهل الأسباب الحقيقية المؤثرة؟
- أليست هذه المناهج التي لدينا هي المناهج التي تخرَّج عليها وزراء وسفراء وأساتذة الجامعات وكتاب تلك المقالات أيضاً، فما الحصانة التي جعلتهم لا يتأثرون بها مع ملايين الخريجين، في حين نجحت في التأثير في خمسة عشر شاباً؟!
- كم عدد الذين تخرجوا من المدارس الدينية - كما توصف - من بين هؤلاء الذين يسمون بالإرهابيين. ونحن نعلم أن أدنى مراجعة لسجِلِّهم العلمي تُبين أن فئة كبيرة منهم لم تكمل تعليمها النظامي، والفئة الأخرى في تخصصات أخرى ليست شرعية، كالطب والهندسة مثلاً.
- أليس رجال الجماعات المتهمة بالعنف في مصر هم الذين كانوا أطفالاً في عهد الرئيس عبد الناصر، فتفتح وعيهم على التعليم والإعلام والثقافة والأدب وكلها تربي الناس على المبادئ القومية والاشتراكية؟
- ما المدارس الدينية التي تخرج منها مجندو جماعات العنف في الجزائر، والذين كانوا أطفالاً في عهد الرئيس (بومدين) يوم كانت البلاد تعيش ظلمات الاشتراكية وتغالب فلول الفرنسة.
- أليس الأزهر أكبر معقل علمي ديني، وأضخم جامعة إسلامية، فكم نسبة الذين وقعوا في مدحضة اجتهادات العنف إلى عدد خريجيه، وكم نسبتهم إلى أصحاب هذا الاتجاه من الجامعات الأخرى؟
- هل مصدر التلقي والتكوين العلمي والعقلي محصور في المدارس النظامية والجامعة الدينية، أليس الإعلام أقوى سطوة وأوسع انتشاراً وأكثر كثافة؟ ماذا تساوي ساعات الجلوس على مقاعد الدراسة في فصلي العام الدراسي إلى الساعات الطوال التي تتعاقب فيها وسائل الإعلام مسموعة ومقروءة ومرئية. على عقل الإنسان ووجدانه؟
- ما المناهج التعليمية الدينية التي أثَّرت في كاتب كويتي يطالب بتغيير مناهجنا اليوم حتى ذهب في يفاعة شبابه مناضلاً مع جبهة تحرير ظفار ليقاتل إخوة له في الإسلام والعروبة والرحم من أجل مبادئ يسار اليسار. وما المناهج الدينية التي كانت وراء قيام مجموعات من الشباب اليساري بتفجيرات الستينات في الكويت، وكان هناك شاب في مثل سنه متهماً فيها؟!!
- أليست المدارس والمعاهد الشرعية قائمة منذ مئات السنين؟ فأين الإرهاب الذي أفرزته كل تلك الحقب.
- ألم تمضِ السنوات وهذه المدارس لا تذكر إلا على سبيل الزراية بها ووصفها بالجمود والتحجر، وعدم التعامل مع المجتمع، وعدم القدرة على التأثير فيه، ثم ادكّرنا بعد أمة أنها تؤثر هذا التأثير كله، وراجت عندنا التهمة لما صنعت وصدرت ضمن الصادرات الأمريكية.
- أليس من الغريب العجيب أن هذه المدارس الشرعية مستهدفة من هذا التيار الأمريكي وامتداده، كما هي مستهدفة في الوقت ذاته لهجوم عنيف من جماعات العنف ذاتها؟
- ألم يعلم إخواننا وهم يقولون ذلك أن أول خطوات الفكر المنحرف تزهيد الناس في الدراسة النظامية بعامة والشرعية بخاصة، وأحياناً تحريمها بحجج متنوعة أدناها أن هذه الدراسة منزوعة البركة، وأنه لا يبتغى بها وجه الله، بينما السبب الحقيقي أن التعليم الشرعي المتكامل الذي يجمع بين الفقه وأصوله، والحديث وشروحه، والقرآن وتفسيره، يخرج أفواجاً مؤصلة بقواعد ضابطة، عاصمة من الغلو والجنوح، راسخة فلا يسهل استلابها والتأثير عليها، وهذا هو السر في ندرة خريجي الجامعات الشرعية بين الجماعات الغالية.
- إذا اتهمت مناهجنا وحملت المسؤولية عن الذين درسوها، فماذا عن الذين لم يدرسوا في هذه البلاد وإنما تناثرت بلادهم من موريتانيا والجزائر وليبيا إلى استراليا وأمريكا فما مدى مسؤولية التعليم والمناهج عن هؤلاء، وهل يصلح اعتبارها قاسماً مشتركاً.
- وكم تمنينا من الإخوة الذين ترجموا لنا الطلب الأمريكي أن ينقلوا تساؤلاتنا إليهم بالأمانة ذاتها.
- أليس في هذا التدخل الأمريكي اصطدام رأسي مع القيم التي تتبناها أمريكا من الحرية والديموقراطية، إذ ينزع هذا الطلب إلى سلب المسلمين حرية التدين والتعلم، ويفرض عليهم ما يتعلمون وما يعتقدون، وما عليهم أن يتركوه من المعتقدات.(40/387)
- ماذا عن الجامعات الكنسية في أمريكا وهي كثيرة، أو الجامعات التي لها ارتباط بالكنيسة وهي أكثر. وكذا المدارس الدينية وهي بعشرات الألوف، ناهيك عن المحطات الإذاعية والتلفازية الدينية. وهل سيطالها ما يطال المدارس الإسلامية أم ستظل تتمتع بنعيم الحرية والديموقراطية الأمريكاني.
- وهل سيقال مثل ذلك عن المدارس التلمودية في إسرائيل التي تخرج أوقح وأشرس الإرهابيين، وكان من ضمنهم (إيجال عامير) قاتل إسحاق رابين.
- ونسأل أيضاً عن مسؤولية مناهجنا وتعليمنا عن إرهاب الأوربيين لبعضهم في حربين عالميتين لم تشهد الدنيا قبلها مثلها، وماذا عن إرهاب الجيش الجمهوري الإيرلندي، ومنظمة الباسك، والألوية الحمراء، والجيش الأحمر الياباني، وثوار تاميل، ونيكارجوا، والمافيا، والخمير الحمر...الخ.
- وماذا عن نصوص السيف والدم في الكتاب المقدس، فالأستاذ (فريد مان) يعرفها جيداً ولكن نُذَكِّر بها أيضاً (ففي إنجيل متّى الإصحاح (34) ينسب إلى المسيح - عليه السلام - قوله "لا تظنوا أني جئتُ لأرسي سلاماً على الأرض. ما جئت لأرسي سلاماً بل سيفا. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها. وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته".
وفي إنجيل لوقا الإصحاح (35) ينسب له أيضاً " أما الآن، فمنْ عندهُ صرة مال، فليأخذها؛ وكذلك من عنده حقيبة زادٍ. ومن ليس عنده فليبع رداءه ويشترِ سيفاً".
فهل سيطالب هؤلاء جميعاً بتغيير مناهجهم، أم أن الإرهاب لا يقصد به إلا المسلمون، ولا يوجد إلا في مناهجهم؟
- ماذا عن ذلك كله، أم أن المطلوب - أيضاً - هو أن يهجر المسلمون دينهم ولا يتعلمون ولا يعتقدون إلا وفق خطة أمريكية، وأن القصد تجفيف منابع التعليم الشرعي للقضاء على البقية الباقية من معالم الدين "والله متم نوره ولو كره المشركون" "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
- وبعد فليس في كل ما مضى تزكية لمناهجنا فالشرعية منها - بخاصة - لا تزال تعاني نقصاً في جوانب مهمة، منها التكوين التربوي والأخلاقي، وتزكية النفوس، والتأسيس العقدي المتكامل، وإعطاء السيرة النبوية حقها من الإيفاء وكذا قصص الأنبياء وسير الصحابة، والتأصيل لمقاصد الشريعة وقواعدها الجامعة، مع التخفيف من التفصيلات الفقهية التي هي لخاصة طلبة العلم وليست لعامة المتعلمين، مع أن الوقوف مع هذه النقطة بحاجة إلى مقال مستقل بل مقالات متتابعة، وكذا الشأن في بقية المناهج فهي بحاجةٍ إلى تعاقب التجديد والتطوير والمراجعة والتحديث. ولكن شتان بين تطوير المناهج الذي ينادي به الناصحون وينفذه المصلحون، وبين التغيير الذي يأتي بتوجيهٍ أمريكي قائم على البهت والاتهام، منتجاً سلخاً للشخصية، وطمساً للهوية، وعبثاً بالمنهج، ويكفي أهل الكتاب تحريفهم كتبهم، وعبثهم برسالات رسلهم و(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون).
المصدر : الإسلام اليوم
================(40/388)
(40/389)
لو أني من يحاكم صدام ؟!
محمد جلال القصاص
ككثيرٍ غيري شاهدتُ محاكمة رئيس العراق السابق ( صدام حسين ) ، وبعيدا عن قول : أن المحاكمة صورية .. عبثية .. تفتقد النزاهة والشرعية ، وأنها ترمي إلى إشغال الرأي العام ـ في أمريكا وخارج أمريكا ـ عمّا تحدثه المقاومة من نكاية في صفوف المحتل ، وأنها تهدف إلى إحراز مكاسب سياسية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، بعيدا عن هذا كله .وودت لو أنني من يحاكم صدام حسين .مندوبا عن أبناء جيلي .
حين شخص صدام حسين أمام عيني تذكرتُ جيلَ ( الثوار الأحرار ) ... جيلُ ( العرب الأمجاد ) .. أدعياء القومية العربية ، أصحاب الشعارات البرَّاقة ، هذا الجيل الذي أسلمته الأمة قيادها لتحقيق الحلم العربي في الاتحاد وتكوين أمة واحدة تحمل رسالتها الخالدة .
كانت الشعوب تريد أن تستبدل لباس الجوع والخوف الذي ألبسها إياه الاستعمار الغربي بلباس أمن ورفاهية ورخاء ، وكانت بشائر الخير يومها كثيرة . فقد انشقت الأرض بإذن ربها وانبجست عيونا تخرج رزقا وفيرا ، ومضت سنين طويلة وما زال المواطن العربي ـ في الجملة ـ من محدودي الدخل ، بل هنا كثيرون يقبعون تحت خط الفقر ... لا يجدون قوت يومهم ، أو بالكاد يجدونه . فمن المسئول عن ضياع ثروات الأمة أيها ( الأحرار ) ( الأمجاد ) ؟
وكانت الشعوب العربية المسلمة تتطلع إلى الوحدة ، وأن تكون أمة واحدة لحمل رسالتها الخالدة ، والأسباب كثيرة لتحيق هذا الهدف ...فلغتنا واحدة ، وأرضنا واحدة ، وقبل ذلك كله نعبد ربا واحدا .
وتسلق ( العرب الأمجاد ) إلى سدّة الحكم وهم يجعجعون بكلام عن الوحدة والحرية .
ومضت عقود من الزمن وانتهى الأمر على يد ( الأحرار ) أن غرسوا الإحن والضغائن في صدور الأمة ، وباتت الأمة ترفع فوق رأسها أعلام كثيرة ، ويُنسب كل حي إلى أرضه ، لا إلى دينه ولا إلى جنسه .
ولو أن الأمر انتهى إلى هذا الحد لكانت البلية به ـ على عظمها ـ خفيفة ، بل اقتتلت الأمة فيما بينها ، وقتل أبنائُها أبنائَها ، وانتهى الأمر بـ ( العرب الأمجاد ) أن ليس منهم اثنين على قلب رجل واحد .
وكانت قضية الشعوب الأولى يوم تملكَ ( الأحرار ) من رقاب الأمة هي فلسطين المحتلة . فماذا قدم ( الأحرار ) لتحرير فلسطين . لا شيء .
على أيديهم انحسرت القضية من قضية إسلامية إلى قضية عربية ... ثم انحسرت القضية من قضية عربية إلى قضية فلسطينية ، وقالوا قولتهم : ( لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين ) . يقولون هذا وهم من شجعوا شعب فلسطين على الانسحاب من أرضه : اخرجوا ولن نترككم .. سنظل معكم حتى تعودوا . وخرجوا وما عادوا .
وما انتصر ( العرب الأمجاد ) .في حرب واحدة ضد عدوهم الوحيد ، اليهود أعني ، بل انهزموا وسلموا وفي الأخير وقفوا في صف عدوهم وتبدلت قيمهم ومبادئهم !! .
فليس غيركم أيها المتهمون مسئول عن ضياع فلسطين وإهدار ثروات الأمة وإحياء النزعات الوطنية .
وكانت جريمة ( الثوار ) الكبرى هي طمس هوية الأمة العربية المسلمة ، فما زالوا بها حتى عادت أدبارها ، تفتخر بأصحاب القرون الأولى من الكافرين والضالين ، وأذهبوا عنها الفخر بالإسلام ، فهؤلاء أحفاد الفراعنة ، وهؤلاء أحفاد العماليق ، وهؤلاء أمازيغ ... وكلها دعاوى نتنة ترعرعت في ظل ( الثوار) .
وفي عهدهم ( تحررت ) المرأة من قيمنا الإسلامية والعربية ، وخالطت الرجال في محافل التعليم وأماكن العمل والأماكن العامة بل وأماكن اللهو . وشيعت الفاحشة في الذين آمنوا.
ووقف الثوار جميعهم من الشريعة الإسلامية موقف المبغض المحارب . فلم يطبقوا الشريعة ولم تتسع صدورهم لمن يدعوا إلى تطبيق الشريعة بل اعتقلوا وعذبوا ... وفعلوا ما لا يخفى .
ولولا أولوا بقية في الجزيرة العربية رفعت راية التوحيد وآوت ونصرت دعاته لأتى ( العرب الأمجاد ) على البقية من تراث الأمة المسلمة ، ولكان الأمر على غير ما هو موجود اليوم .
وها نحن اليوم نشاهد ( الثوار ) ( الأحرار ) وهم يساقون إلى مذبلة التاريخ طواعية وكرها ، غير مأسوف عليهم من جماهيرهم ، فقد تركوا الشعوب على حال أسوأ من التي كانت عليها يوم تملكوا الأمر .
هذه تهم صدام ومن على شاكلة صدام ، هذه هي جنايتهم في حق الأمة ، فمن يقاضيهم عليها ، ومن يأخذ حق المظلومين ... ثم من يصحح خطأ ( الأمجاد ).
محمد جلال
8/7/2004الخميس
===========(40/390)
(40/391)
هل أَضاعت الفلوجة هيّبة أمريكا ؟
محمد جلال القصاص
رحلَ خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بنصف الجيش من العراق إلى الشام لينضم إلى جيش المسلمين في اليرموك وترك المثنى بن حارثة الشيباني ـ رضي الله عنه ـ يقاتل الفرس بنصف الجيش الآخر ، وتكاثرت الفرس على المثنى واشتد القتال فذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يطلب المدد فأجابه عمر بأن نادي في الناس ومن خرج معك فهو مَدَدُك ، فنادي المثنى مرات ... ولم يخرج أحد ، فعاد إلى أمير المؤمنين يخبره ، فأشار عليه بأن حَدِّث الناس بما تصيبونه من الفرس ، فصعد المثنى المنبر وجلس يحدث الناس عن قتال الفرس وكيف يصيبون منهم ، فتشجع الناس وخرجوا للقتال .
وفي العقود الأخيرة سيطر النفاق على الإعلام وملأ الفضاء وسود الصحف بأحاديث عن قوة أمريكا النووية وقواعدها العسكرية التي لا تغيب عنها الشمس وصواريخها التي تطال من تشاء .. متى تشاء .. أينما كان ! ، ومخابرتها التي تعلم السر وأخفى . ما زلتُ أذكر بعد حرب الخليج الثانية ( تحرير الكويت ) وأستاذ الجامعة يحدثنا عن صواريخ أمريكا التي لا تخطئ الهدف والتي لا تُرجعها أكمة التراب ولا شاهقات الجبال ولا تضل طريقها إن هبت عليها الرياح أو أتت من آلاف الكيلومترات ، وقنابلها الذكية التي تنتظر على دَرَج السلم ـ هكذا قال وأنا أسمع وأرى ـ حتى يخرج الهدف من غرفة نومه فتتحرك إليه ، وقنابلها الغبية ذات الأطنان التي تقتلع العمارات وتصهرها . فضلا عن دبابات إبرامز وتدريبات المارينز . فمن يعادي أمريكا؟!!
واليوم تجمعت كل هذه القوى على حفنة من الفلاحين في قرية تعاني الحصار أربعة عشر عاما ـ ضمن حصار العراق ـ ... تجمعت وهي ترغي وتزبد وتتوعد أهلها بالهلاك والثبور وعظائم الأمور ، وقد سبقت التجمع بقصف استمر لشهور ، وأسقطت القنابل العنقودية والقنابل الذكية والغبية ، ومضى أكثر من شهرين والفلوجة وهي صامدة .
لا أريد الحديث عن خسائر أمريكا في الفلوجة ، ولا أريد الحديث عن الانتفاضة الشاملة التي هبَّت في العراق بعد غزو الفلوجة هذه المرة ، ولا أريد الحديث عن كذب الإعلام الغربي وجُبن الإعلام العربي وعمالته ، ولا أريد الحديث عن نجاح بعض مواقع الصحوة في نقل الحقيقة بأقصى سرعة وبإمكانات لا تذكر إذا ما قورنت بغيرها من المحطات الفضائية وأن هذا نموذجا لابد أن يشجع ..لا أريد الحديث عن هذا .
أريد أن أضع أصبعي على شيء هو أن نجاح المقاومة في الفلوجة سيشجع مدن ـ أو قل دولا أخرى ـ في العراق وخارج العراق للتصدي للهيمنة الأمريكية ، وأذكر أنني قرأت تصريحا للرئيس السوداني يقول : إن أمريكا لو هاجمت السودان فستجد كل السودان فلوجة ، وقرأت مرة في أحد المنتديات موضوعا يدور حول سؤال : لو دخلت أمريكا بلد كذا فأي مُدنه ( مدائنه ) ستكون كالفلوجه .
ولا أُعوِّل على الأنظمة العلمانية المهترئة التي هي للكفر أقرب منها للإيمان ، ولا أريد إثارة القومية الجاهلية فقط أقول أن صمود الفلوجة هذه المدة اقتلع فتيل الخوف من كثير من المسلمين ، وكشف عوار ( قوة ) الأمريكان . وأن قوتهم ليست بشيء أو على الأقل يمكن الوقوف بوجهها . كما كشف غزو العراق عموما والفلوجة خصوصا بأن الأمريكان ليسوا إلا قتلة مجرمين ، وليسوا أصحاب حضارة كما يدعون .وأبان للسذج أن الخلافات بيننا وبين الشيعة ليست خلافات هامشية ، وإنما الواقع الذي لا مراء فيه أننا ـ أهل السنة والجماعة ـ أشد الناس عداوة عند الشيعة من اليهود والنصارى والذين أشركوا . وأبان أيضا أن الأنظمة أمرها ليس بيدها .
ودرسا آخر : هو أن غزو العراق أعطى الفكر الإسلامي دفعة قوية فقد عادت إلى الساحة المصطلحات الإسلامية التي طالما حاولوا قتلها مثل الجهاد ، والولاء والبراء . وان المسلمين امة واحدة .. كالجسد الواحد .
وبدأت تبرز على الساحة القيادات الحقيقية التي ترتقي بعملها لا بصناديق الانتخابات المزورة . وبدأ الناس يلتفون حول العلماء الربانيين بعدما هوى الرسميين أصحاب الرواتب الحكومية .
وأخطر دروس الغزو الصليبي الجديد على العالم الإسلامي فيما يسمى بالحملة على ( الإرهاب ) ـ وهو ما كتبت من أجله ـ هو أنه نشر ثقافة المقاومة ، وأنك تستطيع فعل الكثير بأقل الإمكانات ... وأنت في بلدك دون الذهاب إلى العراق أو أفغانستان أو الشيشان .. ولعلّ ما فعله هؤلاء الشباب الذين فجروا فندق طابا ومخيم رأس شيطان يوضح ما أقول ، فلم يثبت أنهم ضمن أي تنظيم ، ولا أنهم تلقوا دعما خارجيا من جماعات أو حكومات بل : .. أفراد تحركت الحمية الدينية في عروقهم وأرادوا الثأر لأعراض أخواتنا في العراق وأفغانستان والشيشان ، وأسرانا في جوانتانامو وأبي غريب فوجدوا هدفهم قريبا والإمكانات متاحة فباعوا أنفسهم ولم يترددوا .(40/392)
فهل ضاعت هيبة الأمريكان أمام صمود الفلوجة خصوصا والمقاومة العراقية عموما ؟ وهل بعد كثرة جرائم الأمريكان وإعلانهم في كل حين أنهم لن يتوقفوا قبل القضاء على الإرهاب الذي لا يعني إلا الإسلام ومع انتشار المصالح الأمريكية في كل مكان تبدأ انتفاضة شاملة في الأمة ؟
===============(40/393)
(40/394)
تماسك الجبهة الداخلية
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله الذي خلق الكون ونظمه بإدق نظام،وشرع لنا شريعة الحب والمودة والتماسك والوئام أحمده سبحانه وأشكره على نعمه المتتابعة علينا على الدوام،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه ولا في تدبيره ولا في علو المقام،وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً المبعوث رحمة للأنام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة سرمدية متتابعة على مر السنين والأعوام.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله فبتقوى الله يكون لدى العبد فرقاناً في حال الفتن والبلاء وعد بذلك الله بقوله:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ([1]).أمة المودة والترابط والإخاء نداء رباني وبيان إلهي ناداكم به رب العالمين فقال:}وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{(12).نداء يدعوكم إلى التعاضد إلى التكاتف إلى التآزر ويبين لكم أن الفرقة والتنازع سبب الضعف والهوان ومن ثم تسلط الأعداء عليكم حينما يجدون مجتمعاً أصابه الوهن من كثرة ما يطعن بعضه في بعض ويقاتل بعضه بعضاً ؛ ولا يكون تآلف ولا تعاضد إلا على طاعة الله لأنه متى ما تركنا منهج الله ظهرت الأهواء وتعددت الفرق وتمزقت الأمة،وتزداد الحاجة للتماسك والتعاضد في وقت الأزمات والفتن والحروب ولذى جعله رب الأرض والسموات سبباً لحبه فقال : }إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ{(13) .فيا أيها الأحبة في الله إن المجتمعات والأمم كلما وجد بين أفرادها تماسك وتمازج قوي،وكلما وجد تلازم وتماسك بين القيادة السياسية للمجتمع وبين الرعية،وكلما وجد التفاف من أفراد الشعب حول قيادتهم وعلمائهم وثقة بما يقولون وساروا خلفهم؛كلما كان المجتمع قوياً صامداً ضد مخططات الأعداء ،وكلما ضعف ذلك الترابط سهل على الأعداء تمزيق ذلك المجتمع وتحويله إلى أحزاب وشيع يسفه بعضها بعضاً ويقاتل بعضها بعضاً؛وقد حرص أعداء الإسلام على تنفيذ هذا المخطط منذ زمن بعيد، فهذه الأمة الإسلامية كانت عزيزة بدولة الخلافة الإسلامية؛حيث كانت كتلة عظيمة يصعب على الأعداء ابتلاعها،فخطط أعداء الإسلام على تفتيتها ومع الأسف استجاب لهم السذج من بني الإسلام بدعوى الوطنية أو القومية وغيرها،ثم استمر المسلسل فإذا بالقومية الواحدة تتفتت إلى دول،وإذا بتلك الدول تشغل بمشاكل بينية عن أعدائها ، وأول ثمرة مرة لتمزق الخلافة الإسلامية لا تزال غصتها في حلوق بني الإسلام هي دولة إسرائيل الغاصبة، ثم بدأ السعي لتفتيت تلك الدويلات الإسلامية الصغيرة من داخلها فنسمع بين الحين والآخر انقلابات في بلدان عدة،أو معارك أهلية طاحنة تأكل الأخضر واليابس يغذيها أعداء الإسلام ، وكم من بلادٍ إسلامية أقنع أعداء الإسلام فيها طائفة من السذج بأن في التخلص من القيادة أو التمرد عليها خلاص وتحقيق للسعادة والرخاء فدخلت تلك البلدان في دوامة من الفوضى وسفك الدماء والفقر وانعدام الأمن ودفع الجميع الثمن،أيها الأحبة في الله إنما أحببت أن أذكر بذلك لأننا في حاجة إليه فهذه البلاد محسودة على الدرجة العالية من التماسك والتمازج بين العلماء والقادة والشعب،هذه البلاد تمثل المرتكز الأساسي للعالم الإسلامي لما تحويه في جنباتها من مقدسات إسلامية،هذه البلاد تمثل بعد الله ملاذاً للكثير من الدول الإسلامية في محنها ، فلذلك ولغيره أصبحت بلا جدال هدف لأعداء الإسلام يخططون عليها ويمكرون بها {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}(2) .ولكن قد تكفل الكريم برد مكرهم بقوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(3) ؛فهناك حملة في العديد من الصحف الأجنبية تحرض القيادة في هذه البلاد على الشعب من خلال وصفها بالتساهل مع الإرهاب والإرهابيين، ولكنها لم تنطل بفضل الله على قيادتنا الحكيمة،وفي المقابل هناك حملة إعلامية تستثير العواطف الإسلامية وتحاول أن تحرض السذج على قيادتهم،فأقول أحبتي إن المخرج من هذه الفتن هو الاعتصام بما جاء في شريعة الله من الأمر بالتماسك والتعاون على تقويته بين القيادة والأفراد ونجد أن الإسلام قد شدد في ذلك أخرج الإمام مسلم عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ : ((مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ))(4) .وأخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم ((مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَتِهِ(40/395)
وَيُقَاتِلُ لِعَصَبَتِهِ وَيَنْصُرُ عَصَبَتَهُ فَقُتِلَ
فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى لِمُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ))(5) .وقد أمرن r بالسمع والطاعة لولاة الأمر في المنشط والمكره فلا يصح للمرء أن يطيع فقط إذا كان الأمر متمشياً مع هواه وعواطفه فقط بل ما دام أن الأمر متمشياً مع كتاب الله وسنة رسوله ا صلى الله عليه وسلم فإنه يجب لولي الأمر الطاعة ؛والذي يحدد مدى توافق ذلك الأمر مع ما شرعه لنا الله هم العلماء المجتهدون الموثوق بدينهم وأمانتهم ويكون الأمر برقابهم أما أن يرجع المرء القضية لفهمه وعاطفته وتصوره فهذا خطأ بين فقد بين الله تعالى المنهج والطريق بقوله:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}(6) .وأخرج الترمذي عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))(7) .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(8).
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى يجزي أهل الوفاء بالتمام والوفاء وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبتغى ولا ند له يرتجى وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي المجتبى والحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من صدق إيمانهم من هذه الأمة لا تزيدهم المحن والفتن والكروب إلا تماسكاً ويقيناً بوعد الله لعباده المؤمنين فهؤلاء الثلة المصطفاة أصحاب رسول الله يوم أن اجتمعت الأحزاب عليهم في المدينة لإبادة خضرائهم واشتد الأمر على المسلمين حتى يصفه الله بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ()هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(9) . فمع هذه الشدة وتلك الغمة ماذا كان موقف العباد المؤمنين الصادقين:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}(10) .زادتهم تلك الشدة التصاقاً بدينهم والتحاماً بقيادتهم ونبيهم أما أصحاب النفاق أصحاب القلوب التي فيها مرض فإنهم يكونون أداة طيعة في يد الأعداء لخلخلة الجبهة الداخلية بسبب خوفهم واضطرابهم وعدم ثقتهم بدينهم وربهم وهذا ما حدث بالضبط مع فئة المنافقين في نفس الغزوة غزوة الأحزاب وفي نفس الظروف التي زادت المؤمنين إيماناً وتصديقاً زادت المنافقين إرجافاً وتكذيباً واستمعوا إلى العليم بخفايا القلوب يوم أن يصف لنا ذلك بقوله:{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(11) .فاتقوا الله عباد الله وكونوا صفاً واحداً خلف قيادتكم وعلمائكم ولا تتركوا فرصة لأعداء دينكم وبلادكم أن يمزقوا صفكم بالشائعات أو الرسائل الهاتفية أو غيرها.
----------------
([1]) الأنفال:29.(2)إبراهيم:46.(3)الأنفال:30.(4)مسلم،الإمارة،ح(3443).(5)الإمام أحمد،باقي مسند المكثرين،ح(7603).(6)النساء:83.(7)الترمذي،العلم،ح(2600).(8)الأنفال:46. (9)الأحزاب10،11.(11)الأحزاب:12. (12)الانفال:46.(13)الصف:4.
==============(40/396)
(40/397)
كلام هنا وهراوة هناك!
(الهراوة هي العصا الغليظة)
في يوم 14/1/1423هـ 28/2003م صدر بيان القمة العربية في بيروت.
وفي يوم 15/5/1423هـ 29/3/2003م) هاجم اليهود بقواتهم المصلين في الأقصى، وعاصمة السلطة المحلية "رام الله" وغيرها من المدن.
وحاصرت الرئيس، حتى أصبحت تحجزه داخل غرفتين من قصر الرئاسة كما قيل، وسمعه الناس وهو يشكو ويستغيث لنفسه ولمن معه، دون سامع أو مجيب.
وقطعت عنه الاتصال بالعالم، وحرمته من الماء والكهرباء والطعام والدواء، ودخلت كل منزل من منازل العاصمة.
وقتلت من أرادت من المدنيين والعسكريين، وانتشرت الجثث في الغرف والشوارع وأمام المنازل وفي الأسواق، وأسرت من اشتهت، وأظهرت للعالم كله أمام الفضائيات أنواع الإهانات للفلسطينيين بكل فئاتهم.
ومنعت الفرق الطبية من إسعاف الجرحى والمرضى، ومن نقل القتلى، بل دخلت المستشفيات لتأخذ من تريد ممن هو مطلوب لها، ولو كان مريضا أو جريحا.
وجمعت الرجال من الشبان وغيرهم من المنازل والمدارس .... وفي الأماكن العامة وكبلتهم وزجت بمن تريد منهم في مصفحاتها ونقلتهم إلى حيث مصيرهم المجهول أو المعلوم...
وفرضت على الناس البقاء في منازلهم، ومن تحرك منهم عثر الناس على جثته قتيلا برصاص الجيش، هدموا المنازل والأسواق العامة ونهبوا كل شيء في البيوت والأسواق.
ونفدت المؤن والمياه والأدوية، وأصبح الناس يتضورون جوعا، ويئنون مرضا، لا يوجد من يسقيهم ماء، ولا يطعمهم خبزا.
في هذا الوقت، أخذت أشير مسرعا بالناقل "ريموت كنترول" إلى الفضائيات العربية، لأرى ما إذا كان ما كان منها فقد حياءه قد خجل واستحيى، فاهتم بالحدث لينقله إلى الأمة ويحثها على دعم إخوانها في فلسطين بأي نوع من أنواع الدعم، ولو بالحث على الصبر. فلم أجد منها إلا ثلاثا تنقل الأحداث بصورة شبه دائمة.
أما غيرها من فضائيات عواصم الفتوحات الإسلامية، وقلاع أمراء الجهاد الذين سلموا لأبنائهم الأرض الإسلامية ، من نواكشوط إلى مسقط (ولم أهتم بالعواصم الإسلامية الأخرى لأن في عواصم الدول العربية قدوة لغيرها)
فقد وجدت غالبها ترقص النساء العاريات، وتحيي ليالي الغرام بالمغنيات اللاتي تجاوب معهن جماهير الرجال والنساء الذين امتلأت بهم القاعات، يصفقون ويرقصون أمام الأضواء المسلطة عليهم من هنا وهناك.
ووجدت فضائيات أخرى قد اكتظت ملاعبها الرياضية بجماهير الشعوب، التي تحزبت تحت أعلام دولها ونواديها، كل حزب يشجع جنوده على تسديد رميته إلى حصن عدوه ليتم له الفتح والنصر المبين!
ثم انتقلت إلى أخرى، فإذا خيام مضارب البادية قد امتلأت بشعرائها العظام الذين تتجاوب أصواتهم الحزينة وتتناغم مع صوت الربابة الباكية، على فراق الحبيبات اللاتي انتقلنا من دمن مهدمة من دمنة مهدمة كانت حية عامرة، تغطيهن هوادجهن المعدة على الرواحل، إلى أرض نائية عن الحبيب المكلوم.
ثم يممت وجهي شطر التي تليها، فإذا هي تهتم بآثارها القومية، وبأصنام زعمائها الذين فقدتهم في غابر الأزمان، وكلاهما الآثار والزعماء، يحكيان مجد البلد التليد، ويجلبان السائحين الذين يصبون الدولارات في خزائن بنوكهم المركزية!
وذهبت إلى أخرى، فسرني فيها منظر يخالف كل ما مضى من مناظر: علماء في ندوات دينية، وفتاوى شرعية، فظننت أن الأمة قد وجدت ضالتها هنا، ولكني فوجئت بصوت قوي ينطلق من فلسطين يتصل بالمشايخ غاضبا محتجا، يقول [ولا أحفظ نص كلامه بل أعبر عما فهمته منه ومن غبره من عامة الناس]:
أيها العلماء ترفعوا عن هذه الفتاوى والندوات! اتركوا الكلام عن الربا والحيض والوضوء هذه الأيام، فقد عرف المسلمون ذلك في كل مكان!
التفتوا إلى الدماء التي تسفك، والأعراض التي تنتهك، والجرحى الذين تنزف دماءهم فلا يجدون الإسعاف، والبيوت التي تدمر، والمعدات الجائعة، والأفواه الجافة من العطش، والأطفال الذين يموتون لفقد الحليب... والمرضى الذين يموتون لفقد الدواء... أين أنتم هل أنتم أحياء؟
وانتقلت إلى أخرى، فإذا الصحفيون يلقون أسئلتهم على ذوي شأن كبار من الساسة العرب: ماذا فعلتم وماذا ستفعلون لإنقاذ السلطة الفلسطينية، وبخاصة ياسر عرفات الذي أهانه اليهود، وقد يقتلونه أو يأسرونه في أي لحظة من اللحظات؟
فكانت أجوبتهم تتلخص فيما يأتي:
( لقد أصدرنا بيانات استنكار.
( لقد اتصلنا بالرئيس الأمريكي ووعدنا بأن ياسر عرفات لا يمس بسوء.
( لقد اتصلنا بالوزير الإسرائيلي (فلان) وطلبنا منه الكف عن حصار الرئيس، ولكنه أخبرنا بأن المطلوب من ياسر عرفات أن يوقع على تعهد معين...
( نحن حذرنا إسرائيل بأنها إذا استمرت في حصارها سنتخذ إجراءات مهمة.
( ربما نطلب من السفير الإسرائيلي العودة إلى بلاده، مع بقاء العاملين في السفارة.
( نفكر في محاولة اجتماع وزراء الخارجية العرب!!!!!!
نعم! الكلام كثير... والمؤتمرات كثيرة: مؤتمرات قمة عربية.... في عمان عاصمة الأردن... في بيروت عاصمة بيروت... مؤتمرات وزراء الخارجية العرب هنا وهناك.(40/398)
مؤتمرات قمة إسلامية: في طهران عاصمة إيران.... في الدوحة عاصمة قطر... مؤتمرات وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي: في قطر ... واليوم في "كولالامبور"!
إننا لنفرح عندما نسمع أن العرب سيعقدون مؤتمرا، على أي مستوى، طمعا في أن تكون الأحداث قد غيرت المواقف، كما نفرح بأن مؤتمرا إسلاميا سيعقد في يوم كذا في مكان كذا.
ولكن غالبها مع الأسف كلام ينطبق عليها المثل القائل: (أسمع جعجعة ولا أرى طحينا!)
ومن هنا نتمنى ونقول: يا ليت العرب والمسلمين في قممهم، أو فيما دونها أن يخصصوا الأموال التي تنفق في تنقلاتهم واحتفالاتهم وإقاماتهم، للمجاهدين في فلسطين الذين يدافعون عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وبيوتهم ومقدساتهم، فإن ذلك أكثر نفعا وأجدى تدبيرا.
إن الكلام يا قومنا والمؤتمرات العالية الدانية... والبيانات والاستنكار والتحذير والكلام كله، لا ينفع ولا يسمن ولا يغني من إذلال وإهانات.
إن الذي ينفع ويجدي هو ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الإيمان الصادق بهذا الدين، والتوكل القوي على رب العالمين.
الأمر الثاني: إعداد العدة واتخاذ القوة التي أمر الله بها...
الأمر الثالث: اجتماع كلمتكم على الحق... والتعاون الكامل والثقة الصادقة من بعضكم في بعض.
أما مادام الكلام هنا والهراوة هناك فلا ننتظر من الله نصرا، ولا من أنفسنا تدبيرا نافعا.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
============(40/399)
(40/400)
رسالة إلى كل من كتب اسمه باللغة الإنجليزية
أهمية اللغة العربية من الناحية العَقَدية والحضارية
الحمد لله الذي أنزل القرآن بلسان عربي مبين ، والصلاة والسلام على من هو أفصح العرب والعجم صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه أجمعين:
أولا: أهمية اللغة العربية من الناحية العقدية:
من المعلوم أن اللغة هي رباط شاء الله سبحانه وتعالي أن يجعله من الصلات التي تشد البشر بعضهم إلي بعض ولذلك كانت ميزة آدم علية السلام في معرفة أسماء المسميات وقد امتحن الله تبارك وتعالي ملائكته بأن سألهم عن هذه الأسماء فعجزوا عن الحديث عنها واختبر آدم عليه السلام فنجح في هذا الاختبار وكان ذلك سببا لرفع شأنه وإعلاء قدره في الملأ الأعلى ,ذلك لان الجنس البشري _كما هو معلوم _جنس اختاره الله تعالي لأن يكون اجتماعيا بفطرته ، ومدنيا بطبعه فهو بحاجة إلي التفاهم ،وما يتبع هذا التفاهم من التعاون ،ولذلك امتن الله سبحانه في كتابه العزيز بتعليم الناس البيان يقول جل وعلي (الرحمن -علم القرآن _خلق الانسان_ علمه البيان) والبيان من مزايا هذا الانسان . ولذلك فإن الناس الذين يجمعهم المبدأ الواحد والفكر الواحد هم بحاجة إلي أن تكون لهم لغة تربط جميع فئاتهم وتصل بين جميع أطرافهم وتكون وسيله للتفاهم بينهم واللغة العربية هي التي يجب أن ترشح لذلك ، لأنها لغة القرآن والقرآن هو كتاب المسلمين جميعا وكذلك هى لغة العبادة ،فالمسلم _ أيا كان _ عندما يمثل بين يدي الله سبحانه وتعالي يخاطب الله بلسان عربي مبين فيقول(إياك نعبد_وإياك نستعين) ولا فرق في ذلك بين عربي وأعجمي ولا بين ابيض واسود ولا بين جاهل وعالم لأنها لغة مشتركة بين جميع المسلمين ولم تعد ملكا للعرب . بعد أن نزل بها القرآن واختارها الله سبحانه وتعالي لأن تكون وعاء لكلامه فهي لغة العرب والعجم من جميع المسلمين ،ولذلك فإنني عندما أغار علي هذة اللغة ،لا أغار عليها من منطلق العصبية القومية الجاهلية ،وانما أغار عليها لأنها لغة الإسلام ولأنها لغة القرآن المحافظة عليها محافظة علي قيم الإسلام التي جاء بها الكتاب الكريم وجاءت بها السنة النبوية علي صاحبها افضل الصلاة والسلام ولأننا لا نستطيع ان ندرك معاني القرآن الكريم ونفهم العقيدة الحقه ،ونصل إلي أسرار الشريعة الغراء ونعرف أحكام ديننا الحنيف بالأمن خلال إطلاعنا علي هذه اللغة ومعرفتنا الدقيقة بها .
ثانيا: أهمية اللغة العربية من الناحية الحضارية :
لقد شاء الله تعالى أن تمر العربية كغيرها من اللغات بمراحل ، فقد هذبتها الألسن العربية وطوّرتها طورا بعد طور إلى أن تهيأت لأن تكون وعاء لكلام الله عندما نزل بها القرآن على قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وقد كان العرب في ذلك الوقت على ذروة الفصاحة والبلاغة وكانت الجزيرة زاخرة بالجم الغفير من الخطباء والشعراء الذين يلقون الحديث العربي قصيده ورجزه ونثره ونظمه وهم يتبارون في هذا المضمار ويتفاخرون بالسبق إلى قصبات السبق فيه .
وقد كانوا يجتمعون في أسواقهم التي كانت تعقد في الحجاز من أجل هذا التباري وكانوا يتقنون التعبير ولا يحتاجون إلى وضع ضوابط لها لأنهم نشأوا عليها فهم يتقنونها بالسليقة وبالممارسة وما كانت تشوبهم عجمة في حديثهم ، فكان المخطئ منهم يعرف خطؤه بالبديهة . وعندما دخلتْ الشعوب في دين الله أفواجا احتاج الناس إلى ضوابط لهذه اللغة وذلك لسببين :
الأول: أن تلك الشعوب لم تكن عندها الملكة العربية التي كانت عند العرب.
الثاني : أن العرب أنفسهم شابتْ عربيتهم شوائب من العجمة بسبب الاخطلاط فاحتاجوا إلى وضع هذه االضوابط على أن معظم الأئمة الذين خدموا العربية وبحثوا فنونها وتعمقوا في دراسة إشتقاقاتها ووضعوا الضوابط لها هم من غير العلرب كالأخفش وسيبويه والفراء والكسائي … وهم مع ذلك يفتخرون ويعتزون وكل ذلك من أجل خدمة القرآن ومن أجل الحفاظ على معرفة معانيه وإعجازه .
ولذلك فإنه من العار على المسلم أن يحسن اللغات الأجنبية ومن بينها لغات المستعمرين الذين استذلوه واستعبدوه ، وأنْ يفاخر بإتقانها وهو لا يتقن اللغة العربية .
والمسلمون هم أحوج الناس لهذا التواصل الحضاري من خلال التفاهم بهذه اللغة وهذا أمر مهيأ بدليل أن غير العرب يعتنون بهذه اللغة ويتفوقون على العرب فيها، من أمثلة ذلك أنه في بريطانيا نُظْمَتْ مسابقة شعرية باللغة العربية الفصحى ، واشترك فيها الكثير من الشعراء وكان الفائز الأول هو شاعر من سنغاليا بقصيدة له في مدح صلى الله عليه وسلم يقول في مطلعها :
هجرت بطاح مكة والهضابا *** وودعت المنازل والرحابا
اتخذت من الدجى يا بدر سترا *** ومن رهبوت حلكته ثيابا
وهذا الشاعر مسلم غير عربي ولكن القرآن جعلته يعتني بالعربية .(40/401)
فنحن يجب أن نكون أحرص الناس على العربية لأنها لغتنا ولأنها لغة الصلاة لكل مسلم ، وهي لغة الحضارة والزمن القادم يرفض أية لغة سواها إن نحن بقينا نعتز بها ومع ذلك فهي خالدة بخلود القرآن ، ويجب علينا تعلمها والدفاع عنها من أي دخيل يحاول أن يقلل من شأنها وأن يسلك طريقا غيرها من الذين يدّعون الطور ومسايرة الركب الحضاري ولو على حساب اللغة والدين ، ومن واجبنا نحن العرب أن نحرص على استخدامها فيما بيننا وخاصة في المؤسسات التعليمية كالجامعات والكليات المختلفة لأنها رابط عربي وثيق .
وعلينا أن ننتبه من الدعوات المعاصرة والتي تنادي باستخدام اللغة العامية المحلية أو خلط العامية بالعربية كما هو الحال عند بعض الشعراء المتأثرين بالفكر الاشتراكي من مدعوا الحداثة وغيرها ، أو أولئك المستسلمين لأحوال سواد الناس والذين يمزقون العربية راكبين غمار الشعر النبطي مدعين أن الناس اليوم تحبه والجمهور كلهم عليه ومعه .
إن هذا الكلام هو الاستسلام بعينه والتخلي عن المبادئ والقيم وضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس وإلا كيف ننزل إلى أسفل سافلين بحجة الجاهلين والذين لا يهمهم من سماع الشعر غير الضحك وترقيص الأجساد والأسنان وهم عن العربية وحبها بعيدون بعد المشرق عن المغرب. فأين حبنا للعربية فلو أحببنا العربية لما تنازلنا عنها من أجل عامة الناس ومن أجل الذين لا صلة لهم بالأدب وتذوقه.
فهل عرفنا قدر العربية وأعطيناها كلنا لتعطينا بعضها .
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
المرجع:
http://www.geocities.com/su r college...s/a r ticle1.html
وللإستزادة انظر:
http://jmuslim.naseej.com/detail.as...InSectionID=250
http://www.islamonline.net/a r abic/a.../a r ticle7.shtml
أخوكم النهاية1
شبكة الفجر
تأملات في ظاهرة كتابة الأسماء المستعارة باللغة الإنجليزية .. محتسب
============(40/402)
(40/403)
رسالة إلى أهل فلسطين
الشيخ ناصر العمر
أول لقاء مع الشيخ ناصر العمر يتحدث فيه عن قضايا الأمة .. أوضاعها .. إحتياجاتها .. وأولوياتها. يفتتحها بالحديث عن قضية فلسطين
ضمن سلسلة المتابعات التي تنظمها مجلة العصر الإلكترونية، ننشر اليوم بعضا من أجوبة الشيخ ناصر العمر حول أبرز القضايا المثارة على ساحة الأحداث.
في بداية حديثي عن إخواننا في فلسطين أقدم الاعتذار أولا عن تقصيرنا في حقهم فقد قصرت الأمة في حق إخواننا وبخاصة هذه الأيام وهم يعانون من مصاعب جمة ومن تسلط اليهود والنصارى والعلمانيين والمنافقين على إخواننا في فلسطين والكلمة التي أوجهها لهم تتلخص في الكلمات التالية:
أولا :
إن الذي يجري الان في فلسطين مع مرارته فهو مؤذن بإذن الله بانتصار عظيم قادم لأنه عندما تشتد الأمور يأتي النصر { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذِبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء } { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } و صلى الله عليه وسلم في وقت الأزمات الشديدة كان يكون اكثر تفاؤلا r ويبشر أصحابه بالنصر العظيم فالذي يحدث الان مؤذن بانتصار قادم.
اشتد أزمة تنفرج -- قد آذن ليلك بالبلج
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ولن يغلب عسر يسرين بإذن الله.
ثانيا:
أقول للاخوة في فلسطين ولغيرهم أننا عبر عشرات السنين التي مضت حققنا انتصارا عظيما لم ينتبه إليه كثير من المسلمين ألا وهو سقوط جميع الشعارات الزائفة من القومية والشيوعية والاشتراكية والباطنية وغيرها التي زعمت أنها ستحرر فلسطين ، الوصول إلى هذه النتيجة بحد ذاته وانه لن يحرر فلسطين إلا الإسلام انتصار عظيم.
ما كنا نتصور قبل ثلاثين سنة والمنظمات الفلسطينية تملأ الأرض وتتسابق وتزايد على قضية فلسطين أنها ستسقط بهذه السهولة فسقوط تلك المنظمات وثبات خوائها وخلو برامجها من الحقيقة وسقوط شعاراتها حتى لم يبقى في الساحة الان إلا الإسلام ، انتزاع حسن الظن الذي كان يعتقده بعض المسلمين وبخاصة إخواننا في فلسطين في تلك المنظمات أقول سقوط هذه الثقة بحد ذاته يعد انتصارا عظيما ، لأن الأمة لا يمكن أن تنتصر إلا إذا وصلت إلى قناعة انه لن يخلصها إلا الإسلام فقط ، والان الأمر يجري في هذا الاتجاه.
ثالثا:
أيضا من الانتصار العظيم الذي تحقق سقوط برامج واستراتيجيات طرحت على أنها هي المخلصة كالسلام والتطبيع والتعايش مع اليهود مع أنها كلها لم يمضي عليها إلا سنوات معدودة فثبت سقوطها وفشلها الفشل الذريع ، حتى إن أصحابها والمنظرين لها بدءوا يتراجعون عنها.
من كان يستطيع أن يتكلم عن السلام قبل عشر سنوات ؟! واليوم اصبح الذين كانوا ينادون بالسلام يعلنون فشل ذلك المشروع.
{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } كيف يكون السلام مع اليهود ؟! كيف يكون التعايش مع اليهود ؟! كيف يكون التطبيع مع اليهود ؟! هذا مستحيل هل تجتمع النار مع الماء ؟ وهل تجتمع الظلمة مع النور ؟ كما أن ذاك مستحيل فهذا مستحيل.
إذن يُثبت الان أقول زعماء إسرائيل - ولا أفرقهم وأقول انهم صقور وحمائم فكلهم يد واحدة وعلى هدف واحد يمثلهم شارون وغير شارون - يسقطون هم قبل غيرهم دعوى السلام والتعايش والتطبيع.
سقوط هذه المذاهب مكسب كبير للامة ، إذن بقي الطريق الوحيد وهو طريق الجهاد لعدو الله لفلسطين واقصد الجهاد الحقيقي وهذا قادم بإذن الله كما هو وعد الله وفي الأحاديث الصحيحة ، ولكن دون ذلك يحتاج إلى شيء من الإعداد الجسمي والمالي والتربوي والدعوي إعادة الأمة إلى الإسلام والى تربيتها على الإسلام وان تتهيأ للمعركة الفاصلة القادمة بإذن الله تحقيقا لوعد الرسو صلى الله عليه وسلم . أما بالنسبة لنا فأقول إن القضية لا تخص الفلسطينيين وحدهم بل هي لنا ولهم جميعا والمسؤولية مشتركة واكرر اعتذارنا عن التقصير في حق إخواننا ونستطيع أن ندعمهم بكل شيء بالمال وبالقوة وبالتربية وبالدعاة وبطلاب العلم وبالدعاء وان ندافع عن أعراضهم
قاله ناصر العمر
19/2/1422- 12/5/2001
==========(40/404)
(40/405)
تحية لمجاهدي فلسطين وبيان للمسلمين
أ.د/ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فأكتب هذه الكلمات تبرئة للذمة، فقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيّننّه، ولئن لم يبين العلماء وطلاب العلم عند نزول الملمة، فمن الذي ينصح الأمة؟ ومن الذي يوجه العامة؟ ومن الذي يواسي الشعوب المكلومة؟ أينطق بقضاياها كل رويبضة؟ أيقودها لحتفها كل منافق؟ أيواسيها كل عدوٍ مُمَازق؟ لا والله (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون).
إن ما يعيشه إخوتنا في بيت المقدس وما حوله من أراضٍ بارك الله فيها أمر تتفطّر له القلوبُ والأكباد
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
إخواننا هناك مابين قتيلٍ وأسير، ونساؤهم مابين أرملةٍ وثكلى، وأبناؤهم مابين يتيم ٍومفجوع بوالدة، وفي كل بيت بكاء أو دماء أو أشلاء، يسومهم أخابث الناس وأراذل القوم سوء العذاب:
ولو أني بليت بهاشمي *** خؤولته بنو عبد المدان
صبرت على عداوته ولكن *** تعالي وانظري بمن ابتلاني
بمَنْ ضربتْ عليهم الذلة والمسكنة إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله.
فسبحان من جعل الأيام دولاً، بالأمس الغابر يسوم فراعنةُ العصر الأول اليهودَ سوء العذاب، واليوم يسوم اليهودُ إخواننا كل خطة خسف، فرحماك ربي رحماك. وبالرغم من عظم المصاب إلاّ أن في ذلك إشارة لبشارة (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لايحب الظالمين ~ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ~ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)، لا والله فالابتلاء سنة قائمة لعباد الله المؤمنين(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ~ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)، في عصر النبوة وفي أرض المدينة (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)حتى قال بعض المنافقين: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يقضي حاجته؟ (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)ويقول منافقوا اليوم ما قاله الأولون: كيف ينطق الحجر والشجر، كونوا واقعيين، لابد من التطبيع فلا قبل لكم بيهود وحِلفها أمريكا (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون).
- إخوة الإسلام: إن من فوائد هذه الأزمة معرفة حال الأمة وما يمكن أن يعول عليه لحل قضيتها، كما أنها عرّتْ من تستّر بالشعارات والعبارات رغم فصول التمثيل والتدليس التي يمارسها الإعلام.
- يا أهل أرض الإسراء، لقد غدا قول ربنا: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)آية عيانية مرئية، فلم يرضَ اليهودُ عن قوميةٍ عربية، ولا اشتراكية بعثية أو شيوعية، فاحسموا خياركم الذي من أجله تقاتلون، ولتنحّوا الرايات العُمِّية والعلمانية فلطالما خذلتكم "ومن قاتل تحت راية عميةّ يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل، فقِتْلَةٌ جاهلية" [صحيح مسلم]، وقد سئ صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل غضباً ويقاتل حمية ويقاتل للمغنم ويقاتل للذكر ويقاتل ليرى مكانه ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله، قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [صحيح البخاري]. وقد بدا أن من أهل العلمنة عملاء ما فتئوا يسلمون المجاهدين من أبنائكم لعدوكم، وأن دعاة القومية والاشتراكية حَدُّ دعواهم الفرجة والتنديد أما وظيفتهم فحماية اليهود وحراسة الحدود، وأمثال هؤلاء (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاّ خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين)وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
- إخوة الدين والعقيدة اعلموا أن الكفر ملة واحدة، وصدق الله (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)، فهاهو ذا الغرب النصراني ينظر ويتفرج، وربما استنكرت ألوف تضيع في خضم الملايين من المتفرجين، وقد علمنا أن تلك الدول تنزل على رغبات شعوبها، فلا تصيبنكم الكلمات والبيانات بالتخدير، فما أُريدَ بها إلاّ التخذيلُ أو ليلهث الناس خلف سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، ومما يدل على ذلك أن أقل القليل ألا وهو التلويح بسلاح المقاطعة الاقتصادي خيار بعيد عند الغربيين، وهل عزَّ اليهودُ إلاّ بحبل من هؤلاء وأعوانهم؟(40/406)
- يا أهل فلسطين لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، واعلموا أنّ "مَنْ قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد"، وإنما النصر مع الصبر (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم لعلكم تفلحون)وإن يمسسكم قرحٌ فإن عمليات المجاهدين الفدائية أصابت القومَ بقروح، وإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون، وإن ما يقذفه جهادُكم من رعب في قلوب اليهود يدل على أنكم ماضون في الطريق الصحيح الذي أشار إليه الصادق المصدوق بقوله: "تقاتلون" أو "تقاتلكم يهود فتسلطون عليهم".
والشر إن تلقه بالخير ضقت به *** ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم
فامضوا على درب الجهاد فإن الله ناصركم، والله يكلؤكم، وما أصابكم:
فذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يباركْ على أوصالِ شلوٍ ممزع
- يا أهل الأرض المقدسة التي كتب الله لكم كما قال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)ثقوا في موعود الله لكم "تقاتلكم اليهود، فتسلطون عليهم ثم يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله"[صحيح البخاري]، ولا تستبطئوا النصر فقد كان من كان قبلكم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، (وكأين من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ~ وما كان قولهم إلاّ أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ~ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ~ سيهديهم ويصلح بالهم ~ ويدخلهم الجنة عرّفها لهم)
* أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يا من حيل بينكم وبين ما تشتهون، لئِنْ سُدَّ بابٌ لنصرةِ إخوانكم فقد شُرِّعت أبواب، فقد بدا المخلصون وانكشف العملاء والبطّالون، فاعملوا على دعم الطيبين من أبناء ذلك البلد في كافة المجالات المادية والتقنية العسكرية، فهم أعرف الناس بها، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلّة.
* إخوةَ الإسلام لن تعدم الأمّةُ أمَةٌ من إماء الله الصالحات و عبد من عبيد الله الطيبين تجاب دعوتهم لأمّة مستضعفة مظلومة، فاجتهدوا في الدعاء لإخوانكم، وضجّوا به في الصلوات، وأيقنوا بأن نصر الله آت.
* أيها المسلمون اعلموا أنه لا عهد لمن ينقض العهد في كل يوم مرات، (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ~ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)وفي صنع اليهود هذا ردٌّ على كل من قدّم مبادرة استسلام وجواب بليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كما أن التطبيع مع اليهود إقرارٌ لهم على احتلالهم الأرض والمقدسات، ووضعٌ للجهاد، وبونٌ واسع وفرقٌ شاسع بين صلحٍ يضع الحربَ إلى أجل أو غاية، وبين التنازل عن أرض الإسلام، وأي أرض! إرضاءً للغرب، وفراراً من أرض المعركة، وخذلاناً للمجاهدين.
* معاشرَ المسلمين هيئوا أنفسكم بالعلم والعمل، وأعدوا ما استطعتم من قوة، فإن دعى داعي الجهاد كنتم رجاله، وإن دُهمتم كنتم أجبرَ الناس عند مصيبة وأحلمهم عند فتنة، واعلموا أن من واجبكم أن توحدوا صفوفكم على كلمة سواء ليرتفع وصف الغثاء، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).
وختاماً: أذكّر قادة الدول الإسلامية بأنّ نصرةَ إخواننا في فلسطين واجب شرعي (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) واعلموا أن أطماع اليهود بعيدة، يجب ألا يغفلَ عنها عاقلٌ يرقب ما يفعلونه بإخواننا:
أتهويمَةٌ في ظلِّ أمنٍ وغبطة *** وعيشٍ كنوار الخميلةِ ناعمِ!
و إخوانكم بالشام يُضْحِي مَقِيلهم *** ظهور المَذَاكِي أو بطون القَشَاعِمِ
وكيف تنامُ العينُ ملئَ جُفُونها *** على هفواتٍ أيقظت كلَّ نائمِ؟
وتلك حُروبٌ من يَغب عن غِمَارِها *** ليسلم يقرعُ بَعدها سِنَّ نادمِ
سُلِلْنَ بأيدي المشركين قواضباً ***ستغمدُ منهم في الكُلى والجَمَاجِمِ
أسأل الله أن يصلح حال المسلمين وأن ينصر إخواننا المجاهدين، وأن يعلي راية الدين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين(ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
===============(40/407)
(40/408)
صدَّام ... عزيز قوم ذلَّ
( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ آل عمران : 26 ]
الحمد لله و كفى ، و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى ، و بعد
فقد أفل نحم صدَّام الطاغيةِ من ساحة الحكم ، و إن كان ذلك لا يتطلب لزاماً أن يأفل من تاريخ الإنسانية إلى الأبد ، لأن صفحات التاريخ بما فيها من خير و شر ، لا يمكن أن تطوى ، و ليس بمقدور أحد أن ينسف مرحلة تاريخية تعد بعشرات السنين بدعوى التخلص من تبعات الظلم و الطغيان التي شهدتها .
فالتاريخ لا يزال شاهداً على أحداث جسام وقعت في مختلف مراحله ، و حاول الكتاب و المؤرخون توجيهها بحسب آرائهم و قناعاتهم التي صبغت بها كتاباتهم ، من دون أن تلغي ما كتبه الآخرون ، و ظلت أسفار التاريخ خير وعاء لما قاله هؤلاء و أولئك ، مقرَّةً بذلك تعدد الرؤى و الآراء ، التي عجز عن الإقرار بها الساسة و الكتاب و القادة و المفكرون .
فكما أن الجنود الذين وقفوا جاثمين أمام نهب تراث الأمة في العراق ، و شواهد تاريخه العريق ، لم يكُن باستطاعتهم تغيير تاريخه الغابر ، فلن يستطيع من أسدلوا الستار على مرحلة من حكم صدام و حزبه ، أن ينسفوا مرحلة من مراحل تاريخه المعاصر ، أو تاريخ العالم الذي عاش فيه مؤثراً و متأثِّراً بقرار إقصاءٍ أو تجميدٍ ، أو اعتقالٍ أو تصفيةٍ .
و نحن إذ نقف أمام حدث جسيم لم يبدأ باعتقال صدام ، و لن ينهيه اعتقاله ، و إن كان أحد أبرز معالمه ، لن نردد - و لا ينبغي لنا أن نردد - ما لا نسمع له نقضاً و لا نقداً من قوة المحتل الجاثم على أرض العراق ، و المستأثر باقتصاده و سياسة أهله ، المتسلط على رقاب بنيه ، و ما ظهر من ثرواته و ما بطن ، و لا من أولئك الذين يسبحون بحمد المحتل ، و يتسابقون على ما يمجه بين أيديهم مما فضل عن حاجته ، أو قصُرَ عن سيطرته .
إننا لا نريد من هؤلاء و لا غيرهم أن يمجدوا صدام ، لأنه أهان نفسه قبل أن يهنه أعداؤه ، و أجرم في حق أمته قبل أن يجرم في حقه أعداؤها ، و أذنابهم و أجراؤهم من أبنائها .
و لا ندعوا لعودته إلى سدة التسلط و الجبروت التي قال بلسان حاله من فوقها ذات يوم : ( أنا ربكم الأعلى ) و ( ما علمت لكم من إله غيري ) ، فقد تحملت الأمة من عبء مظالمه ما تنوء بحمله الجبال ، شأنه في ذلك شأن سائر الطغاة ، و إن كان أسرع في السقوط منهم ، و أجلب على نفسه بخيله و رَجِلِه ، و أسلحة دماره الشامل و المشمول ، ما عُلِمَ منه و ما لم يُعلَم .
و لكننا - و الله غايتنا - نرمي إلى قول كلمة حق ندين الله تعالى بها ، و نؤديها بعد أن ظلت ديناً في أعناقنا ، فكما أفتينا من قبل بردة الرجل عن الإسلام ، و بيَّنا ما كان منه من كفر بواح ؛ إذ صرَّح باعتقادة بمبادئ الكفر ( الحزبية منها و الشخصية ) ، و أعلنها حرباً على الإسلام بلا هوادة ، و حادَّ الله و رسوله ، و لم يكن له من عذر يرفع عنه حكم الكفر ، فقد أقيمت عليه الحجة فقطع لسان من نطق بها ، و انتفت عنه شبهة الإكراه و التغرير لما عرِف في يده من قوة ينزجر أمامه من يلوح له بالإكره ، أو يسعى به إلى التغرير .
فقد قلنا بكفره يومها ، لأن الحق أمامنا أبلج لا لبس فيه ، و لم نقله تبريراً لاستعانة جيرانه بقوى الكفر في حربه ، و لا بسبب غزوه لجارته ( العربية ) ، و لا لأن حاكماً استنطقنا فنطقنا بما نعتقد أو يعتقد .
قلنا بكفره لفساد فكره الذي اتخذه ديناً و ديدناً ، و رأينا أن الحكم عليه بالكفر هو الأصل ، و أن ما سوى ذلك عارض لا يصار إليه إلى بدليل جلي واضح في ظهوره كالشمس في رابعة النهار نشهدُ به أو نَدَع .
و دارت الأيام دورتها فرأينا من الرجل في سنوات حكمه الأخيرة إقبالاً على الإسلام من جديد ، سواء كان ذلك في خاصة نفسه ، و سلوكه الفردي ، أو في توجيهه لأركان حكمه و عناصر حزبه الذين أ َطَرَهُم على الدورات الشرعية ، و حفظ القرآن الكريم أَطْراً ، و رأيناه يستبدل الرسالة الخالدة ( رسالة صعاليك العرب و دعاة القومية المعاصرين و الغابرين ) بما يشير إلى دين الأمة و مكمن عز أبنائها ، فيكتب بخط يده على راية بلاده لفظ ( الله أكبر ) ، و هذه تطورات منهجية لو كتب لها التطبيق لأحدثت انقلاباً فكرياً جذرياً في فكر البعث العراقي و عقيدة أعضائه عقب حرب الخليج الثانية التي قادتها دول التحالف الصليبي لإجلاء الجيش العراقي من الكويت ، و عُرِفت في وقتها بحرب تحرير الكويت .(40/409)
بدأت معالم التوجه الجديد للحزب الحاكم في العراق تتضح شيئاً فشيئاً بعد أن شُكلت لجنة حزبية ( تصحيحية ) مكلفة من قبل صدَّام بإعادة صياغة المناهج التي تشكل العقلية الدينية لحزب البعث ، فتقدَّمت اللجنة بتوصيات عُرضت للقيادة واضعةً نصب عينيها أملاً ضئيلاً في إجازتها ، و ذُهل الجميع أمام تبني القيادة لعدد من هذه التوصيات و اعتمادها ضمن ما سمي لاحقاً باسم الحملة الإيمانية ، رغم أن ذلك كان مستبعداً في نظر العارفين بتاريخ النظام الحاكم ، رئيساً و أعضاءً .
و مما أُخِذَ به و قُنِّنَ مِن بَعدُ اعتماد منهج شرعي يُدَرَّس لأعضاء الحِلَق الحزبية بمختلف مستوياتها ، و لهذا الغَرَض تم تأسيس معهد عالٍ تُدَرَّسُ فيه خلال عامين العلوم الشرعية لكوادر الحزب ، بصفةٍ إلزامية يعاقب المتخلف عنها ، و اختيرت للتدريس في المعهد كُتُب عُرِفت بسلاسة التأليف و سلامة المنهج ككتاب فقه السُنَّة ، للسيد سابق ، و منهاج المسلم ، لأبي بكر الجزائري ، إلى جانب مقررات حفظ القرآن الكريم التي بلَغت ثلاثة أجزاء في بعض المستويات .
فكيف إذا أضيف إلى ذلك إلزام كوادر الحزب بشهود الجُمَع و الجماعات في المساجد ، و غير ذلك من الأمور التي يعتبر مجرد تقريرها - و لو نَظَرياً - أمارةً على تحوُّل كبير في مسيرة الحزب الذي قاده صدَّام و رسم معالم مسيرته الرئيسة .
و لم يقف حد ( الإصلاحات ) على التوجه الحزبي و مسيرة ( الرفاق ) بل شمل أنظمةً و أعمالاً تستحق الإشادة و العرفان ، فقد وقفَ الثقات لصدام على أعمال جليلة في مجالات التعليم الشرعي و دعم الجهاد و أهله في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس بتجهيز الاستشهاديين ، و خلافة أسرهم بخير ، و إغاثة اللهفان من ضحايا الاحتلال و الاستيطان ، و قمع الفساد و تعقب أهل الفواحش و البغاء المعاصي في أنحاء العراق ، و نحو ذلك مما يعتبر دليلاً على التوجه الجديد للرجل ، فشهد قومٌ بما علموا ، و قيد آخرون بالكتابة و المقال .
و من أعماله المشهودة داخلياً على سبيل الذكر لا الحصر توسعه في بناء المساجد ، و تشجيعه على ذلك بإسقاط الضرائب عمن يبني لله مسجداً . و لو كان مقياس الالتزام بالشريعة السمحة قائماً على توسعة المساجد ، لكان أكثر التزاماً في هذا الباب من أكثر الدول الإسلامية تغنياً و مفاخرة بالتوسعات .
و حينما تسابق حكام المسلمين على إرضاء الغرب بالتضييق على التعليم الشرعي في بلادهم ، و تضييق الخناق على ما يسمونه إرهاباً بتحريف المناهج الشرعية و التضييق على أروقة العلم و مناراته و معاهده و جامعاته ، عَمَدَ صدام إلى السعي في الاتجاه المعاكس لرغبات الغرب الصليبي في هذا المضمار فبنى عدداً من دور التعليم الشرعي و أغدّق عليها العطاء ، و منها : المعهد العالي للإمامة و الخطابة ذي الفروع المنتشرة في المحافظات ، و جامعة صدام للعلوم الإسلامية ، و كلية المعارف بالرمادي ، و كلية العلوم الإسلامية و فيها قسم لأصول الدين ، و آخَر للشريعة ، إلى غير ذلك مما بلغنا و ما لم يبلغنا خبره .
و لولا الإطالة لأسهبنا في ذكر أمارات التوبة التي ظهرت على صدام خلال السنوات العشر الأخيرة ، و من أراد التوسُّع و الإحاطة أحلناه على ما نُشِر في موقع مفكرة الإسلام الإخباري على شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) ففيها إجادة و إفادة .
و ها نحن أولاء إذ بَلَغَنا عن صدَّام ما يدلُّ على توبته من الكفر ( الأكبر ) المخرج من الملّة قلنا ( و ما شهدنا إلا بما عَلِمنا ) : أفلَح إن صَدَق ، و توقعنا منه ، و رجونا له العَوْد الحميد إلى دين الله المجيد .
و لا شك أن الفتيا بإسلام المرء بعد كفره تقبل بالقرائن الدالة على ذلك ، و كلما تواترت القرائن كانت أقوى في الدلالة على الأمر ، و قد تواترت عن صدام مؤشرات التوبة من الكفر البواح الذي كان متلبساً ( و حزبه ) به لعشرات العقود .
و إنني اليوم إذ لا تنتابني غضاضة ، و لا أرى بأساً في الحكم بما بلغني من توبة الرجل من الكفر ، لا أزعم فيه عدالة و لا أهلية لسياسة و لا سيادة ، فهو و شعبه في شأنٍ عظيم من الجرائم و الطغيان و الظلم ، و لا بد لديوان المظالم أن يفتح في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً فيحكم فيه بشرعة لا تعرف الإجحاف ، في محكمة لا يظلم فيها أحد .
و إني إذ أستبعد ، و أكاد أجزم باستبعاد أن يجد الرجل من يحاكمه بشريعة الإسلام ، أو مَن ينصفه من غير أهل الإسلام ، لعلى يقين بأن يد العدالة الربانية لا يفلت منها أحد في العاجل أو الآجل ، فالكل صائر إلى مصيره ، واقف بين يدي ربه القائل : ( لا ظلم اليوم ) .
و إن لم تُنصِف الرجلَ محكمةٌ ، فلا أقل من أن تنصفه كلمةُ حق .(40/410)
فقد قال الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) [ النساء : 135 ] .
و في الصحيحين عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( ألا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ) ثَلاثًا . قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : ( الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ) ، وَ جَلَسَ وَ كَانَ مُتَّكِئًا ، فَقَالَ : ( ألا وَ قَوْلُ الزُّورِ ) قَالَ أبو بكرةَ : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ .
فمن أمكنه الإفلات من قول الزور في الإعلام ، و العمل به عند الساسةِ و الحكَّام ، شهد بحقٍ أنَّ للرجل توبته إن صدق فيها - و نرجو أن يكون صادقاً - و لم يتألَّ على الله أن يقبلها إن صدرت منه بشَرْطِها ، و له على ذلك ما رواه الإمام مسلم في الصحيح بإسناده عَنْ جُنْدَب البَجَليّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ حَدَّثَ : ( أَنَّ رَجُلاً قَالَ : وَ اللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ ، وَ إِنَّ اللهَ تَعَالَىَ قَالَ : مَنْ ذَا الْذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ، فَإِنَّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ) .
و إن أبى قصار النظر شرعاً و عقلاً إلا أن يدينوا مخالفيهم بتهمة الدفاع عن صدام ، فليس لنا في رد الهوى سبيل ، سوى أن نؤكد على أن الحكم بتوبة المرء من الكفر لا يلزم منه تبرئته مما جنته يداه في حقوق العباد ، إذ لم تثبت توبته من ذلك ، لتخلف شرطها الرابع ؛ و هو رد المظالم إلى أهلها ، و استحلالهم قبل أن لا يكون درهم و لا دينار ، إلا الجنة أو النار ، و لم نعرف عن صدَّام شيئاً من هذا القبيل ، من طريق يمكن التثبت منه ، و يصلح للحكم بلازمه .
و حذار ! حذار ! من أن يتخذ هذا تبرئة لساحة الحاكم الظالم من إسرافٍ في جنب الله ، فنحن لا نمجد طاغوتاً ، و لا نثني على ظالم ، و لا نبايع أنصاف الرجال و أرباعهم أوصياء على خير أمة أخرجت للناس ، و لا نضرب بسيف تُضرَبُ به أعناق المسلمين ، مع كائنٍ من كان .
أما فيما يتعلق بما يجري في العراق من جهاد و إعداد و استعداد لدفع العدو الصائل على الأرض و الأهل و الحُرُمات ، فلم نسمع من عاقل ، و لم يبلُغنا عن ثقة أن صدام يقف وراءه ( فضلاً عن أن يقوده بنفسه ) أو يكون له فيه رأي سديد ، أو إمداد أو إعداد ، و هذا أمر توافق عليه العدو و الصديق ، و أجمع عليه كل من يتابع الأحداث في العراق و يتفحص ضربات المجاهدين التي تقصم ظهور المحتلين ، و تخلخل صفوف العملاء و المنافقين .
و إذا سُلِّمَ جدلاً أن لصدام يدٌ فيما يقوم به المجاهدون من قبيل الدعم المادي ، أو التخلية بينهم و بين عدوِّهم مع قدرته على منعهم ( على فَرَضِهَا ) فهذا أمرٌ يشرِّفه و لا يشرف الجهاد و لا أهله ، و ينبغي للعقلاء أن يكفوا عن نسبة المجاهدين للشرق تارة و للغرب تارة لمجرد التقائهم مع هؤلاء في التصدي لعدوٍّ مشترَك .
و مع ما نذهب إليه مما تقدم بيانه ، فقد وقفنا على كثير من الآراء المخالفة ، و التي تناقض ما قلناه بالكامل ، و تسعى لنقضه من أساسه ، و لا يمنعنا ذلك من استيعاب المخالف ، و قبول رأيه ما دام عن حجة و دليل ، لا يتخلله هوىً و لا تضليل ، فإن العاقل من وسع غيره ، و الموفق من كان سماعه أكثر من مقاله .
غير أن ما يسوؤنا و يسوء كل حرٍّ ، كريم النفس ، عزيز الطبع أن تنساق العامَّة وراء من يبرر باطلاً بباطل ، و منكراً بمنكر ، كما فعل أذناب الغرب بتسليم بلادهم للغزاة انتقاماً من الجناة ، و قبولهم للاحتلال حنقاً و غيظاً مما اقترفته أيدي الحكام من أعمال قتل و تنكيل و اعتقال ، و كأن بطش العدو البعيد بلسم ، و مثله من القريب علقَم .
و هذه موازنة يردها العقل و الفطرة و الشرع على سواء ، فما فتئ البشر ( كما في كوبا ، و صربيا ، و غيرهما ) يصبرون على ضيم القريب ، خوفاً من تسلط عدوٍّ غريب ، حتى شهدنا ما شهدناه في العراق من انقلاب الموازين ، حيث أصبح للباطل دولة ، و للخائن سلطان .
و أصبح يُنظر إلى صدام الطاغية على أنه ممثل أهل السنَّة ( و ربما بقيتهم ) في العراق ، و حُمِّلوا ( زوراً و بهتاناً ) جريرة جرائمه التي اقترفها حيناً من الدهر لم يكن له فيه دين و لا ذمَّةٌ و لا خلاق .(40/411)
و يبدوا أن هذه الدعوة ستتخذ ذريعة للقضاء على أهل السنة في العراق على أيدي خونة الكرد ، و منافقي الروافض الذين لم يعرف له عبر التاريخ موقف مشرف يتصدون فيه لمعتدٍ ، أو يدفعون فيه عدوَّاً ، و لذلك لم يفاجأ أحدٌ بوقفتهم الصلبة خلف ( و لا أقول إلى جانب ) غزاة الصليبيين المعاصرين ، و تسليمهم ديارهم و أموالهم و سلاحهم بلا مقابل سوى استئصال شأفة البقية الباقية من القلة المستضعفة ( على يد صدام و من قبله و من بعده ) من أهل السنَّة و الجماعة .
هذه رؤيتي للحدث ، و أنا أرى المحتلين و أذنابهم و حرَّاسهم لا يدعون نهجاً و لا وسيلة يذلون بها العرب و المسلمين إلا بالغوا فيها ، معتزين بباطل لو سمح لأهل الحق بمجابهته وجهاً لوجه لما صمد ساعةً من نهار .
و من مظاهر الإذلال الممعن للعرب و المسلمين على سواء ما واكب اعتقال الطاغية صدام من تصريحات و تقارير مصورة و غير مصورة ، ابتداءً بتصوير جحره ( مع أن الاختفاء فيه أشرف و أكرم بكثير من الارتماء في أحضان الأعداء ) و انتهاءً بتصريحهم بما يريدون به ، و مروراً بعرض صوره و هو يعرض على الطبيب كبقرة هولندية في إصطبل هارٍ .
و أعجب منهم أهل الشماتة و التشفي ، المستجيرون من الرمضاء بالنار ، إذ أنساهم ماضيهم المظلم ظلمات الحاضر و المستقبل تحت سلطة المحتل و سياطه .
و مع ما قد يبرر فرح القوم و ابتهاجهم بسقوط طاغية ظالم ، نقف عاجزين عن تبرير الارتماء القوم في أحضان الأعداء الذين كان لهم - من قبل - دور أساسيٌّ في إيصال صدام إلى السلطة ، و حمايته ، و تبرير جرائمه و مواقفه و كثيرٍ من حروبه ، و - ربَّما - التورُّط في استدراجه إلى بعضها ، قبل أن ينقلب السحر على الساحر ، و يسقيهم من الكأس التي أرادوها له .
و لهذه الأسباب و أسبابٍ أخَر - يسَّر الله بيانها أو تعدادها لاحقاً - ينبغي لنا أن نكف ألسنتنا عن التشفي و الشماتة بسقوط الظالم على النحو الذي بلغنا أو غيرِه ، و نسأل الله أن يختم لنا و له بالحسنى ، و أن يردنا إليه تائبين نادمين ، بما اقترفت أيدينا مقرين ، و على سوء أفعالنا نادمين ، قبل أن لا ينفع درهمٌ و لا دينار إلا من أتى الله بقلب سليم .
و إن كان ما رأيناه مصيرَ من عُرِف بتجبره و ظلمه ، فإننا نستعيذ بالله تعالى من أن يأتي علينا زمان نرى فيه أياً من رموز الأمة الصادقين ، و من كان من أبنائها من المجاهدين العاملين ، فريسة في أيدي أعداء الدين ، و نسأله أن يختم لأوليائه بإحدى الحسنيين ، و أن لا يشمت فيهم أحداً من العالمين ، إنه على ذلك قدير ، و بالإجابة جدير ، فنعم المولى و نعم النصير .
و يحسن بنا في مثل هذا المقام تمثل مقولة الفضيل بن عياض رحمه الله :
( ارحموا عزيز قومٍ ذلَّ ، و غنياً افتقر ، و عالماً بين جُهَّالٍ )
و الله المستعان ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العليِّ العظيم .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
===============(40/412)
(40/413)
مسيرة تحرير المرأة من خلال بعض دعاتها البارزين (1)
الحمد لله وبعد ؛
إن من الدعوات الخطيرة التي تنتشر في بلاد المسلمين ، دعوة " تحرير المرأة " . هذه الدعوة الخبيثة بدأت في مصر من خلال دعاة لها تأثروا بما عند الغرب من حضارة وتقدم ، والأدهى والأمر أنها بدأت من خلال أناس انتسبوا إلى العلم .
ومن خلال هذا الموضوع سنلقي الضوء على بعض دعاة تحرير المرأة ، وما حملوا من أفكار لنشر هذه الدعوة الخبيثة .
لقد شخص الدكتور محمد محمد حسين سبب هذه الدعوة الخبيثة فقال في كتابه " الإسلام والحضارة الغربية " ( ص 14) :
... وأمام هذا الشعور بالخطر بدأ الإحساس بضرورة تعزيز الجيوش إلى البلاد الإسلامية ، وتطلع المسلمون إلى الأخذ بأساليب البلاد الغربية في تنظيم جيوشها وتسليحا ، وعزموا على نقل العلوم الغربية لتحقيق هذا الهدف . واتخذ هذا النقل طريقين :
* أُرسِلت بعثات إلى البلاد الأوربية في بعض الأحيان .
* واستُقدِمَ أساتذة وخبراء غربيون في أحيان أخرى للتدريس في المعاهد العلمية على اختلاف أنواعها ودرجاتها .ا.هـ.
وصدق - رحمه الله - فالذي ينظر إلى رؤوس هذه الدعوة يجد أنهم ممن تأثروا بما عند الغرب سواء ذهبوا إلى تلك البلاد ، أو سمعوا بما عندهم من التقدم والمدنية الزائفة .
ولنأخذ بعضا من رؤوس دعاة تحرير المرأة في مصر وغيرها لكي نكون على حذر ممن يندسون في صفوف المسلمين من أمثالهم .
1 - رفاعة الطهطاوي (1216 - 1290هـ = 1801 - 1873م) :
قال د/ البرازي في كتاب " حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (2/406) :
هو واعظ مصري . صحب البعثة المصرية المتوجهة إلى فرنسا كإمام لها غير أنه فُتِنَ بأفكار الثورة الفرنسية ، لِمَا كان عليه المجتمع الإسلامي - آنذاك - من ضعف ديني ، وتخلف سياسي .
وحين عاد إلى مصر حمل معه الروح الجديدة المتأثرة بالفرنسيين وعاداتهم ، خصوصا فيما يتعلق بالمرأة ، فكتب ثلاثة كتب كانت بذور الدعوة الأولى لما يسمى : بـ " تحرير المرأة " .
وهذه الكتب هي :
1 - تلخيص الإبريز في تلخيص باريز .
2 - مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية .
3 - المرشد الآمين للبنات والبنين .ا.هـ.
وكتاب " تلخيص الإبريز في تلخيص باريز " كتبه الطهطاوي أثناء إقامته في فرنسا ، وعرضه على أستاذه " جومار " قبل أن ينشره بعد عودته .
وقال د / محمد محمد حسين في كتاب " الإسلام والحضارة الغربية " عن دور رفاعة الطهطاوي :
وكان من أعضاء الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين الشيخ " رفاعة الطهطاوي " ، الذي أقام في باريس خمس سنوات " من 1826 - 1831م " تقريبا ، وكان قد رافق البعثة المصرية كواعظ وإمام لها ، وما أن عاد إلى مصر حتى بدأ يبذر البذور الأولى لكثير من الدعوات التي تحمل جراثيمها معه من فرنسا ، مثل الدعوة إلى فكرة " الوطنية القومية " بمفهومها المادي المحدود المنابذ للرابطة الإسلامية بين المسلمين مهما تباعدات أوطانهم ، وكذا استوحى من واقع الحياة الفرنسية أفكارا عن المرأة هي أبعد عن شرائع الإسلام وآدابه ، وقد تجلى في مواقفه الجريئة من قضايا تعليم الفتاة ، وتعدد الزوجات ، وتحديد الطلاق ، واختلاط الجنسين ، حيث ادّعى في كتابه " تلخيص الإبريز في تلخيص باريز " ( ص305) أن " السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعيا إلى الفساد " ، وذلك ليبرر دعوته إلى الاقتداء بالفرنسين حتى في إنشاء المسارح والمراقص ، مدعيا أن الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء بل هو أناقة وفتوة ، وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء ، ودعا المرأة إلى التعلم حتى تتمكن من تعاطي الأشغال والأعمال التي يتعاطاها الرجال .ا.هـ.
وقال د / السيد أحمد فرج في كتاب " المؤمراة على المرأة المسلمة " ( ص38) :
وكانت دعوة جريئة من رفاعة لم يجد لها معارضا خاصة وأن حاكم البلاد قد بارك دعوته ، وبارك أول كتاب وضعه رفاعة وهو " تلخيص الإبريز في تلخيص باريز " يبرز فيه تقدم الغرب ، ويُحسن لمواطنيه الانتفاع بتقدمه ، وأكثر من هذا فقد قرأ " محمد علي " الكتاب قبل نشره بناء على تزكية له من الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر فأمر بطبعه ، وأصدر أمره بقراءته في قصوره ، وتوزيعه على الدواوين ، والمواظبة على تلاوته ، والانتفاع به في المدارس المصرية ، بل إنه أمر بعد ذلك بترجمته إلى التركية .ا.هـ.
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم في كتابه الرائع " عودة الحجاب " " القسم الأول " ( ص 27) :(40/414)
لقد كان رفاعة أول من وضع الأفكار النظرية موضع التنفيذ ، وأول من أنتج عملا فكريا يمهد لخطة اجتماعية عملية ، وتجلى ذلك في مؤلفيه " تلخيص الإبريز " و " المرشد الأمين " الذي ألفه بناء على أمر الخديوي إسماعيل وذلك عام (1872م ) قبل افتتاح أول مدرسة للبنات ترعاها الحكومة بعام واحد ، وقبل موت رفاعة بأعوام قليلة ، ولما كان الخديوي إسماعيل يقود - في بداية تلك المرحلة - حركة التحديث في كل ميادين السياسية والفكرية والاجتماعية ، فقد حاول بعد ذلك أن يقنع أهل الرأي بتأليف كتاب في الحقوق والعقوبات يطبقه في المحاكم ، بحيث يكون سهل العبارة ، مرتب المسائل على نحو ترتيب القوانين الأوربية ، ولكن رفض أهل الرأي من مشايخ الأزهر هذه الدعوة ، فطلب الخديوي من الشيخ رفاعة إقناعهم بقبول ذلك ، ولكنه اعتذر عن ذلك على الوجه الذي وصفه الشيخ رشيد رضا في كتاب تاريخ الإمام محمد عبده على الوجه التالي :
قال الشيخ رشيد : حدثني علي باشا رفاعة بن رفاعة بك الطهطاوي قال : إن إسماعيل باشا الخديوي لما ضاق بالمشايخ ذرعا ، استحضر والده رفاعة بك ، وعهد إليه أن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب ، وقال له : إنك منهم ، ونشأت معهم ، وأنت أقدر على إقناعهم ، فأخبرهم أن أوربا تضطرب إذا هم لم يستجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون فأجابه بقوله : إنني يا مولاي قد شخت ، ولم يطعن أحد في ديني ، فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر في آخر حياتي ، وأقلني من هذا الأمر ، فاقاله .ا.هـ. كلام رشيد رضا .
وكان أن انزوى الطهطاوي بعيدا عن مكان الصدارة ، وانتأى بعيدا ، ليحتل مكانه الشيخ محمد عبده الذي كان في ذلك الوقت في شرخ الشباب ، يحدوه جرأة الشباب وإقدامه ، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل " تحرير المرأة " .ا.هـ. كلام محمد المقدم .
فهذا ملخص للبذرة الأولى من بذور دعاة تحرير المرأة على يد رفاعة الطهطاوي ، وسنأتي على باقي الدعاة .
وليعلم أن هذا السرد التاريخي ليس الهدف منه مجرد الترف الفكري ، بل أخذ العبرة والاستفادة من هذا التاريخ ، فليتنا نحاول من خلال هذا السرد التاريخي أن نستخرج الدروس والعبر ، وذلك من خلال ما لدى الرواد من طرح .
وللموضوع تتمة إن شاء الله تعالى ..........
عبد الله زقيل
===========(40/415)
(40/416)
مفهوم التمييز ضد المرأة " رؤية شرعية "
تأليف
المحامي الدكتور مسلم اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
والباحث في الدراسات الفقهية والقانونية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستهديه و نستغفره ، ونسترشده ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده ورسوله .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) .
و قال أيضاً : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .
وقال جل جلاله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً )
(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70-71) .
أما بعد :
فإن أحسن الكلام كلام الله ، عز و جل ، وخير الهدي هدي صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة ، و كل ضلالة في النار .1
فهذا بحث في " مفهوم التمييز ضد المرأة "
رؤية شرعية
يتضمن مفهوم التمييز ضد المرأة في الفكر الغربي والمستغرب و مفهوم و حدود المساواة ما بين المرأة و الرجل في الشريعة الإسلامية .
ولا يخفى عليك - أخي القارئ - ما يراد بالمرأة المسلمة التي أصبحت هدفاً مباشراً لتدمير الإسلام و المسلمين من قبل الغرب و مناصريه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية . فكان حقيق على أهل العلم و طلابه الاعتناء في الرد على أفكار و دعاوى هؤلاء و خصوصاً بعد أن اشتد ساعدهم و فشت بدعتهم و فتنوا كثيراً من نساء الأمة و لاسيما البعيدات عن العلم وأهله .
وانطلاقاً من و جوب العناية بأمر العامية بالهدي والإرشاد ، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كتبت هذا البحث ، و جعلته في عدة فصول :
الفصل الأول :في مفهوم التمييز ضد المرأة في الفكر الغربي و المستغرب .
بينت بهذا الفصل المبادئ التي تقوم عليها دعوتهم مظهرا أهم أفكارهم و معتقداتهم سواء عند مفكريهم أو في مؤتمراتهم الدولية . ثم بينت بعض نتائج دعوتهم على المرأة الغربية والمجتمع بلغة الأرقام عسى أن يكونوا عبرة لمن يروج لبدعهم وأفكارهم في مجتمعاتنا الإسلامية .
الفصل الثاني : في مفهوم و حدود المساواة ما بين الرجل والمرأة في الشريعة الإسلامية ، و قد قسمت هذا الفصل إلى عدة فروع :
الفرع الأول : في مفهوم و حدود التمييز ما بين الرجل والمرأة في الشريعة الإسلامية .
الفرع الثاني : في مفهوم التمييز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية .
و أخيراً … لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يقف موقف المتفرج بعد أن عرفنا حقيقة دعوة هؤلاء ، بل الواجب على الجميع بذل الجهد في التعاون على البر و التقوى ، وإيضاح الحق بدليله ، والحرص على صفاء النفوس من الغل والحقد من بعضنا البعض ، كما ان الواجب الحذر من أسباب التفرقة والتهاجر ، لأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين أن يعتصوا بحبله جميعا ً و ألا يتفرقوا :
قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمإِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ] 2
فعلينا جميعاً - أهل القبلة - أن نتقي الله سبحانه وتعالى ، وأن نسير على تهج سلفنا الصلح بتمسكنا بالحق و أهله والدعوة إليه ، و التناصح فيما بيننا والحرص على معرفة الحق بدليله ، مع بقاء المحبة و الأخوة ، وعدم التقاطع والتهاجر إلا وفق الضوابط التي بينها علماؤنا الأبرار .(40/417)
و أخيراً لا أدعي أن هذا البحث قد أصاب المحز و طبق المفصل و خلا من كل عيب ، وسلم من كل نقص ، و أعتقد تمام الاعتقاد أنه مهما بالغت بتحريره و تهذيبه ، فلابد من وجود هفوات و مآخذ تثير الانتقاد ، لأن غير المعصوم أهل للخطأ والنسيان ، فإن الإنسان ضعيف لا يسلم من الخطأ إلا أن يعصمه الله تعالى بتوفيقه .
فنحن نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى و صفاته العلى أن يزيدنا و سائر المسلمين هداية و توفيقاً ، و أن يمنحنا جميعاً التفقه في دينه و الثبات عليه و نصرته ، والدعوة إليه إنه ولي ذلك و القادر عليه .
( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(البقرة: من الآية286) .
المحامي الدكتور
مسلم محمد جودت اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
و الباحث في الدراسات الفقهية و القانونية
حلب سورية 22/جمادى الأولى /1425هـ الموافق لـ 10/7/2004م
هاتف 00963212262346
00963212268436
حلب سورية ص.ب 10347
Moslem@scs-net.o r g
abokotaiba@hotmail.com
الفصل الأول
مفهوم التمييز ضد المرأة في الفكر الغربي والمستغرب
الفصل الثاني
مفهوم و حدود المساواة ما بين الرجل والمرأة في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : مفهوم و حدود المساواة ما بين الرجل والمرأة في الشريعة الإسلامية
الفرع الثاني : مفهوم التمييز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية
الفصل الأول
التمييز ضد المرأة في الفكر الغربي و المستغرب
يتساءل أحدنا لماذا كل هذا التركيز ، و الاهتمام بالمرأة من قبل الغربيين ، و من دار بفلكهم من المستغربين من أبناء جلدتنا . لعل السر أن هؤلاء و أمثالهم عرفوا مكانة المرأة الأساسية ، و دورها الرائد في مسيرة الأمة ، و تكوينها و حمايتها . فأيقنوا أنهم متى أفسدوا المرأة و أخرجوها من عباءة الإسلام ، ونجحوا في تضليلها ، ربحوا قضية السيطرة على العالم دون أي منازع .
فالنصارى بعقائدهم المحرفة الفاسدة اعتبروا المرأة مسؤولة عن انتشار الفواحش و المنكرات ، و ما آل إليه مجتمعهم من الانحلال و التفسخ , فالمرأة باب الشيطان ، لذلك عليها أن تستحي من جمالها , لأنه سلاح إبليس للفتنة و الإغواء .
و قد أثرت هذه الأفكار كلها في أمم الغرب التي دخلت في النصرانية ، ففي عام 586 للميلاد عقد اجتماع لمناقشة (أتعد المرأة إنسانا أم غير إنسان ؟) و كان ختام البحث أن قرر المجمع أن المرأة إنسان و لكنها مخلوقة لخدمة الرجل3.
و نتيجة لهذه الأفكار وغيرها استطاع العلمانيون إشعال الثورة الفرنسية التي أطاحت بالكنيسة و قيمها فأعلنت مبادئ ما يسمى بالحرية و الإخاء و المساواة . فأصبح الإيمان بالوطن و الدولة هو دين الشعب الفرنسي , فحلت القومية الفرنسية وحب الوطن محل العقيدة النصرانية ، و أصبح الوطن هو القيمة العليا الوحيدة التي تبذل في سبيله الروح و الأموال .
وأصبحت فرنسا دولة علمانية ليس لها علاقة بالكنيسة تطبيقا لمبادئ جان جاك روسو و فولتير و فونتسكيو في فصل الدين عن الدولة ، و ظهور ما يسمى بالحرية الشخصية و الحرية الاقتصادية , و المذاهب الفكرية الهدامة المتمردة على الله تعالى تحت مسمى التقدمية و حرية الفرد المطلقة .
و الملاحظ أن كل هذه المذاهب تعتبر ردا على الزهد النصراني المفتعل الذي يتنافى و الطبيعة البشرية السليمة , فجاءت هذه المذاهب المضادة لإسقاط النفس البشرية في أوحال اللذة ، و الشهوة و الهوى ,حتى تصبح غير قادرة على الدفاع عن نفسها ، أو تركيز وجودها , فأصبحت المرأة بجسدها العاري أو شبه العاري سلاحا خطيرا في يد هؤلاء للسيطرة على المجتمع ، و أركانه .
و تتلخص هذه الدعوات في المبادئ التالية:
1. أن الأسرة ليست نظاما فطريا بيد أن الفطرة الطبيعية هو الاتصال الحر بين المرأة و الرجل .
2. أن إطلاق حريات المرأة هو الطريق الصحيح لحركتها في المجتمع الطبيعي .
3. أن خروج المرأة للعمل هو العامل الأكيد ، و الوحيد في قدرتها على امتلاك إرادتها إزاء الرجل ، و المجتمع الذكوري .
4. أن المرأة مساوية للرجل ، بيد أن السر في ضعفها هو الحيلولة بينها وبين حرياتها في العصور الماضية التي منعتها من ممارسة هذه الحرية بشكلها الطبيعي .
5. أن المرأة نصف المجتمع بل أكثر ، و لا يستوي المجتمع إلا باشتراكها فيه بكل طاقاتها عن طريق تحريرها من كل القيود .
6. إنكار كافة الدعوات الدينية التي تدعو إلى الضوابط الدينية بحجة أنها تخلف المجتمع ، و تعرقل نموه الطبيعي .(40/418)
ثم بدأ الاهتمام بما (يسمى بقضايا المرأة ) على المستوى العالمي بشكل واضح ابتداء من عام 1975م حيث اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك العام (عام المرأة الدولي) و أقيم في ذلك العام المؤتمر العالمي الأول للمرأة ، ثم في عام 1979 م عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمرا تحت شعار القضاء على كافة أشكال التميز ضد المرأة ، وخرج المؤتمرون باتفاقية تتضمن ثلاثين مادة ، وردت في ستة أجزاء للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة - وفق التصور الغربي للمسألة - و جاءت هذه الاتفاقية لأول مرة - بصيغة ملزمة للدول التي توافق عليها إما بتصديقها ، أو بالانضمام إليها .
و إن كانت الدول الغربية تسعى بشكل دؤوب إلى تغريب المرأة المسلمة عن طريق دعاة - ما يسمى بتحرير المرأة - من أمثال رفاعة الطهطاوي في كتابه تلخيص الابريز في تلخيص باريس ، و غيره , ثم جاء الشيخ محمد عبده الذي أوّل آيات أحكام النساء تأويلات فاسدة , فتكلم عن حقوق المرأة الحديثة , ثم جاء سعد زغلول زعيم حزب الوفد المصري الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه و تشجيعه في هذا المجال , ثم توالت موجات التغريب من أمثال هؤلاء المستغربين الذين يريدون ربطنا بالغرب بكل ما فيه من انحراف و تفسخ و فجور بحجة التقدم والتطور و الحداثة ويمكننا إجمال أهم أفكارهم و معتقداتهم فيما يلي:-
1- الدعوة إلى السفور و القضاء على الحجاب الإسلامي بحجة أنه العائق الأساسي أمام تطور المرأة الاجتماعي .
2- الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في المدارس ، و الجامعات و المؤسسات و غيرها لكسر الحاجز النفسي و الإجتماعي بين الجنسين المسؤول عن تخلف المجتمع .
3- تقييد حق الطلاق ، و الاكتفاء بزوجة واحدة مع تحديد سن زواج الفتاة بـ 18 سنة كحد أدنى .
4- المساواة في الميراث مع الرجل .
5- الدعوة إلى اللادينية ، بحيث لا يتحكم الدين في أي مجال من مجالات الحياة .
6. المطالبة بالحقوق الاجتماعية ، و السياسية ، والاقتصادية للمرأة .
ثم تطورت فتن هؤلاء من الأفكار و الدعوات إلى المؤتمرات و الاتفاقيات الملزمة عن طريق الأمم المتحدة التي عقد اتفاقية تعتبر من أخطر الاتفاقيات المتعلقة بالمرأة المسلمة , لأنها تفرض بشكل رسمي نمط الحياة الغربية في كل مجالاتها المختلفة السياسية ، و الاقتصادية , و الاجتماعية ، و التعليمية ، و الفكرية و غيرها من مجالات الحياة .
و لعل أهم النقاط التي تطالب بها تلك الاتفاقيات1:-
1. المصادقة على اتفاقية إلغاء جميع أنواع التمييز ضد المرأة دون تحفظ .
2. سن قوانين خاصة بزيادة مساهمة المرأة في السلطة .
3. إلزامية التعليم في كل مراحله .
4. سن قوانين خاصة بتحديد سن الزواج .
5. منح النساء الحق المطلق في استخدام وسائل تنظيم الأسرة ، دون إذن من الزوج .
6. منح المرأة الحق في السفر ، دون إذن الزوج أو ولي الأمر.
7. سن تعديلات لصالح المرأة في قوانين الأحوال الشخصية .
8. سن قوانين الحماية من العنف المنزلي ، و تحديد مجالاته .
و من أجل سرعة و ضمان تغريب المرأة المسلمة شجعت الأمم المتحدة عقد مؤتمرات قمة للمرأة على مستوى قرينات رؤساء ، و ملوك بعض الدول العربية فأقيمت قمتان الأولى في مصر , القاهرة, و الثانية في عمان الأردن , و قد انبثق عنهما عدة مؤتمرات إقليمية ناقش كل منها موضوعا خاصا بالمرأة ، كالمرأة و الإعلام ، و المرأة و التعليم ، و المرأة و التنمية .
كما تم إنشاء مؤسسات خاصة تعنى بشؤون المرأة على أعلى مستوى مثل المجلس القومي للمرأة في مصر ، و المجلس الأعلى لشؤون المرأة في بعض دول الخليج 1.
بعض نتائج تحرر المرأة و مساواتها بالرجل في العالم الغربي بلغة الأرقام 2:
* ذكر ( معهد الدراسات الدولية حول المرأة ) الواقع في مدريد بأسبانيا في تقريره السنوي عن أحوال المرأة في العالم الغربي إحصاءات مذهلة تبين بما لا يدع مجالا للشك ، أن مشكلة حقوق المرأة ، ومساواتها بالرجل ، وفق الرؤية الغربية ، و التي تحاول الأمم المتحدة ، و من ورائها الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على العالم كله , هي مشكلة غربية , و أن المرأة الغربية بأعلى درجاتها ، و ثقافتها لا يمكن أن تكون النموذج المحبب و القدوة لنساء العالمين .
وسأورد بعض نتائج هذا الفكر بلغة الأرقام وفق التالي :-
1. في عام 1985 م فقط ، حصل أكثر من مليون وخمسمائة و ثلاث وخمسون ألف حالة إجهاض , و قالت الشرطة : أن الرقم الحقيقي ثلاثة أضعاف ذلك .
2. و في عام 1986 م أن 27% من المواطنين يعيشون على حساب النساء .
3. و في عام 1985 م : 82 ألف جريمة اغتصاب , 8% منها في محيط الأسرة و الأصدقاء ، بينما تقول الشرطة أن الرقم الحقيقي 35 ضعفا فقط.
4. و تقول جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة أن كل ثلاث ثوان تغتصب امرأة ، بينما ردت الجهات الرسمية بأن هذا الرقم مبالغ فيه بل أن الرقم الحقيقي : أن في كل ست ثوان حالة اغتصاب فقط ، ،، تأمل يا مؤمن ! .(40/419)
5. نشرت مجلة التايم الأمريكية في عام 1997 م أن ست ملايين امرأة عانين سوء المعاملة الجسدية و النفسية بسبب الرجال , و أن 70 % من الزوجات يعانيين الضرب المبرح و أن 4 آلاف زوجة يقتلن ضربا كل عام على أيدي أزواجهن .
6. و كان من عام 1980 م إلى عام 1990 م أكثر من مليون امرأة يعملن بالبناء في الولايات المتحدة الأمريكية فقط1.
7. و في يوليو عام 1970 م أصدرت الحكومة الأمريكية قانونا يبيح الإجهاض لولاية نيويورك ، و قد بلغ عدد عمليات الإجهاض التي أجرتها المستشفيات والعيادات الخارجية خلال 21 شهرا ، و من صدور القانون (278122) عملية مع العلم أن هذه الجهات لا تجري العمليات إلا إذا كان الحمل دون ثلاثة أشهر .
كتب الأستاذ جابر رزق في مجلة الدعوة (1) مقالا بعنوان ( سقوط المجتمع الأمريكي ): الظاهرة التي بدأت تقلق علماء الاجتماع الأمريكيين في مجال ممارسة الجنس الطبيعي بين الرجل و المرأة ، و هي ظاهرة البغاء بين الفتيات الصغيرات طالبات المدارس من الإعدادية . فالأسرة الأمريكية تدفع أبناءها من سن الرابعة عشر و الخامسة عشر سواء بنات ، أو بنين إلى الاكتساب و الاعتماد على النفس في الإنفاق , فلا تجد الفتيات الصغيرات أسهل من احتراف البغاء لاكتساب نفقات الحياة .
8. و في عام 1981م أشار( شتراوس ) إلى أن حوادث العنف الزوجي منتشرة ما بين 50-60 % من العلاقات الزوجية . كما بين ( أبلتون ) في بحثه الذي أجراه عام 1980 م على 620 امرأة أمريكية أن 35 % منهن تعرضن للضرب مرة واحدة على الأقل من قبل أزواجهن .
و من جهتها أشارت ( والكر ) استنادا إلى بحثها عام 1984م إلى خبرة المرأة الأمريكية الواسعة بالعنف الجسدي فبينت أن 41 % من النساء أفدن أنهن كن ضحايا العنف الجسدي من جهة أمهاتهن , و 44% من جهة آبائهن , كما بينت أن 44% منهن كن شهودا لحوادث الاعتداء الجسدي لآبائهن على أمهاتهم .
9. و في عام 1985م قتل 2928 شخصا على يد أحد أفراد عائلته , و إذا اعتبرنا ضحايا القتل الإناث وحدهن لوجدنا أن ثلثهن لقين حتفهن على يد زوج ، أو شريك حياة , وكان الأزواج مسؤولين عن قتل 20% من النساء اللاتي قتلن في عام 1984م في حين أن القتلة كانوا من رفاقهن الذكور في 10% من الحالات .
10. أما عن إحصاءات مرتكبي الاعتداءات ضد النساء في أمريكا ، فثلاثة من بين أربعة معتدين هم من الأزواج ، و 9% أزواج سابقين , 35% أصدقاء ، و32% أصدقاء سابقين .
و في إحصائية أخرى تدرس نسبة المعتدين تبين أن الأزواج المطلقين ، أو المنفصلين عن زوجاتهم ارتكبوا 79% من اعتداءات بينما ارتكب الأزواج 21% .
و في الدراسة الثالثة تبين أن مجموع النساء اللواتي سعين في طلب العناية الصحية من طبيب العائلة 37% منهن كونهن من الناجيات من حوادث التعذيب الجنسي في مرحلة الطفولة ، و 29 % أبلغن أنه تم الاعتداء عليهن جنسيا بعد البلوغ .
11. أربعة ملايين أمريكية تقع تحت اعتداء خطير من قبل شريك قريب لها خلال سنة . وقرابة 1 من 3 نساء بالغات يواجهن تجربة الاعتداء عليهن جسمانيا على الأقل مرة واحدة من قبل شريك في فترة النضج ، و في عام 1993م تم توقيف 575 ألف رجل لارتكابهم العنف ضد النساء . و أن 90-95% من حالات العنف العائلي هم من النساء .
12. و في عام 1979م نشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي أن 40% من حوادث قتل النساء بسبب المشكلات الأسرية و أن 25% من محاولات الانتحار التي قد تقدم عليها الزوجات يسبقها نزاعا عائلي.
و أختم هذا الفصل بقول المعدة و المخرجة الأمريكية - و التي تسمت بأمينة السلمي بعد إسلامها :
أن مشكلة الداعيات إلى تحرير المرأة في الدولة الغربية أنهن لسن فقط لا يعرفن حقيقة دعاة تحرير المرأة في الغرب و إنما لا يعرفن حقيقة الإسلام.
و تقول أيضا: إجبار المرأة على العمل خارج البيت كان على حساب أمومتها , و هذا يدمر مفهوم الأمومة ، و النتيجة أن يتربى الأطفال في الشوارع ، و ينضموا إلى عصابات و مجرمين , وهذا أيضا يسبب قلقا للمرأة ، وشعورا بالذنب و تحذر السيدة أمينة السلمي , حفظها الله - المرأة المسلمة من دعاة التحرير بقولها:
( أحذر المرأة المسلمة من دعاة تحرير المرأة في الغرب فقد كنت قبل دخولي في الإسلام من دعاة التحرر و أعرف جيدا ماذا تعني هذه الكلمة , و أريد أن تعرف المسلمة أن المرأة الغربية ليست محررة كما نتوهم , و إنما هي حبيسة النظام الغربي , و أن الحرية الحقيقية هي التي أعطاها لها الإسلام . )1 .
الفصل الثاني
مفهوم و حدود المساواة ما بين المرأة و الرجل في الشريعة الإسلامية
نعرض في هذا البحث مفهوم ، وحدود المساواة ما بين المرأة ، و الرجل في الشريعة الإسلامية , كما نبحث في بعض الشبه التي تثار من قبل الغربيين ، و المستغربين بما يسمى بالتمييز ضد المرأة في الإسلام ، ونعرج أخيرا لمفهوم التميز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية الغراء .
إذا سنقسم هذا الفصل إلى عدة فروع وفق التالي:
الفرع الأول: مفهوم وحدود المساواة ما بين المرأة و الرجل في الشريعة الإسلامية.(40/420)
الفرع الثاني: مفهوم التميز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية.
الفرع الأول
مفهوم و حدود المساواة ما بين المرأة و الرجل في الشريعة الإسلامية.
مفهوم و حدود المساواة ما بين المرأة و الرجل مفهوم له حدود و ضوابط في الشريعة الإسلامية ، و الحق أن مصطلح المساواة فيه كثير من عدم الدقة , فلا يمكن أن نقول أن الإسلام دين المساواة فالصحيح أن الإسلام دين العدل و الإحسان .
قال الشيخ ابن عثيمين- عليه رحمة الله تعالى :-
( يجب أن نعرف أن من الناس من يستعمل بدل العدالة المساواة ، و هذا خطأ , لا يقال : مساواة , لأن المساواة تقتضي عدم التفريق بينهما , و من أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون : أي فرق بين الذكر و الأنثى ؟..
سووا بين الذكور ، و الإناث , حتى أن الشيوعية قالت: أي فرق بين الحاكم ، والمحكوم ؟ .
لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد حتى بين الوالد و الولد ليس للوالد سلطة على الولد , و هلم جرى .
لكن إذا قلنا بالعدل ، و هو إعطاء كل ذي حق ما يستحقه : زال هذا المحذور , و صارت العبارة سليمة , و لهذا لم يأت في القرآن أبدا : ((أن الله يأمر بالتسوية)). لكن جاء: أن الله يأمر بالعدل- سورة النحل- الآية 90, و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل-سورة النساء- الآية 58 و كذب على الإسلام من قال: أن دين الإسلام دين المساواة , بل دين الإسلام دين العدل ، و هو جمع بين المتساويين ، و التفريق بين المفترقين .
أما أنه دين مساواة ، فهذه لا يقولها من يعرف دين الإسلام ، بل الذي يدلك على بطلان هذه القاعدة أن أكثر ما جاء في القرآن هو نفي المساواة : ( ِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)
( وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ) (الرعد:16) ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10) (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) (النساء:95)
و لم يأت حرف واحد في القرآن يأمر في المساواة أبدا إنما يأمر بالعدل ، و كلمة العدل أيضا تجدونها مقبولة لدى النفوس ، فأنا أشعر أن لي فضلا على هذا الرجل بالعلم , أو بالمال , أو بالورع , أو ببذل المعروف , ثم لا أرضى بأن يكون مساويا لي . كل إنسان يعرف أنه فيه غضاضة إذا قلنا بمساواة ذكر بأنثى)1.
و عليه فالإسلام لم يساو ما بين المرأة ، و الرجل في معظم الحقوق و الواجبات و لكن هناك بعض المفاهيم يمكن أن نسميها بالمساواة ، وفق ضوابط شرعية معينة منها لكل حالة منها :
1. المساواة في أهلية الخطاب الشرعي مع مراعاة الضوابط الشرعية :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .
فخطاب الله تعالى إلى جميع بني آدم على حد سواء رجالها ، و نسائها فالمرأة و الرجل مطالبان بالإيمان بالله تعالى ، و رسله وكتبه ، و اليوم الآخر ، و هما مطالبان بكافة التكاليف الشرعية من صوم ، و صلاة و زكاة و حج ، مع مراعاة الضوابط الشرعية لكل من الجنسيين كحالة الحيض و النفاس و غيره مما يعتري المرأة بحيث تصبح بعض هذه التكاليف لها أحكام خاصة .
2. المساواة في عمل الجوارح مع مراعاة الضوابط الشرعية :
قال تعالى:( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب:35)
روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه و سلم , وقالت : ما أرى كل شئ إلا للرجال , و ما أرى النساء يذكرن بشىء ! فنزلت هذه الآية: (إن المسلمين والمسلمات)2.
فلينظر من ينادي بالمساواة كيف هي ، و ما هي حدودها ما بين المرأة ، و الرجل .(40/421)
قال تعالى : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195)
فما أجمل هذه المساواة و أعظمها !فالله سبحانه و تعالى نص بنص مكتوب و منطوق أن الأعمال لا تضيع عند الله سواء أكان العامل ذكرا أم أنثى .
3. المساواة في مباشرة المعاملات المختلفة مع مراعاة الضوابط الشرعية :
شرّع الإسلام المساواة ما بين المرأة ، و الرجل في مباشرة المعاملات المختلفة كالبيع ، و الشراء و السلم و الصرف ، و الفرض و الهبة و الإجارة.... الخ.
دون ولاية أب أو زوج ما دامت بالغة راشدة غير سفيهة ، فإذا كانت سفيهة ، فإن الشريعة تساويها مع الرجل أيضاً في الحجر على السفيه حفاظاً على أموالها ، و ممتلكاتها .
4. المساواة في طلب العلم مع مراعاة الضوابط الشرعية :
جعلت الشريعة الإسلامية للمرأة الحق في طلب العلم كالرجال ، بل اعتبرت طلب العلم فريضة على الذكر و الأنثى مع مراعاة الضوابط الشرعية بهذه المسألة .
عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( طلب العلم فريضة على كل مسلم ))1.
فالخطاب الشرعي حث على التعلم و التحصيل العلمي و هذا الخطاب عام يشمل الذكور الإناث مع مراعاة الضوابط الشرعية المعروفة عند أهل العلم المعلقة بالفروق بين الجنسين بما يحقق عدالة الله سبحانه و تعالى .
قال تعالى : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19)
قال الإمام البخاري : فبدأ بالعلم - و الخطاب و إن كان للنبي ، فهو يتناول جميع أمته 2.
و منه قوله صلى الله عليه و سلم : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ))3
قال صاحب الكوكب المنير : (( من شرطية و هي تعم الذكور و الإناث بلا نزاع يذكر ))4.
و لا نعلم قانون وضعي في أي دولة من دول العالم أو شريعة من الشرائع رعت المرأة كما رعتها الشريعة الإسلامية ، فعندما تكون أم جعلها تسبق الأب في حسن صحبة ابنها الصالح .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : من أحسن الناس بحسن صحابتي ، قال أمك ، قال : ثم من . قال : أمك . قال : ثم من . قال : ثم أمك ، قال : ثم من قال : ثم أبوك .15).
بل أن الجنة تحت أقدام الأم الصالحة ، كما روى الطبراني عن معاوية بن جاهمة عن أبيه ، قال أتيت رسول ا صلى الله عليه وسلم أستشيره في جهاد ، فقال صلى الله عليه وسلم : ألك ، والدان ، قال : نعم ، قال الزمهما ، فإن الجنة تحت أقدام أقدامهما ) 16
: عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا 17
و الإسلام كرّم المرأة أفضل تكريم عندما تكون المرأة زوجة حتى جعل الإحسان إليها مقياسا للخير ، فقال عليه الصلاة و السلام : (( خيركم خيركم لنسائه و بناته )) 18
قال المناوي ) : ينبغي للزوج إكرام الزوجة بما يناسب من موجبات المحبة و الألفة كإكرام مثواها ، و إجادة ملبوسها على الوجه اللائق...)19.
قال عليه الصلاة والسلام :((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، و ألطفهم بأهله))20.
و من شدة حرص الإسلام على المرأة كانت آخر ، وصية للرسول عليه الصلاة و السلام ، و هو يتلفظ أنفاسه الأخيرة الوصية بالصلاة ، و النساء.
عن أنس , قال : ثم كان آخر وصية رسول ا صلى الله عليه وسلم ، و هو يغرغر بها في صدره و ما كان يفيض بها لسانه الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانهم حتى جعل يغرغر بها في صدره ، و ما يكاد يفيض بها في لسانه .
و كقوله عليه الصلاة و السلام: اتقوا الله في النساء , فإنكم أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله 21).
و حسبنا أن الله تعالى اشتد في كتابه الكريم على قاذفي النساء في أعراضهن بأشد مما اشتد على القتلة ، و قطاع الطرق .
قال تعالى في سورة النور: (( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4)
)وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (النور:6)(40/422)
)إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:23)
و هكذا نرى أن الشريعة الإسلامية كرمت المرأة و صانتها وحفظتها من كل سوء قد ينالها, و لكن لو انقلبت الموازين ، و ارتكبت المحاذير , فلابد من عقاب يرد عليها إذا انتهكت حدود الله ، فتطبق عليها الحدود كالرجل سواء بسواء ، و إن كانت هناك ضوابط شرعية خاصة في تطبيق حدود الله ، فذلك لاختلاف طبيعتها وتكريم الإسلام لها حفاظا على سترتها و حشمتها22.
5. المساواة في الأحكام مع مراعاة الضوابط الشرعية :
فالأصل مساواة المرأة للرجل في الأحكام الشرعية ذلك أن مناط التكليف بأحكام الشريعة الإسلامية كون الإنسان بالغا عاقلا.
روى ابن خزيمة: عن أبي ظبيان عن بن عباس , قال : ثم مر علي بن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت ، فأمر عمر برجمها ، فرجعها علي ، و قال لعمر: يا أمير المؤمنين ترجم هذه . قال نعم ، قال : أو تذكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : رفع القلم ، عن ثلاث عن المجنون المغلوب على عقله ، و عن النائم حتى يستيقظ ، و عن الصبي حتى يحتلم . قال : صدقت فخلى عنها23.
فإذا بلغ الإنسان الحلم ، و كانت أقواله ، و أفعاله وفقا للمألوف المعتاد من الناس بحيث يستدل على سلامة عقله و تصرفاته حكم بتكليفه بأحكام الشريعة الإسلامية لتوفر مناط التكليف ، و المرأة متساوية مع الرجل في هذا المعنى ، و الحكم .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن النساء شقائق الرجال)24.
قال الخطابي في معالم السنن : ( أي نظائرهم ، و أمثالهم في الخلق ، و الطباع فكأنهن شققن من الرجال ، و فيه من الفقه.... أن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء إلا مواضيع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها )25.
و قال ابن حزم: ( و لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مبعوثا إلى الرجال ، و النساء بعثا مستويا و كان خطاب الله تعالى و خطاب بين صلى الله عليه وسلم للرجال ، و النساء واحدا لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال ، دون النساء إلا بنص جلي أو إجماع )26.
و قال أيضا مدعما لما سبق : ( و قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مبعوث إليهن كما هو الرجال ، و أن الشريعة التي هي شريعة الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال ، و أيقنا أن الخطاب بالعبادات ، و الأحكام متوجه إليهن كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل , و كل هذا يوجب أن لا يفرد الرجال دونهن بشيء قد صح اشتراك الجميع فيه إلا بنص ، أو إجماع )27.
6. المساواة في تزويج الأيامى:
و من أجمل المساواة ما بين الرجل ، و المرأة التي شرعها الإسلام ، هو الحث على تزويج الأيامى للحفاظ على الفرد ، و المجتمع من الفساد و التهلكة .
قال تعالى (( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور:32)
قال الدكتور يوسف حامد العالم :(و هذا المبدأ من أهم الوسائل في حماية المجتمع من ظواهر الفواحش ، لأن المجتمع الذي يهتم بتزويج أياماه يطهر نفوس أفراده ، و في ذلك طهارة له بدون ريب ، و المجتمع الذي يهمل أمر الأيامى لا ينجو من مظاهر الفساد و الدنس28).
7. المساواة في الطلاق مع مراعاة الضوابط الشرعية :
ساوى الإسلام ما بين المرأة والرجل في رغبة العيش المشترك ، أو الافتراق إن لم يستطيعا أن يعيشا عيشة سعيدة مقبولة ، فأباح للزوج طلاق زوجته بعد أن يدفع لها كافة حقوقها المشروعة من مهر ، و نفقة ...الخ .
كما أباح الإسلام للزوجة أن تفارق زوجها إذا كان ظالما لها ، سيئا في معاشرتها ، فلها أن تفارقه إذا أخفقت جميع محاولات الإصلاح بينهما .
و بعد فهذه بعد النقاط ، و الأحكام سلط عليها ضوءا ليتفكر بها أبناء جلدتنا ليروا عظم هذه الشريعة التي حافظت على الإنسان ، و حقوقه ، و مصالحه الدنيوية ، و الأخروية ، ذلك أن هدفها الأعظم هو إسعاد العباد في الدنيا ، و الآخرة و أن السعادة المطلوبة لا تتحقق إلا بمتابعة أحكامها ، و قواعدها ، و مبادئها ، و موافقة مقاصدها .
الفرع الثاني
مفهوم التميز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية
إن مفهوم التمييز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية يمكن أن تعتبره تمييزا إيجابيا لأن بين طياته الرحمة ، و الرأفة بالمرأة ، ذلك المخلوق الذي أوصانا الله تعالى و رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم بهن خيرا . و لا يمكن أن نفهم التمييز كما يروج له أعداء الدين على أن الإسلام يظلم و يضطهد المرأة ، و يحرمها من حقوقها الأساسية نقول لهؤلاء ، و من في قلبه مرض أن الإسلام قد ميز ما بين المرأة في الرجل انتفاء للظلم الذي سيقع على الطرفين ، لأن المساواة في غير مكانها ظلم شديد على الرجل والمرأة .(40/423)
فالقرآن أمر المرأة أن تلبس لباسا مختلفا تماما عن لباس الرجل للفارق في فتنة كل من الجنسين بالآخر إذ ليس من الحكمة أن يأمر المرأة أن تكشف من بدنها ما يكشف الرجل لاختلاف الفتنة في بدنها و بدنه كما سنبينه تفصيلا إن شاء الله تعالى .
لذلك لابد من الاعتراف بأن هناك أمورا تتميز فيها المرأة عن الرجل في الشريعة الإسلامية مراعاة لمقتضى حال المرأة ، و اختلافها عن الرجل ، و من هذه الأمور :
أولا- إسقاط بعض العبادات عن المرأة :
سوّى الشرع الحنيف بين المرأة ، و الرجل في كثير من العبادات ، فمن ذلك أنها تتوضأ كوضوء الرجل ، و تغتسل كغسله ، و تصلي كصلاته ، و تصوم كصيامه ألا أن تكون في حال حيض ، أو نفاس عندها تتميز المرأة عن الرجل بنعمة إسقاط بعض العبادات ، و لهذا الإسقاط صورا كثيرة منها :
1- إسقاط الصلاة : قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم : ( أجمع المسلمون على أن الحائض و النفساء لا تجب عليها الصلاة و لا الصوم في الحال )29.
2. إلزامها بقضاء الصوم دون صلاة بعد زوال الحيض أو النفاس :
قال ابن المنذر : ( أجمع أهل العلم على أن عليها الصوم بعد الطهر ، و نفى الجميع عنها الصلاة)30.
3. - إسقاط طواف الوداع عن الحائض :
و من إشكال تمييز المرأة في الشريعة الإسلامية أن الله سبحانه قد أسقط عنها طواف الوداع إذا حاضت ، دون أن يفرض عليها أي فدية .
قال الإمام الخرقي عليه رحمة الله : ( و المرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت و لا وداع عليها ، و لا فدية ،.... و هذا قول عامة فقهاء الأمصار )31.
ثانيا - الأمر بالقرار في البيوت :
قال تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33)
الإسلام ميز المرأة المسلمة الحرة عن غيرها من نساء العالمين بأن اعتبرها جوهرة ثمينة يجب الحفاظ عليها ، لبناء خلايا المجتمع القادر على مواجهة مصاعب الدنيا ، و فتنه .
قال الشهيد سيد قطب عليه رحمة الله: " و ليس معنى هذا ملازمة البيوت ، فلا يبرحنها إطلاقا إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، و هو المقر ، و ما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ، و لا يستقررن إنما هي الحاجة تقضى بقدرها.
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى ، غير مشوهة ، و لا منحرفة ، و لا ملوثة ، و لا مكدورة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة"32.
ثالثا- تحريم الخلوة بالأجانب وتحريم سفرها بلا محرم:
عن أبي معبد قال : سمعت بن عباس يقول : سمعت صلى الله عليه وسلم يخطب , و يقول : لا يخلون رجل بامرأة إلا ، و معها ذو محرم ، و لا تسافر إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال يا رسول الله : إن امرأتي خرجت حاجة و إني اكتتبت في غزوة كذا ، وكذا ، قال : انطلق فحج مع امرأتك33.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني : دل الحديث على تحريم الخلوة بالأجنبية ، و هو إجماع ، و قد ورد في حديث " فإن ثالثهما الشيطان " و هل المحرم مقامه في هذا بأن يكون الوقوف من يزيل معنى الخلوة الظاهر أنه يقوم , لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة . و قال القفال : لابد من المحرم عملا بلفظ الحديث و دل أيضا على تحريم سفر المرأة محرم …. 34.
و قال القاضي عياض :( و المرأة فتنة ممنوع الانفراد بها لما جبلت عليه نفوس البشر من الشهوة ، فيهن ، وسلط عليهم الشيطان بواسطتهن , ولأنهن لهم على ضم إلا ما ذب عنه و عورة مضطرة إلى صيانة ، و حفظ و ذي غيرة يحميها ، و يصونها , وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهم ، و الذب عنهن ما يؤمن عليهن في السفر معهم ما يخشى35 .
4-التحذير على الدخول على النساء لغير المحارم:
من شدة حماية الشريعة الإسلامية للمرأة نرى قد حذرت من الدخول على النساء لغير المحارم خوفا عليهن من الفتن ، و مقدماته و عواقبه .
عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إياكم و الدخول على النساء , فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أفرأيت الحمو , قال : الحمو الموت36 .
قال ابن حجر العسقلاني : ( الخلوة بالحمو قد تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية ، أو إلى الموت إن وقعت المعصية ، و وجب الرجم ، أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها إذا حملت الغيرة على تطليقها37.
و قال المباركفوري في تحفة الأحوذي : (( أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت ، و الاستقباح و المفسدة أي ، فهو محرم معلوم التحريم في الزجر ، و شبهه بالموت لتسامح الناس به من جهة الزوج ، و الزوجة لفهم بذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة .... و كذلك دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدين ، أو إلى موتها بطلاقها ثم غيرة الزوج ، أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة 38.
خامسا : الحث على تربية البنات و بيان فضله :(40/424)
و لعل من الميزات الهامة التي كفلها الشرع للمرأة أن حث على تربيتها ، و الإحسان إليها ، بل ربط هذا الإحسان بالوقاية من النار .
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ( دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي إلا تمرة ، فأعطيتها إياها ، فقسمتها بين ابنتيها ، و لم تأكل منها ، فخرجت ، فدخل صلى الله عليه وسلم علينا ، فأخبرته , فقال من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار )39.
قال ابن حجر : ( و في الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بصالح أنفسهن , بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن , و جزالة الرأي ، و إمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال ))40 .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلممَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ.41
و في رواية أخرى رواها الحاكم في المستدرك على الصحيحين : ( عن انس رضي الله عنه ، قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : من عال جارتين حتى تدركا دخلت الجنة أنا ، و هو كهاتين و أشار بإصبعيه السبابة ، و الوسطى ) 42 .
و في رواية ثالثة عن مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلممَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ دَخَلْتُ أَنَا وَهُوَ الْجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ43.
قال الإمام النووي : ( معنى عالهما قام عليهما بالمؤنة ، و التربية ، و نحوهما 44 .
خامسا - ضمان النفقة للمرأة :
كذلك ضمن الإسلام نفقة المرأة على زوجها إن كانت متزوجة ، و إلا ، فنفقتها على أصولها ، و فق التفصيل الذي أورده الفقهاء في كتبهم 45.
قال تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:233) .
و المولود له في الآية هو الزوج ، و الضمير في "رزقهن " عائد إلى الوالدات ، و هن الزوجات .
وروى مسلم في صحيحه , باب : حجة النبي صلى الله عليه و سلم عن جابر رضي الله عنه في حديث حجة الوداع الطويل : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ46.
- قال الإمام النووي : فيه وجوب نفقة الزوجة كسوتها , و ذلك ثابت بالإجماع 47.
- و قال ابن قدامة المقدسي : و فيه ضرب من العبرة , و هو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف ، و الاكتساب , فلا بد أن ينفق عليها كالعبد مع سيده48.
و من أجل أن يكون كل من الزوجين عنصر إسعاد للآخر , لبناء بيت الزوجية العامر بالرعاية والحب و الوئام . وكي تظل المرأة عزيزة مطلوبة من الرجل , و حتى لا تصبح مهانة تجري وراء الرجل و هو عنها معرض أو مخادع .
و من أجل ذلك كله كان بيت الزوجية واجبا على الزوج دون الزوجة .
سادسا : الشهادة ، فشهادة الرجل بشهادة امرأتين :(40/425)
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)
البيان الإلهي ( إنما دعا الرجال ، لأنهم هم الذين يزاولون معظم عادة في المجتمع المسلم السوي , الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش , فتجور بذلك على أمومتها و أنوثتها ، و واجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية ، و هي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل , في مقابل لقيمات ، أو دريهمات تنالها من العمل , كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم ! فأما حين لا يوجد رجلان ، فليكن رجلا واحدا و امرأتان … و لكن لماذا امرأتان ؟ إن النص لا يدعنا نحدس ، ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا ( أن تضل أحدهما فتذكر إحداهما الأخرى ) و الضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة . فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد , مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه ، و ملابساته ، و من ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكر الأخرى بالتعاون معا على تذكر ملابسات الموضوع كله . و قد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية . فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما , تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء ... و ذلك من فضل الله على المرأة ، و على الطفولة ... و هذه الطبيعة لا تتجزأ فالمرأة شخصية موحدة هذا طبعها- حين تكون امرأة سوية - بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال , و وقوف عند الوقائع بلا تأثر و لا إيحاء . و وجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى - إذا انحرفت مع أي انفعال فتتذكر ، وتفيء إلى الوقائع المجردة49 .
سابعا- اللباس :
و من أرقى تميز المرأة في الإسلام أن أوجب عليها ستر كل بدنها ، حفاظاً عليها من الأذى .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:59)
وبعد أن أوردت كل هذه المزايا بشأن تمييز المرأة في الإسلام لا بد من البيان بأني قد أوردتها على سبيل المثال لا الحصر ، فهناك من مميزات الخاصة بالمرأة في الشريعة الإسلامية بحيث يصعب حصرها لذلك سأعدد بعضا منها تعدادا فقط من أمثال :
1. المرأة المسلمة لا تتزوج إلا مسلما ، و هذه ميزة رفيعة جدا لا يفقهها إلا مؤمن متين الإيمان .
2. الصلاة في المسجد أفضل للرجل من بيته ، بينما صلاة المرأة في بيتها أفضل وأحب إلى الله من المسجد .
3. يباح للمرأة لباس الحرير ، و الذهب ، و هما محرمين على الرجال .
الخاتمة :
و بعد أن انتهيت من هذا العمل المضني ، لا بد لي من طرح تساؤل مهم وهو
ما هي النتائج التي يمكن استخلاصها من هذا البحث .
النتائج الممكن استخلاصها من هذا المبحث تظهر في النقاط التالية :
1. أن دعوة القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ما هي إلا جولة من جولات العالم الغربي ، ومن سار بركبهم للقضاء على الإسلام ، و أهله .
2. أن مفهوم المساواة ما بين المرأة ، و الرجل مفهوما له حدود ، و ضوابط في الشريعة الإسلامية ، و الحق أن مصطلح المساواة فيه كثير من عدم الدقة ، فلا يمكن أن نقول إن الإسلام دين المساواة ، فالصحيح أن الإسلام دين العدل و الإحسان .
3. أن التمييز المتعلق بالمرأة في الشريعة الإسلامية هو في حقيقته تميزا ، لا تمييزا .(40/426)
و أخيرا بينت أن لابد من العودة إلى كتاب الله و سنة رسول صلى الله عليه وسلم للفلاح في الدارين ، و مقارعة أهل الباطل والضلال .
و لئن كنت أبغي في هذا البحث أن يسير نحو الكمال ، بيد أنه لا يزال يتسم بالنقصان . و إنه كمن أظهر مظاهر الضعف ، و القصور في الإنسان أن يشعر بالنقص في كل شؤونه مع تصوره الكمال بعقله ، دون أن يستطيع أن يدركه بالواقع العملي .
فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفقهني في الدين ، و يعلمني التأويل ، و يهبني الإخلاص في القول ، والعمل .
والحمد لله رب العالمين
العبد الفقير إلى الله تعالى
مسلم محمد جودت اليوسف
============(40/427)
(40/428)
لنصغ تاريخنا بأيدينا
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
أغلب المصنفات الجادة التي تتطرق لسياسة المملكة الخارجية والداخلية منها، كتبت بأقلام غير وطنية، ولشخصيات تأثرت في تعاطيها لهذا الشأن بالموروث الثقافي الغربي، ومن هنا كان تناولها لقضايانا الداخلية والخارجية من جوانب تخدم ذلك الموروث بشكل أو بآخر
عندما كنت أتابع حديث الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة في أمريكا، حول جوانب مضيئة وغير معلنة في سياسة البلاد خلال عهد الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، توقفت عند أهمية أن يفسح المجال للنظر ودراسة الوثائق الحكومية الخارجية منها والداخلية، سواء ما هو معلن عنها، أو ما صنفت- في حينها- على أنها سرية، فالموازين السرية قد تختلف مع الزمن من حيث التقييم السياسي، إلا أن للتاريخ مقاييس أخرى ليس لنا الحق في تجاهلها، فما يعد اليوم في غاية السرية في العرف السياسي، قد يراه العالم بعد عقود أمراً معلوماً بالضرورة..
أن نبادر نحن بصياغة تاريخنا أفضل من أن نترك الأمر للآخرين، الذين قد لا يتورعون عن تزييف حقائقه مراعاة لمصالحهم الوطنية أو الفكرية، ولأن صياغة التاريخ لن تتحقق بمتابعة الأخبار المعلنة بل بدراسة السياسات الوطنية بجميع أبعادها الداخلية منها والخارجية والتي تتم عادة خلف الأبواب المغلقة، كان لزاما أن تطرح فكرة عرض الممكن من هذه الوثائق على العامة من الباحثين والدارسين..
إن أغلب المصنفات الجادة التي تتطرق لسياسة المملكة الخارجية والداخلية منها، كتبت بأقلام غير وطنية، ولشخصيات تأثرت في تعاطيها لهذا الشأن بالموروث الثقافي الغربي الذي يعد في مجمله مجحفاً في نظرته للشرق الأوسط، ومن هنا كان تناولها لقضايانا الداخلية والخارجية من جوانب تخدم ذلك الموروث بشكل أو بآخر..بل إن استنادها في دراستها لتاريخنا الحديث على وثائق حكومية مطروحة للعامة في بعض دول العالم لا يخدم الواقع السعودي بالشكل اللائق إذ إنها قد تكون مشوهة أو منقوصة راعت في ظهورها مصالحها القومية، وعليه كان الواجب الوطني يحتم علينا فتح المجال للدارسين والباحثين للاطلاع على الوثائق الحكومية التي بقيت طي الكتمان لسنوات، خاصة ما تعلق منها بقضايا استراتيجية لامست أمن البلاد واستقراره..
بقي لي أن أعلق على ما كشفه الأمير بندر بن سلطان في حديثه عن الموقف الحازم للملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله إزاء رفض الولايات المتحدة لطلب شراء صواريخ (لانس) بمدى 75 ميلا تقدمت به المملكة، مراعاة منها لخاطر اللوبي الصهيوني الأمريكي الضاغط تجاه منع إيصال أمثال هذه التقنية الحربية للمملكة العربية السعودية ولغيرها من دول العالم الإسلامي والعربي، لقد بين لنا الأمير بندر بن سلطان أن الأوامر صدرت له من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله للتوجه فورا للصين لشراء صواريخ صينية الصنع بمدى (1600) ميل، ولتحصل المملكة والله الحمد على صواريخ صينية تفوق في قدراتها العسكرية ما كانت تتطلع لشرائه من الولايات المتحدة..
إن ما دفعني للحديث عن هذا الموقف دون غيره في سياسة المملكة العربية السعودية هو اطلاعي على جوانب أخرى تتعلق به، تستحق الإشارة إليها، فلقد استشاط الاحتلال الصهيوني غضبا من جراء موافقة الصين على بيع هذه الصواريخ للمملكة العربية السعودية، وطالب الولايات المتحدة الأمريكية بممارسة الضغوط على الصين لإلغاء هذه الصفقة، وكان طبيعيا أن تبادر أمريكا لتلبية مطالبات ابنتها المدللة إسرائيل، ولتفاجأ وهي في خضم ذلك بما لم يكن بالحسبان إذ اكتشفت أن نظام توجيه الصواريخ الصينية وضع من قبل فريق فنيين إسرائيليين كانوا يعملون في (بكين) بتوجيه من حكومتهم، كما اكتشفت في الوقت نفسه أن بعض التكنولوجيا الأمريكية التي سبق أن منحت لإسرائيل مجانا، بيعت من قبل إسرائيل للصين عدو أمريكا التقليدي، والتي بدورها استخدمت لتحسين أداء الصواريخ الوطنية..
لم يكن غريبا أن تحصل المملكة العربية السعودية على صواريخ أكثر فاعلية جراء رفض أمريكا إتمام صفقة بيع تلك الصواريخ، ولم يكن غريبا أن تقبل الصين على هذا التعاون مع المملكة العربية السعودية، ولكن الغريب أن تنتهي هذه الصفقة بوقوف أمريكا على خيانة الكيان الصهيوني الذي ما فتئت تستنصره ولو على حساب مصالحها الوطنية.. الغريب أنها ما زالت إلى يومنا هذا على ولائها له مع خيانته..
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثالث عشر ... 2
القومية ... 2(40/429)
(40/430)
القومية والوطنية ... 2(40/431)
(40/432)
لماذا فشل الفكر القومي العربي في إحداث النهضة؟ ... 97(40/433)
(40/434)
لا للقومية ولا للعروبة، ونعم للعقيدة الواحدة ... 101(40/435)
(40/436)
هل ما زالت الناصرية مشروعاً حياً؟ ... 104(40/437)
(40/438)
القومية العربية ضيعت العراق ... 107(40/439)
(40/440)
القومية العربية ... 116(40/441)
(40/442)
حقيقة الارتباط بين العرب والعروبة والإسلام ... 133(40/443)
(40/444)
العروبة والإسلام ... 139(40/445)
(40/446)
الاحتفال بالأعياد القومية ... 145(40/447)
(40/448)
ما رأيكم في الدعوة إلى القومية ... 147(40/449)
(40/450)
الدعوة إلى القومية دعوة جاهليلة ... 148(40/451)
(40/452)
من القومية إلي الوطنية ... 148(40/453)
(40/454)
مشكلة الفرات من نتائج العصبية القومية ... 152(40/455)
(40/456)
القومية والقطرية ... 157(40/457)
(40/458)
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة ... 160
بين القومية العربية و القومية اليهودية ... 160(40/459)
(40/460)
القومية العربية ... 175(40/461)
(40/462)
القومية العربية ... 219(40/463)
(40/464)
القومية وأثرها المدمّر على وحدة الأمة الإسلامية ... 221(40/465)
(40/466)
القومية العربية ... 229(40/467)
(40/468)
حزب البعث العربي الاشتراكي ... 234(40/469)
(40/470)
الناصرية ... 246(40/471)
(40/472)
عراق البعث ... أم عراق الإسلام !! ... 252(40/473)
(40/474)
الحزب القومي السوري ... 257(40/475)
(40/476)
فيلسوف القومية العربية ... ( ساطع الحصري ) .. ! ... 261(40/477)
(40/478)
لجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية ... 264(40/479)
(40/480)
البانتشاسيلا ... 272(40/481)
(40/482)
جناية نفاة المؤامرة والنظرة السطحية للسياسة الغربية على السياسة العربية والإسلامية ... 277(40/483)
(40/484)
حتى لا نظل عصا في يد (العم) سام...! ... 288(40/485)
(40/486)
ثقافة التلبيس(12) : ... 303
خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني ! ... 303(40/487)
(40/488)
محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا ... 308(40/489)
(40/490)
نظرات شرعية في فكر منحرف ... 312
( المجموعة السابعة ) ... 312(40/491)
(40/492)
الحزب الديمقراطي الكردستاني ... 400(40/493)
(40/494)
نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي ... 404(40/495)
(40/496)
الطريق إلى خلاص المسجد الأقصى ... 407(40/497)
(40/498)
صناعة الحدث ... 412(40/499)
(40/500)
هكذا يربي اليهود أبناءهم ... 430(41/1)
(41/2)
في مايسمى " صدام الحضارات " ... 442(41/3)
(41/4)
مع الداعية الإسلامي الدكتور محمد ناصر ... 463(41/5)
(41/6)
فلسفة المواطنة ... 494(41/7)
(41/8)
تركي الحمد وأطياف الأزقة المهجورة (1) ... 522(41/9)
(41/10)
اليزيدية ... 527(41/11)
(41/12)
مناهجنا .. آخر الحصون ... 535(41/13)
(41/14)
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي تحت القصف الأمريكي ... 543(41/15)
(41/16)
ضمانة لحماية جزيرة العرب (*) ... 551(41/17)
(41/18)
نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع ... 568(41/19)
(41/20)
نظرات في ملحوظات الكاتبين إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم ... 602
على مقررات مناهج العلوم الشرعية في التعليم ... 602(41/21)
(41/22)
المشاركة في الانتخابات البلدية ... 634(41/23)
(41/24)
اللغة العربية ومكانتها بين اللغات ... 640(41/25)
(41/26)
الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة ... 662(41/27)
(41/28)
حتى وإن دخلوا بغداد...!! ... 679(41/29)
(41/30)
هُوِيّتُنا أَو الهِاويَةُ ... 685(41/31)
(41/32)
لا يحصل الملك للعرب إلا بصبغة دينية! ... 720(41/33)
(41/34)
الإسلام والآخرالحوار هو الحل ... 735(41/35)
(41/36)
قوانين النهضة ... 837(41/37)
(41/38)
نظرات في منازلة النوازل ... 964(41/39)
(41/40)
توجيهات إسلامية ... 1016(41/41)
(41/42)
مغالطات القاسم والسكران في بحثهما عن المناهج الشرعية بالمملكة العربية السعودية المقدم إلى مؤتمر الحوار الوطني الثاني ... 1036(41/43)
(41/44)
اللغة العربية ... 1104(41/45)
(41/46)
الرأسمالية تجدد نفسها ... 1137(41/47)
(41/48)
الجبهة الإسلامية القومية بالسودان ... 1151(41/49)
(41/50)
ابن العلقمي .. رئيس الوزراء الشيعي المظلوم! ... 1156(41/51)
(41/52)
سياسة التطهير الطائفي في جنوب العراق ... 1168(41/53)
(41/54)
منهج العلامة ابن باز في بيان الحق للمخطئين ... 1278(41/55)
(41/56)
لا للتعصب العرقي ... 1290(41/57)
(41/58)
مشروع إصلاح ونهضة الأمة الإسلامية وتحرير البلاد والعباد ... 1368(41/59)
(41/60)
الأبعاد الخفية لاختيار عواصم الثقافة العربية ... 1408(41/61)
(41/62)
رجال اختلف فيهم الرأي\\ من أرسطو إلى لويس عوض \\ ... 1414(41/63)
(41/64)
الديمقراطية : تأملات وطموحات ... 1496(41/65)
(41/66)
الفيدرالية .. الخطر القادم ! ... 1541(41/67)
(41/68)
نهاية صدام وقفات ودروس وعبر ... 1609(41/69)
(41/70)
أسطورة غاندي ... 1613(41/71)
(41/72)
قبل أن تضيع الفرصة ... 1618(41/73)
(41/74)
حتى لا يتحول الحوار عن المسار!! ... 1625(41/75)
(41/76)
فأى الأمرين غلب ؟!أمر هؤلاء أم أمر الله رب العالمين ؟! ... 1632(41/77)
(41/78)
المنارة المفقودة ... 1635(41/79)
(41/80)
وفي المقاطعة فوائد سبع ... 1684(41/81)
(41/82)
بيان من الشيخ د/ بشر البشر للمسلمين في فلسطين ... 1687(41/83)
(41/84)
قصة نزع الحجاب ... 1691(41/85)
(41/86)
سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ... 1694(41/87)
(41/88)
حقيقة العداوة بين المسلمين واليهود ... 1709(41/89)
(41/90)
بدايات سفور المرأة في العالم الإسلامي (4) : ... 1715
المرأة اللبنانية ... 1715(41/91)
(41/92)
التوحيد في الحاكمية ... 1719(41/93)
(41/94)
بعد سبّ النبي بطل سحرهم ، وانتهى كيدهم ... 1723(41/95)
(41/96)
علام نُعطِي الدَّنية أما آن لها أن تنتهي؟ ... 1725(41/97)
(41/98)
ركب المنهزمين ... 1731(41/99)
(41/100)
قراءة في “الثقافة العربية في عصر العولمة” ... 1734(41/101)
(41/102)
النزعة الإنسانية ... 1749(41/103)
(41/104)
لو أن العقلاء من تكلموا ؟! ... 1754(41/105)
(41/106)
كيف احتل الإنجليز بلاد الهند المسلمة ؟! ... 1773(41/107)
(41/108)
رسالة إلى شعب العراق ... 1780(41/109)
(41/110)
لا ننسى..ولن نغفر ... 1784(41/111)
(41/112)
مناهجنا وشيء اسمه الإرهاب ... 1786(41/113)
(41/114)
لو أني من يحاكم صدام ؟! ... 1790(41/115)
(41/116)
هل أَضاعت الفلوجة هيّبة أمريكا ؟ ... 1793(41/117)
(41/118)
تماسك الجبهة الداخلية ... 1795(41/119)
(41/120)
كلام هنا وهراوة هناك! ... 1799(41/121)
(41/122)
رسالة إلى كل من كتب اسمه باللغة الإنجليزية ... 1803(41/123)
(41/124)
رسالة إلى أهل فلسطين ... 1806(41/125)
(41/126)
تحية لمجاهدي فلسطين وبيان للمسلمين ... 1808(41/127)
(41/128)
صدَّام ... عزيز قوم ذلَّ ... 1813(41/129)
(41/130)
مسيرة تحرير المرأة من خلال بعض دعاتها البارزين (1) ... 1821(41/131)
(41/132)
مفهوم التمييز ضد المرأة " رؤية شرعية " ... 1824(41/133)
(41/134)
لنصغ تاريخنا بأيدينا ... 1848(41/135)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (15) الشيوعية والماركسية
الباب الخامس عشر
الشيوعية والماركسية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الخامس عشر
الشيوعية والماركسية(42/1)
(42/2)
الشيوعية
communisme
بقلم : محمود عوض
الحديث عن الشيوعية لا يعني مفهومها في الفكر الإنساني القديم من الولاء الفردي للعائلة أو الدولة ، ولكنه يتعلق بمفهومها الحديث الذي يسمونها فيه " الشيوعية الماركسية أو العلمية communisme scientifique " فهي دعوة مادية تنكر الأديان كلها وتهدمها من أصولها وتقتلعها من جذورها ؛ لأنها لا تعترف بغير المادة ، وشعارها " لا إله والحياة مادة "،
بل إن الدين عند الشيوعية وهم ومخدر يتعزى به الفقراء والكادحون ، والشيوعية هدامة من جهة أنها تخلق الحزازات بين طبقات الأمة الواحدة ، وتوغر صدور بعضها على بعض ، وتوهم بتوحيد الطبقة العاملة على الرغم من اختلاف الأوطان والأديان وهي في الحقيقة تستعبد هذه الطبقة لصالح النظام وزعمائه ، والشيوعية تهبط بالنوع البشري وتهوى به إلى الحيوانية لأنها تحصر أهداف الإنسانية في الكسب والرزق ، والشيوعية من هذه الجوانب تدخل في طوائف الكفر من أوسع أبوابه .
كيف نشأت الشيوعية
في جو ملتهب بالاضطراب والاستبداد والظلم والبؤس وكل ألوان الغمط نشأت الشيوعية كنتيجة من نتائج الصراع الذي قام بين السلطة في الكنيسة والسلطة في الدولة - تماماً كما نشأت العلمانية - وتقاذفت الإنسان الأوروبي رحى الخلاف ، فالكنيسة غاشمة والسلطة ظالمة ، وبالتالي انتشرت المحسوبية والفساد ، وابتزاز الأموال والفخامة والأبهة على حساب الشعوب ، يقول فيشر في كتابه " تاريخ أوروبا في العصور الوسطى " : ( ... كل ذلك أسخط العقول المتزنة في جميع أنحاء أوروبا وجعل بعض النقاد الذين لم يعرفوا بشيء من التصون أو التقوى ينعتون رجال الدين بأنهم صيادو الذهب والفضة ) .
ويقول الراهب جاروم : ".. وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً واستحوذ عليهم الجشع وحب المال حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع ، وقد تباع بالمزاد العلني ، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران " حتى بلغ إيراد الكنيسة سنوياً ما يقرب من مائتي مليون جنيه من أموال الجباية ، ودخل الأراضي الموقوفة وكانت تبلغ خمس أرض فرنسا تقريباً ، ويضاف إلى هذا موقف الكنيسة في أوروبا من العلم والعلماء ومحاربتها لهم وإنشاء محاكم التفتيش ، وقد عاقبت الكنيسة ثلاثمائة ألف منهم بالإعدام حرقاً ، منهم اثنان وثلاثون ألفا أحرقوا وهم أحياء ، وكان من هؤلاء جاليليو، وبرونو عالما الطبيعة .
index1.gif (77491 bytes)
…
وهكذا تولد عند الأوروبيين عامل الثورة ضد الإنحراف الديني والظلم الإجتماعي فاتجهوا إلى المادية بكل معانيها ، يقول فيفث FIFTH في كتابه " الإسلام على مفترق الطرق " : ( إن الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة ، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله في الحقيقة ، لا تعرف له فائدة ولا تشعر بحاجة إليه ) ، وفي هذه الأجواء الدينية العكرة كانت أوروبا تريد الخلاص من الظلم الذي حرمها حق الحياة الكريمة .
ومع هذه البيئة العكرة وجدت عوامل أخرى اجتماعية
( طبقة أشراف تسيطر على كل شيء ، وطبقة الكنيسة ورجالها ، وطبقة العامة - 95% - وفيها المفكرون والمتعلمون ـوالتجار والمزارعون والصناع الذين كانوا في حالة بؤس شديد ) وعوامل سياسية ( حيث عم الفساد والقتل والإرهاب الأكبر في عهد روبسبير ومحاكم الثورة الفرنسية ومذابح سبتمبر وصراع فرنسا - نابليون - مع أوروبا عسكريّاً وسياسيّاً ) ، وعوامل اقتصادية وعسكرية وثقافية أيضاً .
والمهم أن الإشتراكيين الأوائل ركبوا هذه الموجة وظنوا أنهم وضعوا أرجل أوروبا على طريق الخلاص بأفكارهم التي تدعو إلى تخفيف الويلات ، وأشهر من تصدى لهذا العمل ثلاثة هم سان سيمون (SAINTSIMON ) ، شارلز فوربيه ، روبرت أوين ( r OBE r T OWEN ) ، وأول ما يتطرق إلى الذهن في هذا العرض أن أوروبا كانت تنظر إلى الخلاص من رق الاستبداد والظلم الاجتماعي فقبلت أول الأطباق التي قُدمت إليها على مائدة الإصلاح فأكلته بنهم لتصيبها بعد ذلك غصة الشيوعية السوداء .
ما هي الشيوعية ؟
لفظ الشيوعية كان مستعملاً في فرنسا فترة الاختمار الاجتماعي التي أعقبت ثورة فرنسا عام 1830م ، ولا يعرف أصلها ولا تاريخ نشأتها ، يقول الدكتور رؤوف شلبي في كتابه " التضليل الماركسي " : ( ولكننا نجزم أنها سمعت لأول مرة مرتبطة ببعض الجماعات السرية الثورية في باريس خلال العقد الثالث من القرن التاسع عشر ، وكان مدلولها يختلف باختلاف المذاهب الثورية ، فعند الفرنسيين كان معناها : تنظيم اجتماعي يقوم على الاتحاد الفدرالي بين جماعات متجاورة من السكان سميت بـ " الكوميون " ) .
واستعملها " كابيه " بمعنى الشيوع أي : تكون الأشياء مشاعة وملكيتها مشتركة ، ثم أُطلقت على اليسار المتطرف الذي أُطلق عليه " العصبة الشيوعية " سنة 1847م ، ثم أُطلقت على البيان الشيوعي عام 1848م ، ومع هذا فإن الرواد الأوائل لها لم يجنحوا إلى استخدام واحد من هذه المعاني .
التفسير المادي للتاريخ :(42/3)
لم يكن صحيحاً أن كارل ماركس أتى باشتراكية علمية ، ولكنه سطا على خزينة الفكر الإشتراكي ، فقد كان ضيفاً على مائدة الفكر الاشتراكي الانجليزي والفرنسي أولاً ثم صاغ ما أكله من هذا الفكر وتشبع به في ثوب ألماني أو قريب من الألمانية ، يقول ج.هـ . كول في كتابه "تاريخ الفكر الإشتراكي " " وإلى حد كبير أخذ اتجاه النظريات الاقتصادية المناهضة للرأسمالية شكل إعادة تنظيم النقد لمذاهب الاقتصاد الكلاسيكي ، وكانت هذه أيضاً في جوهرها نقطة البداية التي استعملها ماركس فيما بعد في هجومه في نقد الاقتصاد السياسي " .
هذه الصياغة من ماركس كانت لمفردات موجودة ، فقد وضع " جون لوك " نواة نظرية قيمة العمل ، ويمكن تتبع أصولها لأبعد من " جون لوك " ، وكان " آدم سميث " يعتبر العمل هو المصدر الطبيعي الوحيد للقيمة ، ويدعي كثير من الشيوعيين وفي مقدمتهم " لينين " أنه لا معنى لكتاب " رأس المال " بغير مذهب " هيجل " ذلك المذهب الفلسفي القائل بالثنائية أو القائم على تطور النقائض ، وخلاصته - كما يرى الدكتور رؤوف شلبي - أن الشيء الموجود له نقيض ، واتحادهما معاً أو مركب النقيضين يعطي وجوداً أكمل ، ويستمر التناقض حتى ينتهي إلى تركيب أتم من سابقه وهكذا يتطور التاريخ وتتقدم المعرفة والحرية .
ويقال : إن ماركس جاء فأبقى إطار هذا المذهب في قوله بالثنائية ثم أفرغه من محتوياته ونقله من مذهب فكري لا يرى في الكون غير المادة ، وسماه ماركس : المادية الثنائية ، وزعم أنها قوانين تسيطر على تاريخ الإنسان ، وأسماها : التفسير المادي للتاريخ ، ودعا فيما - سماه بحرب الطبقات - إلى تحكيم المشرفين على وسائل الإنتاج ، ويتصور ماركس أن النقائض المادية في التاريخ سارت من ملكية مشاعة إلى استخدام السادة للعبيد ثم جاء أصحاب الإقطاع ، ثم جاء التجار وأصحاب الأموال ، وهو أول أطوار الرأسمالية البرجوازية .
أما الطور الثاني فقد جاء مع رأس المال وسيطرة القلة من أصحاب المصانع والشركات واستنزافهم ثروة المجتمع وتسخيرهم أفراده ، وعندئذ يثور المسخّرون على السادة ، وبالثورة يتم السيطرة من قبل المكبلين بالسلاسل والأغلال على أزمّة الإنتاج بغير استغلال وبغير تسخير ، وتلك هي غاية التاريخ الإنساني التي تبطل عندها النقائض ، ولا تبقى فيها غير طبقة واحدة تنتهي معها فكرة صراع الطبقات ، بل وينتهي معها - في زعم ماركس - كل صراع في الحياة الاجتماعية ، ويظل شعار المجتمع :
((( من كل أحد حسب قدرته ، إلى كل أحد حسب حاجته ))) .
نظرية ماركس في التطور والثبات
أولاً نظرية الثبات :
وفيها أن العامل كان يعمل عدد ساعات ويأخذ أجره على قدر استهلاكه لا على قدر عمله ، فيتولد فائض من الأجر وهو ما أطلق عليه ماركس اصطلاح : القيمة الزائدة التي كانت تذهب إلى صاحب العمل ، وفي نفس الوقت فالقيمة التي أخذها تعادل مثلاً نصف عدد ساعات العمل التي عملها ، فالزيادة في عدد الساعات سماها ماركس " العمل الزائد " .
ثانيا نظرية التطور :
وفيها أن أصحاب العمل قلة ، وأن العمال والأجراء أو البروليتاريا هم الفريق الأكثر والأقوى ، وهم الذين ستؤول إليهم في النهاية ملكية المصانع والشركات ، وإلى هذه الطبقة يوجه ماركس نداءه :" اتحدوا يا صعاليك العالم ، فأمامكم عالم تغنمونه ، وليس عندكم من شيء تفقدونه غير القيود والأغلال " وهي نظرية لفقها ماركس من رقاع فكر الذين سبقوه .
الردود على نظريات ماركس
أوسع الباحثون نظريات ماركس رداً وتفنيداً مثل الدكتور ج.هـ . كول الذي ردّ عليها وعلى البيان الشيوعي وتساءل : كيف تكون النظرية الماركسية الفاشلة في حينها عالمية المنهج والتطبيق ؟ ، ومن مثل الشاعر الروسي " بسترناك " الذي قال " إن المادية التاريخية مذهب تتباعد فيه المسافات بين النظريات ووقائع الحياة " ، والحقيقة أن النظرية ودولتها قد انهارت وهذا هو أبدع ردّ وأبلغه عليها وليس المقام هنا مقام تفصيل في هذا الردّ ، ولكننا سوف نكتفي بعبارتين للأستاذ العقاد - رحمه الله - يقول : " والحصان هنا - أي في نظريات ماركس - معلق وراء المركبة ، على عادة المذهب في أكثر نظرياته " ومن ذلك مثلاً أن العمل الإنساني له قيمة بمقدار طلبه ، ولكن المذهب الماركسي يقلب الواقع رأساً على عقب فيقول بأن السلعة لها قيمة بمقدار ما فيها من عمل الإنسان ، وعلى هذا القياس المقلوب يقال : إن حب الامتياز يأتي من حب الربح ، ولا يقال إن حب الربح يأتي من حب الامتياز .
ويقول - أيضاً - الأستاذ العقاد : " فمن النبوءات الماركسية المحتومة : أن البلاد التي تسودها الصناعة الكبرى هي أصلح البلاد لسيادة الماركسية فيها ، فإذا بالنتيجة الواقعة في كل مكان أن الماركسية أفشل ما تكون في تلك البلاد ، وأن هذه الماركسية تسود بمقدار خلو البلاد من الصناعة الكبرى لا بمقدار غلبة الصناعة الكبرى عليها !!"
العلاقة بين الشيوعية واليهود(42/4)
رحم الله الملك فيصل بن عبدالعزيز - ملك السعودية - إذ قال : " إن الشيوعية والصهيونية اسمان ولكنهما في الحقيقة شيء واحد" وهذه حقيقة تؤكدها الوقائع ويؤكدها الواقع ويكفي أن نقول : إن ماركس كان يهودياً متعصباً يمثل في حياته الخاصة والعامة كل ما تنطوي عليه نفوس اليهود من كراهية لسائر طوائف البشر ورغبة في الانتقام والقضاء عليهم ، وعندما قامت الثورة الشيوعية في أكتوبر سنة 1917م انتخب كاملييف ( وهو يهودي ) رئيساً للجمهورية السوفيتية ، وتولى رئاسة الوزراء لينين وهو يهودي الأصل وزوجته يهودية ، وتولى وزارة الخارجية تروتسكي وهو يهودي متعصب ويرجع إليه إنشاء الجيش الأحمر ، وكان أول مجلس شيوعي قوامه 547 عضواً ، كان من بينهم 447 عضواً من غلاة اليهود المتعصبين ، ولما تأسست اللجنة المركزية للحزب الشيوعي كان قوامها 388 عضواً من اليهود المغامرين ، وكان الرئيس الثاني للجمهوريات السوفيتية في نوفمبر 1917م سفردلوف الإرهابي اليهودي الذي رأس اللجنة التي وضعت الدستور ، ولذلك لا نستغرب أن يكون الاتحاد السوفيتي هو أول الدول اعترافاً بإسرائيل بعد قيامها ، والحقيقة أن وضوح العلاقة بين الشيوعية واليهود لا يدع مجالاً للتدليل فالأمر بيّن ولا يحتمل الإنكار .
وبعد فهذه هي الشوعية التي رفعت شعارات الكفر والإلحاد من مثل :
لا إله والكون مادة .
وحدة العالم تنحصر في ماديته .
المادة سابقة في الوجود على الفكر .
لم يكن هناك وقت لم تكن المادة موجودة فيه .
الإنسان نتاج المادة .
الفكر نتاج الدماغ والدماغ مادة .
وإذن فهي مذهب إلحادي اقتصادي مادي لا أخلاقي لا يعرف العدل ولا يعرف الروحانية ، ولا يعرف الإيمان .
من مصادر هذا المقال :
1 ـ التضليل الماركسي ( دراسة مقارنة للسخيمة الشيوعية ) - الدكتور رؤوف شلبي.
2 ـ تيارات فكرية معاصرة - الأستاذ محمد قطب .
3 ـ معجم ألفاظ العقيدة - عامر عبدالله .
==================(42/5)
(42/6)
من منظّري الشيوعية كارل ماركس
( 1818 - 1883م )
قلم : مايكل هارت
كارل ماركس هو مؤسس " الاشتراكية العلمية " ولد في مدينة ترير سنة 1818م بألمانيا . أبوه محام . وفي السابعة عشرة من عمره دخل جامعة بون يوم الكريسمان وانتقل بعد ذلك إلى جامعة برلين . ثم حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة فينا .
ثم اشتغل بالصحافة ، وعمل رئيساً لتحرير " صحيفة الراين " في مدينة كولونيا . وبسرعة أوقعته أفكاره السياسية في مشاكل كثيرة ؟ ولذلك انتقل إلى باريس وهناك التقى بصديق عمره فريدريش إنجلز . وطرد من فرنسا فانتقل إلى بلجيكا . وفي بلجيكا سنة 1847 أصدر أول مؤلفاته " إفلاس الفلسفة " وفي السنة التالية أصدر هو وفريدريش إنجلز " البيان الشيوعي " ثم انتقل إلى كولونيا وطرد منها فسافر إلى لندن حيث عاش فيها حتى نهاية حياته .
وأمضى ماركس معظم الوقت يدرس ويكتب . وكان صديقه إنجلز هو الذي يعوله مادياً . وفي سنة 1867 أصدر كارل ماركس الجزء الأول من كتابه الشهير " رأس المال " وصدر الجزءان الأخيران بعد وفاته .
ولا شك أن مؤلفات كارل ماركس والأسس التي وضعها للشيوعية تعطيه مكاناً بارزاً في هذه القائمة ولكن ما هو المكان الذي يستحقه بالضبط ؟
إن جانباً كبيراً من قيمة كارل ماركس يعتمد على رأيه الخاص في الشيوعية . فمن المؤكد أنها أحدثت أثراً بالغاً في الفكر الإنساني وفي تفسير مسار التاريخ والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية . وبعد مائة سنة تقريباً من وفاة كارل ماركس فإن عدد المؤمنين بها يزيد على ألف مليون نسمة . وهذا أكبر عدد حصل عليه أي مذهب سياسي في كل العصور . ولكن أحداً لا يستطيع أن يقطع بأن هذا المذهب الذي بدأت تدب فيه الخلافات العنيفة والتمزقات سوف يبقى طويلاً - سقط هذا المذهب الآن وانهار - وقد حدث أن اعتقد الناس أن المانوية مذهب سوف يعيش طويلاً . ولكن ذلك لم يحدث !
وفي سنة 1900 أعلنوا أن الديمقراطية البرلمانية هي الصورة المثالية للعلاقات بين الحاكم والمحكوم . ولكن سرعان ما تغيرت هذه الصورة . وظهرت أشكال وعلاقات شعبية أخرى متنوعة !
وحتى عندما نعترف بخطورة الشيوعية في العالم . فإننا يجب أن نتسائل عن أهمية كارل ماركس نفسه داخل هذا المذهب . إن الاتحاد السوفيتي قد طور الشيوعية بما يجعلها تختلف تماماً عن الصورة المثالية العتيقة التي كتبها كارل ماركس بل إنها تبعد كثيراً عن الإطارات والقواعد التي وضعها ماركس . فلا أثر لما كان يسميه كارل ماركس : المادية الجدلية ، ولا فائض القيمة ..
ويمكن أن نقول إن الشيوعية السوفيتية تدين بكثير من الفضل لستالين ولينين أكثر مما تدين به لكارل ماركس . كما أن الكثير من تعاليم ماركس قد سبقه إليها فلاسفة أوروبيون كثيرون . ولكن عبقرية كارل ماركس ظهرت في أنه ربطها ربطاً حديدياً . وراح ينقب في التاريخ القديم والحديث عما يدلل به على صحة نظريته في الماضي . وفي المستقبل أيضاً . وقد أثبت التاريخ بعد وفاته خطأ كثير مما استنتجه .
…
ولكن زعماء الشيوعية قد أعلنوا جميعاً أنهم قرأوا ماركس وساروا وراءه وأضافوا إليه .. أعلن ذلك لينين وماوتسي تونج . تماماً كما أعلن أتباع الديانات الأخرى .
ولا شك أن فردريش إنجلز قد شارك في تطويع أفكار كارل ماركس وخصوصاً كتاب " رأس المال " . صحيح أن إنجلز كانت له كتب خاصة به . ولكن من المؤكد أن كارل ماركس هو الأعمق وهو الأعظم . ولكن ليس من العدل استبعاد إنجلز عند الحديث عن كارل ماركس وأثره في الفكر السياسي العالمي ..
صحيح أن الكثير من تنبؤات ماركس قد جاءت خاطئة . فهو قد تنبأ بأن الطبقة العاملة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية سوف تزداد فقراً . فقد تأكد أن هذا خطأ . وتنبأ أيضاً أن الطبقة المتوسطة سوف تزول وتنهار في أحضان الطبقة العاملة إلى الأبد . ولم يحدث ذلك . وتنبأ أيضاً أن استخدام الآلة الحديثة سوف يؤدي إلى إفلاس أصحاب رؤوس الأموال . والعكس هو الصحيح تماما ! !
وأهمية الفلاسفة لا تقاس بما وقعوا فيه من أخطاء . ولكن بما تركوه من أثر في الناس . فنقلوهم من مجرد التفكير إلى العمل . وهنا يصبح كارل ماركس من أعظم الفلاسفة .
من كتابه : الخالدون مائة
من منظّري الشيوعية والحاكمين بها
لينين (1870- 1924م )
بقلم : مايكل هارت
ترجمة : أنيس منصور
هو المسؤول عن قيام الشيوعية في روسيا ، وهو تلميذ كارل ماركس ، ولكن بسبب أثره العميق في بلاد كثيرة في العالم ، يعتبر من أخطر الرجال أثراً في التاريخ .(42/7)
اسمه فلاديمير الليئتش أوليانوف ... ولكن أصبحت شهرته لينين .. ولد في مدينة سمريسك والتي تسمى الآن أوليانوفسك تيمناً به سنة 1870م . أبوه موظف في الدولة . وأخوه الكسندر أعدم بسبب اشتراكه في مؤامرة لاغتيال القيصر . وفي الثالثة والعشرين من عمره أصبح لينين ماركسياً متحمساً . واعتقل في ديسمبر 1895م لنشاطه الثوري ، وأمضى في السجن 14 شهراً ، ثم نفي بعد ذلك إلى سيبيريا وفي سنوات سيبيريا تزوج زميلة ثورية ثم أكمل كتاباً له بعنوان " تطور الرأسمالية في روسيا " . وأنهى فترة السجن سنة 1910م وبعدها سافر إلى أوروبا الغربية . وعندما انقسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى جناحين . انضم هو إلى جناح الأغلبية البولشفيك ..
…
وتوالت الأحداث بعد ذلك . وظهر لينين كشخصية ثورية في غاية العنف . واستطاع أن يقفز من جانب إلى آخر ليكون قمة السوفيت . وعندما توفي سنة 1924م احتفظوا بجثمانه في متحف يشاهده الناس الآتية بالألوف يومياً في الميدان الأحمر بموسكو .
فهو الرجل الذي حول أفكار كارس ماركس إلى واقع بمنتهى القوة والعنف والقسوة . ومن رأيه أنه لا يمكن حل مشكلة من المشاكل إلا بالعنف .
وقد أشار كارل ماركس إلى مثل هذا المعنى . ولكن لينين هو الذي استطاع أن يجعل العنف والقهر فلسفة في الحكم .
وكان لينين كتلة هائلة من الحيوية والإنتاج . فقد أصدر 55 كتاباً . ولولا لينين ما قامت الشيوعية في روسيا . بل كان لا بد لها أن تنتظر عشرات السنين قبل أن تتاح لها فرصة التسلط على روسيا والانتشار بالعنف والإرهاب في بلاد أخرى كثيرة .
وعلى الرغم من أن لينين كان داعية ضد القهر والظلم وتحكم فئة في فئة . فإن التاريخ الشيوعي لم يعرف رجلاً استطاع أن ينفرد بالقهر والإرهاب والتخويف وإبادة الملايين كما فعل لينين في الاتحاد السوفيتي . دون أن تهتز له شعرة . فقد وضع أمام عينيه سيطرة الحزب على الشعب بمنتهى القسوة .
وشعاره : " لا يلتوي الحديد بغير النار " والإنسان أشد صلابة من الحديد . فهو في حاجة إلى نار بغير دخان : الضغط والقهر والعنف في كل صوره .
ولولا كارل ماركس ما كان لينين ، وليس العكس . فمن الممكن أن يظهر أي شخص آخر يطبق الماركسية في روسيا . ولكن شخصية لينين الفذة هي التي عجلت بذلك . وطبقته في أسرع وقت .
والشيوعيون يقدسون لينين كأنه إله ، رغم أنهم لا يعرفون المقدسات ولا يؤمنون بالله !
من كتاب " الخالدون مائة "
ترجمة أنيس منصور
=============(42/8)
(42/9)
الماركسية داء لا دواء
بقلم الشيخ : يوسف القرضاوي
إذا عجز العلم وعجزت الفلسفة عن إنقاذ الإنسان المعاصر من الدمار المعنوي الذي يهدده صباح مساء ، فلا يُتصور أن تكون الماركسية هي البديل الذي يقدم قارورة الدواء للمريض ، ومضخة الإطفاء للحريق - كما توهم ذلك بعض الناس أيام نفاق سوق الماركسية - وذلك لأمرين:
الأول : أن الماركسية جزء من الحضارة المادية المعاصرة ، بل هي الجزء الأشد غرقاً وإغراقاً في المادية ، لأن فلسفتها الكلية قائمة على المادية الخالصة ، فلا ترى للكون إلهاً ، ولا للإنسان روحاً ، ولا وراء الدنيا آخرة فكيف تكون البديل لنفسها ؟ وكيف يصلح الداء دواء إلا على طريقة أبي نواس :
* وداوني بالتي كانت هي الداء ؟!
وقد قال الشاعر :
إذا استشفيتَ من داء بداء فأقتل ما أعلَّك ما شفاك !
والثاني : أن الماركسية عاجزة كل العجز عن تكوين الإنسان المطمئن القلب ، المشرق الروح ، السعيد النفس ، لأن هذا ينبغ من الإيمان بالله وبالخلود في الآخرة ، والماركسي لا يؤمن إلا بالمادة المحسة وبالحياة الحاضرة ، لهذا يقول فلاسفة الأخلاق :
" الإنسان الماركسي ليس إنساناً حراً ... ذلك أن على المناضل العادي أن يطيع رؤساءه طاعة عمياء ، فيكون عبد " أسياده " كما هو عبد الكون المادي . إنه لولب بسيط يعمل في آلة التطور ، وما حريته إلا أن يخضع - بحسب النظرية الألمانية الزائفة - طائعاً مختاراً واعياً ! إن مثل الماركسي في العالم - وقد تحرر ، أو قل : تحلل ، من الدين ومن الأخلاق ومن الله ! - مثل العامل في المصنع ، إنه يشعر بأنه عبد حتمية قاهرة كحركة الآلة الطاغية ، وأن آلة العالم تأمر وتسيطر ، ويبدو أنه ليس في وسعه الخروج على مشيئتها ، ولا الإفلات من أسرها إلا خلال لحظات ثورة أو لهو ، كما يأبق العبد ويفلت لحظة من رقابة سيده .
ثم إن الإنسان الماركسي ، في الواقع ، عاجز أشل ، إنه يعلم أن ليس في وسعه الحيلولة دون حدوث ما هو حادث حتماً ، ويعجز عن استخدام مبادهته الخاصة على نحو أصيل ، وغاية ما يقدر عليه الإسهام في تسارع إيقاع التطور .
إنه يشعر بعجزه عن تأمين مصيره الخاص ، فيقضي معظم حياته خائفاً مذعوراً.
والإنسان الماركسي ، أخيراً ، لا يتمتع بروح اجتماعية حقيقية ، لأنه لا يعرف الحب الحقيقي ، ولا يحترم إنسانية الإنسان ، نعم إن الماركسية تزعم الإسهام في إسعاد البشر ، ولكن هل تستطيع أن تحب الناس ؟
إن الإنسان لا يحب حباً حقيقياً ، إلا أشخاصاً يعترف بأن لكل واحد منهم قيمة فردية خاصة ومصيراً خاصاً .
يقول بردييف : " تتكشف الأخلاق الشيوعية الثورية عن أنها أخلاق لا تعرف الرحمة نحو الإنسان المشخص الحي ، نحو الغريب ، فالفرد ليس سوى لبنة لا بد منها في بناء المجتمع الشيوعي ، إنه أداة وحسب وإن الشيوعية لتنطوي في ذاتها على عنصر سليم صحيح يتصل بنظرتها إلى الحياة ، وهذا العنصر يطابق النظرة المسيحية ، ويمثل في أن على الإنسان ألا يستهدف مصلحته الخاصة ، بل أن ينفق حياته في خدمة مثل أعلى ، ولكن هذه الفكرة - وهي بذاتها رائعة - تفسر برفض منح الشخص البشري جدارة مستقلة ، وقيمة مستقلة ، أي نفحة روحية . ( من كتاب : فلسفة الأخلاق للدكتور عادل العوا .(
من كتابه : الإسلام حضارة الغد
===============(42/10)
(42/11)
اليهود والشيوعية
…
لم تكن الشيوعية في العالم كلّه من صنع عباقرة أرادوا إنقاذ العالم وإنصاف العامل والفلاح من تسلُّط الرأسمالي والإقطاعي كما يتوهم الكثيرون ، ويتشدّق به أتباع الشيوعية العُمْي ، وكل ما جاء في أيديولوجيتها من ثورة البروتاريا ، والمادية الديالكتية ، والتاريخية ، فضل القيمة ، كل ذلك من صنع يهودي ، وتخطيط يهودي ، وتمويل يهودي لزرع الفوضى والاضطراب وسحق كل تطلّع نحو الحرية والإرادة والحياة الكريمة التي تقيّم الإنسان .
لقد بدأت الحكاية الشيوعية سنة 1928م على الشكل التالي [ كان المحفل الأعلى لكنيس اليهودي - وعملاؤه جماعة كبار المرابين العالميين - يعتمدون من أجل تنفيذ التخريب الاجتماعي ، وتدمير مختلف البلدان ، على مجموعة من الحركات الفوضوية التي استطاعوا مدّ شباكها إلى مختلف الأقطار الأوربية ( لا سيما روسيا وأوربا الوسطى ) وعرفت باسم الحركات النهلستية ، وعلى عدد من النوادي والجمعيات الإلحادية ، ولكن النقاب كشف لأول مرة عام 1829 م عن نوعية التخطيط الجديد الذي أعده محفل النورانيين بعد تنظيمية الحديث من قبل وايز هاوبت ، فقد أوفد المحفل أحد أعضائه وهو إنجليزي عُرف باسم المستر "رايت" إلى نيويورك في ذلك العام حيث عقد مؤتمراً للمحافل الماسونية التي تمّ تهويدها وإلحاقها بالمؤامرة أبلغ فيه المجتمعين بالتنظيم الجديد الذي وضعه حكماء صهيون والذي يقضي بتوحيد جميع الحركات النهلستية والجمعيات الإلحادية في أوربا ضمن نطاق منظمة عالمية أو أمميّة تمتد فروعها وشباكها وخلاياها السرية والعلنية إلى كل بلد في العالم وتدعى ( بالمنظمة الشيوعية ) ، ويجب العمل من ناحية أخرى على وضع أيديولوجية "نظرية عقائدية " ذات فلسفة خاصة تقوم هذه المنظمة على أساسها . وقد كلّف المؤتمر المذكور بتجميع رصيد من الأموال اللازمة للإنفاق على هذا المشروع ، فعيّن لجنة من ثلاثة أشخاص كان أحد أعضائها ( كلنتون روزفلت ) ، أحد أجداد رئيس الولاليات المتحدة فيما بعد ( فرانكلين روزفلت ) ، وجمعت هذه اللجنة المبالغ المطلوبة ، كما وقع اختيار النورانيين من ناحية أخرى على اليهودي ( كارل ماركس ) وعلى ( انجلز ) لوضع النظرية اللازمة واستقدموها إلى لندن لإنجاز هذه المهمة ، حيث قاما في منزل قائم في حي ( سوهو ) بقلب العاصمة الإنجليزية بتأليف كتاب ( رأس المال ) الذي اعتبر ( إنجيل ) المذهب الشيوعي منذئذ ووضعا ( البيان الشيوعي ) ، وقد موّلت المبالغ المذكورة ( ماركس ) و ( انجلز ) كما موّلت تأليف وطبع ونشر كتاب ( رأس المال ) والنداء الأول في حركة الهيجان العالمي ] .
ثم اتخذت الترتيبات اللازمة بعد ذلك لتمتد أذرع الأخطبوط إلى كل ركن من أركان المعمورة
أما مطيّة اليهودية ومنفذ الشيوعية فلاديمير أوليانوف ( لينين ) فقد درس الشيوعية والثورية والإلحادية على يد زملائه من اليهود بادئ الأمر ثم خرج من روسيا وانضم بإيعاز من النورانيين إلى مجموعة الشيوعيين والثوريين الذين التقى بهم في سويسرا ومنهم ، بليخانوف ، وليودوتش ، وأكسلورد ، وجوليوس تسيدر باوم ، وفيرازسوليسش ، وهؤلاء الأربعة من اليهود ، وشكلوا جمعية ماركسية أمميّة أسموها ( مجموعة تحرير العمل ) ثم عاد إلى روسيا وباشر نشاطه في العاصمة سان بطرسبرج ، فنظم مع رفاقه من اليهود الخلايا والشبكات وحرّضوا على المظاهرات ، وكوفئ على نشاطه ذلك بالزواج من يهودية حسناء ، وانكشف أمره عند السلطات القيصرية فزجّ به في السجن سنة 1897م ونفي مع زوجته اليهودية إلى سويسرا والتقى هناك مع مندوبي النورانيين ، وعاد نشاطه من جديد ، فأصدر جريدة تنطق باسم الحركة الشيوعية ، وأشرف على تحريرها عدد من رفاقه اليهود وتولت زوجته اليهودية سكرتارية التحرير فيها .
وفي عام 1907م عقد المؤتمر الخامس للحزب الشيهوعي في لندن وحضره بالإضافة إلى شخصياته الرئيسية اليهودية شاب ظهر حديثاً إلى جوار لينين هو ( ستالين ) وفي هذا المؤتمر قرروا إدخال أعداد من صحفهم التي كانت تصدر في أوروبا إلى روسيا وقرروا العمل على تنظيم الكثيرين في روسيا ، وإشاعة الفوضى ونشر روح الشك والقلق في البلاد ، وتجنيد الإرهابيين والمخربين المحترفين في الأوساط اليهودية وإرسالهم إلى روسيا ، وساد الشغب وانطلقت مظاهرات الرعاع بدفع من اليهود سنة 1917م وأطلقت النار على المتظاهرين بأيدٍ يهودية للإساءة إلى السلطة ، وساعدت محافل الشرق الأكبر في اجتذاب عدد من الضبّاط والجنود حامية ( بطرسبرغ ) فرشتهم وهددتهم وأقنعت بعضهم ، فتمردت عدّة كتائب ، ثم دبّر المرابون اليهود للينين سبيل الوصول إلى روسيا ، وتدفق إلى روسيا حوالي مئة ألف من الإرهابيين والفوضويين والثوريين المتطرفين بزعامة عصابات تروتسكي التي نظمها في نيويورك ، وهكذا استولى اليهود على الثورة في روسيا ، وأصيب ( لينين ) بعدها بالشلل ، وتولى ( ستالين ) زمام الأمور ، وفاز هو الآخز بزوجة يهودية .(42/12)
أنه ولو استعرضنا الأسماء التي عملت على الثورة الشيوعية لوجدناها جميعها من اليهود باستثناء لينين - مع أنه عُدّ يهودياً عند الكثيرين - وستالين فقد كانت زوجتاهما يهوديتين ، وهذا يكفي ، وبعد ذلك صوّب اليهود مدافعهم إلى صدور الرُّوس وقتلوا الملايين من الشيوخ والنساء والأطفال ، وليس ذلك بغريب ، فحين تشكّل المكتب السياسي الأول للحزب الشيوعي في روسيا كانت نسبة اليهود فيه على الشكل التالي :
…
1 - لينين - نصف يهودي -
2- ستالين - متزوج من يهودية .
3- تروتسكي - يهودي
4- كامينيف - يهودي .
5- سوكولنكوف - يهودي .
6- زرنونيف - يهودي .
7- يبنوف - روسي .
وفي مجلس إدارة الحرب كانت نسبة اليهود كما يلي :
1- تروتسكي - يهودي .
2- جوف - يهودي .
3- لينين - نصف يهودي .
4- بوكيج - قفقاسي .
5- بودوسكي - روسي .
6- مولوتوف - متزوج من يهودية .
7- فيرسكي - روسي .
8- انشلخت - يهودي .
9- سويردلوف - يهودي .
10- يورتسكي - يهودي .
11- انتونوف - روسي .
12- ميكونسنين - روسي .
13- جوسيف - يهودي .
14- أرميجيف - روسي .
وبعد سنة واحدة من قيام الثورة الشيوعية في روسيا كان تسلط اليهود على الدوائر الرسمية تسلطاً ساحقاً كما تصوره الإحصائية التالية :
عدد المسئولين
…
عدد اليهود
…
الدائرة
22
…
17
…
أول حكومة بعد الثورة
43
…
34
…
إدارة الحرب
64
…
45
…
لجنة الشؤون الداخلية
17
…
13
…
لجنة الشوؤن الخارجية
19
…
18
…
لجنة الشؤون القضائية
5
…
4
…
لجنة الشؤون الصحية
53
…
44
…
لجنة التوجيه العام
…
2
…
لجنة البناء والتعمير
8
…
8
…
الصليب الأحمرالروسي
23
…
21
…
إدراة الأقاليم
41
…
41
…
شئون الصحافة
7
…
5
…
لجنة التحقيق عن الموظفين
56
…
45
…
مجلس الاقتصاد الأعلى
23
…
19
…
مكتب العمال والجنود
34
…
33
…
اللجنة المركزية للمؤتمر السوفيتي الرابع
62
…
34
…
اللجنة المركزية للمؤتمر السوفيتي الخامس
12
…
9
…
الجنة المركزية للحزب الاشتراكي
522
…
418
…
(( المجموع ))
وهذا يعني أن نسبة اليهود في الوظائف الهامة كانت حوالي 80% . فهل كان غرض اليهود تعمير الأرض ورفع الظلم بعد كل هذا ؟ اللهم لا . ولكنهم أرادوا الخراب والدمار؛ لأنهم هم الظلم وأدوات الشر . [ اليهود هم الذين وضعوا وصمموا أساليب الإراهاب التي ينفذها الحكم البلشفي في روسيا ، الذي أقام أصلاً لمحاربة الإله ولتدمير النظام الاجتماعي القائم في العالم ، إن البلشفية والصهيونية ليستا في الحقيقة سوى وجهين لعملة واحدة ، تمسك بهما أيدي القوة اليهودية العالمية الرامية في مساعيها ونشاطها للسيطرة الاقتصادية والدينية والسياسية على العالم ] .
;نعم هذا هو الغرض كما رأينا - فيما مرّ - سيطرتهم على الجهاز الإداري والسياسي في الحكومة الروسية الشيوعية - نرى مثل ذلك في كثير من أنحاء العالم ، ففي أي مكان تسيطر فيه الشيوعية أو الاشتراكية يرتفع عدد من اليهود إلى دست الحكم ، ففي مكسيكو نجد من الذين ارتفعوا إلى قمة السلطة قبل الحرب العالمية الثانية عدداً من اليهود مثل : كالاس ، هيربرمان ، وارن صائنز - وفي إسبانيا - أزانا ، روز نبرغ - وفي هنفاريا : بيلاكوهن ، شزاميوللي ، اغوستون وغيرهم . وفي بلجيكا : فانجدرفال ، بول هايمنز . وفي فرنسا : ليون بلوم ، وماندل ، زيرومسكي ، ونناين ومجموعة أخرى كاملة من اليهود . وفي إيطاليا : ناتان ، كلاوديو تريفيس . إذ لم يكن كل هذا من قبيل المصادفة .
ومن المفيد هنا أن أنقل بعض أقوال حاخاماتهم التي تسلط الضوء على تلك الشركة ، يقول الحاخام جودال ماغنس : [ حينما يتفاني اليهودي في العمل من أجل قضية العمال ، والكادحين والمعدمين في العالم ، فإن روحه الثورية المتأصلة هي التي تُملى عليه ذلك . في ألمانيا تعرف الثوري اليهودي بماركس أولاسال أو هاس أو داود أو برونشتاين . وفي النمسا تعرفه بفكتور آدلر وفريدريك آدلر ، وفي روسيا تعرفه بتروتسكي .
ولننظر الآن إلى أوضاع روسيا وألمانيا ، لقد أطلقت الثورة حرية العمل للقوى الثورية الخلاقة ، ولعلك ستندهش من هذا العدد الهائل من اليهود الذين يندفعون للعمل في سبيل الثورة في هاتين الدولتين .. الاشتراكيون الثوريون ... المنشفيك ... البلاشفة ... الاشتراكيون الأكثرية ... الاشتراكيون الأقلية ... وغيرها من المسميات ..... اليهود هم الزعماء الأولون والإداريون الرؤساء في جميع تلك الأحزاب الثورية ] .(42/13)
وفي خطاب آخر أمام قدر كبير من حاخاماتهم يقول الحاخام ريشبورن : [ بالذهب والهبات نستطيع أن نستميل العمال إلى جانبنا ، فيأخذون على عاتقهم بعد ذلك محْق الرأسمالية - سنعد العمال برواتب وأجور ما كانوا يجرؤون على الحلم بها ، لكننا في الوقت نفسه سنرفع من أسعار الحاجيات الضرورية لتكون أرباحنا أكثر ، سنمهد بهذا الأسلوب إلى الطريق أمام الثورات ثم نحصد نحن فقط غنائمنا ] . وكأنه يعاهد ذلك الفاجر تحت التراب والذي سبقه إلى جهنم وبئس المصير - بأنه سيستمر في تنفيذ مخطط آبائه في التلمود والكابالا اللذين يقولان : " الاستيلاء على ما يملكه غير اليهودي عمل له مسرّاته دائماً " و " من يسفك دم غير يهودي فإنه يقدم قرباناً للرب " .
هذه هي الشيوعية في أرض الشيوعية . أما الشيوعية في أرضنا العربية فإنها تسير بنفس الاتجاه ، وهذا ما سأبينه في حينه ، ولن يمضي وقت طويل إن شاء الله حتى تذبح اليهودية والشيوعية بنفس السكين التي شهرتها ، وذلك عندما تكون الصحوة ، وإن ذلك ليس ببعيد لأن الله تعالى ليس بغافل عما يعمل الظالمون .
اليهودية والماسونية ص92
العلامة عبدالرحمن الدوسري
==================(42/14)
(42/15)
الشيوعية
أولا : المادة الجدلية
ثانيا : المادة التاريخية
ثالثا : المذهب الاقتصادى بين النظرية والتطبيق
تمهيد
ليست الشيوعية مذهبا اقتصاديا بحتا كما يتبادر إلى ذهن كثير من الناس حين يسمعون لفظة الشيوعية ، وإن كان لها ولا شك مذهب اقتصادى محدد متميز ، إنما هى تصور شامل للكون والحياة والإنسان لقضية الألوهية كذلك ، وعن هذا التصور الشامل ينبثق المذهب الاقتصادى . ثم إنها من جهة أخرى مذهب اقتصادى واجتماعى وسياسى وفكرى مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض .
ومن ثم فلا يمكن عزل المذهب الاقتصادى وحده بعيدا عن التصور الشامل الذى ينبثق عنه ، أو بعيدا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية المصاحبة له .
وسواء كان الوضع الاقتصادى وحده هو الأصل الأصيل والأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية المصاحبة له مجرد انعكاس له كما تقول النظرية الشيوعية ، أم كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية أصيلة فى صدروها عن التصور الشامل كأصالة الوضع الاقتصادى كما نزعم نحن ..
ففى جميع الحالات لا يمكن فصل المذهب الاقتصادى وحده ، وعزله عن التصور الشامل الذى انبثق عنه ، ولا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية المصاحبة له ، كما أنه لا يمكن تركيبه على تصور آخر . ولا على أوضاع سياسية واجتماعية وفكرية مغايرة . وليس هذا خاص بالشيوعية إنما هو من طبيعة كل تصور ، وكل أوضاع ناشئة عن ذلك التصور .
وليس معنى هذا أن التصور الواحد لا يمكن أن ينبثق عنه إلا صورة اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية واحدة محددة السمات والتفصيلات ، فسوف نرى فى أثناء العرض والمناقشة أن ذلك غير صحيح . ولكن الذى نعنيه أن هناك اتجاهات عامة تربط بين المذهب الاقتصادى السياسى الاجتماعى الفكرى وبين التصور الذى ينبثق عنه ذلك المذهب . وإن هذه الاتجاهات العامة لابد أن توجد فى كل صورة من الصور الاجتماعية السياسية الاقتصادية الفكرية التى يمكن أن تنبثق عن ذلك التصور ، وإن اختلفت فيما بينها فى الدرجة أو فى التفصيلات والسمات الخاصة .
وبديهى أن التصور الشيوعى للألوهية والكون والحياة والإنسان هو تصور مادى بحت .. فهم يسمون نظريتهم العام " المادية الجدلية " ويسمون تفسيرهم للتاريخ " التفسير المادى للتاريخ " ومن أقوالهم :
لا إله . والكون مادة .
وحدة العالم تنحصر فى ماديته .
المادة سابقة فى الوجود على الفكر .
لم يكن هناك وقت لم تكن المادة موجودة فيه ، وليس هناك وقت لا تكون المادة موجودة فيه . .
الإنسان نتاج المادة .
الفكر نتاج الدماغ والدماغ مادة .. الخ
- - - - - - - - - - - -
وحين نتكلم عن الشيوعية فلابد أن نتكلم عن أمور ثلاثة رئيسية هى المادة الجدلية ، والمادية التاريخية ، والمذهب الاقتصادى الشيوعى مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المصاحبة له .
ولكنا نحب أن نشير فى هذا التمهيد إلى أن ماركس - أو الشيوعيين بصفة عامة - ليسوا هم الذين ابتدعوا الاتجاه المادى . وإنما الحق أنهم قمته ومنتهاه .
وليسوا هم الذين ابتدعوا " الجدلية " تفسيرا للحياة البشرية أو الوجود عامة بما فيه الكون المادى والحياة البشرية ، إنما " الجدلية المادية " أو " المادية الجدلية " هى التى يمكن أن تعتبر ابتداعهم الخاص .
الاتجاه المادى قديم فى الحياة الأوروبية قدم النهضة الأوروبية إن لم نقل إن له جذورا أعمق من ذلك فى بعض اتجاهات الفلسفة الإغريقية القديمة واتجاهات الحياة الرومانية قبل المسيحية .. وقد قامت النهضة الأوروبية كما سبق أن بينا على أساس معاد للدين .. كما أنها رجعت إلى الأصول الإغريقية الرومانية تستمد منها ، بلاد من الأصول الدينية المسيحية التى كانت منسلخة منها منقلبة عليها ..
وحين قامت النهضة انقلب اتجاه التفكير فى أوروبا من ناحيتين اثنتين على الأقل ، كلتاهما تعضد الأخرى . فقد كان الفكر الأوربى فى فترة المسيحية الكنسية قائما على أصول دينية - بصرف النظر عما وقع فيها من تحريف عن الأصل الصحيح - أى أن مصدرها - فى حسهم - هو الله والوحى الربانى ! ثم إن هذا الفكر كان متجها إلى الآخرة على أساس أن الخلاص الحقيقى هناك ، وأنه لا خلاص فى الحياة الدنيا .. أما فكر النهضة فقد كان " إنسانية " من جهة ، وموجها إلى الحياة الدنيا من جهة أخرى . إنسانى لا بمعنى أنه مشغول بالقيم العليا الإنسانية ، أو " بالإنسان " كما ينبغى أن يكون فى صورته الكريمة اللائقة بإنسانيته ، ولكن بمعنى أن الإنسان - وليس الله - هو الذى ينبغى أن يكون مصدر المعرفة . وأن الفكر الإنسانى - لا الوحى الربانى - هو المرجع الذى يرجع إليه الإنسان فى النظر إلى أمور حياته ومتطلباتها . وفى والوقت ذاته كان هذا الفكر موجها إلى النظر فى الحياة الدنيا ومقتضياتها لا إلى الآخرة ومقتضياتها .
يقول رايوبرث عن عصر النهضة :(42/16)
" وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة وبمعارضته للسلطة وذويها ، وذهابه شوطا بعيدا فى اعتبار العالم كله وطنا له .. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة فى ذلك طريقة التفكير فى القرون الوسطى .. ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء " الإنسانيين " .. وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون " نمو الفردية " أعنى الرأى القائل بأن الإنسان ينبغى أن يفكر بنفسه لنفسه . وهو رأى كان قد أهمل فى عصر عبودية العقل (1)
ويقول جرين برينتون عن الحركة الإنسانية وفنونها :
" إنه طالما كانت العصور الوسطى فى الواقع عصورا دينية ، وطالما أن عصر النهضة يعنى على الأقل محاولة العودة إلى الوثنية اللادينية إن لم نقل الزندقة ، فإن فن العصور الوسطى يرتبط بالكنيسة ، أما فن عصر النهضة فيتمتع بحرية بوهيمية .. (2)
هذا الاتجاه المنسلخ من الدين ، المتجه إلى المادية ، لم يقفز دفعة واحدة من الروحانية الدينية إلى المادية اللادينية ، ولا استقام نحو هدفه فى طريق واحد خال من الذبذبات . ولكنه كان فى كل قفزة يتجه إلى المادية أكثر ، ويبعد عن الله أكثر ، وإن عاد فهى عودة مؤقتة سرعان ما يتخلص منها ويمضى مبعدا فى الطريق المنسلخ عن الدين . فقد انفصلت الفلسفة عن الدين بادئ ذى بدء ونبذت البحث فيما " وراء الطبيعة " كما كانوا يطلقون على أمور الغيب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى وخلقه لهذا الكون ، والغاية من هذا الخلق ، والوحى الربانى المتضمن للقيم الدينية التى ينبغى أن يتبعها الإنسان من أجل الخلاص فى الآخرة . واتجهت الفلسفة إلى دراسة " الطبيعة " والكون المادى ، والإنسان باعتباره كائنا موجودا فى الطبيعة ، لا بوصفه كائنا قد خلقه الله لغاية معينة وهدف يؤديه . وكان التقدم العلمى الذى حدث منذ بدء النهضة أحد العوامل الهامة التى ساعدت على اتجاه الفكر الأوربى ذلك الاتجاه من خلال المذهب العقلى والتجريبى .
يقول برينتون عن المذهب العقلى :
__________
(1) كتاب مبادئ الفلسفة ، ترجمة محمد امين - دار الكتاب العربى بيروت ص 119 - 120
(2) كتاب منشأ الفكر الحديث - ترجمة عبد الرحمن مراد ص 27
" فالمذهب العقلى يتجه إلى إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون ، ومن الوجهة التاريخية فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلى نحو الكون ..(1)
ويقول الدكتور محمد البهى عن المذهب التجريبى :
" إن تحصيل الإنسان للحقائق الكونية ومعرفته بها لا يكون إلا بالتجربة الحسية وحدها ، ومعنى ذلك أن الحس المشاهد لا غيره هو مصدر المعرفة الحقيقية اليقينية .. ففى العالم الحسى تكمن حقائق الأشياء . أما انتزاع المعرفة مما وراء الظواهر الطبيعية الحسية ، والبحث عن العلة فى هذا المجال ، فأمر يجب أن يرفض . ولهذا تكون كل نظرية أو كل فكرة عن وجود له طابع الحقيقة فيما وراء الحس نظرية أو فكر مستحيلة (2)
وهذا يتفق المذهب العقلى مع المذهب التجريبى فى البعد عن الله وتجنب البحث عن الغاية من الخلق ، والنظر فى " الطبيعة " بدلا من النظر فيما وراء الطبيعة أى فى عالم الجس بدلا من عالم الغيب .
ثم كان نيوتن ونظرياته خطوة دافعة على الطريق !
فقد اكتشف نيوتن بعض ما سمى عندهم " قوانين الطبيعة " التى يجرى الكون المادى بمقتضاها . وكشف عما يسمى عندهم " قانون السببية " أى القانون الذى يفسر ظواهر الطبيعة بردها إلى أسبابها الظاهرة . وقد كان هذا فى أوروبا ذريعة لنفى الأسباب غير الظاهرة وغير المحسوسة ، أى نفى الأسباب الغيبية (3)
يقول برينتون :
" إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة فى هذا العالم " . ويمضى فيقول : " الإله فى عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة . ولكن صانع هذه الساعة الكونية - ونعنى بها الكون - لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد ، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد . أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها . وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذا الساعة الكونية الضخمة ، الذى لا يستطيع إذا ما أراد التدخل فى شئون عمله (4)
ويقول :
" ولكن ثمة أناس ذهبوا إلى أبعد من ذلك واعتبروا فكرة الإله فكرة شريرة ، وخاصة إذا ما كان إله الكنيسة الكاثوليكية . وأطلقوا على أنفسهم بكل فخر اسم الملحدين . وهم يعتقدون ان ليس ثمة وجود لمسيح أو لإله المسيحية ، ويقولون إن الكون ليس إلا مجموعة متحركة ذات نظام معين يمكن فهمه باللجوء إلى السببية المعتمدة على أساس العلوم الطبيعية (5)
ويقول راندال :(42/17)
" إنه لأقرب إلى الطبيعى والمعقول أن نشتق من صور المادة كل شئ موجود لأن كل حاسة من حواسنا تبرهن على وجودها ، ونختبر كل لحظة نتائجها بأنفسنا . ونراها فاعلة متحركة ، تنقل الحركة وتولد القوة دون انقطاع ، من أن نعزو تكون الأشياء لقوة مجهولة ولكائن روحى لا يستطيع أن يخرج من طبيعته ما ليس هو بذاته ، كائن بعجز بحكم الجوهر المنسوب إليه أن يفعل أى شئ أو أن يحرك أى شئ (6)
هكذا سار الاتجاه المادى المادى الملحد بخطوات حثيثة حتى جاء القرن التاسع عشر ، فظهرت الفلسفة الوضعية التى تقول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل ، واعتبارها هى الأصل الذى ينبثق عنه كل شئ .. والذى يبعث الأفكار فى العقل البشرى ، وكان من أهم فلاسفتها " أوجست كومت " و " فرباخ "
ويذكر الدكتور محمد البهى فى تلخصيه الجيد للفكر الغربى فى تلك الفترة فى كتابه " الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى " أن هذه الفلسفة تدعو إلى سيادة الطبيعة ، إن لم نقل عبادتها ، قد قامت فى جو معين حيث تولدت الرغبة فى نفوس كثير من العلماء والفلاسفة لمعارضة الكنيسة التى كانت تملك نوعا خاصا من المعرفة تستغله فى معارضة خصومها وهى المعرفة الدينية ، فقام هذا الفريق من العلماء والفلاسفة بالهجوم الشديد عليها باسم العلم ، وقامت هذه الفلسفة الوضعية على أساس تقدير الطبيعة وحدها مصدرا للمعرفة اليقينية .. ثم يقول : " ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة فى نظرها هى التى تنقش الحقيقة فى ذهن الإنسان ، وهى التى توحى بها وترسم معالمها .. هى التى تكون عقل الإنسان . والإنسان - لهذا - لا يملى عليه من ذاته الخاصة .. إذ ما يأتى من ( ما وراء الطبيعة ) خداع للحقيقة وليس حقيقة !! وكذا ما يتصوره العقل من نفسه وهم وتخيل للحقيقة وليس حقيقة أيضا ! !
" وبناء على ذلك يكون " الدين " وهو وحى ( أى ما بعد الطبيعة خداعا ! هو وجى ذلك الموجود الذى لا يحدده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة .
__________
(1) المصدر السابق
(2) الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى ص 297
(3) انظر حديثا عن السببية ودورها فى الفكر فى فصل " العقلانية " من هذا الكتاب .
(4) منشأ الفكر الحديث ص 151
(5) المصدر السابق 152
(6) تكوين العقل الحديث ج1 ، ص 439
" هو وحى الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية . وكذلك " المثالية العقلية " وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعى . إذ هى تصورات الإنسان من نفسه من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التى يعيش فيها وتدور حوله (1)
" إن عقل الإنسان فى منطق هذه الفلسفة - أى ما فيه من معرفة - وليد الطبيعة التى تتمثل فى الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية .ز إنه مخلوق ، ولكن خالقه هو الوجود الحسى . إنه يفكر ، ولكن عن تفاعل مع الوحود المحيط به . إنه مقيد مجبر ، وصانع القيد والجبر هو حياته المادية . ليس هناك عقل سابق على الوجود المادى ، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان عن طريق الوحى .. عقل الإنسان ومعرفته يوجد أن تبعا لوجود الإنسان الماى . هما انطباع لحياته الحسية المادية التى يتنفسها " (2)
- - - - - - - - - - - - - - -
أما الجدلية فقد سبق إليها " فيشته " و " هيجل "
وقد كان الأصل فى التفكير الجدلى " الدياكتيكى " هو البحث عن تصور فلسفى يسمح بوجود المتناقضات فى الكون والحياة ويفسرها . ذلك أن المنطق اليونانى القديم ( الذى يسمى المنطق الصورى Fo r mal logic ) ينفى وجود التناقض فى الكون والحياة ، ويقيم تفكيره على أساس أن الشئ ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا . فوجود أى شئ هو ذاته نفى قاطع لوجود نقيضه .
ولكن الفكر الأوروبى منذ عصر النهضة - وأن كان قد رجع إلى الفكر الإغريقى يستمد منه - كانت له التفاتات مختلفة عنه فى مجالات متعددة . حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر الميلادى - عصر سيادة العقل فى الفكر الأوربى المسمى عندهم " بعض التنوير " - قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض فى الكون والحياة ويحاولون تفسيره ، من أبرزهم " فيشته " و " هيجل " . فأما فيشته " 1762 - 1814 م " - كما يقول الدكتور محمد البهى فى كتابه السابق الذكر - فقد استخدم مبدأ النقيض كى يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة (3) .. وأما " هيجل " " 1770 - 1831 " فيستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة ، ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد ، وتأكيد الوحى كمصدر أخير للمعرفة ، يعتبر الله سبحانه عقلا (4)
واستخدم هيجل مصطلحات خاصة به . هى الدعوى ومقابل الدعوى وجامع الدعوى ومقابلها ن وتصور أن هناك فكرة مطلقة أطلق عليها اسم العقل المطلق - وهو الله عنده - انبثقت عنه الطبيعة وهى تغايره تماما ، لأنها مقيدة ومتفرقة وهى عنده العقل المقيد . ثم انتقلت الفكرة من الطبيعة أو العقل المقيد إلى جامع يلتقى فيه الشئ ونقيضه وهو العقل المجرد الذى هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها ، وهو جامع الدعوى ومقابلها .(42/18)
وهذا العقل المجرد يتمثل فى القانون والأخلاق ، وفى الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة . إذن فالعقل المجرد الذى يتحقق فى أى وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين : جامع للفكرة فى العقل المطلق وهو الله ، وللفكرة فى العقل المقيد وهو الطبيعة .. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق ولا تحديد عقل الطبيعة ، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى (5)
وأما المنبع الثالث لفكر ماركس بعد الجدلية التى أخذها من هيجل ، والمادية التى أخذها من كومت فهو دارون ونظرية التطور .
جاء داريون يؤله الطبيعة ويقول عنها إنها تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق . ويؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية . وأن التطور ذاته - الذى أنشأ الحياة المادية الميتة أول مرة ، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان - هو نتيجة أسباب مادية بحتة ، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحى ، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحى الخروج عليها ولا معارضتها ولا الوقوف فى طريقها .
- - - - - - - - - - - -
ماذا بقى من فكر ماركس لم يسبق إليه ؟!
__________
(1) الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى الطبعة الثانية . ص 298 - 299
(2) المصدر السابق ص 299
(3) كان هذا قبل ظهور الفلسفة الوضعية المادية التى قالت بسيادة الطبيعة مقابل العقل والدين . والواقع أن الفلسفة الوضعية قامت ردا على الفلسفة العقلية التى سادت فى عصر التنوير .
(4) عن الفكر الإسلامى الحديث ص 289 بتصرف
(5) عن المصدر السابق ص 290 - 291 بتصرف
ومع ذلك فلم يكن عمل ماركس هو مجرد التجميع للأفكار السابقة والمعاصرة (1) فلقد أنشأ فلسفة مترابطة متكاملة - أيا كانت مصادرها الأولية - تشمل كل القضايا المحيطة بالإنسان ، وتشملها جملة وتفصيلا على نحو غير مسبوق فى الفكر الغربى . وليس هنا مجال تقويم هذه الفلسفة فى جملتها وتفصيلاتها (2) ولا مجال السؤال عن كونها - فى صورتها التى قدمها بها ماركس - كانت قمينة أن يتلفت إليها ويحتفى بها ، أم تترك " لتمر " كما مرت فلسفات كثيرة من قبل ، لتصبح فيما بعد " كلاما " يدرسه طلاب الفلسفة فى الجامعات . أم تهاجم الذى يقضى عليها ويجبها من منبتها .. لولا ذلك السند الضخم الذى لقيته من العناصر التى سعت لإقامة الشيوعية فى الأرض والدعاية لها فى الآفاق (3) .
إنما نحن هنا فى مجال تقديم الشيوعية كما قدمها أصحابها ، من خلال الموضوعات الثلاثة الرئيسية : المادية الجدلية والمادية التاريخية والمذهب الاقتصادى بين النظرية والتطبيق .
- - - - - - - - - - - - - -
أولا : المادية الجدلية
المادية الجدلية تصور خاص لقضايا الأولهية والكون والحياة والإنسان يقوم على أساس مادى بحت ، على أساس أن المادة هى الشئ الوحيد الأصيل فى هذا الكون ، وأن كل ما فى الكون ومن فيه منبثق من المادة ومحكوم بقوانين المادة ، ولا وجود له خارج نطاق المادة . كما يقوم هذا التصور من جهة أخرى على أساس وجود التناقض فى طبيعة المادة ، ومن ثم فى كل ما ينبثق عنها من مخلوقات ومن كيانات بما فى ذلك الكيان الإنسانى ، فهو كيان مادى من جهة ، ومحكوم بصراع المتناقضات من جهة أخرى . وتلك هى حقيقة كل أفكاره ومشاعره ، وكل نظمه ومؤسساته ، وكل قيمة ومبادئه ، وكل حركته خلال التاريخ .
وقد قلنا فى التمهيد السابق إن ماركس لم يكن هو مبتدع الجدلية أو التفكير الجدلى على العموم ، فقد أخذ هذا التفكير عن هيجل ، ولكنه خالفه فيه مخالفة أساسية ، إذا قال هيجل إن الفكرة هى الأصل وهى سابقة فى وجودها على المادة ومسيطرة عليها ، وقال ماركس إن المادة هى الأصل وهى سابقة على على الفكرة ومسيطرة عليها .
يقول ماركس : " لا يختلف منهجى الجدلى فى الأساس عن منهج هيجل فقط ، بل هو نقيضه تماما ، إذ يعتقد هيجل أن حركة الفكر التى يجسدها باسم الفكرة ، هى مبدعة الواقع الذى ليس سوى الصورة الظاهرية للفكرة، أما أنا فأعتقد على العكس ، أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان (4)
ومن ثم سميث جدلية هيجل الجدلية المثالية وجدلية ماركس الجدلية المادية أو المادية الجدلية .
أما أصل التسمية - فى لغتها الأصلية - فهى مأخوذة عن الإغريقية ، ومستمدة من الحوار الفلسفى الإغريقى Dialogos الذى كان يمثل وجهتى نظر مختلفتين تتجادلان حتى تتبين الحقيقة من خلال الجدل . وغالبا ما تكون الحقيقة مزيجا من وجهتى النظر المختلفتين ، ولكن يظهر جليا فى أثناء الحوار ( أو الجدل ) أن إحدى وجهتى النظر تأخذ فى التراجع المؤدى إلى التسليم ، بينما تأخذ وجهة النظر الأخرى فى التفوق حتى تتغلب فى نهاية الأمر ، وإن كانت فى غلبتها لا تلغى الأخرى تماما بل تبقى منها بقايا تظهر فى الحقيقة النهائية .(42/19)
والمادية الجدلية - كما سنبين فيما بعد - تتصور الأحداث - سواء كانت طبيعة ( مادية ) أو بشرية - على هذا النحو ذاته ،حيث تكون هناك قوة فى اتجاه معين وقوة أخرى مناقصة لها فى الاتجاه المضاد ، ثم يحدث الصراع الذى ينتهى بانهزام القوة الأولى - وإن كانت لا تزول تماما - وتغلب القوة الثانية وإن كانت غلبتها ليست تامة . ومن ثم فإن استعارة " الجدل " من ذلك الحوار الفلسفى مناسبة لذلك التصور ومعبرة عنه .
يقول ستالين فى تعريف الجدلية " الديالكتيك " :
" أخذت كلمة " ديالكتيك " من الكلمة اليونانية " دياليجو " ومعناها المحادثة والمجادلة . وكان الديالكتيك يعنى فى عهد الأولين : فن الوصول إلى الحقيقة باكتشاف المتناقضات التى يتضمنها استدلال الخصم ، وبالتغلت عليها . وكان بعض الفلاسفة الأولين يعتبرون أن اكتشاف تناقضات الفكر والمصادمة بين الآراء هما خير وسيلة لاكتشاف الحقيقة . فهذا الأسلوب الديالكتيكى فى التفكير ، الذى طبق فيما بعد على حوادث الطبيعة ، أصبح هو الطريقة الديالكتيكية لمعرفة الطبيعة .
" إن حوادث الطبيعة بموجب هذه النظرية هى متحركة متغيرة دائما وأبدا ، وتطور الطبيعة هو نتيجة تطور تناقضات الطبيعة نتيجة القوى المتضادة فى الطبيعة (5)
__________
(1) هيجل وكومت سابقان عليه ودارون معاصر له .
(2) سيأتى تقويم النظرية تاليا فى هذا الفصل ، بعد عرض خطوطها العريضة كما يقدمها أصحابها .
(3) سيأتى الرد على هذا السؤال ضمنا فى أثناء مناقشة النظرية .
(4) أصول الفلسفة الماركسية تأليف جورج بوليتزر وآخرين تعريب شعبان بركات ، ج1 ص 36 نقلا عن رأس المال لماركس .
(5) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية لستالين ص 14 - 15 من الترجمة العربية
ويقول كاريوهنت : " الجدلية إذن هى فكرة ونقيضها ، ثم تألف النقيضين ، فالفكرة تؤيد القضية ، والنقيض ينكرها ، أو بتعبير هيجل ينفيها . أما تألف النقيضين فيحتضن ما هو حقيقى : الفكرة ونقيضها ، وبهذا يقربنا خطوة نحو الحقيقية . ولكن حالما يتعرض تألف النقيضين إلى فحص أدق ، نجدها هى أيضا ناقصة . وهكذا تعود العملية فتبدأ من جديد بفكرة أخرى بنفيها ونقيضها ، ثم يجرى التوفيق بينها بتألف جديد للنقيضين .
" وبهذه الطريقة المثلثة يمضى الفكر حتى يصل فى النهاية إلى المطلق . وعندئذ يمكننا أن نواصل التفكير إلى مالا نهاية دون أن نشهد أى تناقض . وعلى هذا يطلق اصطلاح الجدلية على عملية التنازع والتوفيق التى تجرى ضمن الواقع ذاته داخل الفكر البشرى بشأن الواقع (1)
وسنعرف هنا الخطوط العريضة للمادية الجدلية كما قدمها أصحابها من خلال النقطتين التاليتين :
أولا : المادة : أزيلتها وأبديتها ,اسبقيتها فى الوجود على الفكر .
ثانيا : قوانين المادة التى تحكم " الطبيعة " وتحكم الحياة البشرية كذلك .
- - - - - - - - - - - - -
أولا : المادة : أزيلتها وأبديتها وأسبقيتها فى الوجود على الفكر :
جاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية لسبركين وياخوت " ( ترحمة محمد الجندى ص 39 من الترجمة العربية )
" . فليس للكون نهاية ولا حدود . العالم أبدى وليس له أى بداية ولن يكون له أى نهاية (2) ومن هنا فأى عالم " غيبى " غير مادى غير موجود ولا يمكن أن يوجد . وفى واقع الأمر إنه إذا لم يوجد شئ غير المادة فلا يوجد غير عالم مادى واحد . وهذا يعنى أنه عند الأشياء والظواهر المختلفة فى العالم المحيط بنا ، هناك خاصية واحدة توحدها هى ماديتها .
ويقول ستالين فى كتابه " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 29 من الترجمة العربية ) :
" وتقوم المادية الفلسفية على مبدأ آخر ، وهو أن المادة والطبيعة والكائن ، هى حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك أو الشعور وبصورة مستقلة عنه ، وإن المادة هى عنصر أول ، لأنها منبع الاحساسات والتصور والإدراك ، بينما الإدراك هو عنصر ثان مشتق ، لأنه انعكاس المادة ، انعكاس الكائن ، وأن الفكر هو نتاج المادة لما بلغت فى تطورها درجة عالية من الكمال . أو بتعبير أدق : إن الفكر هو نتاج الدماغ ، والدماغ هو عضو التفكير . فلا يمكن بالتالى فصل الفكر عن المادة دون الوقع فى خطأ كبير " .
وجاء كذلك فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادة التاريخية " ( ص 43 من الترجمة العربية ) .
" وجدت الطبيعة ليس فقط قبل الناس وإنما عموما قبل الكائنات الحية ، وبالتالى مستقلة عن الإدراك . وهى الأولية . أما الإدراك فلم يستطع التواجد قبل الطبيعة فهو ثانوى "
وجاء فيه كذلك ( ص 30 - 31 من الترجمة العربية ) :(42/20)
" يقول لوموسوف : إنه فى الطبيعة لا ينشأ شئ من لا شئ . ولا يختفى أبدا بلا أثر . ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن المادة ( الطبيعة ) قد وجدت دائما ، لأننا إذا سلمنا بأن فى وقت من الأوقات لم يكن هناك شئ فى العالم ، أى لم تكن توجد مادة فمن أين لها أن تشأ ؟ ولكن ما إن توجد المادة فهذا يعنى أنها لم تنشأ فى أى وقت من الأوقات ، بل وجدت دائما وستوجد دائما ، فهى أبدية وخالدة . ولهذا لم يمكن أن تخلق فلا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه ، وبذلك فالمادة لم تنشأ أبدا بل وجدت دائما وستوجد دائما فهى أبدية (3)
وجاء فى كتاب " المادية التاريخية " تأليف ف . كيلى م . كوفاللزون " ترجمة أحمد داود ومراجعة الدكتور بدر الدين السباعى ( طبع دار الجماهير بدمشق 1970 م ، ص 500 من الترجمة العربية )
" ثم إن العلم إذ يكشف عن الصلات الطبيعية بين ظواهر الطبيعة ، يطرد فى تطوره الإله من الطبيعة ويدحض خطل المثالية ، ويؤيد صحة النظرة المادية إلى العالم . والعلم يتفق مع المادية فى بحثه عن الحقيقة فى الحياة ذاتها وفى الطبيعة ، ويفسر ظواهر الطبيعة والمجتمع معتمدا على القوانين الموضوعية وهذا ما يدل على أن العلم الحقيقى ذو طابع مادى . إن العلم مادى طبيعته وبجوهره ، والمثالية غريبة عنه وعدوة له " .
وجاء فى كتاب " أصول الفلسفة الماركسية " ( تأليف جورج بولتيرز وآخرين ، تعريف شعبان بركات ، إصدار المكتبة العصرية ببيروت ، ج1 ص 206 من الترجمة العربية ) :
" ولقد أثارت النزعة المادية الجدلية هذه الصعوبات ، وفقدت فكرة " الله " كل محتواها ، ولم يعد النقاش حول وجود الله أو عدم وجوده - ذلك النقاش الذى أثار النزعة الإلحادية الساذجة غير الماركسية - يثار كما أثير سابقا ، لقد أصبح الله كما قال لابلاس : فرضية لا نفع فيها ..
__________
(1) الشيوعية نظريا وعمليا لكارينوهنت ص 28 من الترجمة العربية .
(2) يقصد أنه أزلى أبدى وليس أبديا فقط كما جاء فى التعبير .
(3) يقصد أنها أزلية أبدية
" ولا شك فى أن فكرة الله والعواطف الدينية موجودة ، وهى تتطلب تفسيرا ، وبدلا من القول بأن الإنسان كائن " إلها " يجمع فى ذاته العنصر الطبيعى (1) والعنصر الإلهى ، كما يجمع عنصر الموت والخلود فى هذه الحياة وفى الحياة الأخرى ، يجب القول بأن " الله " والديانة هما ظاهرتان إنسانيتان ، لإن العنصر الإلهى هو من إبداع الإنسان وليس الإنسان هو من إبداع الله .
ويقول ماركس فى كتاب " بؤس الفلسفة " ( ترجمة أندريه يازجى ، طبع دار اليقظة العربية بسوريا ووكتبة الحياة بلبنان ص 123 - 124 من الترجمة العربية ) :
" إن العزة الإلهية والهدف الإلهى هى الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ . والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئا "
ويقول إنجلز فى كتابه " لود فيج فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " ( إصدار دار التقدم بموسكو ص 16 من الترجمة العربية ) :
" فالطبيعة توجد مستقلة عن كل فلسفة ، فهى الأساس الذى نمونا عليه ، نحن الناس نتاجها أيضا . خارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شئ . أما الكائنات العلوية التى ولدت فى مخيلتنا الدينية فليست سوى انعكاس خيالى لوجودنا نحن "
تكفينا هذه النصوص " (2) لبيان الفكرة .
فواضح منها انهم يعتبرون المادة هى الأصل الذى انبثقت منه كل الكائنات ، الحية منها وغير الحية ، بما فى ذلك الإنسان . وإنها جميعا قد انبثقت عنها بطريق الخلق .
أى أن المادى هى الخالق الذى أنشأ الحياة وأنشأ الإنسان . ,أنشأ كل ما يحتوى عليه عالم الإنسان من أفكار ومشاعر .
أما المادة ذاتها فلم تخلق ، إنما كانت دائما موجودة وستظل دائما موجودة . أى أنها أزلية أبدية ، موجودة بذاتها ومنشئة لغيرها .
وأما الله - الأزلى الأبدى الخالق البارئ المصور المريد الفعال لما يريد - فهو عندهم خرافة ابتداعها خيال الإنسان . والحقيقة الوحيدة هى المادة ، والوحدة التى تجمع الكون هى ماديته .
( ( (
ثانيا : قوانين المادة التى تحكم الطبيعة وتحكم الحياة البشرية كذلك :
للمادة عند الماديين قوانين ثابتة تحكمها هى : الترابط والحركة والتطور والتناقض .
1- الترابط فى الطبيعة :
يقول ستالين فى كتاب " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 15 - 16 من الترجمة العربية ) :
" إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزقية - لا يعتبر الطبيعة تراكما فرضيا للأشياء ، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض ، أو أحداها مستقل عن الآخر ، بل يعتبر الطبيعة كلا واحدا ، ومتماسكا ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطا عضويا ، ويتعلق أحداها بالآخر ويكون بعضها شرطا لبعض بصورة متقابلة .(42/21)
" لذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن أى حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظر إليه منفردا بمعزل عن الحوادث المحيطة به . إذ أن أى حادث فى أى ميدان من ميادين الطبيعة ، يمكن أن ينقلب إلى عبث فارغ لا معنى له إذا نظر إليه بمعزل عن الشروط التى تكتنفه . وعلى العكس ، يمكن فيهم أى حادث من الحوادث وتبريره إذا نظر إليه من حيث ارتباطه ارتباطا لا ينفصم بالحوادث المحيطة به ، أى إذا نظر إليه كما تحدده وتكيفه الحوادث التى تحيط به " .
( ويلاحظ من كلام ستالين فى تعرضه للمتيافزيقيا أن الميتافيزيقيا التى كانت عندهم - والتى كانوا يواجهونها بالمادية الجدلية - كانت تفترض أن كل شئ من الأشياء قائم بذاته ولا صلة له بغيره من الأشياء ، وأنه لا ترابط فى النظام الكونى بين أجزائه المختلفة ) .
2- الحركة فى الطبيعية :
جاء فى كتاب " أصول الفلسفة الماركسية " ( ج1 ص 49 من الترجمة العربية ) :
" وفى الطبيعة لا يلعب الكون الدور الحاسم رغم أنه موجود وإنما تلعب هذا الدور الحركة والتطور والتغير . هذه الحركة ملازمة داخليا للمادة كخاصة جذرية لا تنفصل عنها ، ولا داعى لوضع السؤال التالى : من أين حصلت المادة على هذه الحركة ؟ لأنها موجودة منذ الأزل . ولهذا لا داعى للسؤال الذى يقول : من الذى أكسب المادة الحركة ، ما دامت لا تنفصل عنها ، وتعتبر شكلا من أشكال وجودها "
وجاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 34 من الترجمة العربية ) :
" ما قيل يعنى أنه لا يوجد فى العالم ظاهرة واحدة لم تكن نتيجة لحركة المادة وتطورها ، فهى تشمل كل شئ ، وفى كل مكان يمتد فعلها ، ولا يوجد شئ غير المادة المتحركة المتطورة ، وما يتولد عنها ، ولا يمكن أن يوحد . وهذا يعنى أنه لا يوجد غير عالم مادى واحد . ولهذا بالتحديد يشير إنجلز إلى أن وحدة العالم تنحصر فى ماديته . وبعبارة أخرى أن العالم واحد لأنه مادى "
ويقول ستالين فى كتاب " المادية الديالكتيكية " ( ص 16 من التجرمة العربية ) :
__________
(1) يقصدون المادى
(2) قام بجهد تجميع هذه النصور وغيرها مما جاء فى هذا الفصل ، أحمد العواشة ، فى رسالته الماجستير بعنوان موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادى للتاريخ ، بإشرافى وإشراف الأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميدانى .
" إن الديالكتيك - خلاقا للميتافيزيقيا - لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود . حالة ركود واستقرار . بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين . حالة تجدد وتطور لا ينقطعان ففيها دائما شئ يولد ويتطور شئ ينحل ويضمحل".
ويستشهد ستالين ( ص 17 من الترجمة العربية من الكتاب السابق ) بإنجلز حيث يقول الأخير : " إن الطبيعة من أضأل الأجزاء إلى أكبر الأجسام : من حبة الرمل إلى الشمس ، من البروتوزوا ( الخلية الحية الابتدائية ) إلى الإنسان ، هى فى حركة دائمة من النشوء والاضمحلال ، هى فى مد لا ينقطع فى حركة وتغير مستمرين وأبديين "
3- التطور فى الطبيعة :
يقول ستالين ( ص 18 من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية ) :
" إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزيقية - لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة ، لا تؤدى التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية ، بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغييرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغييرات ظاهرة وأساسية أى إلى تغييرات كيفية . وهذه التغييرات الكيفية ليست تدريجية بل هى سريعة فجائية ، وتحدث بقفزات من حالة إلى أخرى ، وليست هذه التغييرات جائزة الوقوع ، بل هى ضرورية ، هى نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية ، ولذل تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن من الواجب فهم حركة التطور ، لامن حيث هى حركة دائرية ، أو تكرار بسيط للطريق نفسه ، بل من حيث هى حركة تقدمية صاعدة وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة ، وتطور ينتقل من البسيط إلى المركب . من الأدنى إلى الأعلى " . .
ويستشهد ستالين 0 ص 20 - 21 من الترجمة العربية من الكتاب السالف الذكر ) بقول إنجلز :
" يمكن القول إن الكيمياء هى علم التغيرات الكيفية الناشئة فى الأجسام عن تغييرات كمية . وكان هيجل نفسه يعرف ذلك فى عهده . لنأخذ الأوكسجين فإذا جمعنا فى جزيئة ثلاث ذرات عوضا عن اثنتين كالعادة حصلنا على جسم جديد هو " الأوزون " الذى يختلف اختلافا بينا برائحته وبتأثيراته عن الأوكسجين العادى . وماذا نقول عن مختلف تراكيب الأوكسجين مع الأزوت أو مع الكبريت ؟ إن كل تركيب منها يعطى جسما مختلفة ن حيث الكيفية عن جميع الأجسام التى تعطيها التراكيب الأخرى . "
4- التناقض فى الطبيعية :
يقول ستالين ( ص 22 من الترجمة العربية من الكتاب السابق ذكره ) .(42/22)
" إن نقطة الابتداء فى الديالكتيك - خلافا للميتافيزيا - هى وجهة النظر القائمة على أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوى تنقاضات داخلية ، لأن لها جميعها جانبا سلبيا وإيجابيا ، ماضيا وحاضرا ، وفينا جميعا عناصر تضمحل أو تتطور . فنضال هذه المتضادات ، أى النضال بين القديم والجديد ، بين ما يموت وما يولد ، بين ما يفنى وما يتطور ، هو المحتوى الداخلى لحركة التطور . هو المحتوى الداخلى لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرت كيفية . ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من الأدنى إلى الأعلى لا تجرى بتطور الحوادث تطورا تدريجيا متناسقا ، بل بظهور التناقضات الملازمة للأشياء والحوادث ، بنضال الاتجاهات المضادة التى تعمل على أساس هذه التناقضات " .
وجاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " لسبركين وياخوت ( ص 72 من الترجمة العربية ) :
" فينحصر جوهر قانون وحدة صراع الأضداد فى أن جميع الأشياء والعمليات تلازمها جوانب داخلية متناقضة ، موجودة فى وحدة لا تنفصم ، وفى صراع مستمر فى نفس الوقت ، وصراع الأضداد هو بالتحديد المصدر الداخلى والقوة المحركة للتطور "
وجاء فى ص 71 من الترجمة العربية :
" نأخذ مجال الطبيعة الحية . هنا نرى بوضوح دور التناقض الجدلى كمصدر للتطور . من لا يعرف أن الأطفال يشبهون الآباء ولكنهم ليسوا نسخة منهم تماما . فالنمطية والجمود مع ذلك لا وجود لهما . يرجع هذا أولا وقبل كل شئ إلى أن قانون الوراثة يعمل إلى جانب نقيضه - قانون التغير - وهو يضمن " عدم تشابه " و " عدم تكرار " وتغير كل الأجسام وتطورها . والوراثة بدورها تثبت هذه الخواص فى السلالة ، بخلاف ذلك يمكن أن تختفى التغييرات . وهكذا يسوق الصراع الأبدى بين القوتين المتضادتين : القابلية للتغير والوراثة ، عملية تطور الطبيعة الحية . ويحدث اختيار طبيعى نتيجة للصراع بين هذين الضدين . تولد القابلية للتغير قسمات جديدة مفيدة . أما الوراثة فتجمعها فى السلالة . ونتيجة لذلك تتولد أنواع جديدة من الكائنات الحية . وليست القوة الخارجية ولا الرب ، إنما التناقضات الداخلية الطبيعة هى المصدر والمحرك الداخلى لعملية تطور الطبيعة الحية .
تلك هى قوانين المادة .
وليس بنا - سواء هنا فى مجال العرض أو فى مجال المناقشة التى تتلوه - أن نتعرض لهذه القوانين ومدى صحتها من الوجهة العلمية ، إنما الجانب ذى يهمنا أكثر من أى شئ آخر فى مجال بحثنا هو قولهم إن قوانين المادة بحذافرها تحكم الحياة البشرية فى جميع أشكالها وشتى ألوان النشاط فيها .
فأما عن الترابط فقد قالوا إن هناك ارتباطا لا ينفصم بين الأفكار والمشاعر وبين الأوضاع والتغيرات المادية .
يقول ستالين 0 ص 23 وما بعدها من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية ) .
" فإذا صح أن ليس فى العالم حوادث منعزلة ، إذا صح أن كل الحوادث مترابطة فيما بينها ويكيف بعضها البعض الآخر بصورة متبادلة ، فمن الواضح أن كل نظام اجتماعى وكل حركة اجتماعية فى التاريخ لا ينبغى الحكم عليها من ناحية " العدالة الأبدية " أو من ناحية أية فكرة أخرى مقررة سلفا ، كما يفعل المؤرخون على الغالب . بل ينبغى لنا أن نبنى حكما على أساس الظروف التى ولدت هذا النظام وهذه الحركة الاجتماعية المرتبطين بها . إن نظام الرق يكون فى الظروف الحاضرة خرقا وبدعة مضادة للطبيعة . ولكن نظام الرق فى ظروف المشاعية البدائية الآخذة بالانحلال ، هو حادث مفهوم ومنطقى ، لأنه يعنى خطوة إلى الأمام بالنسبة لنظام الشماعة البدائية .
" إن المطالبة بإقامة الديمقراطية البرجوازية فى ظروف القيصرية والمجتمع البروجوازى مثلا فى روسيا سنة 1905 كانت شيئا مفهوما وصحيحا وثوريا تماما لأن الجمهورية البرجوازية كانت تعنى إذ ذاك خطوة إلى الأمام .. ولكن المطالبة بإقامة الجمهورية الديمقراطية البرجوازية فى ظروف الاتحاد السوفياتى الحاضر ، تكون حرقا ، وشيئا رجعيا ومضادا للثورة ، لأن الجمهورية البرجوازية هى خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى الجمهورية السوفياتية ز كل شئ يتعلق بالظروف ، بالمكان والزمان .
ومن الواضح أن وجود علم تاريخى وتطور هذا العلم شيئان مستحيلان بدون هذا الفهم التاريخى لحوادث الاجتماعية ، فمثل هذا الفهم يمنع علم التاريخ من أن يصبح فوضى احتمالات وكون أخطاء سخيفة .
ويقول ماركس ( ج1 ص 30 من الترجمة العربية لكتابه الأيدلوجية الألمانية ) :(42/23)
" إن نتاج الأفكار والتصورات والوعى مختلط بادئ الأمر - بصورة مباشرة ووثيقة - بالنشاط المادة والتعامل المادى بين البشر ، فهو لغة الحياة الواقعية . إن التصورات والفكر والتعامل الذهنى بين البشر تبدو هنا على اعتبارها إصرارا مباشرا لسلوكهم المادى ، ينطبق الأمر نفسه على الإنتاج الفكرى كما يمثل فى لغة السياسة ولغة القوانين والأخلاق والدين والميتافيزيا .. إلخ عند شعب بكامله ، فالبشر هم منتجو تصوراتهم وأفكارهم .. حتى الأشباح فى العقل البشرى هى تصعيدات ناتجة بالضرورة عن تطور حياتهم المادية . التى يمكن التحقق منها تجريبيا والتى تعتمد على قواعد مادية ، ومن جراء ذلك فإن الأخلاق والميتافزياء وكل البقية الباقية من الأيدلوجية ، وكذلك أشكال الوعى التى تقابلها ، تفقد فى الحال كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتى فهى لا تملك تاريخها ، وليس لها أى تطور ، وأن الأمر على النقيض من ذلك ، فالبشر إذ يطورون إنتاجهم المادى وعلاقاتهم المادية ، هم الذين يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم على السواء مع الواقع الذى هو خاصتهم ، فليس الوعى هو الذى يعين الحياة ، بل الحياة هى التى تعين الوعى "
ويقول إنجلز ( ص 321 من الترجمة العربية لكتابه : أنتى دوهرنج ) :
" فإنه ينبغى البحث عن الأسباب الأ[خيرة لسائر التبدلات الاجتماعية والثورات السياسية ليس فى أدمغة البشر . ليس فى فهمهم النامى للحقيقة والعدالة الأبديتين ، بل فى التبادلات الطارئة على أساليب الانتاج والمبادلة " .
وأما عن الحركة فقد قالوا إن الحياة البشرية تتحرك لأنها من أشكال المادة :
يقول مؤلفا كتاب " المادة التاريخية ( ص 11 من الترجمة العربية ) :
" والمادية التارخية - خلافا للعلوم الأخرى - لا تدرس فقط هذه القوانين الخاصة أو تلك من قوانين تطور أشكال معينة لحركة المادة . وإنما هى تدرس القوانين العامة الشاملة للحركة المادية ، والمجتمع هو أيضا شكل لحركة المادة " .
أما التطور الذى قالوا إنه يحدث فى المادة فقد بنوا عليه تطورا حتميا فى المجتمع البشرى ، ومن ثم نفوا الثبات فى أى وضع من الأوضاع ولا قيمة من القيم :
يقول ستالين فى كتابه : " المادية الديالكتيكية " ( ص 25 من الترجمة العربية ) :
" وبعد . إذا صح أن العالم يتحرك ويتطور دائما وأبدا . إذا صح أن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانون للتطور ، أصبح من الواضح أن ليست هناك أنظمة اجتماعية ثابتة " غير قابلة للتغير " ولا مبادئ أبدية للملكية الخاصة والاستثمار ! وليست هناك " أفكار أبدية " عن خضوع الفلاحين لكبار ملاكى الأرض ، والعمال للرأسماليين "
ويقول ( ص 26 - 27 من الترجمة العربية لكتابه المادية الديالكتيكية ) :
" وبعد . إذا صح أن الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية وفجائية وسريعة هو قانون للتطور فمن الواضح أن الثورات التى تقوم بها الطبقات المضطهدة هى حادث طبيعى تماما ولا مناص عنه .
" وبالتالى فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وتحرر الطبقة العاملة من النير الرأسمالى يمكن تحقيقها لا بتغيرات بسيطة بطيئة ، ولا بإصلاحات ، بل فقط بتغير كيفى للنظام الرأسمالى : أى بالثورة " .
ويقول موريس كورنفورث فى كتاب " مدخل إلى المادية الجدلية " ( ص 107 من الترجمة العربية لمحمد سمتجير مصطفى ) :
ونجد هذا القانون عن تحور التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية فى المجتمع كذلك . فقبل أن يوجد نظام الرأسمالية الصناعية حدثت عملية من تراكم الثروة فى شكل نقود فى أيدى قلة ( عن طريق نهب المستعمرات أساسا ) ومن تكون بروليتاريا لا تملك شيئا عن طريق تسييج الأرض وطرد الفلاحين . وعند نقطة معينة من هذه العملية ، حين تراكمت النقود الكافية لتزويد المنشآت الصناعية برأس المال ، وحين تحول عدد كاف من الناس إلى بروليتاريا لتقديم العمل اللازم ، نضجت الظروف لتطور الرأسمالية الصناعية ، عند هذه النقطة ولد التراكم فى التغيرات الكمية مرحلة كيفية جديدة فى تطور المجتمع .
" وتحدث التغيرات الكيفية عموما بفجائية نسبية - بوثبة . إن شيئا جديدا يولد فجأة ، رغم أن إمكانياته كانت تحويها عملية التحول التدريجى للتغيرات الكمية المستمرة التى حدثت من قبل " .
أما التناقض فقد أثبتوه من قبل للمادة ، وحيث إن حركة المجتمع البشرى جزء من حركة المادة فقد احتوت على التناقص بداهة من منشئها المادة التاريخى ، وجرى التناقض فى كل حركة من حركات البشر على الأرض فى صورة صراع طبقى :
يقول ستالين ( ص 27 من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية ) :
" إذا صح أن التطور يجرى بانبثاق التناقضات الداخلية وبالنزاع بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات ، وأن غاية هذا النزاع هى قهر هذه التناقضات ، والتغلب عليها ، فمن الواضح أن اتصال البرولتياريا الطبقى هو حادث طبيعى تماما ولا مناص منه .
" وبالتالى لا ينبغى إخفاء تنقاضات النظام الرأسمالى بل ينبغى إبرازها وعرضها ، ولا ينبغى خنق النضال الطبقى بل ينبغى القيام به إلى النهاية "(42/24)
" وإذن لأجل اجتناب الخطأ فى السياسة ينبغى اتباع سياسة بروليتارية طبقية حازمة ، لا سياسة إصلاحية تقول بالتناسق بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية ، ولا سياسة تفاهمية تقول بإدماج " الرأسمالية فى الاشتراكية " وهذا ما تقول به الطريقة الديالكتيكية الماركسية لدى تطبيقها على الحياة الاجتماعية . على تاريخ المجتمع " .
إلى هنا كنا نتناول المادية الجدلية ، وقد أوردنا من كلامهم ما يبين وجهة نظرهم بالقدر الذى يكفى لتتبع المناقشة التى ستأتى فيما بعد .
والآن ننتقل إلى الكلام عن المادية التارخية . والحقيقة أن هناك ارتباطا وثيقا بين المادية الجدلية والمادية والتاريخية بحيث يصعب الفصل بينهما . وهم أنفسهم يقولون ذلك .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 12 من الترجمة العربية ) :
" إن المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية تظهران كعلم واحد ، وكفلسفة متكاملة ، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية ، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية ، فبماذا نفسر ذلك ؟
" أولا : بأنه لا يمكن وضع نظرة مادية ديالكتيكية علن العالم ككل ، إذا لم يتوفر التفسير المادى للحياة الاجتماعية . إذا لم يكن قد اكتشف أن المجتمع هو أيضا شكل لحركة المادة وخاضع فى تطوره لقوانين موضوعية كقوانين الطبيعة المادية والديالكتيكية غير ممكنة بدون المادة التاريخية .
" ثانيا : لأن الإجابة الصحيحة عن المسألة الأساسية فى الفلسفة حول أولوية المادة وثانوية الوعى غير ممكنة بدورها توضيح سبب وكيفية ظهور الوعى الإنسانى والدور الذى لعبه فى ذلك التطبيق العملى الاجتماعى التاريخى للناس ، إذ أن الإجدابة عن هذا السؤال تقدمها المادية التاريخية "
وجاء فى نفس الكتاب ( ص 13 - 14 من الترجمة العربية ) :
" إن تحريف المادية الديالكيتية يؤدى حتما إلى تشويه المادية التاريخية . إن المادية التاريخية لا تتوافق مع أية فلسفة أخرى غير المادية الديالكتيكية . إن الاعتراف بالمادية التاريخية مع نكران المادية الديالكتيكية ليس إلا زيفا خالصا وسفسطة مقززة (1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
ثانيا : المادية التاريخية
المادية التاريخية كما هو واضح من التسمية ، محاولة لتفسير التاريخ البشرى على الأسس المادية التى أوردناها فى شرح المادية الجدلية ، أى على أساس أن المادة أزلية أبدية ، وإنها هى الخالقة لكل ما فى الكون من مخلوقات : وأن الإنسان نتاج المادة ، والفكر نتاج المادة ! وإن قوانين المادة هى بذاتها التى تحكم حياة البشر الاجتماعية ، وأن الوضع المادى والاقتصادى هو الذى يكيف شكل الحياة البشرية فى أى وقت من أوقاتها وفى أى طور من أطوارها : وأنه هو الأصل الذى تنبثق منه الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التى ينشئها البشر فى حياتهم ، وأنه يأتى دائما سابقا لها ولا تجئ هى سابقة له بحال من الأحوال ، لأن المادة تسبق الوعى ولا يمكن للوعى أن يسبق المادة ؛ وأن الوضع المادى والاقتصادى فى تطور دائم ، ومن ثم فإن الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التى تنبثق عنه دائمة التطور كذلك ، بحكم ارتباطها بالوضع المادى والاقتصادى وانبثاقها عنه .
__________
(1) فى الترجمة كلمة " مقرفة " بدلا من " مقززة " وقد رأينا هذه أنسب !
وربما يحق لنا أن نبدأ الحديث عن المادية التاريخية من نقطة صلتها بالدروينية ونظرية التطور ن لأن ذلك قد يلقى الضوء على بعض مفاهيمها .
قدم دارون تفسيرا معينا لتطور " الحياة " من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان ، قرر فيه جملة " مبادئ " تأثرت بها المادية الجدلية والمادية التاريخية ، كان من جملتها :
أن " الطبيعة " تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق .
وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء ، أى أنه ليس لها مقصد معين من الخلق ولا غاية .
وأن الظروف المادية المحبطة بالكائن الحى هى التى تحكم حياته كما تحكم تطوره .
وأن الكائن الحى ليس حرا فى اختيار طريقة حياته ولا طريقة تطوره وإنما ذلك مفروض عليه من خارج كيانة من الظروف المادية المحيطة به .
وإن الإنسان ليس خلقا قائما بذاته إنما هو نهاية سلسلة التطور الحيوانى السابق لوجوده .
وإنه فى " تطوره " الأول الذى أوصله إلى حالته الراهنة كان محكوما بذات الظروف المادية التى حكمت خط التطور السابق له .
وأنه لا وجود لشئ " ثابت " فى عالم الأحياء ، لأن قانون " اللتطور " عو الذى يحكم الحياة والأحياء . يحكمها من خارج كيانها ودون خضوع لارادتها ، وبصورة حتمية .
ولعله قد اتضح الآن كم أخذت المادية الجدلية والمادية التاريخية من الداروينية ونظرية التطور ولكن فلننظر فى أقوالهم هم لنرى ماذا يقولون فى هذا الشأن .
يقول كورنفورث ( ص 21 من الترجمة العربية لكتاب " مدخل إلى المادية التاريخية " ) :(42/25)
" وتقدم المادية التاريخية أساس للعلم الاجتماعى بنفس الطريقة التى تقدم بها نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعى أساسا للعلم البيولوجى . فأيا كان النوع الذى يدرس فإنه قد تطور عن طريق الانتقاء الطبيعى وهذا يحدد كل طبيعته . وبالمثل ، أيا كان المجتمع الذى يدرس فإنه أصبح ما هو عليه بتكيف علاقات الانتاج مع الإنتاج ، والأفكار والمؤسسات مع علاقات الإنتاج " .
وجاء فى كتاب أصول الفلسفة الماركسية ( ج1 ص 37 من الترجمة العربية ) :
" وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير فى ذلك :
اكتشاف الخلية الحية التى تتطور عنها الأجسام المعقدة .
اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية ، فهى صور مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة .
نظرية التحول عند دارون فلقد أظهرت هذه النظرية اعتمادا على الحفريات ، وعلم تربية الحيوان ، أن جميع الكائنات الحية ( ومنها الإنسان ) هى ثمرات التطور الطبيعى " .
وجاء فى كتاس " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 16 من الترجمة العربية ) :
" وبذلك أعد تطور العلم - وخصوصا الاكتشافات الثلاثة فى العلم الطبيعى : قانون حفظ الطاقة ، ونظرية التكوين الحلوى للكائنات الحية ونظرية التطور لداروين - المقدمات العلمية لانتصار النظرية المادية الجدلية عن العالم ، التى وضعها كار ماركس وفردريك إنجلز " .
وسيتناول حديثنا عن المادية التاريخية أمرين : التفسير المادى للتاريخ ، والتفسير المادة للدين والأخلاق والأسرة .
أولا : التفسير المادى للتاريخ :
منن الطبيعى أن تكون الفلسفة التى يقوم عليها التفسير المادى للتاريخ فلسفة مادية بحتة ، سواء فى نظرتها إلى الإنسان " الذى له ، أو حركة هذا الإنسان على الأرض خلال التاريخ ، والعوالم التى تؤثر فى هذه الحركة .
والحق أن التفسير المادى للتاريخ لا ينكر وجود " القيم " فى الحياة البشرية ، ولا يفسر الحياة طعاما وشرابا وملبسا ومسكنا وجنسا فقط .. لكن الحق إلى جانب ذلك أنه ينفى نفيا قاطعا - كما ورد من كلامهم فيما سبق - أن تكون هذه القيم ثابتة ، أو أن تكون قائمة بذاتها ، أو أن تكون سابقة فى وجودها على الأوضاع المادية والاقتصادية ، أو أن تكون فى أى وقت من الأوقات منشئة لأوضاع مادية واقتصادية لم تكن قائمة من قبل ..
تبدأ النظرية من أن الانتاج المادى هو أساس الحياة البشرية كلها وأساس التاريخ البشرى :
يقول ماركس ( ص 37 من الترجمة العربية لكتابه" الأيدلوجية الألمانية " ) :
" وليس لنا بد مع الألمان المجردين عن أية مقدمات من أن نبدأ بتقرير المقدمة الأولى للوجود البشرى بكامله وبالتالى للتاريخ بأسره ، ألا وهى المقدمة التى تنص على أنه لابد للبشر من أن يكونوا فى مركز يمكنهم من العيش ، كما يكون فى مقدورهم أن يصنعوا التاريخ . بيد أن الحياة تشتمل قبل كل شئ على المأكل والمشرب والمسكن والملبس وأشياء عديدة أخرى . وهكذا فإن العمل التاريخى هو إنتاج الوسائط القمينة بسد هذه الحاجات . إنتاج الحياة المادية بالذات .. وبالفعل فإن هذا العمل عمل تاريخى . شرط أساسى للتاريخ بكاملة . لابد فى اليوم الحاضر مثلما كانت الحال قبل آلاف السنين من تحقيقه يوما فيوما ، وساعة فساعة لمجرد الإبقاء على الحياة الإنسانية "
وقوى الإنتاج المادى من ثم هى أهم عنصر فى الحياة .. وهى المقياس الذى يقاس به كل شئ :
جاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 151 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا فإن القوى المنتجة تعبر عن علاقات مادية بين المجتمع والطبيعة ، ومستوى تطور هذه القوى دليل على درجة سيطرة البشرية على قوى الطبيعة ، وبدوره يتجدد المستوى نفسه قبل كل شئ بأدوات العمل وتزويد الإنتاج بالطاقة وتنظيم التكنولوجيا العملية الإنتاجية وتطور العلم ، وكذلك بمستوى استخدام المنتجين المباشرين للقيم المادية للمنجزات العلمية " .
والعمل - العمل الذى يؤدى إلى الإنتاج المادى - هو محور الحياة ..
يقول إنجلز " يقول الاقتصاديون إن العمل هو مصدر كل ثروة . وإنه لكذلك فعلا . مع الطبيعة التى تقدم له المادى التى يحولها إلى ثروة ، ولكنه أكثر من ذلك أيضا إلى مالا نهاية . إنه الشرط الأساسى الأول لكل حياة بشرية . وإنه لكذلك إلى درجة ينبغى علينا معها - بمعنى ما - أن نقول " إن العمل قد خلق الإنسان ذاته " ( عن كتاب : نصوص مختار ، فردريك إنجلز ص 123 من الترجمة العربية ) .
وعلاقات الإنتاج هى التى تصور شكل الحياة البشرية فى أى طور من أطوارها .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 60 من الترجمة العربية ) :
" وبما أن أسلوب الإنتاج هو الذى يحدد نمط حياة الناس فى هذا المجتمع أو ذاك فإن جميع ظواهر الحياة الأخرى تتعلق بأسلوب الإنتاج وتكون نابعة منه ومشروطة به .
ويقول ماركس فى كتاب " بؤس الفلسفة " ( ص 112 - 113 من الترجمة العربية ) :(42/26)
" ترتبط العلاقات الاجتماعية وتتعلق بالقوى الإنتاجية . ولدى تحقيقينا لقوى إنتاجية جديدة يغير الناس نوع الإنتاج ، وعند تغييرهم لنوع إنتاجهم ، وعند تغيير طريقة كسبهم لمعيشتهم ، فإنه يغيرون كل العلاقات الاجتماعية ، إن الطاحونة التى تدار باليد تمثل لك مجتمعا يتحكم فيه السيد الإقطاعى ، وتمثل الطاحونة البخارية مجتمعا تتحكم فيه الصناعة الرأسمالية .
" إن نفس الناس الذين يؤسسون علاقاتهم الاجتماعية لتطابق إنتاجهم المادى ، تراهم ينتجون أيضا المبادئ والأفكار واللوائح لكى تطابق علاقاتهم الاجتماعية ، وهكذا فإن هذه الأفكار وهذه اللوائح ليست أبدية كالعلاقات التى تعبر عنها . إنها إنتاج تاريخى وفترة انتقال " .
ويقول ستالين فى كتاب " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 49 - 50 من الترجمة العربية ) :
" الخاصية الأولى للإنتاج أنه لا يقف أبدا مدة معينة فهو دائما فى حالة تغير ونمو ، وعلاوة على ذلك فإن أسلوب الإنتاج يؤدى بصورة حتمية إلى تغير النظام الاجتماعى بأسره وتغير الأفكار الاجتماعية والآراء والمؤسسات السياسية .
" إن المجتمع ذاته وأفكاره ونظرياته ، وآراءه ومؤسساته السياسية تتعلق من حيث الساس بأسلوب الإنتاج فى المجتمع ، أو بعبارة أبسط كل نمط من المعيشة يطابقه نمط من التفكير .
" ومعنى هذا أن تاريخ تطور المجمع هو قبل كل شئ تاريخ تطور الإنتاد وتاريخ أساليب الإنتاج التى تتعاقب خلال العصور . تاريخ تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج بين الناس " .
ويقول ماركس فى كتابه " الأيديولوجية الألمانية " ( ج 1 ص 39 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا فإنه من الجلى تماما منذ البداية أن ثمة رابطة مادية تجمع البشر بعضهم بعضا ، تتحدد بحاجتهم ونمط إنتاجهم ، وهى قديمة قدم البشر أنفسهم ، وإن هذه الرابطة لتتخذ على الدوام أشكالا جديدة ، وبذلك تمثل " تاريخا " حتى دون أن يوجد بعد أى هراء سياسى أو دينى يحقق - علاوة على ذلك - التماسك بين البشر " .
- - - - - - - - - - - - -
ينقسم التاريخ البشرى - بناء على القواعد السالفة الذكر - إلى خمسة أطوار رئيسية :
المشاعية الابتدائية ، والرق ، والإقطاع ، والرأسمالية ، ثم الاشتراكية الممهدة للشيوعية .
فبالنسبة للمشاعية الابتدائية :
جاء ى كتاب المادية التاريخية ( ص 335 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا فقد كان القطيع البدائى أول شكل انتقالى للمجتمع الذى حدث فيه تكوين الإنسان . ولقد ظهر هذا القطيع عندما انفصل الإنسان عن عالم الحيوان وبدأ بإنتاج أدوات العمل ، وما زال باقيا ( يقصد وظل باقيا) إلى أن تكونت ملامح الإنسان الحديث نتيجة لتطورها التدريجى البطئ " .
ويقول سيجال فى كتاب " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ" ( ص 8 - 9 من الترجمة العربية ) :
" لقد كان هذا النظام المشاعى البدائى ضروريا للمجتمع الإنسان فى تلك المرحلة من التطور . فلقد كان من المستحيل على المجتمع لو عاش أفراده حياة منعزلة مبعثرة ا، يخترع الأسلحة والأدوات البدائية وأن يحسنها فيما بعد . ولم يستطع الناس أن يحرزوا انتصاراتهم الأولى فى ميدان الكفاح ضد الطبيعة إلا بفضل حياتهم التعاوين . لقد كان اتحادهم فى بطن مشاعى هو قوتهم الرئيسة " .
ويقول ( ص 15 من الترجمة العربية ) :
" ولا تزال بقايا المشاعية البدائية موجودة حتى أيامنا هذه لدى عدد من الشعوب فى شكل مشاعية بدائية تملك الجماعات الزراعية فيها الأرض ملكا مشتركا ، وتوزع حصصا منها على أعضائها للتصرف فيها بصورة مؤقتة ، وليس يمكن بعد هذا أن يوضع موضع الشك وجود المشاعية البدائية كنقطة بدء فى تطور الشعوب كلها .
ويقول (ص 9 من الترجمة العربية ) :
لقد كان تطور مستوى قوى المجتمع المنتجة هو الذى يحدد ظروف النظام المشاعى البدائى . ومن الخطأ التصور أن الناس البدائيين هم الذين أوجدوا هذا النظام عن وعى منهم ، فلقد تشكل وتطور بصورة طبيعية ودون علاقة بإرادة الناس ووعيهم " .
ثم انحل هذا الطور وانتهى بصورة حتمية .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 161 من الترجمة العربية ) :
" ومع ظهور الإنتاج الفردى ظهر التناقض بين الملكية الاجتماعية والطابع الفردى لعملية الإنتاج ، هذا التناقض الذى يحل عن طريق القضاء على الملكية الاجتماعية وظهور الملكية الخاصة لوسائل ومواد الإنتاج ، وهذه هى الأسباب الرئيسة التى أدت إلى القضاء على النظام البدائى كحتمية طبيعية "
وحين انحلت المشاعية البدائية بظهور الزراعة وجدتة الطبقات ، ووجد صراع الطبقات ، الذى هو صراع على المصالح المادية :
يقول كورنفورث فى كتاب " مدخل إلى المادية التاريخية " ( ص 30 - 31 من الترجمة العربية ) :
" إنما صار تاريخ الإنسان فقط هو تاريخ الصراع الطبقى لتغير ظروف الإنتاج مع نشوء الزراعة . ثم التغير الهائل فى المجتمعات الرأسمالية "
وجاء فى كتاب " أسس المادة الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 162 من الترجمة العربية ) :(42/27)
" والمصالح الأساسية للفئات الاجتماعية والطبقات البشرية هى أولا وقبل كل شئ مصالح مادية اقتصادية تحدد فى نهاية الأمر المصالح السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية والجمالية والعلمية والفلسفية وغيرها "
ويقول ماركس فى كتاب " الأيديولوجية الألمانية " ( ص 56 من الترجمة العربية ) :
" إن أفكار الطبقة السائدة هى فى كل عصر الأفكار السائد أيضا . يعنى أن الطبقة التى هى القوة المادية السائدة فى المجتمع هى فى الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة . إن الطبقة التى تتصرف بوسائل الإنتاج المادى تمل فى الوقت ذاته الإشراف على وسائل الإنتاج الفكرى ، بحيث إن أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الذهنى تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة .
من المشاعية البدائية انتقل الناس إلى الرق :
يقول إنجلز فى كتاب أنتى دوهرنج ( ص 217 من الترجمة العربية ) :
" وإن تطبيق العبودية فى الظروف التى كانت سائدة فى ذلك الحين قد كان خطوة كبرى إلى الأمام ! (1)
ذلك أنه م الحقائق الواقعة أن الإنسان قد انبثق من الحيوان ، وبالتالى فلم يكن له بد من استخدام وسائل بربرية تكاد أن تكون وحشية من أجل تخليص نفسه من البربرية (2)
ونشأ الرق من مبعين أساسيين : الحرب والدين ذلك أن المدين الذى يعجز عن السداد كان يتحول إلى رقيق.
يقول ماركس : " كان الصراع الطبقى فى المجتمع القديم - وبالدرجة الأولى - صراعا بين الدائنين والمدينين ، وقد انتهى فى روما إلى زوال المدين من طبقة العامة وتحوله إلى عبد ( نقلا من كتاب لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ ص 17 من الترجمة العربية ) .
وفى مجتمع الرق ظهرت الدولة ونمت الثقافة وظهرت الفلسفة وتقدمت البشرية تقدما كبيرا يعزوه الماديون إلى الصراع الطبقى !
جاء فى كتاب المادية التاريخية ( ص 163 من الترجمة العربية ) :
" إن تجطور الصراع الطبقى والمعارف النظرية أدى إلى ظهور الفلسفة ، وحدثت اختلافات مهمة على صعيد الدين ، الذى تحول تدريجيا إلى أدة روحية لاستبعاد الجماهير ، وبهذا فإن انقسام المجتمع إلى طبقات يحدث انقلابا جذر يا فى البنيان الفوقى وفى حياة المجتمع الروحية كليها ، وفى المجتمع العبودى بالذات ظهرت لأول مرة كل الأشكال الراهنة للوضع الاجتماعى " .
وكانت معاملة الرقيق فى أوربا بالبشاعة التى يعرفها التاريخ . ولم تفلح ثورات العبيد فى تحسين أحوالهم ولا رفع الرق عنهم . ولكن لأسباب مادية واقتصادية بحتة بدأ عهد الرق ينهار .
يقول إنجلز فى كتاب " أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة " ( ص 236 - 237 من الترجمة العربية ) :
" لكن هذه العبودية المشرفة على الموت كانت لا تزال من القوة بحيث تجعل كل عمل من أعمال الإنتاج يبدو وكأنه عمل عبودى وضيع لا يليق بمقام الرومان الأحرار ..
__________
(1) التعجب من عندنا
(2) التعجب من عندنا
" إن المسيحية ليست مسؤولة قط عن هذا الزوال التدريجى للعبودية القديمة ، إذ هى قد جنت من ثمار العبودية فى الإمبراطورية الرومانية خلال قرون من الزمن ، ولم تفعل فيما بعد شيئا لا لمنع المسيحيين من المتاجرة بالرقيق - سواء الألمان فى الشمال أو تجار البندقية على البحر الأبيض المتوسط - ولا لحظر التجارة بالرقيق الزنوج فى السنين الأخيرة . وإنما زالت العبودية لأنها لم تعد تدرجا قط . لكنها بزوالها خلفت وراءها لسعتها السامة وذلك بوسمها عمل الأحرار فى الإنتاج بميسم الضعة ، فكان ذلك بمثابة الزقاق المسدود الذى وجد العالم الرومانى نفسه فيه ، كانت العبودية مستحيلة من الناحية الاقتصادية وكان عمل الأحرار مستهجنا من الناحية الأخلاقية . لم يعد فى وسع الأول أن يظل أساس الإنتاج الاجتماعى وكان الأخير لا يزال غير قادر على أن يكون أساس لهذا الإنتاج ، لم يكن ينفع فى هذا الحال سوى ثورة كاملة (1)
هذا من جهة .. ومن جهة أخرى كان اختراع المحراث الحديدى أهم تحول أدى إلى ظهور الإقطاع .
يقول سيجال فى كتابه " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ ( ص 21 من الترجمة العربية ) :
" كان نظام الرق شكلا اجتماعيا ضروريا من أشكال تطور القوى المنتجة فى مرحلة من مراحل التاريخ ولكن هذا التطور كان بدوريه سببا لانحطاط هذا النظام " .
جاء الإقطاع بصورته الأوروبية المعروفة .. وكانت الطبقتان المسيطرتان فيه هما طبقة كبار الملاك وطبقة رجال الدين . وبقية الشعب مسخر لصالح كلتا الطبقتين .. وأخذ الإقطاع جولته التاريخية " الحتمية " حتى تطورت أدوات الإنتاج باختراع الآلة وتعقدت علاقات الإنتاج القائمة وصارت غير مناسبة للمرحلة الاقتصادية الجديدة .(42/28)
جاء الإقطاع نتيجة ظروف مادية واقتصادية . فمن الناحية المادية كان اختراع المحراث الحديدى وتطور زراعة الأرض نتيجة إدخال أدوات جديدة أكثر صلاحية من أهم السباب التى أدت إلى ظهور الإقطاع ، ومن الناحية الاقتصادية كان لابد من تغيير علاقات الإنتاج بعد أن أصبح الرقيق - بحالته التى كان عليها - عاجزا عن الإنتاج ، أو بعبارة أخرى عاجزا عن تلبية مصالح السيد الاقتصادية ، لكثرة تمرده وهربه نتيجة المعاملة البشعة التى كان يتلقاها من السيد أو وكيله . وفى النظام الإقطاعى يملك السيد الأرض ولكن الفلاح الذى يعمل لحساب السيد يمكن أن يمتلك قطعة صغيرة من الأرض - بالقدر الذى يسمح به الإقطاعى - وله نصيب من الإنتاج - يحدده الإقطاعى كذلك - يعيش منه هو وأسرته .
ولكن نصيب الفلاح - فى مجموعة - كان أضأل من أن يوفر له الحياة الكريمة أو الحياة الصحية ، وكان هو وأسرته يعيشون فى حالة من الضنك الشديد ، وكثيرا ما كان الفلاحون يموتون بالمئات والألوف نتيجة الجوع أو الإصابة بالسل أو نتيجة أوبئة الفتاكة .
وبدأ نضال الفلاحين ضد الإقطاعيين لرفع الظلم الفاحش الواقع عليهم ، ولكنهم كانوا أضعف من أن ينالوا شيئا من الإقطاعيين المحصنين بقلاعهم المزودين بجيوش تحميهم ، كما أنه لم يكن للفلاحين تجمع ذو هدف محدد يخوض معركة منظمة ضد الإقطاعيين ، لذلك باءت ثوراتهم بالإخفاق ، ولكن من خلال التطور المادى والإقتصادى أخذ الإقطاع ينهار لتحل محله الرأسمالية .
نشأت الرأسمالية ( التى يسميها الشيوعيون البرجوازية لنشأتها فى المدينة Bou r jois ) نتيجة عدة عوامل أهمها اختراع الآلة التى أخذت تحل بالتدريج محل الإنتاج اليدوى ، كما اتسعت الكشوف الجغرافية وزاد حجم التجارة الأوربية (2) " ، كما أن ظاهرة العمل المأجور - أى تأجير العامل جهد يده من أجل الحصول على مطالب الحياة - كانت قد بدأت توجد فى المدن وإن كان حجمها فى بادئ الأمر لم يكن كافيا لتشغيل الحركة الصناعية الناشئة فقامت الثورة التى أدت إلى تحطيم الإقطاع .
يقول سيجال فى كتاب " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ " ص 33 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا نرى أن الإقطاعية التى كانت متوافقة عند نشأتها مع مستوى القوى المنتجة فى المجتمع صارت متناقضة مع القوى المنتجة المتنامية ، وصار الغاؤها ضرورة تاريخية "
__________
(1) لم يقل لنا كيف كانت هذه الثورة .
(2) نحن هنا - كما سبقت الإشارة - نعرض الأفكار ولا نناقشها ، ولكن لابد لنا هنا من تعليق بمناسبة الكشوف الجغرافية وزيادة حجم التجارة الأوربية يغفله المؤرخون الأوربيون عامدين ، ويستغل إغفالهم ذلك كل الذين يحبون طمس العنصر الدينى وآثاره فى التاريخ البشرى . فإن الحقيقة أن الحروب الصليبية الحديثة التى بدأت بعد طرد المسيحيين للمسلمين من الأندلس ، وملاحقتهم لمحاولة القضاء عليهم فيما وراء الأندلس ، كانت هى السب الحقيقى للكشوف الجغرافية ، وأشهر مثال على ذلك فاسكوا داجاما - الذى كشف لأوربا طريق رأس الرجاء الصالح - قال عند وصوله إلى جزر الهند الشرقية " الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل ليختنق فيموت " وقد كان الاستعمار الصليبى لبلاد الإسلام أهم العوامل فى تنشيط التجارة الأوروبية وإتاحة الفرصة للرأسمالية النامية لتستكمل نموها الظالم الجبار .
وفى ظل الرأسمالية حدث تقدم عظيم فى مجالات كثيرة منها المجال العلمى والمجال التكنولوجى لأن الرأسمالية تسعى دائما لزيادة الإنتاج من أجل الربح . كما نشأ تنظيم جديد للعمل يتعاون فيه مجموعة كبيرة من الناس فى العمل الواحد بدلا من العمل الفردى . ونشأ تحسين للطرق والمواصلات من أجل تصريف الإنتاج الصناعى فى داخل البلاد وخارجها . كما كان الاستعمال وسيلة للحصول على موارد رخيصة ومجالا لتصريف فائض الإنتاج ونشأت الأمم فى أوربا وحل الحكم الدستورى محل الحكم الملكى المطلق . ولكن هذا كله كان على حساب طبقة العمال المضطهدة ، التى تبذل الجهد الحقيقى فى عملية الإنتاج ولا تنال إلا أقل القليل .
يقول إنجاز فى كتاب " أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة " ( ص 279 من الترجمة العربية ) :
" ولما كان استغلال طبقة من قبل طبقة أخرى هو أساس الحاضرة ، فإن نموها كله يسير فى تناقض مستمر . كل خطوة إلى الوراء فى أحوال الطبقة المضطهدة أى الأكثرية العظمى . كل ما هو خير للبعض لابد أن يكون شرا للآخرين . كل تحرر جديد لإحدى الطبقات يعنى دائما اضطهادا جديا لطبقة أخرى . وأعظم دليل على هذا نجده فى إدخال الآلة ( يقصد الرأسمالية ) التى يعرف العالم بأسره أثارها الآن "
ويقول كور نفورث فى كتاب " مدخل إلى المادية التاريخية " ( ج1 - ص 73 من الترجمة العربية ) :(42/29)
" والسمة الأساسية لزيادة قوى الإنتاج التى نشأت فى إطار الرأسمالية هى تشريك العمل ( يقصد جعله مشتركا بدلا من أن يكون فرديا ) فلقد حلت محل الإنتاح الفردى الصغير قوة العمل الإجتماعى الذى يتعاون الناس فيه معا فى منشأت إنتاجية كبيرة تستخدم آلات تعمل بالطاقة . لكن هذه السمة تعوقها علاقات الإنتاج الرأسمالية التى تجعل التاريخ ملكا للرأسماليين . وتجبر الإنتاج الاجتماعى على ان يخدم الربح الخاص "
وجاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 174 من الترجمة العربية ) :
" إن تغيير علاقات الإنتاج الإقطاعية إلى علاقات رأسمالية يؤدى إلى إعادة تركيب البناء الفوقى الذى يبؤدى بدوره مع ملاءمته للقاعدة الجديدة إلى تغيير وجه المجتمع كله "
وجاء فيه أيضا ( ص 341 - 342 من الترجمة العربية ) :
" إن عصر الرأسمالية الصاعدة هو عصر نشوء الأمم . والماركسيون يذهبون إلى أن الأمة لم توجد قبل الرأسمالية لأن الشروط الاقتصادية اللازمة لنشوئها كانت لا تزال معدومة " (1) إن تكون الشعب من اختلاط مجموعات جغرافية مختلفة اتحدت فى الأرض واللغة والثقافة كان المنطلق لتكوين الأمة ، مع أنه ليس ضروريا أن تتألف الأمة من شعب واحد ، فكل الأمم الحديثة نشأت وتنشأ نتيجة لاتحاد الشعوب المختلفة . وهكذا فإن الأمة كشكل لتجمع الناس نشأت من متطلبات الإنتاج الرأسمالى وتنشأ على أساسه ، وهى تنشأ لأنه ضرورية من أجل تطور الإنتاج الرأسمالى الضخم "2"
وتأخذ الرأسمالية دورهالا ثم يجى التطور الحتمى ..
يقول سيجال فى كتابه " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ " ( ص 36 - 37 من الترجمة العربية ) :
" غير أن الرأسمالية - عندما تتطور قوى المجتمع المنتجة - تبدو يوما فيوما أقل قدرة على السيطرة عليها . وأجدى برهان على ذلك هو تلك الأزمات التى تأتى على نحو دورى فتزعزع النظام الرأسمالى وتدمر جزءا من القوى المنتجة . وهكذا تصبح الرأسمالية أكثر فأكثر عائقا فى طريق تطور هذه القوى التى ولدتها هى ذاتها ، ومن هنا يتبين أن إلغاء الرأسمالية بالطرق الثورية واستبدالها بالشيوعية ( يقصد استبدال الشيوعية بها لأن الباء تدخل على المتروك ) أى بمجتمع دون طبقات تكون وسائل الإنتاج فيه ملكا مشتركا يصبح ضرورة تاريخية "
والسبب الرئيسى فى ذلك هو التناقض المتزايد بين مصالح الرأسمالية ومصالح العمال ( طبقة البروليتاريا ) الذى يؤدى فى النهاية إلى ثورة طبقة البروليتاريا على طبقة الرأسماليين لنزع السلطة منها وإنشاء مجتمع بلا طبقات ، وتوزيع الإنتاج على الجميع دون استغلال طبقة لطبقة .
ولا يتم ذلك دفعة واحدة . فهناك مرحلة انتقالية ينتقل فيها الناس من الرأسمالية إلى الاشتراكية ، ثم إن المرحلة الاشتراكية تمهد للمرحلة الأخيرة وهى الشيوعية حيث يتحقق مبدأ " من كل حسب طاقته ، ولك حسب حاجته "
تنقضى المرحلة الأولى فى الكفاح لإزالة الطبقة المستغلة والقضاء عليها . حتى يمكن تأصيل المبادئ الجديدة المبنية على إزالة الطبقة وتحويل الملكية من ملكية فردية إلى ملكية جماعية . والعمل على زيادة الإنتاج لكى تتحقق المرحلة الأخيرى التى لا يمكن الوصول إليها إلا بزيادة هائلة فى الإنتاج تمكن كل إنسان أن يأخذ بحسب حاجته فى الوقت الذى يعمل حسب طاقته .
ثانيا : التفسير المادى للدين والأخلاق والأسرة :
__________
(1) - 2 نقول دون مناقشة للفكرة - ولكن للتذكرة فقط - إن هـ 1 قد يكون صادقا على نشأة الأمم فى أوربا مع الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر الميلادى . ولكن قبل ذلك بأحد عشر قرنا برزت إلى الوجود أمة قال عنها خالقها : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وانظر المناقشة فى مكانيها فيما بعد .
يقصد بالتفسير المادى للدين والأخلاق والأسرة أمران فى أن واحد . الأول : أنها ليست " قيما " قائمة بذاتها . ولا يمكن النظر إليها على هذا النحو ، ومن ثم فليس لها ثبات ولا قدسية ، والثانى : أنها فى ذات الوقت انعكاس للأحوال المادية والاقتصادية القائمة فى أى وقت من الأوقات . وكل وضع مادى أو اقتصادى قائم هو الذى ينشئ " الأفكار " المتعلقة بالدين والأخلاق والأسرة ، وتتغير هذه الأفكار تغيرا حتميا كلما تغير الوضع المادى أو الاقتصادى . وإليك أقوالهم فى كل أمر من هذه الأمور الثلاثة :
1- الدين :
يقول إنجلز ( ص 381 من الترجمة العربية لكتاب أنتى دوهرنج ) :
" ومهما يكن من شئ فليس الدين إلا الانعكاس الوهمى فى أذهان البشر لتلك القوى الخارجية التى تسيطر على حياتهم اليومية ، وهو انعكاس تتخذ فيه القوى الأرضية شكل قوى فوق طبيعية ( يقصد قوى خارقة ) .
ويقول كذلك ( ص 382 من نفس الكتاب ) :
" من الأزمنة الموغلة فى القدم - إذ وصل الفكر بالناس وهم بعد فى جهل تام ببنياتهم الجسدية الخاصة ، وتحت تأثير أحلامهم ، إلى القول بأن أفكارهم وأحاسيسهم ليست من فعل أجسادهم ذاتها ، بل من فعل روح خاصة تسكن هذا الجسد وتفارقه لحظة الموت - منذ ذلك الحين اضطروا لأن يصطنعوا لأنفسهم أفكار عن علاقات هذه الروح مع المعالم الخارجى .(42/30)
" وعلى هذا النحو تماما - عن طريق تشخيص القوى الطبيعية - ولدت الآلهة الأولى التى اتخذت خلال التطور اللاحق شكلا غير أرضى أكثر فأكثر ، إلى أن حدث أخيرا عملية تجريد .. فنشأ على نحو طبيعى خلال التطور العقلى أن تولدت فى عقل الناس من الآلهة المعتددين ذوى السلطة الضعيفة والمقيدة بعضهم حيال بعض ، فكرة الآله الواحد المنفرد فى الديانات التوحيدية " .
ويستشهد مؤلفو كتاب " أصول الفلسفة الماركسية ( ج1 . ص 296 - 297 من الترجمة العربية ) بهذه القولة لإنجلز .
" إن الدين يولد من نظريات الإنسان المحدودة . وهذه النظريات محدودة بعجز الناس البدائيين المطلق تقريبا أمام الطبيعة المعادية، التى كانوا لا يفهمونها ، وهى محدودة من ناحية ثانية بتعلقهم الأعمى بالمجتمع الذى لا يفهمونه والذى كان يبدو لهم أنه تعبير عن إرادة سامية . وهكذا كانت الآلهة - وهى الكائنات المهمة الجبارة المسيطرة على الطبيعة والمجتمع - انعكاسا ذاتيا لعجز الناس الموضوعى أمام الطبيعة والمجتمع ، وكان على تقدم العلوم الطبيعية والاجتماعية أن يظهر طابع المعتقدات الوهمى : الاعتقاد بوجود آلهة متعددة ، ثم الاعتقاد بوجود إله واحد .
وجاء فى كتاب " نصوص مختارة ، فردريك إنجلز " ( جمع جان كانابا ، ترجمة وصفى البنى ، ص 177 - 178 من الترجمة العربية )
" أما المجالات الأيدلوجية التى تحوم أعلى فى الفضاء كالدين والفلسفة .. الخ ، فإنها مؤلفة من بقية - تعود إلى ما قبل التاريخ وقد وجدها العهد التاريخى أمامه فالتقطها - لما نسميه اليوم غباء . إن هذه التصورات المختلفة الخاطئة عن الطبيعة . وعن تكوين الإنسان ذاته ، وعن الأرواح ، وعن القوى السحرية ، ليس لها فى الغالب إلا أساس اقتصادى سلبى ، فالتطور الاقتصادى الضعيف لعهد ما قبل التاريخ تكون فيه كتكملة - ولكن كذلك على نحو جزئى كشرك أو حتى كسبب - تصورات خاطئة عن الطبيعة " .
هذا عن نشأة الدين ( أى فى فترة الشيوعية البدائية ) أما عن تطوره نتيجة تغير الأوضاع المادية والاقتصادية فغنه فى عهد الرق والإقطاع استغل لتخدير الكادحين حتى لا يشعروا بالظلم الواقع عليهم ، ولتمنيتهم بنعيم الجنة تعويضا عن عذاب الدنيا .
جاء فى كتاب أصول الفلسفة الماركسية ( ج 2 ، ص 106 - 107 من الترجمة العربية ) :
" لم تحرم الكنيسة الكاثوليكية الرق ، ولذلك وجد رقيق فى أوربا فى العصر الوسيط . ولقد علمت الكنيسة الأرقاء أن يطيعوا سيدهم . واضطرت الأسياد المحاربين حقا إلى احترام " هدنة الله " وهددتهم بالنار الأبدية . ولكنها بهذا الإجراء قد أنقذت قبل كل شئ المزروعات الضرورية لحياة المجتمع ، كما حفظت الإنتاج وأمنت تفشى المجاعة واندلاع نار الثورة وهكذا تحمى فى النهاية الإقطاعية ضد تصرفات الإقطاعيين المغالية (1)
ويقول موريس كورنفورث ( ص117 - 118 من الترجمة العربية لكتابه : " مدخل إلى المادية التاريخية " ):
__________
(1) يفهم من هذا النص أن الكنيسة قامت بدور مزدوج : إخضاع الرقيق للسادة من جهة ، ومنع السادة من إساءة معاملة الرقيقة من جهة أخرى . لكن الغالب فى كلام الشيوعيين أن يؤكدوا الدور الأول ولا يشيروا إلى الدور الآخر ، وعلى أى حال فقد ربط النص عملية تعميق الدين فى النفوس بأسباب وغايات اقتصادية
" وفى أوج الإقطاع فى أوربا الغربية كانت للكنيسة الكاثوليكية مكانة هائلة ، وسادت العقيدة الكاثوليكية الفلسفة والأدب والفنون ، ولقيت هذه العقيدة مساندة السلطة الزمنية - مساندة الحكام الإقطاعيين ودولهم والقوانين - ولا يمكن تفسير الحماس القاسى الذى كانت الكنيسة تلاحق به الهراطقة وتلقى فيه مساندة الحكام بمجرد الهوس الدينى فلماذا وجد هذا الهوس ؟ لقد استقرت العقيدة الكاثوليكية كجزء أساسى فى النظام الاجتماعى وأحست الكنيسة عن حق - كمالك كبير للأرض إلى جانب كبار ملاك الأرض الآخرين - بخطر التمزق الاجتماعى الكامن خلف كل هرطقة .
ويقول إنجلز عن الحروب الدينية التى سادت فى العصور الوسطى ( ص 169 - 170 من الترجمة لكتاب المادية التاريخية ) :
" إن ما يسمى بالحروب الدينية . كانت تتضمن مصالح طبقية مادية إيجابية ، فقد كانت هذه الحروب حروبا طبقية تماما .. ورغم أن الصراعات الطبقية كانت عندئذ مغلفة بشعارات دينية ، ورغم أن مصالح وحاجات ومطالب مختلف الطبقات كانت مختلفة خلف شعار دينى ، فلم يبدل هذا شيئا من الأمر ، ويمكن تفسيره ببساطة من واقع ظروف تلك الأيام "
أما فى عصر الرأسمالية فقد ضعف الدين فى أوربا ، وهذا تفسيرهم لهذه الظاهرة :
يقول جورج سول فى كتاب " المذاهب الاقتصادية الكبرى " ( ترجمة الدكتور راشد البراوى ، ص 49 - 51 من الترجمة العربية ) :(42/31)
" فإذا كانت المصادر القديمة قد أخطأت فى نظراتها إلى العالم الطبيعى أما كانت كذلك مخطئة فى نظراتها إلى السلوك البشرى ؟ أصبح كل شئ موضع التساؤل والشك ، وعلى ذلك سمى العلم فلسفة ، ولم يعد هناك تمييز بين الميادين التى عنى كل منهما بفحصها ، وأخذ الكتاب والمتفلسفون يعيدون البحث فى النظم البشرية تماما كما كانوا يفعلون بالنسبة إلى الأشياء غير البشرية ، وهم فى تصرفهم هذا كانوا يسلمون بأن الإنسان جزء من الطبيعة وليس كائنا منفصلا عن بقية المخلوقات أوجدته العناية الإلهية وتولت رعايته .
وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأساليب بالنسبة إلى السلوك البشرى - سواء أكان مرغوبا فيها أم غير مرغوب - عن طريق قوانين الطبيعة ، بدلا من البحث عنها فى إرادة الله كما قالت الكتب المقدسة أو المذاهب الكنسية ، ومعنى هذا - بتعبير آخر - أن علينا أن نسترشد فى أعمالنا وتصرفاتنا بالعقل دون سلطة القدامى .
" وصار لزاما على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجوده فى الطبيعة ، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان - وإن لم يكن فى الواقع كما هو أغلبهم - فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها ، وليس بوسيلة مباشرة ! وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شئ له وجود فحسب ، وإنما هو شئ ينبغى أن يطاع ، وصارت مخالفتها دليلا على نقص التقوى والأخلاق "
ويقول كورنفورث ( ج 2 ، ص 107 من الترجمة العربية لكتاب أصول الفلسفة المراكسية ) :
" ومع ظهور البرجوازية برزت أفكار دينية وفلسفية جديدة . ففى مجال الدين بدأ التأكيد على ضمير الفرد وعلاقة الفرد المباشرة بالله ، ودعا الفلاسفة إلى سيادة العلم والعقل ، ومن هذه الزاوية أخضعوا الأفكار الإقطاعية للنقد المدمر ، ودرسوا من جديد أسس المعرفة ، وحاولوا أن يبينوا كيف يمكن توسيع المعرفة ووضع الإنسانية فى طريق التقدم ، وكانوا فى ذلك يخدمون البرجوازية الجديدة فى التخلص من الإقطاع ودعم الرأسمالية " .
ولكن البرجوازية أحست بأن نبذها للدين خطر عليها فعادت إلى احتضان الدين وتسخيره لمصالحها .
يقول كورنفورث ( ج 2 ، ص 107 - 108 من الترجمة العربية ) :
" ولهذا رأينا البرجوازية حينما شعرت بالتهديد ، أعادت الدين عن قصد وتبنته - بعد أن سخرته لخدمة حاجاتها - فقوته ودعمته وجعلته جزءا لا يتجزأ من البناء الفوقى الرأسمالى ، ثم أعلنت أن التعليم الدينى والتعليم العلمانى يتمم الآخر (1)
أما الشيوعية فموقفها من الدين واضح .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 80 من الترجمة العربية ) :
" إن الدين لا يتولد من القاعدة فى الظروف الاشتراكية ، وإنما يوجد كجزء من مخلفات القديم ، كبقية من البنيان الفوقى للتشكيلات السابقة ، وسوف يتم القضاء عليها فى عملية بناء الشيوعية ، ويتضمن البرنامج الجديد للحزب الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى تأكيدا على ضرورة استخدام مختلفة وسائل التأثير الفكرى للقضاء على الخرافات الدينية ، ومن أجل نشر تربية علمية "
وجاء فى كتاب " أصول الفلسفة الماركسية ( ج 1 ص 297 من الترجمة العربية ) :
__________
(1) قد يكون هذا حقا بنلاسبة " للتخطيط " الرأسمالى ولكننا لا نرى له أثرا واقعيا فى المجتمع الغربى المتحلل .
" ولهذا كان الفلاح فى روسيا القديمة - وقد أرهقه الفقر وفقد كل أمل فى المستقبل - يستسلم للإرادة الإلهية . ولقد جاءت الثورة الاشتراكية فوضعت فى يد المجتمع السيطرة على قوى الإنتاج ، ومكنته فى نفس الوقت من إدارة المجتمع بصورة علمية ، كما زادت سيطرته على الطبيعة ، فوجدت عندئذ الظروف الموضوعية لتنمحى من وعى الناس الأفكار الدينية التى ولدتها ظروف موضوعية أخرى " .
" وأخيرا يقول ماركس قولته الشهيرة : " الدين أفيون الشعوب " .
2- الأخلاق :
يقول إنجلز ( ص 114 - 115 من الترجمة العربية لكتابه أنتى دوهرنج ) :
" وهكذا فإننا نرفض كل محاولة لإلزامنا بأية عقيدة أخلاقية مهما كانت على اعتبارها شريعة أخلاقية أبدية ، نهائية ، وثابتة أبدا ، بحجة أن للعالم الأخلاقى أيضا مبادئه الدائمة التى تنهص فوق التاريخ وفوق الفوارق بين الأمم .. إننا ننادى على النقيؤض من ذلك بأن سائر النظريات الأخلاقية قد كانت حتى هذا التاريخ ، فى آخر تحليل ، نتاجا لأوضاع المجتمع الاقتصادية السائدة فى زمنها " .
ويقول ( ص 115 ) :
" وما دام المجتمع قد تطور حتى الوقت الحاضر ضمن التضادات الطبقية ، فإن الأخلاق كانت على الدوام أخلاقا طبقية ، فهى إما أن تبرر سلطة الطبقة الحاكمة ومصالحها ، وإما أن تمثل - حالما تحوز الطبقة المضطهدة ما يكفى من القوة - التمرد على تلك العقيدة ، ومصالح المضطهدين المقبلة فى الوقت نفسه " .
وفى مجال التطور الأخلاقى المرتبط بتطور الأوضاع الاقتصادية تجئ مثل هذه الأقوال :
جاء فى كتاب " النظرية الماركسية اللينينية : فى المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " تأليف أيرزرين ورفيقه ( ترجمة خيرى الضامن ، ص 439 من الترجمة العربية ) .(42/32)
" لقد ولدت علاقات الإنتاج الجماعية فى النظام المشاعى البدائى عادات وتقاليد جماعية وأخلاقا جماعية عند الناس البدائيين ، وعندما واجه الناس فى مجرى تطور القوة المنتجة علاقات أصبح فيها التمتع الشخصى ببعض الأشياء أكثر سهولة لعملية الإنتاج ، تغيرت آراء الناس أيضا ، وأصبحت الملكية الشخصية لبعض الأشياء .. وهى الملكية التى كانت تعتبر فى المراحل السابقة لا أخلاقية ، أو غير طبيعية وغير معتادة على أقل تقدير ، أمرا لا ضير فيه ، ولا يتعارض مع المصلحة العامة "
وجاء فى كتاب المادية التاريخية ( ص 457 من الترجمة العربية ) :
" إن أخلاق مجتمع عهد الرق هى أول شكل للأخلاق الطبقية ، فقد كانت أخلاق مالكى الأرقاء هى السائدة فى ذلك المجتمع ، وهى إذا نشأت على أساس العلاقات الاقتصادية للنظام الرقى ، كانت تعكس العلاقات القائمة بين الأرقاء ومالكيهم بالدرجة الأولى . إن الخاصية المميزة لهذه الأخلاق هى أنها كانت لا تعترف بالعلاقات الإنسانية إلا بين الأحرار من الناس . لقد كان الرقيق خارج الأخلاق . وهو سلعة وشئ ، وأداء ناطقة .. ولهذا فقد كانت الأخلاق تسمح بظلمه وجلده وقتله ، ولم تكن تلك المعاملة الوحشية للرقيق لتوقظ أى " تأنيب ضمير " لدى مالكه ، وكانت الأخلاق تبررها ، لكن هذا التبرير لم يكن إلا ضرورة اقتصادية أملتها العلاقات ضرورة اقتصادية أملتها العلاقات الرقية لذلك العصر (1)
وجاء فى نفس الكتاب ( ص 547 - 548 من الترجمة العربية ) :
" ومع الانتقال إلى الإقطاعية صارت الأخلاق الإقطاعية هى السائدة ، فهى لا تنتظر إلى القن كشئ ، وإنما كإنسان من الدرك الأسفل ( العظم الأسود ) بينما كانت تنظر إلى ممثلى الطبقة السائدة كبشر من الصنف الممتاز ( العظم الأبيض ) وإلى جانب هذا فقد كانت الأخلاق الإقطاعية تخفى ظلم الإقطاعيين الوحشى للفلاحين وتقنع الشكل الإقطاعى للاستغلال ، ولقد كانت تصور بنفاق كبير علاقة السيد بفلاحيه كعلاقة الأب ببنيه ، يوجههم ويرعاهم ويتحمل المسئولية عنهم .
" إن دين المجتمع الإقطاعى قام بتفسير الأخلاق السائدة وبوضع الأسس لهالا ، إذ صور مطالبها وحدودها التى تعبر فى الواقع عن مصالح المستغلين كأوامر إلهية . والأخلاق الإقطاعية التى ارتكزت على الدين ساعدت على كبح جماح جماهير الفلاحين المسحوقة السوداء (2)
أما فى ظل الرأسمالية فقد حدث تقدم ظاهرى يخفى المضمون الحقيقى للأخلاق الطبقية الاستغلالية .
جاء فى نفس الكتاب ( ص 458 - 459 من الترجمة العربية ) :
__________
(1) هذا الكلام صادق ولا شك ، ومع أننا هنا فى مجال العرض لا فى مجال المناقضة فإننا نشير فقط مجرد إشارة ضرورية فى هذا الموضع - إلى أن الأخلاق التى يتحدث عنها الماديون هذا الحديث هى الأخلاق الجاهلية أى غير المستمدة من المصدر الربانى ، وهذه يصدق عليها ما يقال عنها فى الغالب ، ولكنهم فى كلامهم لا يفرقون بين الأخلاق الجاهلية والأخلاق الربانية .
(2) هذا أيضا صحيح ، ولكننا نشير فقط إلى أن " الدين " الذى ارتكزت عليه الأخلاق الإقطاعية لم يكن هو الدين المنزل من عند الله . كما سبق بيان ذلك فى التمهيد الأول من هذا الكتاب ، إنما كان دينا جاهليا من صنع الكنيسة
" ومع هذا فقد أحرز التقدم الاجتماعى خطوة إلى الأمام على صعيد الأخلاق ، فالأيديولوجيون البرجوازيون إذ يناضلون ضد الأيديولوجية والأخلاق الإقطاعيتين ، ناضلوا فى سبيل حرية الفكر ، وحرية النشاط من أجل تحرير الفرد من كل القيود الإقطاعية الممكنة ، ولكنه مع انتصار الرأسمالية يتكشف المضمون الحقيقى لأفكار الحرية والمساواة والإنسانية البرجوازية . فالمساواة البرجوازية شكلية ، وهى تخفى تبعية العامل للرأسمالى ، والاستغلال الشديد الوطأة للمنتج المباشر . المقيد اقتصاديا من قبل الرأسماليين بقيود أقوى من أية قيود حديدة أخرى . إن الحرية البرجوازية هى تمتع الرأسماليين بحرية نشاط المؤسسة ، وفى الاستيلاء على عمل الآخرين ، وهى بالنسبة للبرليتارى بيع قوة عمله أو الموت جوعا ، والإنسانية البرجوازية أيضا هى إنسانية مجردة ، فالرأسمالية فى الواقع لا تخلق الشروط الواقعية لتطور وازدهار الشخصية ، وأكثر من ذلك فهى تحول كرامة الإنسان إلى قيمة تبادلية ، والعلاقات بين الناس إلى علاقات نقدية ، قاضية على أى نوع من الصلات بين الناس إلا صلة المصلحة المكشوفة ، صلة الدفع الخالى من العلاقات الإنسانية .
" إن مبدأ الفردية هو السائد فى سلوك البرجوازى إلا أنه ليس من مصلحة البرجوازية أن تعلن عن مصالحها الجشعة بصورة سافرة ومكشوفة ، إن البرجوازى يسعى لتبرير أنانيته وفرديته فى الوعى الأخلاقى ، إذ يصور السعى لبلوغ أهدافه الجشعة كاهتمام بالمصلحة العامة . وهنا تتجلى الفردية الحيوانية " كحرية الفرد " ويتجلى استعمار العمال " كأنقاذ للمحرومين من الجوع و " كتقديم الخبز للجائعين " ويتجلى انتاج السلع من أجل الحصول على الأرباح " كتأمين المواد الضرورية للمجمع " ، ويتبدى استعباد الشعوب الأخرى كعملية " تمدين " لها .(42/33)
" ولهذا فإن ما يميز الأخلاق البرجوازية هو طابعها المنافق عندما تتقنع شريعة الغاب فى عالم الملكية الخاصة بستار من تعاليم الأيدلوجيين البرجوازيين (1)
وأما أخلاق الشيوعية فلندعهم هو يصفونها بأقلامهم .
جاء فى نفس الكتاب ( ص 471 - 572 من الترجمة العربية ) :
" إن الماركسية تنتقد دونما تحفظ محاولات علماء الاجتماع البرجوازيين ، والبرجوازيين الصغار ، لجعل الاشتراكية قائمة على " أساس أخلاقى " أى بناء نظرية الاشتراكية على أساس المبادئ الخلقية المجردة كالعدالة الخالدة والحق المطلق وغيرهما ، دون أن ينطلقوا من القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعى . وبهذا المعنى فى الواقع ليس فى الماركسية مثقال ذرة من الأخلاق كما يقول لينين .
" إن الظلم وغيره من وجهة النظر الماركسية ليس أساسيا وإنما هو نتيجة للرأسماالية . والاشتراكية لا تحتاج إلى أساس أخلاقى . وإنما إلى أساس علمى " ..
" إن أهم مبادئ الأخلاق الشيوعية نحو العمل ، والاهتمام برعاية وزيادة الأموال الاجتماعية . وفى العلاقة نحو العمل بالذات وقبل كل شئ . يتجلى الإطار الروحى الجديد للناس الذين تربوا فى المجتمع الاشتراكى . وتتلاءم مع الأخلاق الشيوعية تلك العلاقة الشريفة الطيبة نحو العمل . العلاقة نحو العمل كإبداع وكأسمى واجب للفرد تجاه المجتمع .
" إن الأخلاق الشيوعية تدين المهملين والمتقاعسين والطفيليين . إن إرادة العيش على حساب الآخرين تتناقض مع أساس المجتمع الاشتراكى ، ومع أخلاقه " .
ومن ناحية أخرى يقول إنجلز :
" إن الأخلاق التى نؤمن بها هى كل عمل يؤدى إلى انتصار مبادئنا مهما كان هذا العمل منافيا للأخلاق المعمول بها " (2)
ويقول ليبنين :
" يجب على المناضل الشيوعى الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل . فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية " 2 "
ويقول أيضا :
" إذا لم يكن المناضل الشيوعى قادرا على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقا للظروف مهما تطلب ذلك من كذل وتضليل وخداع فإنه لن يكون مناضلا ثوريا حقيقيا (3)
3- الأسرة :
لا يختلف تفسيرهم للأسرة عن تفسيرهم للدين والأخلاق من حيث إنها انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية ، ومن حيث إنها متطورة على الدوام ، وليست " قيمة " ثابتة ولا قائمة بذاتها .
يقول جان فريقيل فى كتاب " المرأة والاشتراكية " ترجمة جورج طرابيشى ( ص 17 من الترجمة العربية ) .
" لا تشكل الأسرة كيانا اجتماعيا خالدا ، ولقد طرأت عليها تبدلات عديدة عبر القرون ، وهذا التطور يتحدد فى التحليل الأخير بالعامل الاقتصادى "
ثم يرسمون خطا تطوريا للأسرة يعتمد فى مراحله الأولى على ما اكتشف من أحوال القبائل المتأخرة فى مختلف قارات الأرض ، أو ما يتصورونه من أحوالها فى بعض الأحيان ( كحديثهم عن أسرة الجيل ) .
ويقسمون أطوار الأسرة إلى : أسرة الجيل ، وأسرة الشركاء ، والأسرة الزوجية والأسرة الوحدانية .
__________
(1) هذا أيضا صحيح وواضح - كما أشرنا فى فصل " الديمقراطية " - أن الرأسمالية نظام جاهلى بحت .
(2) و 2 عن كتاب اشتراكيتهم وإسلامنا ، تأليف بشير العوف ص 36 - 37
(3) المصدر السابق ( ص 37 )
فأما أسرة الجيل ( التى يتصورونها تصورا ) فقد كانت العلاقات الجنسية مباحة فيها بين جميع أبناء الجيل الواحد أى بين الإخوة والأخوات ، ومحرمة فى مادون ذلك أى بين جيل الآباء وجيل الأبناء .
يقول إنجلز فى كتاب " أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة " ( ترجمة أديب يوسف ص 56 - 57 من الترجمة العربية ) :
" فى هذه المرحلة ( أسرة الجيل ) تصنف المجموعات الزواجية تبعا للأجيال ، جميع الأجداد والجدات ضمن حدود الأسرة هم أزواج وزوجات بالتبادل ، وكذلك الأمر فى أولادهم : الآباء والأمهات ، كما أن أولاد هؤلاء يؤلفون هم أيضا حلقة ثالثة من الأزواج والزوجات المشتركين . ويؤلف أولاد هؤلاء أعنى أولاد الأحفاد للأجداد والجدات حلقة رابعة ، وهكذا : فى هذا الشكل من الأسرة يحرم السلف والخلف فقط - الآباء والأولاد - من حقوق وواجبات زواج أحدهم بالآخر .
" إن أسرة الجيل قد انقرضت وحتى أخشن الشعوب التى يتحدث عنها التاريخ لا تمدنا بأمثلة على هذا الشكل يمكن التثبت عنها (1)
ويقول ( ص 53 - 54 من الترجمة العربية ) :
" ولئن كان ثمة أمر أكيد فهو أن الغيرة عاطفة نشأت فى عهد متأخر نسبيا ،وهذا يصدق على مفهوم " المحرم " لأن الأخ والأخت لم يكونا وحدهما يعيشان فى الأصل كما يعيش الزوج والزوجة ، بل إن العلاقات الجنسية بين الآباء والأولاد مسموح بها أيضا لدى شعوب عديدة حتى اليوم (2) وقبل اختراع المحارم ( لأن المحارم اختراع حقا ، بل اختراع ثمين جدا ) لم يكن الوصال الجنسى بين الآباء والأبناء ليثير من الاشمئزاز أكثر مما يثيره الوصال بين أشخاص من أجيال مختلفة - كذلك الذى يحدث فعلا اليوم حتى فى أكثر البلاد تظاهرا بالتزمت - من دون أن يثير النفرة الشديدة " .
ثم يقول ( ص 58 وما بعدها ) :(42/34)
" إذا كان التقدم الأول يتألف من حرمان الآباء والأولاد من العلاقات الجنسية المتبادلة ، فإن التقدم الثانى يتألف من حرمان الأخوة والأخوات منها .. وقد حدثت هذه الخطوة بالتدريج ، مبتدئة فى أقرب الاحتمالات (3) بحرمان الأخوة والأخوات الطبيعيين ( أى من جهة الأم ) من العلاقات الجنسية ، وذلك فى حالات متفردة فى أول الأمر ، ثم أصبح حرمانهم بالتدريج هو القاعدة ، وتنتهى هذه الخطوة بتحريم الزواج حتى بين الأخوة والأخوات الأباعد " .
" فى جميع أشكال الأسرة الجماعية لا يعرف من هو والد الولد معرفة أكيدة ، أما والدته فتعرف معرفة أكيدة"
" وفى أغلبية الحالات يبدو (4) أن مؤسسة العشيرة قد انبثقت مباشرة من أسرة الشراء "
ويقول عن المرحلة التالية ، مرحلة الأسرة الزوجية ( ص 72 - 73 من الترجمة العربية ) :
" فى هذه المرحلة يعيش الرجل الواحد مع امرأة واحدة ، لكن تعدد الزوجات والخيانة الزوجية يلان من امتيازات الرجال ، وإن لم يكن تعدد الزوجات يمارس إلا نادرا لأسباب اقتصادية فقط ، وفى الوقت ذاته يطلب من المرأة الإخلاص التام طوال فترة العيشة المشتركة ، فإذا زنت عوقبت بقسوة . غير أن رباط الزيجة يمكن حله من قبل أى الطرفين ، فيرجع الأولاد إلى أمهم كما كان الأمر فى السابق "
ثم يقول عن المرحلة الأخيرة - وهى الأسرة الوحدانية - ( مقتطفات من ص 95 - 102 من الترجمة العربية):
" إن الأسرة الوحدانية مبنية على سيطرة الرجل ، وهدفها الصريح إنتاج أولا لا يشك فى صحة أبوتهم ، هذه الأبوة التى لابد منها لكى يرث الأولاد فى يوم ما ثروة أبيهم ، بوصفهم ورثته الطبيعيين (5) وتختلف الأسرة الوحدانية عن الأسرة الزوجية فى أن رباط الزواج أمتن جدا منها ، ولا يعود حله الآن رهنا برضى أى من الطرفين بل يصبح الرجل - كقاعدة عامة - هو وحده الذى يستطيع الآن حل هذا الرباط وتسريح زوجته .
" كانت الزيجة الوحدانية تقدما تاريخيا عظيما ، لكنها فى الوقت ذاته دشنت هى والرق والثروة الخاصة ( يقصد الملكية الفردية ) ذلك العهد القائم إلى اليوم ، الذى يكون فيه كل تقدم تقهقر نسبيا أيضا ، العهد الذى يدرك فيه بعض الناس مصلحتهم وتطورهم بشقاء الناس الآخرين واضطهادهم .
" كانت الزيجة الوحدانية أول شكل للأسرة مبنى لا على أحوال طبيعية ( يقصد كتلك التى كانت أيام الشيوعية الجنسية ) بل على أحوال اقتصادية ، أى على انتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة البدائية ، الطبيعية النشأة " .
أما الأسرة فى ظل الشيوعية ، فهى كالدين والأخلاق ..
جاء فى كتاب " المرأة والاشتراكية " ( ص 51 من الترجمة العربية )
__________
(1) كيف تتثبت إذن ؟
(2) لا نعرف مدى صحة هذا الكلام من الناحية العلمية .
(3) الأمر إذن أمر احتمالات .
(4) يبدو يعنى أنه ليس مؤكدا
(5) يقول الماديون إن الوراثة والنسب قبل ذلك كانت عن طريق الأم ، وإن الرجل - حين زادت ثروته وزاد نفوذه - قام بانقلاب تاريخى ، فحول الوراثة والنسب إلى طريق الأب . ليورث ثروته لأبنائه ، فلزمه أن يتأكد من بنوة أبنائه له .
" يقول إنجلز . إن العلاقات بين الجنسين ستصبح مسألة خاصة لا تعنى إلا الأشخاص المعنيين والمجتمع لن يتدخل فيها . وهذا سيكون ممكنا بفضل إلغاء الملكية الخاصة ، وبفضل تربية الأولاد على نفقة المجتمع ، وبنتيجة ذلك يكون أساسا الزواج الاهنان قد ألغيا ، فالمرأة لن تعود تابعة لزوجها ولا الأولاد لأهلهم ، هذه التبعية التى لا ما تزال موجودة بفضل الملكية الخاصة "
ويقول إنجلز فى كتابه " أصل الأسرة " ( ص 118 من الترجمة العربية ) :
" فبانتقال وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة لا تبقى الأسرة الفردية هى الوحدة الاقتصادية للمجتمع ، وينقلب الاقتصاد البيتى الخاص إلى صناعة اجتماعية ، وتصبح العناية بالأطفال وتربيتهم من الشئون العامة . فيعنى المجتمع عناية متساوية بجميع الأطفال سواء كانوا شرعيين أم طبيعيين ، وبذلك يختفى القلق الذى يستحوذ على قلب الفتاة من جراء " العواقب " التى هى فى زمانها أهم حافز احتماعى - اقتصادى وخلقى - يعوقها عن تقديم نفسها بلا حرج لمن تحب . أفلن يكون هذا سببا كافيا لازدياد حرية الوصال الجنسى شيئا فشيئا ومن ثم لنشئو رأى عام أكثر تساهلا فيما يتعلق بشرف العذارى وعار النساء ؟!
كلام صريح لا يحتاج إلى تعليق !
- - - - - - - - - - - - -
تقويم النظرية المادية
المادية الجلدية والمادية التاريخية كما تبين من العرض السابق شيئان مترابطان فى الفكر الشيوعى لا ينفصل أحدهما عن الآخر ، ولا يفهم أحدهما فهما صحيحا بمعزل عن الآخر .. والحقيقة أن المادية الجدلية هى القاعدة التى تقوم عليها المادية التاريخية ، والمادية التاريخية هى التطبيق التفصيلى للمادية الجدلية ، أو أن العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين العظام والأنسجة الحية فى الكائن الحى .. لذلك يجدر بنا أن نناقشهما معا مجتمعين ، بدلا من أن نناقش كلا على حدته ، فنضطر إلى التكرار فى أكثر من موضع من مواضع الحديث ..(42/35)
وإذا أخذنا نناقش المادية الجدلية والمادية التاريخية فيجدر بنا أن نركز الحديث على قضايا أساسية معينة ، تندرج تحتها القضايا الأخرى كلها . وهذه القضايا الرئيسية هى : التفسير المادى للخالق ، والتفسير المادى للإنسان ، والتفسير المادى للقيم المحيطة بحياة الإنسان فى الأرض .
فإذا اتضح لنا وجه الحق فى هذه القضايا الرئيسية فإن القضايا الفرعية المترتبة عليها تكون أيسر فهما وأقل حاجة إلى النقاش .
أولا : التفسير المادى للخالق :
المادة أزلية أبدية : " لم يكن هناك وقت لمو تكن المادة فيه موجودة . ولا يجئ وقت لا تكون فيه موجودة ".
والمادة هى الخالق . هى التى خلقت الحياة والإنسان : " الإنسان نتاج المادة " .
أى شئ من صفات الله لم يلحق بالمادة ؟ إلا القصد والتدبير والحكمة . وإلههم الذى يدعونه لا حكمة له ولا قصد ولا تدبير !
- - - - - - - - - - - -
لا شك أن ماركس وإنجلز وأضرابهما لم يكونوا أو الملحدين فى أوربا . فقد كانت موجة الإلحاد قد تفشت من قبل بين العلماء والمفكرين من جراء مفاسد الكنيسة وعبثها بدين الله .
ومن قبل قال دارون : إن الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق . وقال : إن الطبيعة تخبط خبط عشواء !
ومذهب عبادة الطبيعة - لا يزيد كما أشرنا من قبل - على أن يكون مهربا وجدانيا من إله الكنيسة الذى تستعبد الناس باسمه وتستذلهم وتبتز أموالهم وتحجر على عقولهم وأفكارهم ، إلى إله آخر له معظم خصائص الإله الأول ، ولكن ليست له كنيسة ولا التزامات ، وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم لا سلطان لأحد عليهم .. إلا الهوى والشهوات!
ولكن الطبيعة على أى حال كانت تمثل فى وجدان عبادها شيئا حيا ، مبهما غير محدد السمات ، يرون " مظاهره " فى الجبال والأنهار والأشجار والأزهار والمطر والرياح والبرق والرعد والإنسان والحيوان .. أما القدرة على الخلق وإعطاء كل شئ صورته التى هو عليها ، وتنسيق وظائف كل كائن بما يلائم ظروفه .. إلى آخر تلك الصفات التى هى فى حقيقتها صفات الخالق: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [سورة طه 20/50].. وقد كانت تضفى على الطبيعة بصورة أقرب إلى خيال الفن منها إلى واقعية الفكر فضلا عن واقعية العلم .. صورة سحرية مبهمة غامضة لا تستطيع أن تمسك بها أو تحددها ، ولكما حاولت تحديدها أفلتت منك ، لأنها بطبيعة الحال وهم لا حقيقة له ، وعبادها أنفسهم لم يخرجوها من دائرة الوهم إلى نور الفكر المجدد للسمات والصفات .
ورغم أن الكلمة جرت على ألسنة العلماء كأنها حقيقة فلا شك أنها كانت عندهم - كما كانت عند غيرهم - مهربا وجدانيا أكثر مما هى عقيدة حقيقية .
كانت وثنا يلجأون إليه : يلقون إليه بحيرتهم ودهشتهم كلما فاجأهم سر من أسرار الكون العجيبة التى تشهد أن لا إله إلا الله .. فيهربون عنده من الإقرار بما يجول فى صدورهم ولا يريدون الإقرار به حتى فى سرهم وخلوتهم مخافة أن تلحق بهم الكنيسة فتوقعهم فى قبضتها ، ويحسبون أن الاحتماء بهذا الوثن سيخلصهم من حيرتهم وينقذهم منها وهيهات !
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [سورة النمل 27/14]
ولو أنهم كاشفوا أنفسهم بدلا من مغالطة أنفسهم بالوهم ، لسألوا أنفسهم هذا السؤال البدهى القريب : ما الطبيعة على وجه التحديد ؟ وأين تكمن قدرتها على الخلق ؟ فى أى مكان منها ، أم ليس لهذه القدرة مكان ولا حيز ؟
فإذا لم تكن محسوسة ولم يكن يحدها المكان ولا الحيز ، وكانت " غيبا " لا تدركه الأبصار ، إنما تدرك أثاره فقط ومظاهره ، فما الذى يبرر فى منطق العقل أن نعدل عن الاسم الحقيقى ، اسم الله ، ونلجأ إلى مسميات ما أنزل الله بها من سلطان ؟ أو - إن كان الله فى منطق الإلحاد لا حقيقة له - فما الذى يبرر - فى منطق العقل أو فى منطق العلم - أن يقول قائل إنه ليس حقيقة حين يكون اسمه الله جل جلاله ، ثم يكون هو ذاته حقيقية حين يكون اسمه "الطبيعة " ؟ !
أهو الخوف من الكنيسة وطغيانها ؟
أو هو البغض لها والحقد عليها ؟
فليكن !
فلنهجر الكنيسة ونفر منها إلى الله الحق ، وهو إله لا كنيسة له فى الحقيقة ولا رجال دين !
ولكن أوربا الجاهلية لم ترد أن تدخل الإسلام .. ففرت من جاهلية الكنيسة إلى جاهلية لا تقل سوءا ولا انحرافا .. إن لم تكن أشد !
هذه هى الطبيعة التى " تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق " والتى " تخبط خبط عشواء " ! لم تكن قط فى يوم من الأيام " حقيقة علمية " إنما كانت مهربا من أزمة فكرية روحية فى ذات الوقت ، واجهت أوربا وحدها - لظروف محلية عندها - ولم تواجه الفكر البشرى فى مجموعة ولا الضمير البشرى !
أما المادة الأزلية الأبدية الخالقة فما قصتها ؟
وكيف نناقشها مناقشة " علمية " ؟ !
دع جانبا ما يصار يعلمه صغار الطلاب فى المدارس من أن القول بأن " المادة لا تفنى ولا تستحدث " لم يعد صحيحا من الوجهة العلمية ، وهو القول الذى تصيدوه تصديا فى نهاية القرن الماضى ليبنوا عليه تفسيرا " علميا " ! للكون والحياة والإنسان , ولقضية الألوهية كذلك !(42/36)
ودع جانبا ما صار يعلمه طلاب الجامعات من البحوث الجيولوجية والفيزيائية من أن الكون المادى " حدث" ذات يوم ولم يكن موجودا من قبل ، وأن عمر هذا الون المادى فى سبيله أن يحدد تحديدا علميا دقيقا على ضوء المعلومات التى ترسلها الأقمار الصناعية التى تدور حول الشمس وغيرها من الأفلاك .
دع ذلك جانبا ، فلم يكن ماركس وإنجلز ولينين مطالبين بثقافة علمية أكبر من ثقافة عصرهم الذى وجدوا فيه (1) ولكنهم مسئولون ولا شك مسئولية كاملة عن تلك الفرية التى لا يقوم عليها أى دليل علمى ، وهى أن المادة هى التى تخلق ، وأن من بين خلقها الإنسان !
ما الدليل العلمى على هذه الفرية ؟
متى شوهدت المادة وهى تخلق ؟ وكيف تخلق ؟ !
يقول جورج إيرل دافز عالم الطبيعة : " فالمنطق الذى نستطيع أن نأخذ به ، والذى لا يمكن أن يتطرق إليه الشك هو أنه ليس هنالك شئ مادى يستطيع أن يخلق نفسه (2)
إن المؤمنين بالله ورسله يقولون إن الله ينشئ الخلق من العدم ، وإنه يقول للشئ كن فيكون ، وهم لا يزعمون أنهم يدركون الكيفية التى يخلق الله بها الخلق . ولكنهم لا يقولون إن الله مادة ، وإن الماداة تخلق المادة ، لأن هذا خبل لا يقوله عاقل .
إن المؤمنين بالله ورسله لم يروا الله جهرة ، لأن سبحانه وتعالى : {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [سورة الأنعام 6/103] ولكنهم رأوا من آثار قدرته ما يدل عليه :
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/95-99]
__________
(1) العجيب هو إصرار اتباعهم على الأقوال المزيفة بعد أن أثبت العلم بطلانها !
(2) من كتاب " الله يتجلى فى عصر العلم " ص 41
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)} [سورة النمل 27/60-64]
ورأوا من أثار هذه القدرة ما يدلهم على أنه إله مقتدر ، حكيم مدبر ، لا يخلق شيئا عبثا ، ولا يخلق شيئا بالباطل ..
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [سورة الملك 67/3]
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)} [سورة الرعد 13/8]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص 38/27]
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115]
والشيوعيون لا يؤمنون بذلك كله . فلا نحاسبهم بمنطق الإيمان لكنها نحاسبهم بمنطق " العلم " الذى يزعمون أنهم يقيمون عليه نظرياتهم وتطبيقاتهم كلها جميعا !!
أى منطق وأى علم يقول إن المادة يمكن أن تخلق المادة ؟
بل أى منطق وأى علم يقول إن الخالق - أيا كان هو - يمكن أن يخلق ما هو أرقى منه ؟ وكيف يسيطر المخلوق على الخالق ؟!(42/37)
يقولون إن الإنسان نتاج المادة ! فكيف نتج عن المادة ؟ من الذى أنتجه ؟ وكيف استطاع - وهو ناتج عن المادة - أن يسطير عليها ويتحكم فيها ؟ !
وإذا قلنا إن المادة " تطورت " فأصبحت مادة حية ، ثم تطورت فصارت إنسانا . فهل هذا يحل الإشكال من الوجهة العلمية ؟ !
كيف تطورت ؟ ! ما الذى جد على طبيعتها - فجأة - فتطورت إلى مادة حية بينما هى كانت - فى زعمهم - موجودة على صورتها منذ الأزل ؟! وحين تطورت فلماذا لم تتطور كلها إلى مادة حية ! لماذا بقيت كميات هائلة من المادة لم تتطور من قبل ولا من بعد ؟! ولماذا حدث التطور فى اتجاه الحياة بالذات ؟ ولماذا حدث مرة واحدة ثم توقف ، فلم تعد ذرة واحدة من المادة الجامدة تتحول إلى خلية حية مهما بذل معها من التجارب ومهما تغيرت من حولها الظروف ؟
وحين تطورة المادة الحية - تلقائيا ! - فأصبحت - فى أعلى حالات تطورها - إنسانا ، فلماذا توقفت فى التطور عند الإنسان ولم تتطور إلى ما هو أعلى منه ، مع أن التطور - فى زعمهم - قانون من قوانين المادة ، والقوانين لا تتوقف عن العمل . وإلا فهى ليست قوانين !
- - - - - - - - - - - - - -
ومن ناحية أخرى كيف تسنى للمادة المتطورة - التى هى الإنسان - أن تسيطر وتتحكم فى المادة التى نتجت عنها مع أن هذا ليس من قوانين المادة ! فالقانون - المزعوم - هو تطور المادة ، وليس سيطرة المتطور من المادة على غير المتطور منها !
وهكذا نصل - علميا - إلى ذات الطريق المسدود ، سواء سرنا مع المادة الأزلية الأبدية عن طريق الخلق أو طريق التطور الذاتى ، ولا نجد هذا " العلم " يفسر لنا شيئا على الإطلاق !
إننا لن نستطيع - مهما حاولنا - أن نمسك بهذا الهراء لنضعه على مائدة البحث العلمى . لأنه لا يتماسك حتى يوضع على مائدة البحث ! وإنما نستطيع أن نفهمه فى حالة واحدة إذا أخرجناه تماما من دائرة العلم ، ونظرنا إليه من زاوية الهدف المقصود منه ، وسنجد أن هذه هى الوسيلة الصحيحة والميسرة لفهم كل " معطيات " المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ . إنها - فى الغالبية العظمى منها - ليست منطقية فى ذاتها ولكنها منطقية مع الهدف المقصود منها .
أى أن النتيجة المطلوبة توضع أولا ، ثم تساق الأدلة إليها سوقا وتحشر إلى جانب بعضها البعض حشرا ، سواء كانت متناسقة أ متنافرة ، سواء كانت مؤدية بالفعل إلى النتائج المطلوبة أم غير مؤدية ! إنما تلوى رقاب الأدلة ليا لتؤدى - بالقوة - إلى الهدف المطلوب ، ثم يقال للناس إنها نطرية " علمية وتفسير " علمى !
المطلوب أولا هو نشر الإلحاد الكامل الذى لا رجعة منه ، وإزالة أى أثر من أثار الدين يمكن أن يكون مندسا هنا أو هناك ، وإزالة أى أثر لتوفير " الخالق " من النفوس "
فحتى تسمية الخالق بالطبيعة - وهو المهرب الذى هربت به أوربا من إله الكنيسة كما أشرنا من قبل - لم يبد كافيا فى نظر المخططين لاستحمار الامميين ، وكان فى حاجة إلى خطوة " تقد=مية " أخرى تتقدم به نحو اله\ف المطلوب .
فمع الإلحاد المتمثل فى نفس الخلق عن الله ونسبته إلى الطبيعة كانت ما تزال هناك " وجدانات " تنبض تجحاه ذلك الخالق تخرج أحيانا فى صورة فن ، وأحيان فى صورة توقير لقوة أعلى من الإنسان . ويخشى إذا بقيت الأمور عند هذا الحد أن تتعقل البشرية ذات يوم وتكف عن مغالطة نفسها ، وتعود إلى الله (1)
ولكن يراد إزالة هذه البقية الباقية تماما .. فيتحول الخالق إلى مادة ويقال للناس : لا لإله ! والكون مادة !
فإذا انتفى وجود الله تماما - بزعمهم - ولم يعد هناك إلا المادة ، فالمادة لا تثير الوجدان ولا تستحق التوقير ، ومن ثم يتخلصون من ذلك العدو المرهوب ، الذى لا يخافون من شئ على الإطلاق خيفتهم منه .. ألا وهو الدين !
والمطلوب ثانيا - كما سنرى فى الحديث عن القضية الثانية - هو تحقير الإنسان وإزالة الكرامة عنه ، فإنه إذا أحس بكرامته فسيصعب بكوبه كما تركب الحمير ، لأنه سيكون معتزا بإنسانيته غير قابل للإنسياق كالدواب .
ووسائل التحقير كثيرة كما سنراها فى القضية الخاصة بالتفسير المادى للإنسان .. ولكن فى مقدمتها جميعا نفى الخلق عن الله سبحانه وتعالى - ونفى وجود الله فى الحقيقة - وجعل الخالق أو " المنتج " للإنسان هو المادة !
إن الإنسان يستمد وجوده من إلهه وخالقه ، ويستمد قدره من قدر ذلك الإله .
فحين يكون الخالق المعبود هو الله الحكيم المقدر يكون الإنسان رفيع القدر بتكريم الخالق له - سبحانه - ومستعليا بالإيمان بخالقه العلى العظيم . أما حين يتدنى الخالق حتى يصبح هو المادة ، فإن الإنسان يتدنى معه حتى يصل أسفل سافلين !(42/38)
وقد هبطت البشرية هبوطا مستمرا منذ تفلتت من عبادة إلهها وخالقها ، وكانت - حين نفت الخلق عن الله ونسبته إلى الطبيعة - قد بلغت مستوى كبيرا من الهبوط . ولكنه لم يكن كافيا فى نظر المخططين بكل ما فيه من حيوانية وتبذل خلقى ، فأرادوا له مزيدا من الهبوط ، فهبطوا بالإله الخالق دركات حتى جعلوه هو المادة ، وجعلو الإنسان نتاج تلك المادة ، فأى كرامة تبقى لهذا المخلوق - حتى فى حس نفسه - حين يعرف أنه من نتاج المادة أو أنه نتاج تجور المادة ؟
لا كرامة ولا أدمية .. وهذا هو المطلوب !
- - - - - - - - - - - - -
ولسنا نحن بحمد الله فى حاجة إلى أقوال البشر نستدل بها على وجود الله وعلى وحدانيته ، فعندنا كتابنا الذى نؤمن به ، هو حسبنا فى كل قضية من قضايا الحياة ، وقد بسط القرآن قضية الألوهية بسطا لا يحتاج إلا إلى تدبره بعقل مفتوح وقلب مفتوح .
ولكنا مع ذلك نأخذ شهادة على البشرية الضالة من علمائها فى هذا القرن الذى نعيش فيه .
" يقول رسل تشارلز إرنست " أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرنكفورت بألمانيا :
" لقد وضعت نظريات عديدة لكى تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس أو تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوى التى تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات .. ولكن الواقع الذى ينغى أن نسلم به هو أن جميع الجهود الذى بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع ، على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات من طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدى إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التى شاهدناها فى الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية فى أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا أو صعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذى خلق الأشياء ودبرها .
" إننى أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها ، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحياة الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإننى أؤمن بوجود الله إيمانا راسخا (2)
ويقول " إيرفنج وليام ( دكتوراه من جامعة أيووا وإخصائى وراثة التبانات ، وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان )
" إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية فى صغرها ، والتى لا يحصيها عد ، وهى التى تتكون منها جميع المواد . كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها - كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكى تكون الحياة (3)
ويقول " ألبرت ماكومب ونشستر " المتخصص فى علم الأحياء :
__________
(1) عاد بعض علماء الجاهلية المعاصر بالفعل كما سيجئ بعد قليل
(2) من مقال الخلايا الحية تؤدى رسالتها " من كتاب " الله يتجلى فى عصر العلم ، ص 77
(3) ص 52 من كتاب " الله يتجلى فى عصر العلم .
" ولقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء . وهو من الميادين العلمية الفسيحة التى تهم بدراسة الحياة ، وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التى تسكن هذا الكون .
" أنظر إلى نبات برسيم ضئيل وقد نما على أحد جوانب الطريق . فهل تستطيع أن تجد له نظيرا فى روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة ؟ إنه ألة حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع أناء الليل وأطراف النهار ، بآلاف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية ، ويتم ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم - وهو المادة التى تدخل فى تركيب جميع الكائنات الحية .
فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة ؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها . ولكنه خلق الحياة ، وجعلها قادرة على صيانة نفسها ، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل ، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التى تعيننا على التميز بين نبات وآخر .. إن دراسة التكاثر فى الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارا لقدرة الله (1)
ثانيا : التفسير المادى لإنسان :
بعد أن فرغنا من قضية مادية الخالق نتحدث عن قضية مادية الإنسان ، وذلك لازم لنا قبل أن نناقش التفسير المادى لمختلف نواحى النشاط الإنسانى ومجالات حياته ، كالدين ، والأسرة ، والقيم المعنوية ، والمبادئ الفكرية ، والنظم والمؤسسات .
ولا شك أن الماديين قد تأثروا بالداروينية فى تصويرها المادى الحيوانى للإنسان ، أو هم فى الحقيقة قد استغلوا النظرية - إذ وجدوها صالحة للاستغلال - فى تشويه صورة الإنسان الكريمة العالية الوضيئة المشرقة ، وتصويره فى صورة هابطة تخدم أغراض المخطط الشرير ، إذا تحجب عن الإنسان مجالات رفعته وإشراقه ، وتوحى إليه بالهبوط فيهبط ، وتنطمس بصيرته فيصبح كما يريدون .(42/39)
ولكن الحقيقة أن دارون نفسه - رغم نفيه الخالق المباشر للإنسان على صورته الإنسانية ، وإلحاقه إياه بسلسلة التطور الحيوانى - لم يهبط به إلى المستوى الذى وضعته فيه المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ . وأن هذا التفسير المادى إنما هو خطوة " تقدمية " فى المخطط الهادف إلى استحمار البشرية كلها للشعب المختار !
كان الإنسان عند دارون كائنا حيا تطور عن القدرة العليا مع فاصل تطورى تصوره ولم يعثر عليه فسماه الحلقة المفقودة ، وهى الحلقة الوسيطة بين القرد والإنسان ، كما كان الإنسان عنده متأثرا بالبيئة المادية فى تطوره من الحالة القردية إلى الحالة الإنساني ، لأن ظروف البيئة المادية هى التى أحدثت سلسلة التطور من أول الكائن الوحيدة الخلية إلى الإنسان .
ولكنه لم يكن قط فى التصور الداروينى مادة ، ولا كانت قوانين المادة منطبقة عليه ، فمنذ تحولت المادة الميتة إلى مادة حية - بصورة لم يشأ دارون أن يتعرض لها ، بل تهرب منها لكيلا تلجئه إلى الاعتراف بالإرادة الإلهية فى إخراج الحى من الميت - منذ ذلك الحين صارت لها قوانين خاصة تحكمها غير قوانين المادة الميتة ، هى قوانين الحياة .
وكانت تلك بديهية عند دارون وعند الناس جميعا ، لا يخالجهم فيها شك لأنها أوضح من ان يثور فيها الشك . ولئن كان دارون قد رد الإنسان إلى المرتبة الحيوانية ( على أساس جسده ) مغفلا تفرد الإنسان (2) فإنه على أى حال قد ارتفع بالكائنات الحية جميعا بما فيها الإنسان - بلى هو فى قمتها - عن مجال المادة ، وجعل مجال الحديث عنها هو علم " الحياة " الذى يختلف اختلافا بينا عن علم " المادة " .
أما التفسير المادى للتاريخ فلم يشأ أن يقف بالإنسان - فى الهبوط- عند مرحلة الحيوانية التى أوقفه فينا دارون ، إنما دفعه دفعات أخرى إلى أسفل ، ليتردى فى مهاوى المادى الحالكة حيث يعود إلى التراب ، صرفا بغير روح ، ويصبح قانونه التراب !
وحدة العالم تنحصر فى ماديته ، والإنسان نتاج المادة . فإذا قيل وما الفكر ؟ فالفكر نتاج الدماغ ، والدماغ مادة !!
منطق علمى " عجيب ، غاية فى العجب فى الحقيقة !
فلتكن وحدة العام منحصرة فى ماديته كما كان العلم الناقص يقول على أيام ماركس وإنجلز ولنين قبل تفجير الذرة واستخلاص " الطاقة " من داخلها . . فما صلة ذلك بالإنسان ؟!
الكون المادى مادة . والحياة حياة ، والإنسان إنسان !
وليكن الدماغ مادة .. فهل كل مادة تنتج الفكر ؟!
وإذا كان الأصل فى الفكر هو مادة الدماغ ، فهل يختلف مخ الطفل الوليد عن مخ الإنسان الناضح ، من حيث تركيبه " المادى " ؟ ! فلماذا لا يفكر الطفل بينما يفكر الإنسان الناضج ؟ ولماذا يفكر الطفل - حين يبدأ يفكر - على نحو مختلف عن تفكير الإنسان الناضج من جميع الوجوه ؟ هل هناك عناصر " مادية " تضاف إلى مخ الطفل فيصبح مخ إنسان ناضج ؟ وما تلك العناصر على وجه التحديد ؟ !
__________
(1) ص 105 - 106 من المصدر السابق .
(2) أثبتت الداروينية الحديثة " Neo- Da r winism كما سيجئ فى أثناء المناقشة تفرد الإنسان حتى من الناحية البيولوجية البحتة التى خدعت دارون فجعلته يلحق الإنسان بعالم الحيوان .
وأمخاخ الناس جميعهم - من حيث التركيب المادة - متشابهة إن لم تكن متماثلة . فلماذا يختلف تفكير شخص عن شخص آخر اختلافا تام مع عدم وجود اختلاف فى " المادة " التى يصدر عنها هذا الفكر وذاك ؟ !
وحين يكون الإنسان متدينا ثم يصبح شيوعيا - مثلا - فهل تتغير " مادة " مخه ، بحيث لو كشفنا على مخه لأبصرنا تغيرا معينا ملموسا طرأ عليه ، فأسود - مثلا - بعد ابيضاض ، أو زادت فيه كمية الناحس ونقصت كمية الفوسفور ؟!
أى سخف فى هذا " العلم " يبعث الغثيان !
والشيوعية تقول إن الإنسان سيد هذا الكون (1) فكيف يخلق الكون سيده كما تساءلنا من قبل ؟ ثم كيف يكون السيد من نفس مادة المسود بلا زيادة ؟ ! ما الذى يجعله سيدا إذن إذا كان من نفس التركيب ؟ !
إن المؤمنين بالله ورسله يؤمنون بأن الإنسان من مادة هذا الكون :
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} [سورة الحجر 15/26]
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)} [سورة ص 38/71]
ولكنهم يؤمنون بأن هناك شيئا آخر غير الطين هو الذى جعل الإنسان إنسانا وميزه على بقية الخلق . ذلك هو النفخة العلوية فيه :
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72]
فإذا جرده الشيوعيون من نفخة الروح وجعلوه طينا فحسب ، فكيف يفسرون سيادة الطين على الطين ، أو سيادة جزء من المادة على بقية المادة المماثلة لها تماما فى التركيب ؟!
وكيف يكون هذا منطقا " علميا " تبنى عليه نظرية علمية وتفسير علمى للحياة البشرية ؟!وهل حدث خلال ألوف الملايين من السنين أن خرجت قطعة من المادة فسودت نفسها أو زعمت لنفسها سيادة على بقية المادة المتفقة معها فى جوهرها وأعراضها ؟(42/40)
أم لابد بداهة أن تكون قطعة المادة التى سودت نفسها أو منحت السيادة على بقية المادة ، متميزة فى تركيبها عن بقية المادة وزائدة عنها بنوع من الزيادة أيا كان ؟
فإذا كان ذلك كذلك فكيف تكون قوانين المادة العادية منطبقة بحذافيرها على قطعة المادة التى تميزت عنها فى تركيبها وزادت عليها زيادات ؟
أليست الزيادة التى اقتضت التميز والسيادة - أيا كان نوعها - تقتضى أن يكون لها معاييرها الخاصة وقوانينها الخاصة ؟
وهل يكفى أن يقول الإنسان بلسانه - كما يقول التفسير المادى للتاريخ - إن الإنسان هو أعلى " تطور " حدث فى عالم المادة ، إذا كان سيعود فيلغى هذا " التطور " ويعامل الإنسان بقانون المادة البحث بلا تغيير ؟
ما قيمة التطور إذن - إذا سلمنا جدلا بأن الإنسان مادة متطورة - بل ما قيمة " أعلى درجات التطور ، إذا كنا سنعود فنعامل المادة المتطورة بقوانين المادة غير المتطورة ؟
وما هذه الحيرة والبلبلة : مرة نعامل الإنسان على أنه أعلى درجات التطور فى عالم المادة ، ومرة نعامله بقوانين الطين مجردة عن كل زيادة . أم هذا هو " الإنسان الطينى " الذى يصفه ويتكلم عنه التفسير المادى للتاريخ !
- - - - - - - - - - - - -
انطبقا قوانين المادة الجامدة على الإنسان أسطورة " علمية " غير مسبوقة فى تاريخ الفكر البشرى ، تسجل " براءة " اختراعها والحق يقال للماديين الشيوعيين ، وإن كانت لا تحمل " براءة " على الإطلاق !
إنها مجرد هراء يتلبس بزى علمى مزيف ، لا يمكن تفسيره إلا إذا أخرجناه تماما من دائرة العلم ، ونظرنا إليه من زاوية الهدف المقصود منه ، كما أسلفنا من قبل ونحن نتحدث عن التفسير المادى للخالق .
والمقصود - من ناحية - هو مسخ الإنسان وتشويهه والهبوط به إلى الدرك الأسفل - أسفل درك يمكن أن يصل إليه - ليتحقق المخطط الكبير ، مخطط استحمار الأميين لحساب الشعب المختار .
والمقصود - من ناحية أخرى هو القول بأن هناك متناقضات متصارعة فى حبة البشر على الأرض ، وأن صراع المتناقضات سيؤدى فى النهاية - عن طريق التطور الحتمى - إلى الشيوعية ( وهى آخر مخترعات المخطط اليهودى بعد الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية لاستحمار الأمميين ووضعهم بصورة نهائية فى قبضة الشعب المختار ) .
فإذا كان هذا هو المقصود ، فلنقل إذن إن الإنسان مادة ، وإن التناقض والتطور من قوانين المادة ، وإن قوانين المادة تنطبق على الإنسان ، وإن التناقض وصراع المتناقضات حادث فى عالم الإنسان ، ومؤد فى النهاية - عن طريق التطور الحتمى - إلى الشيوعية !
__________
(1) يقول الشيوعيون ذلك لا إيمانا حقيقيا بتلك الحقيقة ، ولكن لنيفوا فقط أولهية الله لهذا الكون وكل ما فيه بما فى ذلك الإنسان ، فإذا أخرجوا الإنسان - بزعمهم - من مجال العبودية لله بقولهم إن الإنسان سيد هذا الكون ، عادوا فردوه أسفل سافلين تحكمه الحتميات ، وتمرغه المادة فى الوحل ! ولكننا نأخذهم بكلامهم على أى حال !
وهى كما ترى لفة طويلة ما كان الشيوعيون أنفسهم فى حاجة إليها - حتى وهم يريدون أن يسوقوا الناس إلى الشيوعية - فقد كان يكفيهم لهدفهم الأخير أن يقولوا إن الحياة البشرية مليئة بالمتناقضات التى يصارع بعضها بعضا ، وإن هذا الصراع لابد أ، يؤدى فى نهاية المطاف إلى غلبة الشيوعية وتحول البشر كلها إليها .
كان هذا يكفى .. لولا أن الهدف الأول - كما قلنا - هو مسخ الإنسان والهبوط به إلى الدرك الأسفل ، فلزم أن يلحق الإنسان بالمادة ويرتبط بقوانين المادة خشية أن ينفلت ذات يوم من القبضة الشريرة إذا بقيت له صفة الأدمية ، ومن صفات الأدمية حرية الاختيار ! وحتى لا يرتفع رأس واحد من بين الأممين يقول " أنا إنسان " !
وهذا هو المنطق الحقيقى الذى يفسر التفسير المادى للتاريخ ، حيث يعجز أى تفسير علمى عن تفسير هذا التفسير !!
إذا فهمنا ذلك " السر " لم يعد يكرثنا كثيرا أن نناقش قضية التفسير المادى للإنسان مناقشة موضوعية مطولة . لكنا نقول فقط أن " إنسانية " الإنسان لا باديته ولا حيوانيته ، أظهر من أن يجادل فيها المجادلون .. ولكنه الهوى الذى يتخذ الزى العلمى المزيف : {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون 23/71]
ولقد كان دارون هو الذى وجه اللطمة الكبرى لإنسانية الإنسان حين زعم أنه حيوان ، وأنه نهاية سلسلة التطور الحيوانى بلا زيادة ، فاليوم ينقض العلم الداروينى ذاته مقالة دارون ، ويؤك على إنسانية الإنسان .
يقول " جوليان هكسلى : وهو عالم داروينى ملحد متبجج بالكفر ، فى كتابه " الإنسان فى العالم الحديث Man in the Mode r n Wo r ld "
" وبعد نظرية دارون لم يعد الإنسان مستطيعا تجنب اعتبار نفسه حيوانا ، ولكنه بدأ يرى نفسه حيوانا غريبا جديا . وفى حالات كثيرة لا مثيل له . ولا يزال تحليل تفرد الإنسان من الناحية البيولوجية غير تام .
" وأولى خواص الإنسان الفذة وأعظمها وضوحا . قدرته على التفكير التصويرى ، وإذا كنت تفضل استخدام عبارات موضوعية ، فقل : استخدامه الكلام الواضح .(42/41)
" ولقد كان لهذه الخاصية الأساسية فى الإنسان نتائج كثيرة ، وكان أهمها نمو التقاليد المتزايدة .
" ومن أهم نتائج تزايد التقاليد - أو إذا شئت - من أهم مظاهره الحقيقية ما يقوم به الإنسان من تحسين فيما لديه من عدد وآلات .
" وإن التقاليد والعدد لهى الخواص التى هيأت للإنسان مركز السيادة بين الكائنات الحية .. وهذه السيادة البيولوجية فى الوقت الحاضر خاصية أخرى من خواص الإنسان الفذة .. ولم يتكاثر الإنسان فحسب ، بل تطور ، ومد نفوذه ، وزاد من تنوع سبله فى الحياة .
" وهكذا يضع علم الحياة الإنسان فى مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان . ومع ذلك هناك فروق ، وفروق هامة بعض الشئ ، بالنسبة لنظريتنا العامة ، فمن وجهة النظر البيولوجية لم تخلق الحيوانات الأخرى لخدمة الإنسان ، ولكن الإنسان تطور بصورة مكنته من التخلص من بعض الأنواع المنافسة ، ومن استبعاد أنواع أخرى بالاستئناس ، ومن تعديل الأحوال الطبيعية والبيولوجية فى معظم أجزاء اليابس من الكرة الأرضية . ولم تكن وجهة النظر الدينية صحيحة فى تفاصيلها أو فى كثير مما تتضمنه ولكن كان لها أساس جيولوجى متين (1)
" ولقد أدى الكلام والتقاليد والعدد إلى كثير من خواص الإنسان الأخرى ، التى لا مثيل لها بين المخلوقات الأخرى .. ومعظمها واضح معروف ، ولذلك أرى عدم التعرض لها حتى انتهى من التحدث عن الخواص غير المعروفة كثيرا ، لأن الجنس البشرى - كنوع - فريد فى صفاته البيولوجية الخالصة . ولم تلق تلك الصفات من العناية ما تستحق ، سواء من وجهة نظر علم الحيوان ، أو من وجهة نظر علم الاجتماع .
" .. وأخيرا فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية فى طريقة تطوره .
" وإن خاصية الإنسان الجوهرية ككائن حى مسيطر لهى التفكير المعنوى ..
" يجب ألا يعزب عن بالنا أن الفرق بين الإنسان والحيوان فى العقل أعظم بكثير مما يظن عادة .
" .. ولهذه الزيادة فى المرونة نتائج أخرى - سيكلوجية - يتناساها رجال الفلسفة العقلية .. والإنسان فريد أيضا فى بعضها . وقد أدت هذه المرونة مثلا إلى حقيقة أن الإنسان هو الكائن الحى الوحيد الذى لابد أن يتعرض للصراع النفسى .
" .. وفى الحقيقة إن منع النزاع بين طرق العمل المتعارضة لظاهرة عامة جدا ، وذات منفعة بيولوجية ، وهى ليست إلا خاصية العقل البشرى الذى مكن الإنسان من التخلص من هذا النزاع .
" . وعندما نصل إلى المستوى الإنسان نجد تعقيدات جديدة ، لأن من خصائص الإنسان كما رأينا التغلب على شدة الغريزة .
__________
(1) جوليان هكسلى عالم ملحد ، لا يقر بوجود الله ، وهو يرى الحق أمامه ويكاد يسلم به ، ولكن تأخذه العزة بالاثم فيحاول النكوص عما يفرضه الحق الواضح المبين ، ولكن يكفى على أى حال أن يقر بأن وجهة النظر الدينية لها أساس جيولوجى متين ، فما ينتظر ن رجل ملحد أن يذهب إلى أبعد من هذا المدى فى الاعتراف بحقائق الدين .
" .. وهذه الخواص التى أمتاز بها الإنسان - والتى يمكن تسميتها نفسية أكثر منها بيولوجية - تنشأ ن خاصة أو أكثر من الخواص الثلاث الآتية :
" الأولى : قدرته على التفكير الخاص والعام .
" الثانية : التوحيد النسبى لعملياته العقلية بعكس انقسام العقل والسلوك عند الحيوان .
" الثالثة : وجود الوحدات الاجتماعية مثل القبيلة والأمة والحزب والكنيسة ( الجماعة الدينية ) وتمسك كل منها بتقاليدها وثقافتها .
" .. ولكن لا يكفى هنا أن نحصى بعض أوجه النشاط .. ففى الحقيقة أن معظم أوجه نشاط الإنسان وخواصه نتائج ثانوية لخواصه الأصلية . ولذلك فهى مثلها فذة من الناحية البيولوجية
" ثم إن التخاطب والألعاب المتظلمة والتعليم والعمل بأجر وفلاحة البساتين والمسرح والضمير والواجب والخطيئة والذلة والرذيلة والندم ، كلها نتائج ثانوية ( لخصائصه الأصلية ) والصعوبة فى الواقع هى إيجاد نشاط للإنسان لا يكون فريدا .. بل إن الصفات الأساسية البيولوجية مثل الأكل والنوم والاختلاط الجنسى زينها الإنسان بكل المحسنات الفريدة .
" وقد يكون لتفرد الإنسان نتائج ثانوية أخرى لم تستغل بعد .. وبذلك قد يكون الإنسان فريدا فى أحواله أكثر مما نظن الآن (1)
ويقول رينيه دوبو فى كتابه " إنسانية الإنسان " ( ترجمة نبيل صبحى الطويل ص 138 - 139 من الترجمة العربية ) :
" وأكثر السلوك فى الحيوانات بما فيها العليا غريزى لا صلة له بالعقل والحجى ، ومن النادر - إن لم يكن من المستحيل - أن تجد هذا السلوك متوجها نحو المستقبل البعيد الذى يحاول الحيوان التكهن به والسعى لإيجاده . وبالمقابل فإن ردود فعل الإنسان لأكثر الإشارات المحيطية تتأثر بعمق بتكهناته عن المستقبل ، سواء كانت هذه التكهنات مبنية على الخوف أو الحقائق المعلومة أو الرغبة فى الإنجاز ، أو فقط على الآمال الحالمة ، والحقيقة أن ميل الإنسان لتخيل الأشياء التى لم تجد بعد ، أو التى لن تقع بدون إرادة وعمل حر يقوم به ، هى الناحية البارزة التى تميزه بوضوح تام عن الحيوان ، وهى التى تسهم كثيرا فى تعقيد بنيته النفسية التى أعيت الأطباء .(42/42)
" ومن أبرز النواحى المميزة للإنسان ميله للسمو على الدوافع البيولوجية البسيطة ، فعنده الاستعداد لتحويل العمليات العادية فى وجوده إلى أعمال وأعراض ومطامح ليس لها ضرورات بيولوجية ، وربما تكون متعارضة مع استمرار حياته . أكثر من ذلك إن الإنسان يميل ليرمز لكل شئ يحدث له ثم يتفاعل مع هذه الرموز كما لو أنها إثارات محيطية حقيقية ، فرد فعل شخص معين على عامل محيطى ، مشروط فيزيولوجيا ونفسيا بتجاربه الذاتية الماضية ".
ويقول ( ص 14 من الترجمة العربية ) .
" ويتمتع الإنسان بقدر كبير من الحرية فى الاختيار والتقرير .. فهو المتميز فى كونه قادرا على الاختيار والتمحيص والتنظيم .. ومن هذه يأتى الإبداع "
ويقول ( ص 164 من الترجمة العربية ) .
ومن المعروف أن كل مظاهر الحياة مشروطة بالوراثة وتجارب الماضى وعوامل البيئة ، إلا أنه من المعروف أيضا أن الإرادة الحرة تمكن البشر من النمو على ضوابطه " التحديدية البيولوجية " فالقدرة على الاختيار بين الأفكار وأساليب الأفعال المختلفة يمكن أن تكون أهم صفات الإنسان . لقد كانت فى الغالب - ولا تزال - محددا هاما فى تطور الإنسان . وأكثر ما يستنكر فى علوم الحياة كما تدرس الآن هو أنها تجاهلت متعمدة أهم ظاهرة فى حياة الإنسان .. ألا وهى الحرية .
ويقول ( ص 169 من الترجمة العربية ) .
" حرية الإنسان تعنى - من ضمن ما تعنيه - قدرته على التعبير عن إمكانياته الكامنة وقدرته على الاختيار واستعداده لقبول المسئوليات . كل هذه وأمثالها من النشاطات التى تضم الاختيار والتقرير لتسمو على التحديدية الجبرية التى تسم عمليات الآلة "
ويقول ( ص 262 من الترجمة العربية ) :
" ويدرك البشر العالم بحواسهم . ومن التناقض أن كثيرا مما يقدرونه فى العالم من حولهم لا يعتمد على هذا الإدراك الحسى . والواقع أن كثيرا من بنى الإنسان ضخوا بوجودهم المادى على مذبح قيم غير مادية تدركها الروح ولا يحسها جسم اللحم والدم "
" هذا ما يقوله " العلم "
فأى هاوية سحيقة تلك التى يهوى بالإنسان إليها ذلك التفسير المادى للإنسان ، حين ينزع عنه مقومات إنسانيته الأصيلة ، ويرده إلى المادةة ، ويجعل قوانينها هى قوانينه ؟ !
أى إلغاء لحرية الإنسان وكرامته .. وأى تحقير له أشد من هذا التحقير ؟ !
فإذا علمنا أن هذا هو المطلوب ..
إلغاء الحرية لكى لا يختار الأمميون لأنفسهم طريقا غير الذى يرسمه لهم شعب الله المختار . وإلغاء الكرامة لكى لا يستنكفوا من العبودية التى يري أن يفرضها عليهم ذلك الشعب . والتحقير لكى لا يرفعوا رؤوسهم بالتمرد على التسخير الذى يسخرهم إياه .
إذا علمنا أن هذا هو المطلوب ، أدركنا الهدف " الضخم " الذى يحققه التفسير المادى للإنسان !
ثالثا التفسير المادى للقيم الإنسانية :
__________
(1) ترجمة حسن خطاب ومراجعة الدكتور عبد الحليم منتصر - مقتطفات متفرقة من ص 1 - ص 26
منذ جعل الإنسان مادة فقد ألغيت فى الحقيقة كل القيم على الفور ، ولم يعد لها مكان فى حياة الإنسان ، فأنى للمادة - مهما تطورت - أن يكون لها قيم - روحية أو نفسية أو خلقية ؟ ! ولكن الشيوعية ما كانت تملك أن تتجاهل ودود القيم فى التاريخ البشرى ، فكان لابد من أن تعطيها تفسيرا ما .. يفسدها ويشوهها ليقضى عليها فى النهاية . والتفسير المادى للقيم هو الأداة التى اختارتها الشيوعية لأداء جريمتها الكبرى ، فهى تتظاهر بإعطاء تفسير لتلك القيم ، بينما ذلك التفسير فى الحقيقة يلغى القيم إلغاء باتات ويقضى عليها من منبتها !
ومع ذلك فسنتجاهل هذه الحقيقة ، ونأخذ الأمر كأنه جاد ، ونستعرض التفسير المادى للقيم الإنسانية ونناقشه مناقشة موضوعية !
يتمثل التفسير المادى للقيم الإنسانية فى مجموعة من الخطوات أو مجموعة من النقاط نجملها فيما يلى :
1) تضخيم العامل المادى والاقتصادى وجعله أساس كل شئ فى حياة الإنسان .
2) اعتبار القيم المعنوية كلها مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى .
3) نفى وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذى يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادى والاقتصادى .
4) السخرية بالدين وتسخيفه وتهوين شأنه ورده إلى أسباب مادية واقتصادية .
5) السخرية بالحق والعدل الأزليين ، والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية :
ولنأخذ فى شئ من التفصيل لكل نقطة من هذه النقاط .
1- تضخيم العامل المادى والاقتصادى :
يتبين لنا من العرض الذى عرضناه من أقوال المفكرين الشيوعيين والمؤسسين للفكر المادى إلى أى مدى يعتبر أولئك المفكرون العامل المادى والاقتصادى أساسا لكل شئ فى حياة الإنسان . ويكفينا أن نعود إلى قولتى مواركسى وإنجلز فى هذا الشأن .
" فى الانتاج الاجتماعى الذى يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها، وهى مستقلة عن إرادتهم . فأسلوب الانتاج فى الحياة المادية هو الذى يحدد صورة العلميات الاجتماعية والسياسية والمعنوية فى الحياة ..
ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم ، بل إن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم " ( كارل ماركس ).(42/43)
" تبدأ النظرية المادية من المبدأ الآتى : وهو أن الإنتاج وما يصاحبه من تبادل المنتجات هو الأساس الذى يقول عليه كل نظام اجتماعى . فحسب هذه النظرية نجد أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات أو التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها فى عقول الناس ، أو فى سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين ، وإنما التغييرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل " ( فردريك إنجلز ) .
وهما قولتان واضحتا الدلالة فى أن الأصل فى اعتبارهم ليس هو " إنسانية " الإنسان ، ولا القيم المعنوية التى ينبغى أن تقوم عليها حياته . إنما هو الوضع المادى والاقتصادى الذى يكون الناس عليه ، لأن هذا الوضع هو الذى يحدد مشاعر الناس وأفكارهم وعقائدهم ، كما يحدد نوع المؤسسات التى تقوم فى حياتهم ووظيفة كل واحدة من هذه المؤسسات .
ومن خلال تفسيرهم للتاريخ البشرى يتبدى مدى تعمق هذه الفكرة فى تصورهم .
فالشيوعية الأولى - كما يصفونها (1) حالة من الهدوء والاستقرار والسعادة والتعاون الأخوى . وهى كلها قيم معنوية سببها الوحيد هو عدم وجود ملكية فردية ، وقيام الحياة على الملكية الجماعية أو المشاعية ، وهو سبب اقتصادى بحت .
وتحول نظام الأسرة من التبعية للأم إلى التبعية للأب ، ومن ثم سيطرة الأب على الأسرة بجميع أفرادها من زوجة وأطفال ، يرجع إلى سبب اقتصادى مادى بحت هو ظهور الملكية الفردية مع اكتشاف الزراعة واكتشاف الرجل أنه يمكن أن يورث أبناءه مما يملكه !
وتحول البشرية من حالة الشيوعية الأولى إلى الرق يرجع إلى ذات السبب الاقتصادى المادى وهو اكتشاف الزراعة ونشأة الملكية الفردية ، فعندئذ استرقت القبائل القوية القبائل الضعيفة وأجبرتها على العمل فى الأرض لحسابها .
وتحول الناس من الرق إلى الإقطاع سببه هو اكتشاف المحراث - وهو سبب مادى ترتبت عليه نتائج اقتصادية - إذا اكتشف الإنسان أنه يستطيع باستخدام المحراث أن يزرع مساحة أكبر بكثير مما كان يزرعه بالأدوات البدائية السابقة ، فنشأت المزارع الكبيرة التى يستخدم فيها رجل واحد مجموعة كبيرة من البشر عبيدا للأرض أو إجراء يعملون لحسابه ويكونون تحت سيطرته .
وتحول الناس من الإقطاع للرأسمالية سببه هو اختراع الآلة - وهو كذلك سبب مادى ترتبت عليه نتائج اقتصادية - فقد تحولت الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية رأسمالية ، وصار صاحب رأس المال يستخدم مجموعة كبيرة من البشر أجراء - بأجر ضئيل - يعملون لحسابه ، وينتجون إنتاجا يستولى عليه هو ويربح من بيعه أرباحا طائلة يزيد بها رأس ماله وقدرته على استخدام الأجراء لحسابه .
وتحول الناس أخيرا إلى الشيوعية سببه الصراع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال على ملكية الإنتاج - وهو سبب اقتصادى بحت - وينتهى ذلك الصراع بالقضاء على طبقة الرأسماليين وحلول العمال محلهم فى الملكية والسيطرة جميعا .
__________
(1) سنتحدث عن الشيوعية الأولى فيما بعد .
وبالإضافة إلى هذه الخطوط العريضة فى حياة البشرية ، التى ترجع كلها - فى اعتبارهم- إلى أسباب مادية واقتصادية بحتة ، فإن الخطوط الأكثر دقة ترجع كلها كذلك إلى أسباب مادية واقتصادية .
فوجود الدين فى المرحلة الاقطاعية وضعفه وتقلصه فى المرحلة الرأسمالية والشيوعية سببه أن طبيعة الإنتاج فى العهد الإقطاعى - أى الإنتاج الزراعى - تجعل الإنسان متدينا ، لأن الإنسان لا يملك - فى العملية الزراعية - إلا وضع البذور فى الأرض وتغذيتها بالماء والأسمدة ، ولكنه لا يملك إنبات البذرة ولا استعجال نموها ولا حماية المحاصيل من عوارض الجو والآفات ، فيتوهم - أو يفترض - وجود قوة خفية ( غيبية ) ينسب إليها القدرة على كل العمليات التى لا يقدر هو عليها من إنبات وإنماء وحماية ، ويروح يتعبدها ويتقرب إليها بالقرابين لكى ترضى عنه وتحفظ له محصوله الذى يعيش عليه .. بينما لا تحتاج طبيعة الإنتاج فى المرحلة الرأسمالية والشيوعية إلى افتراض تلك القوة الخفية الغيبية . لأنه إنتاج صناعى . يسيطر العامل فيه على عملية الإنتاج من أولها إلى آخرها ، ولي فيها جانب خفى كعملية الإنبات والإنماء ، ولا جانب خارج عن قدرة العامل كالعوارض الجوية والآفات ، ومن ثم لا يحتاج الإنسان إلى عبادة شء خارج عن نطاق الإنسان ،فيتضاءل وجود الدين حتى ينتهى تماما فى النهاية .(42/44)
ووجود أخلاقيات الجنيس فى العهد الزراعى ، والحفاظ الشديد على العرض ، وإعطاء العفة الجنسية أهمية بالغة ، ووجود الغيرة فى نفس الرجل على زوجته ، كل ذلك رادع إلى سبب اقتصادى بحت ، هو أن الرجل فى المجتمع الزراعى هو المنتج الأصلى وهو المتكسب وحده وهو الذى ينفق على زوجته وأسرته ، ومن ثم تدعوه سيطرته - الاقتصادية الأصل والمظهر - إلى التحكم فى المرأة وفرض أخلاقيات الجنس عليها ، فيفرض عليها العفة قبل الزواج وبعده ، ويفرض عليها أن تكون له وحده حين يتزوج ، ومن ثم تصبح العفة فضيلة خلقية واجتماعية يحرص المجتمع عليها ويشدد فى شانها ويعطيها تلك الأهمية البالغة .. بينما تفقد العفة وأخلاقيات الجنس قيمتها - ووجودها - فى المجتمع الصناعى لسبب اقتصادى كذلك ، وهو تحرر المرأة اقتصادية ومشاركتها للرجل فى العمل وتكسبها بنفسها ، وذلك يحررها من كونها عالة على الرجل .. فيفقد الرجل سيطرته عليها ، ولا يعود يحق له أن يطالبها بالعفة قبل الزواج ولا بعده ، ولا أن يطالبها بأن تكون له وحده بعد زواجها - تلك المطالبة التى كانت قائمة على أسباب اقتصادية بحتة - ومن ثم لا تعود العفة تعتبر فضيلة فى المجتمع الصناعى ، ولا يهتم الناس بوجودها ، وتصبح حرية المرأة فى أن تتصرف فى نفسها هى الأمر الشائع فى المجتمع .
كذلك الأمر مع الأسرة . فوجود الأسرة الكبيرة المترابطة فى المجتمع الزراعى هو ظاهرة اقتصادية بحتة ، سببها حاجة العمل الزراعى إلى تكاتف الأيدى العاملة وتعاونها ، وترتب زيادة الربح على زيادة الأيدى العاملة التى تعمل فى وحدة متجانسة . بينما يرجع تفكك الأسرة فى المجتمع الصناعى إلى فردية الإنتاج وفردية الإنفاق . فأسلوب العمل ذاته يجعل كل فرد يعمل مستقلا عن الآخرين ، ثم إن كل عامل يعمل يتناول أجره بمفرده مستقلا عن الآخرين . . ومن ثم لا تؤدى الأسرة الكبيرة مهمة اقتصادية فى حياة المجتمع الصناعى فتتفتت وتحل محلها الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم ، والأطفال .. ثم تتفتت هذه بدورها لأسباب اقتصادية كذلك ، وهى عمل المرأة فى المصانع والوظائف وغير ذلك ، فيصبح رباط الزواج ذاته واهيا يمكن أن ينحل فى أية لحظة ، بل يمكن أن يلغى إلغاء كاملا فى أى وقت ، وتحل محله العلاقات الجنسية الحرة ، وتصبح هى الأساس فى المجتمع الجديد .
2- اعتبار القيم المعنوية كلها مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى :
هذه النقطة فى الحقيقة تحصيل حاصل بالنسبة للنقطة السابقة ، فحين نقول إنهم يضخمون العامل المادى والاقتصادى ويجعلونه أساس كل شئ فمعنى ذلك من جهة انه يصغرون من القيم الأخرى - غير المادية - ولا يعطونها المكانة اللائقة ، ومن جهة أخرى أنهم يعتبرونها نابعة من القيم المادية ومترتبة عليها .
ولكنا نريد أن نلفت النظر فى هذه النقطة إلى مزيد من تحقير القيم المعنوية ينشأ من القول بأنها مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى . فعلوم أن البشرية قد تعلقت - منذ مولدها - بالقيم العليا من صدق وعدل وخير وفضيلة وأمانة ونظافة سلوك .. الخ .. وسواء مارس الناس هذه القيم والفضائل بالفعل أم بعدوا عنها فى سلوكهم العملى كل البعد أو ناقضوها مناقضة صريحة ، فإنهم يتغنون بها فى فنونهم وآدابهم ، ويعجبون بها إذا رأوها ممثلة فى سلوك واقعى ، ما لم يكونوا مرضى القلوب بصورة غير معتادة ، ينفرون من الخير ويهشون للرذيلة والانتكاس لأن رؤية الخير تذكرهم بانتكاسهم فيكرهونه ، ورؤية الرذيلة تغطى مواقفهم فيهشون لها ،كالذين قال الله فيهم :
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [سورة النساء 4/89]
وتعلق البشرية بالقيم العليا - ولو لم تمارسها بالفعل فى سلوكها الشخصى - يعتبر فى ذاته عقبة فى سبيل استحمار الأممين وتسخيرهم لما يراد تسخيرهم له ، ولم يكتف المخططون بإبعاد البشرية عن هذه القيم فى عالم الواقع ، ولهم الحق ألا يكتفوا فما دام هذا التعلق باقيا فى النفوس فهى عرضة أن تعتدل من انتكاستها فى أية لحظة وتحول هذا التعلق النظرى - او المتمنى - إلى تعلق واقعى يتخذ صورة سلوكية مطبقة فى عالم الواقع ، وعندئذ يفسد المخطط كله ، ويضيع التعب الذى بذل فيه !
لذلك ينبغى أن يزال تعلق البشرية بتلك القيم بكل وسيلة ممكنة . ومن بين الوسائل المؤدية إلى ذلك أن يقال إنها ليست قيما قائمة بذاتها ، إنما هى مجرد انعكاس لقيم أخرى أو أوضاع أخرى هى وحدها صاحبة الأصالة وهى وحدها الجديرة بالاهتمام .
هنا يذكرنا ماركس بفرويد !
ففرويد - فى اخصاصه - يهدف إلى ذات الهدف الذى يسعى إليه ماركس !ويريد - مثله - أن يصرف الناس عن التمسك بالقيم العليا لأنها عدو مشترك لكل من يسعى لإفساد البشرية واستعبادها لشعب الله المختار .. ومن ثم ينفى أنها قيم قائمة بذاتها ويقول إنها انعكاس لشئ آخر ! فالدين ناشئ عن عقدة جنسية هى عقد أوديب ، والتسامى ناشئ من الكبت ، كما أنه لون من ألوان الشذوذ !(42/45)
وإذا كان فرويد قد رد القيم كلها إلى الجنس ليحقرها ويذهب عنها مالها فى نفوس الناس من توقير وإعجاب وتطلع ، فإن ماركس وأصحابه قد ردوها إلى القيم المادية والأوضاع الاقتصادية لذات الغاية .. فمعلوم أن الناس تحتقر القيم المادية ولو شغلت بها فى حياتها الواقعية مشغلة كاملة ! فيجئ ماركس فيرد إليها القيم العليا كلها فيذهب التوقير عنها فى التو ويذهب الإعجاب والتطلع ، وتفرع من مضمونها الحيقى وتصبح صورة شاحبة لا يتعلق بها قلب ولا ترتبط بها مشاعر ! ويصبح التوقير والتعلق كله موجها إلى القيم المادية والأوضاع المادية ، وما أضيق النفس حين تنحصر فى هذا المحيط الضيق ، وما أخسرها حين تغلق كل منافذ النور ، وتفتح ذلك المنفذ الواحد الذى يتعامل مع الإنسان الطينى وحده ، ولا يتعامل مع الإنسان المتكامل الذى خلقه الله من قبضة من طين الأرض ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه لتسجد له الملائكة الأطهار !
3- نفى وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذى يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادى والاقتصادى :
لم يكتف الماديون فى تحقير القيم الإسنانية بقولتهم السابقة ، التى تنفى الأصالة عنها وتجعلها مجرد انعكاس لقيم أخرى - مادية - بل مضوا شوطا آخر فى تحقيرها فقالو إنها ليست ثابت ، إنما هى دائمة التغير كلما تغير الوضع المادى والاقتصادى !
بمعنى آخر : يا أيها المثاليون المغفلون (1) ! إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له فى الحقيقة ، حين تتكلمون عن الحق ، والعدل ، والخير ، والفضيلة ، والجمال والصدق ، والأمانة .. الخ .. إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له ، ولكنها هى فى ذاتها ليست شيئا ثابتا محددا يمكن التعرف عليه !
هنا يذكرنا ماركس بدور كايم !
العقل الجمعى هو الذى يضع القيم والنظم والتقاليد والأخلاق .. وهو لا يثبت على حال ، يحل اليوم ما حرمه بالأمس ، ويحرم غدا ما يحله اليوم !
نفس الهدف ونفس الوسيلة .. كل فى اختصاص من اختصاصا " العلم " !
فالعلم الماركسى يقول إنه كلما تغير الوضع المادى أو الاقتصادى تغيرت معه جميع القيم وجميع المعايير .
تغيرت صورة الملكية من ملكية جماعية فى الشيوعية الأولى إلى ملكية فردية ، فنشأ الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية ، وكان كل منها - فى حينه - صوابا ! لأنه هو الاستجابة الطبيعية للوضع المادى والاقتصادى .. الاستجابة التى لا يمكن أن يوجد غيرها ، لأنها انعكاس " حتمى " للأوضاع " ، ومن ثم فلا ينبغى أن توصف بالخير أو الشر ، ولا ينبغى أن ينظر إليها أصلا من زاوية خلقية ولا بمعيار خلقى ثابت ! إنما مقياس كل شئ هو ذاته .. ووجود الشئ بالفعل هو مبرر وجوده ! ثم يتغير كل شئ حين يتغير الوضع المادى والاقتصادى فيصبح الوضع السابق خطأ بعد أن كان صوابا ! وتصبح محاربته واجبة بعد أن كانت قبل ذلك غير ذات موضوع !
وأخلاقيات الإقطاع - مثلا - من التدين وسيطرة الأب على الأسرة ، والمحافظة على العفة والغيرة على العرض ، وترابط الأسرة ، والتعاون الجماعى .. كلها أخلاقيات نابعة من الوضع المادى والاقتصادى ومتناسبة معه ، ولكنها ليست قيما قائمة بذاتها توصف بأنها خير ويوصف عكسها بأنه شر .. إنما هى فقط صواب فى وقتها لأنها هى الاستجابة الطبيعية للوضع المادى والاقتصادى .. ثم إنها تصبح بعد ذلك خطأ ، أو تصبح غير ذات موضوع حين تجئ الرأسمالية ويتكون المجتمع الصناعى " المتطور " ! بل تصبح رجعية وجودا وتأخرا تنبغى محاربته والتحرر منه ، لأنها لم تعد تستجيب للأوضاع الاقتصادية الجديدة ، التى هى المعيار الوحيد الذى تقاس إليه الأمور .
__________
(1) يستخدم الماديون كلمة المثالية فى الذم لا ى المديح ويقصدون بها الأشياء التى لا يمكن تحقيقها فى الواقع ومن ثم فهى سخف لا ينبغى أن يؤبه له !
ومحاولة القول بأن الدين قيمة ذاتية ينبغى أن يوجد على الدوام ، أو أن العفة قيمة ذاتية ينبغى أن تظل قائمة فى كل مجتمع هى سذاجة وغفلة ومثالية من جهة ، ومن جهة أخرى هى مخالفة لما هو كائن ولما ينبغى أن يكون ، لأنه لا وجود لمثل هذه القيم " فى ذاتها " إنما تستمد وجودها من الباعث الذى ينشئها وهو الوجود المادى والاقتصادى .. وهذا الباعث دائم التغير لم يثبت - ولا يمكن أن يثبت - على حال ، فكيف يثبت ما ينشأ عنه من قيم وأخلاقيات ؟!
4- السخرية بالدين :
من بين كل القيم يحظى الدين بالقسط الأكبر من سخرية الماديين الشيوعيين ، ويبو حنقهم منه واضحا وثورتهم عليه عظيمة ، ورغبتهم فى تحطيمه والقضاء عليه شديدة إلى أقصى حد .
فأما أسبابه وبواعثه فهى مادية واقتصادية بحتة : الجهل بطبيعة الكون المادى ، والعجز عن السيطرة على البيئة ، لذلك كان موجودا طوال فترة الشيوعية الأولى والرق والإقطاع ، ثم خفت حدته فى المجتمع الصناعى الرأسمالى لولا أن الرأسماليين - بعد الإقطاعيين - يستخدمونه مخدرا للجماهير الكادحة لكيلا تتيقظ إلى حقيقة الظلم والهوان الذى تعانيه فتتمرد عليه وتثور من أجل حقوقها المسلوبة .(42/46)
ولقد كان " واجب الزوال " منذ بداية العهد الصناعى لزوال بواعثه المادية والاقتصادية . فمن جهة كان العلم قد بدأ يتقدم ويكشف كثيرا من مجاهيل الكون المادى التى كانت تلجئ الناس من قبل إلى افتراض وجود إله ! فأما بعد اكتشاف " قوانين الطبيعة " فلم يعد هناك مبرر للدين ، فقد حل محله العلم، ومن جهة أخرى فإن الوضع الاقتصادى الذى كان ينبعث منه سيطرة الأب فى الأسرة وسيطرة السيد فى المجتمع كان يتناسب كذلك مع سيطرة الرب الإله فى الكون والحياة . فإذا زال هذا الوضع فنيبغى أن تزول كل آثاره ومن بينها الدين .. وعلى أى حال فإذا كانت حاجة الرأسماليين إلى تخدير الجماهير الكادحة قد عوقت زوال الدين فترة من الوقت ، فقد جاءت الشيوعية فأغلت الرأسمالية وألغت المهمة الأخيرة التى كانت باقية للدين - وهى مهمة التخدير - فأصبح - من جميع الوجوه - غير ذى موضوع ، تقدم العلم، وزادت السيطرة على البيئة ، ولم يعد الناس فى حاجة إلى مخدر .. فلماذا يبقى الدين ؟!
يذكرنا هذا بقوله مماثلة " لجوليان هكسلى " فى كتاب " الإنسان فى العالم الحديث " .
كان الجهل والعجز هما السبب فى وجود الدين . وقد تعلم الإنسان اليوم وسيطرة على البيئة ، فإن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل - فى عصر الجهل والعجز - على عاتق الله ، ومن ثم يصبح هو الله !
والحق أن الدين عدو لدود للمخططين ، كما أنه عدو لدود للماديين الشيوعيين .
فأما عداوة المخططين له فأمرها ظاهر . فالعقبة الكبرى فى سبيل استحمار الأممين هى أن يكونوا ذوى عقيدة وأخلاق مستمدة من الدين ، ولقد عرف اليهود ذلك خلال القرون الطويلة من حربهم الدائمة للبشرية وتربصهم بها ، وعرفوا - بالتجربة - أنه طالما كان للأمميين عقيدة وأخلاق فلا نتيجة لكل ما يبذلونه من جهد وكل ما يضعونه من تخطيط ، وعرفوا أن نجاح مخططاتهم كلها مرهون بمدى نجاحهم فى القضاء على هذا العدو المرهوب .
وأما عداوة الماديين الشيوعيين (وهم جزء من المخطط الكبير ) فقد نشأت - إلى جانب اشتراكهم فى السبب السابق باعتبارهم جزءا من المخطط الكبير - من تجربتهم الخاصة ، أن الدين - مع أنه فى أوربا بقايا ين محرف من كل زواياه - يعوق تكوين " الحقد الطبقى " الذى هو عمادهم الأول فى تحويل الناس إلى الشيوعية ! فقد عانوا فى زحفهم على أوربا من أن الفلاحين بصفة خاصة لا يستجيبون لهم بالسرعة الكافية حين يحاولون تحريك " الحقد الطبقى " فى نفوسهم ، وذلك من آثار بقايا الدين فى نفوسهم ، وأن الكنيسة - ممثلة الدين - وقفت فى صف الإقطاعيين والرأسماليين ضد الدعوة الشيوعية ، مستعينة بالدين فى " تخدير" الجماهير عن الثورة ، وإزالة الحقد الطبقى أوتأخير تجمعه فى النفوس ليكون وقواد للثورة .
من أجل ذلك " يتفنون " فى محاربة الدين بكل وسائل الحرب ، ومن بين وسائل الحرب التسخيف والتهوين والتحقير .
5- السخرية بالحق والعدل الأزليين ، والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية :
كما يسخر الماديون بالدين ويسعون إلى تحقيره بكل الوسائل ، يسخرون كذلك " بالحق والعدل الأزليين " كما يسميهما فردريك إنجلز ، ويقولون إنهما من المثاليات التى لا وجود لها ولا تأثير لها فى عالم الواقع ، وإن البشرية لم تقم قط عليهما ولا يمكن أن تقوم عليهما فى يوم من الأيام !
إنما الذى يسير حياة البشرية من مبدئها إلى منتهاها هو " الحتميات " المادية والاقتصادية والتاريخية ، التى لا توصف بأنها حق ولا عدل - ولا خلاف ذلك - إنما توصف - كما أسلفنا - بأنها صواب ما دامت فى موضعها التاريخى الصحيح .
ويكره الشيوعيون كراهية شديدة أن تنتقد مراحل الرق والإقطاع والرأسمالية من جهة أنها "ظلم" مخالف للحق والعدل ، أى أن أن تنتقد من منطلق أخلاقى أو أى منطلق قائم على القيم المعنوية .. ويصرون على أن ينتقد الإقطاع والرأسمالية من الزاوية الاقتصادية ومن زاوية الحتمية التاريخية .
ويعجب الإنسان أشد العجب من هذا الموقف الغريب . فهم يشنون هجوما حادا على الإقطاع والرأسمالية بصفة خاصة ، فإذا أنت شاركتهم فى شن الحملة عليهما من زاويتك الخاصة ( الدينية والأخلاقية ) رفضوا رفضا باتا وجاهروك بالإنكار !
ولكن العجب يزول إذا علمنا السر فى رفضهم وإبائهم . فهم بادئ ذى بدء يريدون القضاء على القيم المعنوية من منبتها . وبخاصة القيم الدينية ، فكيف يقبولن منك موقفا - ولو كان فى صفهم - يرتكز على تلك القيم ويحييها فى النفوس ! ! إن مجرد قبوله معناه أن لهذا المنطلق شرعية الوجود ، ومعناه الاعتراف بأنه منطلق صحيح لأنه يهاجم الظلم ويقف منه موقف المعاداة . . وأى شئ يمكن أن يقبله المخططون إلا هذا ! لأن معناه أن يوافقوا على إحياء ذات الشئ الذى يسعون إلى قتله جاهدين !
ثم إن هناك أمرا أخر لا يقل أهمية ..
إذا أنت جعلت المحك الذى تقيس إليه الإقطاع والرأسمالية هو الحق والعدل ، فماذا يكون موقفك من الشيوعية ؟ ألست قمينا أن تضعها على ذات المحل فترى أنها تخالف الحق والعدل كذلك ؟ فتروح تبحث عن حل آخر يقوم على الحق والعدل ؟ !(42/47)
الأولى إذن أن يقفلوا عليك الطريق من أوله ، ويسخفوا لك الحق والعدل " الأزلين " ويقولوا لك إنه لا وجود لها ولا أثر لهما على الإطلاق فى حياة البشرية .. إنما الذى يسير حياة البشرية هو " الحتميات " وهذه تؤدى إلى الشيوعية المطلوبة فى نهاية المطاف !
ليس الأمر إذن أمر حقائق علمية أو تاريخية تقول إن الحق والعدل لا وجود لهما فى حياة البشرية، وإنه ينبغى أن يسخفا ويسخر منهما ! بدليل أنهم حين يتحدثون عن الشيوعية يقولون إنها هى الحق وهى العدل ، وهى التى ينبغى أن تسود البشرية ! فهم إذن يثبتونهما ولكن بشرط أن يكونا خاليين من الدين والأخلاق .. أى فى الحقيقة خاليين من الحق والعدل !
أما " الحتميات " فهى جوهر المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ .
فالمراحل الخمسة التى تمر بها البشرية وهى الشيوعية الأولى ، ثم الرق ، ثم الإقطاع ، ثم الرأسمالية، ثم الشيوعية الثانية والأخيرة .. هذه المراحل حتمية !
والانتقال من مرحلة إلى تاليتها هو انتقال حتمى كذلك ، وعلى ذات الترتيب الذى رسمه التفسير المادى للتاريخ ، لا تسبق أمة مرحلتها ولا تتأخر عنها ، لأنها قدر حتمى !
وتغير القيم والمعايير والعقائد والأفكار والمشاعر مع تغير الطور الاقتصادى هو تغير حتمى ، لا يمكن الوقوف فى طريقه ولا تغيير مساره ولا تعديله ، بحكم ان القيم والمعايير والعقائد والأفكار والمشاعر هى مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى وليست شيئا قائما بذاته ،والانعكاس لابد أن يتغير حتما إذا تغير المعكوس !
ومن بين الحتميات كذلك قيام الصراع الطبقى ما دامت هناك ملكية فردية ! فحين كانت الشيوعية الأولى قائمة لم يكن هناك صراع بين البشر . ومنذ وجدت الملكية الفردية نشب الصراع ، وظل قائما فى محلة الرق والإقطاع والرأسمالية ، حتى إذا جاءت الشيوعية الثانية والأخيرة وألغيت الملكية الفردية زال الصراع إلى الأبد وحل محله الحب والوفاق والوئام وعاد البشر إلى الحالة الملائكية التى كانوا عليها أول مرة .
تلك خلاصة دعاواهم فى التفسير المادى للقيم الإنسانية .
فإذا وضعنا هذه الدعاوى على مائدة البحث وجدنا فيها قليلا من الحق وكثيرا من المغالطات .
فأما أهمية العامل الاقصتادى فى حياة الناس فأمر لا ينبغى لعاقل أن ينكره . أما إفراده بالأهمية ، وجعله أساس كل شئ . وجعل كل شئ مجرد انعكاس له ، والقول بأنه هو المحرك الوحيد - أو حتى المحرك الأساسى - لحياة البشر ، فأمر مبالغ فيه إلى حد الاعتساف الذى يجعل جانب الحق الضئيل يضيع فى وسط الأضاليل .
يقول الله سبحانه وتعالى:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [سورة النساء 4/5]
أى تقوم حياتكم عليها .
والتشريعات التى تنظم تداول المال فى القرآن والأحاديث النبوية كثيرة بصورة ملحوظة ، توحى بأهمية الحياةب الاقتصادية وأهمية تنظيم العلاقات المتعلقة بالمال .
وحين دخل الرسو صلى الله عليه وسلم المدينة أمر ببناء المسجد ثم أمر ببناء السوق . وفى ذلك دلالة واضحة كذلك على أهمية الحياة الاقتصادية فى حياة الأمة ، وأنها أمر من العبادة كبناء المسجد سواء .
ولكن المبالغة فى تقدير أهميتها أمر لا يستند أولا إلى حقيقة علمية ، ثم هو مفسد للتصور وللسلوك على السواء .
فقد أحتاج الماديون - من أجل إعطاء الجانب المادى والاقتصادى أهمية مبالغا فيها - إلى مجموعة من المغالطات والافتراءات لا تقوم على أى دليل علمى ، أولها مادية الخالق وثانيها مادية الإنسان .
فإذا ثبت علميا - كما ثبت اليوم - أن المادة حدثتن ولم تكن موجودة من قبل ، وإنها ليست أزلية أبدية كما زعم التفسير المادى للتاريخ ، فقد انهار الأساس الأول الذى افترة افتراء من اجل إقامة التفسير المادى للقيم الإنسانية .
وإذا ثبت علميا - كما هو ثابت منذ قيام شئ اسمه العلم فى حياة الإنسان - أن الكائن الحى - كل كائن حى بله الإنسان - يسير على نمط مخالف للمادة غير الحية ، وإذا ثبت علميا كذلك - كما هو ثابت من أبحاث الداروينية الحديثة ذاتها - أن الإنسان متفرد عن الحيوان حتى فى كيانه الحيوى ( البيولوجى ) البحت ، فضلا عن كيانه العقلى وكيانه النفسى وكيانه الروحى وكل شئ فيه ، فقد انهار الأساس الآخر الذى افترى افتراء من أجل الهدف ذاته .
وإذا علمنا أن قصة " تطور " المادة إن هى إلا مهرب - غير علمى - يهرب به الماديون من مواجهة القضية خلق الحياة من الموات ، فضلا عما أثبته العلم من أن الموات ذات مخلوق ، وأن الكون المادى قد أنشئ من غير وجود سابق . أى أنشئ من العدمن .
إذا علمنا ذلك فقد انهارت كل " مقومات " التفسير المادى للقيم الإنسانية القائمة على أساس أن المادى أزلية أبدية خالقة ( أو متطورة ينتج من تطورها النبات والحيوان والإنسان ) وأن الإنسان هو نتاج المادة فحسب .
والتفسير الأصوب فيما يتعلق بالقيم الإنسانية والحياة الإنسانية بأسرها هو أن نرجع فيها إلى " الإنسان " إلى النفس الإنسانية التى هى محور النشاط كله الذى يقوم به الإنسان .(42/48)
فإذا رجعنا إلى الإنسان كما نراه فى عالم الواقع لا فى صورته المفتراة بغير دليل نفسه مساحات أخرى واسعة لا يشغلها الاقتصاد ، وإنما تشغلها قيم أخرى أصيلة أصالة المادة وأصالة الاقتصاد ، وسنجد كذلك ظاهرة أخرى لا تقل عن ذلك أهمية ، هى أن الإنسان وحدة متكاملة ، تتفاعل فيها كل العناصر والمكونات لتعطى فى النهاية تعبيرا شاملا هو محصلة العناصر جميعا والمكونات جميعا . وأن أى محاولة لتفسير الإنسان بعنصر واحد من عناصره ، أو على ضوء عنصر واحد من عناصره ، هى محاولة ساذجة جدا لا تليق بأى " نظرية " تتعرض لتفسير السلوك البشرى ، وأن " العلماء " الذين يستحقون هذا الوصف ينبغى أن يكونوا أثقل وزنا وأكثر أمانة من أن يعطوا هذه التفسيرات الساذجة ، مهما تكن الأغراض الخفية الكامنة وراء هذه التفسيرات .
وسواء كان العنصر الواحد هو الاقتصاد كما قال ماركس ، أو هو الجنس كما قال فرويد ، أو العقل للجمعى المسيطر على الأفراد من خارج كيانهم كما قال دور كايم ، فكلها أضأل وأكذب م أن تفسر الحياة الإنسانية الواسعة الجوانب المتعددة ألوان النشاط ، ويكفى أن نجمع هذه التفسيرات الثلاثة بعضها إلى جانب بعض ليتضح لنا أن دعوى كل واحد منهم أن تفسيره هو التفسير " العلمى " الصحيح هى دعوى كاذبة وإن اشتملت على شئ من الحق ، فالاقتصاد جانب مهم ، والجنس جانب مهم ، وخضوع الفرد للتيارات الجماعية جانب مهم ، ولكن أيا منها لا يستقل وحده بتوجيه ، الإنسان " ووضع معاييره وقيمة كلها جميعا ، وأن التفسير الحق للإنسان ونشاطه وقيمه يشمل هذه الأمور الثلاثة كلها ، ويشمل غيرها مما أغفله - عمدا - كل واحد من " المفسرين " الثلاثة العظام ! وأننا - لكى ننشئ تفسيرا حقيقيا للحياة الإنسانية - لا ينبغى أن نغفل شيئا من مكونا الإنسان على الإطلاق ، أو أن نفسر شيئا أصيلا فى حياة الإنسان من خلال شئ آخر .
ماذا لو فسرنا الجنس - مثلا - من خلال الاقتصاد ، فعزونا المشاعر الجنسية إلى عوامل اقتصادية ؟ ! أى تفسير مضحك يكون هذا التفسير ؟ !
كذلك لو فسرنا الاقتصاد من خلال الجنسي ، فقلنا إن الدافع الجنسى هو السبب فى جميع العمليات الاقتصادية التى يقوم بها الإنسان ؟ !
أى تفسير مضحك يكون هذا التفسير ؟ !
والسبب فى كونه مضحك وساذجا ومرفوضا بادئ ذى بدء هو أن كلا من الاقتصاد والجنس عنصر أصيل فى كيان الإنسان على ذات الدرجة من الأصالة . فنفى أصالة أيهما وتفسيره من خلال الآخر هو الذى ينش تلك السذاجة المضحكة ، مع أن هناك ترابطا وتشابكا لا شك فيه بين الاقتصاد والجنس فى حياة الإنسان ، ذلك أنهما - مع أصالة كل منهما - يصبان فى المجرى الكبير الذى يشكل فى النهاية حياة الإنسان . ولكن ترابطهما وتشابكهما فى المجرى الكبير لا ينفى أن كلا منهما رافد مستقل ذو سمات قائمة بذاتها وذو دفعات قائمة بذاتها .
كذلك - على نفس المستوى - تكون محاولتنا تفسير الدين والقيم العليا كلها على أسس مادية اقتصادية كما يقول ماركس ، أو أس جنسية كما يقول فرويد ، أو أسس من العقل الجمعى المستقل عن كيان الأفراد والمغاير لكيان الأفراد كما يقول دور كايم .
هى محاولة ساذجة مضحكة ولو ألف فيها ألف كتاب ، ولو قامت الأبواق اليهودية تروج لها من خلال ألوف الأفواه !
" النفس الإنسانية " هى الأصل الذى نرجع إليه لتفسير أحوال الإنسان فى الأرض ، وتفسير ألوان نشاطه المختلفة .
وكون هذهن " النفس " قابلة لتشكل فى أشكال شتى لا يعنى أنه ليس لها كيان محدد ، ولا حدود تقف عندا فى تشكلها . إنما هذه المرونة فى قابليتها للتشكل هى ذاتها جزء من مقومات الخلافة التى خلق الله الإنسان ليقوم بها فى الأرض.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
فقد علم الخالق اللطيف الخبير الحكيم المدبر - لا ذلك الخالق الأصم الذى يدعيه الماديون ، ولا ذلك الذى يخبط خبط عشواء الذى يدعيه دارون - أن تفاعل هذه النفس البشرية مع الكون المادى سينشئ أشكالا مختلفة من الحياة فى الأرض ، بحسب درجة علم الإنسان بهذا الكون المادى ، ودرجة سيطرته عليه . وقدرته على استخراج طاقاته واستخدامها فى عمارة الأرض ، لذلك جعل - بحكمته - هذه النفس قابلة للتشكل لتوائم تلك الأشكال المتغيرة ، بينما الحيوان والنبات أقل قدرة بكثير على التشكل لأنه لا يحمل أمانة ولا يقوم بخلافة ولا عمارة .
أفينقلب هذا التكريم الربانى والتفضيل إلى نقيصة يوصم بها الإنسان فى التفسير المادى للتاريخ ، فيقال ، إنه لا " كيان " لهذه النفس البشرية ولا سمات محددة ، وإنها تأخذ سمتها من الوضع المادى الذى تكون فيه ؟
إن الحمار لا يمكن إلا أن يكون حمارا مهما أوقعت عليه من الضغوط لتغيير طبيعته ! أفيكون الإنسان أقل أصالة من الحمار فى عرف التفسير المادى للتاريخ ، فى الوقت الذى يزعمون فيه أنه " أعلى تطور فى عالم المادة " ؟ !
إن قضية أصالة " الإنسان " ، ووجود سمات أصيلة فيه تحدد طبيعته " الإنسانية " هى قضية فوق الشك ، أيا كان المدخل الذى ندخل إليها منه .(42/49)
ولكنا نختار ثلاث مداخل رئيسية مما يناسب هذا البحث :
أولا : هل التغير الذى يحدث فى حياة الإنسان حين تتغير أوضاعه المادية والاقتصادية هو تغير فى " القشرة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية أم تغير فى " جوهر " الإنسان ؟
ثانيا : لماذا يثور الإنسان بين الحين والحين ؟ وعلى أى شئ يثور ؟ وإلى أى شئ يهدف من ثورته ؟
ثالثا : لماذا تظهر عليه أعراض امرض النفسى حين يتناول غذاء " حاضريا " لا يناسب طبيعته ؟
فبالنسبة للقضية الأولى نجد بادئ ذى بدء أن دواعى التغيير المادى ذاتها نابعة من " نفس " الإنسان وليست نابعة من المادة المحيطة بالإنسان ، فهذه المادة - بمعنى الكون المادى على اتساعه وبمعنى البيئة القريبة المحيطة - موجودة بالنسبة للحيوان كوجودها بالنسبة للإنسان على السواء . فلماذا لا تثير بالنسبة للحيوان الرغبة فى التعرف على خواص المادة والرغبة فى استخدام حصيلة المعرفة فى تغيير البيئة المحيطة ، بينما تثير هاتين الرغبتين بالنسبة للإنسان ؟
هل الفرق كائن فى المادة أم إنه كائن فى الإنسان ؟ ! وإذا كان كائنا فى الإنسا كما هو بدهى ، أفليس هذا خطا ثابتا من خطوط النفس البشرية يحدد سمة من سماتها الأصيلة التى لا تتغير بتغير " القشرة " الخارجية ولا بتغير الظروف المادية والاقتصادية ؟
صحيح أن حصيلة التفاعل المستمر بين الإنسان والمادة المحيطة به تحدث تغييرا فى البيئة وتغييرا فى صورة الإنتاج ، فيصبح رعويا أو زراعيا أو صناعية أو .. ؟ ولكن كم يغير هذا التغيير من طبيعة الإنسان الأصيلة ؟
نترك مؤقتا قضية الملكية الفردية لأننا سنفردها بحديث خاص ، نثبت فيه من واقع التطبيق الشيوعى ذاته أن نزعة الملكية الفردية لم تمت فى نفوس الناس ولا أمكن إحلال الملكية الجماعية محلها . ونشير إلى بقية الدوافع .
هل تغيرت دوافع الإنسان الأصيلة ؟ حبه للحياة .. رغبته فى المتاع . رغبته فى الجنس .. رغبته فى البروز وإثبات الذات .. رغبته فى المعرفة .. رغبته فى إطالة عمره على الأرض .. رغبته فى السيطرة على البيئة .. رغبته فى الاجتماع بالآخرين .. رغبته فى الانتماء .. رغبته فى التحسين المستمر لأحواله .. رغبته فى الأمن .. رغبته فى الاستقرار رغبته فى الذرية ..
نعم ، تغيرت الصورة التى يحقق بها هذه الدوافع ، ولكن هل تغيرت طبيعة الدوافع ؟
إنه من السذاجة غير " العلمية " أن ينظر الإنسان إلى تغير الصورة فينسى ثبات الجوهر (1)
ونعود إلى النص الذى نقلناه عن رينيه دوبو فى كتاب " إنسانية الإنسان " ص 71 من الترجمة العربية .
عاش رجل " كروماغنون C r o - Magnon " فى أكثر أنحاء أوربا قبل حوالى ثلاثين ألف سنة ، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة ، ومع أنه كان صياد بصورة رئيسية كان - على ما يظهر - مشابها لنا جسما وعقلا ، فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن ، وفنه فى كهوفه يثير مشاعرنا ، والعناية التى كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما بالاهتمام بنهاية الإنسان وآخرته ، وكل أثر مدون من آثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكرة القائلة أن الخواص الأساسية للجنس البشرى لم تتغير منذ العصر الحجرى (2)
__________
(1) أنظر - إن شئت - حديثا مفصلا فى هذا الموضوع فى كتاب " التطور والثبات فى حياة البشرية .
(2) ترجمة الدكتور نبيل صبحى الطويل طبع مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الأولى سنة 1979
فتغير " القشرة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية للإنسان - حتى إن سلمنا جدلا أنه ينبع من التغير المادى وحده ، ونحن لا نسلم بذلك - لا يعنى أنه أصبح إنسانا آخر . ولا يعنى أن الإنسان الرعوى غير الإنسان الزراعى غير الإنسان الصناعى من حيث الجوهر .
وليس معنى ذلك - من جهة أخرى - أن أى نظام مثل أى نظام آخر ، وأنه لا يختلف حال الإنسان أى اختلاف بتغير النظم عليه . كلا ! ما نقصد ذلك ولكنا نريد أن نؤكد أنه ليس الوضع المادى هو الذى يحدث التغيير الجوهرى فى حياة الإنسان ، أو هو المعيار الذى تقوم به حياته .
إنما يحدث تغير جوهرى فى حياة الإنسان بحسب معيار آخر مختلف تماما . هو نوع العبادة التى يعبدها . ونوع التشريع الذى ينظم حياته ، هلى يعبد الله الحق أم يعبد آلهة زائفة ، وهل يتحاكم إلى شريعة الله أم إلى شرائع جاهلية من صنع البشر .
ذلك هم الذى يحدث التغيير الجوهرى فى حياته ، سواء كان فى الحالة الرعوية أو الحالة الزراعية أو الحالة الصناعية أو الحالة الذرية ( إن كانت هذه تعتبر تحولا فى طريقة الإنتاج على المدى البعيد ! ) أو فى أى حالة من الحالات المادية على الإطلاق . والسبب فى ذلك أن الإنسان - بخلقته - ذو طريقين مختلفين كل الاختلاف من حيث الأسباب والنتائج والوسائل والأهداف .
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [سورة البلد 90/10](42/50)
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} [سورة الإنسان 76/3]
وهو فى الوضع السوى حين يعبد الله وحده ويحكم شريعته ، وفى الوضع المقلوب حين يعبد غير الله ويحكم شريعة غير شريعة الله ، ولا يستوى الوضع السوى بطبيعة الحال مع الوضع المقلوب ، والفارق بينهما فارق جذرى وجوهرى ، أما التغيرات المادية والاقتصادية فهى تغير الصورة نعم ، ولكنها لا تغير الجوهر .
ومن هنا يكون للبشرية - فى كل أوضاعها المادية والاقتصادية - حالتان اثنتان فحسب ، إما سوية معتدلة وإما مقلوبة ،بصرف النظر عن الوضع المادى والاقتصادى ذاته ، أى أنه يكون رعويا فى حالة اعتدال أو رعويا على الوضع المقلوب . ويكون زراعيا فى حالة اعتدال أو زراعيا على الوضع المقلوب ، ويكون صناعيا فى حالة اعتدال أو صناعيا على الوضع المقلوب ، ويكون ما شاء الله أن يكون من الأوضاع المادية والاقتصادية على حالتين اثنتين : مهتديا فتستقيم حياته ، أو ضالا فتضطرب حياته وتختل .
والذى درسته المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ هو خط الضلال البشرى من الشيوعية الأولى إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية - كما سنشير فيما بعد - ولم يدرسا قط خط الإيمان التاريخى سواء عن عمد أو غير عمد (1) لذلك التفت التفسير المادى للتاريخ إلى التغيرات الجزئية التى حدثت فى الانتقال من كل طور اقتصادى إلى الطور الذى تلاه ، وركز عليها ، وضخمها ، حتى بدت اختلافات جوهرية فى حياة الإنسان ! والسبب فى ذلك أنه لم يقارن أبدا بين الصورتين المتغايرتين تغايرا جوهريا صورة الإيمان وصورة الضلال على جميع الأطوار المادية والاقتصادية ، إذن لتبين له أن الفوارق الحقيقية ليست قائمة بين الاقتصاد الرعوى والاقتصاد الزراعى والاقتصاد الصناعى ، إنما هى بين الاقتصاد الرعوى - والحياة الرعوية بجملتها - على خط الإيمان وعلى خط الضلال ، والاقتصاد الزراعى - والحياة الزراعية بجملتها - على خط الإيمان وعلى خط الضلال ، والاقتصاد الصناعى - والحياة الصناعية بجملتها - على خط الإيمان وعلى خط الضلال . ولتبين له كذلك أن الحياة بجملتها على خط الإيمان - فى الحالة الرعوية والحالة الزراعية والحالة الصناعية - ذات سمات أساسية مشتركة ، هى قيامها على الحق والعدل والترابط الإنسانى والأخوة وغلبة المحبة على الصراع 0 مهما يكن فى داخلها من هزات واضطرابات ناشئة من إخفاق الناس فى تطبيق المنهج الربانى بالصورة الواجبة ) وإن الحياة بجملتها على خط الضلال - فى الحالة الرعوية والحالة الزراعية والحالة الصناعية - ذات السمات اساسية مشتركة . هى قيامها على الظلم والطغيان والصراع على متاع الأرض القريب .
- - - - - - - - - - - - - - -
القضية الثانية ، أو المدخل الثانى لقضية أصالة الإنسان ووجود سمات جوهرية أصيلة فيه لا تتغير بتغير الوضع المادى والاقتصادى هو ظاهرة الثورات فى التاريخ البشري .
لماذا يثور الإنسان إذا لم يكن له كيان أصيل ينبغى أن يكون عليه ؟
بعبارة أخرى : إذا كان الإنسان قابلا للتشكل الدائم بحسب الوضع المادى والاقتصادى دون أن يكون له شكل ثابت أو حدود ثابتة يجرع إليها ، فلماذا يثور على أى وضع من الأوضاع يكون قد تشكل به فى أثناء رحلته التاريخية على الأرض ؟
__________
(1) نقول نحن إنه عن عمد . ولكن يستوى فى النتائج أن يكون عن جهل أو عن عمد .
يقول التفسير المادى للتاريخ - ويحسب أنه قد حل القضية بذلك - إن الحتمية المادية والحتمية الاقتصادية والحتمية التاريخية هى الجواب ! وهى التى تفسر سبب الثورات . فإنه إذا انتهى الدور التاريخى لأى طور من الأطوار الاقتصادية ووصل الصراع الطبقى إلى درجة " النضوج " حسب الحتمية التاريخية والحتمية المادية والاقتصادية . أى بمقتضى الحركة التاريخية للمادية الجدلية .. إذا حدث ذلك كله حدثت الثورة التى تهدم النظام المنهزم - ماديا واقتصاديا وتاريخيا - وتشيد النظام المنتصر - ماديا واقتصادية وتاريخيا - وتمكن له فى الأرض .
وببساطة نقول : إن هذا لا يفسر كل الثورات التى حدثت فى التاريخ . ودع جانبا الآن ظهور الإسلام وتمكنه فى رقعة فسيحة من الأرض ورقعة فسيحة من التاريخ ، فسنفرد له حديثا فى الرد على التفسير المادى بجملته . ولكنا نستشهد عليهم من نظريتهم !
فهم يقولون إن الثورات الناجحة هى التى توافق سير الحتمية التاريخية فتأتى فى إبانها الصحيح ، وتكون متوافقة مع الظروف - أو الحتميات - المادية والاقتصادية ويكون الصراع الطبقى فيها قد نضج إلى الحد الذى ينجح الثورة أما الثورات التى لا توافق خط سير هذه الحتميات ، ولا يكون الصراع الطبقى فيها قد نضج إلى الحد المعقول ، فإنها تفشل مهما بذل فيها من الضحايا !
يا سبحان الله ! إذن فليس السبب فى قيام الثورات هو هذه الحتميات ! إنما التوافق مع هذه الحتميات - كما يقولون - هو الذى يؤدى إلى نجاح الثورة ، أما قيامها فلابد أن يكون له سبب أخر أغفله - عامدا - التفسير المادى للتاريخ !(42/51)
لابد أن يكون السبب كامنا فى " الإنسان " ! فى كيانه الأصيل . فى كراهيته للظلم ، وتطلعه إلى الحق والعدل الأزليين ، سواء تحقق العدل فى عالم الواقع أم لم يتحقق لسبب من الأسباب !
- - - - - - - - - - - - - -
القضية الثالثة أو المدخل الثالث هو ظهور الأعراض المرضية فى حياة الإنسان حين تكون " الحضارة " التى يعش فيها غير مناسبة لكيانه السوى .
والشاهد الحى على ذلك هو المجتمع الأوربى فى الجاهلية المعاصرة .
لقد زعم التفسير المادى للتاريخ أن أخلاقيات المجتمع الزراعى من شدة " التدين " إلى سيطرة الأب فى الأسرة والحفاظ على العرض والاهتمام بالعفة الجنسية والترابط التعاونى . إلخ كانت مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى فى الطور الزراعى ، وليست قيما أصلية قائمة بذاتها ، وأنه حين تغير الطور الاقتصادى ودخل الناس فى العصر الصناعى فإن من طبيعة الطور الاقتصادى الجديد أن يضعف التدين ، وتزول سيطرة الرجل بسبب تحرر المرأة اقتصاديا ، وتزول غيرته على عرضه ، وتفقد قضية العفة أهميتها ، وتتفكك الأسرة .. الخ ، ويكون هذه كله هو الانعكاس الطبيعى للوضع الاقتصادى الجديد .. ومن ثم تكون " الأخلاقيات " الجديدة المضادة تماما للأخلاقيات الزراعية هى المناسبة للوضع الجديد ، وينشئ الطور الجديد عقائده وأفكاره وأخلاقياته فتستجيب لها النفوس وتتكيف معها بصورة طبيعية !
ولكن هذا الذى يقوله التفسير المادى للتاريخ يكذبه الواقع أشد التكذيب .
فأما ضعف المشاعر الدينية ، وزوال سيطرة الأب ، وفقدان قضية العفة أهميتها ، وتفكك الأسرة ، وممارسة الحرية الكاملة فى علاقات الجنس فقد حدثت حقا ، سواء كان سبب ذلك هو " التطور الحتمى " المصاحب لتغير الطور الاقتصادى كما يقول التفسير المادى للتاريخ ، أم كان سببه التخطيط الشرير الهادف إلى إفساد البشرية لاستحمارها واستعبادها كما نزعم نحن ..
أما الاستجابة " الطبيعية " فلم تحدث على الإطلاق !
إن رد الفعل الذى حدث من ذلك كله هو انتشار القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والاضطرابات العصبية وإدمان الخمر والمخدرات واتساع نطاق الجريمة وجنوح الأحداث والشذوذ الجنسى.
ومؤتمراتهم وإحصائياتهم هى الشاهد على ذلك ..
ودلالة ذلك واضحة ..
فلو أن النفس البشرية ليس لها كيان محدد ولا صورة ينبغى لها أن تكون عليها ، ما حدث رد الفعل المرض الذى حدث بالفعل فى حياة الناس ، ولاستجابت استجابة " طبيعية " للشكل الذى شكلت به ، سواء كان الذى حدد الشكل هو التطور الحتمى أو التخطيط الشرير .
إنما هذه الاستجابة المرضية معناها أن الحضارة التى قدمت للناس - تحت أى ظل وأى عنوان - هى حضارة لا تناسب الكيان البشرى السوى ، لا تناسب مقومات النفس البشرية الأصيلة ، لا تناسب الوضع السليم الذى ينبغى أن يكون عليه الإنسان ، لمفارقتها للقيم الإنسانية الصحيحة .
وإذن فهناك قيم معينة ، أصيلة وثابتة ، ينبغى أن تكون قائمة فى حياة الناس أيا كان الطور الاقتصادى الذى يعيشون فيه . وحين تخالف هذه القيم فإن الحياة تضطرب وتختل ولا يعود لها ميزان .
ويكفينا هذا لإثبات ن القيم العليا هى أشياء قائمة بذاتها ، ومطلوب وجودها فى الحياة البشرية لأن هذه الحياة لا تستقيم بدونها . كما يكفينا هذا لنفى تلك الأسطورة القائلة بأن الوضع الاقتصادى هو الأصل الوحيد الذى تنشأ منه كل القيم وكل الأخلاق ، وإن كنا نقرر من باب إحقاق الحق أن الوضع الاقتصادى يتخذ أهمية بالغة فى كل جاهليات التاريخ ، بحيث يبدو أن هو المسيطرة ، وأنه هو الأساس ، إذ تتوارى القيم الأخرى كلها وتحتجب ، فتبرز القيم المادية وتصبح هى الأساس ! ولو أن التفسير المادى للتاريخ اكتفى بأن يقول إنه يفسر الجاهليات البشرية لكان أقرب إلى الصواب ، أما أن يزعم أن يفسر " التاريخ " .. كل التاريخ .. فزعم واسع يكذبه التاريخ ! ومع ذلك فالجاهليات ذاتها - كما سنبين - لا يستوعبها استيعابا كاملا ذلك التفسير الجاهلى للتاريخ !
إذا اكتفينا بهذا القدر فى مناقشة القضايا الرئيسية فى التفسير المادى للتاريخ ، وهى قضية مادية الخالق وقضية مادية الإنسان وقضية مادية القيم الإنسانية ، فلا بأس أن نستعرض بعض القضايا المترتبة عليها . ونختار من بينها قضية ، الدين " وقضية " الأسرة " وقضية " الشيوعية الأولى " وقضية " الملكية الفردية " وقضية " التطور " وقضية " الحتميات " وكلها من القضايا ذات الأهمية الخاصة فى التفسير المادى للتاريخ .
- - - - - - - - - - - - -
1- التفسير المادى للدين :(42/52)
يقول التفسير المادى للتاريخ إن الإنسان الأول تدين لأنه كان جاهلا بقوانين الطبيعة من حوله ، فصنع من قوى الطبيعة آلهة ، فالبرق إله والرعد إله والريح إله والمطر إليه .. الخ ، ولأنه كان جاهلا بالبيئة وغير قادر على السيطرة عليها ، فجعل من أشجارها وحيوانها آلهة معبودة يستمطر رضاها ويتوقى غضبها ، ويقدم لها الصلوات والقرابين .. ومصدرهم فى كثير من هذه الأمور هو " فريزر " فى كتاب الغصن الذهبى " الذى استغلوه استغلالا كاملا كما استغلوا دارون من قبل ، وإن كانوا هم يشيرون إلى أبحاث " مورجان (1) ولا يشيرون إلى فريزر !
أما فى العهد الإقطاعى - أو الزراعى - فالناس متدينون لأن عملية الإنتاج تشتمل على جانب لا يملك الإنسان السيطرة عليه ، وهو جانب الإنبات والإنماء والآفات والعوارض الجوية ، فيتخيل قوى غيبية يسند إليها إخراج الزرع من الأرض وإنضاجه وحمايته ، فيتعبدها ويسترضيها لتحفظ له المحصول الذى تقوم حياته عليه .
ثم يزول الجهل والعجز بالتقدم العلمى والتكنولوجى فيتعرف الإنسان رويدا رويدا على قوانين الطبيعة ، ويسيطر تدريجيا على البيئة ، فتقل حاجته إلى " افتراض " القوى الغيبية . وحين تصبح عملية الإنتاج مادية بحتة فى العصر الصناعى ويسيطر العامل على كل خطواتها من أول استخراج المادة الخامة إلى تشكيلها فى صورتها النهائية .. فعندئذ تزول الحاجة إلى التدين نهائيا وينتهى دور الدين فى حياة البشرية .
ومن جانب آخر فإن الطبقة الحاكمة سواء فى الإقطاع أو فى الرأسمالية تستخدم الدين - الذى هو أسطوة لا حقيقة لها - فى تخدير الجماهير الكادحة لترض بالظلم فى الأرض طمعا فى الجنة فى الآخرة .
ونقول بادئ ذى بء إنه من التعسف تفسير ظاهرة وجدت فى جميع العصور وجميع الأجيال بتفسير خاص فى كل جيل من الأجيال ! إنما ينبغى - من الوجهة العلمية البحتة _ أن نبحث عن أسبابها فى الأصول الثابتة لا فى المتغيرات !
إن دلالة خمسين قرنا - على الأقل - من تاريخ البشرية المكتوب ، فضلا عن قرون أخرى غير مكتوبة لا يعلم عددها إلا الله ، لا يمكن أن تلغى بجرة قلم مهما يكن جبروت هذا القلم وطغيانه ! ولا يمكن أن تلغى لأن جيلا واحدا أو جيلين قد تنكرا للدين لأسباب معروفة ومرئية وغير خافية على الذين يبحثون عن الحق ويحبون أن يهتدو إليه !
فى كل تلك القرون التى لا يعلم عددها إلا الله كانت ظاهرة التدين قائمة ، فلماذا نقول إن سببها فى الجيل الفلانى كان كذا وفى الجيل الآخر كان أمرا آخر ؟!
أهذه هى طريقة " البحث العلمى الموضوعى " وتلك هى مناهجه ؟!
هل يمكن مثلا أن نرد الدافع الجنسى إلى أسباب مادية ، أو إلى أسباب تختلف فى جيل عنها فى جيل آخر ، أليس وجود هذا الدافع على مدى التاريخ البشرى يجعلنا نقول إنه فى أصل الفطرة ، لا هو مكتسب ولا هو راجع إلى أسباب خارجية فى البيئة المحيطة بالإنسان ؟ !
فلماذا نقول عن التدين - الذى وجد على مدى التاريخ البشرى - إنه راجع إلى البيئة وإلى أسباب متغيرة ، وليس أصلا من أصول الفطرة ؟
أمن أجل أن جيلا من البشر أو جيلين قد تفشى فيهما الإلحاد ؟!
__________
(1) مورجان باحث أمريكى تخصص فى دارسة احوال القبائل الأمريكية البدائية وهو متأخر عن ماركس ولذلك يشيرون إليه على اعتبار أن أبحاثه أيدت أقوال ماركس التى قالها غير متأثر بأحد "
لقد تفشت بالرهبانية فى المجتمع المسيحى عدة قرون ، وكان ينظر إلى التخلص من الدافع الجنسى أو كتبه أو قهره على أنه قمة الارتفاع النفسى والروحى ، فهل يلغى هذا العارض الذى تفشى فى مجتمع معين لفترة معينة كل دلالة التاريخ ، ويجعلنا نقول إن أسبابا معينة فى البيئة هى التى توجد دافع الجنس ، وإنه يمكن أن يزول من الوجود فى يوم من الأيام ؟ !
لماذا إذن نفرق بين ظاهرتين متشابهتين بل متماثلتين فنعطى إحداهما تفسيرا ونأبى على الخرى ذلك التفسير ؟
كلا ! إن الهدف واضح ، وهو أن الشيوعية - اليهودية المنشأة - تريد أن تقيم مجتمعا بشريا على الإلحاد الكامل عن الدين ، فتروح تزعم أن الدين ليس من الفطرة ، وأن أسبابا معينة فى البيئة أو فى موقف الإنسان من البيئة هى التى أنشأت ظاهرة التدين فيما مضى من التاريخ ، وأن هذه الأسباب الآن قد زالت فينبغى للدين أن يزول !
إن وجود عوامل خارجية فى الكون المادى وفى البيئة المحيطة بالإنسان تبعث مشاعر التدين فى الإنسان أمر نعلمه ونقره ..
إنها ذلك الكون ذاته بضخامته المعجزة ودقته المعجزة .
إنها ظاهرة الحياة والموت التى تبهر حس الإنسان وتثير عجبه وتطلعه .
إنها ظاهرة حدوث الأحداث وجريانها من ليل ونهار ونور وظلمة وولادة وموت وصحة ومرض وغنى وفقر واجتماع وافتراق .. الخ .
إنها ظاهرة عجز الإنسان عن السيطرة الكاملة على الكون مهما بلغ من سيطرته ، وعن الإحاطة الكاملة بأسراره مهما بلغ من علمه ، وعجزه الكامل عن الخلق والإنشاء من العدم (1)
إنها هى التى نبه إليها رب العالمين فى كتابه الكريم ليوقظ وجدان البشر إلى تفرد الله بالألوهية والربوية ووجوب إفراده بالعبادة والنسك وتحكيم شريعته فى الأرض :(42/53)
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [سورة البقرة 2/163-164]
{هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [سورة غافر 40/68]
{قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [سورة آل 3/26-27]
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [سورة النحل 16/10-18]
__________
(1) سنعاود الحديث عن هذا الموضوع بتفصيل أكثر عند التحديث عن الإلحاد
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [سورة الواقعة 56/58-74]
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ (37)} [سورة الطور 52/35-37]
نعم .. هناك عوامل خارجية فى الكون المادى وفى البيئة المحيطة بالإنسان تبعث مشاعر التدين وتوقظها ، ولكنها لا تنشئها من العدم ، إنما هى موجودة هناك فى أعمال الفطرة ، وهذه العوامل توقظها فقط ، لأن الله جعل الفطرة هكذا بحيث تستيقظ حين تتلقى إيقاعات الكون المادى وإيقاعات الأحداث الجارية فى محيط الإنسان ، فتمضى تبحث عن الخالق سواء اهتدت فى بحثها أم ضلت عن السبيل .
ودليلنا على ذلك هو التاريخ البشرى كله ، لا ينقص من دلالته وجود جيل أو جيلين نافرين جاحدين شذا عن الطريق .
ودليلينا من العالم الشيوعى ذاته هو جاحارين رائد الفضاء الأول ، الذى ولد فى الشيوعية وتربى فيها على الإلحاد الكامل وإنكار وجود الله ، فما صعد إلى الفضاء هزته روعة الكون ، فكان تصريحه الأول للصحفيين عند هبوطه إلى الأرض : " عندما صعدت إلى الفضاء أخذتنى روعة الكون فمضيت أبحث عن الله (1)(42/54)
ودليلنا عليه من الجاهلية المعاصرة كذلك أولئك العلماء الذين تعمقوا فى دراسة أسرار الكون فهداهم علمها إلى أنه لا يمكن تفسير عجائب الكون إلا بالتسليم بوجود الله ، مما نقلنا فقرات منه فى هذا الفصل من قبل ونحن نتحدث عن التفسير المادى للخالق .
- - - - - - - - - - - - - - -
الدين إذن مركوز فى الفطرة :
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
والعوامل التى توقظ الفطرة فتبعثها تبحث عن الله باقية ما بقى الإنسان فى الأرض ، لا تتغير مهما بلغ من علم الإنسان أو سيطرته على البيئة .
ومن أجل ذلك بقيت ظاهرة التدين قائمة خلال التاريخ البشرى كله ، بصرف النظر عن هذا الجيل الممسوخ الذى دفعته عوامل معينة - معروفة - إلى مغالبة الفطرة والتبجح بإنكار وجود الله .
والذى ألغاه تعلم الإنسان وسيطرته على البيئة لم يكن هو الدين الصحيح إنما كان بعض انحرافات الجاهلية وتصوراتها الساذجة ، فحين توهم البشر - فى بعض جاهليتهم - إن المطر إله والريح إله والرعد إله والبرق إله ، وأن وجه الأرض مملوء بالأرواح الشريرة التى يؤثر فيها السحر ، أو حين توهموا - فى طور آخر - أن بعض الحيوانات ألهة تعبد - كبقرة الهند والعجل أبيس فى مصر الفرعونية وغيرها - أو حين توهموا فى طور ثالث أن بعض الأجرام السماوية ألهة كالشمس والقمر والنجوم .. كانت هذه كلها أوهاما ساذجة يمكن أن يمحوها العلم ، أو يمحوها زيادة سيطرة الإنسان على البيئة .
أما الدين الصحيح - وهو عبادة الله الخالق وحده بلا شريك - فقد وجد منذ بدء البشرية وظل قائما إلى هذه الساعة ، لم يؤثر فيه العلم ولا سيطرة الإنسان على البيئة ، لأنه لم ينشأ من الجهل العارض أو العجز العارض كما يزعم التفسير المادى للتاريخ ومن لف لفه من الملحدين ، إنما نشأ من حقيقة أزلية هى ووجود الله الخالق البارئ المصور ، وكون الإنسان مخلوقا خلقه الله ، وأودع فى فطرته أن يتوجه لعبادة الله ، وإن كان قد أودع فى فطرته فى الوقت ذاته قدرة على الاختيار بين طريق الهدى وطريق الضلال .
وفى عهود البشرية السحيقة حين كانت أقوام تعبد الأب ، أو تعبد الطوطم ، أو تعبد قوى الطبيعة ، أو تعبد الأفلاك ، أو تعبد الأصنام كان هناك مؤمنون يعبدون الله وحده بلا شريك ، فيتقدمون إليه وحده بالعبادة والنسك ، ويطبقون شريعته فى واقع حياتهم .
__________
(1) زيفت الدولة تصريحه فيما بعد ولكن العبرة بتصريحه الأول .
فإذا كان نمو العلم ونمو سيطرة الإنسان على البيئة قمينا بأن يلغى أساطير الجاهليات المختلفة فى أمر الدين ، فليس من شأنه أن يلغى الدين ذاته ، المركوز فى الفطرة ، الذى ينبثق حتى فى الجاهلية المعاصرة الملحدة الكافرة ، فيعلن صوت الفطرة رغم كل الحواجز التى تريد أن تخنق ذلك الصوت .
وأما كون الإقطاع والرأسمالية يستخدمان الدين مخدرا للجماهير لترضى بذل العبودية فى الأرض طمعا فى جنة الله فى الأخرة ، فتلك كانت حقيقة واقعة فى الجاهلية الأوربية الحديثة ، وقامت الكنيسة ذاتها بجزء من المؤامرة التى تهدف إلى تخدير الجماهير لكيلا يثورا على الظالمين ..
ولكن ما علاقة ذلك بحقيقة الدين ؟
إن الدين - ككل شئ آخر فى عالم البشر - يمكن أن تشوه صورته وأن يساء استغلاله ، فهل نلغى الدين الصحيح من أجل الصورة الزائفة ، أو من أجل سوء الاستغلال ؟ أم نحاول تصحيح الصورة ومنع الاستغلال ؟
ثم ما الحيلة إذا كان الإنسان عابدا بطبعه ، فغن لم يعبد الله عبد من هو دونه ، وهبط نتيجة لذلك أسفل سافلين؟ !
كلا ! ليس التفسير المادى للدين حقيقة ، علمية ، ولا يمت بأية صلة للعلم أو النظر العلمى . إنما هو " شهوة " قائمة على غير الدليل شهوة بعض الناس فى نشر الإلحاد فى الأرض لغاية فى نفوس الشياطين ! (1)
2- قضية الأسرة :
كل الذين يتكلمون ضد الدين والأخلاق يتكلمون ضد الأسرة كذلك . والعلاقة واضحة . فالدين والأخلاق والأسرة كلها من " الضوابط " التى تقف فى سبيل المخططات الرامية إلى إفساد البشرية واستحمارها :
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)} [سورة النساء 4/27]
إن الأسرة هى الضابط الطبيعى ضد فوضى الجنس ، والذين يريدون إفساد البشرية لا يريدون أن يكون هناك ضابط للفوضى الجنسية ، سواء كان هذا الضابط هو الدين والأخلاق ، أو كان هو التنظيم الطبيعى الذى تنشئه الأسرة بنوع علاقاتها ونوع مسئولياتها .
والشيوعيون - بصفة خاصة - لهم حقد خاص على الأسرة لأكثر من سبب فى وقت واحد .
فالأسرة - كما يقولون - تثير مشاعر الأثرة فى الوالدين ، وتقوى نزعة الملكية الفردية من أجل توريث الأولاد ما يملكه الوالدان ، وهم يريدون القضاء على الملكية الفردية ، فيكرهون - بالتالى - كل نظام أو فكرة يقف فى طريق القضاء عليها .(42/55)
ثم إن النظام الشيوعى - كما سنرى ونحن نناقش المذهب الإقتصادى فى صورته التطبيقية - يريد أن يجعل الولاء للدولة وحدها دون أحد آخر ، ويريد من الأفراد أن يذوبوا ذوبانا كاملا فى " النظام و " الدولة " و " الحزب " و " الزعيم " فلا يكون لهم ارتباط بشئ آخر خلاف هذه الولاءات الضرورية للنظام . ومن ثم فإنهم يكرهون الأسرة لأنها - بداهة - ارتباط قائم بذاته مستقل عن الدولة ، ولو كان مواليا لها فى ظاهر الأمر أو واقعا تحت الضغط البوليسى للدولة . فإذا كان النظم الشيوعى - بالإضافة إلى ذلك - يصل إلى حد تجنيد الشعب كله فى التجسس بعضه على بعض ليأمن قيام أى تجمع مضاد ، أدركنا أن حنقه على الأسرة لابد أن يكون أشد ، لأن الولاء الفطرى داخل الأسرة هو نوع من التجمع ، مهما يكن صغيرا فإنه يمكن أن يكون نواة لتجمع أكبر ، وهو فى جميع الأحوال حائل دون الجاسوسية الدقيقة على كل فرد من أفراد الشعب .
وبالإضافة إلى ذلك كله فإن من الضمانات التى يعتمد عليها النظام الشيوعى تربية الأولاد منذ نعومة أظفارهم على الولاء الكامل للنظام والدولة والحزب والزعيم .. وهذا يقتضى الإشراف الكامل عليهم منذ ولادتهم ، حتى لا توجد " جرثومة " واحدة مفردة يمكن أن تنشر العدوى فى نطاق أوسع . والأسرة - أو مشاعر الارتباط الأبوى - عائق من عوائق هذا الإشراف الدقيق الذى يعتمد عليه النظام ، لأنها تجعل ولاء الأطفال - أو جزء منه على الأقل - مرتبطا بأعضاء الأسرة من الآباء والأخوة .
لذلك كله تكره الشيوعية الأسرة كراهية خاصة مركزة ، وسط الكراهية العامة التى يتوجه بها إلى الأسرة ذلك المخطط الشرير الذى يهدف إلى إفساد البشرية واستحمارها .
ولكن أصحاب المخطط يحبون - دائما - أن يغفلوا مخططهم بالعلم والنظريات العلمية ، ليكون ذلك أدعى إلى تقبل الناس له وعدم اعتراضهم عليه . و " العلم " فى الجاهلية المعاصرة يقوم مقام " السحر " فى الجاهليات البدائية التى كانت تؤمن به وتتعامل معه ، ويدخل النفوس بسهولة ويتمكن منها فى لحظات .. ولو كان قائما على غير أساس ! إذ يكفى أن تقول عن أى شئ إنه نتيجة " أبحاث عليمة " حتى ينصاع الناس صاغرين ، دون أن يتوقفوا حتى ليتساءلوا : أحق هو ؟! أم دعوى بلا دليل !
و " العلم " الذى يحارب الماديون به الأسرة يأخذ البشرية بطولها من أولها إلى آخرها !
ففى البدء كانت الشيوعية الجنسية فلم تكن هناك " أسرة " بالمعنى المتعارف عليه .
وفى بقية التاريخ كانت الأسرة قائمة لأسباب اقتصادية ومتوافقة مع تلك الأسباب الاقتصادية .
__________
(1) سنتحدث عن هذه الغاية مرة أخرى فى فصل "الإلحاد"
وفى نهاية التاريخ - التى يريدونها أو يتخيلونها أو يخيلونها للناس - تنتهى مهمة الأسرة وتزول من الوجود .. على أسس " علمية " !
فأما الشيوعية الجنسية فسنتحدث عنها فى الفقرة القادمة ، ولكنا نقول هنا إن كل ما قالوه فى وصفها لا يستند إلى دليل علمى حقيقى إنما هو استنباطات مغرضة من أحوال القبائل المتأخرة التى عثر عليها فى آسيا وأفريقيا وأستراليا فى القرنين السابقين .
وأما قيامها لأسباب اقتصادية فيكفينا أن نشير فيه إلى ما شرحناه من قبل فى مناقشة التفسير المادى للقيم الإنسانية من أن الاقتصاد والأوضاع الاقتصادية جانب مهم فى حياة الإنسان ، ومؤثر من المؤثرات القوية فيها ، ولكن هذه الحياة أوسع وأشمل من أن تفسر بجانب واحد أو عامل واحد مهما يكن من سعته وقوة تأثيره . إنما المؤثرات كلها - على اختلاف كل منها عن الآخر وأصالته الذاتية - روافد تصب فى المجرى الكبير الذى يشكل حياة البشرية . والاقتصاد واحد من هذه المؤثرات ورافد من الروافد ، ولكنه ليس وحده الذى يتحكم فى حياة الناس ، وليس هو الذى يفسرها ، إنما التفسير الأشمل والأصح أن النفس البشرية بكاملها هى التفسير الصحيح للحياة البشرية بكاملها . والنفس تحوى - ولا شك - عناصر كثيرة غير العناصر المادية حتى فى ضلالها وجاهليتها !
يقول خالق هذه النفس سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [سورة الروم 30/21]
هذا السكن وهذه السكينة عنصر هام فى نشأة الأسرة واستمرارها مدى التاريخ البشرى كله ، وهو سبب نابع من الفطرة التى تحب هذا السكن وهذه السكينة بصرف النظر عن الدافع الجنسى الذى يمكن أن يتحقق بأية وسيلة .(42/56)
ولا يتنافى هذا مع كون الأسرة تكون ترابطا اقتصاديا من نوع ما . فليس هناك فى النفس البشرية تناقض ولا تنافر بين عناصرها المختلفة ، ولا يلزم من وجود أحدها نفى الآخر ولا نبذة كما تقول التفسيرات الضيقة المعتسفة ، ولا يلزم من قوة أحدها أن يكون سائرها تابعا له أو نابعا منه كما تقول تلك التفسيرات ، إنما توجد كلها - مع قوتها وأصالتها - جنبا إلى جنب ، متفاعلا بعضها مع بعض فى الكيان البشرى الكبير ، الذى كرمه الله بعوامل شتى ، وهذا التعدد وهذه السعة هى ذاتها من عوامل التكريم ، لأننا لا نجدها - بهذه الصورة - فى الكائنات الأدنى من الإنسان .
والأسرة - كما ثبت من التجارب غير المتحيزة - ضرورة لتنشئة الأطفال الأصحاء من الوجهة النفسية . ومهما حاولت المحاضن أن تدعى أنها تقوم مقام الأسرة الطبيعية فى هذا الشأن فهى واهمة فى ذلك أو مغالطة ، فإن فى مقدور المحاضن أن تعطى رعاية صحية كاملة " للجسد " وتوجيها عقليا مبنيا على قواعد العلم ( أيا كان مبلغ هذا العلم من الصحة ) ولكنها لا تستطيع قط أن تعطى الرعاية النفسية المطلوبة للتنشئة الصحيحة للأطفال ، بسبب غياب الأم المتخصصة التى يشعر الطفل لملكيتها - وحده - ملكية كاملة " (1)
ولسنا نقول مع ذلك إن الإنسان لجأ إلى تكوين الأسرة لأنه وجد فيها نوعا من التنظيم الاقتصادى أو وجد أنها الطريقة المثلى لتنشئة الأطفال .
إنما نقول إن الله العليم الخبير الذى يعلم أن الأسرة هى التى تحقق التنشئة السليمة للأطفال حين تتخصص الأم فيها لهذه المهمة الخطيرة ، قد جعل الحنين إلى تكوين الأسرة جزءا من الفطرة ، تشعر فيها بالسكن والسكينة ، وتشعر فى خارجها بالقلق وفقدان السكينة ولو حققت كل مطالب الجنس وكل الاكتفاء الاقتصادى ! ثم نظم سبحانه وتعالى العلاقات الاقتصادية داخل الأسرة بحيث تكون المرأة مكفولة كاملة دون أن تحتاج إلى العمل خارج البيت ، لكى تستطيع التفرغ لمهمتها الأصلية ، فكلف الرجل بإعالتها - لا تفضلا ولكن تكليفا - وكلفها هى رعاية شؤون البيت والأطفال ، ثم جعل فى فطرة كل منهما وتركيبه العصبى والنفسى ميلا لهذا التكليف وقدرة عليه ، وشعورا بتحقيق الذات عن طريقه .
ذلك هو الوضع السليم للأسرة كما أنشأها الله .
فأما الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق فيكرهون أن يستمعوا لهذا القول ويشمئزون منه بدعوى أنه كلام غير علمى !
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [سورة الزمر 39/45]
__________
(1) أنظر كتاب " أطفال بلا أسر " لأنا فرويد ، وأنظر نتائج المؤتمرات التى تعقد فى أمريكا وغرب أوروبا لدراسة ظاهرة جنوح الأحداث .
فيقول دور كايم : " ومن هذا القبيل أن بعض هؤلاء العلماء يقول بوجود عاطفة دينية فطرية لدى الإنسان ، وبأن هذا الأخير مزود بحد أدنى من الغيرة الجنسية والبر بالوالدين ومحبة الأبناء ، وغير ذلك من العواطف ، وقد أراد بعضهم تفسير نشأة كل من الدين والزواج والأسرة على هذا النحو ، ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان " (1)
متى أوقفنا التاريخ على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان ، وكيف أوقفنا على ذلك ؟! أم لهم تاريخ سرى غير التاريخ العلنى الذى يعرفه جميع الناس ن ويعرفون فيه أن هذه الأشياء كلها مركوزة فى الفطرة ؟!
ويقول التفسير المادى للتاريخ إن الأسرة بحجمها وتبعاتها ووظائفها وعلاقاتها هى مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى ، ومن ثم فهى " تتطور " تطورا حتميا يمكن أن يفضى بها إلى الزوال !
والتجربة الواقعية تفنينا عن الخوض فى النظريات . فالنظريات تظل نظريات حتى يصدقها الواقع أو يكذبها . وما يقوله دور كايم أو التفسير المادى للتاريخ أقل فى الحقيقة من أن يسمى نظرية ، لأنه فرض متعسف لا دليل عليه من الواقع . ولكن حتى لو كان يرتقى إلى حد أن يكون نظرية فهذا هو واقع الجاهلية المعاصر يكذبه .
فالرجل والمرأة كلاهما فى الجاهلية المعاصرة يحققان كل ما يخطر على بالهما من متاع الجنس بلا قيود . لا قيود خلقية ولا قيود اجتماعية ولا قيود قانونية ولا قيود فكرية ثم إنهما يحققان وجودهما الاقتصادى كل على حدته ، فالرجل يتكسب والمرأة تتكسب ، ويتولى كل منهما الانفاق على نفسه وعلى بهيمية الجنس التى يمارسها من كسبه الخاص دون حاجة إلى المعونة الاقتصادية من الآخر ، ومن ثم يتأخران كثيرا جدا فى الزواج وتكوين الأسرة . أو يلغيان ذلك من حسابهما إلغاء كاملا ، ويعيشان فى حالة " صداقة " مستمرة ، أى فى حالة مخادنة غير مقيدة بالرباط المقدس ، أو فى حالة فوضى جنسية لا ترتبط حتى برباط المخادنة غير المقدس .
فلماذا لا يستريح الرجل ولا المرأة إلى هذه الأوضاع التى تحقق كل مطالب الجنس وكل مطالب الاقتصاد ؟ ! بل لماذا يشقى الرجل والمرأة كلاهما ويبدو الشقاء فى صورة الاضطرابات العصبية والنفسية والقلق والجنون والانتحار وإدمان الخمر وإدمان المخدرات ؟(42/57)
الجواب عندنا هو أن الرجل والمرأة كليهما قد فقدا السكن والسكينة اللذين جعلهما الله فى الأسرة ولم يجعلهما فى أية علاقة خارج الأسرة ، ولو حققت كل مطالب الجنس وكل مطالب الاقتصاد .
فمن لم يعجبه هذا الجواب واشمأزت نفسه منه لأنه يذكر الله وحده وفطرة الله وحدها ومنهج الله وحده ، فليأت من عنده بالجواب الذى يريد ، ولكن عليه بالبرهان ، لا أن يطلق الدعوى بلا دليل على طريقة دور كايم أو على طريقة التفسير المادى للتاريخ !
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [سورة الأنعام 6/148]
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)} [سورة البقرة 2/111]
فهذا - وحده - هو المنهج العلمى الصحيح .
3- الشيوعية الأولى :
يزعم التفسير المادى للتاريخ أن الشيوعية كانت هى الطور الأول للبشرية ، وأنها كانت شيوعية شاملة ، تشمل كل نواحى الحياة البشرية بما فى ذلك الجنس ، فكانت القبائل البشرية الأولى تعيش فى حالة من المشاعية الجنسية الكاملة ، مع مشاعية الأرض ومشاعية الطعام .. الخ .
ودليلهم على وجود الشيوعية الأولى - بهذه الصورة - هو ما اكتشف فى القرنين الماضيين من أحوال القبائل البدائية التى كانت تعيش فى أفريقيا وأسيا وأستراليا منعزلة تماما عن تيار المدينة لا يعرفون شيئا عن العالم من حولهم ، ولا يعرف العالم شيئا عنهم . فقد وجدوا تلك القبائل تعيش عيشة جماعية .. أرض القبيلة ملك مشترك لها جميعا لا ينفرد فيها أحد بملكية خاصة ، والطعام مشترك بينهم سواء كان صيد بريا أو بحريا أو غير ذلك ، يطهى للقبيلة كلها وتأكل منه القبيلة كلها دفعة واحدة . وأسلحة الصيد والحرب ملك للقبيلة كلها كذلك . وقال فريزر - وهو مرجعهم الأكبر فيما زعموا من أحوال البشرية الأولى - إنه اكتشفت بعض القبائل تمارس ألوانا من الشيوعية الجنسية ، إما كل النساء لكل الرجال على المشاع ، وإما مجموعة معينة من النساء لمجموعة معينة من الرجال داخل القبيلة الواحدة .
ونستطيع أن نتصور بالفعل - على ضوء أن نتصور بالفعل - على ضوء أحوال هذه القبائل التى اكتشفت فى القرنين الأخيرين - أن حياة القبائل الأولى كان فيها قدر كبير من المشاركة الجماعية فى المسكن والمطعم وأدوات الصيد وأدوات الحرب .
ففى النظام القبلى تكون القبيلة هى " الوحدة " التى يعيش الأفراد فى داخلها ، ويمارسون الحياة من خلالها . وفى وقت متأخر جدا من بداوة البشرية - وقت كانت قد قامت فيه " حضارات " كثيرة فى بقاع مختلفة من الأرض - كان الشاعر العربى يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !
__________
(1) كتاب " قواعد المنهج فى علم الاجتماع " ترجمة الدكتور محمود قاسم ومراجعة الدكتور السيد محمد بدوى الطبعة الثانية ص 173
فيعبر بذلك عن انسياجه الكامل فى القبيلة وعدم استقلاله بذاتيته حتى مع علمه أن قبيلته تكون أحيانا على الرشد وأحيانا على الغى ، وليست راشدة فى جميع أحوالها .
فإذا كان هذا فى حياة العرب قبيل الإسلام ، قلنا أن نتصور أن القبائل التى وجدت فى تاريخ سابق على ذلك كثيرا كانت على ذات الصورة من التمركز فى القبيلة ، وانسياح كيان الأفراد فى كيان القبيلة الكلى فى السلم والحرب والرشد والغى على السواء !
فإذا اضفنا إلى ذلك أنه فى بداوة البشرية الأولى لم يكن هناك شئ يمتلك - إلا القليل النادى أمكننا أن نتصور كذلك أن الملكية الفردية لم تكن قائمة فى ذلك العهد السحيق على صورتها التى قامت فيما بعد .
فالخيام - إن كانوا من ساكنى الخيام - يسكنها مجموع أفراد القبيلة ويتعارفون فيما بينهم على أن فلانا يسكن فى هذه الخيمة وفلانا الآخر يسكن فى تلك . ولكن شعور كل فرد من أفراد القبيلة لا يتجه إلى ملكيته الخاصة للخيمة ، إنما يتجه إلى اعتبار مجموع الخيام كلها ملكا للقبيلة بأجمعها ، فيقول فى نفسه : هذه خيام قبيلتى ! لأن الوحدة يومئذ ليست هى الفرد إنما هى القبيلة ، والفرد لا يمارس حياته فدرا إنما يمارسها من خلال القبيلة ، فيتحدث - حين يتحدث - بضمير الجمع ، فيقول : ذهبنا وجئنا وصنعنا كذا وكذا .. لأن هذه الأعمال كلها تتم بالفعل بصورة جماعية .
كذلك الطعام لا تتصور فيه الملكية الفردية فى ذلك العهد السحيق .
فالطعام فى غالبيته صيد ، سواء كان صيد بر أو بحر ، والصيد يحتاج إلى مجموعة من الأفراد تقوم به - من الشباب بصفة خاصة - ولا يقدر عليه فرد واحد . فإذا جاء الصيد وتم طهيه على يد المختصين - أو المختصات - فى القبيلة ، فعندئذ تتجمع الوحدة التى يمارس الأفراد من خلالها وجودهم فتتناول وجبة الطعام الجماعية ، ثم يلقى الباقى - إن بقى منه شئ - لأنه إن بقى ينتن ولا يصلح للطعام ، فلم تكن وسائل الحفظ قد اكتشفت فى ذلك العهد السحيق من بداوة البشرية .(42/58)
ومن أجل كون الوحدة هى القبيلة وليست الفرد - وهو أصل نفسى واجتماعى وليس اقتصاديا بحتا - فإن القبيلة كلها تدخل فى السلم أو تدخل فى الحرب ، فلا يتصور كذلك أن تكون هناك ملكية خاصة للسلاح داخل القبيلة ، لأنه لا يستخدم إلا بصورة جماعية من خلال تلك الوحدة التى يمارس الأفراد من خلالها نشاطهم كله . فإذا تصورنا أن السلاح كله - رماحا أو سهاما أو عصيا أو ما أشبه - يوضع فى مخزن واحد مشترك ، وأنه حين ينادى على الحرب وتدق طبولها يهرع المقاتلون من أفراد القبيلة إلى ذلك المخزن المشترك فيتناول كل منهم نصيبه من السلاح ، حتى إذا عادوا أعادوا السلاح إلى موضعه المشترك .. إذا تصورنا ذلك فلا نكون بعيدين عن الصواب . وحتى لو تصورنا أن شخصية الفرد قد نمت فى داخل القبيلة شيئا من النمو فى عهد متأخر فصار له سلاحه المستقل ، فإنه لن يستخدمه إلا بإذن من القبيلة ، وفى المواضع التى توجهه إليها القبيلة فحسب .
أما الشيوعية الجنسية والمساواة الكاملة والحالة الملائكية المزعومة التى توصفه بها الشيوعية الأولى فمسألة لا يقوم عليها الدليل !
كل دليلهم بالنسبة للشيوعية الجنسية هو ما رواه الرحالة المكتشفون من وجود أنواع منها فى تلك القبائل التى اكتشفت فى أفريقيا وآسيا واستراليا على حالة بدائية بعيدة عن كل صور المدنية .
ولنسلم جدلا بصحة كل ما رواه أولئك الرحالة ، وأنهم وصفوا الحقيقة كاملة بغير تهويل ولا تزييف . فما دلالة روايتهم ؟
بعض القبائل لأكلها . وجدت فيها أنواع مختلفة من الشيوعية الجنسية لا نوع واحد محدد ، فهل يصلح هذا دليلا على أن كل القبائل التى عاشت فى بداوة البشرية مارست الشيوعية الجنسية الكاملة ؟ !
إننا نؤمن بادئ ذى بدء الله أرسل هداة من البشر ينظمون لأقوامهم طرائق معيشتهم بمقتضى الوحى الربانى الذى أخبر عنه آدم وحواء يوم سكنا هذه الأرض ، وأن بعض الناس آمنوا واهتدوا وبعضهم تنكب الطريق :
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } [سورة البقرة 2/38-39]
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل 16/36]
{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [سورة فاطر 35/24]
فليس البشر كلهم أمة واحدة على الهدى ولا على الضلال .
ولكن الشيوعيون لا يؤمنون بالله ولا برسله ولا بوحيه .. فلننظر فى أدلتهم العلمية الموضعية !
لو وجدنا كل القبائل المتأخرة المنعزلة عن العمران تمارس لونا واحدا من المشاعية الجنسية لقلنا إنه ربما كان هذا هو الحال الذى كانت عليه البشرية فى أول عهدها ، ولم نقطع مع ذلك بأن هذا أمر يقينى ، لأن الشذوذ والانحراف يطرأ دائما على الناس فى أثناء مسيرتهم التاريخية ، ولا يدل وجوده فى أى جيل على أنهن كان موجودا فى أجيال سابقة .
ألم تقع الفاحشة الشاذة من قوم لوط غير مسبوقة ؟ فهل نقول إن وجودها وتفشيها فى قوم لوط دليل على أنها وجدت منذ أول البشرية ووجدت على سبيل الشمول ؟ !
وهب إن إنسانا بعد مائة عام أو ألف عام قلب فى صحف القرن العشرين فوجد صور النساء العاريات فى الشواطئ وفى الشوارع وفى البيوت ، وقرأ عن التمثيليات التى تمارس فيهما العملية الجنسية كاملة على المسرح وتنقلها شاشة التلفزيون ، فحكم بناء على ذلك بأن العرى أصل من أصول البشرية ، وأن الممارسة العلنية للجنس هى الأصل الذى مارسته البشرية فى تاريخها كله .. أيكون هذا استلالا " علميا " موضوعيا تبنى عليه نظريات علمية لتفسير السلوك البشرى ؟ !
كذلك قصة القبائل المتأخرة التى عثر عليها فى مختلف بقاع الأرض ، لا تدل ممارستها للشيوعية الجنسية على أن هذا هو الأصل الذى كانت عليه البشرية فى بداوتها ، ولو كانت كلها تمارس تلك الشيوعية وبعضها لا يمارسها ؟ وما بال إذا كانت القبائل التى تمارسا لا تمارسها على صورة واحدة ؟
إنما لجأ الشيوعيون إلى اعتساف الدليل ، والزعم بان الشيوعية الجنسية كانت قائمة فى البشرية الأولى ، لأنهم كانوا فى مبدأ أمرهم يروجون لهذه الشيوعية فى نظرياتهم وتطبيقاتهم ، ويريدون أن يجعلوها قاعدة الحياة عندهم ، ترغيبا "للزبائن " من الشباب الذى يعانى الحرمان الجنسى لأى سبب من الأسباب ! فلما رأوا فيما بعد أن هذا الأمر يستغل فى الدعاية ضدهم والتنفير منهم عادوا ، فعدلوا النظرية وإن كانوا لم يعدلوا تعديلا جوهريا فى التطبيق ، واحتجوا - كأنما ذلك يعطيهم الحجة - بأن الشيوعية الجنسية قائمة على نطاق واسع فى المجتمع الرأسمالى ! يقول البيان الشيوعى الذى أصدره ماركس وإنجلز :(42/59)
" ليست بالشيوعيين حاجة إلى إدخال إشاعة النساء فهى تقريبا كانت دائما موجودة . ولا يكتفى البرجوازيين بأن تكون تحت تصرفهم نساء البرولتاريين وبناتهم - هذا عدا البغاء الرسمى - بل يجدون لذة خاصة فى إغواء بعضهم لنساء بعض .
" ليس الزواج البرجوازى فى الحقيقة والواقع سوى إشاعة النساء المتزوجات "
وهو حق يراد به باطل ! فوجود الشيوعية الجنسية فى المجتمع الرأسمالى الذى أشرف اليهود على توجيهه حقيقة واقعة . ولكن وجودها ليس حجة لمن يريد لها أن تستمر ، وخاصة إذا كان من " الثائرين " على النظام الرأسماليى ، الذيى يريدون - بالثورة الدموية - أن يعدلوا ما ينطوى عليه من الفساد ! إلا أن يكون هذا اللون من الفساد مطلوبا بالذات ، يراد الإبقاء عليه وترويجه - وتلك هى الحقيقة - فعندئذ تعتسف له الأدلة وتقام له الأسانيد ! ولكنها أسانيد باطلة لا تثبت للتمحيص العلمى .
وأما المساواة الكاملة والحياة الملائكية التى يصفون بها الشيوعية الأولى فأمر كذلك يعوزه الدليل .
فالمعروف أن شيخ القبيلة - على الأقل - شخص متميز فى كل أموره وأوضاعه ، بما فى ذلك ملبسه الذى يميزه عن أفراد قبيلته للوهلة الأولى ، إذ لابد أن يتميز ولو بريشة زائدة يضعها على رأسه ، يعرف منها القريبة والبعيد أنه هو الرئيس الذى تقدم له فروض التوقير والاحترام . والرئيسة مجرد رمز ، ولكنها ترمز إلى تمييز حقيقى واسع المدى بين شيخ القبيلة وبقية افرادها . سواء كان التمييز قائما على القوة الجسدية أو الخبرة والحنكة وبعد النظر ، أو السن ، أو الشجاعة وحسن البلاء فى الحرب ، فإن شيخ القبيلة يتمتع دائما بمكانة متفردة ، وغالبا ما يتمتع كذلك بعدد أكبر من النساء !
ثم إن الشبان الأقوياء من القبيلة ، أو الماهرين فى الصيد أو الشجعان فى الحرب لابد أن يتميزوا بحكم الأمر الواقع ، أى بحكم مواهبهم ، وتكون لهم عند شيخ القبيلة منزلة خاصة ، ومن حقه أن يمنحهم من الامتيازات ما يشاء ، فإرادته أمر ، وأمره مطاع !
والزعم بأنه لا توجد امتيازات ولا فوارق فى تلك الحياة البدائية لمجرد عدم وجود ملية فردية زعم يكذبه الواقع المشهود من أحوال القبائل ذاتها التى يستمدون منها أدلتهم ! فلماذا يأخذون الدليل التعسفى حين يريدون ، ويتركون الدليل الواضح حين يكون مخالفا لأهوائهم ومزاعمهم ؟ غنما نستدل من أحوال هذه القبائل - إذا أردنا استمداد الأدلة منها - على أن المساواة ليست أصلا من أصول الحياة البشرية ، وأن الأصل هو التمايز بين الناس باختلاف مواهبهم ، سواء كان تمايز عادلا - أى قائما على مسببات صحيحة - كما يحدث فى المجتمعات المستقيمة - أى المهتدية بالهدى الربانى - أو كان تمايزا ظالما كما يحدث فى المجتمعات الجاهلية كلها بلا استثناء .
إنما يتعسفون فى إنكار الدليل الواضح فى هذه القضية لأنهم يريدون تحقيق هدفين على الأقل بإعلان مبدأ المساواة ، الأول هو ترغيب " الزبائن " من المقهورين المغلوبين على أمرهم فى مجتمعاتهم - وهم الكثرة الكاثرة من أفراد الشعب - ليقبلوا على الشيوعية ويعتنقوها - فزعموا لهم أنهم سيطبقون المساواة الكاملة فى مجتمعهم الشيوعى ، وسندا هذا الزعم بأن المساواة هى الشأن الطبيعى فى الشيوعية ، سواء الشيوعية الأولى أو الآخرة !
والهدف الثانى أنهم - لأمر فى مخططهم - كانوا يسعون إلى نزع الملكية الفردية جميعا ، فزعموا للناس أن الأصل فى البشرية هو المساواة المطلقة فىكل شئ ، وأن الذى أفسد المساواة هو الملكية الفردية ، وأنهم سيلغون الملكية الفردية لتحقيق المساواة فى مجتمعهم الملائكى الجديد . (1)
وأيا كانت أهدافهم الظاهرة أو الخفية فليس هناك سند علمى لوجود المساواة المطلقة فى الشيوعية الأولى ، على فرض وجود تلك الشيوعية بالصورة التى يصفونها !
وأما الصورة الملائكية فى تلك الشيوعية الأولى فلم يأتوا لها بسند على الإطلاق .
وما بنا من حاجة إلى مناقشة دعوى لا يقوم عليها دليل !
إنما عليهم أن يثبتوا - أن استطاعوا - أنه لم تقع منافسات بين شباب القبيلة الواحدة على الحظوة بالمنزلة الخاصة عند شيخ القبيلة وما يترتب على ذلك من امتيازات . وأنه لم تقع منافسات ومشاجرات تؤدى إلى القتال أحيانا بين شباب القبيلة على " امتلاك " امرأة معينة لأنها فى نظر المتقاتلين عليها أجمل من غيرها من النساء .
ثم عليهم أن يثبتوا أخيرا أن الحروب لم تكن تقع بين بعض القبائل وبعض ، وأنها كانت تعيش فى حالة من الإخاء والسلام والمحبة كما يعيش الملائكة الأطهار !
فإن لم يثبتوا ذلك - ولن يثبتوه - فنحن نقول إن أحوال القبائل كما رواها التاريخ ، وكما ظهرت فى القبائل المكتشفة فى القرنين الماضيين هى حياة التنافس الدائم والتنازع الدائم والصراع .. فلماذا نترك دلالة الواقع ونرسم صورة من الخيال ؟ !(42/60)
إنما أرادوا - كما اسلفنا - أن ينزعوا الملكية الفردية جميعا ويركزوا الملكية فى يد الدولة التى يسيطرون هم عليها فى واقع الأمر . فزعموا للناس أن المصائب كلها نشأت من الملكية الفردية بعدزوال الشيوعية الأولى ذات الطابع الملائكى وأنهم عائدون بالبشرية إلى ملائكيتها المفقودة بنزع الملكية الفردية جميعا فى الشيوعية الثانية ! وذلك ترغيبا " للزبائن " المحرومين من الملك الحاقدين على الملاك وهم أكثرية الناس فى المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية - حتى يعتنقوا الشيوعية ويؤازروها ، ويكونوا مددا لها وسندا فى كل مكان فى الأرض !
4- الملكية الفردية:
أشرنا فيما سلف أكثر من إشارة إلى قضية الملكية الفردية ووضعها فى التفسير المادى للتاريخ . ومع ذلك أفردنا لها حديثا خاصا لشدة أهميتها سواء فى التصور المادى أو فى التطبيق الشيوعى .
يرى أصحاب التفسير المادى للتاريخ أن الملكية الفردية هى سبب كل الشرور التى حلت بالبشرية منذ خروجها من مرحلة الشيوعية الأولى إلى أن تعود الشيوعية الثانية فتلغيها وتلغى معها الشرور الناشئة عنها .
وينشأ الشر من أن الذى يملكن هو الذى يحكم ، وحين يحكم فإنه يضع التشريعات التى تخدم مصالحه ومصالح طبقته على حساب بقية الطبقات .
ويرى الماديون كذلك أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية فى النفس البشرية بدليل فترة الشيوعية الأولى التى لم تكن فها ملكية فردية . إنما هى أمر مكتسب ، اكتسبته البشرية بعد أن اكتشفت ( أو تعلمت ) الزراعة ، حيث أدى ذلك إلى انتهاء فترة الشيوعية الأولى ودخول البشرية فى مرحتلى الرق والإقطاع . ثم لما تحولت الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية صناعية رأسمالية دخلت البشرية مرحلة الرأسمالية .
ويرون أن الصراع الطبقى الذى يدور عليه تاريخ البشرية كله فيما بين الشيوعية الأولى والشيوعية الأخيرة قائم كله على الملكية الفردية ومتعلق بها وأن هذا الصراع لا يزول من الأرض إلا بإزالة السبب المتعلق به أى إزالة الملكية الفردية فى جميع صورها .
- - - - - - - - - - - -
بعض هذا الذى يراه أصحاب التفسير المادى للتاريخ صحيح ولا شك ، ولكن صحته قائمة فى نطاق محدد لا تتعداه إلى التعميم المطلق ، وفضلا عن ذلك فإن المغالطات والأوهام حول الملكية الفردية أكثر بكثير م الحقائق الواردة حولها مع كون هذه الأخيرة محددة فى نطاق معين وليست مطلقة الصحة فى جميع الحالات.
فكون الذى يملك هو الذى يحكم ، وكونه حين يحكم يشرع لصالحه وصالح طبقته على حساب بقية الطبقات .. هذا صحيح صحة كاملة ، ولكن فى نطاق الجاهليات وحدها التى تحكم بشرائع البشر ولا تحكم بشريعة الله .
__________
(1) سنرى عند مناقشة التطبيق الواقعى للشيوعية أنهم عجزوا عن تحقيق المساواة الكاملة فتراجعوا عنها وعللوا تراجعهم بأنهم ما زالوا فى مرحلة الاشتراكية ولم يصلوا إلى التطبيق الشيوعى بعد.
وحقيقة أن الجاهليات تحتل القسم الأكبر من التاريخ البشرى ! ولكن وجود نظام إيمانى تحكم فيه شريعة الله بدلا من شرائع البشر حقيقة موضوعية . والأمانة العلمية تقتضى استثناءه من القاعدة العامة التى يضعها التفسير المادى للتاريخ . ولو أن التفسير المادى للتاريخ وضع هذا الاستثناء وأشار إليه ما كان لنا عليه اعتراض فى هذه النقطة بالذات ( وإن كانت لنا عليه اعتراضات فى مواضع أخرى أشرنا إلى بعضها فى حينها ونشير إلى بعضها الآخر فيما بعد ) فتاريخ الجاهليات بالفعل تاريخ ظالم شديد الظلم ، ينقسم فيه الناس دائما إلى سادة وعبيد ، سادة يملكون ويحكمون ويشرعون وعبيد لا يملكون شيئا ولا يحكمون ولا يشرعون ، إنما تقع على عاتقهم الأعباء التى يلقيها عليهم الحكام .
وانقسام المجتمع إلى سادة وعبيد ( أو إلى الذين استكبروا والذين استضعفوا كما جاء فى القرآن الكريم ) يتصل بالفعل بقضية الملكية الفردية ، ولكن حصره فى هذه القضية ، أو فى النطاق المادى والاقتصادى بصفة عامة هو حجب للحقيقة الأصلية التى تنشأ عنها تلك الحقيقة الفرعية التى يركز عليها التفسير المادى للتاريخ.
الحقيقة الأصلية التى لا يجب الماديون ذكرها على الإطلاق ، ولا يؤمنون بها كذلك ، هى قضية الألوهية وقضية العبودية قضية الإله وما ينبغى له على عباده ، والعبادة وما ينبغى عليهم تجاه إلههم وخالقهم ، ثم ما يترتب على مخالفة هذه المقتضيات من خلل فى حياة البشرية .
إن من حق الله على عباده أن يعبدوه ( بالمعنى الشامل للعبادة الذى يشمل الاعتقاد بوحدانيته ، وتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده ، وطاعته فيما أمر به ونهى عنه ، وعدم الاحتكام فى أى أمر من أمور حياتهم إلى شريعة غير شريعته ) وذلك بمقتضى أنه إلههم وخالقهم : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54](42/61)
فيما أنه هو الخالق فهو صاحب الأمر ، ولا يحق لأحد أن يكون صاحب الأمر إلا أن يكون هو الخالق ، أو يكون خالقا مع الله . ولذلك يدور الجدل والحوار كله مع الكفار فى القرآن بشأن قضية عبادة غير الله على محور واحد / هل أولئك الذين تطيعون تشريعهم من دون الله هم الخالقون ؟ أم لهم شرك فى الخلق ؟ فإن لم يكونوا خالقين ، ولا لهم شرك فى الخلق ، فليس لهم أن يحلوا أو يحرموا مع الله أو من دون اله .
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [سورة الرعد 13/16]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)} [سورة فاطر 35/40]
ولم يكن ذلك فى أمر العبادة بمعنى الاعتقاد فقط ، أو بمعنى التوجه إلى الله بشعائر التعبد فقط ، إنما كان كذلك فى أمر العبادة بمعنى اتباع ما أنزل الله :
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21]
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [سورة الأعراف 7/3]
وحين دخل عدى بن حاتم ( وكان نصرانيا ) على رسول الله صلى الله عليم وسلم ليعلن إسلامه تلا رسول ا صلى الله عليه وسلم : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/31] فأحتج عدى بن حاتم على الشق الخاص بعبادة الأحبار والرهبان فقال : يا رسول الله ما عبدوهم ! قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ألم يحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ؟ قال : بلى ! قال : فتلك عبادتهم إياهم !
وحين يخرج الناس على عبادة الله فإنهم يخرجون على مقتضى عبوديتهم ، فيصيبهم جزاء ذلك الخروج خبالا فى الدنيا وجحيما فى الأخرة .
وخبال الدنيا هو انقسام المجتمع إلى فريقى السادة والعبيد : السادة يملكون ويحكمون ويشرعون من عند أنفسهم ، فتكون تشريعاتهم لصالح أنفسهم على حساب العبيد . والعبيد - الذين رضوا بالعبودية لغير الله فأصبحوا عبيدا للبشر مثلهم - تقع عليهم التكاليف ويقع عليهم الظلم ويقع عليهم الحرمان .
ومن ثم تكون الملكية الفردية وبالا فى الجاهلية . لا لأنها بطبيعتها كذلك .. ولكنها لأنها تصبح عندئذ أداة الظلم التى تمكن للسادة فى جعل أنفسهم أربابا للعبيد .
والسادة والعبيد كلاهما فى الجاهلية قد رفضوا العبودية لله فتلقفتهم الشياطين : وجزاؤهم فى الآخرة جهنم وبئس القرار . أما فى الدنيا فيستمتع السادة متاع الحيوان :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12]
أما العبيد - أى الذين لا يملكون - فلهم ذات الجزاء فى الآخرة لأنهم نكلوا عن عبادة الله ورضوا بعبادة العبيد ، وفى الوقت ذاته لهم فى الدنيا البؤس والشقاء والظلم يتجرعونه جزاء رضاهم باستعباد أنفسهم لأولئك الأرباب من دون الله .
أما حين يستقيم الناس على أمرا الله ، فيعبدونه وحده بلا شريك ، ويرفضون العبودية لأحد مع الله أو من دون الله ، أى يرفضون التوجه بشعائر التعبد لغير الله ، ويرفضون أن يتلقوا التشريع من عند أحد غير الله ، فعندئذ يكونون قائمين بمقضتى عبوديتهم لله الحق ، فيصيبهم جزاء ذلك بركة فى حياتهم فى الدنيا ورضوانا من الله فى الآخرة .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف 7/96]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة 5/65-66](42/62)
ومن البركات التى تصيبهم فى الدنيا نجاتهم من أن يكونوا عبيد للأرباب الزائفة فى الأرض ، وشعورهم بالعزة الحقيقية التى يستمدونها من الاستعلاء بالإيمان ، فلا تذل تفوسهم لطغاة الأرض ، ولا يسمحون لأحد أن يجعل من نفسه ربا يشرع بغير ما أنزل الله ، لأنهم يستمدون العزة والقوة ممن هو أكبر منهم وأعلى .. الله أكبر .
ومن البركات كذلك الرخاء الذى يسبغه الله على الأ{ض المؤمنة من خيرات السماء التى يفيضها عليهم ، ومن تكافل الأمة المؤمنة فيما بينها ، فلا يستمتع فريق بالخيرات وحده ويظل فريق فى الحرمان .
وعندئذ توجد الملكية الفردية ولا يوجد معها الظلم والشر الذى يصاحبها فى الجاهلية . لأن الذى يملك هنا لا يحكم ! أى لا يضع تشريعات من عنده يصوغها لمصلحته على حساب الآخرين .. إنما تكون الحاكمية لله ، هو الذى يحل ويحرم وهو الذى يضع التشريعات التى يخضع لها الحاكم والمحكوم سواء ، والتى يتوفر فيها العدل الحقيقى لأنها منزلة من عند رب الجميع الذى لا يحابى أحدا من البشر على حساب أحد .
وقد تقع المظالم فى ظل المنهج الربانى من سوء التطبيق لما أنزل الله ، ومن جور الحكام الذى يحدث من عصيانهم لله ، وحكمهم فى بعض القضايا بغير ما أنزل الله ، وإن كانوا لا يضعون تشريعات من عند أنفسهم تخالف ما أنزل الله ، ولا يجعلون مخالفتهم تشريعا يلزمون به الناس ، وإلا لكفروا بذلك كفرا صريحا وخرجوا من ملة الإسلام . وعندئذ نلحظ أمرين هامين : الأول : أن حجم الظلم الذى يقع على مجموع الأمة أقل بكثير من الظلم الذى يقع فى الجاهليات التى لاتحكم بما أنزل الله ، والثانى : أن الأمة مطالبة بكف هذا الظلم ومنعه من الاستمرار ، وإلا فهم أثمون فى حق الله ، كما أنهم أثمون فى حق أنفسهم " ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنه تخلف من بعد ذلك خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1)
وهكذا يتبدى لنا أن الشر لاينجم من الملكية الفردية فى ذاتها ، فيكون العلاج هو بترها من منبتها ، إنما ينجم من طبيعة الجاهلية التى لا تحكم بما أنزل الله ، فيكون العلاج هو القضاء على الجاهلية وتححكيم شريعة الله ن وعندئذ تبقى الملكية الفردية التى شرعها الله لتستجيب للفطرة التى خلفها الله . تبقى على النحو الذى شرعه الله ، وبالحدود والضوابط التى أنزلها الله .. ولا ينشأ الظلم الذى حرمه الله !
- - - - - - - - - - - - -
وقد أقفل الماديون كل باب للإصلاح ، وقالوا لا إصلاح على الإطلاق إلا بإلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا لا هوادة فيه ، فلما قيل لهم إن ذلك مضاد للفطرة ردوا - " علميا " كعهدهم فى كل شئ - فقالوا أولا إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ، وإنما هى مكتسبة ن وقالوا ثانيا : إنه لا توجد " فطرة " إنما تنشأ المشاعر والأفكار والمواقف انعكاسا من الوضع المادى وتبعا له ، ولا شئ منها ثابت على الإطلاق !
__________
(1) أخرجه مسلم .
وبصرف النظر عن التناقض الضمنى بين القول الأول والثانى ، لأن الأول يتضمن الاعتراف بوجود نزعات فطرية فى النفس البشرية وإن نفى الملكية الفردية من بينها ، والثانى ينفى وجود نزعات فطرية على الإطلاق .. بصرف النظر عن هذا التناقض نقول إن ادعاءهم بأن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية هو مجرد ادعاء ليس عليه دليل علمى واحد .. إلا ذلك الدليل " غير العلمى " وهو وجود الشيوعية الأولى ، التى افترضوها كأنها حقيقة مؤكدة ثم راحوا يستنبطون منها كل ما يراود مزاجهم من التصورات والتطبيقات ، سواء فى نزع الملكية الفردية أو فى إباحة الفوضى الجنسية وتفتيت الأسرة أو فى غير ذلك من المجالات .
ولقد ناقشنا تلك الشيوعية من قبل : ورأينا أولا أنه لا يوجد دليل يقينى عليها . ورأينا ثانيا أن أوصافها المزعومة ليست كلها منطبقة على المصدر الذى استمدوا منه كل افتراضاتهم ، وهو القبائل المنعزلة التى عثر عليها فى العهود الأخيرة . ولا على ما هو معلوم من أحوال القبائل القديمة من سجلات التاريخ .
ولكنا نفترض أن ما يقولونه صحيح كل الصحة فيما يتعلق بعدم وجود ملكية فردية فى المأكل والمسكن لدى القبائل الأولى التى كانت فى بداوة البشرية ، فما الدلالة " اليقينية " التى يمكن استنباطها من هذا الوضع؟
إننا لا نستطيع أن نستنبط من ذلك يقينا أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ! وذلك من أقوالهم ذاتها ! فهم أنفسهم يقولون إنه بمجرد اكتشاف الزراعة ظهرت الملكية الفردية ! فكيف ظهرت ؟ !
إن القول بأن الزراعة هى التى أنشأت الملكية الفردية بذاتها - من عند نفسها لا بدافع من النفس البشرية - هو قول ساذج غبى لا يثبت للبحث العلمى ولو رددوه فى كل كتبهم بلا استثناء .(42/63)
إنما الذى يناسب البحث العلمى أن نقول إن الأرض كانت موجودة من قبل ولكنها لم تستثر حاسة الملك عند الناس لأنه لم تكن هناك فائدة تتحقق من امتلاكها . وبمجرد ظهور الفائدة تحركت الحاسة التى كانت موجودة من قبل فى حالة كمون ، فنشطت وتحركت للعمل .
وقد تكرر هذا فى التاريخ أكثر من مرة .
فالحيوانات قبل استئناسها كانت موجودة ، ولكنها لم تستثر حاسة الملك لأنه لا فائدة تتحقق من امتلاكها وهى على تلك الصورة . ولكن بمجرد أن أمكن استئناسها . وظهرت الفائدة منها ، سعى الناس إلى امتلاكها ملكية قبلية أولا ثم ملكية فردية بعد ذلك حين نمت شخصية الفرد واستقل بوجوده الذاتى عن القبلية ، ولم يكن للزراعة دخل فى هذا الأمر على الإطلاق ! إنما يرجع الأمر إلى أصلين كبيرين الأصل الأول : هو وجود الفائدة من التملك او عدم وجودها ، والأصل الثانى هو درجة النمو الاجتماعى الذى يكون عليه الفرد ، وهل هو فرد فى قبيلة أم فرد فى تجمع أكبر من القبيلة ، فحين يكون فردا فى قبيلة تكون القبيلة هى " الوحدة " النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى يمارس الفرد من خلالها وجوده ، فلا تكون الملكية للفرد ولكن تكون للقبيلة فى مجموعها ، ثم تتناحر القبائل فيما بينها على الملكية إذا كانت الجاهلية هى التى تحكمها وحين يكون فردا فى تجمع أكبر من القبيلة يكون وجوده الفردى أكثر بروزا إلى أن يصبح فردا فى أمة فتكون ذاتيته الفردية فى أبرز أوضاعها ، ثم يتناحر الأفراد من خلال وجودهم الفردى أو وجودهم الطبقى - إذا كانت الجاهلية هى التى تحكمهم .
وعلى ذلك نقول إن الشيوعية الأولى - على فرض وجودها - ليست دليلا يقينيا على عدم وجود نزعة فطرية للتملك ، إنما هى دليل فقط على عدم وجود نشاط ظاهرة لهذه النزعة فى تلك الفترة ، لأنها نشطت بالفعل بمجرد وجود حوافز تستثيرها .
ونقول ثانيا - على فرض وجودها - ليست دليلا يقينيا على عدم وجود نزعة فطرية للتملك ، إنما هى دليل فقط على عدم وجود نشاط ظاهرة لهذه النزعة فى تلك الفترة ، لأنها نشطت بالفعل بمجرد وجود حوافز تستثيرها .
ونقول ثانيا إن هذه النزعة يمكن أن تهذب إلى درجة عالية جدا توشك أن تحولها إلى نزعة جماعية كما صنع التهذيب الإسلامى بالأنصار حتى جعلهم يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ويقتسمون معهم كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا ، حتى قال الله فيهم .
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)} [سورة الحشر 59/9]
ولكن هذا التهذيب لا يلغى النزعة الفطرية من أساسها ، إنما يرفعها إلى أنبل صورها مع الإبقاء على أصلها ، ولو كان الله منزل هذا الدين .. الذى هذب النفوس إلى هذا الحد الرفيع ، يعلم - سبحانه وتعالى - أن إلغاءها بدلا من إبقائها وتهذيبها أنفع للإنسان ، أو أنسب لطبيعته ، لشرع سبحانه إلغاءها . ولكنا نجد التشريعات كلها والنصوص كلها تؤكد وجودها فى فطرة الإنسان ، ولكنها فقط تعمل على تهذيبها إلى أقصى ما يملك البشر من أفاق التهذيب ، وهذا نموذج من النصوص التى تحوى الإثبات والدعوة فى ذات الوقت إلى التسامى .
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/14-17]
فإذا كان الماديون لا يؤمنون بهذا الحديث كله ويشمئزون من ذكره ، فإننا نقول لهم أخيرا إن نزعة الملكية الفردية يمكن أن تقهر قهرا كاملا كما حدث فى ظل الشيوعية . ولكن هذا أيضا لا يزيلها من منبتها ! والدليل على ذلك شيئان حدث فى التطبيق الشيوعى ذاته يهدمان النظرية من أساسها ، ويؤكدان أن الملكية الفردية نزعة فطرية أصيلة فى النفس البشرية .(42/64)
الشئ الأول هو تراجع الشيوعيين - فى التطبيق - عن مبدأ الإلغاء الصارم البات لكل نوع من أنواع الملكية الفردية ، الذى بدأوا به حياتهم التطبيقية ، ولجوءهم إلى تمليك الأشياء الشخصية ، وسماحهم بالعمل الإضافى - بعد أداء وحدة العمل الإجبارية - لمن أراد أن يعمل ، فى مقابل أجر إضافى يمكن أن تشترى به أشياء يمتلكونها مدى حياتهم .
ولولا أن الشيوعيين وجدوا نزعة الملكية الفردية ذات وجود قاهر - رغم كل القهر البوليسى الذى تمارسه الدولة - ما تراجعوا هذا التراجع تحت أى ضغط من الضغوط ، لأنه تراجع عن أصل جذرى من أصول النظرية ، يمكن أن يؤثر فى النظرية ذاتها على المدى الطويل !
والشئ الثانى هو تناقص الإنتاج الزراعى المتواصل فى ظل الملكية الجماعية نتيجة لضعف الحافز إلى العمل!
وقد يسأل سائل : ولماذا حدث ذلك فى الإنتاج الزراعى وحده ولم يحدث فى الإنتاج الصناعى الذى تقدم تقدما كبيرا فى ظل " النظام " ؟ ونجيب السائل بأن الإنتاج الصناعى - وخاصة فى ظل التكنولوجيا الحديثة - يمكن أن يخضع للرقابة الصارمة ، ويمكن أن يحدد فيه العامل المهمل بدقة متناهية ، لأن عملية الإنتاج ذاتها توزع العمل توزيعا دقيقا على مجموعة العمال الذين يقومون به ، بحيث يقوم كل منهم بعملية واحدة محدودة تتكرر بذاتها مع كل قطعة من قطع الإنتاج ، فيمكن - بسهولة - عند مراجعة الإنتاج أن يعرف العامل المقصر حين يقع تقصير . وعندئذ يقدم لمحاكمة عاجلة ، بتهمة التخريب والخيانة .. الخ ، وقد يحكم عليه بالإعدام ، وينفذ فيه الحكم فورا على رؤوس الأشهاد ، نكالا لما بين يديها وما خلفها ، وإرهابا لمن تحدثه نفسه بالتقاعس والإهمال ، أما الإنتاج الزراعى فلا يمكن مراقبته وضبطه بهذه الصورة مهما كانت شدة الرقابة وصرامتها .. ولذك تناقصت الغلة عاما بعد عام ، حتى صارت روسيا - التى كانت من قبل من الدول المصدرة للقمح ، والتى أضيف إليها أوكرانيا ، حقل القمح الخصب فى أوروبا - صارت روسيا هذه تستورد القمح من أمريكا بكميات متزايدة !
ولقد زعموا أن هذا ناشئ من الآفات الزراعية ! !
ولكن العلاج الذى وضعه خروشوف يكشف عن أن الآفات الزراعية لا علاقة لها بالموضوع ! فإن خروشوف لم يأمر بزيادة الأبحاث الخاصة بوقاية الزروع من الآفات ، ولكنه أمر بإتاحة الملكية الفردية لقسم من المحصول ، وللدار التى يقيم فيها الفلاح ! فظهر جليا أن نقص المحاصيل كان راجعا إلى ضعف الحافز على الإنتاج نتيجة مقاومة الحافز الفردى وقهره ، وأن العلاج هو الاعتراف - لو جزئيا - لهذا الدافع بحق الوجود !
ويغنينا هذا عن مزيد من الجدل النظرى الذى لا يصل - مع الماديين - إلى نتيجة !
{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} [سورة الأعراف 7/146]
- - - - - - - - - - - - - -
يقيم الماديون تفسيرهم للحياة البشرية على أساس أن الصراع الطبقى هو قوام هذه الحياة منذ خرج الناس من الشيوعية الأولى حتى يعودا إلى الشيوعية الثانية ، وأن هذا الصراع الطبقى متعلق بالملكية الفردية فلا يزول من الأرض حتى تزال الملكية الفردية .. وبمجرد أن تزول الملكية الفردية يرجع الناس إلى الحياة الملائكية التى كانوا عليها أيام الشيوعية الأولى وتستريح البشرية من الصراع ..
وكما قلنا مع الملكية الفردية نقول مع الصراع الطبقى ..
صحيح ما يقولون .. ولكنها صحة محددة بنطاق معين ، وليست صحة مطلقة ..
صحيح بالنسبة للجاهليات .. ففى الجاهليات يصدق القول بأن الذى يملك هو الذى يحكم ، وحين يحكم يشرع لصالح نفسه وصالح طبقته على حساب بقية الطبقات .. ومن ثم ينشأ صراع بين الطبقات ، ويدور الصراع حول متاع الأرض ، لأن الجاهلية مفتونة أبدا بمتاع الأرض ، ولأنه فى غياب القيم العليا لا يبقى للناس إلا متاع الأرض يتصارعون حوله ويتقاتلون عليه .
أما فى النظام الربانى فليست هناك - بادئ ذى بدء - طبقات ! ومن ثم فلا يوجد صراع طبقى !
ومن كان فى شك من هذه الحقيقة فليرجع إلى تعريف " الطبقة " وتعريف " الصراع الطبقى " عند الماديين أو عند غيرهم سواء .
الطبقة مجموعة من الناس يجمع بينهم وضع اقتصادى معين ، ومن ثم تجمع بينهم مصالح اقتصادية معينة ، ويشملهم وضع تشريعى معين ، فهم إما الطبقة التى تملك ، ومن ثم فهى التى تحكم ، وإما الطبقة التى لا تملك ومن ثم فهى لا تحكم ، وإنما يقع الحكم عليها .
وبيان ذلك من عهود الرق والإقطاع والرأسمالية كالآتى :
فى عهد الرق كان الناس طبقتين رئيسيتين : طبقة السادة وطبقة العبيد . السادة يملكون كل شئ ، ويملكون جميع الامتيازات ، والعبيد من بين " الأشياء " التى يملكها السادة ، لا حقوق لهم ، والسيد يتصرف فيهم كما يشاء .(42/65)
وفى عهد الإقطاع فى أوروبا كان الناس ثلاث طبقات رئيسية : طبقة الإشراف ( أمراء الإقطاع ) وطبقة رجال الدين وطبقة الشعب . وكان الأشراف ورجال الدين متحالفين كأنهما طبقة واحدة ، وكانا يملكان ويحكمان كل دائرته واختصاصه ، والشعب لا يملك ولا يحكم ، وإنما يقع عليه عبء الطبقتين السالفتين جميعا .
وفى عهد الرأسمالية انقسم الناس إلى طبقتين رئيسيتين : طبقة أصحاب رؤوس الأموال وطبقة العمال . وفى ظاهر الأمر - من خلال مسرحية الديمقراطية والتمثيل النيابى - يبدو أن الشعب - الذى لا يملك - صاحب سلطان ولكن الحقيقة المستترة وراء المسرحية أن الحاكم الحقيقى هو المالك الحقيقى ، أى أن الطبقة الرأسمالية هى التى تحكم وطبقة العمال هى التى يقع عليها الحكم .
وفى كل مرة من المرات الثلاث كان يثور صراع طبقى بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة يؤدى إلى تغير مستمر فى الأوضاع ، فالصراع الأول حرر عبيد السيد وحولهم إلى عبيد للأرض أو اقنان ، والصراع الثانى حرر عبيد الأرض وحولهم إلى عمال صناعيين ، وأما الصراع الثالث فقد أدى إلى الشيوعية وفى الشيوعية تقول النظرية إن طبقة البروليتاريا " أى الطبقة الكادحة هى التى تملك وتحكم ، وتبيد الطبقات الأخرى جميعا فينتهى الصراع الطبقى بإبادة الأطراف التى يمكن أن تصارع البروليتاريا فى أى وقت من الأوقات .
فى النظام الربانى لا يوجد شئ من هذا كله !
حقيقة إنه توجد ملكية فردية ويوجد فى المجتمع أغنياء وفقراء .. ولكن لا الإنياء طبقة ولا الفقراء طبقة ، ولا هؤلاء ولا هؤلاء يحكمون !
فالثروة فى المجتمع الإسلامى دائمة التنقل من جيل إلى جيل بحيث لا تكون " طبقة " ائمة من أفراد معينين أو أسر معينة تتوارث وضعا اجتماعيا معينا . فأى فقير يمكن أن يتحول إلى غنى ،وأى غنى يمكن أن يتحول إلى فقير ، فلا يحجزه شئ عن أن يكون هذا أو ذاك ، بحسب تصرفه الشخصى من ناحية ، وبسبب حركة المواريث التى تفتت الثروة من مكان وتجمعها فى مكان آخر .
ثم إن أى إنسان قد يتسلم السلطة ، ولكنه حين يتسلمها لا يحكم بهواه ، إنما يحكم بشريعة الله ، وهذه تقوم على أن إنسانية مستمدة من كونه إنسانا ، لا من كونه غنيا أو فقيرا أو مالكا أو غير مالك ، ثم إنها تطبق على الجميع بصورة واحدة .
يقول رسول ا صلى الله عليه وسلم محذرا الأمة الإسلامية : " إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1)
وقد يقع الظلم كما قلنا من قبل من سوء التطبيق لشريعة الله ، ومن جور الحكام الذين يحكمون فى بعض الأمور بغير ما أنزل الله ، ولكن يظل الظلم الواقع على مجموع الأمة أقل بكثير مما يقع على الأمة التى لا تحكم بما أنزل الله ، ثم يظل من واجب الأمة المسلمة أن تقاوم الظلم وترد الظالم إلى الصواب ، وإلا فهى أثمة فى حق الله كما أنها آثمة فى حق نفسها .
__________
(1) رواه البخارى .
وحين يشتد الظلم فيثور المسلمون - وقد حدث هذا أكثر من مرة فى التاريخ الإسلامى - فهو ليس صراعا " طبقيا " بالمعنى الذى يشير إليه التفسير المادى للتاريخ ، لأنه لا يوجد طبقة تريد الإطاحة بطبقة أخرى لتأخذ مكانها فى السلطة والتشريع . إنما يطالب الثائرون بالعدل ، أى بتطبيق شريعة الله فى المواضع التى خولفت فيها شريعة الله . وما أبعد هذا عن الصراع الطبقى كما يفهمه التفسير المادى للتاريخ !
إنما يوجد الصراع فى النظام الربانى على أسس مختلفة تماما عن الصراع الطبقى الذى هو محور الحياة فى الجاهلية ( إن صدقنا التفسير المادى للتاريخ فى إرجاعه كل الصراعات فى الأرض إلى الصراع الطبقى ، وسنرى الآن أن هذا غير صحيح ) .
الصراع الذى أمر الله المؤمنين بخوضه هو هذا الصراع :
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [سورة البقرة 2/251]
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)} [سورة الحج 22/40-41]
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39]
صراع لا علاقة له على الإطلاق " بالطبقات " ولا بالملكية الفردية ! إنه صراع الحق والباطل ، الذى يقول الله فيه :
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76)} [سورة النساء 4/76]
وهو صراع لا يتوقف أبدا ما دام هناك حق وباطل .(42/66)
ونعود إلى التفسير المادى للتاريخ فنجده يحصر الصراع كله فى الصرع الطبقى ، ويحصر أسباب الصراع فى الملكية الفردية ، ثم يزعم أن الصراع سيتوقف حين تزول الملكية الفردية .
وبصرف النظر عن أن دلالة التاريخ تقول إنه قامت فى الأرض - سواء فى الجاهليات أو فى الإِسلام - صراعات كثيرة غير قائمة على الصراع الطبقى وغير منبعثة من الملكية الفردية ، فإنه يهمنا فى ختام هذه الفقرة أن نكشف عن زيف الدعوى القائلة بأن إلغاء الملكية الفردية سيقضى على الصرع ..
فالشيوعية قد ألغت الملكية الفردية ..
فيم إذن قام الصراع بين لنين وتروتسكى ، وبين ستالين وبيريا ، وفيم المؤامرات الدائمة التى يعلن عن تصفيتها والتغلب عليها ، أو تكون نتيجتها الإتيان بزعيم مقدس جديد بدلا من الزعيم المقدس الهالك أو المدحور ؟!
وفيم الصراع بين شقى المعسكر الشيوعى : روسيا والصين ؟ !
أو لم تلغ الملكية الفردية ؟ ! فلماذا إذن بقى الصراع ؟!
أولا يدلنا ذلك - على أقل تقدير - على أن إلصاق الشرور كلها بالملكية الفردية تعفسف غير " علمى " أقرب إلى الدعاية الغوغائية منها إلى حقائق الواقع وحقائق العلم ؟ !
5- التطور :
يزعم التفسير المادى للتاريخ أن الحياة الإنسانية فى تطور مستمر إلى الأمام ، وأن كل مرحلة من مراحل التاريخ الخمس كانت أرقى من سابقتها ، أى أنها تعتبر مرحلة " تقدمية " بالنسبة لما سبقها ، فمرحلة الرق أرقى من مرحلة الشيوعية الأولى ، ومرحلة الإقطاع أرقى من مرحلة الرق ، والرأسمالية أرقى من الإقطاع .. والشيوعية أرقى من الرأسمالية..
وهذه القضية حين تطلق على هذه النحو تكون محل مآخذ كثيرة .
فلو أن التفسير المادى للتاريخ حدد التقدم بميدان العلم والتكنولوجيا لكان هذا معقولا وصحيحا بصفة عامة .. وإن كان اعتبارنا لصحته قائما على أساس آخر غير الذى يقيم عليه التفسير المادى تصوراته .
فالتفسير المادى كما شاهدناه يجعل المادى هى الأساس .. ونحن نقول إن النفس البشرية هى الأساس فى كل ما يتعلق بالإنسان ، وإن تعامل الإنسان مع المادة ، وكل ما ينشأ عنه من نتائج هو جانب - وأحد - من جوانب النفس الإنسانية والحياة الإنسانية .
والتقدم العلمى والتكنولوجى المستمر فى حياة الإنسان ليس قائما على المادة ، إنما هو قائم على تفاعل الإنسان مع الكون المادى من حوله . فلولا أن فى الإنسان نزعة فطرية إلى المعرفة ، ونزعة فطرية إلى استخدام ثمار المعرفة فى تحسين أحواله المعيشية ، ما حدث التقدم العلمى ولا التكنولوجى رغم وجود المادة الدائم من حول الإنسان !
وإذا كانت المادة موجودة حول كل الكائنات الحية ومع ذلك لا تثير فيها الرغبة فى المعرفة العلمية المنظمة ولا الرغبة فى استخدام ثمار المعرفة فى تحسين أحوالها المعيشية .. إلا الإنسان .. فهل يكمن الفرق فى المادة أم فى الإنسان ؟ !
تلك بديهية يعمى عنها التفسير المادى للتاريخ ، لا لأنه عمى عنها فى الحقيقة ، لكن لأنها تفتح الباب لا يحبون له أن ينفتح أبدا ، وهو " إنسانية " الإنسان ، لأن هذا الباب يمكن أن يؤدى إلى تثبيت " القيم " التى يريدون تحطيمها : الدين والأخلاق والتقاليد المستمدة من الدين ، بوصفها صادرة عن الفطرة الإنسانية أو متمشية معها !
سدا لهذا الباب يقولون إن المادة هى الأصل - لا الإنسان - لأنك لا تستطيع أن تحاسب المادة على شئ من القيم أو تطالبها بشئ منها ! وهو قول - كما أسلفنا - لا يمكن فهمه على أساس - العلم " إنما يفهم فقط حين تخرجه من الدائرة العلمية وتنظر إليه من زاوية الهدف المطلوب تحقيقه !
فحين نسلم بالتقدم المستمر فى ميدان العلم النظرى والتطبيقى ( مع التغاضى عن وجود ذبذبات فى خط التقدم ) فإننا نسلم به على أساس أنه نابع من عوامل موجودة فى فطرة الإنسان وتكوينه ، أودعها فيه الخالق ليعينه فى مهمة الخلافة فى الأرض :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/4-5]
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة 2/31]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [سورة إبراهيم 14/34]
أما افتراض التقدم فى كل جوانب الحياة فقول ينقضه الواقع .
" والقضية كلها راجعة إلى أصل المقياس . فإذا أخذنا الحياة المادية - أو بالأحرى التفسير المادى للإنسان - جاز أن نقول ذلك ، فالسيارة لا شك أسرع وأرقى من ركوب الجمل والحمار ، وناطحة السحاب أرقى من الخيمة والكوخ. و " الفستان " الأنيق المطرز أرقى من قطعة الجلد التى كانت تلبسها امرأة الغابة ، والمكتب الفاخر أرقى من جلسة الكاتب القديم الذى كان يجلس القرفصاء ويسند الورق إلى ركبتيه !(42/67)
أما إذا جعلنا مقياسنا " إنسانية " الإنسان ، أى القيم والاعتبارات التى ميزت بين الإنسان والمادة وبين الإنسان والحيوان ، فالأمر يختلف اختلافا بينا ، والصورة لن تكون تقدما مستمرا ، ولكن تذبذبا مستمرا بين الصعود والهبوط ، وأسوأ ذبذباتها الهابطة هو الجاهلية المعاصرة فى كل أرجاء الأرض .
إن فكرة التطور المستمر إلى أعلى هى فكرة داروينية ولا شك ، وقد تأثر الماديون تأثر بالغا بالداروينية فى أكثر من موضع من تصوراتهم ونظرياتهم ، ولكن دارون كان يتحدث عن أجسام الكائنات الحية ووظائفها الحيوية ، ولم يتحدث عن شئ غير ذلك. أما الماديون فقد أمسكوا بخيوط من الداروينية فمدوها مدا واسعا لتخدم أغراضهم الخاصة ، وزعموا أنها صحيحة لمجرد كون الأساس الذى بنوا عليه - وهو التطور - صحيح !
وبصرف النظر عن صحة الداروينية أو عدم صحتها ، فالإنسان - منذ نشأته - له مقاييسه الخاصة التى يختلف فيها عن الكائنات من حوله . ولقد مرت بنا شهادة الداروينية الحديثة بشأن تفرد الإنسان فى كل جوانب تكوينه وجوانب حياته ، ومن بين جوانبه تفرده أنه متفرد كذلك فى معاييره ، فلا تنطبق عليه معايير المادة الجامدة ولا معايير النبات ولا معايير الحيوان .
ومعيار الإنسان - الذى تفرد به بين المخلوقات - أن له طريقين : طريق الهدى وطريق الضلال ، وأنه صاعد إذا سار فى طريق الهدى وهابط إذا سار فى طريق الضلال ، لأن طريق الهدى هو الذى يؤكد على "القيم الإنسانية " التى جعلت الإنسان إنسانا من مبدأ حياته ، وطريق الضلال هو الذى يجانب تلك القيم ويضيعها .
وخط التاريخ البشرى - كما هو معلوم من التاريخ - خط متذبذب على الدوام بين طريق الهدى وطريق الضلال ، ولذلك فهو متذبذب على الدوام بين الصعود والهبوط ، بين الرفعة والانتكاس ، وليس خطا صاعدا على الدوام متقدما على الدوام كخط التقدم العلمى والتكنولوجى ، وليست المسألة أن هذه وجهة نظر وتلك وجهة نظر أخرى على مستوى واحد من احتمال الصحة والخطأ ! فإن مادية الإنسان لا يوجد عليها دليل علمى واحد ، بينما توجد عشران الأدلة ومئاتها على إنسانية الإنسان ، ومن ثم يتضح طريق الخطأ وطريق الصواب !
إنما أراد الماديون أن يثبتوا التطور المستمر " التقدمى " فى حياة الإنسان لسببين رئيسيين :
الأول : أن يقولوا إن الفساد الخلقى والتحلل الدينى الذى وجد فى المجتمع الصناعى كان خطوة " تقدمية " .
والثانى : إن يقولوا إن الشيوعية خطوة تقدمية .
فمن أراد أن يكون " تقدميا " فلينبذ بادئ ذى بدء دينه وأخلاقه ، ثم ليكن شيوعيا فى نهاية المطاف !
ولا هذا ولا ذاك حقيقة علمية ، إنما هى الأهواء والشهوات .
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون 23/71]
6) الحتميات :
يقوم التفسير المادى على الحتميات : المادية أى المستمدة من قوانين المادة الحتمية ، والاقتصادية المستمدة من الوضع الاقتصادى ، والتاريخية المستمدة من المرحلة التاريخية التى يوجد فيها الإنسان من المراحل الخمس الكبرى : الشيوعية الأولى أو الرق أو الإقطاع أو الرأسمالية أو الشيوعية الثانية .
والحتميات الثلاث على أى حال مؤد بعضها إلى بعض بحيث نستطيع أن نتعامل معها كأنها حتمية واحدة : مادية اقتصادية تاريخية ، فإنها كلها أوجه لشئ واحد ، وكل حدث من أحداث التاريخ واقع - لا محالة - تحت ظل الحتميات الثلاث .
ولسنا هنا بصدد مناقشة علمية لهذه الحتميات ، فسنرى فيما يلى من الحديث أنها ليست حتميات بحال من الأحول ! وما يكذبه الواقع لا يحتاج أن ندخل معه فى نقاش ، لأن صوت الواقع أصدق من النظريات والفروض .
ولكنا نلفت النظر إلى قضية معينة فيما يتعلق بالحتميات ، هى قضية " الإنسان " .. أين مكانه فى هذه الحتميات؟ موجودا فما دوره إذا كان كل شئ يتم بمقتضى الحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية ؟
يقول ماركس : " فى الإنتاج الاحتماعى الذى يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها ، وهى مستقلة عن إرادتهم " فإذا كانت مستقلة عن إرادة جميع الناس فمن إذن واضعها ؟ وأى مقياس تقام به لنقول إنها خطأ أو صواب ؟ وما مسئولية الإنسان الأخلاقية فيها لنقول إن هذا الإنسان خير وذاك شر ير ؟ أم لا خير ولا شرير وكلهم سواء ؟!
إن قضية الحتميات خطيرة فى الواقع أخطر مما تبدو للوهلة الأولى ، لأنها تعنى الإلغاء الكامل لكيان الإنسان الإيجابى ذى الإرادى وذى الفاعلية ، وإلغاء القيم الأخلاقية كلها ، وإلغاء المسئولية أو " الأمانة " التى يحملها الإنسان .
مادام كل شئ مرصودا مكانه على خط سير التاريخ البشرى فما قيمة العمل الإنسانى ؟ ما الفرق بين أن يعمل أو لا يعمل ؟ وما الفرق بين عمل وعمل ؟ وما قيمة الوجود الإنسانى فى التاريخ البشرى إذا كان الإنسان بهذه السلبية ، يصنع الأشياء بينما هى مستقلة عن إرادته ، كلعبة " خيال الظل " التى تتحرك فيها الدمى أما عين الناظر بينما هى فى الحقيقة غير متحركة بذاتها ، إنما تحركها اليد التى تختفى وراء الستار !(42/68)
وليس بنا أن نلغى أثر الضغوط التى تقع على الإنسان من خارج كيانة وتؤثر فى حركته ، سواء كانت ضغوط المادى بمعنى الكون المادى على اتساعه وبمعنى البيئة المحيطة بالإنسان ، أو ضغوط الأوضاع الاقتصادية ، أو ضعوط المجتمع .. أو أى نوع من الضغوط يقع خارج كيان الإنسان الفرد ، ويؤثر فيه على غير رغبته .
ليس بنا أن ننكر شيئا من ذلك كله . . ولكن هذا ليس ما يقوله التفسير المادى للتاريخ فى قضية الحتميات .. إنما يقول ذلك التفسير إن كل حياة الإنسان مرسومة له من خارج كيانه ، ومستقلة عن إرادته ، لا يملك أن يقف فيها موقوفا يخالف ما تفرضه الحتميات ، حتى مشاعره لا يملكها ! إنما يكونها له الوضع الاقتصادى إلى غير إرادة منه : " ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم ولكن وجودهم هو الذى يعين مشاعرهم " ( ماركس ) " إن الأسباب النهائية لكافة التغيرات او التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها فى عقول الناس أو فى سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين ، إنما فى التغيرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل " ( إنجلز ) .
وحتى التغيرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل لا تنسب إلى " الإنسان " ! كأنما تحدث تلقائيا بغير فاعل ! ! وكأنما عقل الإنسان ومشاعره ليست - على الأقل - جزءا من عوامل التغيير !
ما الإنسان إذن ؟
إنه مجرد " أداة " فى يد جبارة ماردة هى الحتميات !
ليس الإنسان هو الذى يصنع التاريخ ، ولكن التاريخ " بحتمياته " هو الذى يصنع الإنسان!
ألا ما أبأس الإنسان فى ظل التفسير المادى للتاريخ ! وما أهون شأنه ! وما أهون دوره كذلك ! دور الاستسلام الكامل للحتميات التى تصنع له حياته وتصنع له تاريخه " مستقلة عن إرادته " !
وماذا يساوى - مع الجبروت القاهر لهذه الحتميات التى لا تستجيب لشفاغة ولا تحفل ضراعة - أن يكتب فى سطر من سطور هذا التفسير أن الإنسان هو سيد هذا الكون ، إذا كان كل سطر من سطور هذا التفسير يجعله عبدا ذليلا خاضعا لذلك الجبار الذى لا يلتفت مرة واحدة لهذا الإنسان ، ولا يعيره اهتمامه ، ولا يرحم ضعفه ، ولا يقيله من عثرته ؟!
- - - - - - - - - - - - - -
ثم .. " من " الذى يصنع التغيير فى حياة الإنسان ؟ ! و " ما " الذى يصنعه ؟! وكيف صار للإنسان تاريخ ؟!
يقولون : هى المادة وقوانين المادة ..
وما بنا من حاجة أن نعود من حاجة أن نعود إلى السؤال الذى سألناه من قبل : ما بال المادة وقوانينها لا تصنع هذا التغيير فى حياة الحيوان ! إنما نقول إن خصائص " الإنسان " التى تفرد بها هى التى تصنع تاريخه ، وتصنع التغيرات فى هذا التاريخ ، فلولا رغبة الإنسان فى المعرفة - تلك الرغبة المركزوة فى أعماق كيانه - ولولا رغبته فى استخدام ثمار المعرفة فى تحسين أحواله المعيشية فى شتى جوانبها ، المادى منها وغير المادى ، ولولا قدرته على تخيل صورة معينة لأشياء لم توجد بعد فى عالم الواقع ، وبذل الجهد فى محاولة إيجادها فى الواقع ..
لولا هذه " الخصائص " التى تفرد بها الإنسان ، هل كان يمكن أن يكون للإنسان تاريخ ؟!
إن الحيوان ليس له تاريخ .. ولن يكون له ..
فالحمار الذى عاش قبل عشرة آلاف سنة هو الحمار الذى يعيش اليوم .. لم يغير شيئا من واقع حياته ، ولا يملك أن يغير . . ليس له ماضى يرجع إلى تجاربه ، ولا مستقبل يسعى إلى تحقيقه ، ليس له " ذكريات " ولا " آمال " لا " تطلعات " تتجاوز شخصه إلى أشخاص غيره من الحمير ، أو تتجاوز لحظته الحاضرة إلى الغد القريب أو البعيد .
ولكن الإنسان - بخصائصه المتفردة - لم يكن كذلك منذ مولده ، إنما كانت له دائما " تجربة " واعية يختزنها فى كيانه فردا وجماعة يجعلها نقطة ارتكاز ينطلق منها إلى التجربة التالية .. وكانت له دائما ذكريات فردية واجتماعية ، وآمال وتطلعات ، فردية واجتماعية كذلك ، ترسم له - إلى جانب الشهوات والضرورات المركوزة فى كيانه - خط رحلته فى هذه الأرض .
ومجمل تاريخه هو مجمل ذلك كله .
وحين يخترع آلة جديدة فهذا الاختراع نابع من صميم نفسه .. من تجاربه الواعية ، ومن ذكرياته وآماله وتطلعاته .. إنه لا ينشئها عبثا ، ولا تنشأ هى فى حياته بطريقة ذاتيه ، إنما يخترعها لتلبى رغبة من رغباته الكامنة ، لأداء ضرورة من ضرورات حياته ، أو لتحسين وضع من أوضاعه ، أو لتحقيق أمر من " الكماليات " بالنسبة له فى تلك اللحظة ، يتحول إلى ضرورة بعد فترة من الوقت ، فيسعى من جديد إلى تحسينه أو البحث عن كماليات جديدة ..
وصحيح أن الآلة الجديدة تحدث تغيرا فى حياته ، قد لا يكون منظورا كله وقت التفكير فى اختراعها ، أو لا يكون شئ منه منظور على الإطلاق .. ولكن هنا ينبغى أن نتذكر أمرين مهمين :
الأول : إن الإلة قد اخترعت فى الأصل تلبية لحاجة فى نفس الإنسان يسعى إلى تحقيقها ، ولم تظهر إلى الوجود من تلقاء نفسها ، ولا اختراعها الإنسان عبثا بغير غاية ، ولا فرضت عليه فرضا من خارج كيانه .(42/69)
الثانى : أن التغير الذى تحدثه الآلة لا يجرى على مزاج الآلة ذاتها ـ فهى فى ذاتها لا إرادة لها ولا وعى ولا توجيه ، لأنها " مادة " والمادة هكذا .. لا إرادة لها ولا وعى ولا توجيه ! إنما يجرى التغيير - جزئيا على الأقل - على مزاج " الإنسان " وحسب الوضع الذى يعيش فيه . ولا نقصد الوضع الاقتصادى وحده - كما يقول التفسير المادى للتاريخ - إنما الوضع كله : الروحى والفكرى والمادى على السواء . فاختراع المحراث الحديدى أدى إلى ألإقطاع فى أوربا ، لا لأن المحراث الحديدى يؤدى - بطبيعته - إلى الإقطاع ، ولكن لأن ظهوره فى الجاهلية القائمة يومئذ يمكن أن يؤدى إلى ذلك ، بمعنى أن أطماع ذوى السلطان من الجاهليين يومئذ تجد فى المحراث أداة تمكنها من السيطرة بالصورة التى وقعت فى الإقطاع الأوربى . ولم يكن ذلك ليحدث - بهذه الآلة ذاتها - لو أن القوم هناك كانوا يحتكمون إلى شريعة الله ، إنما كان الوضع الفكرى والروحى الناشئ من اعتناق العقيدة الصحيحة والتحاكم إلى الشريعة الصحيحة يحدث - بهذه الآلة ذاتها - وضعا ماديا واقتصاديا مختلفا عما وقع فى الجاهلية القرون الوسطى المظلمة فى أوربا . والآلة التى تدار بالطاقة أدت إلى ظهور الرأسمالية فى أوربا ، لا لأن تلك الآلة - بطبيعتها - تؤدى إلى الرأسمالية ! فهى فى روسيا لم تؤد إلى الرأسمالية ! ومعلوم أن التصنيع الحقيقى لم يتم فى روسيا إلا بعد دخولها فى الشيوعية ! ولكن لأن ظهورها فى ذلك الوقت - فى الجاهلية القائمة وقتئذ - يمكن أن يؤدى إلى ذلك ، بمعنى أن ذوى السلطان فى تلك الجاهلية يمكن أن يجدوا فيها أداة إلى السيطرة على النحو الذى تم فى الرأسمالية الغربية اليهودية ، ولم يكن ذلك ليحدث - بهذه الآلة ذاتها - لو أن شريعة الله كانت هى الحاكمة فى حياة الناس ، إنما كان الوضع الفكرى والروحى النائى من اعتناق الناس للعقيدة الصحيحة وتحاكمهم إلى الشريعة الصحيحة يحدث - بتلك الآلة ذاتها - وضعا ماديا واقتصاديا مختلفا عن الوضع الرأسمالى . على الأقل بالقدر الذى استطاعت به العقيدة الشيوعية والفكر الشيوعى أن يحدث - بالألة نفسها - وضعا ماديا واقتصاديا مغايرا للوضع الرأسمالى ! ! ولا عبرة بالقول إن الشيوعية لم تنشأ إلا من تناقضات الرأسمالية ، فأن الذى حدث بالفعل هو ا، تطبيق الشيوعية فى روسيا لم ينشأ من تناقضات الرأسمالية هناك ، إنما نشأ - بصرف النظر عن التخطيط اليهودى - من اعتناق " الناس للعقيدة الشيوعية ، ذلك أن روسيا قد قفزت رأسا من الإقطاع إلى الشيوعية !
كلا ! ليست هى الحتمية المادية وإنما هو " الإنسان " ! الإنسان بكاملة ..
وصحيح كما أسلفنا أن الإنسان يواجه دائما ضغوطا من الكون المادى ومن الأوضاع المحيطة به ، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية . . الخ ولكنه فى النهاية هو الذى يقرر . يقرر أن يخضع للضغوط ويستنيم لها أو يتمرد عليها ويسعى إلى تغييرها ، وهو يقرر ذلك دائما على هدى " العقيدة " التى يعتقدها سواء كانت عقيدة صحيحة أو فاسدة .
وقد لا يستطيع فى كل حالة أن يغير كل الأوضاع بالعقيدة التى يعتقدها ولكن ذلك لا يرجع إلى كون العقيدة لا وزن لها ولا اعتبار , ولا إلى كونها هى نابعة من الوضع المادى والاقتصادى القائم ، متأثرة به غير مؤثرة فيه ، لا حقة له غير سابقة عليه كما يزعم التفسير المادى للتاريخ ، إنما الأسباب ترجع فى مجموعها إلى " الإنسان " ذاته هل هو صادق فى اعتناق هذه العقيدة ؟ أم أن شهوات الأرض وثقلة الأرض أثقل فى حسه من متطلبات العقيدة ؟ ومن الشهوات شهوة الحرص على الحياة وعدم تعريض النفس للأخطار ، وشهوة حب السلامة والأمن والاستقرار . وهى الشهوات الغالبة على أكثر الناس فى الأرض . وهى التى تؤدى بهم إلى الوقوع فى الجاهلية ، والخضوع - من ثم - لطغيان الطواغيت .
فخضوع الأكثرية الساحقة من الناس لطغيان الطواغيت خلال التاريخ البشري ليس حتمية مادية ولا اقتصادية ولا تاريخية خارجة عن إرادة الناس .. إنما هو من عند أنفسهم ، إنه واقع عاشته البشرية بالفعل فى جاهليتها كلها ، لا بسبب حتمى ، ولكن نتيجة لعدم استقامتها على الطريق .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
على أن الحتميات المزعومة - بصورتها الديالكتيكية - ليست حقيقة حتى بالنسبة للجاهلية .
فقد تنبأ ماركس بحسب حتمياته أن بريطانيا ستكون أول دولة تقع فى الشيوعية لأنها - على عهده - كانت أكثر الدول الرأسمالية تقدما ، فتنبأ بأن الصراع الطبقى " سينضج " فيها قبل لغيرها فيحوله إلى الشيوعية .
ويعلم الناس فى كل الأرض أن بريطانيا مازالت حتى هذه اللحظة (1) دول رأسمالية . كما أن وريثتها التى ورثتها فى التقدم الصناعى الرأسمالى وهى أمريكا دولة رأسمالية كذلك .
__________
(1) صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 1983(42/70)
وقال ماركس وحواريوه إن المراحل التاريخية حتمية ، وترتيبها كذلك حتمى وإنه لا يمكن لأى مجموعة من البشر أن تسبق طورها التاريخى ، لأن كل طور له أداة مادية أو اقتصادية يتم التحول عن طريقها ، فلا يمكن التحول دون وجود هذه الأداة ، فلابد أن يمر ابشر بالمراحل التاريخية الخمس بصورة حتمية : من الشيوعية الأولى إلى الرق إلاى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية .
ويعلم الناس فىكل الأرض أن أكبر دولتين شيوعيتين وهما روسيا والصين قد قفزتا مباشرة من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الشيوعية دون وجود أداة التحول التاريخية وهى الصراع الطبقى بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال ، وأن كلتا الدولتين لم تدخل المرحلة الصناعية إلا بعد دخولها فى الشيوعية !
أين الحتميات إذن ؟!
إنما هى من أولها لآخرها قصة مدعاة ، للإيحاء الناس بأن الشيوعية هى النهاية الحتمية لكل البشرية ، فخير لهم أن يدخلوها طائعين بدلا من أن يدخلوها كارهين !
ومن أجل هذا الهدف الدعائى البحت تختلق التفسيرات " العلمية " وتلفق النظريات !
- - - - - - - - - - - - - -
التفسير الجاهلى للتاريخ
كنا إلى هذه اللحظة نناقش التفسير المادى ، فنجد فى كل مرة ثغرة تؤدى إلى ضلالة من ضلالات هذا التفسير . وقد آن لنا أن ندعوه باسمه اللائق به " فنسميه " التفسير الجاهلى للتاريخ !
والسبب فى هذه التسمية أولا : أنه لا يتعامل إلا مع جاهليات التاريخ . مسقطا إسقاطا تاما فترات الهدى فى التاريخ البشرى ، وأهمها بطبيعة الحالة الإسلام .
وثانيا : أنه يفسر التاريخ من زاوية جاهلية بحتة ، أى على أساس القيم الجاهلية وهى القيم المادية الخالصة . فهذا شأن معظم الجاهليات التاريخية . أنها تبرز القيم المادية والاقتصادية وتهمل ماعداها من القيم الإنسانية العليا ، لا لأنها غير موجودة فى الحقيقة ولكن لأنها هى تفتقدها بسبب كونها جاهلية .
ولأن هذه القيم المادية الجاهلية ليست هى كل ما فى الحياة البشرية ، فإن التفسير الجاهلى للتاريخ يعجز عجزا تاما عن تفسير أى فترة من حياة البشرية تقوم على قيم أخرى غير القيم الجاهلية .
وأشد ما يعجز التفسير الجاهلى عن تفسيره هو الإسلام !
ولقد شغل الإسلام رقعة فسيحة من الأرض ، ورقعة فسيحة من التاريخ وأى تفسير يتجاهله فهو تفسير غير علمى ، وأى تفسير يعجز عن تفسيره فهو غير صالح لتفسير التاريخ البشرى .
ونحن نتحدى التفسير الجاهلى للتاريخ أن يفسر لنا هذه الظاهرة التى شغلت هذه الرقعة الفسيحة من الأرض ، وهذه الرقعة الفسيحة من التاريخ ، وكانت واقعا مشهودا استمر وجوده عاملا فى الأرض أكثر من عشرة قرون ، ومازال قائما حتى اليوم ، ومازال قادرا على أن ينبعث من جديد بعد أن اعترضته فترة من الخمود .
لماذا ظهر الإسلام فى تلك الفترة من التاريخ البشرى ، وكيف ظهر على هذه الصورة المخالفة للبيئة فى أكثر سماتها ، والمخالفة لكل حتميات التاريخ المزعومة ؟!
أما نحن فنؤمن أنه من عند الله وأنه نزل بقدر الله ، فى الوقت الذى اختاره الله ..
وأما هم فإنهم لا يؤمنون بالله .. فليفسروا لنا إذن هذه الظاهرة العجيبة فى التاريخ !
فليفسروا لنا كيف ظهر رجل فى تلك الصحراء فى تلك الحقبة السحيقة من الزمن قبل أربعة عشر قرنا يدعو إلى عبادة الله الواحد بلا شريك ، ونبذ الأرباب الزائفة كلها ، سواء كانت أصناما محسوسة ، أو بشرا تضفى عليهم القداسة الزائفة فتسجد لهم الناس كالملوك والأباطرة ، أو بشرا يشرعون للناس من عند انفسهم بغير سلطان منزل من عند الله، أو عرفا جاهليا ، أو وهما تبتدعه رؤوس الناس وتتعبده بالوهم ، ويحرر البشرية بذلك - فى نصاعة وحسم - من حكم الطواغيت ، ومن كل عبودية ملة لكرامة الإنسان ، برد العبودية إلى المعبود الحق الذى يكرم البشر بعبادته ، وتتحرر عقولهم ووجدانهم ومشاعرهم كما يتحرر كيانهم كله ، فينطلقون أحرارا فى الأرض ينشرون الحق والعدل ويحطمون الطواغيت المستبدة بالبشر فى صورة نظم ودول وجيوش ، ويقيمون مجتمعا إنسانيا يتمتع المؤمنون فيه بالأخوة الإنسانية على قدم المساواة ، ويتمتع غير المؤمنين بهذا الدين بالعدل الربانى دون إكراه على اعتناق العقيدة.
وفى الوقت الذى كانت الديانات كلها - سواء كانت سماوية محرفة أو وثنيات من صنع البشر - تقيم بين البشر وربهم وسطاء من الكهنة و " رجال الدين " أو من الأصنام والأوثان ، أو من الأرواح الخيرة أو الشريرة .. يجئ هذا الداعية فيلغى كل وساطة بين العبد والرب ، ويربط القلب البشرى بالله مباشرة بلا وسيط :
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر 40/60]
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [سورة البقرة 2/186](42/71)
وفى الوقت الذى يتجبر فيه الأغنياء على الفقر فى كل الأرض يجيئ هذا الداعية فيلغى سلطان الأغنياء المتجبرين ، لا على اساس الحقد الطبى ، ولكن على أساس الحق والعدل الأزليين ، فلا يزيل " طبقة " ويحل محلها " طبقة " . ولا يعطى السلطان للفقراء بوصفهم فقراء ، بل ينزع السلطان من البشر جميعا ، أغنيائهم وفقرائهم على السواء ويرده إلى الله، ويقدم شريعة يخضع لها الناس جميعا حكاما ومحكومين ، ليست من صوغ هؤلاء ولا هؤلاء ، شريعة تتعامل مع "لإنسان" من حيث هو إنسان ، فتلبى جميع احتياجه الروحية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية ، وترسم له المنهج المتكامل الذى تستقيم به الحياة وتتوازن وتترابط ، على نحو غير مسبوق من قبل ولا ملحوق من بعد فى كل ما كان من دساتير البشرية إلى اليوم .
وفى الوقت الذى كان " الدين " فى كثير من بقاع الأرض أو فى كل بقاع الأرض يرتبط فى نفوس الناس بالخضوع والاستكانة - لا لله وحده المعبود الحق - بل لأوضاع ظالمة فى المجتمع ما أنزل الله بها من سلطان ، ويرعى الكهنة ورجال الدين هذا الذل وينمونه فى نفوس الناس باسم الدين فيخضعونهم للمتجبرين من ذوى السلطان ، يجئ هذا الداعية فيقول للناس إن من رضى بالظلم فى الدنيا وهو قادر على إزالته أو الخروج من سلطانه فلا مكان له عند الله فى الآخرة وله عذاب عظيم ، ويصبح أسمهم " ظالمى أنفسهم " : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)} [سورة النساء 4/97-99]
وفى الوقت الذى تهان فيه المرأة وتحتقر ، يدعو إلى تكريمها ورعايتها ويبرز إنسانيتها .؟
وفى الوقت الذى يسام فيه الرقيق أقسى أنواع المهانة والخسف يدعو لتحرير الرقيق وإحسان معاملته على أساس إنسانى .
وفى الوقت .. وفى الوقت .. وفى الوقت ..
ثم ليفسروا لنا كيف استطاع هذا الرجل أن يربى على هذه المبادئ أمة .. أمة كانت مجموعة من القبائل المتناثرة المتناحرة تأبى أن تتحد وتتألف مع وجود كل العناصر التى تدعو إلى التألف .. وحدة الأرض ، ووحدة اللغة ، ووحدة العقائد ، ووحد الثقافة ، ووحدة التاريخ ، ووحدة الجنس .. ومع ذلك تحول بين توحدهم ثارات الجاهلية ونزاعاتها التافهة التى لا تساوى لحظة واحدة من الصراع ! ومن هذه الشتيت المتناثرة لا يبنى هذا الرجل أمة - أى أمة - وإنما أمة فريدة فى التاريخ ، أمة عقيدة .. أمة لا تقوم على رابطة الأرض ، ولا رابطة الدم ، ولا رابطة اللغة ولا رابطة المصالحة القريبة ، إنما تقوم على رابطة العقيدة ، فيجتمع فيها العربى القرشى ، والحبشى والرومى والفارسى ، على قاعدة واحدة من المساواة فى الإنسانية والمساواة فى العقيدة ، ويكون التمايز بينهم على قاعدة جديدة كل الجدة على تلك البيئة بل على البشرية كلها يومئذ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 49/13]
أمة تقوم على الأخوة فى الله : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 49/10]
أمة تقوم على التكافل : {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر 59/9]
أمة تقوم على العدل الربانى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء 4/58]
باختصار .. أمة فريدة فى التاريخ ..
وليفسروا لنا كذلك كيف انساحت هذه الأمة فى أرجاء الأرض بهذه السرعة المذهلة ، لا غازية للأرض ، ولا مستعبدة للناس ، ولكن ناشرة لتلك العقيدة التى تزيل القداسة عن البشر وتوجه العبادة لله وحده ، وتدعوا إلى الأخوة والتكافل ، وتدعوا إلى تحرير المرأة وتحرير الرقيق .. فتنتشر هذه المبادئ كلها بالسرعة المذهلة التى تفتح بها الأرض !
فليفسروا لنا هذا كله بمقتضى تفسيرهم الجاهلى للتاريخ !
أى تغير مادى حدث فى الجزيرة العربية - بل فى العالم أجمع - أدى إلى ظهور هذا الرج صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة ونشرها هو وأبتاعه من بعده فى أرجاء الأرض ؟!
أى تغير اقتصادى حدث فى الجزيرة العربية - بل فى العالم أجمع - أدى إلى ظهوره ؟
أى حتمية تاريخية يمكن أن ينشأ عنها هذا الحدث الضخم ، الذى ما تزال ضخامته قائمة حتى اللحظة ؟!
البيئة هى البيئة .. ما تغيرت قبل بعثة رسول ا صلى الله عليه وسلم ولا بعد بعثته لعدة قرون ..
الوضع الاقتصادى هو الوضع الاقتصادى : البيئة الرعوية فى الجزيرة العربية برمتها ، والبيئة التجارية فى مكة والمدينة ..
أما التاريخ .. فلننظر حتميات التاريخ ..(42/72)
بعد سبعة قرون من مولد هذه الدعوة قامت فى أوربا حركة تحرير العبيد .. وحين قامت فإنها لم تحرر العبيد تماما وإنما حررتهم من قبضة السيد ليكونوا عبيدا للأرض . وبعد عشرة قرون كاملة بل أكثر حررتهم الثورة الفرنسية من جحيم الإقطاع ! والإسلام حررهم قبل ذلك بعشرة قورن !
بعد اثنى عشر قرنا من مولد هذه الدعوة أو أكثر قامت فى أوربا حركة تحرير المرأة ، التى أعطت المرأة بعض الحقوق التى كفلها لها الإسلام ، ومازالت بعض الحقوق لم تحصل عليها إلى هذه اللحظة .
بعد اثنى عشر قرنا من مولد هذه الدعوة بدأت الدعوة إلى " الديمقراطية " القائمة على الشورى ونزع السلطة الطاغية من الحكام ، وهى الدعوة التى أعطت الناس حقوقا وضمانات لم تكن لهم فى عهود الإقطاع ، وإن كانت "الطبقة" المالكة ما تزال هى الحاكمة من وراء الستار .. بينما أعطى الإسلام كل الضمانات وكل الحقوق قبل ذلك باثنى عشر قرنا مع ورد السلطة إلى الله لا إلى المالكين من عباد الله !
بعد أربعة عشر قرنا من مولد هذه الدعوة ما تزال العنصرية البغيضة قائمة فى الأرض ، تقوم على أساسها دول وتقوم من أجلها حروب ، ويعامل " الملونون " فيها على أيدى البيض تلك المعاملة الزرية التى يعرفها الناس فى أمريكا وجنوب أفريقيا وفى كل مكان : بينما الإسلام - قبل أربعة عشر قرنا - قد صهر الأجناس والألوان واللغات والشعوب فى أمة واحدة على قدم المساواة حين ربطهم بالعقيدة الواحدة فى الله .
بعد أربعة عشر قرنا من مولد هذه الدعوة ما يزال مبدأ كفالة الدولة لجميع أفراد شعبها غير تام التطبيق فى الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ، والدولة الشيوعية التى تطبقه تطبقه على حساب كرامة الإنسان ، وتستذل الناس بلقمة العيش لكى يخضعوا للسلطان ، بينما قرر الإسلام هذا المبدأ منذ أربعة عشر قرنا مع المحافظة التامة على إنسانية الإنسان وكرامته .
ويطول بنا المقام إذا مضينا نعدد المواضع التى سبق به الإسلام كل حتميات التاريخ المزعومة ، أو التى تفرد بها التاريخ !
فكيف يفسر لنا التفسير الجاهلى للتاريخ ظهور الإسلام وانتشار الإسلام والمبادئ والقيم التى أقرها الإسلام ؟!
هل الوضع المادى والاقتصادى هو الذى غير الناس فى الجزيرة العربية والأرض التى فتحها الإسلام ، أم إنه العقيدة ، وإيمان الناس بالله ، وبالحق والعدل الأزليين ؟! وهى أشياء ليست فى المادة ، ولا هى من صنع المادة ، إنما هى فى عقول الناس وقلوبهم ومشاعرهم !
وكيف تغير " أسلوب التبادل " فلم يعد رقا ولم يعد إقطاعا إنما صار تكافلا وأخوة فى المجتمع ؟ الأسباب مادية أم لعقيدة ملأت النفوس فبعثت الناس يغيرون أسلوب التبادل ليخضعوه لشريعة الله التى تمنع الظلم وتحكم بالعدل ؟!
هل كان وجود الناس هو الذى حدد شعورهم أم إن شعورهم هو الذى حدد أسلوب وجودهم ؟!
ماذا يا دعاة التفسير الجاهلى للتاريخ ؟!
لقد كان الإسلام وسيظل أمرا ربانيا لا ينطبق عليه أى تفسير يفسر التاريخ البشرى بالقيم الجاهلية الأرضية ، مادية كانت أو اقتصادية ., ولكنا نأخذ من الإسلام عبرا لدعاة التفسير المادة ودعاة كل تفسير غير التفسير " الإنسانى" للإنسان .
الإسلام أمر ربانى .. نعم
ولكن الدين قاموا بالإسلام بشر ..
ولقد زعم التفسير الجاهلي للتاريخ أن البشر لا يتحركون ولا يتغيرون إلا بسبب تغيرات مادية أو اقتصادية .. وأنهم لا يمكن أن يتحركوا بشئ معنوي : فكرة أو مبدأ أو مبادئ ، لأن هذه كلها تأتي لاحقة للتغير المادي و الاقتصادي و منبثقة عنه .. فوجود الاسلام في الأرض بالصورة التي تم بها يعلمنا غير ذلك تماما ..
يعلمنا أن العقيدة : إيمان الناس بالله ، ولإيمانهم بالحق و العدل الأزليين ، يمكن أن يحدث تغيرات في الأرض أضخم بكثير من أي تغيير حدث نتيجة التغير المادي أو الاقتصادي ..
و يعلمنا أكثر من ذلك أن نوع التغيير الذي تحدثه العقيدة يختلف اختلافا جذريا عن التغير الذي يحدث - لأسباب مادية واقتصادية - بلا عقيدة .. الإسلام نشأة جديدة للإنسان ، على أسس من القيم العليا والمبادئ الرفيعة ، بينما التغيرات الأخرى مجرد تغير جزئى من حالة إلى حالة ، لا يغير شيئا جذريا فى الإنسان ، وقد يؤدى به إلى الانتكاس والدمار .. ويعلمنا قبل ذلك وبعد ذلك أن الإنسان ليس مادة .. ولكنه " إنسان " ! وأن النظام الذى يتعامل معه على أنه إنسان أفضل بكثير وأعلى بكثير ، وأكثر فاعلية بكثير من النظام الذى يتعامل معه على أنه مادة ، أو على أنه حيوان !
- - - - - - - - - - - - - -
التفسير الإسلامى للتاريج
ليس هنا فى الحقيقة مجال الحديث المفصل عن التفسير الإسلامى للتاريخ فذلك موضوع يحتاج إلى بحث مستقل تبسط فيه الفكرة ، وتؤخذ لها النماذج من التاريخ البشرى فى شتى عهوده وشتى أحوال البشر فيه .
ولكنه يحسن بنا ونحن بصدد الحديث عن التفسير الجاهلى للتاريخ عرضا ومناقشة أن نلم على الأقل بالخطوط العريضة للتفسير الإسلامى ، لأنه يكاد يكون الوجه المقابل لذلك التفسير فى كثير من الأسس التى يقوم عليها .(42/73)
وأحسب أننا ألمحنا إلى بعض هذه الخطوط فى أثناء مناقشة التفسير المادى ، فالآن نحاول تجميع هذه الخطوط فى عرض سريع ، وحسبنا فى هذا المقام أن نشير إلى الأسس العامة دون تفصيل .
من البديهيات أن التفسير الإسلامى للتاريخ يتعامل مع الإنسان ابتداء على أنه إنسان ، لا مادة ولا حيوان . وأن التاريخ هو تاريخ الإنسان . أى أن العنصر الفعال فيه هو الإنسان .. الإنسان بمجوعة لا جانب واحد منه . فقد كتب الإنسان هذا التاريخ بكل جوانبه مجتمعة - سواء فى حالات الهدى أو حالات الضلال . كتبه بروحه وجسمه وعقله . وكتبه باقتصادياته واجتماعياته وسياسياته . كتبه بالتعامل مع الكون المادى ، ومع الأفكار والقيم ، ومع الأحلام والرؤى ، ومع الواقع والخيال . كتبه بدوافعه الداخلية وتطلعتاته وطموحاته كما كتبه بالضغوط الواقعة عليه من خارج كيانه ! ضغوط الكون المادى والضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية . كتبه بكل ذرة من كيانه . وكل سطر من سطور هذا التاريخ أو إنجاز من إنجازاته فهو صادر من كيان الإنسان كله ، وهو أصيل فى صدوره عن مجموع هذا الكيان لا عن جانب واحد من هذا الكيان .
يتعامل التفسير الإسلامى مع الإنسان على أنه قبضة من طين الأض ونفخة من روح الله ، مترابطين متماسكين متفاعلين ، يتكون منهما معا كيان موحد .
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72]
هذا هو تكوين الإنسان : قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح الله ، امتزجتا امتزاجا كاملا وترابطتا وتفاعل كل منهما مع الآخر فأصبح من حصيلتهما ذلك الإنسان الذى نعرفه ونتعامل معه فى واقع الحياة .
إنه ليس قبضة طين خالصة كما كان قبل النفخة العلوية فيه ، وليس روحه خالصة طليقة من قبضة الطين ، إنما هو الأمران معا فى وحدة مترابطة تختلف فى خصائصها اختلافا جذريا عن قبضة الطين الخالصة ونفخة الروح الخالصة ، وإن كانت تحمل بين الحين والحين بعض المشابه من هذه وتلك ، حين تجنح جنوحا شديدا نحو عالم الجسد أو عالم الروح ، ولكنها حتى فى تلك الحالات لا تكون مماثلة أبدا لأى من العنصرين منفصلين .
فى لحظة الشهوة الجامحة غير المنضبطة يكون أقرب إلى قبضة الطين ، لأنه يتعامل بجسده أكثر من أى جانب من جوانبه ، ومع ذلك لا يكون أبدا جسدا خالصا كالحيوان ، لأنه فيه - على الأقل - قدرا من الوعى والإرادة والاختيار حتى فى هذا العمل اللاصق بالطين ، بينما الحيوان لا يعمل بوعى ولا إرادة حرة ولا اختيار .
وفى لحظة الرفرفة الشفيفة المشرقة المهومة يكون أقرب إلبى نفخة الروح ، لأنه يطنلق بروحه من إطار الحس المحدود . ومع ذلك لا يكون أبدا روحا خالصة كالملائكة لأن له جسدا لا يستطيع أن يتخلص من وجوده ، وعقلا لا يكف تماما عن التفكير . انظر إلى أعلى لحظة وجود عرفها بشر فى تاريخ الأرض ، لحظة الوحى المتنزل على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، هل كا صلى الله عليه وسلم روحا خالصة وهو يصافح جبريل عليه السلام ويتلقى منه ، استمع إلى قوله تعلى :
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [سورة القيامة 75/16-19]
فقد تحرك العقل وتحرك اللسان ، خوفا من رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يفوته حفظ شئ من التنزيل الربانى ، فطمأنه الله انه لن يضيع منه شئ لأنه سبحانه وتعالى هو المتكفل بحفظه وجمعه وقرآنه ( أى قراءته ) وبيانه .
هذا هو الإنسان بعنصريه المكونين له : قبضة الطين ونفخة الروح .
وكل محاولة لتفسيره بواحد من عنصريه دون الآخر هى محاولة مضللة لا تؤدى إلى حقيقة . سواء فسر من جانب قبضة الطين أو من جانب نفخة الروح .
والجاهليات فى التاريخ كله تجنح دائما إلى تفسير الإنسان - سواء نظريا أو عمليا أو هما معا - بجانب واحد من جوانبه ، أو بجانب غالب بحيث يسحق الجانب الآخر ويقهره ويكاد يلغيه .
الجاهليات المادية تبرز جانب الجسد ، وجانب الحس ، وجانب المادة ، فإذا أخذت شيئا من النفخة العلوية أخذت جانب العقل وأبت جانب الروح ، وسخرت العقل - من ثم - فى شهوات الجسد ومطالب الحس وعالم المادة ففقد علويته ورفعته ، وأسف مع قبضة الطين ، وأنشأ عمارة مادية للأرض خالية من إشراقة الروح .
والجاهليات الروحية تبرز جانب الروح ، وتهمل الجسد وتكبته وتقهره وتحتقره وتقوم بتعذيبه من أجل رفعة الروح ، كما تفعل الهندوكية والرهبانية ، كما أنها تهمل عالم الحس وعالم المادة ، فلا يقوم الإنسان بعمارة الأرض ، ولا يقاتل الشر والطغيان ، ولا يجاهد لإقامة الحق والعدل ، اكتفاء بلذة " الفناء " فى عالم الروح ، التى يتم من خلالها "الوجود" !(42/74)
والجاهلية المعاصرة - كما هو واضح - جاهلية مادية مغرقة فى المادية ، سواء فى المعسكر الشيوعة أو المعسكر الرأسمالى . قاعدة الحياة مادية بحتة . وقيم الحياة مادية بحتة، وعمارة الأرض على أساس مادى بحت . والتفسير المادى للتاريخ هو واقع الحياة هنا وهناك . وإن كانت النظرية - فى الحقيقة - ملكا للشيوعيين . والنظرية أسوأ بكثير حتى من التطبيق ! ففى التطبيق يتعامل كلا المعسكرين مع الإنسان على أساس أنه حيوان ، أو على أساس أنه آلة فى بعض الأحيان وحيوان فى سائر الأحيان .. أما فى النظرية فينفرد المعسكر الشيوعى بالتعامل مع الإنسان على أنه مادة تنطبق عليه قوانين المادة ، لأن الشيوعية خطوة " تقدمية " فى المخطط الكبير الهادف إلى تسخير الأمميين لشعب الله المختار .
- - - - - - - - - - - - - -
من قبضة الطين ونفخة الروح أنشأ الله الإنسان وقال للملائكة إنه سيجعله خليفة فى الأرض :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
والخلافة تتضمن الهيمنة والسيطرة والقدرة على الإنشاء والتعمير والقدرة على التمييز والاختيار .. فأمده الله بالأدوات الصالحة للخلافة :
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا...} [سورة البقرة 2/31]
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/3-5]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) [سورة البلد 90/8-10]
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
وجعل الله للإنسان هدفا شاملا يشمل هذا كله هو عبادة الله ، على المعنى الشامل للعابدة :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
العبادة هى حق الله على جميع مخلوقاته حق الخالق على المخلوق .. ولكن الله فرض على كل نوع من مخلوقاته عبادة تناسب تكوين . " فالمادة " لها عبادة ، والملائكة لها عبادة ، والإنسان له عبادة .. تشترك جميعا فى أنها عباد وأنها " سجود " وأنها " تسبيح " ولكن تختلف فى الطريقة .
{أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} [سورة الحج 22/18]
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء 17/44]
واختص الإنسان بلون من العبادة يناسب اختصاصه بالخلافة ، ويناسب تكوينه من جسد وعقل وروح.
فهو يعبد الله بالسجود والتسبيح على نحو معين علمه الله إياه على يد رسله وخاتمهم رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ويعبده بعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى المنزل من عند الله لتنظيم حياة الناس فى الأرض وإقامتها بالقسط .
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
ففى صلاته وتسبيحه ونسكه هو عابد لله ، وفى مشيه فى مناكب الأرض وأكله من رزق الله بالضوابط التى أقامها الله من حلال وحرام هو عابد لله . وفى زواجه وإقامة أسرته ورعايتها فى حدود الضوابط والتوجيهات الربانية هو عابد لله . وفى طلبه العلم سواء للتعرف على أوامر ربه ونواهيه ، أو للقيام بعمارة الأرض على المنهج الربانى هو عابد لله. وفى إقامته شريعة الله فى الأرض هو عابد لله . وفى قتاله لتكون كلمة الله هى العليا هو عابد لله . . وذلك معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
- - - - - - - - - - - - - - - -
فإذا تبين ذلك تبينت مهمة الإنسان فى الأرض وطبيعة عمله فيها .(42/75)
ليست مهمة الإنسان أن يأكل ويشرب ويمارس الجنس على طريقة الحيوان وإن كان هذا جزءا من نشاطه وعمله فى الأرض ، ولكن على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان ، أى ملتزما بما أنزل الله من توجيهات وضوابط ومتقيدا بالحلال والحرام .
وليست مهمته هى الإنتاج المادى وحده ، وإن كان هذا جزءا من نشاطه وعمله فى الأرض ، لكن على طريقة الإنسان لا على طريقة الآلة ، أى واعيا مدركا لأهدافه العليا ، ملتزما فى الإنتاج بالضوابط البرانية التى تحدد الحلال والحرام والحسن والقبيح والمباح والمكروه والمندوب .
مهمته هى " العبادة " بمعناها الشامل الذى يشمل العقيدة الصحيحة ، وشعائر التعبد ، والنشاط الحيوى فى شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية .. الخ ملتزما فى ذلك كله بمنهج الله .
وفى جميع الأحوال فعمله ذو طبيعة أخلاقية لاصقة به لا يمكن فصلها عنه فهو إما خير وإما شرير . ولا يوجد عمل واحد من أعماله خارج عن نطاق الأخلاق ، سواء كان سياسة أو اقتصادا أو اجتماعا أو فكرا أو فنا ، إلا أن الأخلاق ، سواء كان سياسة أو اقتصادا أو اجتماعا أو فكرا أو فنا ، إلا أن يكون عملا من أعمال الطبيعة غير الإرادية لا يحاسب عليه الإنسان .
وتنشأ القيمة الأخلاقية من كون الإنسان ثنائى الوجهة لا مفر الاتجاه ، ومن كونه قادرا على التمييز بين الوجهتين واختيار إحداهما .
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
والأخلاق سواق فى الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ، أو فى السياسة ، أو فى الاقتصاد ، أو فى الفكر ، أو فى الفن .. الخ ، هى " القيم العليا " التى يتقيد بها " الإنسان " فى تصرفاته ، والتى يسعى لإقامة الحياة البشرية على أساسها ، والتى يكون إنسانا بقدر ما يحرص على أدائها وإقامتها ، ويفقد من إنسانيته بقدر ما ينفلت منها ويتهاون فيها.
وعلى هذا النحو تكون " إنسانيته " الإنسان ، وتكون كذلك " كرامته ، فالتكريم الربانى للإنسان لم يكن عبثا .
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
إنما يشمل التكريم والتفضيل - فيما يشمل - هذا العنصر الأخلاقى الذى تقوم عليه حياة الإنسان ، وتقوم به أعماله كذلك ، لتفترق عن حياة الحيوان ، وتفترق من باب أولى عن تصرفات المادة التى لا وعى لها ولا إرادة ولا إدراك ، إنما تتصرف بالقهر الكامل المفروض عليها من إرادة الخالق ، الذى أنشأها وأجرى أمورها على النحو الذى تجرى عليه ، لا تملك فكاكا منه ولا تعديلا عليه . وشتان بين ذلك وبين الوضع الكريم الذى وضع الخالق فيه الإنسان ، إذ أعطاه القدرة على التمييز والاختيار ، وجعله مقابل ذلك مسئولا عن تصرفاته بمقتضى تلك " الأمانة " التى حملها ، بينما أشفقت " المادة " من حملها :
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72]
( ( (
وتختلف أحوال البشر اختلافا جذريا بحسب الطريق الذى يختارونه لأنفسهم . ولا يقتصر الاختلاف على مصير الإنسان يوم القيامة إما إلى الجنية وإما إلى النار ، بل يختلف الأمر فى الحياة الدنيا كذلك .
أول اختلاف أنهم إذا اختاروا طريق الله ، طريق الخير ن فعبدوا الله وحده بلا شريك ، وساروا فى حياتهم بمقتضى المنهج الربانى ، فقد نجوا بادئ ذى بدء من عبودية بعضهم لبعض ، وتحققت لهم العزة والكرامة والمساواة التى لا تتحقق أبدا إلا حين ينزع من البشر حق التشريع ، ويصبحون كلهم عبيدا لله على قدم المساواة ، خاضعين كلهم لشريعة الله .. ونجوا من الظلم الذى يسم الجاهليات جميعا حين يحكم البشر بشرائع من صنع أنفسهم ، فإنه يحدث دائما فى تلك الجاهليات أن طبقة معينة هى التى تحكم ، وحين تحكم فإنها تدير الأمور بالطريقة التى تحقق مصالحها على حساب مصالح الآخرين .
- - - - - - - - - - - - - -
ثم إن حياتهم تتسم بالنظافة والاستقرار والطمأنينة والبركة .
النظافة المستمدة من أخلاقيات لا إله إلا الله ، من الالتزام بالحلال والحرام . من ضبط الدوافع لترتفع عن حيوانية الحسد إلى إنسانية الإنسان ، الذى يمارس الحياة بجسمه وروحه فى آن .
والاستقرار المستمد من تطبيق الشريعة الربانية الحكيمة المحكمة التى لا تخبط فيها ولا انحراف . وليس معنى الاستقرار الجمود عن الحركة ، ولا معناه كذلك الخلو الكامل من المشكلات . إنما معناه استقرار الأسس التى تقوم عليها الحياة . أما الحياة ذاتها فلا تكف عن الحركة الفاعلة ، ولا تخلو من أمور تجد فى حياة الناس تحتاج إلى جهد يبذل لحل مشكلاتها وتقويمها بمقتضى منهج الله .
أما الكدح ذاته فهى من سمات الحياة الدنيا .(42/76)
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)} [سورة الإنشقاق 84/6]
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [سورة البلد 90/4]
ولكن هناك كدحا يتم فى إطار أسس مستقرة وراشدة ، فيكون كدحا مثمرا متمشيا مع الغاية التى خلق من اجلها الإنسان وهى " العبادة " بمعناها الشامل الواسع ، التى تتضمن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى.
وهناك كدح يتم فى غير هذا الإطار الراشد المستقر ، فيكون كدحا مؤديا إلى البوار وإن حقق منافع على المدى القصير .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
أما الطمأنينة فمصدرها ذكر الله "
{ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
والاطمئنان إلى قدر الله :
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)} [سورة الطلاق 65/3]
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [سورة التغابن 64/11]
وإحساس الإنسان أنه يصارع ما يصارع من القوى فى الأرض وهو مستند إلى الله الذى هو أكبر من القوة جميعا وأعلى :
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [سورة آل 3/173-174]
وحتى حين يمسهم السوء بقدر من الله فهم مستعلون بالإيمان :
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} [سورة طه 20/71-73]
وأما البركة فمصدرها رعاية الله وإغداقه على المتبعين لمنهجه بعد أن تنتهى فترة الابتلاء والتمحيص .
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12)} [سورة نوح 71/10-12]
ومصدرها ارتفاع مشاعر الناس عن التكالب على متاع الأرض ، الذى يحدث الجوعة الدائمة التى لا تشبع ، اللهفة الدائمة التى لا تستقر ، وحين ترتفع المشاعر - بغير رهبانية ولا حرمان - يحدث الرضا النفسى الذى هو عنصر البركة الأصيل .
ومصدرها كذلك الأخوة والتكافل فى المجتمع المسلم الذى يجعل الناس شركاء فى الخير لا يختص به فريق دون فريق..
أما إذا اختار الناس طريق الشر . فأشركوا بالله فى العبادة أو كفروا به جهرة ونبذوا عبادته وأعرضوا عن شريعته ، فأول ما يقعون فيه هو عبودية بعضهم لبعض ، وانقسام المجتمع إلى سادة وعبيد . سادة يملكون ويحكمون يشرعون ، وعبيد ينفذون وه أذلاء مهينون .
ثم إن حياتهم تتسم بالاضطراب والقلق ، وفقدان النظافة ، والعبودية للشهوات .
الاضطراب ينشأ من الرؤية البشرية القاصرة ، العاجزة عن الإحاطة ، المحجوبة عن الغيب ، التى تتصرف فى كل لحكة بمقتضى تلك اللحظة ، دون أن تدرك الآثار الكاملة التى تنشأ عن تصرفها حتى تقع تلك الآثار بالفعل فى نفس الجيل أو فى جيل لاحق ، فيكتشف الناس الخلل الذى أصابهم ، فيروحون يعالجونه بعلاج جديد يثير مشاكل جديدة !
والقلق ينشأ من الدخول فى حومة الكدح - حومة الصراع - دون سند من قوة أعلى يطمئن الإنسان إلى نصرتها أو تعويضها له عما يفقده فى أثناء الصراع ..
وفقدان النظافة ينشأ من عدم الالتزام بمنهج الله .. عدم الالتزام بالحلال والحرام ، الذى ينتج عنه اندفاع الناس مع شهواتهم وعدم الارتفاع بها ، فتهبط هى بهم إلى المستنقع المنتن الذى تعيش فيه كل الجاهليات .. وتلك هى العبودية للشهوات ، التى لم تنج منها جاهلية من جاهليات التاريخ ، حتى التى جنحت إلى الروحانية والرهبانية .. ففى الجاهلية الهندية الجانحة نحو الروحانية كانت ظاهرة " بغايا المعبد ! " ظاهرة معروفة ، وفى الرهبانية حدث ما أسلفنا ذكره من الموبقات !(42/77)
أما التقدم المادى والعلمى فخط قائم بذاته خلال التاريخ البشرى غير متعلق بالهدى ولا بالضلال :
{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)} [سورة الإسراء 17/20]
منشئوه تلك الرغبة الفطرية التى أودعها الله قلب الإنسان ، التى تدفعه إلى التعرف على خواص الماجة وخواص الكائنات الحية من حوله ، ومحاولة استخدام هذه المعرفة فى التحسين المستمر لأحواله المعيشية ، وهى رغبة كما قلنا لا تتعلق بالهدى ولا بالضلال .. ومن ثم فجعلها هى المقياس لتقدم الإنسان يؤدى إلى نتائج باطلة .
فقد يحدث - كما حدث فى وقت نشأة الأمة الإسلامية - أن يكون الحاملون للهدى الربانى ، المتبعون لمنهج الله ، متأخرين فى مبدأ أمرهم من الناحية العلمية والتكنولوجية ، قليلى الحظ من العمارة المادية للأرض ، ويكونون مع ذلك فى أعلى درجات الرفعة الإنسانية ، كما كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم ، الذين قال فيهم رسول ا صلى الله عليه وسلم : " خير أمتى القرن الذى بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم (1) " فلا يمنعهم هذا التأخر المؤقت فى ميدان العلم النظرى والتطبيقى أن يكونوا أروع نماذج للبشرية فى أوج ارتفاعها . ولكنهم - بحكم الانطلاقة الهائلة التى تحدثها النشأة الجديدة فى كيانهم - لابد أن يتجهوا بعد فترة من الزمن إلى العمارة المادية وتظهر إنجازاتهم فيها كما حدث للمسلمين فى العهد الأموى والعباسى .
بينما يحدث كثيرا أن يكون قوم فى قمة العمارة المادية للأرض ولكنهم فارغون من القيم العليا ، فتزداد حياتهم خللا وانحدارا كلما أوغلوا فى العمارة المادية ، كما هو حادث فى الجاهلية المعاصرة .
ومن ثم لا يصلح التقدم المادى - وحده - معيارا من معايير التاريخ .
حقيقة إنه جزء من مهمة " الخلافة " التى خلق الله الإنسان ليقوم بها فى الأرض ، بحيث يكون الإنسان المتقاعس فى هذا الجانب - ع القدرة عليه - مقصرا فى أداء جزء من مهمته ، ولكن العبرة ليست فى مجرد أداء هذه المهمة ، إنما فى الطريقة التى تؤدى بها ، هل هى متفقة مع المنهج الربانى ، أى متقيدة بالحلال والحرام ، ونظافة المشاعر ونظافة السلوك، والأمانة والعدل ، وسائر القيم العليا التى تكون الجوهر الحقيقى لإنسانية الإنسان ، أم غير متفقة مع ذلك المنهج ، أى غير متقيدة بالحلال والحرام والنظافة الحسية والمعنوية والأمانة والعدل .. أى غير محققة لإنسانية الإنسان .
فالتقدم العلمى والتكنولوجى ضرورى لعمارة الأرض ، ومن ثم فهو واجب على أى مجموعة من البشر يضمها تجمع معين . ولكن لابد له من شروط يقوم عليها ، وإلا فقد كثيرا من اعتباره وتحول إلى أداة سلبية تدفع الإنسان إلى الدمار !
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} [سورة الروم 30/9]
وليس من الضرورى أن يتم التدمير بمجرد ظهور الفساد واستشرائه .. فإن من سنن الله أن يمد للقوم الظالمين - مع ظلمهم - ويمكن لهم ، ويفتح عليهم أبواب القوة فى كل اتجاه .. ليزدادوا فسادا وانحرافا ، ويزدادوا استحقاق للتدمير..
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [سورة الأنعام 6/44-45]
بينما من سنن الله مع المسلمين ألا يمكن لهم فى الأرض إلا وهم مستقيمون على طريقة ، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين حتى يعودا إليه .
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
- - - - - - - - - - - - - - -
ويقيم الناس فى حياتهم علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية ليس بعضها نابعا من بعض ولا بعضها تابعا لبعض .. إنما الأصح أن نقول إنها - كلها - أوجه متعددة " لموقف " معين ، فى اتجاهات مختلفة ولكنها مترابطة ..
__________
(1) رواه مسلم(42/78)
فالموقف الواحد : على طريق الله أو على غير طريقه ، يتجسم فى كيان سياسى اجتماعى اقتصادى معين ، وفكرى وروحى وخلقى وفنى كذلك … أى فى جميع الاتجاهات ، وتكون كلها - فى المعتاد - متناسقة بعضها مع بعض ، إلا أن يكون هناك اختلاف فى الشخصية - شخصية الجماعة - فيكون بعض نشاطها من منبع معين وبعضه من منبع خالف ، كما هو حاضر " المسلمين " اليوم فى كل الأرض ، يعيشون بعض جوانب حياتهم على تراثهم الذى " ورثوه " وبعض جوانبها الأخرى من الجاهلية المعاصرة ، فى القيم والأفكار والمشاعر وأنماط السلوك .. وهو وضع شأن فى حياة المسلمين وفى حياة البشرية كذلك .
وتختلف صورة الكيان الاقتصادى باختلاف مدى التقدم العلمى والالمادى للجماعة البشرية ، فينتقل من اقتصاد رعوى إلى زراعى إلى صناعى .. إلخ .ز ولكن العبرة لا تكون بمقدار التغير فى " الصورة " إنما العبرة " بالموقف " الذى تنبثق منه الصور جميعا وتجسده .. وهو لا يخرج عن أحد موقفين : إما موقف إيمانى قائم على المنهج الربانى ، وإما موقف جاهلى مجاف للمنهج الربانى ، أى أن العبرة ليست بكون المجتمع رعويا أم زراعيا أم صناعيا ، إنما العبرة فى كونه رعويا جاهليا ، وزراعيا مؤمنا أم زراعيا جاهليا ، وصناعيا مؤمنا أم صناعيا جاهليا .. وهذا هو الذى يحدد مركزه فى التاريخ الأرض فضلا عن مركزه أفراده فى اليوم الآخر " (1)
وعلى ذلك فإن القيم فى المنهج الربانى لا تتغير مع تغير الصورة ، فيظل المجتمع المسلم - فى جميع أطواره الاقتصادية - عابدا لله ، بمعنى الاعتقاد الصحيح فى الله ، وأداء الشعائر التعبدية لله ن وتحكيم شريعة الله . ويظل متمسكا بأخلاقيات لا إله إلا الله سواء فى علاقات الجنس ، أو علاقات المال ، أو علاقات الولاء والسلم والحرب .. الخ ، أى ملتزما بالحلال والحرام وبسائر ما أنزل الله .
أما فى " الموقف " الآخر غير الإيمانى فلا معيار لشئ ، لأن القيم ذاتها غير قائمة على أساس واضح .. ولهذا يعبث بها من أراد أن يعبث كما عبث اليهود بكل القيم فى المجتمع الغربى مع الثورة الصناعية وزعموا أن عبثهم ذلك حتمية وقانون !
وصحيح أن هناك سمات مشتركة تصنعها " البيئة " فى المجتمع الرعوى أو الزراعى أو الصناعى قد يتشابه فيها المؤمنون وغير المؤمنين . ولكن هذا الشبة العارض لا يجوز أن ينسينا أن الذى يحدد المركز الحقيقى للإنسان فى الدنيا أو الآخرة هو " الموقف " الذى يتخذه ، وليست المظاهر الثانوية التى قد تتوافق أو تتعارض بغير تأثير حاسم فى حياة الناس.
( ( (
وتقوم فى حياة الناس على الأرض صراعات متعددة . .
فأما فى المجتمع الإيمانى فالصراع هو دائما الصراع بين الحق والباطل يأخذ صورا شتى .
صورة منه هى القتال ضد النظم والحكومات والجيوش الكافرة لإزالتها من طريق الدعوة ، باعتبار أن وجودها ذاته عائق واقعى يمنع الناس من الاستجابة إلى دعوة الحق .. فأما إذا أزيلت فلا إكراه على اعتناق العقيدة الإسلامية ، ولكن تحكم شريعة الله ليستظل بعدالتها الناس جميعا ولو لم يدخلوا فى العقيدة الصحيحة.
وصورة منه هى مجاهدة عوامل الانحراف فى المجتمع الإسلامى ذاته ، عن طريق الأمر بالمعروفة والنهى عن المنكر .
وصورة منه هى مجاهدة النفس الأمارة بالسوء ، اللاصقة بالشهوات ، حتى تصير إلى النفس اللوامة التى أقسم بها الخالق جل جلاله ، لأنها تنهى النفس عن الهوى .
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [سورة القيامة 75/1-2]
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [سورة النازعات 79/40-41]
وأما فى المجتمع الجاهلى فالصراع لا يدور أساس بين الحق والباطل ، وإن كانت تدور بين الحين والحين صراعات بين جوانب جزئية من الحق وجوانب جزئية من الباطل ، إنما يدور الصراع أساسا بين قوى الباطل المختلفة ، ويتخذ صورا شتى .
صورة منه هى عدوان أمة على أمة بدافع شهوة الغلبة والتوسع والعدوان والاستزادة من متاه الأرض عن طريق العدوان ، إما بتأسيسي إمبراطوريات أو " دول عظى " ! تبتلع الدول الصغرى وتستذلها لصالحها ، وإما بحروب دائمة بين الجيران وغير الجيران .
وصورة منه هى الصراع داخل المجتمع بدافع شهوة السلطة أو شهوة الملك أو شهوة الجنس أو شهوة البروز أو غيرها من الشهوات ، على هيئة صراع طبقى وصراع فردى .
__________
(1) فى اليوم الآخر يحمل كل إنسان مسئوليته الخاصة " ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى " ( سورة النجم 38 - 41 ) " لقد أحصاهم وعدهم عدا . وكلهم أتية يوم القيام فردا " ( سورة مريم : 94 - 95 ) " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله " 0 سورة الانفطار 19 ) ولكن مسئولية كل إنسان الاجتماعية داخلة فى مسئوليته الخاصة التى يحاسب عنها يوم القيامة هل سعى إلى إقامة المنهج الربانى وأمر بالمعروف وجاهد المنكر بيده أو بلسانه أ بقلبه أم نكل عن ذلك جميعا .(42/79)
ويتلخص الفارق بين نوعى الصراع فى الآية الكريمة :
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [سورة النساء 4/76]
والطاغوت هو كل ما يستعبد الناس له من دون الله .
- - - - - - - - - - - - - - -
والتفسير الإسلامى للتاريخ واقعى واقعية الإسلام :
فمن ناحية يقدر أن الصورة المثالية للتطبيق الإسلامى ليست هى الصورة الدائمة . وأن الضغوط المادية والاقتصادية وضغوط الشهوات البشرية يمكن أن تؤثر فى التطبيق الواقعى فتنزله من صورته المثالية إلى صورة أدنى . ومن ناحية أخرى يقدر أن الحكام يمكن أن يطغوا بسلطان الحكم وسلطان المال الذى فى أيديهم فيجوروا ويظلموا ، رغم قيامهم بتطبيق شريعة الله فى فى المواضع التى لا تخص سلطانهم وامتيازاتهم التى يصنعونها لأنفسهم .
ولكن التفسير الإسلامى - الذى يفسر التاريخ بحسب السنن الربانية - يقول إن هذه الأمور كلها هى انحرافات عن المنهج الربانى الصحيح ، ليس لها إلا إحدى صورتين ، وإحدى نتيجتين :
إما أن تكون فى حيز محدود ، فلا يصب الظلم أو الفساد رقعة كبيرة من الأمة بسبب تأثير العقيدة فى النفوس من ناحية ، وتأثير تطبيق الشريعة فى حصر الظلم فى الحيز المحدود المحيط بالحكام من ناحية أخرى ، وعندئذ تستطيع الأمة أن تعيس فترة طويلة حتى والفساد فى داخلها ، وتكون برغم هذا الفساد الجزئى أفضل وأنظف وأعلى من الجاهلية .. وإما أن تزيد رفعة الفساد عن الجزئى أفضل وأنظف وأعلى من الجاهلية .. وإما أن تزيد رقعة الفساد عن الحد المعقول . وعندئذ تدركها سنة الله التى لا تتخلف ولا تحابى أحدا ، فتنهار الأمة حتى وهى تحمل اللافتات الإيمانية ، لأنها تكون عندئذ لافتات مزيفة لا رصيد لها من الواقع ، والسنة الربانية - الحتمية التى لا تتبدل ولا تتحول - لا تتعامل مع اللافتات المرفوعة إنما تتعامل مع الواقع الحقيقى .
وفى جميع الحالات لا يغفل التفسير الإسلامى للتاريخ ضغوط " الواقع المادى والاقتصادى التى يعنى بها التفسير المادى للتاريخ ، وتأثيرها فى نفوس الناس ومشاعرهم ، ولكن يختلف الأمر كثيرا ما بين وجود العقيدة وعدم وجودها.
الضغوط المادية والاقتصادية دائما موجودة ودائما ذات ثقل .. ولكن العقيدة ترفع الإنسان بمقدار تمكنها من نفسه وفاعليتها فى حياته ، فأما إن كانت على درجة عالية من التمكن والعمق والفاعلية فإنها ترفع الإنسان فوق الضغوط المادية والاقتصادية ، فينجو من ثقلها كلها ، ويصوغ حياته بمقتضى القيم التى يؤمن بها ولا يحيد عنها .. وهؤلاء هم أفذاذ التاريخ .. وأما إن كانت موجودة ولكنها على درجة من التمكن والفاعلية أقل ، فإنها على الأقل ترفع الإنسان فتضعه إزاء الضغوط ، فيصارعها وتصارعه ، ويغلبها مرة وتغلبه مرة ، ويكون ضغطها عليه محسوسا ولكنه ليس قاهرا .. وهذه هى الحالة العادية للمؤمنين ، سواء فى صورة مجتمع أو فى صورة أفراد .
أما فى غياب العقيدة فالإنسان فى معظم حالاته واقع تحت الضغوط المادية والاقتصادية ، لا يملك أن يرفع رأسه إزاءها ولا أن يرتفع عليها ،فتكون هى القاهرة وهو المقهور تحتها .. وتلك هى الحالة التى ركز على شرحها التفسير المادى للتاريخ ، وأجاد فى شرح كثير من تفصيلاتها ( بصرف النظر عن مغالطاته المكشوفة فى تفسير الدين والأسرة وأخلاقيات الجنس ، وفى تصوير المخطط اليهودى لإفساد أوربا فى الثورة الصناعية على أنه تقدم وتطور ، وأنه حتمى !)
ولكن هذا التفسير أخفق فى أمرين :
أخفق أولا فى إعطاء التفسير الصحيح لتلك الحالة التى ركز عليها ، إذ قدمها على أنها هى الوضع الدائم والطبيعى للبشرية ، ولم يعطها تفسيرها الحقيقى ، وهى أنها وضع منتكس للإنسان بسبب جاهليته ، لا بسبب أن المادة بطبيعتها رب قاهر والإنسان بطبيعته عبد للمادة !
أما إخفاقه الأكبر فهو - كما أسلفنا - إخفاقه فى تفسير الإسلام ، وهو الوضع الصحيح للإنسان :
{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30]
- - - - - - - - - - - - - -
ويقول التفسير الإسلامى للتاريخ إن هناك سننا ربانية تحكم حياة البشر على الأرض ، وإنها سنن دائمة غير قابلة للتبديل ولا التحويل :
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)} [سورة فاطر 35/43]
وسنة الله هى الحتمية الوحيدة فى هذا الكون ، والكون كله خاضع لهذه الحتمية بما فى ذلك الإنسان .
ولكن هناك فارقا أساسيا - بالنسبة للإنسان - بين حتمية السنن الربانية وبين الحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية التى يزعمها التفسير المادى للتاريخ .
إن حتمية السنن الربانية لا تفرض سلوكا قهريا معينا على الإنسان ، ولا تقع بمعزل عن إرادته . إنما هى تفرض نتائج حتمية على السلوك الذى يتخذه الإنسان باختياره .(42/80)
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم 30/41]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16)} [سورة الجن 72/16]
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [سورة النحل 16/112]
نبراس واضح : يختار الإنسان سلوكه ثم تترتب على اختياره نتائج حتمية الوقوع . ويغير الإنسان ما هو عليه فيغير الله له إن كان فى نعمة فكفرها يغير الله حاله إلى سوء ، وإن كان فى سوء فغيره يغير الله حاله إلى الخير .
وتفسح السنن الربانية الرقعة فلا تحصرها فى الحياة الدنيا وأحداثها ، إنما تمدها إلى اليوم الآخر ، الذى يتحقق فيه الجزاء الكامل ، وتكتمل صورة الحق التى لم تكتمل فى الحياة الدنيا .
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص 38/27]
فق يقع الظلم من إنسان ، ويظل ظالما حتى الموت دون أن يأخذ جزاءه فى الحياة الدنيا ، وقد يقع الظلم على إنسان فيظل مظلوما حتى الموت دون أن ينتقم الله له من ظالمه فى الحياة الدنيا ، ولكن هذا ليس آخر المطاف .. إنما آخر المطاف يوم {يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} [سورة النور 24/25] فينال الإنسان جزاءه الكامل على الموقف الذى اتخذه والطريق الذى اختاره ، سواء كان قد عجل له بشئ من الجزاء فى الحياة الدنيا أو أجل له كله إلى يوم الحساب .
وفرق كبير بين وضع " الإنسان " فى التصور الإسلامى والتصور الذى يقدمه التفسير المادى للتاريخ ، وبين حجم الإنسان وحجم فاعليته فى كلا التصوريين . ففى التصور الإسلامى هو حقيقة " إنسان " يمارس مسئوليته فى الأرض يمارس حمل الأمانة التى اختصه بها الله بين المخلوقات . وه فى التوصر الآخر شبح غير محد الكيان ، أو أداة لا حرية لها ولا اختيار .
وأخيرا فإن الإنسان فى تطوره التاريخى له كيان ثابت وصور متغيرة على الدوام .
فأما الكيان الثابت فمصدره الفطرة ، وأما الصور المتغيرة فمصدرها التفاعل الدائم بين هذه الفطرة وبين الكون المادى ، ومحاولة الإنسان الدائبة تحقيق التسخير الربانى لما فى السموات والأرض من اجل الإنسان .
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
والفطرة البشرية ذات مرونة تسمح لها بالتشكل المستمر ، بما يناسب القدر الذى يتم تسخيره من طاقات السماوات والأرض ، ولكن هذه المرونة - مزية ميز الله بها الإنسان ليعينه على دور الخلافة فى الأرض - ليس معناها انعدام الشخصية الإنسانية ، أو السلبية الكاملة ، أو عدم وجود كيان محدد للإنسان ، إنما معناها فقط عمق هذه الشخصية وسعتها وتعدد جوانبها ، بحيث تستطيع أن تستوعب أشكالا متعددة من الحياة ، وتبذل ألوانا متعددة من النشاط .
وحقيقة إن هذه المرونة تجعل الإنسان يحتمل كثيرا من الضغوط ، ويتشكل تحتها بصور تخالف ما هو مفروض أن يكون عليه فى حالته السوية ، مما يغرى الطغاة على طول التاريخ البشرى أن يضغطوا على شعوبهم ويستعبدوهم ، ولكن هذا ليس معناه عدم وجود حدود حاسمة للكيان البشرى يقف عندها فى تشكله . أو فى خضوعه للضغوط الواقعة عليه ، فإنه فى النهاية يثور ..(42/81)
ومعنى ثورته أن احتماله للتشكل الخاطئ الذى فرض عليه بالضغط قد انتهى ، وأنه يريد أن يصحح وضعه بما يناسب كيانه الطبيعى . وسواء نجحت الثورة أو فشلت فدلالتها ثابتة فى الحالين .. والنجاح والفشل مسألة ظروف مواتية أو غيره مواتية ، ومسألة إعداد وتنظيم أو فوضى وارتجال . أما الثورة فمعناها أن شيئا مخالفا لطبيعة الإنسان قد فرض عليه بالقوة ، وهو يريد أن يرده عنه ليعود إلى وضعه الطبيعى .
وفى التاريخ البشرى ثورات كثيرة فاشلة وناجحة هى محاولات دائمة لدفع ضغوط مفروضة وتصحيح أوضاع خاطئة .. وكل ثورة تحدث " شيئا ما " فى حياة البشرية يغير خطاها إلى خط جديد .. ولكن تظل البشرية تتخبط مادامت بعيدة عن المنهج الربانى ، فتحل مشكلة بمشكلة جديدة ، وتتخلص من ضغط لتقع فى ضغط من نوع آخر ، كما خرجت من الرق إلى الإقطاع ، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية ، ومن الرأسمالية إلى الشيوعية ، ولا سبيا لها إلى التصحيح الحقيقى لأوضاعها إلا بالدخول فى المنهج الربانى ، الملائم للفطرة السوية ، المنزل من عند خالق هذه الفطرة ، العليم بما يصلحها وما يصلح لها ، وهو منهج ثابت القيم والأركان كثبوت هذه الفطرة ، ويسمح فى الوقت ذاته بتغير الصورة على الدوام بما يلائم النمو الدائم للحياة البشرية . ولكنه لا يسمح بالصورة المنحرفة لأنها تمرض الفطرة ، وتؤدى إلى الفساد فى الأرض ، ومن أجل ذلك يجعل القواعد الثابتة هى التى تحكم المتغيرات ، ولا يسمح للمتغيرات بتغيير القواعد الثابتة .
ولا تزال البشرية تهتدى فتستقيم حياتها ، وتضل فتصيبها السنة الربانية التى تترتب على الضلال . ولكن لا توجد حتمية واحدة للهدى ولا حتمية واحدة للضلال . إنما الإنسان هو الذى يقرر لنفسه :
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3]
تلك لمحة سريعة عن التفسير الإسلامى للتاريخ فى مواجهة التفسير الجاهلى قد لا تون ، كافية لإبراز ملامحه .. ولكنها تكفى على أى حال لرؤية الهوة العميقة التى يضع التفسير المادى فيها الإنسان .
- - - - - - - - - - -
ثانيا : المذهب الاقتصادى بين النظرية والتطبيق
أشرنا فى التمهيد إلى أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا بحتا كما يجرى الحديث عنها أحيانا ، ولكنها تصور شامل للكون والحياة والإنسان ولقضية الألوهية كذلك ، وتفسير شامل لذلك كله على أساس مادى.
بعبارة أخرى فإن المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ جزء من " النظرية " الشيوعية لا ينفصل عنها . ولذلك لم يكتف ماركس أو إنجلز أو غيرهما من الكتاب الشيوعيين بأن يتحدثوا عن الشيوعية كمذهب اقتصادى ، إنما جعلوا حولها هذه الفلسفة الشاملة لتفسرها - أو لتبررها - سيان .
وهذا الذى صنعه ماركس وإنجلز والمفسرون الشيوعيون هو الأمر الطبيعى ، الذى يتجافاه أو يتجاهله الذين يتحدثون عن الشيوعية كمذهب اقتصادى بحت . ذلك أنه لا يوجد مذهب اقتصادى مجرد ، ليس له ارتباط بتصور شامل عن الكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية !
ورغم أننا لا نوافقهم فى زعمهم أن الأوضاع الاقتصادية والمادية هى الأصل الدائم الذى تنبثق منه الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية ، والفنية .. الخ ، فإننا نرى - كما أشرنا من قبل - أن هناك ارتباطا بين هذه الأمور كلها ، لأنها أوجه مختلفة لقضية واحدة ، أو لموقف معين من قضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان .
وسواء أخذنا بوجهة النظر هذه أو تلك فإن النظرية الاقتصادية لا يمكن أن تقف وحدها مجردة عن فلسفة شاملة تربطها بالقضايا الأخرى كلها ، سواء كانت هذه النظرية شيوعية أو رأسمالية أو إسلامية .
فكلتاهما فلسفة مادية حيوانية لا ترتفع بالإنسان عن مستوى المادة أو مستوى الحيوان ، وتعتبر الوضع المادى والاقتصادى هو الأصل الذى يشكل الحياة . وكلتاهما تبعد المنهج الربانى كلية عن أن يحكم الحياة أو يسيطر عليها . تبيح الفساد الخلقى وتسمح له أن يستشرى فى الأرض !
ولكنا سنجد - على الأقل - فرقا فى الدرجة بين هذه وتلك !
فالشيوعية أشد إمعانا فى إبعاد المنهج الربانى إلى حد النص الرسمى على الإلحاد فى صلب الدستور : لا إله . والكون مادة " وأشد إبعادا للإنسان عن إنسانيته ، باعتبارها إياه مادة خالصة ، لا خليطا من المادية والحيوانية كما تصنع الرأسمالية .(42/82)
إن الفارق الوحيد - الذى يرونه جوهريا ولا نراه كذلك - هو فى " من يملك " وهو فارق فى " الفشرة " الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية أكثر مما هو فارق فى الأصل الذى تعطيه هذه الفشرة . لأن النزاع انحصر كما هو ظاهر فى " من يملك " ولم يتجاوزه إلى النظر فى المالكين أنفسهم ، ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية ، وهل هى نظرة صحيحة أم خاطئة ، وهل هم - بمعيار القيم الإنسانية - مرتفعون أم هابطون .
فإذا وجدنا - بالمعايير الربانية - أن المالكين كلهم سواء فى الجاهلية المعاصرة . كلهم جاهليون ن كلهم نابذون للمنهج الربانى معادون له مصرون على إبعاده عن حياتهم ، فإن الفوارق الجزئية بينهم بعد ذلك تظل فوراق ثانوية ، وليست جوهرية كما قد ينظرون إليها فيما بين بعضهم وبعض ، وخاصة فى لحظات التنازع والخصام .
وصحيح أن " مظهر " الحياة يختلف كثيرا فيما بين الرأسمالية والشيوعية ، على الأقل من الناحية الاقتصادية والناحية السياسية ، ولكنا نضرب مثلا لتقريب الصورة فحسب .. إذا دخلت مكانا تحسب أن فيه " أدميين " فوجدت أنه عبارة عن حظيرتين كبيرتين ، الدواب فى إحداهما طليقة " سائبة " وفى الأخرى مربوطة مقيدة ، فليس الذى يبدهك للوهلة الأولى هو أن هذه سائبة وهذه مقيدة ، إنما الذى يبدهك أنك وجدت الدواب حيث كنت تتوقع وجود الآدميين ، ولابد - بطبيعة الحال - أنك ستلحظ الفارق بين مجموعة الدواب هذه وتلك ، وقد تلحظه لأول وهلة ، ولكنك لا تعيره اهتماما كبيرا طالما أنت ناظر إلى قضية وجود الدواب فى مكان الآدميين . أما إذا ألقيت هذه القضية جانبا فسيتضخم فى حسك ولا شك ذلك الفارق الشكلى ، وستروح تبحث ، أيهما الأولى : أن تكون جميعها سائبة أم جميعها مقيدة !
تشبيه تمثيلى لتقريب الصورة فحسب .
فمن وجهة النظر الإسلامية لايفترق الوضع الرأسمالى كثيرا عن الوضع الشيوعى . كلاهما وضع جاهلى يحكم بغير ما أنزل الله ، كلاهما ينفر نفورا تاما من إدارة شئون الحياة بمقتضى المنهج الربانى . كلاهما لا يعترف على الإطلاق بأن حق التشير ، أى حق تقرير الحلال والحرام والحسن والقبيح والطيب والخبيث ، هو حق الله وحده ، إنما تقوم كلاهما على أن هذا الحق هو حق البشر وحدهم من دون الله .. ثم يختلف هؤلاء البشر فيما بينهم بعضهم يذهب إلى اليمين ، وبعضهم يذهب إلى اليسار ، وكلاهما يتنكب الطريق .
( ( (
بعد هذه المقدمة الضرورية التى نخلص منها بنتيجتين رئيسيتين : الأولى إن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا بحتا يمكن تجريده بمفرده ، إنما هى تصور شامل للكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية ، ثم مذهب اقتصادى مبنى على هذه التصور ومرتبط به بحيث لا يمكن فصلة عنه ، والثانية أن الفارق بين الفلسفة الشيوعية الخاصة بقضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان والفلسفة الرأسمالية المتعلقة بهذه القضايا ذاتها فارق ثانوى من وجهة النظر الإسلامية ، لأنه فارق فى " الفشرة " وليس فى الجوهر الحقيقى ..
بعد هذه المقدمة نأخذ فى الحديث عن المذهب الاقتصادى فى الشيوعية ، مبتدئين بالنظرية ثم معقبين بالتطبيق.
=================(42/83)
(42/84)
النظرية الشيوعية
تقوم النظرية الشيوعية على مجموعة من الأسس والمبادئ يمكن تلخيصها فى النقاط الآتية :
إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا وإحلال الملكية الجماعية بدلا منها .
إلغاء الطبقات بإقامة دكتاتورية البروليتاريا وإبادة الطبقات الأخرى .
كفالة الدولة لجميع " المواطنين " فى مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالا ونساء .
المساواة فى الأجور .
إلغاء الدين .
تطبيق مبدأ " من كل بحسب طاقته ، ولكل بحسب حاجته"
اللغاء الصراع من المجتمع البشرى بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية .
إلغاء الحكومة فى المستقبل ، وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة .
ونحاول فيما يلى بسط كل واحد من هذه المبادئ فى إيجاز دون تفصيل .
1- إلغاء الملكية الفردية :
أسلفنا القول فى مناقشة المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ أن الشيوعيين يعتبرون الملكية الفردية هى المسئولة عن كل الشرور التى خاضتها البشرية منذ تركت مرحلة الشيوعية الأولى حتى دخلت مرحلة الرأسمالية ، وأنها كانت خلال ذلك التاريخ كله مثار " الصراع الطبقى " الذى يبعث الأحقاد والاضطرابات فى المجتمع البشرى . وأنه لابد من إزالتها والرجوع بالناس إلى الملكية الجماعية التى كانوا عليها فى الشيوعية الأولى ، لكى تستريح البشرية من الصراعات والأحقاد وتعيش فى طمأنينة وسلام .
ويرى الشيوعيون إن الشيوعية الثانية والأخيرة التى يدعون إليها هى الحل ، وهى طريق الخلاص . لأنها ستلغى الملكية الفردية إلغاء باتا وتحل الملكية الجماعية محلها ، فلا يملك أحد شيئا من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية فردية ، سواء كان الإنتاج زراعيا أو صناعيا ، إنما تكون الملكية جماعية .
وليس معنى الملكية الجماعية أن أى مجموعة من الناس يملكون أو يمكن أن يملكوا ما تحت أيديهم من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية مشتركة ، كأن يملكن العمال المصنع الذى يعملون فيه ، أو يملك الفلاحون المزرعة التى يفلحونها ( كما يتبادر أحيانا إلى أذهان السذج الذين يتسمعون إلى الدعاية الشيوعية فيتصورونها على غير حقيقتها ) إنما معناها أن " الدولة " هى المالك الوحيد للإنتاج كله ، بوسائله وأدواته وناتجة ، فهى التى تملك المصانع وإنتاجها كما تملك المزارع ومحاصيلها ، وتقول النظرية إن الدولة تقوم بذلك نيابة عن الشعب ، أو عن طبقة " البروليتاريا P r oleta r iat " ( ومعناها الطبقة الكادحة ) التى يفترض فيها حسب النظرية أنها هى المالك الحقيقى ! ذلك أن النظرية الشيوعية تقول إن المنتج الحقيقى لأى سلعة هو العامل الذى يبذل الجهد لإنتاجها . ولكنه فى ظل الإقطاع والرأسمالية لا يملك الناتج الذى أنتجه بجهده . إنما هو يبيع جهده للإقطاع أو الرأسمالى الذى يشترى هذا الجهد بأبخس الأثمان ويستمتع وحده بفاضى القيمة ( وهو الفرق بين ثمن المادة الخامة مضافا إليه أجر العامل وبين سعر السلعة فى السوق ) وعلى هذا يعتبر الإقطاعى والرأسمالى مستغلا لجهد العامل وظالما له ، ويعتبر العامل فى وضع غير إنسانى لأنه مستغل لحساب إنسان آخر ، وهذا فى شرعة الشيوعية غير جائز لأن الجريمة الكبرى فى حق الإنسان هى أن يكون مستغلا من قبل إنسان آخر . أما فى الشيوعية فليس هناك استغلال من إنسان لإنسان لأن الكل ماليكن ، وإن كانت الدولة من والوجهة العملية هى التى تدير هذه الملكية ، وهى التى توزع الناتج على " المالكين الحقيقيين " !
وسنتحدث عن طريقة التوزيع فيما بعد . إنما نكتفى هنا بالقول بأن الدولة هى المتصرف الحقيقى فى جميع الأمور .
ويقول الشيوعيون كما أسلفنا إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ( بل إنه لا توجد نزعات فطرية على الإطلاق ) وإن الملكية الجماعية هى الأصل فى حياة الإنسان بدليل الشيوعية الأولى . إنما اكتسب الإنسان تلك النزعة الشريرة فيما بعد اكتشاف الزراعة . وإنه ينبغى تطهير الناس من هذا الشر الذى اكتسبوه ، وإعادتهم إلى الحالة التى كانوا عليها أول مرة بجعل الملكية ملكية جماعية .
2- إلغاء الطبقات :
منذ خرج الناس من الشيوعية الأولى التى لا ملكية فردية فيها ، أو بعبارة أخرى منذ بدأت الملكية الفردية بدأ ظهور الطبقات فى المجتمع ، إذا انقسم الناس إلى مالكين ، واستغل المالكون ما فى أيديهم من الملك لاستغلال الآخرين الذين لا يملكون ، فأصبحت الملكية سلطة استغلالية ، وأصبحت الطبقة المالكة هى التى تحكم ، وبما أن السلطة فى يدها فقد صارت تححم بما يناسب مصالحها على حساب الطبقة التى لا تملك ( ومن ثم لا تحكم ) واستمر هذا الوضع بصورة سافرة فى عهدى الرق والإقطاع ، وبصورة مقنعة فى ظل الرأسمالية ، وتقرر الشيوعية أن هذا كان ظلما فاحشا بالنسبة لطبقة الكادحين الذين هم المنتجون الحقيقيون ، إذ بدلا من أن يملكوا نتيجة جهدهم فإن طبقة السادة التى تستغلهم هى التى تستمتع وحدها بثمرة هذا الجهد ، بينما يظلون هم فى الحرمان والذل والهوان ، وليس أقل الذل أن يضطروا إلى بيع جهدهم للمستغل الذى يعملون عنده أو يعملون لحسابه .(42/85)
ثم تقرر النظرية أن هذا الظلم الفاحش لا سبيل إلى إزالته إلا بإزالة النظام كله ، نظام الطبقات القائم على الملكية الفردية .
فطالما كان هناك ملكية فردية فهناك طبقات . وطالما كان هناك طبقات فهناك ظلم . والسبيل هو إلغاء الطبقات المستغلة ( أى المالكة ) والإبقاء على الطبقة الوحيدة المنتجة ، وهى طبقة الكادحين ( البروليتاريا ) لأن الطبقات الأخرى طبقات طفيلية لا تستحق البقاء ، كل عملها أن تمتص دماء الكادحين وهى لا تتعب ولا تبذل جهدا ، وإنما تسرق الجهد لتعيش به حياة ترف وكسل وخمول بينما المنتجون الحقيقيون فى شقاء وكدح وعناء .
والطريق المؤدى إلى ذلك هو الثورة . وهى ثورة حمراء تراق فيها دماء غزيرة حتى يستتب الأمر لطبقة البروليتاريا ، فتصل إلى السلطة وتبيد الطبقات الأخرى إبادة ، ثم تلغى الملكية الفردية حتى لا تظهر من جديد طبقة مالكة تستغل الكادحين .
ويسمى نظام الحكم الذى ينشأ من هذه الثورة " دكتاتورية البروليتاريا " لأن البروليتاريا لابد أن بالديكاتورية ما دامت المعركة ما تزال قائمة بين الشيوعية وأعدائها .
وحكمة الديكتاتورية أن أعداء الشعب لا ينبغى أن تترك لهم أى ثغرة ينفذون منها للقضاء على النظام الصحيح ( وهو الشيوعية ) لأنهم - بطبيعة الحال - لن يرضوا عن النظام الذى يحرمهم من امتيازاتهم الطبقية . فهم أعداء الداء له . وما دام هناك دول رأسمالية وإقطاعية ما تزال قائمة فى الأرض فإن أعداء الشعب سيتعاونون معها ، أو أن هذه الدول ستستغلهم ضد النظام . ولا ينبغى التهاون فى هذا الأمر لحظة واحدة ، ولا التراخى مع أعداء النظام - أعداء الشعب - بل لابد من مقاتلتهم بكل شدة ، والسبيل إلى ذلك هو أن تتولى الدولة كل السلطات فى يدها ، وتقبض على الأمر بيد من حديد ، إلى أن يأتى الوقت الذى ينتهى فيه الأعداء من الوجود ، وعندئذ لا تزول الديكتاتورية فقط بل تزول الحكومة كذلك الانتهاء الحاجة إليها .
3- كفالة الدولة لجميع المواطنين :
تقوم الشيوعية على مبدأ كفالة الدولة لجميع المواطنين على أساس أن هذا واجب الدولة تجاه المواطنين ، وحق المواطنين على الدولة . ويندد الشيوعيون بالرأسمالية خاصة التى تحتفظ دائما بجيش من العاطلين لتضرب به حركات العمال الذين يتمردون على الظلم ويطالبون بحقوقهم ، وبالإقطاع الذى يترك الناس يموتون جوعا ليكتنز الإقطاعى ويسمى من دماء الكادحين .
وفى " المنيفيستو " أى الإعلان الشيوعى الذى أعلنه ماركس أوجب على الدولة أن تكفل لكل فرد من أفراد المجتمع ضروراته الأساسية وهى الطعام والملبس والمسكن والجنس ، باعتبارها حقوقا طبيعية ، وضرورات ينبغى إشباعها ، وتعتبر الدولة مقصرة إذا قصرت فى تحقيق شئ من ذلك لأى فرد من المواطنين.
وفى مقابل كفالة الدولة لجميع المواطنين فإنه ينبغى على كل قادر على العمل أن يعمل - رجالا ونساء - ومن لا يعمل لا يأكل . فكما أن الكفالة واجبة على الدولة فالعمل واجب على الفرد مادام قادرا عليه ، ولا يعفى من ذلك أحد على الإطلاق إلا الأطفال حتى يبلغوا السن التى تؤهلهم للعمل ، والعجزة من الرجال والنساء الذين لا يقدرون على أى نوع من أنواع العمل فأولئك تكفلهم الدولة بلا مقابل .
وبما أن الدولة هى - من الوجهة العملية - المالك الوحيد والمسيطر الوحيد على الإنتاج ، فهى التى تحدد لكل فرد فى المجتمع نوع العمل الذى يقوم به ومكانه كذلك مقابل كفالة الدولة له . وتحدد الدولة صلاحية أى إنسان لنوع معين من العمل بحسب اختبارات تجريها على الأفراد لتحديد مواهبهم وقدراتهم . أما مكان العمل فتحدده الدولة حسب احتياجاتها بوصفها المشرفة على الإنتاج كله .
والمرأة - كالرجل - لابد أن تعمل فى أماكن العمل خارج البيت .
وكونها زوجة وأما لا يتعارض مع هذا المبدأ . فهى تأخذ الإجازة المقررة فى حالات الحمل والوضع ، أما الأطفال فتتولاهم المحاضن لا الأمهات .
ومن ثم فإن أى أم - بعد تمضية الإجازة المقررة للوضع - تأخذ وليدها إلى المحضن وتذهب هى إلى العمل، حتى تتسلمه مرة أخرى بعد العودة من العمل .
وتقوم المحاضن بتقديم الرعاية المطلوبة للأطفال ، حتى تنتهى أمهاتهم من العمل . حتى إذا كبروا تولت المدرسة ما كانت تتولاه المحاضن من قبل .
وبذلك لا تشغل المرأة بشئون الأطفال عن واجب العمل خارج البيت .(42/86)
وتتولى الدولة كفالة الأفراد بتقديم الطعام لهم مقابل بطاقات تموينية موحدة ، وتقديم الملابس مرة فى الشتاء ومرة فى الصيف على المنوال ذاته ، كما تعد سكنا لكل فرد . أما الجنس فتطلق فيه الحرية للأفراد ينشئون علاقاتهم الجنسية على النحو الذى يحول لهم . وكانت النظرية قائمة فى الأصل على أساس الشيوعية الجنسية الكاملة باعتبار أن هذه هى الصورة التى كانت عليها الشيوعية الأولى ، وأن هذا هو الأصل فى العلاقات الجنسية . ثم قام لنبين بتعديل النظرية فاستبدل بالشيوعية الجنسية الكاملة نظرية " الكوب " التى تقول إن الكوب الذى يشرب به كل إنسان يصبح ملوثا ، وكذلك الجنس لابد أن تنظم علاقاته لكى لا يصبح ملوثا كالكوب الذى يشرب به الجميع ! 0 وكان هذا بعد الدعاية المضادة التى قامت ضد الشيوعية الجنسية من المعسكرات المعادية ) فصارت هناك مكاتب للزواج والطلاق تقوم فقط بتسجيل ما يحدث من الزيجات والانفصالات ، وفى إماكن أى زوج من البشر : رجل وأمرأة ، أن يذهبا فى أى وقت إلى مكتب الزواج ليسجلا زواجهما ، كما أن فى إمكانهما فى أى وقت أن ذهبا إلى مكتب الطلاق ليثبتا انفصالهما ، ولا يترتب على ذلك أى إجراءات تقيد حرية العلاقات الجنسية .
4- المساواة فى الأجور :
تقوم النظرية الشيوعية على أساس مبدأ المساواة بين جميع الأفراد فى المجتمع ، لأن هذه هى الصورة التى كانت عليها البشرية فى الشيوعية الأولى ، وهى - عندهم - الأصل الذى تستمد منه كل المبادئ التى ينبغى أن تعود إليها البشرية .
تقول النظرية إن أول صورة للوجود البشرى هى التعبير الطبيعى عن هذا الوجود ، وإن أى انحراف طرأ بعد ذلك لا ينبغى أن يعتد به ، بل ينبغى أن تعود البشرية فتصحح أوضاعها بالرجوع إلى الصورة الطبيعية التى كانت عليها أول مرة .
وفى الشيوعية الأولى كان جميع الأفراد متساوين فى الحقوق والواجبات ، وفى المأكل والملبس والمسكن والجنس ، فينبغى أن تكون هذه هى الصورة الدائمة البشرية ، ولكن التطور الذى حدث بعد اكتشاف الزراعة غير هذا المبدأ الجميل ، وأخل بالمساواة التى كانت قائمة فى المجتمع الشيوعى الأول . فأصبح بعض الناس مالكين وبعضهم غير مالكين ، فاختلفت الحقوق والواجبات بين الملاكين وغير المالكين ، وأصبحت للمالكين امتيازات اقتصادية ( ومن ثم سياسية واجتماعية ) تميزهم عن غير المالكين .
ولكن عدم المساواة ليس أصلا من أصول الوجود البشرى ، ومن ثم فهو ظلم ينبغى إزالته . وطريقة إزالته - بعد إلغاء الملكية الفردية وأيلولة الإشراف على الإنتاج إلى الدولة - أن تسوى الدولة بين أجور جميع العاملين ، لكى تتحقق المساواة التامة فى كل شئ ، ويزول الظلم الذى عاشت فيه البشرية عدة قرون.
ومن أجل تقرير هذه المساواة قررت وحده عمل إجبارية ينبغى على كل قادر أن يقوم بها ، وتصرف للعامل بمقتضاها كل حاجاته الأساسية من مسكن وملبس ومطعم على قدم المساواة .
وعلى هذا النحو تحقق الشيوعية الثانية ما كان قائمة من المساواة فى الشيوعية الأولى ، وتلغى الفوارق والامتيازات الطبقية التى أحدثتها فترات الظلم فى الحياة البشرية ، وهى فترات الرق والإقطاع والرأسمالية .
5- إلغاء الدين :
تعتبر الشيوعية الين أمرا واجب الإلغاء من اعتبارات عدة .
أحد الاعتبارات أنه خرافة .. ونحن الأن فى عصر العلم . فقد كان الباعث الأول على الدين هو جهل الإنسان بالطبيعة من حوله ، وعجزه عن السيطرة عليها . فتخيل وجود قوى خفية تسيطر على هذا الكون وتجرى الأحداث فيه . وراح يسترضى هذه القوى ليدفع أذاها عنه فتقرب إليها بالشعائر التعبدية وتقديم القرابين .
ولما كانت البشرية اليوم قد شبت عن الطوق ، وتعلمت من العلم ما تعرف به قوانين الطبيعة وتسيطر به على البيئة فقد آن أن تتخلص من هذه الخرافة غير اللائقة بالإنسان المتعلم .
الاعتبار الثانى أنه كان ناشئا من طبيعة الوضع المادى والاقتصادى فى العهد الزراعى ، حيث كان جزء من عملية الإنتاج خارجا عن سيطرة الإنسان ، فتخيل وجود قوة غيبية نسب إليها الهيمنة على ذلك الجزء الخارج عن سيطرته وراح يتعبدها لاجتلاب رضاها وصرف أذاها وغصبها عنه ، وسماها الله .
والآن تغير الوضع المادى والاقتصادى وأصبحت عملية الإنتاج كلها منظورة وكلها تحت سيطرة العامل الذى يقوم بالإنتاج ، فلم تعد هناك حاجة لافتراض تلك القوة الغيبية التى أصبحت الآن غير ذات موضوع .
الاعتبار الثالث أن الدين يخالف المعتقد الشيوعى القائم - فى نظرهم - على أسس علمية ، وهو أن المادى هى الأصل ، وهى سابقة فى الوجود على الفكر . إذ يقوم الدين على أساس أن المادة مخلوقة ، وبالتالى فليست هى الأصل ، وليست سابقة على الفكر ، ومن ثم وجب إلغاء الدين لأنه يصادم التصور الشيوعى ، الذى ينبغى أن يبقى وحده ويلغى كل ما سواه .(42/87)
الاعتبار الرابع أن " الدين أفيون الشعب " فقد كان المستغلون من الإقطاعيين والرأسماليين يستخدمونه لتخدير الجماهير لكى ترضى بالظلم الواقع عليها ولا تتمرد عليه ، مقابل الحصول على نعيم الجنة فى الآخرة . وبصفة عليها ولا تتمرد عليه ، مقابل الحصول على نعيم الجنة فى الآخرة . وبصفة خاصة فقد كان الدين يستخدم ضد الشيوعية بالذات . فحين يقوم الشيوعيون بالدعوة إلى الشيوعية يستخدم الدين لوقف هذه الدعوة ومحاربتها .
فالآن بعد قيام المجتمع الشيوعى الذى ليس فيه مستغلون ، ينبغى إلغاء ذلك المخدر الذى كانوا يستخدمونه إذا لم تعد هناك حاجة لاستخدام المخدر . ومن جهة أخرى فقد وجب القضاء على ذلك العدو اللدود الذى يستخدم ضد " العقيدة " الجديدة ومحوه من الوجود .
6- من كل بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته :
كان هذا المبدأ من ضمن المبادئ النظرية التى وضعت فى أول الأمر لتقوم الشيوعية عليها .. ومقتضى هذا المبدأ أن الناس فى ظل التطبيق الشيوعى سيرتفعون بمشاعرهم وسلوكهم إلى صورة مثالية تجعل كل إنسان يبذل أقصى ما فى طاقته من جهد من تلقاء نفسه دون ضغط عليه ولا إلزام ، ولكن من جراء حبه للنظام وللمزايا التى يحققها له ، وشعوره بالاستقرار والطمأنينة والسعادة فى ظله . وفى الوقت ذاته لا يأخذ من الإنتاج - الذى يشارك فيه الجميع ، كل بحسب طاقته - إلا بمقدار ما يحتاج إليه فحسب ، فلا يزيد عن الحاجة بدافع الجشع والطمع الناشئين أساسا من الحياة فى مجتمع طبقى يمارس الملكية الفردية والصراع الطبقى . فإذا زالت الأسباب زالت الأعراض .. أى أنه إذا ألغيت الملكية الفردية وألغيت الامتيازات الطبقية بإزالة الطبقات كلها إلا الطبقة الكادحة فإن الجشع والطمع يزولان من نفوس الناس بزوال الأسباب الدافعة إليهما ، وعندئذ يأخذ كل إنسان من الإنتاج العام بقدر ما يحتاج إليه فحسب ، ويترك الباقى للمحتاجين غيره من الناس .
ولكن عند التطبيق تعدلت النظرية شيئا من التعديل ، فلم يلغ هذا المبدأ إلغاء كاملا ولكنه أجل إلى أجل غير محدد بزمن معين ، ولكنه مرهون بزيادة الإنتاج - بوسائل التقدم العلمى - إلى الحد الذى يمكن معه تطبيق المبدأ .
وقيل فى تفسير ذلك إننا بعد لم نصل إلى مرحلة الشيوعية إنما نحن فى مرحلة التطبيق الاشتراكى . ومن أسباب ذلك أننا مشغولون بالمعركة الدائرة ضد أعداء الشيوعية ، وهذا يستوجب توجيه جزء من الإنتاج إلى إنتاج حربى لمنع الأعداء من التغلب علينا أو عرقلة خطواتنا ، وهذا يعوق زيادة الإنتاج إلى الحد الذى يكفى كل احتياجات الناس ويفيض عليها ، بحيث لا يؤثر على عدالة التوزيع أن يأخذ كل إنسان منه بقدر ما يريد ، ومن ثم فإنه فى مرحلة التطبيق الاشتراكى لابد أن تظل الدولة قائمة على التوزيع . لتعطى كل إنسان نصيبه من الإنتاج بحسب كمية الإنتاج الموجودة بالفعل ، كما تشرف الدولة على الإنتاج لتضمن قيام كل إنسان بجهد المطلوب منه .
ولكن حين تتحقق الشيوعية يتحقق ذلك المبدأ فيبذل كل إنسان ما فى طاقته من الجهد من تلقاء نفسه ، ويأخذ ما يحتاج إليه من الإنتاج ، مكتفيا من تلقاء نفسه بلا رقيب .
7- إلغاء الصراع :
حين تلغى الملكية الفردية ينتهى الصراع . تلك من مقررات المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ .. وقد اشرنا إلى ذلك مرارا ، وما كان بنا من حاجة إلى إفراد هذه النقطة بالحديث بعد أن أشرنا إليها عند الكلام على الملكية الفردية وموقعها من النظرية الشيوعية . ولكنا نريد أن نزيد هنا فى هذه العجالة أن النظرية الشيوعية تتنبأ بحلول هذا العهد السعيد الذى يزول فيه الصراع نهائيا من حياة البشرية ويصبح المجتمع البشرى مجتمعا ملائكيا يسوده الوئام والسلام ، وذلك حين تنتشر الشيوعية فى أرجاء الأرض كلها ، وعندئذ يتحقق الفردوس المفقود فى واقع الأرض وتستقر الأمور فى الأرض إلى آخر الزمان .
8- إلغاء الحكومة :
من تنبؤات الشيوعية كذلك إلغاء الحكومة فى مستقبل البشرية .
ونظريتهم فى ذلك أن الحكومة موجودة الآن لأنها تؤدى مهام معينة لابد من أدائها فى المجتمعات الحالية، حتى المجتمعات الشيوعية ذاتها ( أى الاشتراكية باعتبار أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الشيوعية الكاملة ) ولكن الحكومة ليست أصلا من أصول المجتمع البشرى بحيث تلازمه فى جميع أطواره . وسيأتى اليوم الذى تلغى فيه الحكومة إلغاء تاما يوم تنتهى المهام التى تؤديها .
فحين تعم الشيوعية الأرض كلها وتصبح هناك حكومية عالمية واحدة ، يأتى وقت لا تعود هذه الحكومة ذاتها لازمة ، لأن مهمة الدفاع عن الشيوعية ستنتهى ، وهى إحدى المهام التى تضطلع بها الحكومة .
ثم إنه لن يكون هناك صراع يحتاج إلى تدخل الحكومة بالقوة لحسمه ، فتسقط مهمة أخرى من مهام الحكومة الحالية .
ثم يزيد الإنتاج فيصل إلى الحد الذى يجد فيه كل إنسان طلبته دون أن يؤثر ذلك على احتياجات الآخرين ، فلا يعود هناك موجب لتدخل الحكومة فى التوزيع .
وتكون مشاعر الناس قد ارتفعت بتأثير الحياة فى ظل التطبيق الشيوعى، فيبذلون غاية جهدهم دون حاجة إلى رقابة مفروضة عليهم من خارج ضمائرهم .(42/88)
وكذلك لا يتنازعون فيما بينهم - بعد إلغاء السبب الوحيد فى النزاع والصراع ، وهو الملكية الفردية - فيستتب ، لأمن تلقائيا نتيجة سيطرة مشاعر المحبة والآخاء والتعاون بين الناس .
وهكذا تسقط كل مهام الحكومة الحاضرة .. فتسقط إلى غير رجعة !
- - - - - - - - - - - - -
ذلك عرض موجز لأهم المبادئ والأسس التطبيقية التى تقوم عليها الشيوعية ، لم نر داعيا إلى التوسع فيه بعد ما توسعنا فى مناقشة الأسس الفكرية التى تقوم عليها النظرية . ويتبين من هذا العرض أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا مجردا يمكن نزعة بمفرده وتركيبه فى أى نظام آخر لا يشترك معه فى قاعدة التصور . فقد تبين من هذه النقاط أنها لا تقتصر على المجال الاقتصادى ، بل تمتد إلى المجال السياسى والاجتماعى والدينى والفكرى .. الخ .
وبصرف النظر عن قولهم إن هذه المجالات كلها إن هى إلا انعكاس - حتمى - للوضع الاقتصادى ، وقولنا إن هذه المجالات كلها أوجه مختلفة - ولكنها متلازمة - لموقف معين من قضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان ، فإن الشيوعية - على القولين - لم تكن ولن تكون نظاما اقتصاديا بحتا مقطوع الصلة ببقية المجالات ، إنما هى نظام شامل للاقتصاد والسياسة والاجتماع والدين والفكر والفن .. مترابط كله على أساس تصور معين .. مادى بحت .
- - - - - - - - - - - - - -
بين النظرية والتطبيق
نضرب الذكر صفحا عن التناقض بين سخرية الشيوعيين بالحق والعدل الأزليين ، وبين قولهم فى النظرية الشيوعية إن استغلال إنسان لإنسان ظلم ينبغى إزالته .. وبين نفيهم أن هناك أصلا ثابتا للكيان البشرى ينبغى أن يرد إليه ويقاس به ، وقولهم إن صورة الحياة فى الشيوعية الأولى - بكل ما تحويه من ملكية جماعية ومساواة ولا طبقية وتعاون .. الخ - هى الأصل الذى ينبغى أن تعود البشرية إليه ، والذى تسعى الشيوعية الثانية إلى الرجوع إليه لتعيش البشرية فى سلام !
نضرب صفحا عن ذلك التناقض لأننا قلنا فى مناقشتنا للتفسير المادى للتاريخ إنه ليس مبادئ حقيقية يؤمنون بها عن اقتناع " علمى " إنما هى مجرد وسائل لغايات ، والغايات هى المطلوبة ، والأدلة تساق سوقا وتحشر إلى جانب بعضها البعض حشرا سواء كانت متناسقة مع الغايات أو غير متناسقة .. ولا حرج عليهم أن تتناقض الأدلة ، فإذا كانت الغاية هى القول بأن الأوضاع الاقتصادية هى الفاعلة وليس الحق والعدل قيل ذلك ، وإذا كانت الغاية هى نفى الملكية الفردية بوصفها نزعة فطرية قيل إنه لا فطرة ولا أصل ثابتا للإنسان ، وإذا كانت الغاية تبرير مجئ الشيوعية الثانية قيل إن الشيوعية الأولى تمثل الأصل الذى ينبغى أن تعود إليه البشرية .
- - - - - - - - - - - -
ندع هذا جانبا لأ[نه لن يزيد الصفحة سوءا . إنما نشير بادئ ذى بدء إلى أن النظرية الشيوعية - والتطبيق كذلك - قد نقضا كل " القشرة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية ، وأنشأ قشرة مختلفة عنها (1) " فيما عدا أمرين اثنين : إقصاء الدين عن الحياة ، والفوضى الجنسية ، فقد رضيت عنهما الشيوعية رضاء تاما وزادت فى جرعتهما حتى نصت على الإلحاد نصا فى الدستور السوفيتى ، فقالت : " لا إله . والكون مادة " ونصت على الفوضى الجنسية نصا ودافعت عنها . . وحين اضطرت إلى تع=ديلها فى النظرية على عهد لنين فإنها لم تغير شيئا حقيقيا فى التطبيق .
من هنا نفهم كيف أن الشيوعية خطوة تقدمية إلى الأمام !
ونأخذ الآن فى الحديث عن التطبيق الشيوعى ، ومدى التزامه بالنظرية من جهة ، ومدى " عدالة " هذا التطبيق من جهة أخرى .
فأما من حيث إلغاء الملكية الفردية فقد تم ذلك وبصورة حادة فى المرحلة الأولى من التطبيق على عهد لنين وجزء من عهد ستالين . أما إحلال الملكية الجماعية محلها فقد تكشف عن أسطورة ضخمة ليس لها وجود حقيقى ! فلا أحد من طبقة البروليتاريا يملك شيئا فى الحقيقة أو يحس بملكية شئ . إنما الدولة - كما نصت النظرية - هى المالك الحقيقى لكل شئ . والدولة - عند التطبيق - شئ والشعب شئ آخر . ومهما قيل من " نيابة " الدولة عن البروليتاريا فى الملكية والإشراف عليها فهو مجرد كلام للاستهلاك النظرى . أما الواقع فهو أن الدولة أصبحت كابوسا ثقيلا بدكتاتوريتها البشعة الت لا تدع للناس فرص للإحساس بوجودهم فضلا عن أن يحسوا بأنهم يملكون ششيائ على الإطلاق !(42/89)
فجو الإرهاب الدائم الذى تمارسه الدولة على الشعب بحجة المحافظة على النظام من أعدائه ، وجو الجاسوسية الذى يعيش فيه الشعب إلى حد أن الوالد لا يأمن ولده ولا الزوج يأمن زوجته ولا الأخ يأمن أخاه - ضمانا ألا يجتمع اثنان على سر خشية أن يكون السر مؤامرة على " النظام " - هذا الجو الذى يمكن أن يؤخذ فيه الإنسان بالظنة فيحاكم ويحكم عليه بالإعدام أو الاعتقال فى ثلوج سيبيريا أو بأى عقوبة أخرى " رادعة " .ز هو جو لا يسمح بوجود " التعاطف " بين الشعب والدولة ، ذلك التعاطف الذى يحس فيه أن الدولة نائبة عنه فى الملكية والإشراف عليها .. فالنيابة لا تكون بالحديد والنار والتجسس .. إنما يخضع الشعب للدولة بعامل الإرهاب المسلط عليه ، ويفقد فى النهاية أى شعور بملكية شئ على الإطلاق ! ولا يبقى له إلا شعوره بالحرمان !
ولا ينسى المصريون ما شهدوه فى أسوان أيام كان " الخبراء الروس " يعملون فى السد العالى ، فقد كانوا يعيشون بطبيعة الحال فى جو مختلف عن النظام الذى ألفوه فى روسيا . فكان أشد ما عجبت له زوجات أولئك " الخبراء " أن الشراء حر فى الأسواق ، وأن الإنسان يستطيع أن يشترى بقدر ما يريد ، أو بقدر ما تتسع نقوده .. فكن يذهبن إلى بائعى الخضر والفواكه فيسألن فى عجب : هل نستطيع7 أن نأخذ بقدر ما نريد ؟! فإذا قيل لهن : نعم ! لم يصدقن ! حتى وجدن بالممارسة الفعلية أن ذلك ممكن بالفعل !
وليست المسألة هى العجب من اختلاف النظام ، فهذا أمر طبيعى وكل إنسان يفاجأ بنظام يختلف عما ألفه وتعود عليه سيعجب فى بادئ الأمر حتى يألف . ولكن المسألة هى اللهفة على الشراء ، ودلالته على مدى الإحساس بالحرمان ، والفرحة الغامرة بالتخلص من هذا الحرمان ولو إلى أمد محدود ! وتكفى هذه التجربة الواقعية للكشف عن حقائق كثيرة فى آن واحد ، عن الملكية الفردية والملكية الجماعية .. وعن النظام !
على أن الذى يعنينا هنا ليس هو البحث فى مدى تحقق تلك الأسطورة التى يطلق عليها اسم " الملكية الجماعية " حين تكون الدولة هى المالك الحقيقى ويكون الشعب كله محروما من الملكية ! إنما الذى يعنينا أكثر هو الأسطورة التى تقول إن تلك الملكية الجماعية المزعومة يمكن أن تحل محل الملكية الفردية ،
__________
(1) قلنا من قبل إن الاختلاف بين الرأسمالية والشيوعية هو اختلاف فى القشرة وليس فى الجوهر .
لقد زعمت النظرية الشيوعية أن الأصل فى الإنسان هو الملكية الجماعية ، وأن الملكية الفردية هى انحراف شرير وقعت فيه البشرية بعد اكتشاف الزراعة ، وأن الشيوعية الثانية سارد الإنسان إلى أصله " فيستمع " بالملكية الجماعية ، ويشفى من هذا الانحراف الخطير الذى أفسد إنسانيته وأشاع الظلم فى المجتمع البشرى لقرون عديدة من الزمان !
ثم فرضت " الدولة " الأمر فرضا بالحديد والنار ..
فهل شفيت النفوس من الداء وسلمت من الانحراف ، وارتدت إلى أصلها الملائكى المزعوم ؟!
إن الذى حدث بالفعل - وأشرنا إليه من قبل - أن " النظام " تراجع فى عهد ستالين ثم فى عهد خروشوف عدة تراجعات .
ففى المرحلة الثانية من عهد ستالين كان " النظام " فى حاجة إلى زيادة الإنتاج ، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال - بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى - أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافى يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشترى أنواعا من الطعام أفخر ، أو كميات اكبر ، وأنواعا من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية .
وموضوع الدلالة أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردى والالتجاء إليه . ولو كانت ترى - أو تعتقد فى دخيلة نفسها - أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردى لفعلت ، خاصة وهى تملك الحديد والنار وتستخدمها - بإسراف - فى جميع المجالات ، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردى - أيا تكن مبرراته التى تلقى أمام الناس - هو تراجع عن أصل من أصول النظرية ، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئا فطريا وأن الأصل فى الناس هو الملكية الجماعية !
موضع الدلالة إذن أن كل بطش الدولة لم يستطع أن " يشفى " الناس من الحافز الفردى ويضع الحافز الجماعى مكانه . ومعنى ذلك أن الحافز الفردى - الوثيق الصلة بالملكية الفردية - عميق عميق فى الفطرة إلى حد لا يمكن انتزاعه ، ولو استخدمت فى انتزاعه كل وسائل البطش والإرهاب .
ثم حدث فى فترة حكم خروشوف أن تزايد نقصان المحاصيل الزراعية ( وكان هذا التناقص قد بدأ فى عهد ستالين ذاته ولكنه لم يكن محسوسا بالصورة الى ظهر عليها أيام خروشوف ) حتى إن روسيا بدأت تستورد القمح من أمريكا بكميات متزايدة . وكان علاج خروشوف للأمر هو تمليك الفلاحين جزءا من المحصول لأنفسهم . وتمليكهم الدار التى يسكنونها وما تحويه من الأثاث والأدوات وما يمكن أن يشتروه لأنفسهم من هذه الأشياء .(42/90)
وهو تراجع صريح عن مبادئ الشيوعية ، دلالته واضحة .. وهى أن الملكية الجماعية لم تستطع - بكل وسائل القهر - أن تحل محل الملكية الفردية .. وإن العلاج الوحيد الذى يضطرون إليه جولة بعد جولة هو الإذعان لهذا الدافع الفطرى الذى نفوا - فى النظرية - وجوده ، وجالوا بكل أنواع الجدل ليثبتوا أنه غير أصيل فى النفس البشرية ، وأنه " مرض " يمكن " الشفاء " منه !
والتجربة التى تمت - فى العالم لشيوعى ذاته وعلى يد الدولة الشيوعية ذاتها - تغنينا عن الالتفات إلى كل الجدل الفارغ الذى يجادل به الشيوعيون فى أمر الملكية الفردية والحافز الفردى .
إما إنشاء مجتمع غير طبقى ، وإلغاء جميع الطبقات ماعدا طبقة البروليتاريا ، وإقامة دكتاتورية البروليتاريا .. فقد اختلف التطبيق فيها اختلافا واسعا عن النظرية !
ولسنا نتحدث هنا عن " محاسن " إنشاء مجتمع غير طبقى ، ولا كون هذا الأمر واجبا أو غير واجب ممكنا أو غير ممكن (1) إنما نتحدث عن الواقع التطبيقى لنرى مقدار قربه أو بعده عن الشئ الذى قالوا إنه واجب أن يكون .
لقد زالت طبقة الإقطاعيين نعم ، وحال تطبيق الشيوعية فى الدولتين الشيوعيتين الكبيريتين دون ظهور الطبقة الرأسمالية ، وما كان منها موجودا فى الدول الأخرى التى اعتنقت الشيوعية فقد أزيل إما بنزع الملكية الفردية وإما بالإبادة الثورية ..
ولكن ما الذى حدث بعد ذلك ؟!
الذى حدث بالفعل أن " طبقة " جديدة بكل تعريف الطبقة ومواصفاتها قد برزت فى المجتمع الشيوعى تحت اسم جديد بالمرة هو " الحزب " !
__________
(1) نقول نحن إنه ممكن فى حالة واحدة فقط ، حين ينزع حق التشريع من البشر ويتحاكمون كلهم إلى شريعة الله ، فعندئذ لا يكون لأحد من البشر سلطة تشريعية يتمكن بها من رعاية مصالحه ومصالح طبقته على حساب بقية الطبقات ، ولا يهم فى هذه الحالة تفاوت الناس فى ثرواتهم لأن هذا التفاوت يظل أمرا فرديا لا طبقيا . ولا يتجاوز حظ كل إنسان من " المتاع " فى الحياة الدنيا .. ولنا عود إلى الموضوع عند الحديث عن نظرة الإسلام .
والفارق بين أفراد الحزب - بدرجاته المختلفة - وبين أفراد الشعب هو ذات الفارق بين أية طبقة كانت مالكة وحاكمة من قبل وبين الشعب ! فأدنى درجات الحزب - وهى العضوية العادية - تنشئ لتوها فارقا ضخما فى كل شئون الحياة ، وليست العبرة بوجود الملكية الفردية أو عدم وجودها ، فلم يكن منشأة الطبقية فى المجتمعات الطبقية هو مجرد وجود الملكية الفردية كما زعم التفسير الجاهلى للتاريخ ، إنما كان ما يترتب على الملكية من سلطان ونفوذ ، انطلاقا من مبدأ أن الذى يملك هو الذى يحكم ، أى أن الطبقية فى الواقع - وإن نبعت فى المجتمعات الجاهلية من الملكية الفردية كما يقول التفسير المادى - إنما هى طبقية السلطان والنفوذ ، التى تنبع من قدرة هذه الطبقة على التشريع لحساب نفسها وإلزام الآخرين بالخضوع لهذا التشريع .
وقد ألغيت الملكية الفردية من المجتمع الشيوعى ، ولكن السلطان والنفوذ الذى تركز فى " الحزب " قد جعل منه طبقة متميزة ، لها كل سمات الطبقة ومميزاتها سواء فى نوع المعيشة - أى المتاع - أو فى النفوذ والسلطان .
فمع أن العنوان العام فى الشيوعية أنه لا أحد يملك شيئا ملكية فردية فإن هناك فارقا - لا شك - بين أن تكون أنت وأفراد أسرتك جميعا تسكنون فى غرفة واحدة فى مسكن شعبى بدورات مياه مشتركة ( وغالبا ما تكون بلا أبواب ! ) وبين أن تكون ساكنا فى " فيلا " خاصة أو فى شقة كاملة فى عمارة ، حتى ولو كنت غير مالك للشقة أو ما فى داخلها من الأثاث ملكية فردية !
هناك فارق فى نوع المتاع ودرجته ،وفارق فى مشاعرك حين تكون هنا وحين تكون هناك .
ولست أناقش هنا شرعية هذا المتاع أو عدم شرعيته ، إنما أقول فقط إنه فى النظرية الشيوعية غير جائز وغير شرعى ، أما فى التطبيق فهو موجود ، ويتسع الفارق كلما صعد الإنسان الدرجات ،فى " الحزب " حتى يصبح عضوا فى اللجنة التنفيذية العليا أو من الأعضاء البارزين فى الحزب ، فينقلب نعيمه ترفا ما كان يحلمن به بعض القياصرة فى زمانهم ! والشعب فى " أكواخه " العصرية ، الأسرة كلها فى غرفة واحدة تجمع الأم والأب والأطفال بنين وبنات ما ودون سن التكليف ، وتجرى فيها العلاقات الزوجية بين الأم والأب - بححم الأمر الواقع - فى حضرة البنين والبنات ، البالغين وغير البالغين !
وليس فارق المتاع على أى حال هو الفارق الأهم أو الفارق الوحيد ، إنما المهم فارق السلطان .
إن مجرد انتقال الإنسان من كونه فردا من أفراد الشعب إلى كونه عضوا فى الحزب ، ينتقله من " شئ : لا وجود له إلى شئ آخر له وجود ملموس ، سواء فى نظر نفسه أو فى نظر المجتمع من حوله ، لأنه ينقله من طبقة المحكومين إلى طبقة الحكام الذين يسيطرون على كل شئ فى المجتمع الشيوعى ،، حتى لو كان هو فى أسفل طبقة أولئك الحكام .(42/91)
إن تركيز النفوذ فى " الحزب " و " الدولة " و " الزعيم " هو الذى ينشئ ذلك الفارق الضخم بين " اللاشيئية " و " الشيئية " فى المجتمع الشيوعى .. ولذلك يصبح أكبر مطمح للفرد العادى فى المجتمع الشيوعى أن يضع قدمه - مجرد وضع - ولو على أدنى درجة من درجات ذلك البناء الشاهق الذى يمثل السلطان ، فيتغير وجوده كله ، بل يصبح فى الحقيقة موجودا بعد أن لم يكن له وجود .
وسبيله إلى هذه النقلة الضخمة التى يتشهاها كل طامح إلى الوجود لا يخرج عن امر من ثلاثة أمور ، أشرفها جميعا - وأندرها - القيام بعمل غير عادى فى خدمة " الوطن " أما السبيل الميسرة والمعتادة فهى الملق للحزب وللدولة وللزعيم ن والظهور بمظهر التفانى فى حبهم جميعا ! أو التطوع بالجاسوسية وإلقاء الشبه على الأبرياء تقرباب للسطان وإظهار للولاء !
- - - - - - - - - - - - -
أما دكتاتورية البروليتاريا فهى شئ بشع إلى أقصى درجات البشاعة التى يتخيلها الخيال . وبالرغم من كل المبررات التى تساق لتبرير النظام البوليسى القائم على الحديد والنار والتجسس فستبقى حقيقة واحدة لا سبيل إلى محوها ولا إنكارها ، أن الدكتاتورية القائمة ليست - كما زعموا - دكتاتورية البروليتاريا ، إنما هى الدكتاتورية الواقعة على البروليتاريا .
إنه حجم الشعب الروسى - على وجه التقريب - هو مائتان وخمسون مليونا من البشر والحزب الشيوعى يكون منه ستة ملايين ، ستة ملايين من المحظوظين - على درجات مختلفة من الحظ فى وسط هذا الخضم الهائل من القطع الآدمية التى لا وزن لها ولا كيان . عملها أن تنتج كالآلة ثم تغرق فى حماة الجنس كالحيوان ، وليس لها بين هذا وذاك قلوب ولا مشاعر ولا وجود .
فى الوضع السياسى هم أولئك الأصفار الذين لا يقدمون ولا يؤخرون ولا يقام لهم وزن . ولا عبرة بمسرحية الانتخابات ولا بقول الشيوعيين عن أنفسهم إنهم هم " الديمقراطية " الحقيقية !
ولسنا ندافع عن المسرحية الأخرى القائمة فى الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ، فقد سبق أن عرضناها على حقيقتها ، ولكنها تحمل على الأقل تقدير " مظهر " الحرية و " مظهر " الاختيار ، وإن كانت الغالبية العظمى ممن يصلون إلى المجالس النيابية هم - كما بينا - أدوات الرأسمالية الحاكمة ، ولا تستطيع هذه المجالس ، مهما قيل فيها من " كلام " أن تتخذ قرارا ضد المصالح الحقيقية للرأسمالية الحاكمة .
أما حين يكون الناس كلهم حزبا واحدا - بأمر الدولة - هو حزب الدولة ، فإن المسرية تفقد حتى ذلك المظهر المزيف ، وتصبح سخرية ضخمة لا متعة فيها على الإطلاق !
ما الفرق بين أن تنتخب هذا الصفر أ هذا الصفر أو ذاك الصفر ، إذا كانوا كلهم أصفارا من جهة ، وكلهم يمثلون وجهة نظر واحدة من جهة أخرى ، وكلهم لا يملكون الكلام إلا بإذن الدولة وبالقدر الذى تأذن به الدولة من جهة ثالثة ؟!
إن المسرحية كلها واحدة .. نعم ! ولكنك ربما تكون على استعداد لمشاهدة المسرحية والتلهى بها حين يكون الممثلون يؤدون دورهم المرسوم لهم وكأنهم يؤدونه من عند أنفسهم ، أما حين تسمع صوت الملقن واضحا يملى على المثل أقواله وأفعاله فلا شك أن المسرحية تكون فى حسك سمجة وغير مستساغة ، وإن كتب عنها فى لوحة الإعلان أنها مسرحية الديمقراطية الحقيقة !
وفى الوضع الاقتصادى هم أولئك الكادحون .. كانوا ومازالو.. الذين يقومون بأشق الجهد وينالون أقل الجزاء ، ويستمتع غيرهم " بفائق القيمة " لأنهم أصحاب نفوذ وأصحاب سلطان ! وليس من الضرورى أن يكون " فائض القيمة " نقودا توضع فى الجيوب ، فغياب المظهر لا ينبغى أن يخدعنا عن حقيقة الجوهر . ففائض القيمة هنا هو المتاع الموفر - بصرف النظر عن الملكية - وهو السلطان والنفوذ !
حين يمرض الفرد من البروليتاريا يعالج بالأدوية المحلية ، وحين يمرض الفرد من الحزب الحاكم يعالج بالدواء الأجنبى ! وحين ينتقل الفرد من البروليتاريا يتنقل فى المركبة العامة التى لا تراعى فيها أسباب الراحة ، بينما عضو الحزب يتنقل فى السيارة الخاصة - ولو لم يملكها ! - فإن كان عضوا " كبيرا " فى الحزب فله السيارات الأجنبية المريحة المكيفة .. وهذا غير المسكن الذى أشرنا إليه من قبل وغير صنوف الطعام ..
ما الفرق بين هذا وبين التمتع بفائض القيمة فى المجتمع الطبقى الذى كانوا - ومازالوا - ينددون به ؟!
وفى الوضع الاجتماعى هم أولئك الأحجار المتراصة التى يبنى بها البناء ليسكنه السكان ! السكان هم الحزب بدرجاته المختلفة من أول العضو العادى إلى " الزعيم " والبروليتاريا مجرد بناء مقام ليسكن فيه هؤلاء ! هل يحس الحجر من الساكن ؟ أو يهمه أن يعرف ؟ أو يتغير وضعه بتغير السكان ؟!
كلا ! إنهم أحجار !
على أن أبشع ما فى الوضع كله هو الإرهاب البوليسى الذى يقع الشعب كله تحت وطأته .
منذ الذى يجرؤ أن يقول كلمة واحدة فى نقد الحاكم ؟ سواء فى سره أو فى العلانية ؟ أما فى العلانية فلا يلومن إلا نفسه إذا وجد رأسه طائرا عن عنقه ، ولا يوجد شخص " عاقل " يصنع ذلك الصنيع !(42/92)
وأما فى سره فالجاسوسية تكشف النقاب عنه .. ومجرد الخوف من الجاسوسية يرهب القلوب ويكمم الأفواه..
ومع ذلك كله تظهر بين الحين والحين فى كل نظام شيوعى حركات التطهير التى يذهب ضحيتها المئات والألوف .
وهذه " النكتة " من عهد خروشوف كافية لإعطاء صورة الإرهاب .. فى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى وقف خروشوف يندد بستالين ن ويقول عنه إنه دكتاتور سفاح مجرم سافل دنئ ! وإنه غلطة لا ينبغى أن تتكرر .. وإنه ارتكب من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان ..
وقرأ خروشف الورقة - وكان حاضر البديهة حاضر النكتة - فقال : من الذى أرسل إلى هذه الورقة ؟! وبالطبع لم يجب أحد ! فقال خروشوف : الآن قد عرفت السبب ! لقد كنت خائفا مثلك فلم أنبس ببنت شفة !
وكون هذه نكتة لا يغير شيئا من الحقيقة ، ولا يخفف شيئا من بشاعة الإرهاب .. فهى نكتة ذات دلالة على الواقع المرهوب .
والمهم على أى حال أنها ليست " دكتاتورية البروليتاريا " كما كانوا يزعمون فى النظرية ، إنما هى الدكتاتورية التى تعانى غصتها البروليتاريا المسحوقة تحت الأقدام ، إنما كانت أسطورة تمليك المصانع للعمال ، وأسطورة منح السلطة للعمل مجرد إغراءات دعائية يقبل الناس على الفخ المنصوب !
- - - - - - - - - - - - - - -
أما كفالة الدولة لك ل فرد من أفراد المجتمع فهى الشئ الوحيد الذى برزت به الشيوعية فى عالم الواقع على كل جاهليات التاريخ .
لا يوجد فرد لا يأكل ولا يلبس ولا يسكن من كل أفراد الشعب . وهذا هو الواجب الذى نكلت عنه الدولة الإقطاعية والدولة الرأسمالية على السواء ، وإذا كانت الدولة الرأسمالية الحديثة قد اقتربت من أداء هذا الواجب شيئا من الاقتراب بالضمانات الاجتماعية والإعانات التى تصرف للمتعطلين من نقاباتهم أو من الدولة ، وبالرعاية الصحية المجانية ، وبالخدمات المجانية العامة .. الخ ، فإنها لم تبلغ بعد الحد الذى التزمت به الدولة الشيوعية ، فضلا عن كونها قد فعلت ما فعلت لا بدافع إنسانى ، ولكن خوفا من الشيوعية ، فضلا عن كونها فعلت ما فعلت لا بدافع إنسانى ، ولكن خوفا من الشيوعية من جهة ، وخوفا من الضرر الذى يلحقها إذا لم تستجب لطلبات العمال المطالبين بهذه الحقوق .
ولكن لنا على هذه الكفالة مجموعة من الملاحظات . إذا قسناها على الكفالة التى قررها الإسلام لكل فرد من أفراد الأمة قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان !
تكفل الدولة الشيوعية أفرادها على الحد الأدنى الذى وصفناه من قبل ، ومع ذلك لا تكفلهم وهم كرماء على أنفسهم ولا على دولتهم ! ولا نتحدث الآن عن تكليفهم بالعمل - رجالا ونساء - مقابل كفالتهم ، أى أن الدولة لا تتفضل عليهم بالكفالة ، إنما هى تجندهم لحسابها ، وتستصفى جهدهم كله قبل أن تعطيهم ضرورات حياتهم ، وتهددهم تهديدا صريحا بقوله ، من لا يعمل لا يأكل ..
لا نتحدث الآن عن هذا ، فالعمل على أى حال هو الأصل فى حياة الإنسان وليست البطالة هى الأصل .. ولكنا نقول إن الدولة الشيوعية بإلغائها الملكية الفردية والعمل الحر ، وتحويل كل الناس إلى إجراء للدولة ، إنما تستذلهم فى الواقع بلقمة الخبر ، فلا يملكون أن يتوجهوا بكلمة نقد واحدة للقائمين بالأمر خوفا على لقمة الخبز أن تضيع .. وذلك بخلاف الإرهاب بالحديد والنار والتجسس ، الذى يزيد من مذلة الناس وانكماشهم وخضوعهم للظلم الواقع عليهم ، دون التفوه بكلمة أو إشارة تدل على عدم الارتياح فضلا عن الاحتجاج الصريح .
ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد فى الأرض هو عمل الإنسان أجيرا لإنسان آخر ، وزعمت أنها هى التى ستخلص الناس من الظلم … وتمنع الاستغلال ، حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر .
نعم .. ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر ، وتأجيره " للدولة " التى هى شخص معنوى فى الكلام فقط ، ولكنها فى الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذى يطلبونه نهم ، وما يعاقبونهم به إذا قصروا فى أدائه ؟ وأيهما أذل - فى عالم الواقع - الأجير الذى يملك ولو ذرة واحدة من الحرية فى اختيار نوع العمل ومكانه ، واختيار شخص " السيد " الذى يبيع له جهده ، والمساومة على زيادة هذا الأجر ، والاحتجاج على انخفاضه إذا رأه كذلك ، أو الأجير الذى لا يملك ذرة من الحرية فى تلك الأمور كلها ، لا اختيار نوع العمل ولا مكانه ، ولا اختيار " السيد " الذى يخدمه - فهو مفروض عليه بالحديد والنار - ولا حق الاحتجاج على الأجر المنخفض ولا طلب زيادته .. وإن فتح فمه بكلمة يموت جوعا ، إن لم يمت بوسيلة أخرى غير الجوع ؟!
وأية سفسطة تلك التى تقول إن الذل لا يكون قائما حين تحكون " الدولة " هى التى تسخر الناس للعمل وهى التى تمنح الأجور ؟! ما تعريف الذل ؟! وما اسم ذلك الإحساس الذى يحسه الإنسان حين يجد أنه لا يملك حريته فى أى أمر من الأمور ، وأن عليه أوامر ينبغى أن يطيعها ، وواجبات ينبغى أن يؤديها ، دون أن يكون له حق الاعتراض على شئ من الأشياء ؟!
أم يحلونه عاما ويحرمونه عاما ؟!(42/93)
يحلونه إذا كان صادرا منهم ومحققا لمصلحتهم ، ويحرمونه إذا صدر من غيرهم أو لم يكن فى صالحهم ؟
- - - - - - - - - - - - - - -
قضية المساواة فى الأجور لا تزيد على أن تكون واحدة من الأساطير الكثيرة التى بددها التطبيق .
فى عهد لنين والجزء الأول من عهد ستالين طبقت روسيا بصرامة مبدأ المساواة فى الأجور لجميع العمال فى الاتحاد السوفيتى . ولكن هل كانت هناك مساواة عامة فى الأجور بالنسبة لكل العاملين ؟
هل كان أجر المهندس كأجر العامل ؟ وأجر الطبيب كأجر الممرض ؟ وأجر الجندى كأجر الضابط ؟
إن هذا بداهة مستحيل !
ومع استحالته فقد ظلت النظرية الشيوعية تنافح عن قضية المساواة وتندد بقضية التفاوت فى الأرزاق ؟
ثم جاء اليوم الذى انهارت فيه المساواة حتى فى صفوف العمال أنفسهم ، بعد أن كانت منهارة ما بين العمال وغيرهم من العاملين . فقد لجأ ستالين - كما أسلفنا - إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لقاء أجر إضافى ينفق فى " الكماليات " .. وهكذا ضاعت المساواة تماما ولم يعد لها وجود !
ويقولون إن هناك أجور عالية جدا فى الاتحاد السوفيتى .
وقد تحسب لأول وهلة أنها أجور المهندسين .. أو علماء الذرة .. أو علماء الصواريخ .. أو الأطباء (وكلهم من ذوى الأجور العالية فى الاتحاد السوفيتى ) ولكنك تسمع الحقيقة المذهلة فى النهاية ! إنها أجور المطربين والمطربات والراقصين والراقصات والملهين عامة والملهيات !
الأجر على قدر الخدمة !
هل تعلم الخدمة الجليلة التى يقوم بها المطربون والمطربات والراقصون والراقصات والممثلون الممثلات فى اتحاد السوفييتات ؟!
نعم !! إنها " تلهية " الشعب عن الإحساس بالضغط البشع الواقع عليه .. لكى ينسى .. لكى لا ينفجر!
إن الضغط على الكائن البشرى من جميع منافذه أمر غاية فى الخطورة ! لأنه يولد الانفجار ..
ودكتاتورية البروليتاريا لا تستغنى عن الضغط السياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى الذى تمارسه على البروليتاريا ( التى تحكم باسمها ! ) وإلا أفلت الزمام ، وتزلزلت الدولة وتزلزل " النظام "!
فلابد إذن من التنفيس عن الناس فى جانب من الجوانب ليتسرب الغضب المكظوم قبل أن يكون التجمع الذى يولد الانفجار .
والمتنفس هو الشهوات .. والملهيات ..
فأما الجنس فيمارسه الناس لأنفسهم أنى شاءوا وكيفما شاءوا لا حجر عليهم ولا تدخل فى " إرادتهم "!
وأما التلهية فيقوم بها الملهون من المطربين والراقصين والممثلين من الرجال والنساء .. فينالون " تقدير " الدولة على خدمتهم الهائلة ، وينالون أعلى الأجور !
المهم فى الأمر على أى حال أن المساواة أسطورة غير قابلة للتطبيق فى الدنيا الواقع .. ومع ذلك فمازلوا يتحدثون عن المساواة فى النظرية ، ومازالوا ينددون بالتفاوت فى كل نظام يجدونه فيه !
لو قالوا منذ البدء نريد أن نقرب الفوارق بين الفئات المختلفة من الناس نضمن حد أجنى معقولا لكل الناس..!
لو قالوا لقلنا نعم .. للنظرية على الأقل بصرف النظر عن واقع التطبيق !
- - - - - - - - - - - -
يقول الشيوعيون في نظريتهم إن الحياة في الشيوعية الأولي ( كما يتخيلونها ) هي الأصل الذي ينبغي أن تعود البشرية إليه ن وإن الشيوعية الثانية هي التي سترددهم إلي هذا الأصل الجميل ..
فيما عدا استثناء واحدا في أمر لم يرق لهم من الشيوعية الأولي فحذفوه !
ذلك هو الدين !
ففي الشيوعية الأولي ( كما يتخيلونها ) كان عند البشرية دين . وهنا - فقط- قالوا إن هذا كان بسبب بدواة البشرية وقلة معلوماتها عن الكون المادي وعدم سيطرتها علي البيئة ! أما فيما عدا ذلك فلا دخل للبداواة في شئ علي الإطلاق !
ولما كانت الشيوعية الثانية تأتي من غير بداوة ، فقد وجب القضاء علي العنصر الوحيد الذي سببته البداوة وهو الدين !
وفي التطبيق أشتد الشيوعيون في محاربة الدين . فلم يكتفوا بتحريم الحديث فيه ، ومعاقبة من يضبط " متلبسا" بالحديث في الدين مع شاب أو فتاة دون الثانية عشرة ، بل بالغوا في الاحتياط فوضعوا في مناهجهم الدراسية درسا للالحاد في مكان درس الدين ! فحيث يضع البشر كلهم درسا للدين في مدارسهم - مؤمنين وغير مؤمنين - يتحدثون فيه عن الله ، يضع الشيوعيون في مدارسهم درسا يقال للتلاميذ فيه إنه لا إله . والكون مادة ( أي بلا خالق ).
ولا مكان للمتدينين في الدولة الشيوعية . وقد قتل ستالين وحدة ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهده ، لأن الشيوعية كانت قد طلبت معونة المسلمين في الثورة ضد القيصر ، ووعدنهم بأن تجعل لهم مكانة خاصة إذا نجحت الشيوعية ، وتترك لهم حرية ممارسة حياتهم الإسلامية ، فلما طالبوا بتحقيق الوعد ، حققه ستالين لهم علي هذا النحو بالقتل والتعذيب والتشريد الجماعي .(42/94)
ولقد اضطرت الشيوعية إلي " التراجع " عن قرار الإبادة الجماعية الذي كان مقررا من قبل ، حين سنحت لهم فرصة الانتشار والتوغل في العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية ، فوجدوا أن قرار الإبادة سيعوق إنتشارهم ، ويفوت عليهم فرصة قد لا تسنح من بعد ، فأعلنوا أنها " متسامحون" وأنهم لا يتعرضون لأصحاب العقائد الدينية بالإيذء ! ولعلهم كانوا قد ظنوا أنه لم يعد هناك خطر من " التسامح " بعد إبادة من أبادوه ونفي من نفوه وتشريد من شردوه ! ولكن دخولهم أفغانستان لإبادة المسلمين هناك يدل علي أن تقديراتهم في هذا الأمر لم تكن علي صواب ! فهم اليوم يضربون المسلمين الافغان حتي لا يتجمع غدا المسلمون الروس !
وبصرف النظر عن وضع المسلمين في الدول الشيوعية ، فإن الشيوعية تكره الدين كراهية شديدة كما أسلفنا ، وتحاربه بكل وسائل الحرب ، وتتمني اليوم الذي يزول فيه من الوجود .
وفي إمكاننا أن نستدل من هذه الحرب ذاتها علي عمق الدين في الفطرة ! فلولا أنه عميق في الفطرة كل هذا العمق ما خافت الشيوعية من عودته كل هذا الخوف ولاحاربته كل هذه الحرب .
ولكنا لسنا في حاجة إلي الاستدلال عن طريق غير مباشرة . فقد اغنانا حديث ط جاجارين" عن ذلك ، وشهدت الفطرة علي لسانه إنه لا إله إلا الله . . وهو الذي ولد وتربي في ظل الالحاد الرسمي والشعبي علي السواء !
- - - - - - - - - - - - -
إلي هنا كنا نتحدث عن " الواقع" التطبيقي للشيوعية بالقياس إلي النظرية .. ورأينا أن مبادئ كثيرة من التي تقوم عليها النظرية أثبتت عدم جديتها أو عدم واقعيتها عند التطبيق ، كقضية الملكية الجماعية ، وإحلالها محل الملكية الفردية ، وقضية البروليتاريا ووضعها في مكان السلطة ، وقضية الطبقات وإلغائها وقضية المساواة التامة بين الجميع .
ولكن بقيت في النظرية " وعود " لم تتحقق بعد ، ويتذرعون - لعدم تحقيقها - بشتي المعاذير .
بقي المبدأ القائل بأنه يؤخذ من كل بحسب طاقته ويعطي كل بحسب حاجته ، وإلغاء الحكومة . وإلغاء الصراع
وهم يستخدمون بشأنها أسلوب الشاعر العربي :
مني إن تكن حقا تكن أعذب المني وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا !
أي في الخيال والتمني !
وقد كان من حقنا أن ننفض ايدينا من هذه الأماني ، ونقول : دعونا حتي تقع بالفعل ! أو نقول إن ما مر من التجربة الشيوعية في الأمور السابقة لا يبشر بتحقيق شئ من هذه الوعود ، فإن أمورا أكثر واقعية من هذه بكثير أثبتت التجربة عدم واقعيتها أو عدم دية الشيوعيين في الحديث عنها إلا للدعاية والترغيب فحسب !
ولكننا ننظر في طبيعة هذه الأمور فنجدها - بطبيعتها - غير قابلة للتحقيق ! من كل حسب طاقته ، ولك حسب حاجته ! بلا حكومة ولا صراع !
متي كان الناس بهذه الملائكية حتي نفترض أنهم يمكن أن يعودوا إليها في يوم من الأيام ؟
أو ليسوا هم الذين يقولون إنه بمجرد اكتشاف الزراعة جنح الناس إلي الملكية الفردية ، وظهر الطمع والجشع واختلف وضع الناس في المجتمع ، وانتهت المساواة والتعاون والود والإخاء وحل محلها الصراع ؟!
أي بمجرد ظهور شئ يمكن امتلاكه !
فما الذي تغير في طبائع البشر حتي يجئ عليهم يوم لا حكومة فيه ولا رقابة ، ثم يبذل كل منهم طاقته - حبا في الحق والعدل فقط ، أو حبا في الإنسانية ، أو حبا في أي قيمة من القيم العليا ( التي لا وجود لها في ذاتها كما يقولون !) - ثم يأخذ فقط بقدر حاجته ، ويقدر هذه الحاجة بلا طمع ولا جشع ولا إسراف ؟!
إن المثاليين الذين ينعي الشيوعيون عليهم عدم واقعيتهم لم يبلغوا هذا الحد من الإسراف في الخيال !
ولقد وصل أفراد من البشر إلي هذا المستوي بالفعل مرة واحدة في التاريخ ، علي عهد رسول الإسلام r ، فكان كل إنسان منهم يبذل أقصي ما في طاقته من الجهد ابتغاء مرضاة الله فحسب ، ثم لا يجد في نفسه حاجة مما أوتي ويؤثر أخاه علي نفسه :
{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [سورة البقرة 2/207]
{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر 59/9]
ولسنا نقول إن هذه الصورة حدثت مرة واحدة وهي غير قابلة للتكرار في أي جيل قادم من أجيال البشرية ، ولكنا نقول أولا إن هذا - بالتجربة - لم يحدث إلا ابتغاء مرضاة الله - ، ولا يمكن لأي قيمة أخري من القيم - غير الإيمان الصدق بالله - أن ترفع الانسان إلي هذه الصورة الرفيعة الشفيفة العالية ، ونقول ثانيا إنه ليس كل الناس يرتفعون إي هذا المستوي السامق الرفيع . فقد كان إلي جوار هؤلاء - في نفس الجيل ونفس الظروف - من قال فيهم رب العالمين :
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [سورة محمد 47/38](42/95)
والإسلام في واقعيته لا يفترض أن كل الناس يصلون إلي القمة ، وإن كان يدعو كل الناس أن يحاولوا الصعود إليها ، ثم يرضي منهم بما يصلون إليه في محاولتهم ماداموا لا يهبطون عن المستوي الذي حرم الله الهبوط عنه ، أو ماداموا لا يصرون علي الهبوط إذا غلبتهم مرة دوافع الشر رغم المجاهدة والتطلع إلي الخير :
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [سورة الأنعام 6/132]
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136]
أما حلم الملائكية العامة الشاملة التي ستعم البشرية كلها ذات يوم ، ودون أي احتياط لإمكان الهبوط من أحد الناس أو كل الناس ( بإلغاء الحكومة التي يمكن أن تردع الهابطين ) فحلم أقل ما يقال فيها إنه ما وضع إلا للتخدير ليرضي الناس بالحرمان والشقاء الحالي، والضغط الإرهابي الذي لم تشهده حتي قساوة القرون المظلمة ، علي أمل تحقق تلك الجنة الموعودة في الأرض في يوم من أيام التاريخ
كانوا يقولون إن الدين أفيون الشعوب ! لأنه يخدرهم عن عذاباتهم الحاضرة بحلم الجنة في الآخرة ! فما القول في هذا الأفيون العجيب الذي تقدمه الشيوعية للكادحين ؟!
إن الدين - في صورته الكنسية التي استخدمت بالفعل لتخدير الشعوب - كان يحوي بعض الحقائق وبعض الأباطيل . فوجود الله حق ، ووجود الآخرة حق ، ووجود الجنة حق . أما رضاء الله بالظلم ، ودعوة الناس إلي الرضا بالظلم في الدنيا ليمنحهم الله الجنة في الآخره فباطل ، لأن الله أمر الناس أن يرفضوا الظلم الناشئ من تحكيم شرائع غير شريعة الله ، وأمرهم أن يجاهدوا لتغيير المنكر . وأما الذين يحتجون بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض وأنهم رضوا من أجل ذلك بالظلم فيسميهم الله " ظالمي أنفسهم " ويقول فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97)} [سورة النساء 4/97]
نعم كان الدين الكنسي يحوي بعض الحقائق وبعض الأباطيل .. فما القول في هذا المخدر الشيوعي الذي لا يحمل شيئا من الحق وكله أباطيل ! أي الفريقين - وكلاهما علي باطل - أشد استخدامها " للافيون" في تخدير الجماهير ؟!
بين الشيوعية والإسلام
إن لن أن ننتهي من الحديث عن الشيوعية في كل مجالاتها ، سواء في المادية الجدلية أو لمادي التاريخية أو المذهب الاقتصادي .. لولا أن بعض المسلمين - بل بعض الدعاة من المسلمين - يتحدثون عن " اشتراكية الإسلام" وعن إمكانية اللقاء بين الشيوعية - أو الاشتراكية - وبين الإسلام
فنعود إلي ذات المقاييس التي استخدمناها فيما بين الديمقراطية والإسلام
1) قضية المعبود
2) قضية إنسانية الإنسان
إن الشبه العارض الذي يمكن أن يكون قائما بين الاشتراكية والإسلام في مبدأ كفالة الدولة لكل أفرادها ، وتقريب فوارق الفئات المختلفة من الناس ، لا يجوز أن ينسينا الاختلاف الجوهري في القاعدة التي يقوم عليها كل من النظامين, فضلا عن الاختلاف حتي في هذا الشبه العارض في تكل الجزئيات .
إن القضيتين الرئيسيتين في حياة الإنسان كما أشرنا إليهما وشرحنا هما من قبل هما هاتان القضيتان : قضية الألوهية وقضية الإنسانية ، وكل ما بقي من الأمور فهي أمور ثانوية بالنسبة لهاتين القضيتين ، أو هي امور تتفرع - تلقائيا - من هاتين القضيتين .
فأما المعبود في الشيوعية أو الاشتراكية فهو ليس الله قطعا بتصريحهم هم بأفواههم :" لا إله والكون مادة " (أي بلاخالق ) وقد يكون الإله عندهم هو المادة . أو هو الدولة . أو هو الحزب أو هو النظام . أو هو الزعيم . ولكنه علي أي حال ليس اله . ومن هنا يستحيل اللقاء بين النظامين مهما كانت الأشباه العارضة هنا أو هناك
وأما الإنسان فهذا وضعه في التصور الشيوعي وفي التطبيق
في التصور هو نتاج المادة ، وهو تلك الأداة السلبية التي تحركها الحتميات " مستقلة عن إرادتهم " ! وفي التطبيق هو تلك الاله المنتجة في قسم من الوقت ، وهو ذلك الحيوان الغليظ الحس في بقية الوقت ن وهو ذلك الصفر اللاشيئي في كل الوقت .. إلا أن يكون من الآلهة المحظوظين ، عضوا في الحزب علي أقل تقدير ، أو زعيما مقدسا علي أعلي تقدير !
أما ذلك الشبه العارض في مبدأ الكفالة الشاملة وتقريب الفوارق بين الناس فهو أولا لا يبرر اللقاء بين النظامين مع وجود ذلك الاختلاف الجوهري في قضية الألوهية وقصية إنسانية الإنسان ، وهو ثانيا شبه غير كامل حتي في الجزئيات .(42/96)
فالكفالة في الإسلام ليست مقابلا لتكليف الناس بالعمل علي طريقة من لا يعمل لا يأكل ، إنما هي حق إنساني بحت لكل من يحتاج إليه بسبب من الأسباب . وكفالة المرأة بالذات واجب مفروض في الإسلام علي الرجل لكي لا تنشغل أعصابها ولا يذهب جهدها في العمل خارج البيت علي حساب مهمتها العظمي في تنشئة الأجيال ، كما أن الكفالة تتم في الإسلام بغير إذلال الناس بلقمة الخبز ، ودون دكتاتورية الدولة التي ترهق القلوب وتخنق الانفاس .
إن الإسلام - دين الله الحق - قد فرض علي الدولة المسلمة كفالة كل فرد فيها يحتاج إلي كفالة .. وجعل مهمة بيت المال هي هذه الكفالة لمن يعجز عن كفالة نفسه بنفسه ، أو عجزت أسرته القريبة عن كفالته . وجعل المجتمع كله مكلفا بالآ يكون فيه محتاج (1) وقد أشرنا من قبل إلي قوله عمر رضي الله عنه ، التي عبر فيها عن مسئوليته لا عن الآدميين فحسب ، بل عن كل كائن حي يحتاج إلي الكفالة حيث قال : " لوعثرت بغلة ببغداد ( أو قال بصنعاء ) لكنت مسؤولا عنها لم لم أسو لها الطرق !
ولكن الإسلام في كفالته للناس لا يستذلهم بلقمة الخبز كما تصنع الشيوعية ن بل يكفلهم وهم كرماء علي أنفسهم وعلي الناس . فهو يكلف الدولة المسلمة بهذه الكفالة دون مقابل علي الإطلاق ، لا العمل ، ولا الخضوع المذل للحزب ولا الدولة ولا الزعيم !
__________
(1) راجع الحديث عن مسئوولية الدولة المسلمة في كفالة جميع أفراد المجتمع في الفصل السابق
إن المطلوب من المسلم - سواء كفلته الدولة أو كفل نفسه بنفسه أو كفلته أسرته أو كفله القادرون في المجتمع - أن يعبد الله وحده لا شريك . وأن يقيم دين الله في نفسه وفي مجتمعه بإقامة شريعة الله والحكم بما أنزل الله . والمطلوب منه - من بين المطلوبات - أن يكون رقيبا علي ولي الأمر ، لينظر هل قام بواجبه في إقامة الشريعة علي الوجه الصحيح أم انحراف في التطبيق !
ولقد كان سلمان الفارسي ممن تجري عليهم الدولة الإسلامية نصيبا من بيت المال .. هو الذي قال لعمر رضي الله عنه : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة حتي تبين لنا من اين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ! وهو كذلك الذي قال له : والله لو وجدنا فيك اعوجاحا لقومناه بحد السيف !
والإسلام يحض علي العمل بكل وسائل الحض ، ويوضح للناس أن الإنسان خلق ليقوم بعمارة الأرض ، وليمشي في مناكبها ويبتغي من رزق الله ، وأن العاطلين المتبطلين لا يحبهم الله ولا يحبهم رسوله صلى الله عليه وسلم . ومع ذلك فلا يجعل كفالة الدولة لأفرادها مقابل قيامهم بالعمل .. إنما مقابل إنسانيتهم فقط ومقابل حاجتهم ! فكون الإنسان إنسانا وكونه محتاجا إلي الكفالة هما كل مقومات كفالة الدولة للفرد في الإسلام وهذا هو الفرق بين فضل الله وكرمه وبين كزارة البشر حين يكون بأيديهم المال والسلطان !
{قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً (100)} [سورة الإسراء 17/100]
ثم إن الإسلام في كرمه وتفصله في حض علي العمل ، نعم ولكنه لم يحوج المرأة إلي العمل خارج البيت من أجل أن تحصل علي لقمة الخبز ! بل قرر لها الكفالة الكاملة وهي مستقرة في بيتها ، عاملة فية، قائمة بأنبل مهمة يقوم بها البشر في الأرض ، وهي تنشئة الجيل الناشئ ليخرج إلي الحياة سويا مستقيما علي أمر الله .
فإين هذا من إكراه المرأة علي العمل خارج البيت في كنس الشوارع وحمل الأمتعة في المطارات ومحطات السكك الحديدية تحت هذا التهديد المرعب : من لا يعمل لا يأكل !
وهذا فضلا عما في إخراجها من مهمتها الفطرية من إفساد للفطرة وإفساد للنشء وإفساد للأخلاق!
وامر أخر يأتي بهذه المناسبة تتضح لنا حكمته في الإسلام علي ضوء ما وقع في التطبيق الشيوعي
لقد قرر الإسلام مبدأ الملكية الفردية تقرير واضحا لا شبهة فيه ، وإن كان قد وضع للملكية حدودا كثيرة تحقق الخير وتمنع الشر . وللإسلام حكمته - بل حكمة في إقرار الملكية الفردية علي هذا النحو / ولكن حكمة معينة تبدو لنا الآن من خلال التطبيق الشيوعي ربما لم تكن واضحة للناس من قبل ، هي حرص الإسلام علي أن تكون أرزاق الناس بأيدهم - علي قدر الإمكان - لا بيد الدولة ! وذلك حتى لا يستذل الناس بلقمة الخبز ! فحين يكون العمل حرا ، والاسترزاق حرا لا يحس الناس بسطوة الدولة كما يحسون بها لو كانوا كلهم أجراء للدولة كما هو حالهم في الشيوعية .(42/97)
وصحيح أن أولي العزم من البشر لن يحسوا بالمذلة للدولة ولو كانت لقمة الخبز في أيديهم ولكن الإسلام في واقعيته لا يفترض في كل الناس أنهم من أولي العزم ، إنما يتعامل معهم بحسب واقعهم ، ويعلم أنهم عرضة للعضف أمام الضغوط الواقعة عليهم .لذلك جعل التكافل في الأسرة والمجتمع هو الأصل الكبير الذي تقوم عليه الحياة في المجتمع الإسلامي ، وجعل كفالة الدولة المباشرة هي الاحتياط الأخير الذي يسد الثغرات التي لم تستطع سدها الأسرة ولا المجتمع . ويظل الناس بعيدين عن سطوة الدولة بقدر الإمكان ليقوم التوازن السياسي في المجتمع الإسلامي ، ولي الأمر له علي الناس السمع والطاعة ، والناس لهم علي ولي الأمر النصحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي الرقابة علي تنفيذ شريعة الله
وعلي ضوء الخط المستقيم المتمثل في دين الله يبتين لنا مدي الانحراف في الجاهليات ، وفي الجاهلية الشيوعية بالذات .
أما تقريب الفوارق بين الناس فلا يتم في الإسلام بمصادمة الفطرة وقتل الحافظ الفردي
إنما الإسلام دين الفطرة يتمشي معها ويرفعها إلي أقصي ما تطيق من درجات الرفعة ولكن دون مصادمة لا تجاهاتها الأصلية . ونم ثم لا يلغي الإسلام الملكية الفردية إنما ينظمها علي الوجه الذي تستجيب فيه للفطرة دون أن يترتب عليها الشر ، ثم يضع في يد ولي الأمر الصلاحية الدائمة لتصحيح الأوضاع إذا اختلت رغم كل التنظيمات والترتيبات .
وتنظيمات الإسلام وترتيباته تتضمن أولا نظافة الوسائل التي يحصل بها الإنسان علي المال ، فلا غصب ولا نهب ولا سرقة ولا غش ولا ربا ولا احتكار ولا أكل حق الأجير .
وتتضمن ثانيا تزكية المال بإخراج زكاته التي توضع في بيت المال لتقوم الدولة منها - ومن الموارد الأخري المشروعة - بكفالة من يحتاج إلي الكفالة من الناس .
وتتضمن ثالثا ضرورة انفاق المال وعدم حبسه عن التداول ، فإما أن يوظف المال في عمل نافع فيستفيد منه المجتمع ويستفيد منه الأفراد الذين يعملون فيه /، وإما أن ينفق إنفاقا مباشرا في أبواب الانفاق التي شرعها الله ، بما يحقق كفالة القادرين لغير القادرين في المحتمع .
وتتضمن رابعا تحريم الانفاق في المعصية ، وكراهة الإنفاق في الترف والسرف كراهة تشبه التحريم
وتتضمن خامسا تنظيما دقيقا للمواريث يفتت الثروة علي الدوام ويعيد توزيعها في كل جيل
وأخيرا تقرر الشريعة مبدأ " لا ضرر ولا ضرار " .. فتضع في يد ولي الأمر سلطة التصحيح كلما وقع ما يوجب التصحيح دون مصادمة للفطرة ولا إعنات للناس
وليس هنا مجال التفصيل ، إنما يطلب ذلك في الكتب المتخصصة في هذه الأمور ، ولكن تكفينا هذه الخطوط العريضة لبيان الفارق بين الإسلام والشيوعية ا, الاشتراكية حتي في المواطن التي يبدو فيها وجود شبه عارض في بعض الجزئيات
إن الإسلام نظام متكامل ، وأجهزته كلها تعمل من داخله ، وتعمل بواسائله الذاتية وليس في حاجة أني ستعير أجهزة أجنبية عنه ، ولا في الإمكان تركيب هذه الأجهزة الأجنبية لتدور معه في دائرته ، لأنها من مقاس غير مقاسه ، وتعمل علي قاعدة غير قاعدته
ليس الإسلام نظاما اشتراكيا كما أنه ليس راسماليا ولا ديمقراطيا ..
الإسلام هو الإسلام .. هو هو كما انزله الله
وإذا كنا نعتقد بصدق - أن الاشتراكية تحمل مشابه من الإسلام في بعض النقاط ، فلماذا نأخذها من الاشتراكية ولا نأخذها من الإسلام ؟!
فلنكن صرحاء مع أنفسنا ، ولننف الهزيمة الداخلية من أرواحنا - أيا كانت أسبابها - ولنطلب الإسلام باسم الإسلام ن فهذا هو الإسم الذي قرره الله من فوق سبع سماوات {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [سورة آل 3/19]
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)} [سورة آل 3/85]
====================(42/98)
(42/99)
الشيوعية الماركسية واهم رموزها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء المرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه ومن اقتفى اثره الى يوم الدين اما بعد
فهذه بعض السطور انقلها لكم عن الشيوعيه الماركسية واهم الشخصيات الشيوعيه لمن لا يعرف حقيقة هذا الدين
التعريف :
الشيوعية مذهب فكري يقوم على الإلحاد وأن المادة هي أساس كل شيء ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي. ظهرت في ألمانيا على يد ماركس وإنجلز، وتجسدت في الثورة البلشفية التي ظهرت في روسيا سنة 1917م بتخطيط من اليهود، وتوسعت على حساب غيرها بالحديد والنار. وقد تضرر المسلمون منها كثيراً، وهناك شعوب محيت بسببها من التاريخ، ولكن الشيوعية أصبحت الآن في ذمة التاريخ، بعد أن تخلى عنها الاتحاد السوفيتي، الذي تفكك بدوره إلى دول مستقلة، تخلت كلها عن الماركسية، واعتبرتها نظرية غير قابلة للتطبيق
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= وضعت أسسها الفكرية النظرية على يد كارل ماركس اليهودي الألماني ولد سنة 1818 ومات سنة 1883م وهو حفيد الحاخام اليهودي المعروف مردخاي ماركس، وكارل ماركس شخص قصير النظر متقلب المزاج، حاقد على المجتمع، مادي النزعة، ومن مؤلفاته:
- البيان الشيوعي الذي صدر سنة 1848م.
- رأس المال ظهر سنة 1867م.
= ساعده في التنظير للمذهب فردريك إنجلز ولد سنة 1820 ومات سنة 1895م وهو صديق كارل ماركس الحميم وقد ساعده في نشر المذهب كما أنه ظل ينفق على ماركس وعائلته حتى مات، ومن مؤلفاته:
- أصل الأسرة.
- الثنائية في الطبيعة.
- الاشتراكية الخرافية والاشتراكية العلمية.
= لينين: واسمه الحقيقي: فلاديمير أليتش بوليانوف، وهو قائد الثورة البلشفية الدامية في روسيا 1917م ودكتاتورها المرهوب، وهو قاسي القلب، مستبد برأيه، حاقد على البشرية. ولد سنة 1870م، ومات سنة 1924م، وهناك دراسات تقول بأن لينين يهودي الأصل، وكان يحمل اسماً يهوديًّا، ثم تسمى باسمه الروسي الذي عرف به مثله مثل تروتسكي في ذلك.
- ولينين هو الذي وضع الشيوعية موضع التنفيذ وله كتب كثيرة وخطب ونشرات أهمها ما جمع في ما يسمى مجموعة المؤلفات الكبرى.
= ستالين: واسمه الحقيقي جوزيف فاديونوفتش زوجا شفلي ولد سنة 1879 ومات سنة 1954م وهو سكرتير الحزب الشيوعي ورئيسه بعد لينين، اشتهر بالقسوة والجبروت والطغيان والدكتاتورية وشدة الإصرار على رأيه، يعتمد في تصفية خصومه على القتل والنفي كما أثبتت تصرفاته أنه مستعد للتضحية بالشعب كله في سبيل شخصه. وقد قيل ان زوجته قد ناقشتة مرة فقتلها.
= تروتسكي: ولد سنة 1879م واغتيل سنة 1940م بتدبير من ستالين، وهو يهودي واسمه الحقيقي بروشتاين. له مكانة هامة في الحزب وقد تولى الشؤون الخارجية بعد الثورة ثم أسندت إليه شؤون الحزب.. ثم فصل من الحزب بتهمة العمل ضد مصلحة الحزب ليخلو الجو لستالين الذي دبر اغتياله للخلاص منه نهائياً.
الأفكار والمعتقدات :
= إنكار وجود الله تعالى وكل الغيبيات والقول بأن المادة هي أساس كل شيء وشعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين، ونكفر بثلاثة: الله، الدين، الملكية الخاصة، عليهم من الله ما يستحقون.
= فسروا تاريخ البشرية بالصراع بين البرجوازية والبروليتاريا (الرأسماليين والفقراء) وينتهي هذا الصراع حسب زعمهم بدكتاتورية البروليتاريا.
= يحاربون الأديان ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب وخادماً للرأسمالية والإمبريالية والاستغلال مستثنين من ذلك اليهودية لأن اليهود شعب مظلوم يحتاج إلى دينه ليستعيد حقوقه المغتصبة!!
= يحاربون الملكية الفردية ويقولون بشيوعية الأموال وإلغاء الوراثة.
= تتركز اهتماماتهم بكل ما يتعلق بالمادة وأساليب الإنتاج.
= إن كل تغيير في العالم في نظرهم إنما هو نتيجة حتمية لتغيّر وسائل الإنتاج وإن الفكر والحضارة والثقافة هي وليدة التطور الاقتصادي.
= يقولون بأن الأخلاق نسبية وهي انعكاس لآله الإنتاج.
= يحكمون الشعوب بالحديد والنار ولا مجال لإعمال الفِكر، والغاية عندهم تبرر الوسيلة.
= يعتقدون بأنه لا آخرة ولا عقاب ولا ثواب في غير هذه الحياة الدنيا.
= يؤمنون بأزلية المادة وأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأول للأفراد والجماعات.
= يقولون بدكتاتورية الطبقة العاملة ويبشرون بالحكومة العالمية
= تؤمن الشيوعية بالصراع والعنف وتسعى لإثارة الحقد والضغينة بين العمال وأصحاب الأعمال.
= الدولة هي الحزب والحزب هو الدولة.
= تكون المكتب السياسي الأول للثورة البلشفية من سبعة أشخاص كلهم يهود إلا واحداً وهذا يعكس مدى الارتباط بين الشيوعية واليهودية.
= تنكر الماركسية الروابط الأسرية وترى فيها دعامة للمجتمع البرجوازي وبالتالي لا بد من أن تحل محلها الفوضى الجنسية.(42/100)
= لا يحجمون عن أي عمل مهما كانت بشاعته في سبيل غايتهم وهي أن يصبح العالم شيوعياً تحت سيطرتهم. قال لينين: »إن هلاك ثلاثة أرباع العالم ليس بشيء إنما الشيء الهام هو أن يصبح الربع الباقي شيوعيًّا«. وهذه القاعدة طبقوها في روسيا أيام الثورة وبعدها وكذلك في الصين وغيرها حيث أبيدت ملايين من البشر، كما أن اكتساحهم لأفغانستان بعد أن اكتسحوا الجمهوريات الإسلامية الأخرى كبُخاري وسمرقند وبلاد الشيشان والشركس، إنما ينضوي تحت تلك القاعدة االإجرامية.
= يهدمون المساجد ويحولونها إلى دور ترفيه ومراكز للحزب، ويمنعون المسلم إظهار شعائر دينية، أما اقتناء المصحف فهو جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة سنة كاملة.
= لقد كان توسعهم على حساب المسلمين فكان أن احتلوا بلادهم وأفنوا شعوبهم وسرقوا ثرواتهم واعتدوا على حرمة دينهم ومقدساتهم.
= يعتمدون على الغدر والخيانة والاغتيالات لإزاحة الخصوم ولو كانوا من أعضاء الحزب.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= لم تستطع الشيوعية إخفاء تواطئها مع اليهود وعملها لتحقيق أهدافهم فقد صدر منذ الأسبوع الأول للثورة قرار ذو شقين بحق اليهود:
- يعتبر عداء اليهود عداء للجنس السامي يعاقب عليه القانون.
- الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي في فلسطين.
= يصرح ماركس بأنه اتصل بفيلسوف الصهيونية وواضع أساسها النظري هو موشيه هيس أستاذ هرتزل الزعيم الصهيوني الشهير.
- جدُّ ماركس هو الحاخام اليهودي المشهور في الأوساط اليهودية مردخاي ماركس.
= تأثرت الماركسية إضافة إلى الفكر اليهودي بجملة من الأفكار والنظرات الإلحادية منها:
- مدرسة هيجل العقلية المثالية.
- مدرس كونت الحسية الوضعية.
- مدرسة فيورباخ في الفلسفة الإنسانية الطبيعية.
- مدرسة باكونين صاحب المذهب الفوضوي المتخبط.
الانتشار ومواقع النفوذ:
= حكمت الشيوعية عدة دول منها:
- الاتحاد السوفيتي، الصين، تشيكوسلوفاكيا، المجر، بلغاريا، بولندا، ألمانيا الشرقية، رومانيا، يوغسلافيا، ألبانيا، كوبا.
ومعلوم أن دخول الشيوعية إلى هذه الدول كان بالقوة والنار والتسلط الاستعماري. ولذلك فإن جل شعوب هذه الدول أصبحت تتململ بعد أن عرفت الشيوعية على حقيقتها وأنها ليست الفردوس الذي صور لهم وبالتالي بدأت الانتفاضات والثورات تظهر هنا وهناك، كما حدث في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، كما أنك لا تكاد تجد دولتين شيوعيتين في وئام دائم.
= أما في العالم الإسلامي فقد استفاد الشيوعيون من جهل بعض الحكام وحرصهم على تدعيم كراسيهم ولو على حساب الدين، إذ اكتسحت الشيوعية أفغانستان وشردت شعبها المسلم كما تحكمت في بعض الدول الإسلامية الأخرى بواسطة عملائها.
= تقوم الدول الشيوعية بتوزيع ملايين الكتيّبات والنشرات مجاناً في كافة أنحاء العالم داعية إلى مذهبها.
= أسست الشيوعية أحزاباً لها في كل الدول العربية والإسلامية تقريباً فنجد لها أحزاباً في مصر، سورية، لبنان، فلسطين، والأردن، تونس واليمن الجنوبي (سابقا) وغيرها.
= إنهم يؤمنون بالأممية ويسعون لتحقيق حلمهم بالحكومة العالمية التي يبشرون بها.
انهيار الماركسية:
= انهارت الشيوعية في معاقلها بعد قرابة السبعين عاماً من قيام الحكم الشيوعي وبعد أربعين عاماً من تطبيق أفكارها في أوروبا الشرقية وأعلن كبار المسؤولين في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه أن الكثير من المبادىء الماركسية لم تعد صالحة للبقاء وليس بمقدورها أن تواجه مشاكل ومتطلبات العصر الأمر الذي تسبب في تخلف البلدان التي تطبق هذا النظام عن مثيلاتها الرأسمالية. وهكذا يتراجع دعاة الفكر المادي الشيوعي عن تطبيقه لعدم واقعيته وتخلفه عن متابعة التطور الصناعي والعلمي وتسببه في تدهور الوضع الاقتصادي وهدم العلاقات الاجتماعية وإشاعة البؤس والحرمان والظلم والفساد ومصادمة الفطرة ومصادرة الحريات ومحاربة الأديان. وقد تأكد بوضوح بعد التطبيق لهذه الفترة الطويلة أن من عيوب الماركسية أنها تمنع الملكية الفردية وتحاربها وتلغي الإرث الشرعي وهذا مخالف للفطرة وطبائع الأشياء ولا تعطي الحرية للفرد في العمل وناتج العمل ولا تقيم العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع وأن الشيوعي يعمل لتحقيق مصلحته ولو هدم مصالح الآخرين وينحصر خوفه في حدود رقابة السلطة وسوط القانون وأن الماركسية تهدم أساس المجتمع وهو الأسرة فتقضي بذلك على العلاقات الاجتماعية.
- اقتنع الجميع بأنها نظرية فاسدة يستحيل تطبيقها حيث تحمل في ذاتها بذور فنائها وقد ظهر لمن مارسوها عدم واقعيتها وعدم إمكانية تطبيقها ومن أكبر ناقدي الماركسية من الماركسيين أنفسهم الفيلسوف الأمريكي أريخ مزوم في كتابه المجتمع السليم، ومن غير الماركسيين كارل بوبر صاحب كتاب المجتمع المفتوح، وغيرهما، ويجيء جورباتشوف كتابه البيروسريكا أو إعادة البناء ليفضح عيوب تطبيق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي.(42/101)
وتبين بعد انهيارها أنها لم تفلح في القضاء على القوميات المتنافرة بل زادتها اشتعالاً ولم تسمح بقدر ولو ضئيل من الحرية بل عمدت دائماً إلى سياسة الظلم والقمع والنفي والقتل وحولت أتباعها إلى قطيع من البشر. وهكذا باءت جميع نبوءات كارل ماركس بالفشل وأصبح مصير النظرية إلى مزبلة التاريخ، ثم انتهى الأمر بتفكك الاتحاد السوفيتي ذاته، وأصبح اسمه مجرد أثر في تاريخ المذاهب الهدامة.
ويتضح مما سبق:
أن الشيوعية مذهب إلحادي يعتبر أن الإنسان جاء إلى هذه الحياة بمحض المصادفة وليس لوجوده غاية وبذلك تصبح الحياة عبثاً لا طائل تحته ويحرم معتنقها من سكينة النفس ونعيم الروح ومن ثم فلا يمكن أن يجتمع الإسلام والماركسية في قلب رجل واحد لأنهما متناقضان كل التناقض في العقيدة والفكر والمنهج والسلوك.
-----------------------
مراجع للتوسع :
- بلشفة الإسلام، د. صلاح الدين.
- حقائق الشيوعية، نهاد الغادري.
- الشيوعية والشيوعيون في ميزان الإسلام، د. عبد الجليل شلبي.
- السراب الأكبر، أسامة عبد الله الخياط.
- المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة.
- حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون، عبد الحليم خفاجي.
- لهذا نرفض الماركسية، د. عبد الرحمن البيضاني.
- الشيوعية وليدة الصهيونية، أحمد عبد الغفور عطار
===============(42/102)
(42/103)
أبناؤنا في ظل الواقع المفتون
يقول صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع به شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ) رواه البخاري...
فتنٌ كقطع الليل المظلم، تُحيط بنا من كل جانب، وتُعرضُ علينا ليل نهار..
مُلهياتٌ ومحرمات... مُستنقعاتٌ للشهوات... محطاتٌ ممقوتة وفضائيات...تنشر شباكها هنا وهناك... جميعها يستهدف عقول شبابنا وفتياتنا.
وفي ظل هذه الفتن ، يقف الكثير منّا حائراً متسائلاً :
* كيف نربي أبنائنا تربية أسلامية صحيحة في ظل هذا الواقع المفتون...؟
* كيف يمكن أن نُنشئ جيلاً قوياً بعزيمته وأرادته وعقيدته كجيل علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وأرضاهم....؟؟
* كيف نبث حمل هم الإسلام، وحمل لوائه في نفوس أبنائنا...؟؟
أسئلة تطول ..... وفي هذا اللقاء نحاول أن نُجيب على بعضاً منها سائلين الله النفع والفائدة للجميع.....
ويسعدنا أن تكون ضيفتنا الأستاذة / أحلام الضبيعي ، محاضرة في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود...
************
س1- ما هي أنواع الفتن......وأيهما أشد ضرراً على الأبناء..؟؟
للفتن أنواع كثيرة ، وقد ورد ذكر الفتن في كثير من أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ، والملاحظ في هذه الأحاديث أنه قد ذكر فيها أمهات الفتن التي تكون في كل زمان ، وتندرج تحتها فتن فرعية تخرج بأثواب جديدة في كل زمان .
من أبرز الفتن المنتشرة في زماننا هذا : فتنة المال - فتنة الصحة والجمال - فتنة الفراغ - فتنة الانفتاح الثقافي والفكري ( العولمة ) ، وهذه الأخيرة هي أخطر فتنة على الأبناء إذا انضمت إليها الفتن السابقة .
************
س2- عقيدة هذا الجيل هشة...سهلة الانكسار والتغير....عكس ما عليه جيل الصحابة والسلف الصالح......فما الأسباب؟؟
الأسباب كثيرة في ذلك لعل من أبرزها :
1) ضعف الوازع الديني لدى بعض المجتمعات .
2) قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
3) الزهد في تعلم العلم الشرعي والتوجه إلى العلوم الدنيوية البحتة بحجة أنها أضمن للمستقبل كما يزعمون .
4) تساهل الوالدين وغلبة العاطفة عليهما بحيث لا ينكران على الأبناء سوء التصرف وقلة الاهتمام بالدين .
5) عدم الحرص على تعليم الأبناء العقيدة وأمور الدين.
6) الثقة العمياء التي يوليها الوالدان للأبناء والدفاع الضاري عنهما إذا بدر منهما أمور تخل بالدين والحياء.
************
س3- تعزيز المفهوم العقدي مطلوب من الآباء تجاه أبنائهم..... في نظرك متى يبدأ الآباء بتطبيق هذا المفهوم على الأبناء؟؟
يجب أن يبدأ تطبيق المفهوم العقدي منذ الصغر أي منذ أن يبدأ الطفل بنطق بعض الحروف والكلمات يحاول الوالدان أن يلقناه الشهادة باستمرار لأن الطفل وهو صغير يكون مستعدا للتلقين فيستقبل كل ما يعطى سواء كان خيرا أو شرا ولا يسأل عن المعاني والأسباب ، خاصة في فترة السنتين إلى الخمس سنوات على العكس من الطفل من سن ست سنوات فما فوق فإنه في هذا السن يبدأ بالسؤال عن كل شيء خاصة إذا كان مستوى ذكاؤه مرتفع.
************
س4- ما هي الأساسيات التي لا بُد من الوالدين أن يُزودا بها أبنائهم منذ بداية نشأتهم؟؟
الأساسيات هي ما أمرنا به الرسو صلى الله عليه وسلم من التأذين في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى ، وعدم الكذب عليه حتى لا يتعلم هذا الخلق الذميم وأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وضربه عليها إذا بلغ العاشرة ولم يحافظ عليها ، والتفريق بين الأبناء في المضاجع ، وآداب الاستئذان ، وتعليمه أساسيات العقيدة ( من ربك ما دينك من نبيك ) ، أين الله ، كل هذه الأمور التي كان الرسو صلى الله عليه وسلم يعلمها ويطبقها .
إضافة إلى عدم إيقاع الأبناء في الحيرة من أمرهم وذلك بسبب تناقض الوالدين فتجد بعض الآباء والأمهات يقولون ما لا يفعلون فيجب على الوالدين أن يعلما الأبناء ويطبقا في نفس الوقت حتى يرسخ المبدأ العقدي في ذهن الأبناء.
************
س5- كيف نتعامل مع الأخطاء والتجاوزات الشرعية التي تصدر من أبنائنا..؟؟
الأخطاء الشرعية إذا صدرت أول مرة من الأبناء فيجب التعامل معها بكل رفق فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه فيعلم الأبناء في البداية أن هذا العمل لا يجوز وأنه يغضب الله سبحانه وتعالى ويبين له ما هو الفعل البديل الذي يجب عليه أن يقوله أو يفعله لأن هذه الطريقة كان ينتهجها الرسو صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم مثل قوله : (( لا تقولوا ما شاء الله وشئت وقولوا ما شاء الله وحده )) ، هذا التصرف يقي الوالدين من سؤال ابنيهما : إذن ماذا أفعل أو ماذا أقول ؟
ومسألة مهمة أيضا يجب التنبيه لها وهي أن كل أب وأم لهما أن يعرفا ما هي طبيعة ابنيهما هل هو من النوع الذي يقبل النصح مباشرة ؟ أو أنه يتضايق من هذا الأمر فيضطر الوالدان أن ينتهجا مسلكا آخر في النصح والتوجيه كأسلوب القصة مثلا أو التلميح أو غير ذلك من الأساليب.(42/104)
ويبينا له أيضا أن كثيرا من الناس يقعون في أخطاء ولكنهم إذا علموا ووجهوا فإنهم يتراجعون ويتوبون إلى الله وإن الله يقبل توبة عباده ، وأن هذا الذنب إذا تركه وتاب منه فإنه لا يضره بإذن الله تعالى ، مع العلم أن الأبناء ليسو كلهم سواء فإن منهم من يتقبل بمجرد أن تنصح أمامه أحد ومنهم من يحتاج إلى النصح مرة ومنهم مرتين وهكذا .
************
س6- يعيش أبناء هذا الجيل في غمرةٍ من الفتن....وموجٌ من المغريات، كيف يمكن التصدي لها؟؟
هذا الأمر يتصدى له بالعلم الشرعي فنحرص كل الحرص على حث الأبناء على تعلم العلم الشرعي كعلم العقيدة وما يتبعه من علوم كتعلم المذاهب المعاصرة المخالفة للعقيدة الصحيحة ، وما هي بالتحديد نقاط المخالفة فيها حتى يحذروا ، فالأبناء يسمعون بالشيوعية والعولمة والليبرالية وغيرها من المذاهب الهدامة ولا يعلمون ما المراد بها ، لذا فإنه يجب إعطاء الابن نبذة تناسب سنه وفكره وعقله وفهمه وثقافته حتى يعرفها ويكون على حذر منها .
ثم يبدأ الابن - إذا كبر وكان ذكيا - يبحث هو بنفسه ويقرأ ويحذر.
ويجب أن يبين للابن أن أكثر هذه المذاهب تتوجه إلى طبقة الشباب في المجتمعات فتعرض لهم أفكارها الهدامة بطريقة مغرية حتى ينخدعوا وينضموا إليهم ويكونوا من دعاتهم وهم لا يعلمون.
************
س7- الفراغ....والتقليد الأعمى..... من المسائل التي لا يفقه ضررها الكثير....كيف عالجت الشريعة الإسلامية هذه المسائل؟؟
عالجت الشريعة هذه المسائل بالبيان والتوضيح والتحذير والتنبيه فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )) فبين r أن الفراغ نعمة من الله إلا أن صاحبها مغبون فيها أي مغلوب فيها وليس بغالب ففي ذلك حث على استغلال أوقات الفراغ لأنها لا تتوفر للمسلم في كل مرة وإذا توفرت فإنها قد تضره ولا تنفعه .
أما عن التقليد الأعمى فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه )) فهذا تحذير من تقليد الكفار بجميع أصنافهم لأن تقليدهم يؤدي إلى التشبه بهم في دينهم : (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )) .
************
س8- في زمن الانفتاح الفضائي...كيف يمكن أن نزرع في نفوس أبنائنا المراقبة الذاتية؟؟
بتذكيرهم بالجنة والنار، فعندما يتصور الابن نعيم الجنة، وعذاب جهنم فإنه سيبتعد تلقائيا عن هذه الأمور حتى لا يحرم نعيم الجنة ولا يعذب بنار جهنم.
كذلك يبين للابن بأن للمعصية شؤم في الحياة وإنه كلما زادت مراقبته لله بعدم النظر إلى هذه القنوات فإنه سيزداد توفيقا من الله وهداية ورزقا وصلاحا.
************
س9- يبرر بعض الشباب والفتيات أن ما يقعون فيه من تجاوزاتٍ شرعية يعود سببها للمجتمع الزاخر بالفتن والتي طغت عليه من كل جانب....في حين يصعب عليهم مجاهدة النفس............ما رأيك في هذا التبرير؟؟
بالطبع هذا المبرر غير صحيح وإنما هو من أتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وضعف الوازع الديني وقلة مراقبة الله سبحانه أو انعدامها تماما عند بعض الشباب والفتيات .
************
س10- يُقال " أن الفتاة سريعة الانجذاب للمغريات أكثر من الشباب...لذا كانت الرقابة عليها أكثر من قِبل المجتمع".....هل هذه المقولة صحيحة...وإن كانت كذلك فما الأسباب....؟؟
هذه المقولة لا تؤخذ على إطلاقها فهي تصدق على شريحة معينة من الفتيات ولا تصدق على الباقيات الصالحات منهن ومعلوم أن الأصل في المرأة قرارها في البيت ، ولكن هذه المقولة لا تنطبق على الفتيات فقط بل تنطبق على شريحة معينة أيضا من الفتيان ، فكما أن الفتيات يحتجن إلى رقابة فكذلك الفتيان لأنهم سريعي الانجذاب للمغريات كذلك .
************
س11- كيف يمكن تحصين أبناؤنا ضد الفتن...بحيث نُنشئ جيلٌ مسلم، متمسك بهويته الإسلامية، ومُحبٌ لله ورسول صلى الله عليه وسلم ؟؟
نحصنهم بأن نعلمهم سير الصحابة نساء ورجالا خاصة الشباب منهم لبيان كيف أنهم كانوا على قوة كبيرة من الصمود أمام المغريات أو التهديد والوعيد كقصة سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير وخبيب بن عدي وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعا .
************
س12- رسالة توجهينها إلى:
• الآباء والأمهات.
• المعلمون والمربون.
• العلماء والدعاة.
الرسالة الأولى: إلى الآباء والأمهات:
الأب والأم هما الصرح التعليمي الأول الذي يتخرج منه الطفل إلى هذه الحياة فيجب عليهما أن يتقيا الله في جميع شؤون حياتهما حتى يسقيا تلك البذرة الصغيرة التي نشأت بينهما بالدين والصلاح والهداية وتطبيق كل ما أمر الله به سبحانه ورسول صلى الله عليه وسلم برعاية الطفل وتربيته .
الرسالة الثانية: إلى المربين والمعلمون:
إنهم الصرح التعليمي الثاني الذي يخرج إليه الطفل فينشأ بعد ذلك عضوا صالحا في المجتمع لأنهم يرون أمامهم معلمين صالحين ، فكم من شاب وفتاة تأثروا تأثرا كبيرا بمعلميهم أكثر من تأثرهم بوالديهم وهذا معروف ملموس في كثير من المجتمعات .
الرسالة الثالثة: إلى العلماء والدعاة:(42/105)
العلماء والدعاة نعمة من الله أنعم بها على عباده فهم الذين يعلمون الناس الخير والصلاح والاستقامة لذا فيجب عليهم التنبه والالتفات إلى شريحة الشباب والفتيات خاصة أكثر من غيرهم لأنهم هم الأكثر في المجتمعات الإسلامية لقول صلى الله عليه وسلم : (( نحن أمة فتية )) فهم دعاة وعلماء المستقبل فإذا صلحت هذه الشريحة صلح أكثر المجتمع وقل فيه الفساد والعصيان بإذن الله تعالى .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
************
ختاماً:-
نشكر الأستاذة / أحلام الضبيعي على ما أدلت به من توجيهاتٌ وفوائد في هذا اللقاء.
ولا ننسى أن الشباب والفتيات هم عماد هذه الأمة، فبصلاحهم تسير القافلة بأمان بإذن الله تعالى، ولذا أدرك الأعداء أهمية هذا، فأشهروا أسلحتهم ونشروها بكل ما لديهم من قوة...فعلى الوالدين أن يدركوا مهمتهم كمسؤلين ، وينجزوها بكل أمانة وصدق... ويقفوا كالحصن المنيع في وجه تيار الفتن والتي تقود أبناؤنا نحو الهاوية دون وعي أو تفكير....ولنتذكر قول الشاعر:
ومن رعى غنماً في أرض مضيعة
…
ونام عنها ، تولى رعيها الأسدُ !!!
================(42/106)
(42/107)
الحزبان الشيوعيان : المصري والعراقي
أ - الحزب الشيوعي المصري الموحد تأسس في يونيو عام 1957م ، وهو كما يقول عنه مكسيم رودنسون : حصيلة اندماج جماعات عدة من بينها "لحزب الشيوعي الموحد" ، وهذه بدورها حصيلة تاريخ معقد جداً ومضطرب. إن الزمر الشيوعية المصرية مزق بعضها بعضاً وفضح وشتم واتهم أحدها الآخر بأسوأ القبائح. لقد عرفت سلسلة لا تنقطع من الانشقاقات والتطهيرات والإندماجات الجزئية. لقد سعت أغلب الأحيان عبثاً إلى الاتصال بالأحزاب الشيوعية الخارجية الكبرى لكونها تكونت محلياً في إطار لا شرعية شبه دائمة. لقد كانت الأحزاب الخارجية تنظر عموماً بحذر وتعالٍ إلى هذه الزمر من المثقفين على أنهم بغير قاعدة ، لا إلى الإسلام ينتمون ولا مع الماركسية الشيوعية الخالصة يطبقون. ولقد حاولت العناصر الماركسية على ضوء مبادئ الماركسية العامة وتحليلاتها الخاصة للوضع المحلي أن تُكون لنفسها استراتيجية وتكتيكاً ، ولم يكن ذلك من دون مخاصمات عنيفة مع رموز الفكر الإسلامي وقياداته .
ومع كل ما تعرضت له الحركة الشيوعية من مقاومة في مصر بلد "الأزهر" والأصل فيه أنه مركز الإشعاع الإسلامي ، إلا أنه تشكلت في مصر حلقات ماركسية ومنظمات شيوعية أدت دوراً سيئاً في التاريخ الحديث لمصر ، فقد أسس اليهوديان "فيجدور" و"ناداب" وغيرهما عام 1942م "الحركة المصرية للتحرر الوطني" بالتعاون الوثيق مع اليهودي الإيطالي "هنري كورييل" الملقب باسم يونس ، وكانت هذه الحركة أهم المنظمات الشيوعية ، فقد حققت تعبئة ملحوظة في أوساط مثقفي وطلاب وعمال القاهرة ، كما أسس اليهود في "هيكل شفاتس" منظمة "الإيكسرا" الشيوعية ، وقد اتحدت هاتان المنظمتان سنة 1947م تحت اسم "الحركة الديمقراطية المصرية للتحرير الوطني" المعروفة باسم "حدتو" ، كما أسس اليهود المقيمون في مصر منظمات أخرى ، حتى بلغ عدد الواجهات الشيوعية في مصر 14 منظمة. ونتيجة لتعدد هذه المنظمات وتوزع جهودها ، فقد دعا الحزب الشيوعي الإيطالي سنة 1956م هذه المنظمات إلى الاتحاد بتوجيه من موسكو ، وبعد مفاوضات اتحدت هذه المنظمات في يناير سنة 1958م تحت اسم "الحزب الشيوعي المصري".
وكان من آثار هذه المنظمات الشيوعية على الساحة العربية الإسلامية :
أ- أن دعا بعض قادة "حدتو" أي المنظمة الشيوعية المصرية إلى تأييد إسرائيل لأنها تمثل ، في نظرهم ، أرقى مرحلة من مراحل التطور الإجتماعي وهي المرحلة الرأسمالية البرجوازية الديمقراطية ، في حين أن الدول العربية تمثل مرحلة العلاقات الإقطاعية .. وتعتبر هذه المنظمة أيضاً من أقوى المنظمات الشيوعية المصرية التي تدعو إلى الإخاء العربي - اليهودي وللصلح مع إسرائيل ولا عجب في ذلك ، فإن هذه الأحزاب الشيوعية في العالم العربي قد صاغتها أياد يهودية ، فضلاً عن أن الحزب الشيوعي الإسرائيلى وتلك المنظمات الشيوعية العربية كان مرجعها الحزب الشيوعي السوفييتي المنحل الذي كان تشكل على أيدى اليهود.
ب- من آثار الأحزاب الشيوعية في مصر أن بصماتها في تطوير الأزهر في بداية الستينات كانت واضحة .. حتى وصل بها الأمر إلى إدخال تعديلات في نظام الأزهر ، فلم تقتصر علومه على الدراسات الإسلامية فحسب ، بل انتهى الأمر إلى محاولات إدخال الدراسات الماركسية الإشتراكية في صلب دروس كلية أصول الدين ، لولا صمود بعض الرموز الإسلامية مثل الدكتور محمد البهي رحمه الله في كتابه "تهافت الفكر المادي والتاريخي بين النظرية والتطبيق" وقد صدر في ذروة المد الماركسي على مصر عام 1961م.
جـ- وكان من آثار الشيوعية أيضاً على مصر محاولة "بلشفة الإسلام" وإبراز التضليل الإشتراكي ... وذلك بمحاولة صبغ الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية بصبغة الإشتراكية العلمية أي الماركسية ، وكان "الميثاق" البشري يحل محل القرآن الرباني حتى صار مادة أساسية في المدارس والجامعات .. فضلاً عن ذلك ، فقد أنشأ الاتحاد الاشتراكي آنذاك المعاهد الإشتراكية ومعسكرات الشباب ، التي تخرج الشباب الصالح للتوجيه في التنظيم المدعو منظمة الشباب الإشتراكي ، وأحيط المنتسبون إلى هذه المعاهد والمعسكرات بالرعاية الكاملة ، وكوفئ الممتازون منهم بإعطائهم فرص التفرغ السياسي .. وفي ظل هذه الظروف لقنت الماركسية تحت شعار "الإشتراكية العربية العلمية" فأفرزت الشيوعية في مصر في الستينات على وجه الخصوص فكراً ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ممسوخاً عن دين الله ، وإن تسمى باسمه وتستر تحت غطائه ، وكانت تلك الأساليب التي عبر بها الحزب الشيوعى المصري ومعه اليسار من أقوى وسائل التعبير القولية والفعلية في خصومتها للإسلام وأهله .
ب- الحزب الشيوعي العراقي :(42/108)
كما كان الحزب الشيوعي المصري منطلقاً وممارسة يمثل نوعاً ممن الخصومة الفكرية والعقدية للإسلام في مصر عبر أساليبه القولية والعملية ، نشأ كذلك الحزب الشيوعي في العراق . فقد تأسس هذا الحزب الشيوعي العراقي سنة 1934م على أيدي اليهود أمثال : صديق يهودا وساسون دلال ويعقوب كومبجان وغيرهم من العرب ، وكان هذا الحزب في العراق كغيره من الأحزاب الشيوعية العربية يجد له مرتعاً بين الأقليات غير المسلمة ، وعلى الأخص لدى اليهود القاطنين في تلك البلاد . وكان يعبر عن أفكاره ومعتقداته في مواقف كثيرة بالرأي والعمل، يقول أحد القادة في العراق : وكذلك كان الحزب الشيوعي في العراق كغيره من الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية بل في جميع أنحاء العالم ، يعطف على قضايا اليهود الاستيطانية وعلى الأخص في القضية الفلسطينية ... ويدلل على قوله هذا فيقول : ففي العراق أصدر الحزب الشيوعي عدة بيانات إبان الحرب عام 1948م ، يؤيد فيها التقسيم ويطالب بالكف عن التدخل العسكري ، والصلح مع إسرائيل ، وقد خرجت إحدى مظاهرات الحزب تهتف بحياة الصداقة العربية اليهودية وبنضال إخواننا اليهود بتقديمها عربياً ويهودياً متلازمين يداً بيد تمثيلاً للصداقة .. حتى طالبت إحدى بيانات الحزب الإعتراف بإسرائيل .
( المرجع : " الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين ، د / صابر طعيمة ، ص 344-347)
================(42/109)
(42/110)
الصين وأفريقيا من الثورية الشيوعية إلى الواقعية الاقتصادية
جمال الدرواني
24 محرم 1428هـ الموافق له 11- 2- 2007م
"جينتاو يستكمل مشروع تمدّد الصين بأفريقيا" لم تجد شبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية أبلغ من هذا التعبير لوصف زيارة الرئيس الصيني هو جينتاو للقارة السمراء، والتي شملت 8 دول هي: الكاميرون وليبيريا، والسودان وزامبيا، وناميبيا وجنوب أفريقيا، وموزمبيق وجزر سيشل خلال الفترة من 30 يناير حتى 10 فبراير 2007م.
وبالنظر إلى الجولة الأفريقية للرئيس للصيني يمكن القول: إنها تستكمل مرحلة الواقعية السياسية التي تنتهجها بكين حالياً، والتي تخلصت إلى حد كبير من الإرث الشيوعي الذي كان يعتمد في السابق على نشر الأفكار الثورية، متخذة من البرجماتية السياسية منهجاً تصيغ من خلاله علاقتها الخارجية بما يتماشى مع المصلحة الاقتصادية للصين.
أفريقيا بين الرجل الأبيض والأصفر:
كما كانت القارة السمراء في السابق المعين الذي لا ينضب للرجل الأبيض الذي نهب ثرواتها المادية والبشرية في فترة التمدد الامبريالي، والتي نجح خلالها في بناء امبراطوريته العسكرية والاقتصادية؛ فإن القارة نفسها باتت هي الأخرى محط أنظار التنين الأصفر الجديد الذي يسعى هو أيضاً للتوسع في القارة السمراء ليس لإقامة امبراطورية اقتصادية فقط، ولكن لإقامة توازن سياسي واقتصادي مع القطب الأمريكي.
غير أن القارة السمراء تبدو متنبهة هذه المرة ليس لوقف التمدد الصيني؛ ولكن من أجل إقامة علاقات متوازنة تنتقل خلالها القارة السمراء من مستودع مواد خام إلى كيان اقتصادي مستقل، هذا الأمر عبر عنه رئيس جنوب أفريقيا ثابو مبيكي الذي حذر من إمكانية "استعمار" أفريقيا.
وفي تصريحات له في شهر ديسمبر 2006 قال مبيكي: إن "الخطر الكامن" يتمثل في ظهور "علاقات غير متكافئة بين الصين وأفريقيا" مثل تلك التي كانت في الماضي بين الدول الأفريقية والقوى التي استعمرتها، فليس من المطلوب أن تأتي الصين إلينا "لتنقب عن مواد خام، ثم تذهب لتبيع لنا سلعاً مصنعة".
رسالة مبيكي وجدت آذاناً صاغية من قبل الصينيين، الذين ردوا على لسان الرئيس هو جينتاو بالقول: "الصينيون أمة محبة للسلام، نعيش في تعاون وتجانس بين الأمم، ونعتقد أن القوي والغني يجب ألا يستأسد على الضعيف والفقير"، وأوضح "جينتاو" أن "الصين لم تفرض إرادتها أبداً أو ممارسات غير منصفة على الدول الأخرى، ولن تفعل ذلك أبداً في المستقبل"، مضيفاً "وبالتأكيد لن نقدم على أي شيء يضر بمصالح أفريقيا أو شعوبها".
الفقرة الأخيرة من كلام جينتاو يمكن القول أنها تمثل في حقيقة الأمر جوهر السياسة الصينية التي تجاوزت مرحلة الثورية الشيوعية إلى الواقعية الاقتصادية، والتي تعني في الأساس التخلي عن نشر الأفكار، والتركيز على إقامة علاقات متوازنة مع واشنطن من خلال البحث عن منطقة صراع جديدة بعيدة إلى حد ما عن الهيمنة الأمريكية.
كما أن منطقة الصراع الجديدة يفترض بها أن تحوي بداخلها إمكانات مادية واقتصادية تمثل احتياطي استراتيجي من المواد الخام الرئيسية التي تعتمد عليها عجلة الاقتصاد الصيني الذي حقق في عام 2006م معدل نمو يناهز 10.7%، وهو الأكبر منذ 1995م.
هذا النمو جعل بكين في حاجة إلى أسواق جديدة قادرة على استيعاب جزء من الصادرات الصينية، إضافة لحاجة الآلة الصناعية الصينية للمزيد من المواد الخام التي بدأت تتوافر في القارة الأفريقية بكثرة.
مصالح أفريقية:
المتابع لجولة الرئيس الصيني الأخيرة للقارة السمراء يلاحظ أنها اشتملت على عدد من الدول المتهمة من قبل الغرب بانتهاك حقوق الإنسان، أو تخضع لأنظمة سياسية غير منتخبة بصورة ديمقراطية، وهنا يتجلى بوضوح طبيعة العلاقة التي تربط بكين بدول القارة، حيث أن الصين بدأت ما يمكن تسميته بالمتاجرة السياسية وذلك من خلال اللعب بورقة مقعدها الدائم في مجلس الأمن الذي يمكنها من تعطيل الضغوط، ومشاريع القرارات الغربية ضد الدول الأفريقية المستهدفة من قبل الغرب.
وهذا ما تم على سبيل المثال مع السودان، حيث لجأت الصين في مرات عديدة إلى التهديد باستخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن ضد قرارات بفرض عقوبات على الخرطوم بشان إقليم دارفور، في مقابل هذا الضغط تحصل بكين على أثمان اقتصادية عبر عطاءات ومشاريع في القارة الأفريقية خاصة في مجال التنقيب عن النفط، وهو ما رحبت به الدول الأفريقية التي وجدت في تنامي النفوذ الصيني أمراً يصب في مصلحتها، حيث يتيح لها متنفساً دولياً بعيداً عن مشاريع الهيمنة الغربية التي تطالب باستحقاقات سياسية وحقوقية ليست مطروحة الآن على أجندة النظم والنخب الحاكمة في القارة السمراء.
كما استفادت دول القارة الأفريقية من علاقاتها مع بكين، فمنذ إقامة "منتدى التعاون بين الصين وأفريقيا" في عام 2000م دخل التعاون الاستثماري والتجاري بينهما عهداً جديداً مع تحقيق تنمية شاملة وسريعة ومستقرة، حيث زاد حجم التجارة ليصل إلى 39.7 مليار دولار أمريكي في عام 2005م بعد أن كسر علامة الـ10 مليارات دولار في عام 2000م.(42/111)
وبالإضافة إلى هذا ألغت الصين ديوناً قيمتها 10.9 مليار يوان (1. 38 مليار دولار أمريكي) عن 31 دولة فقيرة مثقلة بالديون ودولة أقل تقدماً في أفريقيا، وقدمت معاملة تعريفة تصل إلى الصفر لبعض الواردات من أفريقيا، كما ساعدت بكين (بحسب وكالة شينخوا) في إقامة ما يقرب من 900 مشروع في أفريقيا، وفى تدريب حوالي 14600 موظف في مختلف المجالات.
مخاوف غربية:
هذا التمدد الصيني لم يكن له أن يمر دون أن يثير مخاوف دول الغرب، والذي كال اتهامات كثيرة للصين من خلال مدير البنك الدولي بول وولفويتز الذي حمل على بكين لعدم احترامها المعايير البيئية في إقراضها أفريقيا.
وفي مقابلة نشرتها صحيفة "ليزيكو" الفرنسية بتاريخ 24 أكتوبر 2006 أفاد وولفويتز بوجود أضرار بيئية على علاقة بمشاريع صينية لاستغلال مواد أولية، مشيراً إلى أن قلقه في هذا الشأن يتناول مجمل أفريقيا، على المنوال نفسه حذرت كارين كورتمان وزيرة الدولة البرلمانية في وزارة التنمية الألمانية في تصريح لها بتاريخ 17 نوفمبر 2006 من مخاطر أن تصبح الدول الأفريقية "مستعمرات صينية" إذا ما أهملت الإصلاحات الديمقراطية والحكم الرشيد عند قيامها بأعمال تجارية مع بكين، وقالت كورتمان: إن على الأفارقة الحذر من أنهم يواجهون عملية استعمارية جديدة!.
ألمانيا التي حذرت من الاستعمار الصيني الجديد أكدت في الوقت ذاته أنها ستضع أفريقيا على قمة أجندتها عند تسلمها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الأول من العام الجاري!، أما واشنطن فقد لجأت في صراعها مع بكين إلى وسيلتين الأولى التشهير بالسياسية الصينية، حيث أبدت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش قلقها من أن الصين تخطب ود دول وصفها بـ"المارقة" في أفريقيا مثل: السودان وزيمبابوي، وتتجاهل سجلات انتهاكات حقوق الإنسان في هذه الدول لصالح علاقات اقتصادية أوثق.
الأمر الثاني هو قيام واشنطن بإعادة صياغة علاقتها مع دول وأنظمة القارة، وذلك استجابة لتقارير المؤسسات الأمريكية، ففي السادس من شهر ديسمبر 2005 أصدر مجلس العلاقات الخارجية وهو مركز للدراسات تقريراً حذر فيه الولايات المتحدة من مواجهة منافسة ضارية من الصين على إمدادات النفط من أفريقيا، داعياً واشنطن إلى "انتهاج أسلوب استراتيجي تجاه القارة باستثمار المزيد من الموارد هناك".
فيما حدد مجلس نيويورك للعلاقات الخارجية الملامح الجديدة للاستراتيجية الجديدة، والتي تقضي بالابتعاد عن القضايا الإنسانية، والتصرف وفق المصلحة الأمريكية المتنامية في القارة السوداء والتي لخصها المجلس بـ"النفط والغاز أولاً، والمنافسة المتصاعدة مع الصين ثانياً".
http://www.islammemo.cc:المصدر
==============(42/112)
(42/113)
جمهورية قرغيزستان بين خيارين ..
التوجه الإسلامي ، والاحتواء الغربي ..!!
تضم منطقة تركستان ضمن مساحتها المترامية الأطراف، والتي تبلغ أربعة ملايين كم2، دولاً عدة منها قرغيزستان، التي تُعد أصغر الدول في هذه المنطقة، وتبلغ مساحتها 198.500 كم2، وهي دولة إسلامية أغلب قبائلها من العنصر التركي، مع وجود قلة تترية وروسية، وقد غزاها الترك خلال الفترة الواقعة بين القرنين الأول والثاني الهجري، ثم غزاها المغول في القرن السابع الهجري، وانتشر الإسلام في ربوعها، ودخل فيه أهلها جميعاً خلال القرن الحادي عشر الهجري ..
وفي بداية القرن الثالث عشر الهجري زحف الروس في عهد القيصر نحو تركستان، وبسطوا سيطرتهم عليها، وضموا أراضيها بما فيها قرغيزستان إلى دولتهم، ونكلوا بأهلها، ثم ضموها إلى مملكتهم، وعندما سيطر الشيوعيون على الحكم في روسيا أواسط القرن الثالث عشر الهجري فرضوا سيطرتهم على الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، ومنحوا بعضها حكماً ذاتياً، فنالت قرغيزيا حكماً ذاتياً تابعاً للاتحاد السوفيتي .
استبدل الحكم الشيوعي العديد من مظاهر الحياة في البلاد، وأقام حكومة شيوعية ملحدة فرضت سيطرتها على كامل الصناعات والأراضي، بالإضافة إلى ذلك حرم القانون السوفيتي بعض المظاهر الحضارية، وخاصة الدينية، فضيق على المسلمين، وألغى المدارس الدينية، ومنع طباعة ونشر الكتب الدينية والمصحف الشريف، وحول الكثير من المساجد إلى مستودعات ومصانع ومبان حكومية ..
وفي أواخر عقد الثمانينات من القرن العشرين الميلادي منحت الحكومة الروسية الشعب القرغيزي حريات أكثر، إلى أن أعلنت قرغيزستان استقلالها عام 1990م - 1410ه (1).
جغرافية قرغيزستان :
تقع قرغيزيا في الجنوب الشرقي من وسط آسيا، وتحدها من الشمال قازاخستان، ومن الغرب أوزبكستان، ومن الجنوب الغربي طاجكستان، ومن الجنوب والشرق الصين، وهي منطقة جبلية شاهقة الارتفاع، تفصلها جبال آسيا الوسطى عن قازاقستان وطاجيكستان، وتفصلها جبال تين شان عن تركستان الشرقية التي تخضع لسيطرة الصين، وهي الجبال التي يمر من خلالها الممر المهم المسمى بطريق الحرير . وتوجد بحيرة إيسك كول شمال شرقي قرغيزيا، وتنساح إليها مياه بعض المرتفعات المحيطة بها .
وتقدر مساحتها ب 198.500 كم2،(أكبر من مساحة سوريا بقليل) ويبلغ عدد السكان 4753003 نسمة، طبقاً لتقديرات2001م -1422ه، 40% سكان مدن، و60% سكان ريف.
نظام الحكم في قرغيزيا جمهوري، وعلم البلاد لونه أحمر، ووسطه شمس صفراء ذات خطوط متعارضة حمراء . أما المناخ في البلاد فمعتدل دافئ بشكل عام، ممطر شتاءً في الشرق، صحراوي في الغرب، ويتنوع بين قاري جاف وقطبي، في سلسلة جبال تين شان TienShan؛ وشبه مداري، في الجنوب الغربي (في وادي فرغانة Fe r gana)؛ ومعتدل في الشمال حيث مرتفعات تين شان .
وطبيعة البلاد جبلية، ونباتاتها هي نباتات الجبال العالية، وينبع من أراضيها نهر سيحون .
والأراضي القابلة للزراعة : 7%. والمراعي: 44%. والغابات : 4%.
واللغة الشائعة هي القيرغيزية ثم الروسية .
وعملة البلاد هي سوم ( الدولار = 42.70 سوم)، وروبل .
ونصيب الفرد من الناتج القومي: 890 دولاراً سنويا .
أهم المدن في قرغيزيا: بشكك، وهي العاصمة، وعدد سكانها 700.000 نسمة، وقد كانت قاعدة عسكرية أسست عام 1873م - 1289ه، ثم تبدل اسمها عام 1926م - 1344ه تكريماً للجنرال الروسي فرونزي، فأطلق عليها اسمه . ثم كاراكو - نارين - أوش، توكماك (2).
نبذة تاريخية :
تقع قرغيزيا ضمن ما يُسمى تركستان، وهي البلاد التي أطلق عليها المسلمون قديماً " بلاد ما وراء النهر "،
وهي تضم من الناحية التاريخية والجغرافية أجزاء من الصين والمناطق الأصلية للشعوب والقبائل التركية " من حدود الصين شرقاً حتى بحر قزوين غرباً، ومن جنوب سيبيريا شمالاً حتى شمال أفغانستان وإيران جنوباً " .
وعرفت آسيا الوسطى تاريخياً ظهور موجات بشرية وعسكرية كبيرة أسهمت في بناء امبراطوريات واضمحلال أخرى، لعل أشهرها تحركات قبائل الهون في القرن الثاني قبل الميلاد، وتنقلات الشعوب التركية في الفترة الممتدة ما بين القرن الرابع إلى الثامن الميلادي، وحملات جنكيز خان في القرن الثالث عشر - الرابع عشر، وآخرها موجات الكولميكيين في القرن السابع عشر.
إلا أن ظهور القوة الروسية واحتلالها اللاحق لأغلب مناطق آسيا الوسطى القديمة تزامن مع استقرار تسمية "تركستان" . إذ ليست آسيا الوسطى في الواقع سوى آسيا الإسلامية، أما تسمية آسيا الوسطى وكازاخستان، وأمثالها، فإنها تعكس الثقل الإيديولوجي المعادي للأتراك وللإسلام في الوعي السياسي والثقافي الروسي والأوروبي، الذي حاول وما يزال اقتطاع هذه المنطقة من محيطها الطبيعي، وعزلها عن انتمائها للدين الإسلامي (3).(42/114)
بدأت تجزئة تركستان في عامي 1342-1343ه، 1924-1925م، وظهرت للمرة الأولى التشكيلات القومية التركمانية والأوزبكية، والطاجيكية، والكازاخية، والقرغيزية، وهي خطوة كبرى لزرع الفرقة التي تخدم الاستعمار الروسي في المنطقة، وكانت تخفي في أعماقها شرور الصراعات القومية، وذلك لتداخل الجغرافيا في التاريخ الثقافي والإثني للمنطقة . وتجلى ذلك في صنع الدول والجمهوريات، وإعادة تقطيعها وتغييرها ودمجها وفصلها وتوسيعها وتصغيرها بإرادة الروس، كما هو الحال في إدخال طاجيكستان بأكملها في بادئ الأمر ضمن أوزبكستان، وكذلك بعض الأراضي القرغيزية ضمن الدولة الأوزبكية، مما أدى إلى صراعات ما تزال قائمة إلى الآن (4).
ونقف هنا قليلاً عند محطات تاريخية للجمهورية القرغيزية ..
فالقرغيز كلمة روسية تعني الفرسان أو ركاب الخيل .
وكان القرغيز ينتشرون جنوبي نهر "برصو" شرقي نهر سيحون، وقد تمكنت قبائل القلمق من دفعهم إلى مرتفعات تين شيان، وسيطر القازاق على المنطقة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، واندمجوا معهم عسكرياً واجتماعياً، ويطلق بعض المؤرخين عليهم اسم
قرغيز، في حين تذكر دائرة المعارف البريطانية اسم القرغيز والقازاق في نفس الوقت، أما القرغيز الذين ذهبوا إلى مرتفعات تين شيان فيطلق عليهم اسم قره قرغيز بمعنى الفرسان السمر.
عرفت منطقة قرغيزيا عند المسلمين بوادي فرغانة، وقد انتشر الإسلام فيها عن طريق التجار المسلمين، وازداد تمكناً في عهد السلاجقة، ثم تعرض لفترة جمود بعد غزو المغول، ثم ازدهر بعد إسلام المغول والتتار، حتى استيلاء الروس عليها(5).
ساهم الدعاة من بخارى وقازان في نشر الإسلام في قرغيزيا، لقربهم واندماجهم في أهلها، ثم قوي الإسلام في المنطقة في العهد العثماني الذي وطد دعائمه في هذه المناطق، وذلك لأهميتها في المواجهة مع الروس .
ولذلك نجد أغلب سكانها من الأتراك، والمغول، وقلة من الأوزبك والطاجيك والإيرانيين، إضافة إلى الروس والأوكرانيين الذين استوطنوا المنطقة بعد الاحتلال الروسي .
وفي بداية القرن الثامن عشر انقسم أهل البلاد إلى ثلاث عشائر :
العشيرة الكبرى : وتسكن الجزء الغربي والشرقي من السهول القرغيزية .
العشيرة الوسطى : وتقيم في الوسط .
العشيرة الصغرى : وتنتشر في الجزء الشمالي والغربي من المنطقة .
ولقد ظهرت خلافات بين هذه القبائل نتيجة المكر الروسي، جعلتها تشتبك في حروب كثيرة مما أدى إلى ضعفها، وأتاح الفرصة للتدخل الروسي، فقدمت العشيرة الصغرى الولاء للروس عام 1731م، وأقامت روسيا القلاع الحربية في منطقتها، وعمدت إلى كسب ود بعض القبائل إلى جانبها عن طريق تعميق الخلافات القبلية بين تلك القبائل حتى تشعر الضعيفة منها أنها بحاجة ماسة إلى الدعم الروسي . وكانت روسيا ترسل ضباطها إلى القبائل التي تكسب ودها، وبذلك فتحت لنفسها ثغرة للتوغل في البلاد (6).
خضعت البلاد للاستعمار الروسي عام 1282ه ، وشهدت ثورات عدة ضد الروس والحكم الشيوعي، منها ثورة عزت قوت بر الذي قاد الشعب القرغيزي في ثورة ضد الروس لإخراجهم من البلاد، والانفصال عن روسيا، فجرت بينه وبينهم معارك طاحنة استعان فيها بأهل خوقند الذين أرسلوا له الدعم، ولكن روسيا استطاعت بمكر بث بذور الفتنة بين القرغيز والخوقنديين، مما أضعف الثورة وأدى في النهاية إلى إخمادها، وكذلك ثورة سنة 1916م - 1335ه، التي قمعت بقسوة بالغة، ووحشية لا توصف.
بدأت أفواج الروس تتدفق على
رغيزيا، فأسس المحتلون عشرين قرية روسية، معظمها في المنطقة الشمالية المتاخمة لحدود قازاقستان، وذلك عام 1284ه، ثم زاد تدفق المستعمرين والتوسع نحو الجنوب، فأقيمت أكثر من ستين قرية روسية في المدة 1326ه 1334ه، وكان أكثر من خمسين منها في وادي فرغانة، واستمر تقدم الروس نحو الجنوب حتى غطى المنطقة بأكملها.
وتناقص عدد القرغيز إبان الاستعمار الروسي بسبب حرب الإبادة والموت جوعاً والهرب من البلاد . إذ قتل خلال ثورة سنة 1335ه مائة وخمسون ألفاً من القرغيز . وماتت أعداد كبيرة جوعاً أثناء هروبها باتجاه الصين، وأبيد سكان القسم الشمالي جميعاً، فكان النقص أكثر من ثلث السكان .
واستمر تناقص السكان بعد الحكم الشيوعي نتيجة القتل والإبادة، وفي الوقت نفسه زاد تدفق المستعمرين الروس إلى البلاد حتى أصبح عدد القرغيز في منطقتهم عام 1345ه دون عدد المستعمرين الروس، واتخذ المستعمرون سياسة توطين القبائل المتنقلة كي تسهل مراقبتها، لذا فقد صادروا الحيوانات، غير أن السكان قاموا بذبح حيواناتهم ولم يُسلموها، فأثر هذا في ضعف مستواهم المعيشي، وفقرهم، وتعرضهم للجوع . فلما طالب بعض زعماء القرغيز المشاركين في الحزب الشيوعي بالعمل على تحسين الأوضاع المعيشية طُردوا من الحزب، واتهموا بالخيانة لمبادئ النظام، واختفى بعضهم، ومنهم رئيس وزراء قرغيزيا يوسف عبد الرحمن، إذ طالب بعدم تصدير الخبز قبل شبع القرغيز، فعُدّ خائناً، فأقيل من منصبه، وطُرد من الحزب، واختفى، وكذلك فعل بعدد ممن طالبوا بمثل مطالبه (7).(42/115)
لقد أخمد ستالين كل الثورات الإسلامية النشطة، ولكن القرغيزيين احتفظوا بهويتهم، وبدأ الصراع ضد السلطة الشيوعية منذ 1945م - 1364ه، وفي 1980م - 1400ه قتل السلطان أبرايموف لانحيازه ودعوته للاستقلال (8).
اضطر أهل البلاد للخضوع لنظام الحكم الشيوعي عقوداً من الزمن إلى أن وافقت الحكومة الروسية في عام 1936م - 1355ه على منح البلاد حكماً شبه ذاتي، وأصبح يطلق عليها اسم جمهورية قيرغيزية السوفيتية الاشتراكية الاتحادية، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عهد غورباتشوف، وبالتحديد في 31-8-1991م - 21-صفر - 1412ه تم الإعلان عن استقلال قرغيزيا عن الاتحاد السوفيتي (9) مع بقية الجمهوريات الإسلامية الخمس في تركستان .
الحالة الاقتصادية :
قرغيزستان دولة صغيرة، فقيرة، ذات طبيعة جبلية، يعتمد اقتصادها على الزراعة. ومن أهم منتجاتها وصادراتها الزراعية: القطن، والصوف، واللحوم. ومن أهم الصادرات الصناعية: الذهب، والزئبق، واليورانيوم، والكهرباء.
كانت قرغيزستان واحدة من أولى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، التي طبقت إصلاحات اقتصادية، على مبادئ اقتصاد السوق.
وعقب تنفيذها برنامجاً ناجحاً لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، انخفض معدل التضخم من 88%، عام 1994، إلى 15%، عام 1997م. وتوجه الحكومة اهتمامها، في الوقت الحالي، إلى دفع النمو الاقتصادي، وبيع معظم أسهم الحكومة في شركات القطاع العام.
تعرض الإنتاج لهبوطٍ حادّ، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، واستقلال البلاد، ولكنه بدأ مع منتصف عام 1995م - 1415ه يسترد عافيته، وارتفعت الصادرات.
وعلى الصعيد الاجتماعي، لا تزال معاناة أصحاب المعاشات، والعمال العاطلين عن العمل، والعمال الحكوميين، الذين لم تُصرف
متأخراتهم مستمرة.
أقرت الحكومة سلسلةً من التدابير، لمواجهة المشكلات الصعبة، التي تعانيها البلاد، مثل: ازدياد الديون الخارجية، وارتفاع معدلات التضخم، وعدم كفاية الإيرادات المحصلة.
الناتج المحلي :
أ . إجمالي الناتج المحلي: 12.6 بليون دولار، طبقاً لتقديرات 2000 .
ب . معدل النمو الحقيقي: 5.7%، طبقاً لتقديرات 2000 .
ج. متوسط دخل الفرد: 2700 دولار، طبقاً لتقديرات 2000 .
د. نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر: 51%، طبقاً لتقديرات 1997 .
ه. معدل التضخم:7،18%، طبقاً لتقديرات 2000 .
و. النفقات: 238.7 ملايين دولار، بما فيها النفقات الرأسمالية، طبقاً لتقديرات 1999 .
ز. الزراعة : من أهم المنتجات الزراعية في قرغيزستان : القطن، والصوف، والبطاطس، والخضراوات، والعنب، والفاكهة. ومن أهم منتجاتها الحيوانية: الأغنام، والماعز، والماشية. و تُعدُّ قرغيزيا من الدول التي يُزرع فيها القنب والأفيون. ويروج جلُّه في كومنولث الدول المستقلة، وتتبنى الحكومة، حالياً برنامجاً محدوداً للقضاء على زراعة المخدرات. وتستخدم البلاد نقطةً لمرور المخدرات غير المشروعة، المتجهة من جنوبي غرب آسيا إلى كلٍّ من روسيا، وأوروبا الغربية.
ح. الصادرات : القيمة الإجمالية: 482 مليون دولار، وأهم الصادرات: القطن، والصوف، واللحوم، والتبغ، والذهب، والزئبق، واليورانيوم، والطاقة المائية، والآلات، والأحذية.
ط. الواردات : القيمة الإجمالية: 579 مليون دولار، وأهم الواردات: النفط والغاز، والآلات والمعدات، والسلع الغذائية.
ي. الديون الخارجية: بليون وأربعة ملايين دولار، طبقاً لتقديرات 2000(10).
من خلال ما سبق يتضح لنا أن البلاد تعاني من الفقر، وتعيش حالة مذبذبة بين صعود وهبوط في نسبة البطالة، إلا أنها لم تتعد الحد المطمئن، الذي يمكن أن تتجاوز معه خط الفقر .
اللغة القرغيزية :
ظلت اللغة الرسمية في قرغيزيا هي اللغة الروسية طيلة فترة خضوع البلاد لحكم الاتحاد السوفيتي، وبعد الاستقلال أثبت القرغيزيون أنهم متعطشون إلى لغتهم الأصلية، وأنهم لم ينسوها، فبعد إعلان الاستقلال بسنوات قليلة أقر البرلمان القرغيزي مشروع قانون يحمل اسم "قانون اللغة القرغيزية الرسمية"، أعد في إطار مشروع يجري تنفيذه لنشر اللغة القرغيزية.
وينص القانون الجديد على تعليم اللغة القرغيزية لجميع المواطنين اعتباراً من عام 2004م، وتأمين الدعم المالي اللازم للمواطنين الذين لا ينحدرون من أصول قرغيزية من أجل تعلم اللغة، التي ستكون اللغة الأساسية للتعليم في دور الحضانة والمدارس.
ويفرض القانون استخدام القرغيزية بشكل كامل في الدوائر الحكومية عام 2005م، واستخدامها بشكل مكثف في البث الإذاعي والتلفازي الحكومي والخاص، ويشترط القانون إتقان القرغيزية كشرط للتوظيف في المؤسسات الحكومية اعتباراً من عام 2005م، واستبدال الملحقات الروسية من أسماء المواطنين المنحدرين من أصول قرغيزية مثل أوف، أوفا، ييف، ييفا وغيرها واستخدام لواحق تتناسب والمعايير الجديدة على نحو "تيغين". كما يفرض القانون الكتابة باللغة القرغيزية على جميع المنتجات التي يتم بيعها في البلاد إلى جانب فرض استخدامها على المنتجات المستوردة.
من جانب آخر، ذكر تقرير نشرته وزارة الخارجية القرغيزية أن 680 ألف(42/116)
مواطن أي أكثر من 13% من السكان البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة هاجروا من قرغيزيا منذ حصول البلاد على استقلالها في عام 1991م. معظم المهاجرين هم من أصول ألمانية وروسية ويهودية توجهوا في الأغلب إلى روسيا وألمانيا وإسرائيل.
وأشارت الخارجية القرغيزية في تقريرها إلى أن الحكومة اتخذت العديد من التدابير لوضع حد لهجرة مواطنيها، من بينها منح الصفة الرسمية لاستخدام اللغة الروسية في البلاد إلى جانب اللغة القرغيزية، والتخطيط لعقد اتفاقيات اقتصادية وخاصة في القطاع الصناعي مع دول مختلفة.
وفي الوقت نفسه، أعلنت وزارة الخارجية القرغيزية أن البلاد شهدت أيضاً هجرة عكسية من الخارج، حيث دخل 250 ألف مهاجر أجنبي إلى قرغيزيا منذ الاستقلال .
النظام السياسي :
تنقسم قرغيزستان إدارياً، إلى سبعة أقسام كالتالي: باتكين، وتشوي (بشكيك)، وجلال آباد، ونارين، وأوش، وتالاس، ويسيك-كول ؛ إضافة إلى مدينة واحدة، هي العاصمة بيشكيك .
نالت قرغيزيا استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، في 31 أغسطس 1991، 21-صفر - 1412ه .
أُقِّر في استفتاء شعبي، في 10 فبراير 1996، اقتراحاً من الرئيس أكاييف، بتعديل دستوري، أدى إلى توسيع سلطات رئيس الجمهورية، على حساب
التشريعية.
حق الاقتراع: مكفول لمن يبلغ الثامنة عشرة، من الذكور والإناث.
الهيئة التنفيذية :
أ. رئيس الدولة: رئيس الجمهورية عسكر أكاييف، منذ 29 أكتوبر 2000 .
ب. رئيس الحكومة: رئيس الوزراء كورمانبيكك ساليفيتش باكييف، منذ 22 ديسمبر 2000 ج.
الوزارة: مجلس للوزراء، يعينه رئيس الجمهورية، بتوصية من رئيس الوزراء.
الانتخابات: يُنتخب رئيس الجمهورية، في اقتراعٍ شعبي مباشر، لفترة رئاسية مدتها خمس سنوات. وقد جرت آخر انتخابات في 25 ديسمبر 2000، ومن المقرر إجراء الانتخابات التالية في ديسمبر 2005ه.
رئيس قرغيزستان بعد الاستقلال ؟
تولى الحكم في قرغيزيا بعد استقلالها عسكر أكاييف الذي ولد في 10-11-1944م في كيزيل- بايراك، مديرية كيمين، وهو متزوج وله ولدان وبنتان، وحاصل على درجة الدكتوراة في الهندسة والرياضيات من معهد ليننجراد للميكانيكا الدقيقة والبصريات.
بدأ حياته العملية كمحاضر بمعهد ليننجراد، ثم عمل محاضراً ثم أستاذاً بمعهد فرونزي للعلوم التقنية (1972م- 1973م)، وبعدها أصبح أستاذاً بمعهد الميكانيكا الدقيقة والبصريات (1973م- 1976م)، ثم عُين نائباً للرئيس (1987م- 1989م)، ثم صار رئيساً لأكاديمية قرغيزستان للعلوم (1989م - 1990م) .
أما انخراطه في العمل السياسي، فقد برز سنة (1981م) كعضو في حزب قرغيز الشيوعي، وتدرج في المناصب إلى أن أصبح عضواً للجنة المركزية للحزب الشيوعي القرغيزي، ثم رئيساً لإدارة العلوم والتربية في اللجنة المركزية للحزب (1986- 1987م)؛ وبعد ذلك أصبح رئيس قرغيزستان والقائد الأعلى للقوات المسلحة منذ 27-10-1990، وإلى كتابة هذا المقال.
أما عن التوجه، فكما سبق نرى أنه شيوعي من أصحاب الفكر الماركسي، إلا أنه بعد الاستقلال صار يُظهر الميل نحو المنهج الغربي العلماني، ويحاول التقرب إلى الغرب باتخاذ سياسات تتوافق مع المبادئ الأمريكية والأوروبية في ظل ما يُسمى بالعولمة، والاقتصاد الحر، والانفتاح، أما انتماؤه للإسلام فيظهر أحياناً في أداء بعض الشعائر
خاصة في المناسبات الدينية، والسماح للمسلمين بأداء فريضة الحج، وتجديد بناء بعض المساجد .
الأحزاب السياسية في قرغيزيا:
تكثر الأحزاب في قرغيزيا، ولكنها إما سياسية علمانية غربية التوجه، أو شيوعية، أو اجتماعية وثقافية مختلفة، ولا نرى لأحدها توجهاً دينياً، إذ لا يسمح بقيام حزب رسمي له توجه ديني، و أهم الأحزاب الموجودة على الساحة القرغيزية، هي :
أ. حزب المزارعين.
ب. حزب المزارعين الكيرجي، بزعامة علييف.
ج. حزب الإحياء الوطني ASABA، برئاسة تشابراشتي بازارباي .
د. الحزب الشيوعي الكيرجي PKK، برئاسة عبدالصمد ماسالييف.
ه الحركة الديموقراطية الكيرجية DDK، برئاسة جيبار جيكشييف Jypa r
و. حزب الكرامة، بزعامة فيليكس كولوفز.
ز. حزب الوطن، بزعامة عمر بيك بيكيباييف.
ح. حزب العدالة، بزعامة تشينجيز آيتماتوف .
ط. الحركة الديموقراطية، من أجل قرغيزستان حرة E r K، بزعامة تورسونباي باكير يولو .
ي. حركة الإنقاذ الشعبي، بزعامة جومجالبيك اماباييف .
ك. حركة المساعدة المتبادلة Aha r ، بزعامة ضوماجازي يوسوبوف.
ل. الحركة الديموقراطية للوحدة الوطنية DDNE، بزعامة يوري رازجولياييف .
م. حزب الفلاحين.
ن. الحزب الشعبي الجمهوري الكيرجي.
س. الحزب الديموقراطي الاشتراكي PSD، بزعامة جومابيك إبراهيموف .
- مجموعات الضغط السياسي .
أ . مجلس النقابات المهنية الحرة.
ب . اللجنة الكيرجية لحقوق الإنسان.
ج. الحركة الديموقراطية للوحدة الوطنية.
د. اتحاد رجال الأعمال (11).
الحكومة والمعارضة :(42/117)
تعتمد الحكومة سياسة الكبت، وإسكات الأفواه التي تبدي أي معارضة لنظام الحكم، وقد دعت الأحزاب المعارضة إلى الخروج في مظاهرات شعبية عارمة ضد نظام الحكم، بسبب السياسة الدكتاتورية المتبعة، ونظراً لازدياد الأصوات المعارضة للحكومة القرغيزية، فقد اتخذ الرئيس عسكر أكاييف إجراءات قوية ضد المعارضة، حيث قام بحملة "إصلاحات" دستورية خلال عام 2002 المجتمع - 1423ه تهدف إلى زيادة السلطات التنفيذية بشكل كبير. كما قامت الحكومة في نفس العام بتقديم مشروع قانون يقضي بمنع جميع أشكال الاحتجاج السياسي المنظم لمدة ثلاثة شهور.
وفي حين تنتقد المعارضة الرئيس القرغيزي لتحوله نحو الاتجاه السائد في المنطقة لدى دول آسيا الوسطى الأخرى، من سحق المعارضة السياسية، وتقييد الإعلام، والتلاعب في الانتخابات، فإن الحكومة تبرر بعض الإجراءات المتخذة، بدواعي مواجهة المتطرفين، أي تيارات الإسلام الحركي التي تتمركز في وادي فرغانة.
وبالرغم من التأييد الأمريكي لمثل هذه الإجراءات، إلا أن عدداً من المسئولين الأمريكيين وأعضاء في الكونجرس أعربوا عن قلقهم من التراجع الديمقراطي الذي تشهده قرغيزيا، والضغوط التي تتعرض لها المعارضة والصحافة المستقلة.
وقد تم الإعراب عن ذلك في جلسة مفتوحة استضافتها مفوضية هلسنكى، وقد تم التأكيد خلال هذه الجلسة على ما أصاب الإصلاحات الاقتصادية ومسيرة الديمقراطية في البلاد من جمود في السنوات الأخيرة، وذلك
مقارنة بما كانت عليه الأوضاع بعد الاستقلال، حيث كانت قرغيزيا أكثر جمهوريات آسيا الوسطى تقدمًا.
ومن أهم أحزاب المعارضة الإسلامية في قرغيزستان (الحركة الإسلامية لشرق تركستان)، وحزب التحرير .
وهاتان الحركتان تتعرضان لمضايقات وملاحقات شديدة بتهمة " الإرهاب"، ومحاولة تغيير نظام الحكم في البلاد، وشن هجمات على مصالح أجنبية في البلاد .
وقد نشر مكتب شؤون آسيا الوسطى في وزارة الخارجية الأمريكية تقريراً حديثاً تكلم عن حزب التحرير في هذه البلاد، وجاء فيه ما يلي :
تراقب الولايات المتحدة عن كثب حركة حزب التحرير الإسلامي التي دعت إلى قلب حكومات آسيا الوسطى. غير أن هذا الحزب لا يُحبّذ اللجوء إلى العنف على الرغم من خطابه الملهب للمشاعر، والمعادي للسامية، وغير المتسامح. لقد امتنعت الولايات المتحدة عن تصنيف هذا الحزب كمنظمة إرهابية أجنبية بسبب عدم وجود أدلة على أن حزب التحرير قد قام بأعمال عنف لتحقيق أهدافه السياسية.
وإجابة على سؤال يقول : لماذا تشعر الولايات المتحدة بالقلق إزاء حزب التحرير، طالما أنه ليس مجموعة إرهابية ولا يدعو إلى العنف؟
أجاب التقرير: حزب التحرير حزب سري، مؤلف من خلايا، وهو منظمة متطرفة عابرة لحدود الأوطان، تلقى دعماً من بعض المسلمين في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، ولها قاعدة تنظيمية بمدينة لندن. وقد دعا الحزب إلى قلب الحكومات في العالم الإسلامي، وإلى إقامة خلافة إسلامية ثيوقراطية لا حدود قومية لها.
تأسس حزب التحرير في الشرق الأوسط في الخمسينات من القرن الماضي. وهو يروّج لمبدأ الإسلام السياسي المثالي الذي يؤدي إلى اقتلاع المشاكل الاجتماعية، كالفساد والفقر عن طريق تطبيق الشريعة الإسلامية (القانون الإسلامي). وتقوم أفكار حزب التحرير على خليط من التاريخ المحلي، والمناظرات المتعلقة بالظروف الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية، علاوة على دعوته إلى تعزيز التضامن الديني الدولي، لدعم قضيته.
ينتظم حزب التحرير في خلايا سرية تتألف كل منها من خمسة أعضاء، ويؤلف كل عضو منهم لاحقاً مجموعاته أو حلقاته الخاصة. ويكون لقائد كل حلقة بمفرده ارتباط بحلقة أعلى. أما التعبير العلني عن وجهات نظر الحزب، فيتم عبر المنشورات، بينما يجري ضم أعضاء جدد للحزب عبر الأصدقاء وأفراد العائلة، الأمر الذي يعكس التركيبات الاجتماعية التقليدية. وغالباً ما يشدد أعضاء الحزب على "الجهاد الداخلي"، أي التغيير النفساني، بمثابة القوة الدافعة للانضمام إلى المجموعة. هذا الأسلوب ساعد الحزب على الانتشار بسرعة خصوصاً في قرغيزستان. وللحزب في أوزبكستان، على الأقل، نواة صلبة من الأعضاء المتعلمين عالياً. وقد وسّع الحزب مؤخراً قاعدة عضويته لتشمل سكان المناطق الريفية وكذلك من هم أقل ثقافة.
يتكون أعضاء حزب التحرير في آسيا الوسطى عادة من أثنية الأوزبك لكن المجموعة نشطت مؤخراً في ضم أعضاء من قرغيزستان وطاجيكستان، ربما بسبب الضغوط التي تعرض لها أعضاؤه من قبل حكومة أوزبكستان. وتركز دعوة حزب التحرير، خارج أوزبكستان، على التململ أو عدم الرضا إزاء سياسات حكومات قرغيزستان وطاجيكستان المتعلقة بممارسة الشعائر الدينية. كما لوحظت بعض نشاطات حزب التحرير في جنوب كازاخستان.
أصبحت لهجة خطاب حزب التحرير أكثر عنفاً منذ بدء عملية الحرية المستديمة. فمنشورات حزب التحرير راحت تمجد الهجمات الانتحارية ضد إسرائيل، وتهاجم قوات(42/118)
التحالف في آسيا الوسطى. وادّعت منشورات الحزب أيضاً أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هما في حرب ضد الإسلام، كما دعت جميع المسلمين إلى الدفاع عن عقيدتهم وإلى الانخراط في الجهاد ضد هذين البلدين. ومع أنه لا توجد أدلة ثابتة على قيام حزب التحرير بأعمال عنف، أو رغبة لديه للقيام بمثل هكذا أعمال، إلا أنه يُحَرّضُ بوضوح على العنف. وهو يُستخدم أيضاً لنشر مبادئ الإسلام الراديكالي بين المستائين من الناس، والعاطلين عن العمل، والذين قد ينضمون لاحقاً إلى صفوف مجموعات أكثر عنفاً. وعلى الرغم من أن جميع بلدان آسيا الوسطى تتخّذ إجراءات مشددة للحدّ من انتشار حزب التحرير، فلا توجد مؤشرات ذات شأن تدل على أن جاذبية حزب التحرير سوف تنحسر في المستقبل المنظور.
وهذا التقرير فيه الكثير عن الحركات الإسلامية في بلدان ما وراء النهر، والحث على ملاحقتها وضربها، وخاصة تلك التي تدعو للتغيير الشامل، والعودة إلى أصول الدين الإسلامي . أو تتخذ من الجهاد وسيلة لتحقيق أهدافها .
وقد استجابت الحكومة لمثل هذه التحذيرات، فشنت حملات اعتقال واسعة، واتخذت تدابير أمنية صارمة، وقمعت مظاهرات بالقوة والنار . مما ألهب المشاعر، ودفع الإسلاميين للمواجهة . وأجبرت هذه المواجهات الحكومة على زيادة الإنفاق من الميزانية لمحاربة الإسلاميين، حيث أصبحت تنفق 30 مليون دولار، أي ما يعادل 13% من ميزانيتها السنوية لمحاربة المقاتلين الإسلاميين الذي صعدوا من عملياتهم ضد السلطات هناك عام 2001م.
وذكرت اللجنة الأمنية في البرلمان أن أكثر من خمسة آلاف جندي حكومي شاركوا في عمليات عام 2001م ضد المقاتلين الإسلاميين، أسفرت عن مقتل 31 جندياً وجرح 25 آخرين، وتدمير ثلاث مروحيات من طراز إم أي-8 وقالت وزارة الدفاع إنها قتلت 60 مقاتلاً وأسرت اثنين آخرين في عملياتها.
الصحوة الإسلامية فى قرغيزستان ومجموعة شنغهاي :
تشهد قرغيزستان صحوة إسلامية مثلها مثل باقي الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وتسمح الحكومة بممارسة الشعائر التعبدية فحسب، دون التدخل بالشؤون السياسية، ولذلك تنشط جماعة الدعوة والتبليغ بصورة كبيرة، وتعمل على نشر أتباعها في القرى للوعظ والتذكير ودعوة الناس إلى تصفية القلوب والانشغال بالعبادة والذكر. وتغض الحكومة الطرف عن نشاط هذه الجماعة، وقد ذكرت شبكة أكي بريس الإخبارية القرغيزية بأنه ظهر قبل 4 أشهر في ولاية باتكينت القرغيرية، جماعة تسمى دعاة الإسلام، وهي إحدى فصائل جماعة التبليغ والدعوة التي ترى من وجهة نظرها أن الدعوة ينبغي أن تتضمن البعد الكامل عن تناول قضايا المسلمين السياسية أو الجهادية أو الواقعية، وتكتفي في دعوتها بالتركيز على عمليات تطهير القلوب، و إصلاح العلاقة الخاصة بين المسلم وربه- نشاطاً حراً في قرغيزستان.
كما توجه الحكومة بين الحين والآخر دعوة إلى بعض الجمعيات الخيرية الموجودة في العالم الإسلامي، مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي لتنفيذ مشاريع خيرية على أراضيها، فقد تلقى الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي الدكتور صالح الوهيبي خطاب شكر من رئيس جمهورية قرغيزيا عسكر أكاييف أعرب فيه عن سعادته وإعجابه بما تقوم به الندوة من مناشط تساهم في خدمة الإسلام والمسلمين، وأثنى على افتتاح مسجد للندوة بقرغيزيا، ودعا الندوة إلى تنفيذ برامج تعليمية ودعوية، في بناء الكليات الجامعية المتخصصة في تعليم الدين الإسلامي واللغة
العربية(12) .(42/119)
وهذا بلا شك أمر جيد، ولكن موقف الحكومة القرغيزية من الحركة الإسلامية التي تدعو إلى التغيير الشامل نحو الإسلام، يظهر العداء الشديد لها، حيث تشن الحكومة حملة قمع شديدة ومنظمة ضد كل من ينتمي إلى هذه الحركة، مستعينة بالصين وروسيا، فضلاً عن الدول الغربية التي ترى في المد الإسلامي خطراً محدقاً يهدد مصالحها الاستراتيجية في تلك المنطقة . حيث أثار الصمود القوي للإسلام - بعد زوال الاتحاد السوفييتي السابق -ومناجم الذهب الهائلة التي ترقد عليها قرغيزستان، مخاوف الدول الغربية من سيطرة قوى إسلامية على مقاليد الحكم في تلك الجمهورية الإسلامية، ومن ثم فقد دعمت تلك القوى الغربية الحكم الشيوعي في قرغيزستان . وقد فجرت المعارك الأخيرة بين جيوش قيرغيزيا وأوزبكستان وطاجيكستان والمقاتلين الإسلاميين المتمركزين في وادي فرغانة - الواقع بين الدول الثلاث - مخاوف شركات النفط الغربية التي استثمرت أموالاً طائلة في آسيا الوسطى. فهي متوجسة من احتمال انفلات زمام الأمور من أيادي حكومات الجمهوريات الثلاث، التي سارعت - كما هو متوقع باتهام - حركة طالبان الأفغانية بالوقوف خلف المقاتلين الإسلاميين ودعمهم. لكن الرئيس القرغيزي عسكر أكاييف لم يكتف بهذا، واتهم أيضاً المقاتلين الشيشان بتدريب إسلاميين قيرغيز وأوزبك في معسكرات بالأراضي الطاجيكية. و في 15 يونيو 2001 اجتمع رؤساء كل من روسيا والصين وكازخستان وقيرغستان وطاجكستان في مدينة شنغهاي بالصين؛ لعقد قمَّتهم السنوية التي بدأت منذ عام 1996م - 1416ه، وعُرفت باسم "شنغهاي خمسة" Shanghai-Five). (وبالرغم من أن أساس إنشاء هذه القمة يُعتبر اقتصاديًّا في الأصل - وذلك في إطار التحالفات الاقتصادية التي غمرت العالم - فقد انصب اجتماع هذا العام على محورين أساسيين هما: المحور الأمني، والمحور الاقتصادي، بل لوحظ هذا العام غلبة المحور الأمني وغياب الاقتصادي. وتركز اهتمام المحور الأمني على محاربة الإسلاميين في منطقة آسيا الوسطى، وكذلك التكتل ضد الخطر الأمريكي المتمثل في الدرع الصاروخي الأمريكي.
وأما المحور الاقتصادي، فقد اهتم ببسط النفوذ الروسي - الصيني على ثروات منطقة آسيا الصغرى - وأهمها طبعًا البترول - والسبق إلى استغلالها قبل أن تستأثر بها الولايات المتحدة الأمريكية. و أقرَّ زعماء الدول الست الآسيوية اتفاقية تهدف للقضاء على الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى، وتأسيس مركز مشترك لمكافحة الإرهاب في العاصمة القيرغيزية "بشكيك". وقال الرئيس الصيني "جيانج زيمين" في ختام القمة: "إن توقيع اتفاقية للقضاء على التطرف والإرهاب يعكس العزم الحقيقي للدول الآسيوية الست: روسيا، والصين، وكازاخستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان، وأوزباكستان؛ لحماية الأمن القومي في المنطقة". وإذا تحدثنا عن جهود مجموعة شنغهاي في كبح جماح الإسلاميين، فلا بد من أن نشير إلى الاتفاقية، التي توصلت إليها الدول الأعضاء في إحدى قممها، التي كانت معقودة في "بشكيك" عاصمة جمهورية قيرغيزستان، في أغسطس 1999م- 1420ه . وتقوم الاتفاقية التى اقترحتها قرغيرستان على تشكيل "وحدة مكافحة إرهاب إقليمية"، وهو ما يعني "تقنين" التدخل العسكري الروسي والصيني في هذه الدول، كما حدث ويحدث في طاجكستان من قبل روسيا، وهو ما يعكس اعتماد أنظمة جمهوريات آسيا الوسطى على الجيش الروسي . ولم يتم اختيار هذا التوقيت الخاص بهذه الاتفاقية عفويًّا، وإنما اختير نتيجة عدة عوامل؛ كانت كلها(42/120)
تصبُّ في خانة المصالح الروسية- الصينية، وفي وسط ظروف كانت مهيأة لتدعيم الدور الروسي - الصيني في المنطقة. ففي ذلك الوقت، كانت الصين تصُبُّ جام غضبها لسحق حركة الاستقلال التي كان المسلمون الإيجور يقودونها في إقليم سيكينجانج الواقع غربي البلاد؛ وفي الوقت نفسه كانت روسيا تطحن الإسلاميين في داغستان بقواتها وعتادها، وهو ما أوقف بوتين على مشارف حرب شيشانية ثانية.. وعلى الجبهة الثالثة، كان الإسلاميون يُطاردون من جانب النظام القرغيزستاني في جنوب البلاد. وهذا بالطبع غير المواجهة المستمرة بين القوى الإسلامية وحكومة أوزبكستان، التي تعتقل الآلاف منهم بشهادات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان. وأهمية بشكيك - باعتبارها المهد الأول للاتفاقيات المبرمة ضد الإسلاميين - ظهرت جليًّا في قمة شنغهاي الأخيرة، حيث تم إعدادها - مدينة بشكيك - لتكون حاضنة لمركز إقليمي مُجهز بقوة متعددة الأطراف، تتميز بسرعة رد الفعل على الإسلاميين، ومنع تمددهم. من جهة ثانية، طوّرت الصين علاقتها بصورة قوية مع أوزبكستان وقيرغيزستان وتركمستان، حيث عقدت معاهدات لأمن وحماية الحدود مع البلدان الثلاثة، وبَنَت معها علاقات تجارية واستثمارات. وفي المقابل، تعهدت الدول الثلاث بعدم تقديم أي مساعدات لمسلمي تركستان الشرقية التي لها حدود مشتركة معها. ورغم أن روسيا تبدو غير مسرورة لتزايد نفوذ الصين في آسيا الوسطى فإن البلدَيْن يتفقان بشدة على ضرورة التصدي بقوة للمد الإسلامي في المنطقة. وهناك تعاون يصب في هذا الاتجاه ويجمع بين روسيا والصين وقازاقستان وقرغيزستان في إطار مجموعة شنغهاي(13).
وقد عقدت في العاصمة بيشكيك يوم 25 من كانون الأول- ديسمبر 2004م، جلسة للجنة الخاصة بالشؤون الدينية، ترأسها نائب رئيس الوزراء القرغيزي ك. عثمانوف، بحضور ممثلين من أجهزة الأمن في البلاد، وقد جرت خلال الجلسة مناقشة الوضع الديني الحالي في الجمهورية، والمسائل المتعلقة بتغيير سياسة الدولة بشأن مؤسسات دينية. وقد تقرر في ختام الجلسة "تشديد إجراءات موجهة إلى وقف نشاط الحركات الإسلامية التي تدعو إلى التغيير الشامل نحو الإسلام، وقد اتفقت أجهزة الأمن مع إدارة مسلمي قرغيزستان على طباعة رسائل ومنشورات، تشوه حقيقة طوائف دينية وجماعات سلفية، كما جاء التأكيد في الجلسة على ضرورة الإسراع في أعمال وقف نشاط طوائف غير إسلامية مثل كنيسة "مون"، وفالُونْجُونْ وحَنَّانْ دُولْنارْ (14).
الوجود الأمريكي في قرغيزستان:
برز الوجود الأمريكي في قرغيزستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م حين أعلنت الولايات المتحدة الحرب ضد أفغانستان، ودعت الدول المجاورة لأفغانستان للانضمام إليها في حملتها ضد ما سمته ( الإرهاب) ..
واستغلت الولايات المتحدة انضمام دول تركستان إلى جانبها في هذه الحرب، للضغط عليها لمواجهة المد الإسلامي في المنطقة، حيث قامت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت بزيارة قرغيزستان فى إطار جولة آسيوية شملت 3 دول في آسيا، سعت خلالها إلى التحريض ضد الصحوة الإسلامية في هذه المنطقة التي تضمّ غالبية سكانية إسلامية، وتشهد نشاطًا متزايدًا باتجاه العودة لتعاليم الإسلام بعد عقود من القهر الشيوعي .
ففى زيارتها لقرغيزستان في 16-4-2000م - 12-محرم 1421ه كان الهدف الأساسي منها تشجيع مواجهة الصحوة الإسلامية المتنامية في هذه الدولة، ومنح مساعدات أمنية لهذا الغرض كما حدث مع قازاخستان، إضافة إلى تعزيز النفوذ الأميركي في
المنطقة ليكون للولايات المتحدة الدور الرئيسي في "اللعبة الكبرى" الجديدة حول بحر قزوين الزاخر بالبترول والغاز الطبيعي.
وفي تأكيد لسعيها لمواجهة الصحوة الإسلامية بدول آسيا الوسطى تحت مسمى مواجهة الإرهاب والدعم الأمني.. أعلنت الوزيرة الأمريكية خلال محادثاتها مع رئيس قرغيزستان عسكر أكاييف أن واشنطن ستقدم المزيد من المساعدات المادية لقرغيزستان لتعزيز قدرتها في مواجهة تهديدات الإرهاب وتجارة المخدرات والأسلحة.
جاء ذلك بعد أن قررت أولبرايت في تصريحات نقلتها شبكة C.N.N الأمريكية أن واشنطن سوف تعطي قرغيزستان ثلاثة ملايين دولار لمساعدتها في مواجهة "الإرهاب"، وتجارة السلاح غير القانونية وتجارة المخدرات.
وفي هذا الإطار تسلم المعهد الإسلامي بالعاصمة القرغيزية بيشكيك من الإدارة الأمريكية خلال هذه السنة 200 ألف دولار أمريكي، وسيتمكن العديد من الطلاب القرغيز الذين يدرسون الإسلام في المعهد من مواصلة دراستهم في الولايات المتحدة على حساب الجانب الأمريكي.
وتتحمل الحكومة الأمريكية ذلك لغرض مشبوه، وهو إلهاء شباب الإسلام القرغيز عن الأفكار الإسلامية الصحيحة التي تروج لها الجماعات الإسلامية السنية التي اشتهرت الآن في منطقة آسيا الوسطى (15).
هذا ويوجد للقوات الأمريكية قاعدة جوية في مطار ماناس في قرغيزيا، يقيم فيه آلاف الجنود الأمريكان، وأكثر من 400 جندي فرنسي، وقوات أخرى مختلفة .(42/121)
وكان الرئيس القرغيزي عسكر أكاييف قال : إن صفقة الوجود الغربي في قاعدة عسكرية ستعطي بلاده الفرصة لتعزيز الأمن في مطاراتها، والرقي بخدماتها، وأبدى استعداده لتمديد اتفاق منح القوات الأميركية حق استخدام القاعدة الجوية في بلاده لمدة عام آخر.
وقد نشرت الولايات المتحدة قوات لها في قرغيزستان وأوزبكستان في إطار عملية مكافحة ما يسمى الإرهاب. وتنظر موسكو إلى هذا الوجود العسكري الأميركي والغربي في منطقة نفوذها التقليدية بريبة، وتأمل بأن تغادر تلك القوات المنطقة في القريب العاجل.
القاعدة الجوية الروسية :
استطاع الروس انتزاع موافقة الحكومة القرغيزية على إنشاء أول قاعدة جوية روسية في الأراضي القرغيزية، والتي تعتبر الأولى خارج روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث افتتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الخميس 27-8-1424ه هذه القاعدة الجوية، التي أطلق عليها اسم " قاعدة كانت الجوية"، على بعد 25 كلم من عاصمة قرغيزستان، وقال : "إننا نهدف إلى تعزيز الأمن في منطقة يمثل استقرارها عاملاً في الوضع الدولي".
وكان الرئيس الروسي يتحدث، وإلى جانبه الرئيس القرغيزي عسكر أكاييف في قاعدة كانت التي أصبحت مركزاً لحوالي 20 طائرة عسكرية روسية، ومروحيات، وحوالي 500 عسكري روسي.
وتركز مهمة القاعدة الرئيسية على توفير الدعم الجوي للقوات المتمركزة في المنطقة منذ العهد السوفياتي، خاصة الفرقة الروسية ال 201 في طاجيكستان، التي شهدت حرباً ضد الإسلاميين في التسعينيات .
وتبعد القاعدة بضعة كيلومترات عن قاعدة أميركية في مطار بيشكيك، تدعم العمليات في أفغانستان المجاورة (16).
الإسماعيية الآغاخانية في قرغيزستان :
الإسماعيلية حركة باطنية ضالة، لها وجود في الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وقد
=============(42/122)
(42/123)
المتمسلمون
لما ذكر مؤرخ الإسلام الحافظ الإمام الذهبي أنواع التواريخ التي تناولت شتى طبقات المجتمع المسلم والتي أوصلها إلى أربعين تاريخاً حتى أنه ذكر منها تاريخ عقلاء المجانين والموسوسين والمنجمين والسحرة . . ليته ـ رحمه الله ـ ذكر منها تاريخ أولئك الخونة الذين سودوا صفحات التاريخ بمواقفهم وعمالتهم . .
هم لم يسقطوا ملوكاً فحسب بل أسقطوا شعوباً وأمماً وخلافات , وللأسف فإن العلماء وسابروا التاريخ وقتها أصيبوا (برهاب سياسي) فتولد عندهم خوفاً من الخوض في مثل هذه القضايا الخطيرة مما جعلها تصبح حبيسة الأذهان . ومن تكلم من العلماء حينها وصدع بكلمة الحق أصبح يترقب (ضيوف الفجر) ممن كابدوا الليل لا بطول قيام وإنما بخبث طوية وفساد معتقد!!
وقد حدثنا التاريخ كثيراً عن أولئك الخونة(المتمسلمين)حدثنا عن عبد الله بن سبأ لما كان يعمل في الخفاء ويُحدث الفتنة كما في حادثة الجمل , وبالثورة والتأليب كما وقع منه حيال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ..
حدثنا التاريخ عن عبيد الله بن يزيد قاتل الحسين..
حدثنا التاريخ عن أبي دؤاد المعتزلي قاتل القضاة والعلماء..
حدثنا التاريخ عن أبي طاهر القرمطي منتهك حرمة المسجد الحرام ..
حدثنا التاريخ عن الحسين الحلاج صاحب البدعة المكفرة والقول بالحلول والإتحاد ..
وحدثنا التاريخ عن ابن العلقمي الوزير المنافق صاحب الرسائل العلقمية الخائنة لهولاكو...!!
إن التاريخ القديم كما حدثنا عن أولئك الخونة ( المتمسلمين) في الحقبة الماضية , فقد حدثنا التاريخ الحديث عن أسماء سوداء وعملاء مرجفين وطوابير مختلفة الأجناس والتوجهات للإطاحة بدول عربية تنتمي إلى الإسلام ولو بالظاهر أمثال حسني الزعيم, وأديب الشيشكلي, وسامي الحناوي ,وأسعد طلس ـ عميل بريطانيا الوفي ـ ونوري السعيد وأحمد خان قائد اتجاه التغريب في الهند ومؤسس المدرسة الفكرية التغريبية والذي دعا إلى تقليد الحضارة الغربية وإلى تفسير الإسلام تفسيراً مطابقاً لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر . وغير هؤلاء الكثير الكثير ممن تعرفهم بلحن القول..!!
ولذلك كتب الدكتور محمد محمد حسين وقتها كتابه القيم "حصوننا مهددة من داخلها" وشنع فيه على الإنهزاميين( المتمسلمين) الذين وقعوا تحت سيطرة الأفكار والنظم الغربية.
ومثل هؤلاء لا ينبغي أبداً أن يذكر أحدٌ لهم سيره وإنما تكفي الإشارة بأسمائهم ، فهم في الحقيقة لا يستحقون أن يرفع لهم ذكر أو شأن وإن كانوا أبقوا بصماتهم في دولهم بصمات الخزي والعمالة والتخريب .
إن بعض هؤلاء العملاء حاول أن يبني له ( قاعدة صلبة ولو على المدى البعيد ) قاعدة ذات نتائج وخيمة وأهداف خبيثة وخطط مدعومة والأثر المترتب على ذلك الإطاحة بكيان الأمة المسلمة .
ولذلك لما حصلت الانقلابات المتتالية في الدول العربية المجاورة في السنوات السابقة كانت قوى الانقلاب فيما تُدعم من عدوٍ خارجي لمصالح ومطامع ثرواتية فيها . وبينما كانت هذه الدول العربية تتقلب بين هذه الانقلابات كانت إسرائيل التي قامت على أكتاف الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية تعد العدة للعدوان والاحتلال وتوسيع رقعتها الجغرافية .
إن العدو الآن يتربص بنا وإننا لنعلم أن هناك خططاً تآمرية رهيبة تطبخ بدوائر ( البنتاغون ) والمخابرات المركزية الأمريكية على نار هادئة . وما تقارير مؤسسة راند الأمريكية لدراسات طبيعة الشرق الأوسط والتيارات الإسلامية بها إلا أكبر نموذج مشاهد بهذا التربص فهل لك أن تعي الواقع الذي من حولك ؟!
إن ما كنا نسمعه من أسماء لهولاء العملاء الخونة في بلد عربي مثل مصر أمثال فكري أباضه -صاحب مقالة إن أعظم رجل في التاريخ الحديث هو مصطفى كمال أتا تورك -ومن تصدروا أعمدة الصحف والمجلات في تلك الحقبة أمثال عبدا لرحمن الشرقاوي ويوسف الخال وغيرهم من ( المتمسلمين ) الذين ينتسبون للإسلام اسماً وهم في حقيقة الأمر أعداء حاقدون ، هم أنفسهم -وإن اختلفت أسمائهم -الذين نراهم ونشادهم في قنواتنا وهم الذين اعتلوا أعمدة صحافتنا وفُتح لهم المجال لكتابة ما يريدون .. !! كنا نعرفهم ( طابوراً خامساً ) فإذا بهم طوابيراً منظمة ومدعومة .
ولا زالت ( الصحافة الصفراء ) تخِّرج لنا أسماءً جديدة لهولاء ( المتمسلمين ) وتنشر لهم أفكاراً مستوردة حتى أضحت هذه الصحافة التي تحتضنها بعض البلاد المسلمة حرباً على الإسلام هدفها هدم القيم الإسلامية وتدمير مفاهيمها .
إن الخيانة التي نتحدث عنها هنا ليست قيام بعض الأشخاص بالتجسس لصالح العدو وقت السلم أو وقت الحرب فمثل أولئك يعرفهم الناس وتلفظهم الشعوب , ويحتقرهم كل عاقل ..
إن الخيانة التي نعنيها هي تلك التي يقوم بها أناس من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ويكيدون في نفوسهم أو عند ملئهم لكل ما يمت للإسلام بصلة , سواءً كانوا حكاماً أو وزراء أو مفكرون أو ليبراليون ( متمسلمون ) .(42/124)
إن ما حدث من الخيانات منذ قرون وسنوات مازالت تخلف وراءها الآثار السلبية وتؤكد أن الجرح لازال غائراً .. ولا أدل على ذلك من الآثار التي بقيت بعد ( واضح الصقلي) أول من استعان بالغرب ضد أهل الإسلام !!
نعم سيظل ابن سبأ ومن كان على شاكلته رمزاَ لخيانة الضمير قبل خيانة العقيدة وخيانة الوسيلة قبل خيانة الهدف .
* العروض المجانية :
من العروض المجانية التي سجلها التاريخ الحديث ما تلقاه السلطان عبد الحميد الثاني الخليفة العثماني حينما تلقى عروض هرتزل ممثل الصهيونية العالمية ،وكرر إغراءاته لإنقاذ الدولة العثمانية من ديونها ، وتقوية جيوشها وتدعيم اقتصادها ، مقابل (بيع فلسطين!!) والتنازل عن بعض أراضيها .. فما كان أمام السلطان إلا أن يرفض إغراءات العروض الصهيونية ويصمم على الحفاظ على سائر الديار الإسلامية ، فثارت القوى الصهيونية ،وخرجت التسمية الأوربية للدولة العثمانية باسم (الرجل المريض ) وظهر في عالم السياسة ذلك الوقت ما عرف (بالمسألة الشرقية ) والتي سعت فيها أوربا لطرد العثمانيين وتقسيم ممتلكاتهم .
ثم توالت (العروض المجانية) حتى اختير الرجل المناسب في المكان المناسب ـ ممن باع آخرته بدنياه ـ لما لمُع شخص (كمال أتاتورك) ذلك (المتمسلم ) الذي عرف بلقب الغازي لما فُتحت الأبواب أمامه وأُظهر انتصاره على اليونانيين ،ولكنه لم يلبث حتى ظهر على حقيقته ، وأنه صنيعه لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى .
وفي عام 1342 هـ قدم أعظم هديه للغرب (إلغاء الخلافة )و لما أثقلت كاهله العمالة وطمست على قلبه وأعمت بصره وبصيرته قال بعد أن ألقي القرآن ذات مره في يده (إن ارتقاء الشعوب لا يصلح أن ينفذ بقوانين وقواعد سنت في العصور الغابرة ) .
ومثل هذه العروض المجانية ما تقوم به الدول العربية و الشرق أوسطية من القيام بدعوة أبناءها للإبتعاث في الخارج .. والنتيجة أن يصبحوا لقمة سائغة للتغريب ،ويذوب الطرف الأضعف في الطرف الأقوى ذوباناً شبه كامل حيث يترسَّمون خطاهم ويسيرون على منوالهم في كل شيء في النظم و التشريعات و القوانين بل حتى في الزي واللباس وطريقة التفكير . وما نموذج رفاعة الطهطاوي من مصر ، وخير الدين التونسي من تونس ،إلا أكبر شاهد لنقل الحضارة (الباريسية)التي ترعرعوا عليها هناك .
إنما تبثه بعض قنواتنا العربية وما تلاقيه من دعم من جهات مشبوهة لأكبر شاهد على القيام بدور العمالة والخيانة ، لكن بدل أن يقوم بهذا الدور فرد قام به أفراد وجماعات منظمة !! وبدل أن تكون ارتجالية أصبحت مؤسسية وتدار على طاولة النقاش !!
يجلي ذلك ما ذكر في تقرير ( r anD2007) من الإشارة إلى الدعم التي تتلقاه قناة الحرة الفضائية وراديو (سوا) ـ و التي تخاطب سكان دول الخليج على وجه الخصوص ـ والذي بلغ (671)مليون دولار في السنة !!.
وهذا دليل جديد على الدعم المستمر لكل ما من شأنه زعزعة الهوية الإسلامية .
* الأفكار التوفيقية :
إن هذه الأفكار نشأة نتيجة الإغراق في التبعية للغرب والتي نستطيع أن نقول أنها بدأت بعد انهيار الخلافة العثمانية حينما واجه الغرب الصليبي والشيوعية والصهيونية الأمة الإسلامية ونشط حينها ( المتمسلمون ) وأصبحوا في حل من القيود ، وأخذت أفكارهم تجد هوى وتأييداَ لدى العامة لتصبح رأياً عاماً باسم التقدمية والنهضة والإصلاح !! وقامت هذه المدرسة الجديدة ذات الأفكار التوفيقية والتي ترمي إلى التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية في ميادين الحياة حتى كان من نتاج هذه الأفكار : تفسير النصوص تفسيراً عصريا يلائم الفكر السائد !!
وقد ألجأ الهجوم الفكري في هذه المدارس إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام إذ جردته من كثير من أحكامه الصريحة نحو تعدد الزوجات ، والربا ، والتماثيل ، والجهاد ، وأهل الذمة .. فأصبحت هذه الأمور عندهم من نقاط الضعف في الإسلام والتي تحتاج إلى دفاع !!
اسأل الله بمنه وكرمه أن يكفينا شر هؤلاء ( المتمسلمين ) وأن يكبت انتشار أفكار هذه المدرسة التغريبية . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
================(42/125)
(42/126)
نقض اسس الماركسية
مقدمة
ان الاسلام لم يهزم في حوار مفتوح ولا في نقاش , ويود كل مفكر اسلامي ان تقوم ندوات عالمية , يطرح فيها كل مذهب ودين فلسفته وتشريعه , ويأخذ الحوار المفتوح مداه في النقاش بين ممثلي المذاهب والاديانابتغاء الحقيقة , ولظروف معينة اصبحت الاشتراكية ينادى بها فوق ارضنا ولكن لا يجب ان يغيب عن المفكرين الامناء ان اساتذة الاشتراكية في العالم يعتبرونها مرحلة بين عصرين وهذا ما دعا الول الشيوعية (سابقا) الى ان تحتفظ لاحزابها السياسية باسم الحزب الشيوعي دلالة على صفة المستقبل الذي سينتهون اليه ( والذ انتهى) واود ان اؤكد ان عطاءنا لهذا العلم الحائر هو نفس عطاء الصدر الاول , فهم لم يخرجزا للعالم ليطوروا الصناعات واساليب الزراعة , بل خرجوا ليغيروا النفوس وليقدموا للبشرية المنهج الرباني القويم في علاج كل قضايا الانسان , قدوا لها التوحيد بدل الشرك والحب بدل الصراعات والاخوة بدل العصبيات والعدالة والكرامة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر واحلوا لهم الطيبات وحرموا عليهم الخبائث ووضعوا عنهم اصرهم والاغلال التي كانت .
والمبدأ عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام اما العقيدة فهي فكرة كلية عن الكون والانسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعدها , وهذا هو طريق النهضة , فكان لا بد من تغيير فكر الانسان الحاضر تغييرا اساسيا شاملا وايجاد فكر اخر له حتى ينهض لأن الفكر هو الذي يوجد المفاهيم عن الاشياء ويكز هذه الفاهيم والانسان يكيف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عنها , فمفاهيم الانسان عن شخص يحبه تكيف سلوكه نحوه على النقيض من سلوكه مع شخص يبغضه , وعلى خلاف سلوكه مع شخص يبغضه , فالسلوك الانساني مربوط بمفاهيم الانسان وعند ارادتنا ان نغير سلوك الانسان المنخفض ونجعله راقيا لا بد من تغيير مفاهيمه , والطريق الوحيد لتغغير المفاهيم هو ايجاد الفكر عن الحياة الدنيا حتى توجد بواسطته المفاهيم الصحيحة عنه , والفكر عن الحياة الدنيا لا يتركز تركزا منتجا الا بعد ان يوجد الفكر عن الكون والانسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها وذلك باعطاء الفكرة الكلية عما وراء هذا الكون والانسان والحياة لأنها القاعدة الفكرية التي تبنى عليها جميع الافكار عن الحياة واعطاء الفكرة الكلية هو حل العقدة الكبرى عند الانسان ومتى حلت هذه العقدة حلت باقي العقد لأنها جزئية بالنسبة لها لكن هذا الحل لا يوصل الى النهضة الصحيحة الا اذا كان حلا يوافق العجز الطبيعي عند الانسان ويقنع العقل , والنهضة هي الارتفاع الفكري , ولا يمكن ان يوجد هذا الحل الا بالفكر المستنير عن الكون والانسان والحياة , ولذلك كان على مريدي النهضة والسير في طريق الرقي ان يحلوا هذه العقدة اولا حلا صحيحا بواسطة الفكر المستنير وهذا الحل هو العقيدة ( تعريفها اعلى) , وهو القاعدة الفكرية التي يبنى عليها كل فكر فرعي عن السلوك وعن انظمة الحياة.
والاشتراكية ومنها الشيوعية ترى ان الانسان والكون والحياة مادة فقط وان المادة هي اصل الاشياء ومن تطورها صار وجود الاشياء ولا يوجد وراء هذه المادة شيء مطلقا وان هذه المادة أزلية قديمة لم يوجدها احد اي انها واجبة الوجود , ولذلك ينكرون كون الاشياء مخلوقة لخاق اي ينكرون الناحية الروحية في الاشياء ويعتبرون الاعتراف بوجودها , خطرا على الحياة , ولا وجود لشيء سوى المادة , حتى ان الفكر عندهم انما هو انعكاس المادة على الدماغ وعليه فالمادة اصل الفكر واصل كل شيء ومن تطورها المادي توجد الاشياء , ولذلك فهم ينكرون وجود الخالق ويعتبرون المادة ازلية فهم ينكرون ما قبل الحياة وما بعدها ولا يعترفون الا بالحياة فقط.
توطئة
تشتمل الماركسية على ثلاث قضايا رئيسية
المادية الجدلية
المادية التاريخية
فائض القيمة
مترابطة عضويا ومشدودة الى بعضها البعض بخلايا بينية من مختلف الفروع والقضايا العلمية التي يحظى كل فرع منها بدراسة مستقلة على ايدي مختصين وبتشابك هذه الخلايا مع محاورها الاساسية على ايدي المنظرين او فلاسفة الماركسية يتكون نسيج الماركسية , ذلك النسيج الذي وضع اسسه ماركس وطورته اضافات لينين وستالين وخروشوف ومن بعدهم , ومن ثم فان الدراسة تقتضي الماما ومتابعة لما يسمى بالماركسية اللينينية الستالينية الخروشوفية الماوية ....
ومع هذا فان تركيزنا على الاطار النظري الذي تركه ماركس سببه ان هذا الاطار السابق على كل الاضافات ما زال هو الفعال في مجال الاقناع بالماركسية .(42/127)
لقد عاصر ماركس نهاية عصرمملوء بالاسى وبداية عصر متفتح بالامل واختار اسلحة العصر التقليدية وعلى رأسها المادية وقد تأثر بمادية فيورباخ وجدل هيجل وصاغ منهما فلسفة مادية متماسكة ولذلك فلو لم يوجد هيجل وفيورباخ لما وجد ماركس , ومن ثم فلسفته المادية لم تخرج عن الصورة الفكرية الشائعة في عصره , ورغم ان ماركس حاول في بادىء الامر ان يطرح عن الفلسفة مهمة التفسير اي مهمتها كمذهب يعالج مجموعة من القضايا حول الانسان والعالم والمصير وان يقصر وظيفتها على التغيير اي على قيامها بمهمتها كمنهج يرسم طريقا للتفكير والعمل فقط الا انه لم يستطع وراح يدلي بفلسفة قائمة على التفسير حيث ادلى بمجموعة اقول عن الانسان والعالم والمصير , وهذا يؤكد بان الانسان لا يملك ان ينعزل عن ان يكون له نوع اعتقاد في الحياة من حوله , وكون ماركس لم يخرج في مجموع فلسفته عن الصورة الفكرية الشائعة في عصره يكشف عن نقطة ضعف كامنة في شخصيته لأنه لم يبعد في نظرته للامور عن الفهم الجزئي , وكان في استطاعته ان يكون اكبر من ذلك واكثر عمقا لو تخير الصواب أنى وجده سواءا أكان في جانب المثالية ام في جانب المادية . ولكن ماركس لم يفعل بل لم يستطع ان يفعل فكان في مجموعه ممثلا لروح العوام الساخطة لا لروح العلماء المدققة المنصفة المرتفعة على الظروف الوقتية ( ولذلك فان علة الامر تكمن في وجوب دراسة نفسيته التي دفعته الى هذا الاختيار الابتر - وها ما لن نفعله)
وموضوعنا الاول هل الوجود مادة فقط ؟ وكيف بدأت الحياة؟
المادة واشكال وجودها
" لقد اعطى لينين تعريفا علميا حقيقيا شاملا للمادة في كاتبه " المادية والنقد التجريبي : حيث كتب يقول" المادة مفهوم فلسفي اساسي يعني الواقع الموضوعي الموجود بشكل مستقل عن حواس الانسان , هذا هو الواقع الوضوعي الذي تعكسه وتصوره وتنسخه حواسنا"
"ويعكس التعريف اللينيني للمادة التضاد الجذري بين المادية الديالكتيكية والمثالية واللاادرية ( وللتعريف اللينيني مغزي إلحادي عميق فهو يقوّض من الاساس الاوهام الغيبية عن خلق العالم , وفي الواقع اذا كانت المادة هي الاولى ووجدت منذ الازل فهذا يعني انها لم تخلق ولن تزول وانها السبب الداخلي النهائي لكل ما هو موجود , .... ولهذا فالعالم المحيط بنا هو عالم مادي موحد , .... ان الاشياء الحسية تتبدل وتتحول من واحد الى آخر غير ان المادة لا تفنى ولا تستحجث" منقول من اسس الفلسفة الماركسية , ق. افاناسييف , ترجمة عبد الرزاق الصافي , دار الفارابي
ولكن هذا التعريف السطحي تنبه له الاتباع في القرن العشرين , فاعدوا صياغة التعريف بانه : الوجود الموضوعي خارج الذهن .
ومن المعروف ان الحواس هي ابطأ ادوات المعرفة ولذلك يشترك فيها الانسان والحيوان في ادراك البيئة المحيطة به ,ثم لم يكن مفر من العقل كأداة ارقى في المعرفة حتى انتهت به رؤيته للمادة الى حافى الاثير عندما خرج عن كل صفة معروفة من صفات المادة ولم يبق الا حسبة رياضية لها دلالة كبرى وهي ان الانسان ليس من صنع المادة لان المصنوع لا يحيط بصانعه , والانسان احاط بصور المادة وخرج بها الى دائرة اوسع منها هي دائرة الاثير , بل الى عمليات فكرية رياضية في قدرة الانسان ان يحتويها , وهذا لا يتأتى الا اذا كان في طبيعة الانسان شيء يعلو على مكونات المادة . واذا تحولت المادة الى حسبة رياضية يحتويها الفكر , فان ذلك يجعل المنطق القائل بان المادة اسبق في الوجود على الفكر في مأزق شديد , " ورد في كتاب اسس الماركسية اللينينية " ان النشاط الذهني او الفكر خاصة ميزة للمادة , ولكنها ليست شكلا من اشكال المادة , " ثم يأتي التناقض في نفس الكتاب " ان الجدلية المادية ترفض اي فصل بين الفكر والمادة"
قلنا ان مفهوم المادة تطور من مفهوم ما يقع عليه الحس الى مفهوم الوجود الموضوعي خارج الذهن , وهذا طوره اتباع الفكرة الماركسية في القرن العشرين واعتبرنا ذلك تراجع , هم يسمون ذلك تطور ولكن حقيقة الامر ان ذلك ليس تطورا بل امر خارج عن الصراع القائم الذي يدّعونه داخل المادة , فلم تكن كل اشكال المادة مكتشفة , وعندما تم اكتشافها تباعا بدء ما يسمى يالتطور لتعريف المادة, وان تفجير المادة في القرن العشرين قد فتح الباب امام تعريفات جديدة للمادة محاولات اعمق في فهمها قال اوستوالد" المادة صورة من الطاقة فحسب"وقال ليبون" المادة صور مختلفة من الطاقة" وقال ادنجتون" ان المادة مركبة من بروتونات والكترونات اي شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء, فاللوح هو في الحقيقة مكان فارغ مشتمل على شحنات كهربية مبعثرة هنا وهناك " , ومع الاقرار بان الشيوعية ومنها الاشتراكية مبدأ اي عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام الا انه من الخطورة ان تكون اسس الفكرة مستندة على العلم , وعلى اتباع كل منهج ان يثبتوا عقيدتهم بالطريقة العقلية لا بالطريقة العلمية , لأن الطريقة العقلية توصل الى القطعية في الاثبات , لاستنادها على التلقي والاخبار والاستنباط اما الطريقة العلمية فتحتاج الى التجربة والاستنتاج ,(42/128)
يقول الاستاذ العقاد في كتاب عقائد المفكرين " حدثت في السنوات الاخيرة من القرن التاسع عشر حوادث علمية غيرت كل صورة من صور المادة عرفها الاقدمون" , اذن ليست المادة في تطور وانما اكتشاف اشكال المادة في تطور
تقوم الفكرة الاشتراكية الماركسية على ما يسمى بالمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية . ام المادية الديالكتيكية فهي النظرية العامة للاشتراكية ومنها الشيوعية وقد سميت بالمادية الديالكتيكية لان اسلوبها في النظر الى حوادث الطبيعة جدلي اي ان طريقتها في البحث والمعرفة هي اكتشاف تنافضات الفكر والمصادمة بين الاراء بالنقاش اي هي جدلية . ولأن تعليلها حوادث الطبيعة وتصورها لهذه الحوادث , مادي اي نظرتها مادية واما المادية التاريخية فهي توسع افكار المادية الديالكتيكية حتى تشمل دراسة الحياة في المجتمع اي تطبق افكار المادية الديالكتيكية على درس المجتمع ودرس تاريخ المجتمع .
والمادية الديالكتيكية تعني النظرية المادية وهي ان الكون والحياة والانسان مادة تتطور من نفسها تطورا ذاتيا فلا يوجد خالق ولا مخلوق وانما تطور ذاتي في المادة وتسير هذه المادية اي مادية ماركس من الفكرة القائلة بان العالم بطبيعته مادي وان حوادث العالم المتعددة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة وان العلاقات المتبادلة بين الحوادث وتكييف بعضها لبعض بصورة متبادلة كما تقررها الطريقة الديالكتيكية هي قوانين ضرورية لتطور المادة المتحركة وان العالم يتطور تبعا لتطور المادة المتحركة وهو ليس بحاجة الى عقل كلي , فهذا الاسلوب الديالكتيكي في التفكير الذي طبق فيما بعد على حوادث الطبيعة اصبح الطريقة الديالكتيكية لمعرفة الطبيعة, وان حوادث الطبيعة بموجب هذه الطريقة هي متحركة متغيرة دائما وابدا وتطور الطبيعة هو نتيجة تطور تناقضات الطبيعة نتيجة الفعل المتبادل بين القوى المتضادة في الطبيعة فالمادية الديالكتيكية تقول ان العالم يتطور تبعا لقوانين حركة المادة وانه ليس بحاجة لأي عقل كلي وانه واحد لم يخلقه اله وهذا باطل قطعا.
لماذا قبل البحث في خطأ كون الوجود لا يحتاج الى عقل كلي احب ان اوضح امر سنعود اليه لاحقا , وهو ان القول بقانون التناقض _ خطأ علمي يطبع السلوك بالتمزق , فهو خطأ من الناحية العلمية لان ظواهر الوجود قائمة على التوازن الناتج من الحركة حول محور ثابت , فالتوازن هو الاصل والصراع يحجث عند الاخلال بهذا التوازن , ومن ثمّ كان الصراع معطلا للحركة ومعوقا للتقدم , وليس عاملا في الحركة وباعثا على التقدم , واشتداد الصراع قد ينجم عنه التدمير الكامل للظاهرة محل الصراع , هذا المفهوم البسيط كان غائبا كان غائبا عن الماركسيين امام سيطرة الرغبة العارمة والهوى الجامح في سبيل البحث عن فلسفة مادية تكون بديلا للمذاهب المثالية , وان كانت الفلسفة المادية هي رد فعل الفلسفة المثالية وتعبير عن ازمتها , فهي في الوقت نفسه تعبير عن ازمة صاحبها النفسية , لأنه تحت سيطرة هذه الرغبة القوية غابت عنه الحقائق البسيطة,.
نعود الى موضوع العقل الكلي , فنقول ان كون الاشياء المدركة المحسوسة موجودة امر قطعي , لأنها مشاهدة بالحس , وكونها محتاجة لغيرها امر قطعي , لانها لا تستطيع التصرف والانتقال من حال الى حال الا بغيرها , فالنار تحرق اذا كانت المادة الاخرى فيها قابلية الاحتراق , واذا لم تكن فيها قابلية الاحتراق لا تحترق , وكذلك التفاعلات الكيماوية , فلا تتم الا بان تكون امكانية التفاعل واردة , فهذه المواد لا تستطيع ان تتصرف ولا ان تنتقل من حال الى حال الاضمن وضع قاصر على حالات معينة. فهي اذن محتاجة جتى لو فرض انها محتاجة الى هذه العوامل وهذه الحالات , وهذا دليل قطعي على ان الاشياء المدركة المحسوسة محتاجة الى غيرها ولا يقال ان الاشياء المدركة المحسوسة احتاجت لبعضها ولكنها في مجموعها مستغنية غن غيرها لا يقال ذلك لأن الحاجة انما توضع للشيء الواحد , فالحاجة والاستغناء متمثلة في الشيء الواحد ولا يوجد شيء يتكون من مجموع ما في الكون حتى يوصف بانه مستغن او محتاج , ولا يقال ان الاشياء احتاجت لبعضها , فلا يكون دليلا على انها محتاجة لخالق , فان البرهان على اثبات مجرد الاحتياج , لا الاحتياج لخالق , فمجرد وجود الاحتياج في كل شيء يثبت الاحتياج فك كل شيء, ولا يقال بان كل جزء محتاج الى جزء آخر فالاجزاء جميعها محتاج بعضها الى بعض , فالثابت هو ان كل شيء محتاج الى شيء آخر وهذا لا يثبت ان الاشياء محتاجة مطلقا , لا يقال ذلك لان احتياج الشيء ولو الى شيء واحد في الدنيا يثبت انه لا يوجد في الكون شيء يستغني الاستغناء المطلق, فمجرد ثبوت الاحتياج الى شيء واحد والاحتياج مما يدل على الجنس , اي على الماهية يثبت وصف الاحتياج لكل شيء في الكون , ولذلك فان احتياج كل جزء الى جزء آخر يثبت قطعا وصف الاحتياج وهذا كله ملموس محسوس بالنسبة الى جميع الاشياء الموجودة على سطح الارض ,
اما بالنسبة الى الكون والانسان والحياة(42/129)
واما الحياة فان احتياجها الى الماء والى الهواء والى الغذاء ملمومس ومحسوس واما الانسان فان احتياجه الى الحياة ثم الى الطعام وغير ذلك ملموس ومحسوس , اما الكون فانه مجموعة اجرام وكل جرم منها يسير بنظام معين لا يملك غيره وهذا النظام اما ان يكون جزء منه او خاصية من خواصه او شيئا آخر غيره ولا يمكن ان يكون واحد من غير هذه الثلاثة مطلقا
اما كونه جزء منه فباطل لان سير الكواكب يكون في مدار معين لا يتعداه والمدار هو كالطريق غير السائر فيه , والنظام الذي يسير به ليس مجرد سيره فقط بل تقييده في هذا المدار ولذلك لا يمكن ان يكون هذا النظام جزء منه , وايضا فان السير ليس جزءا من ماهية الكوكب بل هو عمل له , واما كونه خاصية من خواصه فباطل لأن النظام ليس هو سير الكوكب فحسب بل سيره في مدار معين , فالموضوع ليس السير بل السير في وضع معين , فهو ليس كالرؤية في العين من خواصها بل هو كون الرؤية في العين لا تكون الا بوضع مخصوص , ومثل كون الماء لا يتحول الى بخار الا بنسبة معينة , هذا الوضع المفروض على الكوكب وعلى العين وعلى الماء هو النظام , فانه وان كان السير من خواص الكوكب من خواصه الا ان السير بوضع مخصوص ليس من خواصه , والا لكان من خواصه ان ينظم سيره بنفسه , وحينئذ يستطيع ان ينظم نظاما آخر ما دام من خواصه التنظيم , ولا يستطيع ذلك , وما دام ليس من خواصه وليس جزءا منه فيكون قد احتاج لغيره اي احتاج الكون الى نظام ,
ومدلول كلمة احتياج يعني انها مخلوقة لان مجرد حاجته تعني انه عاجز عن ايجاد شيء ما من العدم اي عاجز عن ايجاد ما احتاج اليه فهو ليس خالقا وما دام ليس خالقا فهو مخلوق لان الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق ولا ثالث لهما
قلنا ان احتياج الشيء الى شيء آخر يثبت ان هذا الشيء مخلوق لأنه لم يستطع ان يوجد الشيء الذي احتاجه , وكما قلنا فان مدلول كلمة محتاج اي مخلوق , وما دام ان الشيء محتاج فلا يمكن ان يكون ازليا , لأن مدلول الازلي انه لا يستند الى شيء , اذا لو احتاج في تصرفه وتحوله الى شيء لكان محتاجا الى شيء في وجوده , ولو احتاج في وجوده الى شيء لكان هذا الشيء موجودا قبله فلا يكون ازليا فالازلي لا يحتاج الى شيء ولا يستند الى شيء في وجوده وتصرفه , وما دام المحتاج ليس ازليا فهو مخلوق قطعا , وكون الاشياء التي يحسها الانسان محتاحة يعني ذلك قطعا انها مخلوقة لخالق
وهذا الخالق لا بد ان يكون غير مخلوق اذا كيف يكون خالقا لنفسه وخالقا لغيره ,
والخالق لا بدان يكون ازليا لا اول له لانه لو كان له اول لكان مخلوقا , والازلي تستند اليه الاشياء ولا يستند الى شيء , وهذا الازلي هو مدلول كلمة الله اي هو الله تعالى .
اما ما يحسه الانسان فهو الكون والانسان والحياة , ونستطيع ان نثبت كونها مخلوقة بعدة طرق
منها :
براهين العقل المحض ومنها الانتقال من النظام الى المنظم او الانتقال من المتحرك الى الثابت او برهان المحدودية وهو من اسهل براهين اثبات ان الكون والانسان والحياة مخلوقة لخالق
براهين النظر والتي يشتمل عليها القران
برهان التواتر
اما الانسان فهو محدود لان له بداية وله نهاية ويصل الى حد لا يتجاوزه وما ينطبق على الانسان ينطبق على كل فرد من افراده فالفرد الانساني يموت اذن جنس الانسان يموت , وقد يعترض معترض بان الفرد يموت اما الجنس الانساني فانه يكثر وبالتالي فان الجنس الانساني غير محدود , لا يقال ذلك لان جنس الانسان ليس مركبا من مجموع افراد حتى يقال بان الانسان يموت اما الجنس فانه لا يموت بل الانسان ماهية معينة تتمثل في افراد والحكم لا يجوز ان ينصب على مجموعه وانما الحكم ينصب على الماهية فمظهر الحياة في الانسان فردي , فاذا نظرنا الى مجموعه نراه لا ينفذ اما اذا نظرنا الى جنسه نراه ينفذ والجنس المتمثل في الفرد الواحد يموت معناه ان حنس الانسان من حيث هو يموت وعليه فان الانسان محدود
والحياة كذلك محدودة لان مظهرها فردي فقط والحياة مرتبطة بالفرد والفرد محدود اذن الحياة محدودة سواءا في الانسان او الحيوان او النبات
اما الكون فهو مجموعة اجرام وكل جرم محدود وكل جرم له اول وآخر ومجموع المحدودات محدود بشكل بدهي
اذن الكون والانسان والحياة محدودة قطعا والمحدود محتاج وليس ازلي اذن الكون والانسان والحياة مخلوقة لغيرها وهذا الخالق هو الله تعالى , والقول بان الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق ليس فرضية وانما هو حقيقة حتمية
في اللقاء القادم : التفريق بين مفهوم الاحتياج الذي تكلمنا عنه ومفهوم الشرطية في الفكر الماركسي(42/130)
قلنا إن عجز الشيء عن خلق ما يحتاج إليه يثبت انه مخلوق فلو خلق الشيء كل ما حوله وعجز عن خلق ما يحتاج إليه فهو مخلوق, فالماء حتى يصل إلى درجة الغليان يحتاج إلى 100 درجة مئوية فالماء لا يستطيع أن يوفر هذه الدرجة إلا وفق ظروف معينة من حرارة وضغط جوي وهذا النسب هي ليست جزءا من الماء ولا يمكن للماء توفيرها ولكن هل هذه النسبة هي شرط لتحول الماء إلى درجة الغليان أم أن الماء يحتاج إلى هذه النسبة وما الفرق بين مفهوم الاحتياج ومفهوم الشرطية كما يراه الماركسيون, وما هو مفهوم الشرطية الماركسية
إن مفهوم الشرطية الماركسية تعني أن كل شيء تكتنفه شروط من حوادث وأشياء تحيط به ولا يمكن فصل الشيء عما يحيط به فأي حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظر إليه منفردا أي بمعزل عن الحوادث المحيطة به أي أن أي حادث في أي ميدان يمكن أن ينقلب إلى عبث فارغ لا معنى له إذا نظر إليه بمعزل عن الشروط التي تكتنفه وإذا فصل عن هذه الشروط , فأي حادث من حوادث الطبيعة يجب إن ينظر أليه كما تحدده وتكيفه الحوادث المحيطة به فالشرطية في الفكر الماركسي تعني ارتباط الأشياء ببعضها البعض ارتباطا لا ينفصم بحيث تكون جميعها وكل واحد منها شرطا في وجود ما تكتنفه وفي إنتاجه وفي إدراك حقيقته , أي أن كل حوادث الطبيعة يكيف بعضها بعضا بصورة متبادلة وهذا معنى كونها شروطا أي هذا هو معنى الشرطية فهي شرح لارتباط الأشياء بعضها ببعض بحيث يتأثر بعضها بالآخر ويؤثر فيه وليس شرحا لمعنى الاحتياج وما يترتب عليه ليس هو ما يترتب على الاحتياج فان ما يترتب عليه هو انه إذا كانت الأشياء في الطبيعة مرتبطا بعضها ببعض بصورة متقابلة واحدها شرطا للآخر فانه لا يحكم على النظام إلا ببناء هذا الحكم على أساس الظروف التي ولدت هذا النظام ولا يمكن الحكم على شيء إلا على أساس ما يحيط بذلك الشيء ولكن إذا كانت الأشياء في الطبيعة منفصل بعضها عن بعض فانه يمكن فهم النظام دون نظر لظروف أي دون نظر للمكان والزمان , إذن مفهوم الاشتراط أو الشرطية الماركسية مفهوم يتعلق بارتباط الأشياء بعضها ببعض وليس باحتياج الأشياء ولذلك كان مفهوم الاحتياج غير مفهوم الشرطية الماركسية لان مفهوم الاحتياج متعلق بعدم الاستغناء ومفهوم الشرطية متعلق بعدم فصل الأشياء بعضها عن بعض
قد يقال أن معنى كون الشيء مرتبطا بالآخر بصورة متقابلة واحدهما شرط للآخر معناه انه محتاج إليه وهذا يعني أن الاحتياج هو نفس الاشتراط , والجواب هو أن هذا ليس المراد من الشرطية وان كان يترتب على القول بالشرطية القول بالاحتياج أي أن الشيوعيين لم يقولوا بان كل شيء محتاج للآخر بل قالوا إن كل شيء مرتبط بالآخر بصورة متقابلة فهو شرط له وأرادوا إثبات تأثير الأشياء ببعضها ولم يريدوا احتياج الأشياء لبعضها البعض ولكن يترتب على قولهم هذا القول بالاحتياج وليس قولهم هذا هو الاحتياج وهذا يمكن أن يتخذ دليلا على الشيوعيين بان الحوادث والأشياء في الطبيعة ليست أزلية لان ارتباطها ببعضها بصورة متقابلة بحيث يكون احدها شرطا للآخر يعني أن كل واحد منها محتاج فكل واحد منها ليس أزليا لأنه محتاج ولان الأزلي مستغن عن غيره إذ لا أول له ولا آخر فإذا احتاج كان له أول أي يوجد غيره قبله فلا يكون أزليا فتكون الشرطية الماركسية دليلا على أن الحوادث والأشياء في الطبيعة ليست أزلية لأنها محتاجة باعترافهم والمحتاج لا يمكن أن يكون أزليا . وبهذا يظهر أن مفهوم الشرطية الماركسية غير مفهوم الاحتياج ولكن يترتب على القول بالشرطية القول بالاحتياج وهذا يعني انه ليس أزليا قطعا
مما دامت الماركسية تسلّم بان كل شيء في الطبيعة محتاج فانه لا يبقى لإثبات كون الأشياء مخلوقة لخالق سوى أثبات أن احتياجها إنما هو لغيرها وليس لنفسها فحسب فالاعتراف بكونها محتاجة اعتراف بأنها ليست أزلية أي هو اعتراف بأنها مخلوقة لخالق(42/131)
قلت إن القول بان الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق ليس فرضية وإنما هو حقيقة قطعية , وكذلك أن مفهوم الاحتياج في الأشياء المدركة المحسوسة هو غير مفهوم الشرطية الماركسية وان مفهوم الشرطية سيصل بنا إلى الاحتياج ونقوا أيضا أن ما قيل عن محدودبة الكون وانه ليس أزليا ليس مبنيا على التعاريف وليس بحثا لغويا ولا هو بيان لقاموسية اللغة وإنما هو شرح لواقع محسوس , فليست المحدودية والأزلية اصطلاحا وضع له تعريف لغوي ولا مدلولا لكلمة وضع لها من اللغة لفظ يدل عليها وإنما هو واقع معين , فنحن حين نقول إن الكون محدود إنما نشير إلى واقع معين وهو انه له بداية وله نهاية فالبحث في الواقع وليس في كلمة محدود وكونه له بداية وله نهاية قد قام البرهان الحسي عليها فيكون البرهان على واقع معين لا على معنى الكلمة لغويا أي انه حين يقال إن الكون مجموع أجرام مهما تعددت فالكون يتكون من هذه الأجرام وكل جرم منها مهما بلغ عددها محدود ومجموع المحدودات محدود , حين يقال ذلك لا يقام البرهان على كلمة محدود وإنما يقام البرهان على أن الكون له أول وله آخر , وكذلك القول بان الكون ليس أزليا وان الأشياء المدركة المحسوسة ليست أزلية كذلك يقام البرهان على آن الكون له أول وله آخر , فالبحث إذن هو في الواقع والبرهان يقام على أساس الواقع , تلك هي الأمور التي أود لفت النظر لها لان كزن الكون والإنسان والحياة محدودة وليست أزلية أمر قطعي والرهان عليه برهان مسكت لا يترك جوابا لأحد , فقد يلجأ بعضهم إلى القول بان هذا بحث لغوي لمدلولات الكلمات فلا يصح أن يكون برهانا على وجود الخالق , فلا بد من بيان انه بحث لواقع يثبت أن الكون والإنسان والحياة لها هذا الواقع وهو أن لها أولا وان لها آخر وأنها ليست مما لا أول له فهي إذن مخلوقة , ولأن كون الأشياء المدركة المحسوسة محتاجة كذلك أمر قطعي والبرهان عليه مسكت لا يترك جوابا عند احد فقد يلجأ بعضهم إلى القول أن احتياجها أمر صحيح والشيوعيون يسلمون به حين يقولون بالشرطية ولكنها محتاجة لبعضها فلا يصح أن يكون احتياجها لبعضها برهانا على وجود الخالق , فلا بد من بيان أن الشرطية التي يقول بها الشيوعيون غير الاحتياج بدليل قولهم إن العالم يتطور تبعا لقوانين حركة المادة وهو ليس بحاجة إلى عقل كلي فهم مع قولهم بالاشتراط ينفون عن العالم انه محتاج فالشرطية التي يقولون بها غير الاحتياج ولكن يترتب على القول بها القول بالاحتياج ومجرد القول بالاحتياج معناه اعتراف بأنه مخلوق لان كونه محتاجا انه ليس أزليا فهو مخلوق وفوق ذلك فان قوله إن العالم يتطور تبعا لقوانين حركة المادة معناه انه محتاج لهذه القوانين وهذه القوانين لم تأت من المادة نفسها لان المادة خاضعة لهذه القوانين ولا تستطيع الخروج عنها ويستحيل عليها تغييرها فهي مفروضة عليها فرضا لا تملك الخروج عنه أو تغييره فهو مفروض من غيرها فتكون المادة قد احتاجت من يضع لها هذه القوانين فاحتاجت إلى غيرها فهي محتاجة ومحتاجة إلى غيرها فهي مخلوقة وهذا اعتراف بان العالم مخلوق لخالق , أي أن القول بالشرطية يترتب عليه الاعتراف بان العالم مخلوق لخالق وأيضا لما كان العالم محتاجا وعاجزا عن إيجاد ما احتاج إليه أمرا قطعيا وكان البرهان عليه مسكتا لا يترك جوابا عند احد فقد يلجأ بعضهم إلى القول أن كون العالم مخلوقا لا يعني أن هناك خالقا , فان الوجود كله لا يخرج عن خالق ومخلوق فرض نظري فلا يصح أن يكون برهانا على وجود الخالق لذلك كان لا بد من بيان أن كون الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق ليس فرضية وإنما هي حقيقة قطعية لان البرهان قام على أن العالم مخلوق لخالق فيكون قد قام على وجود خالق لهذه المخلوقات وبذلك كان البرهان برهانا على أن الوجود الوجود لا يخرج عن خالق ومخلوق ولذلك كان لا بد من لفت النظر إلى النقاط الثلاثة في بداية هذه الكلمات(42/132)