إن المتأمل في سيرة رسول ا صلى الله عليه وسلم سيجده قد أطلق جعفر بن أبي طالب - زعيم المهاجرين إلى الحبشة - أميراً على رأس الجيش في غزوة مؤتة بعد عودته إلى المدينة ببضعة أشهر فقط. وكان في الجيش عبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود.60 وهما من مهاجري الحبشة أيضاً.
هذا عن مهاجري الحبشة، أما بعض الصحابة الآخرين فقد أمرهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى قبائلهم. وكان منهم أبو ذر الغفاري الذي أسلم ولم يأت صلى الله عليه وسلم في المدينة إلا ومعه قبيلتي أسلم وغفار. ترى من الذي ربى أبا ذر وقبيلتي أسلم وغفار طيلة هذه الفترة؟!
3- القسم الثالث:
ويمثله مجموعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا ولم يتلقوا هذه التربية المكية الطويلة فكان إسلامهم إسلام جهاد ونصرة. ولا يختلف اثنان في قصر المدة الزمنية للتربية التي تلقاها الأنصار إذا ما قورنت بالمهاجرين.
4- القسم الرابع:
ويمثله من أسلموا أثناء الجهاد والصراع مثل خالد بن الوليد. فإذا به يقود جيوش المسلمين بعد عدة أشهر من إسلامه رغم أنه لم يمر بعملية تربوية معقدة تستمر عشرات السنين.
5- القسم الخامس:
ويمثله بعض الذين كانوا يكتمون إسلامهم في مكة أو لم يسلموا إلا قبيل الفتح. وقد استعمل صلى الله عليه وسلم بعضهم مثل العباس، فكان ممن شهد بيعة العقبة الثانية - وهو لم يسلم بعد - بينما لم يعلم
بها الكثير من الصحابة آنذاك. ترى ما هي نظرية الرسو صلى الله عليه وسلم في التربية؟! وكيف يقدم عمه وهو غير مسلم؟! أليس معرضاً للفتنة؟! إنه لم يرتقِ إيمانياً؟! ترى هل يثبت؟!
6- القسم السادس:
ويمثله الذين أسلموا بعد الفتح من أمثال عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية. وكلهم كانوا من الذين أبلوا بلاءً حسناً فيما بعد. وثبتوا في وجه موجة الردة التي اجتاحت الجزيرة العربية عقب وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم رغم البون الشاسع - من حيث التلقي من صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين السابقين الأولين من الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم جميعاً.
كيف نقرأ كل هذه الممارسات التربوية النبوية؟ وماذا كانت رؤية رسول ا صلى الله عليه وسلم للعملية التربوية؟!
خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا61
هذه هي القاعدة التي وضعها رسول ا صلى الله عليه وسلم والتي تفسر لنا فكرة التربية. إن التربية أمر لابد منه، وهو مستمر مع الإنسان حتى مماته. لكن الإنسان المبدع القوي المنتج وهو خارج دائرة الإسلام هو نفسه داخل دائرة الإسلام إذا فقه الدين وفقه حقيقة المعتقد الجديد الذي آمن به. فكم أخذ عمر بن الخطاب من لحظة اعتناقه للإسلام إلى أن يصبح قائداً لأول مسيرة - إن صح التعبير - طافت حول الكعبة؟! كم أخذ من الوقت؟! وهل تلقى قدراً معيناً من المعلومات قبل انطلاقاته حتى يُجاز لمثل هذا الفعل؟! يقول ابن مسعود من رواية البخاري {ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر}. إن عمر رضي الله عنه
كان قوة للإسلام، ولم تكن قوته مستمدة من التربية التي تلقاها أول إسلامه، بل هو الذي منح المسلمين القوة بإذن ربه.
فحمزة وعمر رضي الله عنهما كانا أصحاب بأس وعزم وقوة في الجاهلية، فلما أسلما سخرا هذه القوة للإسلام. لكنهما لم يكونا بحاجة إلى تربية خاصة ليكونا أقوياء. وبالمثل كان سيف الله المسلول خالد بن الوليد فارساً بطبيعة الحال. وقبل إسلامه كان سيفاً مسلطاً على أعدائه. فكان هو الذي اكتشف ثغرة المسلمين في أحد فهجم عليهم وقتل خيارهم. إن خالد بن الوليد لم يصنع منه الإسلام سيفاً، وإنما جاء الإسلام ليشرفه بأن يكون سيف الله بدلاً من أن يكون سيف الكفر. فتربية خالد بن الوليد لم تستغرق وقتاً طويلاً حتى يكون مؤهلاً لقيادة جيوش المسلمين لأنه كفء لهذه المهمة.
لقد وصف رسول ا صلى الله عليه وسلم أبا ذر وصفاً رائعاً فقال: {ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر}62. لقد صدح أبو ذر بالإسلام - عقب إسلامه في مكة - رغم أن الرسو صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك، فكان هذا النعت له بأنه صادق اللهجة، إذا عرف الحق صدح به. وهكذا كانت حال أبي ذر قبل أن تتدخل أي تربية جديدة لتصوغه، فإن أسلم فهو صادق في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
إن عملية التربية لم تكن تستغرق زمناً طويلاً قبل أن يؤذن للفرد بالعمل. فالعمل في ذاته تربية، وهذا الانتقال لمواجهة الواقع تربية. فليس هناك ارتباط شرطي بين التربية الطويلة و بين نتائج العمل و بين العمل الذي سيقام به.
الجميع يشارك في المشروع الإسلامي
يتبين لنا مما سبق عظم هذه القاعدة الجليلة. فخيار الناس في الجاهلية هم خيارهم في الإسلام. ولذلك فعلى الجميع أن يشاركوا في المشروع الإسلامي. أما التربية وتعلم العقيدة فتكون مع الحركة والبذل، وإلا فنحن نبتدع ما لم يقم به رسول الله صلى الله عليه وسلم (39/453)
ويتوهم البعض أن هناك قسطاً ما من التربية يجب أن يؤخذ قبل أن يمارس الناس العمل في المشروع من أجل تغيير الأوضاع القائمة. وهذا ابتداع لم يقم به الرسو صلى الله عليه وسلم ، ويعبر عن سوء قراءة للسيرة، فالأسود الراعي أسلم ولم يسجد لله سجدة، واستعمله الرسو صلى الله عليه وسلم في مشروعه وفي ذروة سنامه "الجهاد"، فاستشهد ولم يسجد لله سجدة، ولم يؤخره صلى الله عليه وسلم بحجة عدم استكمال التربية. وهذا خالد بن الوليد يحكي في قصة إسلامه قول رسول ا صلى الله عليه وسلم لأخيه الوليد بن الوليد سائلاً عن خالد - رضي الله عنه : ".. ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له ولقدمناه على غيره".63
بل إن نعيم بن مسعود أسلم في غزوة الأحزاب، وكان المسلمون في مأزق شديد وجاء إلى صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يأمره بأي شيء يفعله. ترى ماذا قال له صلى الله عليه وسلم ؟! هل قال له اذهب إلى الصفوف الخلفية لتتربى على يد كبار الصحابة؟! لا، لقد أمره أن يخذل عن المسلمين ما استطاع، فاندس بين صفوف المشاركين وهو حديث عهد بالإسلام، لم يتلق بعد أي قدرٍ من التربية؛ بل ربما لم يحفظ ولو آية
واحدة. وبالفعل كان لهذا الصحابي الجليل فضلاً كبيراً في جلاء الأحزاب حيث أوقع الشقاق بين قريش واليهود. لقد فعل ما لم يقم به أبو بكر أو عمر أو حتى صلى الله عليه وسلم نفسه.
ينبغي أن يشارك الجميع في المشروع، فقد يوجد شخص ما خارج نطاق الدعوة له ملكات و مهارات، و بانتقاله إلى مساحات جديدة في المشروع ينقل هذه الخبرة إليه، و لا يحتاج إلى جلسات طويلة لعشرات السنين ظناً منا أنه بعد ذلك سيكون إنساناً منتجاً و فعالاً, إذ ليس هناك ارتباط شرطي بين المدد الزمنية المحددة للتربية وعملية الإنتاج في مجال الدعوة والنهضة. فكم من شجاع مقدام مفكر لم يقرر العمل في المشروع، لكنه إن التحق به نقله نقلة نوعية بجرأته وإقدامه ورجاحة عقله، وكم من جبان خوار متبلد الفكر يعمل في المشروع ويؤخر تقدمه رغم أنه يتعرض لتربية تجاوزت عشرات السنوات.
التوظيف الصحيح
مما سبق نفهم أن ما كان يقوم به صلى الله عليه وسلم هو حسن توظيف للطاقات، فمن أعطاه الله فصاحة كان متحدثاُ رسمياً عن الدعوة، ومن أوتي الدهاء والقوة كان قائداً عسكرياً.
واليوم بعض تيارات الصحوة لا تستطيع أن توظف الطاقات، فهي تتعامل مع المبرمج كما تتعامل مع الفنان، كما تتعامل مع الكاتب، الكل مكلف بمهام واحدة، وإن لم يقم بها فقد تعدى الضوابط، ويتهم بسوء التربية، والواقع أن هذه الطاقات لم يحسن استيعابها وتوظيفها فيما حباها الله من ملكات. لأن كل فرد مسئول أولاً أمام الله في تسخير طاقاته وملكاته.
التوثيق لا التربية
وتعلل بعض الحركات والتجمعات هذا الاهتمام الشديد باستكمال التربية أولاً قبل البدء في الفعل الجاد بأن نهضة الأمة وتقدمها تُحارَب وتُقاوم من قِبَل الكثير من الجهات الخارجية والداخلية، وأن هذه الجهات تحاول اختراق تلك التجمعات أو الحركات للقضاء عليها وعلى كل أمل للنهضة والتنمية والتقدم، وبالتالي لابد من أن يمر الشخص الذي يريد خدمة المشروع بعملية تربوية طويلة حتى يتم التأكد من نواياه الحقيقية واستعداداته، ولضمان ولائه.
ونشير هنا إلى أنه لابد من التفرقة بين التربية والتوثيق أو الاحتياط أو التأمين. فالممارسات التربوية لرسول ا صلى الله عليه وسلم وصحابته كانت واضحة وبينة. فإذا ما كانت التنظيمات آمنة وتمارس العمل العام في حرية؛ فأسلوب التربية النبوي هو الأمثل. أما في حالة السرية فالأمر خارج نطاق التربية تماماً، وإنما هو التأمين والتوثيق والاحتياط.
لابد أن يكون هذا الفارق واضحاً في عقول طلاب وقادة النهضة، لأن عدم وضوحه يؤدي إلى التداخل بين التربية والتوثيق تداخلاً يصعب التعامل معه. بحيث تصبح الفكرة المسيطرة على جميع العاملين هي التربية الطويلة قبل العمل. فإذا تحولت الحركة السرية إلى حزب علني فمن الخطأ أن يعتمد على نظام التوثيق ظناً منه بأنه يمارس عملية التربية. إن وضوح الرؤية يجعل الحركة تمارس في كل مرحلة ما يناسبها من إجراءات وأنظمة، كما يجعلها لا تخلط بين التربية والتأمين.
ما هي مخرجات التربية التي نريد؟
إذا تأملنا في التربية الأولى للصحابة سنجدهم تربوا على الاستقلالية والمسئولية الفردية. يقول الله تعالى: {وكلكم آتيه يوم القيامة فرداً}64، ويقول: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً وهم لا ينصرون}65، ويقول: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى}66.
وقد وضع حسن البنا - رحمه الله - قاعدة تربوية لذلك فقال: "علموه - أي الجيل -:
* استقلال النفس و القلب.
* استقلال الفكر و العقل.
* استقلال الجهد والعمل."67
أما قوله "استقلال النفس والقلب" فيقصد به حب الحق لا حب الأشخاص. أي التعرف على الفكرة لا التعرف على الأشخاص. فكثير من الناس يهتم بمعرفة الأشخاص، ولا يتساءل أبداً ما هي الفكرة التي يطرحونها. لم يناقشها أو يبحث فيها أو يرى أبعادها، لكنه مقلد في المطلق فعندما تقال له فكرة يقول من قائلها؟ فإذا قيل له فلان رفضها- وإن كانت حقاً- وإن قيل أن قائلها فلان قبلها-
ولو كانت باطلاً.(39/454)
كيف يمكن تربية جيل النهضة على أهمية التعرف على الأفكار ومناقشتها مناقشة علمية موضوعية بعيداً عن الحماس والعاطفة؟! هذه مسألة في غاية الحيوية. وإذا استعرضنا القطاعات الكبيرة
من العاملين في ساحة النهضة اليوم لنرى كم منهم يعرف على وجه اليقين - وليس على سبيل الظن- الفكرة التي يتحرك أو يدور حولها، وكم منهم يستطيع أن يشرح فكرته لغيره في شكل واضح لا يقبل لبساً، ويجيب على التساؤلات المطروحة عليه. سنجد قلة قليلة ممن تعرف ما الذي تتحدث عنه, بينما تجد الكثرة الغالبة هم أتباع مقلدون لأشخاص أو لجماعات أو لاتجاهات أو لتيارات.
كما أن "استقلال النفس والقلب" يعني الارتباط القلبي بالله سبحانه وبالإسلام ديناً، ارتباطاً لا يعكره أي ارتباط آخر. ومن ثم فكل من يقدم إنجازاً لنصرة دين الله فنحن نحبه وندعو له- حتى وإن كان يخالفنا أو يتبنى فكرة غير التي نراها. إنه القلب الذي عبد الله رب العالمين وأحب فيه وأبغض فيه، وليس القلب الذي عبد الجماعة أو الحزب فأحب من في الحزب وأعرض عمن سواهم.
ثم انظر إلى قوله "استقلال الفكر و العقل". فاليوم في عمليات التدريب العام هل يلقن الناس إجابات معينة أم يدربون على النظر الناقد68 و على الفكر المبدع و يطالبون بإيجاد حلول لما هو مطروح عليهم من أسئلة الواقع؟! وليسأل كل منا نفسه: ما هو حجم تعليم منهجيات التفكير داخل هذه البنية الواسعة المنتشرة من التيارات و الأحزاب و التنظيمات و غيرها؟! سنجد أن القليل يسمح
بممارسة هذا النوع من المنهجية. فبعض تلك التيارات لا يتساءل عن أموره الداخلية ناهيك عن الواقع المحيط خارجه. فأين نحن من استقلالية الفكر والعقل؟!
لابد أن يمتلك طلاب النهضة وقادتها أدوات النظر والبحث، خاصة في الشريحة العليا التي تمثل الطبقة التي توجه الآخرين. فعندما يصل إلى هذه الطبقة العليا (القيادة) من لا يمتلك أي ملكة في التفكير الناقد أو التحليلي أو التصوري، فإنه يقتل التفكير بين العاملين معه. فينشأ الجمود تبعاً لذلك. هذه قضية خطيرة يجب معالجتها في تيار النهضة الإسلامية.
لابد من تعليم الفكر الناقد - أي تعليم المنهجيات التي يتم بناءً عليها قراءة الواقع - وتعليم الفكر الإبداعي لإيجاد الحلول لقضايا الواقع بحيث لا يتجمد الذهن عند عمل مفكر ما - مهما جل قدره وعظمت مكانته و صعد نجمه في لحظة من اللحظات -بل يجب أن يكون التفكير المبدع مفتوحاً بحيث يستطيع الناس أن يتخيلوا وأن يناقشوا وأن يطرحوا أفكارهم. هذه الأفكار المبدعة - التي تحلق بالناس و توجد حلولاً للواقع الصعب - قد تأتي من أي مكان ومن أشخاص قد لا يُأبه لهم. و يجب تدريب الناس على تقديم هذه الحلول و مناقشتها و بحثها و النظر فيها.
المسألة الثالثة "استقلال الجهد والعمل". فكثير من الناس يكتفي بمجرد الانتماء إلى تيار الصحوة. فإذا مرت السنوات لم يكن له إنتاج و لا مشاركة و لا عطاء. فإذا توقف الناس توقف ولا يتساءل ما الذي أفعله أنا؟! كيف يمكن أن أساهم في نهضة الأمة؟! إنه لا يتبنى أو يدعم مشروعاً، ولكنه فقط ينتظر مع المنتظرين.
فتعليم الناس استقلال الجهد و العمل يعني أن يكون الشخص مستقلاً بجهده و عمله، فإذا عمل الناس زاد عملهم خيرا ًونفعاً ودعماً، وإذا توقفوا سارع إلى العمل والإنتاج غير آبه بتوقفهم أو سكونهم. نلحظ ذلك في المبادرة العمرية في مكة لجعل المسلمين يطوفون حول البيت. فنقلهم بذلك نقلة جديدة لم يطلبها منه القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لم يكتف بما كان المسلمون يقومون به - رغم أن معه القائد الموحى إليه - لكنه فكر ونظر كيف ينقل المشروع نقلة جديدة دون أن يكون ذلك بأمر مباشر من القيادة.
وهناك ظاهرة خطيرة ألا وهي تطلع الكثيرين من طلاب النهضة إلى العمل والممارسة بغض النظر عما ينتج عن هذا العمل. هذه النظرة الخاطئة في انفصال النتائج عن العمل خطيرة ومنتشرة ويتم التقنين لها من خلال التلقين السكوني لآيات وأحاديث معينة ووضعها في غير موضعها. والانفصام نشأ بشكل واضح وسافر. فالناس تُطالَب في أعمالها ووظائفها اليومية بالنتائج. وإذا لم تتحقق هذه النتائج فهم مهددون بالطرد والفصل أو الخصم أو غيرها من العقوبات. أما في أمر الدعوة وإنجاز المشروع الإسلامي فالقول الشائع: "إننا نكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وليس إدراك النتائج علينا"!! نعم.. إدراك النتائج على وجه الجزم ليس بيد الإنسان. فهذا ظرف يخضع لأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته. لكن علينا أن نحاسب أنفسنا على أخطائنا. وانظر إلى المنهج القرآني الذي يعلمنا ذلك. فهو ينسب النصر لله سبحانه و تعالى. يقول تعالى: {و ما النصر إلا من عند الله}69. أما عندما تحدث الهزيمة فيقول تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند(39/455)
أنفسكم}.70 فتحدث عملية مراجعة للخطوات والإجراءات والقرارات، وتُبحث كل هذه السلسلة حتى يستفاد من هذه التجربة للتجربة اللاحقة. أما أن يتم تجاوز هذه المنهجية، والهروب إلى مساحات أخرى - يتم الانكفاء عليها - لمحاولة تسكين الناس ومنعهم من التساؤل حول النتائج والإنجازات والعمل، فإن ذلك يؤدي إلى تكرار للأخطاء باستمرار.
القاعدة الذهبية
يخاف البعض من المراجعات خشية اتهام النوايا وفساد ذات البين. ونود أن نؤكد أن القاعدة تقول: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}.71 فالسابقون بذلوا جهدهم. وهذا ما استطاعوه في فترتهم ومرحلتهم. فنحن لا نريد أن نحاسب الأشخاص ونتهمهم في نواياهم. فربما كانت قدراتهم محدودة. وربما كان الظرف أقوى منهم. ولكن المراجعة تتم لسلسلة الإجراءات والقرارات لمحاولة تجنب الأخطاء التي حدثت والاستفادة من التجربة ونقلها لأجيال المستقبل.
إن من أكبر الجرائم ألا نقوم بأي مراجعة حقيقية، ثم ننسب الفشل إلى الله سبحانه و تعالى - والعياذ بالله - بحجة أن الله هو الذي أراد ذلك الفشل.
أهمية التربية على الاستقلالية
إن إهمال التربية على الاستقلالية- القلبية والعقلية والعملية بين بعض تيارات وأحزاب مباركة تعمل في المشروع - أدى إلى إنتاج جيل مُربَّى تربية الأطفال، فهو دائماً يشك في قدراته، وهو
دائماً ينتظر فعل من هو أكبر منه. كما أنه متعصب إلى حزبه تعصباً يحول دون رؤية أي خير في أي تيار آخر.
الاستقلالية
النفس والقلب
الجهد والعمل
الفكر والعقل
إننا نريد أن نخرج جيلاً من القادة، وليس جيلاً من الأطفال. جيلاً يبادر وليس جيلاً ينتظر. جيلاً يوحد الأمة وليس جيلاً يتقوقع على منظمته. جيلاً شاباً وليس شباباً شاخ بروحه وبعزيمته، ففقد أهم ما يميز الشباب. إن نزع استقلالية الجيل تعني التبلد الذهني وجمود العمل.
من هو الشخص الذي نريد؟
مما سبق يتبين لنا أن تيار الصحوة اليوم - بعد هذا الاحتشاد الكمي الضخم - بحاجة إلى أن يبحث عن الدرة المفقودة، وعن الأشخاص الذين ينقلون المشروع نقلة نوعية. إنه يبحث عن عمر الفاروق الذي يعطي المشروع قوة وطاقة جديدة. إن واجب المرحلة اليوم - ونحن على وشك الانتقال إلى مرحلة اليقظة - أن نبحث عن القوة النوعية، ننقب عنها، ونبذل في سبيل ذلك كل ما نستطيع.
إنسان النهضة
إننا نريد إنسان النهضة الذي لديه خمسة صفات: الرباني العامل المفكر الجريء المنتج.
الرباني: المعلق بالله وبمنهجه وشرعه. فلا يعبد إلا الله. ويُسخر حزبه أو تياره لله، فهو يحب في الله ويبغض في الله، لا يحب من في حزبه فقط ويتجاهل من سواهم.
العامل: الذي قرر أن يهجر السكون، ويبذل لدين الله ولو قعد المسلمون جميعاً.
المفكر: الذي يعمل عقله ويمتلك أدوات التفكير الناقد والإبداعي، ويمحص سبل العمل ولا يتوقف عند فكرة شخص ما بل يعمل عقله في ما يطرح عليه. ساعياً للتطوير الدائم.
الجريء: الشخص المقدام الشجاع المضحي، فهو جريء في فتح مجالات جديدة، وفي استخدام وسائل جديدة، وجريء في مناقشاته، وفي تساؤلاته. إنه لا يخاف في الله لومة لائم.
عامل
مفكر
جرئ
منتج
القائد الرباني
المنتج: الذي يتأكد من أن كل وسيلة يقوم بها منتجة. فإن لم تنتج غيَّرها أو طورها. فهو لا يعبد الوسائل وإنما يبحث عن النتائج ويقيم أداءه تبعاً لذلك. فهو شخص الإنجازات الذي لا يؤمن بأي تبرير للفشل.
كيف نعد إنسان النهضة:
ذكرنا أن علينا أن نبحث عن الدرة المفقودة، وعن الجائزة الكبرى التي تنقل المشروع بإمكاناتها نقلة جديدة، لكن ذلك لا يمنع من أن تتم عملية تربوية جادة لإعطاء العاملين في النهضة الملكات التي يتحولون بها من الغثائية إلى القوة النوعية. ونقترح لذلك هذه الحزم الثلاث:
* حزمة الأدوات الشرعية: مثل العقيدة وأصول الفقه وغيرها.
* حزمة الأدوات الإدارية: مثل التخطيط للمشاريع وكتابة التقارير وغيرها.
* حزمة العلوم الإنسانية: مثل التحليل السياسي وفلسفة التاريخ والجيوبوليتك وغيرها.
وبدون أن يمتلك الجيل - أو قادته على الأقل - هذه الأدوات سيظل لعبة في أيدي خصمه. ونقترح أن تبسط هذه الأدوات وتدرس لجموع العاملين، فكلما انتشر الوعي بها كلما زادت القوة النوعية، وكلما تحسن الأداء وزاد الإنجاز.
إن التربية لا ينبغي أن تُغلِّب جانباً على آخر، ولابد من إعطاء الجسم حقه، والقلب حقه، والعقل حقه.
آليات التربية
نحن نحتاج إلى ثورة حقيقية ومراجعة شاملة لقضية التربية. وفي هذا السياق يجب التفريق بين ضرورة التربية وآليات التربية وأدواتها. فلا يختلف اثنان في أن التزكية والتربية ضرورية. لكن آلياتها هي التي فيها سعة ومرونة. وتنقسم هذه الآليات إلى آليات عامة وآليات خاصة:
الآليات العامة(39/456)
وهي الآليات والوسائل العامة التي كانت على عهد صلى الله عليه وسلم وسنها لنا، وآليات أخرى أتى بها الوحي الكريم. مثل الصلوات الخمسة وإحياء الليل وأذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال، والحج والعمرة وغيرها من الوسائل التربوية. إن الآليات العامة تشمل كل أمر أو ندب أو نهي. وينبغي أن تأخذ هذه الوسائل الربانية حقها. وتعتبر هذه هي الوسائل الأصيلة في التربية. فكل أمر وكل نهي له مردود تربوي لتزكية النفس.
الآليات الخاصة:
وهي التي يحددها كل تيار أو حزب لنفسه ويختص بها العاملين فيه. ولا بأس من تخصيص وسائل تربوية- طالما أنها لا تتعارض مع الشرع.
قواعد هامة
وهناك نقاط هامة يجب الانتباه إليها حتى لا يتم الخلط بين الآليات الخاصة والعامة:
* يجب عدم إهمال الآليات العامة التي شرعها الله ورسوله بحجة الآليات الخاصة. فإن العامل بذلك يفقد وسائل هامة جداً من الوسائل الربانية.
وقد كان تنوع آليات التربية بين السرية والعلنية في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم يخضع للظروف. والأصل هو التربية العامة في المسجد والاستثناء تبعاً للظرف. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتعلمون في مجالس الرسو صلى الله عليه وسلم , فمجالسه كانت هي المعلم الأساسي للصحابة رضوان الله عليهم, وما يذكر عن دار الأرقم في السيرة النبوية المطهرة هو استثناء للأصل، فهناك كانت فئة مطاردة لا تمتلك أي منصة علنية تقف عليها، إنه ظرف محدد قاد إلى مثل هذا الأداء. ترى كم نمتلك من معلومات عما كان يدور في هذا اللقاء؟! فقد نسجت حوله التصورات وتم البناء عليها، واعتبر دار الأرقم من المطلقات، وأنه يجب أن يستمر مع كل الدعوات في كل الأوقات. إنه أمر فيه مبالغة شديدة ومجافاة للواقع العملي الذي نشهده في بعض الدول من حولنا وفي التجارب الإنسانية التي تدور حولنا.72
وبعض الناس يرى أنه لابد من التربية السرية وكل ذلك مرهون بشروط وظروف. فهذا التكلف الضخم في السرية والموجود داخل بعض الأطر النهضوية في الأحزاب والمنظمات يضر مشروع النهضة في المجتمعات الإسلامية ضرراً كبيراً، ويزيده انغلاقاً.
* يجب عدم الهروب من العمل الجاد والبذل بحجة أن الأفراد لم يتربوا بعد. فالآليات الربانية العامة هي الأصل، والتي كان منها الصدع بالدعوة والجهاد والبذل على اختلاف المستويات التربوية. فالدعوة والبذل من الآليات العامة التربوية التي شرعها الله للأمة، وليست عملاً منفصلاً عن التربية. فالعمل والتضحية والقيام بالأعباء تربية -وتربية أساسية - أما التربية النظرية فإنها تأتي كداعم لهذا المشروع والعمل له على بصيرة. أما من يجلسون بالسنوات دون إنتاجية وعمل ينتظرون تحولاً ما في شخصياتهم ليبدأوا العمل؛ فهؤلاء واهمون وسيطول انتظارهم.
* إن عملية التربية عملية ديناميكية فيها بدائل كثيرة, وهي رهينة الظروف والتحولات والأدوات المتاحة. ونحن اليوم في عصر الثورة التقنية. فالوسيلة المعرفية ووسائل نقل المهارات أصبحت متعددة وكثيرة. وقد يقول قائل أن التربية تحتاج إلى صحبة واقتداء. وهذا صحيح, لكن ليس بالضرورة أنها درس صغير في مكان مغلق, فالإنسان قد يصحب قادة النهضة والمتحركين في النهضة ويرى سلوكياتهم
ويقتدي بهم ويتعرف عليهم ويعاشرهم ما أتيحت له الفرصة73, وليس بالضرورة أن يجلس في جلسة مصغرة في شكل مستمر إلى أبد الآبدين بدعوى أنه قرر أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للتعلم. وإن كان هذا ليس محرماً وليس خطأً، ولكنه ليس من المطلقات أو المسلمات، فليس هذا هو الشكل الوحيد الذي يجب أن تتخذه التربية. فيمكن أن تكون لحركة النهضة حلق العلم والتفقه, ويمكن أن تكون لها مجالس التوجيه والوعظ, ويمكن أن تكون لها أشكال غير ذلك حسب الظروف والبيئات.
تقييم الوسائل التربوية
إن لكل وسيلة (خاصة) سلبياتها وإيجابياتها ولا بأس من تعدد الوسائل وتجريبها والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تمت دراسة هذه الوسائل لتقييم نتائجها على وجه الحقيقة لا وجه الانطباع؟! فالبعض يطرح وسيلة تربوية ما، ويدعي أنها وسيلة للتعلم. فكم من الناس تعلم منها علماً شرعياً أو دنيوياً؟؟ يجب أن يكون هناك إحصاءات لرفع الواقع الحقيقي. ومن الأسئلة المطروحة لتقييم أي وسيلة تربوية:
1. ما الهدف منها؟
2. هل هي وسيلة توجيه أم تدريب أم بناء روحي أم علمي؟
3. هل هناك وسائل أخرى أفضل منها؟
4. إذا لم يوجد الآن هل يجب التفكير في وسائل أفضل؟
5. كم من الأفراد يستفيدون من هذه الوسيلة؟
6. ما رأي العاملين في الوسيلة؟
7. ما المدة الزمنية التي بعدها يجب تقييم الوسيلة؟
8. هل تقييمنا للوسائل انطباعياً يعتمد على الإحساس أم أنه تقييم رقمي؟
فإذا قلنا أن وسيلة ما تستخدم للالتقاء والتجمع والتناصح وعمل الخير في مكان ما، فيجب الإجابة على هذه الأسئلة ودراسة مفرداتها منفصلة عن بعضها. لمعرفة كم يتحقق منها على أرض الواقع لتقويم هذه الأداة. فبدون هذه الدراسات سيكرر الناس وسائل ويهدرون أعمارهم بناءً على انطباعات وتخيلات وأوهام, لكن هذه الوسائل قد لا تصمد عند البحث العلمي كثيراً.(39/457)
ونحن لا نهدف من بحثنا هذا أن نهدم وسائل تربوية ؛ ولكن كل ما نريده أن يتحول تيار النهضة من التقليد والمحاكاة والاكتفاء بما هو قائم، إلى الرشد واليقظة والتفكير المستمر في ما هو أفضل وأحسن. نحن نريد للتجمعات والتيارات أن تُجوِّد أعمالها ووسائلها بصفة مستمرة ودورية. ولا يهمنا في كثير ولا قليل شكل الوسائل أو طبيعتها، إنما نريد أن نرى منهجية صحيحة في التفكير والبحث والانتقاء والاختيار. بغض النظر عما سينتج عن هذا الاختيار من وسائل وأدوات.
بعض الأخطاء التربوية
1. تبرير الفشل
لابد من التوقف عن تبرير الفشل من خلال عدم المراجعة و التقويم. ولابد أن يمتلك العاملون أدوات المراجعة والتقويم العلمي, وأن يُزودوا بأدوات فن الاختلاف في جو من المودة والحب والرحمة تجنباً للاصطدام الداخلي بسبب عمليات المراجعة. فيجب أن يتعلم الإنسان أن هذه المراجعة لاكتشاف الحقائق وتقرير ما يجب عمله في المستقبل، وليس محاكمة للماضي وأشخاصه.
2. تكرار السير في الطرق المسدودة
ومن الأخطاء المتكررة في عملية التربية تكرار السير في الطرق المسدودة. فقد تجد حركة النهضة أماكن مسدودة في مناطق معينة من العالم, ثم تستمر في السير في نفس الطريق مراراً وتكراراً لتلقى نفس النتائج. وليس ذلك من الحكمة إنما هو من الانغلاق الذي تفرضه عليها أفكار ونماذج معينة.
3. التربية أداة من أدوات الضبط التحكم
ومن الأخطاء التربوية التي تحيط بعملية النهضة أن تستخدم التربية- داخل بعض الأحزاب والحركات والمنظمات والاتجاهات - كأداة للتحكم لا للوصول للأهداف. فيصبح التحكم في ذاته غرضاً من أغراض التربية. ولا تصبح عملية دفع الناس لتحقيق الأهداف هي الغرض الأساسي منها. والضبط والتحكم في ذاتهما ليسا عيباً, ولكن إذا غلبا على قضية الوصول للأهداف وأصبحا غاية صارا خطراً محدقاً وكبيراً، وتحولا إلى أداة من أدوات التخلف.
ومن مظاهر سوء استخدام أدوات التربية حرص بعض التنظيمات على تربية أفرادها على مبدأ الطاعة العمياء. فالمطلوب من الفرد أن يطيع دون تردد ولا تلعثم ولا كثرة سؤال. وكلما كان الفرد أقل تساؤلاً كلما كان أفضل وأنجب. وقد يتساءل الفرد فيتم ضبطه بالتذكير بالطاعة. ومن أخطر ما يورث الجمود أن يطالب الأفراد بالطاعة العمياء وهم لا يرون طريقاً أمامهم، ولا يرون مراحل مرسومة من قِبل القادة، ولا يرون أهدافاً محددة. فالطاعة هنا تستخدم كأداة لتسكين الجموع. لكن الطاعة مطلوبة، وهي أداة فعالة في التنظيمات الجادة التي تطرح لأتباعها مشاريعها وتحدد وسائلها، وترسم خطواتها، ثم تطالب أتباعها بالطاعة. فأكرم بها من طاعة على بصيرة.
أما الطاعة بدون تردد فيما ليس بمعصية لله - فهي الشكل الأمثل في الجيوش وما شابهها. لذلك لا نجد نقاشاً أو حواراً في الجيوش النظامية بين القائد الأعلى رتبة وبين جنوده. فأوامره لابد أن تنفذ في الحال، وإذا لم تنفذ يُقدم الجندي إلى المحكمة والقضاء العسكري. حيث أن المعارك لا تحتمل إثارة الخلافات.
4. الوصفة الواحدة
ونقصد بها أن يظن المتصدي للعملية التربوية أن أتباعه لابد أن يمروا بنفس المراحل التي مر بها لكي تحسن تربيتهم، ويجب أن يتلقوا بنفس الشكل، يستوي في ذلك من كان من أتباعه من أهل العلم أم لا. كما أن تقييمه لارتفاع الحالة الإيمانية عند أتباعه يكون بالقياس على الأمور التي ترفع إيمانه هو. وهذا خطأ فادح، فرب إنسان يرفع إيمانه الجهاد، ورب آخر ترفع إيمانه الدعوة إلى الله، ورب ثالث يرفع إيمانه تدريب الجيل على الوسائل الحديثة لنشر الدعوة.
5. شيخوخة التنظيمات
فبعض التنظيمات تعاني من الشيخوخة. ولا يشترط أن تكون الشيخوخة متمثلة في كبر سن قادتها، ولكنها تتمثل في أن التنظيم يعامل أتباعه كأطفال. فهم لا يدرون ولا يعلمون شيئاً عن مصلحتهم، وآباؤهم أدرى بما يصلحهم. كما تتمثل الشيخوخة في كون الأعمال التي يُفترض أن يكلف بها فتي عنده ستة عشر سنة، يقوم بها شاب جاوز الخمسة والعشرين عاماً، والأعمال التي يفترض أن يقوم بها شاب في الثلاثين، تجد رجلاً تجاوز الخمسين من عمره يقوم بها، وهكذا تسيطر الشيخوخة على بعض التنظيمات.
6. الفهم الخاطئ للقاعدة الصلبة
بعض الناس يتحدث عن مصطلح (القاعدة الصلبة)، حتى أصبح من المسلمات. وهو وإن كان مصطلحاً منتشراً إلا أن تحويله إلى هدف محدد - يمكن تكميمه بوضع كم له وتوصيفه وتحديد شروط المدخلات وشروط الانتساب لهذه القاعدة، وآليات جعلها صلبة وتحويلها لحقيقة - أمر محال ويصعب أن يتم في أي بقعة من العالم.
فلو نظرنا إلى الشروط التي حددها من كتبوا عن القاعدة الصلبة لوجدنا وصفاً يشمل كل أوصاف المؤمنين في القرآن الكريم، وربما يضيف عليها البعض شروطاً أخرى يرونها ضرورية. ولو نظرنا إلى الواقع العملي، هل تتحقق هذه الشروط في أحد؟! وهل يمكن أن تستمر في حالة وجودها؟! فالشروط التي يندرج تحتها مثل هذا المعنى تحققها شبه مستحيل، لأنها تتكلم عن الإنسان النموذج. وبالتالي نجد أمامنا معضلة من البداية قبل أن نبدأ بتحديد كم هذا القاعدة، وتحديد المدى الزمني(39/458)
لإدخال هؤلاء الأفراد بهذه المواصفات ضمن هذه الدائرة المسماة (بالقاعدة الصلبة). كما أن الأحزاب والجماعات تتفاوت في التوصيف الشرطي تشدداً أو تساهلاً، فيدخل عند البعض كل الناس، وعند آخرين قد لا تجد إلا فرداً أو فردين.
إن الحديث عن تكوين (القاعدة الصلبة) يحتاج إلى إعادة نظر، ليس لمحو هذا المصطلح من قاموس التربية، وإنما لتحديد المعنيين به. ومهما كان الاختلاف حول توصيف المصطلح فإنه لابد من ألا يكون حائلاً دون البذل والعمل بحجة التكوين، فالقاعدة الصلبة المكية - والتي يستشهد بها دائماً - هي التي تحملت وفدت وضحت، وبعضهم لم يتلق أي قسط من التربية الطويلة، فما إن أسلم حتى
صُب عليه العذاب صباً.
إذا أردنا أن نتحدث عن تكوين (القاعدة الصلبة) فإنها تتكون في أتون العمل والبذل. وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي هم أبطالها. وإن كان أبو بكر وعثمان وعلي شهدوا المرحلة السرية - التي قد يرى البعض أن تكوين (القاعدة الصلبة) كان فيها- فإن عمر رضي الله عنه لم يشهد هذه المرحلة، وكان دائماً من الثابتين. فالإحجام لم يُرَبِّ يوماً من الأيام صحابياً، ولم نسمع عن صحابي انكفأ على نفسه ثم أخذ عضوية الانضمام للقاعدة الصلبة.
إن تكوين (القاعدة الصلبة) - في رأينا - ليس من أهداف التربية، فهي تتكون وحدها من أناس حملوا المشروع وانطلقوا به، ويتشرفون بالانضمام إليها كلما زاد سهمهم في البذل والعطاء، إنها ليست قاعدة القاعدين والمخلفين، إنها قاعدة الراكضين المخلصين.
ويستخدم أحياناً مصطلح (القاعدة الصلبة) لتبرير السكون، فجموع أبناء الصحوة هم الذين يغشاهم الخلل!! وهم سبب النكبات!! وهم ليسوا أهلاً لتنزل النصر!! وهكذا تُكال التهم لهذه الجموع، حتى يكونوا في النهاية هم سبب الوبال على الأمة، وذلك حتى ينشغل هؤلاء الأبناء بأنفسهم ولا يطالبون الآباء بأي شكل من أشكال الإقدام والتقدم.
أخطاء تربوية
تبرير
الفشل
الوصفة
الواحدة
تكرار السير في الطرق المسدودة
التربية أداة للتحكم
شيخوخة التنظيمات
الفهم الخاطئ للقاعدة الصلبة
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:
* بمنطوق القانون.
* بمعنى التربية ووسائلها وعلاقتها بالعمل في مشروع النهضة.
2. الاستخدام:
* بالبحث عن الدرة المفقودة، الفرد العامل المفكر الجريء المنتج الرباني ليكون من حاملي المشروع.
* باعتماد تربية متوازنة تتمثل في حزمة العلوم الشرعية، وحزمة المهارات الحياتية، وحزمة أدوات العلوم الإنسانية.
* اعتماد مبدأ التربية في غمار الأحداث.
* الانطلاق لجماهير الأمة وعدم الانكفاء على الذات بحجة الجودة.
3. عدم المصادمة:
+ بالبعد عن تغليب جانب على حساب آخر في العملية التربوية.
+ بتقييم الوسائل المستخدمة في التربية واستبدال الوسائل التي ليس لها مردود فعلي بغيرها.
+ بعدم انتظار أن يتواجد فريق من البشر الذين تربوا حتى بلغوا درجة الملائكة قبل أن يحملوا المشروع.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
تقييم الوسائل المستخدمة
عدم انتظار تكوين فريق ملائكي
بالتربية ووسائلها
البحث عن الدرة المفقودة
التربية المتوازنة
التربية في غمار الأحداث
معادلات القانون:
* عامل + مفكر+ جريء + منتج + رباني = إنسان النهضة
* أدوات شرعية + أدوات مهارية + أدوات العلوم الإنسانية = تربية متزنة
القانون السادس
المؤشرات الحساسة
منطوق القانون
"لكل نهضة موفقة مؤشرات نجاح حساسة تبشر بإمكانية تحقيقها في الواقع"
مفردات القانون:
مؤشرات: هي العلامات التي تدل على التقدم أو التأخر.
أهمية القانون
يبين بدقة مدى التقدم أو التأخر، أو القرب أو البعد عن تحقيق الأهداف. بحيث لا تضيع الجهود سدىً، أو يقف المشروع في مكانه ظناً من قادته أنه يتحرك.
تُعتبر المؤشرات قضية أساسية في أي نوع من الأعمال. فالمؤسسات الربحية التجارية لابد وأن تتابع خسائرها وأرباحها. فتعتمد على المؤشرات المالية بقياس معدل الدوران المالي أو معدل الربحية الصافية أو نسبة السيولة في المؤسسة، فإذا كانت هناك اختناقات أمكن تجاوزها بالتخطيط المبكر لهذا الموضوع. وقد تُستخدم مؤشرات أخرى مثل مؤشرات أداء الموظفين، ومدى رضا العملاء- بطريقة أو بأخرى. وبالتالي يصبح أمام هذه المؤسسة مؤشرات تدل على تقدمها نحو الأهداف أو تأخرها. فإذا حددت المؤسسة أنها تريد تحقيق نسبة رضا بين الزبائن تتجاوز تسعين بالمائة فقد تكون الاستبيانات أفضل وسيلة مقننة تستطيع بها أن تقيس تقدمها أو تأخرها نحو الهدف.
وهكذا لا تتمكن أي مؤسسة من تحديد ما إذا كانت تربح أو تخسر في أي جانب من الجوانب إلا إذا وضعت مؤشرات يمكن بها قياس التقدم والتأخر. وبالتالي تعمل هذه المؤشرات كجهاز إنذار مبكر لاتخاذ القرارات. فإذا تراجعت الأرباح كان هذا مدعاة للبحث ثم تُتخذ إجراءات مبكرة. أما أن تنتظر المؤسسة الربحية إلى نهاية العام لمعرفة ما إذا كانت تحقق أرباحاً أم لا فهذا لا يحدث.
أهمية المؤشرات في مشروع النهضة:
إذا كانت المؤشرات ضرورية للمؤسسات والمشاريع الربحية فهل هي ضرورية لمشروع النهضة؟!(39/459)
ولندرك هذا الأمر هب أننا قمنا بتدخل ما لزيادة عدد المنتسبين لمشروع النهضة، أو لزيادة عدد المشاركين في مشاريع النهضة، أو لزيادة عدد مشاريع النهضة، ثم لم تكن عندنا قاعدة بيانات أو طريقة نستخدمها لمعرفة التقدم والتأخر نحو تحقيق هذه الأهداف، فكيف نستطيع أن نقيم بطريقة قياس علمية
ما إذا كان تدخلنا أحدث تغييراً أو تقدماً وتطوراً، أو جاء بعكس النتيجة التي كنا نريدها؟ إننا لن نستطيع تحديد مدى تقدمنا أو تأخرنا عن بلوغ الأهداف - ولن نستطيع اتخاذ إجراءات مبكرة - إلا إذا كانت المؤشرات حساسة وواضحة.
إن اعتماد قانون المؤشرات الحساسة أمر في غاية الأهمية. فإدارة مشروع النهضة تحتاج إلى معرفة المؤشرات. وفي غياب هذه المعرفة تصبح إدارة المشروع غير ممكنة عملياً. وإذا وجدت فستسير سيراً عشوائياً كالذي يسير في ظلام ولا يعرف الاتجاه الصحيح، ولا يعرف إن كان لا يزال على الطريق أم انحرف؟! فما يسري على المؤسسات الربحية والتجارية يسري أيضاً على مشروع النهضة.
أصناف المؤشرات:
أ. مؤشرات لقياس عمل الأحزاب والتجمعات:
أولاً: عموم الدعاية:(الرأي العام)74
من أهم ما تسعى إليه أي دعوة،75 أن تقوم بالدعاية لفكرتها. فكل فكرة تحتاج إلى دعاية للترويج لها. والدعاية تعرف بأنها فن التحدث عن الفكرة في كل مكان. ونقصد بعموم الدعاية: وصول الدعاية وتأثيرها في كل الشرائح المستهدفة.
جمهور الدعاية:
وعادة ما تتجه دعاية النهضة إلى الرأي العام76 المثقف بالدرجة الأولى، لتخاطبه وتستقطبه وتجذبه إلى مجال النهضة،77 ثم هو - أي الرأي العام المثقف - يخاطب بها الشرائح الأخرى ويوسع قاعدة النهضة.78
جهاز الدعاية:
الدعاية عبارة عن نظام: فيه مرسِل ورسالة ووسط مناخي ومستقبِل، وفيها استجابة تقاس، وتغذية راجعة تعود إلى العقل المركزي الذي يصنع الدعاية.
وسط مناخي
رسالة
مرسل
مستقبل
استجابة
تغذية راجعة
ومن هنا نستطيع أن نقول أن هناك مؤشرات يمكن استقراؤها لمعرفة مدى فاعلية الدعاية، فيمكن مثلاً: تحديد عدد الناس الذين وصلتهم فكرة معينة، وعرفوها معرفة عامة. فإذا قلنا أن هدفنا نشر شعار معين؛ فعلينا أن نقيس:
* كم من الأشخاص وصله الشعار؟
* ومن يعرف مضمون هذا الموضوع الذي تمت الدعاية له؟
* كم عدد النسخ التي وزعت بالمقارنة بعدد الجمهور المستهدف؟
إن الأسئلة التي تتعلق بمدى وصول الفكرة - إلى كم من البشر - هي وسيلة من وسائل القياس.
وبالإمكان أن نقيس أكثر من ذلك مثل:
* ما مدى وضوح الرسالة؟
* ما مدى رضا الجمهور عن الرسالة وتقبله لها؟
* ما مدى الاعتراضات على الرسالة من قبل الطرف الآخر؟
* ما مدى الاستجابات و زيادة عدد المشاركين في المشاريع المطروحة على الجمهور؟
* ما مدى تفاعل الجمهور مع المناطق التي تبث الدعاية للنهضة؟
إذن يمكن استخدام العديد من المؤشرات لمعرفة نمو الفكرة أو تراجعها. ويمكن الحديث عن المستقبِل ومدى أهمية هذه الرسالة وتلبيتها لاحتياجات شرائح معينة في المجتمع:
+ قد تكون الطبقات العامية التي لا تقرأ ولا تكتب.
+ أو الطبقات العامية التي تقرأ أو تكتب.
+ أو الطبقات المثقفة.
وقد يكون الخطاب أعلى من مستوياتهم أو أقل، فيمكن دراسة محتوى الخطاب، ومفرداته، ولغته من حيث مناسبتها لشرائح معينة، وعدم مناسبتها لشرائح أخرى.
كما يمكن دراسة جميع أجهزة البث والوسائل التي تبث الدعاية النهضوية، ومدى تحققها والتزامها بالشروط الأساسية للدعاية من هذا النوع. وكذلك دراسة الأوساط الناقلة ومدى كفاءتها في بث الدعاية وانتشارها، ونوعيتها ونوع الخطاب التي تبثه، حيث يشترك في البث النهضوي حكومات، ومجتمعات، ودول:
* ما نوع هذا البث؟
* ما عدد برامج هذا البث؟
* كم تبلغ ساعات البث اليومي؟
* كم الإيجابي منها وكم السلبي؟
وليست هذه هي المؤشرات الوحيدة لدراسة عموم الدعاية، فهناك مؤشرات تتعلق ببنية وتكوين هذه المنظمات التي تسعى للتأثير في الجماهير، والتي تؤثر بالضرورة على دعاية المنظمة. بالإضافة إلى مؤشرات تتعلق بالأجهزة التي تقوم بالبث لدراسة مدى كفاءتها وقدراتها والتزامها بالشروط الموضوعية.
إن أحد أهم وظائف المؤسسات التي تعمل مع الجماهير هو الوصول لهذه الجماهير. وتقع دراسة آلية الوصول إلى الجمهور في أول اهتمامات هذه المؤسسات.
وهناك مقومات لهذه الحملات الدعائية الموجهة إلى الشرائح الاجتماعية المختلفة المستهدفة بالمشروع النهضوي، حتى تصل الدعاية إلى كل الشرائح، وبطريقة علمية، بعيدة عن العشوائية والتخبط.
مقومات الحملات الدعائية:
1. دراسة الموقف الكلي.
2. تحليل مادة الرسالة والصورة المطلوب انطباعها في ذهن الجمهور.
3. تحديد طبيعة الجمهور المستهدف.
4. تحديد الوسائل المباشرة وغير المباشرة.
5. ضبط العناصر الفنية.
6. رصد الموازنات: مال - بشر.
7. التقويم المستمر للحملة الإعلامية وآثارها.
وينبغي الإشارة إلى أن جوهر المنظمات السياسية الجماهيرية - من قمتها إلى قاعدتها - هو كونها منظمة دعائية.
ثانياً: كثرة الأنصار (شبكة العلاقات)(39/460)
المسألة الأخرى هي قضية الأنصار. فالدعاية تبث لكل الناس. لكن ما هو مفهوم الأنصار في حركات النهضة؟!
تجدر الإشارة هنا إلى أن كثيراً من الناس يعتقد أن فكرة الأنصار هي فكرة متعلقة بأنصار الرسو صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن الحقيقة أن كل الدعوات تحتاج إلى أنصار. فقديماً قيل في الفكر الماركسي أن الحركات الثورية لا يمكن أن تصطدم بنواتها في المجتمع الخارجي. فهي تحتاج إلى بناء واسع حولها، يشكل - إن صح التعبير - الغلاف الذي يحيط بنواة البيضة. هذا الوسط الذي تسبح فيه هذه النواة؛ هو وسط الأنصار. وهو وسط كبير جداً، يمد هذه النواة، ويغلفها ويحميها، ويمنع عنها الصدمات، حتى تستوي وتنضج. وهؤلاء الأنصار هم ثمرة الدعاية.
الأنصار المقربين
عموم الأنصار
الأعضاء
النواة
ونظام الأنصار أيضاً، هو نظام له مدخلات: فكر، ومال، ورجال.
وله عمليات: بحيث توظف هذه الطاقات ويستفاد منها،
وله مخرجات: بشكل مشاريع ومزيدٍ من الدعاية والانتشار والحماية لمشروع النهضة، وفيه تغذية راجعة: لمعرفة تطور هذه البُنَى.
توظيف الطاقات والاستفادة منها
* مشاريع
* دعاية
* انتشار
* حماية
مدخلات
مخرجات
عمليات
فكر
مال
رجال
نظام الأنصار
تغذية راجعة
فالأنصار هم البحر الذي تعيش فيه الأفكار، وعندما ينحسر لا يبقى إلا الموت، والتشرنق على الذات والتحوصل! فكيف نقيس مشروع الأنصار؟
قياس مشروع الأنصار:
قياس نوع الارتباط:
* نوع المرتبطين عاطفياً.
* نوع المرتبطين عضوياً.
* نوع المرتبطين بمشاريع محددة.
قياس آخر:
* قياس درجة الاستفادة من دوائر الأنصار.
* قياس مدى المدخلات من الفكر والمال والرجال لاستقطاب الأنصار.
* استثمار نظام الانتخابات العامة أو النقابية وما شابها لمعرفة حجم الأنصار.
* استخدام نظام التمويل (مثل التبرعات) لمعرفة وجود الأنصار.
وهناك وسائل كثيرة جداً لبناء نظام الأنصار ومعرفة وجوده من عدمه، ومدى فاعليته في النهضة العامة التي ترجوها الأمة.
إن مفهوم الأنصار هو واحد من أهم المفاهيم في العمل النهضوي، في كل أطواره. ففي أي حركة تغييرية - إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية أو غيرها - نجد مفهوم الأنصار شائعاً. وحركة النهضة ممثلة في روادها لا تكفي أبداً لإنجاز المشروع، ونجاحها مرتهن بمفهوم الأنصار.
ثالثاً: متانة التكوين (بناء المؤسسات)
المجال الثالث للمؤشرات هو البنية والتكوين. فمشروع النهضة يحتاج أن تبنى له المؤسسات الرسمية والخاصة التي تهتم بها الدول والتجمعات على وجه سواء. فكثير من هذه التجمعات تفتقد الشروط الموضوعية، أو الكفاءة اللازمة للأداء، فكيف يمكن قياس أو وضع مؤشرات لهذه المؤسسات؟؟
النظام السباعي لمعرفة المنظمات:
1. المكون الفكري للمنظمة:
* ما مدى قوته؟
* ما مدى تمكن أفراد المنظمة من هذا المكون الفكري؟
* ما مدى انتشاره؟
* ما مدى وضوح الأهداف الكلية والمرحلية فيه؟
* كيف تقاس الأفكار وتتطور؟
2. الاستراتيجية
* ما مدى وضوح الاستراتيجية؟
* ما مدى فاعلية الاستراتيجية سواءً في الانتقال المرحلي أو في الوصول إلى الأهداف؟
3. الهياكل
* ومدى ملاءمتها للمطلوب منها.79
4. القوى البشرية.
* هل يوجد الكم الضروري من القوى البشرية؟
* هل يوجد الكم النوعي الضروري؟
* ما درجة الروح المعنوية المنتشرة؟
* ما درجة فاعلية هذه القوى البشرية وكفاءتها في أداء المهام المنوطة بها؟
5. المهارات
* ما مدى توفر المهارات كماً وكيفاً؟
* ما درجة استثمار هذه المهارات؟ فقد تكون هناك مهارات كثيرة جداً، ولكن درجة استثمارها قد تكون اثنين أو ثلاثة في المائة.
6. النظم والأجهزة
* النظم والفاعلية والتقليد داخل هذه المنظمات.
7. ثقافة بيئة المنظمة
* كم درجة الأفكار القاتلة المنتشرة فيها؟
* هل تنمي المنظمة قيم العمل والإنتاج والجرأة؟
* أين توجد هذه القيم داخل المنظمة في مقابل قيم التقليد والالتزام الحرفي والقيم السكونية؟ فإنه إذا لم يتم التوازن بين قيم الالتزام والانتظام وبين قيم العمل والإنتاج والجرأة والتفكير، وطغت إحداهما على الأخرى يحدث الخلل. فكم درجة التوازن بين هذه وتلك؟!
* ما هي الأمثلة والقصص التي غالباً ما يستشهد بها؟ وهل تتفق مع استراتيجية المؤسسة؟
يدخل في هذا البند أيضاً دراسة القيادة:
* ما ثقافتها وقدراتها؟
* هل هذه الثقافة مناسبة لطبيعة الصراع القائم؟
* ما أساليب وطرق العمل المنتشرة بينها؟
* ما مدى المثالية والأخلاقيات في إدارة الأعمال؟
إن بإمكاننا وضع معايير ومقاييس في مجال ما يسمى بمتانة التكوين أو البنية العامة.
المكون الفكري
الاستراتيجية
الهيكل
القوى
البشرية
المهارات
النظم
الثقافة والبيئة
ملاحظة هامة:(39/461)
يتبين من هذا الشكل أو ما يسمى بالنظام السباعي أن استراتيجية المؤسسة تبنى على أساس المكون الفكري لها. وهذه الاستراتيجية بدورها ليست ثابتة؛ بل هي تتغير بتغير الظروف. وانطلاقاً من الاستراتيجية المختارة يبنى هيكل المؤسسة. وقد يتغير الهيكل أيضاً بتغير الاستراتيجية. أما انتقاء القوى والكوادر البشرية فيكون حسب نشاط المؤسسة. بينما تخضع المهارات المطلوبة أو التي يتم التدريب عليها أيضاً للاستراتيجية، إذ أن كل استراتيجية تتطلب مهارات خاصة. قس ذلك أيضاً على النظم وأسلوب الإدارة والثقافة السائدة في المنظمة.
فقد يتواجد خلل في منظمة ما، وأول ما يتبادر إلى أذهان القادة والعاملين أن الخلل في التربية، بينما قد يكون الخلل في اختيار بنية الهيكل وشكل التنظيم، أو في افتقاد الأفراد للمهارات التي تناسب المهمة، أو في تكدس المنظمة بالبشر الذين لا توجد لهم وظائف حقيقية، أو أن قدراتهم تختلف عن الاستراتيجية المختارة.
مما سبق يتبين أن عمليات الحشد المستمرة وصراع التجنيد - على نفس العدد من البشر - بين الأحزاب والتيارات يجب أن ينحسر. فكل منظمة تتطلب أفراداً بمواصفات معينة، وليس كل فرد يصلح لكل منظمة. فالتجنيد العشوائي آن له أن يتوقف، وأن يسود الرشد هذه المرحلة. وألا تتكدس التيارات والمشاريع بشباب يعانون من البطالة العملية. إذ يوضع الشاب في مكان لا يناسب قدراته، إما لأنها أعلى من المهمة المكلف بها، أو لأنها - أي قدراته - أقل من تلك المهمة.
وقد يكون الخلل في ثقافة وبيئة المنظمة. فكثير من المنظمات تتحدث عن التغيير بينما لا تجد
في ثقافتها أثراً لفكرة التغيير. فلا تُدرس الحركات التغييرية، أو وسائل التغيير المختلفة، ولا يتم عرض التجارب الفاشلة والناجحة. وبالتالي فإن منظمة كهذه قد يكون خللها في ثقافتها وبيئتها.
نظام 4 في 4:
ويمكن استخدام نظام آخر هو النظام الرباعي. إذ أن أي مؤسسة تقاس من حيث التكوين بستة عشر معياراً من خلال أربعة مفاتيح: (4x4)
أولاً: المنظمة
1. الهيكل: مدى كفاءة الهيكل وتوافقه مع مهمة المؤسسة.
2. البيئة: مدى ملائمة بيئة المنظمة وثقافتها لتحقيق الأهداف.
4. الإدارة: كفاءة الإدارة للمهام المناطة بها.
3. القيادة: كفاءة القيادة للمهام المناطة بها علماً وتدريباً ( قدراتها وثقافتها).
ثانياً: روافع المؤسسة (الموارد)
1. الموارد البشرية: نوع وكم الموارد البشرية وحافزيتها للعمل.
2. : .
3. .
4. .
ثالثاً: معرفة المؤسسة:
1. بمجال الصراع: هل تعرف المؤسسة مجال الصراع جيداً؟؟ فقد تجد شاباً يتدرب ويستعد في مجال البلياردو لسنوات عديدة، ثم إذا به يجد أن المباراة المزمع عقدها تدور في مجال كرة القدم. فأنى له أن يفوز؟! فالمجالان مختلفان تماماً، وليس هناك رابط بينهما.
2. بتكاليف الصراع: هل تعرف تكاليف الصراع والمواءمة بين العوائد وبين الخسائر؟؟
3. : ( )
4. :
رابعا: ًنظام التخطيط:
1. وجود الاستراتيجية: ما الاستراتيجية الحالية؟
2. :
3. :
4. :
. .80
الهيكلالبيئة والثقافةالفريق القيادي
المناخ الإداري
رافعة الموارد البشرية
رافعة الاتصالات
رافعة التقانة
التعاون
الخصم وخططه
الجمهور
تكاليف الصراع
مجال الصراع
التخطيط للمؤسسة
كفاءتها السابقة
نظام التخطيط
تنفيذ الاستراتيجية
المنظمة
الموارد
المعرفة
التخطيط
المؤشرات الحساسة للعملية التربوية الجماهيرية:
من المخاطر التي تتعرض لها التربية عدم وجود مؤشرات حساسة يمكن اعتمادها لمعرفة التقدم أو التخلف في الحالة التربوية العامة.
فبعض الأحزاب و المنظمات لا تهتم بالشأن العام والتربية العامة وتربية المجتمعات رغم حديثها الدائم حول هذه القضية. بينما اهتمامها في حقيقة الأمر يتركز على الحزب - أو التنظيم والمنظمة - وما يدور فيه. فإذا افترضنا نظرية ( 80 - 20 )، 80 % تربية لمن هم داخل المؤسسة و20 % للخارج(المجتمع) سنجد السنين تمضي ولا تنتقل بعض هذه المؤسسات للخارج مطلقاً, ولا توجه سياستها الدعوية للخارج. وهو خطأ كبير ومؤشر خطير يجب الانتباه له. لذا يجب اعتماد مؤشرات صلبة في مدى انتشار فكرة النهضة بين العاملين في الحقل الإسلامي وجموع المنتسبين لتيار الصحوة وبين المجتمعات الإسلامية, كما يجب اعتماد مؤشرات لقياس انحسار الأفكار القاتلة. كما يجب قياس معدل انحسار الكلمات الاستعلائية بين التيارات، والتي تعني أن هذا التيار أو ذاك وحده على صواب، وأن ما عليه هو الدين بعينه وليس اجتهاداً يقبل القبول والرد. يجب قياس انحسار معدل المشاحنات، ومدى ازدياد كلمات الوفاق والتقارب، وهل لا تزال التيارات تتقوقع على نفسها فلا يعلم أتباعها إلا قول قادتهم، أم أن كل الأفكار تُطرح وتُقرأ على اعتبار أن كل التيارات جزء فاعل في المشروع؟
إذن لابد من رصد مدى انتشار هذه الأفكار في مقولات التيارات المنتسبة للصحوة في المجتمعات المسلمة، ورصد مدى النجاح في جعلها تتراجع لصالح أطروحات أكثر عدالةً وإنصافاً، وأكثر رحمةً للعالمين.(39/462)
ويشكل الحزب أو المنظمة أو التيار في أحيان كثيرة حاجزاً يحول دون التواصل مع الكفاءات والقدرات الموجودة في المجتمعات المستهدف استنهاضها. فبدلاً من أن يكون الحزب أو الجماعة أو المنظمة - سواء كان في السلطة أو خارجها - وسيلة للتواصل مع الآخرين يصبح أداة لإبعادهم و تهميشهم. فكلما اختلفت رؤى أحدهم مع هذا التيار أو ذاك حدث العراك. ولا يكون هناك خيار إلا الالتحاق بالمنظمة أو الدخول في حرب معها. هذا النوع من الأداء خطير ويضر بمجمل المشروع النهضوي. لذا يجب أن تكون عندنا مؤشرات لرصد هذا الأداء ومدى تقدمه أو انحساره. ومن هذه المؤشرات رصد عدد الأنصار لتيار النهضة في المجتمعات الإسلامية.
كما يحتاج المشروع مؤشرات متانة تكوين الأجهزة المختلفة: مثل أجهزة الإحصاء والتخطيط والتكوين والمدارس والجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات. هذا التكوين الشامل للأمة كيف نقيسه؟! كيف نقيس مدى استنهاض الأمة, ومدى انتقالها من طور الصحوة إلى طور اليقظة؟! كل هذه التساؤلات والقضايا لا تُعتمد إلى الآن كمؤشرات حقيقية لعملية الانتقال. بل ما زال العمل في ذاته غاية دون وجود وسيلة لمعرفة ما إذا كنا نتجه في الاتجاه الصحيح أم لا.
إن قضية التربية وإدارة هذا المشروع الضخم, واستخدام المؤشرات الحساسة, والانتقال من فكرة تربية التنظيمات إلى تربية شاملة للمجتمعات الإسلامية بما فيها هذه التنظيمات والتجمعات بشكل عام, يجب أن تكون مؤشراً أساسياً لتقارب عام بين المسلمين، يتقبلون فيه أشدهم تطرفاً ناهيك عن أكثرهم اعتدالاً. هذه القضية يجب أن تكون شاملة عامة وتطرح في المجتمعات الإسلامية لانتقال التيارات والحكومات والاتجاهات من ساحة العراك إلى ساحة التعاون.
ما الذي يعوق عملية إيجاد مؤشرات؟
قد يكون توافر الإمكانيات - لإنشاء مراكز البحوث - عائقاً في نظر البعض لإيجاد مؤشرات. وفي نظر البعض الآخر قد يكون العائق هو الثقافة العامة المنتشرة في المجتمعات، فهي ليست ثقافة رقمية بالدرجة الأولى، وليست ثقافة تقبل المراجعات، وبالتالي فستظل عملية المؤشرات غير مهمة بالنسبة لأفراد كثيرين في ظل الثقافة القاصرة المنتشرة في مجتمعاتنا.
عوائق وجود مؤشرات
إمكانات
ثقافة غير رقمية
غياب التصنيف الدقيق للمؤشرات ومنهجية قياسها
فالمراجعات تعني - عند البعض - المشاحنات حول من المُخطئ ومن المصيب، ولا تعني عملية التطوير. والأرقام تعني تفكيراً حقيقياً وعملاً جاداً لمعرفة مدى التقدم أو التراجع. وهذه المراجعات والأرقام مؤلمة للنفس البشرية التي ترفض إلا الاعتراف بالإنجازات والحسنات. وهكذا يفضل البعض - في هذه المجتمعات - السير من غير علامات، أو يتم تقييم الأمور انطباعياً.
فقد يقول أحد مرتادي مسجدٍ ما يقل رواده من الشباب أو من الناطقين باللغة العربية: "إن العرب لا يصلون! والشباب لا يحضرون المساجد!!". بينما لم يدرك هذا الشخص أن المسجد في منطقة عمالية!! ويسود فيها غير الناطقين باللغة العربية! وأكثر أهل المنطقة ليسوا من صغار السن أصلاً!!
أو قد يقول قائل من أبناء الصحوة الإسلامية: نحن نتقدم لأن نسبة الحجاب تزداد، وهذا يعني أننا نؤثر في الشارع ولنا شعبية ضخمة. وهذا صحيح فقد ازدادت نسبة الحجاب، ولكن ازدادت في نفس الوقت ظاهرة الزواج العرفي، ودخول المسلمين على المواقع الإباحية، وتطور مستوى الإعلان التليفزيوني والأغاني إلى إظهار الكاسيات العاريات بشكل لم يسبق له مثيل.
فكيف نقيس تأثيرنا على الشارع من خلال ظاهرة واحدة وهي انتشار الحجاب؟! رغم أن هناك ظواهر كثيرة منتشرة قد تفسد كل نجاح نراه، خاصة وأنها تخترق كل بيت من خلال الفضائيات والإنترنت.
هذا النوع من الانطباعية في تقدير الأحكام نتج عن غياب ثقافة الأرقام. وهذه الانطباعية السائدة تؤثر كثيراً على الأداء العام للعمل. وهي محبطةٌ في أحيانٍ كثيرة، وفي أحيان أخرى يكتشف الناس بعد عشرات السنين من الانهماك في العمل أنهم لم يغادروا أماكنهم، ولم يحققوا أهدافهم التي تعاهدوا عليها؛ بل والبعض انشغل بأعمال جزئية، أو بعمل استثنائي في ظرف ما اضطر له، وبمرور الزمن صار هذا العمل الاستثنائي هو الأصل!!
نحن نحتاج إلى تعميم الثقافة الرقمية، وثقافة تقبل المراجعة. وهذا يحتاج إلى زمن وتربية، وبالتالي فمسائل التربية يجب أن تركز على تطوير عقلية القائمين على مشاريع النهضة الكبرى، واستقطاب عناصر تقبل هذا النوع من الأداء لهذه المؤسسات والأحزاب والحكومات.
أما استقطاب العناصر العاطفية - التي لا تريد أن تتعب ذهنها في شيء، وتريد أقل الأعمال المجهدة للذهن، وأقل الأعمال المجهدة للجسد، ثم اعتمادهم ليصبحوا في المستقبل قادة لهذه المشاريع
الكبيرة فهو خطأ فادح ومكلف على مسارات مشاريع النهضة -سواءً كان في الحكومات أو المنظمات على وجه سواء.
مؤشرات النجاح
عموم الدعاية (الرأي العام)
متانة التكوين
(بناء المؤسسات)
كثرة الأنصار
(شبكة العلاقات)
أ. مؤشرات لقياس عمل الأحزاب والتجمعات:
المؤشرات الثقافية: مؤشرات الالتزام بالمنظومة القيمية.
مؤشرات الاعتزاز بالذات.(39/463)
مؤشرات احترام الآخر.
مؤشرات شيوع قيم العدل.
المؤشرات الاقتصادية: مؤشرات النمو الاقتصادي.
المؤشرات الاجتماعية: مؤشرات قياس سلامة النسيج الاجتماعي وحيوية المجتمع.
المؤشرات السياسية: مؤشرات المشاركة والعدالة والحريات .. إلخ.
المؤشرات الروحية: ظاهرة الالتزام وحيوية الحالة الإيمانية ومظاهرها.
المؤشرات الحضارية: النظام والنظافة والجمال.. إلخ.
المؤشرات الصحية: المعدلات المختلفة.
المؤشرات التعليمية: في العدد والتخصصات والمستويات المناسبة لسوق العمل والوضع في الهرم الدولي.
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:
بمنطوق القانون.
بالأدوات التي تعين على استخدام القانون من الدعاية إلى التخطيط الاستراتيجي.
2. الاستخدام:
إيجاد أجهزة دعائية إعلامية مؤثرة.
إيجاد شبكة علاقات قوية بين مؤسسات النهضة والجمهور، وبين المؤسسات والتيارات بعضها البعض.
إيجاد منهجية ومراكز بحوث وأجهزة على أعلى مستوى من التدريب لرصد المؤشرات.
التدريب على الثقافة الرقمية والإحصائية.
التأكد من متانة تكوين المؤسسات العاملة للنهضة من خلال أداة التخطيط الاستراتيجي.
3. عدم المصادمة:
* بتجنب إهمال رصد المؤشرات، وإلا راحت جهود المؤسسات والتيارات العاملة والدول أدراج الرياح، ولعلها تخطيء طريقها وهي لا تدري.
* بإيجاد أجهزة دعائية مؤثرة تصل إلى الجماهير، فبدون الأنصار تموت مشاريع النهضة عند أول تهديد.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
إيجاد أجهزة دعاية
تجنب إهمال المؤشرات
بالاهتمام بوجود الأنصار
بالأدوات
إيجاد شبكة علاقات قوية
إيجاد منهجية وأجهزة لرصد المؤشرات
التدريب على الثقافة الرقمية
التأكد من متانة التكوين
معادلات القانون:
* مرسل + رسالة + مرسل إليه + تأثير +تغذية راجعة = جهاز الدعاية
* فكرة - أنصار = فشل
* أهداف عليا + استراتيجية مناسبة + هيكل مناسب للاستراتيجية + كوادر مدربة بالمهارات اللازمة + نظام إداري مناسب+ ثقافة وبيئة ونمط قيادة مناسب = مؤسسة قوية
* دعوة - مؤشرات نجاح = تخبط وبعد عن الأهداف
القانون السابع
التدافع
منطوق القانون
"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"81
مفردات القانون
الدفْع: جاء في المعجم الوجيز دفَعَ الشيء دفْعاً أي نحاه وأزاله بقوة. فيقال: دفعته عني، ودفع عنه الأذى والشر. ويقال: دفْع القول أي ردُهُ بالحجة. والمقصود بدفع الناس أي دفع بعضهم بعضاً.
أهمية القانون
قضية التدافع - كما يشير القرآن الكريم - كانت ولا زالت وستكون هي جوهر الوجود البشري. فالوجود البشري قائم على هذا التضاد، وعلى هذا التدافع المستمر لخلق الله على أرضه. فالبشرية تدعو إلى السلام والأمن، بينما في الواقع يطغى الناس بعضهم على بعض، وتستمر عملية التدافع إلى أن يشاء الله عز وجل، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فقانون التدافع يخبرنا بأنه لا مفر من عملية التدافع المستمرة في السلم والحرب، فهي حالة دائمة ومستمرة لا يجوز تجاهلها أو الأمل في زوالها.
المراحل الثلاث للمؤسسات:
عندما نتحدث على مستوى الواقع الحي، سواء كان على مستوى المنظمات والأحزاب، أو حتى الدول، سنجد ثلاثة مراحل لأي مؤسسة:
المرحلة الأولى: وتسمى مرحلة البقاء أو الوجود. فكل كائن حي أو نظام قائم يحرص أولاً على بقائه أو وجوده.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الاستقرار. فهذا الكيان الذي ضمن وجوده وبقاءه في المرحلة الأولى يسعى الآن إلى الاستقرار. فتأمين الوجود والبقاء قد لا يعني استقرار النظام. لذا فهو يسعى إلى تعديل أوضاعه لإيجاد حالة من الاستقرار.
المرحلة الثالثة: مرحلة النماء أو التنمية. وفيها يهدف الكيان - بعد المرحلتين السابقتين - إلى مستوى ثالث ألا وهو النمو وتطوير ذاته والبناء.
البقاء (الوجود)
الاستقرار
التنميةالمراحل التي تمر بها الدول
وهكذا فإن أي نظام82 يسعى إلى الوجود، ثم إلى الاستقرار، ثم إلى النماء.
والدولة كنظام تمر بهذه المراحل الثلاث وتسعى إلى بلوغ نهاية هذا السلم بتحقيق التنمية. وبالمثل تسعى النظم الأصغر والأضعف أينما كانت إلى بلوغ الهدف نفسه. ومن هنا تأتي عملية التدافع.
مكونات أي نظام
تغذية راجعة
مخرجات
مدخلات
عمليات
التدافع البشري:
هناك نوعين من التدافع البشري:
1. : Win _ win situation . .
2. الصراع: ويُقصد بها الصراعات الصفرية Ze r o _ sum. وفي هذه الصراعات لا يتقبل كلا الطرفين وجود الطرف الآخر إطلاقا،ً ويسعى إلى إنهائه تماماً، والخروج بفوز نهائي ساحق كامل،
بينما يخرج الطرف الثاني من الصراع مغبوناً ومتألماً، إما منسحباً مكسور الإرادة، وإما عازماً على الإعداد لجولة أخرى من الصراع.83
كل طرف يسعى لإنهاء الآخر
فوز الطرفين بنسبة من النسب
قضايا التدافع
لدى البشر
تدافع التنافس
تدافع الصراع
وهكذا يمكننا تقسيم قضايا التدافع إلى تنافسية أو صراعية. فالقضايا التنافسية تحتمل فوز الطرفين بنسبة من النسب. بينما يسعى أحد الطرفين إلى إنهاء الطرف الثاني وإخراجه من ساحة الفعل في القضايا الصراعية.
خطوات التدافع(39/464)
وهنا يتساءل الكثيرون عن خطوات التدافع. وهل هناك خطوات أو قواعد محددة يمكن السير في ضوئها في عملية التدافع؟
و حتى تستطيع مؤسسة أو حركة أو تنظيم ما أن يحدد قواعد وخطوات التدافع يلزمه أولاً الإجابة على هذه التساؤلات، والتي في ضوئها يتم تحديد الخطوات:
* هل التدافع تنافسي أم صراعي؟
* على ماذا يتم التنافس أو الصراع؟
* أين يتم التدافع؟ (المكان)
* ما أدوات الصراع أو التنافس؟( بماذا تصارع أو تنافس)؟
* كم التكاليف؟
* ما المدى الزمني المتوقع؟ (بالتقريب)
* ما مستلزمات الصراع أو التنافس؟ (ما تحتاجه)
هل هناك مفر من عملية التدافع؟
ليس هناك مفر من عملية التدافع: فلو نظرنا إلى التاريخ وإلى الحاضر لوجدنا أن التدافع هو إحدى السنن الكونية التي كانت وما تزال تطرق المجتمعات والكيانات منذ أن نشأت ووجدت على وجه الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهذه بعض الأمثلة:
1. الرسل جميعهم من لدن آدم وحتى رسولنا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
2. تاريخ قيام الدول وسقوطها.
3. تاريخ قيام الحضارات وزوالها.
مجالات التدافع:
وللتدافع مجالات عدة سواء في السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع وغيرها، والتي يمكن اختزالها في المستويات الثلاثة التالية:
* مستوى الفكرة: فعندما تصطرع المنظومات القيمية، سواء الليبرالية والإسلامية والشيوعية وغيرها على مستوى الفكر فهذا صراع على مستوى الفكرة.
* مستوى التنظيم: وعندما تصطرع النظم التي تحمل هذه الأفكار، سواء كانت أحزاباً أو دولاً، فهذا صراع على مستوى النظم.
* مستوى الأشياء: أما عندما يكون الصراع على الأشياء المادية سواء على البترول أو مصادر الطاقة أو أسلحة الدمار الشامل فهذا صراع على مستوى الأشياء.
وهذا التقسيم نظري بحت، إذا أن الصراعات تختلط فيها المستويات الثلاثة: الفكري، والتنظيمي، ومستوى عالم الأشياء. ولكن للدراسة تُقسم مجالات التدافع بهذه الكيفية.
مجالات التدافع
مستوى الأفكار
مستوى التنظيم
مستوى الأشياء
جوهر التدافع
أما جوهر عملية التدافع فهو وجود اختلاف في المصالح. سواءً كانت هذه المصالح دنيوية أو أخروية. فهذا الاختلاف في المصالح والرؤى بين الأطراف المختلفة يؤدي إلى التدافع فيما بينها.
ويقوم التدافع على عنصر القوة. أي محاولة طرف من الأطراف فرض إرادته على الطرف الآخر. إذ أن القوة تُعرَّف على أنها قدرة الطرف (أ) على فرض إرادته على الطرف (ب)، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة.
محاور الصراع
أما المحاور التي يدور حولها الصراع فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
التركيز على البقاء
ثم تسوية الصراع
ثم إزالة أسبابه
ثم جعل الجميع يعملون لنفس الهدف
1. الشرعية
2. توحيد الجهود من خلال
3. انتظام الدعم الخارجي ونوعه.
4. .
5. .
6. .
القيادة كعنصر مهم في التدافع
فإذا تبين لنا مما سبق أن جوهر عملية التدافع هو اختلاف المصالح والرؤى، وقوامها عنصر القوة، ومحاورها هي ما ذكرناه آنفاً، لعلمنا قطعاً أنه - سواء كان تنافساً أو صراعاً - أمر لابد منه. ونلفت النظر هنا إلى أن هذه المنظومات على اختلاف أنواعها تتبلور في القيادة. وهكذا يمكن اختزال التدافع ليكون بين العقول القائدة.
و يمكن القول بأن القائد هو أهم عنصر في الصراع. والقائد في أفضل تعريفاته: له رؤية، وعنده التزام بالهدف الذي يتحرك من أجله، ولديه القدرة على إدارة الآخرين وتوظيفهم لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه.
إذن تحتاج عملية التدافع إلى قيادة تقود الصراع. وهذه القيادة ليست مجرد قيادة؛ بل يجب أن يكون لديها،:
1. رؤية واضحة عن:
o ماذا تريد؟
o وكيف تصل إلى ما تريد؟
2. والتزاماً عالياً بالهدف.
3. المهارات القيادية التي تمكن من إدارة الناس والموارد للوصول للهدف.
فإذا افتقدت هذه العناصر تصبح عملية التدافع بلا قيادة، إنما تخضع لإدارة من نوع ما.
أهم وظائف القيادة
وتحتاج القيادة إلى ثلاثة وظائف متزامنة:
1. تطوير مستمر: فوظيفة القيادة الأساسية أن تقوم بتطوير نفسها باستمرار. سواءً بالقراءة، أو النظر والبحوث والتعلم والتدريب وغيرها من الأمور. فتطور القيادة المستمر، والحرص على أن تكون لها مدخلات جديدة باستمرار وأن يكون نموها مستمراً هو الواجب الأول الذي يحقق تميز القيادة وقدرتها على منافسة بقية العقول القائدة الداخلة في الصراع.
2. خلق ميزة تنافسية للمنظمة أو الجهة التي تعمل لها: والميزة التنافسية تقوم على إيجاد فرصة أو قدرة معينة للمنظمة للتغلب على العقبات التي تقف أمامها، وللوصول لأهدافها في مقابل المنافسين، أو القوى الأخرى التي تدافع المشروع.
3. القدرة على استخدام أدوات القوة: ففي السياسة تعتبر أدوات القوة أو الفعل ثلاثة وهي: المال وما يتعلق به، والإقناع وهو هذه القوة الفكرية المنطقية التي تسمح بإقناع طرف ما بأن يخضع لرغبة الطرف الموجه للفكرة، والقوة المادية وما يصب في جانبها من عناصر القوة الصلبة.(39/465)
هذه العناصر الثلاثة تشكل جوهر أدوات القوة التي تستخدم في الصراع، ووراءها تقف كل الإمكانات المادية والبشرية والمعرفية. فالمال والإقناع والقوة الصلبة هي الأدوات المستخدمة في الساحة مباشرة لفرض إرادة طرف ما على طرف آخر.
إدارة أدوات القوة
خلق ميزة تنافسية
تطوير مستمر
وظائف القيادة
أشكال سبعة في العمل التدافعي
هناك أشكال كثيرة ومتنوعة في العمل التدافعي. ولكن إذا حصرنا كلامنا على المستوى السياسي - والذي هو جوهر عملية النهضة، لتتحول الفكرة إلى إيجاد نظام سياسي يمتلك عناصر القوة، وينقل مشروع النهضة من تصور نظري إلى مشروع يستفيد بإمكانيات الدولة في تنمية المجتمع - إذا حصرنا دراستنا على هذا المستوى فسنجد أشكالاً ومسميات عديدة. وعلى القائد أن يعرف تفصيلات هذه الأشكال وليس عمومياتها، لأن هذا هو جوهر قضية ما يجب أن يتعلمه القائد عن عملية التدافع، وأي نقص في هذه الجوانب سينعكس على نقص في الأداء والتصور والتخيل عند القائد. وقد اخترنا من هذه الأشكال أو المسميات ستة أنواع لانتشارها وكثرة استخدامها على مر العصور من قِبل الدول أو التنظيمات. وسنستعرض في الصفحات التالية هذه الأشكال السبعة:
1. الحرب
إن الحرب هي أداة من أدوات السياسة، وهي "عمل من أعمال العنف، يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا"84.
من التعريف السابق يتبين أن الحرب ليست هدفاً لذاته، وإنما هي أداة من أدوات تنفيذ السياسات، و هي لغة حوار الإرادات، وهدفها إخضاع وكسر إرادة الخصم، ولا يشترط تدميره، بل القائد العسكري الماهر هو الذي يسخر موارد خصمه لصالحه.
وتنقسم الحروب إلى ثلاثة أنواع رئيسة:
* حرب كبيرة: مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهذه الحروب لها خصائصها وتصوراتها.
* حرب متوسطة: مثل حربي الخليج الأولى والثانية، حيث تلتقي قوى عظمى بقوة صغيرة. وتُستخدم فيها الأسلحة التقليدية وما إلى ذلك. ولكنها لا ترقي إلى مستوى الحروب العالمية.
* حرب منخفضة الحدة: وهي في مستوى أدق من هذه الحروب، مثل فيتنام والصومال ولبنان وغيرها.
فكل نوع من هذه الحروب له خصائصه التي يجب أن يعرفها القائد معرفة جيدة. وبدون هذه المعرفة، لا يمكن له أن يتخيل ما الذي يتكلم عنه أثناء وجود الأزمات، أو أثناء إدارة مثل هذا النوع من الصراع، حتى على المستوى النظري.
2. الانقلابات:
والانقلاب هو عبارة عن عملية تتم داخل أجهزة السلطة. حيث يقوم طرف من الأطراف داخل دائرة السلطة بإسقاط فريق العمل السابق والحلول مكانه.
وهناك مجموعة من الأسئلة المتعلقة بهذا الشكل من أشكال التدافع، ولابد أن يكون القائد قادراً على الإجابة عليها. ومن هذه الأسئلة:
* ما هي الانقلابات؟
* ما شروطها؟
* ما كوابحها التي تمنع من حدوثها؟
* ما معدلات العوامل التي تسرع من حدوث الانقلابات؟
* ما سلوك العمل الانقلابي؟ فهناك سلوك معين للعمل الانقلابي.
فمعرفة كل ما يخص الانقلابات مسألة هامة جداً بالنسبة لعقلية القائد وتكوينها.
3. الثورات:
والثورة حدث أشمل من الانقلاب. ففي كل من الثورة والانقلاب يتغير نظام الحكم، ولكن يصحب تغير نظام الحكم في الثورة تغيرات عميقة في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتتأثر فيها أحوال المجتمع بوجه عام. فالثورة لا تختص فقط بتغيير السلطة في الحكم، لكنها تشمل تغيير المنظومة الاجتماعية كاملة.
فانقلاب حركة الضباط الأحرار المصرية في يوليو 1952م الشهيرة لم يتحول إلى ما يسمى بالثورة علمياً إلا بعد أن مس جميع جوانب المجتمع المصري. فتحول اسمه من انقلاب الضباط الأحرار إلى ثورة يوليو.
وهكذا فإن انتقال الفكرة من مجرد استبدال طغمة حاكمة بأخرى مع تغييرات حتمية نتيجة هذا الاستبدال تمس تغيير البنا الاجتماعية في المجتمع؛ سياسةً واقتصاداً وشرائح يقال عنه ثورة وليس عملية انقلاب.
وحتى يستطيع القائد أن يدير الصراع لابد أن يكون على علم جيد بالثورات. وأن يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة التالية:
* ما هي الثورة؟
* ما شروطها؟
* ما توابعها؟
* ما معجلاتها؟
* ما هو سلوك الثورات عندما تحدث حتى يمكن التعامل معها عندما تحدث انفجارات؟
* من أطرافها؟
*
*
*
فكل هذه القضايا يجب أن تؤخذ في الحسبان عندما تدرس هذه الظاهرة. وعلى القائد أن يكون ملماً إلماماً عميقاً بهذا الموضوع الهام.
4. العمل السياسي أو العمل النضالي الدستوري:
وينبغي للقائد أن يفهم هذا الشكل الهام من أشكال الصراع. وعليه أن يُلِم بالأمور التالية:
5. التفاوض:86
وهو من أهم أشكال عملية التدافع التي يجب أن يعرفها القائد بشكل واضح. إذ أن استخدامه في الصراع أمر حتمي في أي مرحلة من مراحل الصراع. ففي بعض مراحل الصراع يمتلك كل طرف من أطرافه درجة معينة من السلطة أو القوة أو النفوذ، ولكنه في الوقت نفسه ليس لديه كل السلطة أو النفوذ أو القوة الكاملة التي يستطيع بها إملاء إرادته وفرضها إجبارياً على الطرف الآخر، ومن ثم يصبح التفاوض هو الأسلوب الوحيد المتاح أمام الأطراف التي لها علاقة بالصراع وتريد الوصول إلى حل ما.(39/466)
ونتيجة لحتمية استخدام هذا الشكل في عملية التدافع فيجب على القائد أن يلم بكافة دقائق وعناصر التفاوض. وعليه أن يكون قادراً على الإجابة على الأسئلة التالية:
* هل تستطيع تحديد موضوع التفاوض؟
* كيف يتم اختيار الفريق التفاوضي وتدريبه وإعداده للقيام بالعملية التفاوضية؟
* ما نوع التفاوض؟
* ما هو توصيف الحالة التفاوضية؟ هل هي حالة مقايضة، أم تفاعل استراتيجي كامل؟
* كيف تعد الهياكل التفاوضية أو الحزم التفاوضية؟ سواءً كان الجزء الصلب منها أو الجزء الهش؟
* كيف يحدد الموقف العام لأطراف العملية التفاوضية؟
* كيف تحدد الأطراف العلنية والخفية للعملية التفاوضية؟
* ما الاستراتيجيات التي تستخدم فيه؟ سواء كانت الإقناع أو القهر أو التنازل أو التعاون الإيجابي أو التعاون السلبي؟ وما هي هذه المعاني ومتى لا تستخدم في العملية التفاوضية؟
* ما التكتيكات المستخدمة في العملية التفاوضية؟
هذه هي القضايا الأساسية في التفاوض التي يجب أن يدركها القائد وأن يكون مدرباً تدريباً عالياً عليها.
6. حركة اللا عنف:
تعتمد حركة اللا عنف على طبيعة القوة في المجتمع. ذلك أن نتائج هذا الكفاح ترتبط بامتلاك وممارسة القوة وبتأثير ذلك على الخصم.
ويتعارض هذا المفهوم مع الفهم الخاطيء السائد الذي ينظر إلى الفعل اللا عنيف باعتباره يفتقد القوة، وباعتباره يتجاهل واقع القوة في السياسة. فالكفاح اللا عنيف هو أسلوب سياسي ينبغي أن يفهم ويقيم وفقاً لمنطقه الخاص.
إن الكفاح اللا عنيف هو أسلوب لحشد القوى في مواجهة الخصم الذي عادةً ما يكون لديه قدرات إدارية واقتصادية وسياسية وبوليسية وعسكرية. وتستخدم القوة هنا للإشارة إلى كل مظاهر النفوذ ووسائل الضغط المستخدمة ضد الخصم لإقناعه بالتصرف على النحو الذي يريده قادة حركة اللا عنف. فهو أسلوب يستخدم أدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط، ويتضمن أكثر من مائتي طريقة مثل المقاطعات الاقتصادية والإضرابات العمالية وحتى إقامة حكومة الظل.
ولأهمية حركة اللا عنف في المسارات التغييرية يجب أن يهتم القادة بدراستها وأن يكونوا قادرين على الإجابة على هذه الأسئلة:
* ما هي حركة اللاعنف؟
7. الإرهاب:
ويمكن إضافة شكل سابع للتدافع وهو الإرهاب بقسميه: إرهاب الدولة وإرهاب المنظمات لتتكامل لدى القائد صورة عن آليات التدافع.
العمل السياسي
أشكال عملية التدافع
الحرب
الثورة
التفاوض
الانقلاب
حركة اللاعنف
الإرهاب
إن معرفة القائد الصلبة لهذه المسميات أو الأشكال الستة التي تدخل في العمل التدافعي أمر في غاية الأهمية، وتدخل في باب الضروريات، وليست من الحاجيات أو التحسينيات. ومن يفتقدها فقد افتقد شرط النجاح.
إن هذه المسميات يجب معرفتها بدقة شديدة، والتدريب عليها تدريباً عالياً، ومناقشتها مناقشة موسعة، حتى تتكون رؤى كاملة عند القيادات، حول البدائل المتاحة، أمام أي حراك تغييري يراد له النجاح.
ولابد ألا تقتصر هذه المعرفة على الفكر القيادي الذي يقود عملية التدافع فقط؛ بل يجب أن تكون كل الطبقات العاملة في المستوى الوسيط قادرةً على استيعاب هذا النوع من الفكر، وهذا النوع من الأداء. وبدون ذلك تكون المنظومات القائمة على قانون التدافع هشة وقابلة للانهيار. والتاريخ خير شاهد على ذلك. فعندما يدخل مجموعة من الناس مجردين من الأدوات الأساسية في العلوم العسكرية والسياسية، والاقتصادية إلى مجال العمل؛ فكم يحدثون من التدمير لأنفسهم قبل مجتمعاتهم؟!
وسائل التغيير العامة:
ونحب أن نذكر هنا في عجالة سريعة أن للتغيير وسيلتين أساسيتين هما:
وسائل التغيير العامة
سلمي
عنيف
بارد (تداول سلمي)
ساخن (لا عنف)
جيش خارجي
ثورة شعبية
انقلاب
طرق التغيير:
طرق التغيير لإحداث النهضة
طريق تراكمي طويل
طريق اختزالي قصير نسبياً
يحدث بفعل قوى متعددة
الزمن اللازم للحدوث غير محدد ولو بشكل تقديري
أداة الفعل الرئيسة غير محددة
العمل في المتاح وعدم إبداع وسائل مكافئة
إيجاد نقطة بدء (شريحة البدء)
التحرك نحو امتلاك أداة التغيير في وقت زمني محدد تقديراً
تطبيق البرنامج
اختزال الزمن للتقدم الاجتماعي
يشبه طريق الجبرية. وشعار أهله: "ليس علينا إدراك النتائج"
من أمثلته تجارب:
الرسول / الصين / اليابان / العباسيين/ ماليزيا
ومثال ذلك كثير من التحولات في التاريخ الأوروبي والتي تمت عبر تراكم تاريخي طويل كطريق التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية والنهضة العلمية الأوروبية
ويتخيل من يخوضون عملية التغيير البطيء أنهم وحدهم هم الذين أنجزوا المشروع. ولكن الواقع يقول أن قوىً أخرى يجب أن تتدخل لتنجز المشروع، وتحوله من مرحلة الاستضعاف إلى التمكين. والخط البطيء الطويل لا بأس به إن وضع في اعتباره ضرورة تواجد قوى أخرى (شريحة التغيير) تسعى لإنجاز المشروع. واعتبر دوره مع هذه القوى أنه دوراً تكاملياً.
أما تفسير حوادث التغيير أنها نشأت من خلال المسارات الطويلة التي تتجاوز مئات السنين دون أي تدخل من قوى أخرى فهو وهم كبير.(39/467)
إن عملية التدافع ليست مسألة تترك للظروف والحوادث. وكذلك عملية تنمية القيادات. والقيام بهما ليس مما يترك للظروف والحوادث دون اهتمامٍ وترتيب. فإعداد القادة اليوم علم وفن كبير، ومن الخطورة الشديدة أن يتوسد اليوم -في عصر العلم والتنظيم والتربية الموجهة والمركزة- مسألة التدافع من لا يمتلك هذه المعرفة الأساسية والضرورية في مجال التدافع.
والحديث عن التدافع يطول، ولكن حسبنا أن نقول أن عملية إعداد القادة لعملية التدافع شرط أساسي، لأنها عملية لا يمكن تجنبها.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل:
* الإلمام بنوعية عملية التدافع التي يخوضونها،
* ومجالات التدافع،
* ومحاور الصراع،
* والأشكال المختلفة المستخدمة في عملية التدافع،
* ووسائل التغيير العامة،
* وأهم وظائف ومواصفات القيادة.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
تحديد نوعية التدافع (صراعي أم تنافسي؟)
تحديد مجالات ومحاور الصراع.
تحديد الشكل المستخدم.
اختيار الوسيلة المناسبة للتغيير.
الاختيار المناسب للقادة وأدوارهم.
4. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة الهروب المستمر من التدافع طلباً للسلامة، أو النصر السهل. أو نتيجة سوء تحديد نوعية الصراع أو مجالاته أو محاوره، أو اختيار أحد الأشكال أو الوسائل غير المناسبة، أو عدم معرفة القادة لدورهم ووظيفتهم الأساسية.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
تحديد نوعية الصراع
عدم الهروب من سنة التدافع
الدراسة الجيدة واختيار الوسيلة
بطبيعة عملية التدافع ووسائلها
استخدام الوسائل المناسبة
اختيار القيادة المناسبة
تعرف القائد على مهامه
معادلات القانون
* استبدال طغمة حاكمة بأخرى = انقلاب
* تغيير اجتماعي+تغيير سياسي = ثورة
* قطع موارد القوة عن النظام السياسي - استخدام القوة المسلحة = حركة لا عنف
القانون الثامن
الفرصة
منطوق القانون
"الأحداث العظيمة يصنعها اقتناص الفرص"
مفردات القانون
الفرصة: هي اللحظة التي تبدو فيها عوامل النجاح متوفرة ولحظة العمل المنتج قائمة، أو هي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم.
أهمية القانون
قانون الفرصة هو جزءٌ من عملية التدافع، ومعين على فهمها. ومن المعروف تاريخياً أن الفرص تتاح وباستمرار وبدون توقف للأمم، حتى تنهض وتتحرر.
إن إلمام القائد بهذا القانون وتدريبه على كيفية التعامل مع الفرص التي تتاح أمر في غاية الأهمية لنجاح مشروع النهضة.
قانون الفرصة هو جزء من عملية التدافع. وهو يعني الانتقال من مقعد المفعول به إلى مقعد الفاعل. وكما أشرنا من قبل فهي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم. وهذا التقدم قد يكون حاسماً أو جزئياً. وهو يعتمد - بعد إرادة الله جل وعلا - على وجود الاستعداد لدى الطرف الراغب في التقدم لاقتناص الفرصة واستغلال الظرف، لتحقيق المكاسب التي يسعى إليها.
أنواع الفرص
1. فرصة جزئية: لإنجاز هدف من أهداف المشروع، أو قطع مرحلة في الطريق.
2. فرصة كلية: لإنجاز المشروع الكلي والتمكين له. وهي تشمل ما يُطلق عليه بالفرصة التاريخية التي قد تكون:
* فرصة للوصول إلى السلطة،
* أو فرصة للتحرر من الاستعمار،
* أو فرصة تاريخية للحصول على أسبقية معينة في مجال معين من المجالات.
وقد تحدث أحد الرجال النابهين في بداية القرن الماضي عن قانون الفرصة وما يتعلق به وقال: "إن الغاية البعيدة لابد فيها من ترقب الفرص، وانتظار الزمن، وحسن الإعداد، وسبق التكوين"87 فقانون الفرصة والظرف المناسب للتقدم يقابله قانوني الجاهزية، والسرعة وحسن التوقيت.
الجاهزية
إننا لا يمكن أن نتحدث عن قانون الفرصة والظروف الملائمة لحراك ما، بدون الحديث عن قانون الجاهزية. والجاهزية عملية نسبية وليست مطلقة. فلا يمكن أن يدعي تنظيم أو فرد أو حتى دولة ما أنه جاهز لكل الاحتمالات، فذلك ليس من شأن البشر، ولكن الجاهزية هي نسبة وتناسب؛ فإذا كان الطرف المقابل والطرف المنافس أقل جاهزية في مسار من المسارات، عندها يمكن للطرف الأكثر جاهزية بالنسبة له أن يتقدم عليه. وهكذا تُقاس جاهزية أحد أطراف الصراع بالنسبة للأطراف الأخرى المشتركة فيه وليس بالنسبة إلى العالم كله.
إن افتقاد أمة أو تنظيم أو فرد ما للجاهزية اللازمة لاقتناص الفرصة، يفوت الفرصة عليهم، بينما يقتنصها غيرهم.
السيناريوهات
ويرتبط قانون الجاهزية بدراسة الاحتمالات أو رسم السيناريوهات. ففي عملية التدافع توجد أربع سيناريوهات شائعة ومحتملة:
1. (Status Quo): . .
2. سيناريو الانقلاب الجذري ( r adical): وهو عكس السيناريو الأول. مفاده أن الوضع سينقلب انقلاباً جذرياً بسبب من الأسباب أوبسبب دراسة من الدراسات. وبالتالي كيف يستعد هذا الطرف في حالة انقلاب السيناريو جذرياً إلى وضع وحالة جديدة تماماً؟(39/468)
وهذان الاحتمالان أو السيناريوهان متقابلان تماماً، ويمثلان أقصى اليمين وأقصى اليسار - إن صح التعبير - عند وضع السيناريوهات. إلا أنه يقع بينها سيناريوهات وسيطة:
o أن يغلب الاستمرار على التغيير؛ بمعنى أن يحدث تغيير ولكنه طفيف في الوضع القائم. وبالتالي يمكن التعامل مع هذا التغيير الطفيف بإجراء نوع من التحويلات في خطة العمل.
نحو الأسوأ
التغيير يغلب
على الاستمرار
نحو المطلوب
أنواع السيناريوهات
الاستمرار يغلب
على التغيير
الوضع القائم
تغيير جذري (عميق)
تغيير جذري (عميق)
o أو يغلب على الظن أن التغيير سيكون كبيراً ولكنه ليس جذرياً. فتستمر الحالة أو الوضع القائم ولكن التغييرات تكون كبيرة، وبالتالي يتم التعامل مع هذه التغييرات الكبيرة بوضع خطة لمواجهة مثل هذا السيناريو.
بناء السيناريو
يتم إعداد الأفراد والمنظمات والدول للسيناريوهات التي تُرسم في أوضاع معينة. ويتم بناء كل سيناريو بتحديد:
* الوصف العام له.
* الأطراف الفاعلة فيه.
* الشروط الابتدائية لعمله.
* لحظة تفعيل السيناريو (توقيت البداية).
* المدى الزمني للسيناريو المحتمل.
الوصف العام
الأطراف الفاعلة
الشروط الابتدائية
المدى الزمني
لحظة التفعيل
مستلزمات بناء السيناريو
وهذا البناء يحدد طريقة التدخل التي يعتمدها أحد الأطراف لاستثمار الوضع القائم أو التغيرات الحادثة.
ولا تستطيع أي جهة أن تخطط لكل السيناريوهات مرة واحدة، ولكنها تخطط للسيناريو الغالب، وسيناريو محتمل آخر بعده. وتستعد وتجهز نفسها لاستثمار الظرف التي سيحدث للتقدم أو لتفادي المخاطر الواردة فيه.
إذن يحتاج مشروع نهضتنا إلى عقل يقوم بدراسة المتغيرات وتوقع الظروف والأحوال، و يحدد ما يجب أن يخطط له، لاقتناص الفرص، وتجنب المخاطر.
قانون السرعة وحسن التوقيت
هذا يقودنا إلى موضوع في غاية الأهمية، ألا وهو أهمية السرعة وحسن التوقيت، أو كما يقول عماد الدين خليل الاستماع لـ "للحظة التاريخية". فهناك ظاهرة متكررة مفادها أن النجاح والتوفيق ليس مقصوراً بالضرورة على الطرف الأكثر جاهزية؛ بل هناك عنصر آخر يؤثر في قانون الفرصة، ألا وهو قانون السرعة التي هي جوهر النصر في الصراعات. فعندما تكون المسافات بين الأطراف وبين الوصول للسيناريو متقاربة أو شبه متقاربة، قد يكون طرف من هذه الأطراف سريع الحركة، فيقوم بحركة مباغتة ومفاجئة لاقتناص الفرصة. وعندها فإن هذه السرعة في الاستفادة من الوضع القائم تشكل أسبقية، رغم جاهزية بقية الأطراف التي تبدو متقدمة على جاهزية هذا الطرف. والأمثلة على ذلك كثيرة.
كذلك فإن الفرص قد لا تدوم كثيراً حتى يفكر القائد فيها. فبعض الفرص تكون أياماً وبعضها أسابيعاً، وعلى أحسن الظروف تكون شهوراً.
وهنا يأتي دور القيادة الذكية الجريئة القادرة على الفعل السريع. فمن مواصفات القائد وطريقة تفكيره أنه قادر على أن يعمل كرجل الأعمال، الذي لا يضيع الفرصة عندما يراها، ويسرع في استثمارها قبل الآخرين. إذ أن الفرص لا تنتظر، بل هي خادم من يقتنصها.
هذه العقلية القيادية في لحظة الفعل تصبح لها الأسبقية على العقل التحليلي التنظيري، فالقائد يحتاج إلى:
* عقلية المفكر التحليلية،
* وعقلية الطبيب الذي يعالج حالات خاصة،
* وعقلية رجل الأعمال الذي يسارع في اقتناص الفرصة، ولا يتردد في ذلك، ويتحمل المخاطر المحسوبة.88
أما المترددون فرغم جاهزيتهم - الكاملة افتراضاً - فيمكن أن يصبحوا فريسة لمنظمات صغيرة، أو لأفراد مغامرين يسبقونهم للحركة في لحظة الفعل الأساسية. والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ.
الخطوط الأمامية والخلفية
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى موضوع الخطوط الأمامية والخطوط الخلفية. فكثير من المنظمات لا تدرك الفارق بين خطوطها الأمامية التي تواجه الفعل مباشرة وتتحمل نتائجه وبين خطوطها الخلفية التي
تقوم بدعم هذا الفعل. فقد تجد تركيزاً على الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية، فتغرق المنظمة في الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية.
فربما تغرق منظمة من المنظمات في إعداد نفسها على المستوى الروحي أو الفكري والثقافي في مقابل إهمال الخطوط الأمامية التي تحتاج لإعداد وتجهيز في العمل السياسي والإعلامي والمادي وغيرها. فتسقط فريسة لهذا الغياب في قضية التركيز والتوازن بين خطوط الدعم الخلفية وخطوط الدعم الأمامية.
وتغرق منظمات كثيرة في العكس، فتركز على الخطوط الأمامية دون إعطاء الدعم والوزن الكافي للخطوط الاستراتيجية الخلفية المتعلقة بنواحي الفكر والثقافة وخطوط الدعم المادي وخطوط الدعم اللوجيستي بشكلها العام.
نستخلص مما سبق أن قضية الإعداد والجاهزية لاقتناص الفرصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتمييز بين هذين الخطين ومعرفة معنى كلمة خطوط داعمة، ومعنى الخطوط الأمامية والتوازن بينهما. فالخطوط الأمامية هي التي يتم من خلالها الصراع، وأي ضعف فيها يؤدي إلى انهيار مكاسب هذه المنظمات.
نظرية "اعقلها وتوكل"
سؤال: هل الفرص تصنع أم تأتي قدراً؟(39/469)
والذي يحدد الإجابة على هذا السؤال هو زاوية النظر. فإن عدد العوامل المؤثرة في ساحة الفعل الإنساني كثيرة جداً. وكل فرد من الأفراد يمتلك طرفاً من هذه العوامل. فمثلاً عندما تحدث الأحداث الجسام
الضخمة التي لا دخل للمنظمات الصغيرة في إشعال فتيلها كاندلاع الحرب العالمية الأولى أو الثانية بين الكتل الكبيرة المتصارعة، وتستفيد من هذا الظرف الكيانات الصغيرة المحيطة بها كحركات الاستقلال، فإن
تلك الحركات في هذه الحالة لم تشعل فتيل الصراع، لكنها استفادت منه بمدى قدرتها وجاهزيتها على الحصول على مكاسب محددة كاستقلال بعض الدول والمنظمات.
إذن الفرص في جانب منها تأتي بهذه الكيفية. بأن يحدث حدثٌ لم يصنعه الطرف المستفيد، ولكنه يجني الكثير من المكاسب، ويتقدم نتيجة وجود صراعات بين أطراف أخرى. وهناك أنواع من الصراعات يشترك الطرف الذي يطلب الفرصة في دفع الأحداث فيها، بتحريك بعض قطع الشطرنج التي يمتلكها على ساحة الفعل، فتتحرك الأطراف الأخرى، فتتاح فرص جديدة. وهنا تأتي عملية التدخل في صناعة الأحداث.
أطراف
تطلب
الفرص
فرص
لا دخل لطالبي الفرص فيها
فرص لطالبي الفرص
يدٌ فيها
هل الفرص تصنع أم تمنح؟
وفي الحقيقة فإن الأمران يحدثان. فهناك بعض العوامل التي يمكن التحكم فيها وتحريكها لإحداث تغييرات على الساحة تسمح لنا بالتقدم على رقعة الشطرنج، وهناك أحداث لا دخل لنا فيها تحدث بسبب تدافع أمم وشعوب ومجتمعات وأطراف أخرى، وتتاح فيها فرصة للكيانات الصغيرة للتحرك واقتناء الفرص.
وهكذا فإنه يكن المساهمة في صنع الفرص بالأخذ بالأسباب:
1. الذات: الجاهزية.
2. الخصم: دفعه للموقع الذي نريد.
3. الأرض والمناخ: بالمعالجات المناسبة.
ماذا يقول الرسو صلى الله عليه وسلم ؟
ونجد أمامنا في هذا السياق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي أراد الدخول إلى المسجد وهو يحدثه عن دابته التي تركها فضاعت، فقال له: "اعقلها وتوكل". لقد حدد المصطفى صلى الله عليه وسلم هنا قضيتين هامتين:
* القضية الأولى وهي الأخذ بالأسباب، سواءً كانت في الإعداد، أو في التدخل بتحريك أحجار الشطرنج. وهنا يجب أن يتم الفعل كاملاً، لأن المراد من قوله "اعقلها" ضبط الأمور، واستنفاد الجهد والطاقة وأقصى الوسع في الأخذ بالأسباب.
* بعدها لا يبقى أمام الإنسان إلا القضية الثانية وهي أن يكل أعماله إلى الله سبحانه وتعالى وفضله ونعمته "وما النصر إلا من عند الله"89.
ماذا يقول الاستراتيجيون ؟
إن أقوالهم لا تختلف كثيراً، حيث يقول سان تسو المنظر الصيني الاستراتيجي المعروف: بعد تمام الاستعدادات لا يتحقق النجاح إلا إذا وجد ضعف في استعدادات الخصم، بمعنى آخر أننا نمتلك خمسين في
المائة من أوراق اللعبة أو الصراع والتي تكمن في تمام الاستعدادات أوالإعداد الكامل، أما الخمسون في المائة الأخرى فتقع في دائرة ضعف الطرف الآخر، بأن يغفل عن جزئية من الجزئيات، أو عن جانب من الجوانب، فيتم اقتناص هذه الفرصة الناتجة عن غفلة الخصم.
ويقول المنظر الألماني المشهور كلاوزفيتز في كتابه فن الحرب: "بعد أخذ كل ما يمكن عمله في الحساب، فإن هناك فرصة خمسين في المائة من النجاح، والباقي يمكن أن تعزوه لإرادة الله إذا كنت مؤمناً، أو الحظ إذا لم تكن مؤمناً. ولكن المهم عندي أنك تملك خمسين في المائة من الأوراق، لكن هذه الخمسين في المائة يجب أن يقام بها على أكمل وجه؛ من الناحية الحركية والمهنية والترتيب والاهتمام والدقة".
وفي حالة الفشل يجب مراجعة هذه المنظومة مراجعة كاملة، وعدم إرجاع الفشل إلى الله سبحانه وتعالى. فالقرآن خاطب صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم عقب هزيمتهم في أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"90. أي راجعوا منظومتكم، وانظروا كيف حدثت الأخطاء ومن أين جاءت؟ بالتالي تحدث الاستفادة والنمو المستمر. أما في حالة تحقق النصر فتأتي القضية الثانية: "وما النصر إلا من عند الله"91 فيبدأ شكر الله على نعمائه وفضله ومنته وكرمه، والعزم على تحسين الأداء: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً"92 فتتكامل المنظومة الإسلامية بين عمليات المراجعة في حالة الفشل،(39/470)
والتطوير في الأخذ بالأسباب كاملة عملاً بنظرية اعقلها. ثم بعد ذلك بالتوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع الأسباب والشروط تحقيقاً لقول صلى الله عليه وسلم "وتوكل". أما عند إهمال الأخذ بالأسباب والتقصير الشامل الكامل على المستوى المهني والحِرَفي والحركي والتقني والإداري والتخطيطي، سواءً على مستوى القيادات أو المنظمات، ثم عزو النتائج إلى الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك لم يحدث حتى للأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. ف المصطفى صلى الله عليه وسلم ذاق حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، لكنه في حالة الهزيمة لم يقل أنها قدر لابد منه، وأن جيشنا كان الأقوى والأفضل والأكثر انضباطاً وما الهزيمة إلا قدر لا يمكن منعه، ولكنه قال لصحابته ما أخبره به ربه " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"93، أي راجعوا منظومتكم بالكامل، وصححوا أخطاءكم، ثم ثقوا بالله سبحانه وتعالى، وانطلقوا إلى محاولة أخرى. بذلك يصلح العقل المسلم، ويصبح قادراً على تطبيق نظرية "اعقلها وتوكل"، لكن إذا أسيء استخدام هذا المعنى، بحيث تصبح جزئية "توكل" هي الأساس، وتصبح جزئية "اعقلها" هامشية، فسندخل في عملية الجبرية والتواكل، وليس في عملية التوكل.
التنظيمات الكبيرة والصغيرة
إن قدرة المنظمات الصغيرة على الاستفادة من الأحداث تكون أكبر من المنظمات الكبيرة، إذ أن المنظمات الكبيرة لها موازناتها وحساباتها، وغالباً ما تخشى إذا فشلت أن يتم إفناؤها، أما الصغيرة، فإنها تكون مرنة، وتستفيد من الأزمات، التي تعتبرها فرصاً ذهبية لكي تتحرك.
البناء والتكوين السليم
الجاهزية وحسن الإعداد
قانون الفرصة
السوق الاستراتيجي
الاحتمال
1
2
3
بناء
السيناريوهات
انتظار
الزمن
السرعة
في اقتناص الفرص
حسن التوقيت
(اللحظة التاريخية)قانون الجاهزية النسبية قانون السرعة
جوهر الصراع في النصر
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. البحث في التجارب التاريخية التغييرية ودراسة كيفية تعاملها مع الفرص.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
* الجاهزية الدائمة واستمرار الاستعداد لقوله تعالى "وأعدوا".
* اختيار القيادة الشجاعة الذكية التي تبادر باقتناص الفرص.
* السرعة في اقتناص الفرص.
5. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية عندما تمر فرصة تلو فرصة، والقيادات تقدم خطوة وتتراجع خطوات مترددة في التعامل مع الفرصة. أو أن تنتظر فرصة تدوم شهوراً إذ أن العمر الافتراضي للفرص كثيراً ما يكون قصيراً.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
الجاهزية الدائمة
عدم تفويت الفرص
عدم التردد
بالتجارب التاريخية والتعامل مع الفرص
اختيار القيادة الشجاعة
السرعة في اقتناص الفرص
معادلات القانون
* 50% جاهزية +50% ضعف الخصم = فرصة
* فرصة + سرعة +جاهزية = نصر
القانون التاسع
التداول
منطوق القانون
" وتلك الأيام نداولها بين الناس"94
مفردات القانون
الأيام: واليوم هو الوقت الزمني المعروف، ويقصد به أيضاً الأحداث والوقائع كما قيل في معنى أيام العرب أي وقائعهم.
نداولها: جاء في المعجم الوجيز في معنى كلمة (دال) الدهر مثلاً أي انتقل من حال إلى حال. و(أدال) الشيء أي جعله متداولاً. و(داول) الأمر بينهم أي جعله متداولاً تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.
فالمقصود أن الأحداث والوقائع لا تستمر على حال ولا منوال واحد؛ بل هي تارة لهذا الطرف وتارة أخرى للطرف الآخر. فدوام الحال من المحال. فالمنتصر اليوم كان مهزوماً بالأمس، وهكذا تمضي الحياة. يوم لك ويوم عليك.
أهمية القانون
يزرع الاعتقاد بهذا القانون الأمل في قلوب طلاب النهضة. إلاَّ أنه ليس أمل بارد بلا حراك؛ بل أمل يصحبه استعداد للفرص القادمة وعزم على اقتناصها.
قانون الأمل العائد
يقول عماد الدين خليل: هذا القانون يمكن أن نسميه قانون الأمل العائد، فمع ضياع أي فرصة فلا زالت هناك فرص أخرى قادمة، ومن فاته قطار اليوم سيلحق بالقطار التالي، لذا يجب أن يكون جاهزاً لركوبه وإلا فاته واضطر لانتظار القطار الذي يليه، وهكذا..
فإذا كان الأمل مستمراً سواء كان الوضع يبدو يائساً في لحظة تاريخية معينة أم لا، فعلى قادة وطلاب النهضة الأخذ بقانون التداول القائل بأن ذلك الوضع لن يدوم، وأن علينا واجب الاستعداد والتحرك المستمر، بحيث لو أتى القطار في اللحظة التي يقدرها رب العالمين، نكون قادرين على اقتناص الفرصة والصعود وتحقيق المغانم والنصر. وهذا ما يسميه عماد الدين خليل "الاستماع لللحظة التاريخية".
إذن هناك عملٌ قبل وجود الفرصة، وهذا العمل القبلي من الاستعدادات يؤكد على اليقين بعملية التداول، واليقين بعملية التداول ينفي عملية اليأس التي تصيب الناس من رؤية قوة طاغية كالاتحاد السوفيتي في لحظة معينة، أو كالولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحاضر، أو كالرومان والفرس في عصر ما.
قانون التداول
الاستعداد القبلي
اغتنام الفرصة
العمل البعدي(39/471)
إذن يعلمنا هذا القانون أن كل وضع يبدو صعباً في لحظة ما فإنه سيصبح هشاً في لحظة أخرى لاحقة، وإلا تعطل قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" فهناك عمل قبل وجود الفرصة وهناك عمل لاغتنامها وهناك عمل بعد الفرص وهو ما سنتحدث عنه في القانون الأخير وهو دعائم النهضة.
القانون العاشر
الدعائم السبعة للنهضة
العمل البعدي
عندما يُمَكِّن الله للمجتمعات أو الأمم أو الحركات والتيارات، وتحقق أهدافها باستخدام القوانين والسنن التي سبق ذكرها، تجد نفسها أمام تساؤل هام، وهو ما هي احتياجات الدولة؟
فمن الخطأ أن يهمل قادة وطلاب النهضة التفكير في احتياجاتهم بعد التمكين بحجة الانشغال بما هو أهم وهو الوصول للتمكين أصلاً. وهذا التفكير وإن كان في ظاهره منطقياً إلا أن قانون الفرصة يخبرنا أن التمكين قد يحدث بين عشية أو ضحاها، وأن الفرص في أغلب الأحيان لا يمكن التنبؤ بأوقاتها. ويترتب على ذلك أن قادة النهضة قد يجدون أنفسهم في مقاعد التمكين - إن هم أخذوا بقانون الجاهزية - في وقت ما. فكيف سيديرون الدولة؟! وما هي تصوراتهم عنها؟! وغيرها من التساؤلات التي لابد من التفكير فيها ملياً قبل الوصول والتمكين. وهذا هو ما أطلقنا عليه في قانون التداول "العمل البعدي".
وبدايةً تحتاج الدول إلى مجموعة من العناصر أو الدعائم اللازمة لاستنهاض الأمة.
الدعائم السبعة:
أولاً: الروح المشبعة بالأمل
إن أول ما تحتاجه أي أمة هو روح جديدة تسري فيها. روح مشبعة بالأمل بإمكانية الفعل التاريخي، وتحقيق النتائج، والتفوق على الأطراف الأخرى. وقد تناولنا هذا الموضوع بالتفصيل في قانون المكنة النفسية.
ثانياً: الاعتزاز بالذات والتراث المجيد
الاعتزاز الشديد بالذات، واليقين بالقدرة على المشاركة الحضارية. وارجع إلى قانون المكنة النفسية لترى كيف تم زرع قضية الاعتزاز بالتراث الخاص لهذه المجتمعات وبمكوناتها وبقدراتها، واستثمار ذلك في سبيل البعث النفسي عند هذه المجتمعات.
إن الأمل والعزة أداتان كبيرتان تساعدان على بعث حالة نفسية وشعور جديد في هذه المجتمعات. هذا الشعور الضخم بالذات والأمل المفتوح للمستقبل، يجعل العمل الجاد والشاق هيناً على النفس، لأن الإنسان المدفوع بهذين العنصرين: الاعتزاز الشديد بالذات وعدم الرضى بالهوان، والأمل الكبير بتحقق الأهداف، يستعذب كل جهد وتعب في سبيل تحقيق ذاته وأهدافه. وبين هذين الحافزين - الأمل والاعتزاز - يصبح استثمار الوقت في الفعل الحضاري استثماراً هائلاً وضخماً. وارجع إلى النماذج المذكورة في قانون المكنة النفسية لترى كيف يتم تحريك الجموع، وتوظيف أوقاتها في الفعل الحضاري المتقدم في ساحة النهضة.
ثالثاً: العلم الغزير(علم الدنيا والدين)
يحتاج أي مجتمع من المجتمعات إلى منظومة علمية وقيمية. والتفكير في كيفية الحصول على العلم الغزير أمر ضروري لبناء أي مجتمع. والمجتمعات - كما يقول مالك بن نبي- نوعان: نوع يعيش في طور الطفولة نمثله بالفرد المسلم الذي يذهب إلى ديار الغرب فينبهر بعالم الأشياء. فإذا دخل معرضاً للمنتجات
وعُرض عليه منتج، فإن أعجبه اشتراه، وإذا تم إقناعه بآخر اشتراه، فيستخدمه ثم يرميه ليشترى آخر، كالطفل الذي يلعب بلعبة، فإذا تحول نظره إلى غيرها ألقى التي في يده وأخذ الأخرى. فهو ينتقل بين عالم الأشياء. بينما قد يأتي الطالب الياباني أو الطالب الذي يأتي من منظومة حضارية متقدمة، فإذا عُرض عليه منتج، فتح (دليل المستخدم) Manual لينظر إلى أسرارها، وكيف يمكن نقلها إلى مجتمعه، وهنا تأتي قضية مجتمع الرشد، الذي يبحث عن المعرفة، ولا يبحث عن عالم الأشياء.
الاهتمام بعالم الأشياء
الطفولة العلمية
الاهتمام بعالم المعرفة
الرشد العلمي
أنواع المجتمعات
مجتمعات في
طور الطفولة الحضارية
مجتمعات في
طور الرشد الحضاري
إن مجتمعاتنا لا تزال في طور الطفولة العلمية، فهي تبحث عن عالم الأشياء، ولا تبحث عن عالم المعرفة في الأشياء. وعندما تنتقل أمة من الأمم إلى عالم المعرفة، فإن ذلك لا يكون قدراً ومصادفة، إنما هو جهد جهيد. وعندما تبدأ أمتنا في تحويل عقلية الفرد وفي تحويل المنظومة الصناعية والمنظومة العلمية من منظومة تبحث عن عالم الأشياء، إلى منظومة تبحث عن عالم المعرفة، فهي بذلك تنتقل إلى مرحلة جديدة.
ثلاثية التكنولوجيا
وهذا يقودنا إلى الحديث عن قضية التكنولوجيا. فعلى تيار النهضة أن يدرك أن التكنولوجيا ليست هي عالم الأشياء التي نتجت. فالتكنولوجيا الحقيقية مكونة من:
1. البحوث التي يتم بناءً عليها التصنيع الذي يخرج عالم الأشياء التطبيقية،
2. ومن المصانع أو الأداة التصنيعية التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات،
3. ومن الاستخدام الأمثل لعالم الأشياء أو تلك المنتجات.
من هذه المنظومة الثلاثية (البحوث والمصانع وحسن الاستخدام) يمكن أن تعرف التكنولوجيا.(39/472)
أما المجتمعات التي لا تشارك في البحث العلمي بنصيب، ولا تمتلك هذه الأداة المعرفية، ولا تمتلك الأداة التصنيعية أو المصانع التي تقوم بتحويل الأفكار إلى منتجات ثم هي لا تحسن استخدامها فهي ليست مجتمعات تكنولوجية إنما هي أسواق كبيرة.
وفي غياب المفهوم الثلاثي الجوانب للتكنولوجيا يصبح المفهوم العلمي عندنا مختلفاً عن المفهوم العلمي السائد في المجتمعات التكنولوجية الحقيقية. فيصبح الهدف هو تحصيل الشهادات من غير تحصيل المعرفة الضرورية.
وهكذا لابد أن تتغير فكرة أي مشروع نهضوي عن العلم والتكنولوجيا. ويجب أن تفكر أي حركة نهضوية، وأي حركة استقلال، في الآلية التي يمكن بها الانتقال من عالم الطفولة العلمية إلى عالم المعرفة والرشاد والنضج العلمي.
رابعاً: القوة والاستعداد
تحتاج مجتمعاتنا الإسلامية والعربية اليوم إلى القوة والاستعداد في كل الاتجاهات. فمجتمعاتنا تحتاج إلى قوة عسكرية، وهي مسألة يجب التفكير فيها ملياً. فالسماء الإسلامية مستباحة رغم كثافة السكان وإمكانية الحصول على الأسلحة التقليدية. كما أن قوى الردع التي يجب أن تتاح لهذه المجتمعات غير موجودة في مقابل منظومات تمتلك قوة تدميرية شاملة.
إن العمل الشاق الذي يجب أن نفكر فيه هو كيفية امتلاك أدوات تحمي السماء الإسلامية، وقوة ردع تجعل عملية التفاوض مع الأطراف الأخرى ممكنة. وبالتالي ننتقل إلى عالم الإنسانية المتوازنة؛ لا نعتدي فيه على الآخرين؛ ولا يعتدي فيه الآخر علينا. أما حالة الاستضعاف التي نمر بها، فهي تؤدي إلى معاهدات غير متكافئة، وتؤدي إلى أن يفرض الآخر شروطه على حساب مصالح شعوبنا وأممنا ومنظوماتنا القيمية.
وبالتالي فعلوم الفضاء وما يتعلق بها والعلوم المتعلقة بقوى الردع هي من فروض الأعيان التي تأثم الأمة بتركها، ولا تتحول إلى الكفاية حتى تتحقق الكفاية.
خامساً: منظومة قيمية صالحة وفاضلة
إن وجود منظومة قيمية صالحة يعد من عناصر القوة، وحركة النهضة يجب أن تفكر في هذه القضايا الثلاث الكبرى قبل القضايا الأيديولوجية:
أولاً: درجة العدل التي يجب أن تتوفر في هذه المجتمعات للإنسان كإنسان.
ثانياً: حجم الكرامة المتوفرة للإنسان في المجتمعات التي نريد أن نبنيها. فكثير من النشطين والداعين لحركة النهضة الإسلامية يختزنون منظومات غير عادلة للإنسان وكرامته. تحدوهم في ذلك مفاهيم مغلوطة عن التفوق والتميز الذاتي بسبب من الأسباب. ومن العجيب أن يقول شخص ما "إننا نمتلك الدعوة الحق والآخرون على باطل، بالتالي يجب أن نهيمن عليهم"!! ولمثل صاحب هذه المقولة نقول ومن الذي يعتقد - وهو في منظومة أخرى - أنه على الباطل؟؟!!!
إن كل شخص يعتقد أن ما يتبناه هو الحق. ولو أراد كل طرف من الأطراف أن يؤسس المجتمع على منظومته التي يراها مع وجود تعددية وأطراف أخرى لا تقبل بمثل هذه المنظومة، لوجدنا عالماً من الاقتتال لا تهدأ له ثائرة. بينما يمكن للإنسان أن يعيش في منظومة يتمتع فيها بالكرامة الإنسانية. وذلك عمل فكري ومنهجي شاق، يجب أن تتبناه المجتمعات الإسلامية؛ ليس بدعوى حقوق الإنسان أو الضغوط الخارجية، ولكن بسبب هذه الحقيقة المنطقية، وهي أنه حتى في المجتمعات الإسلامية فإن هناك فوارق بين الطوائف والمذاهب الإسلامية.، فإذا قررنا أن من يختلف معنا في مذهب من المذاهب أو رأي من الآراء هو مواطن من
الدرجة الثانية أو الثالثة لا يحق له كذا وكذا وكذا، لنشأت صراعات لا تنتهي، ولقننت قوانين لا يقبل بها العقل الإنساني، أو المنهج الرباني الذي أنزل الميزان والكتاب ليقوم الناس بالقسط.
إننا نحتاج إلى مراجعة المنظومة القيمية، وتحديد معنى المفاهيم المطلقة؛ كالحرية، والعدل، والمساواة. وأن يتم التراضي حول هذه القيم، وإسنادها بالأدلة الشرعية والعقلية والمصلحية، حتى يمكن أن تصبح قانوناً عاماً عند العاملين في مشروع النهضة، وإلا تحطمت كل الجهود بعد أول خطوة من التنفيذ، ولأصبحت العلمانية هي غاية ما يرجوه أي مجتمع من المجتمعات بشكلها القائم، لأنها تشكل خلاصاً للإنسان من هذه المعاناة، بدلاً من استمرار الحروب، والاقتتال حول قضايا الأيديولوجيات التي لا تسمح للآخرين بالعيش في ظلالها. والأمثلة على ذلك كثيرة.
سادساً: المال والاقتصاد
لا يمكن أن تنهض المجتمعات إلا إذا كان لها نظام اقتصادي صلب، يسمح للإنسان بأن يحقق ذاته وكرامته، وأن لا يقع فريسة للفقر بأي حال من الأحوال. ويجب أن يكون هذا هدفاً اجتماعياً كبيراً. وعميلة الاقتصاد ليست بالبساطة التي يتصورها البعض اليوم، فعملية بناء البنية التحتية في مجتمع من المجتمعات، تحتاج إلى:
* مليارات الوحدات النقدية.
* عقول جبارة تخطط لهذا العمل.
* قدرات تنفيذية قد لا تتاح في المجتمعات الإسلامية في لحظة ما.
فالتخطيط الاقتصادي لإيجاد نظام اقتصادي جديد في هذه المجتمعات في ظل المعطيات الحالية هو عمل ضخم، وليس بالعمل الهين الذي يختزله البعض في مقولة "اتباع الكتاب والسنة"، على ما في هذه المقولة العامة من صواب.
سابعاً: أسس النظم:(39/473)
يحتاج كل مجتمع إلى نظم. ويحلو للبعض القول بأن كل شيء موجود في الكتاب والسنة، وما علينا إلا تطبيقهما لتصلح المجتمعات. وذلك قول صحيح، ولكنه عندما ينزل إلى أرض الواقع يحتاج إلى الكثير من العمل والتفكير، خاصة في وجود نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، فتتعدد الأفهام وتتباين الرؤى،
وعندها يصبح المرجح الحقيقي في ظل هذا التباين هو المصلحة المحققة من هذه النصوص، وليس مجرد النصوص في حد ذاتها.
فنحن نحتاج إلى منظومة سياسية واجتماعية وتربوية وخلقية. فوجود هذه النظم مجتمعة في مجتمع ما توجِد له القوة التي ترتكز عليها بقية الأمور. وكلما ازدادت صلابة المجتمع في نظمه ازدادت قوته في العلم وفي التصنيع والجيش، وتعززت منظومته القيمية، وتعززت الآمال عنده، وازداد اعتزازه بذاته وبفكرته، وحقق نهضته وتقدمه وتنميته.
اعتزاز شديد بالذات
روح مشبعة بالأمل
قوة
واستعداد
العلم الغزير
منظومة قيمية صالحة
مال
واقتصاد
أسس
النظم
الدعائم السبعة للنهضة
الخاتمة
لقد حاولنا في هذا الكتاب أن نسبح في بحر قوانين النهضة، وقد حرصنا من خلال هذه الدراسة وهذا الترحال بين القوانين أن نبين لقادة وطلاب النهضة كيف يتم البحث في القوانين، وكيف يتم التعامل معها بعد اكتشافها، من حيث المعرفة والاستخدام وعدم المصادمة.
ومشروع النهضة اليوم - وهو يرفع راية الانطلاقة العلمية والبعد عن الارتجال - حري بقادته أن يتعلموا هذه القوانين ويبحثوا عنها، ويستكشفوها، ويعلموها لطلاب النهضة، فسنن الله لا تتبدل، ولا تحابي أحداً.
إن القوانين التي تحكم عمليات التحول الاجتماعي كثيرة، ذكرنا نذراً يسيراً منها، لنفتح باباً لعله كان مغلقاً، ونوقد شعلة لعلها تضيء الطريق للطامحين نحو التغيير، وعشاق القمم من قادة وطلاب النهضة.
هذا ونسأل الله أن يتقبل منا هذا العمل، وأن ينفع به قارئه وكاتبه، وأن يكون خطوة نحو التمكين في هذا الطريق الممتد، والذي تبدو فيه الأشواك كثيرة، إلا أنه معبد لمن تسلح بالعلم وتوكل على الله، وهام بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
ثبت المراجع
أولاً: المراجع العربية:
1. السيرة النبوية لابن هشام (1/365).
2. برغوث عبد العزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، كتاب الأمة، العدد (43)، السنة الرابعة، رمضان 1415هـ.
3. د. جاسم سلطان، النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة.
4. جون بيريه، الذكاء والقيم المعنوية في الحرب، ترجمة: أكرم ديري، الهيثم الأيوبي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية.
5. مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا.
6. د.حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، سلسلة عالم المعرفة.
7. داني كوكس وجون هوفر، القيادة في الأزمات، نقله إلى العربية بتصرف: هاني خلجة، ريم سرطاوي، بيت الأفكار الدولية، 1998م.
8. د. سليمان الخطيب، فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1413هـ/ 1993م.
9. صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1411هـ/ 1991م.
10. صحيح سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1408هـ.
11. صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الطبعة الأولى 1408هـ.
12. صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1972م.
13. أ.د. عبد الحميد الغزالي، حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة قراءة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى 2000م.
14. اللواء الركن الطيار عبد الرحمن حسن الشهري، تطور العقائد والاستراتيجيات العسكرية الرياض، مكتبة العبيدكان، الطبعة الأولى،1424هـ/ 2003م.
15. عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دمشق، دار القلم.
16. د. عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1407هـ/ 1987م.
17. د. عبد المنعم ثابت، التخطيط الإعلامي والإعلاني لمعالجة قضايا المجتمع وكيفية مخاطبة الجمهور.
18. المقدم دكتور علي عواد، الدعاية والرأي العام. مضمون ونماذج من الحرب في لبنان والخليج، تجارب دولية، بيروت، الطبعة الأولى.
19. د. علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الإمارات الشارقة، مكتبة الصحابة، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م.
20. د. عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، بيروت، دار النفائس، الطبعة الثانية عشرة 1412هـ/ 1991م.
21. غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، بيروت، دار الساقي الطبعة الثانية 1997م.
22. د. فتحي عبد الرحمن جروان، تعليم التفكير مفاهيم وتطبيقات، العين/ الإمارات، دار الكتاب الجامعي، الطبعة الأولى 1999م.(39/474)
23. د. قاسم بن محمد، الذاكرة التاريخية للأمة، القاهرة، المكتب المصري الحديث، الطبعة الأولى 2000م.
24. مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، عمر مسقاوي، دار الفكر، 1979م.
25. مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى 1412هـ/ 1991م.
26. مالك بن نبي، ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1410هـ/ 1989م.
27. د. محمد أديب صالح، لمحات في أصول الحديث، دمشق، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1393هـ
28. الشيخ محمد الخضري بك، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
29. محمد العبده، حركة النفس الزكية، كيف نستفيد من أخطاء الماضي، ط2، دار الأقرم، الكويت، 1406هـ/ 1987م.
30. محمد بن مختار الشنقيطي، الحركة الإسلامية في السودان مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي، لندن، دار الحكمة.
31. د. محمد سهيل قطوش، التاريخ الإسلامي الوجيز، بيروت، دار النفائس، الطبعة الأولى 1423هـ/ 2002م.
32. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، المجلد الأول.
33. د. محمد عبد القادر حاتم، الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية، بيروت، مكتبة لبنان.
34. الدكتور محمد منير مرسي، أصول التربية، الناشر: عالم الكتب.
ثانياً: المراجع الإنجليزية:
1. And r ew Heywood, Foundations politics, Macmillan p r ess, fi r st edition 1997.
2. A p r oject to be r ealized: Global libe r alism and contempo r a r y Af r ica, In Millenium 1992.
3. Donald Wate r s, A p r actical int r oduction to management science, Addison-Wesley, second edition.
4. Geo r ge A. Steine r , St r ategic planning, the f r ee p r ess, A division of Macmillan publishing co., Inc, 1979.
5. Kenichi Ohmae, The Mind of the St r ategist: The A r t of Japanese Business, Pape r back, McG r aw-Hill Book Company, second edition 1996.
6. Stanley Ka r now, Moa and China: A legacy of Tu r moil, A Pengium book, thi r d edition.
===============(39/475)
(39/476)
نظرات في منازلة النوازل
للشيخ الدكتور / عبد العزيز بن مصطفى كامل
عضو هيئة تحرير مجلة البيان
قام بتجميعها وتنسيقها ا
د / محمد جلال القصاص
هذه دراسة جادة عن واقع الأمة الإسلامية المعاصر ، يتناول الأسباب الكامنة وراء كثرة النوازل التي حلت بالأمة الإسلامية واستمرارها ، وتتناول الدراسة الحلول الممكنة لهذه الأزمات المزمنة . وهي عبارة عن ثلاث مقالات نشرت في مجلة البيان .
استأذنت الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل ـ حفظه الله ـ في تجميعها وإعادة نشرها لما أرى فيها من الفائدة .وليس لي في هذا العمل إلى وضع الخطوط الحمراء على بعض الجمل . والله أسأل أن ينفع ويبارك بفضله وكرمه ومنته .
د / محمد جلال القصاص .
(1)
نظرات في منازلة النوازل
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
وأعني بمنازلة النوازل ، مقاومتها ومقارعتها وعدم الاستسلام لها ، أوالضعف أمامها .
فالأقدار تدافع بالأقدار ، فما كان شراً منها نمتثل فيه لخطاب الشرع ، فلا نحتج بالقدر في إهمال التكليفات الشرعية المتعلقة به .
و المسلمون عندما تقع بهم نازلة بمعنى مصيبة عامة ، أو كائنة كبرى فإن هذه النوازل ؛ إما أن
تجيء ابتلاءً وامتحاناً ، أو كفارة وتمحيصاً ، وإما أن تجيء عقوبة وجزاءً دنيوياً] وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [ ( الكهف : 49 ) .
والنوازل الواقعة ، تجب على المسلمين تجاهها تكاليف وأحكام ، منها ما يتعلق بالقدر ، ومنها ما يتعلق بالشرع . أما ما يتعلق بالقدر فواجبنا أن نعلم أن النوازل والنوائب هي من قدر الشر المر الذي بيَّن
الرسو صلى الله عليه وسلم أن الإيمان به مع الإيمان بأقدار الخير ركن من أركان الإيمان ، وذلك في قول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور : « وأن تؤمن بالقدر خيره وشره » 1 . فبمقتضى هذا الركن السادس من الإيمان ، نحمد الله على تقديره الخير ،ونصبر على أقدار الشر ، مع التزامنا بمدافعتها شرعاً بحسب الوسع والطاقة ، وفي حدود ما شرع الله ، ومن واجبنا كذلك أن نؤمن أن الأقدار خيرها وشرها من تدبير
الله فلا يتجاوز شيء منها ما خُط في اللوح المحفوظ ، والله تعالى لا يقدر شيئاً منها عبثاً ، ولا يجعل شيئاً منها شراً محضاً ، بل كل مقدر لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى .
والذي أريد تأكيده هنا ؛ هو ما ذهب إليه أهل السنة من أنه لا يجوز اتخاذ قدر الله وقضائه حجة بعد الرسل ، فالحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل ، وهذا يعني ألا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك ما أوجبه الله علينا تجاه النوازل التي تنزل بنا ، وهذا أمر ينبغي أن نؤكده ونردده ونكرره ... ولماذا نكرر هذا .. ؟
- لأن ظاهرة ( القدرية )2 في التعامل مع نوازلنا المتتابعة أصبحت نازلة أخرى ؛ حيث استفحلت في الآونة الأخيرة ظاهرة « الانتظار » ... انتظار الحلول القدرية الغيبية دون بذل القدر الداخل في الوسع تجاه ما ينزل بالمسلمين من محن ، وما يتجدد لهم من نوائب ، تأتي بسبب تكالب الأعداء من جهة ، وبسبب التفريط في
الأخذ بأسباب القوة والوحدة من جهة أخرى ، وبسبب ما يتضاعف كل يوم من مظاهر العصيان والرضا بالدنيا عن الآخرة من جهة ثالثة ، قال تعالى : ] وَمَاأَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [ ( الشورى : 30 ) . وقال : ] مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [ ( النساء :
79 ) . وقال : ] أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ ( آل عمران : 165 ) .
- سبب آخر يدعو إلى تكرار الحديث عن ظاهرة القدرية في التعامل مع النوازل ، وهو انتشار الشعور بـ ( براءة الذمة ) عند أول إخفاق في محاولات حل الإشكالات ، وكأننا لم نؤمر بأن نصبر ونصابر ونرابط وأن نتحمل الآلام والتضحيات كما يفعل أعداؤنا للأسف بكل جَلَد وجلاد ، وصبر وعناد ، قال سبحانه : ] وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُون [ ( النساء : 104 ) .
- سبب ثالث يدعو إلى ذلك التكرار عن ظاهرة القدرية وأطروحة الانتظار ، وهو أننا أصبحنا ندمن تطبيع العلاقات مع المصائب ؛ بمعنى التعود عليها بعد زمن يسير ، فلا تعود توجع لنا قلباً ، أو تُدمع لنا عيناً ، أو تدفع الواحد منا وهذا هو الأخطر إلى بذل شيء أي شيء للأعذار إلى الله في محاولة المساهمة في دفعها
ورفعها ، ولكنه الانتظار السلبي القاتل لمجهول يأتي .. أو لحل خارق يجيء ! ..
انظر كمثال فقط لحال الأمة مع الانتفاضة الفلسطينية في بدايتها ، وحالهم معها بعد مضي ثلاثة أعوام على انطلاقتها ... هل ظل التعاطف معها كما كان ؟! هل بقي الدعم كما بدأ .. ؟! هل زادت النصرة للمستنصرين على المستويات الرسمية والشعبية والجماعية والفردية ؟! إن كل ذلك في تناقص واضح خطر ، يحكي(39/477)
التناقض الصارخ المرير في أحوال أمة تزيدها النار برودة ، ويزيدها الدمار هدوءاً ، وتزيدها الدماء هروباً للأمام ، فهل الانتفاضة أو بالأحرى - الجهاد الفلسطيني - أحوج اليوم إلى الدعم والمعونة أكثر أم هو منذ ثلاثة أعوام ؛ عندما كانت أعواد المنابر تهتز بالتأييد ، وأصوات القنوت في المساجد ترفع بالدعاء ، وصناديق التبرع تزيد وتفيض بالأموال ؟!
وأما عن التفاعل الإعلامي مع الأحداث فحدّث ولا حرج !! قارن فقط بين ما صاحب مقتل الطفل ( محمد الدرة ) في أوائل أيام الانتفاضة من مشاعر ألم وثورة ورغبة في الثأر ، وبين ما يحدث الآن من مظاهر التبلد وقلة الاكتراث الذي أصبح يصاحب مشاهد القتل للعشرات من الأطفال ، مع مشاهد التفجير والهدم والتدمير .
أو قارن - إن وجدت وجهاً للمقارنة - بين حادثة اقتحام المجرم شارون للمسجد الأقصى في شهر رجب من عام 1421هـ ، والتي أثارت غضباً إسلامياً عالمياً وعربياً وفلسطينياً ، كانت الانتفاضة نفسها جزءاً منه ، وبين الزيارة الإجرامية الثانية لوزير الداخلية الإسرائيلي ( تساحي هانجبي ) قبيل بدء شهر
الصيام بأيام لساحة المسجد الأقصى ، تلك الزيارة التي صاحبتها مظاهر الاستفزاز والتحدي نفسها ، ومع ذلك مرت مروراً عابراً دون أي مظهر من مظاهر الغضب أو الاحتجاج رسمياً أو شعبياً !!
إن كل معايش للأمر يعلم أن إخواننا تزداد نازلتهم مع الأيام حدة وشدة ، ولكن الحاصل أن ما يُقدم لهم يتناقص مع الأيام ، مادياً ومعنوياً !! أليس هذا مثالاً واضحاً على تخبطنا في التعامل مع النوازل ؟!
قس على ذلك طريقتنا في التعامل مع بقية القضايا والرزايا التي تداهمنا كل يوم ، وآخرها ما حدث في بغداد ، حيث كانت الشوارع في العواصم العربية تموج بالمظاهرات الحاشدة تنديداً بالحرب وتأييداً للعراق ، فلما نزلت النازلة وقامت الحرب ، ووقع الاحتلال ؛ تغيرت الأحوال ، وارتخت الحبال ، وانصرفت
الجماهير الثائرة إلى حال سبيلها .
إن أكثر ما يؤرق في ظاهرة التبلد والانتظار ؛ أنها تعطي الأعداء إشارات فاقعة الأخضرار للاستمرار في إنجاز خطواتهم ومشروعاتهم دون إزعاج أو قلق ، وخطورة هذه الظاهرة تنبع من كونها بدأت تترسخ لتكرس الهزائم وتهوِّن الهوان !
نقول هذا ، ونحن نحتفظ في الوقت نفسه للمجاهدين المستضعفين الذائدين عن حرمات الأمة ؛ بحقهم الكامل في التقدير من كل مسلم ، ولكن حديثنا هنا عن مجموع الأمة التي تملك من الإمكانات ما يمكنها بإذن الله من الانتصار من أعدائها ، والانتصاف لمستضعفيها ، ولكنها لا تجد من يقود دفتها الجماعية لمواجهة الهجمة
الإرهابية العالمية التي تقودها قوى الاستكبار الصهيونية ، نصرانية ويهودية .
ما أشبه الليالي بالبارحات :
إن النوازل تترادف تترى فوق رؤوس المسلمين منذ أكثر من عشرة عقود ، فلا يجد أكثرها جهة جامعة تُنتدب لها ، أو قوة ماضية تنتصب لمواجهتها ، ففي الأعوام المائة الأخيرة فقط من حياة المسلمين ؛ تتابعت نوازل ، ووقعت كوائن ، ما كان لها أن تخلّف ما خلفت من مصائب مقيمة لو أن الأمة اصطفت وقتها خلف قيادات علمية وعملية تنزّل من الشريعة على هذه النوازل ما يعاجلها بالعلاج ، وما يناسبها من الأخذ بالأسباب .لقد اجتمع على الأمة من النوازل خلال المائة الماضية ما لم يجتمع عليها منذ أن أُخرجت للناس ، ومع ذلك فقد عبرت قوافل تلك النوازل غالباً في طرق خالية خاوية دون عرقلة قوية مضادة ، أو مواجهة شرعية جادة ، بسبب تفرق خواص الأمة قبل عوامها ، ولهذا سلّمت كل أزمة زمامها للتي بعدها ، فتضاعفت خلال الأجيال حتى جاء جيلنا جيل الأزمات والملمات ؛ فوقف عاجزاً أو متعاجزاً بتفرُّقه وتشرذمه أمام جبل المسؤوليات ، منتظراً حدوث الخوارق ووقوع المعجزات ، دون كثير اكتراث بما توجبه الشريعة من فروض وواجبات ، وعلى رأسها تجميع الكلمة خلف المنهج القويم ، ومواجهة الأعداء بصف مرصوص .
حقيقة أخرى ينبغي أن نصارح بها أنفسنا ، وهي أن من تأمل في معظم أحوال النوازل الحاضرة ؛ سيجد أن لها جذوراً قديمة من التقصير العام ، حيث كانت تجري في كل جيل عملية ( ترحيل ) للمسؤوليات إلى ما يسمى بـ ( الجيل
القادم ) .. وعندما يقدُم هذا الجيل ؛ فإنه يحيل أيضاً جزءاً كبيراً من واجبات عصره وفرائض وقته إلى الجيل الذي يليه ، حتى تراكمت الواجبات والتكليفات ، وأصبحنا نعيش عصر نوازل عامة ، لا يشابهه عصر من العصور الإسلامية السابقة .
صحيح أن محناً كثيرة مرت على المسلمين خلال التاريخ الإسلامي ، مثل سقوط الأندلس ووقوع بيت المقدس في يد الصليبيين ، واجتياح التتار لبلدان المشرق الإسلامي ، واستيلائهم على عاصمة الخلافة في بغداد ، ولكن تلك الكوارث(39/478)
لم تصرف الأمة عن شريعتها ، ولم تؤثر في هويتها ، أو تتركها عاجزة عن التصدي والوقوف أمام أعدائها . كان هناك دائماً انتصار بعد انكسار ، وعزيمة للخروج من الهزيمة ، وكان هناك إباء للضيم ، واستعلاء على الاحتواء ضد من كان المسلمون يرونهم أدنى مدنية وديانة ، وأردأ خلقاً وثقافة ، وأضعف جنداً وحضارة . أما في عصرنا الذي نعيشه فقد جدَّ من النازلات في حياة المسلمين ما حيَّر الألباب ، لا من مجرد وقوعه بل من استمرار بقائه ، فكم من نازلة نزلت فأقامت ، وكم من كائنة عرضت ثم استقرت ، ومصيبة قال الناس ستزول ، ولكنها طالت ودامت ، وأخرى لفظوها ورفضوها ، ثم استمرؤوها وعايشوها .
هناك حشد من الوقائع الكبيرة الحادثة في هذه المائة الأخيرة ، لم يكن للمسلمين عهد بها من قبل ، ولكن « تطبيع العلاقات » مع النوازل والمصائب ؛ جعل الناس يتعايشون معها وكأنها شيء اعتيادي ، يمكن أن نظل في ظله خير أمة وأعز أمة
وأقوى أمة ، إنها وقائع جسيمة حقاً ولكن هناك من يريد تحقيرها وتصغيرها والإبقاء على استمرارها .
- فلأول مرة يفرغ منصب الولاية العامة للمسلمين ( الخلافة ) نحو قرن من الزمان ؛ دون أن يخلف الخليفة أحد غيره كما كان العهد طوال التاريخ الإسلامي .
- ولأول مرة يسقط كيان المسلمين الدولي ، وسلطانهم العالمي ممثلاً بنظام الخلافة الإسلامية الذي سقط بسقوط الدولة العثمانية ؛ دون أن يعود هذا النظام ليقود المسلمين مرة أخرى في زمن التكتلات النصرانية والإلحادية واليهودية والهندوسية .
- ولأول مرة تستبدل الشريعة الإلهية التي حكمت المسلمين ثلاثة عشر قرناً ، لتحل محلها في الحكم بين المسلمين في معظم البلدان قوانين وضعية وضيعة ، وشرائع بشرية جاهلية ، يُحكم بها حكماً عاماً في الدماء والأموال والأعراض
والأبضاع والسياسات الداخلية والخارجية .
- ولأول مرة في تاريخ الإسلام تكون للذين كفروا اليد العليا في إدارة العالم من خلال تحكمهم في المؤسسات الدولية ، والتكتلات العالمية ؛ بينما يتخبط المسلمون مع منظماتهم الهزيلة إقليمياً وعالمياً .
- ولأول مرة تقع معظم بلاد المسلمين تحت الحكم المباشر لجيوش المعتدين الكافرين كما حدث في النصف الأول من القرن المنصرم ؛ لتسلم بعد ذلك لفئام المنافقين ، يغرقونها في الإثم والعار ، ويحكمونها بالحديد والنار .
- ولأول مرة يقوم فوق حطام الكيان الإسلامي الضخم ، كيان مسخ قزم ، يجمع أشتات أسوأ المخلوقات البشرية من اليهود ؛ ليكون لأولئك الأرجاس دولتهم القوية التي يعدونها نواة لعولمة يهودية تريد إخراج الناس من النور إلى الظلمات ،
بعد أن أخرجهم الإسلام من الظلمات إلى النور .
- ولأول مرة تسقط الأرض المقدسة في فلسطين في يد ذلك الكيان المرذول ، وتجتمع لنصرتهم فيها وتمكينهم منها طوائف الكفار جميعاً ، وبخاصة أنصار إبليس من نصارى العصر المتهودين ( البروتستانت ) الذين تناسوا ثاراتهم وعداواتهم مع
من كانوا يعدونهم قتلة المسيح وأعداء الإله ؛ ليتوحدوا بهذه العداوات ضد الموحدين .
- ولأول مرة تكون لأصحاب الصليب صولة ودولة متفردة ، يتهددون بها كل المسلمين في عقر ديارهم ، وينازعونهم في أرزاقهم ، ويفرضون عليهم حقارة حضارتهم وسخافة ثقافتهم ، دون أن يمكنوهم من الأخذ بأسباب القوة العصرية
المودعة في الأسرار التقنية التي يجري على المسلمين فرض حصار حولها ، حتى تظل بلدانهم أبد الدهر سوقاً استهلاكية ، تساق للهلاك كلما حاولت واحدة منها الخروج من ذلك الحصار الحضاري الضاري .
لقد أثمرت تلك الأوضاع متضافرة أزمة عامة ، حشوها أزمات ، ونازلة كبرى مركبة من العديد من النوازل والنكبات ، وصار تساؤل الكثيرين لا عن إمكانية الخروج عنها ، أو التخفيف منها ، بل عن كيفية التعايش معها والتسامح فيها !!
? عندما يغزوننا ولا نغزوهم ..
تحكي حركة التاريخ دائماً أن التحولات في المجتمع البشري تأتي نتيجة عمليات غزو وغزو مضاد ، وكل غزو يحمل فكرة أو عقيدة أو مذهباً يريد العلو على غيره وفرض إرادته عليه . ولما كانت الأفكار والإرادات والعقائد والثقافات
تتقلب بين كفر وإيمان ، وبين فساد وصلاح ، كانت الغلبة لفريق غازٍ ، هي غلبة لفكرته وإرادته وعقيدته وثقافته ، فعندما يغزو المؤمنون أو يصدون الغزو ، تنتصر وتعلو عقيدتهم وثقافتهم وإرادتهم ، والعكس يحدث عندما يغزوهم الكفار ، أو
يمنعونهم من الغزو لنشر الإيمان والاستقامة والتوحيد .
وهذه هي سنة التدافع التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : ] وَلَوْلادَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [ ( البقرة : 251 ) ، وقوله :] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ(39/479)
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [ ( الحج : 40-41 ) ، إن الآية الأولى - آية البقرة -
جاءت تعقيباً على قصة انتصار التوحيد بقيادة طالوت و داود ، على الشرك والوثنية بقيادة جالوت ؛ لتبين أنه لولا مثل هذا الدفع لفسدت الأرض بشرك أمثال جالوت ، عندما تعلو كلمتهم على منهج الإيمان والتوحيد الذي جاء به أنبياء كداود - عليه
السلام - . والآية الثانية - آية الحج - وهي أول آية نزلت في القتال ؛ جاءت بالإذن للمسلمين في قتال أهل الشرك من قريش ؛ لما بالغوا في إيذاء المسلمين لفتنتهم عن دينهم وإعادتهم إلى الشرك ، وبينت الآية أنه لولا هذا الأذن بمثل ذلك
الدفع في كل زمان لفسدت الأديان كلها ، وظهر الشرك وأهله على الإيمان وأهله ، ولهدمت الصوامع في ديانة موسى ، والبِيَع والصلوات في ديانة عيسى ، والمساجد في ديانة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى الرسل أجمعين3 .
فتاريخ البشرية يحكي هذا التدافع الذي ينتج عنه فرض صاحب القوة لفكرته مهما كانت كاسدة ، وفاسدة مفسدة ، على المغلوب مهما كانت عقيدة راجحة ، صالحة ومصلحة .
ولم يحدث للمسلمين أن غُزُو غزواً عاماً بهذا المفهوم إلا في أعقاب إسقاط الخلافة العثمانية ، وما تلاها من محاولات إحلال العلمانية الكفرية محل المناهج الإيمانية في الشريعة والعقيدة ، لقد بدأ هذا الإسقاط بغزوات وحروب ، قادتها في
البداية روسيا النصرانية القيصرية الأرثوذكسية ، ثم تتابع الكاثوليك والبروتستانت على محاربة هذا الكيان الإسلامي لغزوه ، حتى كانت النهاية على يد البروتستانت الإنجليز في الحرب العالمية الأولى التي احتل الإنجليز فيها إستانبول في نهاية
مطاف طويل من التحالف بينهم وبين فريق متكامل بين المنافقين في داخل الدولة العثمانية ، وبالتعاون مع حركة الصهيونية العالمية حديثة النشأة في ذلك الوقت ، ومن يومها والأمة تتقلب بعد هذا الغزو من حال سيئة إلى حالة أسوأ .
?مسلسل النوازل ، من إستانبول إلى بغداد :
هناك أمر لافت في ترتيب العلاقة بين ما مضى بالأمس وبين ما يحدث اليوم من الأحداث ، فإذا استعرضنا من ذاكرة التاريخ القريب أحداث إسقاط الخلافة العثمانية فقط ، ثم ما تفرع عن ذلك من انفراط عقد المسلمين ؛ لوجدنا أن جُل
النوازل بعدها قد تولد عنها ، بدءًا من سيطرة الكفار العسكرية المباشرة على معظم بلدان المسلمين ثم توريثها للعلمانيين المنافقين ، ومروراً بكارثة ضياع فلسطين ، ووصولاً إلى ما يحدث الآن في العراق و أفغانستان و الشيشان و الفلبين وكل
البلدان التي يستضعف فيها المسلمون ، فالبدء كان بدولة الخلافة العثمانية الجامعة لشمل المسلمين ، والتي مثلت - بالرغم مما قيل فيها من مثالب - فخراً للمسلمين ، فسقوط هذه الدولة لم يكن تحصيل حاصل كما يزعم بعض المؤرخين ، ولا كان أملاً
جماهيرياً عند المسلمين كما يهرف جهلة المثقفين .
لقد كانت هذه الدولة عالمية بكل المقاييس ، حيث امتدت في الزمان والمكان ، فمن حيث الزمان استمر بقاؤها لأكثر من ستة قرون ، ومن حيث المكان امتدت أراضيها من آسيا إلى أوروبا إلى إفريقيا في بقاع شاسعة ، كانت تقوم على حمايتها أكثر جيوش العالم عدداً وعُدة ، حتى إنها عبرت البحر من الأناضول إلى جنوب شرق أوروبا وأواسطها ، وتمكنت تلك الجيوش التي افتتحت أمجادها بفتح القسطنطينية عاصمة الشرك الأوروبي في سنة 857هـ على يد محمد الفاتح ، تمكنت من فتح اليونان و بلغاريا و رومانيا و يوغسلافيا و ألبانيا ، و رودس ، و قبرص ، و المجر ، و كريت ، وسارت جيوشها حتى بلغت فيينا عاصمة النمسا ، ووصلت إلى جنوب إيطاليا ، فكانت أول دولة إسلامية تُدخل النور على ربوع أوروبا المظلمة التي خيمت عليها سحابات الشرك الداكنة طوال تاريخها المعتم بالجاهليات الوثنية .
ولكن هذا الصرح الإسلامي الكبير ، تكالبت عليه الأعداء كما قلنا ، وفي مقدمتهم نصارى أوروبا الذين كسر الجهاد العثماني أنوفهم ، فتحالفوا مع اليهود والمنافقين على تقويض أركان ذلك البنيان الشامخ ، وبدأ الهدم من الداخل أولاً عن
طريق الفريق المتكامل من المنافقين الزنادقة المتسمين بأسماء المسلمين ، وصاحَبَ ذلك عمليات الغزو الفكري التي كانت تمهد دائماً لكل أنواع الغزو الذي يليها ، ومع تكثيف إرساليات التنصير ، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية ؛ تهيأت الدولة
للسقوط بعد استعصاء طويل استمر كما قال المؤرخ الفرنسي ( دين جروسيه ) 220 عاماً تضافرت فيها جهود أعداء العثمانيين وكل المسلمين للقضاء على هذه الدولة المجاهدة .
ولا حاجة الآن لحكاية مراحل ذلك المسلسل الطويل ، ولكن ما يعنينا هو الفصل الأخير المعاصر لعملية الإسقاط ، والتي تفرعت عنه فصول أخرى متشابهة في تفاصيلها وإن كانت مختلفة في مسمياتها .(39/480)
لم يستطع المسلمون بعد ثمانين عاماً من وقوع هذه النازلة أن يعالجوا آثارها ، ولم يستطيعوا أن يعيدوا بناء كيانها الجامع ( دولة الخلافة ) ، أو يردوا الاعتبار لذلك المنصب الشاغر ( الخليفة ) ذلك المنصب الذي شغرت بشغوره الثغور ، وتجرأت على الأمة بعده الكلاب والذئاب والغربان والنسور ! .
يكاد المرء ألا يصدق ما حدث عندما يسترجع بالذاكرة تسلسل الأحداث ، فالحدث على جلالته وفجاعته جاءت خاتمته على يد رجل وضيع ، لئيم في خبثه ، وصلد في عناده وصلفه ، رجل تحدى أمة بأكملها ، ولم تخرج له الأمة أحداً من رجالها ... إلا قليلاً من المغلوبين على أمرهم ، كيف استطاع هذا الطاغوت اليهودي الأصل ( مصطفى كمال أتاتورك ) أن يحمل المعول وحده في المرحلة الأخيرة ويهدم ذلك الصرح كله ؟!
لاحظ معي تسلسل خطوات التآمر السافر ، ولاحظ معه كيف مرت هذه النوازل الجسام على الأمة مرور الكرام ، أو على الأقل .. مرت الغزوة بسلام بعد أن دمرت مستقبل أمة الإسلام لعقود طويلة في بلدان كثيرة .
سأعرض في لقطات سريعة خلاصة الجريمة الكبرى والنازلة العظمى التي لم تتم منازلتها بما يليق بخطورتها ؛ بحيث تعودت الأمة بعد ذلك على أن يتم تكرار ( السيناريو الأتاتوركي ) على يد العديد من صغار الفجار الذين عدّوه مثلهم الأعلى ، ونموذجهم المحتذى .
? الزلزال وتوابعه :
ــــ عندما عزم أتاتورك على إلغاء الخلافة بعد أن أعطاه الإنجليز « الاستقلال » بهذا الشرط ؛ عرض على مجلس النواب بالجمهورية التركية الجديدة اقتراحاً بفصل الدين عن الدولة ، فأحال مجلس النواب الاقتراح على لجنة قانونية لدراسته ،
وبعد الدراسة رفضت اللجنة القانونية الاقتراح ؛ لأنه يخالف الدستور الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة ، فغضب أتاتورك وطلب التصويت على القرار فيما يسمى بـ ( الجمعية الوطنية ) .
- كان معنى فصل الدين عن الدولة كما أراد أتاتورك في البداية ؛ أن يبقى الخليفة مجرداً من السلطات ، وأن ينظر إليه فقط على أنه صاحب وظيفة دينية روحية فحسب ، مع ترك تصريف شؤون الدولة للوزراء في ظل نظام علماني لا ديني ولا أخلاقي ، وكان أول من طُبقت عليه هذه الأفكار الخليفة عبد المجيد ، ولكن الأتراك تعاطفوا معه ضد أتاتورك وزمرته ، إلا أن هؤلاء المارقين فرضوا أفكار الردة بقوة الإرهاب ، وأمر أتاتورك بالفعل بقتل عدد من معارضي إلغاء الخلافة .
- عندما وُوجه أتاتورك باعتراضات المعارضين لمسعاه المشؤوم ؛ هاجمهم بلهجة عنصرية تفوح منها رائحة القومية الجاهلية المنتنة المختلطة بروح الصهيونية اليهودية العفنة ، حيث قال لهم : « أليس من أجل الخلافة والإسلام قاتل
القرويون الأتراك وماتوا طيلة خمسة قرون ؟ لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها لوحدها ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ؛ لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين » !
- لم يكتف أتاتورك بنزع الشرعية عن الخليفة ومنصب الخلافة ، حتى راح يتهم الخليفة الأخير بأنه عميل وصنيعة المستعمرين الإنجليز ، وفي صبيحة 2/3/ 1924م أعلن إلغاء منصب الخلافة كلية ، وطلب من الخليفة عبد المجيد وأسرته
مغادرة البلاد في غضون عشرة أيام ، وأصدر أمراً بحرمانهم من الإقامة بتركيا ، ثم أتبع ذلك بإلغاء كل المناصب الدينية .
- تحول اللدود بعد ذلك إلى إلغاء كل معالم التمسك بالدين عند الشعب التركي المتدين بطبعه ، فحوَّل أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة لتنفقها في غير ما أوقفت له ، وحوَّل المعاهد الدينية إلى مدارس تدرّس المناهج العلمانية ، وألغى المحاكم
الشرعية بعد أن أوقف العمل بأحكام الشريعة ، ثم طوَّر مسيرته الإجرامية بمزيد من الخطوات القسرية التي تهدف إلى طمس الهوية لشعب عريق في تدينه ومحبته للدين ، فألغى حجاب المرأة ، وأمر بحظر تعدد الزوجات ، ومنع الرجال من لبس
غطاء الرأس الشرقي ( العمامة والطربوش ) واعتمد لهم ( القبعة ) الأوروبية ، وحتى الكلام ... حظر التحدث فيه بالعربية ، بعد أن أرغم الناس على كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية ، واستمرأ ذلك الطاغوت سكوت الناس ، فأمرهم بتغيير أسمائهم وكناهم إذا كانت عربية ، لتحل محلها أسماء وكُنى طورانية !! .. وويل للمغلوب إذا غزاه الغالب4 .
- وكان لا بد من خطوات تضمن الإبقاء على إلغاء كل ما يتعلق بالإسلام بقوة القوانين الجائرة ، فعدل الدستور ليرفع منه العبارة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة ، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع ، وكان ذلك في عام 1928م ،
بعد أربعة أعوام من إلغاء منصب الخلافة ، ثم خطا خطوة أكبر فألغى تدريس العلوم الدينية سنة 1929م ، ثم أصدر تعليماته بألا تمارس الشعائر في المساجد إلا باللغة التركية بما فيها الأذان ، وحتى القرآن أمر بكتابته باللغة التركية وحروفها اللاتينية ، ولم يأت عام 1932م إلا والأذان يرفع باللغة التركية ، وألغى أتاتورك كذلك الأقسام الشرعية بالجامعات التركية .(39/481)
- لم يكتف ذلك الذئب الأغبر بإيقاف العمل بأحكام الشريعة ، حتى أعطى لنفسه الحق في تبديلها وتغييرها ، فأصدر مرسوماً بمساواة الرجل والمرأة في الميراث ، وأجرى تغييرات كثيرة في القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية ؛ لتتلائم
مع القوانين الأوروبية التي أحلها محل الأحكام الإسلامية ، واستورد للمسلمين القوانين الكفرية ، السويسرية والإيطالية وغيرها ، ليثبت سلطان الاحتلال قبل أن يرفع عقيرته بتحقيق الاستقلال .
- كانت تركيا أثناء ذلك كله خاضعة للاحتلال البريطاني ، ولم يشأ الإنجليز الأعداء أن يغادروا تركيا التي احتلوها في الحرب العالمية الأولى ، إلا بعد أن يتم الكماليون الجريمة تحت إشرافهم ، وبعد أن اطمأن الإنجليز إلى أن تركيا أصبحت
في يد ( أمينة ) سلَّم قائد قوات التحالف ( اللورد هارنجتون ) حكومة أتاتورك مقاليد الأمور ، وأذن لتركيا بالاستقلال بزعم انتهاء دور الاحتلال ، وبالرغم من بقاء الاحتلال بصور أخرى كتلك التي ثبتها أتاتورك ، إلا أن بعض نواب الإنجليز
احتجوا في مجلس العموم البريطاني على ( منح ) وزارة الخارجية البريطانية تركيا الاستقلال ( مبكراً ) ، وقد دافع وزير الخارجية البريطانية آنذاك ( اللورد كرزون ) عن هذه « التهمة » بأن قال للنائب المعترض : « لا تخف من تركيا فقد قضينا عليها ، ولن تقوم للأتراك قائمة كما كانت من قبل ، فقد قضينا على عنصري القوة فيها : الخلافة ، وأحكام الإسلام » ! .
وفي عام 1336هـ / 1917م أي وقت اشتعال ما سُمي بـ ( الثورة العربيةالكبرى ) بقيادة المغامر المقامر ( حسين بن علي ) الذي وقف بثورته في صف النصارى ضد المسلمين الأتراك كانت وزارة الخارجية البريطانية قد أعدت وثيقة بالتزامن مع وثيقة ( وعد بلفور ) تبين الموقف البريطاني الرسمي وهدفه من استمرار القتال في الحرب العالمية الأولى ، جاء فيها : « لا شك في أن تحطيم الإمبراطورية العثمانية الفعلي هو أحد الأهداف التي نعمل على تحقيقها ، وقد يبقى الأتراك شعباً على شيء من الاستقلال ضمن منطقة آسيا الصغرى ، وإذا تم لنا النصر فمما لا شك فيه أن الأتراك سيحرمون من جميع المنطقة التي نطلق عليها اسم الجزيرة العربية ، كما أنهم سيحرمون من معظم الأجزاء الهامة في وادي الفرات و دجلة ، وستفقد إستنابول و سوريا و أرمينيا ، كما أن أجزاء من جنوبي آسيا الصغرى إذا لم تضم إلى القوات الحليفة ؛ فإنها ستكون بصورة ما تحت سيطرتهم » 5 .
? وهنا تثور تساؤلات عديدة :
- أين كان علماء الأمة وحكماؤها وأهل الحل والعقد فيها ، وتلك الأحداث المتتابعة تفور وتمور بهذا الشكل المدمي للقلوب ، ولماذا اعتبرت هذه الأمور الخطرة على مستقبل الإسلام في العالم مجرد مشكلات ( محلية ) في الدولة التركية ؟!
- ولماذا سكتت الشعوب على هذه المهازل المجموعة في دفعة مركزة من التغيير الجذري والقسري الذي أصاب جوهر حياة الإنسان المسلم ؟!
- عندما زالت الخلافة العثمانية ؛ لماذا زالت معها معالم التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة على مستوى الحكومات التي خلفتها في تركيا وغيرها ، وهل كانت مشكلة المنافقين العلمانيين مع نظام الخلافة العثمانية أم مع نظام الحكم الإسلامي
نفسه ؟!
- هل كان دور المرتدين والمنافقين أسبق في إتمام المؤامرة أم كان دور الكفار من النصارى واليهود أسبق ، أم أن غياب الوعي وعجز الإرادة في خواص الأمة هو الذي مهد الطريق لهؤلاء وهؤلاء ؟!
- هل كان لهذه الهجمة صداها في عصر ما قبل الجماعات والحركات الإسلامية ، وهل قامت هذه الجماعات بعد نشوئها كرد فعل على النازلة هل قامت بمحاولات جادة لإيقاف تكرار هذه المؤامرة الكبرى في أماكن أخرى ؟ وهل كانت
هذه المحاولات على المستوى المتناسب مع النازلة ، أم أنها كانت نازلة عن مستواها بسبب فرقة الصفوف واختلاف الكلمة ؟!
- مع ما تواجهه الحركات الإسلامية خاصة ، والشعوب الإسلامية عامة ، من هجمة غربية ربما تكون أشرس من الهجمة السابقة في القرن الماضي .. هل من المناسب أن تظل برامج تلك الحركات والجماعات كما كانت عليه خلال القرن
الماضي ، وهل سيظل ( أمل ) إقامة النظام الإسلامي العالمي بخطواته المتدرجة على رأس أولويات العمل الإسلامي الآن كما كان الشأن قبل ذلك ؟!
- وأخيراً ... ونحن لا نزال نعيش آثار العدوان على كياننا الإسلامي الجامع ، هل هناك أمل باقٍ في إعذار شرعي حقيقي إلى الله ، يؤدي فيه هذا الجيل الواجب المنوط به ، دون ترحيل للمسؤولية إلى الأجيال القادمة ... أم أننا سنظل
نؤثر الانتظار دون إعذار .. ؟!
أرجو أن تتيسر الفرصة لمناقشة هذه التساؤلات أو بعضها في أعداد قادمة
بإذن الله .
(2)
العلمانية .. « إمبراطورية النفاق » من مهد لها الطريق ؟!
الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
في هذا المقال يتتبع الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل نشأت القومية ( العلمانية ) في البلاد الإسلامية وكيف أنها بدأت يهودية ثم حمل رايتها النصارى .. دعوة وتنظيرا ... ثم انضم إليهم ما أسماهم المنافقين ممن ينتسبون إلى الإسلام .(39/482)
ويعرض الدكتور عبد العزيز مواقف علماء الأمة من نازلة إحلال العلمانية اللادينية محل الخلافة الإسلامية ، مناديا بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي المعاصر تبرز دور المنافقين في تغريب الدين
عندما يتناول المهتمون بالشأن الإسلامي الكلام عن حدث إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا ، ويتناوبون تقليب جوانب تلك النازلة الكبرى التي لا تزال الأمة تعيش آثارها منذ ثمانين عاماً ، فلا ينبغي أن يفهم ذلك على أنه إشادة مطلقة ، أو تزكية عامة لمسلك العثمانيين في إدارة شؤون عموم المسلمين ، فلا شك أن تلك الإدارة اعتراها الكثير من المآخذ المنهجية والسلوكية ، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من عمر تلك الخلافة الممتدة عبر خمسة قرون ، ولكن تلك المآخذ لا ينبغي أيضاً أن تأخذنا بعيداً إلى حد التهوين من شأن ما أصاب الأمة بعد حل رابطتها العالمية وكتلتها الإسلامية الدولية ممثلة في تلك الخلافة .
لقد كانت نكبة الأمة بسقوط السلطة في أيدي العلمانيين المنافقين اللادينيين بعدها في أكثر بقاع العالم الإسلامي ؛ أشد ضرراً وأنكى أثراً من سقوط الخلافة العثمانية نفسها ، حيث جسَّد أولئك المنافقون العلمانيون بعد سيطرتهم المبدأ الفاسد الكاسد بفصل الدين عن الدولة ، وأصَّلوا فرقان الشيطان بين السلطان والقرآن ، ذلك الفرقان الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في قوله : « ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب »6 .
وكان هذا « الفصل » بين الدين والدولة ، أو بين الشرع والحُكم ، تضييعاً للشرع وإضعافاً للحُكم ، بل كان إضعاف الحكم بالإسلام مقدمة لإضاعة الدين والدنيا معاً ، في تتابع مستمر قابل لأن يطال كل أسس الدين وثوابت الشريعة ، كما أخبر الصادق المصدوق في قول صلى الله عليه وسلم : « لتُنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة ؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ؛ فأولهن نقضاً الحُكم ، وآخرهن الصلاة » 7 .
وقد صدَّقت حقائق التاريخ المعاصر هذه النبوءة المعجزة لرسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ فما أن يُنقَض الحكم بالإسلام في أرض ، إلا ويتسلط عليها شياطين الإنس ، فيقوضون بنيانها وينقضون عُراها بدءًا بمنصة القضاء الشرعي ، وانتهاء بإقامة الصلاة التي جعل الرسو صلى الله عليه وسلم إقامة الولاة لها في الناس فيصلاً بين شرعية ولايتهم أو عدم شرعيتها ؛ وذلك عندما سأله بعض الصحابة عن حكم أئمة الجور قائلين : « أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة » 8[3] .
الأمر إذن ، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل عثمان ، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وفي إقامة سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها : [ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ]( ص : 26 ) .
ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها .
[ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ]( المائدة : 49 ) .
وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه ، وذلك في شرائعه وشعائره ، وروابطه وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام ( حاكم ) يُحْكم قياد العباد ، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة : [ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ ]( الجاثية : 18-19 ) .
? عُرى الشيطان تنازع أوثق عُرى الإيمان :(39/483)
كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم ، أن أوحى بعض المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول ، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين ، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى ( عثمانيين وأجانب ) ؛ فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى ( رابطة عثمانية ) وذلك عن طريق ما يسمى بـ ( إعلان التنظيمات العثمانية ) الصادر في عام ( 1255هـ ) ( 1839م ) وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى : مسلمين عثمانيين ، وهم رعايا ومواطنو الدولة العثمانية ، ومسلمين غير عثمانيين ، عدَّهم الإعلان ( أجانب ) ! وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو اللغة أو الجنس ، بينما وُضع الآخرون ( الأجانب ) من المسلمين في خانة أدنى ، وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ الإسلامي العظيم [ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ]( الحجرات : 10 ) .
كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها ، ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل ، فيعلنوا في الناس أن خلافة المسلمين لكل المسلمين ، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية الأرضية العنصرية ، ولكن ذلك الإجراء مضى ، وتطاولت به السنون ، حتى تحولت النزعة « العثمانية » إلى نزعة « طورانية »9، يدَّعي أصحابها أن الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى ( قوم ) متميزون ، ونشأ بذلك ما سمي بـ ( القومية الطورانية ) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية ، وهي التي نشأت رداً لها أو تأثراً بها ( القومية العربية ) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك ، فأنشؤوا بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية ، كما في قول صلى الله عليه وسلم للمتنازعين من المهاجرين والأنصار : « أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة » 10، وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين آخر من الأنصار ، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين ، فتداعى قوم بالنصرة من الأنصار فقالوا : ( يا للأنصار ! ) وقال آخرون : ( يا للمهاجرين ! ) ، فقال لهم الرسو صلى الله عليه وسلم قوله الآنف .
المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام ، ظل معمولاً بها ، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 - 1909م ) فغير تلك السياسة ، وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين ، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه المحمود من علماء الأمة وعقلائها ، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر ؛ فبينما أيده على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) ، والشيخ محمد عبده ( ت 1905م ) من خلال جمعية ( العروة الوثقى ) التي شكلاها لتكون أداة إعلامية لهذا التوجه ، إذا بآخرين من أمثال ( عبد الرحمن الكواكبي ) ( ت 1902م ) يأخذون توجهاً آخر ، فينادون بـ ( جامعة عربية ) وخلافة عربية !! وصحيح أن الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً ، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء 11[6] ، لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية المسلمين ؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم ، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين و فرنسيين و إيطاليين .
وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج ، استفحل الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك ، فنادوا بجامعة طورانية ، تجمع الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة .
وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً ، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على بعض بغير ميزان التقوى وهو أمر منكر جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين والكفار ، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي .
ومنذ ذلك الحين والصراعات القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها ، وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون ، عرباً كانوا أو عجماً ، فأقاموا حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية والمعنوية ؛ فتخاض لأجلها الحروب ، وتُشكَّل لها الأحزاب ، بل وتقوم عليها الدول .
أما في تركيا نفسها ، فقد تشكل فريق ( القومية الطورانية ) لمهمة الإجهاز النهائي على الرابطة الإسلامية ، ومن ثم الخلافة الإسلامية ، وكانت جمعية ( الاتحاد والترقي ) أداتهم في ذلك ، وكانت أولى إنجازاتهم السوداء أن انقلبوا على السلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية ؛ وذلك في عام 1908م ، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته ، فلما قام أعوانه بمحاولة لتصحيح الأوضاع ، أطاح به الكماليون .(39/484)
ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية ؛ حيث سيطر الطورانيون على كل أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً ، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي ، وانطلق هؤلاء إلى تطبيق سياسة ( التتريك ) لكل مظاهر الدولة ، تمهيداً للانتقال من منزلة ( القومية ) الطورانية التركية الإقليمية ، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو ( الوطنية ) التركية المحلية ، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها نيابة عن إبليس ، صاحب الأصل اليهودي البئيس ( مصطفى كمال أتاتورك ) .
في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً في شخص علمائها ومفكريها إلى الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي والصيني ، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة ، أو منطق اللسان ، أو انحدار العرق ، تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد ، بين المسلم الأمريكي ، والمسلم الإفريقي ، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو ، إنها الرابطة التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض .
[ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ]( الحجرات : 10 ) .
أما العلمانية المنافقة الماجنة ، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها الضال في الأناضول ، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه : « لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها ، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين » .
لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله ، حتى كتب السفير البريطاني في تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في ( 28/6/1910م ) : « الآن ، قد أخذ الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت ، وأن القضية أمست قضية ترك وعرب » !
أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون ، فإن مشروع فصم عُرى الإسلام ، بدءاً من حل رابطته ، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء شريعته ، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم ؛ فبعد أن أخفق ( تيودور هرتزل ) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة لليهود إلى فلسطين ، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على أنقاض الكيان الإسلامي العالمي ، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية اليهودية ، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية ، حتى إن اللورد ستون ، صاحب كتاب ( نشوء القومية ) في تركيا كتب يقول : « العلامة البارزة في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية » ، وقال : « إن أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً ، أو مسلمين من أصل يهودي ، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق « الدونمة » ويهود سالونيكا الأثرياء ، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية من فيينا و بودابست و برلين ، وربما من باريس و لندن أيضاً ...
» 12.
وبالرغم من كل ذلك ، فقد وُجد من الإسلاميين عرباً وعجماً من أشادوا بالقوميات حتى يومنا هذا ، وهي التي ولدت يهودية في شرقنا الإسلامي ، ثم تبناها صليبيون وتغريبيون في البلدان العربية على شكل أحزاب أسسها نصارى من أمثال : ( أنطون سعادة ) مؤسس الحزب القومي السوري ، و ( جورج حبش ) مؤسس حزب القوميين العرب و ( ميشيل عفلق ) ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكان أبرز القادة المنظرين للفكر العلماني في العالم العربي نصارى أيضاً ، من أمثال ( قسطنطين زريق ) و ( أميل البستاني ) و ( سلامة موسى ) ، ولا نستطيع أن نسمى من يسيرون على خطا هؤلاء ، ومن يسارعون فيهم إلا منافقين .
لقد أصبحت الرابطة التي تجمع - أو بالأحرى - تفرق ما بين العرب هي ( الجامعة العربية ) !! التي أصبحت ( الراعي الرسمي ) لكل الهزائم العربية أمام اليهود و النصارى الذين وطنوا القوميات والوطنيات في بلدان المسلمين ، ثم بدؤوا هم يعودون للمنطلقات الدينية إنجيلية وتوراتية .(39/485)
ومن الجدير ذكره هنا أن دعوى الوطنية حلت محل القومية في تركيا بعد أن انهزم القوميون الطورانيون في تركيا في الحرب العالمية الأولى ؛ فقد انسحب أولئك الطورانيون من قيادة تركيا بعد توقيع اتفافية الهدنة بعد الهزيمة في 30/7/ 1918م ، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز عاصمة دولة الخلافة ، واحتلوا أيضاً فلسطين ، ليهيئوها بعد ذلك لإقامة دولة اليهود التي ظلت مستحيلة القيام في ظل جامعة إسلامية موحدة ، ومع تخلي الطورانيين عن الحكم ، حلوا جمعيتهم المشبوهة ( الاتحاد والترقي ) ليفسح الباب بعد ذلك للوطنيين بعد القوميين ، وتزعَّم مصطفى كمال أتاتورك ذلك الاتجاه ( الوثني الجديد ) ، وقدم نفسه على أنه منقذ الوطن ( تركيا ) من الاستعمار ، وبدأ يُرسَم له دور قائد ( المقاومة الوطنية ) ضد الاحتلال الإنجليزي ، وشكل جمعية أسماها ( الجمعية الوطنية ) عام 1920م ، لتكون ممثلة لسلطان الأمة كما يزعم ، وهنا انقسمت السلطة في الدولة العثمانية إلى سلطة شرعية بقيادة السلطان في القسطنطينية ، وسلطة معارضة في أنقرة ، وكان الإنجليز يتعاملون مع السلطتين معاً ، ريثما تحل سلطة المعارضة ( الوطنية ) محل السلطة الشرعية الممثلة آنذاك في منصب السلطان وحيد الدين ، ولكن الصراع احتد بين السلطتين ، وضُيق على السلطان واتهم بالعمالة للإنجليز ، وقلَّ أعوانه بعد أن تغلغل الكماليون في كل أنحاء وأجزاء الدولة ، فاضطر وحيد الدين إلى مغادرة القسطنطينية ، فخلا الجو للكماليين ، وتهيأ الفضاء الإسلامي في تركيا وما يتبعها من أوطان إسلامية ، لهبوط نازلة أعتى من القوميات وأنكى من الوطنيات .. إنها العلمانية الإلحادية الصريحة التي غرَّبت الإسلام في دياره ، وجادلته في المحكمات من نصوصه وآثاره ، وأرادت بل صممت على أن تنصب خيمتها وتقيم إمبراطوريتها على ركام بلدان الإسلام في أنحاء الأرض .
?خلافة البابوية :
بعد أن ابتلعت جمهرة الأمة ألعوبة العبث بعروة الأخوة الإسلامية الوثقى ، عن طريق القوميات والوطنيات ، وبعد أن تسبب ذلك في انعزال ثم زوال سلطان الخليفة الشرعي الأخير ( وحيد الدين ) سارع أتاتورك إلى تحويل الخلافة إلى ( سلطة روحية ) بعد تحويل السلطة الفعلية إلى الأمة في شكل ( البرلمان ) الذي توكل إليه على طريقة غير المسلمين كل قضايا التشريع والحكم التي لا يجوز إسنادها للبشر ، وقد تمثل ذلك فيما سماه الكماليون بـ ( الجمعية الوطنية ) التي شكلوا في مقابلها حزباً سياسياً يضمن السيطرة على قراراتها وتوجهاتها المحكومة برأي الأغلبية ، ولو كانت أغلبية المنافقين والفساق والكافرين ، وأطلق على ذلك الحزب السياسي ( الحاكم ) « جمعية الدفاع عن الأناضول » في قصة أصبحت كل أنظمة الحكم العلماني تكررها ، فتشكل أحزاباً ( حكومية ) لضمان السيطرة على البرلمانات التي تحكم باسم الأمة ، وهي في الحقيقة تحكم باسم الحزب الحاكم ، الخاضع دوماً للفرد الحاكم ، أما الخلافة التي أخَّرت بإذن الله هيمنة النصارى واليهود على العالم الإسلامي لخمسة قرون ؛ فقد حولها أتاتورك بإيعاز وتشجيع من الإنجليز ( الذين كان يناضلهم في الظاهر ) إلى سلطة روحية على غرار سلطة ( بابا ) النصارى الكاثوليك ، مع أن هؤلاء الإنجليز البروتستانت لا يعترفون لأنفسهم بسلطة كسلطة بابا الكاثوليك ، ولو كانت روحية ، ولكنهم ارتضوا للمسلمين بأن يكون لهم ( بابا ) مؤقت ، باسم الخليفة ، حتى يحين وقت محو هذا اللقب وذلك المنصب من الوجود إلى غير رجعة .
ولما احتلت بريطانيا الأراضي التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى ، قال السفير البريطاني ( كرزون ) لعصمت إينونو رئيس وزراء تركيا عند عقد مؤتمر الصلح في نوفمبر 1922م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا : « إننا لا نستطيع أن ندعكم مستقلين ؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى ، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً » .
ولكن أتاتورك تعهد للإنجليز أن يزيل مخاوفهم ، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط تزيل تلك المخاوف ، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في إبريل 1923م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني ، عرفت بعد ذلك بشروط كرزون ، وهي :
1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .
2 - أن تقوم بإلغاء الخلافة .
3 - أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة .
4 - أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام .
وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية ( لوزان ) وتركت لحكومته كل الأراضي التي كانت قد سلبت من الأتراك العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل صاحب الإنجازات ! لاحظ معي أن روح ( لوزان ) لا تزال قانوناً غير مكتوب ، يحكم العلاقة بين الكيانات العلمانية التي سارت على درب أتاتورك ، وبين دول الكفر المختلفة .(39/486)
وقد حاولت بريطانيا في الوقت نفسه أن تشجع العرب على الانشقاق عن الأتراك ، لإنشاء خلافة عربية ، بشرط أن تكون ( روحية ) أيضاً ! فمرة تُمَنِّي ( الشريف حسين بن علي ) في ملك العرب جميعاً ، ومرة تتغاضى عن طموحات الملك فؤاد ملك مصر السابق في أن تكون القاهرة ( المحتلة ) عاصمة الخلافة !
فماذا كانت مواقف المسلمين ، بعلمائهم وفقهائهم ومفكريهم وأرباب الدعوة فيهم تجاه هجوم العلمانية ، ومفهوم الخلافة « الروحية » الذي انتهى إلى الفناء والإلغاء ؟!
كيف كانت منازلتهم لهذه النوازل الجديدة المناقضة لأمور معلومة من الدين بالضرورة ، وتتلخص في أن الحكم بشريعة الإسلام واجب يكفر منكره ، ويرتد جاحده ؟! ...
ماذا كان موقف علماء ذلك العصر ومفكريه من طاغية ذلك العصر المبدل للدين والمذل للمسلمين ؟! هذه بعض إلماحات مختصرة عن تلك المواقف قبيل وبعيد قرار إلغاء الخلافة البعض منها يدل على الكل ، في ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الأمة المعاصرة ، أسست أزماتها لكل الأزمات والنوازل بعدها ، وتشابهت المواقف من المجرمين وقتها ، من المجرمين بعدها .
?ليتهم سكتوا :
- سبقت جرأة كمال أتاتورك على إعلان تحويل الخلافة إلى منصب روحي ، دراسة كان قد طلب إعدادها من فريق من ( الفقهاء ) الأتراك ، وتم صدورها في بيان فقهي تحت عنوان ( الخلافة وسلطة الأمة ) يتضمن القول بأن الخلافة مجرد مسألة سياسية صرفة ، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد ، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها مطلقاً ، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية » .
وكان هذا الفقه الفاسد متكأ أتاتورك بعد ذلك في إلغاء الخلافة بشكل كلي .
- طرح أحد أبرز مفكري ذلك العصر ، وهو عبد الرحمن الكواكبي ( ت 1902م ) المنحدر من أصول إيرانية شيعية ، مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية للخليفة ، بوضوح تام في كتابيه ( طبائع الاستبداد ) و ( أم القرى ) واقترح أن يكون للخليفة سلطة محددة بمنطقة الحجاز فقط ، تشبه سلطة البابا على مدينة الفاتيكان ، وقد اقتبس الكواكبي ذلك الطرح عن تيار ( العثمانيين الجدد ) الذين نقلوه بدورهم عن مؤلفات الأرمني النصراني ( مورداجا وهسون ) وقرينه ( غريك سوفاس ) .
- أطلق رجل بحجم ( أحمد شوقي ) قصيدة في تبجيل أتاتورك وسماها ( تكليل أنقرة وعزل الأستانة ) أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة ، وعندما ادعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم أطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة :
الله أكبر كم في الفتح من عجبِ * * * يا خالد الترك جدد خالد العربِ
ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن ( خالد الترك ) بدلاً من أين يجدد خالد العرب ، فإنه بَدَدَ مجد الترك ومجد العرب .
- كان زعيم الحركة السنوسية ، من أبرز من أيدوا الفصل بين الخلافة والسلطنة ، معتبراً أن ذلك في مصلحة الإسلام ، بل إنه نشر في جريدة الأهرام المصرية ، في 28/9/1923م ، بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي ؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها ! - كان موقف جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) من السلطان عبد الحميد غامضاً ؛ فبعد تأييده في إعادة الاعتبار لمفهوم ( الجامعة الإسلامية ) بدأ يطالبه بأشياء مثيرة للشكوك ، كأن يطالبه بتعريب الأتراك ، ونقل عاصمة الخلافة إلى عاصمة أخرى .
وجمال الدين الأفغاني ليس أفغانياً بل إيراني شيعي ( على الراجح ) ، كما أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لمقالات مجلة ( العروة الوثقى ) والكاتب ( قدري قلعجي ) في كتاب نشر له عام 1951م يتناول سيرة الأفغاني و محمد عبده و سعد زغلول .
وسيرة الأفغاني المملوءة بالتقية الشيعية انعكست على طريقة تعامله مع مسألة الخلافة الإسلامية ، وهو ما جعل السلطان عبد الحميد يرتاب منه وينأى عنه .
- وقف التيار الجهادي المغربي موقفاً غريباً من أزمة الخلافة ؛ فقد عارض عبد الكريم الخطابي ( 1881 - 1962م ) الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها وكانت تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها 13.
وبالرغم مما قامت به حركة الخطابي من بطولات فذة ، أفقدت الأسبان و الفرنسيين صوابهم وأجبرتهم على الانسحاب من أكثر الأراضي المغربية التي احتلوها ، فإن ذلك الموقف من الخلافة التي قامت بعد خلافة الأندلس التي كانت المغرب إحدى حواضرها الزاهرة ، كان غريباً في وقته ، وحتى لو كانت لحركة عبد الكريم الخطابي قضاياها الخاصة الكبيرة وهذا ما كان بالفعل فإن من غير المفهوم أن يكون الجهاد في إحدى البقع الإسلامية صارفاً ولو وجدانياً عن المشاركة في النوازل الجماعية التي تنعكس على مجمل أوضاع الأمة .(39/487)
- وفي الجزائر كان للشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم الإسلاميين في الجزائر في ذلك الوقت ومؤسس ( جمعية علماء الإسلام ) التي أضاءت سماء الجزائر بالعلم النافع والتجديد المتسارع موقف مغاير من أتاتورك خالف به جمهور الإسلاميين ؛ إذ نظر إليه على أنه « أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها الحديث » !! وقال عنه : « إنه عبقري من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله » ووصفه بأنه « محيي الشرق الذي غيّر مجرى التاريخ » ولم يعد ابن باديس أتاتورك متهماً بالقضاء على مكانة الإسلام ، بل جعل له ( شرف ) القضاء على ( أصحاب العمائم ) الذين أضروا بالإسلام !! ورأى ابن باديس أن الخلافة خيال غير قابل للتطبيق ؛ وأنه لا يمثله في الحقيقة إلا مؤسسة من ( أهل الحل والعقد ) التي يتصورها مرجعية دينية أدبية ، بعيدة كل البعد عن السياسة والتدخل في شؤون الحكومات ، وكان لا يتصور الخلافة نظاماً إسلامياً شرعياً ، ولكن يتصور بدلاً منها عالمية إسلامية ثقافية ! 14 .
قد تكون لحركة ابن باديس ظروفها الموضوعية وتقديراتها الخاصة لما جرى في تركيا ، وقد تكون للشيخ مآخذه على منهج خلفاء آل عثمان ، ولكن ذلك لا يعني بحال أن يكون الطاغية ( أتاتورك ) محلاً لهذا الاحتفاء والمدح رداً على ما يُرى في العثمانيين من مثالب وقدح .
- وفي مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت ، نشأ اختلاف حاد تجاه ما أحدثه أتاتورك ، بلغت حدته أن عده بعضهم مرتداً ، واعتبره آخرون مجدداً ، وبلغ اللغط قمته عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه الصاعق ( الإسلام وأصول الحكم ) فصاغ فيه أفكار الليبرالية العلمانية بلغة أزهرية ، تلبيساً منه وتدليساً ، وكان عبد الرازق قد تلقى قسطاً من تعليمه في جامعة أكسفورد ، وأسبغ عليه منصبه في القضاء وزناً أدبياً جعل مؤلفه فتنة في وقته ؛ حيث زعم فيه أن الإسلام دين وعبادة فقط ، ولا دخل له بالحكم ولا السياسة ، وبناء عليه فلا أساس لمشروعية منصب الخلافة ، ولا صحة لوجود شيء اسمه الحكم الإسلامي حتى في عهد الرسالة ؛ حيث كان الرسو صلى الله عليه وسلم كما زعم عبد الرازق مجرد مبلِّغ للدين والرسالة ، وقد عرض كتابه على ( طه حسين ) داعية التغريب الملقب بـ ( عميد الأدب العربي ) فأضاف طه إضافات على كتاب عبد الرازق زادته ظلمات فوق ظلمات .
- في خضم هذا اللغط المخلط للمفاهيم ، كان الشيخ مصطفى صبري ( 1869 - 1954م ) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية قد أصدر كتاباً بعنوان : ( الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة ) فكان صوتاً صادقاً صادعاً بالحق في وجه تغول الفكر العلماني وهجمته الانتهازية على أصول الإسلام من خلال تآمرهم على صرحه الباقي وحصنه الأخير .
وكان الشيخ أيضاً ممن اغتر بدعاوى الإصلاح التي رفعها الاتحاديون ، فشارك في تأييد خلع السلطان عبد الحميد في مجلس ( المبعوثان ) على غير إدراك لأبعاد تآمر هؤلاء الاتحاديين على تركيا والعالم الإسلامي كله ، ولما تبينت له تلك الأبعاد قال نادماً : « أيدت خلع السلطان عبد الحميد ، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد » .. وبدأ بعد ذلك في الكشف عن حقيقة الكماليين التي اتضحت له ، وهاجم أتاتورك في أوج تألقه والتفاف الناس حوله ، وألف في الرد على من أيدوا اتجاهه المنحرف ، وبخاصة علي عبد الرازق ، حيث فند شبهاته وأبطل دعاويه .
- أما بالنسبة للأزهر كأعلى مؤسسة علمية إسلامية في ذلك الوقت فقد فوجئ علماؤه بكارثة إلغاء الخلافة ، وفوجئوا كذلك بمسارعة الحسين بن علي إلى الدعوة لنفسه بالخلافة دون مشورة من بقية المسلمين ، كما كانت مفاجأة لشيخ الأزهر في ذلك الوقت ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) أن يرشح الملك فؤاد ، ملك مصر الأسبق نفسه لهذا المنصب بعد أن دعاه إلى ذلك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ، فطلب منه أن يعلن نفسه خليفة ، ويجعل من القاهرة عاصمة جديدة للخلافة ، وكان لهذه الدعوة أنصار في مصر ، كما كان لها معارضون مغالون في المعارضة ، وعلى رأسهم الأحزاب العلمانية الناشئة ، كحزب الأحرار الدستوريين و حزب الوفد .
- ثارت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة الخلافة الإسلامية ، كان من ورائها دفع من قصر الحكم في مصر .
وكان واضحاً أن للملك فؤاد رغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين ، فقوبلت هذه الرغبة من معارضيه السياسيين أشد المعارضة ، وكانت معارضة شخصية سياسية أكثر منها دينية ، ونجح هؤلاء المعارضون السياسيون في أن يقحموا السياسة في الدين على عكس مبدئهم المشهور ( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ) فهنا فقط أدخلوا السياسة في الدين ، وأغروا بعض المشايخ كما حدث من علي عبد الرازق ، بأن يصيغوا هذا الرأي السياسي المعارض صياغة دينية ، فجاء هذا الكتاب الكارثة ، على تلك الخلفية السياسية الشخصية الانتهازية .(39/488)
- تزعم حزب الأحرار الدستوريين ( العلماني ) المعركة ضد الخلافة ، لا اعتراضاً على شخص الملك فؤاد فقط ، بل رفضاً لمسألة الخلافة من أساسها لا بل رفضاً لحكم الشريعة بالمرة ، فقد كان ذلك الحزب رافضاً لأن ينص الدستور المصري لعام 1923م على أن الإسلام هو دين الدولة ، وكانت اللجنة المشكلة لوضع هذا الدستور كلها من أعضاء ذلك الحزب ، وكان حزب ( الأحرار ) هذا مدعوماً من الإنجليز ، وكان ينافسه في العمل الحزبي ، حزب الوفد الليبرالي العلماني أيضاً ، ولكنهما مع اختلافهما الشديد الذي وصل إلى حد العداوة ، اتفقا على معارضة عودة الخلافة .
- أما المؤتمر المدْعُو له لبحث النازلة العامة بحثاً عاماً فقد تنادى للاستجابة له علماء شرعيون كثيرون ، وقد كان هذا الأمر جيداً في وقته ؛ فأن يبت علماء الأمة في شأن عظيم من شؤونها في مؤتمر عام أمر يحمد لهذا الجيل ، ويحسب في رصيده ، أما ما لم يحمد فهو أن ذلك المؤتمر قد انتهى إلى طريق مسدود ؛ فقد عقد ذلك المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة 1343هـ الموافق 25/3/1924م ، أي في السنة نفسها التي أعلن مصطفى كمال أتاتورك فيها إلغاء الخلافة ، وبالرغم من أنه عقد لبحث قضية إسلامية عالمية ، فقد غلبت عليه الصفة الإقليمية ، فجُل العلماء المجتمعين على فضلهم لا يمثلون إلا العلماء الرسميين الذين ينتمون إلى البلد التي يقودها ذلك الملك المرشح للخلافة وهي مصر .
- انتهى مؤتمر النازلة الكبرى بعد بحث طويل إلى مقررات تتلخص في تقرير شرعية منصب الخلافة وطرق انعقادها ودعائم بقائها وأسباب زوالها عن الشخص المعقودة به ، ليخلص التقرير الصادر عن المؤتمر من ذلك إلى أن عزل كمال أتاتورك للسلطان وحيد الدين عن الخلافة جاء لأسباب ارتضاها المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافته ، ثم أشار التقرير إلى الخطوة الثانية من خطوات أتاتورك ، وهي تحويل الخلافة إلى خلافة روحية في شخص السلطان عبد المجيد ، وبيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي ( بدعة ) ما كان المسلمون يعرفونها من قبل ، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية ، وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً ، وحتى لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى الخلافة ، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه شرعاً ، واعتبر التقرير أنه « ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ، ولا يملكون هم تمكينه منها » .
? إذن فما هو الحل ؟!
حاول المؤتمرون أن يسوِّغوا العجز عن تقديم مبادرة لحل الأزمة ، بأن « العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في تركيا بإلغائهم منصب الخلافة ، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن « لا يتمكن المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة ، ولا في من يصح أن يكون خليفة لهم » ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع : « لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية ، وتكون بمدينة القاهرة ، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية ، على أن يعقد في شهر شعبان من 1343هـ مارس 1925م » أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر الأول !!
ولم ينس المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير الإسلامية ( الكافرة ) التي « راعت » ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب ، فلم تتدخل في شؤونهم .. « نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها » !
ولنا ملاحظات وتساؤلات على ذلك المؤتمر ، وهي : هل كان المؤتمرون لا يعلمون شيئاً عن الدور الذي لعبته دول الأمم ( التي لا تدين بالإسلام ) في ترتيب خطوات إسقاط الخلافة بأشكال مباشرة وغير مباشرة ؟ .. وهل كانت وظيفة المؤتمر فقط أن يضفي شرعية على عزل السلطان عبد المجيد ؟
وكيف لم يكن الحكم الشرعي في العلمانية المطروحة بديلاً للخلافة موضوعاً ضمن مقررات المؤتمر ؟ وكيف نجح العلمانيون في أن يؤثروا على توصيات المؤتمر بحيث لا يشير أي إشارة إلى حل بديل في قضية الخلافة ؟
المؤتمر إذن لم ينجح ، وأرجأ إعلان عدم نجاحه إلى عام قادم يعقد فيه المؤتمر الثاني لبحث ( النازلة الكبرى ) !
? المؤتمر الثاني الموعود :(39/489)
عندما جاء وقت انعقاد المؤتمر الموعود ، تأجل مرة أخرى لعام آخر ؛ لأن ( الظروف غير مناسبة ) وكانت تلك المدة كافية لأن تثير حول مفهوم الخلافة الكثير من التوترات والمهاترات التي من شأنها ( حتى من ناحية نفسية ) أن تقلل الحماس وتضعف العزيمة ، ولا شك أن العلمانيين الأوائل في مصر ومن خُدعوا بهم ، كان عليهم الجرم الأكبر في ذلك سواء كانوا من أصحاب ( الطرابيش ) أو ( أصحاب العمائم ) ، حيث عمل هؤلاء وهؤلاء ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون على تحقيق غرض الإنجليز الواضح في تضييع الوقت ، وتمييع القضايا ، وتوسيع الصراع بين الأطراف في قضايا جانبية بعيداً عن القضية الأصلية ، ولما جاء أوان انعقاد ( مؤتمر الخلافة ) بعد عامين من سقوطها ، تحول ذلك المؤتمر إلى مواجهات بين أنصار الإبقاء على الخلافة بشكلها المعروف في الشرع ، وبين من رأوا إدخال ( تعديلات ) عليها ، وثارت مواجهات أخرى أشد بين أنصار تنصيب ( الملك فؤاد ) خليفة ، وبين أنصار تنصيب ( الحسين بن علي ) خليفة .
ولأن المؤتمر عقد في مصر ، وبدعوة من حزب الاتحاد التابع للملك ، فقد كان من الطبيعي أن يفقد المؤتمر صفته العالمية ، بل حتى على المستوى المحلي ذاته فقد انقسم علماء الأزهر أنفسهم حول استحقاق الملك لمنصب الخلافة ، وكان على رأس المعارضين في ذلك شيخ الأزهر نفسه ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) الذي رأى أن القاهرة لا تصلح لأن تكون عاصمة لدولة خلافة جديدة ، وهي لا تزال تحت احتلال الإنجليز .
لقد أسس هذا المؤتمر ( الإسلامي الرسمي العالمي ) لعادة أصبحت عُرفاً بعد ذلك في كل ما يماثله من مؤتمرات ، وهي اختصار المسافات بالقفز فوق الخلافات بدلاً من علاجها ، فقرر المؤتمر المنتظر ( والمؤجل لعامين ) تأجيل البت في مسألة الخلافة ( لظروف أنسب ) في مؤتمرات لاحقة ، دون أن يعينوا لها زماناً أو مكاناً !! ، وكان من مسوغات تأجيل البت في ( مسألة ) الخلافة في ذلك المؤتمر ، أن الحضور رأوا أن « العالم الإسلامي أصبح ممزقاً ، وأن النزعة القومية بدأت تسيطر عليه » !!
لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن المؤتمر كان للعلماء ، وليس للساسة والزعماء ، ولهذا كانت تسويغاته للفشل عذراً أقبح من ذنب ؛ إذ إنها جعلت الآفة التي جاءت لمعالجتها سبباً في ترك النظر في العلاج ، كما يُترك المريض حتى يموت بدعوى أن حالته الصحية ليست جيدة !! وقد رسَّخ المؤتمر إخفاق قادة الأمة ( المفترضين ) في تجاوز المحنة ، ولو بشكل نظري يضع الأمور في نصابها ويوقف العابثين بتراث الأمة ومصيرها عند حدهم ، وكما أسبغ المؤتمر الأول مشروعية ضمنية على جريمة أتاتورك في عزل عبد المجيد بعد تجريده من مقاليد الحُكم ، فقد أضفى المؤتمر الثاني نوعاً من التطبيع على هيمنة العلمانية ، بفتح الطريق أمامها بغير قصد لأن تمسك هي بزمام الأمة ، فيتحول غربانها من المنافقين وثعالبها من الأفاكين إلى ( أهل حل وعقد ) في مجالس الزور المسماة بـ ( البرلمانات ) .
ومنذ ذلك العهد بدأت المعركة الحقيقية بين الإسلام وغريمه الأكبر في ذلك العصر ( العلمانية ) ...
تلك الأداة الطيعة في أيدي كل أعداء الأمة ، من يهود و نصارى و ملحدين ، فما نفذ هؤلاء وهؤلاء إلى صميم حصون الأمة إلا على ظهور منافقيها ، وما نالوا من دمائها وأموالها وأعراضها بمثل ما فُعل على أيدي سفاحيهم وسفاكيهم .
ولهذا فإن التاريخ المعاصر يحتاج لإعادة كتابة يرصد فيها دور حزب المنافقين المعاصرين ، في التغرير بالأمة لنحو مئة عام متواصلة ، قامت خلالها لهم إمبراطورية كبرى ، هي ( إمبراطورية النفاق ) التي تضم كياناتهم المتعددة القائمة على إزاحة سلطان الإسلام لصالح سلطان الشيطان .
? لكن نقطة بيضاء ناصعة :
، نورت آفاق المواقف من نازلة إلغاء الخلافة ، كان يمثلها موقف عدد من العلماء الأحرار ، أمثال : الشيخ مصطفى صبري ، والشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد بخيت المطيعي ، والشيخ محمد الخضر حسين ، فقد كان لكل منهم صولات وجولات في المنافحة عن حقائق الدين وحرماته أمام تلك الهجمة ، ويذكر هنا بوجه خاص الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد رشيد رضا ، حيث أثار مناقشات فقهية حول مفهوم الخلافة الروحية في مجلته ( المنار ) في أعداد متتابعة ، ثم جمعها في كتاب بعنوان ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) وكان رأي رشيد من أرشد الآراء المعلنة في تلك الحقبة المظلمة ؛ حيث كانت خلاصة رأيه في مقالاته وكتابه أن الخلافة مسألة شرعية ، وأن نصب الأمة للإمام واجب شرعاً ، وأنها تأثم كلها بترك هذا الواجب ، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع ترك هذا الواجب 15[10] .(39/490)
وكان كتاب رشيد رضا رداً على كتاب ( الخلافة وسلطة الأمة ) الذي أعده بعض شيوخ تركيا بأمر أو تآمر من مصطفى كمال أتاتورك ، وجاء هذا الموقف المعارض لأتاتورك وشيوخه ، بعد مرحلة من التأييد والتشجيع ، خُدع فيها رشيد رضا - رحمه الله - بشعارات أتاتورك فيمن خُدع ، حتى إنه راهن عليه في إصلاح أحوال الأمة انطلاقاً من تركيا ، وطالبه بتشكيل ما أسماه ( حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل ) ليكون ممثلاً لفكر أستاذه محمد عبده ، ولكنه اكتشف زيف دعاوى أتاتورك بعد ذلك فاتخذ منه الموقف الشرعي الصحيح ، ودعا الشيخ رشيد جاهداً إلى إعادة تأسيس الخلافة على أصول صحيحة ، بل إنه وكما يظهر من بعض كلماته في تفسير المنار ، حاول أن يسلك مسلكاً عملياً لأجل الوصول إلى ذلك الغرض الشرعي بتشكيل فريق عمل يسعى لإعادة الخلافة .
وكانت محاولات الشيخ محمد رشيد رضا لمنازلة تلك النازلة ، هي أول تحرك مبكر للتصدي لتلك المحن ، تطور بعد ذلك على شكل جماعات وحركات وهيئات وجمعيات ، قامت من أجل العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ...
فهل أدت هذه وتلك الأدوار المناطة بها ؟ .. إن لذلك قصة أخرى ، أرجو أن تتوفر لمناقشتها فرصة أخرى .
( 3 )
العمل الإسلامي .. نحو حلول ممكنة لأزمات مزمنة
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
نشأت بدايات العمل الإسلامي الجماعي منذ ما يزيد عن سبعين عاماً في ظرف ضرورة ، وزمان أزمة ، وحقبة اغتراب خيمت على المسلمين في العالم بعد انفراط عقدهم بإلغاء نظام الخلافة لأول مرة بعد ثلاثة عشر قرناً من عمر الدعوة ، وكان على العاملين للإسلام في ذلك الوقت أن يواجهوا طوفاناً من الفتن الهاجمة على الأمة بعد غياب سلطان الإسلام عنهم وتحالف أحزاب الشيطان عليهم ، دون أن يكون لهم معسكر يفيئون إليه ، أو أرض ينطلقون منها ، أو قوة كبرى يعتمدون عليها ، لم يكن أمامهم إلا الاعتماد على الله والاستناد إلى ركنه المكين ، وهم ينشدون نشر الدعوة وإعادة المنعة لهذا الدين .
وتطور العمل الإسلامي وتوسع في البلدان بأطياف مختلفة وأهداف متنوعة ، تشكلت للعمل لأجلها جماعات كثيرة ، اتخذت كل منها سبيلاً للوصول إلى غاية مفترضة واحدة ، وهي إعلاء كلمة الله ، ونشر دعوة الإسلام .
فكان من تلك الجماعات ما تخصص في العلم ونشره ، ومنها ما تفرع للدعوة والأعمال التربوية ، ومنها ما توجه نحو مشاريع الرعاية الاجتماعية والأنشطة الخيرية ، وبينما انتصبت جماعات للسعي في الإصلاح ليكون الإسلام هو الحل من خلال وسائل وقنوات سياسية ، رأى آخرون أن ذلك الحل لن يتحقق إلا عبر مشروعات تغيير جهادية ، تقوم على فرض حلول عسكرية للنوازل التي بدأت عسكرية ، بغزو الكفار للمسلمين في عقر ديارهم حتى وصل الأمر إلى ذروته باحتلال الإنجليز لعاصمة الخلافة الأخيرة ( إسطنبول ) - القسطنطينية سابقاً - عام 1918م وكان ذلك تتويجاً لمسيرة طويلة من الاجتياح العسكري لبلاد المسلمين ، اشتركت فيها الدول الاستعمارية بمذاهبها النصرانية الثلاثة : البروتستانية ، والكاثوليكية ، والأرثوذكسية ، فالإنجليز البروتستانت اشتركوا مع الفرنسيين الكاثوليك منذ وقت مبكر في التربص بجزيرة العرب ، فضربوا مدينة جدة عام 1858م ، ثم احتل الإنجليز الإمارات الخليجية عام 1866م ، واحتلوا مصر عام 1882م ، و السودان عام 1899م ، وكانوا قد بسطوا هيمنتهم على جنوب اليمن قبل ذلك في العام 1839م واحتلوا عُمان عام 1858م ، هذا في القرن التاسع عشر أما في القرن العشرين فقد احتل الإنجليز العراق عام 1917م ، و فلسطين عام 1918م ، و سوريا عام 1920م ، وها هم يعودون إلى العراق في القرن الحادي والعشرين بالاشتراك مع الأمريكيين في العام 2003م ، ولا يزالون يتربصون مع الأمريكيين بقائمة أخرى من البلدان العربية والإسلامية في السنوات القليلة المقبلة .
وأما فرنسا الكاثوليكية فقد احتلت مصر عام 1799م ، واحتلت الجزائر عام 1830م ، و تونس عام 1882م ، و المغرب 1911م ، و موريتانيا 1903م ، وسوريا 1918م ، واحتل كذلك الإيطاليون الكاثوليك إريتريا عام 1878م و ليبيا عام 1911م ، وحتى النمسويون احتلوا أراضي المسلمين في البوسنة و الهرسك عام 1887م .
أما الروس الأرثوذكس ، فقد بطشوا بالمسلمين أيام روسيا القيصرية ، وفي عهد روسيا الشيوعية وإلى اليوم بعد أن عاد الروس نصرانيتهم الأرثوذكسية ، فقد احتلوا بلاد القوقاز عام 1864م ، و طشقند عام 1878م ، و أوزبكستان و تركستان الغربية عام 1890م ، وضموا طاجيسكتان عام 1929م ، و تركمستان عام 1925م ، وهم إلى اليوم يتربصون بالوجود الإسلامي في آسيا ؛ فبعد غزوهم لأفغانستان عام 1979م ؛ غزوا الشيشان عام 1994م ، ثم انسحبوا منها ، ثم غزوها مرة أخرى عام 1999م .
وقد رأى الذين اختاروا الحل المسلح أن المنافقين العلمانيين الذين خلفوا المستعمرين الكفار في بلاد المسلمين لم يكونوا يقلون عن الأعداء الظاهرين إفساداً وعداءً للإسلام وأهله ، لأنهم نابوا عنهم في كل ما جاؤوا من أجله : إقصاء الشريعة ...(39/491)
مطاردة الدعوة .. هدر الثروات .. شق الصفوف .. إفساد الأجيال .. ترسيخ التبعية ...
توطين الطغيان ورهن الأوطان ؛ فقد كانوا باختصار خلفاء للاستعمار باسم مستعار وهو : الوطنيون الأحرار .
وبغض النظر عن تعيين الخيار الأنجع والأوقع من بين تلك الخيارات التي توزع إليها العمل الإسلامي ؛ فإن الأمة بمجموعها كانت تحتاج إلى التنويع بين كل ذلك ؛ فاختلاف أحوالها زمانياً ومكانياً ؛ كان يفرض بين آن وآخر ومكان وآخر ؛ التركيز على لون من ألوان تلك التوجهات ؛ فبينما وجد الإسلاميون أنفسهم في ساحات معينة غير قادرين إلا على التوسع في النشاطات السلمية الرسمية ، اضطر آخرون لاتخاذ موقف الدفاع في جبهات معارضة سياسية ، أو أقحموا في منازلات ومواجهات عسكرية ، وبخاصة عندما كان يأتي الخطر من الخارج عبر الداخل من خلال المنافقين أو المغفلين ، مثلما حدث في كل البلاد التي احتلها الكفار وآخرها أفغانستان التي احتلها الروس الملحدون في أول القرن الهجري الحالي ، ثم احتلها النصارى الصليبيون آخر الربع الأول منه ، وكذلك العراق التي احتلت مؤخراً ، ووجد الإسلاميون فيها أنفسهم فجأة في مواجهة عدو غازٍ محتل ، لا يملكون خياراً في مواجهته إلا حمل النفس على حمل السلاح دون سابق إعداد أو استعداد .
لقد كان كل فصيل من فصائل العمل الإسلامي في الجملة يقوم بدور مكمل لأدوار الآخرين ، بحيث لا يمكن الزعم بأن جهداً واحداً منهم كان يمكن أن يغني عن جهود الآخرين ، فلم يكن بوسع الأمة في مرحلة ما أن تتحول كلها إلى مجاهدين ، ولم يكن مطلوباً منها في أخرى أن تفرغ كل جهدها خلف السياسيين ، ولم يكن واجباً عليها في يوم من الأيام أن تحول كل العاملين إلى علماء أو طلاب علم أو مفكرين ، كما أنها لم يكن في مستطاعها أن ترهن كل أنواع التغييرات التحتية انتظاراً للتغييرات الفوقية .
كان لا بد للسفينة أن تمضي وتسير مهما حاربتها الرياح وعرقلتها الأعاصير ، صحيح أن فصائل العمل الإسلامي لم تنسق مسبقاً لتوزيع الأدوار ، ولم تتفق قبلاً على تنويع المهام ، إلا أن الأمور سارت بقدر من الله نحو تكامل معقول أدى فيه العاملون للإسلام بمجموعهم ولا يزالون الكثير مما كان يجب أن تقوم به الأنظمة والحكومات ، تلك التي كانت في غالبها الأعم لا تكتفي بكف يدها عن الإصلاح الشرعي المطلوب لأحوال الأمة ، وإنما تعدت ذلك إلى سد الأبواب أمام المصلحين ، وفتحها أمام المفسدين والمنحرفين .
لقد كان هذا التكامل - غير المقصود - بين تخصصات العمل الإسلامي برهاناً على خيرية الأمة ، ودليلاً على قابلية التشريع ؛ لأن يعيش فيها وبها في ظل أحلك الظروف ، فحتى مع غياب (1) أخرجه أبو داود في سننه ، (3740) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (599) .
الكيان الجامع المسؤول عن القيام بكل هذا في عالم المسلمين - أعني به نظام الدولة الواحدة ( الخلافة ) - فإن سفينة الإسلام سارت ولا تزال تسير - ويا للعجب - بغير ربان ولا قبطان .
وعندما أقول أنها سارت ولا تزال بلا ربان ولا قبطان ؛ فإني أعني بذلك غياب الولاية العالمية العامة للمسلمين ، بشقيها : السياسي والعلمي لنحو قرن من الزمان ، فلم يكن لهم طوال أكثر من قرن مضى ولاية سياسية موحدة تُخضع الجميع ، ولا ولاية علمية عامة تقنع الجميع وتجب لها طاعة الجميع كما أمر الله تعالى في قوله : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ](النساء : 59) .
لهذا سارت السفينة خلال قرن مضى تعترضها الأخطار ، وتصارعها الأمواج ، وتصفق فوقها الصواعق والبروق فلا تنتهي ، وتجري عكسها الرياح بما لا تشتهي ، كل ذلك وقلة من المخلصين من ركابها ينوبون عن ربانها الغائب في القيادة الجماعية القائمة على غير خبرة أو اختصاص ، وعلى غير ترتيب سابق ولا تنسيق لاحق ، لكن السفينة سارت ، وبقيت في سيرها للآن محاولة الوصول إلى بر الأمان .
إن أي تقويم لنتائج العمل الإسلامي في حقبه السابقة لا بد أن يستصحب ويستحضر هاتين المقدمتين المهمتين :
غياب الولاية السياسية العامة ،
وغياب الولاية العلمية العامة ؛
لأن غيابهما قد حول أحوال الأمة إلى ظرف استثنائي ، تعسّر فيه علاج المعضلات على أصولها ، وتعذَّر جمع الآراء حول حل لها ، فأصبح الضعف العام في الأمة لذلك يكاد يبدو بدهياً في ظل تلك الأوضاع غير الطبيعية .
? إنجازات رغم الصعوبات :
مع كل ما اقترن بمسيرة العمل الإسلامي من عراقيل وعقابيل ؛ فقد أنجز العاملون للإسلام على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم إنجازات كبيرة في ظل ظروف الأزمة تلك ، ويمكن تعداد أبرزها فيما يأتي :
?- إحياء كثير من معالم الدين التي كادت تندرس منهجياً وعملياً وبث الروح في صلة المسلمين بعقائدهم المستمدة من أصول أهل السنة ، مع توسيع دائرة النفور من الابتداع وأهله .
?- تحريك الضمير الديني العام للأمة نحو أهمية العودة للإسلام منهجاً وسلوكاً ، وجعل تطبيق الشريعة قضية عامة على مستوى الشعوب ، بعد أن كانت مطلباً خاصاً للجماعات الإسلامية .(39/492)
? - تحقيق قفزة هائلة نحو إنقاذ شباب الأمة من الضياع ، باستقطاب شريحة كبيرة منهم نحو الالتزام الديني ، واتضاح ذلك من خلال ظاهرة عمران المساجد وتفعيل الأنشطة الدعوية بعناصر شبابية .
?- إحياء الكثير من سَمْت الإسلام المعلن وشعائره الظاهرة بين الرجال والنساء ، وإعادة الاعتبار بشكل معقول لفريضة الحجاب في كثير من البلدان رغم الحرب السافرة لأنصار السفور .
?- إعادة الحياة لشرعة الجهاد ضد المعتدين من الكفار تحت رايات إسلامية ، دون تحرج من الاتهامات المعتادة بالإرهاب والتطرف ، ووضع حد لظاهرة الجرأة على استعمار بلاد المسلمين وإطالة احتلالها ، كما حدث خلال القرنين الماضيين .
?- كسر حاجز الخوف من الاحتساب على الظلم والظالمين ، وخوض المنازلات ضد الجبروت والجبارين ، ومباشرة المواجهة ضدهم ، كما حدث في الملحمة الأفغانية السابقة وما تلاها من ملاحم في الشيشان و البوسنة و الصومال ، وما يحدث الآن في فلسطين و العراق .
?- إبراز إفلاس العلمانية براياتها المختلفة ، من خلال وضع حكوماتها تحت مجهر المحاسبة الشعبية في ضوء المعايير الشرعية ، حيث تركزت الأضواء لكشف إخفاقها العام سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً ، وبطلانها شرعياً واعتقادياً .
? - النجاح في ابتكار منابر إعلامية إسلامية ، بجوار المنابر الأصلية في المساجد ، وتحقيق قفزة إعلامية نسبية ، أصبحت مرشحة على تواضعها أن تنافس إمبراطوريات الإعلام الفاسدة داخلياً وخارجياً ، وتحقق شيئاً من الندية معها في صناعة الرأي العام الإسلامي .
? - إيجاد صوت سياسي إسلامي قادر على إيصال إرادة الأمة لمن بيدهم السلطان ، مع التمكن من إعادة نظريات الحكم والسياسة في الإسلام إلى موقع الأهلية للتطبيق .
?- أسلمة كثير من العلوم الإنسانية ، وإضفاء ضوابط شرعية على بعض العلوم التطبيقية ، إضافة إلى المشاركة في النهوض بمستوى التعليم الديني بالانخراط في المدارس والمعاهد والجامعات المتخصصة في تخريج أجيال من طلبة العلوم الشرعية .
?- فضح زيف المناهج الفكرية والأطر المذهبية المناوئة للإسلام عقيدة وشريعة في العصر الحاضر ، من خلال شن هجوم مضاد على المستشرقين والمستغربين ، وبروز رموز فكر إسلامي قادرين على جهاد الكلمة ضد جراءة الإلحاد والعلمنة والتغريب والانحلال مع كشف عوار المبادئ الأرضية المنافسة للشرائع الإلهية في أوطان المسلمين ، كمبادئ الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية والشيوعية والماركسية ونحوها .
ويمكن إضافة الكثير والكثير من التفاصيل حول تلك الإسهامات الإيجابية لما اصطلح على تسميته بـ ( الصحوة الإسلامية ) تلك الصحوة التي جاءت تحقيقاً قدرياً لما أخبر عنه الرسو صلى الله عليه وسلم عندما قال : « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها » 16 .
وبما أن لفظة ( مَنْ ) في الحديث تصدق على الفرد والمجموع ، ولمَّا لم يشهد أحد لفرد واحد بالقيام بكل ما سبق ، فقد ثبت أن ذلك التجديد هو من فعل المجموع ؛ فكل العاملين للإسلام شركاء في تلك الإنجازات المتنوعة بتنوع تخصصات هؤلاء العاملين ، وبفضل الله تعالى ثم بفضل تلك النجاحات فإنه لا يسع أحداً أن ينكر أن أحوال الأمة في الربع الأول من القرن الخامس عشر ، أفضل منها بكثير عن قرن مضى من حيث صلتها بالدين علماً وعملاً .
ولكن إنباء الرسو صلى الله عليه وسلم عن تجديد الدين مع بداية كل قرن ، لم يرافقه إخبار بالتمكين له مع مطلع كل قرن ؛ فصحيح أن الدين من حيث جوهره قد تجدد مصداقاً لتلك السنة الإلهية ، إلا أنه لم يتمكن بعدُ ؛ لأن تمكنه خاضع لسنن أخرى ليست زمانية قدرية ، ولكنها شرعية دينية .
فإذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين بحفظ كتابه وتجديد منهاجه كوناً وقدراً ، كما في قوله تعالى : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ](الحجر : 9) ، وقوله عز وجل : [ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ](القيامة : 18-19) فإنه سبحانه جعل التمكين للدين موكولاً لأهله شرعاً وديناً كما قال جل شأنه : [ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ](محمد : 4) ، وقال : [ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ](الحج : 40) ، وعلى هذا الصعيد أخفق المسلمون بعامة ، والإسلاميون منهم خاصة في تحقيق الحد الأدنى من التمكين الذي تترتب عليه إعادة رفعة المسلمين ليكونوا كياناً مهاب الجانب مرهوب القوة نافذ السلطان ، فالإسلام كلمة الله لا بد أن يكون لأهله سلطان مهاب مطاع ، حتى يتمكن الدين من أن يكون متاحاً مباحاً لكل العالمين ، ليقبلوا عليه مختارين ويدخلوا فيه أفواجاً .
ولعل هذا سبب اقتران الفتح بالنصر في قوله تعالى : [ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ](النصر : 1-3) .(39/493)
إن تجديد الدين وإحياءه علمياً لا يغني عن التمكين له عملياً ، إلا أن ذلك التجديد مقدمة ضرورية تسبق التمكين ، فتسهل مهماته ، وتساهم في إزالة معوقاته ، وقد أخفق الإسلاميون في أن يوظفوا ثمرات التجديد في حمل راية التمكين من جديد ، وحجج الاعتذار هنا لا تساعدهم ، ومنطق التسويغ لا يشفع لهم ؛ لأن فرصاً كثيرة ضاعت مع أن اقتناص فرصتها كان متاحاً لولا الاختلاف والارتجال .
? إخفاقات رغم الإمكانات :
بالإضافة إلى الإخفاق الكبير في إعادة التمكين للمسلمين رغم مرور عشرات السنين ، فإن تحت هذا الإخفاق إخفاقات أخرى ، فبالرغم من ضخامة كل ما سبق ذكره من إنجازات للعمل الإسلامي في العقود القليلة السابقة ، فإن تلك الإنجازات ستبدو متواضعة إذا وضعنا على خلفيتها بُعدين مهمين : أحدهما : أن الإمكانيات الكامنة في الأمة كانت تسمح بأكبر من هذه النتائج والإنجازات .
الثاني : أن عدم الوصول إلى تحقيق الغاية الكبرى ، وهي إقامة دولة الإسلام العالمية المُمكنة مرة أخرى ، وتطاول الفاصل الزمني بين عهدي الاستضعاف والتمكين ، يهيئ فرصة كبيرة للأعداء لكي يعيدوا الكرة ، ويسلبوا الإنجازات ، ويذهبوا بنا بعيداً عن تحقيق بقية الغايات .
ومن هنا تظهر جسامة المهمة وعظم المسؤولية في وجوب تجاوز الطرق التقليدية في التعامل مع نوازلنا ، وبخاصة في الأوقات الراهنة ؛ حيث الظروف الاستثنائية التي تحتاج إلى جهود استثنائية .
نحتاج - نحن الإسلاميين - أن نتعود على استحضار إخفاقاتنا ، كما نتغنى بنجاحاتنا ؛ فالنظر إلى النجاحات فقط يصيب بالغرور ، كما أن النظر إلى الإخفاقات فحسب يوقع في الإحباط ، ونحن المسلمين بحمد الله أكبرُ بديننا وإيماننا من أن نُحبط أو نيأس ؛ فإنه [ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ ](يوسف : 87) ، وإذا ذكرنا إخفاقاتنا فليس ذلك مدعاة لاستجلاب يأس أو استحضار إحباط ، ولكن لاستشعار حجم المشكلات وتطوير القدرات لحلها والتصدي لها .
إننا إذا تأملنا النتائج الموضوعية لمسيرة جمهور الصحوة الإسلامية خلال ما مضى من عمرها ، سنرى كمّاً من الإخفاقات التي كان من الممكن تجاوزها في فترات السلامة النسبية الفائتة .
فمن ذلك :
?- إخفاق في تفعيل فقه الوفاق ووحدة القلوب بين الفصائل والتيارات بالرغم من التقارب النسبي بين كثير من المناهج مقارنة بما مضى ، وقد ترتب على ذلك تقصير في تحقيق حد أدنى من التعاون العملي المباشر بين تلك الفصائل في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية ، عملاً بشرعة البنيان المرصوص وفريضة الاعتصام بحبل الله .
?- تأخر في تفعيل دور جماعي للعلماء ، وتردد في تكوين مرجعية علمية عامة يرجع إليها المسلمون إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ، أو نزلت بهم كوارث عامة أو خاصة .
? - قلة التأصيل العلمي لمناهج التغيير الشرعية التي ابتليت بالخوض فيها العديد من الفصائل الإسلامية بلا ضوابط علمية ، سواء في العمل السياسي أو الجهادي أو الجماهيري .
?- ضعف الهمة في تجاوز العقبات المعطلة للعمل مثل الحزازات الحزبية والنزعات الإقليمية والنزغات العنصرية ، والتعامل معها وكأنها قدر سابق أو قضاء محتوم ، مع شح الوسائط الدعوية المشتركة والمبادرات الإصلاحية التي تذيب الفوارق وتكسر الحواجز النفسية بين الجماعات والتيارات المختلفة ، إضافة إلى شدة العناية بجوانب الفرقة والاختلاف ، على حساب الرعاية لجوانب الاتفاق والائتلاف .
?- غياب نقد الذات لحساب نقد الغير ، وقلة بلورة النقد الذاتي في حال وجوده إلى مراجعات جادة بدلاً من التراجعات الحادة .
?- اعتماد صيغة ردود الأفعال في التعاطي مع النوازل بعد نزولها بدلاً من المواجهة المدروسة لها عند وقوعها فضلاً عن التحسب لها قبل حدوثها .
وإذا كان ما سبق ، أزمات داخلية واجهت العمل الإسلامي فلم يوفق في تجاوزها ؛ فإن هناك نازلات خارجية أخرى غلب على الإسلاميين تجاهلها ، مع أنهم هم الوحيدون الذين يعنيهم شأنها بعد ذهاب زمن الحلول الثورية والشعارات الوهمية .
إن الوسط الإسلامي يشهد ما يشبه الغياب التام عن وضع تصورات نظرية أو عملية لكيفية التصدي المبكر لكوارث يتوقع وقوعها ، ونوازل يخطط الأعداء لإنزالها ، وليس غير الإسلاميين في وارد الاهتمام لها أو العمل لأجلها ، ولهذا فليس من المقبول منهم طي ملفاتها انتظاراً لحدوث موانع قدرية قد لا تكون مقدورة ، أو كرامات غيبية قد لا تكون مكتوبة ، خذ أمثلة على ذلك من مخططات ومؤامرات معلنة منشورة ؛ دعك مما هي غامضة مستورة :
? 1 - خطط الغزو لمزيد من البلدان العربية والإسلامية بذرائع مصطنعة ، كتلك التي حيكت شباكها للعراق ، حيث ستنفتح شهية الأمريكيين وحلفائهم لاستئناف برنامج الغزو إذا وجدوا مهمتهم سهلة في العراق ، وإذا ما استمر عدم الإجماع على موقف إسلامي فاعل وموحد مما يحدث فيها وفي أفغانستان .(39/494)
? 2- الخطط اليهودية المبيتة منذ عقود لهدم المسجد الأقصى ، وبناء الهيكل اليهودي الثالث على أنقاضه ، تلك الخطط التي تشكلت لأجل تنفيذها أكثر من عشرين جماعة صهيونية ، يهودية أو نصرانية ؛ مع توزيع تلك الجماعات للتخصصات اللازمة لتنفيذ المخطط في الوقت المناسب ، وبالرغم من أن المتصدرين لتنفيذ هذا المخطط المعلن جماعات لا حكومات ؛ فإننا لم نسمع عن خطة واحدة مضادة لجماعة واحدة فضلاً عن حكومة واحدة أو هيئة عربية أو إسلامية أو عالمية واحدة لردع هؤلاء الشياطين النشطاء .
? 3 - البرنامج الصهيوني المدعوم أمريكياً وغربياً باستكمال خريطة ( إسرائيل الكبرى ) من النصف الغربي للعراق إلى النصف الشرقي من مصر ، ومن جنوب تركيا إلى شمال الجزيرة العربية على حدود المدينة المنورة ، تلك الأراضي التي قد يجد أهلها وعلى رأسهم الإسلاميون أنفسهم بين ليلة وضحاها في مواجهة مباشرة مع يهود أو نصارى ، دون أن يكونوا قد أعدوا من قبل للأمر عدته ، أو أخذوا له أهبته ، كما يحدث الآن لأهل العراق وأهل فلسطين وأهل أفغانستان .
? 4 - التوجه العارم نحو ضرب المفاهيم والقيم الإسلامية ، من خلال الإعلام والتعليم وتمييع ما سبق إحياؤه وتثبيته من قضايا مهمة تتعلق بالولاء والبراء والجهاد في سبيل الله وفريضة الحجاب ، وشرعة الحسبة والحكم بما أنزل الله ؛ حيث لم تتضح للإسلاميين خطة في مواجهة هذه الهجمة المرسومة قديماً والتي بدأ تطبيقها حديثاً .
? 5 - الحرب الأمريكية المفتوحة على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب ؛ حيث تكتفي الغالبية العظمى من الإسلاميين بالوقوف في أحد أبراج المراقبة عن بعد ، بانتظار مجيء الدور ، إما إدراجاً في قوائم الإرهاب ، أو تجميداً للأرصدة وتحديداً للأنشطة ، أو تهديداً بالتصدير إلى ( جوانتانامو ) .
? 6 - الإصرار من عموم الكفار على استهداف الحركات الإسلامية الجهادية المجمع على مشروعيتها ، وبذل كل الجهود في محاصرتها وخنقها ، بعد وصمها بالتطرف والإرهاب والخروج على الشرعية الدولية ، كما يحدث الآن ضد فصائل المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية ، والمقاومين الكشميريين و الأفغانيين وغيرهم من جماعات التصدي المشروع للعدوان على الحرمات والمقدسات .
? الإسلاميون ومعطيات عصر جديد :
عندما أعلن جورج بوش ( الأب ) عن قيام ما أسماه ( النظام العالمي الجديد ) بعد حرب الخليج الثانية ، لم يحالفه الحظ في إرساء معالم هذا النظام بسبب سقوطه السريع الذي حرمه من فترة رئاسية ثانية يُتم بها ما بدأه ، ولكن جورج الابن أراد أن يكمل نقص أبيه ، فشرعت الولايات المتحدة الأمريكية في عهده في رسم ملامح هذا النظام الجديد ، وتمخض هذا عن معطيات جديدة ، لا بد للعمل الإسلامي الذي سيستمر بإذن الله ألا يتجاهلها عند رسم برامجه الآنية ومخططاته الآتية المستقبلية ، ومما يخص المسلمين من هذا ( اللانظام ) ما يأتي :
أولاً : توجه العالم نحو نمط إدارة واحدة يكاد رئيس الولايات المتحدة فيها أن يكون ( رئيس العالم ) واتفاق هذا العالم شرقه وغربه مع الولايات المتحدة على ( شطب ) شيء اسمه نظام إسلامي ودولة تحكم بالشريعة وتقيم العقيدة مهما كان سبيل إقامتها ، سواء كان طريق مجيئها بالانتخابات النيابية ، أو الثورات الشعبية ، أو الانقلابات السلمية أو غير السلمية ، فلن ترضى الآن أمريكا ولا أوروبا ولا روسيا ولا حتى الصين بقيام مثل تلك الدولة وانضمامها للمجتمع الدولي ، اللهم إلا إذا كانت دولة إسلامية على الطريقة الأمريكية شبيهة بتلك التي قامت على الطريقة الروسية في الشيشان والتي بدأ العالم يعترف بها وبرئيسها العميل المعمم ( أحمد قديروف ) .
إن الخطر الذي سيلاحق الدولة الإسلامية المؤمل قيامها ، لن يكون قانونياً فقط برفض ( الأمم المتحدة ) الاعتراف بها ، بل قد تواجه الحظر السياسي والحصار الاقتصادي ، والتربص العسكري كما حدث لدولة الطالبان وقبلها دولة الشيشان وما قد يحدث لدولة السودان ، وهنا نقول : هل من المناسب في ضوء ذلك أن يظل هدف إقامة الدولة الإسلامية النموذجية في هذه المرحلة على رأس أولويات الحركات الإسلامية في أنحاء العالم ، كما كان العهد في العهود الماضية بحيث تتمحور حولها البرامج وتتركز التحركات ؟! أم يتحول الجهد إلى إزالة العقبات من أمامها ، وتأسيس الأرض الصلبة لإنشائها ؟!(39/495)
ثانياً : انتهاء عصر الاستقلال بانتهاك مفهوم سيادة الدول بالمعنى القديم المعهود وخاصة الدول الإسلامية ، حيث برزت في السنوات القليلة الماضية ظاهرة التدخل المباشر في شؤون الدول الضعيفة ، وتوجيه سيادتها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً ، دون الرجوع في أحيان كثيرة إلى من يفترض أنهم ( المسؤولون ) في هذا البلد أو ذاك ، ولن نضرب المثل بما يحدث الآن في أفغانستان أو العراق ، فذلك أمر قد فُرغ منه ، بل انظر إلى ما يحدث في باكستان و إندونيسيا و السودان ، حيث تُفرض الحلول الأمريكية فرضاً ، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى انتهاك المجال الجوي لبعض الدول من أجل تعقب من تطلق عليهم أمريكا ( الإرهابيين ) ، وما أمر اليمن منا ببعيد عندما دخلت الطائرات الأمريكية لتعقب سيارة مدنية بها أشخاص تشتبه بهم ، ومثلما حدث عندما أغار الأمريكيون في عهد كلينتون على كل من السودان وأفغانستان دون مقدمات بزعم ضرب أهداف معادية .
ثالثاً : التغيير الحاد في مفهوم ( سيادة القانون ) بما فيها القانون الدولي ؛ فمع ما ندين الله به من بطلان كل قانون بشري مخالف لشريعة الإسلام ، دولياً كان أو إقليمياً ، إلا أن تلك القوانين على عجزها عن تحقيق العدالة المطلوبة ، تقيَّد الآن ، لتكون شريعة الغاب أو الغرب هي سيدة الموقف ، بما فيها من تسلط وكبرياء وغطرسة ، لا تفهم إلا القوة ولا تعترف بحقوق الإنسان إلا إذا كان إنساناً غربياً أو بالأحرى نصرانياً أو يهودياً ! فأين سيادة القانون الدولي الآن مما يحدث في فلسطين ، وأين « سيادته » مما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان والبلقان وإندونيسيا والشيشان ؟! الأمر مرشح لمزيد من الفوضى القانونية الدولية ، وخاصة أن أمريكا تمضي قُدماً في تطبيق مفهوم ( الحرب الوقائية ) و ( الضربات الاستباقية ) التي ستغير كل ما كان معهوداً من أعراف تتعلق بإعلان الحروب واستعداد الشعوب لدخولها قبل أن تقحم بها .
إننا مقبلون فيما يبدو على عصر ( اللاقانون ) مع عصر ( اللانظام ) ، فإذا كان القانون الدولي يداس الآن بأقدام أمريكية ، فإن القوانين المحلية سيجري الجري فوقها لا مجرد دوسها ، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين ، ولذلك فإن الرهان على عودة الاستقرار في الساحات المتوترة ، لا ينبغي أن تفضل فيه الأسباب الخارجية عن الداخلية .
رابعاً : تعاظم دور الجاسوسية في العالم باسم ( المخابرات ) ؛ فالحرب العالمية ضد ما يسمى بـ ( الإرهاب ) يبدو أنها ستحتاج إلى تجييش الجواسيس من مستوى الخفير إلى الوزير ، بل إلى رئيس الدولة ، وما لنا نذهب بعيداً وبوش الأكبر ، الذي كان رئيساً لأكبر دولة ، تولى المنصب الأكبر في قيادة الجاسوسية الأمريكية حيث كان رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية ( CIA ) قبل تولي الرئاسة .
وكذلك فإن الدولة التي كانت تمثل القطب الثاني في العالم ( روسيا ) يترأسها الآن رجل الجاسوسية الروسية الضليع ( فلاديمير بوتين ) الذي كان ضابطاً في المخابرات السوفييتية ( KGB ) .
ولهذا لم نستغرب ولن نستغرب أن تكون أشهر المبادرات والتحركات السياسية الخاصة بالشرق الأوسط في الوقت الراهن يديرها قادة في المخابرات ، من أمثال ( جورج تينت ) الذي تولى منصب وكالة المخابرات المركزية منذ عام 1996م والذي وضع منذ فترة فترة ما يعرف بخطة ( تينت ) .
يبدو أننا أيضاً في عالمنا الإسلامي سنشهد بعد حقبة الحكومات العسكرية ، حقبة جديدة من الحكومات المخابراتية ! وهي حقبة سيحتاج فيها الإسلاميون ولا شك لطرق أخرى في التعامل مع الواقع .
خامساً : تقلص دور الحكومات في العالم النامي وأغلبه إسلامي بعد أن كرست أحداث السنوات الأخيرة عجز أغلب تلك الحكومات عن مواجهة التحديات ، وهذا سيضاعف من مسؤولية الشعوب في تحمل أعبائها بنفسها ، والإسلاميون شاؤوا أم أبوا هم طليعة تلك الشعوب ، وهم قادتها الحقيقيون ، ومع ذلك ويا للمفارقة فهم المعنيون قبل غيرهم بالعداوة الصليبية واليهودية الراهنة ، ولا خيار لهم في تحمل مسؤولياتهم المزدوجة في حماية أنفسهم وحماية الأمة .
سادساً : تحول وظيفة إنقاذ الأجيال إلى مهمة عسيرة ، في ظل اختراق الإعلام لخصوصيات الشعوب ، وهذا المعطى ليس خاصاً بالحرب الأمريكية على الإسلام وما تشكله من نظام دولي جديد ، بل هو من عوامل تغير الزمن ، وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ولكنه مؤثر على كل حال في أهم وظائف العمل الإسلامي وهو تربية الأجيال ؛ فبالأمس القريب كان الدعاة يتحدثون عن خطر ( الغزو الفكري ) وتأثيره الضار على الأجيال ، مع أن خطر الغزو الفكري وقتها ربما اقتصر على شرائح معينة تتعامل مع وسائل الثقافة والإعلام المخاطِبة للطبقة المتعلمة .(39/496)
أما اليوم فلم يعد الأمر أمر كتاب أو شريط أو فيلم ، وإنما أضحى طوفاناً من الفساد المبثوث عبر القنوات الفضائية والشبكات الحاسوبية ، أصبحت معه مهمة الدعاة بالغة الصعوبة في توسيع دائرة المنتمين للدعوة من الأجيال الجديدة ، بل إن الخطر لم يعد يحاصر الأطفال والفتيان والفتيات ، بل غدا يطارد الكبار أيضاً ، فأصبحنا بين خطرين : خطر العسر في المحافظة على مكتسبات عقود ماضية من شريحة الملتزمين بالدين بتآكل أطرافها ، وخطر المخاوف من تقلص الفرص في جلب شرائح جديدة إلى صفوف الملتزمين الجادين بسبب صعوبة التمسك بالدين في ظل انفجار تيار الفجور .
بمعنى آخر : نحن نسير بسرعة متهورة نحو ظاهرة ( خفة الدين ) ، ولا بد للدعاة أن يعكفوا على إيجاد حلول لتلك النازلة ؛ لأن المراحل القادمة في مصير الأمة لا يصلح للتعامل معها خفاف الدين ، صغاراً أو كباراً .
سابعاً : التحول من الهموم العامة إلى الهموم الخاصة ؛ فعلى مستوى المسلمين عموماً تكرست العزلة بين ما يسمى بـ ( العالم الإسلامي ) وبين ما يسمى بـ ( العالم العربي ) بفعل القوميات ، ثم تجذرت العزلة بين أجزاء كل عالم منهما بعد ذلك بفعل الوطنيات ؛ فالهَمُّ المحلي الآن هو منتهى اهتمام الجميع ، حتى إن بعضهم أضحى يقول : أنا ومن بعدي الطوفان ! ومن إفرازات هذه الظاهرة على الأرض ما يحدث الآن في فلسطين ؛ حيث جُردت قضيتها بشكل شبه نهائي من بُعدها العربي ، بعد فصلها عن بُعدها الإسلامي ، وأصبحت ( قضية العرب والمسلمين الأولى ) مجرد همٍّ فلسطيني ، وقس على ذلك الهم السوداني والأفغاني والشيشاني ، والبلقاني ؛ فالكل مشغول عن الكل بنفسه أثرة وشحاً ، أو عجزاً وضعفاً .
وأخشى ما نخشاه أن تنتقل هذه العدوى إلى العمل الإسلامي ، فتصبح كل ساحة منكبة على نفسها ، منغلقة على ذاتها ، تاركة هموم غيرها وراء ظهورها ، وبخاصة عندما يكون لحمل تلك الهموم ضريبة لا يريد الكثيرون دفعها .
? ضعفنا وقوتهم :
قد يكون المسلمون اليوم بالفعل أضعف من اللازم وهم مقبلون على منازلة ما ذكر من نوازل حاضرة ومستقبلة ، إلا أن ما عند الله تعالى من نواميس السنن ، كثيراً ما يجري بخلاف ما يظن البشر من عادات ومجريات الزمن ؛ فالضعيف قد يقوى بعوامل لم تكن مقدورة للبشر ولا منظورة ، والقوي قد يضعف بمستجدات مكتوبة وغير محسوبة .
والذي أشعر به أن الله تعالى يُودِع قوة المسلمين اليوم في ضعفهم ، كما يضع ضعف أعدائهم في قوتهم ، كحال وحوش كبيرة ثقيلة كاسرة ، محصورة في ميدان محدود ، تطاردها طيور صغيرة عنيدة في فضاء غير محدود ، فتهزم تلك الضعاف الخفاف بطلاقتها وخفة مؤنتها ، تلكم الوحوش المحشورة في مرابض الأشر والبطر ! طابق - إن شئت - هذه الصورة المتخيلة على ما حدث مع فرسان الصحابة حينما خرجوا من جزيرة العرب خفافاً وثقالاً ، ينازلون الفرس ويناوشون الروم وغيرهم من طواغيت العالم ، فهزوا عروشهم ثم أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ، وطابق الصورة على ما كان قبل الإسلام من غلبة المستضعفين المطاردين من أتباع موسى - عليه السلام - لطاغية ذلك العصر فرعون ، حيث جعل الله ذله على أيديهم ونهايته أمام أعينهم حتى قبل أن يُكتب الجهاد عليهم : [ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ](القصص : 5-6) .
ثم طابقها على ما كان بعد ذلك من قيادة داود الشاب - عليه السلام - لقومه المستضعفين المطرودين من أرضهم ، حيث جبر الله كسرهم فاقتحموا على الجبارين أبواب حصونهم : [ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ](المائدة : 23) .
فحين مد داود يده وأمسك بقطعة الحجر ، وقذف بمقلاعه نحو الجبار جالوت ؛ كان هذا إيذاناً بتحول موازين القوى ، وتغير الأوضاع لدى قومه ، فتحولوا من شراذم تفر أمام الأعداء إلى جيوش نظامية حقيقية لها وجود .
ولا تظن أخي القارئ أن زمان هزيمة الطغيان على أيدي المستضعفين من أهل الإيمان قد ولَّى ؛ فقد أرانا الله في عصرنا من هذا آيات ، ليس آخرها ما كان من انهزام إمبراطورية الإلحاد السوفييتي السابق ، ثم انهدام بنيانها وتفكك اتحادها ، تحت ضربات المستضعفين من المؤمنين من أنحاء الأرض آنذاك ، الذين جاؤوا في ذلك الوقت لنصرة إخوانهم الأفغان الذين استنصروهم في الدين ؛ فقد ادخر الله تعالى للمستضعفين منهم شرف إسقاط تلك القوة الطاغوتية الإلحادية الكبرى التي كانت تعد القوة العسكرية الأكبر في العالم وقتها ، هذا في حين لم يكن للمجاهدين فيه دولة فتحاصر ، ولا سفارات فتغلق ، ولا جيش نظامي فيدمر .(39/497)
صحيح أن أن أمريكا كان لها دور في الدعم من وراء ستار ، ولكن ذلك كان من تأييد المؤمنين بتسخير الكفار ، ثم انظر أيضاً إلى روسيا الصليبية الأرثوذكسية التي ورثت روسيا الإلحادية الشيوعية ؛ حيث أذل الله اتحادها الروسي الفيدرالي ، على أيدي المستضعفين الشيشانيين الذين لا يتجاوز عدد شعبهم 800 ألف نسمة ، في مقابل ما لا يقل عن 150 مليون نسمة هم سكان الاتحاد الروسي .
ونعيد نظرك بعد ذلك إلى ما حدث ولا يزال يحدث في فلسطين ، وإلى ما حدث ولا يزال يحدث في العراق ، حيث تُغير الطيور الحرة الطليقة ، بغايات شريفة ومؤن خفيفة على الديناصورات ذات الترسانات ، فتدمي أنوفها ، وتغرس الشوك في عيونها ، وتعلن للعالم أن قول الله تعالى : [ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ](البقرة : 249) .
لا يزال ، ولن يزال باقي الصلاحية في إحداث التغيير والفاعلية .
ومع هذا ، لا نقول للمسلمين عامة ، والإسلاميين خاصة حوِّلوا العالم كله إلى ساحات حرب وميادين نزال ، لا ...
، فلا تزال الدنيا تتطلع إلى سماع صوت دعوتكم ، قبل سماع سوط سخطكم على المتآمرين وصريخ ثأركم من الجبارين ، لا يزال المسلمون والبشرية كلها معهم في أشد الحاجة إلى فقه العالم منكم ، وثقافة المفكر ، وحلم السياسي ، وصبر المربي ، ومثابرة الداعية ، بما لا يقل عن الحاجة إلى مصابرة المرابطين ، ورباطة جأش المجاهدين في المشروع من الميادين ، لم نسدَّ بعدُ نحن الإسلاميين وإن كثرنا فرض الكفاية لأمتنا17 من الأطباء الشرفاء والمهندسين الأكفاء ، والمعلمين والمهنيين الذين يكفون الأمة عار أن تظل عالة على عالم الكفاية ، ليس مطلوباً من الإسلاميين فقط أن يكونوا خير الأدلاَّء على طريق النجاة في الآخرة ، بل المطلوب منهم أيضاً أن يكونوا في طليعة المصلحين للدنيا ؛ فصلاح الدنيا ، ورعاية مصالح الخلق مطلب شرعي أصيل ، وغاية التشريع الإسلامي الذي تشرئب إلى تحقيقه وتطبيقه كافة الفصائل الإسلامية ؛ هي الإصلاح فيما يمنع وفيما يمنح ، فيما يُحل وفيما يُحرم ؛ لأن من أنزل هذا التشريع سبحانه لا يريد بالناس إلا بيان الحق والهداية إليه وإصلاح الدنيا والآخرة به .
قال تعالى : [ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ](النساء : 26-27) .
وشريعتنا شريعة القرآن تتوخى مع إصلاح الخلق ، رعاية مصالحهم ولا أدل على ذلك من أن قسماً من الواجبات فيها يتعلق بكل ما يعود بمصلحة عامة ، وهذا القسم يتمثل في الواجبات الكفائية التي توجب كل ما من شأنه عزة المسلمين واستغناؤهم عن غيرهم .
والذين يظنون أن مهمة الإسلاميين هي تعليم الناس أحكام العبادات والمعاملات فقط ، هم مخطئون ؛ لأن عبادة العبد تعود إلى العبد ، ومعاملاته ترجع إليه ، والله تعالى غني عن العالمين ، فلم يجعل الشريعة قاصرة فقط على رفع درجة العباد في الآخرة ، بل شاملة لما يصلح شأنهم في الدنيا .
يقول الإمام الشنقيطي - رحمه الله - : « وإنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله جل وعلا غني لذاته الغنى المطلق ، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة ، ولكنه جل شأنه يشرِّع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين إليه لا لأجل مصلحة تعود إليه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً »18 .
? وبعد :
لم تنته بعدُ النظرات في النوازل ومنازلتها ؛ لأن موضوعها أكبر من أن يستوعب بنظرة متأمل ، أو قلم كاتب ، في سطور وصفحات ، وإنما تحتاج إلى دراسات ودراسات ، ومع هذا فالأمر لا يمنع من مساهمات قد تفتح مجالاً لحوار ، أو تلفت نظراً لمراجعة نظرية أو عملية .(39/498)
إن الأزمات التي واجهها وسيواجهها العمل الإسلامي يظل علاجها داخلاً في إطار الممكن والمشروع ، أمَّا ما ليس ممكناً ولا مشروعاً من الأعمال ؛ فإنه يطيل أمد النوازل من جهة ، ويضيع الجهود ويفرق الصفوف ويقوي الأعداء من جهة أخرى ؛ ولهذا فإن المواءمة والموازنة بين الإمكانية والمشروعية في العمل الإسلامي ، وتصفية خلاصة إيجابية منها من بين ركام المشروعات المستحيلة وغير المشروعة ؛ تحتاج إلى وعاء يجمع خلاصة فقه وفكر وتجربة خلصاء هذه الأمة ، وهنا لا يحتاج الأمر فقط إلى معالجات فقهية لنوازلنا وإن كان الفقه مفتاح الحلول وإنما يحتاج إلى عمل مؤسسي بحثي شامل يتبناه الأثرياء ، ويشرف عليه العلماء يتخصص في رصد مشكلات الأمة ونوازلها ورصد أزمات العمل الإسلامي في التعامل معها ، وتحديد ضوابط سيره ، وتجديد الدماء في عروقه بمعرفة عوامل قوته وأسباب ضعفه ؛ فمن غير المعقول أن تعقم عقول أمة تقارب ربع سكان المعمورة عن حل مشكلات حاضر غير مستقر ، بانتظار مشكلات مستقبل غير واضح ، في زمن لا يمهل المهمل حتى ينشط ، ولا المتأخر حتى يتقدم ، صحيح أن المشوار طويل ، ولكن نهايته محسومة لصالح ديننا الأغر ، وحضارته الباقية بلا دولة في مواجهة دولة الباطل القائمة بلا حضارة [ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض ](الرعد : 17) .
=============(39/499)
(39/500)
توجيهات إسلامية
بقلم
فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد
( رحمه الله )
بسم الله الرحمن الرحيم
(( الدعوة إلى الله طريقة الرسل ))
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . هذا أمر من الله جل شأنه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة وهو أمر للأمة وقد أمر الله رسوله بأن يدعو الناس كافة إلى سبيله وبأن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن فرتب الدعوة على حسب مراتب الخلق والدعوة إلى سبيله مستلزمة لبيان السبيل للمدعو إليه وقد بان هذا السبيل بالوحي الإلهي ما وضح قواعد الدين الاعتقادية والعملية فما قام دين من الأديان ولا مذهب من المذاهب ولا ثبت مبدأ من المبادئ إلا بالدعوة إليه ولا تداعت أركان ملة بعد قيامها ولا انتكث فل شريعة بعد إحكامها و لا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا وسببه ترك الدعوة . فيا أيها العلماء وحماة الدين ما لنا نرى الحق بدت معالمه تتضاءل وآثاره تعفو وتندرس ومذاهب الباطل تموه بالدعوة ويعم انتشارها. إن الإسلام بدأ يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم وأهملوا العناية بالدعوة إليه فوالله لو بقي للعلماء سؤر من الغيرة على دينهم لنفروا خفافا وثقالا للإرشاد والدعوة . فإن الأمة الإسلامية في مبدإ نشأتها قامت بالدعوة إلى دينها مُبينة للأمم سماحته شارحة حكمه موضحة محاسنه فقد أعطيت أمثل التعاليم وهديت إلى صراط مستقيم وبذلك امتد سلطانها واتسعت ممالكها وأخضعت من سواها لأوامر القرآن ونواهيه، ثم ما لبثت أن حرفت فانحرفت وتمزقت بعد ما اجتمعت. حرفت التعاليم الحقة واشتبه عليها الحق بالباطل وتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق. فأصبحت اليوم شيعا متفرقة لما أضاعت الحق والدعوة إليه ضاعت وهانت وصارت غثاء كغثاء السيل فلو أن الأمة الإسلامية تمسكت بدينها وعملت بكتاب ربها واتبعت سنة نبيها لكانت أرقى الأمم وأسعد الناس والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وظيفة العلماء
لا شك أن العلماء هم ورثة الأنبياء وواجب عليهم من الدعوة والإرشاد وتبصير الأمة ما لا يجب على غيرهم لأنهم خلف لهم في وظيفتهم كما قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) فما كان من سنن العلماء أن ينزلوا في بيوتهم ويقتصروا على مساجدهم وتعليم العدد اليسير من تلاميذهم؛ بل يلزمهم أن يتعرضوا للناس ويسعون وراءهم لتذكيرهم ووعظهم وغرس العقيدة الحقة في نفوسهم كما فعل موسى عليه السلام حيث ذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله، وكما كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يأتي القبائل في منازلهم وقريشا في أنديتها فيدعوهم إلى التوحيد الذي هو مدلول كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)، وينهاهم عن عبادة ما سواه ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) فعلى هذا جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالح رضوان الله عليهم بدعوة الناس إلى الخير وإرشادهم إلى طريق الهدى بالجد والاجتهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان محوطا بالأشواك والمكاره غير هيابين ولا وجلين، متدرعين بالصبر واثقين من الله بالأجر، فإن الإمام مالك لما قيل له: أتدخل على السلطان وهو يظلم ويجور؟ فقال: يرحمك الله، فأين يكون الكلام في الحق. وكان أبو الحسن الأشعري يذهب إلى مجالس المعتزلة ويقول إنهم الورياسة فمنهم الوالي والقاضي ولرياستهم لا ينزلون إلي فإذا لم أسر إليهم فكيف يظهر الحق ويعلمون أن لأهل السنة ناصرا للحجة فحق من قال للعلماء قوموا بواجبكم نحو أمتكم دلوهم إلى الخير ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، أدوا الأمانة العليمة التي في أعناقكم والتي أخذ الله عليكم الميثاق في بيانها وإرشاد الناس إليها فإن "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا" قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما أتى الله عالما علما إلا أخذ عليه الميثاق لا يكتمه وقال أيضا رضي الله عنه ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا محق من يوجه سهام اللوم نحو العلماء في تخليهم عن تذكير الأمة ودعوتهم إلى الحق حتى قام به الجهلة وتقدم إليه الأدعياء ممن لا يحسنون هداية الناس وإرشادهم وتهذيب أخلاقهم وتثقيف عقولهم بل هؤلاء في حاجة ماسة إلى إصلاح أنفسهم وأحكام دينهم على وفق الكتاب والسنة وتصحيح عقائدهم بالهداة والمرشدين. محق من قال للعلماء أتنم رعاة الأمة والمسئولون عنها في إصلاح أوضاع دينها وتقويم أخلاقها وتهذيب نفوسها وتبصرها بطريق الرشاد فكل راع مسئول عن رعيته.
ومن رعى غنما في أرض مسبعة
ونام عنها تولى رعيها الأسد(40/1)
وحين قصر رجال العلم عن واجبهم وتخلوا عن وظيفتهم ورضوا بالانزواء في بيوتهم تصدى لإرشاد الأمة وتعليم الشبيبة غير الأكفاء من الجهلة وأولي الأهواء ممن فسدت عقيدتهم فكانت النتيجة ما ترى مما يحتاج الى جهود جبارة في ازمنة عقيدتهم فكانت النتيجة ما ترى مما يحتاج إلى جهود جبارة في أزمنة طويلة يتصدى لها جمع كثير من أولي الدين والرأي والغيرة والشجاعة لإعزاز دين الله وإعلاء كلمته وغرس العقيدة الصحيحة لا عزاز دين الله واعلا كلمته وغرس العقيدة الصحيحة في قلوب النشئ بالوسائل المؤثرة والأساليب المقنعة بعد إعداد كامل العدة والحصول على الذخيرة التامة مع مراعاة الرفق واللين وسعة في الصدر ومع صدق في النية وإخلاص في العمل والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
دعوة المرسلين
يقول الله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الحكمة في خلق الجن والإنس وهي أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ومن المعلوم أن من عبد الله ولكن عَبَدَ معه غيره أنه لم يعبد الله وحده بل أشرك معه في عبادته، فالإشراك في عبادة الله مفسدة لها كما يفسد الحدث الطهارة. فإن الله سبحانه وتعالى أمر بعبادته وحده ولذلك يقول ابن عباس كل ما ورد في القرآن "اعبدون" فالمراد وحِّدون، والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، فإن لا نافية للجنس، فقد نفت جنس الإله أن يكون أحد منهم يستحق التأله بحق أو يصرف شيء من العبادة له، ثم أثبت بقوله إلا الله العبادة لله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه ليس له شريك في ربوبيته وهذا هو قول الخليل عليه السلام ( إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ) فاستثنى من المعبودين ربه وتبرأ مما سواه فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لانفصام لها، وهذا المعنى في القرآن والسنة كثيرجدا وهو حقيقة ما دعت الرسل إليه أممهم قال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )، ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) إذا عرفت هذا علمت أن من صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك بالله والشرك مبطل للعمل فمن أنواع العبادة التي أمر الله بها ولا يجوز صرفها لغيره الدعاء والاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والخشية والرغبة والرهبة والتأله والخشوع .
فمن دعا أحدا غير الله من الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو غيرهم من سائر المخلوقات. فقد أشرك بالله ودخل في وعيد الله بقوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) قال تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) الآية فقد سمى الله الدعاء عبادة بل هو العبادة كما في الحديث الصحيح . ونهى سبحانه أن يدعى معه أحد كائنا من كان . قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وكذلك من ذبح لغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره قال الله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) وقد فسر العلماء النسك بالذبح . وكذلك النذر لا يجوز أن ينذر لغير الله ومن نذر لغير الله حرم عليه الوفاء به . وإنما الذي يجب الوفاء به هو إذا كان لله كما قال تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) ويقول تعالى : ( أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا )، ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)، ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )، ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )، (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)، ( أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له )، ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله )، ( فلا تخشوا الناس واخشوني )، ( إنهم كانوا يدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )، ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) .
إذا عرفت حقيقة التوحيد وما دعت إليه الرسل أممهم علمت أن من فعل ما نهى الله عنه أو رسوله أو ترك شيئا مما أمر الله به ورسوله فقد حصل عليه من الخلل والنقص في دينه بحسب ما فعل من المنهي عنه أو بحسب ما ترك من المأمور به فقد يخرج من الإسلام وهو لا يشعر وقد ينقص توحيده وهو لا يعلم ومن ذلك ما يفعله بعض المنتسبين للإسلام من دعاء الأموات والغائبين ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملك ذلك لغيره وسواء كان المدعو رسولا أو نبيا أو مَلَكا أو وليا أو شمسا أو قمرا أوغير ذلك من سائر المخلوقات. وإن كان الداعي يعلم أن الله هو الخالق الرازق وأن بيده الأمر كله ولكنه يطلب ممن يدعو أن يشفع له عند الله فإن ذلك مناف للتوحيد كما قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) .(40/2)
ولذلك حذر صلى الله عليه وسلم أمته من البناء على القبور وتجصيصها واتخاذ السرج عليها . كل ذلك خوفا من أن يكون وسيلة إلى الصلاة عندها ودعاء الميت والاستغاثة به فمما ورد عن صلى الله عليه وسلم في ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمها كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته)، وساق بسنده عن جابر قال: نهى رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يجصص على القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه )، وساق عن ثمامة قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي فقال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها) . وقال الترمذي : باب ما جاء في القبور : حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن وائل أن عليا رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته)، وقال في الباب عن جابر رضي الله عنه وقال ابن ماجة في باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها : حدثنا زهير بن مروان حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول ا صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور)، حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا حفص بن عثمان عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال نهى رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء) . حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم ابن مخيمرة عن أبي سعد أن صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور) .
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم : قال الشافعي في الأم :
(رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى)، ويؤيد الهدم قوله :(ولا قبرا مشرفا إلا سويته)، وقال الأذرعي في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء. وفي الترمذي وغيره النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها .(40/3)
والوصية باطلة: قال الأذرعي : (والوجه في تحريم البناء على القبور المباهاة والمضاهاة بالجبابرة والكفار، والتحريم يثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القبور وغيرها من الأبنية العظيمة في إنفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك).اهـ كلام الأذرعي رحمه الله . وقد روى أ بو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه) و (نهى رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها) كما تقدم في صحيح مسلم وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله : ( باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها حدثنا عبد الرحمن بن الأسود حدثنا محمد بن ربيعة عن بن جريح عن أبي الزبير قال نهى رسول الله أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ) هذا حديث حسن صحيح وقال أبو داوود : (باب البناء على القبور ) حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن جريج قال حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( نهى أن يقعد على القبر وأن يجصص وأن يبنى عليه) اهـ إذا تبين ذلك فهذه أحاديث رسول ا صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة لا مطعن فيها ولا مغمز شاهدة على أن وضع القباب والبناء على القبر والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها وإسراجها أمر تقرر في الشرع منعه . تحذيرا لنا أن نسلك سنن من قبلنا . وإذا تأمل الناظر أعيان ما صح فيه النهي من الشارع في هذا الباب ( عرف حقيقة ما نهى عن صلى الله عليه وسلم : قال النووي وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة ونحو ذلك وكل ذلك حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أويهوديا، نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح قبل ذلك مسلما صار بالذبح مرتدا، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول ا صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله ) قال القرطبي رحمه الله وإنما صوروا تلك الصور ليتأسوا بهم ويعملوا أعمالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر ما يفعله المشركون عند القبور فلأجل هذه المفسدة حسم صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة في صلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة .
وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالإضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأن صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. اهـ . وروى مسلم عن جندب ابن عبد الله قال سمعت صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم ـ كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول ا صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغة لاتفعلوا وأني أنهاكم عن ذلك ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه ولم يخش ربه ومولاه . وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله .(40/4)
ـ وقال رحمه الله يجب هدم القباب التي بنيت على القبور لأنها أسست على معصية الرسو صلى الله عليه وسلم وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي والظهير الترمذي وغيرهما قال الإمام الصنعاني رحمه الله في تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد بعد أن ذكر فصولا نافعة بين منها أقسام التوحيد وأنواع العبادات (فصل ) الاعتقاد في غير الله شرك: قد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به إلى أن قال : واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الأوثان فضلا عن من ينذر بماله وولده لميت أو حي أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا الله تعالى من الحاجات من عافية مريضه أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب من مطالب فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا فالأسماء لا أثر لها ولا تغير المعنى ضرورية لغوية وعقلية وشرعية . فإن من شرب الخمر وسماها ماءً ما شرب إلا خمرا وعقابه عقاب شارب الخمر ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية إلى أن قال وكذلك تسمية القبر مشهدا ومن يعتقدون فيه وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأ صنام ويطوفون بها طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمونها استلام أركان البيت ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم على الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها . قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح الصدور بتحريم رفع القبور : اعلم أنه قد اتفق سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد صلى الله عليه وسلم لفاعلها كما يأتي بيانه ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين اهـ . قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم على حديث جندب رضي الله عنه: قال العلماء: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره واتخاذ قبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية وقال الشيخ محمد صديق حسن القنوجي البخاري في كتابه الدين الخالص: وأما فتنة القبور فقد أدت إلى الشرك بالله في صفاته الخاصة به عز وجل وطال ذيولها وسالت سيولها وأولدت فتنا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى إلى أن هجرت عبادة الرب وجعلوه معطلا وصارت العبادة كلها للأموات واعتقدوا فيهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في خالق الكائنات وابتدعوا لهم أنواع التصرفات في العالم وابتلي بذلك كل جاهل في الدنيا والعالم وصارت القبور قبلة الحاجات وكعبة المرادات واستراحوا في الاستغاثة لغير رب الأرباب وجعلوا للموتى المشاهد وبنوا لهم ألوانا من القباب ولم يعلموا أن هذه الافتعالات مضادة للشريعة الحقة ماحية للسنن الصادقة فإنا لله وإنا إليه راجعون . ولا شك أن أصل شرك العالم طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولاضرا فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه يقول تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. ولذلك لما قال أبو هريرة رضي الله عنه من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" وجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو جعله وساطة بينه وبين الله من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة .(40/5)
فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلو قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص للأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص بأنهم ظنوا أو يعتقدون أنهم راضون عنهم بهذا وأنهم أمروهم به وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستعجبين لهم ؟ ومن جمع بين معرفة رسول ا صلى الله عليه وسلم في القبور وعرف ما أمر ب صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وعلم ما عليه أصحابه والسلف الصالح ورأى ما عليه أكثر الناس اليوم رأى بينهما فرقا عظيما ومخالفة صريحة لسنن صلى الله عليه وسلم ف صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها وهؤلاء يوقفون الأوقاف على إضاءتها ونهى أن تتخذ أعيادا وهؤلاء يتخذونها أعيادا وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن جابر ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي عن جابر ونهى أن لا يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن جابر وهؤلاء يتخذون عليها القباب ويكتبون عليها القرآن ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال إلى أن شرعوا للقبور حجا . وانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسو صلى الله عليه وسلم لأمته وما شرعه هؤلاء ونحن لا ننكر ما لأولياء الله من الفضل العظيم عند الله، قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون) ولكن لا يلزم من هذا دعاؤهم والاستعانة بهم والتوجه إليهم في طلب الحوائج وكشف الشدائد بل هذا لله وحده وإنما ينبغي الاقتداء بأفعالهم والاهتداء بأقوالهم ما داموا متبعين للكتاب والسنة لا يأمرون ولا ينهون إلا وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
من محاسن الإسلام(40/6)
لا شك أن الدين الإسلامي دين سماوي لم يكن لأمة من الأمم مثله ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيره إذ هو دين عام مبين لأحوال المجتمع الإسلامي بل البشرية عامة وبه كمل نظام العالم فهو جامع شامل للمصالح الاجتماعية والأخلاقية. فإنه بين الأحوال الشخصية التي بين العبد وبين ربه من صلاة وزكاة وصوم وحج. وشرع نظافة البدن فأمر بغسل الجنابة والجمعة والعيدين . أو بعضا كالوضوء عند كل فريضة من الفرائض الخمس. وشرع أمور الفطرة من ختان وقص شارب وتقليم أظافرونتف إبط والسواك وحلق العانة. كما أرشدنا الإسلام إلى تجميل الثياب و أن تكون على أحسن هيئة وأكملها . كما سن ذلك في العيدين والجمعة وهذب الأخلاق فأمر بالصدق في المعاملات والوفاء بالعقود والعهود والمواعيد. وأوجب ترك الذنوب من زنى وخمر وغيبة وقذف وسعاية وشهادة زور وانحراف في الأحكام وتحريف لما أباح الله وحَرَّم تَغْييرَ الأحكام عن وجهها وما أريد بها، إلى غير ذلك. وبالجملة فإن الدين الإسلامي جامع لروابط الأمة الإسلامية بل هو حياتها تدوم بدوامه وتنعدم بانعدامه وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة ومن خصائصها . حيث لم يكن لأمة من الأمم قبلنا مثله فلو أن المسلمين تمسكوا بأحكام الإسلام وتعاليم دينهم كما كان آباؤهم الأماجد لكانوا أرقى الأمم وأسعد الناس ولكن لما انحرفوا وحرفوا تعاليم دينهم تنكبوا عن الصراط السوي. وقد جعل الإسلام للفقراء حظا في مال الأغنياء بالزكوات والكفارات لطفا بهم وإحسانا إليهم ورحمة بالأغنياء وتكرمة لهم وتحصينا لأموالهم وشرع الإسلام الحج ليشهدوا منافع لهم فتتوافد إليه سائر الأمم الإسلامية ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به لينتفع بعضهم من بعض من علومهم وأحوالهم ويحصل بذلك التعارف والتعاون والتآخي ولما في ذلك من إعانة أهل الحرمين الشريفين ليكونا مركزين عظيمين للإسلام وهذا بعض من مقاصد الحج. كما قد شرع الإسلام اجتماعات أخرى أصغر وأيسر في الجمع والأعياد. وبين أحكام المعاملات من بيع وربا ورهن وقرض وإجارة وشركات ووكالات وحوالة وعارية وغيرها من المعاملات المالية التي تقتضيها القاعدة التي عليها مبنى علم الاجتماع البشري. وبيَّن الإسلام كيف تقام البيوتات وتؤسس العائلات فندب الى الزواج وحث عليه ورغب فيه. وبين العقود التي تعتبر زواجا ووضح شروطها من رضا وولي وشهود وغيرها وما خالف ذلك فهو سفاح أو قريب منه وأمر بسدل الحجاب للنساء صيانة للنسل وإبعادا للمظنة. وراحة لكل ضمير. وبين أحكام الجنايات كالقصاص في النفس والطرف وما يشترط لذلك كما بين ما يلزم لحفظ المجتمع العام من نصب إمام وشروط استحقاقه للإمامة وما يجب له من طاعة وما يجب عليه من المشورة والعمل بالشريعة وإقامة العدل بين أصناف الرعية. ثم إن الإسلام قسم السلطة فجعلها خططا منها القضاء فحدد للقاضي خطته من فصل الخصومات والنظر في أموال غير المرشد والحجر على من يستوجب إلى غير ذلك وبين خطة الشاهد كيف تحمل الشهادة وأدائها وممن تقبل وعلى من ترد وأمر بإثباتها وعدم كتمانها. كما بين خطة المحتسب ثم بقية الخطط. وبين حكم من خرج عن طاعة الإمام بأن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله . وبين كيف نعامل الأمم الأجنبية فيما إذا وقع الحرب معها. وفي حالة مسالمتها. وأمر بتحسين الجوار . وإقامة الحدود على من أخاف السبيل وخالف ما أمرت به الشريعة. وبالجملة فقد استقصى هذا الدين الإسلامي العظيم جميع الشئون الاجتماعية وبينها أحسن بيان مما يعجز عن مثله عقلاء البشر حتى دخل مع الرجل في بيته وحكم بينه وبين امرأته وبين ماله عليها من الحقوق ومالهاعليه من مثل ذلك . وبين ما عسى أن يقع بينهما من خلاف في المستقبل. كما حكم الإسلام بين الرجل وبين ولده وبينه وبين نفسه في حياته وبعد وفاته كأوقافه ووصاياه وما يصح منها وما لا يصح. وقسم مواريثه وبين أحكام تغسيله وتكفينه ودفنه كل هذا لأجل أن تنتظم الحياة انتظاما كاملا ويعيش المسلم عيشة هنيئة منتظمة ليتمكن معها لإعداد الزاد ليوم المعاد والتأهب لما بعد الموت فالدين الإسلامي نظام عادل للمجتمع البشري الإسلامي، فإنه تام الأحكام ثابت المباني . دين سماوي لم يدع شاذة ولا فاذة إلا بينها أحسن بيان . ووضحها أتم إيضاح وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجا أفواجا واتسعت دائرة الإسلام فانتشرت الأمة الإسلامية مَادَّةً جناحها من نهر الفاتح في الهند شرقا إلى أفريقيا ثم أوربا في زمن قليل إلا باحترام الحقوق والعمل بقواعدالإسلام والتسوية بين طبقات المسلمين ملكهم وصعلوكهم وصغيرهم وكبيرهم فيه على السواء : فالأمة الإسلامية لا حياة لها ولا استقامة بدون التمسك بدينها والعمل بأوامره ونواهيه فهي دائمة بدوام دينها مضمحلة باضمحلاله ساقطة إذا أهملت تعاليم دينها القويم كما قال بعض أعداء المسلمين. فقد كانت الأمم تقتبس من قواعده وأصوله وتختاره على كثير من قوانينها الوضيعة فأنصف الإسلام كثير من عقلائهم واعترفوا أن مدنية أوربا الحديثة لم تكن إلا بتعاليم الإسلام والأخذ بقواعده ومبانيه قال بعض حكماء أوربا ممن(40/7)
أنصف أن نشأة مدنيتها الحديثة إنما كانت رشاشا من نور الإسلام في الأندلس ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين في الغرب والشرق وفق الله المسلمين للتمسك بدينهم، والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
أيها المسلم الكريم قف معي قليلا لنفكر سويا في ماضي أمتنا المسلمة وما كانوا عليه من عزة وهناء وما كان لهم من ملك واسع وعدل شامل ومنعة ونفوذ ومهابة لا مثيل لها في جميع أنحاء المعمورة دون أن تكون لهم جيوش مؤلفة أو أساطيل قوية تمخر البحار أو دبابات تجوب البراري والقفار أو طيارات سابحة في الفضاء أوصواريخ تقذف بعيدة المدى ، وما نحن فيه اليوم ويا للأسف من ذل وفرقة ومهانة وعزلة رغم كثرة عددنا وعظم قوتنا وكل ذلك نتيجة لما حصل بين المسلمين من تنافر وتطاحن وتهاجر وتشاحن وإعراض عن كتاب الله وسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فإن الأمة الإسلامية لو رجعت إلى قول الله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) فالإسلام حين سطع نوره في مكة المكرمة وارتفع صوته من المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها رسول ا صلى الله عليه وسلم وجد القبلتين العظيمتين اللتين رفعتا لواء الإسلام ونصرتا رسول ا صلى الله عليه وسلم متفرقتين فجمعهم الله بهداه بعد فرقتهم وبين لهم الرسو صلى الله عليه وسلم أن الإسلام لا يقوم على العنصرية أو الشعوبية ولا على القومية والجنسية ولا يقوم على تفرق في العقيدة أوالرأي أو الوجهة فإن الدعوة المشوبة بذلك يكون مالها الفشل ومصيرها الفناء وبين صلى الله عليه وسلم الطريق السوي لسعادة الدارين وعرفهم أن دين الإسلام بني على التعاون على الحق ومحو فرقة الجنسية وتلى عليهم قول الله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وجاء (كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي إلا بتقوى الله) وبين لهم أن الله واحد وأن نبي الإسلام واحد وأن القبلة واحدة وأن كتاب الله واحد لا يجوز العمل بغير هداه فعلى هذا يجب أن تكون كلمة المسلمين واحدة فجمع الله شملهم ووحد كلمتهم وقضى على الفرقة التي كانت بينهم وأصبحوا إخوة متحابين ورجالا مؤمنين كلمتهم واحدة ووجهتهم واحدة تحت راية الإسلام القوية التي لا تفضل أحدا على أحد إلا بتقوى الله عز وجل، فقد رفع الإسلام أقواما كانوا في ذلة ومهانة ، ووضع أقواما كانوا في أعلى قمة المجد ومنتهى السؤدد فلما لم يؤمنوا بالإسلام وضعهم الله فكانوا في أسفل سافلين ورحم الله القائل:
(لقد رفع الإسلام سلمان فارس
كما وضع الشرك الشقي أبا لهب )
أخي المسلم إذا اتحدت قلوب الأمة على الحق وتألفت نفوسها على الخير وطهرت مجتمعها من الرذيلة وتعاون أفرادها وجماعاتها على البر والتقوى نالوا الخير العظيم والسعادة الأبدية وفازوا بالرقي المحمود وشيدوا بناء مستقبلهم على أساس من الدين ونور من رب العالمين ، أما إذا سادت دعوة القومية والعصبية والشعوبية والعنصرية وحصل الشقاق ووجد التفرقة والتناحر كانت المصيبة العظمى والطامة الكبرى التي تهدم بنيا ن الأمم المشيد وتقضي على حضارتها وتحكم على مستقبلها بالذل والتقهقر وتنذرها بوخامة العاقبة وسوء المصير، فمن أجل ذلك نهى الله الأمة الإسلامية عن التناحر والإختلاف وحذرها من التفرقة والإنحراف وتوعدها بالفشل والإتلاف فقال تعالى: (أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) هكذا أيها المسلم الكريم يرشدك ربك إلى ما هو في صلاحك دينا ودنيا ، فقف معي قليلا لنرجع إلى سيرة أسلافنا الكرام وما كانوا عليه من شرف رفيع وعز منيع وقوة قاهرة قهرت كل جبابرة العالم والتي سقط أمامها عروش الظلم والطغيان وأوكار الإستبداد والعصيان ومعاقل الكبرياء الجوفاء والعز الموهوم، فقد تمكن أولئك الأسلاف الأمجاد من نشر لواء الإسلام في جميع أصقاع المعمورة وبسطوا لواء العدل والمساواة بين أفراد الأمة ولم يكن ذلك كما قدمنا بكثرة العدد ولا بقوة العدة ولكنه والله يعلم إنما كان بسبب اتصافهم بالإيمان وتمسكهم بدينهم القويم وتحاكمهم إلى القرآن مع صدق في الأقوال والأفعال ووفاء بالوعود والعهود وحب بعضهم لبعض وإخاء في الله واتحاد كامل في جميع ميادين الحياة "يأهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن".(40/8)
أخي السلم إذا نظرنا إلى الفجوة السحيقة التي تردى فيها بعض أبناء المجتمع الإسلامي اليوم توضح مدى ما وصلوا إليه من المخالفة الصريحة لأوامر الله ورسول صلى الله عليه وسلم والدلائل على ذلك بارزة يلمسها كل من رزق أدنى مقدار من الإيمان وأكبر دليل على ما تقدم هو وجود هذه التناحرات التي مني بها العالم الإسلامي من الدعوة إلى القومية والوقوف إلى جانبها ونبذ الدعوة الإسلامية ومعاداة من دعا إليها وهي الأساس لهذا الدين الحنيف والرمز لمحاسن الشرع الشريف والعنوان لمجد الإسلام المنيف.
إن المجتمع الإسلامي قد أصيب بتشعب الآراء وتباين مذاهب الناس وتغيرت وجهات الأمة وأصبح العالم الإسلامي يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال لا يدري ما الله صانع فيه ، وإن الذي يضمن السعادة والنجاح ويحقق الفوز والفلاح هو الرجوع إلى الله والسير على هدى كتاب الله الذي أنزله نورا وبرهانا والتمسك بسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم والعمل بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)، وقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والتزام تحكيم كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم والرجوع إليهما فيما شجر بين الأمة من اختلاف في الرأي أو الوجهة عملا بقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) ولا يتحقق ذلك إلا بفرض القوانين الوضعية المستوردة من الخارج والدخيلة على ديننا وأمتنا وبلادنا والتي مصدرها آراء الملاحدة ومفكروا أعداء الإسلام ذلك لأن شريعتنا الغراء كاملة لا تحتاج إلى سواها وفيها ما يغنينا عن غيرها إن نحن رجعنا إليها وحكمناها في جميع شئوننا فإن الله تعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) هذا ونسأل الله أن يوفق قادة الأمة وزعماءها إلى الإحتكام إليها في جميع ميادين الحياة إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من أحكام الحج(40/9)
وبعد: فلما كان في السنة العاشرة من الهجرة النبوية نادى منادي رسول ا صلى الله عليه وسلم المسلمين بعزمه على الحج وأعلم الناس بذلك كي يتأهبوا للحج مع صلى الله عليه وسلم ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أحواله وأفعاله ويستمعوا إلى أقواله وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد ويبلغ الشاهد الغائب ما رأى وما سمع من أفعال وأقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس الاقتداء والاهتداء برسول ا صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثله فخرج رسول ا صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة وخرج معه أصحابه الكرام وعددهم ينوف على المائة ألف حتى إذا كان بالبيداء استوت به ناقته والناس عن يمينه وشماله ومن خلفه وأمامه وهو يتوسطهم أهَلَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بإهلاله قال جابر أهللنا مع رسول ا صلى الله عليه وسلم بالحج. وأصبح ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام أهل بالحج والعمرة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (أتاني آت من ربى في هذا الوادي المبارك وقال قل عمرة في حجة) وهذا من أدلة إدخال الحج على العمرة ولا عكس. ثم سار رسول ا صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة وبات بذي طوى واغتسل فيها ثم سار ودخل البيت من ثنية كداء من أعلى مكة وهي الثنية العليا بالحجون حتى أتى البيت واستلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا والرَّمَلُ مشروع للرجال وهو المشي السريع مع تقارب الخطى ويقال له الخبب ويكون في الجهات الثلاث من البيت الشرقية والشامية والغربية وشرع لإغاظة الكفار حيث قالوا يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى فأطلع الله نبيه بما قاله المشركون فأمر أصحابه بالرمل وقعد المشركون على جبل قعيقعان ولما نظروا إليهم قالوا والله ما بهم من بأس وإن هم إلا كالغزلان. ويضطبع الطائف في طواف القدوم وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ومنكبه الأيمن مكشوف ثم نفذ رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين قرأ بعد الفاتحة في الأولى بقل يا أيها الكافرون. وفي الثانية بعد الفاتحة بقل هو الله أحد. ويجوز للطائف أن يصلي ركعتي الطواف في أي جزء من أجزاء الحرم. ثم رجع رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه فخرج من باب الصفا فلما دنا منه قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى شديدا حتى صعدتا فمشى ولا يشرع السعي للنساء حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا وكان آخر طوافه على المروة وقال عليه الصلاة والسلام أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة) فحل الناس ولم يبقى على إحرامه إلا صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي وقال لهم (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) ثم مكث رسول الله ومن معه بمكة حتى اليوم السابع فخطب الناس بعد صلاة الظهر بها وأخبرهم بمناسكهم وأمور حجهم وأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى ولما كان اليوم الثامن وهو يوم التروية توجه صلى الله عليه وسلم إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر . وأداء هذه الصلوات الخمس والبيتوية في هذه الليلة في منى سنة بالاتفاق وليس على من ترك ذلك شيء ثم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب راحلته وأمر بقبة له من شعر تضرب بنمرة لينزل بها فسار ولم يقف بالمشعر الحرام ثم واصل سيره قاصدا عرفة فوجد القبة قد ضربت بنمرة وهي ليست من عرفة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر براحلته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس خطبته المشهورة التي جمع فيها أحكام الحج وبينت المناسك وما يجب للناس وما عليهم وبينت ما للمسلمين من حرمة في دمائهم وأعراضهم وأموالهم ووضع كل أمر كان في الجاهلية ووضع دماءها وأنه لا قصاص في قتلها وأول دم وضعه دم قريب له هو دم ربيعة بن الحارث كان مستعرضا في بني سعد وأبطل أفعال الجاهلية وبيوعها (التي لم يتصل بها قبض ) وأبطل الربا الذي كان المشركون يتعاملوا به وأول ربا وضعه ربا عمه العباس بن عبد المطلب وأوصى بالنساء ما لهن وما عليهن وأوصى أمته بالتزام كتاب الله وسنته وأن من تمسك بهما هدي إلى صراط مستقيم ومن اهتدى بهما فلن يضل ومن احتكم إليهما فاز بالسعادة الأبدية ومن استضاء بنورهما قادتاه إلى رضوان الله ومن طلب الهدى من غيرهما فقد تنكب عن سواء السبيل ثم أذن مؤذن صلى الله عليه وسلم ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر جمعا وقصرا ولم ينتقل(40/10)
بينهما ثم ركب ناقته حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة واستمر واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة وقال وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرفة وصعود الجبل غير مشروع ولا أصل له ويمتد وقت الوقوف إلى طلوع فجر اليوم العاشر بدليل ما رواه عبد الرحمن الديلي أن صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات ليلا أونهارا فقد تم حجه وقضى تفثه) ولما رواه أبو داود أن صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) ولما غاب القرص وذهبت الصفرة دفع الرسو صلى الله عليه وسلم مردفا أسامة خلفه وتوجه إلى المزدلفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ويقول للناس عليكم بالسكينة حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين جمعا وقصرا ولم يسبح بينهما ثم نام حتى طلع الفجر فقام وصلى ثم سار حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا ربه وقال هذا الموقف وكل المزدلفة موقف وفي أي جزء من أجزاء المزدلفة بات الحاج أجزأه ثم دفع طلوع الشمس وأردف الفضل بن عباس وسار حتى أتى بطن محسر فحرك راحلته وأسرع في المشي فيه واستمر في المشي حتى أتى الجمرة الكبرى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم انصرف إلى المنحر فنحر بدنه وجميع بدنه مائة ناقة منها ثلاث وستون بدنه ساقها معه من المدينة ونحرها بيده الشريفة وسبع وثلاثون بدنة جاء بها علي من اليمن ووكله صلى الله عليه وسلم في نحرها وأشركه في هديه وأكلا من لحمها وشربا من مرقها وقال نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ثم حلق رسول ا صلى الله عليه وسلم ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة وقال: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) ثم وقف عليه الصلاة والسلام فجعل الناس يسألونه فقال رجل لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج وجاء آخر وقال لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال اذبح ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج والأمور المتعلقة بيوم النحر أربعة رمي الجمرة الكبرى ونحر الهدي للإبل وذبحه لغيرها والحلق أو التقصير والطواف وترتيب هذه الوظائف على هذا النحو سنة لفعل صلى الله عليه وسلم ومن عكس ناسيا أوجاهلا أو متعمدا فلا حرج وخطب رسول ا صلى الله عليه وسلم يوم النحر خطبة قال فيها (أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس يوم النحر؟ قلنا بلى. قال أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذي الحجة؟ قلنا بلى. قال أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. قال أليس البلد الحرام؟ قلنا بلى . قال فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا نعم. قال اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ثم توجه إلى البيت العتيق فطاف طواف الإفاضة وأتى زمزم فشرب ثم عاد إلى منى للمبيت بها لوجوبه إلا السقاة والرعاة ومن في حكمهم فقد رخص لهم في البيوتة وأن يجمعوا الرمي في اليوم الثالث ليومهم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني. ورمى رسول ا صلى الله عليه وسلم الجمار بعد زوال الشمس وعرض عليه بناء يظله من الشمس فقال لا إنما هو مناخ لمن سبق إليه ولا بد من حصول الحجر في المرمى فلو لم يحصل فيه لم يجزه الرمي ولا بد من الترتيب في الرمي حيث يبدأ الرامي في الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الكبرى التي هي في منى وخطب رسول ا صلى الله عليه وسلم ثاني أيام التشريق خطبة علم فيها أصحابه حكم التعجيل والتأخير وتوديع البيت ونفر رسول ا صلى الله عليه وسلم متأخرا ونزل في المحصب وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد في المحصب وهو خيف بني كنانة والمعروف اليوم بالأبطح ثم ركب حتى أتى البيت الحرام فطاف به مودعا وهو واجب على من أراد السفر والخروج من مكة إلى وطنه عملا بقول صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) وفق الله المسلمين لما يرضيه وتقبل منا ومنهم بمنه وكرمه آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
=================(40/11)
(40/12)
مغالطات القاسم والسكران في بحثهما عن المناهج الشرعية بالمملكة العربية السعودية المقدم إلى مؤتمر الحوار الوطني الثاني
كتبه
سليمان بن صالح الخراشي
1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويُتخطف الناس من حولهم ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ).
قال تعالى : ( أولم نمكن لهم حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيئ رزقًا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ).
قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دارالبوار ).
قال تعالى : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يُصلحون ).
ولاتحتقر كيد الضعيف فربما
تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هد عرش بلقيس هدهد
وخرّب فأر قبل ذا سد مأرب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وآله وصحبه .. وبعد:
فلم يعد يخفى على عاقل ما منَّ الله عز وجل به على بلادنا (المملكة العربية السعودية) من نعمة الإيمان والأمن الذي تفردت به بين العالمين:
أما الإيمان: فبتوفيقها إلى اتخاذ الإسلام منهج حياة عليه تحيا وعليه تموت؛ والتزام عقيدة أهل السنة، ونشرها في الآفاق مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" (متفق عليه).
وأما الأمان: فهو نتيجة حتمية للأمر الأول، يزيد بزيادته، وينقص بنقصه؛ كما قال تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن).
ولا زالت هذه البلاد الكريمة منذ نشأتها قبل حوالي 270 سنة باللقاء العظيم بين المحمدين: الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- تسير على هذا المنوال، فخورة بما حباها الله وشرفها به من حمل دين الله كما أنزل على صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو انحراف أو عبودية لغير الله، يوصي سابقها لاحقها بمواصلة المسير على هذا الدرب العظيم والمقام الرفيع.
فكانت مناهجها تقوم على نشر عقيدة السلف الصالح، ومحاربة البدع والانحرافات، وربط المسلمين بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم، مع عدم تفريط بأمور الدنيا النافعة.
وكانت كتب الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة -رحمهم الله- محل عناية واعتماد هذه الدولة السلفية في مراحلها الثلاث في تلك المناهج تدريساً وطباعة ونشراً؛ لما احتوت عليه من بيان وتوضيح لأمور التوحيد ومهمات العقيدة.
يقول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في رسالته لأهل القصيم: "ثم تفهمون أن الله سبحانه منَّ علينا وعليكم بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وإظهاره لدين الإسلام، وإيضاح ذلك بالأدلة والبراهين من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم "(1).
ويقول -رحمه الله-: "قد أظهر الله في آخر الأمر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ثم من بعدهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهم الله تعالى- ونفع بهم الإسلام والمسلمين.
ولما ندرت أعلام الإسلام وكثرت الشبهات والبدع، خصوصاً أيام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، قام أسلافنا بأقوالهم وأفعالهم بما جاء في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، قبلوا ذلك وقاموا به وأظهره الله على أيديهم. ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو أن يحيينا الله ويميتنا على ذلك"(2) .
ويقول -رحمه الله- في رسالته لفيصل الدويش- مبيناً ضرر أهل البدع: "ولا يقطع عقلك يا فيصل يا أخي أن على الإسلام وأهله أضر من أهل الجهل والبدع إذا صاروا في قلب المجتمع"(3).
ويقول -أيضاً-: "إنني رجل سلفي، وعقيدتي هي السلفية التي أمشي بمقتضاها على الكتاب والسنة"(4).
ويقول -رحمه الله- في خطاب صريح وواضح: "يسموننا "الوهابيين"، ويسمون مذهبنا "الوهابي" باعتبار أنه مذهب خاص.. وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض.. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبدالوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح.
ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة.. كلهم محترمون في نظرنا.
هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب يدعو إليها. وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة منزّهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب"(5).
قلت: وهكذا سار أبناؤه من بعده إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -حفظه الله-. الذي كان أول وزير للمعارف(6) يفخرون بحمل هذه العقيدة السلفية، ولا يفكرون بالتفريط بها -ولله الحمد-.(40/13)
يقول خادم الحرمين الشريفين: "قد سعد المسلمون بشريعة الإسلام حين حكموها في حياتهم وشؤنهم جميعاً. وفي التاريخ الحديث قامت الدولة السعودية الأولى منذ أكثر من قرنين ونصف: على الإسلام؛ حينما تعاهد على ذلك رجلان صالحان هما: الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- قامت هذه الدولة على منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع. هذا المنهاج هو الإسلام: عقيدة وشريعة"(7)
ويقول -حفظه الله-: "إن التربية الإسلامية موجودة في كل بيت في هذه البلاد؛ وهي التربية الصحيحة التي لا تمنعنا من أي شيء فيه فائدة لنا ديناً ودنيا"(8).
ويقول -سلمه الله- في خطاب صريح: "لقد وجدت من المناسب ولو أن الموضوع الذي سوف أقوله للإخوة ليس له علاقة بمؤتمركم، إلا أنها مناسبة طيبة لإيضاح أمر يتردد، ورأيت أن من المفيد إذا سمح الإخوة وسامحوني في نفس الوقت أن أتحدث عنه، رغم أنه لا يتعلق بعملهم.
لقد درجت كثير من الصحافة في عالمنا الإسلامي أو في عالمنا العربي أو العالم الغربي أو العالم الشرقي على نعت هذه الدولة بأنها "وهابية".
إن منهم من يعتبر هذا مديحاً إذا رضي، ويعتبره ذماً إذا غضب، ويرى أن "الوهابية" مذهب يخالف مذهب أهل السنة والكتاب، ويخالف مذهب السلف الصالح.
هذا الأمر قد لا يعنيكم كثيراً، ولكن إذا سمحتم لي أن أعتبر هذه المناسبة فرصة لكي يعلم إخواننا الإعلاميون أو كتابنا ويدركوا تماماً، أنه ليس هناك شيء اسمه "وهابية".
إذا أراد أحد يهين هذه البلاد وأهلها، فإنه يطلق عليهم "وهابيين".
وهذا معناه إذا تقبلناه أن لنا مذهباً آخر يختلف عن العقيدة الإسلامية.
أولاً: ليس هناك شيء اسمه "وهابية"، وإذا أراد أحد أن يكيل لنا شيئاً لا يوجد فينا أو يهين كرامة إمام من أئمة المسلمين، هو الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فإنه يلصق بهذه الدولة اسم "وهابية"، وأنا أقول ليس هناك شيء اسمه "وهابية" في هذه البلاد.
ومن اطلع على مؤلفات شيخنا الكبير في هذه البلاد الإمام محمد بن عبدالوهاب يجد أنه درّس في صغره الأئمة في هذه البلاد، ثم انتقل للدراسة في الحرمين الشريفين. وبعد ما تشبّع بالدراسة على أيدي العلماء المسلمين الذين كانوا موجودين آنذاك هنا، أو ممن يفدون إلى بيت الله الحرام سواء للعمرة أو للحج، ذهب إلى البصرة واستفاد من كثير من العلماء الأفاضل.
وبعدها ذهب إلى الإحساء، واستفاد كذلك من طلاب العلم الموجودين في ذلك الوقت، ثم عاد إلى وسط المملكة العربية السعودية.
كانت العقيدة الإسلامية موجودة، ولكن كانت تشوبها شوائب كثيرة، وأدخلت عليها بعض الأمور التي لا تتفق مع نص العقيدة الإسلامية الصحيحة.
فكان تفكير الإمام محمد بن عبدالوهاب ينصب على اختيار الوسيلة التي يستطيع أن يوضح بها هذا الإمام الجليل، لشعب هذه الجزيرة في ذلك الوقت، المفهوم الصحيح للعقيدة الإسلامية." (9).
ويقول -حفظه الله- راداً على أهل البدع: "العقيدة الإسلامية -والحمدلله- أبانت الأمور بشكل غير قابل للنقاش؛ إلا من أراد أن يوهم بأشياء أخرى. والدين الإسلامي وسط، فلا رهبنة في الإسلام، وقد يعتقد البعض أن التصوف أو بعض النواحي الأخرى البعيدة عن منطق الإسلام هي الإسلام. إنه على العكس؛ فالإسلام فيه المرونة والمحبة والتقوى والعمل والجد والنشاط، ولم تأمر العقيدة الإسلامية بالكسل أو التكاسل أو التصوف على غير معنى"(10).
قلت: ولا زالت بلادنا -حرسها الله- تسير على هذا المنهج السلفي الراشد، غير عابئة بكيد الكائدين وحسد الحاسدين من أعداء الإسلام، الذين أخبرنا الله بما يضمرونه لنا إن نحن سرنا على الصراط المستقيم بقوله (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) وقال سبحانه (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) وقال سبحانه (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) وقال تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)... إلى آيات أخرى كثيرة. ولكن هذا الكيد والحسد غير ضارنا -بإذن الله- إن نحن ثبتنا واعتصمنا بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (بلى إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً).
فليس العجب إذاً من كيد الكافرين وحسدهم لهذه البلاد؛ لأن هذا أمر متقرر وسنة إلهية لمن تمسك بشرع الله. ولكن العجب من أقوام من بني جلدتنا، يتكلمون بلساننا، ويلبسون ثيابنا رضوا لأنفسهم أن يكونوا ظهيراً للمجرمين في حملاتهم على بلاد التوحيد ومناهجها بغية زحزحتها عن مصدر عزها وفخرها وسعادتها ونجاتها.
أقول هذا بعد أن اطلعت على بحث قدمه عبدالعزيز القاسم وإبراهيم السكران لمؤتمر الحوار الوطني الثاني للنيل من مناهجنا الشرعية وتصويرها بأبشع صورة محاولين تحميلها إثم غيرها من الجهلة والغالين في دين الله افتراء وبهتاناً -كما سيأتي إن شاء الله-(40/14)
ولقد ساء بحثهما كل غيور على هذه البلاد ومناهجها الصافية؛ لما رأوا فيه من تجنيات وافتراءات وكذبات، وسُرَّ به المنافقون وأهل البدع وأمثالهم من مرضى القلوب وطاروا به كل مطار، واتخذوه سلاحاً يقاتلون به أهل الإسلام(11).
فصدق في القاسم والسكران قول الشاعر:
وإخوانٌ حسبتهموا دروعاً فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهمو سهاماً صائبات فكانوها ولكن في فؤادي
ولقد كنت عازماً على الرد على بحثهما منذ أن اطلعت عليه خشية أن يغتر به من يجهل حقيقة ما قام به الباحثان من عبث متعمد وخيانة علمية، فيسلم لكلامهما عن المناهج. إلا أن عزمي انتقض عند علمي بقيام أحد طلبة العلم بهذه المهمة.
ولكن مرت الأيام تلو الأيام ولم يظهر هذا الرد المنتظر ! فلما تبينتُ حقيقة الحال علمت أن ذاك الرد قد يتأخر نظراً لانشغال صاحبه بظروف طارئة، فصح العزم مني على التصدي لبحثهما وتفنيد ما جاء فيه من أخطاء وشناعات ألصقوها بمناهجنا الشرعية تلبيساً على عقول الآخرين ممن قد لا يتنبه لصنيعهما(12).
وقد أحببت أن أقدم بتنبيهات ومهمات؛ كتوطئة للرد قبل الشروع فيه:
(التنبيه الأول) :
أن من يطعن في مناهجنا الشرعية فإنما هو يطعن -شاء أم أبى- في الكتاب والسنة! وقد يستغرب البعض هذا القول. ولكن سيزول استغرابهم حينما يرون أن الطعونات التي وجهها الباحثان لمناهجنا تتعلق بأمور جاءت بها النصوص الشرعية -كما سيأتي-. وما من مسألة وجها إليها سهام نقدهما إلا ودليلها حاضر من الكتاب أو من السنة، وقد ذكره المقرر!
ولكنهما لم يجرؤا على التصريح بهذا لخطورته على دينهما. وارتضيا بسذاجة حصر نقدهما في المناهج أو المقرر، وهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً عند العقلاء.
(التنبيه الثاني) :
أن من يطعن في مناهجنا فإنما هو يطعن ويقوض -شاء أم أبى- الأساسات التي قامت عليها هذه البلاد.
لماذا ؟
لأن مناهجنا الشرعية (أعني مقرر التوحيد) هي من كتب الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة، وهي الكتب التي قامت عليها هذه البلاد -بعد الله- منذ نشأتها وارتضاها ملوكها -سابقاً ولاحقاً- منهجاً لهم؛ كما مضى في كلماتهم وخطاباتهم.
فمناهج التوحيد للصفوف الابتدائية هي من الرسائل والقواعد القصيرة للشيخ الإمام.
ومناهج التوحيد للصفوف المتوسطة هي كتاب التوحيد للشيخ الإمام.
ومناهج التوحيد للصفوف الثانوية هي من مسائل علماء الدعوة قديماً وحديثاً.
فالطاعن في هذه المناهج إنما هو طاعن في مؤلفيها وواضعيها والراضين بها من أئمة وملوك هذه البلاد.
(التنبيه الثالث) :
أن كاتبي البحث -حسب علمي- لم يمارسا مهنة التعليم، وليست عندهما تجربة كافية للحكم على مناهجنا الشرعية وتقويمها، فمثلهما كما قيل:
"ما أنت بالحكم الترضى حكومته"
ويتأكد لك ذلك عندما ترى شيئاً من مقترحاتهما الخيالية التي جعلوها بديلاً لما يريدون حذفه من مناهجنا.
(التنبيه الرابع) :
أن تاريخ الباحثَيْن (ومن شابههما) لا يؤهلهم لهذا المرتقى الصعب الذي ارتقوه؛ وهو الكتابة عن مناهجنا، ثم اتهامها بالنزوع إلى التكفير والتهوين منه! لأن بعضهم قبل سنين قليلة كان من المشغبين على بلادنا، المثيرين عليها الفتن، بل الغالين في التكفير والساعين في التفجير! (13) وقد سجن منهم من سجن؛ وعلى رأسهم أحد كاتبي هذا البحث (القاسم) .
فكيف لم يستح هؤلاء من تغيير مسوحهم، والظهور من السجن بوجه آخر يزعم (الإصلاح) و(الوسطية) ويسدد رميه نحو مناهجنا الشرعية، وهو قبل سنوات يرميها بالتهاون ومداهنة الظلمة !!
فكيف يريدنا هؤلاء أن نثق ببحثهما وهذا تاريخهم شاهد على اضطراب عقولهم، وتناقض مواقفهم، والتقلب ذات اليمين واليسار.
وليعذرنا هؤلاء إن قلنا لهم نحن وحكومتنا ومناهجنا ما قاله المثل العربي القديم:
"كيف أعاودك وهذا أثر فأسك" !
مناهجنا ومسائل التكفير:
بما أن مناهجنا الشرعية -ولله الحمد- نابعة من عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة السلف الصالح التي ارتضاها الله لعباده المؤمنين؛ فإنها كانت وسطاً بين الغالين والجافين في جميع مسائل العقيدة، وعلى رأسها مسألة التكفير؛ فهي وسط بين الغلاة من الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب والكبائر، وبين المفرطين من المرجئة والعصريين الذين لم يكفروا من كفره الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
وجاءت محذرة من التهاون في إطلاق الكفر على من ثبت إسلامه، وعدم التساهل في هذا الأمر الخطير.
ثم جاءت أخيراً بالحث على لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لولاة الأمر، والزجر والتخويف لمن نازع الأمر أهله.
فإليك نماذج وأمثلة تبين هذا من مناهجنا؛ ليتضح لك مقدار الجناية والجرم والافتراء الذي خطته يدا كاتبي البحث عندما زعما زوراً أن مناهجنا ذات نزعة تكفيرية !:
المثال الأول : جاء في مادة (الحديث) للصف الأول المتوسط الحديث التالي تحت عنوان: النهي عن تكفير المسلم: "عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه".
إرشادات الحديث:(40/15)
1. التحذير الشديد من تكفير المسلم بدون سبب يكفره.
2. من كفّر مسلماً بدون سبب فإن التكفير قد يرجع عليه.
3. تحريم الإسلام لجميع الأمور التي تفرق بين المسلمين ومنها نسبة المسلم إلى الكفر.
4. دل الحديث على تحريم عرض المسلم والاعتداء عليه بأي وصف من الأوصاف التي تخرجه عن دينه.
5. وجوب تطهير اللسان والمحافظة عليه من الألفاظ والكلمات التي توقع في الكفر.
6. على المسلم أن ينصح أخاه المسلم إذا رأى منه أمراً يخل بالدين، بدل أن يسارع إلى رميه بالكفر".
المثال الثاني : جاء في مادة (التوحيد) للصف الثالث الثانوي: "التكفير: التكفير هو الحكم على شخص بأنه كافر.
أحوال الناس في الحكم عليهم: الإنسان، إما أن يكون كافراً أصلياً كاليهود والنصارى والوثنيين وتكفير هؤلاء واجب بل إن من لم يكفرهم أو شك في كفرهم فهو كافر، وإما أن يكون مسلماً فهذا لا يجوز تكفيره إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
خطورة تكفير المسلم: تكفير المسلم أمر عظيم وخطير لا يجوز الإقدام عليه إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا).
وقال صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وعن أسامة رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول ا صلى الله عليه وسلم في سرية فصبّحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي r فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟! فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ"، فأجرى r أمرهم في هذه الدنيا على الظاهر وهو ما أقروا به من الإسلام، وهذا هو الأصل بقاء المسلم على إسلامه حتى يأتي ما ينقله عنه ببرهان صحيح، وقد ورد في السنة التشديد في تكفير المسلم لأخيه المسلم. قال صلى الله عليه وسلم "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما".
التكفير حق لله: فلا نكفر إلا من كفّره الله ورسوله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الزنا والكذب حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله".
أنواع التكفير: للتكفير أنواع ثلاثة؛ تكفير بالعموم، وتكفير أوصاف، وتكفير أشخاص وسنعرض لهذه الأنواع بالتفصيل التالي:
1. التكفير بالعموم: ومعناه تكفير الناس كلهم عالمهم وجاهلهم من قامت عليه الحجة ومن لم تقم. وهذه طريقة أهل البدع وقد برأ الله أهل السنة منها.
2. تكفير أوصاف: وهذا كقول أهل العلم في كتب العقائد في باب الردة من كتب الفقه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر، ومن سب الله أو رسول صلى الله عليه وسلم كفر، ومن كذب بالبعث كفر. وإطلاق أهل العلم هذا يقصدون به أن هذا الفعل كفر يخرج من الإسلام أما صاحبه فلا يكفرونه حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع، فليس من لازم كون الفعل كفراً أن يكون فاعله كافراً(14).
3. تكفير المعين: والمقصود به الحكم على الشخص الذي وقع في أمر يخرج من الملة بالكفر.
ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك وسط بين من يقول: لا نكفر أحداً من المسلمين ولو ارتكب ما ارتكب من نواقض الإسلام.. وبين من يكفر المسلم بكل ذنب دون النظر إلى أن هذا الذنب مما يكفر به فاعله أم لا ودون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتقاء موانعه.
شروط التكفير : يشترط للتكفير شرطان :
أحدهما : أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر به فاعله.
الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له مختاراً، فإن كان جاهلاً أو متأولاً أو مخطئاً أو مكرهاً فقد قام به مانع من موانع التكفير فلا يكفر على حسب التفصيل الآتي في موانع التكفير.
موانع التكفير: (أ) الجهل: والجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات وإليك تفصيل ذلك فيما يأتي:(40/16)
1. من كان حديث عهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان فأنكر شيئاً مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفرون إلا بعد أن تقام عليهم الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعد أن ذكر بعض أنواع الشرك "... وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه" وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "... وإذ كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم"
2. من أنكر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر مع كونه في دار إسلامٍ وعلمٍ، ولم يكن حديث عهدٍ بإسلام فإنه يكفر بمجرد ذلك.
3. هناك أحكام ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم كإرث بنت الابن السدس مع بنتٍ وارثة النصف تكملة للثلثين. فمن أنكر شيئاً من هذه الأحكام من العامة فلا يكفر إلا بعد أن تبين له ثم يصر على إنكاره، أما من أنكرها من أهل العلم فيكفر إذا كان مثله لا يجهلها.
(ب) الخطأ : بأن يعمل عملاً أو يعتقد اعتقاداً يكون مخالفاً للإسلام كمن حكم بغير ما أنزل الله مخطئاً وهو يريد أن يحكم بما أنزل الله أو فعل شيئاً من الشرك يظنه جائزاً أو أنكر شيئاً من الدين ظاناً أنه ليس منه والدليل قوله صلى الله عليه وسلم "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
(ج) التأويل: وهو صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه إلى ما يخالفه لدليل منفصل، وهو قسمان:
القسم الأول: قسم يعذر صاحبه بتأويله، وهو ما كان مبنياً على شبهة، بأن كان له وجه من لغة العرب، وخلصت نية صاحبه؛ كمن تأول في صفات الله تعالى وكان تأويله مبنياً على شبهة وخلصت نية صاحبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن سبب عدم تكفير الإمام أحمد وغيره لمن قال بخلق القرآن بعينه: "إن التكفير له شروط وموانع وقد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه". وقال في موضع آخر عن نفس المسألة: "فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فاخطاؤا وقلدوا من قال ذلك لهم".
والقسم الثاني: تأويل لا يعذر أصحابه كتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملة وتفصيلا أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كتأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها. فهذا كفر مخرج عن الإسلام.
8. الإكراه : من أكره على الكفر بأن ضُرب وعذب، بأن يرتد عن دينه أو يسب الإسلام.. أو هدد بالقتل والمهدِّد قادر على فعل ما هدد به، فكفر ظاهراً مع اطمئنان قلبه بالإيمان فهذا معذور ولا يكفر بفعله ذلك، قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم).
كيفية قيام الحجة : لا يحكم على معين بالكفر إلا بعد قيام الحجة عليه وإصراره على الكفر الذي وقع منه، وإقامة الحجة يختلف من بلد إلى آخر ومن زمان إلى آخر ومن شخص إلى آخر ومن كونه كلاماً نظرياً إلى تطبيق على شخص معين ويتلخص ذلك: ببلوغ الحجة للمعين وثبوتها، وتمكنه من معرفتها وكل ذلك لا يتم إلا بوجود من يحسن إقامة الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "... وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان". وقال الشيخ سليمان بن سحمان: "الذي يظهر لي والله أعلم أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة").
المثال الثالث : جاء في كتاب (التوحيد) للصف الثالث الثانوي فصل عن (الفتنة) ورد فيه في بيان موقف المسلم من الفتنة:
((ج) لزوم جماعة المسلمين وإمامهم إذا وقعت الفتنة، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فيعتزل تلك الفرقة كلها.(40/17)
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها": قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
(د) الصبر على جور الولاة وعدم الخروج عليهم إلا إن وقع منهم كفر بواحٌ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا: "أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان".
(هـ) ترك السعي في الفتنة بأي طريق وكلما كان الإنسان أبعد منها كان أسلم من الوقوع فيها:
فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها ستكون فتن ألا ثُمَّ تكون فتنةٌ القاعدُ فيها خير من الماشي إليها والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟" قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني ؟ قال: "يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار").
المثال الرابع : جاء في كتاب (الحديث) للصف الثاني الثانوي: فصل بعنوان (حقوق الراعي والرعية) ورد فيه:
(1-السمع والطاعة:
والمراد بها الانقياد له والتنفيذ لأمره، والانتهاء عما ينهى عنه ما لم تكن في معصية الله تعالى. وقد جاءت النصوص الكثيرة في ذلك، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). وهذه الطاعة تكون في جميع أحوال الإنسان، من العسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي حال المحبة والكره، ومهما كان الوالي .
أخرج البخاري وغيره عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".
وأخرج مسلم وغيره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك".
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وهذه الطاعة لها أجر وثواب، إذ هي من طاعة الله تعالى وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم ، روى الشيخان عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".
2-الاجتماع على الوالي:
من أهم الحقوق: الاجتماع على الوالي، وعدم الفرقة والاختلاف عليه، فالاجتماع رحمة، والفرقة شر، وكلما اجتمعت الأمة على الوالي قويت شوكتها، وشاع الأمن فيها، واطمأن الناس، وهابها أعداؤها، واستقام أمرها.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها": قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
3-النصرة والجهاد معه والدعاء له :
وهذا من حقوق الوالي، إذ إنه من مقتضى السمع والطاعة، والاجتماع عليه أن يجاهدوا معه ولا يخذلوه، وأن يدعوا له بالصلاح والتوفيق والتسديد، ففي ذلك مصلحة الأمة بأفرادها ومجموعها، قال الطحاوي رحمه الله: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برّهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما".(40/18)
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية، فإذا صلحت أمن العباد والبلاد".
4-النصيحة له :
وهذه من أجل الحقوق، إذ بها يكمل الخير، ويتعاون الجميع على البر والتقوى، أخرج مسلم وغيره، عن تميم بن أوس الداري -رضي الله عنه- أن صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم..." الحديث.
5-عدم الخروج عليه :
ولا شك أن مقتضى الاجتماع عليه والطاعة له: عدم الخروج أو منابذته بالسيف وغيره. ولو كان جائراً؛ لما يترتب على الخروج عليه من المفاسد العظيمة كالتفرق والتشتت، وعدم الأمن والطمأنينة، وغير ذلك، وقد تقدم ما يدل على ذلك من حديث حذيفة وغيره.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية".
وروى مسلم عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" فقلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنّ يداً من طاعته").
المثال الخامس : جاء في كتاب (الفقه) للصف الأول الثانوي: فصل بعنوان (حد قطاع الطرق: الحرابة) ورد فيه:
(ويدخل في الحرابة: ما يقع من ذلك في طائرة أو سفينة، أو سيارة، وسواء كان تهديداً بسلاح، أو زرعاً لمتفجرات، أو نسفاً لأبنيه".
وورد فيه -أيضاً-: "ومن صور الحرابة التي مُنِيَتْ بها الأمة في العصر الحاضر ما يسمى بـ(الاختطاف) الذي كثر وقوعه وتفنن المجرمون في أسالبيه.
لذا فإن جرائم الخطف لانتهاك الحرمات على سبيل المجاهرة من الحرابة والفساد في الأرض، ويستحق فاعلها العقاب الذي ذكره الله تعالى في آية المائدة وسبق بيانه.
وسواء في ذلك أن يكون الخاطف قد قتل، أو جنى جناية دون القتل، أو أخذ المال، أو انتهك العرض، أو لم يكن منه إلا الإخافة والتهديد. وسواء كان الخطف في المدن والقرى أو في الصحاري، في السيارات أو الطائرات أو القطارات أو غيرها، وسواء كان تهديداً بسلاح أو وضعاً لمتفجرات أو أخذاً لرهائن أو احتجازاً لهم في أماكنهم والتهديد بقتلهم أو نحو ذلك".
وورد فيه -أيضاً- : "وجوب السمع والطاعة لإمام المسلمين في غير معصية الله:
إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين وضرورياته، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماعهم، ولابد عند الاجتماع من أمير، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض كالسفر تنبيهاً بذلك على ما هو أهم وهو اجتماع الناس تحت إمام واحد.
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، والعدل، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة.
وقد أمر الله جل وعلا بطاعة ولاة الأمر فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).
وأمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني" متفق عليه. وهذا ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا يطاع فيها.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" متفق عليه.
والسمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية الله أمر مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة، وأصل من أصولهم التي باينوا بها أهل البدع والأهواء.
تحريم الخروج عليه: إذا تمت البيعة للإمام بأن بايعه أهل الحل والعقد ثبتت ولايته ووجبت طاعته ويكفي عامة الناس أن يعتقدوا دخولهم تحت طاعة الإمام، وأن يسمعوا ويطيعوا، فمن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم.
ولا يجوز الخروج على ولي الأمر، ولا نزع يدٍ من طاعته ولو جار وظلم، ولا الدعاء عليه، وإنما الواجب على المسلم أن يكره ظلمه ومعصيته، ويصبر عليه ويناصحه، ويجب على أهل العلم والفضل الاجتهاد في مناصحته سرّاً، من غير إثارة فتنة، أو تحريض عليه.(40/19)
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قلنا: يا رسول الله؛ أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة" رواه مسلم.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية" متفق عليه.
ولذا أمر r الأنصار بالصبر لما أخبرهم أن الأمراء سيستأثرون عليهم ويمنعونهم حقوقهم. أما الخروج على الإمام فلا يجوز إلا إذا أتى كفراً صريحاً.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول ا صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان مما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" متفق عليه).
المثال السادس: جاء في كتاب (الحديث) للصف الثالث الثانوي فصل بعنوان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ورد فيه: تحت شروط إنكار المنكر: (أن يكون ظاهراً دون تجسس، فإن كان إنكار المنكر متوقفاً على التجسس فلا يجوز الإنكار؛ لقوله تعالى (ولا تجسسوا) ولأن للبيوت وما شابهها حرمة لا يجوز انتهاكها بغير مبرر شرعي).
قلت: هذه مجرد نماذج وأمثلة واضحة وسهلة لبعض ما ورد في مناهجنا الشرعية مما يتعلق بأمور التكفير والسياسة الشرعية وإنكار المنكر أوردتها لتكون حاضرة في ذهن قارئ هذه الرسالة يتبين له من خلالها مدى الجناية والرمي بالباطل والبهتان الذي قام به الباحثان -هداهما الله-.
وليتبين له أن مناهجنا ومن وضعها من العلماء الأفاضل ليست زاداً مناسباً للغلاة في التكفير، ودعاة التفجير والتخريب، فلهذا لجأوا إلى غيرها مما يوافق تشددهم.
بل كان علماؤنا -خلال مسيرتهم- يقفون بالمرصاد لكل تيار يغلو أو يتشدد فيخالف هذه المناهج السلفية الواضحة.
وما مواقفهم تجاه فتنة "الإخوان" زمن الملك عبدالعزيز -رحمه الله-(15)، وفتنة "جهيمان"، وفتنة "دعاة التهييج"، وفتنة "غلاة التكفير بين المعاصرين" إلا شاهد على هذا.
فما مثل من يرميهم ومناهجهم -بعد هذا- بالتكفير إلا كما قيل: "رمتني بدائها وانسلت".
موجز بحث القاسم والسكران :
صاغ الباحثان بحثهما في مدخل وخمسة فصول ثم توصيات:
-أما المدخل (الخطاب الديني: الوظيفة والأهداف): فهو عبارة عن قواعد عامة تطالب بأن لا نغلب أحد جوانب النص على الجوانب الأخرى وأن نقرر مبادئ العدل في التعامل مع الآخرين والحضارات الأخرى! وأن نهتم بالمشاركة المدنية في مناهجنا. وكل هذه عموميات ستأتي حقيقة المراد منها في فصول البحث الخمسة.
-الفصل الأول (الموقف من المخالف بين العدل والتعبئة): وهو عبارة عن هجوم على مناهجنا لإبرازها عقيدة السلف الصالح وتحذيرها من البدعة وأهلها بدعوى أن هذا فيه تحاملاً على الآخرين! مع ذكر نماذج (تم تشويهها بتعمد!) من مناهجنا يزعمان أنها تدل على مقدار ظلمنا للمسلم المخالف.
وأعجب ما في هذا الفصل دفاع الباحثَيْن عن المشركين والقوميين والوطنيين وأصحاب المبادئ المنحرفة تحت مزاعم العدل (الكاذب).
ثم خلط الباحثَيْن بين عقيدة البراءة من الكفار التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة وبين التعامل المشروع معهم. فكانت نتيجة هذا الخلط رمي مناهجنا بظلم الكفار والتجني عليهم.
-الفصل الثاني (المقررات والموقف من الواقع بين الرؤية الموضوعية وتهويل الفساد): وملخصه أن المناهج تهول أمر الفساد الإعلامي والانحراف العقدي الموجود في بلاد المسلمين.
-الفصل الثالث (الموقف من التدين بين القلق والطمأنينة): وملخصه أن مناهجنا تبعث القلق في نفوس الطلاب! بسبب تحذيرها المبالغ فيه من الشرك والنفاق وأسبابهما!
-الفصل الرابع (الموقف من الحضارة بين قواعد التواصل وخطاب الإدانة) وملخصه: الزعم الكاذب أن مناهجنا تقف من الحضارة موقفاً مضاداً، في خلط متعمد بين الحضارة المادية النافعة التي امتلأت بها مناهجنا والحضارة الزائفة القائمة على الأفكار المنحرفة المعارضة لدين الإسلام. وهي التي يتضايق الباحثان من محاربة مناهجنا لها.
-الفصل الخامس (المنهج العلمي بين الموضوعية والتهويل) وملخصه: اتهام مناهجنا بأنها تهون أمر تكفير الآخرين دون مراعاة لشروط وضوابط التكفير! وأنها تبالغ في أمر التحذير من الشركيات اللفظية ونحوها.
-الخاتمة والتوصيات: وأبرزها (تنقية المقررات من النزعات التكفيرية)!! والعدل في التعامل مع المخالف! و(توعية المتلقي بواجباته في المشاركة السياسية الشعبية)!!
الخيانة العلمية لدى الباحثَيْن !(40/20)
يؤسفني أن أقول لك -أخي القارئ- بأن الباحثَيْن يصدق فيهما ما قاله مؤلفو كتاب "خطاب إلى الغرب: رؤية من السعودية" في أمثالهما من أصحاب الخيانة العلمية عند الحديث عن مناهجنا؛ حيث قالوا فيهم: "إن المناهج في المملكة العربية السعودية بُنيتْ على أسس لا تخرج عما سبق ذكره من الأسس التي تقوم عليها سياسة التعليم. فاتهام التعليم الديني بأنه يزرع الكراهية ضد أهل الكتاب ومحاولة اختزال النصوص أو بترها من سياقها ليست من العلم في شيء وإنما هي نتاج الهوى أو الجهل. فالاختزال والبتر وتعمّد التشويه وعدم التحقق والتسرع في إصدار الأحكام القاطعة على أمور أساسية يؤكد أن هؤلاء الكتاب ليسوا منصفين ولا باحثين عن الحقيقة، بل كانوا مدفوعين بانفعالات الحدث، إذ إن كُتُب التربية الإسلامية احتوت على نصوص كثيرة تؤكد التسامح ووجوب حسن التعامل مع أهل الكتاب، فلماذا تجاهلوها وركَّزوا على ما يوهم بالعكس مما هو مبتور عن سياقه ؟!" (16).
وقد سار الباحثان (القاسم والسكران) على منوال أولئك للوصول إلى أهدافهما الدنيئة فبترا عبارات المناهج، وحذفا منها ما يريانه معارضاً لفكرتهما، وصرفا دلالة بعضها عن وجهته، وحمَّلا بعض ألفاظها ما لا تحتمل .. الخ عبثهما، وهذه ليست طريقة أهل الأمانة والتقوى، إنما عُهد هذا من أهل الزيغ والأهواء(17). وإليك شيئاً مما يشهد لهذا -باختصار- لأنني بينت أكثره عند الحديث عن مغالطاتهما:
1-نقلا عن المنهج (ص18) أنه يقول: (لابد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه.. في سائر الحقوق، لا في الأحوال الشخصية فقط كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام).
وعبارة المنهج: (ت3ث 70) (18): (لابد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه في جميع موارد النزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء، فلا يقبل منها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة من غير تعصب لمذهب ولا تحيز لإمام، وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق... الخ).
فحذفا ما تحته خط ! لماذا ؟ لأنه يتعارض مع تهمة يريدان إلصاقها بمناهجنا؛ وهي أنها تنصر مذهباً في مقابل المذاهب الأخرى !! وهذا ما يفتح لهما باباً لترديد مقولات من مثل: (وجوب التعددية، احترام الرأي الآخر...الخ)! أما إذا أحيلت الاجتهادات إلى الكتاب والسنة -وهو ما تقرره مناهجنا- فقد أسقط في أيديهما!
2-نقلا عن المنهج (ص27) أنه: (يعتبر أن الانبهار بالحضارة المادية من أسباب انحراف العقيدة. أما العلاج الذي يمارسه فهو : "تجاهل منجزات هذه الحضارة" أو جهدها)! وهذا كذب على المنهج.
فعبارة المنهج (ت1ث12-14) (الانحراف عن العقيدة الصحيحة له أسباب تجب معرفتها وعلاجها؛ ومن أهمها: -ثم ذكروا:- 5- الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية، حتى ظنوا أنها من مقدور البشر وحده، فصاروا يعظمون البشر ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده).
فلم يدع المنهج إلى (تجاهل) منجزات الحضارة كما ادعى الباحثان إنما دعا إلى عدم الانبهار بها والغفلة عن الله الذي سخرها. وشتان بين الأمرين لمن عقل.
وأما علاج الانحراف عن العقيدة فقال المنهج: (1-الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله.. 2-العناية بتدريس العقيدة الصحيحة.. 3-أن تقرر دراسة الكتب السلفية.. 4-قيام دعاة مصلحين يجددون للناس عقيدة السلف).
فأين (تجاهل منجزات الحضارة) الذي افتراه الباحثان على المنهج ؟!
3-قولهما (ص29): (كما يتجاهل -أي المنهج- عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة) !! وهذا كذب وافتراء على المنهج -كما سيأتي-. ولعل هذا الإيحاء الذي جال بذهن الباحثَيْن من الإيحاء الشيطاني لا الإيماني !
4-نقلا في (ص7) ما ذكره المنهج عن بدعة المولد النبوي ببتر وحذف لكثير من الألفاظ التي توضح لماذا حرمت هذه البدعة وما أوجه مشابهتها للنصارى. (انظر منهج التوحيد للصف الثالث الثانوي، ص 126-127).
5-أوهم الباحثان القارئ (ص 9) أن المنهج يدعو إلى هجر أهل المعاصي مباشرة دون مناصحة أو أمر بمعروف! -وسيأتي بيان ما حذفاه-.
6-نقل الباحثان عن المنهج (ص10) أنه يقول: (إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا.. فهو شرك أكبر).
فحذفا كلمات جعلا بدلها النقط! وهي (فهو نذر لغير الله وعبادة صرفت لغيره تعالى فهو شرك أكبر) الدالة على سبب جعل هذا العمل شركاً أكبراً!
7-نقل الباحثان (ص 13) عن المنهج قوله (ومحبة الله لها علامات تدل عليها.. ومنها: العزة على الكافرين بأن يظهروا لهم الغلظة والشدة والترفع عليهم). ثم قالا -مستنكرين ما جاء في المنهج-: (إن القرآن خص الغلظة بالمعتدين)!
وهذا كذب على كتاب الله عز وجل القائل (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) وقال واصفاً صحابة نبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ولم يخص كافراً دون كافر. وهذه الغلظة والشدة لا تنافي العدل كما قد يتوهم الباحثان.
الباحثان و"الهذر" الكلامي !(40/21)
أول ما يلفت نظر القارئ في بحث القاسم والسكران: التشدق اللفظي، والتكلف الواضح في رص الكلمات العصرية اللامعة التي هي كالطبل الفارغ، بصورة تثير الشفقة وتدعو إلى الرثاء لحال كاتبيها؛ حيث حشرا نفسيهما في لباس ليس لهما. وإليك شيئاً من عباراتهما العجيبة التي تشهد لهذا :
-(الشاب المتدين بحاجة إلى رؤية واضحة لمشروعية الاندماج الاجتماعي، سيما المحافظة على مشروعية المجتمع و مؤسساته، ذلك أن اهتزاز الشرعية يوهن دوافع المشاركة والانتماء لديه لتأخذ في الانكماش، وتتزايد النزعة السلبية حتى يصل إلى إيثار الهروب والانسحاب من مسئولياته الاجتماعية بحثاً عن تحقيق التطهر والنقاء عن الامتزاج بفساد الواقع الذي جرى تصويره له، وقد يلجأ الشاب إلى إعلان المواجهة والصدام كتعبير عن الاحتجاج بدلاً من المشاركة الإيجابية الفاعلة) (ص16) .
-(إن أي ناصح للمجتمع الإسلامي يؤرقه التخطيط لمؤسساته، ونظمه، ومستقبله، والتبشير برسالته، لا يمكنه تجاهل أهمية الانفتاح المعرفي في بناء الأرضية المدنية والإطار الحضاري للواقع الإسلامي، خصوصاً في هذا العصر الذي تعقدت نظم الحياة فيه، وترابطت أجزاؤه، وأصبحت نسيجاً واحداً يؤثر بعض في بعض، وأصبح الحراك الاجتماعي يحتاج لأدوات حديثة، ومعايير دقيقة، واستيعاب لنظم الحياة المعقدة، وتنمية تدريبية للمهارات المدنية، لكي يستطيع الشاب المشاركة في المجتمع بصورة إيجابية تضمن تراكم الجهود في اتجاه البناء) (ص21).
-(الخطاب العلمي هو الخطاب الذي يتوخى العدل الشرعي في التقييم والتفسير، عبر رؤية الواقع واستيعابه كما هو، ومحاولة فرز ألوانه، والميل الشديد للتفصيل في موضعه، وتنظيم المعطيات، وإصدار الأحكام الهادئة، التي تحتفظ بهامش من النسبية، ولا يتورط في مجازفات تمليها عليه الإغراءات الكلامية، مع الاحترام المستمر للبرهان، ومحاولة تفهم دوافع المخالف، والبحث عن اعتباراته سواءً المعلنة أم الضمنية.
أما الخطاب الانفعالي الذي يحتوي على قدر عالٍ من التهويل والمبالغة، والمجازفة بالأحكام العامة، وتأكيدها بمفردات الحسم والقطع، وتجويز [هكذا!] من المغالطات في سبيل التعبئة للفكرة) (ص28).
قلت: والأمثلة على هذا "الهذر الكلامي" و"الشقاشق اللفظية" ليست قليلة في بحثهما. والسبب في ظني هو إدمان صاحبي البحث قراءة كتب العصريين التي لا تسمن من جوع، والاقتباس منها، رغم أن العقلاء من بني البشر هم الذين لا تسلب لبهم الألفاظ دون أن يتأملوا حقيقة ما تحتها من معاني.
ويحضرني في هذا المقام حكاية لطيفة للشاعر صفي الدين الحلي الذي اطلع أحدهم على ديوانه فقال: لا عيب فيه سوى أنه خالٍ من الألفاظ الغريبة ! فكتب إليه الحلي هذه الأبيات:
إنما الحيزبون والدردبيس
والغطاريس والشقَطحب والصقـ
والحراجيج والعفنقس والعفـ
لغةٌ تنفر المسامع منها
وقبيح أن يُسلك النافر الو
إن خير الألفاظ ما طرب السا
… …والطََّخا والنُقَاح والعلطبيس
ـب والحربصيص والعيظموس
لق والطرفاسان والعسطوس
حين تروى وتشمئز النفوس
حشي منها ويُترك المأنوس
مع منه وطاب فيه الجليس
فبعض الباحثين -ومنهم كاتبا البحث- مولع بالمصطلحات العصرية، والألفاظ المفخمة التي لا ثمرة فيها لمن تدبرها؛ مصداقاً لقوله تعالى (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)، فهي من قبيل (الزخرف) لا غير.
مغالطات الباحثَيْن(19) :
المغالطة الأولى :
عدم تفريق الباحثَيْن بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية -لله عز وجل-! فعندهما: ما دام أن البشر مختلفون -كوناً وواقعاً- في عقائدهم ومذاهبهم فإنه لا يحق لأحد أن يزيل أو حتى يحاول إزالة هذا الاختلاف بجمعهم على الحق؛ لأن هذه إرادة الله!
يقول الباحثان : (ص13) "نستخلص مما تقدم أن المقرر لم يعرض أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين وعلى رأسها:
1-أن الاختلاف سنة كونية: فلا يمكن لأي منظومة فكرية مهما أوتيت من الإمكانيات ووسائل الاتصال وقدرات التغيير أن تقضي على الاختلاف البشري أو توحد اتجاهات الإنسانية أو تحمل الناس على مسار واحد؛ ذلك أن الاختلاف سنة كونية ملازمة للحياة الإنسانية كما قال تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا))، وسيبقى هذا الاختلاف كما قال تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). وقد رددوا مثل هذا في (ص5 ،15).
قلت: ووقوعهما في هذه الزلة العظيمة مما يثير العجب والأسى لكونهما من المتخصصين في العلوم الشرعية! ورغم هذا لم يفرقا بين إرادة الله الكونية التي قد لا تستلزم المحبة والرضا، وإرادته الشرعية التي تستلزم ذلك. وهذا مما يعرفه صغار الطلبة في بلادنا -ولله الحمد-. فالإرادة الربانية قسمان(20):
1. إرادة كونية قدرية: أي أن كل يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يخرج عن إرادته شيء، والكافر والمسلم تحت هذه الإدارة والمشيئة سواء، فجميع ما يصدر منهم -سواء كان إيماناً أم كفراً- فهو واقع -حتما- بهذه المشيئة، وهي لا تستلزم محبة الرب ورضاه.(40/22)
ومن أدلتها: قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) وقوله (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) وقوله (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم).
2. إرادة دينية شرعية: وهي تتضمن محبة الرب ورضاه. ومن أدلتها: قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (وما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) وقوله (والله يريد أن يتوب عليكم).
فالكفر والفسوق والمعاصي الواقعة من العباد قد شاءها الله وأرادها (كوناً) لأنه لا يخرج شيء عن مشيئته سبحانه، ولكنه لم يردها (شرعاً) ولهذا لا يحبها ولا يرضاها تعالى، بل أمر عباده ببغضها ومجاهدة أهلها. كما قال (ولا يرضى لعباده الكفر) مع أن الكفر واقع في الأرض.
والأعمال الصالحة الواقعة من العباد قد شاءها الله وأرادها (كوناً)، وأرادها (شرعاً). ولهذا فهي محبوبة مرضية عنده تعالى.
ومن لم يفرق بين الإرادتين وقع في تخبط عظيم يؤدي به إلى الرضا بالكفر والبدع والفسوق والمعاصي زاعماً -بجهله- أن الله قد (شاءها) و(أرادها)! فلماذا الإنكار على أهلها أو دعوتهم إلى الحق؟! (21)
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فصل: وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط علماً، وهو أن الله سبحانه له الخلقُ والأمر. وأمره سبحانه نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي.
فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.
وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وُجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعاً فهو محبوبٌ للرب واقع بمشيئته، كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
وما لم يُوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئتهُ.
وما وُجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته -أي الكونية- ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني.
وما لم يُوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته.
فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة.
إذا عرفت هذا فقوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)، وقوله: (لا يحب الفساد)، وقوله: (ولا يريد بكم العُسر)، لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره، فإن المحبة غيرُ المشيئة، والأمر غير الخلق". (شفاء العليل 1/141-142).
وقال ابن أبي العز -رحمه الله- في شرح الطحاوية: "ومنشأ الضلال: التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله، ولا مرضية له، فليست مقدرة، ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه". (شرح الطحاوية، ص324).
وفي ظني أن الذي أوقع الباحثَيْن في هذا الانحراف انصرافهما إلى قراءة كتب العصريين الذين لا يفقهون عقيدة السلف الصالح في هذه المسألة، ولهذا يخلطون كثيراً بين المشيئتين والإرادتين لأن هذا موافق لأهوائهم في عدم التفريق بين أهل الحق وغيرهم(22).
المغالطة الثانية :
تلبيسهما على القارئ بافترائهما على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأنه ألف كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" للاعتذار عن انحرافات المبتدعة من جهمية ومعتزلة وأشاعرة وصوفية !! (ص6).
وهو -رحمه الله- إنما ألف كتابه هذا ملتمساً العذر لأئمة أهل السنة والجماعة -أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد- فيما قد يقع في أقوالهم من مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، عازياً هذه المخالفة إلى أسباب(23): إما عدم اعتقاد الإمام أن صلى الله عليه وسلم قال الحديث، أو اعتقاد أنه لم يرد تلك المسألة بهذا الحديث، أو اعتقاد أن الحكم منسوخ. هذه خلاصة رسالة شيخ الإسلام -رحمه الله-، فلا علاقة لها بالاعتذار عن المبتدعة والمنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة -كما يدعي الباحثان-!
كيف هذا ؟ وشيخ الإسلام هو صاحب الردود الشهيرة والفاضحة لطوائف أهل البدع؛ حيث رد على الرافضة بكتابه "منهاج السنة" ورد على الجهمية والأشاعرة بكتابه "تلبيس الجهمية"، ورد على الأشاعرة بكتابه "التسعينية" ورد على الصوفية بكتابه "الرد على الأخنائي".
كيف هذا؟ وهو القائل: "والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات؛ كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة"(24)
كيف هذا؟ وهو القائل: "ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل؛ مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين"
المغالطة الثالثة :(40/23)
رغم حرص مناهجنا الشرعية على توضيح قضية التكفير وتقييدها بالضوابط الشرعية، وتحذيرها من التسرع أو التهاون فيها -كما سبق في المقدمة- إلا أن الباحثَيْن -لحاجة في صدورهما- قد أعميا أبصارهما عن هذا كله وافتريا على مناهجنا بأنها تهون أمر التكفير!! (ص6).
وحجتهما في ذلك أن المناهج وصفت أهل البدع بأنهم "منحرفون عن منهج السلف" !! أو أنهم من "الفرق المخالفة" أو "الفرق الضالة"!
وأقول: أين التكفير في هذه الأوصاف؟!
ثم ادعيا أن المناهج قصدت الأشاعرة والماتريدية بقولها "من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر".
وهذا من الكذب والافتراء على مناهجنا؛ لأن القول السابق هو لأحد أئمة السلف "نعيم بن حماد" نقله المنهج عن مختصر العلو للذهبي (ص184) للرد على (المشبهة) وأوله: "من شبه الله بخلقه فقد كفر" وآخره: "وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً"(25).
والمشبهة هم الذين يشبهون صفات الله الخالق بصفات المخلوقين -تعالى الله عن قولهم-
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "اتفق السلف والأئمة على الإنكار على المشبهة الذين يقولون بصر كبصري، ويد كيدي وقدم كقدمي"(26).
وقد قال المنهج بعد النقل السابق عن نعيم بن حماد: (وهذا ردٌ على المشبهة). فلماذا زاغت عنه أبصار الباحثَيْن ؟!
والمشبهة قد اتفق السلف على تكفيرهم(27).
أما الأشاعرة والماتريدية فقد قال المنهج: (القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر من حيث الثبوت ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية. وهذا رد على الأشاعرة والماتريدية حيث فرقوا بين المتماثلات). فأين التكفير المزعوم؟! والمنهج إنما يلزم الأشاعرة والماتريدية أن يثبتوا جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ما داموا قد أثبتوا بعضها؛ لأن القول في جميع الصفات واحد -كما بينه العلماء والمحققون- .
المغالطة الرابعة :
تستعمل مناهجنا كلمة (الإلحاد) في مقام الحديث عمن لم يثبتوا أسماء الله وصفاته، أو أولوها وحرفوها عن معناها الحقيقي؛ اتباعاً لقوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون). قال ابن كثير -رحمه الله-: (عن ابن عباس: الإلحاد: التكذيب. وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد، والميل والجور والإنحراف. ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر) (28). وهذا الاستعمال قد تقرر عند علماء السنة في مجال الحديث عن أسماء الله وصفاته.
ولكن الباحثَيْن الشرعيين! لم يفقها هذا فظنا (الإلحاد) يعادل: إنكار وجود الله!! وظنّا أن مناهجنا -لأجل سوء فهمهما- ترمي المخالف في باب الأسماء والصفات بالكفر !! (ص7، 32).
فحق لمناهجنا أن تقول للباحثَيْن:
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني
أو كنتَ تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني
وعملتُ أنك جاهل فعذرتكا
المغالطة الخامسة :
قولهما تشنيعاً على مناهجنا: (وتزداد حدة التصعيد مع أقوال المخالفين فيقول -أي المنهج- "من رد نصوص الصفات أو استنكره بعد صحته فهو من الهالكين") ! (ص7).
حيث يرى الباحثان أن لا يوصف من رد نصوص الصفات الثابتة في الكتاب والسنة أو استنكرها بعد صحتها بأنه من "الهالكين"!
ولا أدري، لعلهما يريدان أن يصفه المنهج بأنه من "المفلحين" أو "الفائزين"!
ولو عاد القارئ إلى المنهج لعلم أن الذي وصف من رد نصوص الصفات بأنه من الهالكين هو حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وليس مناهجنا !! وذلك في قوله عندما رأى رجلاً قد انتفض لما سمع حديثاً في الصفات استنكاراً لذلك: "ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه"(29).
ثم يقال بأن وصف "الهلاك" يطلق على كل من عصى أو خالف. ولو راجع الباحثان مادة "هلك" من معجم ألفاظ القرآن أو المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لرأوا عشرات النصوص تشهد لهذا. فلماذا العجب؟
المغالطة السادسة :
ينتقد الباحثان مناهجنا الشرعية بقولهم: (ويعرض -أي المنهج- بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالأخطاء إلى مستويات مشبعة بالتضليل من الطبيعي أن تربك الانضباط الشرعي للطالب مع المخالفين فيقول مثلاً: "الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وهو تشبه بالنصارى.. فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون.. ويحضر جموع من دهماء الناس وعوامهم.. ولا يخلو من الشركيات والمنكرات.. وقد يكون فيها اختلاط الرجال والنساء مما يسبب الفتنة، ويجر إلى الوقوع في الفواحش.. وهو بدعة أحدثها البطالون أو شهوة نفس اغتنى لها الأكالون"). (ص7).(40/24)
قلت: هذا النص المنقول من أحد مناهجنا -على ما فيه من بتر كما مضى!- لم يعجب الباحثَيْن حيث ظنوه من قبيل "التهويل" و"التضليل"! غير المطابق لواقع المسلمين. وهذا الظن دليل مؤكد على قلة اطلاعهما على أحوال كثير من البلاد الإسلامية التي تنتشر فيها مثل هذه البدع. ولو كلف الباحثان نفسيهما جهداً يسيراً لعلما أن المنهج لم يخالف الحقيقة المرة التي شهد بها العقلاء والغيورون من علماء ومفكري وأدباء الأمة الإسلامية من غير أهل هذه البلاد!. ولا بأس أن أنقل شيئاً من أقوالهم يوافق -بل يزيد!- على ما جاء في مناهجنا:
يصف المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول: "ينصبون خياماً كثيرة، وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أختلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعيب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور، ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً.." (30).
ويصف أحمد شفيق باشا (الليلة الختامية) للمولد النبوي فيقول: "ويزدحم الناس في هذه الليلة ازدحاماً لا مثيل له لمشاهدة هذه الأذكار وسماع أناشيدها، ورؤية النيازك.. وينتهز الشباب فرصة الزحام، فيكثر الغزل بين الفتيات والفتيان، وتمشي رسائل (اللب والفستق) ونحوها بين العربات التي تحمل الجنسين، مما يجعل من الليلة مهرجاناً: حظ الفتنة فيه أكبر من حظ الدين -إن كان للدين حظ في أمثال هذه الاحتفالات-"(31)، وهذه حقيقة!، فالموالد غالباً ما تكون فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود سواء أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة (مولد) تطلق على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط.
فالمولد فرصة لأن "تنتهك فيه حرمات النساء، وتشرب الخمور"، حتى إنه "أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء الساقط"(32)، وفيه "الوليات يفضن الخيرات والبركات على الناس بواسطة المصافحة والتقبيل والعناق، ويقذعن عند ذلك بألفاظ من الفحش لا يليق أن تُحكى فضلاً عن أن تسطر في الأوراق"-كمايذكر الشيخ محمد رشيد رضا-(33).
وفي أيام الربيع في الأردن يفد الزائرون إلى مزار (جعفر الطيار) "فترى الفتيات يرقصن حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة"(34).. فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود بصور مختلفة ودرجات متفاوتة -بحسب عادات كل بلد وتقاليده- حيثما كانت قبورية وأينما كانت موالد أو (احتفالات) أو (أعراس) للأضرحة(35).
ويقول الشيخ (المصري) علي محفوظ -رحمه الله- متحدثاً عن الموالد الكثيرة في بلاده: (وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها، وابتدعوا كل ما تهواه أنفسهم وتوحيه إليهم شياطين الإنس والجن. ولا نزاع في أنها من البدع -ثم ذكر أسباب بدعيتها ومنها كما يقول-
وثانيها: ما تشتمل عليه هذه الموالد من المفاسد المحرمة والمكروهة. فمن المحرمة إضاعة الأموال بكثرة الوقود في المساجد والطرق وإيقاد المصابيح في الأضرحة وكل ما يرجع إلى الإسراف والتبذير، وفي الحديث "إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" رواه مسلم. ومنها: انتهاك حرمة المساجد بتقذيرها وكثرة اللغط فيها، ودخول الأطفال حفاة أو بالنعال فلا يكاد يتيسر لأحد إقامة الشعائر في مسجد يُعمل فيه مولد. ومنها: خروج النساء متبرجات مع اختلاطهن بالرجال إلى حد لا يؤمن معه وقوع الفاحشة. وناهيك ما يكون من البغايا وتطلبهن الفاحشة جهاراً..." (36).
وتقول الدكتورة سعاد ماهر محمد في كتابها "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" (1/44): (قد جرت العادة في مصر وسائر بلاد العالم الإسلامي تقريباً أن يزور الناس قبور الأهل وأضرحة آل البيت وأولياء الله الصالحين في المواسم والأعياد الدينية. وقد زاد اهتمام الناس بهذا التقليد القديم؛ حتى أن وزارة الأوقاف رأت أن تساهم بدورها في إحياء هذا التقليد. فشاركت في إحياء ذكرى أصحاب هذه الأضرحة التي يزيد عدد المشهور منها على الألف؛ بإقامة احتفالات في مواعيد معينة عرفت بالموالد).
وقد ذكر تقرير الحالة الدينية في مصر الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية أن مولد البدوي في مصر حضره عام 1996م حوالي 3 ملايين زائر!! بخلاف غيره من الموالد الأخرى(37).
ويصف الشيخ عبدالرحمن الوكيل أحوال عبّاد القبور -من الصوفية وغيرهم- ويشير إلى جملة من صور الكفر والفجور في تلك المشاهد والموالد، فيقول: "وسل الآمّين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها.. فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبِّحون بحمد جيفتها، ويسجدون أذلاء لرمتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر و"الحشيش"، والأجساد التي طرحها الإثم على الإثم فجوراً ومعصية، ويسمونها موالد، أو مواسم عبر وذكريات خوالد..." (38).(40/25)
وسرد الكاتب أحمد منصور أقوال المؤرخين في الانحلال الخلقي عند مشهد الإنبابي .. وأن فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة، وأما ما حكي من الزنا واللواط فكثير لا يحصى.. حتى أرسل الله (تعالى) عليهم ريحاً في تلك الليلة كادت تقتلع الأرض بمن عليها..." (39).
أما علماء الضلال الذين أشار إليهم المنهج فإن حضورهم "لهذه الأماكن وعدم إنكارهم لما يحدث فيها، بل مشاركتهم في طقوسها في أحيان كثيرة.. فتن كثيراً من الدهماء. فمما يذكره الجبرتي بعد وصف المنكرات التي تحدث في أحد الموالد (مولد العفيفي): ".. ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء... ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ... فضلاً عن كونهم يفعلونه.." (40).
فما الذي يحمل هؤلاء (العلماء) على تلك الممارسات؟
يحملهم على ذلك ما يحمل غيرهم من دهماء القبوريين: فهم يرون أن ذلك من شعائر الدين، حتى إن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الحسين في القبر المنسوب إليه: "إنك جئت تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية، فإنك تريد أن تطيِّر البقية من دينهم"!) (41).
وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها الضر والنفع، تماماً مثلما يعتقد الدهماء والعامة من القبوريين، "ويبين رشيد رضا أن الذي دفع العلماء إلى السكوت عن هذه الأمور خوفهم من الوقوع في قضية إنكار الكرامات أو الاعتراض على الأولياء الذي يخشى معه أن يلحقوا بهم الأذى والضرر"(42)، وليس أدل على ذلك من أنه "في أيام حكم السلطان المملوكي جقمق قيل لأحد العلماء أن يفتي بإبطال مولد البدوي لما يحدث فيه من زنا وفسق ولواط وتجارة مخدرات، وما يشيعه الصوفية من أن البدوي سيشفع لزوار مولده، فأبى هذا العالم أن يفتي، قائلاً ما معناه: إن البدوي ذو بطش شديد"(43)!!
فإذا كان هذا هو حال عدد من العلماء المقتدى بهم عند العامة، فماذا يُنتظر من العامة والدهماء؟" (44).
المغالطة السابعة :
استغرابهما لما جاء في مناهجنا من أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق) (ص7). حيث يريان هذا تهويلاً ومبالغة وتهويلاً!
وهذا دليل آخر يضاف إلى الأدلة الكثيرة على جهل الباحثَيْن بواقع الأمة رغم تبجحهما بادعاء الفهم وتطاولهما على مناهجنا، ولو قرآ تاريخ الفرق المنحرفة التي تنخر جسد الأمة الإسلامية لآمنا بأمانة مناهجنا في تصوير الواقع الأليم. فقد كان من مخططات الأعداء التي أصبح يعلمها صبيان المسلمين تشجيع البدع وأهلها لصرف المسلمين عن دينهم الحق الذي يعلمون خطورته. والشواهد كثيرة من قديم الزمان:
فأما الرافضة: فتعاونهم مع أعداء الإسلام قديم جداً، حتى قال فيهم شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين" (45).
"فقد شهد الناس أنه لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة 658هـ كانت الرافضة الذين كانوا بالشام من أعظم الناس أنصاراً وأعواناً على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين، وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله، فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين عاونوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها.
وقبل ذلك كانت إعانتهم لجد هولاكو جنكيز خان، فإن الرافضة أعانته على المسلمين.
وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى يناصرونهم بحسب الإمكان، ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها، ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى إنه لما انكسر المسلمون سنة غازان(46) سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع الفساد من القتل وأخذ الأموال، وحمل راية الصليب، وتفضيل النصارى على المسلمين، وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى بقبرص وغيرها، فهذا وأمثاله قد عاينه الناس، وتواتر عند من لم يعاينه"(47).
وإلى اليوم يجري الأثر الرافضي في أرض المسلمين فساداً من دولة الآيات في إيران، ومن منظماتهم في لبنان(48)، وفي خلاياهم في دول الخليج وغيرها.
ويذكر إحسان إلهي ظهير -رحمه الله- أن انفصال باكستان الشرقية كان وراءه الكيد الرافضي، حيث قال: "وهاهي باكستان الشرقية ذهبت ضحية بخيانة أحد أبناء "قزلباش" الشيعة يحي خان في أيدي الهندوس"(49).
وقد عارض شيوخ الشيعة في باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية(50)؛ لأنها تحد من شهواتهم التي يمارسونها باسم المتعة، وتعاقبهم على جرائمهم التي يستسهلون ارتكابها بحجة أن حب علي لا تضر معه سيئة(51).(40/26)
كذلك لا ينبغي أن ينسى أثر الدولة الصفوية الشيعية في حروبها لدولة الخلافة الإسلامية، وتعاونها مع الأعداء من البرتغال ثم الإنجليز ضد المسلمين، وتشجيعها بناء الكنائس ودخول المبشرين والقسس، مع محاربتهم للسنة أهلها(52).(53)
وأما الصوفية: فذكر الجبرتي في تاريخه: أن نابليون بونابرت سأل الشيخ البكري عن عدم إقامة المولد النبوي بعد احتلال القاهرة، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل نابليون ذلك وقال: لابد من ذلك! وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة منه في إقامة هذا المولد، وأمر بتزيين البلد كالعادة، واجتمع الفرنسيون يوم المولد، ولعبوا ميداينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم(54)
بل أعادوا المولد الحسيني، وكانوا يجبرون الناس ويقهرونهم على الاحتفال بهذه الموالد، ويغرمون من يأبى أن يحتفل بها(55) !
والسبب ما رآه الفرنسيون في هذه الموالد "من المخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات"(56).
لقد أدرك الفرنسيون ما يقع بسبب هذه الموالد من سلبيات، وما تستنفذه من جهود وأموال، وتشغله من أوقات وتفكير، وما في ذلك من صرف للناس عن جهاد المحتلين ومقاومتهم. وهو ما لم يدركه الكثير من العلماء ممن شجعوا تلك الموالد، أو حتى غضوا الطرف عنها.
ولا شك أن الفرنسيين أدركوا ما لتلك الموالد من مكانة عظيمة في حياة الناس، لذا سارعوا بإعادتها، حتى يلهّوا الناس بها، وتعود الأمور إلى مجاريها، وكأن شيئاً لم يحدث، ويغلقوا على أنفسهم باباً واسعاً من أبواب الثورة.
"وأخذ الفرنسيون يفكرون فيما يغطون به سخط الشعب المصري، ويقرب قلوب الناس إليهم، فرأوا أن من أجدى الوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك إحياء الموالد، كما كانت في سالف الأيام"(57).
-وفي رسالة للمارشال"بوجو" أول حاكم فرنسي للجزائر إلى شيخ الطريقة التيجانية، ذات النفوذ الواسع جاء فيها: إنه لولا موقف الطريقة التيجانية المتعاطف!! لكان استقرار الفرنسيين في البلاد المفتوحة حديثاً أصعب بكثير مما كان"(58).
وكان شيوخ الطرق الخونة يقومون بكتابة عرائض بتوقيعاتهم وتوقيعات أتباعهم، يملؤونها بالثناء والشكر لفرنسا، التي كانت تعتبرهم ممثلين للشعب، ولا غرابة بعد ذلك أن يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر: إن الحكومة الفرنسية تعظم زاوية من زوايا الطرق أكثر من تعظيمها لثكنة جنودها وقوادها، وأن الذي يحارب الطرق إنما يحارب فرنسا!! (59).
وأما الإسماعيلية فلهم نشاط سياسي ضخم، حيث وقفوا في أفغانستان مع المستعمر الروسي، ومدوا له يد العون، فكان لانتشارهم في ثلاث أماكن هي (ولاية بغلان) و(لسان واخان) و(مديرية شمالي في ولاية بروان قرب كابل) فرصة سانحة لذلك المستعمر، يقول "سيد منصور" قائد قفرقة الإسماعيلية ببغلان في مقابلة له في شريط فيديو: إن هذه الحرب في مصلحتنا 100%، كما أنه اعترف أن له صداقة حميمة مع روسيا، ومع حكومة كابل الشيوعية، كما اعترف بتلقي مساعدات، وإمدادات عسكرية من الروس. ولقد لاحظ المراقبون عقب الانسحاب الروسي الدعم والمساندة من قبل الدبلوماسية البريطانية والأمريكية للإسماعيلية المنتشرة في أفغانستان بغية ربطها بإسماعيلية باكستان لتهيئة الأجواء لتأسيس دولة إسماعيلية(60).
وأما الباطنية: فيقول الدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه "الحركات الباطنية في العالم الإسلامي" (ص 446): "وكان أكثر عوناً للصليبيين وأشد خطراً على كل محاولة إسلامية لقتالهم، فرقة الحشاشين الذين عرفوا بالقتل والتدمير، وأصبحوا أداة غادرة بيد الصليبيين موجهة ضد المسلمين.
فكانوا بما أقدموا عليه من اغتيالات ضد القادة المسلمين، موضع ترحيب وتقدير من قبل الصليبيين بعد أن وجدوا فيهم ضالتهم المنشودة، فسارعوا للتحالف الوثيق معهم، وكان هذا التحالف واضحاً عندما زحف المسلمون على الصليبيين حتى بلغوا طبرية في فلسطين بقيادة مودود وطغتكين سنة 1113م، فأغضب هذا الباطنية، فعملوا على قتل مودود بينما كان يدخل المسجد الكبير لتأدية صلاة الجمعة، فطعنه أحد الباطنية بخنجر فلقي مصرعه. وهكذا تخلص الفرنج من عدو لدود لهم، بمصرع مودود على يد الباطنية.
وزاد من نفوذ الباطنية في بلاد الشام، اعتناق رضوان ملك حلب للمذهب الباطني وعطفه على أتباعه، فاستغل الباطنية تلك المكانة وأخذوا يباشرون أعمالهم الإجرامية ضد زعماء المسلمين(61). وما اتسمت به سياسة رضوان الباطنية، أسهمت إلى حد كبير في توطيد ملك الفرنج في الشام(62).
وتوطدت العلاقات الودية بين الصليبيين والباطنية في أيام نور الدين، وصلاح الدين، اللذين عملا جاهدين على توحيد العالم الإسلامي ضد الصليبيين، فقد كانت كراهية الباطنية لنور الدين شديدة، واعتبروه عدوهم اللدود، نظرا لأن سلطانه قيد توسعهم، فحقدوا عليه وعاونوا حلفاءهم الصليبيين ضده..."الخ.(40/27)
وأما القاديانية: فيقول الدكتور صابر طعيمة في كتابه "المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها" (ص 280-281): "إن القارئ لتاريخ مؤسس القاديانية يلحظ أن مؤسسها لم يكتف بما كان يقدمه للإنجليز من مساعدات وتسهيلات للتنكيل بأبناء جلدته بل تراه يقدم لنا الدليل على أنه من أسرة كان لها باع طويل في تثبيت أقدام المستعمرين في تلك البلاد حيث يقول:
"ينبغي لي أن أقول لكم قبل كل شيء: إنني أنتمي إلى تلك الأسرة التي اعترفت الحكومة البريطانية منذ مدة طويلة بأنها صديقة ومتمنية للخير والسعادة للحكومة البريطانية من الدرجة الأولى(63)، وكان والدي وأفراد أسرتي كلهم من راغبي الخير للحكومة البريطانية العظمى بكل جوارحهم، وأوفياء مخلصين لها من صميم قلوبهم كما اعترف بذلك مسؤلو الحكومة الإنجليزية المحترمون، وصرحوا بأن هذه الأسرة من مريدي الحكومة البريطانية العظمى. وهذه الاعترافات كلها مسجلة في الوثائق الرسمية.
لذلك أعمل بحرارة قلبي في خدمة هذه الحكومة وأعلن عن منافع هذه الحكومة وإحسانها أمام الناس كما عمل من قبل أبي وأخي، وأفرض عليهم الخضوع لهذه الحكومة وطاعتها طاعة كاملة"(64).
ويقول في موضع آخر:
"إنني أنتمي إلى تلك الأسرة التي تتمنى للحكومة البريطانية كل الخير والسعادة. لقد كان والدي -مرزا غلام مرتضى- رجلاً وفياً صديقاً محباً مخلصاً للحكومة البريطانية. لقد خصصت له الحكومة كرسياً للجلوس في كل الحفلات الرسمية إلى جانب الحاكم البريطاني. فلقد ساعدهم والدي مساعدة كبيرة في قمع تمرد 1857م -يقصد الثورة الوطنية الكبرى ضد الإنجليز- ومدهم بخمسين فارساً مسلحاً لضرب الثوار. ولذلك تدفقت على والدي رسائل الشكر والامتنان من قبل الحكام. وكذلك ساندهم والدي في المعارك الأخرى التي خاضها المتمردون -يقصد الأحرار الوطنيين- ضدهم(65).
إن والده لم يكتف بأن يكون سلبياً ضد هؤلاء الغزاة، ويجلس في بيته ويغلق عليه بابه، بل فعل ما لم يفعله أحد قبله أو بعده، لقد ترك أبناء جلدته يحاربون العدو، وأخذ في طعنهم من الخلف بغية فتح الطريق على جثث هؤلاء المجاهدين إلى داخل البلاد.
إن هذا الرجل الخائن لنفسه أولاً ولدينه ثانياً ولوطنه ثالثاً كان يحب أن يلقى جزاءه، ولكن أسياده الإنجليز -على ما نعتقد- حالوا بينه وبين غضبة الثوار.
وإذا كان الأب يفعل ذلك -فالابن كما يقال سر أبيه-
نقول إذا كان الأب باع بلاده للمستعمرين نظير ثمن بخس دراهم معدودة، فإن ابنه لم يكتف بذلك بل باع لهم دينه -حتى ينال حظوة كبرى وأموالاً عظيمة..؟؟
يقول : "لما توفي والدي ناب عنه أخي الكبير مرزا غلام قادر في خدمة الحكومة البريطانية، فشملته الحكومة هو الآخر بعنايتها وإكرامها وفضلها وجوائزها كما صنعت من قبل مع والدي..." الخ كلامه(66).
وأما الأحباش: فلينظر ما كتبه عنهم الدكتور سعد الشهراني في أطروحته "فرقة الأحباش: نشأتها، عقائدها، آثارها". (المطلب الرابع: من يدعم الأحباش؟).
والأدلة والشواهد كثيرة جداً جداً قديماً وحديثاً لا يجهلها إلا مكابر أو محسن الظن بأهل البدع. وما أحوال العراق الآن عنا ببعيد.
المغالطة الثامنة :
زعمهما أن ذكر المناهج لشيء من جهود الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وأئمة المسلمين في مواجهة البدع والانحرافات الطارئة على الأمة (شديد الخطورة على نفسية الطالب حيث قد يوحي بتأييد ضمني لما انطوت عليه من ظروف شائكة يصعب عليه فهم دقائقها وضوابط التعامل معها، الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار حرمة الدماء والنفوس من وجدان الشاب فيشعر بهوان النفوس ومشروعية القتل وإزهاق الأرواح)!! (ص8). هكذا قالوا !
فتأمل -رعاك الله- أسلوب الباحثَيْن التهويلي ضد المناهج! حيث أن مجرد ذكر تلك الجهود يؤدي إلى القتل وإزهاق الأرواح الذي لم نجده سوى في أذهان الباحثَيْن وظنهما السيئ بمناهجنا التي تناقض قولهما أشد المناقضة.
ومن طالع ما ذكرته في المقدمة عن موقف مناهجنا من قضية التكفير يجد أنها أقامت حواجز منيعة أمام من يريد أن يستحل أموال الناس ودماءهم بما لا تجده عند غيرها.
ويكفي لتأكيد هذا والرد على الباحثَيْن وظنهما السيئ أن هذه المناهج منذ وضعت -ولله الحمد- لم نسمع بمن قتل أو أهريق دمه متكئاً قاتله على مناهجنا. أتدري لماذا؟ لأن مناهجنا -كما سبق- تربي الشاب على أن يحكم تصرفاته كلها بالكتاب والسنة، وتحذره أشد الحذر من تجاوزهما تحت أي مسوغ، وتحوط أعراض الناس ودماءهم بسياج منيع من المحاذير. بينما في المقابل نجد أن الدول التي أعرضت عن المناهج الشرعية ولم يتلق شبابها المنهج الصحيح في مسائل الإيمان والكفر قد وقعت فيها الحوادث الشنيعة من اغتيالات وإزهاق أرواح؛ لأن شبابها لما لم يجدوا من يبصرهم بالحق في تلك المسائل لجأوا إلى عقولهم وفهومهم أو إلى من يغرر بهم؛ فتعدوا حدود الله وتجرؤا على دماء الناس .
كما قيل:
إذا جلس الأكابر في الزوايا فمن يثني الأصاغر عن مراد
فمن الذي قتل محمد حسين الذهبي وزير أوقاف مصر ؟!
ومن الذي قتل فرج فودة في مصر ؟!
ومن الذي قتل ناجي العلي في لبنان ؟!(40/28)
ومن الذي قتل صبحي الصالح في لبنان ؟!
ومن الذي قتل حسن خالد في لبنان ؟!
ومن الذي قتل عبد الرحمن الشهبندر في سوريا ؟!
ومن.. ومن.. الأمثلة كثيرة أظنها لا تخفى على الباحثَيْن. فهذه نتيجة واحدة من نتائج تجفيف المناهج واختزالها في تلك الدول وابتعادها عن منهج أهل السنة والجماعة. فهل من معتبر ؟!
المغالطة التاسعة :
اعتراضهما على مناهجنا في تقيمها الولاء والبراء بالنسبة للآخرين ثلاثة أقسام: من يوالى ويحب جملة وهو المؤمن، ومن يحب من وجه ويبغض من وجه وهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر والمخالفات. ومن يُبغض جملة وهو الكافر.
فظن الباحثان -بعد أن ذكر القسم الثاني بتحريف!- أنه يؤدي (إلى تعميق الكراهية ضد المسلم المقصر)! (ص9) وكان المفترض -حسب قولهما- (بث الروح الإسلامية وتأكيد الأخلاقيات النبوية مع المقصر)! (ص9).
قلت: التقسيم السابق هو ما دلت عليه النصوص الشرعية و(اتفق عليه أهل السنة والجماعة) (67) -كما يقول شيخ الإسلام الذي كثيراً ما يحرف الباحثان أقواله ويحملانها على غير محملها-، وليس هو من اختراع مناهجنا. وأدلته كثيرة لا أظنها تخفى على الباحثَيْن الشرعيين! وهي قائمة على العدل مع الجميع كما قال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون).
والمؤلم أن الباحثَيْن في محاولتهما التشنيع على مناهجنا قاما بحذف عدة كلمات رأيا أنها ستعارض ما يريدان إيصاله للقارئ!
فقد نقلا أن المناهج تقول (العصاة أصحاب الكبائر من المؤمنين.. فيوالون لما فيهم من الإيمان، ويعادون لما فيهم من المعاصي.. وهجرهم إذا كان في هجرهم ردعاً لهم وتوبيخاً).
وعبارة المناهج بالنص هي (يبقى معنا صنف ثالث وهم العصاة أصحاب الكبائر من المؤمنين الذين فيهم إيمان وفسق، أو قد يكون معهم إيمان وكفر أصغر لا يخرج من الملة، ما حكمهم في هذا الباب؟
الجواب: أن هؤلاء تجتمع في حقهم الموالاة والمعاداة، فيوالون لما فيهم من الإيمان، ويعادون لما فيهم من المعاصي، مع مناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهجرهم إذا كان في هجرهم ردعاً لهم وتوبيخاً).
فلماذا حذف الباحثان ما تحته خط ؟! لعل القارئ أدرك أن هذا الحذف (متعمد) في محاولة فاشلة للتشنيع على مناهجنا بأنها لا تبادر أهل الكبائر -ممن يدافع عنهم الباحثان!- بالمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنما تريد إيهام القارئ أن العلاج فوراً هو الهجر! مع أن المناهج تدرجت في التعامل مع أصحاب الكبائر -فيما فيه مصلحة لهم وفيما يعود عليهم بالنفع وسلوك الصراط السوي الذي يجعلهم من المفلحين دنياً وأخرى- فابتدأت بمناصحتهم؛ وهي من أنواع الرفق، ثم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بشروطه المعروفة عند أهل السنة التي من ضمنها الرفق، ثم إذا لم تنجح تلك العلاجات فإن آخر الدواء الهجر بشرط أن يكون (في هجرهم رادعٌ لهم) -كما يقول المنهج- أما إن لم يكن في الهجر مصلحة فإنه لا يلجأ إليه -كما بين ذلك العلماء-(68).
المغالطة العاشرة :
وهذه من أعجب المغالطات! إذ كيف يتصور عاقل أن مسلماً صادقاً يعيب مناهجنا بأنها تحارب الشرك الأكبر وتصف مرتكبه بالكفر والضلال؟! متناسية قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به) وتشنيعه عليه وعلى أهله في آيات الكتاب العزيز .
فقد عاب الباحثان مناهجنا قولها (إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين؛ كأن يقول يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا.. فهو شرك أكبر).
قلت: أسقط الباحثان -كما سبق في التنبيهات- مكان النقط عبارة (فهو نذر لغير الله وعبادة حرفت لغيره تعالى) ! فلماذا ؟ ألأجل أنه يوضح للقارئ أن سبب الحكم على هذا النذر بأنه شرك أكبر أنه نذر وعبادة لغير الله تعالى؟! وهل الباحثان يشكان في هذا الأمر العظيم؟!
ويتألم الباحثان بسبب أن مناهجنا تصف مرتكب الشرك الأكبر بأنه (حلال الدم والمال)! متناسية أن هذا حكم الله وحكم رسول صلى الله عليه وسلم عليهم وليس حكم مناهجنا!. قال سبحانه (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) وقال (قاتلوا المشركين كافة)، وقال صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم" رواه أحمد وأبو داود، وقال: "قاتلوا من كفر بالله" رواه مسلم. وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على هذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة.
المغالطة الحادية عشر :
يلوم الباحثان مناهجنا حكمها على الدعوة القومية المضادة للإسلام بأنها (دعوة جاهلية إلحادية، تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه) أو أن (الفكر القومي يسقط الدين من اعتباره.. بل إنه يعتبر الدين عائقاً في سبيل القومية) أو أن (الانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية كفر وردة عن دين الإسلام).(40/29)
أقول: هذا تسطيح وسوء فهم، وهذه المغالطة تشهد أن الباحثَيْن يجهلان واقع الفكرة القومية التي تحدثت عنها مناهجنا(69)! ولهذا لم يريا فيها إلا أنها "تمتن الروابط القومية وما يتبع ذلك من تبادل اقتصادي ومواقف سياسية.. الخ مديحهما! (ص10).
ولو كلف أحدهما نفسه جهداً يسيراً بمراجعة أطروحات وأقوال سدنة (القومية العربية) في البلاد الإسلامية لوجودها خير دليل على ما جاء في مناهجنا حول فكرتهم الجاهلية، ولما وقعوا في هذا الجهل المبين. وسأكتفي بمقولات من يسمى "فيلسوف العروبة"(70) ساطع الحصري: الذي يقول: (إن الرابطة الوطنية والقومية يجب أن تتقدم على الرابطة الدينية) (71) ويكتفي الحصري -كما هو معلوم لكل مطلع على تراثه- "باللغة والتاريخ المشترك" في أركان قوميته المزعومة؛ أما الدين (أي الإسلام!) فإنه في نظر الحصري يتعارض مع فكرته القومية. يقول الحصري: (إن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية)(72).
ويرى أن الإسلام من ضمن الأديان الأممية التي تتعارض مع القوميات(73). ولهذا فإنه يرى الرابطة الإسلامية من ضمن العراقيل في طريق قوميته الجاهلية. يقول الحصري: (إن فكرة القومية العربية صادفت في طريق سيرها وانتشارها عراقيل كثيرة. وعقبات خطيرة، وقد تغلبت على الكثير منها منذ بداية القرن الحالي: فإنها اخترقت أولاً السد المنيع الذي تكون من امتزاج فكرة الجامعة العثمانية بمعنوية الخلافة الإسلامية. وهي على وشك الانتهاء من التغلب على العقبات التي تعترض طريقها باسم الرابطة الشرقية من ناحية. والرابطة الإسلامية من ناحية أخرى) (74).
قلت: ولهذا فقد تقرر عند عقلاء الباحثين الذين يفهمون الأشياء على حقيقتها أن دعوة الحصري القومية دعوة علمانية تتعارض مع الإسلام، بل تعاديه وتقاومه وتحاول زحزحته عن قيادة الأمة بأن يبقى مجرد دين روحي كالنصرانية.
تقول الباحثة السوفيتية الدكتورة تيخونوفا في دراستها التي استمرت عشر سنوات عن فكر ساطع الحصري: "لقد كان الحصري علمانياً منذ البداية"(75).
وتقول: "كان قول الحصري بوحدة التاريخ يتطلب منه منطقياً فصل تاريخ العرب عن تاريخ الإسلام"(76). وتقول أيضاً: "وعني الحصري بإثبات أن فصل الدين عن الدولة نتيجة قانونية وحتمية لتطور المجتمع".(77) وتقول أخيراً: "لقد جاء فهم الحصري للحركة القومية العربية على أنها حركة سياسية بطبيعتها، وبالتالي غير مرتبطة بالدور الأساسي للعامل الديني، إنجازاً هاماً للفكر الاجتماعي العربي، ساعد على توطيد المنحى العلماني في سيرة العرب نحو وحدتهم القومية"(78).
أما الأستاذ شاكر اليساوي في كتابه "دعاة الفكر القومي العربي"(79) فيقول بصراحة: "أما علاقة الدين بالقومية فقد كانت في فكر الحصري علمانية؛ لأن القومية نفسها فكرة علمانية".
أما الشيخ محمد الغزالي -الذي أظنه محل تقدير عند الباحثَيْن- فقد حكم على القوميين بأنهم "ملحدون يجاهرون بالكفر"(80) !! والأمثلة كثيرة.
فمن نصدق بعد هذا: أصحاب الشأن من سدنة القومية وعقلاء الباحثين أم من يفهم الأمور بسطحية تامة تؤدي به إلى ظلم مناهجنا والافتراء عليها؟! (81).
المغالطة الثانية عشر :
قولهما: (بل يتجاوز الأمر التصعيد مع القومية العربية، إلى تصوير النزعة الوطنية كعقوبة لأي مجتمع يرتد عن الإسلام كما يقول المقرر "العالم الإسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسياً وثقافياً، يخضع لهذه العصبيات الدموية، والجنسية، والوطنية.. والواجب أن يعلم أن هذه الحزبيات عذاب بعثه الله على من أعرض عن شرعه وتنكر لدينه") (ص11).
قلت: في كلام الباحثَيْن سوء فهم وتحريف لما جاء في المنهج ابتغاء التهويل والتشنيع!
أما سوء الفهم: فهو أن الباحثَيْن لم يفهما الدعوة (الوطنية) التي يتحدث عنها المنهج وظنوها مجرد محبة الإنسان للبلد الذي ولد وعاش فيه، دون أن يتعارض ذلك مع الإسلام! (82) فهم في وادٍ والمنهج في وادٍ آخر؛ لأن المنهج يتحدث عن دعوة حزبية جاهلية علمانية تتعارض مع الإسلام وتنابذه كشأن أختها القومية، وتهدف إلى حصره في دائرة العبادات -كما دعت إليه مثيلاتها في الغرب-. حتى قال أحد أساطينها(83) "الدين لله والوطن للجميع".
هذه الوطنية الحزبية التي أراد لها أصحابها أن تكون بديلاً عن الدين الذي نحي جانباً. حتى قال شاعرهم محيياً وطنه:
ولو أني دعيتُ لكنتَ ديني
عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي
إذا فهتُ الشهادة والمتابا !
أو قوله :
وجه الكنانة ليس يُغضب ربكم أن تجعلوه كوجهه معبودا !
ولوا إليه في الدروس وجوهكم وإذا فرغتم فاعبدوه هجودا !
إن الذي قسم البلاد حباكم بلداً كأوطان النجوم مجيدا
هذه الوطنية -أو قل الوثنية- التي جعلت الكافر قريناً ومساوياً للمسلم بدعوى "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"(84)، بل تطور الأمر -والعياذ بالله- حتى حكم بعض العصريين لأبناء وطنه من الكفار أنهم من أصحاب الجنة !!.(40/30)
وانظر -غير مأمور- لتأكيد هذا والرد على دعاة الوطنية الجاهلية كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" وكتاب "محمد عمارة في الميزان"، ورسالة "نظرات شرعية في فكر منحرف -6-".
المغالطة الثالثة عشر:
ويواصل الباحثان استعراض جهلهما المزري بحقيقة الأفكار المعاصرة عندما تعجبا من وضع مناهجنا "الرأسمالية" ضمن المذاهب الكفرية! لأنها -أي الرأسمالية- في ذهنهم القاصر تعتبر مجرد "نظرية اقتصادية تقوم على فكرة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وتحرير الأسواق وغيرها... الخ" (ص11)
قلت: هذه نظرة سطحية للرأسمالية اغترت بقشورها ولم تغر إلى لبها الذي هو عبارة عن عقيدة وأيدلوجية لها نظرتها الخاصة التي أنتجتها أحداث الصراع مع الكنيسة(85) والقائمة على الحرية المطلقة وعلى "فصل الدين عن الحياة"(86) كما يقول الدكتور محمود الخالدي. ويقول -أيضاً-: "إن الناس في أوربا وأمريكا يؤمنون بالرأسمالية كعقيدة ونظام للحياة، بمعنى أنها صارت ديناً ينتحله النصارى، ورأوا في العقيدة الرأسمالية أنها جاءت ناسخة لدين السيد المسيح عليه السلام. ومفهوم العقيدة أنها وجهة نظر كلية في الكون والإنسان والحياة. والرأسمالية كذلك؛ لأنها تقوم على الإيمان المطلق بفصل الدين عن الحياة"(87) ويقول الأستاذ محمد عبدالرؤف: "تعد الحرية الفردية المطلقة سمة أصيلة من سمات الرأسمالية"(88).
أما الأستاذ أحمد الشيباني -رحمه الله- الخبير بالمذاهب المعاصرة فيبين وجهاً قبيحاً للرأسمالية بقوله: "أرى أن الرأسمالية هي المخطط الكامل الذي ابتدعته السلبية في العقل البشري لتنظيم وإدارة وتوجيه الغريزة البشرية في أحط أدوارها الهمجية. لذلك أعتبر الرأسمالية هي الحيوانية التي ينظمها العقل، وأنها تمثل طمعاً واعياً، ونهماً يقظاً يعرف أهدافه، ويعرف الوسائل التي يسلكها إليها، وشراهة تتغذى بالواقع، وتهتدي بنور العقل، وأثره ضيقة خانقة. إنها في اختصار أرقى الدرجات التي وصل إليها العقل الحيواني في الإنسان"(89). ويقول بيتر إل بيرجر في كتابه "الثورة الرأسمالية" (ص245) متحدثاً عن نظرة المسلمين للرأسمالية: "حين يُنْظر إلى الرأسمالية من منظار التقليديين، فإنها تبدو لهم عدوة؛ لكون ديناميكياتها تنسف المؤسسات التقليدية وطرق حياتها". ويقول رافي بترا في كتابه "بعد الشيوعية سقوط الرأسمالية" (ص301): "الرأسمالية ليست فقط نظاماً اقتصادياً، ولكن أيضاً نظاماً اجتماعياً واقتصادياً متواكبان..".
المغالطة الرابعة عشر :
يعيب الباحثان مناهجنا بما ورد فيها من أن: (الشرك الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب)! بدعوى أن (هذه العبارة نقلت من بعض المصادر المولودة في ظروف استثنائية ولا تصلح قاعدة عامة)! (ص12).
قلت: هذه العبارة مستفادة من كتاب الله عز وجل!! فلماذا التلبيس؟! قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان) وقال سبحانه (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده).
ومما يثير العجب أن الباحثَيْن رغم دراستهما الشرعية يخلطان بين مودة الكافر وموالاته (المحرمة) بنص الكتاب والسنة، وبين بر الكافر غير المحارب والقسط معه إليه وهو أمر مشروع لا يتناقض مع البراءة منه. ولعل هذا يضاف إلى تأثرهما بالكتب العصرية التي نسخت ما في عقولهما من عقيدة أهل السنة!
فكما حرمت النصوص الشرعية موالاة الكفار ومودتهم؛ كما في قوله تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله.. الآية) وقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء).. إلى غيرها من الآيات(90) فإنها أجازت بر الكافر غير المحارب والعدل معه؛ كما في قوله: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم). ومن ذلك: الإنفاق على الكافر القريب وصلته والإحسان إليه.(40/31)
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- راداً على واحدٍ من الخالطين بين الموالاة والمودة (المحرمة) وبين القسط والإحسان لغير المحارب (الجائز): " زعم آخر من دعاة القومية أن الله سبحانه قد سهل موالاة الكفار الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) وهذا كالذي قبله احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها. والله سبحانه قد حرم موالاة الكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله ما لم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدلّ عليه كتاب ولا سنة؟! سبحان الله ما أحلمه! وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم الرخصة في الإحسان إلى الكفار والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة" وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك. فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سبباً في الدخول في الإسلام والرغبة فيه وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والبصيرة"(91).
المغالطة الخامسة عشر :
عدم تفريق الباحثَيْن بين التعاملات الجائزة مع الكفار وبين البراءة منهم وعدم مودتهم ومحبتهم. ولذلك فقد حشدوا نصوصاً كثيرة جاءت في المقام الأول للتدليل بها على المقام الثاني! دون فقه بمعانيها (ص12-13، 23-26)، وقد سبق في كلام الشيخ ابن باز -رحمه الله- الرد عليها والتفريق بين المقامين.
المغالطة السادسة عشر:
قولهما: (ومن نماذج تعميم أحكام المحاربين ما يقوله المقرر مثلاً: "ومحبة الله لها علامات تدل عليها.. ومنها: العزة على الكافرين) (ص13).
قلت: المنهج يتحدث عن علامات محبة الله عز وجل؛ المستفادة من آيات القرآن الكريم! ومنها ما يراه الباحثان عيباً في مناهجنا -والعياذ بالله-؛ وهو العزة على الكافرين المستفاد من قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين..) الآية، وقد ذكرت في المنهج! فكيف عميت عنها الأبصار؟! فإذا كان للباحثَيْن اعتراض فليعترضوا -صراحة- على كتاب الله عز وجل؟! لا أن يوهموا القارئ أن اعتراضهم ليس على النصوص والأحكام الشرعية الثابتة، إنما على المناهج .. فما هذا إلا ضحك على العقول واستخفاف بها.
المغالطة السابعة عشر :
ادعاؤهما أن الإسلام لم يأت بتفاصيل الأحكام !
يقول الباحثان: (ولما بعث الله الرسل وأنزل معهم الشرائع لم يبين فيها إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم وبعض التفاصيل الثانوية، ولم يشأ الله تعالى أن يحسم كل مظاهر الاختلاف..)! (ص14).
قلت: هذه -للأسف- مقولة جاهل بدين الله! إذ كيف يكون الإسلام -وهو محور الحديث!- لم يأت إلا (ببعض التفاصيل الثانوية)! وهو الدين الذي ما ترك صغيرة ولا كبيرة في حياة أتباعه إلا وجعل لها آداباً وأحكاماً تخصها.. حتى الدخول إلى الخلاء -أكرم الله المؤمنين-؟! فكيف بغيرها من الأمور الأخرى التي هي في قياس الباحثَيْن من التفاصيل الثانوية؟ كأحكام النوم والاستئذان والسلام والعطاس والتثاؤب والأكل واللباس و.. و.. الخ، حتى عجب اليهود والمشركون من هذا الضبط التشريعي في حياة المسلمين فقال قائلهم لسلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "إني أرى صاحبكم يعلمكم. حتى يعلمكم الخراءة. فقال سلمان: أجل. إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام.." (92). وهذا مصداق لقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) مع قوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
وقول الباحثَيْن السابق دليل آخر يشهد باقتياتهما من كتب العصريين التي تحاول تضييق دائرة النصوص الشرعية حتى تكاد تلغيها في مقابل ما يسمونه (المصالح) و(المقاصد الكلية للشريعة) التي احتالوا بها على قال الله وقال رسول صلى الله عليه وسلم (93). وقد قال تعالى (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا).
المغالطة الثامنة عشر:
يعيب الباحثان على المنهج الشرعي أنه (لم يعرض أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالف وعلى رأسها): (1-أن الاختلاف سنة كونية) (2-تعميق الإيمان بالتعددية) (3-نبذ الزهو المذهبي) (4-تكريس قيم التعايش). (ص14-15).(40/32)
قلت: وهذه قد سبق بيان ما فيها من مغالطات؛ حيث لم يفرق الباحثان بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. فظنوا أنه ما دامت قد وجدت في تاريخ المسلمين: الفرق المبتدعة والمنحرفة فإن الواجب علينا أن نرضى ما رضيه الله! -بزعمهم!- ولا ننكر على أحد؛ وقد سبق ما في هذا المسلك الشنيع من خطورة؛ لأنه سيؤدي -حتماً- إلى إقرار الكفر والشرك والإلحاد في ديار المسلمين أو الدعوة إلى وحدة الأديان بدعوى "التعددية"! وأن "الاختلاف سنة كونية"! إلى آخر هذه الشناعات.
ثم قال الباحثان بعد هذا: (5- عدم بخس المخالف: بما يعني الإقرار بما معه من الحق، وعدم غمطه ما معه من الصواب الذي يحمله، ذلك أن أكثر ما يقع بسببه الاختلاف هو بغي كل فريق على الآخر، ورد الحق الذي معه بسبب ما خالطه من الباطل. وكان المفترض فرز المضمون الذي يقدمه كل اتجاه، وعدم أخذه كله أو رده كله، قال ابن تيمية: "عامة ما تنازع فيه الناس يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه، وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشيء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق").
قلت: لا زال الباحثان يشكان ويرتابان في صحة معتقد أهل السنة! الذي يرونه -كما هو متضح من كلامهما- مجرد "اتجاه" من ضمن اتجاهات كثيرة: رافضية وصوفية وأشعرية- قد يكون الصواب -كله أو بعضه- معها لا معه!!
فلا حيلة لنا في هذه "الحيرة" التي يعيشانها حتى لم يعودا يفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال -والعياذ بالله-. "وكل إناء بما فيه ينضح".
ولا عجب في هذا لمن عرف أحوال الباحثَيْن اللذين عكفا على كتب العصريين "المتذبذبين" فضلوا وأضلوا، ولكن العجب: نقلهما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الآنف ظانين أنه يشهد لقولهما!!
وحاشاه من هذا
فكلامه -رحمه الله- عن اختلاف الفرق المنحرفة في كثير من مسائل العقيدة، وأن كل فرقة منها رغم انحرافها إلا أنها تصيب في بعض المسائل. أما أهل السنة -ولله الحمد- فإنهم يجمعون صواب الفرق كلها؛ لأنهم يصدرون في أقوالهم عن قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقول رسول صلى الله عليه وسلم الذي (إن هو إلا وحي يوحى). فأنى يأتيهم الخطأ والانحراف ؟!
فالباحثان قد أتوا من قلة فهمهما لكلام الشيخ -رحمه الله-.
المغالطة التاسعة عشر :
يعيب الباحثان مناهجنا لأنها تدعو إلى ما يسمونه "الزهو المذهبي"! (14، الذي يتنقص المخالفين وأنهم ليسوا على شيء.. الخ.
والمنصف لا يجد شيئاً من هذا الإفك في مناهجنا التي لا تدعو إلى "مذهب"، إنما تدعو إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح -كما سبق في المقدمة-، وتدعو الآخرين إلى ترك ما هم عليه من بدع وانحرافات والعودة إلى الصراط المستقيم الذي ضلوا عنه. فإن كان الباحثان في شك وريب من صحة عقيدة أهل السنة والجماعة فهم أحرار في سلوك هذا الطريق، ولكن شكهم وريبهم لا يغير شيئاً من الحقيقة، فلا يلومنا الباحثان إن اتبعنا قوله تعالى (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا). فأي نعمة أعظم من الهداية للسنة؟!
وإذا لم ترَ الهلال فسلم
لأناس رأوه بالأبصار !
المغالطة العشرون :
قولهما بعدما سبق: (6- مراعاة الوسع: وذلك عبر بث الوعي بأن المعيار الشرعي هو استفراغ الوسع وبذل الجهد في الوصول إلى الحق؛ فإن نجح الإنسان في الوصول للحقيقة ضوعف له الثواب، وإن أخفق كوفئ بما بذله من الجهد. فلذلك فكافة المختلفين الذين بذلوا وسعهم دائرون بين الأجر والأجرين، ولذلك قال ابن تيمية "إذا أريد بالخطأ الإثم فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب"). (ص15).
قلت: لا زال الباحثان يشكان في صحة معتقد أهل السنة ! ولهذا يطالبان مناهجنا بأن تعرض أقوال الفرق المنحرفة بل والمشركين! لطلاب المتوسط والثانوي! ليختاروا منها ما يرونه حقيقة !!، فيحصلوا على الأجرين! أما إن أخطؤا في الوصول للحقيقة: فأشركوا -مثلاً- أو ترفضوا أو تصوفوا أو ... فلهم أجرٌ واحد!!
لا يقولن قائل: لعلهما يقصدان المسائل الاجتهادية في الفقه. فأقول: لا تنس أن الحديث عن مقررات التوحيد!! فتأمل هذا التخبط واحمد الله أن عافاك من أحوال أهل الريب.
المغالطة الحادية والعشرون:
يستغرب الباحثان نقد مناهجنا للبدع والانحرافات العقدية التي طرأت في حياة المسلمين ولا زالت إلى اليوم، ويزعمان أن هذا من "المبالغة في تصوير الانحرافات"! (ص16-17).
وفي ظني أن هذا الاستغراب لا يصدر إلا من جاهل بواقع الأمة، وإلا لو سرح أحدهما طرفه في بلاد المسلمين لرأى من البدع العجب العجاب باعتراف الفضلاء الموفقين من أهل تلك البلدان.
وأنصح الباحثَيْن بالرجوع إلى رسالة: "الانحرافات العقدية والعلمية في القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجريين" للدكتور علي الزهراني.
ورسالة "دمعة على التوحيد: حقيقة القبورية وآثارها في واقع الأمة" إصدار المنتدى الإسلامي.
وكتاب "واقعنا المعاصر" للشيخ محمد قطب؛ ولعله يتبين لهما أن عقليهما غائبان أو مغيبان عن الواقع، رغم ادعاء الفهم!(40/33)
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم
المغالطة الثانية والعشرون:
يستنكر الباحثان قول مناهجنا عن مناهج التعليم في العالم العربي والإسلامي: (أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتماماً كبيراً أو لا تهتم به أصلاً) (ص17).
ويرى الباحثان أن في هذا مبالغة ومخالفة للواقع!!
ولا أظن القارئ -المطلع على مناهج الدول العربية- بحاجة إلى من يوضح له هذا الأمر الخافي على الباحثَيْن .
وأنصح الباحثَيْن بالاطلاع على سلسلة رسائل "الغزو الفكري في المناهج الدراسية" التي يصدرها خبير المناهج: الأستاذ علي لبن، ومقالة "المناهج بين التطوير والتدمير" في مجلة البيان (العدد129)، ومقالة "الثقافة والذوبان" في العدد (71)؛ ليزدادا فهماً بدل هذا التشنيع الساذج.
المغالطة الثالثة والعشرون:
يعيب الباحثان مناهجنا بأنها تبالغ (في تصوير الخلل والثغرات التي يرتكبها الإعلام؛ فيجعلها منسلخة عن العقيدة، منحلة الأخلاق)!! (ص17)
ويظهر أن "عكوف" الباحثَيْن على عشرات القنوات الفضائية التي تسلخ الأمة من دينها وأخلاقها قد ظهرت آثاره في قولهما السابق! وقد قيل: كثرة الإمساس تذهب الإحساس! ولو سألت أي إنسان عاقل مطلع على القنوات لأخبرك بأن مناهجنا قد قصرت في تصوير هذا العفن الذي تبثه في ديار المسلمين، فلم يعد الأمر خافياً على أحد. وما "ستار أكاديمي" عنا ببعيد!
المغالطة الرابعة والعشرون:
يستنكر الباحثان حرص مناهجنا على أن يكون "الحكم لله" وأن تبتعد الدول الإسلامية عن تحكيم القوانين الجاهلية المأخوذة من الغرب النصراني التي تعارض حكم الله. ويريان أن في هذا (تسليط الأضواء على نقاط الضعف في المجتمع، وثغرات الواقع، وعرضها بصورة مكبرة...) إلى آخر هذرهما الكلامي (ص81).
فهل نسي الباحثان قوله تعالى (إن الحكم إلا لله) وقوله (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) وقوله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقوله (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) .. إلى غيرها من الآيات التي تلزم المسلمين بالتحاكم إلى الشريعة الإسلامية.
فكيف يستهين الباحثان بهذا الأمر العظيم الذي صرف الأمة عن دروب العزة وجعلها مجرد تابع ذليل للكفار في شئونها؛ وعلى رأسها الحكم -إلا من رحم الله، كبلاد التوحيد التي لا زالت متمسكة- رغم أنف الحاقدين- بتحكيم الشريعة. نسأل الله أن يثبتها على هذا، وأن يوفق غيرها للعودة إلى حكم الله.
ومما يثير الدهشة: أن أحد الباحثَيْن كان من الساعين قبل سنوات في منازعة ولاة الأمر في بلادنا والتشنيع عليهم بدعوى عدم تحكيم الشريعة !! فتأمل هذا التناقض ما أعظمه ! وأسأل الله العافية والثبات.
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم !
المغالطة الخامسة والعشرون:
يرى الباحثان في الفصل الثالث من بحثهما أن مناهجنا لا تبعث الطمأنينة في نفوس الطلبة! وإنما تجعلهم قلقين من الوقوع في الشرك والنفاق مما يجعلهم يحجمون عن "المشاركة الاجتماعية"! و"الإنتاج الإجتماعي"! (ص19)
وأعترف للقارئ بعجزي عن فهم هذه "المشاركة الاجتماعية" و"الإنتاج الاجتماعي" وغيرها من الشقاشق الكلامية التي يتفيهق بها الباحثان كثيراً!
والذي أعرفه ويعرفه غيري أن أبا الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- خاف على نفسه وبنيه الوقوع في الشرك بقوله (واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام). قال إبراهيم التيمي: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟" (94).
قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب -رحمهم الله-: "فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟.. وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه"(95).
فكيف -بعد هذا- لا نخاف الشرك ورسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"(96) ؟!
وكيف لا نخاف النفاق؟ وابن أبي مليكة -رحمه الله- يقول: (أدركت ثلاثين من أصحاب صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه) -كما في صحيح البخاري-(97)
قال الحافظ ابن حجر: (ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى). (98)
وكيف لا نخاف النفاق؟ وعمر -رضي الله عنه- ثاني الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة كان يسأل حذيفة -صاحب سر رسول ا صلى الله عليه وسلم - (أذكرني رسول ا صلى الله عليه وسلم فيمن ذكر من المنافقين؟) (99).
وكيف لا نخاف النفاق؟ وأبو الدرداء -رضي الله عنه- كان كثيراً ما يتعوذ من النفاق في صلاته. فقال له أحد أصحابه: وما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: اللهم غفراً، لا يأمن من البلاء من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة، وينقلب عن دينه(100).
وكيف لا نخاف النفاق؟ وقد سئل الحسن البصري: هل تخاف النفاق؟ فقال: وما يؤمنني وقد خاف عمر -رضي الله عنه-؟!(101)(40/34)
فمناهجنا ولله الحمد متابعة لأنبياء الله -عليهم السلام- ولصحابة نبي صلى الله عليه وسلم في التخويف من الوقوع في الشرك والنفاق، والتحذير من إعجاب المرء بنفسه وتزكيته لها، أو وثوقه المفرط بعقله كما يريد منها الباحثان.
المغالطة السادسة والعشرون :
يعيب الباحثان مناهجنا بسبب "ضعف حضور القضايا والقيم المدنية" في موضوعاتها. (ص21).
ولا أدري ماذا يقصدان "بالقيم المدنية"! وسيأتي -إن شاء الله- في الملحق أن مناهجنا مليئة بما يتعلق بالأمور المرتبطة بحياة المسلم في الدنيا؛ إضافة إلى أمور العبادات وأمور الغيب التي هي الأهم، والأصل في وضع المناهج.
ثم أليست أمور المعاملات بأنواعها، والآداب، والسلوك، وتنظيم العلاقات بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، وبين الحاكم والمحكوم.. الخ تعد من الأمور المدنية؟! (102)
أم أن الباحثَيْن يقصدان أمراً آخر -مولعان به- لم تتعرض له مناهجنا؛ هو ما يسميانه: المشاركة الشعبية والسياسية وإقامة الأحزاب والبرلمانات و..الخ ما تعلقا به من شيوخ العصرنة ؟!
المغالطة السابعة والعشرون :
يفتري الباحثان على مناهجنا أنها تدعو (إلى عدم تسمية العلماء في العلوم الإنسانية والتقنية بلقب علماء، بل يجب اعتبارهم جهال، وإنما الذي يستحق وصف عالم في نظر المقرر هو العابد فقط)! (ص22).
وهذا كذب صريح على المقرر الشرعي؛ لأن المقرر قال بالنص عن لقب "العالم": (وإنما يطلق هذا على أهل معرفة الله وخشيته؛ كما قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)).
فالمنهج يقرر بوضوح أن لقب العالم يطلق على "أهل معرفة الله وخشيته" وهم العلماء الشرعيون، لا كما يدعي الباحثان ! فلماذا الكذب؟!
ولينتبه إلى أن المنهج في طرحه لهذا الأمر يهدف إلى الرد على ما اشتهر عند بعض الناس من تنزيل الآيات والأحاديث الواردة في مدح "العلم" و"أهله" على أصحاب العلم الدنيوي، وهذا خطأ بالاتفاق. لأن جميع ما ورد في النصوص الشرعية من مدح للعلم فإنما هو خاص بالعلم الشرعي. وهذا لا يمنع أن العلم الدنيوي النافع للمسلمين أمر مطلوب وصاحبه مأجور -إن شاء الله-. ولكن دون أن يلجئنا مدحه لتحريف للنصوص الشرعية.
المغالطة الثامنة والعشرون :
يدعي الباحثان خطأ مناهجنا عندما قالت عن المجتمعات الغربية: (المجتمع الذي لا تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد كل مقومات الحياة السعيدة، وإن كان يملك مقومات الحياة المادية، والتي كثيراً ما تقوده إلى الدمار، كما هو مشاهد في المجتمعات الجاهلية).
يقول الباحثان: (هذه المبالغة تربك الطالب أكثر مما تسهم في تعميق إيمانه، ذلك أن ما يشاهده في الواقع هو أن الإمكانيات التي تمتلكها القوى الكبرى تمنحها المزيد من الاستقرار). (ص23).
قلت: إنما أتيتما من سوء فهمكما لمناهجنا! فالمنهج يصدر عن كتاب الله -عز وجل- الذي حكم على الكفار بأنهم (كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) أي أحط وأخس من الأنعام ! ويقول فيهم (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم)، وأخبر أن حياتهم يسودها الضنك (ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا). وأخبر أن الحياة السعيدة الطيبة هي للمؤمنين لا للكافرين (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)
هذا ما يقصده منهجنا: أن الكفار الذين حرموا أنفسهم من الإسلام وعبودية الله وحده خسروا الحياة السعيدة الطيبة وإن كانوا قد حصلوا (مقومات الحياة المادية)؛ لأن الله يقول عن أمور الدنيا (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك). فأمور الدنيا من بذل أسبابها حصلها لا فرق في هذا بين مسلم وكافر. أما الحياة السعيدة فلا ينالها إلا المؤمن.
أما (الاستقرار الدنيوي) فلم تنفه مناهجنا -مطلقا- كما يريد الباحثان إيهامنا؛ لأنها سبق أن ذكرت بأن مجتمعات الكفار تملك (مقومات الحياة المادية) فلماذا الافتراء ؟
ورغم هذا كله فإن الله يقول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، ويقول: (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة بما صنعوا أو تحل قريباً من دارهم). وما أمر الحربين العالميتين عنا ببعيد !
المغالطة التاسعة والعشرون :
يتنقص الباحثان مناهجنا أنها اشترطت شروطاً لإقامة المسلم في ديار الكفار منها: "أن يكون مضمراً لعداوتهم وبغضهم". ثم قالا -بسخرية-: (فأي أخلاق إسلامية يقدمها المقرر للطالب في هذا المقام؟! نذهب إلى الناس لنتعلم منهم، أو نتطبب لديهم، أو نبرم معهم العقود، أو ندعوهم لدينا، بشرط أن نضمر لهم العداوة !). (ص23).
قلت: ألا يعلم الباحثان أن تنقصهما هذا وسخريتهما قد أصابت كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم الآمرتين بالبراءة من الكافرين؟!
ألا يعلم الباحثان أن الأصل تحريم الإقامة في ديار الكافرين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"(103) وقوله: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"(104) وإنما جازت الإقامة في ديارهم في حالات مخصوصة وردت بها النصوص بالشروط التي ذكرها المنهج ولم تقبلها عقول الباحثَيْن!(40/35)
ومن أعظمها: التصريح بالبراءة من الكافرين ودينهم الباطل: قال تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده).
فهل يتنقص الباحثان -أيضاً- كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم التي هي مصدر ما جاء في مناهجنا ؟!
الأمر خطير جداً.
المغالطة الثلاثون:
يزعم الباحثان أن مناهجنا قلقة جداً على الشباب إن هم (اكتشفوا إبداعات غير المسلمين فسينقلبون على أعقابهم وينسلخون من عقيدتهم)! (ص27).
وهذا كذب على مناهجنا؛ لأن المناهج ذكرت أن للانحراف عن العقيدة أسباباً كثيرة؛ أحدها كما يقول المنهج: (الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية، حتى ظنوا أنها من مقدور البشر وحده، فصاروا يعظمون البشر ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده؛ كما قال قارون من قبل (إنما أوتيته على علم عندي) ولم يتفكروا وينظروا إلى عظمة من أوجد هذه الكائنات..). فمناهجنا تنبه الشباب إلى أن لا يغفلوا عن عظمة الله -عز وجل- حال رؤيتهم لمعطيات الحضارة المادية بل يتذكروا قوله تعالى (علم الإنسان ما لم يعلم).
فأي "إبداعات" لغير المسلمين لم تكتشف بعد، وهذه المناهج وهذا الواقع في بلادنا نفسها مملوء بكل مفيد منها؛ في مجال: العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء والتقنية والاتصالات .. وغيرها ؟!
إلا أن يريد الباحثان بتلك "الإبداعات التي لم تكتشف" الأفكار العلمانية والإلحادية والعبثية وغيرها من الأفكار المناقضة للإسلام !
ويعلم العقلاء أن لا دخل لهذه الأفكار الجاهلية بالأمور المادية؛ لأننا نرى أن التقدم الدنيوي ليس قصراً على ديانة أو ثقافة من الثقافات؛ إنما هو مطروح للجميع مَنْ بذل أسبابه حصله -كما سبق- فلماذا يريد الباحثان أن يستنسخا في بلادنا تجربة الغرب النصراني وصراعه مع الكنيسة؟!
ثم يكذب الباحثان على مناهجنا بأنها جعلت العلاج هو "تجاهل منجزات هذه الحضارة". والمنهج لم يقل هذا أبداً، ولكنه الكذب الرخيص. -كما سبق في المقدمة-
المغالطة الحادية والثلاثون :
يعلق الباحثان على العبارات التي ذكرها المنهج مثالاً على من يستهزئ بالدين وأهله بأنه لابد من النظر في قصده -ثم ذكرا بعض أمثلة المنهج- وقالا تعليقاً: (المعروف أن كثيراً ممن يقول هذه العبارة لا يقصد تنقص الدين) ! (ص28).
قلت: هذه سذاجة من الباحثَيْن ما بعدها سذاجة! إذ الفصل الذي جاءت فيه جميع العبارات والأمثلة عنوانه (الفصل الثاني عشر: الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته).
فجميع أمثلته يراد بها -حتماً- من يقصد الاستهزاء بالدين. أما من لم يقصد ذلك فلم يتعرض له المنهج أبداً! فلا حاجة لتفصيلكما المتكلف!
المغالطة الثانية والثلاثون :
قال الباحثان (ص29): (ومن ظواهر الاضطراب في المنهج العلمي أن المقرر عقد درساً لـ(موانع التكفير) وهي (الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه) وقدم فيها مجموعة من التفصيلات والأدلة. (مقرر التوحيد-الثالث ثانوي- شرعي- 250).
إلا أنه في التطبيق العملي يتجاهل بعض موانع التكليف كالجهل والتأويل وعدم القدرة والخطأ والخوف ونحوها، إما بتصريح نظري، أو بشكل تطبيقي، مما يترتب عليه وقوع الطالب في خطر التناقض والتطبيق العشوائي لقواعد التكفير والتضليل.
فمثلاً يتجاهل المقرر عذر المخطئ بشكل موهم فيقول: "الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون").
قلت: بل الاضطراب في عقليكما ! ولو قرأتما موضوع "التكفير" الوارد في منهج الصف الثالث الثانوي -كما سبق في المقدمة- بتدبر وتروٍ وبدون عجلة! لتبين لكما أن الحكم على فعل ما بأنه شرك أو كفر لا يلزم أن يكون فاعله مشركاً أو كافراً دون مراعاة للشروط التي ذكرها المنهج. فواعجباً كيف يجهل هذا من درس عقيدة أهل السنة وتخصص فيها سنين عدداً !
ثم إن المنهج ذكر أن (الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون) تعليقاً على أثر حذيفة -رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحُمَّى فقطعه وتلا قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). فلماذا لم تبينا هذا للقارئ؟!
ثم قال الباحثان (ص29): (كما يتجاهل -أي المنهج- بعض حالات عذر الجاهل فيقول ((الجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات))".
قلت: المنهج لم يتجاهل هذه الحالات! فلماذا الافتراء ؟! لقد قال المنهج بالنص -كما سبق في المقدمة- : (والجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات وإليك تفصيل ذلك فيما يأتي:(40/36)
1. من كان حديث عهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان فأنكر شيئاً مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفرون إلا بعد أن تقام عليهم الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعد أن ذكر بعض أنواع الشرك "... وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه" وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب "... وإذ كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبدالقادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم".
2. من أنكر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر مع كونه في دارِ إسلام وعلْمٍ، ولم يكن حديث عهدٍ بإسلام فإنه يكفر بمجرد ذلك.
3. هناك أحكام ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم كإرث بنت الابن السدس مع بنت وارثة النصف تكملة للثلثين. فمن أنكر شيئاً من هذه الأحكام من العامة فلا يكفر إلا بعد أن تبين له ثم يصر على إنكاره، أما من أنكرها من أهل العلم فيكفر إذا كان مثله لا يجهلها).
قلت: فأين التجاهل المزعوم ؟! (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). بل إن المنهج يحتاط في التكفير -بوضوح- ويعذر حتى مرتكبي الشرك في البلاد التي يكثر فيها ولا يوجد أحد ينكره عليهم فتأمل.
ثم قال الباحثان (ص29): "كما يلغي -أي المنهج- عذر الخائف فيقول "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف".
قلت: هاهنا تلبيس عجيب من الباحثَيْن لابد من كشفه! حيث حذفا عبارة المنهج ليوهما القارئ أن الخائف هو المكره !
فعبارة المنهج بتمامها: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره). فلماذا حذف الباحثان كلمة "إلا المكره" ؟! وهما يعلمان -حتماً- أن الإكراه غير الخوف. فالأول يُقبل عذراً في ارتكاب النواقض بخلاف الخوف الذي زعماه عذراً !
قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- في شرحه لنواقض الإسلام: "لا فرق في هذه النواقض العشرة بين الجاد.. والهازل.. أو الخائف الذي يفعل هذه الأشياء دفعاً للخوف. فالواجب عليه أن يصبر. إلا المكره: إذا أكره أن يقول كلمة فيها كفر ولم يمكنه التخلص من الظلم إلا بها. فرخص له الله في ذلك (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) بهذا الشرط. ويكون قصده دفع الإكراه فقط إلا أن قلبه لا يعتقد بما يتلفظ به" (105).
ثم قال الباحثان (ص29): (كما يتجاهل -أي المنهج- عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة).
قلت: وهذا أيضاً من الافتراء على المناهج! وإليكم ما قاله المنهج بالنص:
(التأويل: وهو صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه إلى ما يخالفه لدليل منفصل، وهو قسمان: القسم الأول: قسم يعذر صاحبه بتأويله، وهو ما كان مبنياً على شبهة، بأن كان له وجه من لغة العرب، وخلصت نية صاحبه كمن تأول في صفات الله تعالى. وكان تأويله مبنياً على شبهة وخلصت نية صاحبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن سبب عدم تكفير الإمام أحمد وغيره لمن قال بخلق القرآن بعينه: "إن التكفير له شروط وموانع وقد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".
وقال في موضع آخر عن نفس المسألة: "فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطاوا وقلدوا من قال ذلك لهم".
والقسم الثاني: تأويل لا يعذر أصحابه كتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملة وتفصيلا أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كتأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها. فهذا كفر مخرج عن الإسلام).
قلت: فإذا كان المنهج قد صرح باعتذار الإمام أحمد وشيخ الإسلام لجهلة الجهمية القائلين بخلق القرآن فكيف لا يعتذر لغيرهم من الفرق البدعية التي لم تقع فيما وقع فيه أولئك؟! فما عذر صاحبي البحث في مثل هذا الافتراء الشنيع على مناهجنا ؟!
المغالطة الثالثة والثلاثون:
يعيب الباحثان مناهجنا أنها جعلت اتخاذ "اليوم الوطني" وغيره عيداً من المحرمات؛ لأنه من التشبه بالكفار، وعندهما -كالعادة!- أن هذا (أحد نماذج التهويل الفقهي، وتضخيم الدلالات.. الخ) (ص30).
قلت: الأعياد في الإسلام عيدان، وهذا مما لا يجهله أحد. وإبرازهما لليوم الوطني مقصود. ولهذا فلن أرد عليهما بكلام العلماء الذين بينوا حرمة اتخاذ هذا اليوم عيداً. إنما سأنقل لهما كلاماً لخادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- يؤيد أهل العلم في هذا الحكم، ويقطع الطريق أمام الباحثَيْن ومزايداتهما الرخيصة.(40/37)
يقول -حفظه الله-: "عندما أقول: إن اليوم الوطني يوم من الأيام التاريخية في هذه البلاد، فلأن الله جمع فيه الشمل في التفاف المواطنين حول بعضهم البعض.
ولقد أشرت إلى أن الأعياد هي عيدان في السنة: عيد الفطر وعيد الأضحى، هذا شيء واضح.. لكن لابد أن يعرف أبناؤنا وأبناء أبنائنا أن هذا اليوم هو اليوم الذي اجتمع فيه الشمل لا أقلّ ولا أكثر، لأنني لا أعتقد أنه يجوز من الناحية الشرعية أن تكون هناك أعياد غير الأضحى والفطر وهي المتفق عليها شرعاً"(106).
قلت: فتأمل كلامه -حفظه الله- الموافق لكلام كبار العلماء، وقارنه بكلام مدعي الفهم من خريجي الشريعة !!
المغالطة الرابعة والثلاثون :
يعيب الباحثان (في ص31-32) مناهجنا أنها تحكم على بعض الألفاظ والعبارات بتعنت ! حيث تعدها من قبيل الشرك الأصغر؛ كقول "لولا الله وأنت" أو "لولا الله ولولا فلان"، ونحوها. فهي لا حرج فيها عند الباحثَيْن!
وهذا دليل آخر على جهلهما بعقيدة السلف؛ حيث تغافلا قوله صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا ماشاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان"(107). والسبب أن حرف (الواو) يقتضي المساواة بين الخالق والمخلوق، بخلاف حرف (ثم) التي تقتضي التراخي كما يعرفه صغار الطلبة.
وقال ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون): "قول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك"(108).
فهل سيجرؤ الباحثان أن يعترضا علانية على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وعلى صحابته رضي الله عنهم، كما اعترضا على مناهجنا؟!
ومن جهل الباحثَيْن أنهما لم يفرقا بين العبارات السابقة التي تقتضي مساواة الخالق بالمخلوق وبين قول صلى الله عليه وسلم عن أبي طالب "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ! وشتان بينهما! فالعبارات الأولى ساوت -كما سبق- بين الخالق والمخلوق في عبارة واحدة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك -كما مضى-. أما هذا الحديث فليس فيه أي مساواة بين الخالق والمخلوق، وإنما فيه عزو الأمر إلى سببه الصحيح؛ وهذا جائز.
ولعلك تزداد عجباً عندما تعلم أن مناهجنا قد نبهت إلى هذا الأمر! فكيف لم يره الباحثان وهو في نفس الصفحة التي نقلا عنها ؟!
يقول المنهج -بوضوح-:
(-لا يذكر المسلم السبب وحده فيقول: لولا الطبيب لحصل كذا؛ إلا إذا كان يعتقد أنه مجرد سبب، وكان هذا السبب صحيحاً.
- ولا يذكره مع الله مساوياً: لولا الله والطبيب.
- وإنما يذكره بعد ذكر الله معطوفاً بثم التي تفيد التعقيب والتراخي: لولا الله ثم الطبيب).
فتأمل -رعاك الله- أي افتراء قام به الباحثان.
وتأمل ثانية: وضوح مناهجنا وسهولة عباراتها ومتابعتها لأقوال صلى الله عليه وسلم دون إفراط أو تفريط.
المغالطة الخامسة والثلاثون :
يعيب الباحثان مناهجنا (ص 32) أنها جعلت (من أنواع الإلحاد من يطلق على الذات الإلهية اسم "المهندس الأعظم أو القوة المطلقة") ويريان أن هذا (تهويل يبني العقل الديني للطالب بشكل انفعالي غير علمي) !!
قلت: عبارة (المهندس الأعظم أو القوة المطلقة) يطلقها بعض الفلاسفة على الله -عز وجل- كما أوضح هذا المنهج!
ومعنى الإلحاد في باب الأسماء والصفات -كما سبق-: الميل بها عن الصواب بتأويلها عن معانيها، أو إدخال أسماء جديدة في أسمائه تعالى لم يسم الله بها نفسه أو يسمه بها رسول صلى الله عليه وسلم . وقد وضح المنهج هذا ! وذكر قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).
فأي تهويل يا هذان في اتباع قول الله تعالى ؟!
المغالطة السادسة والثلاثون :
يزعم الباحثان (ص33) أن مناهجنا الشرعية (تعتمد على مصنفات جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية..) الخ
وهذا تلبيس على القارئ. فإن مناهجنا لمن تأملها مرتكزة على قال الله وقال رسول صلى الله عليه وسلم في كل فصولها وتفاصيلها وهما مصدران ثابتان للأمة لا تؤثر فيهما الأزمان.
وكتاب "التوحيد" للإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- الذي يلمزه الباحثان ! شاهد على هذا. فكل أبوابه إنما هي آيات وأحاديث .
وكلام الباحثَيْن إنما يصدق على مناهج أهل الكلام والحشو التي لا تكاد تجد في صفحاتها آية أو حديث! فليجتهدا في نقدها وتطويرها إن كانا جادَّيْن!.
المغالطة السابعة والثلاثون :
يقول الباحثان في توصياتهما (ص34): (2-تنقية المقررات من النزعات التكفيرية التي يضطرب بها، والتركيز على ما دلت عليه النصوص واستقر عليه كبار فقهاء الأمة من الكف عن تكفير أهل القبلة، ووجوب تقرير عصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم)!!
قلت: ما الاضطراب -والله- إلا في عقليكما! وشاهد حالكما صادق بهذا -كما سبق في المقدمة- فما أرخص الكذب عندكما.
فأين تكفير أهل القبلة في مناهجنا إن كنتم صادقين ؟!
ومما يُعجب له: دعوتكما إلى "التركيز على ما دلت عليه النصوص واستقر عليه كبار فقهاء الأمة"! وبحثكما هذا هو ناسف للنصوص ولإجماعات الأمة؟!
فتأمل التناقض!
المغالطة الثامنة والثلاثون :(40/38)
يطالب الباحثان كثيراً أن لا يُشغل الطالب بأمور يعتقدونها تصعب عليه، ولا يصل إليها فهمه، وهي مجرد عقيدة صافية سهلة عليها نور الكتاب والسنة، ثم يطالبون في المقابل في فصلهما العجيب عن (الموقف من الحضارة بين قواعد التواصل وخطاب الإدانة) (ص 21) أن تقوم المناهج بتعميق (شرعية القيم المدنية المشروعة في وجدان الطالب، مثل: المشاركة الاجتماعية وحقوق الإنسان وقيم البحث العلمي، والوعي السياسي، وقيم التعايش والحوار، واحترام القانون، والاستقلال القضائي، ودعم الحريات، والأمن البيئي وأخلاقيات المهنة...) وغيرها الكثير الكثير !!
وأيضاً يطالبان المناهج (ص21) (بتوضيح الإطار الفقهي لنظم الحياة، وبيان الكليات الشرعية العامة المهيمنة على المجالات والعلوم المدنية المعاصرة، وإبراز الوظيفة الإسلامية للمعرفة والعمران، بما يعني تأهيل الطالب بأدوات الفحص والاختبار...)!!
كل هذا الكم من القضايا -التي تكل أذهان السياسيين في فهمها- تريدان من طالب المتوسط والثانوي أن يفهمه ويستوعبه! وأما عقيدة السلف الصالح السهلة الميسرة فهي صعبة على الطالب -في نظركما- فعجباً لكما. ما هذا التناقض؟!
ثم لماذا تُرص هذه العبارات البراقة -التي أظنكما تجهلان مضامينها- المنقولة من كتب المنهزمين أمام جاهلية الغرب؛ لتكدر بها مناهجنا الصافية ويُصرف طلابنا عن عقيدتهم ؟!
وليتكم تعتبران -وأنتما لازلتما في بداية الطريق- بالدول العربية التي جربت وانخدعت بزخارف الشعارات والبرلمانات والحريات الزائفة.. الخ، ولكنها لم تجن وتذق بعد ذلك سوى مرارة الواقع الأليم الذي تكشف لهم عن حياة دنيوية بائسة، وشعب ممزق بين الأحزاب المتطاحنة، ودين مضيع. (فاعتبروا يا أولي الأبصار).
المغالطة التاسعة والثلاثون :
أكثر الباحثان من وصف مناهجنا بالإضطراب؛ كما في (ص21،5،4 وغيرها)، وقد تبين للقراء العقلاء من خلال المغالطات السابقة أن الإضطراب إنما هو في عقل الباحثَيْن؛ بسبب سوء الفهم والقصد. فهذا الاتهام من قبيل الإسقاط النفسي الذي يرى صاحبه الآخرين من خلال تصوراته المريضة وطباعه المتلونة.
المغالطة الأربعون :
قال الباحثان في (ص 18): "أصبح البعض يستعذب المخالفة"! فلعلهما كانا يتحدثان عن نفسيهما وبحثهما القائم على مخالفة الحق الذي تبين لأهل هذه البلاد؛ ليحق فيهم قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الحق ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
ماذا يريد الباحثان ؟
قد يتساءل القارئ الجاد بعد قراءته لمغالطات الباحثَيْن عن هدفهما من هذا البحث الهدمي المشحون ضد مناهجنا السلفية وضد بلادنا، رغم ما يعيشه مجتمعنا من أمن فكري وسياسي واستقرار اجتماعي مقابل مجتمعات -تدعي التقدم ويدعي مفكروها الاستنارة!- وهم غارقون إلى آذانهم في التخلف الديني والدنيوي! وبلادهم مكتظة بالصراعات والانقسامات بل والمواجهات الدامية؟!
فأقول: لقد تبين لي أن الباحثَيْن -باختصار- :
1. يريدان تذويب الفوارق بين السني والبدعي، ثم بين المسلم والكافر مهما أداهم ذلك إلى تخطي الحدود الشرعية ، ومخالفة إرادة الله في تمايز أهل الحق عن أهل الباطل ، وهذا مسلك خطير ومآلاته إن اطردت تقود إلى عقائد كفرية لا شك فيها ونربأ بالباحثَين أن يصلا إليها ؛ كالقول بوحدة الأديان، أو الدين الإبراهيمي إلى آخر الضلال(109).
2. ويريدان تقويض هذا المجتمع دينياً وسياسياً ! أما دينياً فبهدم أساساته وهي المناهج السلفية، وتسفيه علمائه. كما هو متضح من بحثهما.
وأما سياسياً: فيتبين من خلال هذه العبارة لهما وأمثالها: "قد كان من واجبات المقررات الدينية والنظام السياسي فتح آفاق المشاركة المدنية"(110). (ص33).
ختامًا : أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يعين الباحثَين إلى العودة للحق - بعد أن تبين لهما - ، وأن يجنبهما وإخوانهما ضلالات وانحرافات مدعي " العقل " من المفكرين المعاصرين الذين يحادون الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، متعظين بقوله تعالى ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) .
كما أسأله تعالى أن يوفق ولاة أمر هذه البلاد للحفاظ على مكتسباتنا وتميزنا ، وعدم جعلها عرضة لكل عابث أو " طامح " .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
==============(40/39)
(40/40)
اللغة العربية
التحديات والمواجهة
للأستاذ/ سالم مبارك الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
اللغة العربية : التحديات والمواجهة
الحمد لله الذي رفع هذه اللغة و أعلى شأنها , حيث أنزل بها خير كتبه و أفضلها , والصلاة و السلام على أفصل الأنبياء و خاتم المرسلين , نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :ــ
إن لغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا , فيحق لنا أن نفتخر بها , و نعتز بها و يجب علينا أن نذود عنها و نوليها عناية فائقة . و يتمثل واجبنا نحوها في المحافظة على سلامتها و تخليصها مما قد يشوبها من اللحن و العجمة و علينا أن لا ننظر إليها بوصفها مجموعة من الأصوات و جملة من الألفاظ والتراكيب بل يتعين عينا أن نعتبرها كائناً حياً , فنؤمن بقوتها و غزارتها و مرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات كما تعد مقوماً من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .
إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها .
ما اللغة :-
لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة و مفهومها , وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة و يرجع سبب كثرة التعريفات و تعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم , فانتقاء تعريف لها ليس بالعملية اليسيرة منها على سبيل المثال لا الحصر :ــ
1. يعرفها ابن جني 1 بقوله : (( أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )) .
2. اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف بين أفراد المجتمع ، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أ والحركات التي يقوم بها جهاز النطق ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه الظواهر النطقية2 .
3. ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس 3.
4. صورة من صور التخاطب سواء كان لفظياً أو غير لفظي .
5. اللغة كما يقول ( أوتو يسبرسن ) : نشاط إنساني يتمثل من جانب في مجهود عضلي يقوم به فرد من الأفراد ، ومن جانب آخر عملية ادراكية ينفعل بها فرد أو أفراد آخرون .
6. اللغة نظام الأصوات المنطوقة .
7. اللغة معنى موضوع في صوت أو نظام من الرموز الصوتية 4.
8. ادوارد سابيير : اللغة وسيلة إنسانية خالصة , وغير غريزية إطلاقا , لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية 5 .
9. انطوان ماييه : إن كلمة ( اللغة ) تعني كل جهاز كامل من وسائل التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان بصرف النظر عن الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية أو قيمتها من الناحية الحضارية .
10 . اللغة نشاط مكتسب تتم بواسطته تبادل الأفكار والعواطف بين شخصين أو بين أفراد جماعة معينة , وهذا النشاط عبارة عن أصوات تستخدم وتستعمل وفق نظم معينة .
واللغة نعمة من الله عزّ وجل للإنسان مثله مثل كل الحيوانات التي تمتلك نظاما من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها . فيقال : لغة الحيوان ، ولغة الطير ، ولغة النبات ، قال تعالى :( ( وعلمنا منطق الطير )) النمل / 16. .. ولكن لغة الإنسان تتميز بأنها ذات نظام مفتوح بينما الحيوانات الأخرى نظامها التعارفي نظام مغلق .
وظائف اللغة :- 6
يتفق أغلبية علماء اللغة المحدثين على أن وظيفة اللغة هي التعبير أو التواصل أو التفاهم رغم أن بعضهم يرفضون تقييد وظيفة اللغة بالتعبير او التواصل ؛ فالتواصل إحدى وظائفها إلا انه ليس الوظيفة الرئيسة .
(( وقد حاول " هاليداي " halliday تقديم حصر بأهم وظائف اللغة فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية :
1. الوظيفة النفعية ( الوسيلية ) :ـ
وهذه الوظيفة هي التي يطلق عليها " أنا أريد " فاللغة تسمح لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يشبعوا حاجاتهم وأن يعبروا عن رغباتهم ..
2. الوظيفة التنظيمية :ــ
وهي تعرف باسم وظيفة " افعل كذا .... ولا تفعل كذا " من خلال اللغة يستطيع الفرد ان يتحكم في سلوك الآخرين , لتنفيذ المطالب أو النهي و وكذا اللافتات التي نقرؤها وما تحمل من توجيهات وإرشادات ...
3. الوظيفة التفاعلية :
وهي وظيفة " أنا و أنت " تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في العالم الاجتماعي باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسر جماعته , فنستخدم اللغة في المناسبات , و الاحترام , و التأدب مع الآخرين .
4. الوظيفة الشخصية :
من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤاه الفريدة , ومشاعره و اتجاهاته نحو موضوعات كثيرة , وبالتالي يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم أفكاره للآخرين .
5. الوظيفة الاستكشافية :ـ(40/41)
وهي التي تسمى الوظيفة " الاستفهامية " بمعنى انه يسأل عن الجوانب التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة .
6. الوظيفة التخيلية :ــ
تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية ، كما يستخدمها الإنسان للترويح , أو لشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل , وإضفاء روح الجماعة , كما هو الحال في الأغاني والأهازيج الشعبية ...
7. الوظيفة الإخبارية ( الإعلامية ) :ــ
باللغة يستطيع الفرد أن يتقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه , بل ينقل المعلومات والخبرات إلى الأجيال المتعاقبة , وإلى أجزاء متفرقة من الكرة الأرضية خصوصاً بعد الثورة التكنولوجية الهائلة . ويمكن أن تمتد هذه الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية , اقناعية ؛ لحث الجمهور على الإقبال على سلعة معينة أو العدول على نمط سلوكي عير محبب .
8. الوظيفة الرمزية :ــ
يرى البعض ان ألفاظ اللغة تمثل رموزاً تشير إلى الموجودات في العالم الخارجي , وبالتالي فان اللغة تخدم كوظيفة رموزية . )) 7
واللغة كالكائن الحيّ ، فهي تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمرار , مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية فعندما يتطور المجتمع حضارياً وإنتاجيا تتطور اللغة والعكس ... فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية والحضارة ، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول .
نشأة اللغة :-
أما حول أصل نشأة اللغة وما يتصل بهذه النقطة من موضوعات فكرية لن نخرج منها بكثير فائدة بله أن تشتت أفكارنا فقد تصدى للبحث فيها كثير من الفلاسفة والمتكلمين واللغويين , وذهبوا في البحث مذاهب شتى : فهذا يقول مصدرها التوقيف من الله , وذلك يقول مبدؤها الطبيعة , وآخر يقول منشؤها الاصطلاح والتواطؤ ــ ويكفينا هنا أن نعلم أن هناك نظريات متعددة حول نشأة اللغة ، أشهرها أربع نظريات :
(1)/ نظرية التوقيف : قال بها أفلاطون وأبو علي الفارسي ، وابن حزم ، وابن قدامة , وأبو الحسن الأشعري , و الآمدي , وابن فارس ومعظم رجال الدين ، ويستدلون بقوله تعالى
: (( وعلّم آدم الأسماء كلها )) " البقرة /31". وبما جاء في سفر التكوين (( وجبل الربّ الإله كل حيوانات البرية ، وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ، فكل ما دعا به آدم من ذات نفس حيّة فهو اسمها . فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء ، وجميع حيوانات البرّيّة )) ، الإصحاح الثاني عشر آية (19/20).
(2)/ نظرية المواضعة والاصطلاح : قال بها سقراط ، وديمقريط ، وآدم سميث ، ومن العرب أبو الحسن البصري ، وأبو إسحاق الاسفراييني ، والسيوطي ، وابن خلدون .
(3)/ نظرية المحاكاة: تعني أن يحاكي الإنسان ما حوله في الطبيعة من الظواهر , وأول من أشار إلى ذلك ابن جني في الخصائص ثم قال: (( وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل 8 )) , ولكنه لم يستقر على هذا الرأي أيضاً بعد أن ناقش الرأيين السابقين , والأسلم ألا ننسب الرجل إلى مذهب بعينه من المذاهب الثلاثة .
(4)/ نظرية الغريزة : يريدون أن الله زوّد الإنسان بآلة الكلام ، وبجهاز للنطق ، فهو حتما سينطق شاء أم أبى .
والحديث في أصل نشأة اللغة ـــ على رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي ـــ فضول لا أصل له وكأنه يدعو إلى الانصراف عنه إلى معالجة اللغة بوصفها حقيقة واقعية في وضعها الراهن , وهذا التوجه من الإمام الغزالي ينسجم تماماً مع توجه علم اللغة المعاصر الذي أخرج هذه القضية من نطاق مباحث علم اللغة ...
وبعد هذه التوطئة البسيطة عن ماهية اللغة ، ووظائفها . ننتقل إلى معنى لفظة ( العربية)
ما هي العربية :-
متى كانت العربية ؟؟ علم ذلك عند الله , ولكنه سبحانه لم يصادر حريتنا في أن نحاول معرفة أي شيء يمكن أن يبلغه قدراتنا بالقطع , أو بالحدس والتخمين . يقال إن العربية تنحدر من اللغة الآراميّة , وهي التي تكلم بها آرام بن سام بن نوح عليه السلام
واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية وعلماء اللغة حديثاً يصنفون كل السلالات اللغوية والعودة بها إلى لغة ( أم ) أطلقوا عليها ((اللغة السامية )) و أول من أطلق هذه التسمية هو العالم النمساوي شولتزر عام 1781م وواضح أنها تسمية عنصرية اقتبسها من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار(العهد القديم) (الأصحاح 10 سفر التكوين) في ظل تقسيم وهمي للأجناس البشرية مستمد من أبناء نوح وهم : سام وحام و يافث , فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟(40/42)
أصبح يقينا لدى الباحثين المنصفين، أن وصفنا لحركة المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة العربية في القرن السابع بالفتح والفتوحات الإسلامية أصبح تعبيرا خاطئا, فهو لم يكن فتحا بل كان تحريرا للعرب من الحكم الأجنبي كهدف سياسي, وهو توحيد للعرب في الموقع المكاني بمعناه الجغرافي كهدف قومي, كما انه من الخطأ القول بأن العرب ساميون والصحيح هو القول ان الساميين عرب.
السامي والسامية والساميون، تعريف يطلق على التجمعات والكيانات البشرية التي تواجدت في فلسطين وغور الأردن وجنوب العراق وشبه الجزيرة العربية, باعتبار أن كل هذه المناطق، تشكل وحدة جغرافية واحدة, والمعروف أن الجميع جاؤوا من شبه الجزيرة العربية وبالتالي فقد ذهبوا إلى أطراف شبه الجزيرة العربية, في هجرات عدة متتالية, وقد استحالت لغة وألسنة هذه الأقوام إلى اللغة العربية واللغة العبرية واللغة السريانية, والسامية أيضا هي مصطلح يطلق على كل الشعوب والأمم والقبائل قديما وحديثا مرورا بالعصور الوسطى التي تنتسب إلى سام بن نوح, ومن المعروف ان التوراه أول من أشار بالنص إلى ذلك التقسيم كما سبق وأسلفنا.
بعض العلماء نسب الصفة العربية إلى مدينة (عربة) في بلاد تهامة, وقيل أنها نسبة إلى يعرب بن يشجب بن قحطان وهو أبو العرب العاربة، أول من تكلم العربية على صورتها المعروفة وقيل أيضا أنهم سموا كذلك نسبة إلى فصاحة لسانهم في الإعراب , وقد وردت تسمية (( العربية منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد , إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري 9))... والأقوام الذين تكلموا العربية لا يحصي عددهم إلا الله : منهم العرب البائدة : وهم قبائل طسم ، وجديس ، والعماليق ، وأهل الحجر ، وقوم هود وصالح عليهما السلام وغيرهم. وهولاء لم يصل لنا شيء من أخبارهم لا من قريب ولا من بعيد ... وهناك العرب العاربة : وهم القحطانيون ومن ينحدر منهم .. وأخيرا العرب المستعربة وهم أبناء إسماعيل العدنانيون .
إن الموروث الكتابي العربي أعمق جذوراً مما يظن حتى الآن ، فلو أضفنا إليه موروث الكتابة العربية كما كتبها الأكاديون ( بابليون و آشوريون ) بالخط المسماري وما كتبه الكنعانيون على سواحل الشام ،، وكذلك مخطوطات أوغاريت ــ وتل العمارنة ــ ومخطوطات البحر الميت لاتصل تاريخ كتابة العربية ببضع آلاف قبل الميلاد 10.
وتأسيسا على ذلك فالعرب هم في شبه الجزيرة العربية التي تشتمل على جنوب العراق وجنوب الشام وفلسطين وشبه جزيرة سيناء , و العربية وليدة واقعها المعيش أخذ العرب ألفاظها من الطبيعة المحيطة بهم فجاءت مفعمة بالصور ومشحونة بالأحاسيس والمشاعر .
إن الشخصية العربية تقوم على تشابه أذواق العرب وملكاتهم ، وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق , ويرتبط بعمالقة الشعر والأدب بخاصة الذين سجلوا مثلنا العليا 11,, ويرتبط باللغة العربية التي نعتز بالحديث بها .. ولهذا فإهمال الأدب القديم ـــ والاتجاه أكثر إلى الأدب الحديث يساعد من يروج للفصل بين الآداب القديمة (( حيث امتداد أخلاق الآباء والسلف)) وبين الآداب الحديثة ولسنا بحاجة إلى التأكيد على دور اللغة في بناء الأمة وصناعة وجدانها وتكوين هويتها وثقافتها وضمان تماسكها وتواصل أجيالها .
العربية لغة مقدّسة :-
العربية لغة القرآن الكريم ، وهو مهيمن على ما سواه من الكتب الأخرى , وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى . وهي لغة خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للبشرية جمعاء ، واختار الله له اللغة العربية ، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء ، ينبغي أن ندرك أبعاد هذه المسألة .
قال تعالى : (( إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ))(الشعراء/193ــ 195) فلما وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها ، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية ، خصوصاً حين ناط الله بها كلامه المنزل ، قال تعالى :-(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ))( الزخرف/ 3 ) وقال تعالى :- (( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون )) " فصلت / 3" . وقال (( قرآناً عربياً غير ذي عوج )) ( الزمر/28) ومن هنا قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فهو يشير إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده و آفاقه . إنها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا الكتاب المنزّل ،، وقد تكفل الله بحفظها ضمنياً في قوله : (( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون )) " الحجر/9" .(40/43)
ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين : (( كتب " جون فرن" قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها ، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثراً يدل على مبلغ رحلتهم فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية ، ولما سئل جون فرن عن اختياره للغة العربية , قال انها : لغة المستقبل , ولاشك أنه يموت غيرها , وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه ) 12.
فضل تعلّم العربية :-
يرى كثير من العلماء أن الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث النفاق قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فانه يورث النفاق )) (أخرجه الحاكم في المستدرك) ؛ فلا نعجب إذا علمنا أن من العلماء من أوجب تعلم العربية وإتقانها ، قال عمر بن الخطاب : (( تعلموا العربية فإنها من دينكم , وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم )) , وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها , و قال ابن تيمية : (( إن اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، لأن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بالعربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب )), وقال ابن فارس : (( لذلك قلنا أن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم ))13 . وقال أبو هلال العسكري : (( فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله في دنياه ، وكمال آلته في علوم دينه )) وفي ما خلفه لنا علماء العربية دليل على فضلها , فما خلفه ابن جني الذي كان متمكناً من اليونانية لأنه رومي , وما خلفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكناً من الفارسية مع أن الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة , حتى أثر عن أبي الريحان البيروني قوله : " لأن أشتم بالعربية خير من أن امدح بالفارسية " و قد قال الشعراء في مدح اللسان واللسن أبياتاً لا تحصى منثورة في كتب الأدب. كما ذكر محاسن العربية أيضاً رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية قال المستشرق " أرنست رينان " في كتابه " تاريخ اللغات السامية" : (( من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية , وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من الرحل,تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها ..)) وقال المطران يوسف داءود الموصلي : (( من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق، حيث ان عباراتها سلسة طبيعية,يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنع وتكلف )) 14.
هكذا فعل سلفنا الصالح في خدمتهم للغة القرآن أحبوها حباً عظيماً , ووهبوا لها نفوسهم , فنقحوها ووضعوا قواعدها وأصلوا نحوها وصرفها حتى بلغت درجة الكمال والصفاء ، أما نحن عرب عصر التكنولوجيا والاختراقات الفضائية و الثورة المعلوماتية فقد فشا فينا التخاذل والتكاسل والتقاعس فكنا كقول أحدهم : فخلف من بعد السلف خلف تنكروا للغتهم واحتقروها ، ونظروا إليها نظرة ازدراء و اتهموها بالعجز والقصور وعدم صلاحيتها للعصر .
واجبنا تجاه العربية :--
إن خدمتك للغة العربية تعني خدمتك للقرآن ولو من وجه بعيد . وإن السلف الصالح ما قصروا في خدمتها حيث جاهدوا بالجهد والمال والوقت لخدمة لغة القرآن ,, عكفوا على تعلمها لما لها من مكانة مقدسة في نفوسهم ,, غاروا عليها ، وغاروا على بيانها المعجز أن تدنسه عجمة الأعاجم ولوثة الإفرنج ... فقضوا سني حياتهم في تقعيدها وإشادة أركانها ورسم أوضاعها ...
ولعل أقل ما نعمل أن ننشر هذه الكتب المخطوطة التي تقبع في متاحف العالم وأن ننفض عنها غبار الزمن ، حيث أن هناك حوالي مليون مخطوطة عربية موزعة في كافة أرجاء العالم (( ففي تركيا 155أ لف مجلد / وروسيا 40 ألف مجلد / والعراق والمغرب 35ألف مجلد / وتونس 25ألف مجلد / وبريطانيا و سوريا 20 أ لف مجلد / والولايات المتحدة 15ألف مجلد / والهند والسعودية 15ألف مجلد / يوغسلافيا فيها 14 ألف مجلد / فرنسا 8500 مجلد / اليمن 10 ألف مجلد / ايطاليا والفاتيكان 7500مجلد . تضاف إلى هذا بلدان تحتفظ بما يقارب 7500 مجلد ليصل الرقم إلى ما يقارب مليون مخطوطة عربية ناجية ما تزال موزعة في أرجاء الكرة الأرضية . ))15 .
كذلك ينبغي إغناء المكتبة العامة بالمؤلفات التي تحث على كيفية تعلم العربية وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها , بالإضافة إلى استغلال الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى أقصى حد ممكن لخدمة العربية .(40/44)
إن من أكبر مصائب الأمة أن يكون تعليمها بغير لغتها , وتفكيرها بغير أدواتها , وقياس حاضرها يكون بمعايير وضوابط حضارية غريبة عنها ,, والحالة هذه من التخاذل والتكاسل والتبعيّة ، واجهت العربية مجموعة من التحديات والمصاعب وقفنا منها موقف المتفرج ، إن لم نكن شاركنا فيها من طرف خفي . وقد آن الأوان أن نفضح خطط الأعداء ونكشف عن نواياهم الخبيثة ونثبت للعالم أن هذه اللغة ثرية غنية باقية فنرعاها حق الرعاية ولا ندعها تتعرض للتقويض والانهيار والغزو اللغوي الشرس من الداخل والخارج ...
التحديات والمواجهات : ــ
التحدي الأول :- اتهامها بالعقم والجمود والتحجّر والقصور ، وأنها لم تعد ملائمة لأساليب القرن الحادي والعشرين عصر الثورة المعلوماتية و الاختراقات الفضائية ، فكان منا من نظر إلى تخلف العرب العلمي في عصر الذرة فأعلن أنه لا يرى لهذا سبباً غير تمسك العرب بلغتهم في مراحل التعليم عامة والتعليم العالي منها خاصة , وآخر يلحّ في الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغة غير عربية ؛ ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن .
المواجهة :ـــ
أولاً :- الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسر وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها , فخاصية الاشتقاق من أعظم ما امتازت به العربية , فبالاشتقاق عملت على زيادة موروثها اللفظي والمعنوي كلما تقدم الزمن ،،(( وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول ا صلى الله عليه وسلم , ومن ذلك قوله فيما صح عنه : " يقول الله :( أنا الرحمان خلقت الرحم , وشققت لها اسم ) والحديث في مسند الإمام أحمد ))16 ولنأخذ على سبيل المثال مادة (( كتب : كتب - كاتب - مكتوب - كتابة - كتاب ــ مكتبة ....)) : إننا نستخدم هذه الكلمة وعمرها أكثر من 1500عام ، مأخوذة من ( الكَتْب) بسكون التاء ، قال الجوهري : أصله في اللغة للسقاء ، تقول : كتب السقاء ، إذا خرّزه بسيرين ، فهي في معنى / الضم والجمع/ .. ومنه الكتيبة للجيش ، ثم انتقلت اللفظة إلى الكتابة . وإنما قلنا أن أصلها السقاء لأن العرب عرفت السقاء واحتاجت إليه في ترحالها في الصحاري واحتاجت إلى صلاحه قبل أن تعرف الكتابة ،، ولو عرفت ما للسقاء ( القربة ) من الأسماء لهزك العجب . إن خاصة الروابط الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة، وتوحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.
ومن الطريف لمعرفة سعة هذه اللغة ما نقله (( صاحب " المزهر " عن حمزة الأصبهاني : أن الخليل ذكر عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل من غير تكرار وهي اثنا عشر مليون بناء وثلاثمائة وخمسة أبنية وأربعمائة و اثنا عشر ( 12305412 )) 17 و ما ذكره د/ محمد نعمان الدين الندوي في مجلة الأدب الإسلامي قال : (( عدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ [5,099,400]، من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ [6,699,400] ، بينما نجد الفرنسية لا تحتوي إلا على خمسة وعشرين ألف كلمة(25000) ، والإنجليزية على مائة ألف كلمة(100000) فقط) 18. ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) .
فانظر يا رعاك الله إلى هذا البحر الهائج قال حافظ :-
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ثانياً :- اللغة العربية تتميز بثبات الأصول ومرونة الفروع ، وثبات أصول الألفاظ ومحافظتها على روابطها الاشتقاقية يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور، فالحفاظ على الأصل واتصال الشخصية واستمرارها صفة يتصف بها العرب كما تتصف بها لغتهم، إذ تمكن الخاصة الاشتقاقية من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل . (( وبهذه المرونة عولجت مسألة المصطلحات , وقد لاحظ ألفرد غيوم هذه الخصائص فعلق عليها بقوله " صلح اللسان العربي للتعبير عن العلاقات بإيجاز أكثر من اللغات الآرية لمرونته وقابليته الاشتقاقية الفائقة في الاسم والفعل ...)) 19 . فاللغات الأوربية تتغير معاجمها بين الحين والحين ولا يمر قرن واحد إلا ويصيبها تغيير أساسي في مفرداتها وقواعدها . بينما للعربية قدرتها الفائقة على استخدام أكثر من طريقة لتثبيت ألفاظ جديدة في قاموسها : كالقلب المكاني ، والنحت ، و التعريب .. وغيرها . ومن مرونتها كذلك ، الظواهر الصوتية من إبدال ، وإدغام , وإظهار , وإخفاء , وروم ، وإشمام , وأيضاً اسم المكان - الزمان - السببية - الحرفة - الأصوات - المشاركة - الآلة - التفضيل ... وغيرها , تلك المرونة التي أتاحت لها أن تغدو لغة الحضارة في القرون الوسطى . ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ))
قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات(40/45)
ثالثاً :ــ وهي لغة المترادفات إذ يكثر أن يكون للمسمى الواحد أكثر من مفردة لغوية واحدة بل قد تصل إلى العشرات بل المئات ولا ننسى أن كثير من هذه المترادفات نشأ من تعدد اللغات , او من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات ، قال ابن فارس في الصاحبي : (( فإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد وكذلك الأسد والفرس ...)) . وقد سمع أن معاني ( العين ) تنيف على المائة ، ومعاني ( العجوز ) تنيف على الثمانين ، ومعاني ( الكرم ) على الثلاثين ،، قال ابن خالويه : جمعت ( للأسد ) خمسمائة اسم ، و ( للحيّة ) مائتين . وذكر صاحب القاموس في مادة ( سيف ) أن للسيف أسماء تنيف على ألف اسم قال : وذكرتها في ( الروض المسوف ). فإذا رجعنا إلى معاجم المعاني وجدنا أموراً عجباً. فتحت المشي الذي هو المعنى العام أنواع عديدة من المشي :
درج , حبا , حجل , خطر , دلف , هدج , رسف , اختال , تبختر , تخلج , أهطع , هرول , تهادى , تأود... لقد ألف اللغويون العرب مؤلفات خاصة بإبراز الفروق بين الألفاظ مثل : الفروق لأبي هلال العسكري، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي ، والمخصص لابن سيده الذي يقع في 17 جزءاً .
رابعاً :ــ علامات الإعراب التي تتميز بها العربية دون غيرها من اللغات الأخرى والتي يحاول أعداء الإسلام أن يطمسوها بدعوى( تبسيط النحو / صعوبة النحو ... الخ ) ولا تعدو أن تكون معولاً يحاول ان يصيب مقتلاً في كيان هذه الأمة , وهي محاولات هدامة تحاول إضعاف العربية كما قال ذلك الشيخ ( ابن باز ) . .
بينما تلزم الكثيرات من اللغات متكلميها بترتيب معين للكلمات يميز الوظائف النحوية فيها , ويضيع هذا التمييز اذا اختل هذا فالإنجليزية مثلا تتبع ترتيب ،، فاعل + فعل + مفعول ،، فإذا أردت أن تقول : أكل زيد طعاماً ، يجب أن تقول : زيد أكل طعاماً . ولا يجوز أن تقول : أكل زيد طعاما ,,, أما في اللغة العربية فأنت تقول : أكل زيد طعاما / وزيد أكل طعاماً / و أكل طعاماً زيد / وطعاماً أكل زيد / وطعاماً زيد أكل ، فتأمل هذا وتدبره . وفي معرض الحركات فإن جملة ( ما أحسن زيد ؟!.) يمكن أن تكون استفهاما وتعجبا وذمّا ؛ وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول ونظام الأعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .
التحدي الثاني :ـ تلك الدعاوى الرامية إلى تفجير العربية وتحويلها إلى ركام من التراكيب والدلالات التي يعجز اللبيب عن إدراك مراميها فضلا عن المثقف العادي . وقد بلغ مداه وأقصاه في ما يسمون أنفسهم ( أهل الحداثة ), والحداثة أمرها محدث وشر الأمور المحدثات , لم يفكروا في حداثة تحافظ على خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا , وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على نصب الغموض والرمز وعبث القول (( والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:
1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، و لُهاثهم خلف «العصرنة»!!
2 - الخلط بين الحداثة ـ وإن شئت فقل بين الهدم ـ والتجديد.
ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية، الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب حداثي، وأسمى سارتر مجلته «العصور الحديثة»!!
وفي الستينيات زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير.
ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد نفسه مدعياً الدعوى نفسها.
وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد، والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية. )) 20 .
وكما أصابت شظايا تفجير اللغة الأدب الشعري فقد امتدت لتطال النثر وخصوصاً النقد : فالناقد يتحدث بأسلوب موغل في الغموض والتعمية وغير مفهوم وبلغة غريبة , سواء في ما ترجم من مؤلفات النقاد أو في كثير من الكتب النقدية , كل ذلك باسم الحداثة وتفجير اللغة .
المواجهة :ـــ إننا لا نرفض الشعر الحديث جملة وتفصيلاً ،، ولكننا أيضا لا نتركه يعبث في أدبنا ويهين مقدساتنا ويخبط فيه خبط عشواء .. لابد من وضع مفتاح نقدي وإطار ومعيار فني تنظم سير الشعر الحديث وتكشف عن جماله فيستمتع به القارىء . أن الحياة فرضت علينا لوناً ولغة جديدة ــ وهذا طبيعي ــ ولكن أريد أن افهم هذه اللغة وأمتع حاستي الفنية من أدبها .(( أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش... و... ـ كل أولئك حداثيون 21 )) .(40/46)
فحينما ننظر لهذا الركام من حولنا , الذي انتفش , وأصبحت له مؤسسات تعني به وترّوج له , وتكرم الداعين المتسربلين برداء الحداثة حينما ننظر إلى كل هذا نستشعر مدى المسئولية الملقاة على عاتقنا لحفظ اللغة العربية , إنها مسئولية عقدية وأدبية ؛ لأن حماية العربية ــ وهي لغة القرآن ــ من هذا السيل الجارف من الركاكة والرطانة تصبح واجباً دينياً قبل أن يصل ببعض الملاحدة أن يتطاول على أسلوب القرآن المعجز وحلاوته وطلاوته فيتهمه بالدونية والقصور والإخفاق.
التحدي الثالث :- ما يروّج له أعداء الإسلام والعروبة الحاقدون من الدعوى إلى أن نستبدل بالفصحى اللهجات العامية واللغات المناطقية والإقليمية القومية الضيقة أو إحياء لغات قديمة ميتة , وكذلك الدعوة إلى اللاتينية بزعمهم أنها أكثر مرونة واختصارا في النطق .. وقد مشى تيار الهدم هذا في اتجاهين يكمل احدهما الآخر هما الاستشراق والاستغراب :ــ
الأول :- اتجاه المستشرقين الذين أوكلت لهم مهمة التدريس في الجامعات والمدارس فشغلوا مناصب عليا ، وتولوا مهام جسيمة ، وسيطروا على كراسي الدراسة .. فألفوا كتباً في الدين واللغة هي اكبر من علمهم نفثوا فيها سمومهم ودسوا فيها أفكارهم هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أنهم غرسوا في الطلاب والكوادر هذه الأفكار فأشربت قلوب العديد من العرب ,, ومن جهة ثالثة
أنشأوا المدارس والجامعات التبشيرية والغربية في بلاد المسلمين وجعلوها أوكاراً لأغراض تجسسية خبيثة كالجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت مركزاً للاستخبارات في فترة زمنية .
وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".
بداية بلا نهاية :ــ
في فترة العصور الوسطى في أوربا ، و الممتدة من 476م ـــ 1600م ، حدث في الوطن العربي الإسلامي أمران مهمان :-
الأمر الأول : الحروب الصليبية الممتدة من ( 489هـ ــ 690هـ) اي ( 1096م ــ 1291م )
لمدة قرنين كاملين انتهت بالإخفاق ، واليأس من حرب السلاح ، ولكنها تركت في نفس الوقت بصيصاً من التنبّه والتيقظ بسبب احتكاكهم المستمر بحضارة راقية عير عادية .
الأمر الثاني :- وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأول 857هـ / 29مايو1453م
سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ، ودخلها محمد الفاتح بالتهليل والتكبير ، واهتز العالم الأوربي هزة عنيفة مليئة بالخزي وممزوجة بالحقد والكراهية والغضب . ومنذ ذلك اليوم ، بدأت أوربا تتغير إلى الأمام ، وبدأ العالم الإسلامي يتراجع إلى الوراء ، فكان أول تراجع نحصده هو سقوط الأندلس بعد أربعين عاما فقط من فتح القسطنطينية أي عام 1493م .. ومن يومئذ بدأ الرهبان وتلامذتهم معركة أخرى أقسى من معركة الحرب والسلاح ( معركة العلم والمعرفة ) 22 00
النهضة الموءودة 23:ــ
لقد فتن العالم الشرقي أوربا فتنة لا توصف ، وامتلأت قلوبهم رغبة في امتلاكه ،، وتنبه الملوك والرهبان و عقلاء الرجال إلى سؤال خطير : ما سرّ قوة هذه الحضارة ؟؟ فكان الجواب : إن سرّ قوتها هو في العلم ( علم الدنيا وعلم الآخرة ) .
في ظل هذه الغفلة المطبقة على دار الإسلام ، كانت هناك نهضة هادئة ، سليمة ، بطيئة ، يقوم بها كوكبة من العلماء الذين تنبهوا لضرورتها وأهميتها ، نذكر منهم على سبيل المثال : ــ
البغدادي عبدا لقادر بن عمر ( في مصر ) 1620م ـــ 1683م . صاحب ( خزانة الأدب )
الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم ( في مصر) 1698م ــ 1774م .
محمد بن عبد الوهاب ( في الجزيرة العربية) 1703م ـــ 1792م .
المرتضى الزبيدي ( في الهند ومصر ) 1732م ــ 1790م . صاحب( تاج العروس )
الشوكاني محمد بن علي ( في اليمن ) 1760/ ـــ 1834م .
هذه النهضة السليمة الهادئة لم يعرفها على حقيقتها غير ( المستشرقين ) فهبوا هبة الفزع ، وسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة ويضعونها تحت أبصار ملوك المسيحية الأوربية ورؤسائها ويبصرونهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه ( اليقظة ) الوليدة إن تمت .(40/47)
و الاستشراق جهاز خبيث جاء متخفياً في عباءة العلم والبحث ، ساح في دار الإسلام في تركيا ، وفي الشام ، ومصر ، وفي الهند ... وفي غفلة أهل دار الإسلام عن حقيقة هذه الأشباح الغربية التي تتجوّل في الطرقات وتسير في الشوارع في كل لباس ، في زى التاجر ، وفي زى السائح ، وفي زى الباحث المنقب ، وفي زى طالب العلم ، وفي زى المسلم البسيط .... الخ . فاكتسب هذا الجهاز مع تطاول السنين خبرة واسعة عن دار الإسلام ( الحصينة) وصاروا يستخرجون كل شيء عن دار الإسلام عن أحوال الخاصة والعامة ، والعلماء والجهلاء ، والملوك والسوقة ، والجيوش والرعية ، والقوة والضعف ، وتدسسوا حتى أخبار النساء في الخدور ، لم يتركوا شيئا إلا وفتشوه وعرفوه ,.. ومضت سنوات طويلة ، والتقارير ترفع إلى ملوك المسيحية بكل ما يعلمونه عن دار الإسلام ،، وما خبروه وشاهدوه عياناً عن الغفلة المطبقة على دار الإسلام .. فنشأ بفضلهم ( طبقة الساسة ) ، أو من سموا بعد ذلك ( رجال الاستعمار ) .. ... و أكدت التقارير الاستشراقية انه ليس للمسيحية خيار سوى العمل السريع والمحكم .. واهتبال الغفلة المحيطة بالمسلمين ،، فقد كان الفرق بيننا وبين ما وصلت إليه أوربا الآن هو خطوة واحدة لمن يصل إليها أولاً .
الاستعمار العسكري¯ ومساوئه :ــ
وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي كان أول من حرّض فرنسا على اختراق دار الإسلام في مصر هو الفيلسوف الألماني ( ليبنتز ) ت/ 1716م .... وفي عام 1/7/1798م تحرك نابليون بجيوشه لاحتلال مصر ،، الذي يسمونه الآن (( عصر النهضة )) وخلف هذا الاستعمار جملة من النتائج السلبية عادت على العرب والعربية منها على سبيل المثال لا الحصر:ـــ
1. سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ودليل السرقة قائم وموجود في مكتبات أوربا 25، وكان همهم يوم ذاك هو السطو على كتب ( الحضارة ) أولا ، ثم ( التاريخ ) ثم كتب ( الأدب ) فكأن الحملة الفرنسية جاءت لتجريد دار الإسلام في القاهرة ممن أسباب اليقظة المادية المتمثلة في : الكتب ، والمراجع ، وتصفية العلماء ، وإعدام الطلبة .
2. تصفية البلد من رؤوس العلم , ومن طلبة العلم , لأنهم مصدر المقاومة والصحوة (( فقد فعل هذا السفاح ما لم يفعله جنكيز خان ، إذ كان له في كل يوم خمسة أشخاص يقتلهم في القاهرة وحدها ويطوف برؤوسهم في شوارع القاهرة ، وكان يأمر قواه أن يتشبهوا به ،،، ويرشده المستشرقون أن يختارهم من الطلبة النابهين ورثة علم ( الزبيدي ) و( الجبرتي) ليستأ صلوا جذور اليقظة )) .
3. ما كان للاستعمار الغربي بحقده الدفين وخبرته الواسعة .. أن يترك هذه اللغة التي يعرفها معرفة جيدة ويدرك آثارها الاجتماعية والسياسية (( ما كان له أن يدعها تنمو بإيقاعات سريعة تتساوق وإيقاعات النمو الحضاري العام , فأخذ يوجه إليها الضربة تلو الضربة , تارة بقرار سياسي .. وتارة بفتنة عمياء تثير الجدل وتعيق عن العمل .. وتارة باستعمال أبواق لا خلاق لها للترويج للغة مهجورة متخلفة أو للدعوة إلى عامية شائعة ...ففي مصر وجه اللورد كرومر ضربة قوية للعربية ؛ إذ جعل لغة التعليم الرسمي والعالي الإنكليزية ... وفي الجزائر أصدر الفرنسيون عام 1904م قانوناً يمنع أي معلم عربي أن يتعاطى مهنته إلا برخصة وضمن شروط محددة هي :ــ
1. اقتصار التعليم على حفظ القرآن لا غير .
2. عدم التعرض لتفسير الآيات التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد .
5. استبعاد دراسة التاريخ العربي والإسلامي , والتاريخ المحلي وجغرافية القطر الجزائري والأقطار العربية الأخرى .
8. استبعاد دراسة الأدب العربي بجميع فنونه .
ويمكن أن نقول أن ما حدث في مصر والجزائر حدث مثله في سائر الأقطار العربية المستعمرة))26 حيث كان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في (سورية وتونس والجزائر والمغرب)، فقد كانت لحظة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :
أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكانت تكتب أساساً بالحروف العربية ، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسية .
ثانياً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .
ثالثاً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
رابعاً : ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة .
4. محاربة العقيدة الإسلامية ؛ لأن الإسلام يرفض الاعتداء ويحث على محاربة المعتدي (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) .
5. مسك الاستعمار زمام الجانب الاقتصادي , والتعليمي بيده ؛ فكانت النتيجة " الفقر و الجهل و المرض " .(40/48)
حتى إذا انتهى عهد الاستعمار العسكري ــ أو في أثنائه ــ قام ( المستشرقون ) باستكمال بقية المخطط في السنوات التالية , فأخذ نمو العربية يتعثر هنا وهناك في الأقطار العربية كلها ولعل من المناسب هنا أن نذكر أشهر المستشرقين وأهمهم :ــ
لويس ماسينيون كان من أشد الدعاة إلى إحياء اللهجات المحلية وإحلالها محل الفصحى .
دلمور القاضي الإنجليزي , عاش في مصر وألف عام 1902م كتابا أسماه( لغة القاهرة ) .
ويليام ويلكوكس دعا عام 1926م إلى هجر العربية , وترجم الإنجيل إلى اللهجة المصرية يقول : (( إن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة )). وما يزال أحد الشوارع في حي (الزمالك) بالقاهرة يحمل اسمه .
دنلوب قسيس إنجليزي ومبشر خبيث وعات عين في 17 مارس 1897م سكرتيراً عاما لوزارة المعارف ، وكان أول ما فعله هو تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق المرتبط بالعربية ، وإثارة القومية الفرعونية البائدة ، فجعلهم في حيرة بين انتمائين : الثقافة العربية الإسلامية ، والانتماء إلى الفرعونية لغة الأجداد الكفار . وهذا الذي لا تزال تسير عليه مصر في فكرها ولبسها والإعلام المصري خير شاهد على ذلك .
ارنولد توينبي هاجم العربية ورآها لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس الدينية فقط كالصلاة والدعاء شأنها شأن العبرية لغة الكتاب المقدّس .
سبيتا مستشرق ألماني دعا عام 1880م إلى العامية بدل الفصحى .
غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقول: (( ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا ان تكون هي نفسها في أمان )) .
هاملتون جب يقول : (( إن الغرض من الجهود المبذولة لحمل المسلمين على الحضارة الغربية هو تفتيت حضارة الإسلام وتغيير خصائصها جذرياً عن طريق التعليم ، والإعلام ، والثقافة )).
كيمون مستشرق فرنسي له ( باثولوجيا الإسلام ) قال:ــ(( اعتقد أن من الواجب ابادة خمس المسلمين ، والحكم على الباقين بالأعمال الشاقة ، وتدمير الكعبة ، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر )) .
جولد زيهر مستشرق يهودي مجري من أخطر المستشرقين وأشدهم هجوما ، وهو عضو بارز من محرري دائرة المعارف الإسلامية ، ولد 1850م وهلك عام 1921م ، درس في مدارس اللغات برلين ، ليبزج ، فينّا ، رحل إلى سوريا عام 1873م ، تتلمذ على يد الشيخ / طاهر الجزائري ، ثم رحل إلى مصر حنى نضلّع في العربية ، له دراسات في القران و الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله , ، آراؤه عفنة ، وبحوثه مسمومة ، وهجومه عنيف على المقررات العلمية الثابتة .
يوسف شاخت أحد محرري دائرة المعارف الإسلامية ، له كتب في الفقه أشهرها ( أصول الفقه الإسلامي ) .
عطية سوريال مصري الوطن ، مسيحي العقيدة ، شديد الحقد على الإسلام . كان أستاذا بجامعة الإسكندرية .
فيليب حتي لبناني مسيحي ، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية ، كبير الدهاء ، واسع الحيل والمكر ، يخفي حقده على الإسلام بالتظاهر بالدفاع عن القضايا العربية ، كان مشرفاً على الدراسات التي يقدمها الطلاب في التاريخ الإسلامي ، واللغات الشرقية .
اللورد كرومر له كتاب ( مصر الحديثة ) وكتاب ( لغة القاهرة ) , جعل لغة التعليم الرسمية هي الإنجليزية , وقد أشار حافظ إبراهيم إلى محاربة كرومر للعربية بقوله :ـ
قضيت على أم اللغات وإنها قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
هوارد ويلس رئيس سابق للجامعة الأمريكية ببيروت بقول :ــ(( التعليم في جامعتنا ومدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم ، وانتزاعه من قبضة الإسلام ))، ولقد وصل فعلاً خريجو الجامعة الأمريكية ممن غسلت أدمغتهم إلى المناصب القيادية في أكثر البلاد العربية .
ونحن لا ننكر دور المستشرقين في الدراسات الإسلامية ، ولكننا نرتاب في نواياهم !!!
وللحقيقة العلمية فان سؤالاً يفرض نفسه هو : هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟
(( وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق ... اما التيار الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التو فيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.(40/49)
أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية .. وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية. ))27 ومنهم المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد .... الخ .
الاتجاه الثاني :- تعرضت العربية لضربات قاصمة من الخارج شدت أزرها فتن محرقة من الداخل أوهت عزيمتها ومزقت جسدها من أولئك الأذناب من المستغربين الذين يفكرون بالإنجليزية أو الفرنسية ثم يترجمونه إلى اللغة العربية مثل طلبة المستشرقين ، وبعض الذين يوفدون للدراسة في الخارج وكل متعصبي نصارى العرب الذين نبتوا في تربة نصرانية على أصول غربية 0 منهم على سبيل المثال لا الحصر :ــ
رفاعة الطهطاوي : أرسل في بعثة محمد علي إلى فرنسا عام 1826م وكان في الخامسة والعشرين من عمره . (( ذكياً نعم ، نابهاً بين أقرانه نعم ، محبا للعلم نعم ، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر .. غريراً ، طري العود ، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها ... وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم ، انه البارون الفرنسي سلفستر دي ساسي ، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها ، فتتألق معها مفاتن النساء ،، انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس (6) سنوات ، تعلم فيها الفرنسية ، ودرس التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة والآداب الفرنسية ، وقرأ مؤلفات فولتير ، وجان جاك روسو ، ومونتسكيو ، وتعلم فن العسكرية , والرياضيات )) كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن (( تكون خطفاً كحسو الطائر ، وان يكون ما ألفه سطواً على كتب 0 حتى مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درّبوه هناك .. وهذه المدرسة أحدثت صدعاً في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين ،، الأزهر في ناحية , و مدرسة الألسن في ناحية , والوظائف طبعا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون )) 028
طه حسين :ــ ديكارتي المذهب ، علماني العقل والفكر ،عاش حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب بان لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم وتراثهم . قال في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" : (( إن السبيل الى ذلك واحدة وهي ان نسير سير الأوربيين , ونسلك طريقهم ؛ لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها )) ووصل به الولاء لمن تتلمذ عليهم أن يقول في صراحة أن مصر لم تكن قط جزءاً من الشرق وإنما كانت جزءا من حوض البحر المتوسط, وان روابطها الفكرية والروحية والثقافية كانت دائما مع أمم البحر الأبيض المتوسط وليست مع الشرق .... تتلمذ على يد المستشرق ( مرجيليوث ) وأشرف على رسالته ( في الشعر الجاهلي ) التي احدثت ضجة في الأوساط الأدبية , وشرخا في الثقافة الاسلامية ,, وقد ذكر الشيخ/ محمود محمد شاكر (( أن الدكتور طه ، قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي بما كتبه في جريدة الجهاد ، وبما صارحني به بعد ذلك ، وصارح به آخرين ، من رجوعه عن هذه الأقوال . ولكنه لم يكتب شيئا صريحاً يتبرأ به مما قال أو كتب . وهكذا عادة ( الأساتذة الكبار) يخطئون في العلن ويتبرأون من خطئهم في السرّ )) 29.. شكراً لك يا أبا كلود ـــ اسم فرنسي أطلقه على ابنه ـــ شكراً لك يا مؤلف " الخطوة الثانية وإن غضب الغاضبون " .
ولا تزال آثار السموم الفكرية التي زرعها الاستشراق والاستعمار تبرز على أقلام أتباعهم وأجرائهم المتعاطفين معهم حيث لا فائدة منها سوى الهاء الباحثين عن القضايا الهامة إلى الرد على هذا وتفنيد آراء ذاك . فكم من باحث شغل نفسه ووقته للرد على سعيد عقل مثلاً , أو على أنيس فريحة , او على سلامه موسى , أو على عبد العزيز فهمي وهذا الأخير شغل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ثلاث سنين بمناقشات عقيمة حول الكتابة العربية بالحرف اللاتيني كان يمكن استثمارها في قضايا مصيرية مهمة تخدم الأمة واللغة والدين .
المواجهة
الفصحى والعامية تعايش سلمي قديم :
حقيقة كون اللغة واحدة ذات أساس ومرجعية تاريخية ثابتة أما اللهجات الموجودة في الواقع فهي نتيجة طبيعية للعزلة التاريخية والانقسامات الدينية التي رسخت الشرخ الطائفي بين أبناء الأمة الواحدة، واللهجات بشكل عام موجودة في معظم اللغات الحية وفي جميع أصقاع الأرض ولا تخلو لغة من لهجات عامية تختلف من بلد لآخر ويصل الاختلاف أحياناً إلى حد تعذر فهم لغة الشخص الآخر من نفس القومية كما هو الحال في اللغة العربية حيث نجد صعوبة بالغة في فهم اللهجة العربية للجزائري أو المغربي أو الموريتاني أو الصومالي.(40/50)
ففي كل لغة من لغات العالم الحية توجد لغة فصحى وتوجد لهجات عامية محكية ومهما اختلفت اللهجات بحسب المناطق والبلدان فإن المرجعية تكون للفصحى الأساس، ومهما دخلت الشوائب والكلمات الغريبة على اللهجات المحكية فإن الفصحى هي الحصن المنيع والمرجع الأخير لكل الطوائف من أبناء الشعب الواحد.
إن تجاهل كل هؤلاء المستشرقين والمستغربين لمسألة الازدواج اللغوي أي وجود العامية والفصحى في حقيقتها الراهنة في العالم المعاصر ة و إلصاقها بالعربية فقط هو صرف للقضية في غير مسارها الحقيقي ((فالازدواجية ظاهرة عامة لها أصولها ومقوماتها النفسية والاجتماعية وليست ذات صبغة مرضية كما يحاولون تصويرها إذا تكلموا عن العربية , وكأنها انفردت من بين لغات البشر بهذه الازدواجية . وعلى كل حال فان من المبالغة أن نتصور أن هناك ذلك البون الشاسع المتوهم بين عاميتنا وفصحانا خاصة بعد أن خطا التعليم بالناس خطوات واسعة نحو الفصيحة في سائر الدول العربية ... وما حدث تجاه مسألة الازدواجية من تهافت أدلة أولئك الشعوبيين حدث تجاه المسائل الأخرى التي باتت مفضوحة الارتباطات كالدعوة إلى الكتابة باللاتينية التي بلغت حداً من التهافت والسخف جعل أصحابها موضع تندر قبل أن يكونوا جديرين بالرد والنقاش ! ولكن هل انهزم أعداء العربية ؟؟؟ إنهم يعرفون أن هدم ذلك البناء الشامخ غير ممكن ولا ميسر لذلك فانه يكفيهم في كل مرحلة أن يخربوا بعض أطرافه ويقلعوا بعض أحجاره لعله يتاح لهم في المستقبل دك أعمدته وتخريب أساسه ..)) 30 .
لغة مختصرة موجزة : 31
والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجماً يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء (KH) مثلاً ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه ... وفي العربية إشارة نسميها ( الشدة )، نضعها فوق الحرف لندل على أن الحرف مكرر أو مشدد، أي أنه في النطق حرفان، وبذلك نستغني عن كتابته مكرراً، على حين أن الحرف المكرر في النطق في اللغة الأجنبية مكرر أيضاً في الكتابة على نحو (flappe r ) و ( r ecommendation) ... ونحن في العربية قد نستغني كذلك بالإدغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف. فنقول ونكتب ( عَمَّ ) عوضاً عن ( عن ما ) و ( مِمَّ ) عوضاً عن ( من ما ) و (بِمَ) عوضاً عن ( بما ) ومثلها ( لِمَ ) عوضاً عن ( لِما ) .
الإيجاز في الكلمات :/ وبمقارنة كتابة بعض الكلمات بين العربية والفرنسية والإنكليزية نجد الفرق واضحاً :ــ
العربية وحروفها …الفرنسية وحروفها …الإنكليزية وحروفها
أم 2 …mè r e 4 …mothe r 6
أب 2 …pè r e 4 …fathe r 6
أخ 2 …f r ère 5 …b r othe r 7
ومن الإيجاز حالي التثنية و الجمع :ــ
الباب البابان - البابين les deux po r tes the two doo r s
الباب البابان - البابين les deux po r tes the two doo r s
الإيجاز في التراكيب : والإيجاز أيضاً في التراكيب ، فالجملة والتركيب في العربية قائمان أصلاً على الدمج أو الإيجاز . ففي الإضافة يكفي أن تضيف الضمير إلى الكلمة وكأنه جزء منها :
كتابه son liv r e كتابهم leu r liv r e
وأما في الإسناد فيكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه بلا رابطة ملفوظة أو مكتوبة، فنقول مثلاً ( أنا سعيد ) على حين أن ذلك لا يتحقق في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ، ولا بد لك فيهما مما يساعد على الربط فتقول :
( je suis heu r eux ) ، ( I am happy ) .
فمثلاً سورة ( الفاتحة ) المؤلفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة .
والنفي أسلوب في العربية يدل على الإيجاز :
العربية : ( لم أقابله ) ، الإنكليزية : ( I did not meet him )
الفرنسية : ( Je ne l'ai pas r encont r é )
العربية : ( لن أقابله ) ، الإنكليزية : ( I will neve r meet him )
الفرنسية : ( Je ne le r encont r e r ai jamais )
وهكذا نرى أن العربية في عصرنا الراهن عاشت مرحلة صراع دام ضد القوى الخفية والظاهرة ومع ذلك فلا تزال تمارس وظيفتها السياسية والقومية في حفظ الوحدة اللغوية , كما تمارس وظيفتها في الحفاظ على الشخصية العربية والتاريخ العربي والإسلامي .
التحدي الرابع :ــ
الإعلام العربي واللغة العربية
والإعلام : هو التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير ، وروحها ، وميولها ، واتجاهاتها في نفس الوقت (( فهو أولاً وقبل كل شيء يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي , ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا : بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام 32))(40/51)
الاتصال الجماهيري تتسع رقعته يوماً بعد يوم ، فالسماء وما فيها من أقمار صناعية ، والأرض وما فيها من مستقبلات فضائية ، كل يخاطب كلاً ويتصل به (( وقد يكون ميدان الصراع الحضاري الحقيقي اليوم , قد تحول إلى الإعلام , وأصبح التمكن من امتلاك الشوكة الإعلامية , بكل لوازمها ومقتضياتها يضمن الغلبة الثقافية , التي تعتبر ركيزة التفوق الحضاري 33)) حيث ألغى الإعلام كل الحدود الجغرافية والسياسية للدول , فلم تعد الشرائح الاجتماعية تهتم عمّن تتلقى ،، يكفيها أنها تتلقى فحسب .. وهي تنتقل من فضائية إلى أخرى ومن قناة إلى أخرى دون أن تكترث ،، وإن استقرت فإنها تستقر على قناة تعرف لغتها ، لأن العائق اللغوي يلغي مشاهدة أكثر من 70% من المحطات .. والتلفاز هو الوسيلة التي تستهلك اكبر وقت من حياة المشاهدين ، والمذياع في المرتبة الثانية ، ثم الصحف وتليها المجلة .
فإذا افترضنا أن الشرائح الاجتماعية لا تعرف إلا اللغة العربية ، فهذا يعني أنها هي المرشحة للخطاب الإعلامي ، سواء أكانت الفصحى أم العربية الميسرة ( MSA ) . ولكل لغة مستويان على الأقل : المستوى الذي يخاطب الخاصة وهو لغة المثقفين والمتعلمين ، ومستوى حوار العامة في الأسواق والشارع .
هناك شبه إجماع بأن هناك قراراً سياسياً أو إداريا يوجه اعتماد العربية الفصحى لغة للإعلام .
وإدارات الإعلام الرسمية تخطط برامجها على أساس أن الجمهور يقع بين حدين : الأمية ـــ والثقافة ، وما بينهما من درجات ، فتخاطبه بالفصحى ، وباللغة الثالثة ، وبالعامية .
إن أعلى نسبة للفصحى في الإعلام نلاحظها في البرامج التي تعتمد الخطاب الرسمي : كنشرات الأخبار ، والتقارير ، المناسبات السياسية ، والمسلسلات الدينية ... وغيرها ، وأعلى نسبة للعامية نجدها في برامج الأطفال ، والأسرة ، والبرامج المنوعة والترفيهية ، والمسلسلات المعاصرة ، والأغاني بكل لهجاتها .
والتلفاز وسيلة ذات جمهور واسع ، تستغرق اكبر وقت من مشاهدة الناس ، وتجده في كل مكان . كما انه يقدم أنماطاً من السلوك الاجتماعي واللغوي تفتقر إليها وسائل الإعلام الأخرى ، و مما يدل على أهمية هذه الوسيلة الإعلامية ــ رغم أن الصحيفة لها قاعدة عريضة وتستطيع المنافسة إذا أحسن استخدامها وتوجيهها ــ أنه أحكم قبضته على الأسرة واحتل صدر المجالس في الدور بلا منازع ولا منافس وتربع فيها بشموخ منقطع النظير ، وتشير أحدث الإحصاءات أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويا في مشاهدة التلفاز ، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفاز حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9ساعة في المتوسط أسبوعيا بينما يمضى أطفال المجموعة العمرية من 6-11سنة حوالي 20.4ساعة مشاهدة أسبوعيا ، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 54ساعة أسبوعيا لمشاهدين لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد. حيث حول الإعلام بامكاناته الهائلة غرف التعليم التقليدي , بسبوراتها وأقلامها ومقاعدها و وساتلها , إلى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون , أو الانترنت , أو الكمبيوتر .
ولذلك فليس بمستغرب أن نجد انتشار ظاهرة تراجع المستوى الدراسي لأطفال التلفاز فضلا عن تدنى قدراتهم العقلية والخبرات الخاصة نتيجة حرمانهم من ممارسة القراءة , يقول برونو بتلهايم: B r uno Bettelheim : التلفاز يأسر الخيال لكنه لا يحرره أما الكتاب الجيد فإنه ينبه الذهن ويحرره في الوقت ذاته ... فتصبح القراءة ممارسة سطحية ، ويرجع السبب إلى الانتباه المسترخي غير المركز ( السلبية العقلية ) المصاحب للمشاهدة التلفازية الذي يعوق نمو قدرة الأطفال على تفسير المادة اللفظية بطريقة ذات معنى مما يجعل عملية القراءة والتحصيل شاقة جدا وفي ذلك يقول واحد من أبرع كتاب أمريكا إ. ب. وايت E.B. White : لست أعرف حقا ماذا يمكننا أن نفعل من أجل القراءة فيما عدا إلقاء جميع أجهزة التلفاز بعيدا ..إننا في حاجة ملحة لأن نقف وقفة حاسمة تجاه التلفاز نحدد فيها ما يمكن أن نشاهده والقدر من الوقت الذي نستغرقه فإذا فشلنا في هذه الوقفة فعلينا أن نختار بين التلفاز أو أطفالنا .(40/52)
يبين أصحاب الخبرات الطويلة في البحث اللغوي أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها إلى الطبيعة، هو " خلق بيئة فصيحة تنطق بها العربية " ، وان نستمع إليها ونطيل الاستماع ، ثم نحاول التحدث بها ونكثر المحاولات ... فتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل كما أنها تصرف الطفل عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء . فهل يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في إيجاد هذه البيئة .
إننا بحاجة إلى ( تنمية الملكة اللغوية للمجتمع ) أي نقله من مستوى إلى مستوى أفضل ، ومن نمط بال إلى آخر متقدم ، ومن طريقة تعبيرية سوقية إلى أخرى رائعة , إذ ليس من اللائق التستر وراء الشعبية لتسويغ الإسفاف , أو لتسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر إطلاعه على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة الأمية من سقط المتاع , وليس من المقبول كذلك أن تبقى مشكلة الأمية مسوغاً لتدني مستوى لغة الخطاب الإعلامي ، لأننا اذا خاطبنا العامة بلغة الأميين نكون قد أسهمنا في زيادة نشر الأمية ، ولكن إذا خاطبناهم بلغة ارفع نكون قد أفدناهم من جهة ، ولان استمرارنا في ذلك سيجعلهم يتعلمون شيئا ما ، ويقومون باستخدامه في التعبير من جهة أخرى ،، لأن اللغة ضرب من السلوك قبل أن تكون علماً ومعرفة 00
ظواهر سلبية في الإعلام المرئي :ــ
Ok / b r avo /
(1) فشو العامية على ألسنة بعض المذيعين ولا سيما في المقابلات والمحاورات ، رغم أن الصحافة المقروءة استطاعت حتى الآن أن تصون نفسها من الانزلاق في اللهجة الدارجة نوعا.
(2) بعض الألفاظ الأجنبية كثيرة الترداد على ألسنة المذيعين مثل: وهذا العيب قلما نجده في الصحافة المقروءة 0
O r bit / a r t / Lbc / mbc
(3) الإيغال في التفرنج واللهث وراء كل ما يصدر عن الغرب حتى في أسماء القنوات الفضائية من مثل .... والسؤال الذي يفرض نفسه : مادام مضمون برامج التلفزة والإذاعة عربياً وباللغة العربية ، فما المسوغ لهذه الأسماء الأجنبية 0 إن الأجانب بطبيعة الحال لا يلتفتون إلى إذاعاتنا وبرامجنا ، ولا تعنيهم في شيء ، بل لا تحظى بأي قدر من الاهتمام لديهم ، ولا تلامس مشاكلهم ، وبينهم وبينها حاجز اللغة الأصم المنيع .
(4) إن المعول عليه الآن عند توظيف المذيع أن يكون ( فتاة ) يراعى في انتقائها أن تكون حسناء ، يافعة ، رشيقة القد ، مليحة الوجه ، أثيثة الشعر ..... أما ماعدا ذلك من إتقانها اللغة العربية وتجويد أدائها ، وحسن نطق مخارج الحروف .. فهذا أمر لا لزوم للتشديد فيه ، وربما لا يؤبه له . يكفي أن تكون سليمة من عيوب النطق وحبسة اللسان وما عليها في نهاية الأمر ألا أن ترسم ابتسامة على ثغرها 0
(5) ضحالة الأسلوب وضعف الزاد اللغوي لدى المذيعين غالباً ، وسبب ذلك قصور إطلاعهم على أساليب البلغاء وكلام الفصحاء .
(6) لغة الإعلانات :- غلبت الركاكة على اللغة الإعلانية وكثرت فيها الأخطاء والابتذال ، سواء في الصحف أو في التلفاز والإذاعة .. تراها منتشرة في كل مكان ، واللافتات منصوبة على جوانب الطرق ، وفي المحلات التجارية ، والمتاجر عباراتها سوقية عبارات هجينة ، مسفة ..
المواجهة :ـ
(( لذلك لابد أن نجيب في العملية الإعلامية عن السؤال الكبير: " لماذا ؟ " فنجدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي .. ثم نصل إلى السؤال : " كيف ؟ " فنضع الخطط والبرامج ونحدد الوسائل والأدوات في ضوء امكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه , ومن ثم تحديد الإجابة عن : " متى ؟ " وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل )) 34
حلول ومقترحات :ـ
(1)/ أن تستخدم وسائل الإعلام في توعيتها الكلمات الفصحى ، والعبارات سليمة التراكيب التي تجمع بين البساطة في التعبير ،، واحترام قواعد اللغة .
(2)/ قيام وسائل الإعلام بالتوعية المستمرة في حثّ الجماهير على النطق بالعربية الفصحى .
(3)/ ضرورة وجود دائرة من المراجعين المدققين اللغويين ذوي الكفاءة يتتبعون النشرات والتقارير والبرامج الأخرى .
(4)/ تقديم جوائز تشجيعية لكل من يخرج عملاً إعلاميا من لقاء أو مسرحيات أو أغان أو مسلسلات بلغة فصحى مبسطة للجماهير في كل قطر .
(5)/ يجب تقديم دروس تقوية للعاملين بالإعلام ، يكون حضورها إلزامياً في مسائل العربية ونحوها وصرفها .
(6)/ إقامة ندوات لغوية ونحوية للإعلاميين ، وإلقاء محاضرات بين الحين والأخر ، تناقش فيها مختلف القضايا اللغوية والنحوية المتعلقة بوسائل الإعلام .(40/53)
(7)/ إصدار نشرة بأهم الأغلاط الملحوظة ، مع تصويبها وتعميمها على العاملين ليتم تلافيها .
(8)/ عدم قبول أي كادر إعلامي إلا بنجاحه في مادة اللغة العربية ، لأن هذا سيدفعهم للقراءة والمتابعة وتطوير قدراته اللغوية .
(9)/ أن يكون اختيار المذيعين قائماً على جودة اللغة العربية ، وإتقانهم لها ، فكراً وثقافة ، وكتابة موهوبة .
(10)/ زيادة الوقت المخصص للبرامج التثقيفية في اللغة العربية والعمل على رفع مستواها .
(11)/ تعميم لغة مشتركة تقرّب بين اللهجات ثم تلغيها بمرور الوقت .
(12)/ الربط بين الإعلام وأجهزته وبين خطط التعليم والمناهج المدرسية .
(13)/ عرض ترجمات الأفلام والبرامج الأجنبية على المراجعين المدققين اللغويين قبل تسجيلها ، على أن يكون هذا شرطاً لشرائها أو مبادلتها .
(14)/ يفترض في الإعلانات التجارية أن تكون بلغة سليمة ناصعة ، آو على الأقل بلغة وسط بين العامية والفصحى .
(15)/ ينبغي عدم إدخال ألفاظ أجنبية على العربية في لغة الإعلانات ، لأن فيه إهانة لها ، وإنما يتم الترجمة أو التعريب حتى لا يؤدي هذا إلى ازدواجية لغوية .
(16)/ يجب أن تستثمر وسائل الإعلام الدعايات الإعلانية بإلزامها بلغة عربية فصيحة معاصرة ....لأن تأثير الدعاية الإعلانية في الأطفال سريع جداً 0
والله الموفق لما فيه خدمة الإسلام
الأستاذ/ سالم مبارك الفلق
اليمن / حضرموت
alfalagg@yahoo.com
كان الفراغ منه في ليلة 27 رمضان 1425هـ
يوافق : 10 / نوفمبر تشرين الثاني / 2004م
=============(40/54)
(40/55)
الرأسمالية تجدد نفسها
تأليف: د/ فؤاد مرسي
الكويت، سلسلة عالم المعرفة، مارس 1990، 496 ص.
عرض وتحليل
محمد حسن يوسف
يجيب هذا الكتاب عن التساؤل: أين تقف الرأسمالية المعاصرة؟ وأين يقف العالم المعاصر؟ ومن هنا يطل الكتاب على التغيرات الكبرى التي شملت الرأسمالية. فإذا كانت قاعدة الرأسمالية قد تقلصت جغرافيا خلال القرن الماضي، فإنها قد أثبتت أنها أكثر قدرة على الحياة مما كان يتصور خصومها، حيث تغلبت على أخطر التناقضات في اللحظة المناسبة. وهكذا نواجه الآن رأسمالية معاصرة تتميز بالاستجابة الحيوية لمقتضيات العصر، استطاعت أن تجدد قواها الإنتاجية وأن تعيد تنظيم علاقاتها الإنتاجية حتى لا تفلت من سيطرتها، كما استطاعت أن تستعيد أكثر مستعمراتها القديمة - رغم استقلالها - أطرافا لمراكز الرأسمالية الرئيسية.
وينقسم هذا الكتاب إلى ستة أبواب رئيسية، هي: رأسمالية الثورة العلمية والتكنولوجية - رأسمالية متخطية للقوميات - رأسمالية قادرة على التكيف - هيئة الرأسمالية المالية - إعادة نشر الصناعة والزراعة عالميا - دورة الأعمال الجديدة. ونستعرض هذه الأبواب فيما يلي:
1- رأسمالية الثورة العلمية والتكنولوجية:
إذا كان صحيحا أن الرأسمالية قد مرت على التوالي بمراحل الرأسمالية التجارية، فالرأسمالية الصناعية، فالرأسمالية المالية، فإنها تمر الآن بمرحلة ما بعد الصناعة. ولا يعني ذلك أن الرأسمالية تخلت عن التجارة أو الصناعة أو المال، وإنما يعني أن الرأسمالية المعاصرة قد تجاوزت ذلك كله إلى مرحلة أرقى من تطوير قوى الإنتاج استنادا إلى العلم والتكنولوجيا، فيما صار يُعرف باسم الثورة العلمية والتكنولوجية.
وينقسم هذا الباب إلى أربعة فصول، في الفصل الأول، دلالة الثورة العلمية والتكنولوجية، يقول المؤلف: إن الثورة العلمية والتكنولوجية تعتبر وريثة التقدم الذي حدث في مجال تطوير قوى الإنتاج على أيدي الرأسمالية. وهي لا تختلف في ذلك عن الثورة الصناعية التي لم تحدث فجأة، بل كانت نتيجة مسار تكنولوجي طويل بدأ في أوربا الغربية منذ أواخر القرون الوسطى وتُوج في انجلترا، حيث تناول في آنٍ واحد تحسينات كبيرة في وسائل الإنتاج الزراعي على أيدي الإقطاعيين، وتحسينات أخرى في وسائل الإنتاج الحرفي على أيدي الحرفيين أنفسهم. غير أن أمور التقدم التكنولوجي الزراعي والصناعي ظلت بعيدة عن تطوير العلوم ذاتها حتى أواسط القرن التاسع عشر، ولذلك لم تحدث الثورة العلمية والتكنولوجية إلا خلال القرن العشرين عن طريق تطبيق الاكتشافات العلمية في مجال الكيمياء والذرة والإلكترون.
من هنا يتمثل جوهر الثورة العلمية والتكنولوجية في مبدأ الأتوماتية، ويمثل هذا المبدأ بدوره اللقاء المباشر بين العلم والإنتاج، وتهميش عمل الإنسان. أي أن الأتوماتية تعني إدماج المراحل الإنتاجية للسلعة المعينة في سلسلة متصلة على نحو آلي، ودون تدخل الإنسان فيما بين هذه المراحل، فتبدو كأنها مجرد توسع في الآلية، لكنها تتضمن أكثر من مجرد الآلية التقليدية. وكما أن الآلة البخارية هي رمز الآلة، فإن الحاسب الالكتروني هو رمز الأتوماتية. إنها آلية جديدة تقوم بأعمال الرقابة والتوجيه، وتعتمد في سلوكها على ما يسمى التغذية المرتدة، أي الخبرة المستمدة من نشاطها السابق.
وفي الفصل الثاني، أبعاد الثورة العلمية والتكنولوجية، يقول المؤلف: إن الثورة العلمية والتكنولوجية تتمثل في تلك المتغيرات الثورية التي تحققت في ثلاث مجالات أساسية، هي التي تعيد الآن تشكيل وجه الحياة في كل أرجاء العالم الرأسمالي. وهذه المجالات هي:
- ثورة تكنولوجيا المعلومات: نظرا لحقيقة أن المعرفة الإنسانية تتضاعف كل ثمانية إلى عشرة أعوام، فإن هذه الظاهرة قد قادت إلى أهمية التشغيل الذاتي، أهمية الأتوماتية في معالجة المعلومات. ومن هنا تم الاندماج التدريجي بين تكنولوجيا الاتصالات وتكنولوجيا الحاسبات، فظهرت تكنولوجيا المعلومات.
- ثورة التكنولوجيا الحيوية: تُقدم التكنولوجيا الحيوية على إعادة هيكلة الجينات، أي حاملات الصفات الوراثية في الكائن الحي، ولهذا تسمى تكنولوجيا الهندسة الوراثية. وهي مجال يفتح آفاقا سحرية أمام البشرية في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني.
- ثورة تكنولوجيا المواد: هي الثورة الكيماوية والبتروكيماوية، حيث يتم استخراج المواد الجديدة بلا حدود بدلا من المواد الطبيعية الناضبة أو المحدودة.
والخلاصة أن الثورة العلمية والتكنولوجية تتطور حاليا في اتجاهات عديدة، وهي تخلق صناعة توليد طاقة جديدة ومواد أولية جديدة وتكنولوجيا جديدة.
وفي الفصل الثالث، النتائج الاقتصادية للثورة العلمية والتكنولوجية، يقول المؤلف: إن التغيرات الاقتصادية المترتبة على الثورة التكنولوجية جذرية وبعيدة المدى، بل إنها لم تعط حتى الآن كل نتائجها. وهي تبشر أو تنذر بإعادة هيكلة كل من:
- الاقتصاد القومي: من خلال تغيير الهيكل الصناعي، وتغيير هيكل قوة العمل، وتغيير هيكل الموارد.(40/56)
- الاقتصاد الدولي: من خلال تدويل العلم والتكنولوجيا في إطار المنافسة الدولية، وعجز النمط الحالي للتجارة الدولية، والتدويل المضطرد للاقتصاد الدولي، وازدياد تبعية البلدان النامية.
ناهيك عما تغيره من قوانين علم الاقتصاد، حيث صارت قوانين السوق تعمل بصورة مشوهة عن ذي قبل.
وفي الفصل الرابع، النتائج الاجتماعية للثورة العلمية والتكنولوجية، يقول المؤلف: إنه مع تغير القوى المنتجة يجب أن تتغير العلاقات الاجتماعية. ومن شأن الثورة العلمية والتكنولوجية بوصفها ثورة مكثفة في القوى الإنتاجية أن تحدث تغييرات كبيرة وكيفية وجذرية في أنماط الحياة الاجتماعية بأسرها. ولعل من سمات الرأسمالية المعاصرة انتهاء ارتباط الإنتاج الصناعي بالتوظيف الصناعي، وهو يعني بذلك انفصال الإنتاج عن العمل. ففي عصرنا هذا يتم التحول من الصناعات كثيفة العمالة إلى الصناعات كثيفة العلم والتكنولوجيا. وبالإضافة إلى ذلك فإن مضاعفة إنتاجية العمل بفضل التقدم التكنولوجي الراهن كان من شأنها التحول من الصناعة إلى الخدمات، مع أن هذه الخدمات ما زالت تعمل في إطار الصناعة، ويحدث ذلك وفرا في استخدام العمل.
أي أن الثورة العلمية والتكنولوجية قد اقترنت بتحولات ضخمة في تركيب الطبقة العاملة. ولا يقتصر التغيير على ذلك، بل يمتد ليشمل طبيعة عملها أيضا، ومن ثم تتغير عقليتها المهنية والاجتماعية. والخلاصة هي أن الطبقة العاملة لا تختفي، وإنما يتغير تركيبها وتتعقد بنيتها وتتطور طبيعة عملها وتتحول عقليتها، الأمر الذي يعني أن التكنولوجيا الجديدة ليست محايدة، وأن قضية الأخذ بها لا ينبغي أن تُبحث بمعزل عن عواقبها الاجتماعية.
2- رأسمالية متخطية للقوميات:
لم تعد الحدود القومية كافية في عصرنا لتوفير القاعدة التي تسمح بنمو القوى الإنتاجية نموا مضطردا، ولم يعد في الوسع تنمية هذه القوى ولا إدارتها إلا في إطار أوسع هو إطار دولي، وذلك لأن الثورة العلمية والتكنولوجية قد قامت بإعادة هيكلة القوى الإنتاجية وتجديدها على مستوى عالمي.
وينقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول، في الفصل الأول، ظاهرة التدويل المضطرد للإنتاج ورأس المال، يقول المؤلف: إنه بتقسيم العمل الاجتماعي أصبح عمل الناس أوفر إنتاجية، لكنهم صاروا أشد ارتباطا بعضهم ببعض. وهكذا كان تقسيم العمل الاجتماعي هو الشرط الأول لظهور الإنتاج السلعي، أي الإنتاج المتجه نحو التبادل. وبتطوير الجانب الفني من تقسيم العمل الاجتماعي، خصوصا في ظل الصناعة الآلية، أصبحت الأسواق المحلية أضيق من أن تفي باحتياجات تنمية الإنتاج، فكان لابد من إدخال السوق الخارجية في الحساب. وبذلك تتشكل الآن رأسمالية متخطية للقوميات صارت تتصدى للإنتاج ولإعادة الإنتاج على مستوى دولي. ومعنى التدويل أن دورة الإنتاج وإعادة الإنتاج صارت تجري على صعيد دولي وليس على الصعيد القومي، وأنها صارت تنتقل باطراد من الصعيد القومي إلى الصعيد الدولي.
وفي الفصل الثاني، اتجاهات تدويل الإنتاج ورأس المال، يقول المؤلف لاشك في أن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية قد شهدت نموا سريعا في التجارة الدولية. وعند البحث في أسباب هذا النمو نجد أن ثمة سببا جوهريا يوجد في الخلفية هي تلك الثورة العلمية والتكنولوجية التي أدت إلى تعميق التخصص والتركز وخصوصا في الدول الصناعية المتقدمة. ثم يأتي السبب الجوهري الثاني لنمو التجارة الدولية وهو إقدام العديد من الدول الصناعية، وأحيانا النامية، على تخفيض مثير وممتد في التعريفات الجمركية عملا بسياسات تحرير التبادل ورفع الحواجز في وجه الواردات والانفتاح على الخارج في بلدان مثل كوريا الجنوبية وتايوان بعد أن تخلت عن سياسات التنمية ذات التوجه الداخلي التي كانت تسعى لإحلال الواردات. ومع تدويل التجارة الخارجية، على النحو السابق، كشفت السنوات الأخيرة وخصوصا منذ بداية السبعينات عن قوة الاتجاه إلى تدويل رأس المال. وينبغي تبين أن الاتجاه إلى تدويل رأس المال يتم في مجالين: أولهما الاستثمار الأجنبي غير المباشر، أي حركة رأس المال للتصدير، وثانيهما حركة رأس المال للتمويل والإقراض.(40/57)
وفي الفصل الثالث، أشكال تدويل الإنتاج ورأس المال، يقول المؤلف إن الاقتصاد الرأسمالي العالمي يعيد تنظيم نفسه في صورة نظام صناعي مالي جديد، وحدته الأساسية وأداته التنظيمية هي المشروعات المتخطية للقوميات. وإلى جانب ذلك تتخذ ظاهرة التدويل صورة أخرى هي التكتل أو التكامل الدولي. وليس التكامل الاقتصادي أي شكل من أشكال التعاون الاقتصادي بين دولتين أو أكثر، وإنما هو الاستجابة المباشرة لظاهرة التدويل المضطرد للقوى الإنتاجية في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية. إذا كان التكامل الدولي يتخذ في العادة صورة السوق المشتركة لتحرير التبادل وتدويله، فإن المشروع المتخطي للقوميات هو الذي يتولى في العادة تدويل الإنتاج ورأس المال ليتناسب مع تدويل التبادل، بل أصبح الاتجاه نحو التكامل الدولي يجري في الواقع من خلال المشروعات المتخطية للقوميات، وازداد بذلك الطابع الاحتكاري في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، فالمشروع المتخطي للقوميات هو الأداة الرئيسية الآن في تدويل الإنتاج ورأس المال، إذ إنه يتمتع بقوة اقتصادية تتخطى الحدود القومية. ومن هنا تجري محاولة توحيد السوق العالمية في السلع والمال والتكنولوجيا، وهي محاولة تجري غير مصحوبة بالرغبة في توحيد الظروف الاجتماعية للإنتاج.
3- رأسمالية قادرة على التكيف:
تتميز الرأسمالية المعاصرة بقدرتها على التكيف، ونعني بذلك إدراكها لموضوعية القوانين الاقتصادية للرأسمالية، وأخذ فعلها في الحسبان. ومن ثم اكتسبت هذه الرأسمالية قدرة على البقاء.
وينقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول، في الفصل الأول، القدرة على التكيف، يقول المؤلف: إن البلدان الرأسمالية المتقدمة قامت بإعادة النظر في أساليب إدارة وتنظيم الاقتصاد الرأسمالي على المستويين الدولي والمحلي، بحيث تشكلت الآن آليات من نوعين: نوع يطبق على الصعيد الدولي وآخر على الصعيد المحلي، وهدفهما تصحيح أسلوب عمل قوانين الاقتصاد الرأسمالي. وهكذا اكتسبت قدرة على التعايش مع التناقضات وتطويعها والتحكم فيها. ولكن ينبغي الإشارة إلى ما يمكن تسميته بحدود آليات التصحيح، حيث إن قدرة البلدان الصناعية المتقدمة على التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة في العالم، والتغلب على العديد من الآثار السلبية لعمل قوانين الاقتصاد الرأسمالي لا تعني بالضرورة قدرتها على التخلص إلى ما لا نهاية من الأزمة الاقتصادية الممتدة والتي تنفجر كل حين. لكنها تطرح علينا بالضرورة حتمية الوعي بقدرتها على نقل أعباء تلك الأزمة إلى البلدان النامية بصفة خاصة.
وفي الفصل الثاني، التخطيط كآلية للتصحيح، يقول المؤلف: إن الحياة فرضت نفسها فيما بعد الحرب العالمية الثانية أن تتصدى الدولة لإدارة الاقتصاد القومي بدرجة أو بأخرى. وبالاستناد إلى قطاع تملكته الدولة نتيجة تأميمات جرت قبل الحرب وبعدها. ومن ثم تطلعت الدولة إلى الأخذ بقدر من التخطيط، خصوصا في ظروف الخشية من تأثير التقلبات الضارة لدورة الأعمال. هنالك ظهرت البرمجة الرأسمالية وهي محاولات للتخطيط على المستوى القومي. وفي الوقت نفسه، كانت الاحتكارات التقليدية تخلي مكانها للكيانات الاحتكارية الجديدة المتخطية للقوميات، والتي صارت تعمل على نطاق العالم كله، ومن ثم عمدت إلى تبني أسلوب للتخطيط على مستوى المشروع. لقد دار الزمن دورة كاملة، حتى أصبحت الرأسمالية هي التي تمارس التخطيط وتتبنى بعض عناصره.
وفي الفصل الثالث، التضخم كآلية للتصحيح، يقول المؤلف: إن التضخم تحول في السبعينات من هذا القرن من خلل طارئ يصيب الاقتصاد الرأسمالي في أوقات معينة يختل فيها التوازن بين التدفقات العينية المحدودة والتدفقات النقدية غير المحدودة إلى آلية أساسية من آليات تصحيح عمل الاقتصاد الرأسمالي، وأصبح آلية لتصحيح ميل معدل الربح للانخفاض. ونظرا للتدويل المضطرد للإنتاج ورأس المال أصبح يتم نقله على المستوى العالمي من دولة إلى دولة، ومن مجموع الدول الرأسمالية إلى مجموع الدول النامية. وتشكلت بذلك آلية للتصحيح تتمثل في مجموع السياسات التي ترمي إلى خلق ونشر الضغوط التضخمية من جانب ومقاومة الضغوط الانكماشية من جانب آخر. وكان معنى استمرار التضخم في ظل الركود أن التضخم صار آلية لتصحيح حركة الأسعار من أجل الاحتفاظ بارتفاع معدل الأرباح، ومن ثم اكتسب التضخم طابعين جديدين، إذ صار سياسة مقصودة وغدا سياسة عالمية. هكذا يمكن القول إنه مع نشأة وسطوة الاحتكارات منذ بداية القرن حدثت تغيرات كبيرة في آلية تكوين الأسعار. ولقد ثبت أنه كلما زادت درجة الاحتكار تطور الاتجاه نحو التنظيم الاحتكاري للأسعار، وزاد استقرارها النسبي. وبالتالي انطوت الرأسمالية الاحتكارية على عوامل رفع الأسعار بل استعدادها لخلق ونشر الضغوط التضخمية، وإنما ظل ذلك الاتجاه يجري على أرضية آليات السوق نفسها.
4- هيئة الرأسمالية المالية:(40/58)
إننا نعيش في ظل هيمنة الرأسمالية المالية على الاقتصاد الرأسمالي العالمي أو ما يسمى أحيانا صعود الرأسمالية المالية. ومعروف أن هذه الرأسمالية المالية قد أخذت في الظهور منذ نهاية القرن الماضي مع انتقال الرأسمالية من أوضاع المنافسة إلى أوضاع الاحتكار. ومع تركيز رأس المال وتزايد نشاط المصارف وتقديمها الائتمان الكبير لكبار الرأسماليين أمكن لقلة قليلة العدد من الاحتكاريين أن تُخضع لإشرافها مجموع العمليات التجارية والصناعية في المجتمع، وصارت تجد في العمليات المصرفية الإمكانية للتعرف بدقة على حالة الأعمال لدى كل رأسمالي على حدة، ثم للإشراف عليهم والتأثير فيهم. وفي النهاية اكتسبت القدرة على تقرير مصائرهم. هكذا نشأت الصلة الوثيقة بين المعارف والصناعة. وتطورت العمليات لتكون النتيجة هي خضوع الرأسمالي الصناعي للمصرف والارتباط الشخصي بين المصارف والمشروعات الصناعية والتجارية. واندمج رأس المال المصرفي ورأس المال الصناعي ليشكلا ما نسميه رأس المال المالي.
وينقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول، في الفصل الأول، صعود الاقتصاد الرمزي، يقول المؤلف إنه بنشأة رأس المال المالي في نهاية القرن الماضي بدأت معالم الاقتصاد الرمزي في الظهور، فبدأت في الظهور تلك الرأسمالية غير المرتبطة بالإنتاج، أي تلك الرأسمالية ذات الطبيعة الطفيلية. فقد بدأ في التكوين رأسمال اسمي يتمثل في الأوراق المالية لا في الإنتاج، ويجني الريع لا الربح. ويعني الاقتصاد الرمزي حركة رؤوس الأموال بما في ذلك تقلبات أسعار الفائدة وتدفقات الائتمان، بينما يعني الاقتصاد الحقيقي حركة السلع والخدمات. ومعنى ذلك في الحقيقة أن حركة رؤوس الأموال لم تعد مرتبطة عضويا بحركة السلع والخدمات. وصارت حركة رؤوس الأموال المستقلة تشكل دورتها المستقلة، بل تشكل اقتصادها المستقل. لقد أصبح النظام المصرفي الدولي الجديد هو ملتقى كل المشروعات المالية الضخمة. وكان في السبعينات هو النظام الوحيد القادر على استيعاب وإعادة تدوير الفوائض النفطية وإطلاق عملية إقراض الدول النامية. ونجح بذلك في تحويل السيولة الدولية إلى عملية خاصة غير حكومية، وتحويل التمويل الدولي للبلدان النامية إلى عملية خاصة غير حكومية. ومع التراجع المضطرد في دور المنظمات الرسمية الدولية، فإن النظام النقدي الدولي أصبح الآن نظاما خاصا يتولاه رأس المال الخاص المتخطي للقوميات.
وفي الفصل الثاني، إعادة هيكلة آليات النقد والمال، يقول المؤلف إن أخطر ما يجري من عملية إعادة هيكلة أسواق رأس المال هو ما يمس آلياتها، إذ يتم التحول الآن من عقلية المصارف التجارية المشكلة على أساس مخاطر الائتمان فقط إلى عقلية مصارف الاستثمار المشكلة على أساس مخاطر السوق. وتصبح الآليات الأساسية هي آلية القرض أو الدين. ويتم التحول من القرض للإنتاج إلى القرض للقرض أو لمزيد من القروض. وتلعب تقلبات وتغييرات أسعار الفائدة والصرف دورا بالغ الفاعلية. وتبرز المضاربة بوصفها نشاطا جوهريا لرأس المال لا يتحرك بهدف التصحيح كما كانت البداية الأولى للمضاربة، وإنما بهدف الكسب والمزيد من الكسب لرأس المال. ومن ثم فإن رأس المال هذا الذي يتوسع داخليا وخارجيا يتولى إعادة النظر في الفائض الذي ينتجه المنتجون المباشرون وإعادة توزيعه بين الأجزاء المختلفة لرأس المال. ويذهب المشتغلون بدنيا النقد والمال إلى أننا بصدد ثورة مالية تدفعها خطوات متقدمة وغير عادية في جميع المعلومات والاتصالات. وإذ أصبحت الأسواق المالية دولية تماما وكونية صارت سوقا واحدة بعيدة عن أي رقابة قومية. ولقد نمت هذه السوق خلال القرن الماضي حيث صارت المدفوعات الدولية المتعلقة بالمعاملات المالية تتغلب على تلك المدفوعات الدولية المتعلقة بالمعاملات التجارية. ولقد صارت سوقا دوليا تتداول نوعا جديدا من رأس المال هو رأس المال الدولي. وهو رأسمال بالغ القوة والعنف والذكاء شعاره الأساسي أن الديون محرك للنمو الاقتصادي.(40/59)
وفي الفصل الثالث، آلية الديون الخارجية، يقول المؤلف إنه من السهل القول إن مشكلة الديون إنما تعبر عن عجز كثير من البلدان النامية عن مواجهة تفاقم مشاكل موازين مدفوعاتها. لكن من الصعب البحث فيما وراء ذلك العجز عن أسبابه الكامنة في آلية التقسيم الدولي للعمل السائد في السوق العالمية، وهي آلية يجري في ظلها انتقال دائم للموارد الاقتصادية من البلدان النامية إلى البلدان الرأسمالية. ولهذا فإن عجز ميزان المدفوعات إنما يعبر عندئذ عن الخلل الهيكلي الكامن في الاقتصاد النامي الذي يعتمد على تصدير خامات واستيراد آلات وسلع رأسمالية ووسيطة لازمة للإنتاج، بل سلع استهلاكية عديدة. ولابد من أن يعاني بالتالي من تدهور شروط التبادل نتيجة انخفاض أسعار صادرات الخامات وارتفاع أسعار الواردات الصناعية. هكذا تحولت ظاهرة المديونية الخارجية المتصاعدة إلى أداة من أدوات تكيف الرأسمالية المعاصرة: أداة لضمان وإعادة تدوير الفوائض النفطية وأداة لتمويل واردات البلدان النامية من الدول الصناعية. تحولت إلى آلية من آليات الاقتصاد الرمزي تتلخص في إدارة خدمة الفائدة وأصل الدين، وتتركز بصفة خاصة على الاستمرار في دفع الفائدة، وبالتالي الحفاظ على الأوضاع المربحة للقروض، ومن هنا عمليات إعادة الجدولة. وحلت المصارف الدولية محل صندوق النقد الدولي في وضع الشروط على الإقراض الدولي للبلدان النامية، وتحولت إلى مديرين عالميين للأسواق المالية ومنسقين للسياسات الاقتصادية للدول. وعند اللزوم فإنها تستدعي صندوق النقد الدولي ليفرض على المدين المشاكس شروط لخدمة الدين. وعلى الرغم من ضآلة الموارد التي يضعها الصندوق تحت تصرف الدول المدينة، فقد تضاعفت أهمية صندوق النقد الدولي في النظام الدولي للائتمان، فإنه يتولى الإدارة العليا للديون ويضمن استمرار وظيفتها الأساسية: أن تكون مصدرا مستمرا لدفع الفوائد.
5- إعادة نشر الصناعة والزراعة عالميا:
يبرز في السنوات الأخيرة نمط معدل للتقسيم الدولي للعمل يتلخص في انتقال الصناعة جنوبا وانفراد الشمال بعصر ما بعد الصناعة، إنه نمط يطرح على البلدان النامية أن تواجه عملية التنمية بصيغة أخرى هي الانتقال من عصر الثورة الصناعية إلى عصر الثورة العلمية والتكنولوجية. وبالتالي فإنه يحتفظ للبلدان النامية بدورها الأصيل كمورد للخامات الطبيعية الرخيصة نسبيا، ولكنه يمنحها دورا جديدا هو دور المورد الثانوي للمنتجات الصناعية.
وينقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول، إعادة نشر الصناعة جنوبا، يقول المؤلف: إن الصناعة القديمة المريضة، الثقيلة والخفيفة، تتحرك نحو الجنوب إلى البلدان حديثة التصنيع، حيث تتمتع بالميزة في إنتاجها، وتتمثل هذه الميزة بالدرجة الأولى في وفرة العمل الرخيص. ولهذا يتم النقل بدلا من اتخاذ إجراءات الحماية ضدها، وهو ما يلتقي مع طموحات بعض البلدان النامية الراغبة في التصنيع إما لإحلال الواردات، وإما لتشجيع الصادرات. ولقد رأى بعض البلدان الآسيوية الأكثر تقدما في الصناعة أن إعادة تشكيل هيكل الصناعة صار أمرا ضروريا لا لبلوغ قدر أدنى من الكفاءة الإنتاجية، ولكن للرد على احتمالات أخرى مثل ارتفاع تكلفة العمالة وازدياد الحماية في أسواق التصدير وتعاظم المنافسة فيما بينها. وبالتالي فإن نقل الصناعة جنوبا يوفق بين اتجاه الصناعة غير الحيوية للنزوح من الشمال وطموحات البلدان النامية للتصنيع والجمع بين مزايا إحلال الواردات وتنمية الصادرات معا. ولكن المشكلة تكمن في أن نقل الصناعة يتم سواء من جانب رأس المال الدولي أو راس المال المحلي على أساس التخلي مقدما عن السوق المحلية. فالتصنيع الجاري يهمل منذ البداية السوق المحلية من جانبيها: من جانب العرض أي الإنتاج، حيث لا يهتم بتحقيق أي تشابك صناعي أو خلفي مع الاقتصاد المحلي، ومن جانب الطلب أي الاستهلاك، إذ لا يأخذ في الاعتبار الطلب المحلي، وعندما يضعه في الاعتبار فإنه ينظر إليه نظرة قاصرة، إنه ينظر عندئذ إلى الطلب الفعلي مغفلا الطلب الإجمالي مستقبلا.(40/60)
وفي الفصل الثاني، إعادة نشر الزراعة شمالا، يقول المؤلف: إن دور الزراعة كمصدر للخامات لم يتدهور على الرغم من تراجع نصيبها من التجارة الدولية، وبالرغم من بروز دور البلدان الصناعية في تصدير الخامات عدا الوقود. أما الزراعة كمصدر للمواد الغذائية فتجري إعادة هيكلتها على المستوى العالمي، بحيث نشهد حاليا تحولا في إنتاجها من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة. والواقع أن أزمة الزراعة في البلدان النامية بما تنطوي عليه من استيراد جزء كبير من احتياجاتها الغذائية إنما تبدو في الواقع كاتجاه متزايد في هذه البلدان لإعادة هيكلة نظامها الإنتاجي الزراعي طبقا لاستراتيجية البلدان الصناعية المتقدمة. وتكتمل بذلك عملية إعادة هيكلة الإنتاج الزراعي في العالم الرأسمالي على أساس احتكار إنتاج المواد الزراعية والغذائية الأساسية من جانب البلدان الصناعية، وتحويل الزراعة في البلدان النامية إلى زراعة معتمدة على كثافة استخدام التكنولوجيا ورأس المال. ولاشك في أن الإنتاج الزراعي سوف يزيد بصورة مطلقة، غير أن أزمة الغذاء لن تُحل، ووارداته سوف تتزايد، وكذلك واردات التكنولوجيا والسلع الصناعية. وستظل البلدان النامية تعاني من جراء التبادل غير المتكافئ الناشئ عن النظام العالمي للأسعار النسبية.
وفي الفصل الثالث، العودة إلى الحماية، يقول المؤلف: إن الحملة من أجل الحماية تتصاعد مستعينة بدعاوى شتى مثل ضرورة الرد على الممارسات التجارية غير العادلة، ومواجهة الأزمة الاقتصادية، وضعف الانتعاش وهشاشته عندما يحل، ومعدلات البطالة المرتفعة، وتفاوت أسعار الصرف، والجمود الهيكلي المتمثل في العجز التجاري الخيالي لدى الولايات المتحدة والجماعة الأوربية. لاشك في أن المبدأ الجوهري لنظام التجارة الدولية هو مبدأ الدولة الأولى بالرعاية غير المشروط، وبمقتضاه فإن المزايا التجارية التي يُتفق عليها بين الطرفين المتعاقدين تمتد لجميع الأطراف المتعاقدة الأخرى. ولما كانت البلدان النامية لم تشارك في صياغة الجات التي لم تغلب عليها اعتبارات التنمية، فقد جرت محاولات عديدة لتمكين الدول النامية من استخلاص مزايا من نظام التجارة الدولية متعددة الأطراف. وهكذا تراجعت معدلات نمو التجارة الدولية للبلدان النامية نتيجة سياسات الحماية المتشددة للدول الصناعية. لكن هذه السياسات تعمل أيضا فيما بين هذه الدول بضراوة مماثلة، وتعددت بذلك صور الحماية المطبقة. وهكذا أفضت الحماية المتزايدة إلى عزل جزء كبير ومتزايد من التجارة الدولية عن قوى السوق العالمية بما في ذلك أسعار الصرف، وذلك باستخدام أدوات تتضمن الرسوم والحصص والدعم والإعانات المخصصة لتعويض الفروق بين الأسعار المحلية والأسعار العالمية.
6- دورة الأعمال الجديدة:
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ودورة الأعمال تكتسب سمات جديدة. فبالطبع ليست الرأسمالية في حمى من الأزمات، لأن القوى العضوية التي تعتبر مصدرا للتطور الدوري، أي لتعاقب فترات الانتعاش والركود في الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي، ما زالت قائمة. غير أن الرأسمالية تتمتع الآن بمقدرة كبرى على مواجهة أزماتها الدورية، إذ تتسم الأزمات الأخيرة بهاتين السمتين البارزتين وهما: أنها أزمات أقل حدة، وأنها أقصر أمدا مما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية. لكنها صارت أكثر عمقا.
وينقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول، الأزمة الدورية المعاصرة، يقول المؤلف: إن الأزمة الدورية المعاصرة هي أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويكشف الاقتصاد الرأسمالي عن دورتين: أحداهما عادية هي دورة الإنتاج، والأخرى غير عادية هي دورة الأعمال. ولأن الإنتاج الرأسمالي إنما يتم تصريفه في السوق، وهو بالتالي معد لمشترٍ غير معروف مقدما، فإنه يهتدي بالربح. وتلعب الأسعار من ثم دورها كمنظم للسوق وللإنتاج، ولكنها منظم لا يكفي. ولذلك يجري الإنتاج في العادة بغض النظر عن حدود السوق، ومن هنا يقع الاختلال بطريقة تلقائية في حركة الأعمال، وتفضي دورة الإنتاج بالضرورة إلى دورة الأعمال. وهكذا فإن دورة الأعمال هي تلك المراحل المختلفة التي تجمع بين تقلبات الأعمال فيما بين أزمتين، وتنطلق من الأزمة إلى الركود إلى الانتعاش إلى الأزمة من جديد، معبرة بذلك عن طبيعة التطور الدوري للاقتصاد الرأسمالي.(40/61)
وفي الفصل الثاني، الطبيعة المركبة للأزمة الدورية، يقول المؤلف: إن الأزمة الدورية المعاصرة تكشف عن طبيعة مركبة، فلقد تشابكت منذ السبعينات مع بروز عدد من الأزمات مثل أزمة النظام النقدي الدولي، وأزمة الطاقة والخامات، وأزمة المديونية الخارجية، ومثل أزمة الغذاء، وأزمة البيئة، وكلها أزمات هيكلية، استغرقت وقتا طويلا حتى الآن من غير أن تصل إلى نهايتها - إن كان لها نهاية منظورة. ومن ثم ازدادت الأزمة الدورية تعقيدا، وبات الخروج منها أصعب كثيرا من ذي قبل. وتنعكس الأزمات الهيكلية بصفة خاصة في صورة بطالة هيكلية، وعجز هيكلي في الموازنات العامة، وميل إلى التضخم مع الركود. ولعل الظاهرة البارزة الآن هي تشابك الأزمة الدورية مع الأزمات الهيكلية التي يبحث رأس المال الدولي عن مخرج منها من خلال ترشيد الإنتاج على أساس منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية. ومن ثم تشابكت الظواهر ذات الطابع الدوري مع الأزمة الهيكلية طويلة الأمد والركود في الفروع القاعدية للاقتصاد الرأسمالي. ومن المعتقد أن أزمة الطاقة هي التي فجرت ظاهرة الأزمات الهيكلية على المستوى العالمي. وهكذا يصعب القول إننا نواجه مجرد أزمة إفراط إنتاج دورية، وإنما هي أزمة هيكلية لا تكفي أي تصحيحات تجري على هيكل الناتج للخروج منها، وإنما لابد من تحول جذري في هياكل التكنولوجيا والعمل. هذا بالإضافة لكونها أزمة هيكلية عالمية، شملت وتشمل العالم الرأسمالي كله، أما العالم الاشتراكي فإن الدعم القوي الذي تمارسه الدولة قد ظل حتى السنوات الأخيرة التي سبقت انهيار الاشتراكية يخفي مظاهر الأزمة.
وفي الفصل الثالث، القطاع العسكري ودورة الأعمال، يقول المؤلف: إن القطاع العسكري من الاقتصاد الرأسمالي تتجمع فيه كل ظواهر الرأسمالية المعاصرة مجسمة، فهو مركز تطوير واستخدام آخر كلمة في التقدم العلمي والتكنولوجي، وهو تجسيد حي للتدويل المضطرد للإنتاج ورأس المال وهيمنة الرأسمالية المالية، وهو مثال نموذجي للقدرة على التكيف وتصحيح عمل قوى السوق، ومن هنا فهو مهيأ ليكون محركا للنمو الاقتصادي وخصوصا في أوقات الأزمة. وهكذا فإن القطاع العسكري الحديث هو أرقى قطاعات الرأسمالية المعاصرة التي تربط عضويا بين الاحتكارات والدولة، بل يمكن اعتباره احتكارا قائما بذاته يضاف إلى الاحتكارات الكبرى. فقد أصبح الإنفاق العسكري عنصرا أساسيا في تشكيل وتطوير الاقتصاد القومي سواء بعقود توريد السلاح أو اعتمادات البحث والتطوير.
*****
وفي النهاية، يخلص المؤلف إلى أن رأسمالية ما بعد الصناعة هذه تطرح علينا رؤية جديدة محددة للمستقبل المنظور، فنحن في الواقع بصدد رأسمالية عصرية لا تتعرض للركود المطلق وإن تعرضت بالطبيعة لدورة الركود النسبي. فهي بفضل إنجازات الثورة العلمية والتكنولوجية التي فجرتها وطورتها، وبفضل التدويل واسع النطاق للحياة الاقتصادية العصرية في كل بلد على حدة قد استطاعت في الواقع أن تجدد قواها المنتجة. وصارت من ثم أقدر على التكيف مع الأوضاع الجديدة في عصرها، الأمر الذي يتيح لها حتى الآن إمكانات النمو الاقتصادي ويمكنها من الاحتفاظ على مواقعها الاستراتيجية، بل يمنحها قدرة على استعادة ما فقدته بطرائق مستحدثة
==============(40/62)
(40/63)
الجبهة الإسلامية القومية بالسودان
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
الجبهة (*) الإسلامية القومية: حركة إسلامية انبثقت من حركة (*) الإخوان المسلمين، واستقطبت بعض القوى الإسلامية في السودان لتكوين جبهة واحدة ضد الأحزاب (*) الأخرى، ثم بدأت تنحو منحاً بعيداً نسبيًّا عن منهج الإخوان المسلمين.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• مؤسس هذه الحركة هو الدكتور حسن عبد الله الترابي، من مواليد قرية ود الترابي بمقاطعة الجزيرة بالسودان 1932م. تلقى من والده علوم العربية والفقه، وأصول الأحكام وفقه المذاهب وعلوم القرآن والتفسير وقد حفظ القرآن ببضع قراءات.
ـ عمل محاضراً ثم عميداً لكلية القانون بجامعة الخرطوم، ثم نائباً عاماً ثم وزيراً للعدل، وأخيراً رئيساً للبرلمان السوداني.
ـ يتكلم ويكتب الإنجليزية والفرنسية ويقرأ الألمانية.
ـ قاد الحركة الإسلامية في السودان منذ الستينات كمراقب عام للإخوان المسلمين.
ـ اختير كأمين عام لجبهة الميثاق الإسلامي 1964م ـ 1969م والجبهة الإسلامية القومية 1985 ـ 1989م.
ـ تعرض في مجال العالم الإسلامي للحبس التحفظي لفترات تجاوزت السبع سنوات.
ـ نشرت له عدة مؤلفات في قضايا الدين والعبادة، والمرأة والمجتمع، والتجديد والدستور والحكم، وقضايا إسلامية وسياسية شتى.
للدكتور الترابي عدد من الآراء والانحرافات التي خالف فيها أحكام الإسلام وكانت سبباً في كثير من النقد الموجه للدكتور الترابي خاصة، ولأفكار الجبهة بصفة عامة.
تطور الحركة:
يرى أنصار الجبهة أنها أخذت عدة مراحل أو عهود حتى ظهرت بالشكل التالي ويمكن تلخيص أهم هذه العهود كالتالي:
• عهد التكوين: امتد هذا العهد منذ عام 1949م، وحتى عام 1955م، حيث تأسست رسميًّا بمؤتمر جامع عام 1954م، وكان كل اعتمادها على حركة الإخوان المسلمين بمصر في الثقافة والتنظيم والبناء الفردي والجماعي.
• عهد الظهور الأول: ويمتد من عام 1956م حتى عام 1959م، وهو عهد ما بعد الاستقلال في السودان، وفي هذا العهد ظهرت الدعوة لأول مرة بالصحف والخطب، وبرز الدعاة، وكانت القضية الأولى التي شغلت الحركة في هذا العهد هي قضية الدستور الإسلامي.
• عهد الكمون الأول: ويمتد من عام 1959م، وحتى 1964م. وهي فترة سلطة الفريق عبّود وزمرته العسكرية: وقد تخرجت في هذا العهد قيادات إسلامية كثيرة، ونشطت الحركة العمالية والنقابية.
• عهد الخروج العام: 1964 ـ 1969م: وهو عهد ثورة أكتوبر وقد أصبحت فيه الحركة محوراً لولاء شعبي منظم لأول مرة، فأقامت جبهة الميثاق الإسلامي، مؤسَّسةً على منهاج مكتوب وضعته الجماعة، وجمعت حوله الجماعات الإسلامية والأفراد في حركة (*) سياسية موحدة، وجرت فيه أكبر الحملات السياسية، وهي حملة الدستور الإسلامي.
وفي أواخر هذا العهد استفحلت الثنائية في الحركة الإسلامية بين التنظيم الأم الداخلي وبعض جبهاته الخارجية، إلا أن الحركة توحدت بعد ذلك وحسمت خلافاتها.
• عهد المجاهدة والنمو: 1969 ـ 1977م: وهو عهد الشطر الأول من سلطة جعفر نميري ونظام مايو، الذي أجهض الديمقراطية، والقوى الوطنية والحركة الإسلامية بدافعٍ من الشيوعية والقوى القومية العربية، فتعرضت الحركة لابتلاءات شديدة واضطهادات واعتقالات وتصفيات وإعدامات. وفي ظروف الاعتقال أصَّلت الحركة عملها في مجال الاعتقاد ونشر الدعوة وقضية المرأة.
• عهد المصالحة والتطور: 1977 ـ 1984م: وهو عهد مايو الأخير حيث بدأ نظام المصالحة الوطنية، وتصفية اتجاهات جعفر نميري اليسارية، وبدء الاتجاه إلى الإسلام. وفي هذا العهد بدأ الوعي بقضية الجنوب في السودان، وتوجهت عناصر من الحركة (*) لتأسيس (منظمة الدعوة الإسلامية) لتُعنى بنشر الإسلام في المناطق المسلمة في السودان من خلال الدعوة والخدمة الاجتماعية.
وفي هذا العهد أيضاً نشط العمل النسوي، ودخلت المرأة بشكل كامل في الحركة الإسلامية.
وفي آخر هذا العهد كان تطبيق الشريعة الإسلامية (*)، الذي أعلنه نميري وساعده الترابي فيه بقوة.
• عهد النضج: 1984 ـ 1987م: وفي هذا العهد بلغت الحركة من الوعي بذاتها وبالواقع من حولها قدراً كبيراً، وتأسست في هذا العهد (الجبهة (*) الإسلامية القومية) بناء على القاعدة الشعبية التي تعبَّأت منذ بدء تطبيق الشريعة.
الأفكار والمعتقدات:
• حركة الجبهة الإسلامية القومية، حركة إسلامية، أخذت جميع أفكارها الأصولية من حركة الإخوان المسلمين، وتربى أفرادها على مؤلفات الأستاذ البنا، وسيد قطب، ومحمد الغزالي، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي...إلخ.
• من خصائص فكرة الدعوة في الجبهة نرى أنه:
ـ فكر مرتبط بالهوية الإسلامية، والبعد عن الانتماء إلى الولاءات الأخرى.
ـ فكر إحياء لمجد الإسلام، وذلك بإتمام الدين وإقامة جوانبه التي أُميتت أو ضعفت.
• موقف الحركة من الحرية والسلطة كان موقفاً وسطاً، فقد رحبت بالنظام الديمقراطي التعددي على عِلاَّته.(40/64)
• وضعت استراتيجية استيعاب المجتمع، ومنافسة الأحزاب التقليدية ذات الولاء الجماهيري العريض. وفي هذا السبيل بدَّلت لوائح العضوية، فتجاوزت منهج الانتقاء الفردي، وأصبح متاحاً للناس أن يدخلوا في الجماعة أفواجاً لا أفراداً؛ فقد تدخل القبيلة والطائفة والفرقة كما يدخل الأفراد ولا يترتب عليهم في ذلك أدنى حرج، حتى لو دخلوا بما يحملون من ولاءات فرعية في الطرق الصوفية أو القبائل أو الأحزاب الفكرية والسياسية، إذا جعلوا الولاء الأعلى للجبهة الإسلامية.
وبهذا تحاول الجبهة (*) الإحاطة بالمجتمع التقليدي في السودان وأن توحِّده كله في إطارها.
ـ استفادت الجبهة الإسلامية القومية كثيراً من فكر التنظيم الأوروبي وتجاربه، فهو فكر إداري متقدم جدًّا ـ كما يقول الترابي ـ ولكنه ليس بديلاً للفكر الإسلامي.
• سادت الحركة روحُ الاجتهاد (*) وعلت فيها الصيحة لتجديد الدين (*) مما أوقعها في عدد من الانحرافات .
• تتجنب الحركة الجدال والمراء مع الاتجاهات الإسلامية الأخرى في المجتمع ، وذلك في سبيل تأليف الجبهة الإسلامية الواحدة.
• المرأة لها دور فعال في الجبهة، وهي تقوم بأعمال كثيرة في مجال الدعوة والتنظيم والتعليم والجهاد، وعدد النساء يضاهي عدد الرجال في الحركة.
• وضعت الجبهة برنامجاً ثقافيًّا لإعداد الداعية المسلم، ضم البرنامج تسع فقرات وهي:
ـ علوم القرآن. ـ السنة النبوية. ـ السيرة النبوية.
ـ العقيدة. ـ الفقه. ـ أصول الفقه.
ـ التاريخ الإسلامي. ـ دراسات سودانية. ـ اللغة العربية.
ووزعت البرنامج على ثلاث مستويات متدرجة في أخذ البرنامج والاستفادة منه.
الانتشار ومواقع النفوذ:
انتشرت الحركة (*) بشكل واسع في السودان، ولها اتصالات وثيقة بحركة الاتجاه الإسلامي بتونس بشكل خاص، وقد ساندت الحركة الانقلاب العسكري الذي أتى بحكومة الفريق البشير إلى السلطة وهي الآن ساعدُ النظام الأيمن.
يتضح مما سبق:
أن الجبهة الإسلامية القومية في السودان، هي جبهة واحدة انبثقت من حركة الإخوان المسلمين، ولكنها الآن تعتبر تنظيماً مستقلاً عنها. فهي جبهة واحدة ضد كل الأحزاب تعمل لخدمة الإسلام باجتهادها الخاص. ومما يُؤسَف له أنها وقفت إلى جانب العراق البعثي المعتدي في أزمة الخليج رغم مواقفه المعروفة ضد الإسلام ورغم تناقض اتجاهاته مع الاتجاه العقائدي للجبهة، لتناقض القومية العربية مع عالمية الإسلام. ويبدو أن فكر الجبهة قد اتجه أخيراً إلى اتخاذ الانقلاب العسكري وسيلةً لاستلام السلطة، وهذا التفكير يتعارض مع ما يذهب إليه بعض المفكرين الإسلاميين.
----------------------------------------
مراجع للتوسع:
ـ انحرافات الترابي ، ( ملف منوع يحتوي على ردود العلماء والدعاة عليه ) ، إعداد : سليمان الخراشي ، منشور في موقع ( صيد الفوائد ) .
ـ الحركة الإسلامية في السودان، د. حسن الترابي.
ـ تجديد الفكر الإسلامي، د. حسن الترابي.
ـ البرنامج الثقافي للجبهة الإسلامية القومية، إصدار الجبهة الإسلامية القومية.
ـ الأصول الفكرية والعملية لوحدة العمل الإسلامي، إصدار الحركة الإسلامية بالسودان 1976م.
ـ شرح نظام الأحكام القضائية الإسلامي السوداني، د. محمد شتا أبو سعد 1985م، مطبعة جامعة القاهرة.
ـ حوار هادئ مع الترابي، الأمين الحاج.
===============(40/65)
(40/66)
ابن العلقمي .. رئيس الوزراء الشيعي المظلوم!
صخرة الخلاص
قد يتعجب البعض حينما يقرأ هذا العنوان الغريب، أيعقل أن يكون الخائن الغادر (ابن العلقمي) مظلوماً، وكل قراءاتنا السابقة المبنية على الدراسات التاريخية الموثقة، تؤكد وتصر على أن (ابن العلقمي) كان مجرماً خائناً غادراً لمن وثق به، فعاد مرتداً يقطع اليد التي أحسنت إليه!
أقول: لا زلتُ أرى أن (ابن العلقمي) مظلوماً حينما وصف بالخائن الغادر، ولم يتأمل من وصفه بالغدر والخيانة أمراً مهماً قد يعود على بعض أهل السنة بنفس هذا الوصف!
نعم..!
اعتقد أن سقوط بغداد عام 656هـ كان بالدرجة الأولى خيانة من قبل من ينتسبون للسنة، قبل أن تكون خيانة من قبل (ابن العلقمي) الشيعي المذهب.
وفي اعتقادي أن هذا الأمر في غاية الوضوح والبساطة بحيث لا يحتاج معه إلى أي برهان، فالخليفة العباسي كان من السنة، وأغلب الفقهاء كانوا من أهل السنة، والجميع كان يعرف جيداً ملابسات الصراعات الطائفية، وما كان يحصل بين الكرخ (الحي الشيعي) وبين بعض أحياء بغداد السنية، كما لا أشك لحظة واحدة أن فقهاء السنة والمثقفين العباسيين كانوا على اطلاعٍ عميق بالفقه الشيعي الإمامي الخاص بالموقف من الآخر، وعليه: فكيف يعين الخليفة مثل (ابن العلقمي) كوزير أعلى له؟! ولم سكت الفقهاء والعلماء!
إنني لو سألت أي عاقلٍ -بل نصف عاقل- عن رجلٍ أتى بكلبٍ مسعورٍ إلى داره، وأدخله على أطفاله الصغار بحضور كبار أهل الدار، ثم أغلق الدار على الأطفال وحدهم، وجعل الكلب يصول ويجول في الدار، ثم بعد برهة من الزمن وجدوا جميع الأطفال قتلى ممزقين أشلاءً!
يا سادة.. هل من المعقول أن يُصف الكلب المسعور بالخيانة والغدر؟! أم أن صاحب الدار والعقلاء هم الذين خانوا الأمانة، وغدروا بالناس!
إنني اعتقد أن (ابن العلقمي) مظلوماً مثله مثل ذلك (الكلب المسعور)، فحينما وجدَ الفرصة مناسبة انقض على مخالفيه هتكاً وتمزيقاً، فلا لوم على (ابن العلقمي) الشيعي، لكن اللوم كله على من قربه وهو يعلم أن (ابن العلقمي) ليس إلا شيعياً مخلصاً وأميناً لتعاليم التشيع، وأنه إنما طبق أخلاق مذهبه بكل أمانة وصدق، فأي لوم عليه؟!
إن سقوط بغداد عام 656هـ كان نتيجة لإتمان الخائن، والوثوق بالغادر، وتقريب الماكر، والوثوق بأهل التقية، والتاريخ يعيد نفسه، ولن يرحم هؤلاء الذين يحملون (الدريل الشيعي) أي رأس سني متى ما سنحت لهم الفرصة، حتى لو كان طفلاً سنياً رضيعاً!
أليس الخائن والغادر والمجرم من وثق بهؤلاء تحت التسامح، أو الوطنية، أو القومية، أو العلمانية، أو أي مسمى أو شعار؟
ابن العلقمي .. يقدم خدمات جليلة للإسلام!
يتجنى على نفسه من يظن أن (ابن العلقمي) كان صوتاً نشازاً أو أنه اجتهد اجتهاداً فردياً حينما اتصل بالتتار وتحالف معهم سراً من أجل إسقاط الخلافة الإسلامية، وقتل ملايين المسلمين!
كلا يا سادة!
فقد كان الرجل يؤمن إيماناً حقيقياً بأخلاق التشيع الإمامية التي تملي عليه أن يتظاهر بالموادعة والتسامح والإخلاص بالقول حينما تكون القوة بأيدي أهل السنة، لكن حينما تحين الفرصة للانقضاض وتمزيق المسلمين حينها يجب أن يساهم كمؤمن مخلص بدوره الريادي كرئيس للوزراء.
فقد ذكر (قطب الدين اليونيني البلعبكي) أن (ابن العلقمي) كاتب التتر وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامه وأخاه بذلك. [1]
وذكر (الإمام الذهبي) أن (ابن العلقمي) استطاع أن يقطع أخبار الجند الذين استنجدهم بهم المستنصر، وأنه بذل جهده في أن يزيل دولة بني العباس ويقيم علوياً، وأخذ يكاتب التتار ويراسلونه.[2]
وذكر (اليافعي) أن التتار دخلوا بغداد ووضعوا السيف واستمر القتل والسبي نيفًا وثلاثين يوماً، وقل من نجا، وسبب دخولهم أن ابن العلقمي كاتبهم وحرضهم على قصد بغداد ليقيم خليفة علوياً، وكان يكاتبهم سراً، ولا يدع المكاتبات تصل إلى الخليفة.
ثم ذكر (اليافعي) أن ابن العلقمي خدع الخليفة وأوهمه أن التتار يريدون عقد الصلح معه وحثه أن يخرج إليهم بأولاده ونسائه وحاشيته، فخرجوا فضربت رقاب الجميع، وصار كذلك يخرج طائفة بعد طائفة، فتضرب أعناقهم حتى بقيت الرعية بلا راع، وقتل من أهل الدولة وغيرهم ألف ألف وثمان مائة.[3]
ويقول المؤرخ الشيعي (نور الله الششتري المرعشي) ما نصه عن حقيقة الدور الذي لعبه ابن العلقمي: ( إنه كاتب هولاكو والخواجه نصيرالدين الطوسي، وحرضهما على تسخير بغداد للانتقام من العباسيين بسبب جفائهم لعترة سيد الأنام r).[4]
ويقول العالم الشيعي (الخوانساري) عند ترجمته لنصير الدين الطوسي ما نصه :
(ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم هولاكو خان ، ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد ، بإبادة ملك بني العباس ، وإيقاع القتل العام من أتباع أولئك الطغام، إلى أن أسال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار، فانهار بها في ماء دجلة ، ومنها إلى نار جهنم دار البوار)! [5](40/67)
إن هذا التصرف من (ابن العلقمي) كان طبيعياً يمليه الإيمان الإمامي والأخلاق الشيعية، التي تحث على إظهار ما ليس في الباطن وخداع الآخرين من أجل مصلحة المذهب العليا!
فهذا إمام الشيعة المعاصر (الخميني) يقول بكل صراحة ما نصه: (إذا كانت ظروف التقية تلزم أحداً منا بالدخول في ركب السلاطين فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله، إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين مثل دخول علي بن يقطين ونصير الدين الطوسي رحمهما الله).[6]
أما خدمة (نصير الدين الطوسي) فقد عرفها الجميع حينما قدم مع التتار لإبادة بغداد، أما خدمة علي بن يقطين للإسلام فندع بيانها لأحد علماء الشيعة (نعمة الله الجزائري) وملخصها كما ذكر: أن علي بن يقطين كان مسؤولاً في الدولة العباسية، وسنحت له الفرصة لقتل خمسمائة سني وصفهم بقوله: (جماعة من المخالفين) فقتلهم بأن هدم عليهم سقف السجن فماتوا كلهم، فأرسل يستفسر عن عمله عند إمامه المعصوم فأقره على عمله وعاتبه أنه لم يستأذن، وجعل كفارة كل رجل من أهل السنة (تيساً) وقال: والتيس خير منهم.[7]
يقول العالم الشيعي (نعمة الله الجزائري) معلقاً على هذه الحادثة:
(فانظر إلى هذه الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم [أهل السنة] الأصغر وهو كلب الصيد، فإن ديته عشرون درهماً، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي). [8]
أرأيتم يا سادة!
لقد كان (ابن العلقمي) يؤدي خدمة للمذهب الشيعي الذي آمن به من كل أعماق قلبه، فلا لوم عليه ألبتة، لكن كل اللوم على الخليفة الذي جعل منه وزيراً مؤتمناً!
وللموضوعية العلمية، أقول: لم يكن (ابن العلقمي) وحده في تأدية الخدمات الجليلة للمذهب الشيعي، بل كان كل شيعة بغداد يؤدون الخدمات الجليلة!
فقد ذكر المؤرخ (رشيد الدين الهمداني) والمؤرخ (أبو المحاسن) أن الشيعة في: الكرخ، والحلة، وبغداد، خرجوا في استقبل هولاكو استقبال الفاتحين الأبطال، والتحق كثير من الشيعة بجيش المغول، وأقاموا الأفراح ابتهاجاً بهم![9]
ومن الخدمات الجليلة التي قدمها (نصير الدين الطوسي) تلك الرسالة التي كتبها -بوصف وزيراً (لهولاكو)- إلى أهل السنة في الشام، يهددهم فيها ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعة التتار، أن سوف يفعل بهم كما فعل في بغداد!!
يقول الطوسي: (اعلموا أنا جند الله، خلقنا من سخطه، فالويل كل الويل لمن لم يكن من حزبنا، قد خربنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأظهرنا في الأرض الفساد، فإن قبلتم شرطنا، وأطعتم أمرنا، كان لكم مالنا، وعليكم ما علينا).[10]
وهذا عميد الطائفة الشيعة في بغداد وقت سقوطها الشهير (بابن طاووس) -والذي يذكرنا بآية الله السستاني- يعلن عن فرحته بدمار دولة الإسلام ويسميه فتحاً، ويترحم على هولاكو. حيث يقول:
(يوم ثامن عشر محرم وكان يوم الاثنين سنة 656هـ فتح ملك الأرض - يقصد هولاكو- زيدت رحمته ومعدلته ببغداد).[11]
وذكر المؤرخ (ابن الطقطقي) أن (ابن طاووس) أصدر فتوى لهولاكو يفضيل فيها العادل الكافر على المسلم الجائر!![12]
ويقول العالم الشيعي (علي العدناني الغريفي) معلقاً على هذه الحادثة: (وقد نال ابن طاووس بفتياه هذه مقاماً كبيراً في نفس الكافر المحتل).[13]
ومكافأة له قام هولاكو بتعيينه مرجعاً للشيعة، يقول (ابن طاووس) نفسه: (ولم نزل في حمى السلامة الإلهية، وتصديق ما عرفناه من الوعود النبوية، إلى أن استدعاني ملك الأرض -هولاكو- إلى دركاته المعظمة جزاه الله بالمجازات المكرمه في صفر، وولاني على العلويين والعلماء والزهاد، وصحبت معي نحو ألف نفس ومعنا من جانبه من حمانا إلى أن وصلت "الحلة" ظاهرين بالآمال). [14]
وذكر (ابن مطهر الحلي) أن أباه والسيد محمد ابن طاووس والفقيه ابن أبي العز، أجمع رأيهم على مكاتبة هولاكو، بأنهم مطيعون داخلون تحت دولته. وأن هولاكو سألهم: لماذا تخونون خليفتكم؟!
فأجابه والد (ابن مطهر الحلي) بأن رواياتهم المذهبية تحثهم على مبايعتك وخيانة الدولة السنية، وأنك أنت المنصور الظافر!
ويعلق (ابن مطهر الحلي) على قصة والده: ( فطيب قلوبهم وكتب فرماناً باسم والدي يطيب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها).[15]
إذن يا سادة.. ليست القضية سطحية وساذجة، ليقال: خيانة (ابن العلقمي)! وكأنه وحده هو الخائن من تلقاء نفسه وعندياته، بل الرجل والطائفة ومراجعها قامت بخدمات جليلة يحث عليها التشيع وتؤكدها النصوص الدينية الشيعية.
ابن العلقمي .. المؤمن الصادق!
لم يكن (ابن العلقمي) إلا ذلك الشيعي المؤمن المخلص لمذهب يطبقه كما قرره كبار علماء الشيعة الإمامية تجاه المخالفين لهم.
فهذا الشيخ المفيد -شيخ الشيعة في عصره- يقول حاكياً إجماع الشيعة في موقفهم تجاه المخالفين: (اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأنّ على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم، فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب، وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار). [16](40/68)
وهذا علامتهم ومحققهم عبدالله شُبر، يبيَّن حكم جميع الفرق الإسلامية -حتى المسالمة منها- عند علماء الشيعة، فيقول:
(وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب، فالذي عليه جملة من الإمامية كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والآخر، والذي عليه الأكثر الأشهر أنهم كفار مخلدون في الآخرة). [17]
وقال شيخهم وعلامتهم نعمة الله الجزائري مبيناً حقيقة حجم الخلاف -كما يراه هو- بين الشيعة والسنة: (لم نجتمع معهم على إله ولا نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان صلى الله عليه وسلم نبيه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا). [18]
وإذا كانت جميع الفرق الإسلامية المخالفة للشيعة هذه هي حالتهم، فماذا يترتب على ذلك؟ وبأي معاملة يمكن أن يتعامل معهم؟ يجيب علماء الشيعة فيقولون:
قال الخميني عن المسلم غير الشيعي:
(غيرنا ليسوا بإخواننا وإن كانوا مسلمين.. فلا شبهة في عدم احترامهم بل هو من ضروري المذهب كما قال المحققون، بل الناظر في الأخبار الكثيرة في الأبواب المتفرقة لا يرتاب في جواز هتكهم والوقيعة فيهم، بل الأئمة المعصومون، أكثروا في الطعن واللعن عليهم وذكر مساوئهم). [19]
ثم أورد الخميني هذه الرواية: (عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم. فقال: الكف عنهم أجمل. ثم قال: يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغاة -أي أولاد زنا- ما خلال شيعتنا). [20]
فقال الخميني معلقاً على تلك الرواية: (الظاهر منها جواز الافتراء والقذف عليهم)! [21]
وقال شيخهم الأنصاري: (ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن -أي الشيعي- فيجوز اغتياب المخالف، كما يجوز لعنه). [22]
ونسبوا كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس، ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة). [23]
وهذه الرواية صححها الشهيد الثاني [24] ، ومحققهم الأردبيلي [25] ، وعبدالله الجزائري [26] ، وقال بتصحيحها أيضاً محدثهم البحراني [27] ، ومحققهم النراقي [28]، وكذلك شيخهم الأنصاري[29]، ومرجعهم الأكبر الخوئي حيث قال: (قد دلت الروايات المتضافرة على جواز سب المبتدع في الدين ووجوب البراءة منه واتهامه)[30].
كما صححها -أيضاً- مرجعهم الكلبايكاني [31] ، ومرجعهم محمد سعيد الحكيم [32]، و الروحاني [33]، والطريحي [34]، وعلامتهم المجلسي [35].
قال مرجعهم المعاصر الخوئي: (ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين ووجوب البراءة منهم، وإكثار السب عليهم، واتهامهم، والوقيعة فيهم: أي غيبتهم، لأنهم من أهل البدع والريب. بل لا شبهة في كفرهم). [36]
ثم قال بعدها: ( الوجه الثالث : أن المستفاد من الآية والروايات هو تحريم غيبة الأخ المؤمن، ومن البديهي أنه لا أخوة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين). [37]
وقال سيدهم الروحاني: (جواز غيبة المخالف من المسلّمات عند الأصحاب). [38]
ويقول شيخهم الصادق الموسوي معلقاً على رواية منسوبة للسجاد تشبه ما نسبوه لنبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإمام السجاد يجيز كل تصرف بحق أهل البدع.. من قبيل البراءة منهم وسبهم وترويج شائعات السوء بحقهم والوقيعة والمباهتة، كل ذلك حتى لا يطمعوا في الفساد في الإسلام وفي بلاد المسلمين وحتى يحذرهم الناس لكثرة ما يرون وما يسمعون من كلام السوء عنهم هكذا يتصرف أئمة الإسلام لإزالة أهل الكفر والظلم والبدع فليتعلم المسلمون من قادتهم وليسيروا على منهجهم )! [39]
أقول: انظر كيف يحث هذا الشيخ الشيعي عموم الشيعة للسير على منهج السب وترويج شائعات السوء والوقيعة والكذب على الآخرين، والبراءة من المسلمين المخالفين لهم!
ابن العلقمي والتقية .. وقابلية الآخر للاستغفال !
كيف يمكن لدعاة الإصلاح المزعوم، أو لأي دولة سنية أن تأمن هؤلاء وهم يؤمنون بعقيدة (التقيَّة) تلك العقيدة الاستراتيجية، والمبدأ المتجذر في أعماق أعماقهم، والمستقر في سويداء قلوبهم، وهم يتواصون به جيلاً بعد جيل، وصغيراً عن كبير، حتى أصبح فِطرة فُطروا عليها، إذا تركوها -ولن يفعلوا- فكأنما تركوا الدين كله، أو بتروا أصلاً أصيلاً من تركيبتهم الشخصية التي تنعدم باعدام التقيَّة!
فهم يروون الروايات المتواترة والمستفيضة -بزعمهم- عن أئمتهم وشيوخهم التي تحث على إظهار ما لا يبطنون، وأن تلك السجية والأخلاق عمود دين التشيع، ورأس الأمر فيه، وكلما كان الشيعي مخادلاً مخاتلاً كلما كان أكثر تشعياً وإيماناً وإخلاصاً.
فعن الصادق يرون أنه قال: (إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له).[40](40/69)
ورووا عن الرضا أنه قال: (لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند اللهه أعملكم بالتقية).[41]
بل يرتبون على (التقيَّة) أعظم الأجر، وأنها أفضل عبادة تقدم في مذهب التشيع، ويسمونها (الخبء) أي إخفاء حقيقة النوايا الخبيثة في أعماق النفس، وأيضاً إخفاء حقيقة نوايا أهل التشيع تجاه (الآخر) لأن التشيع دين قائم على السرية والكتمان!
فقد رووا عن الصادق أنه قال: (ما عُبِدَ الله بشيءٍ أحب إليه من الخبء، قيل: وما الخبء؟ قال: التقية).[42]
وعنه أيضا قال: (إنكم علي دين من كتمه أعزة الله ومن أذاعه أذله الله).[43]
ويوجبون (التقيَّة) في دار أهل السنة التي يسمونها (دار التقيَّة) وأن الشيعي لو حلف وأقسم مئات بل آلاف المرات على أنه إصلاحي ووطني ومخلص، وأن الولاء كله عنده للحاكم السني وللوطن وللوطنية، فلا تثريب عليه إذا ما أبطن خلاف ذلك.
فعن الصادق أنه قال: (استعمال التقية في دار التقية واجب، ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقية).[44]
وعن الصادق -أيضاً- أنه قال: (عليكم بالتقية فأنه ليس منا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته مع من يحذره).[45]
وقال الشيخ (بهاء الدين العاملي) : (المستفاد من تصفح كتب علمائنا، المؤلفة في السير والجرح والتعديل، أن أصحابنا الإمامية ..كانوا يتقون العامة [يقصد أهل السنة] ويجالسونهم وينقلون عنهم، ويظهرون لهم أنهم منهم، خوفا من شوكتهم، لأن حكام الضلال منهم).[46]
ثم يبين الشيخ (بهاء الدين العاملي) أنه كانت الضرورة غير داعية إلى (التقية) عندها يسلك الشيعي مع المخالف على غير ذلك المنوال، ولذا يجب أن يكون الشيعي في غاية الاجتناب لهم، والتباعد عنهم،. لأن الأئمة -عليهم السلام- كانوا ينهون شيعتهم عن مجالستهم ومخالطتهم، ويأمرونهم بالدعاء عليهم في الصلاة، ويقولون: إنهم كفار، مشركون، زنادقة، وكتب أصحابنا مملوءة بذلك.[47]
وهذا شيخهم (الصدوق) يقول: (اعتقادنا في التقية أنها واجبة، من تركها بمنزلة من ترك الصلاة، ولا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة).[48]
ويقول علامتهم (العاملي) : (الأخبار متواترة صريحة في أن التقية باقية إلى أن يقوم القائم).[49]
ويقول إمامهم في هذا العصر (الخميني): (وترك التقية من الموبقات التي تلقي صاحبها قعر جهنم وهي توازي جحد النبوة والكفر بالله العظيم).[50]
ثم يبتكرون نوعاً جديداً من التقية الخاصة بالشيعة وهي (التقية المداراتية) والتي تمثل وجهاً دعائياً للتشيع، من خلاله يمكن للتشيع أن يخترق الصف السني، ويتلاعب بمن يسمون بدعاة التقارب أو الإصلاح تحقيقاً لمصلحة التشيع العليا!
فهذا (الخميني) يعدد أنواع التقية ويذكر أن منها (التقية المداراتية) وعرفها بقوله: (وهو تحبيب المخالفين وجر مودتهم من غير خوف ضرر).[51]
وقال: إن التقية واجبة من المخالفين، ولو كان مأمونا وغير خائف على نفسه وغيره.[52]
ويقول شيخهم (محسن الخرازي): (وقد تكون التقية مداراةً من دون خوف وضرر فعلي لجلب مودة العامة والتحبيب بيننا وبينهم).[53]
ويقول علامتهم (دستغيب): (ومنها التقية المستحبة وتكون في الموارد التي لا يتوجه فيها للإنسان ضرر فِعِلي وآني، ولكن من الممكن ان يلحقه الضرر في المستقبل، كترك مداراة العامة ومعاشرتهم).[54]
فأي تقارب أو إصلاح أو إخلاص للوطنية يمكن أن يتحقق مع من يؤمن بهكذا عقيدة السرية!
ختاماً.. أكرر القول: إن سقوط بغداد عام 656هـ كان نتيجة لإتمان الخائن، والوثوق بالغادر، وتقريب الماكر، والوثوق بأهل التقية، والتاريخ يعيد نفسه، ولن يرحم هؤلاء الذين يحملون (الدريل الشيعي) أي رأس سني متى ما سنحت لهم الفرصة، حتى لو كان طفلاً سنياً رضيعاً!
يا سادة.. هل من المعقول أن يُصف الكلب المسعور بالخيانة والغدر؟! أم أن صاحب الدار والعقلاء هم الذين خانوا الأمانة، وغدروا بالناس!
أليس الخائن والغادر والمجرم من وثق بهؤلاء تحت التسامح، أو الوطنية، أو القومية، أو العلمانية، أو أي مسمى أو شعار؟
----------------------------------------
[1] انظر: ذيل مرآة الزمان - سبط ابن الجوزي ( 1/85)
[2] دول الإسلام - (2/118).
[3] مرآة الجنان (ج4/137 -138).
[4] مجالس المؤمنين (ص400).
[5] روضات الجنات ( 6/300).
[6] الحكومة الإسلامية (ص142).
[7] الأنوار النعمانية: (2/308).
[8] الأنوار النعمانية(2/308).
[9] جامع التواريخ (1/259). النجوم الزاهرة( 7/49).
[10] مخطوطة في مكتبة كلية الآداب - جامعة بغداد: (رقم 975).
[11] إقبال الأعمال- ابن طاووس (ص586).
[12] الفخري (ص17)
[13] مقدمة بناء المقالة (ص18).
[14] إقبال الأعمال ( ص568).
[15] سفينة النجاة- عباس القمي: (1/568).
[16] أوائل المقالات في المذاهب والمختارات- محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد (ص51 -52) دار الكتاب الإسلامي - بيروت.
[17] حق اليقين في معرفة أصول الدين- عبدالله شبر (ص510) موسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.(40/70)
[18] الأنوار النعمانية- نعمة الله الجزائري (2/279)، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
[19] المكاسب المحرمة - الخميني (1 / 251) الطبعة الثالثة 1410هـ، مطبعة إسماعيليان، قم.
[20] المكاسب المحرمة (1 / 251).
[21] المكاسب المحرمة (1 / 251).
[22] كتاب المكاسب- الأنصاري (1/ 319) الطبعة الأولى 1415هـ، مطبعة باقري، قم.
[23] الكافي- الكليني: (2/360 ).
[24] مسالك الأفهام (14/434).
[25] مجمع الفائدة (13/163).
[26] التحفة السنية (ص31).
[27] الحدائق الناضرة (18/164).
[28] مستند الشيعة (14/162).
[29] المكاسب (1/353).
[30] مصباح الفقاهة (1/281).
[31] الدر المنظور (2/148).
[32] مصباح المنهاج (ص359).
[33] فقه الصادق (14/296).
[34] مجمع البحرين (3/343)
[35] بحار الأنوار (72/235).
[36] مصباح الفقاهة (1/504).
[37] مصباح الفقاهة (1/505).
[38] فقه الصادق (14/345).
[39] نهج الانتصار (ص 152). وانظر: تنبيه الخواطر (2 / 162)، وسائل الشيعة (11 /508).
[40] البحار (66/486)، (75/394،399،423)، (79/172)، (80/267). والخصال (1/14). والمحاسن (ص259). الكافي (1/217)، (2/217). والوسائل (16/204،215 ).
[41] البحار (75/395) وكمال الدين (ص 346) ونور الثقلين (4/47) ومنتخب الأثر(ص220).
[42] البحار (75/396) ومعاني الأخبار (ص 162) والوسائل (16/207،219).
[43] البحار (75/397)، والمحاسن (ص412)، وجامع الأخبار(ص 257)، ورسائل الخميني (2/185).
[44] البحار (75/394-395)، والخصال(2/153) وعيون أخبار الرضا ( 2/124) والوسائل ( 15/49،50).
[45] البحار (75/395)، وأمالي الطوسي(ص 299).
[46] مشرق الشمسين- الشيخ بهاء الدين العاملي (273-274).
[47] مشرق الشمسين- الشيخ بهاء الدين العاملي (273-274).
[48] الاعتقادات (114).
[49] مرآة الأنوار (ص337 ).
[50] المكاسب المحرمة (2/162).
[51] الرسائل - للخميني (2/174 ).
[52] الرسائل ( 2/201 ).
[53] بداية المعارف الإلهية(ص430 ).
[54] أجوبة الشبهات(ص 159).
=================(40/71)
(40/72)
سياسة التطهير الطائفي في جنوب العراق
الأسباب - الآثار - المعالجات
بقلم
عبدالله الرشيد
البصرة 1427هـ - 2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان الا على الظالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين ..
وبعد ..
فهذا تقرير موسع حول ( سياسات التطهير الطائفي في جنوب العراق ) ، يعتمد اسلوب الرصد والتحليل والاحصاء لكشف الحقائق المأساوية التي يتعرض لها سكان البصرة الأصليين من أهل السنة والجماعة ، وقد قام الباحث بجمع مادته من الشبكة العنكبوتية / الانترنيت ، ومن مصادر ميدانية مطلعة وقريبة من الحدث ، وقد جاء متضمناً الفقرات الآتية :-
* مقدمات
المقدمة الأولى : الانقسامات الطائفية وآثارها المستقبلية.
المقدمة الثانية : تحريم القتل بغير حق في الشريعة الاسلامية.
المقدمة الثالثة : مظاهرالانشطار الطائفي في العراق.
المقدمة الرابعة : شيعة العراق.
* أسباب الاحتقان الطائفي في جنوب العراق.
* سياسة التطهير الطائفي في جنوب العراق ( البصرة .. حقائق وأرقام ).
للفترة من الجمعة 5/5/2006م ولغاية لحظة إعداد التقرير في الجمعة 9/6/2006م
* معالجات الاحتقان الطائفي في جنوب العراق.
ملحق : بعض بيانات هيئة علماء المسلمين الخاصة بأحداث البصرة.
أسأل الله العلي العظيم أن يغفر لي ما طغى به قلمي ، وزلت به قدمي ، وأن ينفع بهذا الجهد المتواضع كاتبه وناشره وقارئه إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو من وراء القصد ..
abd_al r asheed@yahoo.com
السبت 10/10/2006م
مقدمات
المقدمة الأولى : الانقسامات الطائفية وآثارها المستقبلية
أولا: الإشكالات المفاهيمية
ثانيا: الأشكال التاريخية للانقسامات
ثالثا: الانقسامات الطائفية.. من التجانس إلى التجاوز
اشتدت "الأزمة الطائفية" في العراق، وصارت تؤذن بشر خطير مستطير لن يقتصر على العراق -وحده- بل يتهدد العالم الإسلامي -كله- وخاصة منطقة الخليج وإيران وسوريا ولبنان، وما تركيا وغيرها من ذلك ببعيد. والمعالجات القائمة على ردود الأفعال السريعة لن تغني عن الأمة شيئا؛ ولذلك فإنني أفضل أن أبدأ بمناقشة المفاهيم الأساسية ذات العلاقة بهذه الإشكالية المدمرة، فأقول وبالله التوفيق:
أولا- الإشكالات المفاهيمية:
لعل موضوع "الطائفية" واحد من الموضوعات التي شهدت نوعا من الخلط المفاهيمي والتداخل في المعاني والاصطلاحات الذي لم يزدها إلا غموضا وقد دفع ذلك إلى تأزيمها، بل تفجيرها. وفي سبيل توضيح حقيقة هذا المفهوم لا بد من ممارسة عملية نقد وتفكيك للبنية المفاهيمية التي يمثل مفهوم "الطائفية" جزءا منها وأحد أركانها.
*الطائفة- الطائفية:مفهوم "الطائفية" مفهوم مشتق من جذر متحرك؛ فهو مأخوذ من "طاف يطوف طوافا فهو طائف"؛ فالبناء اللفظي يحمل معنى تحرك الجزء من الكل، دون أن ينفصل عنه، بل يتحرك في إطاره، وربما لصالحه. قال تعالى):فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُل فِرْقَةٍ منْهُمْ طَآئِفَةٌ ليَتَفَقهُواْ فِي الدينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122. وهو أيضا مفهوم يشير إلى عدد قليل من البشر؛ إذ لا يتجاوز -لغة- الألف من الأفراد. ومن ثم فإن هذا المفهوم في جوهره يتضمن فكرة الأقلية العددية الصغيرة المتحركة في إطار الكل، المشدودة إليه، بغض النظر عن دينها أو عرقها أو لغتها... إلخ، فهو مفهوم كمي عددي لا غير؛ لذلك ظل اللفظ يُستخدم ليشير إلى كيانات مختلفة متعددة في خصائصها، ولكن القاسم المشترك بينها هو القلة العددية، فقد أطلق على جملة من المقالات أو الآراء -نسبة إلى ما كانت الأكثرية تتبناه- "طوائف" مثل طائفة المعتزلة وطائفة الشيعة؛ ثم لما حدثت مقالات انقسمت حولها هذه الطوائف في داخلها، سميت بطوائف -أيضا- مثل الإمامية والزيدية ونحوهما، ثم انقسمت هذه بدورها إلى مجموعات سميت "طوائف" كذلك. ولم يبرز هذا المفهوم باعتباره إشكالية أو أزمة إلا في القرنين الأخيرين خاصة، وذلك تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية في ظرف تاريخي معين ساعد على إحداث نوع من التطابق بين الأمراض الداخلية والمؤثرات الخارجية. فالعربي تعامل مع اليهودية والمسيحية والإسلام تعامله مع اختلافات اعتقادية لا تعني المفاصلة والعداء أو تهديد وحدة الكيان، والخروج عنه، أو محاولة الانتماء لكيان آخر خارجه. أو السعي للانفصال عنه فقط بحجة الاختلاف في العقيدة، ومن أقدم النصوص العربية الإسلامية في هذا المجال "وثيقة المدينة".تلك هي أبرز الانقسامات التي شهدها التطور التاريخي العربي إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر والشام. وكما بين لنا التاريخ، لم تكن هذه الانقسامات عناصر تهديد لوحدة الكيان العربي أو مبررا للتمايز والانفصال والتمزق بين أبنائه، أو وسيلة للاختراق من قبل الآخر؛ فالمسيحيون العرب لم يعلنوا -على سبيل المثال- مناصرة الصليبيِين في حملاتهم على البلاد العربية، ولم يتحالفوا معهم حتى في لحظات انكسار المسلمين.(40/73)
ثم مُزج مفهوم الطائفة ذات المكون العددي مع مفاهيم أخرى ذات مضمون فكري أو فلسفي أو عرقي أو مذهبي أو ديني، فتحول إلى ما يشبه "المصدر الصناعي" في لغتنا ليفيد معنى الفاعلية الخاصة بالأقلية العددية، والمنفصلة عن فاعلية الأمة، وبذلك أصبح مفهوم الطائفة يستخدم بديلا لمفاهيم الملة والعرق والدين التي كانت سائدة قبل ذلك. واختلطت هذه المفاهيم جميعا في بيئة متأزمة فكريا وسياسيا، مأزومة ثقافيا فأنتجت مفهوم "الطائفية" كتعبير عن حالة أزمة تعيشها مجتمعات عربية وإسلامية تكاد تكون شاملة لمجموع المحيط العربي والإسلامي كله مثل لبنان والعراق واليمن وسوريا والسعودية ودول الخليج وإيران والباكستان وأفغانستان حيث تحول الجزء إلى كل، والبعض إلى كيان مستقل، وأصبحت الطائفية مذهبا وأيديولوجية وهوية حلت محل الهويات الأخرى والانتماءات الأعلى، بل وبدأت تتعالى عليها، وقد تبدي الاستعداد للتقاطع معها، وأخذ موقعها.
*الفرقة - المذهبية:يشير مفهوم "الفرقة" -أيضا- إلى الدلالات العددية، وإن كان يؤدي إلى معاني التفرق والانفصال دون تجاوز الجذور، كما أن معنى التفرقة فيه أكثر من الطائفية، وعلى الرغم من ذلك استخدم مفهوم الفرقة في الخبرة الحضارية العربية للدلالة على معان فكرية واعتقادية ومذهبية، فالمسيحية تنقسم إلى فرق، وكذلك الإسلام، ومن ثم فإن هذا المفهوم لا يحمل أية دلالات عرقية أو دلالات تعطي معنى التناقض الكلي أو الخلاف الشامل بين الفرق حتى عند من يشترط قبل ذلك وحدة جامعة تظهر بعدها أنواع من التفرق.إلا أنه في عصور الانحطاط الحضاري تحولت الفرق إلى مذهبيات منفصلة متعارضة متعادية خصوصا بعد الصراع العثماني الصفوي الذي استمر قرابة ثلاثة قرون ونصف. فتحولت الفرق إلى مذهبيات أو أيديولوجيات متناقضة تعمل على تجذير خلافاتها بحيث لا يكون هناك مجال للتلاقي أو الوصال أو التفاعل والتحاور. وقد يحل بعض الكاتبين مفهوم "الفرقة" محل الطائفة ويضفي عليها المعاني ذاتها..
ثانيا- الأشكال التاريخية للانقسامات في الوطن العربي:
إن النظرة الكلية لتاريخ الانقسامات في الوطن العربي تبين لنا أن هناك مرحلتين مختلفتين في تاريخ الانقسامات في هذه الأمة، أولاهما: مرحلة الانقسامات طبقا لمفاعلات داخلية.
وهذه هي المرحة الطبيعية التي تكون خلالها الكيان العربي وتطور، ومن ثم حدثت انقساماته الداخلية طبقا لعوامل ذاتية نابعة من داخله في مضمونها، تلقائية في تأثيرها والتفاعل معها. وأهم هذه الانقسامات:
*الانقسامات المذهبية:يعتبر هذا النوع من الانقسامات تطورا طبيعيا في أي نسق معرفي حيث لا يمكن أن يجتمع الناس على فكرة واحدة بصورة مطلقة، وحيث إن التعدد الفكري بين الناس طبيعي في مصدره، ووظيفي في غايته؛ لذلك كانت الانقسامات المذهبية للأمة الإسلامية بصفة عامة، وفي الكيان العربي بصفة خاصة مسألة لا تقضي على الوحدة، ولا تؤدي إلى التمزق أو التشرذم في ذاتها، وما لم تكن هناك مؤثرات خارجية تعجل بالتمزق أو تسرع به لا يكون لهذه الانقسامات تأثير سلبي.
*الانقسامات المللية:وطبقا لما سبق تأكيده في موضوع الانقسامات المذهبية، فإن الانقسامات إلى ملل في إطار الإيمان بثوابت دينية واحدة كانت أمرا طبيعيا وتطورا تلقائيا، ولم تكن سببا للتمزق أو الانقسام والتشرذم.(40/74)
وثانيهما: مرحلة الانقسامات طبقا لمفاعلات خارجية. تؤكد دائما أدبيات التكامل والاندماج المجتمعي والوطني على أن الانقسامات الاجتماعية الطبيعية مثل الانقسامات القبلية والإقليمية واللغوية والثقافية والطبقية لا تشكل تهديدا للمجتمع؛ طالما ظلت دون تفعيل في وعي الجماعة، وطالما لم يتطابق محوران للانقسام معا؛ فالانقسام الإقليمي مثلا ما لم يمتزج معه نوع آخر من الانقسامات مثل اللغة أو الدين أو الوضع الاقتصادي لا يمثل تهديدا لتكامل المجتمع واندماج مكونات الأمة.فوجود مجموعة من دين معين في داخل مجتمع من دين آخر لا يمثل تهديدا لتكامل المجتمع في ذاته، وإنما يظهر التهديد عندما تصبح هذه المجموعة ذات لغة مستقلة أيضا، أو تصبح مضطهدة سياسيا أو فقيرة اقتصاديا أو معزولة إقليميا. ولذلك ظلت الانقسامات الطبيعية في الوطن العربي دون تفعيل ودون تأثير حتى النصف الثاني من حياة الدولة العثمانية في طور انحدارها وتدهورها سياسيا وحضاريا، حيث بدأت تتطابق الانقسامات وبدأ يتم التعامل مع العرب كلهم كموضوع للحكم وطرف أدنى، كما بدأ التعامل مع بعض الطوائف العربية كأقليات مورس ضدها نوع من الظلم أو تم تغذية شعورها بأنها مخالفة أو أنها جزء خارج المجتمع أو أن لها وضعا سياسيا خاصا... إلخ. كل تلك السياسات أدت إلى تفجير الشعور الطائفي.ثم جاءت مرحلة النفوذ الأجنبي وادعاء الدول الأوربية -الطامعة في ممتلكات الرجل المريض- أنها حامية لأقليات مسيحية في الشرق العربي، ثم كان الاستعمار والتقسيم وتغذية عوامل وعناصر التفرق وتضخيمها ودفعها لتحتل مقدمة الوعي الثقافي العربي. وكانت ذروة المشكلة في حلولها، سواء الحلول القومية التي بذرت النزعة الذاتية لدى الكيان العربي ضد الدولة العثمانية ولم تستطع أن توقف نمو الشعور القومي بمعانيه الذاتية الخصوصية الضيقة عند حدود العرب، بل نما هذا الشعور وتطور داخل مكونات الأمة العربية، وبدأت تثار قضايا أخرى مثل الفرعونية والفينيقية والبربرية والمارونية والقبطية... إلخ، وقد تمثلت عناصر تفجير الانقسامات في هذه المرحلة في القضايا التالية:
*الدينية:سبق تحديد الخطوط العامة لمفهوم الدين، خصوصا في الأديان السماوية الثلاثة حيث تعتبر جميع الأديان السماوية من حيث المصدر وكثير من الأساسيات: دينا موحدا يرجع إلى إبراهيم عليه السلام والحنيفية السمحاء، ولذلك لم يكن البعد الديني محورا أساسيا في بناء المجتمع والتفاعل بين أبنائه اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ولم يكن الدين محورا للاندماج والتكامل الاجتماعي. ولكن مع الممارسات العثمانية في مرحلة انحدار الدولة، ومع تدخل القوى الأوربية بصوره المختلفة: بدأ الدين ينقلب إلى دينية أيديولوجية تنفي الآخر، وتنعزل عنه بصورة أو بأخرى، فبدأت الدولة العثمانية تعامل المسيحيين كأجانب واستغلت الدول الأوربية ذلك وادعت الحماية واستجابت طائفة من المسيحيين ودعت إلى الانفصال. وفي نفس الوقت بدأت القوى السياسية المنتمية إلى المجموع المسلم من العرب تدعو أحيانا إلى رفض الدين وإخراجه من العملية السياسية، أو إلى هيمنة الدين بمفهومه المضيق على مجمل الحياة السياسية. وقبل ذلك لم يكن هناك وجود لمثل هذه الإشكاليات في العقل العربي بنفس الحدة والكيفية، فلم يكن العقل العربي يقيم تطابقا بين الدين والجنس أو الدين والقومية.ولعل تغلغل العقلية اليهودية في إطار الحضارة العربية أدى إلى نوع من التطابق بين الدين والجنس واللغة، بحيث يصبح الإسلام مساويا للعروبة وللعربية، فقد كان العقل العربي قبل ذلك يدرك الحدود والفوارق، ويعلم أن الدين للبشرية، وأن اللغة أداة والجنس ممتد متواصل ولكل حدود ولكل حقوق؛ فحقوق أبناء الرابطة اللغوية والمكانية والعرقية لا تفت فيها حقوق الرابطة الدينية. وقد ظهر -على مر التاريخ- كيف كان الاختيار عندما تعارضت الروابط فلم ينحز المسيحيون العرب لأمثالهم في الدين من الأوربيين في الحروب الصليبية، ولم يستقر حال المسلمين العرب مع ممارسات الدولة العثمانية ضد بعض الطوائف المسيحية ولم يرتضوا ذلك منها. وكذلك ممارساتها ضد المذاهب والطوائف الإسلامية لم تكن موضع رضا العرب عموما... إلخ.(40/75)
*الأيديولوجية:على الرغم من أن البيئة الفكرية العربية على مر تاريخها قد عرفت العديد من السجالات الفكرية والخلافات المذهبية والاعتقادية، فإنها لم تعرف مفهوم الأيديولوجيا بمدلولاته الفنية، أي تلك البيئة الفكرية المحكمة التي تتسم بقدر من الانفلات والتناقض مع الآخر، وتسعى للهيمنة والتطبيع من خلال مشروع سياسي عام؛ فقد دخلت هذه الأطر الفكرية إلى حيز الثقافة العربية مع ازدياد التواصل بالتيارات الفكرية الأوربية خصوصا الاشتراكية. فقد أدى تبني بعض الأحزاب العربية للعقيدة الماركسية إلى ظهور أطروحات مقصدها نفي الرابطة العربية وتجاوزها للأممية الاشتراكية أو الشيوعية، وفي مقابل ذلك كان لتأثر بعض المفكرين المسلمين بعلماء شبه القارة الهندية الأثر عينه؛ إذ لم ترتبط الدعوات الإصلاحية الإسلامية الأخيرة بالعروبة واعتبارها القاعدة الأساس للأمة الإسلامية مثلما كان الحال عند الكواكبي ورشيد رضا ومحمد عبده والأفغاني ومن سبقهم مثل محمد بن عبد الوهاب والألوسيين في العراق والشوكانيين في اليمن وقبلهم ابن تيمية ومدرسته.
*النخبوية:على الرغم من أن الانقسامات الاجتماعية إلى طبقات أو شرائح مسألة طبيعية في كل المجتمعات الإنسانية وعلى الرغم من أن المجتمع العربي طوال تاريخه كان يعرف مفهوم النخبة أو علية القوم ممثلة بمدارس العلماء، فإن انفصال النخبة عن المجتمع مسألة حديثة لم تبرز إلا مع آثار نهضة محمد علي في مصر حيث أدى ازدواج التعليم إلى بروز نخبة مثقفة على الطريقة الغربية تختلف ثقافتها عن ثقافة عامة الأمة. بصورة تجعل من النخبة طائفة منفصلة عن الأمة لها مصالحها وأهدافها وطموحاتها المستقلة؛ وهو ما أدى إلى عدم تفاعل الجماهير مع المشروعات النخبوية التي طرحت في المرحلة الأخيرة.تلك هي أهم الأشكال التاريخية للانقسامات والانشطارات في الوطن العربي وتلك هي الصور المختلفة للطائفية بمعناها العام أو بمضمونها العام، فماذا عن المستقبل الذي هو جوهر بحثنا وماذا علينا أن نفعل لصيانة هذا المستقبل، أو التأثير الإيجابي فيه، أو توجيهه الوجهة المطلوبة؟.
ثالثا- الانقسامات الطائفية العربية من التجانس إلى التجاوز:بداية ينبغي التأكيد على أن المستقبل بأيدينا الآن، نؤثر فيه ونتأثر به، سواء أدركنا أم لم ندرك، ومن ثم فإن العناصر المشكلة للمستقبل هي أهم الظواهر التي نتفاعل معها الآن.وبالنظر إلى مستقبل الطائفية -في الوطن العربي- نجد أنه يأخذ مسلكين مختلفين، أحدهما:
*دوافع التجاوز:فهناك مجموعة من الدوافع التي تقود إلى التجاوز، أي تجاوز الوحدة إلى التشرذم، والهوية العربية إلى هويات أخرى أصغر منها وجزئية منبثقة عنها أو أكبر متجاوزة لها مثل الإسلامية التعميمية الرافضة للعروبة أو الأممية أو العالمية. وأهم هذه الدواعي:(40/76)
أ- مفهوم الشرق أوسطية الذي بدأ يتحول من اصطلاح في علم السياسة يصف منطقة معينة من موقع آخر إلى حقيقة واقعة يتم الدفع، وبشدة، لتحقيقها في الواقع من خلال طرائق سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية تبلغ حد القهر والفرض.ب- الحلول المعروفة بالأصولية التي تغيب عنها حقائق الواقع وإشكالاته، وتظن إمكان إعادة إنتاج الفترات التاريخية المنصرمة، وتنكر الصيرورة، وتغرق في خيال رومانتيكي ليس له وجود في أرض الواقع. وفي نفس الوقت تجهل السريان الطبيعي للأشياء والصيرورة التاريخية وتأثيرها، وتحلم بأن الرابطة الإسلامية قد تستغني عن الرابطة العربية التي هي جوهر الأمة الإسلامية ومصدر نشأتها ووسيلة حمايتها والحفاظ عليها. فالأمة العربية هي القلب وبدون القلب لا يستطيع الجسد الاستمرار في الحياة.ج- العولمة: خصوصا في تطورها المعاصر الداعي إلى تجاوز الخصوصيات والقضاء عليها ونشر القيم الثقافية الغربية كقيم عالمية. ومن الداعي للتيقظ أن اتجاهات العولمة بدأت تدخل العقل العربي وتعيد بصورة مختلفة اجترار وتكرار تلك الصراعات الفكرية التي عايشتها الساحة العربية خصوصا مع الدعاة الأولين لها أمثال د. طه حسين حين بدأ الدعوة إلى الانخراط في الحضارة اليونانية على أساس أنها العالمية ومن يرثها أيضا هو وريث العالمية. وقد بدأت في الفترة الأخيرة مراكز أبحاث انتشرت في العالم العربي مؤخرا تعمل معظمها على ترويض العقل العربي المسلم لتقبل عملية التنازل عن الخصوصيات وقبول فكرة الذوبان في العولمة رغم إدراك هذه المراكز والقائمين عليها بأن مضمون العولمة السائد: اقتصادي استغلالي وسياسي يكاد يجعله أقرب إلى النزعات الإمبراطورية منه إلى اتجاهات العالمية التي يتطلع البشر إليها.وهي غير عالميتنا الإسلامية العربية التي نبشر بها، لننبه إلى المشترك بين بني الإنسان، وكثرته بالنسبة للخاص في إطار من القيم المطلقة والنظرة الكلية للكون والإنسان والحياة.د- المذهبية القومية التي تريد تكرار التجربة الغربية بكل ملابساتها وظروفها من علمانية وغيرها. متجاهلة خصائص الكيان العربي الإسلامي الذاتية وتجربته التاريخية التي لا يمكن أن تنفك عن الإسلام، حتى بالنسبة للمسيحيين العرب الذي يمثلون جزءا ثقافيا لا يتجزأ من حضارة إسلامية لغير العرب.هـ- تجذير الوطنية الإقليمية وترسيخها في العقل العربي المعاصر من خلال الدفع الفكري والبحثي ومحاولة حفر جذور تاريخية لكيانات قطرية مفتعلة رسمتها خرائط المستعمر أكثر من خصائص الواقع. فنقرأ الآن عن تاريخ دولة قطر أو الشعب البحريني والثقافة العمانية والثقافة العراقية والثقافة السورية والعودة إلى الجذور الفرعونية والفينيقية والبابلية، وكأن هناك جذورا تاريخية منفصلة لهذه الكيانات التي لا يمكن إيجاد صور تاريخية لها خارج إطار النصف الثاني من القرن الحالي.و- النخبوية وتزايد انعزال النخبة العربية عن الجماهير، واتساع الشقة بينها بصورة تجعل كلا منهما يعيش في عالم مختلف عن الآخر بصورة شبه كاملة.
*مسالك التجانس:تتعدد مسالك التجانس وتتسع، ويسهل التعامل معها؛ لأن بقية منها لم تزل كامنة في عقل الأمة وروحها، ومن ثم تصبح يسيرة الاستدعاء سريعة التأثير. وأهم هذه المسالك:
أ- التأكيد على الهوية الحضارية للأمة العربية من خلال التأكيد على المشترك الثقافي والحضاري في تاريخ هذه الأمة. ومن خلال فصل الحضاري عن العقيدي والمذهبي.
ب- الإصلاح الفكري والمعرفي من خلال عمليات نقد وتفكيك لبنية الثقافة العربية وتحليلها بصورة تحدد وبدقة مواطن الخلل وطرائق الإصلاح.
ج- التأكيد على البعد الحضاري للإسلام الذي مثل هوية لمجموع الأمة العربية مسلميها ومسيحييها.
د- التأكيد على أهمية التفاعل الثقافي بين الجماعات الثقافية العربية من مختلف التخصصات وكذلك التفاعل الإعلامي والفني.
هـ- تفعيل دور الجماهير ورفعه ليكون دورا مؤثرا ثم فاعلا ثم أساسيا في إعادة بناء الكيان العربي الواحد مرحلة ضرورية لإعادة بناء الأمة المسلمة.
و- إعادة بناء مؤسسات الأمة، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو غيرها. من خلال تكوين أطر اجتماعية مفتوحة نابعة من أدنى، وليس مؤسسات شكلية تضعها حكومات لأغراض استهلاكية.(40/77)
ز- إعادة بناء العلاقة مع الأطراف التي تأثرت باتجاهات تجاوز وحدة الأمة من طوائف وعناصر تمثل أجزاء من هذا الكيان الواحد.إننا لا بد لنا لتفعيل اتجاهات الوحدة والتوحيد بين مكونات أمتنا الإسلامية ابتداء بالكيان العربي منها: اتخاذ "التأليف" منطلقا أساسا لذلك. ومفهوم التأليف مفهوم قرآني ذو فاعلية حقيقية وعملية كبيرة؛ فهو أقوى بكثير من مفاهيم التقريب أو الوحدة، أولا لقرآنيته وما فيه من إعجاز. ثانيا: لأنه مفهوم يراعي بشكل غاية في الأهمية جميع الخصوصيات، بل يفعلها ليجعل منها جزءا من وسائل التأليف بين القلوب وتجاوز أسباب التنافر وإعطاء تلك الخصوصيات الفاعلية في إطار الكيان الواحد. كما أنه المنطلق الذي تكونت أمتنا به في الماضي، وحفظت به كل مكونات كيان هذه الأمة الاجتماعي على خصوصياتها، وجعلت منها عناصر إيجابية في جدلية التعارف بعد التآلف ثم التعاون.تلك هي أهم النقاط التي تحتاج إلى إعمال عقل وتحاور مستمر، وبصورة دائمة ومفتوحة من جميع الخلفيات والمواقع بغية التعامل مع الطائفية كقضية أمة وليست مشكلة جماعة أو طائفة أو أمة، وليوجد التيار الاجتماعي الفاعل إن شاء الله.
[الانقسامات الطائفية وآثارها المستقبلية ، د.طه جابر العلواني ، موقع هيئة علماء المسلمين ، ملفات سياسية بتاريخ 4/5/2006 بتصرف ].
المقدمة الثانية : تحريم القتل بغير حق في الشريعة الاسلامية
زاد القتل في الأمة وانتشرت وسائل القتل وجاء الأعداء من الخارج والداخل لقتل المسلمين تحت ذرائع شتى ما أنزل الله بها من سلطان.
أولاً: التحذير من الفتنة:
1- بتحريم القتل للغير ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق [الأنعام:151]. والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان:68].
2- تحريم قتل النفس يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً [النساء:29].
3- بتحريم الاعتداء حين الأخذ بالحق ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لِوَليِّه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً [الإسراء:33].
4- بتعظيم نفس المؤمن ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً [النساء:92].
5- أن القاتل كأنه قتَل الناس جميعا من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً [المائدة:32].
6- بوضع ضوابطه: روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود: ((لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه والمفارق للجماعة)).
7- بضرورة الإصلاح بين المتقاتلين وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما [الحجرات:9].
8- قتال من يسعى لقتل المؤمنين فإن بَغَت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي [الحجرات:4]. وفي الحديث المتفق عليه أبي سعيد: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وثمود)). وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم عن علي: ((أمرت بقتال المارقين)). المارقون هم الخوارج أبي سعيد: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)).
9- التحذير من السعي في فتنة القتال: روى أحمد ومسلم عن أبي بكرة: ((إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي)). روى أحمد وابن ماجه عن أُهبان: ((إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب)). ورى ابن ماجه من حديث محمد بن مسلمة: ((إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف فإذا كان كذلك فأت بسيفك أُحداً فاضربه حتى ينقطع ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة أو منيّة قاضية)).
10- بحكاية عواقب القتل: ومن يقتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً [النساء:93]. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون في أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين [المائدة:29]. روى أحمد عن عقبة بن عامر: ((إن الله أبى عليّ فيمن قتل مؤمناً ثلاثاً)). وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود: ((أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)).
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود: ((سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر)). روى أبو داود أبي الدرداء: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمِّداً)).
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)). روى الترمذي عن أبي سعيد: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبّهم الله في النار)). وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: ((ويحكم لا ترجِعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)). روى أبو داود عن عبادة: ((لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يُصِب دماً حراماً)). روى الترمذي عن ابن عباس: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً فيقول: يا رب سَلْ هذا فيم قتلني حتى يدنيه من العرش)).
ثانياً : أسباب القتل
1- عدم الخوف من الله لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين .(40/78)
2- الحقد والحسد واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك [المائدة:27].
3- الاختلاف في العقيدة الذين قالوا إن الله عَهِد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين [آل عمران:183]. وقال فرعون ذروني أقتل موسى ولْيَدْعُ ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [غافر:26]. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه [غافر:28]. عذاب. إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [البروج:10]. ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة:217].
4- زيادة في الفتنة: ((فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه [غافر:25]. وقال الملأ من قوم فرعون أتَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون [الأعراف:127].: وقال فرعون ذروني أقتل موسى ولْيدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [غافر:26]. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سَفَهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [الأنعام:140].
5- بالتأويل، قتال الخوارج للمسلمين - قتل أسامة لذلك الرجل الذي شهد الشهادة عندما همّ أسامة بقتله- وخالد في موقعة أخرى حيث قتل مالك بن نويرة متأولاً إجاباته بأنها ردة عن الإسلام.
6- بالحرص على المال: روى مسلم عن أُبي بن كعب: ((يوشك الفرات أن يَحسِر عن جبل من ذهب فإذا سمع به الناس ساروا إليه فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه فيُقتل من كل مائة تسعة وتسعون)) وزاد مسلم: ((يقول كل رجل منهم: لعلّي أكون أنا الذي أنجو)). روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: ((يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)).
7- بالغضب الشديد.
8- بالسحر.
9- بأمر الأعداء.
10-حب الانتصار والظهور على الآخرين.
11-العادة المُتأصِّلة.
12-الطاعة العمياء.
13-خوف الفضيحة.
14-غياب المفهوم الصحيح للقتال.
وقفات:
- لا تُعن أحداً على القتل روى الترمذي في حديث أبي سعيد: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النار)).
- أعِدَّ جواباً لمن تريد قتله ((يا رب سل هذا فيم قتلني)).
- لا تلعب بالسلاح في حضرة الآخرين.
- لا تُمازح أحداً بالسلاح: وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: ((لا يُشِر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده , فيقع في حفرة من النار)). وروى مسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع وإن أخاه لأبيه وأمه)).
- لا تكن جندياً في صفوف الظالمين: روى أحمد والحاكم عن أبي أمامة: ((سيكون في آخر الزمان شرطة يَغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله)). روى ابن حبان من حديث أبي سعيد وأبي هريرة: ((ليأتينّ عليكم أمراء يُقرِّبون شرار الناس ويؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفاً ولا شرطيّاً ولا جابياً ولا خازناً)).
- لا تشهد الزور خاصة فيما يؤدي إلى القتل.
- لا تتكلّم فيمن قتل أو قتل إلا بالحق.
- لا تُعرِّض نفسك لما يوجب القتل.
- لا تأخذ بالثأر.
[الحذر من فتنة القتل، مراد القدسي ، موقع المنبر ، رقم المادة العلمية 1231].
المقدمة الثالثة : مظاهرالانشطار الطائفي في العراق
لم يكن للمرء حقيقة أن يلحظ أن ثمة "مشكلا طائفيا حادا" بالعراق إلا في أعقاب دخول الجيوش الأنجلوأمريكية له واستصدار عناصر سيادته وإزاحة شتى أشكال الممانعة (المادية كما الرمزية سواء بسواء) التي كانت تطبع نظام الرئيس صدام حسين وثوت خلف كل مظاهر التحامل عليه لدرجة أضحى أمر إسقاطه "شأنا استراتيجيا" بامتياز.
والواقع أنه لو تم التسليم بوجود "إشكال طائفي" من نوع ما بعراق ما قبل الاحتلال، فإنه لم يكن بالحدة ولا بالقوة (ولا بالراهنية حتى) التي شهدها عقب غزوة مارس وأبريل من العام 2003 على الأقل في ظل أكثر من عقد ونصف حوصر خلالها البلد برا وجوا وبحرا وتم الشروع في الإجهاز على وحدته من خلال ثلاث مناطق حذر جغرافية استشعرنا عبرها من حينه البعد الطائفي الذي يحكم الإستراتيجية الأنجلوأمريكية في التعامل مع "عراق المستقبل".
وإذا كان من التجاوز حقا الالتفاف على التنوع الطائفي الذي طبع ولا يزال يطبع التركيبة الاجتماعية للكيان العراقي منذ نشأته، فإنه من غير المبالغ فيه أيضا الاعتراف بأن إذكاء نعرة الطائفية وتأجيج مداها إلى ما يشبه، منذ مدة، الفلتان الطائفي إنما ثوى خلفها الاحتلال بجعله عنصر المحاصصة ركيزة ترتيباته الحاضرة والمستقبلية لثلاثية "الطائفة والسلطة والثروة" بالعراق:(40/79)
*فتشكيل "مجلس الحكم" الذي رتب له الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر (شهورا فقط بعد سقوط البلاد تحت الاحتلال) تحكمت في توليفته الروافد الطائفية (والمذهبية والعرقية أيضا) لدرجة بدا معها الأمر كما لو أن القاسم/المفارق المشترك بين العراقيين في تقاسم السلطة إنما هو القاسم الطائفي بداية وبمحصلة المطاف...لم يعمد الاحتلال فقط إلى جعل الطائفية المظهر الأساس للمشهد العراقي العام، بل عمل على شرعنتها لتغدو المعطى الناظم لكل مجريات ما بعد سقوط بغداد. .
*والانتخابات، كما توزيع المناصب كما التعيينات بالإدارات والسفارات وما سواها، حكمتها الخلفية الطائفية واعتمد فيها مبدأ المحاصصة الطائفية كما لو أن لا مقياس آخر بالإمكان على أساسه إفراز نخب سياسية تدير حال العراق تحت الاحتلال أو تفتح له في السبل مستقبلا للتداول السياسي على السلطة كما وعدت بذلك " ديموقراطية الاحتلال".
*وتكوين الأحزاب (كما إنشاء المنابر الإعلامية والفضائيات) كما تأسيس الميليشيات (وأعضاء "الجيش العراقي" أيضا) إنما تم بالاحتكام إلى " مبدأ" الطائفية الذي بات مصدر الهوية والانتماء والعنصر المحدد " للتباري على السلطة" وبلوغ " سدة الحكم".لم يقتصر الأمر عند حد اعتماد المحاصصة الطائفية كنمط في تحديد آليات "اللعبة السياسية الجديدة"، بل اتخذت كمرتكز أساس باستحضاره أفرغت العديد من الوزارات والجامعات من كوادرها (لتعوض بمقربين من الطائفة) واعتمدت سياسات في التهجير والتطهير والتصفيات ثوت خلفها ميليشيات لم تعرف منذ احتلال العراق من ولاء إلا ولاء الطائفة والعشيرة أو الحزب المعبر عنهما شكلا وبالمضمون، بل قل إن السقف الطائفي (والمشترك العقائدي) هو الذي أضحى الخيط الناظم " للعملية السياسية" التي ارتضت لنفسها الاشتغال من بين ظهراني الاحتلال وتحت حمايته وعلى هدي من توجيهاته. وعلى هذا الأساس، فإن عنصر الهوية (المرتكز على العروبة والإسلام والانتماء للوطن الواحد) قد تحول ليتخذ له من الركيزة الطائفية المرجعية والفلسفة... والهوية أيضا.ليس من المبالغة في شيء القول بأننا، بالعراق المحتل، إنما بإزاء شرخ في التركيبة الاجتماعية يبرز مشهدها العام كما لو أن الكل بات مع الكل ضد الكل... دونما فارز جوهري اللهم إلا فارز الطائفة أو العشيرة أو القبيلة (أو المذهب الديني) بصورة بدائية قاتمة أو متخذة لها تلوينات سياسية في إطار الحزب أو الجمعية أو الهيئة أو التكتل العقائدي وهكذا... لكنها بالأساس عنصر تناحر وتمنع يتقاتل بموجبها أبناء الوطن على خلفية من الإنتماء البدائي للطائفة أو للعشيرة أو للقبيلة أو لغيرها. إنها (الطائفية أقصد) غدت العزوة بامتياز، بالاتكاء عليها تتحدد موازين القوة وبالركون إليها يؤشر على قوة هذا الطرف أو ذاك. وهو أمر لا يعبر فقط عن ضيق أفق سياسيي "العراق الجدد"، بل وأيضا عن عدم نضجهم السياسي واحتكامهم إلى أشكال في الصراع هي بدائية بكل المقاييس. وإذا كانت الاستراتيجية الأنجلوأمريكية قائمة، في توجهاتها الكبرى على الأقل، على تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث أو أكثر (وهي التي مهدت بالأمس لذلك من خلال مناطق الحذر وتمهد له اليوم عبر تجذير الطائفية لدرجة اعتمدت في توزيع أطياف الهاتف المحمول) فإنها تتخذ من الخاصية الطائفية الغاية والوسيلة وتدفع بجهة إنمائها وتطعيمها لتصبح، بمرور الزمن، أمرا مستساغا، مقبولا ومبررا فضلا عن كل هذا وذاك.(40/80)
لا تعلن الاستراتيجية إياها ذات الغاية (تماما كالمتشبعين بالطائفية من أبناء العراق)، بل تدفع بها بالمضمر وتشجع أدواتها (الفردية كما الجماعية) حتى تغدو بقوة الأمر الواقع "حالة طبيعية" يقبل بها العراقيون (في ظل الفيديرالية غالبا) كما لو أنها المخرج من حالة "الاحتقان الطائفي" التي لازمت العراق لعقود طويلة... أو هكذا يقال.ليس من الموضوعية في شيء أن ينكر المرء التركيبة الطائفية التي تميز المجتمع العراقي (فهي لازمة تاريخية قائمة)، لكنها كانت ولعهود طويلة مضت أيضا، مصدر تنوع وعنصر تمازج وأداة تواصل بين أبناء العراق. بالتالي، فهي لم تغد عنصر فرقة وممانعة (ومدخلا للتقسيم) إلا في ظل الاحتلال... لكنها لن تفتأ بزوال هذا الأخير أن تعود إلى صورتها الأولى... صورة عنصر التمازج المرتكز على مقومات الحضارة العربية/الإسلامية بتلويناتها المختلفة.وإذا سلم المرء بأن ظاهرة التناحر الطائفي أضحت قائمة (ومحيلة حتما على الاقتتال الأهلي إن تم الدفع بها إلى أقصى مدى ممكن)، فإن المطلوب هو العمل على تجاوز الحالة إياها بإعادة استنبات جسور التواصل بين التقسيم الطائفي الحاصل وبين المشروع الوطني الذي تدفع به المقاومة وتتخذ منه شعارا للتحرير.ليس من حق كائن من يكن أن يزايد على العراق تنوعه الطائفي (أو العرقي أو المذهبي أو ما سواها)، فهو (التنوع أعني) كان ولا يزال مصدر ثرائه وغناه. وبالقدر ذاته، فليس من حق أحد (اللهم إلا حماة الاحتلال ودعاة الفرقة والاقتتال) أن يخلق منه نعرة للاحتراب والاقتتال والتقسيم...وإذا كانت ظروف التقسيم قائمة اليوم ويدفع بجهتها بقوة، فإننا نتساءل عن الكيفية التي من خلالها سيقتسمون فيما بينهم حضارة العراق وجغرافية دجلة والفرات...المخترقة لكل بساتين العراق.
[مظاهر الانشطار الطائفي في العراق ، د. يحيى اليحياوي ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قضايا وآراء بتاريخ 30/5/2006 ].
المقدمة الرابعة : شيعة العراق
بعد مرور 38 شهراً على سقوط نظام صدام لم يعد مصطلح «شيعة العراق» يقدم لنا دلالة واضحة على مجريات الأحداث، وبدلاً من ذلك يصبح استخدام تسميات أخرى مثل «تيار الصدر، المجلس الأعلى، حزب الدعوة، فيلق بدر.. إلخ» ذا دلالة أكثر دقة وموضوعية وإرباكاً في الوقت نفسه؛ لأنه في الشأن الشيعي هناك عدد هائل من التساؤلات التي يصح الإجابة عنها برأيين متعارضين، وتصريحات يصعب حصرها تحتمل كلا الوجهين، ومواقف متباينة يتخذها حزب أو تيار واحد في أوقات متقاربة. وفي الحقيقة فإنه يمكن تشريح المجتمع الشيعي باعتبارات متعددة: الانتماء التنظيمي، المرجعية، الولاء لأطراف خارجية، الموقف من: الاحتلال، الانتخابات، أهل السَّنة، ولاية الفقيه، وإقامة دولة دينية.. إلخ، ولا يكاد يوجد فصيلان يتخذان موقفاً موحداً من هذه القضايا الحيوية، وأي تحالفات داخلية بين الشيعة هي مؤقتة؛ لأن مفهوم الولاء والبراء ليس له مدلول واضح في الثقافة الشيعية؛ فهو قابل للتعديل أو التغيير أو الإلغاء.
وقد نشرت مجلة النيوزويك (16/12/2001م) تحقيقاً عن شيعة العراق قالت فيه: (قد يبدو شيعة العراق من الخارج مجموعة متجانسة ولكن عند النظر إليهم من الداخل يتبين أنهم يشكلون تركيبة معقدة وغاضبة من التنافس على المال والسلطة).
وهذا التنافر الشديد في البناء الشيعي الداخلي أنتج مظاهر وصوراً كثيرة من التناقضات والاضطرابات التي تزيد وترسخ من تبعية الكيانات الشيعية للأطراف الخارجية؛ بحيث يحق لنا أن نقول إن شيعة العراق «مجازاً» إنما ينفذون في الأساس أجندات تلك الأطراف، وحتى هدف إقامة دولة شيعية مستقلة الذي يعتبره أغلبية الشيعة مشروعهم القومي يكتنفه الغموض سواء ذلك في إمكانية تنفيذه أو القدرة على حمايته في حال تحققه، مع اعتبار أن العقبة الأولى في طريق نجاح هذا المشروع هم الشيعة أنفسهم قبل غيرهم.
ونسعى في هذا المقال إلى تقديم رؤية تحليلية للعلاقات المتبادلة بين الشيعة في العراق والطرفين الخارجيين الأبرز وهما: إيران وأمريكا، مع التقديم لذلك بإلقاء الضوء على التناقضات التي يعاني منها الشيعة والتي لها تأثير كبير على قدرتهم على تحقيق مشروعهم القومي.
? الفسيفساء الشيعية في العراق:
حتى تتكون لدينا صورة واضحة عن الأداء المركب للتيارات الشيعية العراقية سوف نستخدم منهجاً تحليلياً مزدوجاً يبدأ بتشريح التيارات الشيعية أفقياً لبيان حجم التنافر والتناقض فيما بينها، ثم نُثنِّي بتحليل رأسي لإظهار التناقض داخل التيار الواحد أو في مواقف إحدى القيادات.(40/81)
ينقسم الشيعة بداية باعتبار مرجعيتهم المكانية والبشرية؛ فمدينة قم يمثلها كمرجعية المجلس الأعلى للثورة، بينما يرتكز حزب الدعوة على الحوزة العلمية في كربلاء، ومنظمة العمل الإسلامي تعتمد مرجعية النجف وبالأخص محمد صادق الشيرازي، وبين المدن الثلاث تنافس كبير في جذب الشيعة، وذلك بالإضافة إلى تعدد المرجعيات العلمية التي يختص كل منها بأتباع ومقلدين، وفي دلالة على هذا الزحام المرجعي فإن بوابة المرقد المزعوم للحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ في كربلاء مغطاة تقريباً بملصقات دعائية كثيرة لرجال دين متنافسين يقيم بعضهم في العراق وآخرون في إيران.
ومن التقسيمات التي أحدثت شرخاً في البناء الشيعي: التفرقة بين شيعة الداخل والخارج؛ فالفريق الأول يعتبر نفسه تحمل المشاق وعانى الكثير من نظام صدام وفي مقدمة هؤلاء بالطبع تيار الصدر، في حين أن التيارات الخارجية مارست نشاطها في ظروف إيجابية وتلقت الدعم من قوى عظمى مثل الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال فإن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عاش في الكويت 23 عاماً قبل أن يعود إلى العراق على ظهر دبابة أمريكية، ولذلك يقول كاظم العبادي الناصري أحد مساعدي الصدر: «أي شخص تدعمه أمريكا يستحق لعنتنا.. أولئك الذين يدعون أنهم شخصيات معارضة كانوا خونة غادروا العراق وتركونا نعاني هنا». وينبغي هنا إثبات خطأ الادعاء بأن كل الشيعة كانوا يعانون من نظام صدام؛ فقد كان 58% من كوادر حزب البعث في محافظات الجنوب ونسبة كبيرة من شاغلي المناصب الحكومية من الشيعة (الحياة 6/12/2004م).
وبالنظر إلى قضايا الشورى والولاية وغيرها فإن هناك خلافات واضحة بين المجلس الأعلى ومنظمة العمل الإسلامي من ناحية، وبين المجلس وحزب الدعوة من ناحية أخرى، وأصل الخلاف يرجع إلى تأثر المجلس بالرؤية الإيرانية للدولة الإسلامية الشيعية، كما أن منظمة العمل تأسست أصلاً نتيجة الخلاف مع حزب الدعوة حول تلك القضايا، أما تيار الصدر فبعد أن كان ينادي بتعريب أو «تعريق» المرجعيات الدينية تغير موقفه من إيران، وصار مقتدى الصدر ينظر إلى نظام طهران باعتباره نموذجا يُحتذى به في تطبيق مفهوم ولاية الفقيه، ويقول مقتدى: «أريد أن يحكم العراق رجل دين شيعي سواء كان عراقياً أو إيرانياً، وأفضّل أن يحكمه شخص مثل الخميني من أي عراقي علماني». ويلاحظ طبعاً استبعاده لأن يحكم العراق رجل من السنَّة.
وفي المقابل فإن السيستاني يرفض مبدأ ولاية الفقيه، وأصدر فتوى بعد الاحتلال مباشرة ينادي فيها بابتعاد رجال الدين عن الشؤون الإدارية والتنفيذية والسياسية، كما يؤكد على أن الفتاوى الصادرة عن رجال دين أحياء هي فقط التي ينبغي أن تتبع، وهو يلمح بذلك إلى اعتماد مقتدى الصدر على والده في فتاواه القديمة، وبين الطرفين يقف المجلس الأعلى؛ حيث كان محمد باقر الحكيم الذي اغتيل قبل أكثر من عامين يرى اتباع مبدأ ولاية الفقيه، ولكن وفق رؤية عراقية ترسخ دولة المجتمع المدني.
وبالطبع هناك التوجهات الشيعية العلمانية وأبرزها حزب الوفاق وزعيمه إياد علاوي، والمؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي، وهؤلاء يتبنون دولة علمانية، ولكن يعترفون بقدر من السيطرة للمرجعيات الشيعية.(40/82)
وعادة ما تبدي الفصائل الشيعية اتفاقاً نسبياً فيما بينها تجاه قضية محورية كما حدث في الانتخابات السابقة ؛ حيث شارك أغلب الشيعة ضمن قائمة الائتلاف التي يدعمها السيستاني، ولكن بمجرد أن انتهت الانتخابات حتى تلاشى هذا الاتفاق المصلحي الى حد ما فظهرت الصراعات داخل الكتلة الواحدة كما في قضية ترشيح رئيس الوزراء واقتسام الكعكة عند المنافسة على المناصب الوزارية وما حصل عقب ذلك من انسحاب حزب الفضيلة ؛ ومما يؤكد ذلك أنه قبل الاحتلال الأمريكي للعراق كان هدف إسقاط صدام هو تقريباً الشيء الوحيد الذي يجمع هذه الفصائل الشيعية، وبعد الاحتلال مباشرة لم يعد ذلك الشيء الذي يوحدهم موجوداً، ومن ثم اشتعلت حرب تنافسية شديدة بين هذه الفصائل؛ فقد تدافعت عناصر فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى من إيران، ودخلوا إلى العديد من المدن الجنوبية، وشكلوا لجاناً ثورية بالاستعانة بالخبرة الإيرانية عند بداية ثورة الخميني، واحتلوا مباني وإدارات حكومية، وقاموا بإبعاد السنة من الوظائف، ودفعوا رواتب للطلبة والعلماء والشباب لكي ينظموا تظاهرات تعلن تأييدها للحكيم. وفي نفس الوقت سارع تيار الصدر إلى منافستهم بتأسيس العديد من المراكز والفروع التابعة له، وأغدق الأموال على الموظفين الحكوميين، ونشر ميلشيا مسلحة في بعض المناطق بحجة حفظ الأمن، وظل الصراع بين الطرفين قائماً إلى الوقت الحالي، وقد وجه تيار الصدر اتهامات صريحة إلى فيلق بدر بتقديمه دعماً مباشراً لقوات الاحتلال في صراعها مع جيش المهدي التابع له، كما أعلن علي سميسم المتحدث باسم مقتدى الصدر أن هناك أطرافاً شيعية تحيك مؤامرة ضد تيار الصدر وسمى منها صراحة المجلس الأعلى وحزب الدعوة، ولكنه لم يحدد طبيعة المؤامرة. والطريف هنا أن حزب الدعوة أسسه المرجع الشيعي محمد باقر الصدر أحد عمومة مقتدى، ولكن حدثت انشقاقات في الحزب بعد اغتيال مؤسسه أخرجته عن سيطرة عائلة الصدر.
وعلى صعيد التحالفات المتناقضة، على سبيل المثال؛ فإن المجلس الأعلى بزعامة الحكيم تأسس في إيران وتلقى دعمه الرئيس من نظامها، وفي الوقت نفسه ظل يحتفظ بعلاقات قوية مع الأمريكيين؛ بل إن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس كان يتولى لسنوات طويلة من الكويت مهمة التنسيق مع الجانب الأمريكي في جهود إسقاط نظام صدام، ولكن عندما تحقق لهم ما يريدون بغزو العراق أعلن باقر الحكيم مؤسس المجلس إدانته للهجوم الأمريكي، وحذر الأمريكيين من المقاومة المسلحة إذا بقوا في العراق بعد صدام، وبالنسبة للسيستاني فقد امتُدح من قِبَل المسؤولين الأمريكيين لأنه اتخذ موقف الحياد الإيجابي من الاحتلال؛ بينما كان في سبتمبر/ أيلول عام 2002م قد أصدر فتوى يقول فيها إن من يساعد الأمريكان سيحيق به العار في الدنيا، ويلقى العقاب في الآخرة.
هذا قبس من التناقضات التي يعاني منها الشيعة في علاقاتهم الحزبية بصورة عامة، ولو ألقينا نظرة رأسية على نماذج من التيارات والقيادات الشيعية فسنجد التناقضات نفسها مترسخة داخل التيار الواحد وفي مواقف الزعامة الواحدة، ونأخذ مثالين: تيار الصدر، وتيار السيستاني.
نبدأ بتيار الصدر الذي سبق بيان تراجعه ولو ظاهرياً عن مطلب «المرجعية العراقية» لصالح إيران، وانتفاضاته التي ينفذها أتباعه تنتهي في الغالب بتحقيق رغبات لم تنشأ الحاجة إليها إلا بتأثير الانتفاضة، لتنتهي المواجهات دون أن يعلم أحد لماذا بدأت أو لماذا انتهت؟ وأسرف مقتدى في إطلاق التصريحات الرنانة التي يتراجع عنها بعد ذلك؛ فعندما كان متحصناً في النجف مع أتباعه صرَّح للصحفيين: «لن أخرج منها، وبقائي هنا مدافعاً عن المدينة؛ لأنها أشرف المدن، وسأبقى فيها حتى آخر قطرة دم». وقال موجهاً الخطاب لجيش المهدي: «من يريد أن يبقى فأهلاً وسهلاً به، والذي يريد الذهاب فأهلاً وسهلاً به أيضاً». لكن لم يلبث مقتدى الصدر بعد أيام قليلة أن خرج من النجف، وقال مخاطباً أتباعه: «إلى كل فرد من أفراد جيش المهدي الذين ضحوا بالغالي والنفيس» فدعاهم أن يوقفوا القتال وأن: «يرجعوا إلى محافظاتهم للقيام بواجباتهم وما يرضي الله ورسوله وأهل البيت».(40/83)
وبالنسبة للانتخابات؛ فقد أعلن الصدر صراحة أنه لن يشارك فيها، وسوَّغ ذلك بقوله: «عندما أقول إني في خدمتك يا أمريكا وأنا تحت إمرتك وأدخل الانتخابات؛ ففي ذلك الوقت سيتوقفون عن الهجوم، لكن أنا أعلنت أني عدو لأمريكا، وأمريكا عدوة لي إلى يوم الدين». ولكنه اتفق بعد ذلك مع الأمريكيين على أن يتحول إلى المشاركة السياسية مقابل توقف الهجوم، وصرح قيس الخزعلي أحد مساعديه: «التيار الصدري يواصل تشكيل تنظيم سياسي جديد يكون ضمن التشكيل الجديد للعراق الجديد» وتلقى الصدر مديحاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش وتأييداً ضمنياً: «الولايات المتحدة لم تعد تستبعد أن يلعب مقتدى الصدر دوراً في الحياة السياسية العراقية». ثم تراجع الصدر مرة أخرى، وأعلن أنه لن يشارك في الانتخابات؛ لأن قوات الاحتلال تواصل اعتقال أنصاره، لكن رغم هذا الإعلان فقد صرح مكتب المرجع السيستاني بأن 20 شخصاً من تيار الصدر تم إدراجهم كمستقلين في قائمة الائتلاف الموحد الشيعية، وقال سعد جواد رئيس المكتب السياسي للمجلس الأعلى إن هناك أربع شخصيات بارزة لها علاقة بالصدر قُدمت أسماؤها للترشح بصورة مستقلة، وفي نفس الوقت قال حيدر الموسوي الناطق باسم المؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي إن لائحة حزبه تحظى بدعم الكثيرين من أنصار الصدر (إسلام أون لاين 16/12/2004م) ثم ما لبث أن شارك في الانتخابات ونسف كل التصريحات والمواقف السابقة.
ويعاني التيار من وجود خلافات بين صفوفه من أبرزها الخلاف بين حازم الأعرجي في الكاظمية، وأسعد الناصري في البصرة. كما تسبب الاتفاق الأخير بين التيار والاحتلال في حدوث اضطرابات داخلية، وكان المسؤول العسكري الأمريكي في مدينة الصدر صرح بقوله: «نعرف حوالي أربعة من المسؤولين المهمين بينهم عبد الوهاب الدراجي الذي يظهر لا مبالاة واضحة حيال نزع الأسلحة، وقيس الخزعلي، والآخران لن أذكر اسميهما؛ لأنهما قد يبدلان مواقفهما». وقال: «نعرف أن عناصر من الميلشيا لن تلتزم بتعليمات القيادة ولن تتجاوب مع تعليمات مقتدى الصدر».
أما المرجع علي السيستاني، فقد سبق الإشارة إلى فتاواه المتناقضة من الاحتلال، ورغم أنه يرفض مبدأ ولاية الفقيه، فإن دوره السياسي في العراق يعتبر ترجمة واقعية لهذا المبدأ، والعجيب أن بعض أنصاره يدافعون عن رفضه إصدار فتوى تؤيد المقاومة بأن المرجع «لا يمارس دوراً ولائياً، وإنما يمارس دوراً فقهياً في حدود الأمور الحسبية» ، ولكنهم في الوقت نفسه يثبتون له الحق في مطالبة الاحتلال بإقامة الانتخابات وعقد مباحثات مع أعضاء مجلس الحكم الانتقالي وسلطات الاحتلال حول تشكيل الحكومة الانتقالية ومجلس الحكم والانتخابات، ومقابلة مندوب الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي وتحديد الموقف الشيعي من الدستور المؤقت والإشراف على إعداد قائمة الائتلاف الموحد الشيعية.. إلخ.
ورغم أن السيستاني أشرف على إعداد القائمة الشيعية الموحدة التي تحمل توقيعه ضمنياً فإن مكتبه في حوار مع صحيفة الرأي العام الكويتية أكد: «يبارك السيد السيستاني القائمة الوطنية الموحدة التي ضمت غالبية الأحزاب الشيعية، لكنه في الوقت نفسه يدعم كل القوائم الوطنية» ما الفرق بين من يبارك أو يدعم؟ وكيف يؤيد السيستاني قائمتين متنافستين في وقت واحد؟ لا أحد يعرف.
وفي نهاية عام 2003م عندما شعر السيستاني أن مطالبه بخصوص الانتخابات لن تنفذ حرك الشارع الشيعي للقيام بمظاهرات حاشدة «كانت تظاهرتا البصرة وبغداد والتظاهرات المنتظرة لاحقاً لتظهر أن السيستاني لا يمزح، وأنه يمثل حالة مرجعية عامة لا اختلاف عليها». ولكن عندما دكت القوات الأمريكية المراقد التي يقدسها الشيعة في النجف لم يحرك السيستاني ساكناً، ولم يصدر فتوى، ولم يحرك الشارع السياسي؛ فهل كانت الانتخابات أكثر قداسة عنده من مراقد النجف؟
? تقاطع المصالح بين شيعة العراق وإيران:
يصعب على المراقب المباشر لهذه الفسيفساء الشيعية في العراق أن يعثر على خطوط منطقية لتفسير هذا الأداء المعقد، ولكن عند إضافة البعد الإيراني للمشهد العراقي تتكون على الفور ملامح قابلة للفهم؛ فالعراق بالنسبة لإيران يمثل امتداداً سياسياً وجغرافيا ومذهبياً، ولا يعترف الملالي في طهران بإمكانية وجود دولة عراقية مستقلة بجوارهم، ولذلك تنبني استراتيجيتهم بعيدة الأمد على كون العراق ـ الجنوب على الأقل ـ مقاطعة إيرانية شيعية طال الزمن أم قصر، ويتعاملون مع شيعة العراق باعتبارهم ميداناً للسيطرة وممارسة النفوذ ومدخلاً للاستحواذ على الجنوب. وفكرة الهلال الشيعي التي اتهم قادة ومسؤولون عرب إيران بالتخطيط لها لا تنطوي على أي مبالغة؛ فهذا هو التصور الإيراني للمنطقة بغض النظر عن تواضع إمكانياتهم الحالية عن السعي لتحقيقه.(40/84)
والمصالح الشيعية العراقية تختلف مع المصالح الإيرانية في المشروع السياسي غير المعلن لكل طرف، وهو إقامة دولة مستقلة وقوية للشيعة في الجنوب بالنسبة للعراقيين، وإقامة مقاطعة شيعية تابعة لإيران أو دولة ضعيفة تستمد قوتها من طهران، بالنسبة للإيرانيين. وهناك بعض القضايا الأخرى التي يختلف فيها شيعة العراق وإيران، مثل: التنافس بين مرجعية النجف وقم، ومسألة ولاية الفقيه، والعلاقة مع الاحتلال، ولكن تبقى مع ذلك نقاط كثيرة تتقاطع فيها المصالح بين الطرفين، على الأقل في الوقت الحالي، ومن أبرزها: تحويل الجنوب إلى مقاطعة شيعية خالصة - الموقف من العرب السنة ..
أولاً: تحويل الجنوب إلى مقاطعة شيعية خالصة:
نشرت صحيفة الحياة (6/12/2004م) تحقيقاً بالغ الأهمية عن جهود تشييع الجنوب ذكرت فيه أن هناك «حملة للتطهير الطائفي أدواتها الاغتيالات والخطف ومصادرة المساجد والأوقاف السنية وإدارة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأجهزة الأمنية على أساس مذهبي وحزبي». واللافت هنا أن الأطراف الثلاثة: شيعة العراق، وإيران، والاحتلال تواطؤوا على ضرب السنة في تلك المنطقة؛ فهناك اعتداءات متتالية ينفذها عناصر فيلق بدر وفرق للموت شيعية المظهر ضد السنة في مناطق متعددة منها مدينة اللطيفية جنوب العراق، وذكر شهود عيان أن عناصر الفيلق كانوا يطلقون أسلحتهم على الأهالي بينما تحلق الطائرات الأمريكية كغطاء جوي لهم، ويذكر آخرون أنه يوجد في كل محافظة جنوبية ضباط مخابرات إيرانيون، وأنهم يتولون التحقيق مع الدعاة الذين يُعتقلون من أبناء السنة، ولا يخفى تدفق أعداد هائلة من الشيعة عبر الحدود المفتوحة مع إيران لتغيير التركيبة السكانية، وذلك بالحصول على هويات مزورة وجنسيات عراقية بدعوى أنهم من العراقيين الذين نفاهم صدام إلى إيران، وحقيقة الأمر أن أغلب هؤلاء ينتمون إلى إيران ولكنهم يقومون بدورهم في تغيير نسبة السكان، ومن ثم يمكنهم الرجوع إلى بلدهم متى ما أرادوا، وقد اتهم زعيم عربي إيران بتسليم مليون إيراني بطاقات انتخابية مزورة للتلاعب بنتيجة الانتخابات. ومن ناحية أخرى فإن التعداد السكاني الذي كان من المقرر تنفيذه في وقت سابق تم تأجيله لأسباب غير مفهومة، واعتُمِد في تسجيل الناخبين على البطاقة التموينية التي يسهل تزويرها. وفي المقابل تعرض السنة في العديد من المناطق لمداهمات يومية وأحداث خطف وتعذيب واغتيال من قِبَل الحرس الوطني وأجهزة الداخلية ـ واجهة فيلق بدر ـ كانت تقترن بالاستيلاء على الأوراق الثبوتية لمنعهم من الإدلاء بأصواتهم، والأنكى من ذلك أن حماية الناخبين موكولة في الأساس إلى هذا الحرس المشبوه.
وقد بدأ منذ فترة التلويح بالاستقلال الذاتي للجنوب عن طريق عدد من المحاولات، منها الإعلان عن إقامة إقليم جنوب العراق في محافظات (البصرة وميسان وذي قار) من خلال مؤتمر عقد في البصرة 26/12/2004م وشارك فيه شخصيات شيعية مستقلة وقيادات سياسية ومسؤولون حكوميون ورؤساء عشائر، وادعى الإعلان أن إقامة الإقليم تستند إلى الفقرة ج من المادة 53 من قانون إدارة الدولة الذي أصدره الاحتلال الأمريكي ثم ما تبع ذلك من تشريعات دستورية نص عليها في مسودة الدستور التي مررت رغم أنف العراقيين بإرادة أمريكية ، وكانت 600 شخصية شيعية بارزة يمثلون محافظات الفرات الأوسط (النجف، كربلاء، بابل، القادسية، المثنى) قد عقدت اجتماعاً بحثت فيه تشكيل مجلس موحد تمهيداً لإقامة حكم ذاتي في إطار عراق فيدرالي (موقع البينة) ومن أخطر ما جاء في البيان الصادر عن الاجتماع آنذاك تأكيده لضرورة إيجاد «آفاق للتعاون الإقليمي» مع الدول المجاورة لهذه المحافظات والمقصود من ذلك بالطبع: إيران. ولا ينكر السيستاني تأييده لهذه الجهود؛ فقد صرح مكتبه لصحيفة الرأي العام أن الفيدرالية تحتاج إلى سنوات من الديمقراطية لكي تكون حالة إيجابية في العراق. ويلخص سياسي شيعي عراقي رؤية طائفته بالقول: «إن كان أهل المثلث ـ السني ـ يرغبون في تكرار تجربة طالبان أخرى فحظاً سعيداً» (الشرق الأوسط 161/12/2004م).
ثانياً: الموقف من العرب السنة:(40/85)
أقرب عدو لشيعة إيران هم السنة العراقيون العرب؛ فالصراع بين الطرفين تاريخي، ولن تأمن إيران لحدودها الغربية إلا بضمان السيطرة عليهم، وشيعة العراق لن يستقر لهم الجنوب إلا بدحر السنة في العراق الأوسط، وتمارس إيران سياسة متعددة الأبعاد لتحقيق مخططاتها ضد سنة العراق؛ فمن الناحية الاستخباراتية والعسكرية، يقوم فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى وفرق للموت تم تشكيلها في وقت سابق من قبل هيئات دينية وأحزاب سياسية معروفة في السلطة بدور المنفذ لخطة اغتيال واسعة النطاق ضد الرموز الدينية السنية والدعاة المؤثرين والعلماء البارزين لإضعاف قدرة السنة على تولي زمام أمورهم والمطالبة بحقوقهم، ويقوم عناصر المخابرات الإيرانية بدور كبير في هذا الشأن. ومن الناحية السياسية فإن أهم الكوادر السنية الصالحة لتولي المناصب المهمة كانوا في الأساس ينتمون قسراً إلى حزب البعث، ولذلك تم استخدام تهمة الانتماء البعثي لإبعاد هذه الكفاءات عن تسلم أي مناصب مهمة من خلال ما عرف عند العراقيين بقانون اجتثاث البعث سيء الصيت وهو في جوهره اجتثاث لاهل السنة وكل من يعارض أجندتهم السياسية ولو كان شيعياً. وعلى صعيد العلاقات بين التيارات الشيعية والسنة فإن تيار الصدر في مرحلة سابقة كان يقوم بدور المهدئ بين الطرفين؛ إذ يؤكد مراراً على الانتماء الوطني والروابط بين السنة والشيعة، وعندما تعرضت مساجد سنية لهجمات تحمل بصمات فيلق بدر، قال: «إني أبدي استعدادي لحماية إخواني أهل السنة وجوامعهم، وكذلك إخواني الشيعة ومقدساتنا، ولا فرق بين الأخوين إطلاقاً إلا بتقوى الله».
ولكنه عاد وكشر عن انيابه بعد ما حصل في سامراء وقد تورط عناصر من جيش المهدي في حملة الاعتداء على مساجد أهل السنة ورموز أهل السنة في الآونة الاخيرة ..
ويبدو أن الصدر لا يجد شخصاً تقياً من أهل السنة يمكن أن يتولى رئاسة العراق، حسبما ذكر في تصريحه السابق أعلاه، وقد نشرت صحيفة «إشراقات الصدر» التي تصدر عن التيار مقالاً هاجمت فيه اختيار غازي الياور رئيساً للعراق رغم أن المنصب شرفي إلى حد كبير، فقالت: «هل من المعقول أن يرضى شعب ضُرب وتحمل الكثير من نظام صدام حسين، وعانى من ذل المحتل لأكثر من عام أن يحكمه رئيس سني ورئيس وزراء أكثر خبثاً من اليهودي؟». وذلك رغم أن الياور أثنى عليه بقوة بعد اتفاقه الأخير مع القوات الأمريكية واعتبرها خطوة ذكية، ودافع عنه ضد اتهامه بالتحريض لقتل عبد المجيد الخوئي في إبريل/ نيسان 2003م، وقال: «الزعيم الشيعي بريء حتى تثبت إدانته». وقد أشار قائد القوات البريطانية في البصرة إلى حقيقة الموقف الشيعي من السنة في الجنوب فقال لوفد من وجهاء العشائر السنية (لو أخذت بالتقارير التي أرسلت لي ما تركت شيئاً يمشي على الأرض في البصرة). (مفكرة الإسلام، 23/12/2003م).
? شيعة العراق والولايات المتحدة:
وجدت الإدارة الأمريكية نفسها بعد 38 شهراً من غزو العراق واقعة في دوامة شيعية يصعب عليها التخلص منها؛ فهي من ناحية تخطط لتأسيس نظام علماني في العراق يسيطر عليه الشيعة، وهذا النظام الشيعي العلماني سيكون بدوره عاملاً رئيساً في زعزعة استقرار نظام الملالي الشيعي الديني، ولكن واشنطن اكتشفت في نهاية الأمر أن دعمها للشيعة يصب في مجمله لصالح نظام طهران، ولكنها مع ذلك لا تستطيع التوقف عن دعم الشيعة في هذه المرحلة الحرجة؛ لأنهم الحليف الرئيس لها في مواجهة العرب السنَّة؛ كما أن فيلق بدر يشكل قوة أساسية في تكوين الحرس الوطني العراقي وما تلاه من التشكيلات الامنية الذي شارك في قتال المسلمين في الفلوجة، والفيلق يتبع المجلس الأعلى الذي أسسته إيران في المنفى لجمع شتات الرموز الشيعية وسلمت قيادته لعائلة الحكيم. واللافت أن إيران نجحت أيضاً في اختراق أصحاب التوجهات العلمانية الشيعية؛ فأحمد الجلبي الذي كان فرس رهان الإدارة الأمريكية تبين أنه عميل مزدوج قدم خدمات جليلة لنظام طهران، ورغم انقلاب إدارة بوش عليه فإنه ظل متماسكاً، وعاد ليحشر نفسه في زمرة السيستاني الذي ضمه إلى القائمة الشيعية الموحدة التي تضم 228 مرشحاً ليكون من أبرز عشرة مرشحين فيها ..(40/86)
ومن الأحداث التي تقدم تفسيراً للكيفية التي يحاول بها الأمريكيون إدارة الفسيفساء الشيعية موقفهم من تيار الصدر في المواجهة الأخيرة؛ فقد وضعت أمام قوات الاحتلال خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها تحت أي ظرف، في مقدمتها اغتيال مقتدى الصدر وتصفية جيش المهدي، وكان المطلوب فقط معاقبة التيار وممارسة ضغوط تدفعه للتحول إلى المشاركة السياسية وهذا ما حصل بالفعل ، وكان ذلك واضحاً، فلم يكن الصدر متخفياً في جميع الأوقات أو ممتنعاً عن استخدام الهواتف المحمولة ومن ثم لم يكن رصد مكانه عملاً صعباً، ورغم تصريح أكثر من مسؤول أمريكي أن الصدر مطلوب اعتقاله أو قتله لم يُصَب الزعيم الشيعي بخدش واحد، فقط ظهر في إحدى المرات أمام الفضائيات برباط صغير من الشاش حول معصمه ربما لذر الرماد، وقد فسر كثير من المراقبين الأسلوب الأمريكي بأن الاحتلال لا يريد أن يفقد تيار الصدر كعنصر مهم في موازنة القوى الشيعية الأخرى التي يناصبها العداء مثل المجلس الأعلى وحزب الدعوة، وقد أثبتت المواجهات الأخيرة أن قدرة الأمريكيين على التحكم في القوى الشيعية تزداد عندما تتصاعد حدة الصراعات، وقد بلغ تحكم الإدارة الأمريكية في السيستاني ذروته في تلك الفترة؛ خاصة عندما قصفت المراقد في النجف بينما كان السيستاني يتلقى العلاج في عاصمة الحليف الأول لأمريكا: لندن، وقد بلغ الأمر حد وصف الصحفي الأمريكي فريد زكريا رئيس طبعة النيوزويك الدولية السيستاني بأنه: «حليف كبير محتمل للولايات المتحدة» (نيوزويك، 20/4/2004م)، كما وصفه بالذكاء لأنه يتجنب التحالف العلني مع قوات الاحتلال أو مقابلة المسؤولية الأمريكية. (نيوزويك، 2/3/2004م).
وعلى الجانب الشيعي فقد تحالف شيعة العراق مع الاحتلال الأمريكي من أجل تحقيق أربعة أهداف: إسقاط صدام حسين، تثبيت أكذوبة الأغلبية الشيعية، إقامة انتخابات يفوز بها الشيعة، تأسيس دولة شيعية في الجنوب، وقد حقق لهم الأمريكيون الهدفين الأولين والثالث تم لهم في العام الماضي ثم حدثت تحولات جذرية عندما أصر السنة على خوض الانتخابات فأربكت الموقف ووضعت عراقيل كأداء في طريقهم ويبقى الهدف الرابع قيد البحث.
وبالنسبة للانتخابات فإن الشيعة في العراق يهدفون إلى تقوية البناء السياسي للدولة العراقية، وتحقيق قدر من الاستقرار من أجل إعادة تفكيك الدولة من جديد بعد أن يكونوا قد امتلكوا زمامها بحكم الأغلبية المصطنعة، وهم يدركون جيداً أن تنفيذ هدف الدولة المستقلة لن يمكن من خلال وضعية الفوضى والعشوائية السياسية السائدة حالياً، وبذلك نفهم سر دعوة السيستاني الدائمة إلى تبني المقاومة السلمية؛ فهو يعلم تماماً أن المقاومة المسلحة لن تفيد في تحقيق الدولة الشيعية .
خلاصة الشأن الشيعي العراقي أن إيران وأمريكا يتبادلان تحريك تياراته حسب رؤية كل منهما لمصالحه، وفي الفترة الحالية كان تقاطع المصالح بين الشيعة وكلا الدولتين متحققاً بوضوح، ولكن كلما اقترب الشيعة من تحقيق مشروعهم السياسي في الجنوب فإن افتراق المصالح يبدو قريباً، وفي حال بقي نظام طهران قوياً فإنه لن يسمح أبداً بدولة شيعية مستقلة عنه، وفي حال نجح الأمريكان في إسقاط نظام الملالي وإقامة نظام علماني فستفقد أحزاب الشيعة ذات الأجندة الدينية مصدر دعمها الرئيس، وتتحول الدفة إلى الأحزاب العلمانية التي توالي الإدارة الأمريكية، ولا يُتوقع أن تقوم إدارة أمريكية مهما كان توجهها بتكرار التجربة الإيرانية الخمينية مرة أخرى، وهذا يعني أن خيار الدولة المستقلة مجرد سراب يُقاد إليه الشيعة - الفسيفساء.
[ الشيعة ، أحمد فهمي ، موقع مجلة البيان الاسلامية ، العراق ودائرة الاستعمار، بتصرف ].
أسباب الاحتقان الطائفي في جنوب العراق
قد لا تقع الأزمات بصورة مباشرة، ولكن تأخذ مداها التاريخي وتتجذر في واقع المجتمعات حتى يحين الوقت الذي تطل فيه على الجميع فتتفاوت حينئذ الأنظار وتختلف الرؤى والتحليلات وتتعاظم وتكثر وصفات العلاج، ولكن الجميع سيتفق وقتها على أن هناك أزمة ناشبة تنذر بخطر وشر مستطير على استقرار البلدان ومستقبلها في نواحيها المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والجغرافية كذلك.
لم يعد مناسبًا ولا موضوعيًا أن نقول: إن العلاقة بين السنة والشيعة في العراق هي علاقة قوية ومتينة، فمما لا شك فيه أن هناك احتقانًا طائفيًا حقيقيًا وموضوعيًا، له الكثير من الأسباب التي لو استمرت لهددت بالفعل نسيج الوحدة الوطنية العراقية ..
إن ما يجري ونشاهده في ( المشكل العراقي ) من مواجهات طائفية تهدد بانفجار حالة من الاحتراب الاهلي والمجتمعي لا سمح الله ، ولا شك أن لهذه الظاهرة أسبابها الموضوعية ودوافعها التي فاقمت منها حتى وصلت الى ما وصلت اليه في بلادي التي تنزف رجالاً ونساءً من بحر دمها الذي صنع حضارة للناس في يوم من الدهر!
وفيما يأتي محاولة لرصد هذه الاسباب .(40/87)
أولاً : البعد التاريخي ، وهذا يخص الشيعة بالتحديد فهم يعانون من ( عقدة تاريخية ) مزمنة ، التهميش السياسي والاقصاء في أزمنة تعاقب الحكومات السنية الدينية في العهود الماضية ( الاموي - العباسي - العثماني ) ، فهم ينظرون الى التاريخ من زاوية ضيقة جداً يملؤها التشاؤم وعدم الثقة ، ويخلطون ذلك كله بالمظالم التي وقعت على أهل البيت ويحملون المؤسسة السياسية السنية والمؤسسة الدينية والمجتمع برمته المسؤولية التاريخية ، ويريدون من أنفسهم اليوم أن يكفروا عن تلك الخطيئة التاريخية بتحميل أبناء السنة الذين يعيشون في عام 2006المسؤولية كاملة ، وعليهم أن يدفعوا ثمن ما ارتكبه أجدادهم بحسب هذا التصور المغلوط ..
ثانياً : التراث الديني ، وهذا عامل مهم لعب دوراً اساسياً في إذكاء الصراع المذهبي بين الطائفتين فهناك في الجانب الشيعي ركام من المرويات والاقوال التي تكفر الصحابة وتصفهم بالردة وتكفر من يأخذ عن الصحابة وتتهمه بنصب العداء لأهل البيت وتسميهم بـ ( النواصب ) ، وبعض الروايات الشيعية المنسوبة لأهل البيت تبيح قتلهم وتستحل اموالهم ولو بالحيلة .. وفي تاريخ الصراع الحديث ازداد الأمر تعقيداً بإدخال ( الوهابية والفكر الوهابي ) في المشكل المذهبي والعقائدي فحمل العقل الجمعي الشيعي ألواناً من مفاهيم الكراهية والعداء وربيت المجتمعات الشيعية لا بحجة أنه من الوهابيين أو من النواصب أحلاهما مر !!
ومن الجانب الآخر برزت مشكلة ( تكفير الشيعة ) ووصفهم بالرافضة ! ، وحاولت بعض المدارس السنية أن تحيي الفتاوى القديمة الصفراء وتروج لها ليس بين طلاب العلم والنخب المثقفة فحسب بل بين العامة من الناس فحصلت فوضى تكفيرية واختلطت القواعد الشرعية البسيطة بأهواء صغار طلبة العلم وأنصاف المثقفين من الغلاة ، وانتشرت في العقدين الماضيين الكتيبات المذهبية التي تناقش محاور الاختلاف بنفس متشدد لدى الفريقين فحدثت هوة اجتماعية ( ولاء وبراء ) و ( مفاصلة ) تحولت تدريجياً الى عداء مستحكم بين الطرفين ما لبث أن انفجر معبراً عن حالته الاحتقانية بعد سقوط النظام السابق .
ثالثاً : دور المرجعيات الدينية ، فهي لم تتدخل لا قبل احتدام الصدام ولا أثناءه ولا بعده الا بمحاولات باردة وعلى استحياء لذر الرماد في العيون ، وكان كثير من مثقفي الشيعة وزعمائهم يصرون على تبرير ما يجري لأهل السنة في مناطقهم بعدم تكفير مراجع السنة للزرقاوي وعدم وجود إدانة صريحة لأعماله التي تستهدف الشيعة وهذا كلام فارغ من أي مضمون علمي وأخلاقي ( وعذر أقبح من فعل !! ) ، فما يتعرض له الشيعة في بعض المناطق يمكن أن تختلط فيه الأوراق فهناك جهات عديدة خارج الحكومة وداخلها من مصلحتها أن يحدث هذا للشيعة لتحقيق بعض المكاسب السياسية فليست جماعة الزرقاوي وحدها من يستهدف المجتمع الشيعي فهناك الاحتلال وهناك مخابرات بعض الدول الاقليمية وهناك أوراق تكشفت مؤخراً تفيد تورط بعض الشيعة في استهداف الشيعة ناهيك عن التضخيم الاعلامي لما يحصل كما لا يخفى ومع هذا فهيئة علماء المسلمين كانت قد أدانت وببيانات واضحة كل هذه الاعمال وجرمت مرتكبيها وأخرجتهم عن روح الاسلام .. اما ما يجري لأهل السنة في البصرة فلا يمكن تفسيره الا بالحرب الطائفية الاستئصالية التي يشنها طرف واحد يملك أجهزة الدولة وكل عناصر القوة تجاه فئة مستضعفة لا تحمل السلاح وتحب السلام وبمباركة كثير من المراجع وبفتاوى سرية وأخرى علنية ولم نسمع لحد الآن أي إدانة واضحة لما يتعرض له أهل السنة في الجنوب من قبل علماء الشيعة ، وهناك فتواى عامة مطاطية غير صريحة يمكن تأويلها على أكثر من وجه ومثل هذه الفتاوى لا تداوي جرحاً ولا تضع حداً لهذه الانتهاكات .
رابعاً : التدخل الخارجي ، وبالتحديد دور الاطلاعات الايرانية في تأجيج الوضع ودفع بعض السياسيين نحو تطبيق أجندة مرتبطة بإيران ، فهناك أحقاد قديمة وحسابات تاريخية تريد إيران تصفيتها مع عرب العراق السنة بل ومع كل عراقي ساهم بشكل مؤثر في حربه عليهم أيام الثمانينات ، ناهيك عن أحلام إيران في ابتلاع جنوب ووسط العراق تمهيداً لاقامة امبراطورية مذهبية ، وهو عين ( الهلال الشيعي ) الذي حذر منه الملك عبدالله بن الحسين عاهل الاردن ، وهو ما أشار اليه الامير سعود بن طلال وعبر عنه بتسليم العراق لايران ، وهو يتساوق تماماً ايضاً مع تصريحات عبدالله كول في تركيا عندما نبه الى النفوذ والتدخل الايراني السافر في العراق وحذر دول المنطقة من مغبة السكوت على هذا الأمر ..
الدور الإيراني المشبوه !
"عندما قرر التحالف الأميركي ـ البريطاني غزو العراق للإطاحة بنظام صدام واحتلال الأرض عسكرياً؛ فإنه كان يراهن على استقطاب تأييد التنظيمات الشيعية التي رأت في الغزو والاحتلال فرصة نادرة لتصفية حساباتها مع البعثيين.
والآن تكتشف الولايات المتحدة وبريطانيا أن الاعتماد على الدعم الشيعي له ثمن سياسي باهظ. فالنفوذ السياسي الشيعي في العراق فتح الباب منذ الوهلة الأولى للغزو لتدخل إيراني متعاظم ومتعدد الجوانب.(40/88)
فعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات منذ أن وطأت القوات الأميركية ـ البريطانية الأراضي العراقية، ظلت إيران تبني لنفسها بمساعدة التنظيمات الشيعية العراقية وجوداً عسكرياً واستخباراتياً وسياسياً بموافقة ضمنية من قوى الاحتلال.
فعندما اندلعت المقاومة العراقية المسلحة ضد الاحتلال فور دخول القوات الأجنبية راهنت الولايات المتحدة وبريطانيا على الميليشيا الشيعية التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في التصدي للمقاومة، التي هي سنية في المقام الأول.
لقد كانت إدارة بوش وحكومة بلير سعيدتين بأن السيستاني أمر قوات الميليشيات الشيعية بعدم التعرض لقوات الغزو والاحتلال قبل أن يصدر فتوى بتحريم المقاومة ضد المحتلين.
لكن ما يقلق كلاً من واشنطن ولندن الآن أنهما تكتشفان ـ ربما بعد فوات الأوان ـ أن ائتلاف التنظيمات الشيعية أصبح القوة الأعظم المتحكمة سياسياً في العراق، وبالتالي أصبحت إيران القوة الإقليمية المهيمنة على المصير السياسي للعراق".
[هل يتخلى شيعة العراق عن جرائمهم الطائفية؟ ، د. علي عبد الباقي ، موقع مفكرة الاسلام ، تقارير رئيسية ، الاثنين 1 مايو 2006م ].
دور بعض الجماعات المسلحة المنتمية الى المقاومة العراقية :
فهي تتبنى في خطابها ( تكفير الشيعة ) وتصفهم بالردة وموالاة الاحتلال ، وتحاول ان تبرر شن بعض الهجمات التي تستهدف رموز الشيعة وحسينياتهم واماكن زياراتهم في سياقها الديني بما ينسجم مع تنظيرات فقهية معروفة في أدبيات تنظيم القاعدة ، وتارة يقع الخلط منها في مسأئل شائكة كمسألة ( العمليات الاستشهادية ) و ( قتل الترس ) و ( الهدنة ) و (تكفير العوام ) و ( العذر بالجهل ) وغيرها من المسائل ، وكثير من أتباع هذه الجماعات تنقصه الخبرة الفقهية والسياسية فتحصل من الأخطاء الكارثية ما الله به عليم ..
هل من المصلحة اعلان الحرب على الشيعة ؟
الإرهابيون يوحدون صفوفهم لإشعال فتيل حرب أهلية في العراق، بهذا العنوان علقت صحيفة التايمز على أحداث شهدتها العاصمة العراقية بغداد، حيث اعتبرت الصحيفة أن جماعات المقاتلين وحدت صفوفها لضرب مصالح الطائفة الشيعية لتتمكن بالتالي من إشعال فتيل حرب أهلية في العراق. وتقول الصحيفة نقلا عن مصادر استخباراتية أمريكية، إن أبا مصعب الزرقاوي ( وقد رحل الرجل الآن فما هي حجة الامريكان ؟ ) بات يتحكم في آلاف المقاتلين المنتمين إلى جماعات مختلفة وانه يستعد لشن موجة جديدة من الهجمات والتفجيرات. وحسب أحد ضباط المخابرات الأمريكية فان الزرقاوي " أعطيت له القيادة التكتيكية داخل المدينة لمجموعات انتهى بها الأمر إلى توحيد صفوفها من أجل البقاْء". وتشير التايمز الى وجود وثيقة استخباراتية قامت باحصاء للمقاتلين المنضوين تحت لواء تنظيم القاعدة. وحسب هذه الوثيقة فإن من بين 16 ألف مقاتل سني هناك 6700 من المتشددين الاسلاميين - بحسب زعمها - انضم اليهم أربعة آلاف عضو اثر انضمام جماعة جيش محمد اليهم. وحول ما نسب الى الزرقاوي من شن حرب شاملة على الشيعة قال الشيخ الخالصي، الذي كان جده العلامة مهدي الخالصي قائد واحدة من أهم الثورات على المستعمرين البريطانيين : " أن الهدف من ذلك هو تقريب الشيعة من المحتل الأميركي، ذلك أن الشيعة سيجدون في الأميركي ملاذهم بدلاً من الإنضواء تحت جناح المقاومة، فالشيعة يشاركون في المقاومة في الجنوب وفق ما تشهد على ذلك الهجمات التي حصلت، خصوصا في البصرة ".
[من له المصلحة في إشعال فتيل حرب أهلية في العراق؟ ، موقع اذاعة العقاب 22/9/2005].
فبعض الأعمال التي تنسب الى ( تنظيم التوحيد والجهاد ) لا يمكن الإقرار عليها شرعاً بعد التسليم بصحة نسبتها الى التنظيم ، وهي تمثل حالة من ( الغلو ) في ( التطبيق الجهادي والقتالي ) ، ولعل بعضها قد أسهم الى حد ما في إثارة الطرف الآخر أو في تجنيد مجتمع كامل وطائفة كاملة بعدما كان الصراع محصوراً مع أحزابه ومليشياته الصفوية ..
وقدد حددت هيئة علماء المسلمين - وهي المرجعية الشرعية لمسلمي العراق من اهل السنة - موقفها مما تنسبه وسائل الإعلام الى أبي مصعب الزرقاوي في أكثر من مناسبة وبيان ، ومنها البيان رقم 157 تعقيباً على دعوة الأخير الى شن حرب مفتوحة على الشيعة ، ورأيت أنه من المناسب الإتيان بنص البيان بنسخته الأصلية في موقع الهيئة .
خامساً : الاحتلال الانكلو- أمريكي للعراق ، من خلال تعاونه الوثيق مع طائفة الشيعة ، ودعمه اللامتناهي للزعامات الشيعية ، وتسويق فكرة ( الأكثرية والأقلية ) ، وربط المقاومة بالصداميين ، وشن حملات عسكرية منظمة ودورية على المناطق السنية وتوريط قيادات شيعية ومليشيات شيعية تشكلت منها وحدات الجيش العراقي في الموضوع لتحويل الصراع من عراقي - أمريكي الى عراقي - عراقي أو سني - شيعي ..(40/89)
كذلك فإن الولايات المتحدة الامريكية ما جاءت لبناء ديمقراطية يحتذى بها في المنطقة كما تحاول أن تروج له الماكنة الاعلامية الامريكية والعراقية التابعة لها ، بل جاءت لتحويل العراق الى أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة ، جاءت لنهب ثروات العراق وعولمته اقتصادياً ليتحول الى سوق مستهلك للبضائع الرخيصة .. جاءت لتفتيت العراق وتقسيمه ، وهذا لا يتأتى الا على جسر من الاكاذيب والتضليلات والدماء والاشلاء والمعارك الطائفية والاحتراب الاهلي بين مكونات النسيج العراقي الاجتماعي ..
والغريب أن معظم الشعب العراقي يعرف هذه الحقيقة ومع ذلك هو مستمر بتطبيق مفرادتها !!
* أمريكا والطائفية !
"تتحدث السياسات والأفكار الأمريكية المطروحة على الساحة العربية من خلال الإعلام وعبر أبواق الولايات المتحدة عن المساواة وحقوق المواطنة والعلمانية وفصل الدين عن الدولة وما شابه ولكن الممارسة الأمريكية الفعلية في واقع الأوضاع السياسية في الوطن العربي تكذب هذا الزعم وتشير إلى أن أمريكا تنطلق في هذه الممارسات من موقف يكرّس الطائفية والمذهبية والعنصرية في أشد صورها تخلفاً.
كما تكشف هذه الممارسات عن أن أمريكا توجّه دعاوى العلمنة ونبذ الدين إلى الأغلبيات الإسلامية وحدها بينما تتوجه إلى الأقليات الدينية غير المسلمة بفكر التكتل الطائفي والحشو والتعبئة والتعبير عن الهوية وفق أسس دينية محضة تتمحور حولها ذاتية وكيان تلك الطوائف وصولاً بعد ذلك إلى هدف الاستقلال والانفصال والانعزال عن الوطن الواحد إسلامي الهوية.
وقد ترنحت هذه السياسة المتناقضة التي تمثل أحد أبرز جوانب ما أصبح يعرف بازدواجية المعايير في المواقف الأمريكية إلى حد أنها وصلت في العراق إلى تقسيم المسلمين إلى طائفتين أو ديانتين متصارعتين هما السنّة والشيعة وذلك عندما لم تجد أقليات مسيحية ذات وزن عددي يسمح بإجراء لعبة الطائفية معها كما لم تجد أي ديانات أخرى بنفس الغرض.
ويدل هذا على أن الاعتماد على القسمة الطائفية كأساس لتحقيق أهداف السياسة الأمريكية قد أصبح أمراً أصيلاً عند ساسة الولايات المتحدة وصانعي قرارها.
وهكذا وبين يوم وليلة كما خُيّل للناس وجدنا القيادات والمراجع الشيعية المشهورة وذات الأتباع تتحدث وتتصرف كما لو كانت تمثل ديناً مستقلاً عن الإسلام وهو دين يبحث عن الاستقلال وتحقيق الكيان بمعزل عن باقي أهل العراق من السنّة عرباً أو أكراداً، واستمراراً لمخطط التأصيل الطائفي الذي تزكيه أمريكا وجدنا في العراق نمطاً شاذاً من أنماط التقسيم يضاف إلى نمط التقسيم الطائفي ألا وهو التقسيم العرقي الذي يسري على أبناء طائفة دينية معينة ليزيد من إضعافهم. بينما لا يسرى على أبناء الطائفة الأخرى بل يسري العكس منه تماماً فلكي يتحول السنّة في العراق إلى أقلية، بالغ في الإقلال من حجمها وفرض عليها وداخلها وحدها التقسيم بين عرب وأكراد وهو تقسيم قائم على أسس لغوية وعرقية وجغرافية وبالتالي تحول الحديث إلى الأكراد كأمة قائمة بمفردها وأساس هويتها هو القومية العرقية واللغوية، وليس الدين أو المذهب [السنّي] أما أهل السنة [العرب] من العراقيين فقد تحولوا إلى كيان يتم تحديد هويته ليس على أساس القومية اللغوية أو القبلية الطابع وإنما على أساس المذهب الذي تحول في عرف الدعاية الأمريكية إلى ما يشبه الدين القائم بذاته وليس إلى المذهب الفقهي الأكثر شيوعاً بين المسلمين.
وبهذا التحديد التعسفي للعرب السنّة [بعد فصل الأكراد السنّة عنهم على الأساس والأرضية القومية] تحول هؤلاء إلى أقلية ضئيلة يقدرونها بحوالي 20% من سكان العراق ويزيد من تقليل أعدادهم أنهم عزلوا عن سائر عرب العراق [من الشيعة] وهم يشكلون على أساس هذا التعريف القومي [العروبة] الأغلبية الكبرى والساحقة من العراقيين.
وعلى الجانب الآخر فإن تعريف الشيعة أو تحديد هويتهم على أساس ديني / مذهبي / طائفي بحت لم يدخل معه ـ كما في حالة السنّة ـ تقسيماً عرقياً قومياً آخر يؤدي إلى تفتيته. وبالتالي فلم يشر أحد إلى انقسام الشيعة في العراق بين ذوي الأصول العربية وهم الكثرة الساحقة وذوي الأصول الفارسية وهم أقلية ضئيلة، وحدث العكس تماماً حيث جرت عملية إدخال أعداد كثيفة للغاية من العرب [الإيرانيو الجنسية والقومية واللغة] إلى العراق لكي يدخلوا ضمن أعداد الشيعة العراقيين ويكثروا من هذه الأعداد. وفي هذه الحالة ومع الرغبة ذات الطابع الطائفي في إظهار الشيعة كدين يدين به الغالبية الساحقة من شعب العراق جرى التغاضي عن الانقسام العرقي أو القومي هذا داخل صفوف الشيعة بينما لم يجر التغاضي عن الانقسام القومي داخل الصف السنّي [عرب/ أكراد] لأن النية مبيّتة لإضعاف كيانهم والإيحاء بأنهم في هيئة العرب السنة ليسوا سوى أقلية ضئيلة فرضت نفسها بالقوة والقهر على سائر العراقيين [الشيعة والأكراد والأقليات الدينية الضئيلة الأخرى] وقد حان أوان إعادتهم إلى حجمهم الحقيقي وتسليم الحكم والسلطة والثروة إلى الأغلبية الحقيقية.(40/90)
إن هذا التوجه الطائفي الواضح هو الذي يحكم السياسة أو الإستراتيجية الأمريكية في العراق بل وفي المنطقة كلها".
[ انظر: أمريكا والطائفية ، د. محمد يحيى ، موقع مفكرة الاسلام ، تقارير رئيسية ، 26 نوفمبر 2005 م] .
لماذا فشلت أمريكا بإثارة الحرب الأهلية في العراق ؟
لفت انتباهي حقيقة أن كل محاولات الفتنة لم تنجح بحمد الله رغم كثرتها وقوتها أحيانا - أقصد حين يُقتل عدد كبير من الشيعة مثلا - فكنت أقول أن كل هذه المحاولات كانت ستنجح فعلا لو أنها انطلت على أهل العراق .. لكنها لم تنطل عليهم بفضل الله وكرمه !ولا أخفيكم أن ذلك أثار دهشتي .. مع إعجابي طبعا ولكنني فكرت كثيرا في الأمر فرأيت أن عدم نجاح كل هذه المحاولات يعود لأحد أمرين:إما أن جهود المخلصين العاملين على درء الفتنة أكبر من كل جهود العاملين على زرعها - مع أن كل وسائل الإعلام بيد العاملين على زرعها - فانتصر المخلصون ..أو - وهو ما أرجحه حقيقة - أن أهل العراق يرون الحقيقة بأعينهم ويعلمون أن أمريكا وأعوانها هم من وراء زرع الفتنة الطائفية ويعلمون يقينا أن أمريكا هي وراء التفجيرات القذرة ..وأنهم لا يعانون من هذه الطائفية بشكل حقيقي على الأرض وإنما هو أمر من نسج الإعلام ..
وآخرون يعتقدون بأن أمريكا قد تنجح في اثارة الفتنة الطائفية :
الإنسان محتوى وترجمته مواقفه أفعالا واقولا ويبدو ان كثير من الناس الذين يتحدثون عن الإخوّة الشيعية السنية حالمون لان هناك مشكلة ربما لم يدركوها حتى الآن تتلخص في ان الكمّاش ((كمّاش الفتنة)) ذو فكين أمريكيين ومع إيماني التام بان الشيعة المستقلين وقبلهم السنة المستقلين يرفضون هذه الفتنة شكلا وموضوعا فإنني أُدرك ان الكمّاش ينجح تدريجيا بتسويغها في الفئتين وللإضاءة أكثر لابد من تقرير حقيقة تتلخص في ان الفكين ألزرقاوي والأحزاب السنية المشبوهة من جهة وقوات بدر والأحزاب الشيعية المشبوهة من جهة أخرى بيد أمريكية تحركها بنجاح كبير فيما يُسرّّع الفتنة ويزيد من حجمها والإعلام الأمريكي كله تقريبا حتى الصليب الذي لا يخضع لأمريكا يهمهه كثيرا أمر هذه الفتنة وأذكّر بالكتاب الأبيض البريطاني والآن اسأل عن سر إصرار جماعة ألزرقاوي على إضفاء طبيعة طائفية مع كثير من الشخصيات السنية على هذه الحرب القذرة وسر ترحيل كثير من السنة في جنوب الوطن وانخراط كثير من الشيعة وبدفع من الأحزاب المأجورة في سلك الشرطة والحرس الوطني زيادة على ربط سنة اليوم بأمية الأمس البعيد وبعثية الأمس القريب مع علم الجميع بان القضية مقلوبة تماما فان معظم المدن الشيعية كانت مقفلة لحزب البعث وان كل وان كل المحاولات لإسقاط النظام ألبعثي كانت سنية إذا ما استثنينا المحاولة الشعبانية التي تآمر بوش الكبير مع صدام لإحباطها وعود على بدء من خرج على علي "عليه السلام" ومن قتله ومن غدر بالحسين "عليه السلام" ومن قتله ثم ليتابع كل منصفي سيرة أهل البيت" عليهم السلام" ولينظر بدقة من المسئول مباشرة عما حل بهم في حياتهم وعن التشويه الذي لحق بهم حتى الآن
هل يُسر أهل البيت ان تقف الأحزاب مرتدية زيهم إلى جانب الصليبية ضد إخوانهم في الدين؟
ان الحرب الأهلية في تصوري توشك ان تقوم من سجون الحكومة العراقية ومعتقلاتها حيث الظلم الذي يفوق محاكم التفتيش وحيث الطبيعة الطائفية لهذا الظلم الذي يفرض على كل معتقل ان يخرج طائفيا زرقاويا على الرغم من انفه وفي تفاصيل ذلك ما يدمي القلوب ويقرح الجفون ولا يخفى على الحالمين أمره.
[الحالمون ، محمد أمين ، موقع اذاعة العقاب ، 22/9/2005].
سادساًً : تغييب الصوت العاقل والمعتدل ولغة التفاهم والحوار العلمي والوطني واستبدالها بلغة الرصاص وقطع الرؤوس ، وهذا أحد عوامل تفاقم الوضع الطائفي في العراق وهو تصدر الامعات ونفعيي الاحزاب والوصوليين والمرضى نفسياً والحاقدين والغرباء وبعض المرجعيات المشبوهة للساحة العراقية وسيطرتها تماماً على مقاليد الأمور في البلاد وفي المقابل جرى تهميش واقصاء وقتل المثقفين والوطنيين والمعتدلين وبعض المراجع العاقلة والحريصين على مصلحة البلد ، ففرغت الساحة وضعف الصوت الوسطي الهاديء وعلت أصوات الغوغاء والهمج الرعاع وسادت لغة العنف التهديد وشراء الضمائر والاقلام بالاموال والمناصب والرشى ، فباض هذا التوجه وعشعش وفرخ في بلادنا وتحول بمرور الوقت الى ما يشبه ( عصابات المافيا ) تخرس كل صوت يقف في وجهها إن بالترغيب أو الترهيب .
سابعاً : المناسبات الدينية الشيعية ، لا شك أن مقتل سيدنا الحسين بن علي عليه السلام وجمع من أهل بيته وأصحابه في واقعة كربلاء حادثة محزنة والجرح الذي خلفته في قلوب المسلمين لا يقل عمقًا وألمًا عن الجروح التي خلفها مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم عمر وعثمان وعلي سلام الله عليهم أجمعين.(40/91)
بالإضافة إلى هذه المآسي فقد شهد تاريخ الأمة حوادث مأساوية أخرى كثيرة قتل فيها خلفاء ورعايا من أبناء الأمة الإسلامية بطرق وحشية قل مثيلها، وذلك خلال الهجمات والغزوات البربرية التي تعرض لها المسلمون على يد المغول والتتر والصليبيين والصهاينة.ولو راجعنا التاريخ لوجدنا أن أعداد النساء والأطفال والشيوخ الأبرياء من المسلمين الذين قُتلوا في كل غزوة من هذه الغزوات يفوق مئات أو آلاف المرات عدد الذين قتلوا بواقعة كربلاء. ومع ذلك لم نجد من ينصب لهم مأتمًا ليحيي ذكراهم.
ومن هنا يتبين أن إحياء ذكرى واقعة كربلاء بهذا الشكل الذي نراه ونسمعه في كل عام وبهذه الطريقة المقززة للنفس فهي ليست مجرد إحياء ذكرى وإنما هناك أهداف أبعد مما يتخيله البسطاء من الشيعة وسائر المسلمين الذين غلبت عليهم العاطفة والغفلة وعدم الدراية والمعرفة بالدسائس التي حاكها أعداء الإسلام وما زالوا يحيكونها من خلال هكذا مناسبات.
فلو كان هذا الأمر فيه منفعة للمسلمين لما توانى عنه علماء الأمة ومجاهدوها الذين نراهم اليوم يبذلون أقصى جهدهم للوقوف في وجه المخططات الخبيثة التي تستهدف النيل من المقدسات الإسلامية عاملين كل حسب طريقته التي تتناسب مع الزمان والمكان. بينما نجد المدعين للإسلام يشغلون الناس في إحياء ذكرى حوادث الانشقاق والصراعات الداخلية المؤسفة التي مرت بها أمتنا قبل ألف وأربعمائة عام لزرع الكراهية بين المسلمين وتوسيع شق الخلاف بينهم؛ لتمكين الصليبين والصهاينة من تحقيق أهدافهم.
وهذا منهج خطه الصفويون قبل أكثر من خمسة قرون تقريبًا عندما دخلوا في حربهم مع الدولة العثمانية بالتحالف مع الصليبيين بهدف إضعاف المسلمين وإسقاط دولتهم.
لقد جعل الصفويون التركيز على المسائل الخلافية أحد أهم نصوص المنهاج التربوية لمذهبهم المسمى جزافًا بالمذهب الجعفري؛ حيث عملوا على إظهار أهل السنة بمظهر المعادي لآل البيت وإطلاق تسميات 'النواصب' و'المعادون' عليهم. وقد باتت هذه المسميات يتغذى بها [الشيعي] منذ نعومة أظافره من خلال استماعه للخطب والإرشادات التي تقدم له في المناسبات المتعددة التي ابتدعها الصفويين لنشر ثقافتهم وترسيخها في أذاهن أتباعهم.
وقد قسموا هذه المناسبات إلى شقين: شق يسمى الأفراح، والآخر يسمى الأحزان.
فأما مناسبات الفرح والتي من أبرزها ما يسمى بعيد الغدير , نسبة إلى موقع 'غدير خم' محط رحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من حجة الوداع, حيث اتخذها الصفويون على أنها المناسبة التي تم فيها تنصيب الإمام علي بن أبي طالب خليفة من قبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
أما المناسبة الأخرى فهي ما يسمى بعيد 'فرحة الزهراء'، وهو يوم استشهاد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد فيروز أبو لؤلوة المجوسي.
هذا إضافة إلى ما يسمى بعيد مولد الإمام المهدي المنتظر، وغير ذلك من المناسبات التي ابتدعت لترسيخ ثقافة الكراهية ضد أهل السنة وخلق الشقاق بين المسلمين في العراق وغير العراق.
أما المناسبات الحزينة فمن أهمها مقتل سيدنا الحسين في وقعة كربلاء، بالإضافة إلى 'وفاة الزهراء السيدة فاطمة' رضوان الله عليهم أجمعين.
وهناك مناسبات عديدة أخرى حيث ـ وكما هو معروف ـ إن هناك اثني عشر إمامًا للشيعة، ولكل منهم مناسبة فرح ومناسبة حزن، يتم الاحتفال بها على مدار السنة.
ولكن على الرغم من اختلاف هذه المناسبات إلا أن الخطاب فيهن واحد، وهو قائم على سب العرب والمسلمين وتكفير ولعن الصحابة بدعوى سكوتهم على مقتل أئمة الشيعة على يد الخلفاء الأمويين والعباسيين. وقد أنشأت جراء هذا الخطاب أجيال شيعية متشنجة ومعادية لأبرز الصحابة والخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين ولكل ما هو سني. قد طال هذا العداء حتى المساجد والجوامع السنية؛ حيث نجد أن طهران العاصمة الإسلامية الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها مسجد واحد لأهل السنة، هذا ناهيك عن تدمير عدد كبير من مساجد أهل السنة في مدن إيرانية كبرى كمدينة 'مشهد' عاصمة إقليم 'خراسان'.
وهذا العداء كما سبق وقلنا منشأه النصوص والمناهج الثقافية التي وضعها الصفويون مستغلين حادثة كربلاء كأحد أهم الحوادث السوداء في تاريخ الأمة لإذكاء روح الفتنة وزرع الأحقاد بين المسلمين.
لقد أفهم الشيعي أن أهل السنة معادون لآل البيت، وأن للحسين ثأرًا عند السنة، والشيعة هم أصحاب الثأر، ولهذا فإننا كثيرًا ما نسمع ونشاهد رفع الشيعة شعار 'يا لثارات الحسين'، وهي كلمة تردد باستمرار على ألسنة خطباء المجالس الحسينية، وتكتب على اليافطات السوداء، ويحملوها الصبية والشبان الشيعة المغفلون وهم يسيرون بها في المواكب ومسيرات اللطم ومهرجانات شق الرؤوس [التطبير]، خصوصًا في مثل هذه الأيام دون أن يعرفوا أبعاد هذه الشعارات وما هي مقاصد واضعيها.(40/92)
نقرأ في سيرة الحسين سلام الله عليه أنه كان يبكي يوم كربلاء حزنًا على قاتليه الذين سوف يدخلون النار بسببه، وهذا قمة الخُلُق والإنسانية. إذن فطالما كان الحسين يتعامل هكذا مع خصومه فلماذا يجعل مدعيّ حب الحسين ذكرى مقتله وسيلة لنشر البغضاء والعداوة بين المسلمين المحبين للحسين؟!!
واللافت للنظر أيضًا أنه في مثل هذه الأيام يكثر الشيعة من القول بشعار 'هيهات من الذلة' المنسوب لسيدنا الحسين، ويجعلونه في مقدمة الشعارات التي ترفع في هذه المناسبة. فإذا كان المقصود من هذا الشعار هو عدم الرضوخ والذلة للغازي والمحتل والظالم للمسلمين فإن هذا الشعار أصبح لا معنى له اليوم، بدليل أن الغزاة يسرحون ويمرحون في ديار الإسلام، وهذه حوزة النجف العلمية التي تتزعم مرجعيته الشيعة في العالم وتسير مواكب اللطم وشق الرؤوس نراها تحاط بدبابات الغزاة والظلمة من الصليبيين الذين انتهكوا حرمة المقدسات الشيعية في العراق قبل غيرها، فأين إذن شعار 'هيهات من الذلة'؟!!
هذا وناهيك عن أن الغزاة لم يقف عدوانهم عند انتهاك المقدسات الدينية فقط، بل إنه بلغ قتل النفس المسلمة وانتهاك الأعراض والنواميس وتدمير البيوت والممتلكات وذلك كله أمام مرأى ومسمع أرباب الحوزة وخطباء المجالس الحسينية الذين يعتلون المنابر في عاشوراء محرضين الناس على الفتنة والكراهية.
لقد بات معلومًا أن المقصود من وراء شعار 'هيهات من الذلة' لا يعني عدم الذلة والرضوخ للحاكم الظالم أو المستبد كما يحاول دهاقنة المذهب الصفوي ترويج ذلك، وإنما المقصود منه هو عدم قبول الشيعة لنظام يحكمه سني، حتى وإن كان هذا الحاكم عادلاً؛ فانتمائه إلى أهل السنة يستوجب رفع شعار 'هيهات من الذلة' في وجهه.
لذلك نرى أن أحياء ذكرى واقعة كربلاء بما هي عليه من هذا السلوك والأساليب والثقافة ما هي إلا عاملاً اساسياً لرفد مشاعر الكراهية الطائفية في الوسط الشيعي لأهل السنة ، ونحن ندعو الشيعة لأن يستبدلوا هذه الثقافة بثقافة أخرى لنشر الوحدة والتآخي بين المسلمين؛ لكي يتحقق هدف الحسين الذي خرج من أجله، ويندثر بذلك فكر أعدائه من الصهاينة والصليبيين والصفويين.
[ انظر: دعوة لالغاء ذكرى عاشوراء ، صباح الموسوي ، موقع مفكرة الاسلام ، تقارير رئيسية ، 9 فبراير 2006 م بتصرف يسير] .
آراء في الموضوع
انفجار العنف الأهلي نتاج لنظام طائفي تقسيمي(40/93)
هل يصح ان نستمر في القذف بكل عقدنا وأمراضنا إلي العتبة الأمريكية. هناك بالفعل محتلون، ولكن هل كان الاحتلال هو الذي وجهنا لهذا الافتراس الأهلي الدموي لبعضنا البعض. ثمة قدر كبير من السذاجة أو السطحية أو سوء النية، يجتمع أو يتوزع علي هذه الأسئلة، لأن الإجابة الوحيدة الممكنة لها هي نعم، الاحتلال والنظام البشع، المشوه، المعادي لتاريخ العراق وشعبه، الذي أقامه المحتلون، هو المسؤول المباشر عن هذا العنف.ربما كان العراق يسير بالفعل نحو حرب أهلية، وربما استطاعت حكمة بعض من قادته وعلمائه وأعيان مجتمعه انقاذ العراقيين من جحيم هذه الحرب. ولكن أحداً لا يجب ان يخطئ حجم الدمار السياسي والاجتماعي الذي أوقعه الاحتلال وحلفاؤه بالعراق. العراق ليس الوطن الوحيد في العالم الذي يضم شعباً متنوعاً من الإثنيات والطوائف، بل ان الدول المتجانسة إثنياً وطائفياً هي من القلة في العالم بحيث يصعب حتي الجزم بوجودها. وما ينطبق علي الشرق العربي والإسلامي، حيث الدولة القومية الحديثة لم تتعمق جذورها بعد، ينطبق أيضاً علي الدول الأوروبية الغربية، حيث ولدت الدولة الحديثة واكتسبت ملامحها السياسية والقانونية. لابريطانيا، ولا بلجيكا، ولا أسبانيا، ولا فرنسا، بنيت علي تجانس عرقي وديني. وحتي ألمانيا، حيث العرق الجرماني هو السائد، تكونت الدولة (في أي حدود اعتبرت لها) من كاثوليك وبروتستانت ويهود، وخالط بنيتها القومية روس وبولونيون، بينما انتشرت المجموعات الإثنية الجرمانية في بلاد أوروبية أخري عديدة. في أي من هذه البلدان المعروفة اليوم باستقرارها (بعد حروب أهلية طويلة ودموية)، يمكن ان ينفجر السلم الأهلي في لحظات، إن وضعت في سياق شبيه بالسياق الذي دفع إليه العراق خلال السنوات الثلاث الماضية. كان مدهشاً، بالطبع، في الأيام القليلة السابقة لتفجير مقام الإمامين العسكريين ان نسمع السفير الأمريكي في بغداد يشن هجوماً صريحاً علي التوجه الطائفي لوزارة الداخلية ومؤسسات الحكم العراقي الجديد.ولكن السؤال الذي كان يجب علي السفير (أفغاني الأصل، المتحدث بالعربية) أن يسأله هو من المسؤول، من الذي وضع الأسس التي بني عليها هذا الحكم البشع، الغريب عن العراق وتاريخه. حتي قبل انطلاق مشروع الغزو كانت أوساط أمريكية وبريطانية تروج لعراق منقسم علي ذاته، عراق صور كأنه صنيعة بريطانية من التحام ولايات عثمانية مختلفة. وما أن أسس المحتلون أنفسهم في المنطقة الخضراء، حتي أطلق مشروع سياسي ودستوري واضح المعالم لدفع العراق إلي طريق الانقسام علي الذات. قيل للعراقيين انهم باتوا منذ اليوم أكثريات وأقليات، وان دولتهم الجديدة ستقوم علي نظام فيدرالي إثني وطائفي معاً، وهو واحد من أغرب الفيدراليات التي عرفها العالم. وما ان بدأت الدولة الجديدة في التشكل، بتأسيس مجلس الحكم سيئ الذكر، حتي قسم العراقيون إلي سنة وشيعة، وإلي أكراد وعرب، وإلي مسلمين ومسيحيين. وما انطبق علي مجلس الحكم، انطبق علي الحكومات الانتقالية. ثم جاء مشروع الدستور الجديد ليعيد التوكيد علي تقسيم العراق وشقه علي ذاته، إدارة وحكماً وتمثيلاً برلمانياً ووطناً.يتفق أغلب العراقيين علي معارضة الغزو والاحتلال، ويتفقون علي ان هناك ظلماً شاملاً أصابهم جميعاً في ظل النظام السابق، وإن بدرجات مختلفة. ولكن أحداً لم ير العراقيين يخرجون في حركة شعبية عارمة تطالب بتقسيم البلاد عرقياً وطائفياً، بمعني ان النظام الذي أقامه الاحتلال لم يأت للاستجابة لمطالب شعبية وطنية عراقية، بل جاء نتيجة لتواطؤ ضمني بين مديري الاحتلال وحفنة من السياسيين العراقيين الذين وضعوا أنفسهم في صف الغزو والاحتلال. وهنا أخذ مشروع التقسيم في محاولة تأسيس مواقع شعبية له. حفنة من السياسيين الطائفيين، من اللصوص والطامعين في ثروة البلاد وقوت شعبها، من المنظمات السياسية المحترفة، فشلت في تقديم نفسها إلي العراقيين بصفتها قوي وطنية فلجأت إلي كهف الخطاب الطائفي التقسيمي المظلم لتسويغ الامتيازات ومواقع السلطة والحكم التي منحت لها من إدارة الاحتلال. صاغت هذه القوي، التي يتصف أغلبها بجهل العراق وشعبه، تاريخاً جديداً للعراق وطوائفه وأعراقه، وتاريخاً جديداً للدولة العراقية وسياساتها، وتاريخاً آخر للوطن العراقي. أصبحت أساطير الاضطهاد الطائفي صناعة، احترفها رجال دين وسياسيون ركيكون، ومراكز إعلامية رخيصة الخطاب والحرفة. ولم يكن مستغرباً بالتالي أن يبدأ العراقيون في اكتشاف هويات لم يعرفها تاريخهم السياسي من قبل، وأن تبدأ جدران الخوف الطائفي في الفصل بين شمالهم ووسطهم وجنوبهم، بين الجار وجاره، الطالب وزميله، بل والرجل وزوجته. فجأة، اكتشف أبناء تميم وشمر والدليم أنهم شيعة وسنة، واكتشفت أبناء أسر بأكملها أن عليهم مخاصمة أخوالهم وأجدادهم من الطائفة الأخري. ولم يعرف تاريخ الأمم والشعوب ما عرفه العراق خلال العامين أو الثلاثة الماضية، عندما أخذ من يدعون أنهم أكثرية سكان العراق في الدعوة إلي تقسيم الوطن إلي كانتونات طائفية متصارعة، لا يعرف أحد أين يبدأ(40/94)
حدود الشيعة فيها وأين تنتهي حدود السنة. وفي حين يعرف أكثر العراقيين لغة التطرف واستباحة الدماء التي تحاول التغطي بغطاء المقاومة، وينكرونها، فإن تكفيريين قتلة يقفون علي رأس قوي سياسية ويحتلون مقاعد وزارات جعلوا منها مراكز لعصابات الاغتيال الطائفي والتعذيب والاختطاف علي الهوية.ما شهده العراق في الأسبوع الثالث من هذا الشهر لم يكن انفجاراً طارئاً، كما يقول الاعتذاريون بحسن نية، ولا هو سمة متأصلة في الشخصية العراقية، كما يحاول الجهلة والسفهاء التأكيد. هذا نتاج طبيعي ومتوقع لنظام سياسي أريد له، بوعي أو بدون وعي، ان يوصل العراق إلي ما وصل إليه، ولمنطق سياسي أريد له ان يزرع الخوف بين الطوائف، ولنمط حكم أريد له تشظية الشعب وإقامة هوة من الدم بين جماعاته وقواه. ومن العبث التعامل مع هذا الانفجار باعتباره حدثاً عابراً يمكن حصاره بعدد من اللقاءات بين بعض المسؤولين وقادة الأحزاب والعلماء. مثل هذا الجهد وهذه اللقاءات ضروري لوضع حد لسفك الدماء ومنع الأوضاع من التفاقم والتصعيد، ولكن العلاج الحقيقي يتطلب جهداً أكبر وأوسع وأكثر عمقاً.
علي القوي الإسلامية الشيعية، محل ثقة الأمة، داخل المنطقة العربية وخارجها، ان ترفع الغطاء عن الجماعات الطائفية الانفصالية التي تحاول إغراق العراق في الدم خدمة لمصالح سياسية صغيرة. لم يعد من الممكن ان تقوم هيئة علماء المسلمين في العراق واتحاد العلماء المسلمين (الذي يقوده الشيخ القرضاوي) بالتبرؤ من الزرقاوي وأمثاله، بينما تقوم القوي والشخصيات الشيعية العربية بتوفير الغطاء والاعتذار للطائفيين القتلة في العراق. التنظيمات التي تقودها عمائم هي أكثر خطراً من تلك التي يقودها نكرات، وإن كان للمسلمين أن يحافظوا علي وحدتهم داخل العراق وخارجه، فلا بد من عزل جميع القتلة، التكفيريين والطائفيين، سنة وشيعة. علي الإسلاميين العرب جميعاً، سنة وشيعة، ان يعلنوا موقفاً واضحاً وصلباً ضد مشاريع تقسيم العراق، باسم الفيدرالية أو بأي اسم آخر، وأن يطالبوا بإلغاء الدستور المسخ الذي وضع تحت ظل ظروف شاذة من الاحتلال وسيطرة عناصر لم تكن وليس من المتوقع ان تصبح محل إجماع من العراقيين، دستور تم تمريره في أجواء من الخوف الأهلي والاستقطاب الطائفي، وبوسائل التزييف والعبث بأصوات العراقيين. وعلي القوي العراقية الوطنية، إسلامية كانت أو غير إسلامية، مقاومة كانت أو غير مقاومة، ان تستمر في رفضها للوضع الراهن ولكل ما ولد من رحم نظام الاحتلال، حكومة ودستوراً ونظاماً انتخابياً وجيشاً وقوي أمنية. هذا العراق غير قابل للحياة، لا بمقاييس تاريخ العراق ذاته، لا بالمقاييس العربية والإسلامية، ولا حتي بمقاييس أهل الرأي داخل الولايات المتحدة وأوروبا. وعبثاً يحاول البعض ترقيع هذا المولود المشوه بتعديل دستوري هنا واتفاق حزبي هناك. الخطأ هو في جوهر وأساس هذا العراق، وهو ما يستدعي إعادة بنائه في ظل ظروف مختلفة تماماً عن الظروف التي سادت منذ الاحتلال. بدون ذلك، فسيظل العراق عرضة للانفجارات المتكررة، مرة بين السنة والشيعة، ومرة بين العرب والأكراد، مرة بين القوي الشيعية أو الكردية، وأخري بين القوي السنية، حتي يأتي يوم يقع فيه الانفجار الكبير حيث سيلغ الجميع في دم الجميع. وعندها لن يغرق العراق وحده، فكل الاجتماع المشرقي العربي ـ الإسلامي تعددي ومتنوع، إثنياً وطائفياً.أليست مجتمعات إيران وتركيا وسورية ولبنان والسعودية ودول الخليج هي مجتمعات تعددية؟ هل يمكن صناعة تفجير سني ـ شيعي في العراق، ومنع عواقبه من الامتداد إلي إيران والسعودية ولبنان، أم هل يمكن صناعة كيان كردي في شمال العراق، يهيمن بقوة السلاح علي جواره العربي، بدون أن تمتد عواقبه إلي سورية وتركيا وإيران؟ العراق هو صورة مصغرة للشرق كله، وسواء أراد العرب والمسلمون أم لم يردوا، فقد بات مفتاح الاستقرار لكل الشرق، عربه وفرسه وأتراكه وكرده. وهذا الاستقرار لن يستعاد من جديد بدون التخلص من الاحتلال ونظامه. الاحتلال هو المسؤول الأول عن تشظي الاجتماع العراقي، وهو المسؤول عن إقامة هذا النظام المشوه، وهو الذي زرع في رحم الدولة العراقية الجديدة عوامل الانفجار والانقسام والصراع الدائم. بدون نهاية الاحتلال لن يتحرر العراق من كوابيسه، ومن العبث تسويغ المطالبة باستمرار الاحتلال الأجنبي خوفاً من تداعي النظام وانفجار العنف الداخلي. فالنظام متداع علي أية حال، والعنف الداخلي يكاد الانحدار إلي حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ثم، أليست القوي المطالبة باستمرار الاحتلال هي ذاتها القوي الساعية إلي تقسيم البلاد، والتي تلعب الدور الرئيسي في تأجيج مناخ العزلة والخوف والثأر الطائفي؟وبعد، فخلف ما يشهده العراق درس لا يجب لكل صاحب نظر ان يغفله. إن ميزان قوي يقوم علي تدخل الأجنبي ووجوده سرعان ما سينهار، إما بخروج الأجنبي أو بقيامه بتغيير تحالفاته. ولشعوب هذه المنطقة ذاكرة طويلة وعميقة لن تنسي لأحد مواقفه وأفعاله.(40/95)
[انفجار العنف الأهلي نتاج لنظام طائفي تقسيمي، د. بشير موسي نافع، موقع هيئة علماء المسلمين ، مقالات بتاريخ 2/3/2006بتصرف ].
هل يتخلى شيعة العراق عن جرائمهم الطائفية؟
لم يكن مفاجأة لي أن أقرأ أن أكثر من مائة وخمسين من مقاتلي فيلق بدر إضافة إلى مائتين من مقاتلي جيش المهدي قد شاركوا في العمليات العسكرية التي نفذها الجيش الأمريكي مؤخراً في مدينة سامراء العراقية، وهم يرتدون ملابس مغاوير الداخلية؛ لإضفاء صفة شرعية أثناء اقتحامهم القرى السنية المحيطة بسامراء.
وانعدام المفاجأة بالنسبة لي ولغيري ينبع من سلوك الحكومات العراقية المتتابعة في عهد الاحتلال الأمريكي البريطاني، والتي يسيطر عليها الشيعة، حيث أكدت ممارسات هذه الحكومات المتعاقبة على المنحى الطائفي المتعصب، الذي ينطلق من تحميل السنّة مسئولية جرائم صدام حسين، ومن ثم الانتقام منهم، والحيلولة بين مشاركتهم في السلطة والحكم.
الحكومات العراقية إذن تغذي المشاعر الطائفية، والشواهد على ذلك بلا حصر، وهي تتضح في قائمة طويلة من الممارسات، لعل أحدها محاكمة صدام حسين على محاولة اغتياله في الدجيل، وهو الحادث الذي وقع في عام 1982. فلماذا إذن انتقاء هذا الحادث تحديداً وإسقاط كل الممارسات التي وقعت قبله وبعده، الإجابة معروفة وهي أن ما جرى في أعقاب محاولة الاغتيال هذه استهدف الشيعة، وهم الآن يريدون الانتقام.
مسئول دولي يفضح ميليشيات الشيعة
ولم يكن مفاجئاً كذلك اتهام جون بيس، الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في العراق، فيلقَ بدر بالوقوف وراء مئات حالات الإعدامات في البلاد, موضحًا أن ضحايا الإعدامات يمثلون الآن ثلاثة أرباع الضحايا الذين تتسلم دائرة الطب العدلي جثثهم كل أسبوع.
جون بيس أكد للعالم أن جثث معظم الضحايا تحمل أيضًا آثار تعذيب، وحمّل بيس فيلق بدر مسؤولية هذه الإعدامات، وقال إن الأغلبية العظمى للجثث ظهرت عليها علامات إعدام عاجل، والكثيرون رُبطت أيديهم وراء ظهورهم، وتظهر على البعض آثار التعذيب، مع كسور في مفاصل السيقان والأذرع من جراء استخدام المثاقب الكهربائية.
هذا المسئول الدولي، الذي هو بكل تأكيد غير سني وغير معادٍ للشيعة، أكد أيضاً أن السجلات، المدعمة بالصور لهذه الانتهاكات الخطيرة، جاءت من معهد بغداد للطب العدلي، والتي سُلّمت إلى الأمم المتّحدة. وقال إن مشرحة بغداد تسلّمت أكثر من سبعمائة جثة في الشهر. وبلغت الأرقام الذروة في يوليو/تموز الماضي حيث بلغت 1100 جثة، الكثير منها تحمل آثار التعذيب.
وكشف هذا المسئول الدولي عن فرار فائق بكر مدير مشرحة بغداد، هارباً من العراق؛ خوفًا على حياته بعد كتابته تقارير تؤكد بأنّ أكثر من 7.000 شخص قتلوا من قِبل فرق الموت الشيعية في الأشهر الأخيرة.
حتى السفير الأمريكي !!
أما السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زاد فإنه يواجه حملة عدائية شرسة تشنها ضده قوى وشخصيات سياسية شيعية عراقية تتهمه بالانحياز للسنّة، وإطلاق تصريحات تشجع على الإرهاب وتهيئ لحرب أهلية طائفية.
وسبب هذه الحملة هي تصريحات خليل زاد الشهيرة عن رفض تولي 'أشخاص طائفيين' لحقيبتي وزارتي الداخلية والدفاع، وحديثه عن جرائم ترتكبها مليشيات تابعة للداخلية، التي يتولاها قيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بزعامة عبد العزيز الحكيم، هو بيان جبر صولاغ وزير الداخلية الشيعي المتطرف.
الجنرال الأميركي جوزيف بيترسون، وهو أحد المسئولين عن تدريب العسكريين العراقيين، قال هو الآخر لصحيفة [شيكاغوتريبيون]: إن هناك فرقة موت داخل وزارة الداخلية العراقية، وهي مسئولة عن الكثير من جرائم القتل التي ارتكِبت في البصرة. وقال الجنرال الأمريكي: إن 22 من أفراد شرطة النجدة يرتدون زي قوات المغاوير أوقفوا في نهاية كانون الثاني الماضي شمال بغداد، بينما كانوا في طريقهم لتنفيذ عملية قتل رجل سني، وأن الوزارة عزلت أربعة من قادة ألوية الشرطة الخاصة بعد نشر الكثير من التقارير عما تقوم به وحداتهم من إساءات.
فيلق بدر ذروة التطرف الشيعي
لقد دخلت العراق حشود من الشيعة العراقيين الذي عاشوا في المنفى الإيراني عقودًا من الزمن، تحت لواء 'المجلس الأعلى للثورة الإسلامية' و'حزب الدعوة الإسلامية'، محملين بأثقال من روح الثأر والانتقام الأعمى، تقودهم قيادات انتهازية تستبيح كل شيء في سبيل تحقيق حلمها التاريخي بحكم العراق والهيمنة عليه، حتى ولو كان ذلك من خلال امتطاء دبابات دولة محتلة طالما وصموها بوصمة 'الشيطان الأكبر'. وقد ارتكبت الميليشيات التابعة لهذين الحزبين فظائع ضد أهل السنّة، متسترة بستار وزارة الداخلية والدفاع العراقيتين اللتين تسيطران عليهما، أو بستار الشرطة والجيش الوطني، وما ثَمَّ جيش وطني في العراق اليوم، وإنما هي ميلشيات طائفية بغيضة تتسمى باسم الجيش العراقي.
وقد تشكّل فيلق بدر نهاية عام 1980 من ذوي الأصول الإيرانية الذين أبعدهم صدام حسين إلى إيران، ومن الأسرى العراقيين في إيران. إذ كان الخيار بينهم إما الموت أو الدخول في فيلق بدر.(40/96)
وكانت مهمة بدر هي حفر الخنادق الأمامية للجيش الإيراني في الحرب مع العراق. ثم أصبح جزءًا من القوات الإيرانية وبقيادة ضباط من حرس الثورة الإيرانية. وقد انضم العديد من العراقيين منهم لمنظمة بدر؛ تخلصًا من التعذيب الذي كان يواجههم في أقفاص الأسر في إيران، وأصبح عددهم 35ألف مقاتل.
وكانت مهمة فيلق بدر هي قتل الأسرى العراقيين وتعذيبهم، وكان ذلك بقيادة باقر الحكيم. وقد ارتكب فيلق بدر العديد من المجازر بحق الأسرى العراقيين راح ضحية هذه المجازر عشرات الآلاف منهم.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق دخلت قوات بدر مع الاحتلال. وبالنظر لقيام بريمر بحل المليشيات الخاصة بموجب قراره المرقّم 96 أعلن فيلق بدر أنه أصبح منظمة سياسية.
وحصل فيلق بدر على أسلحة كبيرة من العراق، وأقام معسكرات تدريب في إيران. واستغل الحالة المعاشية للمواطنين، وعمل على فتح التطوع وإرسال المتطوعين إلى إيران للتدريب قرب الحدود العراقية.
ومنذ دخول فيلق بدر توزّعت قواته على عدة تشكيلات، فكان منها قوة المختار التي تتولى اغتيال البعثيين، خاصة في المدن الجنوبية وجميعهم من البعثيين الشيعة. وكان هناك أيضاً قوة الثأر والانتقام وتقوم باغتيال المسئولين السابقين في جهاز المخابرات والجيش والأمن.
وكان هناك كذلك المتطوعون في الشرطة العراقية من أعضاء فيلق بدر ومهمتهم اغتيال السنّة.
ومن تشكيلات فيلق بدر أيضاً المتطوعون في الجيش العراقي، ومهمتهم مساعدة القوات الأمريكية في عملياتها العسكرية في مدن السنّة.
وقد اشترك فيلق بدر في العديد من العمليات مع القوات الأمريكية في مناطق متعددة في العراق في مدن السنّة، مثل الموصل وبعقوبة وتلعفر والفلوجة والرمادي والقائم واللطيفية.
جرائم 'بيان جبر' المتطرف
لقد عمدت مليشيات الشيعة، وعلى رأسها فيلق بدر، إلى أساليب الاغتيال والتهديد والتهجير والإرهاب التي طالت أئمة المساجد والعلماء والأطباء والأساتذة والطيارين، وكل قوى الشعب العراقي الرافضة للغزو، وقد تم تهديد وتهجير مئات العوائل السنية من مساكنهم في محافظات الجنوب.
واستولت هذه المليشيات على تشكيلات وزارة الداخلية التي تولاها بيان جبر صولاغ، وشرعت في تنفيذ حرب طائفية قذِرة ضد أهل السنّة ورواد المساجد.
إن وزارة الداخلية العراقية ضالعة في الإرهاب والتعذيب وقتل الأبرياء في ظل أجهزة صولاغ، ومليشيات العامري، وفي ظل حكومة الجعفري المتستر على فضائح السجون السرية في ملجأ الجادرية وفي أرجاء العراق، وهو المسئول الأول عن الجرائم التي طالت أئمة المساجد والعلماء، من تعذيب وتمثيل وتثقيب للرؤوس بالمثقب الكهربائي بأساليب لم تشهد لها البشرية مثيلاً.
كل الخبراء العرب والأجانب يؤكدون سيطرة ميليشيا فيلق بدر على وزارة الداخلية ابتداءً من 12 -5 - 2005م، وهو اليوم الذي تسلّم فيه صولاغ مهام وزارة الداخلية، حيث قام بإصدار أوامر بضم منظمة بدر الشيعية إلى الوزارة؛ حتى تكون جرائمها تحت ستار ومظلة القانون، في الوقت الذي أبعد فيه الضباط والقادة السنّة عن وزارة الداخلية.
ولعل أبشع الفضائح التي واجهت وزير الداخلية الشيعي المتعصب بيان جبر صولاغ هي جرائم التعذيب الوحشية التي ارتكِبت مؤخرًا ضد 176 معتقلاً في مركز اعتقال تابع لوزارة الداخلية العراقية بضاحية الجادرية جنوبي بغداد.
وليست هذه هي المرة الأولي التي تُتهم فيها حكومة إبراهيم الجعفري، وتحديداً وزارة الداخلية، بإساءة معاملة المعتقلين في سجونها. وما أن شاع خبر هذه الفضيحة حتى أسرع الجعفري بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق في الحادث, كما سارع صولاغ بتشكيل لجنة خاصة لمتابعة القضية. والمقصود من هذه اللجان هو تهدئة الأوضاع فقط ليس أكثر.
[هل يتخلى شيعة العراق عن جرائمهم الطائفية؟ ، د. علي عبد الباقي ، موقع مفكرة الاسلام ، تقارير رئيسية ، الاثنين 1 مايو 2006م ].
التطرف الديني ظاهرة خطيرة
الشيخ د. محمد بشار الفيضي الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق المتطرفون الغربيون هم سبب التطرف الديني ولو تركونا وشأننا لم ينشأ في بلادنا.
س / كيف يمكن للإسلام - من منطلقاته الصحيحة والجوهرية - الدفاع عن ثوابته أمام التطرف الديني في هكذا ظروف كلفتنا الكثير من الدماء؟
ج / التطرف الديني ظاهرة خطيرة لكن من وجهة نظري فالمسلمون أنفسهم لم يقفوا وراء نموها، بل كان من أوجدها وسعى في إنمائها الغربيون ممن يحملون التطرف الديني، فقد عملوا منذ مدة ليست بالقصيرة على مصادرة ما يمتلكه المسلمون من معطيات ومصادرة حرياتهم في إسقاط هذه المعطيات على واقعهم، ووصل الأمر بالغرب إلى حد التدخل العسكري في البلدان الإسلامية تحت ذرائع غير مقنعة وبعد مسيرة طويلة من التدخل الثقافي والاجتماعي عبر حكومات تواطأت معهم أو منظمات أو غير ذلك.(40/97)
هذا الفعل السيئ ولد فعلاً سيئاً آخر في الاتجاه المعاكس، بمعنى أن التطرف الديني الغربي هو من أوجد في بلادنا التطرف الديني الشرقي والقاعدة الفيزيائية تقول لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، وأنا أعتقد لو أن الغرب تركنا وشأننا نختار لحياتنا ما نحب لم ينشأ في بلادنا أي تطرف ديني.
س / هنالك فهم دولي خاطئ تجاه ديننا الحنيف، فمنهم من يتهم الإسلام بالإرهاب، وهنالك أيضاً دعاة من أجل نشر فضيلة الدين إلى كل بقاع العالم، ولأن ديننا بريء من كل الدماء التي أزهقت بالباطل, فما هو تعليقكم من أجل فهم الدين بأنقى ما نريده كي يفهم من يريد بهذا الدين الأذى؟
ج / ليس في ديننا الحنيف أي معنى من معاني الإرهاب. والمتأمل في تشريعات هذا الدين لا يجد عناء في فهم ذلك. يكفي أن الإسلام أباح للمرء حرية المعتقد والتدين مع وجود أديان فيها كفر وشرك كما في قوله تعالى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ).
كلمة الإرهاب - بمعنى مصدر الأذى للآخرين - كلمة صنعها الغرب وسخر آلاته الإعلامية الضخمة لترويجها إلى الحد الذي قلبت فيه الموازين، فنجد رئيس حكومة كشارون يقتل يومياً من المدنيين والأطفال والنساء ما يشاء ويهدم بيوتهم ويسمي ذلك حرباً على الإرهاب في حين يوصف من يدافع عن أرضه ويعمل لإخراج المحتل بأنه إرهابي. هذه الكلمة أعني الإرهاب أصبحت ممجوجة لدى الذوق العام بسبب التطبيقات السيئة والمتناقضة لمن وضعها.
س / كيف نعالج المفاهيم التي مررت من خلال التدليس المتعمد ضد هذا الدين؟
ج / لن نجازف بالقول إن التطرف الديني لا وجود له في بلاد المسلمين، فهذا مجانب للصواب، هنالك تطرف ديني سببه كما بينا تطرف ديني طرأ علينا من جهة الغرب. ونحن المسلمين نرفض التطرف الديني بكل أشكاله سواء أكان في بلاد الغرب أم في بلاد المسلمين ونعمل على احتوائه وانتزاع عوامل تأجيجه.
ولكن المشكلة أننا من الممكن أن ننجح في جوانب من خلال جهودنا في التوعية الإسلامية وكشف الغشاوة عن المبتلين بهذا المرض، ولكننا في جوانب أخرى سنخفق؛ لأنها متعلقة بأسباب لا نملك قطعها، فلسنا نملك القدرة في هذه المرحلة لنقطع دابر التدخل الغربي في شؤوننا وخصوصياتنا على مستوى العالم الإسلامي، وما دام هذا التدخل قائماً فإن التطرف يبقى نامياً.
ولذا فأنا أقول دائماً إن الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة الزمنية هي من رعت الإرهاب وأنمت غراسه في العالم بسبب سياساتها الخاطئة وحقدها على معطيات ديننا التي مثلت فيها الذروة على عهد الرئيس الحالي جورج دبليو بوش.
س / بماذا تنصح المسلمين في هذا الظرف العصيب الذي تمر به الأمة الإسلامية؟
ج / أنا أتوجه بالنصح أولاً إلى من يمارس التطرف الديني في بلادنا أن لا ينزلق إلى أسلوب رد الفعل، وأن يتعامل منطلقاً من ثوابتنا الدينية؛ لأن رد الفعل غالباً ما يكون خارجاً على هذه الثوابت وتتحكم فيه النوازع البشرية.
ويجب أن لا ننسى أن رسالتنا الإسلامية خالدة، ويجب أن نعمل على بقائها خالدة، والتصرف برد الفعل يضر بهذا الخلود، لو تذكرنا فتح مكة حين دخل الرسو صلى الله عليه وسلم منتصراً ووقف أمام أعدائه وهم أذلاء كان بمقدوره أن يصدر أمراً بالإشارة ليقتل كل أعدائه ويجعل من باحات مكة مذابح للرجال، لكن صلى الله عليه وسلم لم يتصرف برد الفعل وهو النبي المعلم، بل عفا عن أعدائه وكأنهم لم يؤذوه ووهبهم الحرية وكانوا يتمنون الحياة ولو أرقاء.
وبهذه الخطوة النبوية بدأت لحظات الخلود بالرسالة الإسلامية، ولو أنه عليه الصلاة والسلام أعمل فيهم السيف لم يكن الإسلام ليبسط ذراعه على طرفي العالم، وهكذا ينبغي أن نكون فالتطرف الديني يلحق بنا خسائر أضعاف ما يلحق بأعدائنا.
س / بماذا تنصح الشباب المسلم في عصر الشبكات العنكبوتية التي من جوانبها السلبية النيل من القيم والأخلاق؟ وكيف السبيل لإخراجه من عتم الثقافات المستوردة؟
ج / لم يعد بالإمكان في هذه المرحلة العيش بمعزل عن العالم، والذين كانوا يفتون بحرمة التلفاز وأجهزة الإعلام الأخرى لم يعد الناس يلتفتون إلى فتواهم لعموم البلوى، لذلك لا بد من التعامل مع هذه الظاهرة بحكمة لا سيما وأنها سلاح ذو حدين بقدر ما فيها من تدمير يمكن أن يكون فيها خير، وهذه مهمة جيلنا الجديد أن يقتحم هذا العالم بثقة ويحسن استخدامه لخدمة دينه ووطنه وذاته.
وأنا شخصياً لم أعد أخشى كثيراً من الثقافات المستوردة؛ لأنه بعد الحرب على العراق كشفت النوايا وتبينت للعالم الإسلامي على اختلاف مستويات أبنائه أن وراء هذه الثقافة نفساً استعمارياً خطيراً، ولذا بدأ الضعف يدب في التعامل مع هذه الثقافة. والفرصة سانحة لإيجاد البديل الذي يسد حاجة مجتمعاتنا ويرضي تطلعاته، وهذه كما قلت مهمة جيلنا الجديد.(40/98)
س / هنالك صدى لجريدة البصائر التي تديرها لما تحتويه من مواضيع تخدم الجيل وتطور - حسب منهج الدين - السياسة. وكذلك تخلق توازناً معرفياً بين واقعية الحياة والالتزام، وهذا ما يشدنا للتمحيص في هذه المباحث التي تعبر عن رؤية مفتوحة باتجاه الخير. هل ستفتح منافذها على العالم الإسلامي كتعميم يخدم المرحلة؟
ج / بالنسبة لجريدة البصائر لست من يديرها بل أعمل مستشاراً فيها، وهي تنطق بلسان حال هيئة علماء المسلمين هذه الهيئة المباركة التي تأسست فور سقوط النظام السابق، وعملت على سد النقص السياسي والديني والإداري في مجتمعنا.
والبصائر كانت منها خطوة في هذا الاتجاه، لذلك - على ما أظن - ستبقى في هذه المرحلة قطرية، ولن تخرج عن مواصفات المرحلة التي تتمتع بها الآن؛ لأنها بصدد تأدية واجب معروف، ويوم ينتهي الاحتلال وتعود للبلد حريته وسياسته فمن الممكن للبصائر أن تفتح منافذها على العالم الإسلامي.
س / بماذا تنصح المسلمين في العراق والديانات الأخرى؟ وهل ترى المستقبل بعين البصيرة تجاه هذا البلد الذي يريد خير البشرية جمعاء؟
ج / أنا ابتداء قلت أكثر من مرة إنني متفائل بمستقبل العراق، ولدي يقين بأن العراق - وقد أراد له أعداؤه أن يكون نكسة للعالم الإسلامي - سيكون سبباً للنهضة في هذا العالم، ووقائع الأحداث بدأت تبشر بذلك، والولايات المتحدة الأمريكية اليوم في وضع لا تحسد عليه، ودخولها إلى العراق وما جرّ ذلك عليها من تداعيات جعلها اليوم على حافة من الانزلاق إلى الأفول بدأ عده التنازلي.
لذلك فإن المطلوب من أبناء العراق على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم أن يعوا أهمية المرحلة التي يمر بها بلدنا وعظم المهمة المناطة بأبنائه، فهم مرشحون في تقديري لقيادة العالم العربي والإسلامي قيادة فكر وتجربة ونهضة، وعليهم أن يؤدوا هذا الدور بأمانة، وبطبيعة الحال لا يمكنهم النجاح ما لم يعملوا كاليد الواحدة.
وأنا أشبه العراقيين دائماً بحزمة الضوء التي تضم ألواناً زاهية لا تبدو للناظر إلا حين ينكسر شعاعها ويتم تحليله إلى عناصره الأولية، فالعراق جميل بتعدد أطيافه أدياناً ومذاهب وقوميات.
س / ماذا تعني السيادة الآن من وجهة نظر الشريعة؟ وهل هي فعلاً سيادة كاملة كما يشاع؟ وما السبيل لجعلها سيادة كاملة؟
ج / لا يختلف اثنان على أن عراقنا اليوم لا يتمتع بسيادة، وأن الاحتلال لم ينقطع عن هذه الأرض سوى أنه انتقل من صورة إلى صورة. لا يمكن لشعب أن ينال الحرية والسيادة وعلى أرضه 150 ألف مقاتل مدججون بالسلاح يقطعون البلاد طولاً وعرضاً ويملؤون سماءه بالطائرات المقاتلة.
ما زلنا رهن الاحتلال، والحكومة الحالية منبثقة منه، ولا أظنها ستحل المشكلة، بل ربما إذا لم تحسن التصرف فستزيد السوء سوءاً والطين بلّة. السيادة تكون للبلد يوم يحكم نفسه بنفسه ويختار دستوره بإرادته ويتصرف بثرواته وفق مصالحه ولا يقف على أرضه غير أبنائه، وأي غض من هذه المعاني مكابرة لا قيمة لها والأمريكيون واهمون جداً حين ظنوا أن فكرة هذه الحكومة ستقنع العراقيين.
س / هل من المؤمل أن تخرج قوات الاحتلال وتدع العراقيين يديرون شؤونهم بأيديهم أو ستبقى تماطل بالحجج؟ وبماذا تنصح القادة المدنيين الجدد الذين تسنموا سلطة العراق كأمانه في أعناقهم؟
ج / ابتداء من الممكن أن تخرج قوات الاحتلال وليس ذلك مستحيلاً، ولكن ما يجب أن يعرفه الجميع هو أن قوات الاحتلال لن تخرج حتى تيأس من قدرتها على البقاء، فلقد أنفقت أموالاً باهظة في سبيل احتلالها العراق، وفقدت الآلاف من جنودها، ولن تخرج بسهولة، لكن يوم تشعر أن بقاءها سيجعلها تخسر المزيد من الأموال والمزيد من القوات، وأنه لا أمل في تغيير هذه المعادلة فإنها ستخرج حتماً وإن اقتضى ذلك خروجها على حين غرة كما حدث في الصومال، وأنا لا أظن أن الحكومة الحالية تغيب عنها هذه الحقيقة، ولكن ليس النجاح في الفهم وحده بل بالقدرة على توظيف هذا الفهم لمصلحة العباد والبلاد.
س / ما دور هيئة علماء المسلمين التي استحدثت أخيراً في خلق توازن إيجابي بين مختلف القوى السياسية والأطياف الدينية في العراق؟ وهل هناك تيار سياسي أو تمثيل للهيئة في الحكومة الجديدة؟
ج / هيئة علماء المسلمين منذ نشأتها عملت في ثلاثة اتجاهات:
الأول: وكان الأهم في بداية نشوئها العمل على نزع فتيل الطائفية من خلال التواصل مع المراجع الدينية من كل الأطياف وفتح الحوار العقلاني وإصدار الفتاوى المشتركة لبيان حرمة دماء أبناء الوطن.
والاتجاه الثاني: رعاية المساجد التي فقدت مع مطلع الاحتلال الإدارة المؤسساتية لرعايتها.
والاتجاه الثالث: التثقيف ضد الاحتلال وبيان نواياه وأهدافه الخطيرة.
وهي لما تزل تعمل في هذه الاتجاهات الثلاثة، وإن كان عملها في الاتجاه الثاني ضعف لسبب تشكيل ديوان للأوقاف يتولى شؤون المساجد.(40/99)
ويجب التنبيه هنا إلى أن هيئة علماء المسلمين ليست حزباً سياسياً ولا حركة سياسية إنما هي مرجعية دينية، وقد اضطرت في كثير من الأحيان إلى الوقوف مواقف سياسية بسبب خلو الساحة من المعارضة السياسية وانخراط كثير من الأحزاب الوطنية ومنها الدينية في الجانب المسالم لقوات الاحتلال.
أما بالنسبة للتمثيل في الحكومة الجديدة فقد بينت الهيئة موقفها أكثر من مرة بهذا الصدد وهي أنها لن تشارك في أية عملية سياسية تقوم في ظل الاحتلال، وهذا مبدأ لا يمكن التنازل عنه.
س / كلمة أخيرة موجهة إلى أبناء المسلمين وشبابهم في العراق؟
ج / أنا أذكرهم بحقيقة يؤمن بها كل إنسان في العالم وهي أن الاحتلال مرّ وأن الحرية والسيادة حق، وعليهم أن لا يقبلوا بالمرّ على حساب الحق مهما كان الثمن غالياً، وهذه الكلمة ليست موجهة إلى المسلمين في بلادنا فحسب بل إلى كل عراقي وعراقية.
أجرى الحوار: الشاعر والصحفي عبد الكريم الكيلاني
[المتطرفون الغربيون هم سبب التطرف الديني ، د. الفيضي، موقع هيئة علماء المسلمين ، مقابلات صحفية بتاريخ 28/5/2006 بتصرف ].
سياسة التطهير الطائفي في جنوب العراق
( البصرة .. حقائق وأرقام )
خاص - الهيئة نت - بلغ عدد العوائل المهجرة من البصرة منذ بداية الاحتلال وحتى إعداد هذا التقرير ما يقارب من 2000 عائلة كان أكثرهم قد غادر البصرة بعد أحداث سامراء حيث تلقت أكثر العوائل تهديدات بالقتل والتمثيل من جهات مجهولة عبر منشورات ألقيت في منازلهم ورسائل ومكالمات عبر أجهزة الهاتف النقال تتهمهم بأنهم أعداء لآل البيت.
وفقد آخرون أبناءهم وإخوانهم بسبب الاغتيالات والاعتقالات فكان هذا سببا بترك أكثر من 800 عائلة منهم العراق إلى بلدان أخرى في حين فضل الباقون الانتقال إلى محافظات أخرى يشعرون فيها بشيء من الأمان علّهم يرجعون يوما إلى منازلهم.
وبلغ عدد الشهداء المغدورين عقب أحداث سامراء أكثر من (180) شهيدا وشهيدة من مختلف الاختصاصات وعلى النحو الآتي:-
1.أئمة وخطباء مساجد.
2.أطباء.
3.أساتذة جامعات ومعاهد.
4.معلمون ومدرسون.
5.قضاة.
6.محامون.
7.موظفون في شتى الدوائر.
8.كسبة.
كما تم اغتيال 12عراقيا ما بين مهندس وعامل في ساحة سعد وسط البصرة ومثل بجثثهم ووضع على الجثث قصاصات ورقية فيها تهديد وتوعد للسنة بترك العمل في الدوائر والشركات لئلا يصيبهم ما أصاب هؤلاء بعملية بشعة بعد دخولهم إلى الشركة المذكورة إمام انظار ومسمع من الناس علما انه لم يتم التحقيق في أية جريمة من هذه الجرائم من قبل جهاز الشرطة بتاتا.
هذا وقد شهد الشهر المنصرم اغتيال كل من:-
- الشيخ خالد السعدون
-الأستاذ طارق السعدون
-احمد عبد المطلب
-الشيخ خليل جابر
-وولده - احمد خليل جابر ( 12سنة استشهد مع والده بعد صلاة الجمعة مباشرة )
-سامي جاسم محمد المنصور
-عبد العزيز نوري سلطان الحزبة
-عماد المرابحي
-قحطان عدنان معتوق
-جاسم محمد الراشد
-علي فالح
-هشام الدغمان
-قيس جاسم
-نوفل احمد العقرب
-حيدر شبوط
-محمد داود
-توفيق العرادة
-احمد عيسى
-جلال مصطفى الشنان
- علي الشناوة (مقدم مرور)
-جاسم الهجول
-عادل صكر
-عبد الله محمد علي العيثان
-فرقد عبود الخالدي
-سعود عبد العزيز
- ضياء ابو نور
-شعيب يوسف
-عبد القادر ابو ايمان
-عمار نادر
-منتظر حكمت الشريدة
-سالم داود النجدي
-رضوان كامل العبد الله
-محمد عبد المعبود الغانم
-هيثم موفق
-ميمونة عبد الكريم الحمداني
-شريف عبد الله الحلاق
-خليل ابراهيم الشاهين
-خليل ابراهيم الدوسري
-عبد الله فايز
-شاكر الدليمي
-مهدي محسن نعمة
-يحيى شاكر
-حارث مصعب عبد الجليل
-عبد الوهاب حمزة محمود
-علي جاسم
أسماء التدريسيين الذين تمت تصفيتهم من جامعة البصرة:-
الأستاذ الدكتور/ أسعد سليم الشريدة كلية الهندسة
الأستاذ/ خالد الشريدة كلية الهندسة
الأستاذ الدكتور/ علاء داود الدراسات التاريخية
الأستاذ الدكتور/ حيدر البعاج كلية الطب
الدكتور/ غضب جابر عطار كلية الهندسة
الدكتورة/ كفاية حسين صالح كلية التربية
الدكتور/ جمهور كريم خماس كلية الآداب
الدكتور/ عبد الحسين ناصر خلف كلية الزراعة
الدكتور/ عمر فخري كلية العلوم
الدكتور/ سعد الربيعي كلية العلوم
الدكتور/ كاظم مشحوت عودة كلية الزراعة
الدكتور/ عبد الله حامد الفضل كلية الطب
الأستاذ/ صلاح عزيز هاشم المعهد الفني
الدكتور/ سلطان عبد الستار سلطان المعهد الفني
الدكتور/ عبد الكريم حسين ناصر كلية الزراعة
يتضح أن معظم الأكاديميين في البصرة خصوصاً وفي العراق عموماً يتعرضون لتصفية خطيرة حيث تم قتل الكثير منهم وتشريد الآلاف واختفاء المئات وبهذا يتعرض العراق لاستنزاف خطير للعقول العلمية، إلا أن ما يجري في البصرة هو نوع من إرهاب وتخويف مئات من الأساتذة من جامعة البصرة حاليا الأمر الذي أدى إلى هروب بعضهم إلى خارج العراق والبعض الآخر داخل العراق وهذا بحد ذاته استنزاف رهيب لعقول العراقيين ونوع من التصفية الخطيرة.(40/100)
ومعظم التدريسيين مستاءون من هذه الأوضاع وأصبح القلق والشك يتسلل إليهم وهذا ما ينعكس سلباً على العملية التربوية في مخطط واضح لاجتثاث الأفكار الرافضة للعملية التقسيمية والمتعارضة مع مفهوم إقليم الجنوب، وكذلك لتكريس سلطتهم الطائفية من خلال رفع وإبعاد جميع الأفكار التي تشكل عائقا أمام مخططاتهم.
بلغ عدد المعتقلين في سجون الأجهزة الأمنية أكثر من ( 370 ) معتقلا قتل بعضهم بعد أحداث سامراء على أيدي مجاميع دخلت تلك المعتقلات وأخرجتهم إلى مناطق مهجورة وقامت بإعدامهم بعد تعذيبهم، حدث هذا في التسفيرات وسجن الاستخبارات والشؤون أمام أعين حراس تلك المعتقلات, وأطلق سراح البعض منهم فيما لا يزال ما يقرب من ( 200 ) في المعتقلات المعلومة والمجهولة منها.
بلغ عدد الجوامع والمراقد التي تعرضت إلى الاعتداءات بعد أحداث سامراء ( 9 ) هي:-
1.جامع السلام - في الطويسة
2.جامع العشرة المبشرة - وقد احرق بالكامل ولا يزال شاهدا على الجريمة
3.جامع الحمزة
4.جامع المصطفى - في حي الجامعة
5.جامع الفيحاء - في الأمن الداخلي
6.جامع الفاروق - في الجبلة
7.جامع الكويتي - في حي الجزائر
8.مرقد سيدنا طلحة بن عبيد الله - في الزبير
9.مرقد سيدنا انس بن مالك - في الشعبة بنسف القبر
يذكر أن هذه الإحصائيات هي أقل بكثير مما يجري على أرض الواقع والسبب يعود إلى خوف الناس من كشف أسماء أبنائهم وذويهم من المعتقلين والشهداء والمهجرين مخافة أن تبطش بهم الأجهزة الأمنية والمليشيات المتعاونة معها ولكن ستظهر الحقائق يوما ما لتبهت العالم وهي تكشف لهم عن مدى الظلم والقهر والاذلال الذي يعيشه أبناء العراق عموما والبصرة خصوصا في القرن الواحد والعشرين على أيادي الأمريكان المحتلين والمتعاونين معهم الذين يدعون التحرير ونشر الديمقراطية وبناء عراق جديد!!.
*كما قامت - في وقت لاحق ( الجمعة 16/6/2006م) مجموعة مرتزقة تسندها قوات حكومية باغتيال :
[- فضيلة الشيخ الدكتور يوسف بن يعقوب الحسان أمام وخطيب جامع البصرة الكبير ، ورئيس هيئة علماء المسلمين في جنوب العراق ، ومفتي البصرة وعالمها ..]، أضيف لاحقاً ، وسيتم نشر رسالة خاصة عن ملابسات الحادث وأسبابه ، مع سيرة ذاتية للشيخ رحمه الله ..
وفيما يلي سرد لأهم الاحداث التي حصلت في البصرة خلال الايام القليلة الماضية :
لجمعة 5/5/2006م
*استشهاد اثنين من اهل السنة واغتيال أستاذ جامعي
شهدت مدينة البصرة أحدث موجة من الاغتيالات لأهل السنة, حيث تم اغتيال ثلاثة منهم وإصابة اثنين آخريْن بجروح.فقد اغتيل الأخ ليث موفق فاضل, في محله التجاري بمنطقة 'حي الجمعيات' وسط البصرة, عندما هاجمه مسلحون يستقلون سيارة مجهولة؛ فأردوه قتيلاً على الفور.
وكان ليث أحد المصلين بمسجد 'المناصير', وقد تعرّض المصلون بمسجد 'المناصير' لأبشع حملة اغتيالات وتصفيات, حيث بلغ عدد القتلى منهم قرابة 15 مصليًا.
كما قُتل الأستاذ قحطان عدنان معتوق - مدير مدرسة 'ابن أم مكتوم الابتدائية' في الزبير وعضو المجلس البلدي - حيث اغتاله مسلحون في مركز مدينة البصرة.
كما تم اغتيال حيدر شبوط, وهو من المصلين بمسجد 'الأجبال', حينما أُطلقت عليه النيران أمام منزله في منطقة 'الأجبال' جنوبي البصرة؛ ما أدى إلى مقتله, وإصابة اثنين آخريْن بجروح.
يشار إلى أن حيدر شبوط تعرّض للاعتقال عدة مرات؛ لأنه ينحدر من أصول شيعية, وتحوّل إلى مذهب أهل السنة.
الأحد 7/5/2006م
*تفسخ أجساد أحدى عشرة جثة سعودية
لا تزال جثث أحد عشر قتيلاً سعوديًا ملقاة في مديرية الطب العدلي بالبصرة وذلك نتيجة مقتلهم بعد أحداث سامراء, وقد مضى على قتلهم أكثر من شهرين.
وقد حاولت العديد من المنظمات الإنسانية استلام الجثث ودفنها إلا أن الشرطة الشيعية المسئولة عن حماية الطب العدلي رفضت بشكل قاطع تسليمها لأية جهة بدعوى أن الحكومة ستقوم بدفن الجثث في وقت لاحق وإنها الآن تخضع لعمليات التحقيق.
وفي السياق نفسه أفاد شهود عيان - اطلعوا على الجثث في ثلاجة حفظ الموتى ـ أنها بدأت في التفسخ وأصبح لا يمكن التعرف على أشكال القتلى بسبب الفترة الطويلة التي مضت على الجثث في مديرية الطب العدلية في البصرة.كما أن جهات سنية قد سعت بشكل حثيث لاستلام الجثث ودفنها إلا أنها لم تستطع ذلك، ووصل الأمر إلى تلقيها تهديدات من قبل جيش المهدي مفادها أن أي شخص سيحاول الوصول إلى هذه الجثث أو التقاط أية صور لها سوف يكون مصيره هو نفس المصير الذي لاقاه أصحاب الجثث.الجدير بالذكر أن القتلى السعوديين هم من زوار منطقة البصرة من أهل السنة وكانوا يزورون أقارب لهم هناك، وقد تم اعتقالهم بناء على الجنسية السعودية ووضعهم في معتقل الاستخبارات العراقية في البصرة المعروف بأنه سيئ السمعة حيث تتجاوز الجرائم التي ترتكب داخله ما يجري في داخل سجن 'أبو غريب'.وقد تم قتل هؤلاء المواطنين السعوديين جميعًا بعد اختطافهم من قبل جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، حيث أعدموا بعد ساعات من اعتقالهم من قبل أنصار جيش المهدي.
الاثنين 8/5/2006م(40/101)
*استشهاد واصابة خمسة من اهل السنة
مع تصاعد عمليات الاغتيال ضد أهل السنة اغتيل اثنان من أهل السنة
, وأصيب أستاذ في كلية الزراعة بجروح بعد نجاته من محاولة اغتيال.وذكر مراسل 'مفكرة الإسلام' أن أحد المصلين اغتيل في منطقة الزبير الليلة الماضية من قبل مسلحين؛ حيث اغتالوه بعد عودته من عمله في محل تجاري, بينما قتل آخر في البصرة وبالتحديد في منطقة الجمهورية, وذلك على أيدي مسلحين مجهولين.في غضون ذلك نجا الأستاذ يوسف من محاولة اغتيال أثناء توجهه إلى الدوام الرسمي في كلية الزراعة؛ حيث أصيب بعيارين ناريين أحدهما في الكتف والآخر بجوار الرأس.من جانب آخر تشهد مدينة البصرة توترًا واضحًا عند ساعات الليل, خصوصًا بعد إسقاط المروحية البريطانية, حيث تتحرك المعدات البريطانية العسكرية بشكل واضح في شوارع المدينة الخاضعة لحظر تجوال ليلي, ويسمع إطلاق نار متقطع هنا وهناك طوال الليل.
الثلاثاء 9/5/2006م
*المزيد من منشورات التهديد للعوائل السنية بمغادرة المدينة
تواصل مسلسل إلقاء المنشورات الطائفية في مدينة البصرة جنوب العراق من قبل الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، وذلك بعد أن تكثفت حملة التهديدات ضد أهل السنة منذ أحداث سامراء.
وأن إلقاء هذه المنشورات الطائفية بدأ يصحب بإرفاق رصاصة بندقية كلاشنكوف لغرض الإرهاب والتخويف ولكي تكون إشارة إلى التهديد بالقتل ضد المقصودين من تلك المنشورات.واليكم صورة من هذه المنشورات :
الخميس11/5/2006م
*اغتيال قيادي بارز من الحزب الاسلامي في البصرة
اغتيل قبيل صلاة المغرب الشيخ خالد السعدون مسئول مكتب الدعوة والإرشاد في الحزب الإسلامي العراقي في البصرة, كما اغتيل معه ابن عمه طارق السعدون, وهو عضو المجلس البلدي للزبير, ومرافق ثالث يدعى أحمد عبد المطلب.وأفاد شهود عيان أن الشيخ خالد السعدون كان متوجهًا إلى منزله جنوب قضاء الزبير وقرب مسجد أسامة بن زيد باغتتهم سيارة مجهولة فأطلقت النار عليه من الخلف فأردته قتيلاً على الفور مع الاثنين الذين كانوا معه.وقد نقلت جثامين القتلى الثلاثة إلى مسجد حي المعلمين في الزبير ليتم تشييعهم صباح يوم الخميس وسط حشد كبير.من الجدير بالذكر أن الشيخ خالد السعدون ينتمي إلى عشيرة السعدون السنية في البصرة ويعمل إمامًا وخطيبًا لمسجد أسامة بن زيد منذ 13 عامًا, وهو في بداية العقد الرابع من العمر.وتأتي هذه الحادثة في أعقاب حملة اغتيالات في قضاء الزبير منذ أسبوع تقريبًا.
*اغتيال اثنين من السنة في قضاء أبي الخصيب في البصرة
عُثر مساء الخميس على جثتي اثنين من مواطني أهل السنة على طريق الزبير العام.
وذكرت مصادر اعلامية أن عبد العزيز نوري سلطان وسامي جاسم المنصور قد اعتقلتهما سيارات رسمية مظللة من مكان عملهما في مديرية الدفاع المدني في 'أبي الخصيب' بالبصرة جنوب العراق.وادعى راكبو السيارة التي قامت بعملية التوقيف أنهم من جهة رسمية وأن الاعتقال جاء بغرض التحقيق, ثم بعد مضي عدد قليل من الساعات على عملية الاعتقال تم العثور على جثتي المواطنيْن العراقييْن في الشارع علمًا بأنهم يسكنان في قضاء 'أبي الخصيب'.
الجمعة12/5/2006م
*اغتيال امام وخطيب جامع الخضيري وسط البصرة
بعد إلقائه خطبة جمعة في جامع الخضيري وسط مدينة البصرة استشهد الشيخ خليل جابر إمام وخطيب جامع الخضيري مع ابنه أحمد البالغ من العمر 12 سنة خلال عملية اغتيال نفذتها مجموعة مسلحة.وأفاد ابن الشيخ الأكبر والذي كان مع والده عندما وقعت جريمة الاغتيال أنه استقل مع والده وشقيقه سيارة أجرة من الشارع القريب للجامع متوجهين إلى منزلهم حيث بوغتوا بسيارة مجهولة تقطع الطريق وبشخص من داخل السيارة يهم بالتوجه إليهم حيث أطلق النار صوبهم من مسدس بحوزته فأصاب الشيخ خليل برصاصتين في الرأس، كما أصيب الطفل أحمد برصاصة في الرأس.وأكد نجل الشيخ أن دوريات الشرطة كانت قريبة من مكان الحادث وتم إبلاغها بالجريمة إلا أنها رفضت متابعة السيارة بزعم أنها غير مخولة بالتدخل من قبل جهة قضائية.ويعتبر الشيخ خليل هو ثاني إمام وخطيب سني يقتل خلال يومين وبذلك يرتفع عدد قتلى أهل السنة خلال 48 ساعة إلى سبعة شهداء.
*الوقف السني يدعو لوقف المجازر ضد أهل السنة(40/102)
صرّح مدير الوقف السني في البصرة الدكتور عبد الكريم ناصر الخزرجي لقناة بغداد الفضائية بأن عدد القتلى في صفوف أهل السنة قد ارتفع خلال الـ48 ساعة الأخيرة في البصرة إلى ثمانية أشخاص من بينهم أئمة وخطباء وقيادات سنية.وطالب الخزرجي الحكومة العراقية والمجتمع الدولي بوضع حد لهذه الاغتيالات.وأكد مدير الوقف السني أن العديد من الدوائر التي تخضع لسيطرة الحكومة قد طلبت منها إحصائيات لأهل السنة من منتسبيهم وفيما بعد يتم اغتيالهم بحسب هذه القوائم.وقال الدكتور عبد الكريم ناصر: 'إذا ضاق الشيعة في البصرة ذرعًا بالسنة فإننا سنرحل بشكل جماعي إلى إحدى دول الجوار لنحقن دماء المسلمين'.وأوضح الدكتور ناصر أن محافظ البصرة أصبح لا يرد حتى على الهواتف عند الاتصال به ولم يواس أهل السنة في أي حادث اغتيال وقع.تأتي هذه التصريحات في ظل أكبر حملة اغتيالات تشهدها البصرة منذ سنوات.
الاربعاء17/5/2006م
*في بيان لهيئة علماء المسلمين : تهجير 2000 عائلة سنية من البصرة
أعلنت هيئة علماء المسلمين عن إحصائيات جديدة لشهداء أهل السُنّة وعدد العائلات السُنّية التي تم تهجيرها من مدينة البصرة خلال الفترة السابقة.وقال مسئول العلاقات الخارجية في الهيئة الشيخ 'عبد السلام الكبيسي' في مؤتمر صحفي: إن 2000 عائلة من أهل السنة هُجّرت من البصرة, مشيرًا إلى أن 800 منها نزحت إلى خارج العراق والباقي في محافظات أخرى داخل العراق.كما أكد 'الكبيسي' أن أكثر من 200 من الرجال والنساء السُنّة من بينهم أساتذة وعلماء وأئمة وخطباء ومصلو مساجد قتلوا من قِبل ميليشيات معروفة في البصرة.وكشف مسئول هيئة علماء المسلمين عن الحصول على قائمة تحتوي أسماء 35 أستاذًا من أهل السُنّة مطلوب قتلهم وتصفيتهم, قُتل منهم إلى الآن 15 شخصًا, أُعلنت أسماؤهم في المؤتمر الصحفي, بينما تحفظ عن ذكر أسماء الذين تركوا البصرة للبحث عن ملاذ يأمنون فيه على أنفسهم وأهليهم.وتأتي تصريحات الهيئة بعد تصاعد أزمة الاغتيالات في البصرة ونزوح عدد كبير من أهل السنة إلى خارج المدينة؛ إثر التهديدات التي دأبت المليشيات الشيعية على إصدارها في مدن الجنوب العراقي وخاصة مدينة البصرة وتتوعد أهل السُنّة بالقتل إذا لم يتركوا المدينة.
الخميس18/5/2006م
*مسئول عراقي : ما يجري ابادة شاملة لاهل السنة في البصرة
أكّد مسئول عراقي في وزارة المهجّرين والمهاجرين العراقية في الحكومة الحالية أن ما يجري في البصرة الآن عملية إبادة شاملة لأهل السنة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل.
ونقلت مصادر اعلامية موثوقة - عن مسئول رفيع المستوى في وزاره المهجرين والمهاجرين العراقية - قوله: إن حقيقة ما يجري في البصرة اليوم هو عمليه لإبادة السنة من تلك المنطقة بقتلهم أو تهجيرهم أو تشييعهم بالقوة والقسر.وأكد المسئول - الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لأغراض أمنية - أن الأرقام الحقيقية التي تداولتها وزارة الصحة والمهجرين والمهاجرين حول وضع سنة البصرة تخالف الأرقام التي تكشف عنها الحكومة، حيث إن عدد العائلات السنية التي هربت من البصرة وتركت أموالها ومنازلها بلغ حتى الآن أكثر من 1200 عائلة, وهو رقم أكبر من رقم الشيعة المهجّرين في كل المحافظات العراقية، فيما بلغ عدد الشهداء الذين اغتيلوا من أهل السنة في البصرة حتى الساعة أكثر من 400 مواطن سني.وأشار المسئول إلى أن لعبة محافظ البصرة مع ممثل السيستاني في المدينة هي محاولة لصرف أنظار الإعلام عن حقيقة ما يجري في هذه المدينة؛ حيث إن الطرفين يشتركان في هذا اللعبة القذرة, حسب وصفه.وأضاف المسئول: لدينا معلومات مؤكدة عن ضلوع عناصر من الحرس الثوري الإيراني وجهاز إطلاعات الإيراني بعمليات القتل التي تستهدف السنة في البصرة مع فيلق بدر وجيش المهدي.وأوضح أن أي رقم لعدد ضحايا السنة في البصرة سواء كان القتلى أو المطرودين تحت تهديد السلاح هو رهن بتوقيع من حكومة الجعفري, والتي تقوم بتزوير الحقائق وعدم إعطاء العالم الوضع الحقيقي للسنة هناك.وذكر أن أهل السنة اليوم باتوا يخشون من الخروج من منازلهم, وبعضهم لا ينام من الليل إلا ساعة أو ساعتين بسبب ملازمته لسلاحه من فوق شرفه منزله دفاعًا ضد مهاجم أو مهاجمين محتملين يريدون قتله أو قتل عائلته.وذكر أن الشرطة التي تتألف من فيلق بدر وجيش المهدي وحركة 'ثأر الله' الإيرانية تشترك في عمليات قتل السنة ولا تحميهم كما زعم محافظ البصرة قبل أيام.
الاحد 21/5/2006م
*مسئول أمني : عناصر ايرانية وراء اغتيالات السنة في البصرة
اعترف ضابط كبير في الجيش العراقي الموالي للاحتلال بأن مسلسل الاغتيالات والتفجيرات التي تطال أهل السنة ورموزهم الدينية خلال الأشهر الثلاثة الماضية يقف وراءه إيرانيون قدموا إلى البصرة بعد تفجيرات سامراء بمعاونة من عناصر فيلق بدر وجيش المهدي وحركة ثار الله الإيرانية, والتي تمتلك مقرًا لها في مدينة البصرة جنوبي العراق.(40/103)
ونقلت مصادر مطلعة في البصرة عن ضابط برتبة مقدم في لواء حفظ الحدود العامل حاليًا في مدينة الفاو على الحدود العراقية الإيرانية - والذي طلب عدم الكشف عن اسمه - قوله: إن العشرات من الإيرانيين تغلغلوا في البصرة وعاثوا فيها فسادًا عن طريق اغتيالات في صفوف السنة وقتل رموزهم الدينية والعشائرية وتدمير مساجدهم.وأضاف أن الجيش العراقي تمكن من اعتقال 244 إيرانيًا أغلبهم ضباط في الحرس الثوري خلال المدة من 17/3/2006 وحتى 9/5/2006, إلا أنه وبأمر من الحوزة الشيعية أطلق سراحهم بعد أيام من اعتقالهم, بل وتم نقل آمِر لواء حفظ الحدود في الفاو لاعتراضه على القرار إلى محافظة الأنبار الساخنة كعقوبة له.وذكر المصدر أن دخول المخابرات الإيرانية 'اطلاعات' والحرس الثوري إلى مدينة البصرة معلوم لدى الحكومة المعينة والبريطانيين, إلا أنهم لم يتدخلوا في الأمر، مشيرًا إلى أن تلك العناصر الإيرانية تبيت وتأكل وتشرب في مقرات أحزاب المجلس الأعلى والدعوة ومنظمة بدر ومكتب الصدر التابع لجيش المهدي.وإلى ذلك، ذكر المصدر نفسه أن تلك العناصر الإيرانية قامت كذلك باغتيال مواطنين شيعة من أهالي البصرة ممن كانوا ينتمون إلى حزب البعث أو إلى الجيش العراقي السابق.
الاثين 22/5/2006م
*محافظ البصرة يقطع رواتب موظفي السنة الذين عادروا المدينة
أفاد مصدر مطلع - رفض الكشف عن اسمه - أن محافظ البصرة - وهو من حزب الفضيلة الشيعي - أصدر أمرًا بقطع رواتب كل الموظفين السنة الذين هاجروا من المدينة بسبب الاضطهاد الطائفي من قبل الميليشيات الشيعية، وأكد أن الأمر طُبِّق اعتبارًا من شهر أبريل الماضي.وبحسب ما ذكرت بعض المصادر الاعلامية صرح شاهد عيان أنه ذهب لاستلام راتب أحد أقاربه من إحدى الدوائر الحكومية, إلا أنه تم إبلاغه أن الراتب توقّف عن الصرف بأمر المحافظ, علمًا بأن قريبه يتمتع بإجازة رسمية لمدة سنة تمكّنه من استلام راتب كامل حسب القانون العراقي النافذ، وهو ما يشير إلى أن المحافظ خالف القوانين بإصداره هذه الأوامر.ويُعد هذا القرار نوعًا من التضييق على أهل السنة - حتى المهاجرين منهم - حيث إنهم كذلك لم يسلَموا من بطش سلطات البصرة.هذا، وأفادت مصادر محلية أن من يريد بيع منزله من أهل السنة لا يتم شراؤه إلا بنصف سعره الحقيقي، وذلك في عملية لتضييق الخناق الاقتصادي على أهل السنة وتهجيرهم من البصرة مع الاستحواذ على ممتلكاتهم ومنازلهم.
الاربعاء 24/5/2006م
*قتل سني بعد اعتقاله بالبصرة
قضى واحدٌ من أهل السنّة نحبه في قضاء الزبير بالبصرة بعد اعتقاله من عناصر الشرطة في المدينة.وذكرت مصادر مطلعة أن 'صباح نوري الهاجري'، وهو من أهل السنّة في قضاء الزبير، قُتل بعد اعتقاله من قِبل الشرطة أثناء ممارسته لعمله في محل حلاقة، حيث حوصر المكان واقتيد بعد أن وضعت القيود في يديه.وأشارت إلى أنه بعد ساعات من اعتقاله وجدت جثته وعليها آثار تعذيب، كما أفاد شهود عيان في منطقة القبلة وسط المدينة.من جانب آخر أفادت مصادر سياسية من محافظة البصرة أن موفد الحكومة عادل عبد المهدي، بشأن أحداث البصرة الأخيرة، لم يلتقِ بأي وفد يمثل أهل السنّة، بل اقتصر في محادثاته مع الأحزاب الشيعية وممثلي مجلس محافظة البصرة وكلهم من الشيعة؛ في تجاهل واضح لوجود أهل السنّة في البصرة، وربما تأييدًا لعمليات الاغتيال المنظمة ضدهم من قِبل أجهزة الأمن الموالية للاحتلال.
الخميس 25/5/2006م
*اعتقال 13 سنياً بتهمة مهاجمة قوات الاحتلال البريطانية
شنّت قوات الاحتلال البريطانية الأربعاء وفجر الخميس حملة اعتقالات ودهم وتفتيش استهدفت عدداَ كبيراَ من مناطق أهل السنة في البصرة.ونقلت مصادر مطلعة في البصرة أن قوات الاحتلال البريطانية اعتقلت 13 مواطنًا من أهل السنة بتهمة مهاجمة القوات البريطانية.وأوضحت أن قوات الاحتلال البريطانية اعتقلت عددًا من الشيعة أيضًا يقدر عددهم بخمسة أشخاص دون أن توضح قوات الاحتلال سبب اعتقال المواطنين الشيعة.
*اغتيال ثلاثة من أهل السنة في البصرة
في استمرار لعمليات الاغتيال المنظم ضد أهل السنة في البصرة وخاصة بعد انتهاء زيارة عادل عبد المهدي ممثل رئاسة الجمهورية؛ قتل صباح الخميس ثلاثة من أهل السنة في قضاء الزبير.
وأفادت مصادر مطلعة أن سيارات رسمية مظللة حاصرت محلات أهل السنة الثلاثة وسط سوق المدينة، حيث قتل الأول وهو 'عدنان محمد' صاحب محل للمواد الاحتياطية للسيارات، وذلك أثناء مقاومته الخاطفين داخل محله.بينما قام المهاجمون باختطاف الاثنين الآخرين وهما 'حازم عبد الكريم'، و'إياد عبد الخالق' صاحبيْ محل لتصليح المولدات الكهربائية, وقد عثر على جثتيهما بعد ساعتين من اختطافهما في مركز الطب العدلي في البصرة.وبذلك يرتفع عدد القتلى من أهل السنة منذ أحداث سامراء إلى أكثر من 150 قتيلاً قتلوا على أيدي الميليشيات الشيعية في المدينة.
*اغتيال خمسة من أهل السنة في البصرة(40/104)
بلغ عدد القتلى من أهل السنة اليوم الخميس في مدينة البصرة خمس ضحايا وذلك عقب موجة من تصعيد أعمال العنف ضد السنة هي الأولى من نوعها بعد زيارة المسئول العراقي عادل عبد المهدي. وذكرت مصادر موثوقة أنه قد اغتيل صباح اليوم ثلاثة من أهل السنة في الزبير ثم اغتيال قريب لهؤلاء الثلاثة فيما قتل الشخص الخامس وهو عضو المجلس البلدي لمنطقة البصرة القديمة 'عبد الله محمد حسن' حينما كان خارجًا من مقر المجلس.
ونقلت مصادر عن شهود عيان أن سيارة مجهولة تقل مسلحين اعترضت طريق حسن وأطلق المسلحون النار عليه فأرده قتيلاً على الفور واستمروا في إطلاق النار إلى أعلى لتفريق المتجمعين حول مكان الحادث. تأتي هذه الاغتيالات في إطار حملة عنيفة موجهة ضد أهل السنة بعد أحداث سامراء حيث أفادت إحصائية نشرتها وزارة الصحة العراقية بأن عدد القتلى في البصرة بلغ 400 قتيل منذ أحداث سامراء يوم 22/2/2006 إلى اليوم، وهو ما يعادل خمسة قتلى من أهل السنة كل يوم.
الجمعة 26/5/2006م
*اغتيال الشيخ وفيق الحمداني والوقف السني وهيئة علماء المسلمين يقرران اغلاق كافة المساجد في البصرة
في تصعيد خطير لحملة الاغتيالات التي تشهدها مدينة البصرة أفادت مصادر موثوقة بأن الشيخ وفيق الحمداني إمام وخطيب جامع الكواز وسط البصرة قد اغتيل ظهر اليوم الجمعة ومعه أحد شباب المسجد على يد مسلحين مجهولين.وذكرت أن المعتدين المسلحين أطلقوا النار على الشيخ الحمداني أثناء توجهه لأداء خطبة الجمعة في منطقة البصرة القديمة قرب مسجد الكواز.وأشارت إلى أن الشيخ وفيق يبلغ من العمر ثمانين عامًا ويعد من مشايخ البصرة البارزين. وعلى إثر هذه التطورات وبعد اغتيال خمسة من أهل السنة يوم أمس الخميس؛ أعلن الوقف السني في المنطقة الجنوبية إغلاق كافة مساجد أهل السنة البالغ عددها 170 مسجدًا احتجاجًا على قتل الأبرياء وحفاظًَا على أرواح المصلين 'على حد وصف البيان'، وقد ناشد البيان الدول العربية والمؤسسات الإعلامية أن تطلع بدورها في هذا المجال. كما ناشد البيان رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء وضع حد لهذه الحملة وسرعة تدارك الموقف الأمني المتدهور في البصرة.
الاحد 28/5/2006م
*تواصل حملة الاعتداءات على أهل السنة
استمرت حملة الاغتيالات ضد أهل السنة في البصرة خلال الأيام القليلة الماضية حيث اغتيل الأخ خالد الراشد من أهل السنة في قضاء الفاو خلال قدومه من الفاو إلى البصرة.
وقالت مصادر مطلعة: إن سيارة مجهولة استوقفت الراشد وأنزلته من سيارته ثم تم قتله أمام زوجته وأطفاله. إلى ذلك تعرض أحد منتسبي الوقف السني لاعتداء حيث أصيب بطلقات نارية حينما حاول مسلحون اغتياله في أحد شوارع البصرة.وفي الزبير ألقى أهالي منطقة الزهيرية القبض على سيارة تقل مسلحين يبدو أنهم كانت يترصدون بعض أهل السنة وعند إبلاغ الشرطة قامت دوريات الشرطة في الزبير بإخلاء سبيل السيارة بحجة عدم ثبوت أية أدلة عليها.
الاحد 28/5/2006م
*الشيخ القرضاوي يحذر من تداعي استهداف أهل السنة في البصرة
حذّر الشيخ يوسف القرضاوي الداعية الإسلامي من تداعيات الأمور في مدينة البصرة بجنوب العراق، حيث يتم استهداف المواطنين السُنة من قبل بعض الجماعات الشيعية المسلحة والمدعومة من قوات الاحتلال الأمريكية.وقال القرضاوي - خلال حديثه لبرنامج 'الشريعة والحياة' بفضائية الجزيرة-: 'إن ما يحدث في البصرة خطر جسيم.. ما يسمونه بالتطهير العرقي أو الطائفي الذي يصيب أهل السُنة في البصرة من القتل اليومي والتهديد الذي يصل إلى البيوت بورقة, حيث تطالب بعض الجماعات المسلحة أهالي السُنة بالمغادرة, ومن لم ينفذ يتم قتله في الحال'.وأضاف القرضاوي أنه تلقى عددًا من الاتصالات التليفونية من عدد من السنة الموجودين في البصرة نقلوا الصورة المؤلمة والفظيعة عما يواجهونه من عمليات إبادة وقتل جماعي على أيدي جماعات تطلق على نفسها أسماءً مثل 'أنصار المختار' و'الثأر'، وأشار إلى أنه لابد من عدم السكوت على ذلك؛ لأن هذا الأمر سيؤدي إلى فتنة تقضي على الأخضر واليابس, ولن يستفيد منها أحد سوى الاحتلال الذي يقف وراء مثل هذه الأفعال الوقحة'.وطالب القرضاوي المراجع الشيعية وآيات الشيعة بأن ينتبهوا إلى هذا الأمر الخطير وتحريمه, وأن يقولوا كلمة واضحة وبيّنة؛ لأن ما يحدث لا ينبغي السكوت عليه مطلقًا.وأكد القرضاوي أن هيئة علماء المسلمين في العراق وبعض العراقيين اتصلوا به، محذرًا من أن هذا الأمر يتم تحت رعاية الاحتلال, وأن هذا ينذر بخطر شديد على وحدة العراق وطنًا وشعبًا ومسلمين بكل فئاته.وقال في ختام كلمته: 'هذه كلمة تحذير أرسلها إلى جميع العراقيين ليضعوا على عاتقهم إيقاف مثل هذه الأفعال الوقحة، آملاً للعراق أن ينجو من هذه المكائد التي لا يعرف عواقبها إلا الله عز وجل.
الاربعاء 31/5/2006م
*الهاشمي يؤكد استمرار الانتهاكات الواقعة على أهل السنة في البصرة على الرغم من مزاعم انتهائها(40/105)
أكد 'طارق الهاشمي' نائب الرئيس العراقي أن مأساة أهالي السُنّة في مدينة البصرة مستمرة, في ظل تواصل الانتهاكات والاغتيالات التي تقوم بها الميليشيات الشيعية في المدينة؛ فيما زعم مجلس محافظة البصرة أن 'الوضع مستقر'.وجاءت تصريحات الهاشمي خلال مرافقته لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أثناء زيارته الأولى للبصرة بعد تسلمه مهام منصبه, على رأس وفد رسمي ضم الهاشمي, إضافة إلى عدد من أعضاء البرلمان العراقي.
وتأتي زيارة المالكي ـ بحسب تأكيده ـ في أعقاب تدهور الوضع في مدينة البصرة وتوارد أنباء عن الاغتيالات الطائفية في المدينة.وأكد طارق الهاشمي في كلمته أن أهل السُنّة يعانون مأساة لم تشهدها البصرة من قبل وأن عددًا كبيرًا من أهل السُنّة ينوون مغادرة البصرة إلى مكان آمن مع انتهاء الامتحانات الثانوية وهذا أمر مفزع يجب وضع حد له.
وطالب ـ بحسب ما نقلته بعض امصادر ـ أن تأخذ أجهزة الدولة تأخذ دورها في حفظ الأمن ومباشرة إعمار البصرة التي تعرضت لثلاثة حروب منهكة .
وبعد كلمة للمالكي والهاشمي تحولت قاعة المؤتمر إلى فوضى عارمة بين جماهير المدينة الغاضبة ومجلس محافظة البصرة الذي زعم أن المدينة الآمنة .
وتحدث رئيس مجلس محافظة البصرة 'محمد سعدون' عن البصرة واصفًا حالها بأنها 'مستقرة وأن الأمن فيها أحسن من الأنبار والفلوجة والموصل', على حد ادعائه.
وواصل مزاعمه قائلاً في إشارة ضمنية لأهل السُنّة: إنه لا يوجد تهجيرًا قسريًا بل من أراد الخروج فهو من طواعية نفسه.وتحولت القاعة بعد ذلك إلى فوضى وارتفعت أصوات الحاضرين منادين على رئيس مجلس المحافظة بـ'كذاب'.واحتدم الموقف حينما تحدث ممثل السيستاني في البصرة عن ما اسماه 'تجرؤ' محافظ البصرة على السيستاني في بيان له قبل أسابيع.
وكان المحافظ قد اتهم مرجعية السيستاني في البصرة وما يسمى 'المجلس الأعلى للثورة الإسلامية' بزعامة الحكيم بقيادة فرق الموت في المدينة والمسئولية عن زعزعة الأمن.
ووسط هذه الفوضى, حاول المالكي التهدئة لأكثر من مرة, وأُنهيت الجلسة؛ في انتظار عقد اجتماعات بكل جهة على حدة لوضع حد لأحداث البصرة, فيما وعد المالكي في نهاية الجلسة بأن لا يعود إلى بغداد إلا وقد انتهت الأزمة في البصرة, على حد قوله.
الجمعة 2/6/2006م
*مقتل مؤذن جامع الحسنين قبيل صلاة الجمعة
وقع أول حادث اغتيال ضد أهل السنة في أعقاب زيارة المالكي للبصرة, حيث اغتيل ظهر اليوم الأخ عصمت الدوسري مؤذن جامع الحسنين وسط البصرة .وأكّد إمام المسجد أن الدوسري كان متوجهًا إلى المسجد حينما كانت سيارة حديثة تقل مسلحين تترصّد له, وأطلقت عليه النيران من السيارة التي كانت تقف قرب حسينية شيعية في المنطقة.وقال الإمام: إن المؤذن تُرك في الشارع ينزف, ولم تنقله الشرطة التي قدمت إلى مكان الحادث. وقد نقله إمام مسجد الحسنين بسيارته الخاصة إلى المستشفى حيث تُوفي هناك جراء إصابته.وتعد هذه الحادثة الأولى بعد فرض حالة الطوارئ في المدينة, في أعقاب زيارة رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية للمدينة مؤخرًا.
الجمعة 2/6/2006م
*الاعتداء على جامع العرب من قبل الشرطة وقتل حراس الجامع وخطف وقتل 9 مصلين
في مجزرة هي الأولى من نوعها في مدينة البصرة جنوب العراق أقدمت قوات الشرطة العراقية بإسناد من أجهزة الأمن في البصرة بمهاجمة جامع العرب وسط المدينة.
وذكر المصادر أن الهجوم بدأ في الساعة الحادية عشرة ليلة أمس حيث حوصر المسجد من قبل الشرطة وبدأت الاشتباكات بينهم وبين الحراس الرسميين المعينين من قبل الوقف السني حتى الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل حيث استخدمت عناصر الشرطة الأسلحة المتوسطة والثقيلة 'القاذفات والهاونات'. وقد أفاد شهود عيان بأن قوات الشرطة التي داهمت المنطقة كانت كبيرة جدًا ومنعت دخول الإسعاف للمسجد أو لنجدة الحراس الذين فيه.و نقلاً عن الشهود أنه قد قتل جميع حراس الجامع البالغ عددهم سبعة حراس ويظهر من صورهم أن قتلهم كان إعدامًا بعد اقتحام المسجد من قبل الشرطة وإحراق أجزاء كبيرة منه.وتعد هذه الحادثة هي الأولى من نوعها في البصرة التي ترتكبها قوات الداخلية خصوصًا بعد تشكيل الحكومة الجديدة.جدير بالذكر أن جامع العرب من المساجد العريقة بالبصرة ، كما وقامت الاجهزة الامنية بخطف واعتقال 9 مصلين من ابناء المنطقة القريبة من المسجد بشكل عشوائي ثم قامت بقتلهم .
الاحد 4/6/2006م
*الوقف السني في البصرة يدين الاعتداء على جامع العرب
أصدر الوقف السني في البصرة بيانًا حول اقتحام الشرطة العراقية لجامع العرب, واصفًا الحادث بأنه مجزرة جديدة تضاف إلى مجازر الشرطة العراقية في مدينة البصرة.(40/106)
وأوضح البيان أن هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الأفعال, معلنًا براءة أهل السنة مما ينسب إليهم من تهمة 'الإرهاب'. وحمّل البيان الشرطة العراقية المسئولية الكاملة عن أحداث اقتحام جامع العرب، وانتقد الجيش والأجهزة الأمنية والمحافظة بسبب عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لحل الأزمة على الرغم من الاتصالات معهم في هذا الجانب. وطالب البيان قوات الاحتلال البريطانية باتخاذ موقف واضح وصريح من الحدث.وقد صدر البيان بهدف تفنيد ادعاءات الشرطة حول وجود سيارات مفخخة في الجامع, ووضح الوقف السني في بيانه ثلاث فقرات جاء فيها :
1- أن هذا التصريح يدلل بما لا يقبل الشك أن الشرطة العراقية في البصرة هي المسئولة عن أحداث يوم أمس باقتحام جامع العرب وقتل الحراس الأبرياء فيه.
2- أن جامع العرب من المساجد العريقة والمعروفة في البصرة, وليس له علاقة من قريب ولا من بعيد بأية تهمة تنسب إليه, وإن محاولة تلفيق التهم ليست إلا عملية تغطية لما اقترفته الشرطة بحق المسجد وحراسه ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة التي وضعت شرطة البصرة نفسها فيه.
3- لا يمكن للشرطة في البصرة أن تبرر هذه الأعمال بهذه الطريقة بعد أن تخبطت في تلفيق التهم لأهل السنة أو مساجدهم, وإننا نعلن على الملأ أن مساجدنا هي مصدر أمن وأمان لأهل البصرة جميعًا, ولن تكون يومًا إلا ما أراد الله تعالى {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
الاربعاء 7/6/2006م
*في مجزرة جديدة .. استشهاد 14 سنياً من عائلة واحدة
اغتالت المليشيات الشيعية 15 سنيًا من عائلة واحدة في مدينة البصرة, في جريمة جديدة تضاف لجرائمها ضد أهل السنة. وأوضح مراسل 'مفكرة الإسلام' أن تلك الميليشيات اغتالت 'ماجد طعمة مالك' يوم أمس الثلاثاء في منطقة أبي الخصيب ولدى وصول عائلة الشهيد إلى مستشفى الطب العدلي في مركز مدينة البصرة وأثناء وقوفهم عند باب المستشفى لانتظار استلام الجثة، هاجمهم مسلحون من المليشيات الشيعية المواليه للاحتلال من قوات بدر الشيعية يستقلون ثلاث سيارت صالون لا تحمل أرقامًا بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة.ونقل عن شهود عيان أن الهجوم أسفر عن استشهاد 14 سنيًا من عائلة واحدة تحت مرئى أفراد الشرطة والجيش العراقي الموالي للاحتلال، حيث كانت دوريات لقوات الشرطة والحرس الوطني الموالي للاحتلال تنتشر في المكان.وأكد أهالي الضحايا أن دوريات الشرطة والجيش شاهدوا المسلحين من المليشيات الشيعية وهم يقومون بإطلاق النار نحو المدنيين من أبناء السنة الواقفين في باب المستشفى لمدة 15 دقيقه تقريبا ولم يحركوا ساكنا .
الجمعة 9/6/2006م
*اغتيال استاذ جامعي في البصرة
قال مصدر أمني من شرطة الطورائ اليوم الجمعة إن مسلحين مجهولين اغتالوا الليلة الماضية أستاذا جامعيا وسط مدينة البصرة، فيما عثر على جثة لمواطن ملقاة في مدينة البصرة القديمة.
وقال المصدر إن مسلحين مجهولين اغتالوا الليلة الماضية التدريسي في كلية العلوم جامعة البصرة (أحمد عبد القادر عبد الله) وسط المدينة في شارع الاستقلال في مركز إنترنيت يملكه." في الوقت نفسه قال المصدر إنه تم العثور على جثة ملقاة قرب مدرسة عائشة في البصرة القديمة (على بعد 3 كم عن مركز المدينة) بعد منتصف الليلة الماضية. وأوضح أن الجثة كانت مصابة بثلاث طلقات، وهي لشخص يدعى (فهد محمد عبد الرحيم) من سكنة عويسيان في قضاء أبي الخصيب.
رحم الله شهداءنا وأسكنهم فسح جناته ..
*قيادي شيعي : الحكيم يشرف على تهجير السنة من البصرة
اتهم قيادي شيعي في مدينة البصرة عمار الحكيم، نجل رئيس [المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق] عبد العزيز الحكيم، بـ'الإشراف المباشر على تهجير السنة من المدينة'.
وقال أبو كاظم، في اتصال هاتفي بوكالة الأنباء الإيطالية إن 'هناك خطة مدروسة تقضي بتهجير السنة قسرا من البصرة إلى مناطق العراق الغربية' بهدف خطة ترمي إلى 'إنشاء إقليم شيعي جنوبي العراق'. وأكد ابو كاظم أنه 'يشرف على العملية مسؤولون في المجلس الأعلى في مقدمتهم عمار الحكيم وهادي العامري' وأن 'التنفيذ في البصرة يتم بإشراف حسن الراشد قائد منظمة بدر في المدينة'. وعن الغاية من هذا 'التهجير'، بيّن أبو كاظم بأن 'أصحاب فكرة الإقليم الشيعي يسعون لتغيير التركيبة الجغرافية لضمان سيطرة النجف على الإقليم' وبالتالي، 'فإن زيادة عدد الشيعة قدر الإمكان سيحسم المسألة بشكل أسهل'. وعما إذا كان للمخابرات الإيرانية دور في الموضوع، أشار أبو كاظم إلى أن 'الفكرة، أساسا، جاءت من إيران'، .وأوضح 'عراقية الجهاز التنفيذي' لهذه الفكرة. جدير بالذكر أن مجموعات سنية أشارت إلى وجود 'تهجير قسري للسنة من البصرة' يتمثل في 'الاغتيالات والتعدي على الأملاك' وهو ما لا تعترف به الجهات الرسمية في المدينة.
الاربعاء 7/6/2006م
* زعماء العشائر العراقية تطالب الجامعة العربية بالتدخل لإنقاذ الوضع في البصرة(40/107)
كونا / طالب زعماء العشائر العراقية من جامعة الدول العربية بـ "التدخل العاجل" لانقاذ الشعب العراقي من اعمال العنف المتصاعدة في مدينة البصرة.جاء ذلك في عدة رسائل عاجلة تلقتها الجامعة من زعماء العشائر العراقية في البصرة تطالبها بالتدخل العربي السريع لوقف عمليات القتل العشوائي في المدينة.من جانبها اعربت جامعة الدول العربية عن قلقها الشديد لتصاعد موجة اعمال العنف التي استهدفت البصرة اخيرا وادت الى سقوط المزيد من الضحايا المدنيين الابرياء مستنكرة هذا الوضع الماساوي.وناشدت في بيان لها اليوم الجميع التحلي بضبط النفس والتهدئة داعية الاطراف المعنية الى التوقف فورا عن هذه الاعمال وعدم الانسياق نحو المزيد من التوتر واذكاء نار الفتنة الطائفية.. داعية الى الحفاظ على النسيج الاجتماعي للشعب العراقي والحرص على وحدته الوطنية.
*د. مثنى الضاري: ما يحدث في البصرة مؤامرة لاستئصال السنة
عكاظ / اكد الدكتور مثنى حارث الضاري، الناطق باسم هيئة علماء المسلمين ان احداث البصرة خطيرة جدا، وان خطوة الحكومة جاءت متأخرة بعد ان استفحلت الاغتيالات والاعتداءات وازداد التهجير، وخاصة على اهل السنة في المدينة. وقال الضاري ان ما يجري في البصرة هو تصفية حسابات متراكمة بين القوى السياسية المتحالفة، والتي انكشفت خلافاتها اثر تشكيل الحكومة الاخيرة.
هذا بالاضافة الى وجود كثيف لقوى وعناصر امنية مدربة ومجهزة من خارج العراق، وبالتحديد من دولة مجاورة ( ايران )، لها دورها الفاعل على الارض في تلك المدينة. واشار الضاري الى تعرض اهل السنة الى استهداف مصالحهم الاقتصادية واغتيال كفاءاتهم وتهجير عدد كبير من العائلات المسالمة.
*رئيس الوقف السني: مخاطر حقيقية تهدد السنة جنوبي العراق
الجزيرة نت / اتهم رئيس ديوان الوقف السني في جنوبي العراق ما سماها فرق الموت والمليشيات باستهداف العرب السنة في المنطقة وشن حملة تصفية بحق الأئمة وأساتذة الجامعات. وقال الدكتور عبد الكريم الخزرجي في حوار مع الجزيرة نت إن هناك استهدافا حقيقيا لأهل السنة في البصرة, "وهو استهداف بدأ بالتهميش والإبعاد من كل مفاصل الدولة ودوائرها هناك, بدءا من مجلس المحافظة وحتى أصغر دائرة خدمية". وأضاف أن حملات تصفية أودت حتى اليوم بحياة أكثر من 15 أستاذا جامعيا و10 من الأئمة والخطباء ورؤساء العشائر والموظفين وعموم المصلين, وأنها شملت السنة في كل مناطق المحافظة. واعتبر الخزرجي أن ما وصفها بعمليات الترهيب التي يتعرض لها السنة أدت إلى انزوائهم في بيوتهم لتتحول هذه البيوت إلى سجون تمنع الكثيرين من التوجه إلى أعمالهم أو السعي في طلب الرزق وهو ما أدى لتفاقم أوضاعهم الاقتصادية.
حكم المليشيات
وأشار أيضا إلى "حملات التهجير التي تشمل أهل السنة بالبصرة والتي وصلت إلى حد وضع علامات حمراء على البيوت وإرسال مذكرات تهديد تطالب بإخلائها ومغادرة ساكنيها للبصرة". وأضاف الخزرجي أن "السنة الذين كانوا يشكلون نحو 40% من سكان البصرة يوم غزو العراق واحتلاله, لم يعودوا يشكلون اليوم, بعد الهجرة الواسعة والتهجير المتعمد, أكثر من 15%". وأشار رئيس الوقف السني في جنوبي العراق بأصابع الاتهام إلى "مليشيات محددة منها سرايا المختار وفرق الموت إضافة إلى سرايا الثأر التي لا يعرف أحد إلى أي تيار تنتسب أو من يقوم بتوجيهها". ورفض المسؤول السني توجيه الاتهام برعاية تلك المليشيات لأي جهة، وقال إن إطلاق التهم أمر خطير وربما يخلط الأوراق, ولكنه اعتبر أن الجهات المسؤولة قادرة لو أرادت أن تصل إلى حقيقة من يقف وراء هذه الجرائم. ولكنه أشار إلى دولة مجاورة للعراق لم يسمها، وقال إن لها دورا كبيرا فيما يجري في البصرة, وأن تدخلها هناك لا يمكن لأحد أن يشكك فيه أو يتجاهله. وعن المخرج من هذا الوضع الأمني المريع, رأى الخزرجي أن حل مشكلة وزارتي الداخلية والدفاع وإسنادهما إلى أشخاص أكفاء وطنيين يتمتعون بمهنية وحيادية, قد يساهم في الحل. ولكنه حذر من أن استمرار الوضع الحالي "قد يقود إلى كارثة لا أحد يعلم حدودها". وأوضح رئيس الوقف السني بالبصرة أن القيادات السنية وجهت رسائل للمراجع الدينية الكبرى كالمرجع الشيعي السيد علي السيستاني والسيد مقتدى الصدر والسيد اليعقوبي وغيرهم، في سعيها للخروج من المأزق. كما التقت قيادات السنة مع رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عبد العزيز الحكيم للمساعدة في حل مشكلة المعتقلين من السنة. ورغم تأكيده أن تلك الاتصالات لم تثمر شيئا، فإن الدكتور الخزرجي أشاد كثيرا بموقف العديد من رؤساء العشائر الشيعية في البصرة, "فضلا عن ضباط وعسكريين شيعة, عبروا عن استعدادهم للوقوف مع إخوانهم السنة والدفاع عنهم باعتبارهم أخوة دين وشركاء وطن".
نذير مبين(40/108)
وفيما يشبه نداء الاستغاثة حذر الخزرجي دول الجوار والدول العربية من مغبة ترك سنة العراق والبصرة خصوصا, "لكي يواجهوا منفردين مصيرا مجهولا لا يهددهم فقط بل يهدد النسيج الاجتماعي لكل جوار العراق". وأهاب بكل الأطراف التدخل "لا من أجل الانتصار للسنة, ولكن من أجل بقاء العراق بنسيجه التاريخي الذي كان للعرب ولقضاياهم, وكانت قوته مصدر قوة لهم". كما ناشد المنظمات الإنسانية التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأضاف الخزرجي أن هناك الكثير من الحقائق والتفاصيل "التي لا يمكن كشفها أو التصريح بها, حفاظا على الوحدة وأمن العراق, وتجنبا لمخططات العدو التي تريد قصم ظهر البلاد"، بيد أنه ناشد وسائل الإعلام "كشف ما يصل إليها من حقائق من أجل وضع حد لما يجري في العراق والبصرة على وجه الخصوص".
*نائب عراقي يرسم صورة قاتمة للمدينة ... البصرة في عهد قوات التحالف: ثأر وأمراض وفوضى شاملة
الحياة / حصلت "الحياة" على رسالة وجهها النائب العراقي عن مدينة البصرة الشيخ خيرالله البصري الى أحد أصدقائه، شرح فيها أوضاع المدينة ودور القوات البريطانية بعد سقوط نظام صدام حسين. وتنشر "الحياة" نص الرسالة نظراً الى أهمية مضمونها.
لا أسمح لنفسي أن أتحدث عن البصرة وحدها. فإن جراحات العراق كلها تمسني بالصميم ولكن تبقى البصرة هي الوطن ومسقط الرأس والتي حملتني عملية تمثيلها في مجلس النواب، لذا أسعى جاهداً أن أضع المسؤولين في الصورة الحقيقية والتي اختصرها بانعدام الأمن بأركانه الأربعة.
الركن الأول: المعلومات والمخبرون، فليس هناك من جهاز معلوماتي دقيق يرصد التحركات المشبوهة والعابثة في البلد. وحتى إذا توافرت مصادر معلوماتية شعبية فهي تتعرض للخطر والانتقام حينما تكشف أسماؤها، الأمر الذي أدى بهم الى الإحجام عن الإدلاء بالمعلومات.
الركن الثاني: جهات القبض، كثيراً ما تكون هذه الجهات منتمية الى أحزابها ولا تمثل جهات القبض قوة مركزية بل تمثل انتماءها الى الأحزاب والميليشيات، ووجود مصادر أمنية متعددة يربك العملية الأمنية ولا يصلحها.
الركن الثالث: الجهات القضائية (المحاكم)، للأسف الشديد ان القضاء العراقي قد أقفل بتصميم من النظام البائد للشخصيات البعثية وهم الآن يتولون النظر بكل الدعاوى ومنها الدعاوى الأمنية.
الركن الرابع: جهاز الحفظ (السجون)، التي يحفظ بها المجرمون والمتهمون وما زالت تحت قبضات مجهولة. ففي ظل جهاز أمني مخترق ومتعدد الولاءات لجهات اقليمية ومحلية وعالمية لا يمكن ان يستقيم وضع البصرة الأمني. ولعل نظرية الفوضى الخلاقة هي مصداق لما يجري في البصرة وليس هناك من سجون خاصة مستقلة تحت سيطرة قوى الأمن العراقية يحفظ بها المجرمون، الأمر الذي سبب هروب كل المجرمين الذين سببوا كوارث أمنية في العراق وقد تكون كل هذه الصور المطروحة هي صور لما يسمى بنظرية الفوضى الخلاقة.
إن ما يجري في البصرة الحبيبة من قتل يومي للأبرياء من مختلف طبقات البصريين وخصوصاً العسكريين والأطباء وأساتذة الجامعة والكوادر العلمية وعلماء الدين من كلا المذهبين لهو أمر يبعث على القلق والخوف، لا سيما بعد أن اتخذ أشكالاً من ردود الفعل العشوائي والثأر العشائري، والذي قد يلقى دعماً من هذه الميليشيا أو غيرها، الأمر الذي يهدد بالحرب الأهلية التي قد تنطلق شراراتها من البصرة المدينة التي كانت الأكثر أماناً وعلى امتداد التاريخ.
لا شك ولا ريب في أن القوات البريطانية هي المسؤولة عن الملف الأمني بحسب قانون الاحتلال المشرع من الأمم المتحدة، الأمر الذي كان يستدعي من لدن القوات البريطانية مسك الملف الأمني والهيمنة على مجريات الأمور.، والنظر بعين بعيدة المدى الى مستقبل الأحداث الأمنية وما يحيط بهذه البلدة الآمنة من مخاطر ودول موتورة من النظام البائد. وسقوط هذا النظام يعني حلول لحظة الثأر والانتقام من هذا النظام الذي سبب الكثير من الأذى والأضرار لكل الدول المجاورة وفي الوقت نفسه كان ينبغي على هذه الدول أن تعرف ان الثأر والانتقام لا يجوز أن يكونا من أهل البصرة. فالبصرة دفعت من الأذى ضريبة الدم وما عادت بعد هذا اليوم ان تحتمل الانتقام والثأر من جيرانها والذين تنتظر منهم كل المساعدة والعون على تخطي هذه الأزمة.
ولكن الذي حدث هو تراخٍ في مسك الملف الأمني من جانب البريطانيين وتمدد من الميليشيات المدعومة من هذه الدولة وتلك على حساب أمن هذه البلدة الآمنة غير قاصد النيل من المجاميع المجاهدة والتي هزت عرش النظام. ولكن أنحي باللائمة كثيراً على الميليشيات التي بنيت على نفايات حزب البعث فأصيبت بالاختراق الذي غير صورتها من أسماء إسلامية الى ميليشيات متهمة بالقتل والإرهاب في ذهن الشارع البصري. وكان الأولى بالقوات البريطانية ألاّ تسمح بهذا النحو المفرط للميليشيات التي أصبحت تهدد بحرب أهلية على المستوى الأمني.(40/109)
أذكر انني قرأت في مجلة اقتصادية أجنبية ان مهمات استطلاعية كانت مدعومة بالأقمار الاصطناعية باحثة عن مصادر الثروة في العالم فكانت النتيجة ان حددت في البصرة بالذات وفي غرب القرنة تحديداً آبار تشكل حوض وادي الرافدين النفطي الذي لا ينتهي إلا بعد مرور 250 وخمسون سنة. وفي الوقت نفسه تدعو المهمة الاستطلاعية الشركات الغربية الى التعجل والاستثمار النفطي في حوض الرافدين. هذا الخبر وحده يفسر كل التدخلات والأساطيل والميليشيات الموجودة في البصرة، فكما كانت موضع صراع العالم القديم هي موضع صراع العالم الحديث، فهي مصدر الطاقة (البترول) وهي المنفذ البحري الوحيد للعراق والمنفذ الحدودي لثلاث دول كما هي تمثل الجار الملاصق لإيران.
هذه نبذة مختصرة عن الحال الأمنية ما قبل وبعد سقوط النظام والتي تدهورت بفعل الأخطاء البريطانية الفادحة بعد هيمنتها على البصرة وهناك جملة من الأخطاء الكبرى سببت هذه المضاعفات الخطيرة يمكن ان نجملها في الأمور الآتية:
1 - انعدام الخدمات، يؤسفني أن أقول ان البريطانيين طوال هذه الفترة لم يوفروا الماء الصالح للشرب للمدينة بينما يستحم (غيرهم) ببرك من مياه البحر المحلاة ولا أحد يقدر حاجة البصرة في الصيف الحار الى الخدمات المائية التي قد تسبب المزيد من التوتر.
2 - انعدام الصناعات النفطية حتى على مستوى التكرير البسيط لمعامل التصفية المحلية KB r الموجودة في إقليم كردستان والتي ساعدت على تخفيف أزمة الوقود والبنزين. وقد تأكد من مصادر مختصة ان هناك تعمداً في إهمال الصناعات النفطية لأسباب مجهولة في الوقت ذاته ثبت بما لا يقبل الشك سرقات نفطية هائلة ومن المصادفات الغريبة ساعة إعداد هذا البيان وبتاريخ 26/5/2006، ان أسمع من قناة "العربية" الفضائية أن قيمة السرقات النفطية من جنوب العراق تقدر شهرياً بمليار دولار، إضافة الى الخسائر الهائلة من دعم البنزين والتي يمكن أن نعوضها بمصانع التكرير المحلية KB r الموجودة في كردستان الآن وفي أثناء الحرب العراقية - الإيرانية.
3 - انعدام قوانين الاستثمار التي تؤهل البلاد للنهوض الاقتصادي وتجاوز الظروف الاقتصادية الخانقة التي تسبب الكثير من المشاكل. ولنأخذ على ذلك مثالاً ما قامت به مصر من استثمار ميناء السخنة الذي منح مساطحة لرجل أعمال سعودي وسترجع ملكيته الى مصر بعد عقد من الزمن. فلماذا لا تؤهل الموانئ العراقية في البصرة؟
4 - انعدام الخدمات الصحية، فلو قارنا مثلاً ما قامت به القوات اليابانية في السماوة بما قامت به القوات البريطانية في البصرة لكان الفارق كبيراً، فقد استطاع اليابانيون ترميم الكثير من المستشفيات وتأهيل الصرف الصحي ومشاريع لضخ الماء الصالح للشرب كما أصبحت السماوة مقياساً للنظافة، بينما تكتظ شوارع البصرة بالنفايات حتى أصبحت مرتعاً للقاذورات وبؤرة للذباب والبعوض وقد أهملت الحالات المرضية الخطيرة مثل حالات الإصابة بالسرطان والولادات المشوهة ومعوقي الحروب فقد أكدت الأرقام ان ما يقرب من 184 ألف إصابة بالسرطان نتيجة لضرب البصرة بالبيولوجي والكيماوي وكانت الأولى ان يكون مستشفى الأمراض السرطانية في البصرة وليس في محافظة أخرى مما يضطر البصري ان يشد الرحال وليس له أجرة الفندق.
5 - عدم تحسين الكفايات، ان من يبحث عن الرحيل يعمد الى خلق كوادر بديلة تسد الفراغ وتؤدي الحاجة إلى أن ما فعله البريطانيون في البصرة لم يكن شيئاً يذكر إلا بضع سفرات سياحية لأعضاء مجلس المحافظة من أجل اطلاعهم على آخر تطورات إدارة المجالس المحلية. ولكن للأسف الشديد ان الكثير من أعضاء مجلس المحافظة لم يسبق له أن سافر من قبل الى خارج العراق كما ليس لديه القدرة على نقل التجارب العالمية. وأخطر من هذا طاولت عمليات الإبعاد الطاقات الخلاقة والقدرات المبدعة وأصحاب الاختصاص.
6 - المقترح، اقترح إصلاح المجالس المحلية وترشيدها وعدم القياس على المجالس المحلية البريطانية، فهي نتيجة تجربة أكثر من مئتي سنة والمجالس المحلية خلقت لنا أزمات في غاية الخطورة وأخطرها الأزمة الأمنية الحاضرة، إذ ولدت لدى بعض أعضائها حال من حالات الهيمنة على مصادر الثروة والسلطة التي أصبحت تهدد أمن الوطن والمواطن. لذا أقترح: أولاً: الحد من هيمنة مجلس المحافظة بإيجاد مجلس يسمى مجلس خبراء المحافظة ويحتفظ هذا المجلس بأرشيف كامل للمحافظة في كل فعالياتها ونشاطاتها وخدماتها.
ثانياً: تفعيل قانون الرقابة المالية واعتماد مبدأ المحاسبة وإنشاء دائرة للصرف المالي في مجلس المحافظة لا تكون تابعة لسلطان المحافظ ورئيس مجلس المحافظة. فإن عمليات الصرف التي كانت من نصيب البصرة والتي تقدر بـ114 مليون دولار من كل المنح البالغة بما يقرب من 80 مليار دولار قد تبخرت ولم يكن لها أثر على الأرض.
*اتهامات خطيرة يوجهها حزب الفضيلة الى الاحزاب والحركات الشيعية الأخرى في البصرة - تقرير خطير يكشف أسماء المتورطين في فرق الموت(40/110)
بعد تدهور الوضع الامني في البصرة، تحاول الاحزاب والحركات الشيعية التي تسيطرعلى مجلس المحافظة ابعاد الاتهامات التي وجهت اليها من خلال اتهام بقية الاحزاب والحركات بعدم النزاهة ودعمهم لفرق الموت في المحافظة .وهذا منشور وزع في البصرة تحت عنوان (البعد الدولي والاقليمي لاحداث البصرة) ويتوقع ان هذا المنشور صادر من حزب الفضيلة، الحزب الذي ينتمي اليه محافظ البصرة:البعد الدولي والاقليمي لاحداث البصرةكذبت ثمود بطغواها اذ انبعث اشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها)شهدت الايام الماضية حملة مسعورة استهدفت حزب الفضيلة ومحافظ البصرة (محمد مصبح الوائلي) وقد يظن البعض ان هذه الحملة متعددة الاطراف جاءت بشكل عفوي ، فاريد في هذا البيان ان اوضح ابعاد هذه الحملة من خلال بيان بعض النقاط.
1- قام الشيخ محمد فلك من خلال بعض خطب الجمعة باتهام المحافظ باختلاسات وسرقات واتهام حزب الفضيلة بعمليات الاغتيالات التي طالت عددا من ابناء المحافظة ، وهم اكثر الناس اطلاعا على حال المحافظة ، فنتحداهم ان يثبتوا ان المحافظ لم يكن نزيها على اي مستوى من المستويات ، اضافة الى ذلك عدم وجود تخصيصات مالية الى المحافظة اطلاقا.
2- تبنت جماعة مرتزقة تمول من احدى الدول المجاورة هذه الحملة ايضا ، وذلك في صحيفة البينة التابعة لحركة حزب الله ، التي يرأسها المرتزق حسن الساري ، وان حسن الساري هذا عضو في الجمعية الوطنية مع العلم انه لا يمتلك الشهادة الاعدادية ، وقد زوروا له شهادة مع زميله السيد داغر الموسوي امين (حركة سيد الشهداء) وزميلهما حسن كاظم حسن (ابو احمد الراشد محافظ البصرة السابق) الذي رقن قيده في الثاني متوسط في متوسطة الفردوس في القرنة والذي زور لهم الشهادات حسين عذاب الذي يعمل في جامعة البصرة ونائب داغر الموسوي .
3- ان حادثة اسقاط الطائرة البريطانية يأتي في اطار زعزعة الوضع الامني في المحافظة ، ونسأل هل ان حزب الفضيلة يمتلك مصنعا للصواريخ المتطورة جدا، ام ان الصاروخ الذي انطلق من التنومة جاء من الحدود المجاورة .
4- تم القاء القبض على احد عناصر فرق الموت ، اسمه (رغيد عنس) عندما قام باغتيال احد افراد عشيرة بيت سعيد ، وهو الشهيد (جواد) الذي ينتمي لهذه العشيرة ، وبعد التحقق مع المجرم (رغيد) اعترف على افراد مجموعته وعددهم تسعة اشخاص ينتمون الى كل من (منظمة بدر والمجلس الاعلى وحركة سيد الشهداء وحركة حزب الله وحزب ثأر الله) ، ويرأس هذه المجموعة احد ممثلي المجلس الاعلى في ناحية الامام الصادق (ع) واسمه (هادي) وهو هارب الآن ومطلوب من قبل القضاء ، وقد تم تسجيل الاعتراف بشهادة شيوخ عشائر الامارة وبني مالك ومياح والشرش وشيخ عرفات ، واعترف انه يتلقى اوامر الاغتيال من ممثلية المجلس الاعلى في ناحية طلحة .
5- قام احد اعضاء مجلس المحافظة بارسال اشخاص الى احدى الدول المجاورة لغرض تدريبهم على عمليات التفخيخ والاغتيالات وهو ايضا قد زور شهادته مع احد افراد اسرته .
6- اغتيال النقيب (مكرم) احد ضباط الجيش الاكفاء من قبل من قبل اللواء عبد اللطيف ثعبان آمر الفرقة العاشرة والمجرم يوسف سناوي والمجرم ماجد الساري الذي ينتحل صفة مستشار وزير الدفاع .
7- تم ارسال عدد كبير من الاشخاص الى احدى الدول المجاورة للتدريب على تسقيط المحافظ عن طريق العمل كسائقين في سيارات اجرة وذلك براتب شهري مقداره خمسمائة دولار .
ثم ذكر بيان الفضيلة أسباب هذه الهجمة التي وصفها بالحاقدة ومنها :
أ- وصول تعليمات من احدى الدول المجاورة الى مرتزقتها في البصرة لابعاد تجار البصرة من اجل هيمنة الدخلاء المرتبطين باقتصاد هذه الدولة .
ب - مطالبة محافظ البصرة بجزء من نفط البصرة لصالح المحافظة ، وقد رفض نصف اعضاء المجلس الحالي ذلك ، وهؤلاء يمثلون العصابات المنتمية لماوراء الحدود .
ج - قام محافظ البصرة بفتح ملفات الفساد الاداري والمالي التي تورط بها المحافظ السابق حسن الراشد وشريكه الشيخ محمد فلك ، وهذه الملفات وثائق تدين هؤلاء اللصوص بسرقة اموال ابناء محافظة البصرة .
د - قام محافظ البصرة بالغاء اي دور للاحزاب السياسية في دوائر الدولة ومؤسساتها وذلك لكي لايتم تسيس هذه الدوائر والمؤسسات .
هـ- قام المحافظ بدعم المستقلين غير الخاضعين لاتجاهات سياسية او دينية ، وكان تعامله مع الاشخاص على اساس الكفائة والنزاهة .(40/111)
و- ومن الاسباب المهمة التي ادت الى شن هذه الحملة ضد حزب الفضيلة وضد ابنها محافظ البصرة قضية اختطاف افراد من القوة النهرية واستشهاد احدهم على يد القوات الايرانية بعد ان انكرت وجودهم الحكومة الايرانية وبعد اصرار المحافظ وتأكيده على عودتهم واسترجاعهم سالمين حاول الطرف الاخر ان يساوي المسئلة بصورة سرية ولكن المحافظ ابى الا ان تكون القضية على مرآى ومسمع الشعب العراقي .وقد تعرض محافظ البصرة مع اشقائه لعدة محاولات لاغتيالهم ، بعد ان رفض الانصياع للضغوط التي يقوم بها الطابور الخامس والمرتزقة .فاذا كان حزب الفضيلة هو الذي يمتلك فرق الموت في المحافظة فمن يحاول يحاول ان يغتال المحافظ وهو مرشح حزب الفضيلة ، وكذلك من الذي قتل عددا من شباب الفضيلة في القرنة وغيرهم .ياابناء البصرة الغيارى ، ويا ابناء جنوب العراق ، يوجد مخطط لاقامة فيدرالية التسع محافظات ، على ان تكون النجف هي العاصمة السياسية للاقليم ، وان يكون عبد العزيز الحكيم او ولده عمار رئيسا للاقليم، ليبقى ابناء الجنوب عبيداً عندهم ، ولكن ابنائكم من ابناء الفضيلة يقفون ضد هذا المخطط بحزم حتى لو ادى الى سفك دمائهم ، وقد رفض محافظكم الغيور تلبية دعوتين في محافظة النجف وذلك لمؤتمرين عقدا هناك ، وكان رفضه خطوة في طريق رفض التمهيد لهذا الاقليم المشبوه الذي يراد منه خلق دويلة تابعة لدولة مجاورة ، لابقاء سيطرتهم وتسلطهم على ابناء جنوب العراق ونهب خيراته .ان هذه المجموعة المشبوهة هي بنفسها التي قامت بحملتها المسعورة ضد رمز الاسلام الاول في هذا العصر الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قده) وهاهي تعود اليوم ضد ابنائه المخلصين عن طريق عمليات التصفية المنظمة ضد اخوتنا من ابناء السنة وغيرهم من الكفاءات ، ويحاولون لصقها بحزب الفضيلة الاسلامي الوطني الحزب الوحيد الذي تأسس في العراق ولم يدخل يده في جيب اي دولة اجنبية كانت او مجاورة ، كما تفعل الاحزاب التي تنسب نفسها الى الاسلام .
ولا تنسى البصرة ابنها البار الشهيد حازم العينجي الذي لم يكن الاول او الاخير في سلسلة تصفية ابناء المحافظة المخلصين ، فمن الذي اغتال العينجي وهو مرشح الفضلاء في مجلس المحافظة السابق ومقرره ؟اننا نقول وبشكل صريح ان كل من حسن كاظم حسن (ابو احمد الراشد محافظ البصرة السابق) وصلاح البطاط (قيادي في المجلس الاعلى) والسيد داغر (امين عام حركة سيد الشهداء) ويوسف سناوي (امين عام حزب ثار الله) وحسين عذاب وغيرهم من مصاصي الدماء وناهبي ثروات البصرة هم رموز فرق الموت وقادة عصابات النهب .
فان لم يلتفت ابناء البصرة الى حجم المؤامرة فان الاوان قد يفوت وسوف يتسلط على رؤوسهم هؤلاء المرتزقة الجهلة مؤسسي فرق الموت في عراقنا الحبيب الغالي .اللهم قد بلغت ... اللهم قد بلغت ... اللهم قد بلغت .(وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا)
جماهير محافظة البصرة
[نقلا عن : موقع الرابطة العراقية 4/6/2006م ].
*رسالة خطيرة من محافظ البصرة تشير الى تورط ممثلي السيستاني وقوات الأمن والجيش بأعمال القتل الطائفية في البصرة والارتباط بجارة الشر ايران.
اتهم محافظ مدينة البصرة محمد مصبح الوائلي أمس السبت قيادات في الجيش والشرطة العراقية بالوقوف وراء موجة الاغتيالات التي شهدتها البصرة خلال الفترة الأخيرة، كما اتهم ممثلين للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني بدعم فرق الموت في المدينة، كما تبين الرسالة التالية التي أصدرها المحافظ يوم السبت 13/5/2006 :(40/112)
إن المعلومات المتوفرة لدينا بأن هناك مجاميع تخريبية جاءت من خارج المدينة, وقسم منها من خارج الحدود, وذلك للقيام بأعمال ارهابية وتخريبية ضدّ المحافظة, وبعض دوائر الدولة والبنوك, وأن والذي يراد بهِ أن يحصل في البصرة وباقي المدن العراقية الغاية منهُ أهداف سياسية وطائفية, لتأزيم الوضع الأمني. " وللأسف هناك بعض المسميات الحزبية قامت بالتنسيق مع هذه الجهات التخريبية, وأن سيناريو الهجوم سيمهد له بتظاهرة سوف تدعو لها قيادات الارهاب في العراق, وأن بعض القيادات الدينية في البصرة, ممن لهم تأثير في الشارع البصري, يدفعون بهذا الاتجاه وأن هذا الفعل الذي سوف يكون غطاءً للفوضى في البصرة يتحمل مسؤروليته بعض الكيانات السياسية وبعض تجار الدين. " لذا دعونا شيوخ العشائر ووجهاء المدينة في البصرة للتصدي لهذا العمل الارهابي, ووجهنا رسالة لوزارتي الدفاع والداخلية للمساندة, وإني لأستغرب بأن موجة الاغتيالات التي حدثت في البصرة لم تقم الشرطة في البصرة بأي تحقيق اتجاهها, ونلاحظ أن بعض منتسبي قوات الحدود وبعض قادة الجيش في البصرة لهم علاقات مشبوهة مع بعض المطلوبين للقضاء, الذي ثبت ضلوعه بجرائم الاغتيالات, ولذلك قمت بتوجيه انذار نهائي لهذه القيادات للتصدي لهذه الأعمال التي هي بعيدة كل البعد عن أهالي البصرة وأخلاقهم والمعروفين بالطيبة والتسامح والكرم, وسوف أقوم باللازم لاقالة جميع القيادات إذا لم تقم بواجبها الصحيح. فأمن المواطن وحيلاتهِ أمانة في أعناقهم. كما أدعو ضباط الشرطة ومنتسبي الجيش الابتعاد عن الحزبية والعمل لصالح العراق وأن لا تحركهم أحزابهم, وسوف نتخذ أشدّ الاجراءات باتجاه كل من نجد لهُ يداً في زعزعة الأمن في البصرة. " إننا اليوم نقف أمام مرحلة خطيرة من مسيرة بلدنا ومدينتنا وتكمن خطورة هذه المرحلة في حجم التحديات التي تحيط بمديتنا الناتج عن تطلعات وأطماع قوى واتجاهات لها ارتباطاتها المعروفة خارج العراق، بالاضافة لما يراد بمدينة البصرة أن تكون ساحة لتصفية الحسابات الاقليمية بين قوى لدول تريد نشر هيمنتها ونفوذها السياسي والاجتماعي والثقافي على مدينتنا بوابة الخير للعراق العزيز. " ولعلني وطوال هذه الفترة كنت أتجنب كشف أوراق هذه المؤامرة وهذا التقاتل الاقليمي في الساحة العراقية ودعونا لعدة مرات وبعدة قنوات سياسية للكف عن هذه الممارسة اللاانسانية، الا أن الواقع يكشف اصرار القوى المعادية الشريرة التي كشفت عن مخططاتها عبر سلوك أذرعتها الارهابية والدموية المناهضة والعادية للقانون التي ترعرعت في بلادنا ومدينتنا خلال المرحلة السابقة واليوم ومن مستوى المسؤولية القانونية فإني ومع تحميلي لهذه القوى امعادية للقانون المسؤولية الكاملة عن ازهاق أرواح الأبرياء من مدينتنا فقد قررنا التالي:
أولاً : تجمد كل صلاحيات مدير شرطة البصرة ويحال ويحال طلب اقالته إلى مجلس المحافظة لاتمام عملية عزلهِ من منصبهِ.ثانياً: نطالب وزير الدفاع وللمرة الرابعة بعزل قائد قوات الفرقة الرابعة اللواء عبد اللطيف ثعبان لعدم أهليتهِ وعدم تعاونهِ معنا ولتحزبه لجهات معادية للقانون. وثالثاً: يتحمل كل من الشيخ محمد فلك المالكي والسيد عماد البطاط المسؤولية القانونية لقيامهم بتحريض الناس البسطاء للوقوف ضدّ القانون وزرع الفوضى في أوساط الدوائر والمؤسسات الحكومية, ولدعمهم الأحزاب الدموية لفرق القتل والاغتيال وبدعم خارجي وأطالب الجهات الدينية التي يرجعون لها بتوجهيههم بما يتوافق مع مصالح الأمة.محمد مصبح محمد الوائلي محافظ البصرة
13/5/2006
-----------
ان ما ذكر أعلاه لا يبريء ساحة (الوائلي) مما اقترفه في البصرة خلال السنتين الماضيتين، فهو من قام بنهب الملايين بل المليارات حسب ما تداولهُ أهالي البصرة.. وموقفه المفاجئ هذا ربما ينطلق من صراع على الكراسي بعد انسحاب حزب الفضيلة (والذي ينتمي له) من الحكومة المزمع اعلانها.. ولعله الآن يريد أن يظهر بمظهر الشريف والوطني وهو قبل فترة قصيرة قام باطلاق عصابات تهريب المخدرات بعد أن رفضت الشرطة والضباط اطلاق سراحها، واستنجد بسادتهِ في الداخلية من أجل اطلاق أفرادها لأنهم ايرانيون.. وهذا مقطع من الرسالة :
*رئيس هيئة علماء المسلمين / المنطقة الجنوبية الدكتور يوسف الحسان يشارك في مؤتمر يدعو إلي نبذ الطائفية والإرهاب في البصرة
عقد في محافظة البصرة مؤتمر وطني ضد الطائفية والارهاب وعلي قاعة البتروكميات في خور الزبيرتحت شعار(وحدتنا وعملنا الجاد سبيلنا لبناء العراق ومحاربة الطائفية والارهاب) .(40/113)
وألقي كل من رئيس هيئة علماء المسلمين في البصرة الدكتور الشيخ يوسف الحسان والدكتور احمد الحسني والمهندس رياض جبر و والشيخ عبد الحافظ البغدادي كلمات تنادي بالوحدة الوطنية ومحاربة الارهاب .وقال رئيس المؤتمرالدكتور ضياء الاسدي ان (الكلمات التي القيت في المؤتمر دعت الي نبذ الفتنة الطائفية ومحاربة الارهاب بأشكاله كافة والوقوف صفا واحدا لبناء الوطن) مشيرا الي ان(اهم نتائج المؤتمر كان التوقيع علي مسودة حلف البصرة الداعي الي نبذ الطائفية والارهاب والعنف ومواصلة بناء المدينة بناء صحيحا وسليما).
[ جريدة (الزمان) الدولية - العدد 2414 - 31/5/2006 ].
معالجات الاحتقان الطائفي في جنوب العراق
كيف يمكن تدارك الخطر ؟
بحسب رؤيتنا يتوجب على أهل العراق أن يبادروا قبل أن يفاجئوا، وأن يسرعوا في العلاج قبل أن يداهمهم المرض العضال، وما يمكن طرحه في هذا الشأن يتلخص في النقاط الآتية:
1ـ أن تحشد طاقات المجتمع في الاتجاه الصحيح، وهو ما يمكن تسميته بمحاولة إيجاد 'المشروع الوطني' الذي تتناغم فيه كافة المجهودات والهمم، ويكون هو السبيل لنمو المجتمع ورفاهيته، ولا يكون فقط حصرًا على فئة دون غيرها.
وهنا يأتي دور المرجعيات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني وبعض القوى الاجتماعية والعشائرية الفاعلة في المجتمع في محاولة منها لايقاف هذه المهزلة المروعة والانتكاسة الحضارية والانسانية من خلال معالجات في بنية الخطاب الديني والمذهبي ، والتأكيد على حقوق المواطنة ، وأهمية ( التعايش السلمي ) لبناء الجنوب وإعماره تمهيداً للقضاء التام على الفتن الداخلية التي تعصف بأمن المنطقة وتهدد استقرارها .
2ـ أن يفعل أهل السنة دور الاعلام في هذه المرحلة من خلال فتح قنوات إعلامية جديدة لنقل معانات أبناء الجنوب الى العالم بأسره في خطوة لتحريك الرأي العام العالمي والعربي والاقليمي .
3ـ أن تتوحد جهود العاملين في الساحة ، وأن يتفقوا على كلمة سواء ، وأن يبنوا كياناً موحداً منظماً ومتماسكاً كي يشعر الآخر بقوة أهل السنة وهيبتهم فلا يفكر باستئصالهم وكأنهم لقمة سائغة .
4ـ أن تتحرك دول الخليج وبقية دول العالم العربي والاسلامي على المستويين الشعبي والرسمي لمناصرة أخوانهم في جنوب العراق من خلال الضغط على الحكومة العراقية في المحافل العربية والدولية وفي اللقاءات الرسمية ، وأن يتحرك الشارع العربي والاسلامي اعلامياً وانسانياً وإغاثياً لنجدة أخوانهم في جنوب العراق ، وأن تعقد الندوات والمحافل واللقاءات الفضائية لتوجيه أنظار العالم على ما يجري في البصرة وبقية أنحاء الجنوب .
5ـ أن يعقد لقاء علني وعاجل بين أكبر الزعامات الدينية في العراق ممن يمثل الطائفتين السنة والشيعة ( ومن الضروري أن يضم الشيخ حارث الضاري والسيد علي السيستاني ) والخروج ببيان واضح اللهجة لادانة هذه السياسات والممارسات ، وللتأكيد على الاخوة الوطنية والدينية بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ونحلهم .
6ـ على جبهة التوافق العراقية ( وهي كيان سياسي سني مشارك في الحكومة الحالية ) أن تبذل المزيد من الجهود والضغوط للتسريع بإيقاف ما يجري لاهل السنة في الجنوب ، وللحد من ظواهر التصفية الطائفية الشاملة والتي تقوم بها أجهزة أمنية حكومية معروفة تسندها مليشيات مشخصة في الشارع العراقي .
7ـ أن يقوم العقد الاجتماعي القائم في الدولة على أساس المشاركة لا الاستئصال، وأن يكون أساس الاختيار هو الكفاءة وحسن الأداء وليس فقط الولاء للاحزاب أو المذهب، وهو ما يعني أن تكون شرائح المجتمع متساوية في كافة الحقوق والواجبات، وأن يكون التمايز بينها في تبوء المناصب القيادية بمعايير موضوعية واضحة للجميع.
8ـ الابتعاد عن الأسلوب القسري والعقاب الجماعي في التعامل، خاصة مع فئات تشعر بتمايزها عن بقية المجتمع أو ينمو عندها الإحساس بالتهميش من جانب الحكومة الشيعية ، ومحاولة علاج الإشكاليات التي تطرأ في الإطار السياسي والمجتمعي لا الأمني فقط والذي يُبرزالجانب السلطوي للدولة؛ وهو ما قد يدعو أهل السنة إلى اللجوء إلى العنف أو اختيار المغادرة والهجرة من البصرة.
9ـ مراعاة الخصوصية المذهبية والعقائدية التي تصطبغ بها فئة معينة أو فئات من الشعب، طالما أنها لا تخالف ثوابت المجتمع، مع محاولة دمجها بصورة أو أخرى في الإطار الكلي للمجتمع، وسحبها إلى المشاريع الوطنية الكبرى التي لا تدحض هويتها.
10ـ على اهل السنة أن يصبروا ويحتسبوا الأجرعند الله تعالى ، وأن يتقوا الله في خاصة أنفسهم ، وأن يضاعفوا من الاستغفار ، وأن يطيلوا من الركوع والدعاء والتضرع والبكاء بين يدي الله تعالى عسى الله أن يفرج عنهم ما هم فيه من البلاء والامتحان والأذى { وما أصابكم من مصيبة فبإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم } .
11ـ على اهل السنة إغلاق كافة المساجد الفرعية والصغيرة يوم الجمعة والتوجه الى ( المسجد الجامع / البصرة الكبير ) لأداء صلاة الجمعة ، ولا بأس من إعادة فكرة الجمعة الموحدة مع تيارات شيعية معينة حتى ولو كانت باغية .(40/114)
حل لأزمة البصرة
يبدو ان مجلس رئاسة الدولة العراقية كان يحتاج هذا الكم الكبير من الخراب الذي أصاب البصرة لكي يجتمع ويبحدث أمر البصرة إذ كان من الضروري ان يموت عشرات الناس أو مئات الناس اغتيالا وان تهجر مئات العائلات البصرية وان يهرب من المدينة كوادرها المتعلمة من أساتذة ومحامون وصناعيون وأطباء وان يغلق أهل البصرة أبواب مساكنهم عليهم وان يدب الخوف والرعب في اوصال المدينة من آولئك الزوار غير المعروفين الذين لا يتكلمون إلا ومسدساتهم بأيديهم ، فهل كان الثمن الذي دفعته البصرة عاصمة المدن العراقية دون منازع كافيا لحد الآن أم ان بعضهم يطلب منها المزيد من التدهور والمزيد من الخطف والموت والتهجير .
لقد حركت المنارة منذ عدة أعداد تلك المياه الآسنة الراكدة ورفعت الصوت عاليا بان البصرة تحتضر وتموت ولكنها لن تموت إلا واقفة لكي تخزي قتلتها والساكتين على قتلها اليوم والى يوم الدين ويبدو اننا نجحنا في ان نحرك الضمائر إلى جانب عدد من شرفاء البصرة الآخرين في ان يجتمع مجلس الرئاسة ونعترف بان مساهمتنا على أهميتها كانت محدودة إلى جانب ما جرى من تفجر مفاجئ للأوضاع السياسية في المدينة حيث لفت الوضع السياسي المتفجر الأنظار لمحنة المدينة واهتم بأمرها القاصي والداني وتقاطرت بعض الوفود عليها ونأمل ان تكون هذه المرحلة بداية نهاية الإرهاب المحلي الذي تعاني منه المدينة ونسميه بالإرهاب المحلي لأنه لم يأتينا من الخارج لان الذين يمارسونه يعرفون تفاصيل المدينة تماما ويختفون فيها ويغيرون سياراتهم وملابسهم بسهولة دون ان نعثر لهم على اثر ودون ان نقدم أي واحد منهم للعدالة او على اقل تقدير للفضائيات العربية او غير العربية .
يؤلمنا ان ثمن تحرك القيادات السياسية في بغداد لنجدة البصرة كان عشرات الجثث ومئات العوائل المشردة وتوتر امني بالغ الخطورة أصاب مفاصل حياة المدينة ومزق نسيجها الاجتماعي ويؤلمنا ان المؤسسة السياسية في بغداد كانت تحصي جثث أهل البصرة كأنها كانت تنتظر ان يصل الرقم إلى الحدود الحمراء لكي تتحرك ، أي انهم كانوا بانتظار خراب البصرة .اليوم وقد اجتمعوا وتناقشوا وقرروا ما قرروا عليهم ان ينقذوا البصرة لا بإعادة الأمن إلى شوارعها بل بتقديم من ارتكبوا تلك المجازر إلى العدالة فلن يرضى مواطن واحد من أهل البصرة الشرفاء بان يتم تطبيق مقولة عفا الله عما سلف ، لان الله سبحانه لا يعفوا عن القتلة ولا يعفوا عن الذين يتموا العوائل وقتلوا أبنائها دون ذنب وان طبقوا هذا الشعار لا فائدة من نصرتهم للمدينة .
قوى الأمن تعرف من الذي يمارس عمليات القتل ، لكن قوى الأمن تخاف من سطوة العصابات ولذلك فان مفتاح الحل والربط في إخراج قوى الأمن من محنتها الحالية محنة الخوف من الذين يدوسون على القانون بأقدامهم ، ومفتاح الحل والربط هو بفتح تحقيق دقيق بكل حوادث الاغتيال التي جرت في المدينة واحدة واحدة دون نسيان أي منها أو دون إغفال أي منها منذ سقوط النظام إلى اليوم مع التركيز على الأشهر الأربعة الأخيرة حيث جرى سبي البصرة بطريقة منهجية ويومية ومستمرة فبينما سقط العشرات من القتلى في الأشهر الأربعة الأخيرة لم يسقط ولا قاتل واحد في قبضة العدالة وتلك هي نقطة البدء ومربط الفرس ان صح التعبير .
ان أرادت الدولة ان تداوي البصرة بالمسكنات فلا خير بهذا الدواء ، وفي الحقيقة انها لا تملك اليوم غير المسكنات وبالتالي لا ندري على أي أساس سوف تتحرك وكيف خصوصا وان دولتنا لا تتنازعها المهنية والمصداقية وإنما تتنازعها الحزبية والطائفية والمصالح السياسية وهنا يكمن مصدر خوفنا بأنها لن تكون جدية في إحداث تغيير شامل بالوضع الأمني والاقتصادي في المدينة وغياب الجدية هو عيب عام مستشري في جميع مفاصل الدولة العراقية وكأن ما يجري في كل مكان مجرد عمليات وقتية أو مرحلية أو انها لامتصاص النقمة أي العمل بالمسكنات .
ان جميع القوى السياسية في المحافظة ، جميع الأحزاب الدينية، جميع الشخصيات مطالبة اليوم بحل طلاسم الوضع الأمني المتردي ، مطالبة ان تضع ما لديها من معلومات بيد العدالة وان تتكاتف لإنقاذ البصرة وهنا فقط يكمن الحل الجدي والحقيقي للمشكلة وان لم تفعل فانها تشارك بشكل أو بآخر باستمرار محنة البصرة.
[بعد خراب البصرة ! - د. خلف المنشدي، موقع هيئة علماء المسلمين ، مقالات بتاريخ 28/5/2006 بتصرف ].
فتوى شرعية.. بوجوب وحدة الأمة وتحريم سفك الدماء والاعتداء على دور العبادة
اجتمع عدد من علماء المسلمين بتاريخ 25 شوال 1424 هـ في جامعة مدينة العلم في مدينة الكاظمية شمال بغداد، وتدارسوا أوضاع العراق بعد الاحتلال الأنكلو- أمريكي الغاشم والمشكلات الطارئة عليه، فأصدروا فتوى في ضوء الكتاب والسنة - ملزمة لجميع المسلمين - بوجوب وحدة الأمة وتحريم سفك دماء الأبرياء والاعتداء على ممتلكاتهم ودور العبادة المختلفة.(40/115)
وفيما يأتي نص الفتوى:-بسم الله الرحمن الرحيم فتوى شرعية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:يقول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } 59 - النساء.لقد اجتمع عدد من علماء المسلمين في جامعة مدينة العلم للإمام الخالصي في الكاظمية في اليوم الخامس والعشرين من شهر شوال من عام 1424 هـ.وبعد دراسة مجمل أوضاع المسلمين في البلاد والنظر في المشكلات الطارئة عليهم في ضوء كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله أصدروا هذه الفتوى الملزمة لكل مسلم يقر بالشهادتين:إن الوحدة بين أبناء الأمة الإسلامية واجب شرعي يقدم على كل الأمور، وإن كل قول أو فعل يفضي إلى فرقة الأمة وضعفها هو من المحرمات الشرعية القطعية، وإن المسلم حرام على أخيه المسلم بنص الحديث الشريف: كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه]وفي ضوء ذلك فإن ما يجري - هذه الأوقات - من اغتيالات للعلماء والمثقفين العراقيين واعتداءات على المساجد ودور العبادة يعدّ من الآثام الشرعية التي لا يقدم مسلم صالح على اقترافها، وإن الواجب الشرعي يلزم علماء الأمة ودعاتها من خطباء ومرشدين وغيرهم التأكيد على أمر الوئام والوحدة والتحذير من الشتات والفرقة وما يفضي إليهما من مواقف وخطابات لا تراعى فيهما حرمة الأمة ومصلحتها.يقول الله عز وجل: { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }10 - سورة الحجرات.
اللهم اشهد أنا قد بلغنا .. اللهم اشهد أنا قد بلغنا وقع على هذه الفتوى بعض كبار العلماءالحاضرين في اللقاء المذكور وغير الحاضرين ممن اطلعوا عليها ولاحظوا أهميتها
- حارث سليمان الضاري
- محمد مهدي الخالصي
- د. عبد السلام داود الكبيسي
- إبراهيم منير المدرس
- د. محمد بشار الفيضي
- أحمد الحسني البغدادي
- قاسم الطائي
- محمد أحمد الراشد
- جواد الخالصي
- عبد الرضا الجزائري 15 ذي القعدة 1424 هـ
[فتوى شرعية.. بوجوب وحدة الأمة وتحريم سفك الدماء والاعتداء على دور العبادة، موقع هيئة علماء المسلمين ، وثائق سياسية بتاريخ 30/4/2006 ].
هيئة علماء المسلمين تضع حلولا للازمة
بسم الله الرحمن الرحيم
ميثاق شرف وطني
قال الله تعالى: (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ((
وبعد: فإن هيئة علماء المسلمين في العراق تعتقد - بناءً على الحقائق التاريخية وعلى التجارب الحالية الجارية على الأرض - أن مصلحة العراق وشعبه لا يعرفها ولا يقدرها إلا العراقيون أنفسهم، ولا يخرجه من الدوامة المأساوية في كل المجالات التي وضع فيها منذ أكثر من عام إلا أهله إن هم أرادوا ذلك، وأخلصوا لله ولوطنهم وتركوا الاعتماد على الغير مهما كان الغير قريباً أم بعيداً، فهو لا يتحرك إلا وفق مصالحه ومخططاته على حساب مصالح الشعب العراقي وتطلعاته. لذا تدعو هيئة علماء المسلمين في العراق أبناء الشعب العراقي الكريم بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم إلى نبذ الخلافات والعمل معاً تغليباً لمصلحة العراق التي هي مصلحة الجميع والتلاقي على ميثاق شرف يقوم على الأمور الآتية:
أولاً: الولاء لله أولاً ثم للعراق ثانياً، وتقديم مصلحته على كل المصالح الشخصية والسياسية والمذهبية والعرقية وغيرها.
ثانياً: رفض الاحتلال بشتى صوره كلٌّ حسب استطاعته وبالطريقة التي يراها مناسبة ومؤدية لهذا الواجب الديني والوطني.
ثالثاً: العمل الجاد لإنهاء الاحتلال بأسرع وقت ممكن وبكل الوسائل المشروعة الممكنة؛ لأن الاحتلال يمثل المشكلة التي لا يمكن للعراق الخروج من الكارثة التي هو فيها اليوم بدون زواله نهائياً.
رابعاً: المصالحة الوطنية الصادقة التي يتم فيها جدياً القضاء على النزاعات والخلافات وكل المظاهر المزعجة الغريبة على شعبنا والمهددة لاستقراره ووحدته كالاختطاف والقتل والتصفيات الوظيفية ومحاولات الاستيلاء على الأموال العامة والخاصة ودور العبادة وغير ذلك من الأعمال الشاذة وغير المبررة.
خامساً: الإقلاع عن كل ما يولد الحساسيات ويثير الخلافات ويؤجج الفتن من أقوال وأفعال وسلوكيات شخصية أو إعلامية أو غيرها.
سادساً: العمل الجاد على جمع الكلمة ووحدة الصف وتوحيد الهدف للجميع في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ بلدنا وشعبنا لقطع الطريق على من يريدون الشر بالعراق وأهله تحقيقاً لمآربهم الخاصة.
سابعاً: الحرص على وحدة العراق أرضاً وشعباً وعدم التفريط بها تحت أي ظرف من الظروف أو عذر من الأعذار. ثامناً: إيجاد مرجعية أو لجنة متابعة عليا لتفصيل مواد هذا الميثاق من كل الفئات الفاعلة وذات التأثير الحقيقي في الشارع العراقي للنظر في الأحداث والقضايا المستجدة التي تحتاج إلى حل أو رأي مشترك فيها، وبواقع ممثل واحد على الأقل من كل جهة.
هيئة علماء المسلمين في العراق المقر العام
27/ جمادى الأولى/ 1425هـ
15/ تموز/2004م
[ميثاق شرف وطني، موقع هيئة علماء المسلمين ، وثائق سياسية بتاريخ 8/5/2006].
رسالة إلى المرجعية الشيعية في العراق.. التاريخ لم يتوقف(40/116)
أمقت الكتابة عن الطائفية والطائفيين وأمقت أن أكون كالبوم الذي يبشر بحرب أهلية طائفية سيكون وقودها وحطبها شعوب المنطقة برمتها في ظل العولمة الحاصلة في كل دقائق الحياة عربتها الفضائيات ووسائل الإعلام المنتشرة على مد البصر،لكن ما يجري في العراق يدفع أي غيور على هذا البلد العريق والحضاري أن يكتب عنه ليس من باب الحرص على أهله فقط وإنما من باب الحرص على المنطقة من برميل بارود إسلامي ينتظر أن ينفجر في وجهنا جميعا. كان على المرجعية الشيعية في العراق أن تعلن موقفا لا غموض فيه ولا لبس تجاه الاحتلال وتجاه ما يجري في عراق اليوم، كان عليها أن تجيش الجيوش من أجل رحيل الاحتلال إلا أنها للأسف لم تقم بذلك الواجب المنوط بها شرعيا ومنطقيا وآثرت الفاني على الباقي، وهو ما سيدفع ثمنه شعب العراق شيعة وسنة، وهنا لا أريد أن أغمط حق بعض المرجعيات الشيعية الوطنية التي كان لها موقف مشرف في الوقوف إلى جانب القوى الوطنية العراقية في رفض الاحتلال ومقارعته، ولكن للأسف فإن الصوت العالي والذي يمثل الغالبية الشيعية في العراق هو من يدعو إلى الاستكانة والتعايش مع الاحتلال. لم يستهدف أي هجوم الشيعة في العراق إلا وسمعنا تنديدا به من قبل هيئة علماء المسلمين ولكن للأسف لم نسمع بأي تنديد من المرجعيات الشيعية لما يجري في مناطق أهل السنة وهو ما دفع فصائل في المقاومة أن تضع شيعة العراق في صف المتعاونين مع الاحتلال.
إن على المرجعيات الشيعية في العراق أن تنظر إلى الوضع هناك من زاويتين مهمتين الأولى وطنية على أساس أن ما يجري سيمزق جسد هذا الشعب العريق بشيعته وسنته وبالتالي المطلوب مواقف وطنية حقيقية تجاه مغاوير الداخلية وممارساتها، وتجاه ما يحاك للعراق وألا تصب الزيت على النار ففي الوقت الذي جيشت العالم ضد تفجير القبة الذهبية في سامراء صمتت صمت القبور على ضرب مسجد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه على يد قوات الاحتلال، وفي الوقت الذي جيشت الشارع العراقي والشيعي في العالم الإسلامي ضد تفجير سامراء وهو مدان بأقوى العبارات إلا أنها صمتت تماما على استهداف أكثر من مائة وسبعين مسجدا سنيا في العراق، وهنا أهمس في أذن هذه المرجعيات فأقول بإن ما يجري في العراق ليس نهاية التاريخ، وعالم الزمن لم يتوقف هنا، وعجلة العصر تدور وتمضي ولن يبقى إلا المواقف المشرفة التي تأخذ في الاعتبار المصلحة العليا. أما الزاوية الثانية فإنه حتى لو سلمنا بأن الشيعة أغلبية في العراق وهو أمر جد مشكوك فيه في ظل وجود أكراد وتركمان بالإضافة إلى عرب السنة، ولكن حتى لو سلمنا بذلك فإن الحرب الطائفية التي بشر بها السفير الأمريكي في العراق زالماي خليل زاده لن تنحصر في العراق وستمتد إلى كل بلد إسلامي لا سمح الله وحينها على المرجعيات أن تدرك أن الشيعة وأتباعها أقلية في العالم الإسلامي وهي بالتالي ستدفع ثمن سياسات مرجعياتها لا سمح الله.
على الدول والمرجعيات وأصحاب الفكر أن يحذروا من برميل بارود إسلامي ينتظر أن ينفجر بوجوهنا جميعا ولن يكون أحد بمنأى عن هذا البرميل، ومن ظن يوما أنه سيحصر وسيقتصر على العراق فهو واهم فمشاركة الآلاف من المقاتلين العرب والمسلمين في المقاومة العراقية سينقلون الحرب إلى بلادهم وحينها فلا ساعة مندم.
[رسالة إلى المرجعية الشيعية في العراق، أحمد زيدان ، موقع هيئة علماء المسلمين ، مقالات بتاريخ 19/3/2006].
دعوة الى الشيعة بإعادة النظر(40/117)
هناك بعدان أساسيان يمكن التوقف عندهما في هذا السياق؛ يتعلق أولاهما بالمواقف السياسية للمراجع الكبار في النجف الأشرف وعلى رأسهم السيد علي السيستاني، فيما يتعلق الثاني بدلالات ما جرى بعد الجريمة من اعتداءات على العرب ومساجدهم. بالنسبة للبعد الأول لا بد من القول إن علينا الاعتراف بأن من حق أي طرف أن يختار النهج الذي يراه مناسباً في التعامل مع الاحتلال، من دون أن يصادر حق الآخرين في رفض ذلك النهج والتعريض به بالطريقة التي يراها، وهنا ينبغي القول إن الشيعة، وكما العرب السنة لم يتفقوا على رأي واحد، إذ مال بعضهم إلى التوافق مع الاحتلال بهدف تحقيق مكاسب طائفية، فيما مال آخرون إلى الرفض السياسي وتبني خيار المقاومة من دون المشاركة المباشرة فيها، كما هو حال التيار الخالصي والبغدادي، أما الطرف الثالث فقاوم ثم عاد ومال إلى المقاومة السياسية كما هو حال التيار الصدري. من هنا يمكن القول إن المراجع الكبار في النجف لم يمثلوا عموم الشيعة في موقفهم، لأنهم بدعمهم الخيار السياسي في التعامل مع المحتل قد انحازوا لأطراف معينة في اللعبة دون أخرى، وهو ما ينفي عنهم صفة الحياد التي يتدثرون بها، كما ينفي عنهم مقولة عدم التدخل في الشأن السياسي. لقد تدخل السيد السيستاني وما زال يتدخل في السياسة، الأمر الذي ينطبق على المراجع الآخرين، وقد فعلوا ذلك في أهم المحطات بالنسبة للشيعة، كما هو الحال مع الانتخابات ومع الدستور، وها إن الموقف الأخير ممثلاً في الدعوة إلى التظاهر بمناسبة اعتداء سامراء يؤكد ذلك. في سياق السلوك السياسي للمراجع، وعلى رأسهم السيد السيستاني يمكن القول إننا إزاء سلوك طائفي إلى حد كبير، فالاحتلال لم يتعرض إلى الحد الأدنى من الهجاء من قبل هؤلاء، على رغم أن وجوده هو الذي يوفر أجواء الفوضى في العراق، كما أن الاعتداءات التي يتعرض لها العرب السنة وعلى رغم بشاعتها لا تتعرض لأي انتقاد من قبلهم، فكم من مرة خرجت التقارير تتحدث عن السجون الأمريكية وما يحدث فيها ومعها مسالخ وزارة الداخلية، وكم من مرة تعرضت المدن العربية السنية إلى اعتداءات بشعة، لكن ذلك كله لم يدفع المراجع إلى توجيه أي انتقاد. والأسوأ أن شيئاً من ذلك قد وقع بالنسبة للاعتداء على النجف يوم تحصن فيها الصدريون. الأسوأ أن قضايا الأمة الخارجية لا تحضر في خطابهم أيضاً، مع أن السيد السيستاني هو المرجع الأهم بين مراجع الشيعة في العالم، ففي حين استنكر العالم الإسلامي ما جرى من عدوان على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في واقعة الرسوم، لم يتفضل (السيد) بأي موقف على هذا الصعيد؛ لا هو ولا مراجع النجف الثلاثة الآخرين (إسحق الفياض، محمد سعيد الحكيم، بشير النجفي) في حين سمعنا الكثير من السيد محمد حسين فضل الله في لبنان، كما سمعنا من السيد حسن نصر الله أيضاً. خلاصة القول إن ثمة حاجة إلى إعادة النظر في السلوك السياسي لمراجع النجف، ليس على صعيد الصراع الداخلي بين فرقاء القوى الشيعية، ولكن أيضاً على صعيد صراع الوطن برمته، ومن بعد ذلك على صعيد قضايا الأمة، وما من شك أن جوهر مواقف الأمة منهم لا تتحدد بشكل أساسي بسبب رؤاهم الفقهية أو الاعتقادية، بل تبعاً لمواقفهم السياسية، أكان من العدوان الذي تتعرض له من الخارج، أم من وحدتها وتسامحها مع بعضها البعض. نأتي إلى البعد الثاني ممثلاً في دلالات ما جرى بعد جريمة سامراء، ذلك أن ما تابعناه من حشد طائفي واعتداءات لا يمكن أن يفسر بوقوع الجريمة إياها، ولا بد أن يكون وراء ذلك حشد طائفي استثنائي يدفع باتجاه اعتبار المعتدى عليهم أعداء وأي أعداء، ولا حاجة هنا للكثير من لغة السياسة، لكن ذلك لا يحول دون التشكيك في رواية من يسمون التكفيريين بحسب المصطلح المستخدم، ليس لأن هؤلاء قد أنكروا ذلك فحسب (لا ينكرون في العادة ما يفعلون)، ولا لأن المدينة كانت بأيديهم شهوراً طويلة ولم يمسوا المكان المستهدف، بل أيضاً لأن ثمة آخرين لهم مصلحة واضحة، بل راجحة فيما جرى، وعلى رأسهم المحتلون. مع ذلك، وحتى لو اعتقدنا أن ثمة فئة تكفيرية من بين العرب السنة قد استهدفت المقام، فهل يعقل أن يأتي الرد بالاعتداء على المساجد، وحتى تدنيس المصاحف ذاتها، فضلاً عن القتل الأعمى للناس في الشوارع؟ هل يعقل أن يعاقب العرب السنة على ذنب فئة محدودة، ثم هل يختلف ذلك عن القول باستباحة دماء الشيعة لأن قوات بدر أو مغاوير الداخلية يقتلون العرب السنة وأئمتهم ورموزهم؟ لقد قلنا وسنظل نقول إن أتباع المذاهب السنية، باستثناء قلة يتشددون حتى مع المخالفين من السنة، لا يكفرون الشيعة، وهو ما يبدو مختلفاً في الحالة الشيعية، إذ يميل الخطاب العام إلى استمرار الحشد المذهبي على نحو لا ينطوي على تكفير واضح فحسب، بل على استنفار واسع للثارات التاريخية كما لو أنها وقعت بالأمس وليس قبل قرون طويلة. والنتيجة هي أن السنة سيظلون عنواناً أبدياً ليزيد القاتل ما بقي دم الحسين طازجاً على هذا النحو، مع أننا إزاء جريمة لا يتذكرها مسلم على وجه الأرض إلا شعر بالمرارة والقهر.(40/118)
ثمة حاجة لتحكيم العقل، وليس من المنطق أن ينسخ بعض أخوتنا الشيعة أكثر من مليار مسلم سني من حساباتهم ثأراً لدم الحسين من دون أن يكون لهم ذنب فيما جرى، والأسوأ أن يحدث ذلك في وقت لا يفرق العدو في حربه بين إيران الشيعية وبين سواها من حواضر الأمة، أو بين حزب الله الشيعي وبين حماس السنية. إننا لا نطالب أحداً بالتنازل عن معتقداته، مع أن المراجعة تبقى مطلوبة من الجميع، ولاسيما أن استمرار تحميل السنة وزر دم الحسين، أو حتى ذنب أبي بكر وعمر بدعوى سرقتهما لحق علي في الخلافة، لن يكون صائباً، ولا بد من العودة إلى أصول الدين التي استقرت قبل ذلك كله. لكن عدم حدوث ذلك لا يجب أن يعفي العقلاء من البحث عن أسس للتعايش ومواجهة العدو المشترك.
[قراءة مختلفة لدلالات ما وقع بعد جريمة سامراء، ياسر الزعاتره، موقع هيئة علماء المسلمين ، مقالات بتاريخ 11/3/2006 بتصرف ].
*مشايخ من خارج العراق يحذرون من الحرب الطائفية :
يقول الشيخ عبد المنعم :
" قال تعالى:) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ (آل عمران:187.
من منطلق الشعور بالمسؤولية وما يجب علينا من تبيانٍ للحق، والصدع به، وعدم كتمانه .. وإبراء للذمة .. وما يجب علينا ـ في هذه الظروف العصيبة ـ من نصح للأمة بعامة، وأهلنا في العراق بخاصة، نخط هذا البيان ـ مستعينين بالله، ومتوكلين عليه ـ فنشير إلى جملة من الحقائق والأمور:
أولاً: الحرب الطائفية في العراق بدأت من طرف واحد؛ من طرف أرباب وقادة بعض الاحزاب والمليشيات المرتبطة بإيران ، ومعهم حلفاؤهم من قوات الغزو الصليبي .. ضد مسلمي وسنة العراق، منذ الأيام الأولى من أفول وسقوط نظام البعث العراقي .. منذ ذلك التاريخ ومعالم هذه الحرب الطائفية الحاقدة الأحادية الجانب تتضح معالمها يوماً بعد يوم .. حيث الجرائم الصفوية المنظمة تُرتكب يومياً ضد مسلمي السنة .. وضد مدنهم .. وضد علمائهم .. ومساجدهم .. وأعراضهم، وحرماتهم .. وكأنَّ القوم على موعد ـ بفارغ من الصبر ـ مع ذلك اليوم لينفِّثوا عن شيء من أحقادهم وأضغانهم البغيضة ضد الإسلام، وضد مسلمي العراق وأهله من السنة!
عند الحديث عن الحرب الطائفية وشرورها في العراق .. لا بد من أن نتذكر ذلك .. ونتذكر أن الحلف الصفوي الصليبي هم الذين بدؤوا .. ولا يزالون يدمرون ويخربون ويعتدون على الحرمات الآمنة .. والبادئ أظلم!
ثانيا : ان من حق المسلمين المجاهدين في العراق أن يُدافعوا عن أنفسهم، ودينهم، وأعراضهم، وحرماتهم، ومدنهم .. وأن يُقابلوا العدوان بعدوانٍ مماثل، وأن يُقاتلوا الغزاة الصليبيين وكل من دخل في حلفهم، وشاركهم التآمر والحرب على العراق .. وتدمير وتقتيل العراق وأهله، أياً كان انتماؤه الطائفي، فمن رد الظلم والعدوان عن بلاد المسلمين وحرماتهم .. فما ظلم، ولا تجاوز العدل .. بل هو من أعظم الجهاد في سبيل الله.
قال تعالى:) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج:39.
وقال تعالى:) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة:194.
وقال تعالى:) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (الشورى:39.
ثالثاًً: ما تقدم ذكره لا يعني مطلقاً أننا نبرر ونجيز الحرب الطائفية في العراق؛ بحيث تُقتَّل الناس على أسمائهم، وهوياتهم، وانتمائهم الطائفي .. بغض النظر عن مواقفهم وأفعالهم .. وما يُوجب القتل والقتال شرعاً .. لا؛ هذا لا نريده ولا نعنيه، ولا نجيزه .. إذ ليس كل الشيعة في العراق بأعيانهم وذواتهم وعوامهم كفاراً .. كما أن ليس كل الشيعة من دون استثناء أحدٍ منهم يُقاتلون مع الغزاة ومتواطئين معهم .. أو يُشاركون في قتل المسلمين السنة والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم .. وبالتالي لا يجوز تعميم الحرب والقتل عليهم جميعاً ومن دون استثناء أحدٍ منهم، ومن دون النظر إلى ما تجيزه نصوص الشريعة وما تحرمه.
فإن وجد منهم الظالمون، والخونة المتآمرون ـ مهما كثروا ـ فإنه لا يبرر معاملة الأبرياء منهم كما ينبغي أن يُعامَل الظالمون المعتدون؛ قال تعالى:) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام:164.
وقال تعالى:) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة:190.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأحد أصحابه:" أما أنه لا يجني عليك ـ أي ولدك ـ ولا تجني عليه "، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (".
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حجَّة الوداع:" ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ولا يجني والدٌ على ولده، ولا مولودٌ على والده ".(40/119)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:" لا يؤخذُ الرجلُ بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه ". وفي رواية:" لا يؤخذُ الرجلُ بجناية أبيه، ولا بجناية أخيه ". وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي توجب بأن لا يؤخذ المرء بجريرة غيره، ولا البريء بجريرة الظالم المعتدي .. مهما كان هذا الظالم قريباً لذاك البريء أو لصيقاً به .. وهذا من أعظم قوانين العدل في الإسلام.
كذلك لم يُعرف عن عالم من علماء الإسلام المعتبرين من أفتى بجواز قتل كل شيعي لمجرد كونه شيعي .. أو ينتمي للطائفة الشيعية .. ونحن نعيذ أنفسنا وإخواننا من أن نبتدع شيئاً خطيراً كهذا لا نصّ عليه يُجيزه .. وليس لنا فيه سلف معتبر!
وهذا ما أكد عليه سعادة الأمين العام لهيئة علماء المسلمين الدكتور حارث الضاري في أكثر من مناسبة ، حيث أوضح بأن المشكلة ليست مع المجتمع الشيعي وإنما مع الاحزاب السياسية الشيعية التي تبغي إثارة الفتنة بين أبناء البلد الواحد ومن هنا وجه بعد صبر طويل أصابع الاتهام الى منظمة بدر وبعض المليشيات بعد أن تمادى الطرف الآخر في عدوانه على أهل السنة .
رابعاً: الحرب الطائفية تعني جملة من الأخطاء القاتلة:
منها: أنها تعني قتل الناس على أسمائهم وهوياتهم الشخصية .. بغض النظر عن مواقفهم وأفعالهم .. ومن دون التمييز بين البريء عمن سواه، وهذا عين الظلم، كما تقدم.
ومنها: أنها تعني سفك الدم الحرام والتسبب في سفك الدم الحرام المقابل؛ فمن سبَّ آباء الناس جلب السبَّ لأبيه ولا بد، ومن قتل آباء الناس وأبناءهم قتل الناسُ آباءه وأبناءه؛ إذ لكل فعل ردة فعل .. وهكذا يتسع الخرق .. وتُزهق الأرواح .. ويقع الإسراف في القتل .. إلى أن يشمل الجميع، ويقتل الجميع الجميع، ويُقتَلُ الإنسان ولا يعرف لماذا قُتل وفيما قُتِل .. وهذا مالا نريده ولا نقره ولا نرضاه لأهلنا في العراق!
قال تعالى:) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (الإسراء:33.
قال أهل العلم في قوله:) فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ (؛ أي فلا يُسرف ولي المقتول في القتل فيقتص من غير القاتل.
ومنها: أن الحرب الطائفية مطلب من مطالب الغزاة الصليبيين؛ فهي أولاً تشتت من جهود وسهام المجاهدين عنهم .. وثانياً فهي تُطيل من بقاء واستعمار الغزاة الصليبيين للبلاد تحت ذريعة ضرورة استتباب الأمن والمحافظة عليه .. وثالثاً فهي تبرر للخونة العملاء المطالبة ببقاء الغزاة المستعمرين تحت ذريعة الحاجة إلى حمايتهم .. والمحافظة على الأمن!
ومنها: أنها ستوهن من عضد المجاهدين .. وقد تؤدي إلى تفرق كلمتهم وصفوفهم .. فإذا كان الواحد منهم يجد للحرب الطائفية مبرراتها ومسوغاتها .. فقد يُقابله عشرة من المجاهدين يختلفون معه ولا يوافقونه الرأي .. وهكذا يقع الاختلاف والشقاق والتفرق .. وهذا مطلب من مطالب الغزاة وعملائهم!
ومنها: أنها تُفقِد المقاومة العراقية المشروعة .. على مستوى العالم الإسلامي وغيره .. مبرراتها ومسوغاتها .. إذ كثير من الناس سيفسر الأحداث على أنها نوع من التقاتل الداخلي .. والثأر الداخلي بين أفراد الشعب الواحد .. لا علاقة لها بجهاد الغزاة المحتلين وعملائهم .. وهذا لا شك أنه سيُفقد كثيراً من الأنصار والمؤيدين .. وهو أمر من السياسة الشرعية مراعاته والانتباه إليه، وإلى مضاعفاته.
وفي الختام فإننا نُطالب إخواننا وأبناءنا في العراق وبخاصة منهم المجاهدين، بأن يكونوا وقَّافين عند حدود الله .. وأن يتقوا الله ينصرهم الله .. وأن يُغلِّبوا الحكم الشرعي على حب التشفي والانتقام .. وهم أهل لذلك بإذن الله.
كما نطالبهم بأن يوسعوا دائرة الشورى فيما بينهم وبين من يستأنسون بآرائهم من علماء الإسلام العاملين، وبخاصة في المسائل الكبار التي تنعكس آثارها على مجموع الأمة، فالمسلمون أمرهم شورى بينهم، كما قال تعالى:) وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الشورى:38.
كما وأننا نضم صوتنا إلى صوت إخواننا في هيئة علماء المسلمين في العراق .. بضرورة تراجع المجاهدين عن كل تصريح أو بيان يدل ولو من بعيد على الدعوة إلى حرب طائفية شاملة أو الشروع فيها، للأسباب الآنفة الذكر أعلاه .. فالرجوع إلى الحق فضيلة وهو من شيم وصفات المجاهدين المخلصين".
[ بيانٌ حولَ الحرب الطائفيَّةِ في العراق، عبد المنعم مصطفى حليمة، بتاريخ 17/9/2005 م، ص1-4 بتصرف ].
نهاية التقرير
والحمد لله في الأولى والآخرة
وهو حسبنا ونعم الوكيل
ملحق : بيانات هيئة علماء المسلمين المتعلقة ببعض أحداث البصرة
وهي بحسب تسلسل صدورها في موقع الهيئة
===============(40/120)
(40/121)
منهج العلامة ابن باز في بيان الحق للمخطئين
د. محمد بن إبراهيم أباالخيل
أستاذ مساعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم
ليس بغريب أن يبكي المسلمون في الداخل والخارج - بحرقة - شيخنا العلامة أبا عبدالله عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - ، وأن يأسفوا كثيراً لفقده بمظاهر متنوعة ، وأساليب رأيناها وعايشناها منذ أن صك أسماعنا خبر وفاته ، فمحبته قد ضربت بأطنابها في أعماق قلوب الناس لما لمسوه من علمه وإخلاصه وتواضعه وزهده وأعماله الجليلة في أكثر من حقل ومجال ، وقد صدق الشيخ يوسف القرضاوي في قوله :"لا أعرف أحداً يكره الشيح ابن باز من أبناء الإسلام ، إلا أن يكون مدخولاً في دينه ، أو مطعوناً في عقيدته ، أو ملبوساً عليه . فقد كان الرجل من الصادقين الذين يعلمون فيعملون ، ويعملون فيخلصون ، ويخلصون فيصدقون ، أحسبه كذلك والله حسيبه ،ولا أزكيه على الله تعالى ".
قد خلّف ابن باز - رحمه الله - تراثاً علمياً وفكرياً ضخماً ، توزع بين الأسفار المكتوبة والأشرطة المسموعة ، وتركز في العقيدة والفقه والحديث ، وفي أبواب هذه العلوم وجوانبها وزواياها كانت له نظراته المتميزة ، ومناهجه الخاصة ، وخواطره الفياضة ، وتعليقاته القيمة ، وكل هذه يمكن لطلبة العلم إبرازها والاستفادة منها ، وتخصيص دراسات حولها .
إن من الجوانب المهمة التي كانت منذ سنوات تشد انتباهي في محاضرات الشيخ - رحمه الله - وكتاباته أسلوبه المتميز في مناقشة الآخرين وبيان الحق لهم والرد على أخطائهم ، ذلك الأسلوب الذي يفتقده - يا للأسف - العديد من العلماء وطلبة العلم والدعاة في الزمن الغابر والحاضر الذين إذا طالعت كتاباتهم في هذا المضمار ألفيتها تفتقد إلى كثير من أخلاق الإسلام في معاملة الآخرين والحكم عليهم ، وتفتقر إلى أدنى قواعد المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى والمجادلة بالتي هي أحسن بينما يطمئن القلب ، وتنقاد النفس إلى كتابات هذا الشيخ الجليل (ابن باز ) الذي تمثل آداب الإسلام وهديه فيما يصدر عنه من أقوال ، دع عنك بقية أحواله .
ومن باب النصح لله ولكتابه ولرسول صلى الله عليه وسلم ولخاصة المسلمين وعامتهم ، وبما أوجبه الله على أهل العلم من قول الحق وعدم كتمانه ، والقيام بالدعوة إلى الله والإرشاد إلى سبيله ، والدفاع عن دينه ، والذب عن حياضه ، قام ابن باز بواجبه المنوط به على مدى عقود من الزمن ، فجاهد بلسانه وقلمه ، فوقف في وجه الدعوات الهدامة والاتجاهات المنحرفة ، وشارك في معالجة كثير من القضايا المستجدة ، وتكلم وكتب موجهاً للجاهلين ، ومصححاً للمخطئين ، ومناقشاً للمجتهدين ، ورداً على المعاندين ، سواء ما كان في الوسائل المسموعة أو المقروءة .
وقد وصل عدد ما طالعته من رسائله ومقالاته التي حررها للتنبيه عن الأخطاء وبيان الحق (الردود) ما يقرب من ثلاثين ، كان معظمها حول ما ورد في صحف ومجلات ، وباقيها القليل حول ما جاء عبر التليفزيون والإذاعة ، وقد كانت نسبة ضئيلة منها رداً على أحد تعرض له ، أما القسم الأكبر فقد أنشأه الشيخ لما يراه واجباً عليه من كشف الباطل وإيضاح الحق ، وتعليم الجاهل ، وتوجيه الغافل ، ورد الشارد إلى الطريق المستقيم .
ومن خلال ما اطلعت عليه من آثار الشيخ في نقد أقوال الآخرين وكتاباتهم رصدت مجموعة من الضوابط والآداب التي كان يلتزم بها ويستند إليها عند عرضه للآراء والأقوال ، ومن ثم مناقشتها والحكم على أصحابها ، وأستطيع أن أجملها في النقاط التالية :
أولاً :
ذكره لصاحب المقال أو البحث أو الكتاب المراد مناقشته باسمه الذي وقع به مقاله أو بحثه أو كتابه ، وذلك من حين أن يبدأ بيان الحق له وحتى النهاية ، كما أنه لا يُغفل لقبه العلمي كالشيخ أو الدكتور ونحوهما ، ثم إنه لا يأخذه الحماس في الرد - كما يفعل بعضهم - إلى تحريف الاسم أو الاكتفاء بجزء منه ازدراءً واحتقاراً ، كما لا تجره حدة المناقشة إلى السخرية من عنوان المقالة أو البحث أو الكتاب ، أو التندر ببعض ألفاظ الكتاب كما يفعل بعض المولعين بالردود على الآخرين وانتقاد كتاباتهم .
ثانياً :
نقله لأقوال المتحدث أو الكاتب بنصوصها الكاملة غير مبتسرة من وسطها أو أطرافها ، ثم مناقشتها مناقشة علمية ، عبارة بعد أخرى ، أو مقطعاً بعد آخر .
ثالثاً:
استخدام الألفاظ الدارجة ، والعبارات السهلة في حواره مع الكاتب أو المتحدث ، بحيث يفهم المقصود من أول وهلة ، فهو يهتم بالمعنى قبل المبنى ، فلا يرص كلمات وعبارات من حوشى الكلام ، فتضيع الفائدة في ركام من الكلمات والعبارات ، وقد يفهم منها خلاف المقصود
رابعاً :
اعتماده في تنبيهاته للمخطئين في كتاباتهم على كتاب الله تعالى وسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ثم أقوال السلف والأئمة الأعلام من المتقدمين والمتأخرين ، ويكون نقله نقلاً موثقاً .
خامساً :(40/122)
الصدع بكلمة الحق وما يراه صواباً دون مماراة أو مداهنة ، ولكن ذلك يكون بأدب جم ، وأسلوب هادي ، وتوجيه حكيم ، وكلمات مهذبة ، وكل كتاباته في هذا الميدان تشهد بما نقول ، ولنأخذ مثلاً واحداً ، فلقد دعا أحد المشايخ - في مقالٍ له - إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية ، وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام ، وأن الوقت ليس وقت مهاجمة أتباع المذاهب . فرد الشيخ رحمه الله بقوله :" ولا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم ، وجمع كلمتهم على الحق ، وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما أمرهم الله سبحانه بذلك عز وجل { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } الآية . ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية وغيرهم ، بل مقتضى الأمر الاعتصام بحبل الله أن يتآمروا بالمعروف ، ويتناهو عن المنكر ، ويبينوا الحق لمن ظنه ، أو ظن ضده صواباً بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه ، وهذا مقتضى قوله سبحانه { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، وقوله سبحانه :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ، ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين ، وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه ، والمخالف للحق على خطئه ، وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله ولي التوفيق ".
سادساً :
توقيره للعلماء داخل البلاد وخارجها على حد سواء ، واحترامه لآرائهم وفتاويهم ، وإن خالفهم في شيء منها بيِّن رأيه المدعم بالأدلة متجنباً تجهيل الآخر ، أو تسفيه قوله ، بل تراه يدعو لنفسه أولاً وللقائل ثانياً بالتوفيق لإصابة الحق ، فمثلاً أفتى أحد العلماء المعاصرين بأن اللحوم المستوردة من أهل الكتاب مما يذكر بالصعق الكهربائي ونحوه حلال لنا ما داموا يعتبرونها حلالاً . فرد عليه - رحمه الله - بقوله:" أقول هذه الفتوى فيها تفصيل " ثم راح يفصل ما يحل منها للمسلمين وما يحرم ، ثم قال :" وبما ذكر يتضح ما في جواب الشيخ ...(1). وفقه الله من الإجمال " ثم أكمل بقية بيانه ، ثم قال :" ولواجب النصح والبيان والتعاون على البر والتقوى جرى تحريره ". وبعدها ختم كلمته بالدعاء بقوله : " وأسأل الله أن يوفقنا وفضيلة الشيخ ... وسائر المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول ...".
سابعاً :
إنصاف الشيح - رحمه الله - للمخالف ، فلا يُغفل ما احتواه مقاله من حق وصواب ، وإن كان الغرض الأساس من تناول ذلك المقال استدراك ما فيه من أخطاء ، فعلى سبيل المثال اطلع على بحث يحلل فيه صاحبه المعاملات الربوية المصرفية ، ويقول في مطلعه :" يمكن القول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بدون فوائد ". فرد سماحته :" يمكن تسليم المقدمة الأولى ، لأن المسلمين في كل مكان يجب عليهم أن يعنوا باقتصادهم الإسلامي بالطرق التي شرعها الله سبحانه حتى يتمكنوا من أداء ما أوجب الله عليهم وترك ما حرم الله عليهم ، وحتى يتمكنوا بذلك من الإعداد لعدوهم ، وأخذ الحذر من مكائده " ثم أخذ يشرح الوسائل الكفيلة بتكوين قوة اقتصادية للمسلمين ، ثم قال :" وأما المقدمتان الثانية والثالثة وهما قوله ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد ، فهما مقدمتان باطلتان " ثم شرع بشرح بطلانهما ، فبين أن الأدلة الشرعية ، وما درج عليه المسلمون من عهد نبيهم r إلى أن أنشئت البنوك كل ذلك يدل على بطلان هاتين المقدمتين ، حيث استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية بدون بنوك وبدون فوائد ربوية .
ثامناً :(40/123)
كان رحمه الله تعالى يناقش النص الذي أمامه ، ويتجنب الحكم على النيات وما يدور في القلوب مما لا يعلمه إلا علام الغيوب ، ويعرض عن حشد الأخطاء الموجودة في ذلك المقال أو البحث لتكون مقدمات ومعطيات لإصدار حكم معين على القائل ناهيك عن عودته إلى كتابات سالفة للمخالف بغرض تصديق حكمه عليه كما يفعل بعض الناس ، فمنهجه أخذ كلام القائل على الظاهر ، وحمله على أجمل المحامل ، والتماس العذر للبعض أحياناً ، فمن الأمثلة على ذلك أنه عندما أعلن أحد المشايخ إنكاره لتلبس الجني بالإنسي ، واستحالة مخاطبة الجن للإنس ، وأبدى استعداده للتراجع عن قوله هذا إن أُثبت له خلافه . رد عليه سماحة الشيخ ، وأثبت له بالأدلة النقلية والعقلية تلبس الجن بالإنس وجواز مخاطبة الجني للإنسي ، ثم عقب بقوله :" وقد وعد في كلمته أن يرجع إلى الحق متى أرشد إليه ، فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا ، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق ". ولما نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها ، وتصدى لها سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله وكتب أحدهم بعده مقالاً في الموضوع نفسه أنشأ ابن باز جواباً رد فيه على صاحب المقال الأخير ، وحمله على الظاهر وظن به الظن الحسن ، فكان من كلامه بعد ذكره رد ابن حميد على المقالات قوله :" ولكن الأستاذ ... هداه الله وألهمه رشده لم يقتنع بهذا الرد ، أو لم يطلع عليه فكتب مقالاً في الموضوع ". وحين كتب أحد الصحفيين العرب مقالاً يدعو فيه إلى الاهتمام بما في المدينة المنورة من آثار وقبور ، لا سيما قبور أصحاب صلى الله عليه وسلم وأزواجه وعماته ، ثم اقتراحه على إدارة الأوقاف وضع لوحات يكتب فيه أسم صاحب القبر ، ويحاط بشبك من حديد . رد عليه سماحته وحمله على الخير ، وعذره بعدم علمه ، فكان مما قاله بعد أن وضح له الحق :" قد يكون هذا الاقتراح من الكاتب عن حسن نية ومقصد صالح ، ولكن الآراء والاستحسانات لا ينبغي للمؤمن الاعتماد عليها حتى يعرضها على الميزان العادل الذي يميز طيبها من خبثها ألا وهو كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل الكاتب حين كتب هذه الكلمة من أولها إلى آخرها لم يكن عنده علم بما جاءت به السنة الصحيحة عن رسول ا صلى الله عليه وسلم حول القبور ، فلذلك وقعت منه الأخطاء السالفة ، ووقع منه هذا الخطأ الأخير وهو اقتراحه على إدارة الأوقاف ما تقدم ذكره ....".
تاسعاً :
حسب ما اطلعنا عليه من كتابات وأقوال في ردوده على المخطئين ومخاطبته للمخالفين لا نرمق فيها كلمة تحامل أو تجريح ، أو لمز بعيب ، أو زن بريبة ، أو رمي ببدعة ، أو عبارات تهجم أو تشفٍ حتى من الذين أخطاءوا في حقه أو سخروا منه أو كذبوا عليه ، فحينما سخر منه أحدهم لكون سماحته استمع إلى جني متلبس بامرأة ، وأن هذا الجني أسلم في مجلسه ، ذكر هذا الساخر باسمه ولقبه العلمي المعروف فقال :" فقد بلغني عن فضيلة الشيخ ... أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر " وكلما أورد اسمه قدم له بـ( فضيلة الشيخ ) ، وفي أثناء الرد عليه كان لا يكف عن الدعاء له بالهداية والتوفيق . ومثال آخر كان أحد الكتاب خارج المملكة تكلم على لسانه بأن أي فتوى تصدر منه يجب أن تكون ممهورة بخاتمة ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية ، ثم نسب إليه كلاماً عن حلق اللحية . فرد عليه سماحته ، فكان من رده بعد الحمدلة والتصلية قوله : " فقد اطلعت على ما نشر في جريدة .... لكاتبه .... وقد نسب إلي هداه الله كلاماً " - لاحظ الدعاء له بالهداية -ثم ذكر ذلك الكلام ، وبعد عقب بقوله : " وهذا الكلام ظاهر البطلان " ثم أخذ يبين له الحق ثم نصحه بالتقوى والحذر من سوء الظن بالمسلمين . ومثال ثالث افترت عليه إذاعة لندن - ذات مرة - الفتوى بأن الاحتفال بالموالد كفر ، فوضح كذبها وتحريفها للفتوى التي قال فيها بأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ، ونشرت في الصحف والإذاعة ، ثم لم يزد رحمه الله عن قوله بأن ما ذكرته إذاعة لندن " كذب لا أساس له من الصحة ، وكل من يطلع على مقالي يعرف ذلك ،وإني لآسف كثيراً لإذاعة عالمية يحترمها الكثير من الناس ، ثم تقدم هي أو مراسلوها على الكذب الصريح ".
عاشراً :(40/124)
يلاحظ أثناء توضيحه الحق لأحد من العلماء أو من دونهم دعاءه له بين آونة وأخرى بالهداية والتوفيق والرشاد والمغفرة ونحو ذلك ، وتشعر من كلمات الدعاء وصيغته والمواضع التي يدعو بها للمخالف أو المخطئ بأنه دعاء مخلص صادق ، يخرج من سويداء القلب ، وليس دعاءً عابراً ، أو دعاء له في موضع ودعاء عليه في موضع آخر كما تراه عند البعض ، فكان من الصيغ التي يستخدمها في الدعاء لمن يكتب له ، أو يرد عليه قوله "هداه الله"،"هداه الله وألهمه التوفيق"،"هداه الله وألهمه رشده"،"سامحه الله". وأحياناً يشرك نفسه في الدعاء ، فيقول :"عفا الله عنا وعنه"،"نسأل الله لنا وله التوفيق". وإذا كان القائل أو الكاتب قد نادى في مقاله بأمر خطير يُحلل حراماً ، أو يصادم حكماً من أحكام الإسلام فإنه ينصحه بالإنابة إلى الله تعالى والرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل . فمثلاً - ختم رده الطويل على من أباح الغناء بالنصيحة ، فقال :" ونصيحتي لـ ... وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه ، وأن ينيبوا إلى الحق ، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة ،والتمادي في الباطل رذيلة ...". أما الكاتب الذي زعم حل المعاملات الربوية المصرفية فسأل الله له أن يوفقه " للرجوع إلى الحق ، والتوبة مما صدر منه ، وإعلان ذلك على الملأ لعل الله أن يتوب عليه كما قال عز وجل :{ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }". وحين نادى مدير إحدى الجامعات العربية بالتعليم المختلط بين الجنسين ، وزعم أن المطالبة بعزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة . رد عليه الشيخ رحمه الله ، وكان يدعو له خلال مناقشته لأقواله بمثل "هداه الله ، وأصلح قلبه ، وفقهه في دينه"، ثم ختم الرد بالنصيحة له فقال :" ونصيحتي لمدير جامعة ... أن يتقي الله عز وجل ، وأن يتوب إليه سبحانه مما صدر منه ، وأن يرجع إلى الصواب والحق ، فإن الرجوع إلى ذلك هو عين الفضيلة والدليل إلى تحري طالب العلم للحق والإنصاف ...".
حادي عشر :
رغم ما بلغه من مقام علمي ومنزلة اجتماعية فإنك لا تخال في كتاباته في هذا الميدان أي كلمة أو عبارة يفهم منها تعالمه عن من هم دونه ، أو تعاليه على غيره ، والناظر في ردوده على الآخرين يدرك ذلك تماماً ، ولعل أصدق الأدلة على ما نحن بصدده كونه يخاطب بعض الصحفيين أو الكتاب المغمورين بـ"الأستاذ" أو "الأخ" أو "أخانا" ونحو ذلك .
ثاني عشر :
مع أن كل رسالة أو مقالة كتبها في هذا الفن كانت في الأصل لبيان الحق لقائل أو كاتب بعينه ، فتراه يناقش عباراته مناقشة وافية إلا أن هدفه - رحمه الله - كان أسمى من الرد على فلان أو علان ، إذ تلاحظ حرصه أثناء ذلك على توجيه الناس للعلم الشرعي والتمسك بالعقيدة الصحيحة ، ودعوتهم إلى الخير وطرقه ، وتحذيرهم من الشر وأساليبه ، وتذكريهم بمكر الأعداء وحيلهم ، وتقديم النصح للإعلاميين ومن على شاكلتهم ، ودعوة الحاكم والرؤساء لتحكيم الإسلام في بلدانهم ، وسنكتفي هنا بذكر بعض نصائحه للإعلاميين التي ضمنها في ردوده على بعض الكتاب ، فمنها قوله - بعد أن نبه على مزالق وقعت بها إحدى الكاتبات :" فيجب أن ننزه أقلامنا من الوقوع في مثل هذه المزالق امتثالاً لأمر الله وأمر رسول صلى الله عليه وسلم كمالاً للتوحيد وابتعاداً عما ينافيه أو ينافي كماله ، ووسائل الإعلام - كما هو معروف - واسعة الانتشار ، وعظيمة التأثير على الناس ، وكثرة ترديدها لمثل هذه الكلمات ينشرها بين الناس ، ويجعلهم يتساهلون في استعمالها ، وخاصة النشء مع ما في استعمالها من المحذور "وقال عقب تعليقه على قصيدة نشرتها إحدى الصحف وتضمنت مخالفات عقدية ، قال :" والواجب على جميع القائمين على الصحف من أهل الإسلام ألا ينشروا ما يخالف شرع الله عز وجل ، وأن يتحروا فيما ينشرونه ما ينفع الأمة ولا يضرهم في دينهم ودنياهم ، وأعظم ذلك خطراً ما يوقع في الشرك وأنواع الكفر والضلال ..." . وحينما كتب أحدهم مقالاًُ ينتقد فيه تصرفات بعض أهل الحسبة وجهه بقوله :" وكان الواجب على الكاتب حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة ، ويناصحهم فيما أخذ عليهم أو يتصل بسماحة المفتي أو رئيس الهيئات ، ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي . أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم ، والحط من شأنهم ، ووصفهم بما هم براء منه فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه ، لما في ذلك من كسر شوكة الحق والتثبيط عن الدعوة إليه ، والتلبيس على القراء ، ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم ، وعلى النيل من دعاة الحق ...".(40/125)
وهكذا من خلال النقاط السابقة تبين لنا الأصول والضوابط التي كان يسير عليها الشيخ في تعامله مع المخطئين ، ومناقشته للمخالفين وحواره مع المجتهدين . وقد توصلنا إليها بعد استقراء وتأمل لما وقع تحت اليد من آثار له في هذا المجال ، واللافت للنظر أن هذا المنهج بأصوله وضوابطه يكاد يكون ثابتاً عنده سواء ما أملاه قديماً ، أو ما صدر عنه في السنوات الأخيرة ، فلم يزحزحه عنه تشنج كاتب أو تحامله ، ولا عناد مخالف أو تعصبه . كما لم يؤثر عليه فيه تقلب الأحوال ، ولا تبدل الوجوه ، فيا ترى ما الذي أكسب الشيخ - رحمه الله - ذلك المنهج ؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال تفيدنا في اقتفاء أثره ، وترسم خطاه لا نتهاج منهجه ، فهي تتعلق بعلم من الأعلام الذي عاش بيننا عمراً مديداً يُعلم ويُناصح ويدعو ويُدافع ، فكان له حضوره المؤثر سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي ، وليس فقط في الداخل وإنما تعدى أثره إلى الخارج .
على ضوء ما قرأته وعرفته من حياة الشيخ - رحمه الله - ومآثره وآثاره ، أستطيع أن أرد تملكه ذلك المنهج إلى عدة أمور توفرت له ، وتميزت بها شخصيته ، منها تعمقه بالعقيدة السلفية الصحيحة ، فالعقيدة المستمدة من الكتاب وصحيح السنة كانت أحب العلوم إليه - كما نقل على لسانه - ، فصار مرجع الجميع في الدقيق منها والجليل ، ولا ريب أن التعمق بالعقيدة السلفية زوده بمنهج أصيل في التعليم والكتابة والتعامل وغيرها ، وعصمه - بعد الله تعالى- من التقلب حسب ما يطرأ من ظروف . ومن الأمور التي توفرت له -أيضاً- علمه الواسع بالسنة المطهرة من حيث المتون وما يرتبط بها من علوم حتى أصبح حكمه على الحديث بالصحة والضعف محل اعتبار واحترام ، فاستفاد من هذا العلم فكرياً وكذلك علمياً إذ طبقه على نفسه ، والذين جالسوه وعاشروه يدركون ذلك . وقد سئل مرة ما الشخص الذي تأثرت به فأصبحت بهذه الرحابة من سعة الصدر والصبر في حل مشاكل الناس والتعامل معهم؟ . فأجاب": الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، فهو قدوتنا ، وهو الأساس في هذا ، فكان تحمله كبيراً ، فربما جره الأعرابي من ردائه حتى يؤثر في رقبته ، فيحنو عليه النبي عليه الصلاة والسلام ويضحك ويجيب له طلبه ، وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم يتحمل أهل البادية والحاضرة فهو أسوة لجميع أهل العلم والمسلمين ثم أصحابه كان لديهم من الحلم والصبر الكثير أيضاً ، كالصديق وعلي وطلحة وغيرهم من أصحاب صلى الله عليه وسلم وكان عمر لديه بعض الحدة لكنه كان أَخْيَر الناس وأصدقهم وأكملهم إيماناً ". وكل مطلع على أقوال ابن باز وكتاباته في تبيين الحق للمخطئين لن يجد شيئاً أسهل من الوقوف في ثناياها على تطبيقه - رحمه الله - للهدي النبوي ، كحسن الظن بالمخطئ وأخذه على ظاهره ، واحترام شخصه ، وعدم الهزء به ، وحب الخير له ، ونحوه مما عرضنا له إجمالاً في معالم منهجه .
ومن الأشياء التي أراها أكسبته ذلك المنهج المتميز هو اختلاطه بالناس على مختلف طبقاتهم ، كبيرهم وصغيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، فصارت لديه معرفة في نفسيات الناس ، وكيفية مخاطبتهم والتأثير فيهم ، والأساليب المثلى في توجيههم إلى الخير ، وهدايتهم للطريق القويم .
ولا شك أن معايشته للعديد من التقلبات السياسية والفكرية والاجتماعية التي مرت على العالمين العربي والإسلامي إبان القرن الرابع عشر الهجري وشطر من الخامس عشر - ذات أثر في تشكيل فكره ومن ثم منهجه في الحوار من الآخرين ومناقشته لإطروحاتهم وأفكارهم ، فلقد شهد أحداثاً جساماً كنشوء بعض الدول وسقوط أخرى ، والجهاد العسكري ضد الاستعمار في أكثر من قطر ، واجتياح الدعوات القومية والشيوعية لكثير من البلاد العربية والإسلامية ، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ، وهزائم العرب أمام ذلك الكيان لا سيما في سنة 1967م ، ثم خفوت الأصوات القومية وتنامى الأصوات الإسلامية ، وتصدي بعض الأنظمة للمد الإسلامي ، والحروب التي قامت بين الدول العربية والإسلامية . وكل ذلك صاحبه -بطبيعة الحال - حوارات ومواجهات ومعارك فكرية واجتماعية بين العلماء وغيرهم في شتى أقطار العرب والمسلمين .
والملاحظ أن ابن باز رحمه الله - حسب علمي - لم تظهر تنبيهاته وكتاباته على الساحة في المجال الذي نتحدث عنه إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره بمعنى أنه حين نضج علمياً وعقلياً ، فصار منهجه في نصح الآخرين والتنبيه على تجاوزاتهم منهج العالم المدقق ، والعاقل الواعي المدرك لخلفيات وأثر ما يقول ويكتب.(40/126)
وأعتقد جازماً أن من أهم الأمور التي جعلت لابن باز منهجاً متميزاً في الردود على الخاطئين ، ومناقشته المخالفين الإخلاص الذي تحسه في كلماته ، وتلمسه في كتاباته ، فهو لم يرد على أحد ليقضي عليه ويحطمه ويقفز للشهرة على أكتافه ، ولم يجادل أحداً ليسفه رأيه ويكشف ضآلة علمه ، ولم يكتب ضد فلان لكسب مال أو جاه ، وإنما كان - رحمه الله - يبتغي الحق فيما يقول . وبالرجوع إلى مفردات منهجه التي سبقت تعرف - حتى دون أن تتمعن فيها - صدق إخلاصه . ونضيف هنا أنه يحرص - رحمه الله - على عنونة ردوده على المخالفين بتنبيهات وهذا يوحي بالمقصد الحقيقي من كتاباته في هذا الميدان . وإخلاص الشيخ ونزاهته ، وصدق لهجته ، وسعيه بتجرد وموضوعية لبلوغ الحق إذا حاور غيره أو ناقشه استيقن به العلماء والمنكرون وطلبة العلم ، يقول الدكتور محمد منير الغضبان :" قد يختلف الكثيرون من أهل العلم معه في الرأي ، وقد يختلفون معه حتى في المنهج الذي يمثله في مدرسته ، ولكن لا يختلفون أبداً على الإشادة باستقامته ونزاهته وزهده وتواضعه " ، ويقول الشيخ محمد الغزالي قبل وفاته - رحمه الله - عن ابن باز :" لقد كنت أقول دائماً في عالم سلفي نقي مخلص مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز إنه من طلاب الآخرة ، وممن يؤثرون ربهم على دنياهم ، وقد تكون بيننا خلافات فقهية فما قيمة هذا الخلاف وما أثره ؟ إن الأئمة الكبار اختلفوا ، بل إن داود وسلميان قد اختلفا في الحكم ، وهما من هما في النبوة والعلم والحكمة ". ولقد أخبر الشيخ يوسف القرضاوي عما شهده عياناً من طبيعة ابن باز في تلقي وجهات نظر غيره وآرائهم ، فقال :" ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها ، ما يوافقه منها وما يخالفه ، ويتلقاها جميعاً باهتمام ، ويعلق بأدب جم ، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة دون استعلاء ولا تطاول على أحد ، شادياً بالعلم أو متناهياً ، متأدباً بأدب النبوة ، ومتخلقاً بأخلاق القرآن ".
ولقد ظل العلماء والمفكرون وغيرهم الذين اختلفوا معه في بعض القضايا يحملون له منتهى الاحترام ، وغاية التقدير . يقول القرضاوي - أيضاً - :" ولقد اختلفت مع الشيخ العلامة في بعض المسائل نتيجة لاختلاف الزوايا التي ينظر فيها كل منا ، ومدى تأثر كل منا بزمانه ومكانه إيجاباً وسلباً ، ولم أر أن هذا الاختلاف غيّر نظرتي إليه أو نظرته إلي ، وظللت - والله - أكن له المحبة والتقدير ، وأدعو له بطول العمر في خدمة العلم والإسلام ، وظل كذلك يعاملني بود وحب كلما التقينا ، وكلما لقيه أحد من أبناء قطر حمله السلام إلي - رحمه الله - وأكرم مثواه ". وإذا كانت هذه حال الشيخ ابن باز مع مخالفيه فإننا لا نعجب أن تتأسف بعض الجماعات الإسلامية الغالية في أفكارها على وفاته رحمه الله كما ذكرت ذلك إحدى الصحف ، حيث نقل عن تلك الجماعة قولها : " إن الأمة الإسلامية فقدت واحداً من أبرز علمائها العاملين الزاهدين الذين تشهد فتاواه ومؤلفاته بغزارة العلم ودقة البحث والحرص على الوصول إلى الحق ومعرفة الصواب " ومع أن هذه الجماعة اعترفت بوجود خلافات بينها وبين الشيخ في بعض آرائه :" إلا أنها شهدت بأنه كان يقصد وجه الحق فيما يأتي ، وأنه حريصاً كل الحرص على إصابة الحق في أقواله وأفعاله ..." .
هذا هو منهج الشيخ رحمه الله الذي سلكه في محاورة من اجتهد فأخطأ ، أو حاد عن الصواب ، أو ند عن الطريق ، أو زاغ عن الحق ، ولا شك أنه استمده من كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ثم صاغه بأسلوبه المميز ، وطابعه الخاص ، وبلوره بلورة مناسبة العصر ، فصار مثالاً حياً رائعاً لآداب الإسلام وهديه في معاملة المخالفين بالتي هي أحسن ، وإيصال الحق إليهم بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة ، والاستفادة من ذلك في تعميم الخير ونشره بين المسلمين ، فجزاه الله أحسن الجزاء ، وحشرنا وإياه في زمرة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء . إنه سميع الدعاء .
------------------------
(1) آثرنا عدم ذكر الأسماء لأن المقصود بيان منهج الشيخ رحمه الله لا الأشخاص الذين يناقش
==============(40/127)
(40/128)
لا للتعصب العرقي
عيد الدويهيس
http://www.saaid.net/
حقوق الطبع
حقوق طبع هذا الكتاب مهداة من المؤلف إلى كل مسلم وجزى الله خيراً من طبعه أو أعان على طبعه وغفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين .
الطبعة الأولى
ذو الحجة 1419 هجرية
أبريل 1999 ميلادية
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد، فقد يظن الكثيرون أن التعصب العرقي موضوع ثانوي لا علاقة له بمرارة واقع البشر، أو بالطموحات الرئيسة للشعوب والأمم، وأنه موضوع تاريخي قد انقرض في القرن العشرين بعد سقوط الأنظمة العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقيا وأن لا علاقة له بحياتنا الحالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ونقول: إن التعصب العرقي كان ولازال ذا أثر كبير في حياة الإنسان، وقد يكون تأثيره في أحيان كثيرة أخطر من التعصب الفكري، أو الحزبي، أو النقابي، أو الرياضي لأن كثيراً من الناس لا يهتمون بالمبادئ الفكرية، ولا ينتمون إلى أحزاب أو نقابات أو أندية رياضية، في حين أن لكل البشر دوائر عرقية من أسر وعائلات وقبائل وشعوب وقوميات وأجناس، وكثير من مفاهيم هذه الدوائر فيها تعصب عرقي. ويوجد التعصب العرقي في دول متقدمة تكنولوجياً، وفي دول نامية، وفي مجتمعات إسلامية، وفي مجتمعات علمانية، ويتم تجسيده في مفاهيم وشعارات وأقوال وأعمال وقوانين وأعراف وأهداف معلنة أو سرية. وهو أحد منابع الغرور، والظلم، والحسد، والكراهية... الخ .
وهو فوق كل هذا أحد معوقات التنمية على المستوى المحلي والقومي والعالمي، فأغلب خطط التنمية تعيش في دوائر عرقية وطنية مما يمنع تحقيق القفزات القومية والكبيرة سوء كانت اقتصادية, أو سياسية أو تكنولوجية , أو إدارية, أو ثقافية . ويتنكر التعصب العراقي أحيانا في ثوب المصلحة الوطنية, ويتكلم أحيانا أخرى باسم مصلحة القبيلة, أو العائلة أو الأسرة ولعل, أخطر ما في التعصب العراقي أنه عدو مجهول, أي لم يدرك الكثيرون إلى الآن خطورته وآثاره المدمرة , فالكثيرون يعتبرونه جزءاً من الانتماء الوطني أو القبلي أو القومي ولهذا يتمسكون به, بل يدافعون عنه, وهم لا يشعرون أنهم يدافعون عن الباطل, والتخلف, والجهل !!
ومن الأمثلة الواضحة على خطورة التعصب العرقي ما حدث لنا في بداية القرن العشرين, فقد قالوا لنا نحن عرب, وهؤلاء أتراك, فلماذا نتحد في الدولة العثمانية ؟ ولما تحاربنا وتفرقنا ؟ قالوا: إننا كشعوب عربية نختلف عرقيا, فهناك مصريون, وجزائريون, وسودانيون, وخليجيون, وفلسطينيون, وبالتالي فعلينا أن نكون دولا منفصلة, ولكل دولة نظمها وقوانينها وجيشها وتاريخها, فلما وصلوا إلى ذلك حاولوا إقناع بعض شعوبنا بأن هناك اختلاف عراقية داخل الشعب الواحد, وهكذا لا يقف التعصب العرقي عند حد, وهو يتبني مبدأ أنا وأخي ضد ابن عمي, وقد يصبح ابن العم هو الصديق إذا كان الاختلاف أو الصراع مع عائلة أخرى, وهكذا مع الدوائر الأكبر ...... فلم يعد هناك صراع بين أهل الحق, وأهل الباطل, وبين أهل العدل, وأهل الظلم , بل أصبح صراعاً بين دوائر عرقية, وهو صراع لا ينتهي لأن من السهل إشعاله لسهولة تأثره بالمصالح, وموازين القوى, والثارات, والحسد, والمناصب . . . الخ. ولقد رأينا كيف مزق التعصب العرقي الشعب الواحد في الصومال، وفي أفغانستان، وكيف كان له أثر كبير في حرب الخليج الأولى والثانية، كما أنه كان من أهم عوامل اشتعال الحرب العالمية الأولى والثانية نتيجة العقائد العرقية للشعب الألماني، وهو موجود في الولايات المتحدة، وفي أفريقيا، وفي أسيا، وفي أوروبا، وعموماً فجراثيم التعصب العرقي لن تنجح إذا وجدت عندنا مناعة فكرية وإيمانية ووعي سياسي، واقتصادي وانتماء حقيقي للجنس البشري .
وجاء هذا الكتاب ليبين خطورة التعصب العرقي، وأنه أحد المشاكل الرئيسة التي تواجه البشرية، وتواجهنا كشعوب وأمة، وتم مناقشة التعصب العرقي للأجناس والتعصب القومي والوطني والقبلي وتم بيان موقف الإسلام منه، وذكر نماذج عقائدية وسياسية واجتماعية لبيان خطورته، وانتشاره في مختلف المجالات، وكلي أمل بإذن الله أن يكون هذا الكتاب دعوة لتحطيم الأصنام العرقية وأن تتحول هذه الدعوة إلى مشاريع تتبناها القوى الشعبية والحكومات المخلصة.
وفي الختام من واجبي أن اشكر كل من ساعدني في إنجاز هذا الكتاب، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأسأل كل من انتفع بشيء منه أن يدعو لي ولوالدي وللمسلمين أجمعين .
عيد بطاح الدويهيس
الكويت 16 ذو الحجة 1419
2 نيسان 1999
الفصل الأول: التعصب العرقي
ما هو التعصب العرقي ؟(40/129)
ما هو التعصب العرقي؟ نقصد بالتعصب العرقي التمييز العنصري أو العنصرية سواء كانت على مستوى عائلة، أو قبيلة، أو شعب، أو أمة، أو لون، أو جنس والتمييز العنصري كما جاء في موسوعة السياسة- الجزء الأول- للمؤسسة العربية للدراسات والنشر في ص788 هو: "أحد مكونات العنصرية يستند إلى مفهوم التفوق العنصري، وهو مبدأ يصنف البشر على أساس الهوية العنصرية، ويقسمهم إلى أجناس متفوقة، وأخرى سفلى ويمنح الأجناس المتفوقة امتيازات خاصة (مادية ومعنوية) يحجبها عن الأجناس الدنيا وتأخذ هذه الامتيازات أشكالاً متعددة" وعلى سبيل المثال جاء في نفس المصدر في ص771 تعريف العنصرية الآرية، (النازية) "بأنها استندت إلى أسس مستغلة دون حق بعض الاكتشافات البيولوجية، ونظريات نيتشه (السوبرمان) علمية زائفة لتثبت أن نقاء العنصر الآري هو سبب لتفوق الألمان، ومبرر سيادتهم على العالم، ولم تكن هذه النظرية مقتصرة على الألمان، بل شملت العديد من الطبقات الحاكمة في أوروبا" وهذا النوع المعلن من التعصب العرقي أصبح قليلاً بعد أن وقف العالم ضده على الأقل بصورة ظاهرية، وهذا لا يعني غياب، أو ضعف التعصب العرقي في حياة البشر فهو موجود بصور مختلفة في واقع شعوبنا وأمتنا، وجميع أمم الأرض، وله فلسفات ومبررات قد لا يتم تداولها بصورة علنية، ولكن يتم تداولها في دوائر مغلقة سواء على مستوى عائلي أو طبقي أو قبلي أو شعبي أو أممي أو جنسي. قال الدكتور فؤاد محمد الصقار: "وتختلف الصورة التي تتخذها التفرقة العنصرية من مكان لآخر، ومن زمن لزمن، فهناك التحيز العنصري، ومؤداه أن يعتقد عنصر من العناصر البشرية أنه أرفع شأنا من بقية العناصر وقد سبب هذا التحيز كثيراً من المشاكل السياسية والاجتماعية التي تمثلت في الفاشية، والنازية، والصهيونية، وكراهية الأجانب والتعصب للذات، وقد يكون التحيز العنصري ضد مجموعة واحدة، كما هو حال التحيز ضد الزنوج في الولايات المتحدة، وفي بعض الدول الأوروبية، أو ضد المجموعات السلالية الأخرى كما هو حال التحيز ضد العناصر غير الأوروبية في جنوبي أفريقيا وروديسيا وقد يكون التحيز ضد البشر جميعاً كما يفعل اليهود، وقد لا يعبر التحيز العنصري عن نفسه إذا لم يكن هناك احتكاك واختلاط بين المجموعات العنصرية المختلفة أو إذا كانت الجماعات التي تعتنق هذه الأفكار أقلية لا نفوذ لها، وفي هذه الحالات يبقى التحيز العنصري حالة نفسية أو نوعاً من مركب النقص". وقال "تركزت الفلسفة العنصرية منذ القرن الثامن عشر وحتى أوائل هذا القرن في سيادة وامتياز ما يسمى (بالعناصر الآرية) ويقصد بها السلالة التي تعيش في شمال غربي أوروبا" (1).
وشغل التعصب العربي مفكرين وسياسيين، وأثر في واقع البشر قديماً وحديثاً، وهو موضوع له جذور في تاريخ الشعوب والأمم، وفي ثقافتها وسلوكها قال الأستاذ عبدالعزيز قباني: "العصبية، بداية، نعرة فئوية، دموية، رحمية ملازمة لنمو النوازع الأولية، يتربى عليها الطفل، وتبدأ مع الأم في الأسرة" (2).
وقال أيضاً: "العصبية في الجماعة شعور فئوي بوحداتها المتميزة، بشوكتها، بكونها سلطة واحدة، وجسماً واحداً ومصلحة واحدة، قوية التضامن والتماسك، يشد أفرادها بعضهم إلى بعض، شعور بالانتماء إليها لا إلى غيرها من الجماعات، وشعور الانتماء هذا يولد في أفرادها التزاماً قيمياً فئوياً نحوها، بكل ما لها وما عليها التزاماً واجباً ومسؤولاً، يجعل الأخ ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً ويجعل جماعة العصبية ترى "شرارها أفضل من أخيار غيرها"(3) .
وهنا يتحدث الأستاذ قباني عن العصبيات بشكل عام العرقية والسياسية وغيرها، واهتم المفكر ابن خلدون بالعصبية العرقية فهو يعتقد بأن دوام الملك (نظام الحكم) بدوام العصبية كشوكة ونعرة دم، فقال: "ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم" والملك يحصل برأيه (ابن خلدون) بالتغلب، والتغلب يكون بالعصبية"(4) وتطرق الأستاذ صلاح الدين الأيوبي إلى موضوع العصبية فقال "العصبية في تعريف أهل اللغة هي أن يدعو الرجل إلى نصر عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين، وهي مشتقة من التعصب أي: التجمع ولما كان أقارب الرجل يعصبون به أي يلازمونه ويحيطون به، سموا "عصبة"، وقد أطلق على أقارب الرجل من جهة أبيه"(5) وقال: "كانت الذهنية البدوية الجاهلية لا تتصور الكائن الإنسان إلا داخل مجموعة شريعتها العصبية القبلية، حيث يعد أفرادها نسخاً يطابق بعضها البعض، ويذوب كل شخص في القبيلة، ولم تكن العصبية القبلية لتعترف بالتضامن والعلاقات الودية إلا بين من تجمعهم رابطة القرابة، وتبني واقعية العصبية على تقديس الجد المشترك"(6) وقال: "وتكون العصبية للقبيلة بأسرها إلا أنها أشد بالنسبة للأقربين منهم، وكل رجل من القبيلة يشعر أنه مسؤول عن جماعته كلها، كما أن القبيلة كلها تشعر أنها مسؤولة عن كل من ينتمي إليها"(7) .(40/130)
وما ذكره الأستاذ صلاح الدين هنا يثبت أن العصبية قائمة في أساسها على مصالح متبادلة، وهذا من أهم عناصر استمرارها، وليس لنا اعتراض على مصالح مفيدة، وتزيد المجتمعات والأمم والعالم عدلاً ورحمة وخيراً، بل اعتراضنا على المصالح غير المشروعة من تعاون على الظلم والشر والأذى. وإذا كانت أغلب الأقوال والتعاريف السابقة تتعلق بالتعصب العرقي القبلي فذلك لأن القبائل كانت هي الكيانات السياسية والاجتماعية السائدة في الماضي في حين أن هذه الاقتناعات لازالت موجودة على مستوى الشعوب والأمم والأجناس ولهذا قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي "والعصبية القبلية شبيهة بالاتجاهات القومية المغالية في النظام السياسي الحديث، فكما أن القومية المتطرفة تتعصب لجنسها، وتؤمن بتفوقها على سائر القوميات، فكذلك العصبية القبلية تقوم على هذه العقيدة الشوفينية، فكل قبيلة تتعصب لنسبها، وتؤمن بتفوقها على سائر القبائل"(8) .
وما ينطبق على القومية ينطبق على الوطنية أيضاً، أي على العرق الشعبي إن صح التعبير، وجاء في لسان العرب وتاج العروس هذا التعريف: "القوم الجماعة من الرجال والنساء، وقوم كل رجل شيعته وعشيرته، وقيل الجماعة من أب واحد"(9) وقال الدكتور محمد أحمد خلف الله "موطن القوم هو الأرض التي يقيمون فيها، ويمارسون حياتهم عليها، ويقولون عنها أنها موطنهم أو وطنهم" وقال: "القومية إذن مجموعة من الروابط الثقافية الناجمة عن تعايش مجموعة بشرية في مكان واحد، ولها تاريخ واحد، ومصالح مشتركة"(10) .
أما الدكتور محمد عمارة فقد ألغى أهمية العرق والنسب حيث قال: "فالعروبة إذن ليست عرقاً ولا نسباً وإنما هي لغة وآداب وتكوين نفسي وحضارة وولاء"(11) وهو يختلف جذرياً مع ما قاله هتلر حيث قال: "إن القومية، أو على الأصح العرق، هو مسألة دم، وليس مسألة لغة"(12) وقال: "ولم يكن لهم (اليهود) من الألمانية سوى اللسان الذي أتقنوه مع الزمن. ومتى كانت اللغة قوام العرقية؟"(13) أما أحد علماء السلالات البشرية فيقول: "العرق، جماعة كبيرة من الناس، عاش جدودهم على نسق معين من الحياة، سلك الأحفاد في اتجاه موحد، فنسلوا نماذج خلقية متشابهة"(14) .
ما تم ذكره من أقوال كان الهدف منها بيان الملامح الرئيسية للتعصب العرقي ومبرراته، فلا شك أن البشر يختلفون في أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وتاريخهم وأرضهم ومصالحهم ولكن من الخطأ أن يؤدي ذلك للتعصب العرقي سواء على مستوى عائلة، أو قبيلة أو شعب أو أمة فالبشر كلهم بنو آدم وحواء، والانتماء الصحيح هو للمبادئ الصحيحة أي للعقيدة والعدل والخير والعلم والعمل والأخلاق. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13) سورة الحجرات وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24} ) .
من سلبيات التعصب العرقي(40/131)
كثيراً ما يقوم أصحاب العقائد الباطلة، والمصالح المشبوهة من داخل الأمة والشعب، ومن القوى الأجنبية المعادية بتغذية التعصب العرقي، وذلك لتحقيق مصالحهم التي لن تتحقق إلا إذا تفرقنا بناءً على أصولنا العرقية، أو أفكارنا أو مواقفنا، وعندما ننشغل باختلافاتنا العرقية، وغيرها ننسى أعداءنا، وسنعادي فئات من شعبنا وبالتالي فرفض التعصب العرقي يفقد هؤلاء أحد أسلحتهم الرئيسة، وعندما يحاول أعداؤنا وجهلاؤنا وسفهاؤنا اقناعنا بأن التعصب العرقي يحقق مصالح لنا، نقول: بل هو شر كبير، وإذا حقق مصالح فهي مصالح هزيلة ومحدودة ومصائبه أكبر بكثير. فالربا ظاهرياً فيه مصالح، ولكن شره وآثاره الاقتصادية والشخصية سيئة، فالمال الحرام لا يأتي بخير، وكذلك بالنسبة للتعصب العرقي فليس مهماً كم نائباً ينجح من هذه القبيلة أو تلك، بل المهم جودة النواب، فالنائب الضعيف يضر المجتمع وأبناء قبيلته، حتى لو حقق مصالح محدودة للبعض، وقوة الأمة في تعاون شعوبها لا في تدمير بعضهم البعض، ومصالحنا تتحقق بتكاتفنا، وإيجاد شعوب متماسكة، فجسد الأمة عندما يتمزق سيكون جسداً ضعيفاً حتى لو توهم من يملك اليد أن عنده عضلات، أو من يملك الرأس أن عنده عقل، فقوة اليد الحقيقية هي عندما تكون جزءاً من جسد متماسك، ويستغل المنحرفون في عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم التعصب العرقي كشعار للوصول إلى المناسب والأموال، فيتباكون على مصالح القبيلة أو الشعب، في حين أنهم لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية. ومن سلبيات التعصب العرقي أنه يزرع الكراهية بين الأمم والشعوب، وأفراد المجتمع، فلكل فعل رد فعل، فالناس يكرهون من يسعون للتميز عنهم، ومن يكسب محبة الناس فقد كسب الكثير ومن يكسب عدواتهم فقد خسر الكثير، قال الأستاذ عبد العزيز قباني: "إنه من مباهج الحياة أن يشعر المرء بأنه محبوب"(15) أما هتلر العنصري فيدعو بعصبيته النازية إلى العداوة والظلم عندما قال: "ومتى احتوى الرايخ أبناءه جميعاً يمسي عاجزاً عن إعالتهم، ومن العوز ينشأ حق هذا الشعب في الاستيلاء على أراضٍ أجنبية"(16)
ويتهم الفاشل في عمله الآخرين بأنهم يتعصبون عرقياً ضده ليثير غضب جماعته، وحقيقة الأمر أن عدم ترقيته راجعة لفشله، لا لتعصب عرقي ضده فالمتعصبون الفاشلون هم الذي يتاجرون بانتماءاتنا القبلية، والشعبية، والقومية أما أهل الإيمان والوعي فهم أبعد الناس عن ذلك .
ومن جرائم التعصب العرقي أنه جعلنا نبالغ في مدح قبائلنا وشعوبنا وأمتنا حتى اعتقد بعضنا أننا ملائكة، وأتت كثير من الأحداث ففضحتنا، فكفر بعضنا بجنسنا العربي أو بشعوبنا، أو بقبائلنا، فالتعصب العرقي يزور حقائق تاريخية وحديثة عنا ويجعل إيجابياتنا كثيرة، وسلبياتنا صغيرة، فلا نرى واقعنا كما هو فتصيبنا الكوارث العسكرية والسياسية والاجتماعية، في حين أن التقييم العلمي والمحايد سيثبت أن حساباتهم خاطئة بدرجة كبيرة. قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (32) سورة النجم وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأن في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب، وقع على أنفه، فقال له هكذا فطار". فالصالحون من الأفراد والشعوب يحاسبون أنفسهم ويعتبرون إيجابياتهم قليلة، وسلبياتهم كبيرة، فيجتهدون أكثر، ولهذا يرتقون في سلم الرقي الإنسان، أما أصحاب التعصب العرقي فيفعلون العكس، فيخسرون الدنيا والآخرة .
وجعلنا التعصب العرقي نتساهل مع المجرمين من أبناء قبائلنا وشعوبنا، فتزداد الانحرافات، ويتجرأ المنحرفون أكثر، ويتشجع غيرهم لأننا نغفر لهم وهذا واقع مشاهد .
والتعصب العرقي يجعلنا لا نرى من الآخرين إلا سلبياتهم، والآخرون ينظرون إلينا النظرة نفسها، فتصبح كل الملفات سوداء على مستوى الشعب، أو الأمة، وإذا كان هناك اعتراف بإيجابيات وحسنات الآخرين فهو قليل، فأصبحت شعوبنا إما ملائكة أو شياطين، وفقدنا العدل والموضوعية، وإذا حدث شراً وخلاف بين عرقين كالذي يحدث بين الأخ وأخيه، فمن الصعب عند أصحاب التعصب العرقي التسامح، والعفو لأنه قد يعتبر ضعفاً أو جبنا، فالواجب العنصري أن ترد الصاع صاعين، وتزيد الشر والجروح في الأمة ولا تتنازل عن أي شيء حتى لو كان شبراً واحداً على الحدود .(40/132)
وحطم التعصب العرقي الكفاءات والمؤهلات في العمل والإبداع والعلم، فلا أهمية إلا للانتماء العرقي في التوظيف والترقية والمناصب. قال الأستاذ عبدالعزيز قباني: "فإن مجتمع العصبية مبدد للطاقة الإنسانية الخلاقة، هادر لها بنزاعاته وخلافاته الداخلية، ومشاحناته وعداواته الفئوية التي دافعها الانتقام والثأر والنكاية والحسد والغيرة وسوى ذلك" فمن هو من العرق الأزرق لن يجتهد لأنه ضامن الوصول، ومن هو خارجه لن يجتهد لأنه لا فائدة في اعتقاده من الاجتهاد، ولهذا تضعف أوطاننا وأمتنا، ونغرق جميعاً، ولو نظرنا للولايات المتحدة الأمريكية لوجدنا تشجيع المتميزين علمياً وعملياً من الأجانب فيصبح كسينجر وزيراً للخارجية مع أنه مولود في أوروبا فتستفيد أمريكا وتزداد قوة في حين أن التعصب العرقي يمنع في أحيان كثيرة شراء أرض، أو عمل مشروع استثماري في كثير من دولنا فنحن لا نثق إلا في من ينتمي لعرقنا وهذا سبب رئيسي من أسباب هجرة أموالنا لدول أجنبية، فالمواطن العربي يشعر بالغربة من كثرة القوانين والأعراف العرقية التي تمنعه من الإقامة، أو التجارة، أو التملك، أو الترقية. قال الأستاذ عبدالعزيز قباني "العصبية سواء كانت طائفية أو قبلية أو عشائرية أو عرقية، رمز إلى ما هو خاص وفئوي، أما التنمية فرمز إلى ما هو عام وإيثاري"(17) .
ومن سلبيات التعصب العرقي أنه يقف حاجزاً كبيراً أمام النقد البناء، فإذا انتقدت مسؤولاً أو حكومة أو شعباً لخطأ أو انحراف فيتهموك بأنك تعادي "العرق" الذي ينتمي إليه المسؤول أو الشعب وهب أصحاب العرق ينتصرون لصاحبهم. قال الأستاذ عبدالعزيز قباني "وبينا أن التعصب يعطل العقل وهذا ما يفسر أن ثقافتنا الحديثة غير فاعلة لأن عمادها الفاعل الذي هو النقد معطل بفعل قيمنا"(18) وقال: "فإن النقد ليس من قيم من تحكمه العصبية، لشعوره بأنه والجماعة شيء واحد فلا مسافة بينه وبينها لأن لا ذاتية له، بل إن ذاتيته هي ذاتية الجماعة"(19) قال أيضاً: "إن من طبيعة العصبية المغالاة والمبالغة في السلب والإيجاب وهذا ناجم من أنها لا تحفز إلى الموضوعية لأن ليس من طبيعتها العدل والنقد لفئويتها الجامحة وتعصبها الشديد"(20) وهذا الحاجز يعوق تنفيذ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك يمنعنا التعصب العرقي من نقد عوائلنا وقبائلنا وشعوبنا لأننا نعتبر هذا تشويهاً لسمعتنا عند الآخرين، ومن الضروري أن نقتنع بأن تسليط الأضواء على سلبياتنا هو أحد أساسيات التقدم، ولكن لنحاول أن نبدأ بأنفسنا لا بالآخرين.
ومن سلبيات التعصب العرقي أن بعض أصحابه يظنون أنهم في القمة، وذلك من خلال تسليط الأضواء الشديد على عيوب الآخرين، وسلبياتهم وأخطائهم القديمة والحديثة، فيسقط الآخرون من عيون هؤلاء فيظنون بأنفسهم أنهم أفضل البشر عرقاً، وشجاعة، وأخلاقاً لا لسبب إلا أنهم تذكروا سلبيات الآخرين ونسوا سلبياتهم قال هتلر "إن نظرة الدولة العنصرية (الألمانية) إلى الفرد تجرها حتماً إلى محاربة المبدأ الماركسي القائل بالمساواة المطلقة بين البشر"(21) وقال الأستاذ عبد العزيز قباني "وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية تنتهك انتهاكاً عفوياً معيباً في مجتمع العصبية، لأن التمييز فيه بين الناس على أساس العنصر والجنس والدين والطبقة والطائفة والأصل الاجتماعي والثروة والعائلة هو المعيار والمقياس للقيمة والاعتبار"(22) وقال "العصبية تنبذ اليوم مفهوم الديموقراطية وما يلازمها من تعددية ومساواة بمعناها الحديث لتبقى على قيم استبدادها"(23) وجعل التعصب العرقي شعوباً تضطهد شعوباً أخرى، ولغاتهم مما فتح المجال لثورة المضطهدين، وتعاونهم مع أعداء الأمة، وأصبحنا نواجه اليوم عقبات قوية من الحواجز السياسية والنفسية بين بعض شعوبنا .
ومن سلبيات التعصب أنك مهما حاولت أن تكون عادلاً وترضي عرقاً ما بمناصب وأموال فإنه سيتهمك بأنك لست بعادل مهما فعلت. وهذا وضع تواجه حكومات وقوى مخلصة قال الأستاذ صبحي العمري "خرجنا من الحكم التركي ونحن متفرقون مفككون إلى مسلم، مسيحي، شيعي، سني، إسماعيلي، نصيري، ودرزي، ومن القوميات الأخرى: تركي، تركماني، شركسي، كردي، ألباني، وأرمني وجميع هذه الديانات والمذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها، كل منها تعتبر نفسها غريبة عن الآخرين وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق"(24) فالتعصب العرقي يريد أكثر من حقه، في حين أن القلوب المؤمنة تعطي أكثر مما تأخذ .(40/133)
ومن سلبيات التعصب العرقي أنه يجعل أصحابه يهتمون فقط بدوائرهم العرقية على مستوى الأسرة أو القبيلة أو الوطن، فيتجاهلون آلام الآخرين ومصائبهم، وأعداؤنا يريدون منا ذلك حتى ينفردوا بنا. قال الأستاذ عبدالعزيز قباني "إن العصبية لا تتنكر للكرامة ولا للحرية ولا للحق بشرط أن تكون الكرامة كرامتي، والحرية حريتي، والحق حقي أنا، لا كرامة ولا حرية ولا حق الآخر، لأن التفكير بالغير غير وارد في العصبية"(25) وقد نجح الأسد في حكاية الثيران الثلاثة في الاستفادة من هذا المبدأ العرقي وافترسهم جميعاً. في حين أن واجبنا الشرعي أن ننصر المظلوم خاصة إذا كان غريباً أو فقيراً، وأن نردع الظلم خاصة إذا جاء من قبائلنا وشعوبنا ولكن المتعصبين يعتبرون هذا نوعاً من المثالية، والغباء السياسي، أو حتى نوعاً من الخيانة للقبيلة والوطن في حين أنه انتصار حقيقي لأنه ردع عن الظلم قال الأستاذ عبدالعزيز قباني: "وفئوية العصبية يترتب عليها تعطل العدل لأنها في طبيعتها التمييزية نصر للأخ ظالماً كان أو مظلوماً بينما العدل نصر للحق بإحقاقه، فلا يميز بين أخ أو غير أخ بل بين حق وباطل"(26) وقال أيضاً: "فلا غرو إذن أن تكون ديباجة شرعة حقوق الإنسان قد جعلت الكرامة والمساواة بين البشر أساس الحرية والعدل والسلام في العالم، فهذه القيم هي شروط ضرورية التوافر من أجل قيام العدل"(27) .
وما ذكرناه أعلاه هو نماذج من سلبيات التعصب العرقي الذي لا نحصد منه غير الكراهية، والتفرق، والاختلاف، والتكبر، والغرور، والكسل، وتزوير الحقائق، والحسد، وتحطيم الكفاءات والمعنويات.. الخ. فكيف تكون فيه مصالحنا كأفراد وقبائل أو شعوب أو أمة؟!! إن التمسك به يعني أننا ضد إسلامنا وضد أوطاننا، وضد قبائلنا، وما نراه من مصالح فهي مصالح وهمية وسراب وأوهام قال الأستاذ عبدالعزيز قباني "فإن أنانية العصبية وفئويتها لا تدمران معنى الحب فقط، وإنما تدمران معنى الوطن ومصالحه العامة أيضاً لأن العصبية لا تنزع إلى الوعي المسؤول للوطن ولمصالحه العامة"(28) .
علمانية التعصب العرقي
المتأمل في مبررات التعصب العرقي يرى أنها مبررات عقلية خاطئة مثل من مصلحتنا كعائلة أو قبيلة أو شعب أو أمة أن نتفق على موقف واحد أو نتعاون في سبيل تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية وأحياناً يستند التعصب العرقي إلى مبررات عقلية خاطئة كاختلاف اللون أو الأجداد أو الأرض أو اللغة أو اللهجات أو التاريخ أو غير ذلك، فهناك دائماً مبررات عقلية مجردة تقدم أدلة خاطئة تقتنع بها بعض العقول الضائعة. ونستطيع أن نقول بناء على ذلك إن التأييد للتعصب العرقي يأتي غالباً من العلمانية ومن أهل التفكير العلماني حتى لو لم يكونوا علمانيين بمعنى أن تكون لهم مبادئ إسلامية أو مسيحية أو أي مبادئ تعارض التعصب العرقي أي أن التأثر الجزئي بمبررات عقلية هي التي تجعل أصحاب التعصب العرقي يعتقدون أن مصلحتهم في كذا أو أنهم يختلفون عن بقية بني آدم لأن هؤلاء لو رجعوا إلى مبادئ الأديان السماوية لعلموا أن الحق والصواب والأدلة العقلية الصحيحة والتفكير الواعي الناضج يؤيدوا المساواة البشرية ويثبتوا أن المصلحة في المساواة فكل البشر هم بنو آدم والعصبية العرقية والسياسية والعقائدية مرفوضة ومنتنة وجاهلية وظالمة.. الخ ولكن عندما يبتعد البشر عن الأديان السماوية وما بها من حق وصواب وحقائق ويتبعوا عقول علمانية ضائعة بصورة كلية أو جزئية لن نستغرب أن نجد هتلر يدافع عن النازية في كتابه "كفاحي" في القرن العشرين في أوروبا العلمانية ليقدم الأدلة العقلية العلمانية الخاطئة على اختلاف العرق الآري عن بقية بني البشر فهذه الأدلة تستند على أن هذا العرق أذكى من غيره، وأن دمه يختلف عن دماء الآخرين وأن اختلاط هذا العرق مع أي أعراق أخرى سيؤدي إلى تخلف الألمان وانتشار الصفات السيئة فيهم، ويأتي بحقائق أو معلومات قديمة وحديثة ليصنع منها أدلى عقلية واهية لو تم مناقشتها نصف ساعة لما استطاعت أن تصمد أمام أدلة من آيات القرآن الكريم أو أقوال الأنبياء عليهم السلام ومن أدلة وحقائق عقلية علمية صحيحة تثبت تشابه الدم البشري وتثبت أن هناك أمم كثيرة حققت نجاحات حضارية، وأن هتلر يجهل كثيراً من حقائق التاريخ، وحقائق الجسم البشري، وغير ذلك .(40/134)
فالعلمانية هي التي أعطت التعصب العرقي الشرعية لأنها قالت للناس ابتعدوا عن الأديان السماوية فاستطاع أصحاب التعصب العرقي إعطاء مبررات عقلية مزروة اقتنعوا بها وخدعوا بعض الناس بها، وباختصار لو لم توجد علمانية لما وجد تعصب عرقي، وحتى التعصب العرقي القديم قبل ظهور العلمانية الحديثة كان يستند إلى فلسفات علمانية قديمة بصورة كلية أو جزئية، وإذا أخذنا مجال التعصب العرقي سنجد مبررات عقلية يتم تقديمها مثل كل دولة عربية حرة في سياستها، وفي قوانينها، ومصلحتنا هي استثمار أموالنا في أرضنا، ومصالح وطني تتعارض مع إعطاء حق التملك أو التجارة للعرب. والمهم أن نحقق كعرق أكبر كمية من المكاسب وهكذا هذه الأقوال تبدو مقنعة، وفيها حق، ولكن أيضاً فيها علمانية باطلة فحرية كل دولة قضية لا نختلف حولها، ولكنها حرية محدودة بضوابط شرعية وعقلية صحيحة فالحرية ليس معناها أن نفعل ما نشاء، ومصلحتنا قد تكون في تحقيق توازن في استثمار أموالنا بين وطننا وبقية الوطن العربي حيث في أغلب دولنا مزايا يمكن باستثمارها تحقيق نجاحات أكبر، أما حرية التملك والتجارة فقد تؤدي إلى تشجيع الاستثمار، والتواصل الثقافي والتعاون السياسي، أما بالنسبة لتحقيق المكاسب فهو شيء مطلوب ولكن من الضروري، ومن العدل ألا نأخذ مكاسب الغير حتى لو استطعنا .
وسأذكر بعض المبررات العلمانية للتعصب العرقي، وسأرد عليها بأقوال وحقائق علمية تاركاً الرد الإسلامي للتفصيل في مقال آخر مذكراً بأن تمسك البشر بمبادئ الإسلام هو الطريق لإخراجهم من التعصب العرقي وبقية أنواع الضلال العقائدي والانحرافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
( أ ) التفوق العرقي
1- قال هتلر "أن كل اختلاط بين (الأجناس) يفضي (1) تدني مستوى الجنس المتفوق (2) تأخر مادي وروحي يفضي في النهاية إلى التفسخ والانحلال. واختلاط كهذا يشكل تحدياً لإرادة الخالق وتحدياً لمنطق الطبيعة" وقال "وما لنا وللماضي السحيق إذن، لنقصر البحث على الحاضر فماذا نجد؟ نجد أن كل ما تطالعنا به الحضارة البشرية من نتاج الفن والعلم والتكنيك يكاد يكون كله ثمرة النشاط الآري (الألماني) الخلاق" وقال: "فشرارة النبوغ تجئ مع النابغ يوم يطل على العالم، وليست العبقرية ثمرة التربية والدرس وما يقال في عبقرية الأفراد ينطبق على عبقرية الأعراق فالشعوب التي تقوم بنشاط خلاق تتمتع منذ نشأتها بموهبة تؤهلها للخلق والإبداع"(29) .
2- قال الدكتور ممدوح حقي "وتمكنت عقيدتهم (النازية) هذه في أنفسهم بدءاً من رئيس الدولة فالحكام، حتى أصغر عامل في مصنع وعششت في رؤوس الساسة ورجال الجيش وأساتذة الجامعات والثانويات والمعاهد العليا، والمدارس الابتدائية، والعمال والزراع والصناع.. كلهم يسبحون بمجد العرق الجرماني، ويستفتحون صلواتهم له بقولهم: "ألمانيا فوق الجميع" وقال "لقد ارتكزت دعوى العنصريين على أربع دعائم هي: اللغة والدم، والتركيب الفيزيائي للجسم، واللون" وقال "اللغة تشبه الأحياء فيما يجرى عليهم من نواميس الحياة، فهي تولد، فتشب، فتهرم، فتموت. أين اللغة الفينيقية، والكلدانية، والآشورية، والسريانية والكلتية... الخ" وقال: "وهناك من يتكلم اللغة الألمانية ولا يريد أن ينتمي إلى الجامعة الجرمانية كألمان سويسرا وأوكرانيا" وقال "وهناك دول يتكلم شعبها عدداً من اللغات وهي لا ترضى عن كيانها السياسي أي بديل كسويسرا التي يتكلم شعبها أربع لغات، والهند التي يتكلم شعبها عشرات اللغات، وكذلك ورسيا والصين". وقال أيضاً "ودعوا العنصريين من جرمان وبريطان وروس بأنهم من عرق ذي دم أزرق أرستقراطي دعوي باطلة من أساسها، ولو عرضت عينة من دم على أعظم خبير كيماوي في العالم ليحللها لعجز عن تحليل جنسه عجزاً تاماً. ولما استطاع تعيين صاحب الدم أهو ذكر أم أنثى، ودم زنجي هو أم أبيض أم أصفر، وأوروبي هو أم أمريكي أم أفريقي"(30) .
3- قال ريد فيلد: "إن الفوارق الحقيقية بين الجماعات التي تتباين من الناحية البيولوجية قد لا تنطوي على مضاعفات تذكر بالنسبة لشؤون الناس، أما الفوارق المتصلة بمعتقدات الناس وأوهامهم، والفوارق المنظورة التي تستلفت انتباههم فهي التي تؤثر في شؤونهم وتصرفاتهم، ويمكن القول إذن: أن العرق من اختراع الإنسان". "ومنذ ألفي سنة كتب شيشرون إلى صديق له ينصحه أن لا يشتري عبيداً من بريطانيا، لأنهم أغبياء إلى حد أنه لا يمكن تعليمهم"(31) .
4- قال فيلسوف عربي أندلسي في القرن العاشر الميلادي عن الأوروبيين الذين لم يكن منهم إلا القليل النادر من يحسن القراءة والكتابة "أنهم بطاء الفهم، فظاظ الطبع، غلاظ، طوال الشعور، صفر الوجوه ليس فيهم حدة ذهن، ولا ذكاء، يسودهم الجهل والبلادة والقسوة وضعف التفكير" وجاء في تقرير للأمم المتحدة: "إنه مهما بلغ التفاوت الظاهري ما بين أعراق البشر المتعددة، فإنهم جميعاً يحملون نفس الكروزومات بعددها وأشكالها، وهذا دليل آخر يضاف إلى ما تقدم، بأن الأعراق المعاصرة قد صدرت كلها عن نبع واحد"(32) .(40/135)
5- وجاء في تقرير للأمم المتحدة اتفق العلماء على الاعتراف بأن أصل الإنسان واحد "ولا دليل على أن تمازج العناصر (الأعراق) ينتج آثاراً بيولوجية سيئة وأما النتائج الاجتماعية الناجمة عن هذا الاختلاط فسواء كانت حسنة أم سيئة، يجب أن ينظر إلى أسبابها وعواملها الاجتماعية فقط"(33) .
6- وجاء في تقرير للأمم المتحدة "ونحن لا نستطيع أن نبرهن حتى الآن إذا كانت النسبة المئوية للأفراد الموهوبين في عرق ما أكثر منها في عرق آخر ولا أن نؤكد ببرهان قطعي على أن توريث الضعف العقلي هو في عرق ما أكثر من سواه على أن هذه الظاهرة المحزنة شائعة بين جميع شعوب العالم مقسمة فيما بينها بالعدل والقسطاطس المستقيم"(34) .
7- قال الدكتور فؤاد محمد الصقار "والواقع أن الفلسفة الآرية لا سند لها من العلم فالاختلاط الواسع بين الشعوب قد جعل من فكرة النقاء العنصري فكرة بعيدة عن الروح العلمية" وقال "وليس هناك ما يميز سلالة من أخرى جسميا فكلها فروق مظهرية وليست جوهرية، كما أنه ليست هناك فروق واضحة في النواحي العقلية لو أعطيت كل سلالة فرصاً متساوية" وقال أيضاً "ثم إن الحضارة البشرية ليست من صنع سلالة أو شعب واحد، وهي في بداية تكوينها أبعد من أن تكون من صنع "الآريين" أو البيض"(35) .
8- وقال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي "والحقيقة أننا كلما أمعنا النظر عن قرب في الجماعات البشرية كلما تصبح محاولات التصنيف البشري أكثر تشوشاً" وقال "كل كائن بشري ينتمي إلى أحد فصائل الدم "O- AB- B-A" ولكنه لا يستطيع أن ينتمي إلى أكثر من فصيلة واحدة وأغلب الشعوب تتضمن أناساً من كل هذه الفصائل الأربع ولكن في نسب مختلفة" وقال "وإنكليزي دمه من فئة (O) يستطيع أن يحصل على نقل دم من صيني، دمه من فئة (O) ولا يستطيع ذاك من إنكليزي من فئة (A)"(36) .
9- قال الدكتور ممدوح حقي "ثم أين الشعب الذي لم يختلط بغيره خلال التاريخ؟ أي شعب في العالم بقي منعزلاً عن سائر الشعوب لم يختلط بسواه ولم يتمازج بالحرب أو الهجرة أو المتاجرة أو سواها من العلاقات" وقال "ومن قال أن اللون الأسود قبيح والأبيض جميل مقبول غير العنصر الأبيض؟ إن زنجياً من أواسط أفريقيا ليفضل ألف مرة زوجة سوداء ممشوقة مليئة المشافر، فطساء الأنف على أجمل بنات باريس" وقال "ليس للعنصرية إذن أي دليل علمي تستند إليه، وما هي في الحقيقة إلا نظرية أساسية اتخذت آلة لمآرب سياسية أو شعبية أو شخصية أو ديما كوجية"(37) .
10- قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي "يمكننا القول أن الدلالة الرئيسية للفوارق العرقية في عالمنا الحديث تكمن في القيم الاجتماعية التي تنسب إليها" وقال "فإننا نرى أنه بإثبات مبدأ المساواة البيولوجية (كلكم لآدم) يمكننا أن نقضي إلى الأبد على الاعتبارات الواهية المزعومة التي اتخذت أساساً لتطوير مواقف اجتماعية مستهجنة تقوم على التعصب والتحزب" وقال "وفكرة "العرق الصافي" ليست علمية أبداً: إذ ماذا يعني هذا التعبير: هل هو أنقى العروق: الذي انعزل لأطول مدة بدون صلة بالآخرين؟ السكان الاستراليون الأصليون يرشحون للمكافأة ولكنهم حتى وصول الأوروبيين كانوا يعتبرون بين أكثر الشعوب بدائية من الناحية الاجتماعية على وجه الأرض ولعد قرون مضت، كانت أسبانيا أكثر دولة في العالم قوة وكان شعبها مزيجاً من الايبريين والقوطيين الغربيين والرومان والمراكشيين والعرب"(38) .
11- وقال د. صابر طعيمة: "شعب الهند خليط من الأجناس والأديان واللغات فهم لا يمثلون وحدة منسجمة بل يفصل بينهم كثير من فوارق اللغات والأديان وتقول الإحصائية اللغوية للهند بأن هناك 179 لغة داخل ولايات الهند و544 لهجة"(39) .
12- قال الدكتور فؤاد الصقار "والحديث عن الفروق الجوهرية بين السلالات نوع من الأكاذيب التي يراد بها تبرير استمرار أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية غير طبيعية ويعلم قائلوها قبل غيرهم فسادها"(40) .
(ب) رابطة النسب
اشتراك الناس في النسب ليس مبرراً للتعصب العرقي، فالنسب يكتسب أهمية خاصة في ظل غياب الدولة الحديثة وحاجة الناس في الصحراء للتعاون في الدفاع عن أنفسهم أو في فرض سيطرتهم على الآخرين فالذي جمعهم هو مصالح مشتركة وليس هو الدم وصلة القرابة وهذا ما يجعلنا نشاهد أمثلة كثيرة جداً من أصحاب النسب الواحد كقبيلة أو حتى عائلة من أهل المدن ممن ضعفت الروابط بينهم بدرجة كبيرة بل تلاشت، فتجد أبناء العائلة الواحدة لا يعرفون بعضهم ولا يتعاونون، ومبررات التعصب بالنسب واهية وإليكم الأسباب:(40/136)
1- قال ابن خلدون "إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية" وقال: "ومن هذا الاعتبار معنى قولهم النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس وانتفت النعرة التي تحمل عليها العصبية، فلا منفعة فيه حينئذ والله سبحانه وتعالى أعلم" وقال أيضا "ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة، وفقدت ثمرتها من العصبية، فاطرحت ثم تلاشت القبائل، ودثرت فدثرت العصبية بد ثورها وبقي ذلك في البدو كما كان والله وارث الأرض ومن عليها"(41) .
2- قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي: "الشعوب الحاضرة التي في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا مختلطة إلى حد بعيد"(42) .
3- ومن بديهيات التاريخ أن النسب فيه دائماً صفحات مجهولة، وروايات متناقضة وضعيفة وأحياناً مزورة خاصة وأننا نتكلم عن صفحات تزيد عن ألفي سنة في حين أننا نعترف ونعرف أننا نجهل صفحات كثيرة من تاريخنا المعاصر مع ما نجده من مذكرات كثيرة يكتبها بعض من شاركوا بالقرارات الكبيرة، هذا إضافة إلى وجود مؤرخين وسياسيين يتابعون الأحداث بصورة يومية قال الأستاذ حمد الجاسر: "وحسبنا الاكتفاء بالقول بأنه قل أن توجد قبيلة صريحة النسب لا يوجد من المطاعن في نسبها ما يدركه كل معني بدراسة أنساب القبائل من قبيلة قريش إلى دونها من القبائل"(43) .
ومعروف أن هناك اختلاطاً بين القبائل والشعوب والأمم نتيجة هجرات وصراعات ونسب وتجارة ومصالح وعقائد وقوة وضعف وغنى وفقر، وهناك فترات زمنية مجهولة، وهناك قبائل وشعوب اندمجت مع غيرها فغابت وضاعت بعض الأسماء المشهورة تاريخياً(44) ويعرف كل عاقل أن النسب لا علاقة له بالأفضلية لا في العمل ولا الإيمان ولا الأخلاق وهذا من بديهيات الدين والعقل والواقع .
4- قال عثمان بشر النجدي الحنبلي: "وكان في أكثر نواحي نجد وقراها رسوم وعلامات وهي مساكن أناس سلفوا في العارض والخرج والوشم والقصيم وسدير وغير ذلك لا يعرف من سكنها، ولا ما فعل أهلها، ولا ما فعل بهم، وذلك من تقصير علمائهم عن ذلك، وعدم التفاتهم إلى هذا الفن"(45) .
5- قال ابن خلدون "أعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم، أو حلف، أو ولاء، أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعى بنسب هؤلاء، ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال" وقال: "ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان، ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر، ومازالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب، ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم، وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم"(46) .
6- قال ابن خلدون: "والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة، وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي r كرامة به، وحياطة على السر فيه" وقال "ومعناه كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث"(47) .
(ج) "رابطة الأرض"
ومن مبررات التعصب العرقي الارتباط بين الأرض والبشر ونقول رداً على ذلك أن كل الشعوب تكونت من خلال هجرات قديمة وحديثة، وانتقال من أرض إلى أخرى، فهي خليط من أعراق، وخليط من انتماءات أرضية، فالإخلاص للأرض وللوطن ليس حكراً على عرق دون آخر، كما أن الأرض ليست ملكاً لعرق دون آخر، وغالباً ما تكون هناك شعوباً أو قبائل استوطنت الأرض التي تسكن اليوم من شعوب وأعراق أخرى فهل هذا مبرر أن يعود السكان الأوائل للمطالبة بها؟ ولو فعلنا ذلك لفتحنا أبواباً لا تنتهي من الفتن والصراعات بين الشعوب بل حتى بين أبناء الشعب الواحد، فحبنا لأوطاننا من القيم السامية ولكن لا يجوز أن يتحول هذا الحب إلى تعصب وعنصرية وقد قال سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما دعاه رجل ليسكن مكة لأنها أرض مقدسة "إن الأرض لا تقدس أحداً، إنما يقدس المرء عمله" .
وما يقال عن الأرض يقال كذلك عن اللغة والتاريخ. فاللغات تتغير، والتاريخ لك وعليك.
الموقف الإسلامي من التعصب العرقي(40/137)
في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي القرن العشرين يصدر حكم قضائي بمنع مواطن أبيض تزوج امرأة زنجية من دخول ولايته مدة خمسة وعشرين سنة أو يسجن من سنة إلى ثلاث سنوات أو يطلق زوجته وكانت التهمة الموجهة له مستندة لماذا تقوم أيها الرجل الأبيض بخلط للأعراق مع أن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الأعراق ووزعها على مناطق الكرة الأرضية فأنت تعارض أمر الله. لو قالوا وصلنا إلى هذا المبدأ من خلال العقلية العلمانية لما تعجبنا من الضياع العلماني ولكنهم ينسبون هذا المبدأ إلى الله سبحانه وتعالى علماً بأن الكتب السماوية ترفض التعصب العرقي وآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة توضح ذلك، وفي قصص الأنبياء أدلة واضحة تثبت أن ولاءهم هو للحق والصواب، وأنهم ضد الباطل حتى لو جاء من آبائهم أو أبنائهم، وهذا التعصب تم القضاء عليه من الناحية الفكرية والنظرية في الدول الإسلامية منذ خمسة عشر قرناً حتى أصبح من البديهيات التي يعرفها عامة المسلمين، فلو قام رجل في أي دولة مسلمة وقال إن الله منع الزواج بين الأعراق لاتهمه الناس بالغباء والحماقة والجهل، ومع هذا نجد هذا الكلام يقال في محكمة أمريكية !!(40/138)
أما الموقف الإسلامي من التعصب العرقي فهو: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13) سورة الحجرات.. وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (70) سورة الإسراء فكل بني آدم تم تكريمهم بغض النظر عن ألوانهم وانتماءاتهم العرقية فلماذا يحتقر بعضهم بعضا بسبب لون أو عرق؟! وقال تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..) (103) سورة آل عمران أي أن المسلمين أصبحوا بالتوحيد والإيمان إخوانا بعد أن كانوا أعداءً بسبب التعصب العرقي وغيره وربط أحد علماء الإسلام بين التعصب العرقي لعائلة أو قبيلة أو شعب أو أمة وبين معصية إبليس عندما رفض السجود لآدم عليه السلام حيث قال تعالى حاكياً عن قول إبليس (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (12) سورة الأعراف أي استند إلى الأصل العرقي، فهو رفض العدل الإلهي، ورأى أنه ظلم دون وجود منطق حكيم، كأن يقول أنا أقوى، أو أعلم من آدم، ويفرق التعصب بين بني آدم ليس بناء على العقيدة، أو الكفاءة، أو الأخلاق بل بناءً على الأصل العرقي، هذا الأصل الذي يعلم جميع العقلاء أنه لا يعني أي شيء إطلاقاً في ميزان الحقيقة، وميزان التفاضل الشرعي الذي وضعه الله سبحانه وتعالى هو "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ولكن أصحاب الجاهلية المنتنة يرفضون هذا الميزان ويرفضون القاعدة الإسلامية التي تقول "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى". ولنثق كل الثقة بأنه كلما ضعف إيمان الإنسان وتلاشى، زاد تعصبه، وكذلك كلما زاد جهله زاد تعصبه، ويجهل كثير من العقلاء والمتعصبين أن محاربة التعصب هي أحد التغيرات الجذرية التي أحدثها الإسلام في القبائل العربية فقد نقلهم من التعصب العرقي إلى الانتماء للعقائد، والمبادئ والعدل. قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي: "وقد أدخل الإسلام تغييراً هاماً على المفاهيم القبلية الجاهلية فجعل مدار التفاضل بين الرجال على التقوى والإيمان لا على الأحساب والأنساب"(48) وقال "لقد وجه الإسلام اهتمامه منذ البداية دعوته إلى تقويض الأوضاع والأفكار الفاسدة مبتدئاً بالوثنية وما يتبعها من ضلالات الشرك، ومثنياً بالعصبية والقبلية التي كانت تحول دائماً دون توحد الناس واجتماع شملهم، وكانت تؤدي إلى إثارة الضغائن واستمرار الأحقاد واتصال الحروب بين قبائل العرب"(49) وقال أيضاً "لقد وجدت العصبية القبلية نفسها منذ مجيء الإسلام أمام خصم قوي شديد المراس هو هذه العقيدة الجديدة التي تدعو العرب بل الناس كافة إلى التآخي والتآزر ونبذ أسباب العداوة بينهم، ونبذ حمية الجاهلية ونزاعاتها، قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (26) سورة الفتح"(50) ونقلهم من (انصر أخاك ظالما) إلى اردعه عن الظلم، وعلمهم أن العدل هو الأساس، (ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) مع أنها من ناحية عرقية أقرب الناس إلى الرسو صلى الله عليه وسلم ولكن أصحاب التعصب العرقي يرفضون ذلك، فإذا ارتكب فرد من خارج قبائلهم أو شعوبهم جريمة نظروا إليه بتعصب وقسوة، وعاقبوه بأكثر مما يستحق وأما إذا كان المجرم منهم سامحوه، أو خففوا العقوبة، فقوانين العدل تتأثر عندهم بالانتماء العرقي، وهذا ظلم ولهذا علينا ألا نستغرب عندما نجدهم يدافعون عن أصحاب الاختلاسات والحروب الظالمة، وعن عادات ومفاهيم اجتماعية منحرفة وعندما يسأل الرسول الصحابي بن واثله بن الأسقع: "يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم؟"(51). ولا يعارض الإسلام الانتماء لقبيلة أو شعب أو أمة، ولكنه ضد التعصب والظلم قال ابن خلدون: "وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم، أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا"(52) وقال جمال الدين الأفغاني عن تأثير الرابطة العرقية: "فطرة فطر الله الناس عليها، أن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس أو المشرب يراعي نسبته إليها ونسبتها إليه ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به، فيدافع الضيم عن الداخلين معه في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه هذا إلى ما يعلمه كل(40/139)
واحد من الأمة أن ما تناله أمته من الفوائد يلحقه حظ منها وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه"(53) وقال الأستاذ أحمد زكي: "والإنجليزي الأبيض يميل عن الفرنسي الأبيض والبولندي الأبيض والتشيكي الأبيض إلى الإنجليزي الأبيض بحكم الطبع كذلك إنه اختلاف لغة واختلاف عادة والمسألة في هذا الأمر ليست مسألة أخلاقية أو إنسانية أو غير ذلك. إنه حكم الطبع وكفى"(54) .
وقال الدكتور عمر الأشقر: "متابعة الإنسان آباءه على الحق ومناصرة قومه على الحق ليس من العصبية"(55) فالتعاون على الخير والعدل والعلم بين أصحاب العرق الواحد شيء جيد، وندعو له، وليس عصبية، ولصلة النسب حقوق ومن الفطرة الرحمة بين أبناء العرق الواحد سواء كانوا عائلة أو قبيلة أو شعباً أو أمة، ولكن أصحاب التعصب العرقي استغلوا ذلك للتعاون على الإثم والعدوان. قال الدكتور عمر الأشقر: "وقد ترعرعت العصبيات في هذا القرن، وتعددت، وتكونت، وفرقت جماعة المسلمين وأصبحت معولاً لهدم الأمة الإسلامية لقد فشت في المجتمعات الإسلامية بل والمجتمعات الإنسانية العصبيات القومية، والإقليمية، بل وعصبية الألوان والحرف، وأشعلت هذه العصبيات نيران الحروب في العالم كله، واصطلى الناس بحرها، وذاقوا منها الصاب والعلقم، وإذا كان غير المسلمين لهم شيء من العذر في الغرق في حمئة العصبيات، فما عذر المسلمين؟"(56) .
وقاعدة الأقربين أولى بالمعروف ليس من معانيها أن نسكت عن انحرافات الأقربين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية" رواه أبو داود، وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم "لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو يكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب" رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال أبو ذر إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤُ فيك جاهلية" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" أخرجه مسلم وقال الغزالي رحمه الله "التكبر بالحسب والنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب، وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً، وقد يتكبر بعضهم فيأنف من مخالطة الناس ومجالستهم، وقد يجري على لسانه التفاخر به فيقول لغيره من أنت؟ ومن أبوك؟ فأنا فلان بن فلان ومع مثلي تتكلم؟"(57) وروي عن أحمد في مسنده عن أبي بن كعب قال: "انتسب رجلان على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، حتى عد تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام قال: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة، فأنت ثالثهما في الجنة"(58) .(40/140)
وفي مواقف الرسو صلى الله عليه وسلم من قريش والعرب قدوة لنا، فقد كان عدواً لعمه أبي لهب، وحارب قريشاً وهي قبيلته ولكن كثيراً من المسلمين اليوم ضيعوا دينهم، فهم يرون الظلم أمامهم، ولديهم القدرة على معارضته، ولا يفعلون شيئاً ولهذا ضاعوا وضاعت الأمة، قال تعالى (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الآية 118 سورة النحل ويسخر اليوم بعض المسلمين من بعضهم نتيجة أصولهم العرقية، أو طولهم أو قصرهم بكلمات شريرة وألفاظ قبيحة تمحو الحسنات وهذه ذنوب لو مزجت بماء البحر لأفسدته لما فيها من تعصب وكبر وغرور واتهام لله سبحانه وتعالى بأنه غير عادل في المساواة بين البشر في خلقهم فالناس لم يخلقوا أعراقهم أو أشكالهم فليحذر كل مسلم حريص على دينه ليس فقط من أقوال وأعمال فيها تعصب عرقي، بل حتى على تطهير نفسه من أي عقيدة أو اقتناع بان الناس يختلفون بناء على أعراقهم، فلا فضل لعائلة على عائلة ولا قبيلة على قبيلة، ولا شعب على شعب، ولا أمة على أمة، ولا لون على لون وعليه أن يحارب المفاهيم العنصرية وأصحاب التعصب لأنهم أحد أسباب ضعف المسلمين، عن جابر رضى الله عنه قال : " كنا مع صلى الله عليه وسلم فكسع (59) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: ياللأنصار، قال المهاجري يا للمهاجرين، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم " ما بال دعوى الجاهلية؟ قال : يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال : "دعوها فإنها منتنة" (60) وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم "من قاتل تحت راية عمية (وهي الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه) يغضب لعصبه، أو يدعو إلى عصبة فقتل فقتله جاهلية" رواه مسلم (61) وقال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي: ولقد حور الرسو صلى الله عليه وسلم مبادئ العصبية الجاهلية إلى مبادئ حقوقية سليمة فمن ذلك قوله : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قال أنس كيف انصره ظالماً ؟ قال : " تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره "(62) ومن بديهيات الواقع والمعقول أنك لو قلت لرجل كان جده مجرماً عليك أن تتحمل ما فعله جدك، لقال بأنه مسئول عن أعماله لا عن أعمال جده، وأنه لا تزر وزارة وزر أخرى وهذا الكلام حق، ولكن البعض يريد أن يبنى تعصبه على ما فعله الآباء والأجداد من المآثر والأعمال الطيبة، ويتهرب من ذكر سلبياتهم وسيئاتهم قال تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (134 سورة البقرة) ولو كان النسب العرقي سببا كافيا للاستعلاء والتعصب العرقي لكان أولى أن يفتخر به بنو إسرائيل لأنهم بنو يعقوب عليه السلام ومنهم كثير من الأنبياء ولم ينفعهم ذلك بشيء، ولم ينفع النسب بني هاشم قال تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون*، الآيات 101-103 سورة المؤمنون. كما ثبت عن الرسو صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإنني لا أملك لكم من الله شيئاً"(63) قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي : قال رسول الله صلى عليه وسلم لأهله وأقربائه: "اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، وقال " لا يجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب إن إكرمكم عند الله أتقاكم" "وإذا كان أهل بيت صلى الله عليه وسلم لا يتمتعون بميزة ترفعهم على الناس إلا الأعمال فلن تكون لأحد تلك الميزة على الاطلاق" (64).
وعموما فتاريخ كل القبائل والشعوب والامم فيه خير وشر، ومن قرأ التاريخ عرف ذلك في مواقف وحكايات وانتصارات وهزائم، وفيه صفحات بيضاء وصفحات سوداء، قال تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" فلا داعي أن نجعل من أنفسنا أولياء وغيرنا شياطين، ولنأخذ من التاريخ دروساً وعبراً لامبررات كاذبة للتعصب العرقي ونقول للمتعصبين اقرأوا التاريخ، وإذا لم تقتنعوا فابحثوا عمن يقرأه لكم بموضوعية. والحقيقة الكبرى في الانتماء العرقي أنه لا توجد ميزة وأفضلية عرقية لأي عرق بشري فكل البشر هم بنو آدم وحواء وأكرمهم عند الله أتقاهم وروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى رجلاً يقول : أنا ابن بطحاء مكة فوقف عليه فقال: "إن كان لك دين فلك شرف، وإن كان لك عقل فلك مروءة، وإن كان لك علم فلك شرف وإلا فأنت والحمار سواء"(65) وذكر الفخر بالأنساب عند إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر فقال:- "إنما الفخر بالأعمال وينبغي أن يكون الإنسان عصامياً لاعظامياً" وقال الشاعر:-
إن الفتى من يقول ها أنذا
…
…ليس الفتى من يقول كان أبي
قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي " لقد كان إنجاز الإسلام الهائل تحقيقه أن شرف أي إنسان مكتسب بصفة فردية ، بفضل ما يقوم به من أعمال الصلاح والخير ، لا بالانتساب إلى قبيلة أو موطن ، وهذا مخالف تمام الاختلاف لما كان عليه العرب " (66)(40/141)
ومن غرائب التعصب العرقي أن كثيرا من الأمم والشعوب والقبائل تعتبر نفسها أرقى و أفضل البشر وهذا ينطبق حتى على قبائل أفريقية متخلفة عقائديا وعلميا ، فالبعض يصنع الأوهام ، ويعيش فيها مع أنه لا دور له إطلاقا في اختيار عائلته ، أو شعبه أو أمته. ومن الطرائف التي تروي في هذا الموضوع: قال رجل إنكليزي لرجل فرنسي: ولدت إنجليزيا ، وأعيش إنجليزيا ، وأتمنى أن أموت إنجليزيا فقال الفرنسي : هذا جميل، ولكن أليس لديك طموح ؟ وقال رجل لآخر : أنا ابن فلان ابن فلان .. إلى أن أوصل نسبه إلى آدم عليه السلام ، فقال الآخر : كل هذا حتى تثبت أنك تنتمي إلى بني آدم ؟ !!. والمفروض ألا نقف طويلا عند إنجازات الآباء والأجداد ، بل أن نركز جهودنا على أن نقدم إنجازات طيبة، ونطور علمنا وأخلاقنا وأعمالنا، فالرصيد التاريخي محدود الفائدة.
ومن مبررات بعض أهل التعصب العرقي أنهم يفعلون ما يفعله الآخرون أو أن تعصبهم رد فعل أي معاملة بالمثل، والحكم الشرعي أن انحراف الآخرين ليس مبرراً أن يقابل بعنصرية وظلم فمن السهل أن نقابل التعصب بتعصب ونردد قول الشاعر:
ألا فلا يجهلن أحد علينا
…
…فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لا نفعل ذلك لأن حرصنا على مصالح ديننا وأوطاننا وأمتنا تجعلنا نقابل السفهاء بحلم وصبر، فلا تستفزنا تصرفاتهم، فلنبدأ بكسر الحواجز العرقية والسياسية، وكذلك ليس من المبررات الشرعية للتعصب أنه موجود في بعض الدول المتقدمة لأننا لا نقارن أنفسنا بالآخرين بل بما أمرنا الله سبحانه وتعالى به.
ونترككم مع مقتطفات توضح بعض الدمار الذي أنتجه التعصب العرقي في تاريخ المسلمين، وكذلك مواقف المسلمين المخلصين منه:-
1- قمع أبو بكر رضى الله عنه حركة الردة فخفت صوت العصبية وانقضت أحلام الزعماء المرتدين الذي كانوا يسعون إلى عودة الفوضى والظلم والاستقلال القبلي" .
2- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجبلة بن الأيهم ملك غسان عندما قال له "أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال "الإسلام سوى بينكما" وقال قولته الخالدة لعمرو بن العاص والي مصر مستنكرا : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟"(67).
3- وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شعر الهجاء الذميم وإثارة العصبية موقفاً حازماً فقد حبس الحطيئة لهجائه الزبرقان بن بدر بدون حق، وشدد عليه السجن، وكان مُصراً على قطع لسانه لولا أنه استعطف وبكى، وتاب، فأخرجه من السجن بعد أن تعهد أن لا يهجو أحد من المسلمين" وكان جل شعراء الجاهلية دعاة عصبية وملقحي فتن ومؤرثي أضغان(68) .
4- لما جرت واقعة مرج راهط بالشام سنة 65هـ وانتصر فيها مروان بن الحكم بجيشه اليمني على جيش ابن الزبير المضري عدت العرب هذه الواقعة انتصاراً لليمن على مضر وسرت تلك العنصرية العربية سريان النار في الهشيم في كل قطر يجمع بين الحيين وذلك من أقصى خراسان في المشرق إلى الأندلس في أقصى المغرب(69) .
5- وكانت هناك عنصرية بين العرب والموالي في الدولة الأموية ولم يقتصر احتقار العرب على الموالي بل تعداهم إلى طائفة المولدين، فكانوا يحتقرون ابن الأمة من العربي، ويسمونه "الهجين" وكان الموالي ينظرون إلى بني أمية على أنهم لا يعاملونهم بمبادئ الإسلام وروحه وانحاز كثير منهم إلى كل ثائر على الدولة الأموية(70) .
6- قال عمر بن عبد العزيز: "اقمعوا صوت العصبية والقبلية، ولا تدعو الناس يقول أحدهم أنا مضري، ويقول الآخر أنا يمني فالمؤمنون إخوة"(71) .
7- قال زياد بن أبيه في خطبته البتراء الشهيرة "وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه" وقال: "ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة، ولا يرجو معادا ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام"(72) ، (73) .
دفاع عن الأفارقة
اتخذ التعصب العرقي أنواعاً مختلفة منها ما هو بين أبناء الشعب الواحد واللون الواحد، والعرق الواحد، والدين الواحد، كما يحدث بين القبائل والعوائل، ومنها ما كان بين الشعوب في الأمة الواحدة، ومنها بين الأمم، ومنها بين الأجناس البشرية، ومنها بين الألوان، وخاصة بين الإنسان الزنجي والإنسان الأوروبي والأمريكي، وهناك شعوب كثيرة تعرضت للتمييز العنصري بين الإنسان الأبيض والأسود كما حدث في روديسيا وجنوب أفريقيا، وما حدث ولازال يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، ويخطئ من يظن أن التعصب العرقي انقرض من حياة البشر بل هو موجودة بقوة وبمختلف أنواعه وذلك لضعف أو غياب العقائد السماوية في كثير من بني البشر وليس هدفي في هذا المقال هو البحث التفصيلي في هذا النوع من التمييز العنصري بل سأكتفي بما جمعته من كتب ومقالات تطرقت إلى هذا الموضوع مع بعض التعليقات لأن ما جمعت يعطي صورة واضحة عما يحدث :(40/142)
1- قال الدكتور فؤاد محمد الصقار: "وتظهر التفرقة العنصرية بوضوح حيث تحكم أقلية من الناس أكثرية تختلف عنها في صفاتها الجسمية كما هو الحال في جنوبي أفريقية وروديسيا، لتأكيد واستمرار السيطرة الشاذة للأقلية على الأغلبية المحرومة من حقوقها، كما تظهر التفرقة العنصرية حيث توجد الأقليات المستضعفة في وسط محيط واسع من البشر يختلفون عنهم من الناحية الجسمية، كما هو حال الزنوج في الولايات الأمريكية، وقد حرروا قانونياً ولكنهم ما يزالون في بعض الولايات الجنوبية محرومين من كثير من الحقوق" وقال الدكتور فؤاد: "إذا كان الرق في المجتمعات القديمة يرتبط به نوع من التفرقة العنصرية مما يجعل الإغريق والرومان يضعون الحواجز في وجه الاختلاط بالإرقاء فإن الرق لم يرتبط في العصور القديمة وكذلك في العصور الوسطى، بسلالة معينة أو بلون خاص". وقال: "ودعت الأديان السماوية إلى الإخاء والمساواة ولكن المسلمين وحدهم هم الذين انفردوا طوال تاريخهم الطويل بتحقيق هذه الدعوة فلم يكن هناك فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى" وقال أيضاً "ولم يكن للون البشرة أو شكل الإنسان أي أثر، ولم يذكر التاريخ أن المسلمين قد عاملوا شعباً من الشعوب بنوع من التعالي بسبب اختلاف اللون، بل على العكس اختلطوا بالشعوب الأخرى وإن اختلفت ألوانها، وكان ذلك من أسباب انتشار الإسلام بين كثير من الشعوب والسلالات"(74) .
2- قال الأستاذ أحمد محمد عطية "جاء في تقرير للجنة الحقوق المدنية الأمريكية التي شكلت عام 1957 "إن الزنوج في كل أنحاء البلاد قد أعلنوا صراحة أن صبرهم الذي استمر قرناً وهم معتبرون مواطنين من الدرجة الثانية قد نفذ نهائياً". وقال "يقولون: إن الزنوج جهلة ولكن من الذي ألبسهم ثياب الجهل؟ إنه النظام العنصري ودعاته، والزنوج لا يصلحون للأعمال الفنية والرئيسية، ولكن من الذي حرمهم من ممارسة هذه الأعمال واكتساب الخبرات؟ إنهم البيض المتعصبون للونهم ولجنسهم"(75) .
3- قال الأستاذ أحمد محمد عطية: "في أمريكا كان القول السائد "الزنجي آخر من يُطلب للعمل وأول من يفصل منه" والجانب الآخر من المشكلة هو انخفاض مستوى أجر الزنجي عن زميله الأبيض عن العمل الواحد، وكذلك نوع العمل الذي يُسند إليه، فكل الأعمال اليدوية الشاقة غير الفنية تُسند إلى الزنجي لأنه أسود" وهذا يثبت أن المصالح الاقتصادية والسياسية غير المشروعة هي أحد العوامل الرئيسية وراء بقاء التعصب العرقي قال مارتن لوثر كنج الزعيم الزنجي في مسيرة تطالب بإنصاف زنوج أمريكا في واشنطن "إني أحلم بيوم يجلس فيه أبناء العبيد في جورجيا، وأبناء الذين كانوا سادة العبيد هناك جنباً على جنب على مائدة الإنسانية، إني أحلم بيوم تتطور فيه المسيسبي من ولاية ترزح تحت نير الاضطهاد إلى واحة للحرية والعدالة والمساواة، إني أحلم بيوم يعيش فيه أبنائي الأربعة الصغار في دولة لا تزنهم بلون أجسامهم، وإنما تقومهم بطابع شخصياتهم"(76) وألقى ميلتون أوبوتي رئيس وزراء أوغندا الأسبق كلمة في جامعة "لونج ايلاند" بأمريكا قال فيها "إن مفتاح حماية صورة أمريكا في أفريقية، هو تسوية مشكلة الزنوج" .
4- قال الدكتور ليفين عن الزنوج في الولايات المتحدة: إن الزنوج يسمعون ما تصدره حكومة الولايات مما يتصل بتوكيد حقوق الإنسان، ثم ما ترسمه حكومة الولايات من برامج لمحو الفقر في البلاد، ثم هم ينظرون بعد ذلك في عيشهم اليومي الواقعي، فلا يرون فيه أي تغيير حدث بناء على هذه القوانين وتلك البرامج عندئذ هم يضيقون ثم يغضبون ثم يثورون"(77) .
وجاء في مجلة النيوزويك الأمريكية هذه العبارة : غير أن بريطانيا حريصة على تفادي مثل هذه المجابهة مع جنوب أفريقيا ، ويعزى ذلك كما لا يخفى إلى تجارتها الواسعة معها ، وقد ازدادت خطورة هذه التجارة بالنسبة إلى بريطانيا بالنظر إلى اهتزاز الأوضاع الاقتصادية فيها"(78) .
5- وقال الأستاذ أحمد زكي في حديثه عن الملونين في بريطانيا : "وهذا الاختلاف يقل في الجيل الثاني من المهاجرين الملونين ذلك أنه جيل درس مع البيض وفي مدارسهم وألف العيش معهم، واكتسب لسانهم واكتسب عاداتهم، حتى لم يبق إلا اللون، وهذا أقل العوامل أثراً في إحداث تنافر، والأمريكيون البيض الذين حرموا السود من تربية وحرموهم من علم، وحرموهم من فن ومن عمل ومن رزق، جنوا على مجتمعهم جناية يجنون اليوم عواقبها، ولكنهم إنما في الأمس البعيد صنعوها" وقال "فالحكومة البريطانية تتحرك فيما تتحرك فيه (من حيث تسهيل عيش الملونين) خطوة من أجل الاعتبارات الإنسانية وخطوتين من أجل المنافع التجارية، وحسن السمعة العالمية"(79).(40/143)
6- قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي قالت ممرضة بيضاء ترعى طفلة أفريقية صغيرة: "ذات صباح وجدتها جالسة على سريري، كانت بنتا "حلوة حقاً" ولكنني لم استطع أن أمنع نفسي من أن ارتعش اشمئزازاً عندما لمستني. لقد كان ذلك بالرغم مني ولا أستطيع تعليل ذلك" وسأل عالم نفساني بارز "لاسكر" في اختبار لطلاب مدرسة ابتدائية في الولايات المتحدة الأمريكية: جون كان ابن خياط فقير، عاش في بكين عاصمة الصين، دائماً عاطلاً وكسولاً، وكان يجب أن يلعب أكثر من أن يعمل فمن أي نوع كان هو: (هندي- زنجي- صيني- فرنسي- ألماني) وكم أدهشه أن غالبية الأطفال أجابوا بأنه زنجي مع أنهم علموا أنه عاش في بكين عاصمة الصين" قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي: "إن من سليم القول أن نذكر أن التمييز العنصري ليس فطرياً، وهو كأي نوع آخر من التحيز مكتسب، أي أنه يتعلم" وقال: "المؤثر الأغلب الأهم هو: الوالدان وخاصة بالنسبة للأطفال الصغار الذين يستجيبون بكليتهم إلى رغبات وكراهات والديهم دون معرفة الأسباب لهذه الرغبات والكراهيات"(80) .
7- قال الدكتور فؤاد الصقار "إذا كان الألمان قد فلسفوا التفرقة العنصرية فإن الإنجليز قد مارسوها بالفعل إذ تاجروا في الرقيق عندما كانوا يحتلون مناطق متسعة من أمريكا، ومنعوا تجارة الرقيق وحاربوها عندما فقدوا مستعمراتهم الأمريكية غير أنهم مارسوا تفرقة عنصرية أصبحت نموذجاً للبيض في أفريقية وفي غيرها من المناطق"(81) .
8- وفي العهد الحديث ضرب البابا يوحنا الثالث والعشرون أكبر مثل لسياسة عدم التفرقة العنصرية، عندما ضم إلى مجلس الكرادلة قساوسة من الزنوج ومن أبناء أسيا الملونين، بعد أن كان من التقاليد الكنسية القديمة أن تقتصر الترقية إلى رتبة دينال على القساوسة البيض دون غيرهم"(82) .
وقال الأستاذ أحمد زكي في مقال بعنوان: "لندن في صيف عام 1968 "أولهما ما يجري في الولايات المتحدة بين بيض وسود من عراك عنيف شديد وتحاول الحكومة هناك أن تساوي بين اللونين قانوناً ويأبى السكان البيض للقانون تطبيقاً، ومن رضي به فإنما يرضى استسلاماً لأمر لا يجد منه مفراً. فهذه هي حقيقة مشاعر الأمريكيين البيض، وهم الأغلبية الكاسحة، ودع عنك ما يلوكه القوم من الحرية والديمقراطية وأشباه ذلك"(83).
9- وفي أمريكا بعض المتعصبين عرقاً للون الأبيض وإليكم نماذج منهم: أبرق القس الدكتور "البرت جاردفر" مهدداً الرئيس كنيدي بأنه وكثير من أمثاله من أبناء الجنوب يعتقدون اعتقاداً دينياً وأدبياً "إن المساواة بين الأجناس خطأ، وأنه يجب مقاومة كل محاولة للتسوية بينهما" وبعضهم يقولون: إن الأسود إنسان متخلف بطبيعته، وبعضهم يذهب إلى أنه ليس بإنسان أو بشيء من التواضع: إنسان متوحش". وقال بيلبو عضو مجلس الشيوخ الأمريكي: "إن نظرية الجنس والتفاضل بين الأجناس قد وجدت في أمريكا قبل أن يوجد أدولف هتلر"(84) .
10- وهناك أيضاً من يقاوم هذا التعصب العرقي من الزنوج والبيض قال الزعيم الزنجي الأمريكي المسلم ملكوم اكس: "إن الأمريكي الأسود لا يريد إلا حقوقه الإنسانية، وأن يكرم كبني آدم وألا يفر منه البيض كما لو كان مصاباً بالطاعون، وألا يعزل في الأحياء الزنجية كالحيوان، وألا يعيش مخفياً، وأن يمشي مرفوع الرأس كبني آدم" وقال ملكوم أكس "إن المجتمع الأبيض يكره أن يكلمه أحد ولا سيما إذا كان أسود على الجرائم التي ارتكبها البيض في حق السود، وأنا أعرف ذلك واستغله ولذلك يسمونني بـ"الثوري" وهي تسمية تجعلني أبدو وكأنني قد ارتكبت جريمة"(85) .
11- قال ملكوم أكس "لون أن الإنسان الأمريكي الأسود فكر في حقوقه كإنسان واستطاع أن يقتنع بأنه من أعظم شعوب الأرض لوجد أنه صاحب قضية بحجم ما يعرض على الأمم المتحدة. أربعمائة عام وهو يعرق ويدمى من أجل أمريكا وما يزال يستجدي حقوقاً يحصل عليها غيره بمجرد ما تطرحهم السفن على التراب الأمريكي" وقال أيضاً: "إن السود لم يحصلوا على أعمال محترمة في المصانع الأمريكية إلا بعد ما أكره هتلر الرجل الأبيض على ذلك وواصل ستالين مبادرة هتلر"(86) .
أي أن الخوف من هتلر ومن الشيوعية جعل الأمريكيين البيض يعطون الزنوج بعض حقوقهم .
12- قال ملكوم أكس الزعيم الزنجي الأمريكي: "فإذا مت وقد جلبت أقل قدر من الضوء ينير الطريق، أقل جزء من نور الحقيقة، وإذا مت وقد استطعت أن أساهم في إبادة السرطان العنصري الذي يأكل الجسم الأمريكي فإن الفضل كل الفضل عندئذ يعود إلى الله- لا تنسبوا إلى غير الأخطاء" .
وأجاب صحيفة كانت تسأله عن إمكانية الانتماء إلى تنظيمه من أجل الوحدة الأفروأمريكية بقوله "كل شخص يرغب باتباعي يجب أن يكون مستعداً لدخول السجن والمستشفى وإلى المقبرة قبل أن يصبح حراً حقيقة" وكتبت الصحيفة تقول: "كان يبتسم حتى النواجذ، ولكن قوله لم يكن فيه ذرة من المزاح"(87) .(40/144)
13- في أمريكا هناك تشريعات قانونية وإدارية تمنع الموظفين الحكوميين أو غيرهم من التمييز في المعاملة بسبب اللون، ولكن لا تحاسب الحكومة عما يحب أو يكره أو ما يعتقد في مجتمعه الخاص، أو في حياته ونواياه واقتناعاته العنصرية في حين أن الإسلام هو إيمان داخلي بأن الناس سواسية ويجب أن يتصرف في كل أمور حياته على هذا الأساس حتى في الأمور التي لا تخضع لسلطة القانون .
14- أما بالنسبة لأفريقيا فكان هذا هو واقع التمييز العنصري قال مراسل النيوزويك: "وكنت أركب سيارة أجرة سائقها أسود، فظنني السود أبيض من المغتصبين فرموني بالحجارة.. ولحق الجنود البيض بالسيارة فكان حظ السائق الأسود أسوأ من حظي.. لقد جروه منها، وانهالوا عليه ضرباً حتى سحقوه سحقاً، وانهالوا عليه تقطيعاً، ثم رشوا عليه الكاز واشعلوا فيه النار!!"(88) .
15- "ولا تحدد عقول العمل المطبوعة ساعات العمل وإنما هي تنص فقط على أنه يشترط في الخادم إنجاز الخدمات لسيده في وقت مناسب ومعقول"(89) هذه هي قوانين أفريقيا الجنوبية الغربية العنصرية في بداية القرن العشرين .
16- قال الأستاذ أحمد محمد عطية: "إن مما يكذب ادعاءات العنصريين وحطهم من قدر الإنسان الأسود لأنه أسود- ما يذكره التاريخ لنا عن الممالك الأفريقية، فبينما كانت أوروبا تعج بالبرابرة كانت أفريقيا تزخر بالحضارة الأفريقية من "تمبكتو" إلى "باماكو" إلى شاطئ المحيط، وكان العلم والفن في ازدهار"(90) .
17- ولم يسلم الهنود في جنوب أفريقيا من التمييز العنصري فقد كانوا في جنوب أفريقيا محرومين من حق التملك إطلاقاً، ولم تكن لهم أية حقوق سياسية، وقد طبقت عليهم القوانين الخاصة بالشعوب الملوثة، وكانت قد صدرت في عام 1886، وما كان يجوز للهنود بموجبها أن يسيروا على ممرات المشاة العامة، أو يخرجوا من دورهم بعد الساعة التاسعة مساءً من غير إذن!! وحاول غاندي تحليل كره البيض (في جنوب أفريقيا) للهنود فقال: "فأسلوب حياتنا المختلف، وبساطتنا، ورضانا بالأرباح القليلة، ولا مبالاتنا بقواعد علم الصحة، وبطؤنا في تنظيف ما حولنا وترتيبه، وبخلنا في ترميم منازلنا، كل هذه العوامل مضافة إلى الاختلاف في الدين، ساعدت على إذكاء نار البغضاء"(91) .
التعصب العرقي والخطر السياسي
من الأمور البديهية في حياتنا كمسلمين أن المسلمين سواسية، ولا اختلاف بينهم بسبب اللون والجنس والقومية والوطن ولهذا امتدت العديد من الدول الإسلامية وخاصة الأموية والعباسية والعثمانية لتصبح دولاً عظمى تجتمع فيها قوميات وشعوب عديدة قال جمال الدين الأفغاني: "هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يعتدون برابطة الشعوب وعصبيات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين لهذا ترى المغربي لا ينفر من سلطة التركي والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرياسة الأفغاني ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وأن المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من قبيل إلى قبيل مادام صاحب الحكم حافظاً لشأن الشريعة ذاهباً مذاهبها"(92) .(40/145)
وكان هناك حرص شديد من المسلمين على تجنب الفتن والتفرق بناء على مصالح سياسية أو انتماءات عرقية أو طموحات شخصية أو غير ذلك. وكانت تحدث تغيرات عنيفة أو سليمة في الدول الإسلامية وفي الحكام وفي أنظمة الحكم وفي حجم الدول وغالباً ما كان هذا يحدث ولكن في ظل ثبات عقائد الدول وأحكامها والعلاقات بين أممها وشعوبها، فالبديهيات الإسلامية كانت موجودة، ولا مجال للاختلاف حولها، ولكن وجدنا وخاصة في بداية القرن العشرين من حرص على تمزيق الخلافة العثمانية من خلال تحويل الانتماء العرقي للعرب والأتراك إلى تعصب عرقي عند كلا الطرفين، ونجحوا في ذلك، واستغلوا أوضاعاً سياسية سيئة، وطموحات شخصية، وأخطاء، وتآمرت الدول الأجنبية من خلال إشعال نار التعصب العرقي ورمي الحطب الكثير عليها بما تملكه من أموال وخطط، فقد قالوا لنا إننا عرب وإننا أحق بالخلافة من الأتراك، فالرسو صلى الله عليه وسلم عربي، وأن القرآن الكريم عربي ولكننا نعلم أيضاً أن الحرص على وحدة المسلمين واجب إسلامي وأن لا فرق بين عربي وتركي إلا بالتقوى، واتهموا الدولة العثمانية بتهم كثيرة أغلبها باطلة منها أنها لم تعطنا حقنا من المناصب والأموال، وأنها ضد اللغة العربية، ومع التتريك، وأن الخلافة العثمانية هي الرجل المريض الذي لا أمل في شفائه، وأن الحرص على الإسلام يتطلب الثورة عليها وبناء دولة إسلامية جديدة وقوية بقيادة العرب مع أن العرب كانوا أضعف بكثير من الأتراك عسكرياً وسياسياً وحضارياً، وفي نفس الوقت قالوا للأتراك إن سبب تخلفكم هو الإسلام وارتباطكم بالعرب، وإن وجود بعض القيادات العربية في الحكم في اسطنبول ليس في صالح تركيا والأتراك والمستقبل وإن العرب يمكن أن يتعاونوا مع أعداء الدولة العثمانية، فالحذر منهم واجب وانهم متخلفون حضاريا ولا شك أن الدولة العثمانية كانت لها إيجابيات وسلبيات كجميع دول العالم قديما وحديثا, ولكن ليس الحل هو تمزيقها حتى نتخلص من سلبياتها, ولو فعلنا هذا مع دولنا لما بقيت دولة واحدة مستقرة,فالمطلوب هو إصلاح الدول لا تحطيمها وقد أثبتت الأحداث في بداية القرن العشرين أن العرب الواعين والأغلبية الساحقة من العرب لم يكونوا على عداء مع الدولة العثمانية, بل كانت الروابط العقائدية والسياسية قوية إلى درجة جيدة جداً, ويكفي من الأدلة ما قاله أمير شعراء العرب أحمد شوقي رحمه الله في قصائد كثيرة في مدح الأتراك واليكم أبياتا مما قال :
الله أكبركم في الفتح من عجب
قواد معركة وراد مهلكة
…
يا خالد الترك جد خالد العرب
أوتاد مملكة اساد محترب
وقال :-
وزينب إن تاهت وإن هي فاخرت
يؤلف إيلام الحوادث بيننا
…
فما قومها إلا العشير المحبب
ويجمعنا في الله دين ومذهب
وقال :-
حب لذات الله كان ولم يزل
…
وهوى لذات الحق والإصلاح
وقال :-
ظهرت أمير المؤمنين على العدا
…
ظهوراً يسوء الحاسدين ويتعب(40/146)
فهذا الشعر وغيره أدلة كثيرة تثبت قوة الروابط العربية التركية ولكن إثارة النعرات العرقية وخلطها باختلافات عقائدية وسياسية جعلنا نتساءل هل نحن عرب أو مسلمون ؟ وهل العربية القومية قبل الإسلام أم بعده ؟ وما هو الأصل وما هو الفرع ؟ وما هو فكرنا القومي ؟ ومن هم العرب؟ وما العلاقة بين القومية والعلمانية ؟ وهل هدفنا أن نكون جزاءاً من أوروبا فكراً وكياناً ؟ أسئلة كثيرة كتبت فيها ومقالات وأقيمت لها ندوات ومؤتمرات ومحاضرات وتكونت أحزاب واتجاهات طوال القرن العشرين , وأشغلت الشعوب والأمة, وأكثر هذه الأسئلة كانت ذات إجابات واضحة وسهلة ولا توجد عندنا حيرة أو ضياع أو تناقض في شخصيتنا , ففكرنا وعقيدتنا هو الإسلام وانتماؤنا العرقي واللغوي هو العروبة, واللغة العربية , والتعصب العرقي مرفوض شرعا, ورفع الشعارات والأهداف العرقية عصبية جاهلية منتنة, والاهتمام باللغة العربية واجب إسلامي, والأتراك أمة مسلمة شقيقة, والمؤمنون أخوة , والانتماء العربي انتماء فطري لا يعارضه الإسلام , والعلمانية كفر وإلحاد , والإصلاح لا يتحقق بتمزيق المسلمين والمدينة الفاضلة غير موجودة لا في عالمنا الإسلامي ولا في الغرب وإليكم ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد كمال أبو المجد في إجابته على بعض الأسئلة السابقة :- (فالقومية تعبير عن الانتماء إلى أمة , والأمة جماعة تتبادل الشعور بالانتماء . . وهو شعور تخلقه مقومات مشتركة من أهمها اللغة بإجماع العلماء وهذا الانتماء ليس مذهبا , ولا فلسفة وإنما هو واقعة اجتماعية ونفسية ذات جذور تاريخية ) أما حركة القوميات فإنها حركة سياسية هي إذن حركة وليست مجرد انتماء . . هدفها أن تحول الواقع التاريخي والحضاري إلى واقع سياسي بأن تطابق أو تقارب بين الواقعين , متجهة بالأمة الواحدة إلى أن تكون ( كياناً سياسياً موحداً ) ولم لم يأخذ هذا التوحيد - بالضرورة - شكل الدولة الواحدة . أما الإسلام فهو النظام الشامل الذي يقيم حياة الإنسان على أساس من الأصول الاعتقادية والفكرية والتنظيمية التي جاء بها الأنبياء والرسل عن ربهم, والتي ختمها وفصلها في شعائرها وشرائعها الوحي الذي أنزل على صلى الله عليه وسلم " قرانا يتلى ويعمل به .. وسنة تروى وتتبع" وقال أيضا "أما القومية فواقع تاريخي وأما الإسلام فدعوة شاملة ونظام مستوعب للحياة ووضعهما جنبا إلى جانب . . . والحديث عن تناقضهما أو توافقهما حديث لا معنى له أصلاً " وقال (فالحضارة العربية السابقة على الإسلام- مهما تكن لها من قيمة - لا يمكن أن تكون شيئا مذكوراً إلى جانب الفيض الغزير الوفير الذي نشأ ونما وتطور وغير حال الدنيا كلها وكتب لها البقاء - منذ أشرق الإسلام(93) .(40/147)
وقال الدكتور أبو المجد: "إن حركة القومية العربية- إذن- ليست حركة تمزيق للوحدة الإسلامية وإنما هي- في الأساس- حركة توحد وتجميع، وخصمها الأكبر هو الانحصار داخل الحدود الإقليمية للوحدات السياسية العربية المجزأة" ونقول إذا كانت الحركة القومية هدفها التعاون والوحدة بدون أفكار علمانية وتعصب قومي فأهلاً بها، أما إذا كانت علمانية وعنصرية فهي مرفوضة. وقال الدكتور أحمد أبو المجد: "لأن المواقف العنصرية والعرقية ليست في تقديري مواقف قومية، وإنما هي مواقف عنصرية فحسب وحين يأخذ الفكر القومي هذا المنزع العرقي، فإن موقفي منه لن يكون موقفاً توفيقياً وإنما سيكون موقفاً رافضاً بغير تحفظ لأن التوفيق يتحول حينئذ إلى تزييف، لما هو معلوم من أن الإسلام لا يمكن أن يتسع لنزعة عرقية أو عصبية"(94). وقال الدكتور أحمد أبو المجد: "الانتماء إلى أمة- إذن- ليس مذهباً ولا فلسفة وإنما هو "واقعة اجتماعية ونفسية ذات جذور تاريخية" فانتماء المصري أو السوري أو الجزائري أو الكويتي إلى الأمة العربية ليس أمراً متوقفاً على مذهبه السياسي أو فلسفته الاجتماعية، وإنما هو جزء من حقيقة ارتباطه العضوي "بذات جماعية" هو الأمة العربية"(95) فالمسلمين كأغلبية ساحقة ليست فقط من الخليج إلى المحيط بل من إندونيسيا شرقا إلى المغرب غرباً إلى جمهوريا أسيا الوسطى وتركيا شمالاً إلى أواسط أفريقيا جنوباً لا توجد عندهم من الناحية الفكرية مشكلة في تناقض أو ضياع أو حيرة، ولكن هناك عوامل منها وجود أقليات غير إسلامية ووجود تآمر أجنبي، ووجود مسلمين ضائعين أدت إلى إشغالنا في معارك فكرية وهمية ومعارك عرقية قال الأستاذ حازم صاغية: "أن شعراء الأقليات خصوصاً منهم مسيحيو أواخر القرن الماضي النهضويون، وأوائل هذا القرن، كانوا السباقين إلى ذكر "الجنس العربي" و"النوع العربي" و"الدم العربي" (96) وقال الأستاذ منح الصلح : "لابد من تسجيل خصوصية لبلدان الهلال الخصيب وهي أنها الوحيدة تقريباً التي اتجهت إلى مفهوم للقومية العربية يميز بشكل شبه حاسم أحياناً بين العروبة والإسلام، ولذلك سببان: السبب الأول هو تعدد الأديان في دول الهلال الخصيب، مما يدفع أبناءها إلى البحث عن موحد غير الإسلام وأغراها بالعلمانية، والسبب الثاني هو أن نهضة الهلال الخصيب انطلقت في العصر الحديث من نزاع مع استمبول عاصمة السلطة العثمانية، ومن صراع مع عصبية إسلامية أخرى هي العصبية التركية"(97) وقال الدكتور غازي القصيبي في رواية شقة الحرية على لسان فؤاد: " الإشكال يا سيدي أن أقليات غير إسلامية هي التي وضعت النظرية القومية التي تنتشر في العالم العربي اليوم. صدق أو لا تصدق يا سيدي ولكن هذه هي الحقيقة"(98).
ومع هذا أو غيره من انتشار الأمية والفقر والضعف السياسي... ألخ. فإن أغلبية المسلمين كانت واعية لما يحدث قال الأستاذ صبحي العمري: "الأقليات العنصرية كالأتراك والشراكسة والتركمان وغيرهم فبقى ولاؤهم للأتراك، يعتبرون أن هذه الحركة العربية (الثورة الهاشمية) التي فصلتهم عن الأتراك المسلمين بالتعاون مع الإنكليز الكفار حركة خائنة ويتفق معهم بهذه الفكرة أكثرية رجال الدين المسلمين والكثير من العامة"(99) وقال محمد عزة دروزة : " كان أصحاب المواقف والمطالب القومية قلة قليلة جداً بالنسبة للجمهور العربي الذي كانت أكثريته الساحقة مسلمة تعتبر الدولة المسلمة دولتها" وقال : " البارزة من مشايخ دين وموظفين عسكريين ومدنين ووجهاء وأعيان الذين كان معظمهم في الحقيقة ضد مواقف تلك الأقلية ومطالبها ويذهب إلى اعتبارها بدعة مخالفة للدين " (100)(40/148)
وعموماً فإن عوامل كثيرة ومتنوعة أدت إلى انهيار الدولة العثمانية وكان المتاجرة بالانتماء العرقي هي إحدى أوراق اللعبة السياسية فظهر أن هناك طموحات شخصية وتآمر أجنبي ورغبة من بعض الأقليات العربية في الحصول على مناصب سياسية رفيعة كما أن هناك جمود في فهم الإسلام واستبداد سياسي، وجهل عقائدي. وعندما نرى بعد قرن نتائج ما حدث نعلم أن رفع أعلام وشعارات التعصب القومي العربي كان كارثة كبيرة على العرب والمسلمين فقد تم تقطيع الأمة العربية بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وحدث استعمار واضح وصريح بعد أن كنا جزءاً طبيعياً في الخلافة العثمانية، ولم يتحقق حلم إقامة دولة إسلامية بقيادة العرب فالشريف الحسين انتهى إلى حكم إمارة شرق الأردن، وتم عزل الإسلام عن الحياة السياسية، فانفتح المجال لكل الأفكار الرأسمالية والشيوعية والعرقية وانقسم العرب إلى معسكرات متناقضة ومتصارعة بالعلن أو بالسر وحتى اللغة العربية التي افتخرنا بها أصبحت كأنها لغة منبوذة لا نحرص على تعلمها، بل نفخر بإتقاننا لغات أجنبية أما نصيبنا من الحرية والعدل والمساواة فأنتم تعرفون حقائقه في أغلب دولنا وكان المفروض أن نكون أذكي بكثير مما كنا، وأن نعرف أن المتاجرة بعروبتنا وشعاراتها وأهدافها كان لعبة سياسية هدفها ضرب إسلامنا ومبادئنا وأخلاقنا ومصالحنا وتاريخنا ولغتنا وأنظمتنا وأمتنا الإسلامية ومع اقتناعي بأن أعداءنا نجحوا بدرجة كبيرة في تحقيق ذلك إلا أنني من المقتنعين بأن عندنا والحمد لله قوة هائلة عقائدية وسياسية وحتى اقتصادية بإمكانها أن تحقق الكثير في فترة قصيرة نسبياً كل ما نحتاجه هو أن نفهم إسلامنا فهماً صحيحاً وأن نلتزم به ومن هذا الالتزام أن نحرص على محاربة التعصب العرقي بكافة أشكاله محاربة شرسة سواء كان هذا التعصب قومياً أو إقليمياً أو قطرياً أو قبلياً أو عائلياً وإذا فعلنا ذلك سنحطم كثير من الحواجز بين شعوبنا وبين أممنا وسيحدث تعاون جاد وكبير إن لم نقل وحدات حقيقية ولنتذكر كعرب أن التعصب العرقي لدى أغلب شعوبنا وحكوماتنا هو من أشد أعدائنا لأنه يمنع زيادة تعاوننا ويمنع فتح الأبواب أمام القدرات والطاقات والفرص العلمية والاقتصادية والثقافية والفكرية ... الخ للانطلاق والنمو وهناك أمثلة كثيرة يمكن ذكرها، وسنكتفي بالقول بأن فتح أبواب العلم والتكنولوجيا في أي دولة عربية طموحه أمام الباحثين العرب سيمكنها من تحقيق قفزات علمية وتكنولوجية هائلة لأن بإمكانها استقطاب عشرات الآلاف من العلماء المتخصصين سواء من أوطانهم أو من العرب المغتربين في أمريكا وأوروبا وما ينطبق على العلم ينطبق على الاقتصاد والإعلام والإدارة والتطور العقائدي وغير ذلك على فالإخلاص للوطن هو في الابتعاد عن التعصب الوطني والشعبي وليس العكس فكل أوطاننا وشعوبنا ستبقي ضعيفة إذا تم عزلها عن أمتنا العربية قال ابن خلدون : " إن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شئ"(101) وقال : " إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها الدولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وإن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها" وقال " وبعكس هذا الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها ويكون سلطانها وازعاً لقلة الهرج والانتقاض"(102) وقال الأستاذ سعد البزاز: "ستغدو عصبية الدولة مقبولة لو أنها بدت ملتقى تراضي كل العصبيات الطائفية والمناطقية والحضرية والريفية، أما أن تكون الدولة منحازة لإحدى العصبيات فهو أمر ينزع عنها صدقيتها، ويحولها إلى مجرد عصبية متنازعة مع عصبيات أخرى " (103) .
الرابطة العقائدية أولاً(40/149)
من الفطرة أن يحب الإنسان أسرته وعائلته وقبيلته وشعبه وأمته، ولكن عندما يتحول هذا الانتماء العرقي إلى عقيدة للتجمع والتفرق، وتحقيق المصالح غير المشروعة، ومبدأ لتصنيف الناس إلى أخيار وأشرار، وعندما يصبح شعوراً نفسياًَ بالتميز والأفضلية فإن هذا تعصب وجاهلية وانحراف كبير يضر مجتمعاتنا عقائدياً وسياسيا واجتماعياً واقتصاديا فالهوية الأولى لنا هي الهوية الإسلامية والسعي لإلغاء الفوارق بين المسلمين وهدم الحواجز العرقية والسياسية والاجتماعية واجب شرعي لأنه لا معنى إطلاقاً لأن ندعي أننا أبناء وطن أو أبناء أمة أو أبناء دين وأننا اخوة وأشقاء ومع هذا نتصرف بعنصرية، وندافع عن الحواجز التي تبعدنا عن بعضنا البعض، فهذا نوع من النفاق وهو ضد المساواة، وضد المحبة فعندما يتحكم العرق فيما يجوز، وما لا يجوز فاعلم أنها جاهلية، وعندما تسمع أقوال وحكايات تشوه أعراقاً معينة فاعلم أن في النفوس عنصرية، وأن لدى الآخرين حكايات مضادة، فمن الظلم أن نستغل انحرافات أفراد أو أنظمة لنطعن ونعادي كل من ينتمي عرقيا لهؤلاء، وعلينا أن نحذر من تزوير الحقائق، وتصديق كثير من الأقوال، أو أخذها من مصدر واحد، ولهذا نحن بحاجة ماسة إلى تقوية الاتصالات والعلاقات بين الأعراق المختلفة، وخاصة بين أهل العقول والإيمان، وسيكسب هؤلاء أصدقاء من كل الأعراق في حين أن المتعصبين لا يجدون أصدقاء إلا داخل عرقهم وهم أصدقاء من النوعية الرديئة، وهذا لا يمنع أن نذكر أن هناك صفات انتشرت في بعض الأعراق مثل النفاق أو الكسل أو الحسد أو الغرور أو الفسق، وهذا يتطلب أن نعترف بوجود هذه الانحرافات، وأن نسعى لإزالتها وتقليلها، فمن الطبيعي أن يربط الناس بين اسمك والكسل إذا كنت فعلاً كسولاً وليس من حقك أن تتهم الناس بأنهم عنصريون، أو أنهم يكرهونك لأن هذه حقيقة في هذه الحالة. وعموما فالرابطة العقائدية الإسلامية هي أقوى وأصح الروابط، قال تعالى "إنما المؤمنون إخوة" آية (10) سورة الحجرات وقال تعالى "فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" (63,62) سورة الأنفال. وقال تعالى "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" (41) سورة العنكبوت. وقال جمال الدين الأفغاني "الرابطة الملية (العقائدية) أقوى من الرابطة الجنسية "العرقية" واللغة"(104)(40/150)
فإذا كان الإسلام حقاً منهجنا فيجب أن يكون هو الأساس في أفكارنا وتشريعاتنا وستصبح الرابطة العرقية في هذه الحالة ذات تأثير محدود، ويتم ترشديها بالعقائد والأحكام الإسلامية، ولهذا وجدنا من المسلمين الأوائل أبا يقاتل ابنه الكافر، وأخا يقاتل أخاه، ومن الخطأ العمل على أن تكون الرابطة العرقية لقبيلة أو شعب هي الأساس في البناء لأنها رابطة ضعيفة لا تستطيع تحقيق كثير من الآمال فقد شاهدنا أخوة أشقاء بينهم عدوات، وأقارب لا يعرفون بعضهم البعض مع أنهم في مدينة واحدة، وذلك لأن الرابطة العرقية تعتمد على العواطف والمصلحة والتعصب فمن السهل أن تتمزق في صراع المصالح، ومن السهل المتاجرة فيها خاصة لبعض المنتمين لها، وهي ليست نظاماً فكرياً راقياً له مفاهيمه السياسية والاجتماعية الصحيحة والذين علقوا كثيراً من الآمال على الرابطة القومية العربية كفروا بها بعد أن رأوا العداء والشر والكراهية بين العرب، فتحولت الرابطة العرقية من رابطة ملائكية إلى رابطة شيطانية، وكلا الاقتناعين خاطئان، فالرابطة العرقية لا علاقة لها بالخير أو الشر لأنهما مرتبطان بما في العقول والنفوس من عقائد ونوايا وأخلاق، فالرسو صلى الله عليه وسلم عربي هاشمي وكذلك عمه أبو لهب وهذه من البديهات الإسلامية التي يعرفها أطفال المسلمين منذ خمسة عشر قرناً ولكننا لازلنا وللأسف نجهل هذه البديهات وتمتلئ الرابطة الإسلامية بالحكمة والعدل والحب لبنى آدم ، وتعدل حتى مع الأعداء في حين أن الرابطة العرقية تمتلئ بالجهل والأوهام والكراهية والغرور والأنانية والرابطة الإسلامية تدعو إلى بناء الدول والأحزاب والمؤسسات النيابية والإدارية على الكفاءة والإخلاص في حين أن الرابطة العرقية ترفض ذلك وتنظر للأمور من زاوية المصالح العرقية الضيقة والرابطة العرقية تسلط الأضواء على الأجداد والأرض واللون وتتجاهل الإنسان فيمتلئ غروراً وأنانية وكسلاً فيهلك ويفشل في الدنيا والآخرة قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد : "أما القومية فواقع تاريخي، وأما الإسلام فدعوة شاملة ونظام مستوعب للحياة، ووضعها جنباً إلى جنب والحديث عن تناقضهما أو توافقهما لا معنى له أصلاً(105) ولهذا ندعو بشدة للتفريق بين القومية والحركة القومية العلمانية العنصرية فالقومية العربية انتماؤنا العرقي، أما الحركة القومية فهي حركة عنصرية، تبنت عقائد ومفاهيم علمانية تناقض عقيدتنا الإسلامية، ومما يبعدنا عن التعصب العرقي هو أن نحرص دائماً على تبنى مفاهيم ومصالح الدائرة العرقية الأكبر التي ننتمي لها، فإذا تحدثت قبيلتك عن مصلحتها، فتحدث أنت عن مصلحة شعبك خاصة إذا كان انتماؤك العرقي الأصغر يريد أن يتحرك في اتجاه معاكس لحركة انتمائك العرقي الأكبر فالعصبية هي أن تعين قومك على ظلم الغير، أو أن لا تختلف معهم إذا ظلموا وبعض أنواع هذا الظلم تكون غير واضحة كأن يقال من حق كل قبيلة أن نختار من يمثلها في الانتخابات لأن في ذلك إضعاف لدور الكفاءة والعلم، وتقوية لدور الانتماء العرقي، أما إذا كان الانتماء العرقي هدفه خير العرق والمجتمع فإن هذا أمر مطلوب لأنه تعاون على البر والتقوى، وعموماً فنحن لسنا بحاجة لمن يُزايد على انتماءاتنا العرقية، أو يشكك بها لأنه إذا كنا ضد أن يكون هناك ظلم على أعراق أخرى، فلا شك أننا سنكون حريصين على أعراقنا ومصالحها الشرعية نقول هذا لأننا تعلمنا أن التعصب العرقي كارثة، فقد شاهدنا سلبياته في دوائرنا العرقية الكبيرة والصغيرة، فرأينا كيف تحطم بنياننا القومي العنصري، فأنتج فوضى عقائدية، وضعفاً سياسياً، وتعصبات عرقية إقليمية، ولازلنا نشاهد المزيد من ذلك، ولنتذكر دائماً أن التعصب العرقي هو عملاق ضعيف لن يصمد أمام الحق والمبادئ ولكن لابد للحق من رجال .
نماذج من التعصب الشعبي(40/151)
قال مواطن كويتي "ماذا يريدون أكثر من هذه الحقوق؟ لقد كانوا يطالبون بتوحيد الجنسية للحصول على الحقوق السياسية، وقد تحقق هذا الهدف، فماذا يريدون أكثر من ذلك" وقال: "لا يمكن بأي حال من الأحوال المساواة بين شخص عاش في هذه البلاد منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، ونشأت الكويت على دمه وعرقه وبين الآخرين، إن هذا ليس من العدل والمساواة في شيء" هذه الاقتناعات عبارة عن نموذج موجود في كثير من شعوبنا العربية والإسلامية، وإذا لم يكن ظاهراً لأسباب اقتصادية أو سياسية فإنه موجود في نفوس كثيرة يتداولونه سراً أو علناً، ويعتبر أعرافاً لها آثارها في قضايا سياسية واجتماعية وهي إحدى الموانع الرئيسية التي تعيق تعاون العرب والمسلمين والشعب الواحد، وما قاله المواطن الكويتي ليعطي تبريرات لمنع توحيد الجنسية الكويتية لجميع المواطنين المقسمين لجنسية أولى وجنسية ثانية وأصحاب الجنسية الأولى هم أهل الكويت الأصليون حسب قانون الجنسية في حين أن أصحاب الجنسية الثانية هم من المهاجرين المتأخرين بعدما أصبحت الكويت دولة غنية، فإذا كان هذا المواطن يفضل أن تبقى الفوارق بين المواطنين الكويتيين فلا شك أنه أكثر حرصاً على بقائها بين الكويتيين عموماً وغيرهم من الشعوب، ولنسلط الأضواء على هذا النوع من التعصب العرقي من خلال النقاط التالية :
1- نستطيع أن نقول: إن الفوارق بين أصحاب الجنسية الأولى والثانية أصبحت بعد التغييرات الأخيرة في قانون الجنسية شبه معدومة لأن أصحاب الجنسية الثانية حصلوا على حق الانتخاب والترشيح، وفي هذا تعزيز للوحدة الوطنية، ولكن هذا الإنجاز القانوني يجب أن يصاحبه تطور في العقائد والاقتناعات فحبنا كمواطنين كويتيين للكويت يجب أن يكون حباً شرعياً، أي حباً عادلاً، فلا ننظر لأنفسنا كأننا شعب الله المختار أو كشعب نختلف عن إخواننا من ذوي الجنسية الثانية أو العرب والمسلمين فالمساواة بين المسلمين من البديهيات الإسلامية، واختلاف الأوطان والقوميات لا يجوز أن يكون سبباً في وضع حواجز وقيود كلما أمكن ذلك بل العكس هو واجبنا، أي إلغاء الحواجز كلما أمكن ذلك، فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وكذلك بين الكويتي والعربي وقبل مائة سنة فقط كان المسلمون ومنهم الكويتيون يتنقلون من بلد إلى بلد بكل سهولة وبدون كفيل أو حتى جواز سفر، ولهذا وجدنا كويتيين عاشوا في البحرين، والهند، وحتى إندونيسيا وغير ذلك، ومن المعروف أن الكويتيين رفعوا وطبقوا شعار الكويت بلاد العرب، وفتحوا أبواب بلدهم على مصراعيها أمام إخوانهم العرب والمسلمين، فأعطوا الجنسية الأولى والثانية لأضعاف عددهم، واستضافوا كذلك أضعاف عددهم من العرب والمسلمين حتى أصبح الكويتيون أقلية في وطنهم لا تزيد عن الربع، هذا الإنجاز الكبير الطيب لا يجوز أن ينتهي برد فعل ضد الآخرين .
2- كلما اتجهنا للمساواة كلما تقبلنا الآخرون والعكس صحيح، فتميز الفرد أو الشعب أو الأمة عن الآخرين سيقابل لا محالة بنفور وردود فعل سيئة، وهذا واقع مشاهد، ونقول للفئة المتعصبة: إن الشعب الكويتي الأصلي هو عبارة عن شعب تكون خلال القرنين الماضيين من ثلاثة أصول رئيسية وهي: الجزيرة العربية، والعراق، وإيران، ومن ناحية عرقية فنحن كشعب فروع لتلك الأشجار وبالتالي لا معنى للتركيز الشديد على تصنيف الناس حسب أصولهم، فعنصريتكم لا أساس لها في المنطق ولو كان ولاء الكويتي يزيد كلما زادت السنون لقلنا: إن كل الكويتيين الأصليين قد عاشوا مئات وآلاف السنين في الدول التي قدموا منها، وبالتالي فحسب قانون الأقدمية سيكون ولاؤهم للأوطان الأخرى، وليس للكويت لأنهم عاشوا فيها أكثر مما عاشوا في الكويت. فالظن أن الولاء والوطنية والإخلاص مرتبطة بالأقدمية ظن خاطئ لأن أكثر من سرق الأموال الكويتية خلال الأربعين سنة هم من أصحاب الجنسية الأولى، ولكن العقيدة العنصرية تجعلنا نغفر للمجرمين لا بسبب إلا أنهم كويتيون في حين أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" وفي الوقت نفسه ننظر بغضب شديد إلى الوافد إذا سرق مئات الدنانير في حين العدل لا يضع أي وزن للانتماء العرقي، وقد تساهلنا بالجرائم والانحرافات والإهمال والتخلف العلمي.. الخ لأن الفاعلين كانوا كويتيين فأصبحنا نزداد كل يوم شقاءً وألماً، وكان المفروض شرعاً وعقلاً أن نترجم حرصنا على الكويت إلى تشجيع الكويتيين المجتهدين ومعاقبة الكويتيين المنحرفين وهذا هو الأسلوب المطبق في كل بلد يريد أن يتقدم .(40/152)
3- إعطاء وزن كبير للجنسية والانتماء العرقي جعلنا ننظر إلى كثير من الأمور من هذه الزاوية فمن عنده جنسية كويتية تفتح له كثير من الأبواب، ومن لا يملكها فكأنه لا حقوق له، كالخدم وعمال النظافة وغيرهم، فللجنسية دور في الراتب والترقية والعمل التجاري والتملك والعلاج وحتى إجازة قيادة السيارة، وعلينا ككويتيين ألا نضع مفاهيم خاصة عن العدل، بل يجب أن نسترشد بشريعتنا الإسلامية، فنحن مطالبون بالعدل حتى مع أعدائنا، فكيف فيما بيننا ككويتيين، أو بيننا وبين إخواننا الوافدين؟ فلنعمل على أن يكون العدل هو ثروتنا الأولى فإذا زاد رصيدنا منه فقد ربحنا، وهو- والله- أكثر أهمية وأضمن استثماراً خاصة وأن رصيدنا المالي نراه يستنزف بصور شتى، وهو من ناحية شرعية أرخص بكثير من قيمة العدل ووزنه، ونحن بحاجة اليوم إلى تغييرات كبيرة وجذرية في هذه المواضيع فتمسكنا بالإسلام هو الطريق إلى الدخول لقلوب الناس، وكسب التأييد لقضايانا، والأهم من ذلك هو طريقنا لكسب رضا الله سبحانه وتعالى، ولنتذكر أن استمرارنا في نهجنا الحالي سيقودنا للهاوية، فالأخطار التي تنهش في جسد الكويت كثيرة حالياً، ولكن الكثيرين- وللأسف لا يرون إلا بعض هذه الأخطار .
4- كان خالد بن الوليد القائد العسكري لجيش المشركين في غزوة أحد، ولأنه أسلم أصبح قائداً عسكرياً مسلماً دون أن تكون عنده خدمة طويلة، فالإسلام ضد إيجاد مبررات كقضية الأقدمية، أو الانتماء العرقي لمنع كفاءة قائد متميز، والمساواة الإسلامية هي التي جعلت كثيراً من الشعوب تدخل في الإسلام لأن الإنسان عندما يصبح مسلماً يكون له ما للمسلمين ذوي الأقدمية، وعليه ما عليهم، ولكن بعض المتدينين الكويتيين وغيرهم لا يهتمون اليوم بالقضايا الإسلامية الرئيسة المتعلقة بالمساواة والحرية والشورى والعدل، ويركزون تقريباً كل جهودهم على العبادات والعقيدة، أي كأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه فلا نجد للإسلاميين صوتاً تقريباً في قضايا حقوق الإنسان، أو في محاربة تجار الإقامات، وإذا أخذوا مواقف فأغلبها مواقف رخوة، بل إن بعضهم نجد عنده عنصرية أشد من عنصرية جنوب أفريقيا سابقاً في حين أن من بديهيات الإسلام أنه جعل الناس متساويين فأصبح القرشي الغني صاحب المنصب يتساوى في الحقوق والواجبات مع فقراء العرب والعجم .
5- من القوانين التي تعكس وجود تعصب عرقي هو رفض إعطاء الجنسية الكويتية لأبناء المرأة الكويتية المتزوجة من غير كويتي، وهذا أمر تفعله دول عربية أخرى، وعندما نحتكم إلى الشريعة الإسلامية سيظهر واضحاً أن هناك جهل بالشريعة، وتعصب رجالي، والسؤال الذي نريد أن نجيب عليه هو :
هل يستحق ابن الكويتية الجنسية الكويتية أم لا يستحقها؟ أمامنا طريقان للإجابة على هذا السؤال: طريق الحكمة والعدل والإسلام وطريق الجهل والعنصرية والأنانية، فإذا سلكنا الطريق الأول فسنصل بإذن الله إلى الجواب الصحيح فلنسلكه ولنر النتيجة ونقبل بها سواء كانت الإجابة بالإيجاب أو النفي ورأيي الشخصي أقوله هنا، بهدف إثراء الحوار وهو مع إعطاء ابن الكويتية الجنسية، وذلك للأسباب التالية :
أ- عن ابن عباس أن رسول ا صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب ونحن في البيت فقال: يا بني عبد المطلب هل فيكم أحد من غيركم؟ قالوا ابن أخت لنا، فقال ابن أخت القوم منهم: أخرجه الطبراني ج12 ص170 هذا الحديث يثبت أن ابن أخت القوم منهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن من البديهيات الإسلامية تشجيع إلغاء وتقليل الحواجز بين المسلمين سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو عرقية.. الخ فالإسلام مع تسهيل الحصول على الجنسية لا مع تعقيدها، فكل دولة مسلمة يجب أن تسعى قدر استطاعتها وإمكانياتها لقبول انتماء ونشاط المسلمين فيها ليس فقط في موضوع الجنسية بل أيضاً في قضايا التجارة والتملك والإقامة.. الخ .
ب- المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة قاعدة إسلامية، وكذلك هي قاعدة دستورية كويتية، وإذا كانت هناك استثناءات ضرورية وحتمية في بعض المجالات فإن ذلك لا يجب أن يكون في موضوع الجنسية، فلماذا نعتبر ابن الكويتي من المرأة الوافدة كويتياً في حين أننا لا نعتبر ابن الكويتية من الرجل الوافد كويتياً؟ بل إننا نعطي المرأة الوافدة الجنسية الكويتية بعد خمس سنوات من الزواج .
ج- يحدث هناك خلط بين قضيتين، ولا ندري هل هو خلط متعمد أو جهل؟ ألا وهو الربط بين قضية النسب وقضية الجنسية كأنها قضية واحدة فنسب ابن الكويتية يجب أن يتبع أباه غير الكويتي، وهذا من البديهيات الإسلامية أما قضية استحقاقه للجنسية فهذا أمر مختلف، أي : هل هو كويتي أم لا؟ لا علاقة لها بالنسب .(40/153)
د- كثيرا ما يثير حيرتي أننا كمجتمع لا نقلد الغرب إلا في سلبياته من تبرج وعادات اجتماعية سيئة, وحريات مزورة, وأفكار ضائعة في حين أننا لا نقلده في إيجابياته مثل الحرص على إتقان العلم, والعمل والعدل, فالغرب يعطي المرأة كثيراً من الحقوق لأبنائها فيعتبرهم مواطنين , بل إن أميركا تعتبر كل من يولد على أرضها يستحق الجنسية, فلماذا لا نقلدهم في بعض إيجابياتهم؟ والظاهر أن البعض لا يؤمن بالغرب حالياً كما يدعي ولا بالعرب سابقاً كما يقولون بل يؤمن بمصالحه الشخصية , ولا يعرف قلبه أي نوع من الإيمان بالمبادئ حتى لو تظاهر بالإيمان بالإسلام أو الغرب أو الشرق .
هـ - ابن الكويتية يعتبر جسداً وروحاً نصف كويتي لآن كل إنسان يتكون من نصفين نصف من أمه ونصف من أبيه, فإذا أضفنا إلى النصف الكويتي أقامه طويلة لا تقل عن عشرين سنة قبل أن يصبح رجلا , وأضفنا إلى ذلك صلات القربى الوثيقة مع عائلة أمه , وإتقانه اللهجة الكويتية أكثر من ابن الكويتي المتزوج من وافدة كل هذا يجعلنا نقول إن الأغلبية في تكوينه ستكون لنصفه الكويتي فالإقامة الطويلة وحدها تكفي للتجنيس في بعض البلاد, فكيف إذا أضفنا الأسباب الأخرى .
و- الرد على القول بأن زواج غير الكويتي هو زواج مصلحة هو : هل قبول غير الكويتية للزوج الكويتي خال من قضية المصلحة ؟ والأهم من ذلك هو أن وجود مصالح متبادلة في الزواج شيء طبيعي فالمرأة الكويتية لها مصالح أيضاً في هذا الزواج والمصالح المشروعة وغير المشروعة موجودة كذلك في زواج أبناء الشعب الواحدة بل وأحيانا في العائلة الواحدة وبناء على ذلك علينا أن نمنع كل أنواع الزواج, وذلك لوجود مصالح . ولاشك أن لنا كلنا عقول رجالاً ونساء ويستطيع الكثير منا أن يتخذوا قرارهم في القبول والرفض, وعادة ما يدخل في اتخاذ هذا القرار قضايا كثيرة منها الأخلاق والمستوى العلمي والعمر والوظيفة والجمال والجنسية وغير ذلك . واختلاف الجنسية يضعف تأثيره بل يتلاشى كلما زاد الإيمان في قلوبنا والعلم في عقولنا .
س - تجنيس أبناء الكويتيات لن يؤدي في اعتقادنا إلى تغييرات سياسية أو عرقية في المجتمع , ولن يؤدي إلى زيادة عدد الزواج المختلط عن معدلاته الطبيعية, والزواج هو من القضايا الكبيرة , فلن تتم المتاجرة به أو استغلاله .
6- إيجاد مبررات عرقية لتعصب الشعوب أو الأمم أو القبائل أو العائلات عملية ممكنة وسهلة ومدعومة بطريقة التفكير العلماني الضائع , فيكفي أن تقول إنني مواطن, وهذا غريب , أو أجنبي , أو تقول دافع آبائي وأجدادي عن هذه الأرض في حين أن هذا الغريب كان أجداده وآباؤه هم المعتدون أو تقول: ماذا قدم لي الآخرون من معروف وخير حتى أعاملهم معاملة عادلة ؟ أو تقول لقد قدمت لهم أضعاف ما قدموا لي من معروف وبالإمكان تقديم مبررات أمنية أو عقائدية أو سياسية أو اقتصادية تبرر التعصب العرقي, وتضع حواجز كبيرة بين شعوبنا , أو بين بعض شعوبنا, ونقول : إن هذه المبررات مرفوضة والاحتكام في العلاقات بين الأفراد أو الشعوب يجب أن يكون مرجعها شريعة الإسلام , واجتهاد العلماء , وقيم الإسلام وأخلاقه, فقلوبنا كمسلمين تتسع بالحب لكل إنسان , وتريد الخير للجميع , وتعلم أن أكرم الناس أتقاهم, وتفرض علينا التعاون بين المسلمين كأفراد وكدول , وتجعلنا نركز على سلبياتنا وأخطائنا وذنوبنا لا على سلبيات الآخرين وذنوبهم , وتنبهنا إلى أن تفرق المسلمين وتنازعهم وتحاربهم يضعفهم . قال تعالى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)46 سورة الأنفال وبالتالي فمن واجبنا محاربة العنصرية بكافة أشكالها, والسعي لإلغاء الفوارق بين الأفراد وبين الشعوب , ولكن من الحكمة أيضاً أن نكون واقعيين ونعرف حقائق واقعنا من مصالح وآراء وتاريخ . . . . . الخ ومن الحكمة ان تنشغل شعوبنا بإصلاح أنفسها لا بمحاكمة الشعوب الأخرى وإصلاحها ومن الحكمة أن تسلط الأضواء الكثيرة على فوائد المساواة بين أبناء الشعب الواحد وبين أبناء الأمة , فكلما قللنا من الفوارق كلما تماسكت الجبهة الداخلية وأضفنا قوة هائلة إلى قوتنا الحالية , وزادت قوتنا الاقتصادية والسياسية , وحققنا قفزات في تطوير كفاءتنا العلمية والعملية.(40/154)
7- من حق الكويت والكويتيين علينا أن نذكر إيجابياتهم الكثيرة بعد أن سلطنا الأضواء على بعض سلبياتهم ؛ فقد قاموا بدور رئيس في حل الخلافات العربية, وساندوا بأموالهم كثيراً من الدول العربية والإسلامية والنامية في مشاريع تنموية متنوعة وساندوا دول المواجهة العربية مع إسرائيل ماليا وسياسيا, وكان للكويت ودول الخليج موقف كبير في حرب 73 حينما ضغطوا على العالم اقتصاديا بوقف إمدادات النفط وأنشأوا آلاف المدارس والمساجد والمستشفيات في دول كثيرة بجهود شعبية وحكومية وأنشأوا الصناديق المالية لتمويل المشاريع التنموية, ووجد الكثيرون في الكويت المأوى والعمل , فمن الشعب الفلسطيني وحده كان يوجد الكويت أكثر من أربعمائة ألف فرد في 1990, وهو عدد يقترب كثيراً من عدد الكويتيين, وقامت الكويت بدور كبير في استقطاب أهل الثقافة والفكر من العرب , وكان للكويت دور في المبادرة في إنجاح البنوك الإسلامية , وهذه الإيجابيات وغيرها جاءت من دولة صغيرة الحجم والسكان , وعملت ما لم تعمله دول كثيرة, ولكن البعض وللأسف نتيجة جهل أو حسد أو هوىً أو تعصب عرقي أو مصلحة أو غير ذلك لا يريد أن يرى إلا السلبيات فقط, ونحن مطالبون اليوم كمسلمين وكأمة عربية أن نبدأ صفحة جديدة تضمد الجراح , ونتعاون على البر والتقوى .
العلاقة بين العرب والفرس
من الواضح أن العلاقة بين العرب والفرس علاقة متوترة ولهذا التوتر أسبابه، وبقاء هذا الوضع ليس في صالح عقيدتنا الإسلامية، ولا في صالح شعوبنا، ونحن بإذن الله قادرون على بناء علاقة جيدة. فلماذا لا نفعل؟ والاختلاف والتفرق اللذان وصلت إليهما هذه العلاقة لهما أسباب، فكذلك الاتفاق والتعاون أسباب فلنأخذ بها. المهم أن نبدأ ونزرع حتى نحصد ما نريد. فالله سبحانه وتعالى يبارك في الأعمال الصالحة والنوايا الصافية والوصول إلى هذا الهدف الكبير بحاجة إلى علم ومخلصين وصبر ونعتقد أن من متطلبات النجاح في ذلك الأمور التالية :
1- الالتزام الصحيح بالقرآن الكريم وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم الصحيحة فهما الميزان للحق والباطل وللصواب والخطأ فلا يجوز الإيمان بأي عقائد أو اجتهادات أو اقتناعات لا أدلة صريحة وواضحة لها من القرآن والسنة فإذا أصبح منهجنا هو قال الله وقال رسوله في كل القضايا المختلف حولها فنحن بلا شك قريبون من الحق والصواب والنور، وهذا هو الإسلام الذي عرفه أبو بكر وعمر وعلي وفاطمة والحسين رضوان الله عليهم، فلا يوجد إسلام غيره وهم من أفضل البشر علماً وإيماناً وبالتالي فلا يقبل من علم العلماء واجتهاداتهم إلا ما يدخل ضمن هذا الإسلام، وإلا فهو مرفوض. وبهذه الطريقة نلغي ميراثا ثقيلاً من الاجتهادات الخاطئة الشاذة، ونلغي كذلك اقتناعات بنيت على أحداث تاريخية حدث في نقل بعضها كثير من التزوير والكذب والجهل، وهي أحداث لا نحتاجها، ففي القرآن الكريم وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ما يكفينا وما نحتاجه لأنها المنابع الصافية التي لم يحدث فيها تلوث فكري أو سياسي أو عرقي (تعصب قومي) والالتزام بالإسلام لا يكون بالإيمان ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتجاهل آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة، فالفهم الصحيح من أساسياته رؤية الصورة الشاملة لا الجزئية، وهذا باب كبير من أبواب التفرق والاختلاف والضياع .
2- يمكن تقسيم الاختلافات الفكرية بين الشيعة والسنة إلى ثلاثة أقسام: اختلافات جذرية واختلافات اجتهادية واختلافات وهمية فالاختلافات الجذرية يتم حلها بدراستها والبحث عن أدلتها الشرعية من آيات القرآن وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ، أما بالنسبة للاختلافات الاجتهادية فيجب القبول بها لأنها اختلافات طبيعية وصحية، وهي قضايا يوجد فيها اختلافات بين السنة أنفسهم وبين الشيعة أنفسهم، فهي اختلافات اجتهادية تتسع لها الساحة الإسلامية، وهي أمور اختلف حولها حتى في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم ، وعهد الخلفاء الراشدين، وأما الاختلافات الوهمية فهي التي مصدرها "وكالة يقولون" والإشاعات والاجتهادات الشاذة التي قال بها عالم أو علماء أو جهلاء ولا تمثل اجتهاد الأغلبية في السنة والشيعة بل لها معارضوها، وهم الأغلبية الساحقة قال الأستاذ صلاح الدين الأيوبي: "ومن ذلك نرى أن النزعات الوطنية الفارسية كانت نزعات أفراد أو طوائف محدودة أما السواد الأعظم من الموالي فقد رضوا الأحوال الجديدة واطمأنوا إليها فخدموا الإسلام واللغة العربية أعظم الخدمات، بل إن الجيوش والحملات العربية التي كانت تجردها الدولة (العباسية) لحرب الزنادقة كان أغلبها من الفرس ويقودها قواد من الفرس أنفسهم"(106) .(40/155)
3- يجب أن ندرك أن هناك عوامل إضافية تؤثر في العلاقة بين الفرس والعرب، أعني أن المسألة ليست فقط سُنة وشيعة وعرباً وفرساً، بل أيضاً هناك حكومات وقوى دولية ومصالح متعارضة، أي أن البيئة السياسية ملوثة وحساسة أمام موضوع التدخل في الشؤون الداخلية لأي طرف لدى الطرف الآخر وهذه الحساسية هي شعبية قبل أن تكون حكومية، ولعل في الحرب العراقية الإيرانية دليل واضح على النتائج المرة لهذا التدخل فلو انتصرت إيران واحتلت العراق أو العكس فهذا ليس انتصاراً، بل خطوة نحو مصائب أكبر فلنعمل بالعلن والسر على الابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية أو التآمر على الطرف الآخر ولنتعاون على البر والتقوى، فهناك الكثير مما نستطيع أن نعمله، وهذا الحل السلمي البسيط مهما كانت مرارته في بعض الأحيان فهي أقل بكثير من مرارة البديل الآخر فالعرب والفرس هم أدرى بقضاياهم وهم مسؤولون عن إصلاح بلادهم فلا حاجة لأن يحاول أي طرف أن يكون جزءاً من معادلة الإصلاح عند الطرف الآخر فمصائب التدخل كبيرة، وفوائده قليلة والعكس صحيح .
4- لن ننجح في بناء علاقة طيبة إذا لم تتوفر النوايا الصادقة التي تريد الخير للمسلمين وتتعامل بمستوى رفيع من الأخلاق الإسلامية، ونقولها صريحة وواضحة لابد من أن نرفض أن يكون للمتعصبين والمتطرفين دور في بناء الجسور، فنحن بحاجة إلى نوعية عاقلة وحكيمة وذات خلق حسن لتتحمل هذه المسؤولية الكبيرة فالنقاش العلمي والموضوعي الهادئ والمستمر للمواضيع المختلف حولها سيأتي بنتائج طيبة بإذن الله وهذا موضوع يتطلب أن يقوده العلماء المخلصون الواعون، وأن تسانده الشعوب، وهو عمل يتطلب جهوداً كثيرة واستمرارية وسنوات طويلة نقول ذلك لأننا ندرك أن الصعوبات كثيرة لأنه مشروع كبير بين أمتين عريقتين مسلمتين .
وأد العروس(40/156)
قال الأستاذ الطيب الصالح عن الإنجليز : (لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض, وإذا جاءت ابنة أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الإفريقي, فيحس حتما بأن العالم ينهار تحت رجليه )(107) إذا كان المسلم لا يستغرب من وجود هذا التعصب العرقي عند الإنجليز لوجود الضياع العقائدي ولضعف الإيمان فهو يستغرب عندما يرى واقعنا, ويرى أن للتعصب العرقي تأثير سلبي في قضايا الزواج والعلاقات الاجتماعية فهو يزيد من مآسينا الاجتماعية مع أنها بدونه كثيرة ويزرع الأشواك في طريق الشباب وأهل التعصب العرقي سواء كان عائليا أو قبليا أو شعبيا لا يؤمنون بالقاعدة الإسلامية التي تقول إن الله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف وإن أكرمنا عند الله أتقانا لأنهم يظنون أن أكرمنا هو من ينتمي لتلك العائلة أو هذه القبيلة أو ذاك الشعب, فهؤلاء فقط من يتم قبولهم في علاقات الزواج , أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(108) فهو قول يرفضونه ويعصونه, وقد يصل الأمر إلى الكفر إذا اعتقدوا أن أمر الرسو صلى الله عليه وسلم ليس صوابا, ورفض بعض البديهيات الإسلامية يجعلنا نتساءل هل هؤلاء مسلمون ؟ ويعلم كل عاقل أن في كل قبيلة وشعب طيبون وأشرار ومسلمون وزنادقة, وأهل طاعة وأهل معصية, ومخلصون ومنافقون . . . الخ ولكن الغرور والجهل وضعف الإيمان أو غيابه جعل البعض يظنون أنهم أفضل من غيرهم من بني آدم ومن ظلم هؤلاء أنهم يرفضون تزويج نسائهم للآخرين بحجة أن هذا يقلل من عراقتهم ومكانتهم في حين ان رجالهم يتزوجون ما يشاءون من النساء ومن مختلف الشعوب والأجناس والألوان ولا يعتبرون فعلهم هذا يطعن في عراقتهم ومكانتهم مع أن أبناء بناتهم لن ينسبوا إلى عائلاتهم وقبائلهم وشعوبهم (المميزة) في حين أن أبناء رجالهم سيحملون نسبهم, فإذا كان هناك تلويث للنسب إذا اختلطوا بغيرهم فإن رجالهم هم الذين يفعلونه, وبلغ من ضلال هؤلاء وظلمهم أنهم يفضلون أن تصبح بناتهم عوانس على تزويجهم للآخرين,فيحرمونهن من الزوج والأطفال والجنس والاستقرار النفسي والمسكن الخاص في حين أن بنات الأعراق (الملوثة) ينعمن بهذه النعم عندما يتزوجونها, وكيف يرضى إنسان عاقل بأن يقسو على ابنته أو أخته ويرحم بنات الآخرين وعادة ما يكون التغرب في الزواج أفضل فهو أفضل جسميا وفكرياً وسياسيا فهو يربط أبناء الوطن وأبناء الأمة وقضية اختيار الزوج/ الزوجة قضية أساسية في حياة الفرد وبالتالي فلاشك في أن الوقوف ضد سعادة الفرد لأسباب عرقية أو طبقية أو غير ذلك سيكون سببا في تعاسة كثير من الفتيان والفتيات وسيكون التمرد على الأهل وعصيانهم أمراً متوقعاً خاصة وأن هذه القيود والموانع والأشواك العرقية تطبق غالبا على النساء ويستثنى منها الرجال كما أننا نعيش في عصر زادت به مساحات الحرية والاتصال واللقاءات والهروب والتمرد, والأب الحكيم هو الذي يتحمل مسؤوليته الشرعية في ترشيد الاختيار الأفضل لابنته أو ابنه ونعلم أن هناك تأثيراً قوياً وكبير للعادات والتقاليد الاجتماعية وأنها تجعل كثيراً من الآباء والأمهات يترددون في اتباع الحكم الشرعي, ولكن رضا الله سبحانه وتعالى أولى من الانقياد لتقاليد منحرفة وتافهة, ووجود الأيمان في قلب المسلم يجعله يهدم الأصنام الاجتماعية ولنتذكر أن الإصلاح الاجتماعي هو أحد أعمدة الإصلاح الشامل وبالتالي فإصلاح الانحرافات الاجتماعية واجب شرعي ووطني ومع اقتناعنا بأن الباطل ضعيف إلا أننا مقتنعون بأنه لا ينهزم إلا إذا تحرك أهل الحق ومن أهم الأخطاء التي ترتكب في عمليات الإصلاح هو السكوت عن الانحرافات والظن أن إصلاحها يحتاج سنين كثيرة ومع إيماننا بالتدرج في الإصلاح إلا أن هذا الإيمان لا يعني السكوت لأن السكوت هو الذي يمد في عمرها عقوداً كثيرة, فمهاجمة الانحرافات وبيان تعارضها مع الشرع وبيان سلبياتها هو جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفعل ذلك سيجعل أصحاب الانحرافات في موقع المدافع في حين أن كثيراً منهم الآن هو في موقع المسيطر والمهاجم, وأهل الباطل عموما ليسوا على استعداد للتضحية في سبيل أفكارهم واقتناعاتهم, فصبرهم ضعيف وحجتهم واهية في حين أن أهل الحق على استعداد للتضحية بالوقت والمال في سبيل ما يؤمنون لأنهم يؤمنون بأن هذا واجبهم الشرعي, وبأن لهم أجر عظيم يتناسب طرديا مع تضحياتهم .
كيف نقضي على التعصب العرقي ؟
إذا كان التعصب العرقي ضعف كشعارات ومبادئ وأقوال علنية فهو موجود كفكر ومفاهيم في دوائر عرقية كثيرة, وله تطبيقاته الكثيرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وهو أحد معوقات التنمية على المستوى المحلي والعربي والعالمي, ومن واجب كل مخلص أن يساهم في إضعاف التعصب العرقي, ومما أقترحه في هذا المجال ما يلي :(40/157)
1) من أشد الوسائل الفعالة في محاربة التعصب العرقي هو الثورة عليه ممن ينتمي إلى نفس العرق, والثورة المطلوبة من هؤلاء يجب أن تكون علنية وبصوت مرتفع وسيجد هؤلاء مؤيدين كثيرين لهم من مختلف الأعراق وهذا العمل يوجه ضربة كبيرة لأصحاب التعصب العرقي لأنهم لا يستطيعون اتهام من يتمرد عليهم من عرقهم بأنه معادي لمصالحهم السياسية أو الاجتماعية .
2) نشر الوعي بسلبيات التعصب العرقي وأخطاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية وذلك من خلال الصحافة والتعليم والمؤتمرات والنقابات والجمعيات ببيان تعارض المفاهيم العنصرية مع المبادئ الإسلامية وميثاق حقوق الإنسان وأي وثائق دستورية وقانونية وطنية أو قومية أو عالمية تدعو للمساواة بين البشر, ولنتذكر دائما أن التعصب يؤدي إلى التفرق والتفرق ضعف وفقر وتعاسة .
(3) الاهتمام الكبير ببيان فوائد المساواة بين أبناء الوطن وبين أبناء الأمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتسليط الأضواء على التجارب الناجحة في التعاون بين الأعراق المختلفة من قبائل وشعوب وأمم فإيجابيات التعاون القومي مثلاً أكبر بكثير من إيجابيات العزلة والتقوقع الوطني. وكثير من أوطاننا تختنق فكرياً وسياسياً وإداريا وعلميا واقتصاديا من خلال اقتناعها ببعض المفاهيم العنصرية .
(4) للأسرة دور كبير جداً في القضاء على التعصب العرقي فالأم الصالحة تربي أبناءها على حب الناس بمختلف أعراقهم وألوانهم, وتحرص على استنكار الألفاظ العرقية ذات المعاني السيئة ويبني الأب الصالح علاقاته وعلاقات أبنائه مع مختلف الأعراق, ومما يشجع على هذا الدور التربوي الاقتناع بأن التعصب العرقي يضر الأبناء إذا كبروا لأنه يجعلهم منبوذين وغير قادرين على بناء علاقات طيبة أو غير ذلك .
(5) دعوة علماء الإسلام والحكومات والتجمعات الفكرية والسياسية والأفراد لأخذ المبادرة في تحطيم الأصنام العرقية بالأعمال قبل الأقوال, ومن خلال البرامج والمشاريع والقوانين . . . الخ .فهناك أصنام بعضها ظاهر ومعروف, وبعضها مخفي ومجهول وهذا يتطلب من المخلصين تطهير دوائرهم العرقية والمطالبة بإصلاحها قبل المطالبة بإصلاح الانحرافات في الدوائر العرقية الأخرى .
(6) بناء وتعزيز المؤسسات الحديثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من أحزاب وتجمعات ونقابات وأندية وجمعيات . . . الخ وهذا سيؤدي إلى أضعاف دور التجمعات العرقية لأنها تجمعات متخلفة فكريا وإداريا وسياسياً .
(7) إجراء الأبحاث والدراسات النظرية والميدانية في موضوع التعصب العرقي, وفائدة هذه الأبحاث كبيرة لأنها تعالج حالات واقعية تختلف من دولة إلى أخرى وهذه الدراسات ذات أهمية خاصة لأنها تجعلنا نناقش قضايانا بصورة علمية وعميقة, وتضع الحلول الصحيحة انطلاقا من مبادئنا الإسلامية, ومن خبرة أو طاننا والعالم في هذا المجال .
(8) من الوسائل الفعالة في مكافحة التعصب العرقي هو أن يتم التركيز على الدائرة العرقية الأكبر عند الحديث مع أصحاب التعصب العرقي. فعندما يتحدث هؤلاء عن مصلحة القبيلة تحدث عن مصلحة الوطن, وإذا تحدثوا عن مصلحة الوطن تحدث عن مصلحة الأمة, وعندما يتحدثون عن حقوقهم حدثهم عن واجباتهم, وعندما يتحدثون عن إيجابياتهم حدثهم عن سلبياتهم أو عن إيجابيات الآخرين .
الفصل الثاني : الانتخابات الفرعية القبلية
تسبق انتخابات مجلس الأمة الكويتي انتخابات فرعية غير رسمية تجريها أغلب القبائل في كثير من الدوائر الانتخابية في المناطق الخارجية , وهذه الانتخابات نوع من العمل السياسي العرقي, وسأحاول في هذا الفصل تسليط الأضواء على هذه الانتخابات كنموذج مفصل للتعصب العرقي حتى نصل إلى الموقف الشرعي والوطني منها وهذا النموذج يوجد غيره كثير في عائلاتنا وقبائلنا وشعوبنا وأمتنا, وإن شاء الله نجد من يسلط الأضواء على النماذج الأخرى من خلال مقالات أو كتب أو أفلام أو مسرحيات حتى يعرف الناس سلبياتها وخطرها. ويحتاج موضوع الانتخابات الفرعية للقبائل لمزيد من الشرح والتفصيل ولكن اختصاراً للكتاب واكتفاء بالأساسيات قمت بالاختصار واكتفيت ببعض ما تم نشره من مقالات والمتأمل في هذه المقالات سيقتنع- إن شاء الله - بأن للتعصب العرقي جذور متشعبة مما يثبت أننا بحاجة ماسة أن نرفع شعار((إصلاح الشعوب أولاً)) (109) لأن الله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). الآية: 11 من سورة الرعد .
بدعة اسمها: (( مصلحة القبيلة ))(40/158)
من الطبيعي أن يسعى الإنسان لمصلحة نفسه وقبيلته وشعبه, ولهذا نجده حريصاً على الدفاع عما يظن أنه يحقق هذه المصالح , ونحن بحاجة إلى أن نسلط الأضواء على كلمة يستخدمها الكثيرون ألا وهي (مصلحة القبيلة ) , وهل الانتخابات الفرعية تحقق مصالح قبائلنا أم لا ؟ نقول هذا لأن هناك متاجرة بالأسواق الانتخابية بانتماءاتنا الإسلامية والعرقية والوطنية في سبيل الوصول للمناصب والأموال, وإذ كان من الممكن ومن السهل في الغالب التعرف على المتاجرة بالشعارات الإسلامية من خلال التعرف على آراء المرشح وأخلاقه وتاريخه, ومقارنة ذلك بالمفاهيم الإسلامية فمن الصعوبة في الغالب التعرف على المتاجرين بالشعارات القبلية لأنه لا يوجد فهم واضح لمعاني ومفاهيم "مصلحة القبيلة" لأنها كلمة ضبابية, فهل مصلحة القبيلة أن تسعى للمساواة بين أبناء الدائرة الانتخابية أم أن مصلحتها أن تتكل وتتميز وتعمل انتخابات فرعية لاحتكار المناصب التشريعية ؟ وهل مصلحة القبيلة هي في زيادة عدد الأعضاء المنتمين لها في مجلس الأمة حتى لو كان بعضهم ليس بالمستوى المطلوب . أم أن مصلحتها هي في زيادة أعضاء مجلس الأمة ممن يقفون مع الإسلام والدستور ومصلحة الوطن حتى لو لم يكونوا ينتمون للقبيلة ؟
هذه الأسئلة وغيرها لها إجابات مختلفة ومتناقضة فالمؤيدون للانتخابات الفرعية قد يسمون الاحتكار نوعاً من التعاون ويطلقون على التعصب القبلي مسمى التنافس الديمقراطي, ويعتبرون الانتخابات الفرعية للقبائل شبيه بالانتخابات الفرعية للأحزاب, أما المعارضون لها فسيقولون لا يوجد في الديمقراطية انتخابات فرعية لقبائل, وما نشاهده هو تعصب عرقي وليس تنافساً . . . الخ ولا شك في أن الإنسان قد يحتار في تحديد معاني مصلحة القبيلة إذا نظر لها فقط من ناحية عقلية, ومن خلال المبررات المنطقية الجدلية ومع أن العقل قد يصل أحيانا إلى الحقيقة والصواب إلا أنه قد يصاب أحيانا بضلال العلمانية خاصة عندما يبتعد عن أنوار حقائق وحكمة وصواب القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة, ولهذا وجدنا العقل البشري يقدم تفسيرات مختلفة ومتناقضة لمعاني مصلحة الفرد والشعب والإنسانية , فعقول الشيوعيين قدمت نظرية وعقول الرأسماليين قدمت نظرية ثانية, وعقول العنصريين قدمت نظرية ثالثة, وهناك نظريات كثيرة بين هذه النظريات, فأي عقل بشري نتبع؟ وهل نستطيع أن نقول أنه ليس للرأسماليين أو الشيوعيين أو غيرهم عقول وهل الاستخدام السليم للعقل يمكن أن يؤدي إلى هذا التناقض؟ أم أن هذا التناقض هو دليل على أن المبررات المنطقية تكون أحيانا ملوثة بالمعلومات الخاطئة أو الغباء أو المصالح الأنانية أو التعصب الأعمى. وحتى نختصر الموضوع نقول إن المصلحة الحقيقية لفرد أو أسرة أو قبيلة أو شعب أو أمة والتي هدى الله المسلمين لها هي في تحقيق نجاحات في العلم والعمل الصالح والإخلاص فإذا زاد علمنا بالإسلام والإدارة والتكنولوجيا . . . الخ فنحن نحقق مصالحنا, وإذا زادت أعمالنا الصالحة من صلاة وصدقات وإنجازات صناعية وزراعية . . . الخ فإننا نحقق مصالحنا, وإذا كان هدفنا الأساسي من علمنا وعلمنا هو تحقيق رضى الله , وتطبيق المبادئ الإسلامية فإننا نسير في طريق مصالحنا . . فالذي يحقق مصالح قبائلنا هو أن نتنافس في زيادة نسبة الجامعيين من أبنائها , وفي حسن استغلال وقت شبابها, وفي تحقيق إنجازات طيبة في العمل الخيري والتكافل الاجتماعي وغير ذلك كثير, أما الانتخابات الفرعية فهي لا تزيد علمها ولا عملها ولا إخلاصها حتى لو كررناها مئة مرة, ولن يحقق مصالح قبائلنا الجلوس في الديوانيات, أو كثرة الولائم وتكرار القصص التاريخية والأشعار أو كثرة المناصب والأموال . ونقف عند المناصب والأموال لنقول : إن المنصب والمال هما وسيلة وليسا هدفاً, وإذا أصبحا هدفا فهناك انحراف في إخلاصنا ونوايانا فهما يحققا المصالح الحقيقية إذا استخدما في العلم النافع والأعمال الصالحة, ويصبحان كارثة وفتنة إذا استخدما في الظلم والتبذير والشهوات والتعصب العرقي . قال الله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ {55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ {56}) الآيتان 55, 56 من سورة المؤمنون فالهدف المعلن لاجتماعات القبائل هو تحقيق مصالحها وهذا يعني أن الرافضين للمشاركة في الانتخابات الفرعية من المنتمين للقبائل لا تهمهم مصالح قبائلهم, ولأننا كشعب نعرف كثيرا من هؤلاء ونعرف إخلاصهم لوطنهم وقبائلهم فأننا نعرف أن ذلك غير صحيح, ولذلك نحن بحاجة لأن نسلط الأضواء على مصطلح مصلحة القبيلة, وعلى الانتخابات الفرعية لعلنا نقنع من يريد أن يرى الحق حقا حتى يتبعه ويرى الباطل باطلا فيجتنبه وما نريد قوله نختصره في النقاط التالية :(40/159)
1- مصلحة قبائلنا الحقيقية هي أن تزيد أبناءها علما وعملا وتميزا وإخلاصا وأخلاقا وأن تغسل نفوسها من التعصب القبلي الجاهلي حتى نرى قولا واعتقادا وعملا أن الناس سواسية وكلهم أبناء آدم وحواء وهذا من البديهيات الإسلامية التي لم يؤمن بها البعض حتى الآن , ومصلحة القبائل في ان تصوت قبائلنا لأفضل المرشحين في الدائرة حتى لو كانوا لا ينتمون إليها , لكي نجد نوابا قادرين على تحمل المسؤولية وإصلاح وتطوير الكويت , وهذا هو واجبنا الشرعي, ولا يجوز أن ننحرف عنه, فمن يرد رضا الله سبحانه وتعالى ويخاف عقابه فليس حراً في صوته الانتخابي ليعطيه حسب مزاجه أو مصلحته أو لقبيلته فالحق واضح وضوح الشمس في منتصف النهار, ويعرفه كل مسلم واع, ولكن كم عدد هؤلاء ؟
2- ما منع البعض من رؤية الشمس في منتصف النهار هو الظن بأن مصلحة القبيلة هي أن يكون لها أكبر عدد ممكن من النواب في مجلس الأمة حتى لو لم يكن بعض هؤلاء يصلحون لتحمل المسؤولية , فاعتبار الكثرة قوة ومصلحة خطا شرعي وعقلي, وكمثال واقعي نقول إن العرب أكثر من الإسرائيليين ومع هذا لا يحققون مصالحهم وليسوا أقوى وإذا كان هدف القبائل من الانتخابات الفرعية هو تحقيق مصالحهم فهذا يعنى أن النائب القبلي سيهتم بالدرجة الأولى بمصلحة قبيلته لا بمصلحة أبناء الدائرة وأبناء القبائل الأخرى وهذا صحيح بالنسبة للنائب القبلي المتعصب لقبيلته, أو الباحث عن المنصب والمال, أما النائب القبلي المخلص لدينه ووطنه فلا يفعل ذلك , بل سيخدم الجميع , ومن مصلحة قبائلنا أن ينجح هؤلاء لا أن تتعصب كل قبيلة لمرشحيها؛ فلا ينجح إلا القليل, وتخسر القبائل نواب مناطقها لأنهم لا ينتمون إليها, بل لا ينتمون للدائرة . ولنتذكر أن الخاسر الأكبر من إلغاء الانتخابات الفرعية هو النائب المتعصب أو الباحث عن المنصب والمال .
3- من الخطأ أن تعتقد أية قبيلة أن لها مصلحة تختلف عن القبيلة الأخرى,فإذا اعتقدت بأن لك مصلحة غير مصلحة شقيقك وهي غير مصلحة أسرتك أو قبيلتك أو وطنك فأنت مخطئ, وإذا ظننت أن قوتك هي أن تكون أقوى من أخيك فأنت مخطئ , فالقوة هي أن تكونا معا قويين, وأقوى من أعداء وطنكما وكذلك بالنسبة للمصلحة فما يجعل الكويت أقوى ويحقق مصالحها, فيه مصلحة قبائلنا , وبالتالي فأية مصلحة تتعارض مع المصلحة (الأم) وهي مصلحة الوطن فلاشك أنها مصالح وهمية لا علاقة لها بالمصالح الحقيقية لقبائلنا , بل ابحثوا عنها وستجدون أنها مصالح شخصية غير مشروعة لمرشحين يريدون أن يصلوا إلى مجلس الأمة بالمتاجرة بأسماء قبائلنا .
4- مصلحة القبيلة هي شيء غامض؛ فلم يحددها برنامج قبلي مكتوب, ولا هي شيء سيتم تحديده بعد نجاح مرشحي القبيلة , فلا أحد يعرف ما هي المصالح القبلية التي تم تحقيقها منذ وجدت بدعة الانتخابات الفرعية ,فلا يوجد برنامج سياسي, ولا اقتصادي يتم تنفيذه ومعروف أن نواب القبائل لا يمثلون تكتلا محددا : فهذا معارض, وهذا مؤيد, والثالث متدين , والرابع ليس كذلك, وهكذا, وفشلت كل المحاولات الشاذة والنادرة التي حاولت أن تجعل نواب القبائل أو حتى نواب القبيلة الواحدة تكتلاً سياسياً, لأنهم, ببساطة, جزء لا يتجزأ من الجسد الكويتي في مواقفهم وآرائهم ومصالحهم ونقول ونكرر , الرابطة العرقية سواء كانت قبلية أو شعبية, أو قومية ليست فكرا ولا برنامجا ولا حزبا؛ ورفعها كشعار هو خدعة سياسية تخفي تحتها مصالح شخصية أو تعصبا أو جهلاً .
5- يظن البعض أن إلغاء الانتخابات الفرعية سيضعف القبائل وردنا هو أن هذا ليس بصحيح بل العكس هو الصحيح ؛ لأن القبائل ستحاول أن تقف وراء أفضل مرشحيها فالمنافسة ستكون أصعب, وتحتاج للمتميزين بكفاءتهم وإمكاناتهم, في حين أن النجاح في الانتخابات الفرعية أسهل بكثير وسيبقى من ينجح في الغالب في المناطق الخارجية من أبناء القبائل لأنهم يشكلون حوالي 70% كعدد, وسيبقى التعصب القبلي قويا حتى لو تم إلغاء الانتخابات الفرعية, إلا أن تأثيره في النجاح سيكون أقل مما هو عليه الآن ,ومما يدعو للابتسام أن البعض يجعل نفسه مدافعا عن القبائل كأنها جبهة واحدة متحدة مع أن دفاعه عن الانتخابات الفرعية هو دفاع عن وضع يجعل القبائل تقف ضد بعضها البعض ويجعل النواب يمثلون قبائلهم لا كل القبائل أو الشعب الكويتي, وهذا وضع طبيعي لأن النائب صعد بسلم قبيلته, ولأن من ينافسه هو من قبيلة أخرى فالوضع الحالي هو وضع مريض لأنه تنافس بين قبائل, في حين أن الوضع السليم إسلاميا وقانونيا وسياسيا أن يكون التنافس بين أفراد لا قبائل .(40/160)
6- ما يدعو للاستغراب والألم مواقف بعض النواب الإسلاميين, وبعض المرشحين المتدينين ممن يريدون المشاركة بالانتخابات الفرعية, وذلك لأنهم أخطأوا في فهم موقف الإسلام من التعصب العرقي الجاهلي , وكذلك في إدراك سلبيات الانتخابات الفرعية العقلية فالانتخابات الفرعية هي الصنم الذي يعبده أهل التعصب القبلي , فلم يدعها الإسلاميون كأنهم لا يعلمون أنها منتنة, وهي انتخابات تقوم على أساس انصر أخاك ظالما أو مظلوما, بالمفهوم الجاهلي , وهي تجعل قبائلنا تدعم أسوأ المرشحين إذا نجح بالانتخابات الفرعية, وهي تلغي شرط القوي الأمين وقد تتحالف قبيلتان قبل أن تعرفا كفاءة وأمانة مرشحيهما اللذين سينجحان في الانتخابات الفرعية , وهذا التحالف قد يكون ضد مرشحين أفضل كفاءة وأمانة ولو رشح في الدوائر الخارجية أفضل عشرة مسلمين في الكرة الأرضية إسلاما وسياسة وحكمة لما نجح منهم أحد .. فكيف نقول بعد كل هذا إنها شرعية وهي ضد بديهيات يعرفها كل مسلم واع ؟ وإلغاؤها جزء من تطبيق الشريعة الإسلامية ولكن كأن أهل التعصب لم يسمعوا بفتوى الشيخ الدكتور عجيل النشمي وقد يكون هناك علماء سكتوا عنها, ولكنهم لم يصدروا فتاوى يؤيدونها, وأنا متأكد من أن هؤلاء لم يبذلوا الجهد في دراستها, وفي معرفة سلبياتها على أرض الواقع أما سلبياتها العقلية والواقعية فهي كثيرة , لعل أهمها أن القبائل تختار مرشحيها دون تمحيص ودون نقاشات طويلة وعميقة, ودون تقصي الحقائق عن المرشحين , وهي السلم الرئيس الذي يصعد به المتعصبون عرقيا وأصحاب المصالح من أبناء القبائل وفيها طعونات متبادلة,وإلغاؤها سيجعل النائب يخدم كل أبناء الدائرة, وليس فقط أبناء قبيلته, وسيجعل مرشحي القبائل يحرصون على تطوير معلوماتهم ومهاراتهم, واتخاذ المواقف الشعبية ولهذه السلبيات العقلية وغيرها يجب أن نرفضها. قال ابن القيم : ( فإن الله أرسل رسله, وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط , وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض,وإذا ظهرت إمارات الحق, وقامت أدلة العقل, وأسفر صبحه بأي طريقة, فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره ) وإذا كان بعض النواب الإسلاميين يقولون إننا مضطرون لدخول الانتخابات الفرعية ولا نستطيع أن نقول لا للتعصب القبلي فإنني أقول بإمكانكم أن تقولوا بسهولة جدا , كلمة نعم لقانون منع الانتخابات الفرعية في مجلس الأمة. وإذا كان من المتوقع أن يؤيد أغلب نواب مجلس الأمة منع الانتخابات الفرعية إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نخشى أن تكون هذه القضية مجالا لسوء الفهم, أو للمزايدات الفكرية والسياسية والعرقية والجغرافية سواء داخل المجلس أو خارجة وندعوا نواب القبائل إلى أن يكونوا أول المطالبين بمنع الانتخابات الفرعية حتى لو كان بعضهم ممن شاركوا بها في السابق, ليس فقط لأن هذا هو الموقف الصحيح بل أيضا لأن هذا الموقف عبارة عن نموذج يحتذى في الإصلاح من الداخل, وهذا النوع من الإصلاح نوع نادر في المجتمع الكويتي والمجتمعات العربية, فالكل يطالب بإصلاح الآخرين, ولا أحد يريد أن يبدأ بإصلاح نفسه!!!
ورفض إلغاء الانتخابات الفرعية هو في حقيقته رفض شعبي للإصلاح سواء جاء هذا الرفض من النواب, أو من القبائل, ولنعلم أن إصلاح الواقع يبدأ بإصلاح الشعوب لا الحكومات لأن أغلب أوراق الإصلاح هي بيد الشعوب فالقول المأثور (كما تكونوا يولى عليكم) هو حكمة صحيحة ليس هنا مجال إثباتها ولكن يكفي أن نقول: عارضوا مصالح أو اقتناعات أو عقائد لتجمعات شعبية فكرية أو سياسية أو عرقية أو حتى لأفراد عاديين, فستروا رفضا واضحا لبعض مبادئ الإسلام أو لمواد الدستور والقانون, وهذا الرفض يأتي نتيجة جهل أو تعصب أو مصلحة أو غير ذلك وحقيقة واقعنا ليست بعيدة عما قاله أحد العرب في هذا القرن حيث قال: إذا تكلمنا فكلنا أصحاب مبادئ وإذا عملنا فكلنا أصحاب مصالح !!!(40/161)
7- هل تعلمون أن العسكريين يصوتون في بعض الانتخابات الفرعية ؟ وهل تعلمون أن من شطبت أسماؤهم نتيجة بعض الطعون يشاركون في بعض الانتخابات الفرعية, وهذا يجعل قبائلنا دويلات داخل دولة الكويت ؟ وهل تعلمون أن الذنب الذي لا يغتفر هو أن تفضح ابن قبيلتك إذا رايته يسرق : أما إذا فضحت ابن قبيلة أخرى , فهذا عدل وإنصاف؟!! إن المناطق الخارجية تعيش في بيئة فيها الكثير من التخلف والجاهلية . . أما من يظن أن الانتخابات الفرعية للقبائل مثل الانتخابات الفرعية للأحزاب, فلا نجد ما نقول له غير ابحث عن الحقائق أولا ثم تكلم أما علنية الانتخابات الفرعية فليست دليل شرعية, فالخمارات علنية في كثير من الدول !! أما من يقول إن التعصب العرقي موجود عند الحضر فنقول : هذا صحيح ولكنه أقل حجما وتأثيراً في الواقع السياسي فالتركيز يتم على التعصب الذي تؤيده الانتخابات الفرعية, لأن خطره أكبر, ولا يجوز شرعا أن ندافع عن هذا التعصب لأن هناك تعصبا مقابلا, بل الواجب أن نرفض كل انحراف وخطأ, وإذا كانت للقبائل حقوق ضائعة فالحل هو الوصول إليها بأساليب شرعية, لا بالانتخابات الفرعية والغريب أن البعض ممن يؤيدون الانتخابات الفرعية يقولون نعم هي انحراف وتعصب قبلي, ولكن هناك تعصب عرقي عند الحضر والقبائل الصغيرة, وهناك انحرافات عقائدية وسياسية ومالية أخرى في المجتمع وهناك تعصب عند الجماعات والأحزاب والطبقات والأفراد . . . الخ ونقول لهؤلاء : إن واجبنا الشرعي والعقلي والوطني أن نلتزم بالعدل والصواب قدر ما نستطيع , وأن نبدأ بأنفسنا , فإن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا أولا ما بأنفسهم من الانحرافات , وإذا فعلنا ذلك فسنكون أقوى في معركة الإصلاح وسنشجع الآخرين على إصلاح انحرافاتهم , أما استمرارنا في انحرافاتنا فهو يشجع على بقائها وزيادتها وتدمير ديننا ووطننا ونفوسنا ومن الخطأ النظر إلى هذا الموضوع من خلال الآراء الشخصية فالمسلم لا يتصرف إلا بناء على قواعد شرعية والتي منها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما أن يجعل رضى شعبه وقبيلته هو قراره حتى لو انحرفوا, أو يهرب من معركة الإصلاح ويتركها للزمن, فهذا مرفوض شرعا. وتبقي نقطة أخيرة, وهي أننا عندما نعارض الانتخابات الفرعية , فنحن لا ننطلق من مصالح شخصية , أو غباء سياسي , ولم يدفعنا كائن من كان لهذه المعارضة, فنحن نريد الخير والمصالح الحقيقية لقبائلنا ووطننا, ونريد منافسة انتخابية عادلة, أو أقرب ما تكون للعدل حتى لأنتهم بالمثالية, ونؤمن بأننا لو سكتنا وأيدنا الانتخابات الفرعية , فإننا نرتكب خيانة لإسلامنا, ووطننا, وقبائلنا لأننا عرفنا الحق وضيعناه !!
من سلبيات الانتخابات الفرعية
عندما ندعو إلى موقف رافض للانتخابات الفرعية فإن ما ندعو
إليه ليس نابعا من رأي شخصي, أو اجتهاد أو مصلحة أو انفعال أو ثأر , بل هي دعوة للالتزام بموقف إسلامي واضح من التعصب العرقي سواء كان قبليا أو عائليا, أو شعبيا, أو قوميا فأحد الأسباب الرئيسة لضعفنا, كأمة وكشعوب, هو التعصب العرقي, والذي نتمنى أن تسلط كثير من الأضواء على نتائجه السلبية الكبيرة وسنحاول في هذا المقال بيان بعض الانحرافات عن الإسلام والعقل والمصلحة الوطنية, الموجودة في الانتخابات الفرعية, والتي منها ما يلي :
(1) الانتخابات الفرعية للقبائل هي مقبرة للكفاءات, فهي عبارة عن احتكار القبائل الكبيرة في الدائرة الانتخابية للمناصب التشريعية ونادرا ما تستطيع الكفاءات من القبائل الصغيرة أو من الحضر كسر هذا الاحتكار الانتخابي, والانتخابات الفرعية هي أيضا عائق كبير إمام بعض الكفاءات من القبائل الكبيرة, إذ تتحول هذه القبائل إلى أقليات في دوائر أخرى فتواجه احتكارا من قبائل أخرى ذات كثافة عالية, وهذه الكفاءات من الصعب عليها في الغالب أن تنتقل من دوائها إلى دوائر أخرى لقبائلها كثافة فيها كما أن بعض الكفاءات المتميزة من القبائل الكبيرة لا تستطيع النجاح في الانتخابات الفرعية, لأنها تنتمي إلى فروع (فخوذ) صغيرة لأن التصويت في الانتخابات الفرعية يتأثر كثيرا بحجم الفخذ الذي ينتمي إليه المرشح واحيانا تتعرض حتى الكفاءات من الفخوذ الكبيرة إلى ضغوط اجتماعية تجبرها على الانسحاب لصالح أحد الأقارب ممن يفتقدون المؤهلات المطلوبة, فالانتخابات الفرعية هي مقبرة للكفاءات على قلتها فكيف تكون في مصلحة الكويت أو مصلحة القبائل ؟ ومن واجبنا أن نشكر الكفاءات القبلية التي رفضت في انتخابات مجلس الأمة لسنة 1992 المشاركة في الانتخابات الفرعية, ونقول لهم : إنكم بإذن الله طلائع التقدم والوعي وبكم نستطيع بناء كويت جديدة .(40/162)
(2) الانتخابات الفرعية عبارة عن إعلان صريح وواضح بأن الواسطة عملية صحيحة ومقبولة, فالناخب عليه أن ينتخب ابن قبيلته سواء كان الأفضل أو الأسوأ , ولا مكان لمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب فلا وزن للعلم, ولا الأمانة , ولا الأخلاق ولا الخبرة , فالمهم هو الانتماء العرقي وفي هذا انحراف كبير جدا عن مبادئنا الإسلامية ومصالحنا الوطنية لأن الواجب الشرعي يدعونا لأن نختار الأفضل في حين أن التصويت القبلي يرفض حكم الشرع قال ابن تيمية رحمه الله (يجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين أن يستعمل فيما تحت يده من كل موضع أصلح من يقدر عليه فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما, أو ولاء عتاقة , أو صداقة, أو موافقة في بلد, أو مذهب, أو طريقة, أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو لرشوة يأخذها منه من مال, أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب أو لضغن في قلبه على الأحق, أو عداوة بينهما, فقد خان الله ورسوله, والمؤمنين) وإذا كنا نرفض الواسطة في المناصب التنفيذية فواجبنا أن نرفضها كذلك في المناصب التشريعية (الانتخابات النيابية) ونعلم أن الواسطة موجودة ,ويمارسها البعض من خارج القبائل, فمبدأ من صادها عشّى عياله متأصل في كثير من النفوس, ولكن الانحراف لا يبرر الانحراف .
(3) تعطي الانتخابات الفرعية دعما كبيرا لمرشحين لا تتوفر فيهم شروط الحد الأدنى المطلوبة لنائب مجلس الأمة ومنعها يسحب البساط من كثير من المرشحين الذين تكمن قوتهم الرئيسة في انتمائهم القبلي وصحيح أن الانتماء القبلي يساهم أحيانا في نجاح مرشحين أقوياء, ولهم مزايا حقيقية إلا أن هؤلاء لن يخسروا بإلغاء الانتخابات الفرعية حيث إن مزاياهم من مبادئ ومواقف وأعمال ستبقى موجودة دون انتخابات فرعية وستساهم بإذن الله في نجاحهم .
(4) حولت الانتخابات الفرعية الساحة الانتخابية إلى تنافس بين قبائل أو بالأحرى إلى تنافس بين مرشحين يستغلون قبائلهم في تنافس لاناقة لقبائلهم فيه ولا جمل فاختيار المرشحين أو تقييم أداء النواب لا يتمان بصورة صحيحة, أو بالأحرى غير مسموح بهما فمن المرفوض أن انتقد أداء نائب من قبيلتي, لأن هذا يعتبر عملا ضد (( القبيلة)) أما إذا انتقدت أداء نائب من غير قبيلتي فستنظر إليه القبيلة الأخرى كأنه عمل عدائي ضدها فالتعصب القبلي أعطى النواب حصانة خاصة أقوى بكثير من الحصانة البرلمانية, فالكل يرفع الشعار الجاهلي ( لا صوت يعلو فوق صوت التنافس القبلي) فقد عميت البصائر, وضاعت الأهداف المرجوة من الانتخابات النيابية، وضاعت مصلحة الكويت فالتشويه الذي أحدثته الانتخابات الفرعية كبير جداً في المناطق الخارجية , فالقضية تحولت من اختيار أفضل المرشحين لتمثيل الشعب الكويتي إلى تنافس قبلي جذوره تمتد للعصور الجاهلية قبل الإسلام .
(5) من المزايا التي يذكرها البعض للانتخابات الفرعية تقليل عدد المرشحين في الدائرة الانتخابية حيث يدخل في الانتخابات الفرعية عشرة أو أكثر ويخرج منها اثنان أو واحد ونقول : إن تقليل عدد المرشحين ليس ميزة بحد ذاتها, كما أن إلغاء الانتخابات الفرعية سيؤدي إلى تقليل المرشحين لأن الحملة الانتخابية على مستوى الدائرة تحتاج مؤهلات غير موجودة في كثير ممن يشاركون في الانتخابات الفرعية كمرشحين .
(6) تفتقد المناطق الخارجية الحياة الانتخابية الصحيحة, فهناك ندرة في المحاضرات والزيارات الانتخابية؛ لأن موقف كثير من الناخبين تم تحديده مسبقا, فالكل سيعطي صوته لمن ينتمي إلى قبيلته حتى لو كان أسوأ المرشحين, ومن يفعل غير هذا يرتكب خيانة لوحدة القبيلة, أما خيانة المبادئ الإسلامية والوحدة الوطنية وصوت العقل والضمير فلا أحد يتكلم عنها !! فما الفائدة إذن من المحاضرات والجولات الانتخابية , إذا كان ليس هناك أهمية لمواصفات المرشح, واغلب المحاضرات في المناطق الخارجية هي نوع من المهرجانات الانتخابية لا المحاضرات العلمية .
(7) تفتقد المناطق الخارجية أو أغلبها فرص زيادة التعارف بين أبنائها, ونشر الوعي الديمقراطي, واللقاءات بين الجيران والأصدقاء والزملاء, وحتى فرص التعرف الدقيق على أفكار وقناعات المرشحين والناخبين,' وحتى المفاتيح الانتخابية عادة ما يكون دورها هامشيا وضعيفا, بعكس الصورة الموجودة في المناطق الداخلية, حيث إن فوائد الانتخابات كبيرة لكل أبناء الدائرة, وهي فرصة لإعادة علاقات قديمة, وبناء علاقات جديدة ولحوار فكري وسياسي كبير .
(8) من يصعد بواسطة السلم القبلي من المتوقع له أن يهتم بخدمة أبناء قبيلته بصورة أكثر من الآخرين, فالنائب في هذه الحالة كأنه ممثل عن أبناء قبيلته لا عن أبناء دائرته والشعب,ولو نظرنا في المعاملات والهموم للنائب لوجدنا كثيرا منها ذا علاقة بأبناء قبيلته.(40/163)
(9) جاء الإسلام حربا على الجاهلية, والتي من أهم أركانها التعصب القبلي, وليس هذا مجال نقاش الموقف الإسلامي من الانتخابات الفرعية, والتعصب القبلي, وما زلنا نطالب بدراسة الانتخابات الفرعية من ناحية شرعية وواقعية, ولو فعلنا ذلك سنجد أنها مرفوضة رفضا تاما فمن أكبر سلبيات الانتخابات الفرعية قبولنا لترك مبادئنا الإسلامية عندما تتعارض مع مصالحنا الوهمية في الانتخابات الفرعية فهل هناك أكبر من هذه الكارثة في حياة الإنسان المسلم ؟ ولو تأملنا في سيرة رسول ا صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه تمسك بالمبادئ الإسلامية, ولم يتنازل عن جزء قليل منها في سبيل كسب رضا قبيلته قريش, وبهذا التمسك انتصر وعز المسلمون , وتحقق التقدم والقوة والعدل والمحبة .
نريد أن نتحرك حتى نشاهد آمالنا تتجسد في واقعنا ؛ فالواقع لا يتغير نحو الأحسن إلا إذا غيرناه بأنفسنا, ولنتذكر أن الواقعية لا تعني أبداً اليأس والعزلة والسكوت عن الانحرافات والتخلف وتركها للزمن, فهذا هروب من تحمل المسؤولية , وهو لامبالاة وأنانية, والواجب الشرعي أن نجتهد في العلم والعمل قدر ما نستطيع , والشباب يستطيع عمل الكثير من المعجزات البشرية , فالعقول الواعية والقلوب النظيفة والأيدي النشيطة هي أقوى بكثير من أصنام الجهل , والتعصب والصعوبات ونقول للذين يريدون أن يتحركوا بعد أن يأتي الإصلاح على طبق من ذهب : هذا لن يحدث أبدا فلن نشاهد الإصلاح إذا لم نصنعه نحن, وإنكم كأحد المغتربين العرب الذي قال: لن نعود إلى الوطن العربي إلا إذا كانت هناك حرية وعدل.. الخ فقال له أحدهم: إذا وجد هذا فلا تعودوا لأننا لا نحتاجكم وفي الختام ليكن لنا في رسول ا صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة , فوالله لا خير في مناصب أو أموال أو شهرة مبنية على أسس من المعاصي والانحرافات والشبهات والجهل .
شبهات حول الانتخابات الفرعية
قيلت في موضوع الانتخابات الفرعية للقبائل آراء كثيرة ومتناقضة كما يحدث في كثير من القضايا التي نواجهها سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اجتماعية , مما يؤدي إلى ضياع كثير من الحقائق, وعدم الوصول إلى الصواب لأننا لا نناقشها بطريقة علمية صحيحة مع أن كثيرا من أطراف الحوار هم أصحاب شهادات علمية والاستمرار في استخدام الأسلوب نفسه سيعني استمرار كثير من أوضاعنا على تخلفها وضعفها, فمن المستحيل أن نتقدم ونحن هكذا . . وأتمني بعد أن هدأت النفوس والمصالح الوهمية أن نفتح ملف الانتخابات الفرعية ,وسأوضح رأيي من خلال النقاط التالية :
1- قال الدكتور عجيل النشمي : ((فالانتخابات الفرعية إن كانت تصفية حقيقية لأفضل المرشحين الأخيار المشهود لهم جميعا بالدين والخلق والقوة والكفاءة,فهذا الانتخاب الفرعي حسن لا بأس به, فلو أن كل منطقة أو قبيلة أو جماعة أخرجت أخيارا من المرشحين وعرض الأخيار من كل جهة ليتم اختيار أفضلهم هذا أحسن ؟ )) وقال أيضا: (( أما إذا كانت الانتخابات الفرعية يدخلها الصالح والطالح , ويكون مقياس الانتخاب والترشيح , العنصرية أيا كانت ولا يعطى الدين والخلق والكفاءة الأولوية, فإنها انتخابات جائرة غير عادلة , وتمكن أو قد يتمكن من الفوز من ليس أهلا للتوكل عن الناخبين, ويحجب ذو الكفاءة والأهلية, كما أنها تصادر حق عموم الناخبين والمرشحين في مزاولة حقهم دون ضغوط تجميعية أو عنصرية, وتجعل أصواتهم وشهاداتهم غير ذات معنى فتحرمهم من التعبير عن حق من حقوقهم . . فإن كانت الانتخابات الفرعية كذلك وجب منعها شرعا وقانونا )) .
ونقول : لو كانت الانتخابات الفرعية للقبائل هي من النوع الأول لأيدناها وقلنا إنها شرعية, ولكن لأننا نعلم أنها قائمة على العنصرية (العصبية) والمصالح الشخصية وسلبياتها كثيرة وذكرناها في مقالات سابقة ولا داعي لتكرارها. فإننا نرى أنها مرفوضة شرعا, ويجب منعها قانونا . فالعصبية مرفوضة شرعا, قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ليس منا من دعا إلى عصبية وقال دعوها فإنها منتنة والواقع يثبت أن ما نشاهده في واقعنا هو عصبية جاهلية لا تجمع قبلي خال من التعصب , فكثير من المرشحين والناخبين قالوا سنقف مع من تختاره القبيلة, وهذا يعني أن القبيلة ستؤيد الفائز في انتخاباتها, سواء كان أفضل المرشحين في الدائرة أو أسوأهم وهذا واقع معروف , ودليل واضح جدا على أنها عصبية جاهلية , وباختصار , ما نعرفه من حقائق يجعلنا خياليين جدا إذا توقعنا أن الانتخابات الفرعية الحالية ستلتزم بالضوابط الشرعية .(40/164)
2- القضية المطروحة للنقاش هي هل الانتخابات الفرعية للقبائل التي نشاهده في واقعنا شرعية أم غير شرعية ؟ وكنا نتمنى أن يقدم المؤيدون للانتخابات الفرعية أدلتهم من القرآن الكريم , والسنة النبوية الشريفة , ومن الواقع, حول شرعيتها وفوائدها, ولكن الأغلبية الساحقة لم تفعل ذلك بل أخذت تتحدث عن أوضاع المناطق الخارجية والانتخابات الفرعية للأحزاب والجماعات , واتهام المعارضين بأنهم "شباب متحمس" أو ((لا يعرفون حقيقة الانتخابات الفرعية للقبائل)) أو أنهم يتكلمون بناء على مصلحة لأنهم من الأقليات القبلية أو الحضر, أو من الفخوذ الصغيرة في القبائل الكبيرة , أو غير ذلك وهذا كله تعكير وتلويث لبيئة الحوار, وهذا أسلوب قد ينجح في عالم السياسة لأنه تهرب من مواجهة الحقيقة, لكنه لا يفيدنا في الوصول إلى الحقائق , ولا علاقة له بالأسلوب العلمي .
3- معارضة الانتخابات الفرعية للقبائل لا تعني أبدا أننا ضد قبائلنا.. فنحن مع الانتماء القبلي نريد الخير لقبائلنا, ونريد تحقيق مصالحنا الحقيقية, ونرى أنها جزء من مصلحة الوطن, وقد شكرت قبيلة الرشايدة في مقال منشور قبل عدة سنوات بعنوان (( جزاكم الله خيرا يا قبيلة الرشايدة )) وذلك عندما قامت بأخذ المبادرة بتحديد المهور, وإلغاء العانية فإذا تجمعت قبائلنا على أمر يفيد دينها ودنياها فنحن مع هذه التجمعات, وإذا كان الإسلام يطالبنا بأن ننكر المنكر, ويجعل من هذه الفريضة أحد أساسياته فمن الظلم أن نتهم بأننا ضد قبائلنا إذا رأينا أن معارضة الانتخابات الفرعية هي من النهي عن المنكر .
4- يتهمنا البعض بأننا خياليون ومثاليون عندما نطالب بإلغاء الانتخابات الفرعية فهم مقتنعون بأن التعصب العرقي القبلي وغير القبلي سيبقى موجودا كما كان موجودا من أيام الجاهلية قبل الإسلام ونقول نحن مقتنعون بذلك ولم نتوقع أن يؤدي إلغاء الانتخابات الفرعية إلى القضاء على التعصب العرقي لأن التعصب لا يتم القضاء عليه إلا بزيادة الإيمان وزيادة الوعي السياسي والعقائدي , ونحن نعلم أن الأغلبية الساحقة من كل قبيلة ستؤيد المنتمين لها حتى لو تم إلغاء الانتخابات الفرعية ولكن ما نتوقعه أن تأثير هذا التعصب في الأجواء الانتخابية وفي نتائج الانتخابات سيكون أقل بكثير مما هو عليه الآن لأن الانتخابات الفرعية هي تجميع لقوى هذا التعصب في مكان واحد خلف مرشح أو مرشحين .
فالإصلاح خطوات كثيرة , ومن المستحيل تطبيقه بين يوم وليلة . ولم نقل بأن إلغاء الانتخابات الفرعية سيغير كل النوايا, وسيصلح كل الأوضاع , ولكن إلغاءها هو بالتأكيد خطوة على الطريق الصحيح . . وهناك خطوات كثيرة علمية وسياسية واجتماعية علينا أن نخطوها .
5- يقول بعض المرشحين في الانتخابات الفرعية للقبائل : (( إننا لا نمثل قبائلنا فقط بل نمثل كل أبناء الدائرة )) وإن شاء الله أن يكون هذا صحيحا , ولكن, أليس من حقنا كمواطنين عاديين أن نقول إننا نرفض أن تجتمع القبيلة وتختار من تشاء, وتفرض من تختاره على أبناء الدائرة, ثم تقول : إنه أيضا ممثلكم إن أبناء الدائرة ليسوا قاصرين, وليسوا بحاجة إلى وصاية سياسية , ومن حقهم الشرعي والقانوني أن يختاروا أو يساهموا على الأقل باختيار من يمثلهم إننا نعلم أن الأغلبية الساحقة من أبناء الدائرة سواء من القبائل الكبيرة أو الصغيرة أو الحضر لا يعرفون الأغلبية الساحقة من المرشحين في الانتخابات الفرعية لغير قبائلهم, ولا يعرفون تركيب أسمائهم على صورهم , ناهيك عن أفكارهم وآرائهم , ومع هذا يقول المرشح القبلي الناجح في الانتخابات الفرعية أنا لا أمثل قبيلتي فقط بل أمثل كل أبناء الدائرة . . فالقبيلة ترفض أن يمثلها أحد دون انتخابات فرعية, أو تزكية ومع هذا تقول للآخرين اقبلوا أن يمثلكم من نختاره دون انتخابات, ودون تزكية منكم , وهذا من الكيل بمكيالين !
6- قالوا إن الانتخابات الفرعية تتم بمنتهى الديمقراطية فالصندوق هو الذي يحدد الفائز ولا يتم فرض أي مرشح على الناخبين, وتقام أحيانا محاضرات وندوات لبعض المرشحين, ونقول لو أجرى شاربو الخمر في دائرة انتخابية تصفيات ديمقراطية بهدف تجميع أصواتهم والصندوق هو الذي يحدد من الفائز, هل هذا دليل على أن عملهم مشروع وقانوني ؟ !! ما ذكرته هو مثل متطرف لتوضيح الصورة, فنحن نرفض تجمع شاربي الخمر, بناء على أدلة شرعية, ولم ننظر إلى الصندوق, ولم نعتبر عملهم نوعا من الشورى والديمقراطية . . وكذلك الأمر في الانتخابات الفرعية , فهي مرفوضة ما دامت قائمة على التعصب العرقي حتى لو كانت ديمقراطية مائة بالمائة فالنظر إلى الموضوع يجب أن يتم بدراسته من كل جوانبه .(40/165)
7- قالوا إن الانتخابات الفرعية تمنع تشتت أصوات القبيلة, ونقول لماذا نسعى لتوحيد القبيلة, ولا نسعى لتوحيد كل الكويتيين ؟! وهل توحيد القبيلة في صالح اختيار القوى الأمين ؟ ولماذا لا تقف أغلبية القبيلة وراء اختيار القوي الأمين دون انتخابات فرعية ؟ وهل تشتت الأصوات يضر بمصلحة الكويت, أم أن هذا وضع طبيعي يحدث حتى في الدوائر الداخلية, ويفرضه نظام الانتخابات الحالي ؟ وإذا كانت نسبة النواب المتميزين في المناطق الداخلية أعلى وأحد أسباب ذلك غياب الانتخابات الفرعية فيها , فلماذا نتمسك بها في المناطق الخارجية ؟!
وباختصار تشتت أصوات القبيلة ليس مصيبة بل المصيبة هي تعصب أبناء الدائرة لانتماءاتهم العرقية , حيث يصبح انتماؤنا للعرق الكويتي إما ضعيفا أو غير موجود .
8- لا شك أنه يفوز أحيانا في الانتخابات الفرعية أفضل المرشحين , وقد يكون لها إيجابيات أخرى مثل التقليل من المصاريف الانتخابية وتقليل فرص نجاح شراء الأصوات , ولكن عندما ننظر إلى غالبية من ينجح بها وإلى سلبياتها الكثيرة فمن السهل أن نقتنع بأن الواجب الشرعي والوطني يفرض علينا المطالبة بمنعها, ولا يوجد شيء كله شر إلا النار, ولا يوجد شيء كله خير إلا الجنة , فحتى الخمر فيها فوائد للبعض كالفلاحين والتجار وغيرهم , ولكن سلبياتها أكثر . قال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) 219 سورة البقرة ولأن سلبياتها أكبر من إيجابياتها فهي محرمة, وكذلك الأمر في الانتخابات الفرعية ويمكننا أن نلغيها ونحتفظ ببعض إيجابياتها, كأن يشترك مرشحو القبيلة في مقر انتخابي واحد للتقليل من المصاريف . . وهناك طرق كثيرة لمحاربة شراء الأصوات ,وتبقى شبهة كبيرة ما زالت بحاجة إلى تسليط الأضواء عليها, وهي شبهة تشابه الانتخابات الفرعية للقبائل بالانتخابات الفرعية للأحزاب , وهذه سنناقشها في المقال المقبل بإذن الله .
القبائل ليست أحزابا
قلت في مقال سابق إن الانتخابات الفرعية للقبائل تختلف عن الانتخابات الفرعية للأحزاب, وطالبت من ليس مقتنعا بذلك بأن يبحث عن الحقائق ثم يتكلم , ولكن كما هي العادة في واقعنا المحلي والعربي والإسلامي نستمر في الكلام والكتابة دون أن نبحث عن الحقائق واختلاف القبائل عن الأحزاب قضية أساسية يجب أن تكون واضحة لمن يعملون في المجال الفكري والسياسي, وإليكم الأدلة .
*1- تحويل الرابطة العرقية لقبيلة أو شعب أو أمة إلى تجمع سياسي أو فكري له مصالحه وفلسفته ونظامه, هو كارثة, لأنه تمزيق للأمة وللشعب, وهو طريق العنصرية والغرور والأنانية والمصالح الشخصية والاستبداد والتفرق والضعف , لأن التزام هذه التجمعات بالضوابط الإسلامية هو نوع من التفاؤل غير المدعوم بحقائق واقعية . . والحقائق خلال الثلاثين سنة الماضية في واقعنا المحلى والعربي تثبت ذلك والغريب أن الإسلاميين يرفضون التجمع القومي ولكنهم لا يرفضون التجمع القبلي مع أن كليهما رابطة عرقية وباختصار شديد, نحن عرب وكويتيون وقبليون ونبحث عن مصالح أمتنا وشعبنا وقبيلتنا لكن ذلك يجب أن يتم من خلال مبادئنا الإسلامية والتزامنا الواضح بشريعتنا ومن شريعتنا أن التعصب للرابطة العرقية هو جاهلية منتنة, ولا شك أن المتأمل في واقع العالم الإسلامي من شرقه إلى غربة , ومن شماله إلى جنوبه يعلم أن جزءا أساسيا من تخلفنا يرجع لوجود التعصب العرقي فالأفغان تمزقوا عرقيا, وكذلك الصوماليون , وأضر التعصب العرقي كثير من شعوبنا وأمتنا العربية .
وأهل التعصب العرقي لهم صفات لعل من أهمها تصنيف الناس بناء على انتماءاتهم العرقية, لا عقائدهم وأخلاقهم , وكذلك الكيل بمكيالين في قضايا العدل, فانحرافاتهم (( قليلة وصغيرة )) وانحرافات الآخرين (( كثيرة وكبيرة )) ويمارسون الغيبة العرقية , ويبالغون في الاعتزاز بتاريخهم , ويتناسون الصفحات السوداء منه , ويشعرون دائما أن من حقهم أن يكونوا متميزين , ويطالبون بأن تعطى المناصب لمن ينتمي إلى عرقهم , ويبالغون في كثرتهم وقوتهم . . ومهما نالوا من حقوق بل وامتيازات فإنهم مقتنعون بأنهم يستحقون أكثر , ويقرأون الأحداث في الغالب من خلال النظارة العرقية , وولاؤهم الأقوى لعائلة أو قبيلة أو منطقة أو شعب أو أمة , وإيمانهم ضعيف أو غير موجود ويرفضون أي نقد لانحرافاتهم خارج دوائرهم العرقية, ويؤمنون بأن مصالحهم تختلف عن مصالح الآخرين من أبناء وطنهم وأمتهم .. وتكاد تقتصر علاقاتهم الشخصية على دوائرهم العرقية ونشاطهم خارج هذه الدوائر ضعيف هذه هي فلسفتهم ومبادئهم , وهي تناقض كليا مبادئنا الإسلامية .(40/166)
*2- نستطيع بناء على هذا أن نقول : كلما ابتعدنا عن التجمع على أساس عرقي حققنا خطوات رئيسة في تطورنا الفكري والسياسي والتزمنا أكثر بمبادئنا الإسلامية التي تدعونا لتقسيم الناس بناء على عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم وإخلاصهم , لا على أساس انتماءاتهم العرقية وإيجاد أحزاب سياسية إسلامية هو عملية ضرورية لترشيد الاختلاف السياسي بين المسلمين , ودونه يصبح العمل السياسي للمسلمين فرديا وضعيفا وعاطفيا ومتفرقا, لان الحزب هو نوع من العمل الجماعي العقلاني المنظم ,وقد أدرك الغرب الفوائد الكبيرة للعمل الحزبي وعندما نأخذ من الغرب الصحيح من أفكاره ونظمه فهذا ليس تقليدا أعمى بل هو من الحكمة التي يبحث عنها المؤمنون, والأحزاب جزء أساسي من بناء الشورى , فمن الصعب مشاورة جميع المسلمين بصورة فردية , ولكن من السهل تجميعهم في أحزاب سياسية .
*3- فوائد العمل الحزبي في الغرب والدول الإسلامية التي طبقته بصورة صحيحة, كثيرة لعل أهمها استقرار الأوضاع السياسية . ووجود أساليب قانونية وسياسية لحسم الاختلافات , وإلغاء أو إضعاف النزعات الاستبدادية, وإبعاد العسكريين عن السلطة السياسية , واختيار الشعب للحكومة والحفاظ على حقوق الإنسان, ووجود حرية رأي حقيقية في الصحافة وغيرها , والابتعاد عن التطرف في العقائد والبرامج والأفكار , ويتم التنافس بناء على اختلاف البرامج الانتخابية المدعومة بدراسات وأرقام هذه الفوائد وغيرها تجعلنا نقتنع بأن العمل الحزبي هو أحد الأعمدة المطلوبة لتحقيق النجاح السياسي للدول, وتجعلنا نسأل ما هي إيجابيات العمل العرقي السياسي؟ ومن هي الدول التي أخذت به فنجحت ؟
*4- الاختلافات بين التجمع القبلي والتجمع الحزبي كثيرة , وإجراء انتخابات فرعية في كليهما لا يعني تشابههما لأن الاختلاف بينهما هو القاعدة, فالأحزاب مبنية على اختلاف الاجتهادات السياسية والعقول في حين أن التجمعات القبلية مبنية على الاختلافات العرقية, والأحزاب فعالة وقوية في الدولة الغربية المتقدمة سياسيا, والتجمعات العرقية السياسية ليست شرعية في هذه الدول أما التجمعات العرقية فهي فعالة وقوية في الدول المتخلفة لأنها أحد أسباب تخلفها والأحزاب لها برامج مكتوبة, وقيادات منتخبة, وأنشطة مستمرة, واجتماعات وميزانية وصحف, والقبائل ليست كذلك, وهدف الأحزاب المعلن مصلحة الوطن, وهدف القبائل المعلن مصلحة القبيلة, والناجح في الانتخابات الفرعية للأحزاب يمثل أفكار حزبه, والناجح في الانتخابات الفرعية للقبائل يمثل أفكاره الشخصية, والتنقل من حزب إلى أخر مسموح في حين أن هذا ممنوع عند القبائل, والانتماء إلى الأحزاب اختياري , والانتماء إلى القبائل إجباري, والأحزاب تموت وتنشأ أحزاب جديدة,والقبائل ليست كذلك, والتحالف بين حزبين هو في كل الدوائر وليست كذلك التحالفات القبلية, والعمل الحزبي يشجع الاعتدال والعمل القبلي يشجع التعصب, ونواب الحزب لهم المواقف نفسها في المجالس النيابية, ونواب القبيلة تتناقض مواقفهم, وقوة الحزب السياسية قد تكبر لدرجة كبيرة, وقوة القبيلة تبقى محدودة لوجود قبائل وأعراق أخرى, ونقد الأحزاب عملية طبيعية وصحية ونقد مرشحي ونواب القبائل عملية مرفوضة وكل مواطن له انتماء عرقي ولكن ليس لكل مواطن انتماء حزبي وتعمل الأحزاب في نشاطات مختلفة وبصفة دائمة في حين أن نشاط القبيلة يقتصر على الانتخابات بل يكاد يقتصر فقط على التصويت, أي : هو نشاط موسمي بسيط يخضع لبعض الأعراف القبلية الجاهلية, وهي أعراف لا تناسب حياة المدن وتطور الأنظمة السياسية فالذي يريد أن يعيش بعقلية قبلية في القرن العشرين هو كمن يريد أن يركب جملا ويسير عكس السير على الطريق السريع في مدينة عصرية فالتكتل بناء على الانتماء القبلي لا يصلح للحياة السياسية الحديثة فلا بد من الاندماج في المجتمع ومؤسساته الاجتماعية وقواه السياسية ولا نقصد بالاندماج هو الدخول في مؤسسات المجتمع بعقلية قبلية كما حصل في بعض النقابات والجمعيات فأضعفها .
هذه الاختلافات وغيرها تجعلنا نقول: (( إن التجمع القبلي يختلف كثيرا عن التجمع الحزبي, والمتأمل في هذه الاختلافات ونتائجها سوف يقتنع بأن التجمع الحزبي مفيد, ويجب أن نشجعه , وأن التجمع القبلي السياسي مضر وعلينا أن نرفضه )) .(40/167)
*5- قد يقول قائل : إن التجمعات الفكرية والسياسية في الكويت تجري انتخابات فرعية, ونقول: هذه أحزاب غير معلنة, أو غير مكتملة, فقد لا يكون لها برنامج انتخابي مكتوب ولكننا نعرف الخطوط العريضة لها من خلال مجلاتها وكتبها وأقوال قيادييها, وهذه التجمعات مفيدة إذا كانت ملتزمة بالإسلام وتحكمه في كل أمورها, ومن حقها أن تعمل انتخابات فرعية, وانتخاباتها مثل الانتخابات الفرعية للأحزاب الغربية, وتجميع صفوفها, وتقليل مرشحيها شيء منطقي, وصحيح وشرعي لأن مرشحيها يسعون لتنفيذ البرنامج نفسه واتخاذ المواقف نفسها, فلماذا يتنافسون فيما بينهم في الانتخابات الرئيسة؟! ولكن لاشك أن من واجبها أن تختار في انتخاباتها الفرعية أفضل المرشحين كما أن من واجبها الشرعي أن تساند وتدعم أفضل المرشحين في الدوائر الانتخابية حتى لو لم يكونوا ينتمون إليها . . فالتعصب الحزبي مرفوض ومقياس المفاضلة هو الأمانة والخبرة والعلم والذكاء والأخلاق ومن واجبها أن تسحب مرشحيها إذا كان وجودهم سيؤدي إلى خسارة أفضل المرشحين وإذا كانت بعض أو أغلب الأحزاب لا تفعل ذلك فهذا راجع لضعف إيمانها أو جهلها أو غبائها, ووجود هذه الانحرافات الحزبية لا يعني أن نرفض الأحزاب, بل واجبنا أن نضع الضوابط التي تصلحها وإذا كانت هناك تجارب فاشلة للنظام الحزبي في بعض الدول العربية فالخطأ ليس في النظام بل في تطبيقه ولماذا لا نرى النماذج الناجحة له في الغرب ؟ والنظام الحزبي الذي ندعو له لا يسمح بوجود أحزاب علمانية أو رأسمالية أو شيوعية أو عرقية , ولا يمنع من وجود أجهزة رقابية تمنع انحراف هذه الأحزاب وغياب الأحزاب أدى إلى فوضى تنظيمية, حيث أصبح أهل الفكر يمارسون السياسة, وأهل السياسة مفكرين ! وهذا أدى إلى دمار فكري وسياسي ودون وجود أحزاب إسلامية سيبقى الوضع السياسي للمسلمين متخلفاً وفوضوياً وعاطفياً وضعيفاً لا يؤثر في الأحداث, ويفتقر القدرة حتى على الشجب والاستنكار.
الاتجاه الإسلامي والانتخابات الفرعية(40/168)
من عرف الانتخابات الفرعية يعرف أنها مبنية على التعصب العرقي, وأنها ضد مبادئ الإسلام ومصلحة الوطن, وموقف أغلب الإسلاميين من الانتخابات الفرعية هو الحياد وبعضهم المشاركة والتأييد , وقلة هم الرافضون لها, وهذا غالبا ما يرجع إلى سببين : إما أنهم يجهلون بعض مبادئ الإسلام الرئيسة كموقفه من التعصب القبلي, أو أنهم يجهلون أسباب ونتائج الانتخابات الفرعية ولن أتطرق إلى بيان موقف الإسلام من التعصب العرقي سواء كان قبليا أم وطنيا أم قوميا, أو إلى واقع الانتخابات الفرعية وسلبياتها, فهذا حديث يحتاج إلى مقالات كثيرة ولكن سأتطرق إلى اقتناعات خاطئة عند بعض بل كثير من الإسلاميين في تعاملهم مع قضايا الإصلاح, لأن لديهم مبرارت يقدمونها لتخاذلهم وقبولهم للتعايش مع الانحرافات , سواء كانت عقائدية أم سياسية أم اجتماعية, فلا ينكرون المنكر, ولا يأمرون بالمعروف, وإن فعلوا ذلك فبصوت خافت, وعلى استحياء فموقفهم من الجنسية الثانية وإنصاف العمالة الوافدة, والمتاجرة بالإقامات, والانتخابات الفرعية أدلة واضحة تثبت ما نقول فهم في الغالب لا يأخذون المبادرة في التغيير , ولكن إذا جاء قطار التغيير وفرضته ظروف معينة أو غيرها فلا مانع من ركوبه أما صناعة هذا القطار وقيادته, فهي عملية متعبة ومرهقة وليسوا على استعداد لدفع ثمنها, ونحن لا نطالب هؤلاء بما لا يطيقون, ونعلم أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها, ولكننا نرفض أن يقبل الإسلاميون التعايش مع الانحراف بحجة أن هذه عادات قبلية صعبة إزالتها, أو أن هذا الموقف سيخسرنا أصواتا انتخابية أو له تكلفة مادية فلا يوجد إصلاح دون ثمن, ودون أعداء والواقعية والحكمة لا يعنيان البحث عن إصلاحات دون ثمن وتضحية, وإذا لم نكن- كإسلاميين- قادرين على اتخاذ مواقف قوية وصريحة من هذه الانحرافات فلن نقدر على إصلاح انحرافات أكبر وإصلاح الانحرافات التي في الدائرة الشعبية جزء أساسي من تطبيق الشريعة الإسلامية, بل هو الجزء الأكبر, فإذا قال المرشحون الإسلاميون لا للانتخابات الفرعية فإن أحد أصنام التعصب القبلي سيتحطم, فما الصعوبة في أن يقولوا: لا, وإذا كان لهذا الرفض ثمن فليكن ذلك وإذا وجدنا لأنفسنا العذر لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الموضوع فلنجد العذر إلى كل حكومة تقول إنها ليست قادرة على تطبيق الشريعة في أمر ما لأن عليها ضغوطا أولها مصالح ولو كان الإسلاميون مضطرين للمشاركة في الانتخابات الفرعية لعذرناهم, ولكنهم ليسوا مضطرين, فبإمكانهم أن يقولوا لا, فالاضطرار له شروط وظروف فيجوز شرعا أو حتى يجب أن نشارك في انتخابات نيابية حتى لو كانت في دولة علمانية, ولكن تحمل التلوث يختلف عن المشاركة في انتخابات فرعية ملوثة كلها . . فما الذي نريد إصلاحه فيها ؟ وإذا فتحنا هذا الباب على مصراعيه فكثير من الأشياء جائزة : فمن الجائز أن ننافق للظالمين ونتعامل بالربا, ونسكت عن كثير من الانحرافات في أسرنا وشعوبنا وأمتنا ونبرر ذلك بأننا مضطرون حتى لا يزعل هذا أو نخسر تلك المصلحة أو نفقد صديقا فالإصلاح له ثمن, فإذا لم يكن هناك ثمن يدفع فنحن بالتأكيد لا نسير في طريق الإصلاح ونحن نعلم أن الضرورات تبيح المحظورات , ولكن نفهم الضرورات على أنها إباحة لحم الخنزير خوفا من الموت جوعا, أما أن نعتبر الحرص على النجاح بالانتخابات بأية وسيلة, من الضرورات , فهذا أمر مرفوض , خاصة أن هناك إسلاميين نجحوا في مناطق خارجية دون انتخابات فرعية إن التساهل في هذه الأمور وغيرها جعل بعض الإسلاميين لا يختلفون عن أهل المصالح والمبادئ الأخرى لا في مواقفهم ولا في أعمالهم ولا أقوالهم وجعل البعض يتهمهم بالدجل لأنهم يرونهم ينحرفون عن بديهيات إسلامية , ونقول لهؤلاء الإسلاميين تمسكوا بمبادئكم, وعضوا عليها بالنواجذ , ولا تخدعكم عقولكم المجردة فنجاحكم هو في تمسككم بمبادئكم .
وباختصار القول إن الانتخابات الفرعية خطأ وانحراف وتعصب, ثم المشاركة فيها ومباركتها خطأ يجب أن نضع له حدا, فالغاية لا تبرر الوسيلة في الإسلام, والمسلم ليس مجبرا على المشاركة بالانتخابات الفرعية, فإمكانه أن يرفضها , وأضعف الإيمان أن لا يرشح نفسه, وفي الختام نعطي الجماعات الإسلامية وكل الإسلاميين أشهر الصيف لدراسة الانتخابات الفرعية , وموقف الإسلام منها, خاصة أن انتخابات مجلس الأمة المقبل أصبحت قريبة, ونتمنى الحصول على إجابات واضحة ومحددة مدعومة بأدلة شرعية وواقعية صحيحة فلا وقت لاجتهادات خاطئة, ولنتذكر أن الآراء والمواقف إذا جاءت دون دراسة وفقه وعلم فلا تعتبر اجتهادات بل جريمة في حق الإسلام والوطن .
كتب للمؤلف
1- الطريق إلى الوحدة الشعبية "دعوة لبناء الجسور بين الاتجاهين القومي والإسلامي" .
2- الطريق إلى السعادة .
3- إصلاح الشعوب أولاً .
4- لا للتعصب العرقي .
5- عجز العقل العلماني .
6- الكويت الجديدة .
7- العلمانية في ميزان العقل .
8- العلمانية تحارب الإسلام .
9- تطوير البحث العلمي الخليجي "تحت الأعداد" .
=============(40/169)
(40/170)
مشروع إصلاح ونهضة الأمة الإسلامية وتحرير البلاد والعباد
بقلم محمد بن جمعة السعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أهل الحل والعقد في الشريعة الإسلامية تعريفها : إن جماعة أهل الحل والعقد لا تعد حزبا بل هم يديرون أمور الأمة وفقا لما تقتضيه الشريعة الإسلامية التي تهيمن على الوجود السياسي تأسيسا وحركة ومقصدا وعلى قمتهم رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والعسكرية
شروط أهل الحل والعقد : الإسلام والعقل والذكورة والحرية والعدالة والعلم والرأي والحكمة والقوة والأمانة والأخلاق . وهم حكام وأمراء الأمة وعلماء المسلمين والفقهاء المجتهدون وأهل الاختصاص والخبراء والفنيون وقادة المجاهدين وقادة الجند والمستشارون والنصحاء وأهل الاختيار , يضاف إليهم الآن جميع حملة شهادة الدكتوراه من كافة الاختصاصات (ذكورا وإناثا ) أما حاكم المسلمين فمهمته إجمالا حراسة الدين وسياسة الدنيا فيه وحماية مصالح المسلمين وأرضهم .
الشروط الواجب توفرها في الحاكم :
1- أن يكون هو وزوجته وأصولهما مسلمين .
2- العدالة والأمانة على شروطها الجامعة والشدة والحزم والقوة في قول الحق .
3ـ العلم بأحكام الشريعة المؤدية إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام وأن يحمل الشهادة الجامعية كحد أدنى وأن يتمتع بالخبرة السياسية
3- والحربية والإدارية والقوة الجسمية والنفسية قدر الإمكان والمستطاع .
4- سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معه مباشرة ما يدرك بها بشكل لايؤثر في الرأي والعمل .
5ـ أن لا يقل عمره عن ثلاثين عاما ولا يزيد عن ستين عاما حين انتخابه أو اختياره أو ترشيحه .
6ـ سلامة الأعضاء من نقص وعطلة يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض .
7- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية الدين وأرض المسلمين وجهاد العدو مقداما جسورا غير ضعيف.
8- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح وحمايتها وان يكون جيد الفهم والتصور والذكاء .
9 ـ الكفاية والذكورة فلا تنعقد الإمامة لامرأة وان اتصفت بجميع صفات الكمال وخصال الاستقلال لورود النص القاطع المانع عن رسول الله (ما افلح قوم ولّوا عليهم امرأة ) وعدم جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة .
10ـ أن تكون مدة ولايته محددة بمدة زمنية أو فترة انتخابية معينة ، وأن يتم اختياره بشكل سري وخطي تحت إشراف القضاء من بين عدة مرشحين ، ويجوز أن يفتح باب الترشيح لكل من يجد بنفسه القدرة وتحمل مسؤولية المسلمين وتتم الانتخابات على عدة مراحل كما يفضل أن يتم اختياره بالتناوب بين الأقاليم فمرة من السعودية ومرة من أندونيسيا ومرة من إيران وهكذا من بقية بلاد المسلمين دون استثناء وهذا اجتهاد البعض سيأتي بعد قليل الرأي الفقهي
مفهوم الأحزاب في الفقه الإسلامي :
قال تعالى : (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )وقال عز وجل :(فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون) وقال جل وعلا (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) . وقال سبحانه ( بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ) . صدق الله العظيم .
إن الرؤية الإسلامية ترفض مفهوم الحزب سواء كان سياسياً أو دينيا وهو التعلق بالسعي للوصول إلى السلطة من خلال المنافسة والصراع السياسي فالنصوص صريحة في المنع ، فمن سأل الإمارة والسلطة وحرص عليها تسد عليه أبوابها قا صلى الله عليه وسلم ( إنا لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ، ولا أحداً حرص عليه ) هذا المنع من طلب الإمارة هو في حقيقته رفض للصراع من أجل السلطة . هذا الصراع يؤدي إلى نتائج لها خطرها على الأمة فالآليات الحزبية كما هي في واقع الممارسة ترفضها الرؤية الإسلامية وإن الحرص على الإمارة دليل اعتبارها امتيازاً وسلطة وسيطرة وتمتعاً ، وهي مفاهيم رفضها الإسلام لأنه يضع الإمارة موضع الواجب والعبء الثقيل والمسؤولية أمام الله ثم أمام الأمة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة بين اثنين يقف كل منهما من الآخر موقف المساواة لا يفصل أي منهما عن الآخر أي عقبات اجتماعية أو نظامية وإن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في توجهه للحاكم ومحاسبته على تجاوزه إذ أن واجب كل فرد في الأمة أن يقوم به مباشرة دون وسيط ، وإن رفض الحاكم لتنفيذ مقتضى هذا الواجب خروج عن الشرعية ونهى الإسلام عن أن يحتجب الحاكم عن رعيته أو يغلق بابه دون الرعية .(40/171)
نظام الحكم في الإسلام : جاء في الصفحة (44) من كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا عضو مجمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وأستاذ جامعي رحمه الله ما يلي ( إن الحكم في دولة الإسلام يجب أن يقوم على أساس الشورى وهذا مبدأ تضمنه القرآن الكريم وطبقه الرسول طوال حياته وأوصى أصحابه به ، فلا يجوز أن يكون الحكم استبدادياً لا انتخابات فيه أوملكياً وراثياً ، فالشريعة الإسلامية تتنافى مع مبدأ وراثة الحكم ، بل على الأمة أن تختار دائماً الأكثر كفاءة للسلطة العليا كل فترة وأخرى وعليه فإن النظام الملكي الو راثي والاستبدادي محرم وباطل وغير شرعي ، وقد بين الرسول لأصحابه أن فساد نظام الحكم في الدولة الإسلامية يكون عندما يتحول عن طريق الخلافة والشورى فيصبح ملكاً عضوضاً أي يعض على الأمة عضا ويفرض عليها فرضاً كما أوجبت الشريعة الإسلامية الشعور بالمسؤولية عن انحراف الحكام ولزوم مراقبتهم ، فقرر الرسول : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وقال (لا طاعة إلا في المعروف ). وقال خليفته : ( إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) وقرر الأئمة الأربعة بعدم جواز توريث الحكم أو الخلافة وبطلان ذلك شرعاً لمخالفته القرآن والسنة النبوية كالنظام الملكي الوراثي وإن مال الخزينة هو من الأمة وإليها ، مرصود لمصالحها فقط وليس للحاكم حق فيه أو في ثروات الأمة الباطنية إلا مرتبه فقط المقرر لمعيشته بصورة معتدلة دون بذخ أو ترف ) .
المعارضة في الفقه الإسلامي : جوهرها التصدي للانحراف عن النموذج الإسلامي الأمثل لنظام الحكم وقواعد الممارسة السياسية كما أرستها الشريعة الإسلامية فالمعارضة سلوك لا يرتبط بشكل معين للحياة السياسية ولا تحتاج إلى تنظيم حزبي لأنه يجب أن يقوم به الفرد دون اشتراط انتمائه أو عضويته في تنظيم معين ، ومن ناحية أخرى فإن المعارضة لا تقوم على حق مستمر من الإرادات الشعبية التي أوصلت شخصاً ما أو حزباً ما إلى الحكم ولكنها واجب تكليفي بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ثم لا يعنيها الوصول إلى السلطة بقدر ما يعنيها تصحيح الخطأ ووقف المنكر الذي قامت لتعارضه .
فالمعارضة في نظرية السياسة الغربية مختلفة عن مفهومها في الفقه السياسي الإسلامي من الوجوه الآتية :
الشريعة بأوامرها ونواهيها موجهة إلى الحاكم والمحكوم على السواء ، ومن ثم فإن ذلك التصور الغربي لمصطلح المعارضة الذي يقوم على انقسام الحياة السياسة من طرفين : أحدهما يقوم بدور الحكومة والآخر يقوم بدور المعارضة ، يواجهه التصور الإسلامي الذي يصير فيه الفرد حاكماً ومحكوماً في أن واحد حيث أن كل فرد راع وكل فرد مسؤول عن رعيته ، ومن ثم المعارضة ليست دوراً بقدر ما هي موقف يتخذه الفرد بغض النظر عن كونه حاكماً أو محكوماً متى ظهرت دواعيه الشرعية المتمثلة أساساً في القيام بالشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . النظرة العضوية التكاملية المسيطرة على التصور الإسلامي للوجود السياسي والاجتماعي والتي من أهم آثارها .
أن يكون لكل عضو في هذا الجسد دوره ولديه الصفات والمؤهلات الكفيلة بتمام تأديتها ومن ثم فإن الاتجاه نحو وضع الشرائط والصفات على النحو السابق هو أهم ضامن لتمام تأدية العضو لوظيفته وبحيث يصبح فقد هذه الشرائط بمثابة فقدان للأهلية والصلاحية التي تكفل للعضو البقاء في وظيفته ، ومن ثم فإن هذا الجسد السياسي الإسلامي إن كان يعرف توزيع الأدوار بين حكومة مرة ومعارضة مرة أخرى، فكل دور له أهله الذين لديهم الصفات والشرائط الكفيلة بتمام تأديته لهذا الدور ومن ثم فلا يمكن تصور تبادل الأدوار إلا إذا تم تصور إمكانية تبادل الصفات والشرائط المطلوبة لتمام تأدية الدور ومن ثم فإن شرعية المعارضة تعتمد على اتصافها بصفات معينة هي صفات القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا فقدت هذه الصفات فقدت المعارضة شرعيتها وأصبحت معارضة المعارضة نهياً عن المنكر واجباً .
والفرد في قيامه بالمعارضة ( في الرؤية الإسلامية ) إنما يقوم بهذا عن ولاية مباشرة بما عليه من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمسلم ولي المسلمين ونائبهم ويمثلهم جميعاً في كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة بماله من هذه الولاية وتتمثل فيما يملكه الفرد المسلم من رفع دعوى دون أن يقال لا مصلحة شخصية لك ولا صفة ، بعكس الدعوى في النظم العلمانية والقوانين الوضعية حيث لا مصلحة ولا صفة فلا دعوى .(40/172)
إن الفكر السياسي الغربي ينظر إلى المعارضة من خلال مبدأ الحرية الذي يصير تعبيراً عن حرية الفرد في أن يقرر بنفسه الطريقة والأسلوب الذي يعيش وفق حريته ولو خالفت الجماعة ، أما الرؤية الإسلامية ترفض ذلك ، فالإسلام كل متكامل لا يقبل التجزؤ أوالتبعيض ، ومن ثم فهو يؤخذ كله أو يترك كله ، والحرية تقتصر على الدخول تحت مظلة الشريعة ولا تتعداه إلى جهة الإنسان ( لا إكراه في الدين ) . ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) أما بعد قبول الدخول تحت مظلته فعليه الالتزام بالخضوع الكامل للقواعد الآمرة والناهية المنزلة ولا يعني ذلك أن حرية الإنسان منقوصة ، بل إن كمالها يتمثل في العبودية لله وحده وهذا يحمل معنى تحرره من كافة أنواع العبودية ، وتجعل الهيمنة العليا للإرادة الإلهية على كل من الحاكم والمحكوم ، وبهذا يقف كلاهما على قدم المساواة أمام القانون الإلهي ، وهذا يعني أن السلطة مقيدة بالأحكام الشرعية والخلاصة أن أهل الحل والعقد مكلفون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبيراً عن المعارضة لكل ما يخالف الشرع باعتبارهم جماعة قادرة على ذلك ، وإن هذا لا يعفي الأفراد من القيام بأداء هذا الواجب ولا سيما حين يقصر أهل الحل والعقد عن القيام بها لسبب ما والقيام بهذا الواجب لا يتوقف على الانتماء إلى تنظيم معين أو انطلاقاً من الإرادة الشعبية التي تتمثل في الهيئة الناخبة . والأحزاب السياسية أفرزتها الخبرة الغربية ، وبالنظر إلى هذا الوجه فإنه رغم أن نشأتها كانت على أساس ديني وبسبب خلافات دينية ومن أجل مصالح وأهداف دينية إلا أن ازدهار فكرة الفصل بين الدين والسياسة وتبني مبدأ العلمانية في النظم السياسية الغربية جعل هذا الفصل بين الدين والسياسة ، وتبنى مبدأ العلمانية في النظم السياسية الغربية جعل هذا الفصل يمتد إلى النظام الحزبي بحيث تصير الأحزاب من حيث طبيعتها تعبيراً عن العلمانية . ودلالة هذا فيما نحن بصدده ألا يتعدى طرف على اختصاصات الآخر ، وقيام جماعة دينية بنشاط سياسي فيه خروج على هذا المفهوم ،لأن العمل السياسي والتنظيمات السياسية اختصاص أصيل للدولة طبقاً للمبدأ . ولذلك كان طبيعياً أن يشجب الداعون لمبدأ الفصل بين الدين والدولة كل محاولة لقيام جماعة دينيةذات صبغة سياسية وهذا ما تؤمن به الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية الحديثة القومية النزعة والعلمانية المذهب أما الرؤية الإسلامية ترفض هذا الفصل بين الدين والسياسة حيث أن الإسلام. عقيدة وشريعة والسياسة جزء من أحكامه ، وبمعنى آخر فإن الدين يحتوي على السياسة والسياسة فرع من فروع الدين مما سبق نخلص إلى أنه لا يمكن بحال اعتبار جماعة أهل الحل والعقد تنظيماً سياسياً بالمعنى الحزبي لأن الرؤية الإسلامية ترفض الحزب السياسي تعريفاً ووظيفة وموقفاً من الدين ، أما أهل الحل والعقد فهي جماعة تدير شؤون الأمة وتنطلق من الشريعة وتستهدفها .
الطبيعة العقدية للبيعة واختيار الحاكم : إن العقد والبيعة تقتضي عاقداً أو مبايعاً وهم أهل الحل والعقد ومعقوداً عليه وهو الخليفة أو الإمام أو الحاكم . والعقد ذو مضمون إسلامي يحدد التزامات طرفي العقد وهي لا تنعقد إذا لم تكن قائمة على الرضا والاختيار الحر لا يدخله إكراه ولا أجبار فالعقد ليس بيعة ذات طبيعة شكلية من قبيل تصفيق الأيدي وإنما من حيث جوهرها تعني الرضا ثم الانقياد ، وهناك التزامات متبادلة بين الطرفين فالبيعة هي العهد على الطاعة ، مادام الحاكم مطيعاً لله مطبقاً شرعه المتجلى ذلك في قول الخليفة أبي بكر: ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم ) وقول الرسول الكريم ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .(40/173)
أما طريقة تعيين ولي العهد أو الاستخلاف فهي سوابق تاريخية وهي بمثابة ترشيح لهذا المنصب لا أكثر ولم يدخل كل من عمر وعثمان في الخلافة إلا بعد مبايعة المسلمين لهم مبايعة انعقاد عن رضا واختيار وهي إجراءات اجتهادية غير ملزمة . وإن ما حدث في السقيفة من ترشيح أبي بكر وما اتخذه أبو بكر في شأن العهد إلى عمر ( ترشيحه ) بالخلافة من بعده ، أو ما فعله عمر في جعلها شورى بين أهل الشورى الستة هذه كلها من قبيل الإجراءات الاجتهادية المتعلقة بطرق الترشيح لرئاسة الدولة والتي لم يرد بخصوصها نص ملزم من القرآن الكريم أو السنة وإنما هذه إجراءات تقع في منطقة العفو المتروكة لاجتهاد الناس حسب مقتضيات ظروفهم ومستوى تطورهم الحضاري والنظمي على وجه الخصوص ، بدليل أن اجتهاد عمر في السقيفة بمبايعة أبي بكر اختلف عن اجتهاده وهو خليفة بالعهد إلى أهل الشورى وهو في هذا وذلك يختلف عن اجتهاد أبي بكر في عهده إلى عمر ، فهي كلها طرق وإجراءات اجتهادية في كيفية الترشيح وذلك بخلاف البيعة التي بموجبها تتم المبايعة للخليفة مبايعة انعقاد .ويمكن اعتماد آليات الديمقراطية مثل انتخاب الحاكم والمسؤلين والمجالس . أما المبايع له ( الحاكم ) فيلتزم بالحكم بالعدل وتدبير أمور الأمة ومصالحها على مقتضى النظر الشرعي وقد أوجب الله الوفاء بالعقود . قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) .
وقد اتفق جميع علماء المسلمين أن للأمة أو أحد مجالسها التشريعية أو القضائية أو التنفيذية خلع الخليفة أو الحاكم لسبب يوجبه وإن أدى ذلك إلى الفتنة ( احتمل أدنى المضرتين ) دون أن يكون للحاكم الحق في حل المجلس أو فرض أوامره وقراراته عليه أو سجن المعارضين لرأيه. وإن أول أساس ارتكز عليه نظام الحكم هو أن واضع أصول الأحكام هو الله وحده فليس لبشر أن يشرع أصولاً قانونية غير التي سنها الله ، أما في القضايا التي لم يرد فيها نص فقد فوضت الشريعة مهمة سن قوانينها إلى أولى الأمر من العلماء الذين هم أهل للاجتهاد والدليل على اختصاص الله بالتشريع قوله سبحانه ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) . ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) . وأمر الله تعالى بإتباع أحكام الشريعة ونهى عن إتباع ما يخالفها ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تتذكرون ) ويحرم الله تحريماً قاطعاً الخروج على نصوص الشريعة فحذر من رفض التحاكم بها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، الظالمون ، الفاسقون ) . والمؤمن الذي يختار من الأحكام غير ما أختاره الله ورسوله محمد فهو ضال ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) .
وقد جاء في كتاب كنوز الإسلام للدكتور محمد فائز المط ص 270 ما يلي : ( جعل الإسلام الإمارة انتخاباً لا إرثاً ، يُنتخب الحاكم من أفضل الناس وأعلمهم في كافة مجالات الحياة ووضع الإسلام بين يدي الحاكم دستوراً كاملاً مثالياً لا يحتاج إلى تبديل أو تعديل وهو القرآن والسنة وفرض عليه أن ينفذه بحذافيره وأوجب على الشعب طاعته ما طبق هذا الدستور) . لذلك إذا أخلَّ أحد طرفي العقد بالتزاماته اختلت الشرعية الإسلامية ووجب تدخل الوظيفة الرقابية انطلاقاً من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء في مواجهة الرعية العاصية أو الحاكم الجائر حتى تصل إلى عزله من سدة الحكم ، وهي فكرة عزل الإمام حيث أن العقد قام على أساس اختيار الحاكم في مركزه رئيساً للدولة والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان رئيسيان : جرح في عدالته أو أن يطرأ على بدنه نقص سواء في الحواس أو الأعضاء أو التصرف (العقل) أو غير ذلك من شروط الترشيح للحاكم كما أن الخليفة أو الحاكم يكون مسؤولا مسؤولية سياسية تقتضي منه أن يكون تصرفه على الرعية منوطاً بالمصلحة وأن يلتزم بالقيم الإسلامية في ممارسته وسلوكه السياسي ، ومسؤلا مسؤولية جنائية عن تصرفاته التي تخل بعدالته ، فإن ذلك يقتضي عزل الخليفة أو الحاكم أو الإمام أو الملك .
الجهة التي لها حق عزل الحاكم : إن الجهة التي عقدت العقد هي التي تملك حله والخليفة متى زاغ عن العدالة وخرج عن شرع الله كانت الأمة عياراً عليه في العدول إلى غيره وهم :
1- أهل الحل والعقد وهم مجالس الوزراء والشورى (العلماء )والشعب أو الأمة (البرلمان) ومجلس القضاء الأعلى
2ـ المحكمة الدستورية العليا التي تحكم بكتاب الله وسنة رسوله . قال تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله ) . وتفصل المحكمة النزاع بالرد إلى الأصول الشرعية فإن انتهت إلى حكم بالعزل وجبت الطاعة من قبل الحاكم ويحق لأي شخص من هذه المجالس رفع قضية العزل إلى المحكمة أو إلى المجلس ذاته .ويدخل في مفهوم أهل الحل والعقد أيضا :(40/174)
1- الفقهاء المجتهدون(أهل الاجتهاد) وهم العلماء المتخصصون في دراسة الشريعة الإسلامية وحازوا مستوى من المعرفة والعلم بها يؤهلهم أو يوفر لهم ملكة الاجتهاد والتمكن من استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية
2- أهل الاختصاص من الخبراء والفنيين والعلميين وأرباب المهارات والكفاءات العلمية والإدارية . قادة المجاهدين وأمراء الجند بحيث تظل القوة العسكرية محكومة بضوابط العقيدة في استخدامها وتظل تؤدي دور الوسيلة المساندة للعقيدة
3 - الإسلامية فقط وليس للحاكم تجاوز هذه الحدود فتصير حينئذ طغياناً غير شرعي .
4ـ المستشارون والنصحاء و( أهل الشورى ) وهم الذين يملكون صلاحية أو أهلية تقديم الرأي والنصيحة في أوسع المعاني في أمر من الأمور وهم أصحاب الشهادات والاختصاصات العالية من كافة نواحي النشاط البشري .
5ـ أهل الاختيار وهم الذين يناط بهم اختيار الأصلح للمراكز التمثيلية من بين المرشحين لها .
ويتوجب على أهل الحل والعقد كل جلسة فصل واحد أو أكثر من المجلس إذا تبين فساده أو خيانته بالاقتراع السري الخطي وموافقة ثلثي الأعضاء .ويكون لهذا المجلس التشريعي مهمة كشف الأخطاء واقتراح الحلول للحكومة والأمة بشكل عام ومراقبة المسؤولين وإبطال قراراتهم الغير شرعية ومنها التبعية للغرب أوالسماح بوضع قواعد عسكرية أجنبية أواعطائهم امتيازات لسرقة البترول والمعادن لأنها من حق الأمة .
أما مؤسسات الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم فهي :
المؤسسة التنفيذية التي تقوم على الحركة بموجب الحكم الشرعي قصداً إلى تحقيق مصالح الأمة الدينية والدنيوية وهذه تضم مؤسسة الخلافة( رئاسة الدولة) والوزارة والإمارة على الأقاليم ومؤسسة الاجتهاد التشريعي ومؤسسة القضاء والرقابة ( المظالم والحسبة ) ومؤسسة الدعوة والهداية . وبناء عليه فإن دور أهل الحل والعقد أوسع نطاقاً من دور الصفوة السياسية فهو شامل لشؤون الدين والدنيا والآخرة ( عبادات ومعاملات ) ويمتد ليشمل في غايته الضرورات الخمس( حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) بحيث يجمع في توازن مقصود بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في أطار المفهوم الشرعي للمصلحتين كذلك فإنه يجمع في شموله بين المصلحة الدينية والمصلحة الدنيوية على المستوى الجماعي وبين مطالب الروح والجسد على المستوى الفردي . وقصده جلب المنافع ودفع المضار التي قصدها الشارع وهدفهم النهائي الأساسي هو ( تعبيد الناس لإله الناس ) من خلال تحقيق منهج الله في صورته التطبيقية التي تجعل الإنسان ينشىء ويعمر ، ويغير ويطور ، ويصلح وينمي تحقيقاً لعمارة الأرض ، قال تعالى : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) . وفي النهاية نخلص إلى أن الدعوة والمناداة بإقامة نظام الحكم الإسلامي بمقاصده وأبعاده الوظيفية والمؤسسية والعقيدية الذي قوامه أهل الحل والعقد ليست عودة إلى أدراج الماضي نحو نمط أو تصور تاريخي بعينه للخلافة كما قد يتصور البعض وليست أيضاً دعوة إلى نظام تيوقراطي تتسلط فيه طبقة من رجال الدين وتدعي احتكارها للحقيقة الدينية وتلقيها عن الله ، وإنما هي دعوة واقعية لنظام فعّال قادر على أن يلبي حاجات الأمة ومصالحها المحددة نحو الغاية التي من أجلها استخلفها الله في هذه الأرض ألا وهي تعبيد الناس لرب الناس ، ملك الناس إله الناس فإذا لم يطبق الخليفة الشريعة أو أفسد في الأرض خُلع تلقائياً ولا طاعة له فالوالي غير الصالح ليس أهلاً للولاية ، ونظراً لانحياز الأمم المتحدة إلى إسرائيل يفضل الانسحاب منها وتفعيل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تمهيداً للوحدة الشاملة إن شاء الله .
قواعد الإصلاح والتجديد في فكر الإمام الغزالي:
الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود . وما دام المسلمون مسؤولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم ، وما داموا قاعدين عن حمل هذه الرسالة ، فإنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب القعود من داخل المسلمين أنفسهم . وما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد توترات سلبية تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام . لذلك لا بد من اعتماد النقد الذاتي وعدم إلقاء المسؤولية على القوى الأجنبية الاستعمارية المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف الداخلي وقابلية الهزيمة من خارج . وهذا منهج يتفق مع المبدأ الإسلامي القائل ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) الشورى . والقائل كذلك ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) الأنفال .
فلابد من معالجة قابلية الهزيمة بدل التباكي على مظاهر الهزيمة أي البحث في القابلية للاستعمار بدل توجيه اللوم إلى الاستعمار فالمشكلة كل المشكلة في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين في أمور العقيدة والاجتماع وما سوى ذلك هي مضاعفات تزول بزوال المرض الأساسي .(40/175)
ومنهج الإصلاح يبدأ بالإصلاح الفكري والنفسي أولاً وهذا مبدأ قرآني واضح ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد . وكذلك الإصلاح السياسي والعسكري وغير ذلك من الإصلاحات .
وتطبيق واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطهير المجتمع الإسلامي من الأمراض التي تفترسه من الداخل وضرورة إعداد المسلمين لاستئناف الجهاد وحمل رسالة الإسلام حتى تبلغ الدعوة أقصى العالم وتتوطد دعائم الإيمان والسلام فيه . وهذا لن يتم إلا بعد المصالحة بين المذاهب والطوائف والقوميات الإسلامية وتوحيد الجهود والأفكار والتخلص من علماء الدنيا علماء السوء الذي قصدهم من العلم التقرب إلى السلطان و المسؤولين السياسين والتنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها وبالتالي فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي ـ البعد عن قضايا المجتمع والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها والتعصب المذهبي واختفاء الفضائل العلمية . وتفتيت وحدة الأمة وظهور الجماعات والمذاهب وانتشار التدين السطحي والفئات التي مثلته .
لذلك لا بد من العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم وإحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب نقد السلاطين الظلمة وتحريم التعامل معهم ومع حاشيتهم والمسؤولين التابعين لهم ولا بد أيضاً من محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية وتصحيح التصور السائد عن الدنيا والآخرة . والدعوة للعدالة الاجتماعية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة والإسراع في الإعداد العقائدي للجهاد والحرص على تنمية ولاء الجندي لله سبحانه وتعالى وبذل نفسه في سبيله وتكريس طاقاته له مع الحذر الشديد من شرك الولاء لقائد أو سلطان أو حاكم ، فهذا كله شرك يفسد الجهاد ويحبطه وإعادة بناء الجيش والقوات المسلحة بحيث نرفع من معنويات العسكري والامتناع عن إهانته أو شتمه أو توبيخه وزرع حب الشهادة في سبيل الله بنفسه لأنها الطريق للنصر في المعركة والفوز بالجنة ، وإعداد الشعب إعداداً إسلامياً وتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر وضرورة صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية وتطبيق العدل وسيادة القانون على الجميع حكاماً ومحكومين وتحقيق التكافل الاجتماعي ونبذ الخصومات القومية والطائفية والمذهبية وتعبئة القوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد وقيادة متكاملة متعاونة وإقامة المنشآت العلمية والاقتصادية والمرافق العامة وبناء القوة العسكرية والعناية بالصناعات الحربية والثقيلة . والقضاء على الدويلات المتناثرة في الوطن العربي وتحقيق الوحدة الإسلامية ، واختيار خليفة للمسلمين حتى ولو اقتصرت على الوطن العربي كخطوة أولى ، مع المحافظة على الأقليات غير الإسلامية وعدم المساس بشعائرها الدينية طالما هي موالية للأنظمة الإسلامية فهم أهل الذمة وقد أوصانا الرسول بهم خيراً مع تشجيعهم بالدخول إلى الإسلام دون إكراه . ولابد من التخلص من الاستبداد والملك العضوض والانتقال إلى تطبيق الشورى والتداول السلمي للسلطات .
وإن المبادئ الأساسية هي :
1ـ أن يبدأ التغيير في محتويات الأنفس أي الإصلاح الفكري والنفسي في الميادين الاجتماعية والسياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والتربوية والقضائية وسائر ميادين الحياة الخارجية
2ـ إن التغيير لا يحدث إلا إذا قام القوم مجتمعين وليس الأفراد بتغيير ما بأنفسهم
3ـ أن تتم الإحاطة الكاملة بحلقات السلوك الذي يفرز الظواهر الاجتماعية والرسولخ بتفاصيلها وتركيبها .
4 ـ إن فترات القوة والمنعة في التاريخ الإسلامي إنما ولدت حين تزاوج عنصران هما الإخلاص في الإرادة والصواب في التفكير والعمل فإن غاب أحدهما أو كلاهما أو طلّق أحدهما الآخر فلا فائدة من الجهود التي تبذل والتضحيات التي تقدم .
5ـ إن التاريخ كله ـ الإسلامي وغير الإسلامي ـ برهن على أنه حين تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية على أساس الولاء الشامل لأفكار الرسالة التي تتبناها الأمة وتعيش من أجلها فإن كل فرد في المجتمع يصبح مصاناً ومحترماً سواءً كان حياً أو ميتاً ومهما اختلفت آراؤه مع الآخرين ويوجه الصراع إلى خارج المجتمع وتتوحد الجهود وتثمر . أما عندما تتشكل شبكة العلاقات طبقاً لمحاور الولاء الفردي أو العشائري أو المذهبي أو الطائفي أو الإقليمي أو الحزبي وطبقاً للدوران في فلك الأشخاص والأشياء فإن الإنسان يصبح أرخص شيء داخل المجتمع وخارجه ويدور الصراع داخل المجتمع نفسه ويمزقه إلى شيع يذيق بعضها بأس بعض ثم يكون من نتائج ذلك أن تجذب روائح الضعف الطامعين من خارج .(40/176)
والله يغير ما بقوم من أحوال سيئة إذا تغيرت القيادة الفاسدة المستبدة بالحكم خاصة علماء الدنيا وفقهاء السلطان في العالم الإسلامي وبالتالي يغير الناس ما بأنفسهم من معتقدات وتصورات وقيم وتقاليد وعادات متخلفة . قال تعالى على لسان سيدنا شعيب عليه السلام : ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) . أخيرا أقول إن فلسطين سقطت بيد الصهاينة بعد سقوط الخلافة الإسلامية في القسطنطينية ولن تعود إلى أهلها إلا بعودة الخلافة الإسلامية مجددا إن شاء الله والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والله ثم الوطن من وراء القصد.
المراجع :
1- دور أهل الحل والعقد للدكتور الفقيه فوزي خليل من جمهورية مصر العربية الاسلامية .
2ـ المدخل إلى الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا الأستاذ الجامعي في كليتي الشريعة والحقوق بجامعة دمشق والمستشار لدى حكومة المملكة العربية السعودية عضو مجمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة
3ـ الأحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي
4- روح الدين الإسلامي للعلامة عفيف عبد الفتاح طبارة ـ لبنان
5ـ كتب الإمام أبي حامد الغزالي
عوامل النهضة والنصر لدى الشيخ عبد القادر الكيلاني والدكتور ماجد عرسان الكيلاني :
يقول ابن تيمية ( إنَّ أهم آثار السنة الإلهية في العدل أن الملك والإسلام مع الظلم لا يدوم ، وأن الملك والكفر مع العدل يدوم . والأمة التي تتفوق في المعرفة تتفوق في القوة ) . لذلك فإن الجيوش الغربية الغازية للدول الإسلامية تهدف إلى تنفيذ المخططات الهادفة إلى نشر الثقافة المسيحية المتصهينة والقضاء على الثقافة الإسلامية ، ونهب خيرات الشعوب العربية المتخلفة بعد أن أقامت دول الطوائف على أنقاض الدولة العثمانية طبقاً لمعاهدة سايكس ـ بيكو ومثيلاتها واستمرت مِزَقُ الأمة تفتخر بالانتماء إلى هذه الدول الممزقة وتدافع عنها ، لتتبين أن يد الله أ أي عونه وعطاءه ـ إنما هي مع الجماعة وأن الوحدة سنة وجود تنظيم عوالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد. ويقول الفقيه العلامه الشيخ عبد القادر الكيلاني :
إن الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق قانون إلهي من قوانين النصر والفلاح في كل مواجهة والمواجهة الحقيقية التي يحتاجها العالم العربي والإسلامي هي التي تجري على مرحلتين الأولى مواجهة مع الذات يقوم بها العلماء والساسة وعامة الأمة بغية تحريرها من التبعية الثقافية الغربية والاعتماد الفعلي على الغير وتمكينها من اكتشاف الهوية وتحقيق الانتماء إلى ماضي الازدهار والمنعة وتحليل الحاضر واستشراف مسارات المستقبل ودروبه . فإذا انتصرت الأمة في هذه المواجهة فستكون مؤهلة لبدء المواجهة الثانية مع الغير المعتدي بثقة واستقلالية وجدارة ، ولسوف تنتهي بها المعركة إلى النصر المادي والفتح الاجتماعي . أما الفرقة الناجية فهي التي تسلك ما كان عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو : أن لا يترك الدنيا بالكلية ولايقمع الشهوات بالكلية . أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد . وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة . بل يتبع العدل ولايترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده . فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظه عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك . حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بهمة واشتغل بالذكر والفكر والعلم وبناء الأرض طول العمر ، ويظل محافظاً على حد الاعتدال والتوسط في الشهوات حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى .(40/177)
واعتمد الشيخ الكيلاني أسلوباً يقوم على أمرين الأول اعتماد التعليم المنظم والتربية الروحية والثاني الوعظ والدعوة بين الجماهير ويعتبر السبب الأساسي للفساد الذي ضرب المجتمع الإسلامي ألا وهو دوران الشريعة في فلك السياسة وخضوع العلماء والفقهاء للحكام وشهوات الدنيا . وعن هذا المرض تفرعت مضاعفات وأمراض أخرى تفشت في ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، كما شن حملة شديدة على العلماء واعتبرهم تجاراً يتاجرون بالدين ويساهمون في ارتكاب المحظورات ويعيب عليهم تقربهم من السلاطين والمسؤولين وطمعهم بما في أيديهم ومن مواعظه وخطبه في انتقاد العلماء قوله ( يا سلاّبين الدنيا بطريق الآخرة من أيدي أربابها يا جهالاً بالحق ، أنتم أحق بالتوبة من هؤلاء العوام ، أنتم أحق بالاعتراف بالذنوب من هؤلاء ، لاخير فيكم ، لو كان عندكم ثمرة العلم لما سعيتم إلى أبواب السلاطين والمسؤولين في حظوظ نفسك وشهواتها ، ياخونة في العلم والعمل يا أعداء الله ورسوله يا قاطعي عباد الله عز وجل أنتم في ظلم ظاهر ونفاق ظاهر . هذا النفاق إلى متى ؟ يا علماء كم تنافقون الملوك والسلاطين حتى تأخذوا رضاهم وتنالوا حطام الدنيا وشهواتها ولذاتها ؟ أنتم وأكثر الملوك في هذا الزمان ظلمة خونة في مال الله عز وجل وفي عباده . يا عباد الله المسلمين هؤلاء علماء الدنيا ، الذين يُفرحون نفوسكم ويذلون للملوك ويصيرون بين أيديهم كالذر لا يأمروهم بأمره ولاينهونهم عن نهيه . وإن فعوا كان قولهم نفاقاً وتكلفاً ، طهَّر الله الأرض منهم ومن كل منافق أو يهديهم إلى بابه . يا خُطّاب المساجد لابارك الله فيكم يا منافقون ليس لكم صنعة البناء ولا آلته ، أنسيتم أن الأنبياء كانوا يعملون بأيديهم ولهم صنعة يشاركون بها في بناء الأرض ، إن من يعظم الحكام كمن يعبد الأصنام . أنسيتم قوله تعالى ( إنما المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وانتقد الحكام وحذر الناس من الانصياع لهم بما يخالف الشريعة فكان يقول( صارت الملوك لكثير من الناس آلهة يعظمونهم ، وحكمهم حكم من يعظم الأصنام ويعبدها ) وحرص عبد القادر أن يبقى بعيداً عن موطن الشبهات أو التقرب للحكام ، وعرف عنه أنه ما ألم بباب حاكم أو والي قط وأنه كان يرفض هداياهم ويوزع تبرعاتهم على الفقراء قبل أن تتناولها يده ) وتصدى للتطرف الباطني والتيارات الفكرية المنحرفة كالروافض . وحمل أيضاً على المتطرفين من الصوفية وانتقد ما شاع بينهم من حكايات الصالحين وتحريك الأصابع واللسان فقط بالشكر والتسبيح والتهليل وإنما التصوف الصحيح صفاء وصدق معامله وعمل صالح وبناء الأرض وطلب العلم تنفيذاً لقوله تعالى ( اعملوا آل داوود شكراً ) فالكلام بدون عمل يصدقه لا قيمة له والإيمان له مضمونان فكري ـ وجداني لا يتوقف عند الاعتقاد النظري إنما يشترط أمرين آخرين هما العمل والإخلاص فبالعمل ينتفي النفاق وبالإخلاص ينتفي الرياء ، والإخلاص المقصود هو التوجه بالعمل لله وحده . والمضمون الثاني اجتماعي ـ فلا يصح إيمان عبد جاره جائع . وجعل العدل الاجتماعي وتوزيع الثروات توزيعاً عادلاً هو المقياس الحقيقي للتدين والإيمان ، كما أن وظيفة الحاكم المسلم إذا كان مؤمناً حقاً ـ هي نشر دعوة التوحيد وحماية الدين والسهر على تحقيق العدل . خاصة في مجال الاقتصاد وتوزيع ثروات الأمة وأن لا يخص الحاكم نفسه أكثر من أدنى فرد في الأمة . وعليه تأسيس جماعات لحمل رسالة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا بد من تحليل الأصول الاجتماعية ـ الاقتصادية وإبراز خطورة الظلم وكبت الحريات وتهيئة المناخ لظهور المؤسسات التربوية العلمية الإدارية الحضارية التي تعيد العدل واحترام الإنسان مكانهما في محور نظام القيم وممارسات الحياة القائمة . فالمجتمعات التي لا تتيح للأفكار أن تعبّر عن نفسها في عالم الظاهر أي الواقع ، ترتد فيها الأفكار إلى عالم الباطن والميتافيزيقا أي الغيب الذي لا وجود له وتلون ثقافتها وقيمها بالأساطير والأوهام التي تتحدث عن عدل موهوم ورخاء متخيل . نعم لقد أدرك ذلك سيدنا عمر بن الخطاب ببصيرته وتجرده هذه التفاعلات الفكرية المفسدة التي يفرزها الظلم والحرمان والقهر وكم الأفواه وكبت الحريات وإقصاء الآخرين فكان يقول لولاته الذين يرسلهم إلى الأمصار : ( ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم .. ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ) أما حفيد الشيخ عبد القادر كيلاني الدكتور ماجد عرسان الكيلاني فيقول في كتابه القيم (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس ) في التاريخ قوانين تحكم الأحداث والظواهر وتوجهها الوجهة التي يقتضيها منطق القانون . والذين يتقنون فقه هذه القوانين وتطبيقها هم الذين يستمرون في الحياة ويتفوقون في ميادينها . وهذا يعني أن الأمة التي يتولى أمورها حكام وفقهاء يفقهون بناء المجتمعات وانهيارها ويحسنون تطبيق هذه القوانين فإنهم يقودون أممهم إلى التقدم والنصر لا محالة . أما الأمة التي يتولى زمام أمورها حكام وخطباء صنعتهم الكلام فقط يحسنون التلاعب بالمشاعر والعواطف فإنها تظل(40/178)
تتلهى بالأماني التي يحركها هؤلاء الحكام والخطباء حتى إذا جابهت التحديات لم يفقهوا ما يصنعون وآل أمرهم إلى الفشل وأحلوا قومهم دار البوار . إن صحة المجتمعات ومرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه ويكون المجتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء للأفكار هو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاتهم وسياسات المجتمع بينما يدور الأشخاص والأشياء في فلك الأفكار . في هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء العلماء الذي يحسنون فقه التحديات واتخاذ القرارات . وحين يكون الولاء للأشخاص هو المحور وتدور الأفكار والأشياء في فلك الأشخاص وهم القادة السياسيون ورجال الدين فإن السمة الغالبة للمجتمع تصبح هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة ويسخرون الأفكار والأشياء لمصالحهم الشخصية أو لعشائرهم أو لطوائفهم أو لأحزابهم . أما حين يصبح الولاء للأشياء هو المحور ويدور الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء فإن الهيمنة في المجتمع تكون لأرباب المال والتجارات وصانعي الشهوات وتسود ثقافة الترف والاستهلاك وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية . ففي عهد الرسول والصحابة كان الولاء للفكرة ثم انتقل في العهد الأموي والعباسي إلى الولاء للأشخاص حين بدأ رجال القوة العصبية من طلقاء مكة الذي أسلموا بعد فتح مكة وعفا عنهم الرسول وبرزت الصراعات الأسرية من أجل الخلافة . ثم انتقل التطور الآن إلى محور الولاء للأشياء وتنافس الناس في جمع الثروات وتكديس الممتلكات .لذلك حين تفشل جميع محاولات الإصلاح وتتحول الجهود المبذولة على سلسلة من الاحباطات والانتكاسات المتلاحقة فإن المطلوب هو القيام بمراجعة تربوية سياسية شاملة جريئة وصريحة وفاعله ، يكون من نتائجها إعادة النظر في كل الموروثات الثقافية التي تلي نصوص القرآن والحديث الصحيح ، وإعادة النظر في كل العملية التربوية والسياسية والإدارية ، وبالتالي فإن القوانين التي أنزلها الله المتمثلة بالشريعة الإسلامية هي العلاج إلى صحة المجتمعات وقيام الراقي من الحضارات ، إلا أن الإسلام لا يؤدي هذا الدور الحضاري إلا إذا تولى قيادته السياسية وفقهه أولو الألباب النيرة والإرادات العازمة النبيلة والعلماء الملتزمون بهذه الشريعة المطالبة بإقامة الشورى والعدل والحرية والمساواة وبناء الحضارة .
ويجب التعرف على المواد الخام من البشر الصالحين ليكونوا أنصاراً للدعوات وجنداً للرسالات وأفضل العناصر لذلك هي جماهير العامة في المدن وأهل الريف والبادية خاصة كونهم على الفطرة . وبذلك تتحقق قوة المجتمعات من خلال نضج وتكامل عناصر القوة كلها في دائرة فاعلة وتناسق صحيح ، وهذه العناصر هي المعرفة والثروة والقدرة القتالية ، وقد حذرنا رسول الله من خطورة الانشقاق بين هذه العناصر فقال : (( ألا إن الكتاب ( المتمثل بالشرع والعلم النافع ) والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب )) . لذلك وحتى تنجح العملية والتجربة يجب أن يدور الحكام والأمراء في فلك العلماء المصلحون وليس العكس كما هو الآن أي حين تتبع وتدور كافة القيادات الاقتصادية والعسكرية والإدارية والسياسية في فلك القيادة الفكرية فسيكون النجاح المصير المحتوم . لذلك بعدما فتح القائد صلاح الدين الأيوبي القدس جاء الناس يهنؤوه بالنصر فقال لهم : " ادعوا الله لهؤلاء مجلس الشورى وهم العلماء الجالسون بجانبي أمثال موفق الدين ومحمد ابنا قدامه وابن نجار وغيرهم كثير " فهم الموجهون الحقيقيون والمستشارون الفكريون للسلطان .
أما في العصر الحديث فنجد السر في قوة الدول الكبرى هو تكامل المعرفة والقدرة القتالية والثروة واعتماد صانعي القرار ورجال التخطيط التنفيذ في دوائر الاقتصادية والعسكرية محل ما يقدمه لهم رجال الفكر والخبراء والعلماء العاملون في مراكز البحوث والدراسات ففي الولايات المتحدة حوالي عشرة آلاف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث الشؤون السياسية والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية والعلوم العسكرية والقضاء والتجارة وشؤون الأقليات والأقطار الأخرى وهؤلاء ينتقون من الأوائل في صفوفهم منذ الدراسة الابتدائية حتى تخرجوا من أعلى مراتب الدراسات الجامعية بتقدير A أي بعلامة مئة بالمئة أو قريب منها . وكذلك الأمر في إسرائيل يتكامل ممثلو المعرفة والقدرة القتالية والثروة بشكل محكم ورائع .(40/179)
أما الدول العربية فقد وصلت منذ زمن طويل إلى ما حذر منه رسول الله حين قال ( في آخر الزمن يكثر في أمتي الخطباء ويقل الفقهاء والعلماء ) .. والسلطات الحاكمة المستبدة افتقرت إلى النضج السياسي بسبب افتقارها إلى مراكز المعرفة وهذا أدى إلى إفراز نتائج سلبية هي : النتيجة الأولى لجوء السلطات الحاكمة إلى إقامة المؤسسات البوليسية كالأمن والمخابرات والمؤسسات الإعلامية , حيث ترصد حركات جماعة وأحزاب الإصلاح وتعتقل الناشطين من أعضائها , وتلحق بهم وبأسرهم ألوان الأذى النفسي والجسدي والضرر المعيشي بينما تقوم الثانية بتتبع عورات حركات الإصلاح والتشهير بمساقطها , والتشكيك بمقاصدها وتشويه سمعة أعضائها والنتيجة الثانية نشوء بيئة عامة مشحونة بالقلق والتوتر وانتفاء الأمن وعدم الثقة وشيوع الخوف , وانعكست آثارها السلبية على الأخلاق العامة وصار الطابع المميز لشبكة العلاقات العامة هو انتشار النفاق وفساد الذمم والانتهازية وانتقاص إنسانية الإنسان في جميع المواقف والميادين والنتيجة الثالثة حيرة الجماهير ودهشتها أمام الصراع الجاري بين السلطة وحركات الإصلاح والنتيجة الرابعة حذر الخيرِّين من ممثلي الثروة وترددهم عن التعاون مع حركات الإصلاح والخوف من مفاجآت السلطة وانفعالاتها ولذلك لم يتجاوبوا مع سياستها ووعودها . والنتيجة الخامسة هي انقسام جماعات الإصلاح إلى قسمين : قسم مال إلى مهادنة السلطة وتملقها ورضي بالا عطيات التي تجود بها تحت ستار التعددية والديمقراطية , وقسم اختار السلبية التي تصاعدت وانتهت إلى التطرف والصدام المسلح مع السلطات الرسمية الحاكمة مما أدى إلى تجريم مسارات الإصلاح وسلبها شعبيتها وقتل فاعليتها . ثم كانت المحصلة النهائية لتفاعل هذه النتائج الخمسة هي استنزاف المقدرات وتبديد الطاقات وتوجيه عناصر القوة الأربعة عناصر المعرفة والثروة والمهارات السياسية والقدرة القتالية إلى نحور أهلها وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم , وتظل الحاجة الملحة قائمة إلى الاستراتيجية الصافية التي تنتقي الألوف من أولي الألباب ممن يكونون أوائل الصفوف الدراسية ويحصلون على ما يزيد عن تسعين بالمئة في امتحان الثانوية ثم يجري إعدادهم وتربيتهم ليكونوا فريقين : فريق يتسلم القيادة الفكرية وتتجمع في مراكز الدراسات والبحوث ليتفكروا في مشكلات العالم الإسلامي ويبصروا قوانين الله في بناء المجتمعات وهدمها . وفريق يتسلم القيادة السياسية ويحول هذه القوانين إلى سياسات وخطط واستراتيجيات وبذلك تتكامل الطاقات والمؤسسات ويظهر جيل العلم والإيمان جيل صلاح الدين الجديد وتعود القدس للمسلمين وينتشر الإسلام في العالم ونبني حضارة إسلامية روحية تفوق حضارة الغرب المادية ، وبذلك نكسب الدنيا والآخرة ونرضي الله سبحانه الذي كلف الأمة الإسلامية أن تنشر الدعوة في أرجاء الأرض فكان لهذا التكليف حكمة معينة في تقدير الله وكانت له كذلك مقتضيات ، فأما الحكمة فهي كون الرسول هو خاتم الأنبياء وقد أرسل إلى البشرية كافة وإلى آخر الزمان ، وإن أمته تحمل رسالته من بعده بخصوصيتها هاتين أنها للبشر كافة وللزمن المقبل كله ، وأما ما يترتب على ذلك فهو فرض الجهاد على هذه الأمة لتوصيل الدعوة إلى آفاق الأرض ، ولم يكن الجهاد من أجل فرض العقيدة على الناس إذ لا إكراه في الدين ، إنما كان الجهاد من أجل أمر آخر هو إزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين الاستماع إلى الحق كما هو على حقيقته متمثلة تلك العقبات في نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية ، فإذا أزيلت هذه العقبات فالناس أحرار يختارون لأنفسهم ما يقتنعون به بغير إكراه فالإسلام بهذا هو أكبر حركة تحريرية في تاريخ البشرية تحرر الإنسان من العبوديات الزائفة كلها مثل العبودية للأصنام والعبودية للقبيلة والعبودية للآباء والأجداد والعبودية للهوى والشهوات والعبودية للطواغيت ، فالإسلام هو الوجه المقابل للجهل بحقيقة الله الواحد الصمد المقصود بقضاء حوائج الكائنات كلها ، وبالله المستعان على ما يصفون والحمد لله رب العالمين .
ـ المرجع كتاب هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس للعلامة الدكتور ماجد عرسان الكيلانيحتى لا نسقط في الفتنة
(رؤية شرعية في الأخوة الإنسانية)
خباب بن مروان الحمد
يرى المفكرون أن من أصيب بالانهيار الداخلي ، والهزيمة النفسية تجاه من يعاديه فإنه سيحاول جاهداً بقدرالمستطاع أن يثبت بأنه محب له ومسالم ، فلا بأس أن يهدي له كلمات المحبة والود والإخاء ، ولو كان ذلك على حساب عقيدته التي ينتمي إليها ويستظل بظلها .
واليوم ونحن نشاهد أعداء الإسلام وقد كشروا عن أنيابهم ، وأبدوا ما كان مخبئاً في صدورهم ومكنون قلوبهم ، من عداوتهم للمسلمين ، وإرادة الشر والمكر بهم ، فلا عجب أن نجد كثيراً من الكبراء أو المنتسبين للعلم والفكر حين يتنازلوا عن أصول الدين ، وثوابته العظام ، خشية أن يصمهم عدوهم بأنهم (متشددين ) أو( أصوليين).(40/180)
و لا يزال هؤلاء وأمثالهم إلا انبطاحاً للكفار، ويتزايد سقوطهم الفكري شيئاً فشيئاً، لإرضاء شرذمة الكفر، وعصابة الإجرام - وقد لا يشعرون - ويكون حالهم كما قال الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** والزاد حتى نعله ألقاها
ومع تتابع الحملات الصليبية على الإسلام والمسلمين بعد أعقاب الحدث التاريخي السبتمبري ، وتأكيدهم على أهمية حرب ما يسمى (بالإرهاب) ، فإنهم أكدوا أن هذه الحملة لن تقتصر على القوة العسكرية فحسب ، بل هي حملة واسعة النطاق ، عريضة الجبهة ، ومن أهدافها محاربة عقيدة الإسلام ، وقيمه العظام ، ومبادئه السامية .
وإن من المبادئ التي يسعى ( التحالف الصليبي ) لبثها في الأوساط الإسلامية، وخاصة بين النخب العلمية والمثقفة، والذين لهم تأثيرهم على أتباعهم ومريديهم، مبدأ( الإخاء الإنساني) أو ( الإنسانية ) ومن ثم إلى (الإخاء الديني ) و(التلاحم الفكري ) محاولين أن يصنعوا لها ألواناً براقة [1] ، تخلب الألباب ، وتثير المشاعر ، فيتلقفها المسلمون ، وتسري في عروقهم تلك المبادئ حتى النخاع ، وعندئذٍ يتحقق للصليبين ما أرادوا نشره ، وتنجح لعبتهم الماكرة لكسب المسلمين بجانب صفهم ، وصدق الله حين وصفهم بقوله : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) [2]
و الغريب أن هذه المبادئ قد نالت حظاً واسعاً بالانتشار في عقول كثير من المسلمين، وبعض المنتسبين للفكر والعلم ! وعقدت الكثير من اللقاءات والندوات الفكرية والحوارية باسمها، لأجل التنظير لها ، والمنافحة عنها ، حتى ظنت طائفة من المسلمين بأنها مصطلحات ( خير وبر ) وما دروا أن السم دس في العسل ، وصدق من قال :
كم حديث يظنه المرء نفعاً *** وبه لو درى يكون البلاء
* فلنكشف الأوراق ولنظهر الحقائق :
المُرَاجِعُ لتلك المبادئ وحين يردها إلى أصلها وجذورها التاريخية ، سيجد أن من أوائل من بدأ بالتركيز على إبرازها هي : ( الحركة الماسونية ) وأذنابها من المستعمرين[3] الحاقدين ، أو ممن تلبس بلباس الإسلام من المنهزمين وكان متأثراً ببعض نظم تلك الحركة .. و لست مبالغاً فإن هذه المنظمة العالمية قد بنت ركائز فكرها، ودعائم منهجها على ثلاث مبادئ:(الحرية - الإخاء الإنساني - المساواة ) وهم يسعون لنشرها بكل ما أوتوا من قوة مادية أو معنوية ، حتى يتلقفها الجهلة ، ويكونوا بوقاَ لنشرها والتعريف بها .
وقد ذكر الأستاذ : عبد الله التل في كتابه ( جذور البلاء )[4] مترجماً لكلام اليهود في بروتوكولاتهم ما نصه :( كنا أول من اخترع كلمات الحرية والإخاء والمساواة التي أخذ العلماء يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي، وهي كلمات جوفاء لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف بل التناقص الذي يشيع في مدلولها، إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه، قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا) ا.هـ
وبغض النظر عن صحة البروتوكولات ونسبتها للماسونية اليهودية أو عدمها ، فإنهم قطعوا على أنفسهم عهداً بنشرها ليغزوا بها عقول المسلمين .
ولهذا فقد أصدر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي فتوى قيمة ، بعد أن اطلعوا على أفكار تلك الحركة الخبيثة ، وما يهدفون إليه من نشر الثقافات الكافرة ، والكتابات الماكرة ، وكان في تلك الفتوى ما نصه : ( أنها - أي الحركة الماسونية - تبني صلة أعضائها بعضهم ببعض في جميع بقاع الأرض على أساس ظاهري للتمويه على المغفلين وهو الإخاء الإنساني المزعوم بين جميع الداخلين في تنظيمها دون تمييز بين مختلف العقائد والنحل والمذاهب )[5]ا.هـ
* الشريعة الإسلامية ومصطلح ( الإخاء) :
قد بينت الشريعة الإسلامية حقيقة وكيفية(الإخاء) كما في الوحيين:(الكتاب والسنة) وهي :
1ـ أُخوة الدين.
فمن كان كافراً فهو أخ للكافر، ومن كان مسلماً فهو أخ للمسلم، ومنه قوله تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم )[6]، وإنما أداة حصر فقد حصر الله الأخوة بين المؤمنين فقط ، ومنه قوله تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )[7] ، أي في دين الإسلام[8]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم )[9]، ولذا فإنه لما خاف الخليل إبراهيم - عليه السلام- من بطش الطواغيت بزوجته سارة قال عنها ( إنه أختي ) أي أخته في الدين الحنيف الذي يجمع بينهما وهو الإسلام.
ولذا فقد بين - عز وجل - أن المنافقين ليسوا بمسلمين وأنهم إخوان للكافرين فنزع أخوتهم من المسلمين وقرنهم بالأخوة التي تربط بينهم وبين أسيادهم الكافرين فقال:(ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون)[10] قال ابن الجوزي عند قوله تعالى :(يقولون لإخوانهم: أي في الدين لأنهم كفار مثلهم وهم اليهود )[11].
2. أخوة القرابة والنسب:(40/181)
ومنه قوله تعالى : ( كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون )[12] وقد نص جمع من المفسرين بأن المقصود بهذه الأخوة في هذا الموضع بأنها أخوة النسب ، ومنهم الشوكاني حيث يقول : ( أي أخوهم من أبيهم لا أخوهم في الدين)[13]، ومن هذا قوله تعالى لموسى : ( اذهب أنت وأخوك بآياتي )[14]، والمقصود به هارون -عليهما السلام- والذي كان أخاً لموسى من أب وأم .
* زوبعة عصرية، وإثارة قضية:
أثار بعض المفكرين العصريين والمناصرين لمبدأ ( الإخاء الإنساني )بأن هذا المصطلح قد ذكره بعض المفسرين في كتبهم، وأن له دليل من القرآن، مثل قوله تعالى: ( وإلى عادٍ أخاهم هوداً)[15] ، قائلين إن القرآن أثبت هذا الإخاء فهو - عليه الصلاة والسلام - لم يكن أخاً لقومه في الدين لكنَّه أخاهم في البشرية والإنسانية ، ولهذا لا مانع بأن نطلق على النصارى واليهود بأنهم إخواننا في الإنسانية .
وجواب ذلك: بأنه لاشك أننا جميعاً مسلمين وكفار خلقنا الله - عز و جل - من أبينا آدم وأمِّنا حواء- عليهما الصلاة والسلام - فنحن جميعاً نشترك في البنوة لهما وهو - سبحانه - ينادينا جميعاً قائلاً : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً )[16]، وعليه - راجياً أن يُفْهَمَ ما أعنيه - فلو أطلق البعض هذا المصطلح لأجل تلك البنوة من آدم وحواء - وليس له إلا هذا المراد فقط - لهان الخطب ، وأصبح الأمر قابلاً لوجهات النظر ، من حيث أصل هذا المصطلح ، ولكن .....
* هل يريد هؤلاء العصرانيون أن يثبتوا هذا المبدأ بهذا التفصيل ، أم أن وراء الأكمة ما ورائها، وأن المراد غير ما يظهر ، وأن الجوهر بخلاف المظهر ؟
- قيل في المثل العربي ( الحقيقة بنت البحث ) ولا شكَّ أنَّ الغوص في معاني الأمور، ومحاولة إدراك حقائقها ، من الأهمية بمكان ، والحق الذي لا أشك فيه ، أن هذا المبدأ لا يقصد جل من يقوله - نسأل الله لنا ولهم الهداية - إلا خلاف الحق ، وتفريغ الإسلام من محتواه الاعتقادي ، وإبعاد المسلمين عن منهج الله القويم ، وصراطه المستقيم[17]، إلى أن ينتقلوا بمن يتأثر بأطروحاتهم تلك إلى إثبات مبدأ (الإخاء الديني) وقد كان ... فتختلط الأمور، ويصبح الأمر في حيص بيص ، ويطمع الطامعون في إسقاط المسلمين بمزالق عقدية خطيرة تحت مظلة ( التقارب الديني ) أو(التعايش مع الآخر) أو( نبذ الشك والارتياب بالآخرين ) ويصبح من تأثر من المسلمين بتلك الأُطر ، كما قيل :
فتراخى الأمر حتى أصبحت *** هملاً يطمع فيها من يراها
و لهذا فهل يليق بنا السكوت والتعامي عن مراد هؤلاء المنحرفين بحجة أن هذا المبدأ في جملته صحيح؟!
* أهداف المدرسة العصرانية ومقاصدها في التلويح بهذا المبدأ :
1) تمييع عقيدة البراء من الكفار وبغضهم وعدواتهم ، واستبدال ذلك بالدعوة إلى محبَّتهم ومودتهم ومصاحبتهم! إلى غير ذلك من العبارات التي يحاولوا أن يسترضوا بها الكفار، لتربط بينهم وبين المسلمين بوشيحة الإخاء ، وحين يقتنع المسلم بهذه الدعوات المنهزمة فإنه سيقل إحساسه بخطر الكفار ، وأهمية البراءة منهم ، بل سيحصل بينه وبينهم نوع من الانسجام الفكري ، والتنازل العقدي ، بغية الاجتماع على قواسم مشتركة .
وممَّا يجدرالتنبُّه له ، ووجدته واضحاً من خلال البحث والاستقراء لكتابات أصحاب المدرسة العصرانية ، حيث رأيتهم متوافقون في مقاصدهم تجاه(الإخاء الإنساني) وأنَّهم يريدون من وراءه القول بمودة الكفار ومحبتهم والتعايش معهم، ولهم كتابات منتشرة في ذلك لو قلَّبها المتابع لوجدها صريحة بنشرهذا المقصد ، فتجد أنَّ بعضهم يقول :(إنَّ الأخوة الإنسانية العامة التي أوجب الإسلام بها التعارف عندما يختلف الناس أجناساً وقبائل يجب وصلها بالمودة ، والعمل على الإصلاح ومنع الفساد ولو اختلف الناس ديناً وأرضاً وجنساً) بل إنَّ بعضهم يقول:(... ومع ذلك التاريخ السابق فإننا نحب أن أيدينا وأن نفتح آذاننا وقلوبنا إلى كل دعوة تؤاخي بين الأديان وتقرب بينها ، وتنزع من قلوب أتباعها أسباب الشقاق).
والحقيقة أنَّ من تعلَّم العقيدة الربَّانيَّة حتَّى تجذَّرت في أعماق نفسه البشرية ، يعلم أنَّ هذا الكلام مغاير لنصوص الكتاب والسنَّة ، فأين يوجد في كتاب الله أو في سنَّة رسول الله القول بجواز مودَّة الكافر، وأين يوجد ذلك فيما سطَّره علماؤنا في كتبهم ، أو ما طرَّزوه في مسائلهم.
فاللَّه ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول في محكم التنزيل:( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق )[18]وهنا نهي صريح عن إلقاء المودة للكافرين ، ويقول تعالى كذلك:(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم )[19] قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذه الآية:(أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله ، فإن نفس الإيمان ينافي مودته كما ينفي أحد الضدين الآخر ، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده ، وهو موالاة أعداء الله )[20] ا.هـ .(40/182)
ولذلك فإن هذه الآية لم تخص الذين حاربونا فقط من دونهم بل خصت الكفار أجمعين' وفي هذا يقول الإمام ابن حجر العسقلاني عن هذه الآية : (البرُّ والصلة والإحسان لا يستلزم التوادد والتحابب المنهي عنه في قوله تعالى(لا تجد قوماً...) فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل )[21]
وقد يقول قائل إنَّ المرحلة تقتضي كهذه العبارات ، لتخفيف وطأة الكفَّار على المسلمين؟
ولكنَّنا نقول متسائلين كذلك : هل ورد مثل هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام حين كانوا مستضعفين في مكة ، وحين كان الكفار يسومونهم سوء العذاب ، رغم توفرالأسباب الداعية لذلك ، ومحبة كفار قريش لتلاقي دينهم مع دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يداهنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليداهنوه ؟
إنَّ ذلك لم يكن ألبتة ، مع أنَّ الكفار كانوا يودون أن يداهنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليداهنوه ، فقد قال تعالى عنهم:( ودوا لو تدهنوا فيدهنون )[22] قال أبو المظفر السمعاني - رحمه الله- ( وقوله( ودوا لو تدهن فيدهنون ) أي : تضعف في أمرك فيضعفون ، أو تلين لهم فيلينون )[23] ، وذكر القرطبي - رحمه الله - على هذه الآية عدداً من الأقوال ثم قال : ( قلت : كلها إن شاء الله صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الدهان : اللين والمصانعة ، وقيل: مجاملة العدو وممايلته ، وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول )[24]
ومع هذا كله فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستمع لكلامهم بل قال بصريح العبارة : ( لكم دينكم ولي دين )[25]، وكان- بأبي هو وأمي - مقتفياً لقوله تعالى : ( ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك .. )[26]
وأمَّا ما زعمه بعضهم بجوازأن يقول المسلم للنصراني (أخي) واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى:(إنَّما المؤمنون إخوة) ثمَّ ذكر أنَّ النصراني مؤمن من وجه ، والمسلم مؤمن بوجه آخر، فلا شكَّ أنَّ هذا خطأ ، لأنَّه سبحانه وتعالى جلَّى هذه القضية بكل وضوح فقال عن الكفار:(وماهم بمؤمنين) وقال كذلك عنهم:(فإن تابوا وأقاموا الصلاة فإخوانكم في الدين )[27] والذي يفهم من هذه الآية أنَّه لا أخوة سابقة بين دين الكفَّار ودين المسلمين إلا إذا دخلوا في الإسلام فهم إخواننا لهم مالنا وعليهم ما علينا ، ومن جميل ما قاله الشيخ/ محمد رشيد رضا - رحمه الله - حول هذه الآية:( وبهذه الأخوة يهدم كل ما كان بينكم وبينهم من عداوة ، وهو نص في أن أخوَّة الدين تثبت بهذين الركنين ، ولا تثبت بغيرهما من دونهما )[28]
بل إنَّه مخالف لقوله تعالى:( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برؤاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده )[29]، قال الإمام ابن تيمية:( فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان ، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان )[30].
ولله درُّ الشيخ الداعية/عبدالرحمن الدوسري ـ رحمه الله ـ حين حذر من هذه الدعاوى المنحرفة ، قائلا:ً(فانظر إلى إبراهيم إمام المسلمين ومن معه من الأنبياء كيف صرَّحوا بعداوة قومهم وبغضهم لأنَّ الله لا يبيح لهم موالاتهم أو مؤاخاتهم باسم القومية لأي هدف كان حتى يتحقق فيهم الإيمان بالله قولاً وعملاً واعتقاداً.
وأوجب الله علينا التأسي بهم ، ذلك أنَّ مؤاخاة الكفار بأي شكل من الأشكال ، ولأي غرض من الأغراض لا يكون أبداً إلا على حساب العقيدة والأخلاق بل لا يكون إلا بخفض كلمة الله واطِّراح حكمه ونبذ حدوده ورفض وحيه ، ومهما ادَّعوا من الأخوة الإنسانية والعمل لصالح الوطن ومقاومة أعدائه ونحو ذلك من التسهيلات المفرضة ، فإنَّ المصير المحتوم للمسلمين هو ما ذكرناه من تجميد رسالة الله وإقامة حكم مناقض لإعلاء كلمته والجهاد الصحيح في سبيله وتحكيم شريعته.
وما قيمة الإسلام إذا لم يكن هو الحاكم ظاهراً والمهيمن باطناً)[31]
والعجب أنَّه مع هذا التنازل من بعض المنتسبين للعلم ـ هداني الله وإياهم ـ وإطلاقهم لهذه الألفاظ على الكفَّار؛ لم تلق أذناً صاغية منهم ، ولا يزال هؤلاء العصريون يميعون قضايا الدين ، لإرضاء شرذمة الكفر، ويبقى الكفار يزدادون قتلاً وسفكاً واتهاماً للمسلمين بالتشدد تارة ، والتنطع تارة أخرى ، والإرهاب تارة أخرى ، وصدق الله :(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )[32]ومن المهم حينها أن نعلم بأنَّ الكفارلا يريدون من المسلمين إلا الانسلاخ عن الدين ، والكفر برب العالمين ، ولن يكسب المسلمون من هذا كله دنيا هنية ، ولا ديناً قوياً وأخشى أن نكون كما قيل :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا *** فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع.
2) ومما يهدف إليه العصريون من هذا المبدأ : مسخ تميز المسلم عن الكافر بعباداته وعاداته ، وظاهره وباطنه ، و(إزالة استعلاءه بإيمانه ، الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به في كل الأرض .. لكي تنبهم شخصيته وتتميع )[33].(40/183)
ولا شك أن هذا مفرح للكفار،لأنهم يسعون إلى تذويب المسلم ظاهراً وباطناً في مجتمعاتهم الآسنة، بل حتى لو كان في بلاده فلا يشعر بفوارق بينه وبين غيره من الكفار.
يقول المستشرق النمساوي المعاصر( فون جرونيباوم- Von G r unebaum) في كتاب له يسمى:( الإسلام الحديث - Mode r n Islam) : ( إن الحاجز الذي يحجز المسلم عن ( التغريب - Weste r nization) هو استعلاؤه بإيمانه ، وإنه لا بد من تحطيم ذلك الحاجز لكي تتم عملية التغريب )[34].
وجاء في المادة السادسة من الميثاق الإذاعي للدول العربية ما نصه:(الانفتاح على الحضارة الإنسانية أخذاً وعطاءً وتعميق روح الأخوة الإنسانية والتأكيد على أن الأمة العربية تمد يدها لكل شعوب الأرض دون ما نظر إلى اختلاف الدين أو العقيدة أو أسلوب الحياة للتعاون على توفير أسباب الحرية والتقدم والسلام القائم على العدل وذلك انطلاقاً من جوهر القيم العربية واستهداءً بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان )[35].
ويبين من هذا أن هذه الكلمة خطة ماسونية غربية تلقفها العصريون ونشروها بين المسلمين بدلاً عنهم ، ولا ريب أن هذا متابعة لهم في ما يهوونه ، وهو ما نهى الله عنه وحذر منه فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم ( ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )[36] ، وقال سبحانه :(ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)[37] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - ( ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ، ويُسرون به ، ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلكـ ثمَّ قال ـ ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه )[38].
3) ومما يهدفون إليه عدم التفكير بجهاد الكفار ، وإماتة الروح الجهادية في قلوب المسلمين ، بحجة أنهم إخوان لنا في الإنسانية فلا بد أن تحترم كرامتهم وإنسانيتهم وأن نكون متسامحين معهم وهذا في جهاد الطلب ، بل أنكر آخرون جهاد الدفع ولو قتل المسلم على أيدي الكفار، وذك لـ(يكون المسلم شهيد السلام والتآخي والتسامح أو أنه(شهيد الفكرة المتراحمة) وهذا الكلام لم ألقه جزافاً وممن نص عليه الطبيب الدكتور: خالص جلبي ، في كتابه:(سيكلوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي)[39] مقرراً لهذا القول العجيب، بهذه القزمة الفكرية ، التي لم تكن حتى عند الجاهليين العرب ، وحقاً هو التضليل الفكري ، والصوت النشاز في العالم الإسلامي ـ نسأل الله العافية والسلامة ـ وعش رجباً ترى عجباً:
الله أخر موتتي فتأخرت *** حتى رأيت من الزمان عجائباً.
إنها ثقافة الانهزام التي تسري في عروق هؤلاء العصريين باسم ثقافة الإخاء والسلام.
4) ومما يهدف إليه العصريون بهذا المصطلح (إلغاء المناداة بالرابطة الإسلامية أو تحييدها واستبدالها بالرابطة الأخوية الإنسانية ، إلى الوحدة الأخوية الدينية )[40]، ولذا فهم يدندنون كثيراً على هذه المصطلحات، ولا ريب أن هذا باطل وزور من القول ، فنحن وإن كنا أبناء لآدم وحواء ، فإن هذا لا ينفعنا عند الله ، والذي ينفعنا هو الدخول في دين الإسلام وعقد الأخوة المسلمين ، وقد امتن الله علينا بهذه الأخوة فقال : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً )[41]، وبعدئذ يتوحد الحب لدى المسلم فلا يحب إلا أخيه المسلم ولا يرتبط إلا به ، ولا يصاحب إلاَّ إياه ، وما أروع ما قاله الأستاذ : سيد قطب - رحمه الله - ( إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان ، إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل ، وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل .. في كل زمان وفي كل مكان .. وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله ، وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن ، و القرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ ، ترتفع فتصبح قيمة واحدة .. هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوم بها الجميع)[42]، ولو دقق في نداء نوح لربه ـ عز وجل- قائلاً:( رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين)[43]، فقد رد الله - عز وجل - عليه قاطعاً ما بينه وبين ابنه من أواصر القرابة ، قائلاً:( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح )[44]، وذلك أن نوحاً كان ابنه كافراً ، ففصم الله العلاقة بينه وبين أبيه، حتى يتميز حزب الرحمن من حزب الشيطان ، ويعلم أن آصرة التجمع هي على عقيدة الإسلام ،وأن رابطة الولاء لا تكون ولا تنبغي أن تكون إلا لمن اتبع هذا الدين ، وقام به خير قيام.(40/184)
نعم إن الإنسان مخلوق كريم، كما قال تعالى: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)[45]، وقال ( ولقد كرمنا بني آدم )[46]، لكنه لما حاد عن منهج الله ، قال تعالى عنه : ( ثم رددناه أسفل سافلين )[47]، ولم يستثن إلا من ثبت على شريعة الإسلام ، فقال: ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )[48]' فمن اتبع غير شريعة الله فليس ذا كرامة ،كما قال تعالى : ( ومن يهن الله فما له من مكرم )[49]، بل سمى الله المشرك نجساً ، فقال: ( إنما المشركون نجس )[50].
فمن جعل من المسلمين شعار( الإخاء الإنساني) هو الشعار المرفرف ، موالياً من والاه ، ومعادياً من عاداه ، فإنه قد ارتكب جرماً كبيراً في حق ربه ـ عزوجل ـ ، وتنكر لأمته وهويته، و جزى الله الشيخ : جاد الحق علي جاد الحق خيراً- شيخ الأزهر سابقاً - رحمه الله - حين قال : ( إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى ، وجناية عظمى ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غير منار الأرض)[51]، فكيف بمن يغير هوية أمة ، ويضلها عن طريق النجاة ؟ )[52]ا.هـ. فمن فعل ذلك فإنه قد شابه الجاهلية ، والتي تحب أن تنتسب للروابط القومية أو الإقليمية، لذا فقد أزال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرؤى الجاهلية والتي كانت عند الصحابة الكرام - رضي الله عنهم أجمعين - فقال يخاطبهم ( إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَة الجاهلية ، وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، وفاجر شقي ، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن )[53]، قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث : ( فأضاف العُبية والفخر إلى الجاهلية ، يذمها بذلك ، وذلك يقتضي ذمها بكونها مضافة إلى الجاهلية ، وذلك يقتضي ذم الأمور المضافة إلى الجاهلية )[54]، وقال في موضع آخر : ( وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي ، أحسن من الانتساب إلى غيره ، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث .. أبي عقبة - وكان مولى من أهل فارس - قال: ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، فضربت رجلاً من المشركين ' فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلي فقال: ( هلا قلت : خذها مني وأنا الغلام الأنصاري ؟ )[55] .
قال العلامة القاري - رحمه الله - : ( وكانت فارس في ذلك الزمان كفاراً ، فكره صلى الله عليه وسلم الانتساب إليهم وأمره بالانتساب إلى الأنصار ليكون منتسباً إلى أهل الإسلام)[56].
وقال العلامة الشنقيطي - رحمه الله - : ( ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية ، لا بروابط عصبية ، ولا بأواصر نسبية)[57] .
* تساؤل.... وجوابه.....
إذا اتفق على مراد هؤلاء العصريون في مبدأهم ( الإخاء الإنساني) فقد يتساءل البعض:لِم يستخدم هؤلاء هذه الفكرة محاولين أن يقنعوا الناس بها ؟
والجواب: يحسن التنبيه بأنَّه قد تكون منهم فئة وقعت شبهة في عقولهم ، أو لم يدركوا أبعاد هذه الفكرة فأطلقوها بحسن ظن ونية منهم - فربنا يغفر لهم - إلا أن الغالب على أكثرهم أنهم يلبسون الحق بالباطل ، ويتاجروا بهذه الكلمة ليروجوا باطلهم على أذهان الناس باعتبار أنها في أصلها صحيح ، ولبس الحق بالباطل ( قاسم مشترك ) بين أهل الأهواء والبدع ليروجوا باطلهم باسم الحق.
قال ابن القيم - رحمه الله - وقد كان يتحدث عن أصحاب الحيل الباطلة ( وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة ، بحسب تلك البدع .. فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق )[58].
وكذلك فإن مصطلح ( الإخاء الإنساني) مصطلح مجمل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً ، والعصرانيون يشتركون مع أهل البدع بأخذهم بالألفاظ المجملة والعمومية التي تسبب كثيراً من الإشكالات ، ليخلقوا الغبش والضبابية حول مفاهيمهم ، فهم لا يحبون التفصيل بل من طبعهم الإجمال في العبارات والنصوص لتبدوا رجراجة غامضة ، ولذا يوصي ابن القيم في نونيته بالابتعاد عن مثل هذا النسق، والذي مشى عليه كثير من أهل البدع ، قائلاً :
فعليك بالتفصيل والتبيين فا *** لإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا *** الأذهان والآراء كل زمان
و لينظر إلى الخوارج كيف أنهم تمسكوا بظاهر آية مجملة وهي في قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )[59]، فكفروا طائفة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من شهد له بالجنة كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه وأرضاه - بسبب أنهم أخذوا هذه الآية بمجملها و بنوا عليها باطلهم .
ولهذا فإن أفضل حل مع هذه الطوائف أن يستفصل عن مرادهم بهذه الألفاظ المجملة كلفظ (الحرية ) و(التجديد) وغيرها من الألفاظ والتي منها ( الأخوة الإنسانية ) فإن أطلقت هذه المصطلحات فليسأل صاحبها ماذا تريد بهذا المصطلح؟(40/185)
قال ابن تيمية ( وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال ، والقيل والقال ، وقد قيل ( أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء)[60].
هذا مع أن الأفضل في اعتقادي - والله أعلم - في مصطلح(الأخوة الإنسانية) تجنبه مطلقاً ، وعدم النطق به، ولو لم يكن من ذلك إلا عدم الوقوع في مشابهة الكفارمن الأنظمة الماسونية وغيرها لكفى ، وهذا من أعظم مقاصد القرآن فإنه يحث على تجنب مشابهة الكفار حتى في ألفاظهم والنهي عن النطق بها ، ولو كان ظاهرها صواباً ، لأن أهل الكفر والفساد يقصدون منها معان باطلة ، وتأويلات مغايرة لحقائق الوحيين ، فلفظة ( راعنا) عند اليهود كانوا يقولونها استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون منها معنىً قبيحاً ، فنهى الله المؤمنين عن قولها والتلفظ بها لئلا يتشبه المسلمون بالكفار ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا )[61]، قال قتادة وغيره ( كانت اليهود تقوله استهزاءً ، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم )[62] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله معلقاً - ( فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها ، لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار ، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم )[63] .
* وفي ختام المقال :
فإني أوصي من كان على هذا المنهج العصراني أن يتقوا الله في أنفسهم وأن يستشعروا ( أمانة الكلمة ) وأن العبد ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )[64] وليت هؤلاء العصريون وكما أنهم يحاولون استرضاء الكفار بالربط بينهم وبين المسلمين بحلقة التآخي؛ ليتهم يوجهوا أنظارهم إلى إخوانهم المسلمين ، ويحلوا مشكلات التفرق والخصومة بينهم بمنهج السلف الصالح ، ويوثقوا بينهم وشيجة الإخاء ، وآصرة الولاء ، ورابطة التجمع على:(لا إله إلا الله محمد رسول الله).
إلاَّ أن العكس هو الواقع فالمتابع لحركة أصحاب المدرسة العصرية في التأليف والندوات التي يقيمونها يلحظ أن أكثر سهامهم موجهة تجاه المنهج السلفي ، ولمزه تارة بـ(التنطع ) و( التشدد) أو أن أصحابه(جامدون - نصوصيون - حرفيون - كهفيون..)[65] إلى غير ذلك من الألفاظ ، وبالمقابل يسعون لإرضاء الكفار ومداهنتهم والتقارب معهم ، مع أن الكفار لم يأبهوا بكلامهم ولا رضوا عن فعالهم ، ويصدق فيهم قول الشاعر :
باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت *** عنه ولا أرضى عنه العدا
فمن يقارن حال هؤلاء العصريين مع الكفار ومع من تمسك بالسنة الغراء، فسيجد ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين.
وقد أحسن الدكتور: عدنان النحوي ، حين صوَّر حال هؤلاء قائلاً:( وأصبح من المسلمين من يأنس للتحالف مع أعداء الله ، ويأنف من التعاون مع المسلم ، ودوى شعار( تقارب الأديان) وغاب شعار ( المسلم أخو المسلم )[66].
ولا يعني ذلك أن لا يدعو المسلم الكفار لدين الله - عز وجل - وتحبيبهم إليه ، وتبليغهم رسالة الله ، ومحبة الخير لهم ، والعدل معهم ، وعدم ظلمهم ، وهذا مع الكفار المحاربين ، فما البال بغير المحارب منهم فإن الله أمرنا بالبر معهم والإقساط إليهم ، وإعطائهم حقوقهم ، وعدم الغدر بهم، بقوله تعالى:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين )[67] .
ذلك هو منهج الإسلام في معاملة الكفار ، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إرخاء ، فهو دين وسط ، كما أننا أمة الوسط ، ونعامل جميع الخلق - مسلمهم وكافرهم - بهذه الوسطية الحقة التي أمرنا الله - عز وجل - بها قائلاً : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )[68] .
وإنَّ أعظم ما يمزق الصف الإسلامي من داخله ، ويشرخ في وحدته ، حين يتكلم من رأى أمة الإسلام في ركب المتخلفين ، وذيل الأمم ، فأصبح يلفق بين الإسلام وبين ما يسمى بـ(الحضارة الغربية ) ويقدم للعالم أجمع إسلاماً(مقصَّصَاً) قد تخلى بنزعة غربية ، ولهجة استرضائية للغرب الكافر، بسبب ضغط الواقع ، معبرين عنه بالإسلام المستنير!!
تلك ثقافة الضرار، ومنهجية التلبيس التي صيرت عالمنا الإسلامي المتزلف الأول للكفار، والتي أرى أن يجند دعاة الإسلام وعلمائه للرد عليها ، وكشف شبهها ، علَّ الله أن يهدي أصحابها ومن تأثر بفكرهم ويردهم إلى سواء السبيل .
ورحم الله علماءنا حين قالوا:( رحم الله امرءاً عرف زمانه فاستقامت طريقته ).
فهل من مستمسك بالإسلام والسنة في القرن الخامس عشر، مفارقاً كل شر وبدعة؟!!
أسأله تعالى أن نكون منهم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ملاحظة: هذه الدراسة نشرت في موقع المسلم.
--------------------------------------------------------(40/186)
1) وقد وصف العلامة الراحل - محمود شاكر - رحمه الله هذه المصطلحات بأنها ( ألفاظ لها رنين وفتنة ، ولكنها مليئة بكل وهم وإيهام ، وزهو فارغ مميت فاتك ، توغل بنا في طريق المهالك ، وتستنزل العقل حتى يرتطم في ردغة الخبال ) انظر كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا )، صفحة ( 82 )
2) سورة إبراهيم آية ( 52) .
3 ) بل هم المستخربين ، فلم يدخلوا بلدة أو قطراً مسلماً إلا وخربوه دينياً وحضارياً فحاشاهم الاستعمار.
4) جذور البلاء، للأستاذ عبد الله التل، صفحة ( 265- 274 )، المكتب الإسلامي.
5 ) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة - إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي ( 1 / 518 ) .
6) سورة الحجرات آية(10)
7) سورة التوبة (11)
8) فتح القدير للشوكاني(2/222)
9) رواه البخاري، في كتاب المظالم (4) باب (3)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب (45) باب تحريم الظلم حديث رقم ( 2580 ) كلاهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما.
10) سورة الحشر، آية (11).
11) زاد المسير ، لابن الجوزي ( 8/ 217 ) .
12) سورة الشعراء، آية ( 105 - 106 ).
13) فتح القدير ( 3/ 270 ).
14) سورة طه ، آية ( 42 ) .
15) سورة الأعراف، آية (65).
16) سورة الأعراف، آية ( 26).
17) قال ابن رجب ( ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملاً ويظهر أنه قصد به الخير ، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض سيء ، فيتم له ذلك ، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ، ويفرح بمكره وخداعه ) وصدق رحمه الله - جامع العلوم والحكم/صـ378 .
18) سورة الممتحنة (1)
19) سورة المجادلة (22)
20) مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/17)
21) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (5/233)
22) سورة القلم ، آية (9) .
23) تفسير السمعاني (6/20 ) .
24) تفسير القرطبي (18 / 230 ) .
25) سورة الكافرون، آية (6).
26) سورة المائدة ، آية (49) .
27) سورة التوبة ، آية (12).
28) تفسير المنار ، لرشيد رضا (10/187).
29) سورة الممتحنة، آية (1).
30) مجموع الفتاوى (28/228) .
31) مقطع من خاتمة للشيخ الدوسري على كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد للإمام : محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ ضمن كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين للشيخ / عبدالله العبدلي الغامدي ـ رحمه الله ـ صـ101)
32) سورة البقرة ، آية (120).
33) مقطع من كلام الأستاذ و المفكر الإسلامي : محمد قطب - حفظه الله - من كتابه ( مذاهب فكرية معاصرة ) صفحة (593).
34) مذاهب فكرية معاصرة، صفحة ( 593).
35) المنظمات العربية المتخصصة في نطاق جامعة الدول العربية لغسان يوسف ، صفحة 0 430 - 431 ) ، بواسطة كتاب الشيخ : علي العلياني - حفظه الله- ( أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية) ، صفحة ( 430 - 431)
36) سورة المائدة، آية (49).
37) سورة البقرة، آية ( 120).
38) اقتضاء الصراط المستقيم (1/98-99).
39) سيكلوجية العنف ، صفحة(52).
40 ) أنشد بعض المنتسبين إلى الإسلام في إحدى المؤتمرات :
الشيخ والقسيس قسيسان *** وإن تشأ فقل هما شيخان !!
41 ) سورة آل عمران، آية (103).
42 ) في ظلال القرآن (5/2607).
43 ) سورة هود ، آية(47).
44 ) سورة هود ، آية (48).
45 ) سورة التين ، آية ( 4).
46 ) سورة الإسراء ، آية( 70).
47 ) سورة التين ، آية ( 5).
48 ) سورة التين ، آية ( 6).
49 ) سورة الحج ، آية (18).
50 ) سورة التوبة ، آية (28).
51 ) رواه مسلم في كتاب الأضاحي، حديث رقم (1978).
52) من كتاب: هويتنا أو الهاوية ، للشيخ : محمد المقدم - حفظه الله - صفحة ( 51).
53) رواه أبو داود في سننه ، كتاب الأدب ، باب التفاخر بالأنساب (5/339- 340) برقم(5116)، ورواه الترمذي برقم (3955) وقال حسن غريب ، وصححه ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/247).
54 ) اقتضاء الصراط المستقيم (1/247)، والجعل والجعلان : هي الخنافس التي تأكل الغائط وتخزنه .
55) رواه أبو داود في سننه ، كتاب الأدب ، باب في العصبية (5/343) برقم (5123).
56) عون المعبود : لشمس الحق آبادي ن مجلد (7) جزء(14) صفحة(21).
57 ) أضواء البيان ، للشنقيطي : (2/29).
58 ) إغاثة اللهفان ، لابن القيم (1/110).
59 ) سورة المائدة ، آية (44).
60 ) منهاج السنة النبوية ، لابن تيمية ( 2/217).
61 ) سورة البقرة ، آية(104).
62 ) تفسير الطبري ( 1/374).
63 ) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية (1/175).
64 ) سورة ق ، آية (18).(40/187)
65 ) من سمات أصحاب التوجُّهات العصرانية : احتقار المتَّبعين للمنهج السلفي(منهج أهل السنَّة والجماعة) ، والنظر إليهم نظرة دونية ، ولمزهم بالسطحية والجمود والتطرف ، وأمَّا هم ـ العصريين ـ فهم أهل حضارة وفكر راقي ، ومنفتحون ومستنيرون إلى غيرها من الألفاظ البرَّاقة التي يخدعون بها النَّاس ، ومن خير ما قرأته ووجدته منطبقاً عليهم مقاساً بمقاس ، ما ذكره الشيخ المحدِّث / أحمد شاكر ـ تغمده الله برحمته ـ عن هؤلاء الذين يدَّعون الموضوعيَّة في الكلام والنظرة المنصفة لآثار الكفَّار وتقاليدهم ، حيث قال:(أو من رجلٍ ممَّن ابتليت بهم الأمَّة المصرية في هذا العصر ممن يسميهم أخونا النابغة الأديب الكبير(كامل كيلاني) المجدِّدينات هكذا ـ واللَّه ـ سمَّاهم هذا الاسم العجيب ، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية أجاب بجواب أعجب وأبدع:(هذا جمع مخنث سالم) فأقسم له سائله أنَّ اللغة العربية في أشدِّ الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمن!!) انظر/ جامع الترمذي(1/71ـ72)بتحقيق: الشيخ أحمد شاكر.
66 ) الانحراف ، للدكتور : عدنان النحوي ، صـ (51).
67 ) سورة الممتحنة ، آية ( 8).
68 ) سورة البقرة ، آية ( 143).
============(40/188)
(40/189)
الأبعاد الخفية لاختيار عواصم الثقافة العربية
( 1 - 3 )
الحمد لله جل شانه وتقدست أسماؤه ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وبعد ..
فمن الملاحظ انه في الآونة الأخيرة ، قد أحدثت قضايا و أمور جعلت الحليم يقف أمامها محتارا عاجزا ، لا يدري ماهيتها ، وما هدفها .. وما النتاج الذي تطمح إليه ..
فتجده إما أن ينساق مع التيار ، وإما ان يقف موقف المشاهد ذا الأيد المكتوفة .. أو أن يمارس مهنة التصفيق والتطبيل ، ويطبق قول القائل : وهل أنا إلا من غزية ...
ومن هذا المنطلق أردت التوضيح والبيان لقضية هامة جداً ، ستعرف حقيقتها - أخي الكريم - من خلال قراءتك (( المتأنية )) للأسطر القادمة ، وأرجو أن تعذرني على الإطالة والاستطراد فالقضية تستحق ذلك ، وخوفا من ان يدب الملل إلى مقلتيك وفكرك رأيت أن أعرض الموضوع في ثلاث حلقات ..
الحلقة الأولى : نبذة عامة .
الحلقة الثانية : التقرير والحقائق .
الحلقة الثالثة : ماذا نريد ؟
والله أسأل التوفيق ، فأقول وبعون الله :
منذ سنوات قليلة, و على وجه التحديد في العام الهجري 1407هـ, الموافق 1986م صدر عن ( المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم ) التابعة لجامعة الدول العربية ما أسمته ( الخطة الشاملة للثقافة العربية ) ..
و هذه الخطة قد أتت بناء على توصيات المؤتمر الثاني للوزراء العرب المسؤولين عن ( الشؤون الثقافية ) و المنعقد في العاصمة الليبية ( طرابلس ) عام 1979 تحت شعار ( نحو استراتيجية للثقافة العربية ) وقد تكونت لجنة متخصصة لإنجاز هذا العمل ..اختارها الوزراء العرب بأنفسهم ، وكان في مقدمتهم :
الدكتور احمد كمال أبو المجد المستشار القانوني لأمير الكويت
والدكتور شاكر مصطفى الوزير السوري السابق
والطيب صالح الروائي السوداني ويمثل المستشار الإقليمي للاتصال في الدول العربية واليونسكو
والدكتور عبدالعزيز المقالح الشاعر اليمني ومدير جامعة صنعاء
وعبدالكريم غلاب الكاتب والوزير المنتدب بالمغرب .
وقد قامت اللجنة المذكورة و المنتقاة من السلطات العربية بتوجيه الدعوة إلى أكثر من ستمائة باحث و مفكر عربي لكي يشاركوا في وضع ( استراتيجية الثقافة العربية ).. حسبك في شم ريح التآمر ألا يكون بينهم عالم مسلم واحد تتفضل عليه ( لجنة السلطات العربية ) لصياغة أو للمشاركة في صياغة مستقبل الثقافة العربية..
ناهيك عن ملاحظة المنحى الفكري المعروف لمن تقدم ذكره من أعضاء (اللجنة ) المنتقاة من السلطات العربية لأنه - في الحقيقة - لم يثر انتباهنا ألا يكون فيها عالم مسلم واحد بل (( إن العرف الثقافي الدارج في الحياة العربية المعاصرة جعل عكس ذلك هو المثير للانتباه بمعنى أنه إذا حدث فلتة أو غفلة أن شارك إسلامي باحث أو عالم في مؤتمرات أو لجان الثقافة العربية فإن الأمر يثير الغرابة و التفكير و الشك و الارتياب في هذا الحدث الفريد ))..
وحسبك - أيضا - لإدراك ريح التآمر على عقل الأمة و مستقبل الثقافة فيها أن يكون موضوع ( الفكر الإسلامي ) الذي مثل محورا أساسياً لنقاشات اللجان الموقرة و المنتقاة من السلطات العربية أن يكون الممثل فيه و المعبر عنه و المتحدث باسمه اثنان :
أولهما الدكتور محمد أركون الباحث الجزائري ..و الذي يتبوأ كرسي الأستاذية في السوربون الفرنسية و له كتاباته المشهورة في الطعن في القرآن الكريم و الدعوة لإخضاعه للدراسة الألسنية و نقد آياته وفق المناهج الإيبستمولوجيه و الأنثروبولوجيه .
و أما الثاني فهو الدكتور ( حسن حنفي ) تلميذ فلسفة ( باروخ اسبينوزا ) و الذي اكتشف - بعد دراسات معمقة - ان القرآن الكريم كان علمانيا قبل أن يحوله المسلمون إلى الوجهة الدينية ، والذي يدعو الان إلى إحياء فكرة (( وحدة الوجود )) حيث لاإله - سبحانه الله - خارج الانسان ، ويصف الإحياء الإسلامي الجديد بانه (( ردة حضارية )) !
هذان الباحثان - دون مئات علماء الإسلام ومفكريه على امتداد العالم العربي الكبير - هما من وقع عليها اختيار (( لجنة السلطة )) التي مثلها كمال ابو المجد والمقالح والطيب صالح وغلاب ومن تقدم ذكره ، وهم ممن اعرف ، ويعرف الفطن المسلم .
وبعد فراغ اللجنة من جهودها التي استمرت حوالي ثمان سنين ، كان الغش والضلال - ولا أقول غير ذلك - قد اعماها فيهم عن أدراك الحقائق ، صاغت اللجنة تقريرها النهائي ، حيث رفعته إلى قيادتها (( الوزراء العرب المسؤولين عن الشؤون الثقافية )) الذي أصدر قراره بتاريخ 26 نوفمبر 1985 الموافق 16 ربيع الأول 1406 .. والذي جاء فيه :
وهو ما سنتعرض إليه في المقال القادم إن شاء الله .
( 2 - 3 )
تحدثنا في المقال السابق عن نبذة عامة ، ومن ثم وقفنا عند القرارات التي تبنتها (( المنظمة العربية للثقافة والعلوم )) وهي :
أ - الموافقة على هذه الخطة باعتبارها دراسة أساسية و مبدئية شاملة يسترشد بها في العمل الثقافي على المستوين القومي و القطري في المدى القريب و المتوسط و البعيد.(40/190)
ب - دعوة المدير العام للمنظمة إلى اتخاذ الوسائل الكفيلة بنشر هذه الخطة و تعميمها و التوعية بها على أوسع نطاق ممكن و على المستويات القومية و القطرية حتى يتسنى دراستها.
ج - دعوة الدول إلى الأخذ بهذه الخطة في خططها للتنمية الثقافية وفقاً لإمكاناتها.
د - دعوة المنظمة إلى متابعة تقديم التصورات و الإجراءات المعينة على تنفيذ هذه الخطة على المستويين القطري و القومي إلى اللجنة الدائمة للثقافة العربية ( أبو المجد و غلاب و رفاقهم ) و إلى المؤتمر في الدورات القادمة .
هـ - اعتبار هذه الوثيقة و البرامج التي تنبثق منها إسهاماً من الدول العربية و المنظمة في العقد العالمي لتنمية الثقافة الذي سيبدأ سنة 1988 ، على ان تعين في بداية كل سنة ميلادية عاصمة عربية تحمل لقب : عاصمة الثقافة العربية .
ثم اختتم التقرير قراراته بالإنعام على اللجنة و رئيس اللجنة تقديراً لجهودهم المخلصة في خدمة مشروعات السلطات العربية! و قد أعقب ذلك صدور قرار ( المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم ) برقم م . ع \ د . ع 8 ( 1985 ) ق 21 الذي جاءت بنوده مطابقة حرفياً مع قرار السادة الوزراء و قد اختتم المؤتمر قراره بتوجيه الشكر و الامتنان إلى السادة أصحاب الإنعام لما قدموه من ( معونة و ضيافة كريمة ) .
هذا هو المدخل الذي نحب أن يطلع عليه المسلم الغيور قبل أن يقرأ و يتابع معنا طروحات ( الاستراتيجية العربية الثقافية ) و هو مدخل أحببنا من تقديمه إلى إلقاء الأضواء حول عدد من الحقائق لا تقبل إنكاراً أو جحوداً :
الحقيقة الأولى : أن المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم لا تمثل الشعوب العربية و لا تبحث في هموم المواطن العربي و إنما هي أداة لممارسة ( القهر الفكري ) ( و غسيل المخ ) لخدمة بعض الأنظمة العربية المسلم و من أبرز ما يدلنا على ذلك هذه الفضيحة التي تمت في ندوة ( الفكر الإسلامي ) .
الحقيقة الثانية: أن هناك تنظيماً سرياً فكرياً ينتهج أساليب ( الماسونية ) في فرض وجوده على المستويات الثقافية العربية العليا بما يضمن عدم نفاذ ( تيارات فكرية ثقافية ) بعينها إلى مجال الشريحة السيادية في التوجيه الثقافي و يمكن ملاحظة هذه الحقيقة من خلال متابعة المؤتمرات أو ( المؤامرات ) التي تنظمها ( اليسكو ) و المؤتمرات المشابهة و التي تعالج ( التطور الحضاري في الوطن العربي ) و التي بدأ عقدها في الكويت عام 1974 - ولنا حديث خاص حوله وعن مسبباته في مقال قادم إن شاء الله - و تتابعت في اليمن و القاهرة و تونس و عمان و غيرها من مدائن العرب فالوجوه هي الوجوه و الأفكار هي الأفكار و النتائج هي النتائج و المنفيون هم المنفيون و المغضوب عليهم لا يتغيرون! .
الحقيقة الثالثة : أن هناك دوائر ثقافية عديدة تدرك حقيقة هذا ( التآمر ) في المنظمة العربية ولكن - لسبب ما - لا تتم المواجهة الصريحة لكشف المخبوء و من أوضح ما يدلنا على ذلك قيام المنظمة الإسلامية للتربية و الثقافة و العلوم بتكوين لجان خاصة لوضع مشروع خاص لمستقبل الثقافة العربية الإسلامية رداً على مؤامرة ( المنظمة العربية ) و قد حاول مدير ( اليسكو ) احتواء هذا المؤتمر الثاني أو بمعنى أوضح احتواء الفضيحة بيد أن تلك قصة أخرى ربما كان مكانها في موقف آخر في مواجهة ( الهدامين ) .
تلك هي بعض من الحقائق الغير منكرة ، وفي مقالنا القادم سنسلط الضوء على المشروع التنظيمي ، ماذا حقق ؟ وماذا نريد نحن
( 3 - 3 )
استعرضنا في مجمل حديثنا السابق المخطط المقدم من قبل ( المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ) .. وذكرنا بعض الحقائق الهامة حولها ، ومن ثم سنعرج في مقالنا هذا الأخير إلى قضية : ماذا نريد ؟
فأقول وبعون الله :
من خلال ما استعرضناه في المقالين السابقين ، نجد ان هناك محاولات جادة من قبل اللجنة المنبثقة والمؤصلة للمنظمة لإعطاء المظلة الرسمية لحفنة من رواد الإفساد ، ودعاة ( التمرد على عبادة التراث والأسلاف ) من أجل أن يمارسوا أنشطتهم بكل حرية ، وبعيدا عن أي قيود تفرض عليهم من خلال ( السلطات الإسلامية ) وأصحاب ( الفكر الجمودي المتحجر ) ..
جاء في التقرير (( إن التفكير في الغد يحيلنا مباشرة إلى التفكير بالأمس و ما من قضية من قضايا الفكر العربي المعاصر إلا و كان الماضي حاضراً فيها بوصفة الطرف المنافس. )) فيا ترى ما المقصود
(( بالماضي )) ولماذا ينعت هنا (( بالطرف المنافس )) ؟؟
وفعلا بدأ النشاط يتمثل بطرائق شتى ومتعددة فعلى سبيل المثال لا الحصر :
فمنها :
تنفيذ التوصية (( توصية عبدالعزيز مقالح وباقي الرفاق )) باتخاذ عاصمة ثقافية (( عربية )) مع بداية كل سنة (( ميلادية )) , والتي علم ما يكتنفها من حقائق خفية ذكرت في مقال سابق ، والتي من أبرزها إعطاء الصبغة الرسمية لتحركات الحداثيين والعلمانيين ، وكذلك إعطاء المظلة المشروعة لبرامجهم .
ومنها أيضا :(40/191)
القيام باعتماد فكرة ملحق (( كتاب في جريدة )) وهو ملحق شهري تتبناه (( اليونسكو )).. والتي كانوا يدعمون وبقوة مرشحهم (( غازي )) لنيل منصب رئاستها .
وفكرته تقوم على إلحاق ملف لعمل روائي أو شعري أو نثري شهريا ، بشكل مجاني .. مع أحد الصحف التي تتبنى الفكر الحداثي او العلماني وتدعو إليه ..
ويستمر عرضها من عام 1998 إلى عام 2002 .
ولعلك - أخي القارئ - تتأمل معي في الأسماء المشكلة للجنة (( الهيئة الاستشارية )) لهذه المشروع :
أدونيس - جابر عصفور - عبدالعزيز المقالح - عبدالله الغذامي - محمود درويش ...
وإلى وقت كتابة مقالي هذا صدر من هذه السلسلة (( المجانية )) 32 عدد ، من ابرز المؤلفين الذين عرض نتاجهم أو سيعرض :
نجيب محفوظ ، أمل دنقل ، الطيب صالح ، نزار قباني ، إلياس الخوري ، صلاح عبدالصبور ، عبدالمجيد بن جلون ، طه حسين ، عبدالوهاب البياتي ، عبدالرحمن منيف ، جبران خليل جبران ، أدونيس ، نازك الملائكة ، محمود درويش ، محمد زفزاف ...
أما الصحف التي تستضيف هذا الملحق :
المغرب : صحيفة الاتحاد ((الاشتراكي )) ، السعودية : الرياض ،اليمن : الثورة !! ، لبنان : السفير ... وغيرها من صحف البلاد العربية .
إذن .. هل أنا بحاجة إلى مزيد من التعليق ، أم ان ما عرضته يكفيني المؤونة ؟
ومن مشاريعهم أيضا :
محاولة الزج بمفهوم جديد وهو مفهوم (( ما بعد الحداثة )) .. وهي قضية لجأ إليها (( حداثيوا الخليج )) وذلك بعد فضح مخططهم الحداثي مع بداية التسعينيات ، فبحثوا عن البديل لكي يقحموه ، وحانت لهم الفرصة التي يعبرون من خلالها عن هذا المفهوم (( من تحت المظلة الرسمية )) ، وبتحليلي لااتوقع
ان اختيارهم كان عشوائيا عندما اختاروا في الأعوام الثلاثة الأخيرة ثلاث عواصم للثقافة العربية تنتمي جميعها للإقليم الخليجي وهي : الشارقة والرياض والكويت ..
وهي محاولة منهم لبدء مشروع جديد يسعون من خلاله ربط هذه القضية بالعولمة ، والنهضة العمرانية التي تصاحب بعض العواصم .. كتعبير منهم ان القضية شمولية لا تشمل جانب واحد فحسب ..
وأتمنى في نهاية هذه السلسلة اني كشفت بعضا من الغموض الذي يكتنف هذه القضية ..
والله المستعان .
المراجع :
الغارة على التراث الإسلامي : أ. جمال سلطان .
دورية قراءات .
كتاب في جريدة .
أبو عبدالعزيز الظفيري
================(40/192)
(40/193)
رجال اختلف فيهم الرأي\\ من أرسطو إلى لويس عوض \\
أنور الجندي
(1)
لطفي السيد
وأكذوبة أستاذ الجيل
خلفت لنا الفترة مسلمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سحب كثيرة من سحب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل لطفي السيد فإلى أى مدى كان هذا اللقب صحيحاً بالنبة لمنشيء حزب الأمة مترجم أرسطو والخصم الخصيم للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعاً.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعاناً شديداً وخدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملا من عوامل القداسة إلى سنيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكما جازماً على شخصية ما يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقى الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل.
أولا: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواء الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.
ثانيا: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار وويلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغيره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية المتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية "مقالاته في الجريدة خلال شهري إبرايل ومايو 1913 ) وقد رد عليه عبد الرحمن البرقوقي مصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذه الاتجاه.
ثالثا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم فى طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911 وكتب في هذه المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع : لا سياسة العواطف" مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى إلتزام الحياد المطلق فى هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر فى سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاطفة بل وطعنا جارحا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته .
رابعا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحتلة ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الاراضى المصرية فيكون لها الحق فى التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطانى الذى أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطراً على سياسة البلاد وساحقاً لكرامتها ومغتصباً لثروتها وحياتها يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه.
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر وقال: لو بقي اللورد كرومر عاماً واحداً فى منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته" نشر هذه الجريدة فى نفس اليوم الذى ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا، وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باقى إلى الأبد.
سادسا: رسم لطفي السيد خلال عمله فىالجريدية (1908 - 19149 منهجا للحياة الاجتماعية والسياسية والتوبوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبى والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة ماكرة خادعة هى "مصر للمصريين" وقاوم بهذا الفكر ذلك الاتجاه الأصيل الذى كان يحمل لواءه دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامى النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو ( التى ترجمت من الفرنسية ) (السياسة الكون والفساد. الأخلاق) ، وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مرتجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة فى دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معصري هذه الفترة.
(الاستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق لا يزال حيا يرزق).
ثامنا: بالرغم من دعوة لطفى السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان الحريات العامة يقول الاستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في حياة لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذى كتب مطالبا بالدستور مدافعا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية. كيف يشترك فى وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.(40/194)
تاسعاً: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان "الذين وصفهم بأنهم" أصحاب المصالح الحقيقية وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته لشئ.
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القاريء العربى المثقف دون أن نقدم حكما على لطفى السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذه الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التى حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ فى مصر جيلا جديداً يسير فى ركب الاستعمار معجبا به مقدراً له ومحبا ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذى يعمل بالتعاون مع الاستعمار ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعا من أبناء الطبقة التي أنشأها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر فى المستقبل القريب .. وكان حريصا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب فى نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم وسلمها لهذا الجيل الذى كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وقد تشكل حرب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسن عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبدالرحيم الدمرداش والطرزى وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها إلى كرومر الذى يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في 21 سبتمبر 1907 برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التى جمعوا لاه فى ذلك الوقت مبلغ 30 ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة فى 9 مارس 1907 تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة الوطنية خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهايج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلى: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها فى مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.
وقد أعلنت بريطانيا تحديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والدعة في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يهمهم بأنهم خياليون مغالون فى الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون فىيإطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التعبية فى التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع للقانون الوضعي ولمفاهيم العرب فى التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تماما بين مصر وبين جيرانها عرباً ومسلمين وبين الفكر والثقافة فى مصر وبين الفكرالإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد فى دعوته هذه ينتقض أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي فى التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذى كان فى هذه الفترة خصيصا الدين والأخلاق.(40/195)
يقول ألبرت حوراني: " إن الانطباع القوي الذى نتركه قراءة مقالات لطفي السيد التى نشرها في الجريدة "وهي كل ثروته للفكرية" هو الاندهاش من الدور الصغير الذى لعبه الإسلام فى تفكير رجل تتلمذ على "محمد عبده" لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقى للمجتمع. وفى هذا يقول لست مما يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكنى أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ تتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا نرى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول : وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التى تؤدى إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله، بقدر ما تدور حول الشروط التى تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن للمفاهيم التى أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم الفكر الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولا: تفكير كونت ، ورينان ، وبلى ، وسبنسر ، ودور كايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيا: تفكير جوستاف لوبرن الذي يقول بفكره الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابتة بثبوت بنيته الجسدية.
ويقول الحورانى: إن لطفي السيد يحدد فكرة الأئمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الأحرار على عناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون فى الأصل واللغة والدين.
سعد زغلول
دعوة صريحة إلى الكتاب المؤرخين:
انشروا مذكرات سعد زغلول المخطوطة لتشكفوا حقيقة هذه الشخصية الخادعة ولتضعوه فى مكانه الصحيح من تاريخ مصر.
إن الحقائق تكشف عن دور سعد زغلول فى:
أولا: تجميد اللغة العربية وإتاحة الفرصة للغة الانجليزية بوزارة المعارف.
ثانيا:- بعث قانون كرومر للمطبوعات لمحاكمة الصحفيين والكتاب الوطنيين.
ثالثا:- التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر العربية.
سعد زغلول
كان من أهم الأسئلة فى ندوة الاعتصام ما قدمه عدد من الشباب استفساراً عن صحة ما نشر عن تاريخ سعد زغلول من فصول في إحدى الصحف اليومية ومدى تطابق هذا مع واقع التاريخ ومن خلال نظرة إسلامية صحيحة.
ولا ريب أن شخصية سعد زغلول هي واحدة من أكثر الشخصيات العمل الوطنى فى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه لا يمكن دراستها، ألا يفهم الاطار السياسى الذي يدأ منذ أن احتلت بريطانيا مصر وواجهت الحركة الوطنية التى قاومت النفوذ الاجنبي بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد وعدد من المجاهدين الذين عملت القوة البريطانية على تصفيتهم وإقصائهم وتقديم جيل جديد من أصحاب الولاء للنفوذ البريطاني وفي مقدمة هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي.
هذه المرحلة السابقة لظهور هيئة الوفد المصري التي قادها سعد زغلول لها أهميتها في الكشف عن الدور الذي قام به سعد زغلول في معارضة الحركة الوطنية وكبح جماحها، وتقديم رجالها للمحاكمة كما فعل فى محاكمة فريد وهو وكبير الحقانية، وكذلك دوره في تجميد اللغة العربية وهو وزير المعارف واتاحة الفرصة للغة الانجليزية، وكذلك دوره فى إعادة بعث قانون المطبوعات القديم الذي كان كرومر قد أجاره ثم أوقفه وذلك لمحاكمة الكتاب والصحفيين الوطنيين بأقصي العقوبات، هذه الصفحة لسعد زغلول يجب أن تدرس قبل أن يقدم على المسرح كزعيم وطني بعد الحرب العالمية الأولى.
ولقد اختلفت حول سعد زغلول كتابات المؤرخين والباحثين، فوضعه كتاب الوفد وأصحاب الولاء لحزبه موضع لقداسة "وفى مقدمة هؤلاء الأستاذ العقاد". وشف عن حقيقته مؤرخو الحزب الوطني " وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن الرافعي"، وجاءت كتابات كثيرة بعد ذلك فتضح سعد فى حجمه الصحيح، وكان فى مقدمة ذلك تلك الدعوة الصريحة الموجهة إلى المؤرخين والكتاب والباحثين أن ينشروا مذكرات سعد زغلول التى كتبها بخط يده فإنها هي وحدها القادرة على أن تقدم للناس بغير ولاء ولا خصومة حقائق هذه الشخصية ودورها وعملها وحقيقتها من خلال كتابات صاحب المذكرات نفسه، تلك التي كتبها بكل حريته وإرادته خلال فترة تزيد على ثلاثين عاما من أكتوبر 1897 إلى 1926، وتضم مراحل عضوية الجمعية التشريعية وتولية الوزارة وفترة المنفي وفترة رئاسة الوزارة وتضم ثلاثاً وخمسين كراسة فقد كان يسجل الأحداث يوما بعد يوم عقب وقوعها مباشرة.(40/196)
تكشف هذه المذكرات عن أشياء كثيرة:
أولا: علاقة سعد بالإنجليز:
يقول عن اللورد كرومر: كان يجلس معى الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أنور منها فى حياتي السياسية (مذكرات سعد زغلول كراس 28، ص1516)ن والمعروف أن كرومر في تقاريره السنوية كان حريصاً على أن يذكر أنه يعد جيلا جديداً من الشباب المصرى المتفرنج الذى يعجب بالغرب ويحرص على التفاهم مع الاستعمار البريطاني وقبول العمل معهم.
ومن هنا كانت صلة كروم بسعد زغلول عن طريق صهره "مصطفى فهمى" الذى كان أول رئيس وزراء بعد الاحتلال، والذى قضى في الحكم ثلاثة عشر عاماً، وكان أثير الإنجليز محبوباً عندهم، وقد أصهر إليه سعد زغلول فأعد نفسه ليكون أول وزير مصري. ولعل من الحقائق العجيبة أن اللورد كرومر عام 1907م أعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلا القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال، وكان فى هذا العام قد ألف حزب الأمة، وأصبح لطفي السيد هو حامل لواء "الجريدة" وسعد ناظر المعارف ، وقد سخر كرومر فى خطبة الوداع الذى أقامها له رجال حزب الأمة من أولياء النفوذ الأجنبي من المصريين جميعاً، ولم يمدح فى خطابه إلا رجلا واحداً، هو سعد زغلول.
ومن هنا نجد سعد زغلول يكتب فى مذكراته أثر استعفاء كرومر من منصبه في 11/4/1907 وكان يجلس في منزله مع كل من حسن باشا عاصم ومحمود باشا شكرى عندما تلقوا خبر الاستعفاء فقال: أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هو لها ( كراس 6 ص 240) وكتب في موضع آخر يقول: "قد امتلأت رأسي أوهاماً وقلب خفقاناً وصدري ضيقاً" (كراس 6/246).
ويقول لورد كرومر في تقريره السنوي عن تعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف " لم يكن السبب الرئيسي في تعيينه كما يظن أحياناً أنه استياء من الحالة التى كانت تسير عليها مصلحة المعارف العمومية فلا زالت قاصرة في أن توفر أية بادرة لتغير جذري في السياسية التعليمية، إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالاصلاح في مصر".
وقال كرومر:" كما أن سعد من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم "جيروند" الحركة الوطنية المصرية، والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لادخال الحضارة الغربية إلى مصر، الأمل الذى جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية.
وكان سعد في مقدمة الداعين لإقامة حفل لتوديع اللورد كرومر وكتب في مذكراته يعلن ضيقه بالذين انتقدوا كرومر عقب استعفائه، وقال: إن صفاته قد اتفق الكل على كمالها "كراس6/245"، وأشار إلى علاقة غورست خليفة كرومر به وأنه لما زاره قام فأوصله إلى باب حديقة دار الوكالة البريطانية.
ثانيا: أخلاقيات سعد
وتكشف المذكرات أخلاقيات سعد ومواقفه المتعددة من الحياة الاجتماعية: وأبرز هذه الجوانب علاقته بالقمار وقد كتب فيها طويلا فقال في "كراس 26 - ض1390"، " كنت أتردد بعد عودتي من أوربا على الكلوب "أي نادى محمد على" فملت إلى لعب الورق، ويظهر أن هذا الميل كان بداية المرض فإني لم أقدر بعد ذلك أن أمنع نفسي من التردد على النادي ومن اللعب وبعد أن كان بقليل أصبح بكثير من النقود وخسرت فيه مبلغا طائلا.
وقد بدأ ذلك حوالى 1901، فقد كتب في إبريل 1913، يقول: كنت قبل 12 سنة أكره القمار واحتقر المقامرين وأرى أن اللهو من سفه الأحلام واللاعبين من المجانين ثم رأيت نفسى لعبت وتهورت في اللعب وأتى عليّ زمان لم أشتغل إلا به ولم أفتكر إلا فيه ولم أعلم إلا له ولم أعاشر إلا أهله حتى خسرت فيه صحة وقوة ومالا وثروة "مذكرات سعد كراس 3/129".
وكتب خلال زيارته لأوربا صيف 1908 " أفطر مع الست والباشا "أي مصطفى فهمي" وحسين "ابن محمود صدقي" في الساعة تسعة وبعد أن نتمشى مع الباشا قليلا نعود إلى البيت لتلعب البوكر مع الست وحسين إلى الساعة ثمانية ونتمشى قليلا ثم نعود لنلعب البوكر إلى الساعة 11 مساء وقد انفعل أثناء اللعب عند الخسارة وصادف أن الزهر كان يعاكس وكان زهر حسين سعيد ولكن مع ذلك كسبت ولم أخسر غير أن حارق كانت من طريقين: طريقي وطريق الست "كراس 24 ص1300 - 1301".
ويتساءل سعد عن الأسباب التى دفعته إلى المقامرة فيكتب ما يلى:
أريد أن أعرف ما أريد حتى أتمكن من معالجة نفسي من هذا الداء، هل أريد بسطة في الرزق، أنه يقبضه في الكثير الغالب، هل أريد سعة في الجاه، أنه يضيقه بما يحط من القدر في نفوس الناس، هل أريد تناسي آلام تتردد على النفس عند خلوها من الشغل وهو كثير، لا أشعر بهذه الآلام، ويقول: ما كنت أصغى لنصائح زوجتي ولا أرق لتألمها من حالتى ولا أرعوى عن نفسى، وأشار إلى توباته المتعددة، وعودته عنها فيقول: وقد بخيل لي أن كتابة هذه الخواطر وتسجيل هذه الواردات مما يساعد على الاستمرار في ارتكاب هذا الإثم، كأن النفس تجد في هذه الاعترافات المكتوبة والاشمئزازات المرسومة، فضيلة تكفها عن الإنصاف بها وعن الإقلاع عن نفس الرذيلة أو أن الاعتراف كفارة عن الذنب المقترف والجريمة المرتكبة ترجيحا.(40/197)
ويقول: إلى أوصى كل من يعيش بعدي من لهم شأن في شاني أني إذا مت من غير أن أترك اللعب أن لا يحتفلوا بجنازتي ولا يحدوا على ولا يجلسوا لقبول تعزية ولا يدفنوني بين أهلي وأقاربي وأصهاري، بل بعيداً عنهم وأن ينشروا على الناس ما كتبته في اللعب حتى يروا حالة من تمكنت في نفسه هذه الرذيلة وبئست العاقبة. الكراسة 28 ص 1571":
وتفيض مذكرات سعد زغلول بالتفاصيل المسهبة التى تبين هدى سيطرة هذه الغواية عليه ومحاولة الإقلاع عنها وللتخلص منها وعودته إليها المرة بعد المرة فقد وردت تفاصيل ضافية في الكراسات 3 و 28 و 29 و 30 في اثنى عشر موضعا من هذه الكراسات.
وقد أشارت المذكرات بوضوح إلى أثر القمار في حياة سعد وخاصة حياته الاقتصادية كما يشير إلى ذلك الدكتور " عبد لخالق لا شين"، فقد وقع سعد الذي يقتني الضياع الواسعة تحت طائلة ديون كثيرة مما دفعه عام 1910م إلى أن يبيع الضيعة التي اشتراها بناحية قرطسا "بحيرة" لقاء اثنى عشرة ألف جنيه: يقول : " بعت هذه الأطيان وذهب كل ثمنها أدراج الرياح فلم استفد منه فائدة" كما باع الضيعة الأخرى بدسونس ومطوبس عام 1918 بمبلغ 16 ألف جنيه وصاع كل إيرادات سعد في مدى عامين وكانت 3000 جنيه مرتب النار " الوزير" و 1500 جنيه إيجارات باقي أطيانه وأصبح مدينا بمبلغ 6550 جنيها وبذلك بدد سعد الكثير من ممتلكاته يقول في مذكراته "25 مارس 1912":
أصبحت منقبض الصدر، ضائق الذرع، ولم أنم ليلى بل بت وله تساورني الهموم والأحزان وأتنفس الصعداء على فرط منى من اللعب وضياع الأموال التى جمعتها بكد العمل وعرق الجبين وصيرورتي إلى حال سيئة".
وهكذا أجهر القمار على ثروته التى كونها من المحاماة وكانت لا تقل عن 400 فدان و 18 ألف جنيه فضلا عما ورثه من صهره مصطفى فهمي: الذى كان يملك 648 فدانا، و 8600 جنيه وألف أردب قمح وألقي جنيه مواشى وكانت صفية زغلول الى أطلق عليها "أم المصريين" واحدة من ثلاث بنات خلفها مصطفى فهمي جلاد شعب مصر ثلاثة عشر عاما.
وبعد فهل هذا وحده ما تكشفه مذكرات سعد زغلول التى تطالب بطبعها وإذاعتها لترسم صورة حقيقية لهذه الزعامة التى اختلف فيها الرأى فرفعها بالهوى والصداقة والولاء السياسي لبعض الناس إلى قداسة وبطوله وخفضها آخرون بالخلاف السياسي إلى مكان آخر، وما نريد أن نظلم أحداً ولكنا تطالب بالكشف عن الحقائق عن طريق الوثائق وما يمكن أن توجد وثيقة أشد صدقا من مذكرات كتبها الرجل عن نفسه.
ومن خلال المذكرات تتكشف أشياء كثيرة خطيرة ومثيرة.
3
قاسم أمين
كانت حركة تحرير المرأة قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم اليت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعا في الآداب العامة وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وعرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت هدى شعراوي فاحتضنها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن قربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين "صفية زغلول" وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر " هدى شعراوي" التى دعت بعض الأقلام التى تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لها والحقيقة أنه لكي نعرف خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئا مهما هو أن كتابا ظهر في مصر عام 1894 " أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر والنفوذ الأجنبي يدعى "مرقص فهمي" تحت عنوان "المرأة في الشرق" صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة الأساسية للنفوذ الأجنبي الذى تدرس على ضوئه حركة قاسم أمين وهدى شعراوي. ذلك أنه لما تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب " تحرير المرأة" فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض وما يزال يظن سلامتها ونقاءها وبعدها عن الهوى وتحررها من أي خلفية موحية.
فما هي هذه الخلفيات لذلك الحدث الخطير؟!
أولا: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في 4 مايو 1927 مقالا:
فقال فيه: إن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركير "المصريين" ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. قلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية .. فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا بها .. ثم استطرد يقول " وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامعين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعا:(40/198)
وقد أشير على جريدة المقطم - وهي لسان الانجليز في مصر في ذلك الوقت - أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء فاسم في هذا الاتجاه، ودفاعه عن الحجاب. واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه .. وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في " الرواق العباسي " بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله . وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
* * *
ثانيا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالا في مجلة الحديث "الحلبية" عام 1939 وأشار إلى هذا الحادث فقال:
"أنه ظهر كتاب للدوق دار كير يطعن فيه على المصريين طعنا مراً، ويخص النساء بأكبر قسط منه .. إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع .. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه.
ويستطرد فارس نمر يقول:
وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذى رد فيه على "دوق دار كير" لم يكن في صف النهضة النسائية التى كانت تمثلها الأميرة نازلى .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلا على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة.. ولما ظهر كتابه هذا ساء ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول. ورأوا فيه تعريضا جارحاً بالأميرة نازلي، وتشاوروا فيما بينهم في الرد، واتفقوا أخيراً أن أتولي الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاء به خاصا بالمرأة وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظرة قضاة محكمة الاستئناف؛ ورأوا فيه مساسا بهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجوا الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إلى ذلك.. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة.. وذات مساء حضرت إلى صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن.. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع .. وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه .. فلما رأي ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها .. فبنت الدهشة عليها، وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثا حاولت أن أقفل باب الحديث في هذه الشأن وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الاضطراب والجد والعنف .. فلما اطلعت على ما جاء به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده .. لأنه توسط في هذا الموضوع .. ومرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو الأميرة .. فقبلت اعتباره ثم أخذت يتردد على صالونها .. وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه .. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذى كان الفضل فيه للأمير نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب".
انتهى كلام فارس نمر.
ثالثا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى، وكشفت هذا السر الذي ظل خافيا زمنا طويلا ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة:
غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق .. وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له إلى صحيفة "الظاهر" التى كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه عن رأيه، وأعلن أنه كان مخطئا في "توقيت" الدعوة إلى تحرير المرأة.. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر" في أكتوبر 1906.
قال قاسم أمين:
"لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الافرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزق ذلك الحجاب .. وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولاتهم . ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختيرته من أخلاق الناس.. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معنهن إذا خرجن حاصرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتى .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحاما في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعا .. أنني أرى أن الوقت ليس مناسبا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذى قصدته من قبل".(40/199)
ومعنى كلام قاسم أمين أمير هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته "التى جاءت استدراجا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى:" أنها لم تكن قائمة على أسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق.. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل "رتيبة كروم" أن يتخفف من هذه التبعة.. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. ومما يروى أن صديقا عزيزاً زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك !! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته .. فقال له صديقه : ألست تدعو إلى ذلك؟! إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك .. فأطرق قاسم أمين صامتا .. ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى:
أن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم خاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن.
ونعت الدكتورة بنت الشاطش ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة. تقول بنت الشاطئ:
"إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم.. وهم يوهموننا أننا نعمل ويعملون معنا لحسابنا.. ذلك أن الرجال وثبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم.. ولكنهم كذبوا في هذا المزاعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ:
"إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا.. وأعني به إنحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما تسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد .. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن .. أما الأبناء فتركوا لخدم .. وقد نشأ هذا الإنحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة .. وبلغ من سواء ما وصلت إليه أن نادت مناديا بحذف نون النسوة في اللغة كأنما لأنوثة نقص ومذلة وعار .. وأهدر الاعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا عن يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج".
انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ.
***
أما ما هي ملابسات زعامة هدي شعرواي للحركة النسوية فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين.. أحدهما والدها محمد باشا سلطان والآخر زوجها على باشا شعراوي.
أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبد العزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام التاريخ":
إنه كان من أعلام الثورة العرابية. ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديو والانجليز، حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير، وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه: "الأستاذ الإمام محمد عبده"، جـ1 ص 258، 259، عن الدور الذي لعبته محمد سلطان في خدمة مخابرات الانجليز في سبيل الوصل إلى معسكر العرابيين في التل الكبير وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد والإسماعيلية لمعاونة الجيش الإنجليزي الزاحف والإيقاع بجيش عرابي معلناً الثقة في الجيش الغازي ومطمئنا الأهالي على حياتهم، وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد، بل يستهدفون تأديب العصاة.
وتابع سلطان نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي، ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية ويدعى سعود الطماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة، بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضى على كل معاونة شعبية لحركة عرابي، ورافق "ولسلي" قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان.
كما كانت الأموال التى أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان "راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسية رقم 2".
وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي، ودخل سلطان القاهرة مزهوا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه، وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضا للأضرار التي لحقت به ثم عينه رئيسا لمجلس شورى القوانين.
ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة 1884 ، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير".(40/200)
هذه هي خلفية الحياة الإجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتى تزوجت وهي في الرابعة عشر من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي "سعد زغلول و عبد العزيز فهمى" بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالى للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعرواي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء.
وقد وجدت السيدة هدى شعرواي الفرصة سانحة للتبريز خاصة وأن السيدة صفية زغلول ابنة مصطفى فهمى الذى حكم مصر بالحديد والنار خلال أول الاستعمار البريطاني ثلاثة عشر عاماً وزوج سعد زغلول والمساماة بأسماء الاضداد " أم المصرين" تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت تفتح مجالا جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة 1919.
ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية ووجدت فيها طيراً سميناً فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التى كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء، والتى كانت تستهدف بأحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم خلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار.
والمعروف أن هدى شعرواي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي، بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة رزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التى كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك أموال سلطان باشا التى دفعت ثمنها الثورة العرابية، وكان في مقدمة هؤلاء إبراهيم الهلباوي باشا محامي دنشواى والشيخ محمد الأسمر الشاعر .. وقد استطاعات أن تجند بعض الشباب، وأن ترسل بهم في بعثات تعليمية خاصة على حسابها إلى أوربا/ ومنهم من عمل في الصحافة من بعد، وحمل لواء الدعوة إلى تقديس هدى شعراوى، ودعا إلى تلك الأفكار التى تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته:
" لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك على الله، والمعروف أن السيدة هدى شعراوى لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي المرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأسرة ولم تكن تتحرك في هذا الإطار .. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى .. وذلك فقد شجعت أسباب الزنة والأزياء والمودات المستحدثة. وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية وذات الولاء الماركسى والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهم أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف:
إنه لم يكن عجبا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعرواي الأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها، وإن يردد في عام 1923 نفس المبادئ التى نادى بها مرقص فهمى من قبل، وتورط فيها قاسم أمين .. ولما كان داة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوى بإقامة تمثال لها.. والهدف هو دعو هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم.
(4)
طَه حسَين
عميد الأدب العربى الذى مازالت مؤلفاته تحمل سموم الاستشراق
وتهاجم الإسلام والقرآن
عن مجلة الاعتصام - نشرت جريدة المجتمع الكويتى، بعددها رقم 177 بتاريخ 13 من ذي القعدة سنة 1393 ( 1973/ ، مقالا مطولا كشفت فيه عن كثير من الحقائق التي لابد لأبناء الجيل الإسلامي الحالي، أن يعرفوها، حتى لا ينخدعوا بالدعاوات الكاذبة التى ملأت الآفاق في رثاء طه حسين، وتمجيده في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام، وداعية للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
وفيما يلي بعض ما تضمنه المقال المذكور من وقائع، وفيها الكفاية لإدراك الحقيقة.
استطارت في صحف البلاد العربية كلمات عجلى ومرات سريعة خاطفة حاولت أن تسد فراغاً صحفياً على وجه العجلة فلم تتمكن من أن تراجع التاريخ أو تنثبت من الوقائع، وربما صاحب ذلك هوى من شأنه أن يتعارض مع الحق، وربما كانت كتابات بعض المتصدرين في مجال الصحافة ممن لم يحسنوا مراجعة الآثار المكتوبة حول القضايا المثارة ومنهم من شهد السنوات الأخيرة فنشأ طفلا يرى "طه حسين" رجلا كهلا تحيطه هالة، أو تدرس كتبه في الجامعات أو يشرف على بعض المؤسسات الثقافية واللغوية فظن هؤلاء - وبعض الظن إثم - أن الرجل له تاريخ مشرف جديد بأن يشاد به ويرثى ولقد حوت كتابات الكتاب الكثير من الخطأ ومن الهوى، ومن عجب أي بعض المؤمنين لحق بمن كتبوا عن الإسلام أو هاجموا بعض خصومة أمثال لويس عوض وسلامة موسى وغيرهم يسقطون في هوة الخداع إزاء طه حسين وهو أشد خطراً من هؤلاء جميعا وأبعد أثراً.(40/201)
ولسنا الآن في مجال الحديث عن موقع طه حسين من الأدب العربي أو الفكر الإسلامي فذلك أمر له من بعد دراسات ومراجعات ولكننا تقف عند حد تصحيح بعض الأخطاء التى تضمنتها هذه المراثي التى أعادت الرجل حيا بعد أن مات موتا معنويا منذ عشر سنوات عندما توقف عن الكتابة وداهمه المرض الذى كان حفيا بأن يفسح له سبيل العودة إلى الله ولقد كان يتردد في هذه السنوات بل كان الدكتور نفسه يقول:
إنه لا يسمع من الإذاعة غير القرآن المرتل وكان بعض السنج من الناس يقول: لقد تاب الرجل وأناب.
وكذلك قالوها يوم اصدر كتابه "على هامش السيرة" ولكن الفهم السليم للإسلام يدعونا إلى أن تتحرز من مثل هذه المظاهر الكاذبة وأن نتعمق مفهوم التوبة في الإسلام وهو مفهوم يفترض على صاحبه أن يرجع عن كل ما خالف به أصول الإسلام أو حقائق القرآن وأن يعلن على ذلك على الملأ وأن يحجب مؤلفاته التى نشر ذلك من قبل بل وعليه أن يصحح ذلك ويوضحه وأمامنا مثلان:
مثل في القديم هو أبو الحسن الأشعرى" حين خرج عن فتنة الاعتزال إلى ضوء السنة الصحيحة فإنه لم يلبث أن وقف في المسجد الجامع بعد الصلاة على كرسى وأعلن توبته بل وخرج من ملابسه وقال: لقد خرجت من الأثم الذي كنت فيه كما أخرج من ثوب هذا وألقى إلى الناس بمؤلفاته الجديدة التى يعارض بها قديمه الذى خرج عنه وأمامنا الدكتور محمد حسين هيكل الذى أعن في مقدمة كتابه "منزل الوحى" أنه قد خاض في شبابه لجج النظريات وكان مخطئا حين حاول أن يختار لبني وطنه فكر الغرب أو منهج الفرعونية وأنه عاد إلى الحق حين تيقن أن الإسلام هو المنطلق الوحيد للمسلمين إلى النهضة. فهل فعل طه حسين شيئا من ذلك إذا كان حقيقة قد تحول، نحن نعتقد أن طه حسين لم يتحول حتى مات عن مفاهيمه الأولي وأنه أصر على فكره إصراراً كاملا حتى حين كتب إسلامياته المتعددة وأن المراجعة الدقيقة لهذه المؤلفات تكشف عن أنها تحول في المظهر أو كما يقول الغربيون أن طه حسين غير جلده، أو أنه حسين سقط في نظر الناس بعد كتاب "الشعر الجاهلي" إنما أراد أن يعود إليهم كاسبا ثقتهم بالكتابة عن "هامش" السيرة وكانت خدعة أخرى كشفها صديقه ورفيقه على الطريق في المرحلة الأولي الدكتور هيكل حين قال إن إحياء الأساطير في هامش السيرة خطر على السيرة نفسها لأنه يعيد إليها ما حررها منه علماء المسلمين أربعة عشر قرنا وحرصوا على حمايتها منه وقال عنها مصطفى صادق الرافعي إنه تهكم صريح.
لقد خدع طه حسين الكثيرين بكتاباته الإسلامية ولكن هذا الخداع لم يطل فقد كشفه كثيرون في مقدمتهم محمود محمد شاكر الذي كشف فصولا متعددة عن "الفتنة الكبرى".
* * *
من أبرز ما يحاول الذين رثوا طه حسين أن يثبتوه أن طه حسين في مؤلفاته وكتاباته كان خصماً سياسياً الذين هاجموه, وألبوا عليه وأن ما أورده في كتبه لم يكن على هذا النحو من الخطر في مهاجمة الإسلام.
وذلك هو أسلوب الاستشراق في مواجهة الأمور وهو نفسى أسلوب طه حسين الذي كان إذا أراد أن يهاجم الإسلام هاجم الأزهر وإذا أراد أن يرد عادية خصومه قال إنما يهاجمون حزبه السياسي ولقد حرص طه حسين حين اشتدت الحملات عليه عاما بعد عاما بعد كتابه الشعر الجاهلي أن ينفصل من معسكر الأحرار الدستوريين وأن يلجأ إلى معسكر الوفد حتى يحتمي به.
وقد أكسبه ذلك سناداً ضخماً أعانه ليس فقط على الاستمرار في الحركة - ولكن مكنه من توصيل إلى ضربة أخرى وجهها إلى الفكر الإسلامي تلك هي كتابه: "مستقبل الثقافة " وكذلك فقد استفاد طه حسين من السياسة فهي التي حمته من العزل ومن المحاكمة ومن أشياء كثيرة، بل هى التى كانت تسهل له أن ينتقل بالرغم من مواصلة كشف أساليبه - من منصب أستاذ الجامعة إلى عميد كلية الآداب إلى مدير الجامعة إلى وزير المعارف.
وإذا كان رثاة طه حسين يريدون حقاص أن يصدقوا الناس ويقولوا لهم أن طه حسين عندما كان في حزب الأحرار الدستوريين - قد هاجم سعد زغلول بأكثر من "مائة مقال" في خلال سنوات "1922 - 1927" حتى وفاته فلما تحول طه حسين إلى الوفد بعد ذلك كتب عن سعد زغلول وخطب يرفعه فوق هامة الدهر دون أن يحس بالخزي أو الخجل ودون أن يرى ابتسامات السخرية من سامعيه وقارئيه لكذبه فى الأولى وفي الآخرة وتضليله وغشه.
وتردد مراثي طه حسين عبارات تقول أنه أضهد ككل أصحاب الرسالات فأى نوع من الاضطهاد شهده طه حسين. هل اعتقل ليلة واحدة في أي عهد هل قدم للمحاكمة مرة واحدة هل عذب؟ هل حيل بينه صيف واحد وبين السفر إلى فرنسا حتى في أشد أيام أزمة الشعر الجاهلي . لم يحدث ذلك قط وإنما كان ذلك من لغو القول وباطله.
إن طه حسين كان يعرف أنه في حماية قوى كبرى ربما ليست ظاهرة ولكنها تختفي وراء الأحزاب، وراء عدلي وثروت، وتلتمس أسلوبها إلى ذلك بالعطف على الكفيف والرحمة بالمجنون. كما قال سعد زغلول للأزهريين : هبوا أن رجلا مجنوناً قال ما قال، وماذا علينا إذا لم يفهم البقر!!(40/202)
ويردد أصحاب المرائي أن لطه حسين حياة حافلة بالنضال ولكنه أي نضال، لقد بدأ طه حسين حياته في محيط حزب الأمة الذي أنشأه كرومر وفي أحضان لطفي السيد داعية الولاء للاستعمار البريطاني تحت اسم مصر للمصريين وعدو الجامعة الإسلامية والعروبة والشريعة الإسلامية واللغة العربية وتعليم أبناء الفقراء.
ولقد لقى طه حسين في حياته "عبد العزيز جاويش" وبيئة الحزب الوطني ولكنه سرعان ما أعرض عنها، لأنها ليست ممهدة الطريق ولأنها كانت تحمل مفاهيم النضال والجهاد، وكسب صلته بأصحاب البيوتات وفي مقدمتهم آل عبد الرزاق الذى كان أثيراً لدى عطفهم ومعونتهم ولما عاد من أوربا اندمج في حزب الأمة المجدد تحت اسم "الأحرار الدستوريين" ولم يدخل الوفد إلا بعد أن فقد الحزب أمانته للأمة وانصهرت فيه العناصر اليسارية والشيوعية.
أما أخلاقه التى يشيدون بها فهى تنجلى صراحة في موقفه من اساتذته الذين عاونوه في أول الحياة والذي شقوا له الطريق فلم يلبث أن هاجمهم في عنف وصلف واحتقار، بل وعارض مفاهيمهم الأصلية: وفي مقدمة هؤلاء الشيخ المهدى ومحمد الخضرى وأحمد زكي باشا وأعلن أنه يرفض المنهج الذى رسمه الشيخ محمد عبده.
وقد سجل جميع الباحثين في سيرته وفي مقدمتهم أولياء الثقافة الغربية من أمثال إسماعيل أدهم أحمد أنه لم يكن عالما ولا صاحب منهج، وأنه صاحب هو وغرض وأن ذلك الطابع يسود كل انتاجه.
أما مفاهيمه العامة فقد أثار الدنيا حين أعلن أن العرب استعمروا مصر كالرومان وحرقت مؤلفاته في ميدان عام في دمشق، وقال أن مصر جزء من حضار البحر المتوسط، وهاجم المجاهدين من أهل المغرب في رسالته وصور استعمار فرنسا خدمة عظمى تقدمها لهم فرنسا. وكان له موافقة في معارضة العروبة والرابطة الإسلامية في دعوته إلى تمصير اللغة وإلى تمصير الأدب، وكلها دعاوى زائفة مشبوهة.
وكانت دعوته إلى الحضارة الغربية فاسدة لأنه لم يأخذ فيها بأسلوب الحيطة أو أسلوب العلم بل كان حريصا على أن تنصهر مصر والبلاد العربية في هذه الحضارة على النحو الذى صوره حين قال " أن نقبل من الحضارة ما يحمد منها وما يعاب وما يجب منها ما يكره".
كان داعية الفناء في الغرب تحت خدعة زائفة ظل يروجها وكانت موضع سخرية الناس لسذاجتها وهي قوله: أننا لن نستطيع أن نساوى الغرب إلا إذا سرنا سيرته، وكيف يمكن ذلك وقد سارت تركيا ومع ذلك سخر منها الغرب لأنها عجزت عن أن تقدم شيئا في مجال العلم وما زالت عالة عليه بعد أن فقدت شخصيتها الإسلامية.
ويكذب أو يخدع أولئك الذين يقولون أن طه استوعب ثقافة التراث أو أنه نقل ثقافة التراث أو أن وجهته في الكتابات الإسلامية كانت خالصة لوجه الله أو العلم أو الحق ذلك أن طه حسين قد أراد أن يتخذ من التراث منطلقا إلى تحقيق جانب من رسالته، تلك هي إثارة الشبهات والروايات الباطلة، والتقليل من جلال أبطال الإسلام، وتصويرهم بصورة رجال السياسة في الغرب المسيطرين على مطامع الحكم ومطالب الحياة، ولا يستطيع أن يفهم التراث أو يقدمه المسلمين في هذا العصر إلا رجال آمنوا بالإسلام دينا ونظلم حياة وعمرت قلوبهم تلك الأمانة للإسلام والغيرة على معطياته ومنجزاته. أما طه حسين فقد عاش حياته كلها يسخر بعظمة أمة الإسلام وبما في صفحاتها من بطولات ويفسرها طبقا للمذهب الاجتماعي الفرنسي، المتصل بالتفسير المادي للتاريخ القائم على الجبرية وهو مذهب ينكر عظمة النفس الإنسانية وجلال الروح ومكانة المعنويات - كان طه حسين كذلك في أول ما كتب "ذكرى أبي العلاء" وظل كذلك إلى آخر ما كتب "مرآة الإسلام والشيخان".
وكل ما يحاول الإغرار أن يجمعوه من آرائه عن القرآن أو الإسلام أو التاريخ فإنما يقدم إليه مفهومه الباطل فيجعله هباء منثوراً، فهو لا يرى في القرآن أكثر من أنه كتاب بلاغة" ولا يرى في البطولات إلا أنها من نتاج البيئة، ولا يرى في النبوة إلا أنها قدرة رجل عظيم استوعب فكرة عصره، فهو لا يؤمن بالنبوة، وذلك واضح من كتاباته ومن مراجعات الباحثين لآثاره وهي كثيرة ومقدمتها كتاب غازى التوبة ومحمد محمد حسين والرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وكاتب هذه السطور.
إن طه حسين مع الأسف لم يكن يؤمن بشئ، كان ساخراً وكان مشككاً وكان متقلباً ولقد كدت أكتب عبارة "أولها حرف ر".
وآية ذلك أنه ألقى العمامة في البحر عندما ركب السفينة أول مرة إلى أوربا في مشهد درامي، تمثيلى، وأنه كان يقول القول وينقضه فقد أعلن إمارة العقاد للشعر ثم سحب ذلك في سنواته الأخيرة، أما قدره العلمى فقد كشف عنه سكرتيره البير بيزان وسكرتيره زكي مبارك وظهر ذلك واضحاً في سقطات فاضحة.(40/203)
من مثال قوله:" وقد وقعت بين القيسية واليمانية معركة "مرجرات" ثم اتضح من بعد أنها "مرج راهط" ولكن هكذا يكتبها المستشرقين وقد أشار زكي مبارك إلى ذلك في دعاية ساخرة حين قال : أن طه حسين دخل حديقة المستشرقين بالليل ليسرق ثمرة أو ثمرتين فصادفته هذه الثمرة المعطوبة" ولا شئ يستطيع أن يحمى طه حسين من شبهة الاتصال بالصهيونية أو اليهودية العالمية في مجال الفكر وربما عن طريق آخر بالإضافة إليهما، ولذلك قصة طويلة لها وقائعها الثابتة والأكيدة والمتصلة طوال حياته منذ أعلن عن عدم وجود إبراهيم إسماعيل عام 1926 إلى أن صير مديراً لدار الكتاب المصري 1946 وبين ذلك تاريخ طويل يمكن أن يروى في مقال متصل ويؤيده ما قاله شارل مالك في رثاء طه حسين.
هناك سؤال لماذا انقلب إسلاميا داعيا إلى التراث؟
والإجابة السريعة قبل إيراد التفاصيل هي محاولة تمكينه من أن يكون مرجعا إسلامياً يستغله للتبشير والاستشراق في السنوات الخمسين القادمة ولذلك فقد حولوه من مغايظة الجماهير إلى إرضاء الجماهير، إرضائها بالخداع والزيف.
وكلام عن الإسلام كله بمفهوم الإسلام الغربي المسيحي: أنه علاقة بين الله والإنسان، عبادة، لاهوت وليس أكثر من ذلك ، وطه حسين يعتنق ما كان يعتنقه فولتير ورينان غيرهما من التفرقة بين الإيمان بالقلب والكفر عن طريق العقل. هذه الإزدواجية التى يعرفها الغربيون ويفخرون بها، وتعتنقها بعض الفضائل المضللة من توابع المستشرقين في البلاد العربية ممن لا قيمة لم ولا وزن وممن لن يتبقى لهم آثار ولا أعمال.
إن طه حسين بالعمل فى مجال الإسلاميات منذ أصدر هامش السيرة 1933 ونشره في الرسالة كان يفتح صفحة جديدة وأخيرة في تاريخه وتاريخ الفكر الإسلامي هي صفحة تقديم البديل من أجل القضاء على الأصيل ومع الأسف فقد شارك هيكل والعقاد وانكشف أمرهم عام 1939 حين قاله لهم إمام كبير:
" بيننا وبين الإسلام أن تؤمنوا بأن الإسلام نظام حكم وفهم مجتمع، فصمتوا صمت القبور. استطاع طه حسين من خلال كتاباته الإسلامية أن يصور الروابط بين الصحابة على نحو مؤسف ردئ، وكان قد أعلن من قبل في رده على العلامة: رفيق العظم احتقاره التاريخ كما اتخذ في بعض الشعراء الماجنين دلالة على فساد القرن الثاني الهجرى الحافل بأعلام المسلمين في الفقه والعلم والتصوف والأدب والفكر كله.
لقد تحول طه حسين في أساليبه يخوض معركة أشد خطراً، هي معركة تزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي، وقد جرى في ذلك مع منهج الاستشراق الذى تغير في أواخر الثلاثينات حين تحول من مهاجمة الإسلام علانية إلى خداعه بتقديم طعم ناعم في أوائل الابحاث ثم دس السم على مهل ومن خلال فقرات وكان هذا هو أسلوب الاستشراق اليهودي الماكر.
وقد استخدم طه حسين هذا المنهج ببراعة ونجح فيه. فلم يكن طه حسين يؤمن بالدين ولا بالتراث ولا بعظمه هذه الأمة ولا بأمجادها الإسلامية ولا بحركة اليقظة فيها، ولقد تهدمت كل أعماله قبل وفاته وخذلته كل الكتابات الجديدة والإيجابية عن الشعر الجاهلي وعن ابن خلدون، وعن مفهوم العروبة المرتبط بالإسلام وعن هزيمة الفرعونية وعن اندحار دعوته إلى الغض من شأن الأزهر.
سلامة موسى
محاولة إعادة سلامة إلى الحياة محاولة خاسرة وقد باءت بالفشل الذريع. سلامة موسى الرجل الذي لم يعرف في تاريخه الطويل موقف يدعو فيه لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني وقد سقطت جميع آرائه وكشف حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
لقد كانت كل كتابات سلامة موسى وأفكاره في حقيقتها جماع خيوط المخطط الماسوني التلمودي بباطله وهدمه وأخطاره ولقد عرف أن سلامة موسى كان يلفظ الإسلام والمسيحية معاً وهو الذي أضاف إلى قائمة الرسل والأنبياء فرويد وماركس ودارون ولينين.
كان السؤال الهام في الندرة عن تلك الظاهرة الخطيرة التى حاولت بها بعض الجهات طرح كتب سلامة موسى في السوق مرة أخرى بأعداد كبيرة، ونشرت عديداً من كتبه ما عدا كتابه " اليوم والغد" الذي قال بعض أصحاب الولاء أنهم أن يعيدوا طبعه والسر أن هذا الكتاب يكشف حقيقة سلامة موسى، ودعوته المسمومة، والشعوبية والماركسية جميعاً.
والحق إن كتابات سلامة قد تجاوزها الزمن، ولم تعد تمثل أى عطاء ثقافي بعد أن سقطت كل هذه الدعاوى التى روجها الاستشراق والتغريب في الثلاثينات والأربعينات.. شأنه في هذه شأنه في هذا شأن طه حسين ومحمود عزمي وعلىعبد الرازق ومن تبعهم أمثال حسين فوزى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم.
والواقع أن النفوذ التغريبي لا يمهد ولا يتوقف عن غاياته وإن بدأ أنه يغير جلده بين حين وآخر ليخدع أجيالا جديدة بتلك السموم التى قدمها على أيدى عملائه ثم تكشف زيفها.
دعا سلامة موسى إلى استعمال العامية وهدم العربية، وجدد الدعوة لويس عوض في مصر ويوسف الخال وأنيس فريحة في الشام وكانت النتيجة هي الفشل المحقق.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية وجدد الدعوة بعده كثيرون ولم يصلوا إلى الشئ.(40/204)
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية، وجدد الدعوة إلى إبطال حكم من أحكام الدين وذلك بشأن ميراث المرأة، وقد لنه الباحثون دراس قاسياً مريراً.
دعا سلامة موسى إلى الماركسية وقد كشفت الأيام زيف دعوته وفساد جهته.
والحقيقة أن سلامة موسى لم يكن إلا رجلا يحمل الغرب فيذروه في وجهه الناس حقداً وكراهية لهذه الأمة أن يتحقق لها امتلاك إراداتها وخدمة لكل التيارات الحاقدة عليها والكارهة لها، ولقد كان الكاتب في هذه الفترة يعرف بأنه ماركسي أو غربي أو داعيا لفرنسا أو انجلترا ولكن سلامة موسى كان يعمل لكل هذه الجهات عن طريق الماسونية والمخطط الصهيوني الذى كان يحتضن كل فكر هدام.. فكان ينثر من كنانته كتابات عن "دارون" ومذهبه، وعن "فرويد" ومذهبه، وعن إقليمية مشوبة بالفرعونية، وعن العامية مشوبة باللاتينية ويحتضن كل كتاب هذه السموم من "ولكوكس" إلى " ماركس" ويدعى ويناقض دعوته بمدح الخديو إسماعيل، وموالاة الاستعمار البريطاني ولا ريب فقد تخرج سلامة موسى من مدرستين:
من مدرسة تربية أبناء العرب الذين يقعون في فخاخ القوى العظمى فقد ذهب سلامة موسى إلى بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت الباكر وجند لهذه الغاية، أما الأخرى فقد كان تابعا لمدرسة شلبى شميل، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، ويعقوب صروف هذه المدرسة التى كونها التبشير في بيروت، ثم قذف بها إلى مصر والبلاد العربية فتولت مقاليد الصحافة والثقافة وحملت حقدها الوافر على الإسلام والخلافة الإسلامية، واللغة العربية، وتاريخ الإسلام وسيرة الرسو صلى الله عليه وسلم .
إن هناك وقائع خطيرة كاشفة لحقيقة سلامة موسى بعد أن فضحه أصحاب دار الهلال الذى كان يعمل عندهم، ويتصل من ورائهم ببعض الجهات ليشي بهم " إبريل 1931 - مجلة الدنيا الجديدة" وقد نشرت الزنكفراف خطاباته التى يقول فيها لمسئول:
"فإنا أكتب لسعادتكم وإرادة الهلال تهيئ عدداً خاصا من المصور لسعد زغلول تستكتب فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة .. لأن الإكبار من ذكر سعد. وتخصيص عدد له هو في الحقيقة أكبار من شأن الوفد ودعوة إليه إني مستعدة الدعوة للمعاهدة فهل لي أن انتظر معاونتكم".
كتب هذا أبان وزارة اليد الحديدية التى شكلها محمد محمود، وتاريخ الخطاب 22 أغسطس 1939 وهو لا يزال في دار الهلال ما يزال يتقاضى مرتبة منها، ويدخلها كل يوم يبتسم في وجه أصحابها، ويظهر لهم الود والإخلاص وفي الوقت نفسه يدس لهم، ويتجسس عليهم، ويرسل التقارير إلى وزارة الداخلية.
ثم عاد يتمسح بالوفد "إبريل 1931" فكشفت دار الهلال هذه الوثيقة وقالت:" أنت تتمسح اليوم بأعتاب الوفد، وتتعلق زعماء الوفد .. إن لدى دار الهلال البرهان القاطع على تلونك وغدرك".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد .. فقد أرسل خطابا "نشرت صحف دار الهلال" صورته الزنكفرافية موجها إلى الأستاذ حسين شفيق المصري في 3 نوفمبر 1930 هذا نصه".
عزيزي حسين:
بعد التحية: تعرف الخصومة بينى وبين السوريين "أي أصحاب دار الهلال" فأرجو أن ترسل لي خطابات على لسان سوري وقح يشتمني فيه بإمضاء اسكندر مكاريوس أو غيره من الهكسوس .. وأنا في إنتظار الخطاب.
أخوك سلامة موسى
وقد علق الأستاذ شفيق المصرى على هذا يقول:
كان يريدنى أن أزور خطابا، وأن افترى على أمة، وأن انزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم يغر الصداقة والمودة.
هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر له كل شئ لا أن يظن بى ما ظن من الجهل والحمق .. وهو يدعوني إلى كتابة ذلك الكتاب الذي اشتمه فيه بتوقيع رجل برئ لا ذنب له إلا أن في الدنيا رجالا لا يحاسبون ضمائرهم، ولا يرون أبعد مما بين أنوفهم وجباههم.
* * *
بل ويذهب سلامة موسى إلى أبعد من ذلك فيقول:
"ومما يدل على أن حركتنا الوطنية بأيدي ناس غير قادرين على الاضطلاع بها أن الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها.. فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون أسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوربا إلا مكرهين.. وقد أدرك مصطفى كمال الذى لم تنجب بعد نهضتنا رجلا مثله ولا ربعه ولا يعرف مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالإنسلاخ عن آسيا، والانضمام إلى أوربا، ولم يمنع من استعمال السيف في هذا".
ويقول:
"هذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التى اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق.. ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية ويقول:(40/205)
"وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة الشباب، وبعثرة لقواهم .. وكيف يمكننا أن نعتمد على جامعة دينية بينما فى العالم نظرية تقول: أن الإنسان لم يكن راقيا فانحط كما تقول الأديان. بل هو كان منحطا فارتقى، تعنى بها نظرية التطور بل كيف يمكن لإنسان مستنير قرأ تاريخ السحر والعقائد أن يطلب منه أن يخدم جامعة دينية، إن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شنيعة".
ويقول :
"لا عبرة بما يقال من أن الإسلام أمر بالشورى فإن خطب جميع الخلفاء نثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظراً بابويا بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الاشياء يعد دستوريا".
ويقول:
"إن أكبر تجربة اجتماعية رآها العالم هي الشيوعية الروسية الحديثة وظهور الشيوعية هو بمثابة حاجز بين الماضي والمستقبل فهي تفصل الاثنين فصلا واضحا وهي على ما فيها من نقائض لليوم وعلى ما ينال الناس البعيدين عنها من الرعب فإنها ستكون بذرة لجملة أنظمة اجتماعية في المستقبل".
وهكذا تحوى كتابات سلامة موسى كل السموم التى علموه أن يثيرها في أفق العرب والمسلمين يوما بعد يوم، علموه أن الاشتراكية هي الهدام الأكبر للمسلمين وازدراء كل ما هو عربي، والدعاية للشيوعية، وكذلك الدعاية للإباحية.
يقول سلامة موسى:
"ليس من مصلحة الإنسان أن يعيش في قفص من الواجبات الأخلاقية، يقال له هذا حسن فاتبعه، وهذا سئ فاجتنبه".
وعلموه الدعوة إلى التبعية للغرب وللاستعمار.
يقول سلامة موسى أيضا:
"أجل يجب أن نرتبط بأوربا، وأن يكون رباطنا بها قويا نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اكتشافات واختراعات وننظر الحياة نظرها، ونتطور معها تطورها الصناعي، ثم تطورها الاشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجرى وفق أدبها بعيدا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها.
هذا هو سلامة موسى الذي يريدون أن يحيوه مرة أخرى ويجددوا فكره. هذا الفكر الذي تجاوزه المسلمون والعرب اليوم وإن كانوا قد خدعوا به هناك يوم كان دعاة التغريب تعوى كتاباتهم بالسموم!!
إن كل ما قدمه سلامة موسى عن الماركسية والفرويدية والدارونية هي كلمات مجمعة قد جاوزها البحث العلمي الآن، وكشف زيفها فقد ظهر الآن فساد ما دعا إليه دارون وتبين أن وراء إذاعة دعوتها ونرها كانت التلمودية التى تريد أن تقول أن الإنسان حيوان لتمهد لفرويد اليهودي نظريته في الجنس وكانت الماركسية والفرودية والداروينية من أدوات الفكر الصهيوني. الذي حاول أن يؤسس مدرسة في البلاد العربية والإسلامية. كما دعا إلى البهائية التى عرفها في لندن سنة 1910 عندما اتصل بجماعة الدهريين ولم يدع كتابا لم يقرأه وكانت معظم مؤلفاتهم في نقض الأديان السماوية - على حد تعبيره - ولا بد أنه اتصل بمحافل الماسونية، وتعلم فيها فإن كل اتجاهه كان ماسونياً تلمودياً ولم تعرف حقيقته إلا بعد أن ترجمت بروتوكولات صهيون إلى اللغة العربية عام 1948، وأن كل محاولاته وخططه كان ثمرة هذه التبعية الماسونية التلمودية وقد أشار كثيرون إلى أنه لم يكن مسيحياً صادقاً وإنما كان ولاؤه لفرويد وماركس.
وقالوا الشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئا وكل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.
ولا ريب أن دعوة سلامة موسى إلى وحدة الأديان هي من مفهوم البهائية وأن اهتمامه بالسلطان "أكبر" الهندي الذي أجرى هذه التجربة داخل في دعوته كذلك دعوته إلى وحدة الوجود، ومذهب "سبينورا" في وحدة المادة، والقوة والروح والجسد هي من طريق خطة الواضح، وكذلك فهو يرى أن حرق جثمان الميت أطهر وأنظف !!
وقد تمنى سلامة موسى أن يحرق جسده بعد موته، وقد عمل على نشر آراء تولستوي وغاندي لأنه تحاول مواجهة مفهوم الإسلام الجامع ومفهوم الجهاد وحتى ديانته المسيحية فإنها لم تسلم من هجومه وهو يعتقد أنها حجبت عن عقول الناس نور الثقافة اليونانية وحريتها، وأن هذا الحجب والحجر ظل ألفا وخمسمائة سنة حتى بدت بشائرالنهضة الأوربية التى كان أساسها الخروج عن سلطان الكنيسة وأطباقها على النفس والعقل البشريين، والعودة إلى أسس الثقافة اليونانية وحريتها.
وقد بشر بدين جديد دعا إليه ودخل هذا الدين في عقيدته أنه دين البشرية كما يسمه وهو ما دعا إليه أوجست كونت ويرى أن دين البشرية بذرة من ديانة بوذا وهو دين لا يدعو إلى الإيمان بالله، أو الخلود في العالم الثاني، ولا ريب أن هذا الاتجاه الذي استكمله بأنبياء آخرين آمن بهم هم ماركس وفرويد يوحي بماسونيته وولائه التلمودى الصريح، كذلك فإن دعوته إلى العالمية هي دعوة الصهيونية العالمية التي تريد هدم الأمم المسلمة في مرحلة ضعفها واحتوائها للسيطرة عليها وتذيبها في أتون الأممية.
ولا ريب أن حملة سلامة موسى على اللغة العربية العظمى، والشعر والأدب العربي هي دعوة مبطنة للحملة على الإسلام والقرآن وهي الدعوة التى حمل لواءها لويس عوض من بعد وتؤكد دعوته في مجموعة موالاة الدعوة الشعوبية التى ترمى من وراء القضاء على العرب وكيانهم إلى القضاء على الإسلام باعتبار أن تلك هي قاعدته الأساسية.(40/206)
قد كانت أصدق كلمة لباحث معاصر أنه لم يعرف لسلامة موسى مقال وطني واحد دعا فيه إلى تحرير مصر من الاستعمار البريطاني.
إن محاولة إعادة سلامة موسى إلى الوجود محاولة باطلة فقد سقطت آراؤه جميعا وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
ما هو رأي مصطفى صادق الرافعي في سلامة موسى؟
يقول الاستاذ مصطفى صادق الرفعي:
رأيي في سلامة موسى معروف لم أغيره يوماً، فإن هذا الرجل كالشجرة التي تنبت مراً. لا تحلو ولو زرعت في تراب من السكر. ما زال يتعرض لي منذ خمس عشر سنة. كأنه يلقي على وحدي أنا تبعة حماية اللغة العربية وإظهار محاسنها وبيانها، فهو عدوها وعدو دينها وقرآنها ونبيها. كما هو عدو الفضيلة أين وجدت في إسلام أو نصرانية.
دعا هذا المخذول إلى استعمال العامية وهدم العربية. فأخزاه الله على يدي، ورأيته أنه لا في عيرها ولا نفيرها. وأنه في الأدب حائط لا قيمة له. وفي اللغة دعي لا موضع له. وفي الرأي حقير لا شأن له فلما ضرب وجهه عني هذه الناحية وافتضح كيده دار على عقبيه واندس إلى غرضه الدنئ من ناحية أخرى. فقام يدعو إلى "الأدب المكشوف" فأخزاه الله مرة أخرى ولم يزد بعمله على أن انكشف هو. فلما خاب فى الناحيتين. اتجه الشارع الثالث فانتحل الغيرة على النساء والإشفاق عليهن. وقام يدعو المسلمين إلى إبطال حكم من أحكام دينهم وإسقاط نص من نصوص قرآنهم ظنا منه أنهم إذا تجرأوا على واحدة هانت الثانية. وانفتح الباب المغلق الذى حاول هذا الأحمق فتحه طول عمره من نبذ القرآن وترك الإسلام وهجر العربية كأن إبليس لعنه الله قد كتب على نفسه "كمبيالة" تحت إذن وأمر "سلامة موسى" إذا محيت العربية أو غير المسلمين دينهم أو أبطلوا قرآنهم. فكانت البدعة الثالثة أن يدعو المسلمين جهرة إلى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث. فأخزاه الله.
ثم قام هذا المفتون يدعو إلى الفرعونية. ليقطع المسلمين عن تاريخهم. وظن أنه في هذه الناحية ينسيهم لغتهم وقرآنهم وآدابهم، ويشغلهم عنها بالمصرولوجيا، والوطنولوجيا. ثم أتم الله فضحه بما نشره أصحاب دار الهلال.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تحت عنوان:
سلامة موسى ليس بشئ إن لم يكن دجالا !!
بضاعته بضاعة الحواة والمشعوذين وله حركاتهم وإرشادتهم وأساليبهم يزعم نفسه أديباً، وتعالى الأدب عن هذا الدجل. ويدعى العلم، وجل العلم أن يكن هذا دعاؤه، ويحاكي الملاحدة ليقول عنه المغفلون أنه واسع الذهن، وليتسنى له أن يغمز الإسلام ويبسط لسانه في العرب، والحقيقة أنه لا أديب ولا عالم، وإنما هو مشعوذ يقف في السوق، ويصفر ويصفق ويصخب، ويجمع الفارغين حوله بما يحدث من الصياح الفارغ، والضجة الكاذبة.
لقد آن لمن تعنيهم كرامة الأدب أن يقتلعوا هذه الطفيليات، وأن يطهروا من حشراتها ونباتها رياضه، وأن يقصو عن مجاله هؤلاء الواغلين الذين يتخذون اسمى ما في الدنيا وأجل ما في النفس طبولا لهم، ويتذرعون بالتهجم على الدين -على دين واحد في الحقيقة- وعلى العلم والفلسفة والأدب لنيل ما يستحقون، ويفسدون عقول الناس، ويبلبلون خواطرهم بما يغالطونهم فيه ويخادعونهم".
على عبدالرازق
كتاب الإسلام وأصول الحكم
ليس من تأليفه وإنما هو من تأليف المستشرق اليهودي مرجلبوت كان هدف الكتاب ضرب الإسلام في عقيدة من أكبر عقائده، وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام مجتمع. ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجه نظر الاستشراق اليهودي التلمودي الهدام.
وكان الكتاب لعنة على علي عبد الرازق فقد أصاب حياته بالظلام والغربة، فمات الكتاب قبل أن يموت وانطوت صفحته وهو حي، ومازالت قوى التغريب تعيد طبع الكتاب ونشره مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب شعوبيون أو شيوعيون يضللون الناس ويخدعونهم بأسمائهم وألقابهم لإحياء فكرة مسمومة.
صادر القضاء الكتاب وأصدرت هيئة كبار العلماء قرارات بإدانة المؤلف بعد زعم أن نظام الحكم في عهد صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام وموجب للحيرة.
كان السؤال في الندوة عن دعوى على عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم" التى ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها والحديث عنها بوصفها أسلوباً من أساليب العمل لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإٍسلام بوصفه دينا ومنهج حياة، ونظام ومجتمع.
ويتقول الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبيون على أن في الإسلام مذهبين أحدهما يقول بأن الإسلام دين ودولة والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحى ويضعون على عبدالرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول.(40/207)
والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد. وهو الرأي الأول وأن ما ذهب إليه على عبد الرزق عام 1925 لم يكن من الإسلام في شئ ولم يكن على عبد الرازق نفسه إماما مجتهداً وإنما كان قاضيا شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم "التجديد" ودعى على عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وعدم مقوماته وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجما إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التى يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.
أما الكتاب نفسه فان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية هو المستشرق "مرجليوث" الذي تقضى الصدف أن يكون صاحب الأصل الذى نقل عنه طه حسين بحثه عن "الشعر الجاهلي" والذى أطلق عليه محمود محمد شاكر "حاشية طه حسين على بحث مرجليوث" ويمكن أن نطلق الآن اسم "حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث" وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم "الإسلام والخلافة في العصر الحديث".
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب "الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم"، على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التى حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظ الإسلامية واجهت كتاب على عبد الرازق المنحول، وفندت فساد وجهته وأخطائه فإن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه. مع مقدمات ضافية يكتيبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم. وهم يجدون في هذه المرحلة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى ولن يجديهم ذلك نفعا فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقموه في صفحات براقة مزخرفة وأساليب خادعة كاذبة.
أول من كشف حقيقة الكتاب
إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ "محمد بخيت" الذى رد على الشيخ على عبدالرازق في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" وهو واحد من الكتب التى صدرت في الرد عليه حيث قال:
"لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس منه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزى إلى يوم القيامة" وقد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال الماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه إن هذا الكتاب كان شؤما عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من "هيئة كبار العلماء" ظل منفياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة ، فقد كان الكتاب أشبه باللعنة على حياته كلها.
ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة لأن بلاده "بريطانيا" كانت في حرب مع تركيا وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها والنصوص في الكتاب قاطعه بأنه كان موجها ضد الخلافة العثمانية. فإنه يذكر الاسم "السلطان محمد الخامس" الخليفة في ذلك الوقت الذى كان يسكن قصر يلدز" وهناك نص على جماعة الاتحاد والترقي" وهي التي كانت تحكم تركيا. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى. ويقول أن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين. وكان السلطان عبدالحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم: أي الاتحاديون أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد ورجح الدكتور الريس أن مرجليوث اليهودي الذى كان أستاذاً للغة العربية في اكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التى كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور الريس في كتابه "النظريات السياسية في الإسلام"، وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة والقدرة على التمويه. كما يتصف بالالتواء. وهذا الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبدالرازق. ومعروف أن الشيخ على عبدالرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين فلابد أنه كان متصل بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه. وكذلك "توماس أرنولد" الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتابا عن الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص. وقد نقدناه "يقول الدكتور الريس" في كتابنا "النظريات السياسية الإسلامية".(40/208)
والقصة تتلخص في أنه أبان الحرب العالمية الأولى والحرب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الدينى ضد بريطاني ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها. وكان بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتابا يهاجهم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه. هذا إن لم يفترض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذى اتصل به حينما كان في انجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التى كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التى تحارب الإسلام فأخذ الكتاب فترجم إلى اللغة العربية. أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التى تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه ظنا منه أنه يكسبه شهرة. ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب " السياسة" جريدة من أسموا أنفسهم، حزب الأحرار الدستوريين" وهذا هو الذي فهمه "أمين الرافعي" فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ على عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقا باسم " الاستاذ المحقق" والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتا لذلك. وهناك قرائن أخرى.
أولا: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة 1924. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس وقيل في الهامش أنه كتاب في عهده. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانيا: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه. فيذكرهم بضير الغائب ولا يقول عندنا أو العرب. أو نحو ذلك كما يقول المسلم عادة.
ثالثا: يكرر الشيخ عبد الرازق "عيسى وقيصر مرتين" ويكرر هذه الجملة التى يسميها الكلمة البالغة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعا: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام، وشنوا الحرب على المسلمين. فيدافع عنهم. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حربا من أجل الدين. ولكن نزاعا في ملوكية ملك ولأنهم "رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر " وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر أو ليست هي وحدة المسلمين حكومة الإسلام والمسلمين. ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل كأنه رجل عادي. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم. فضلا عن الشيخ. في الكلام عن الصحابة وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل.
خامسا: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفا في الكتب العربية. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والداو والدوران. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشهبة ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة "اضرب واهرب" رجل سياسى متمرن في المحاورة والمخادعة. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشيرية، وليس هو أبدا الأسلوب العربي الصريح. فضلا عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين فى الأزهر. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادسا: ولم يعرف عن الشيخ على عبد الرازق - من قبل - أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف .. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظمائه رجاله. ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب "أي في السياسة والتاريخ" بل كل ما كتب من قبل كان "كئيبا" في اللغة أو في علم البيان وهذا كل انتاجه في أربعة عشر عاما بعد تخرجه من الأزهر، ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاما لم يكتب كتابا آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.(40/209)
سابعا: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذى رواه فضيلة المفتى الشيخ محمد بخيت نقلا عن كثيرين من أصحاب الشيخ على عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين .. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن.. والظاهر أنها محشورة حشراً مجموعات في مكان واحد وأبيات الشعر التى استشهد بها. كما كتب المقدمة التى زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915، وذلك ليغطى المفارقة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامنا: كانت هناك أسباب ودوافع مختلف دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد. كما فعل غير من قبل .. ونحن نعرف أن مسألة مألوفة في الشرق .. ولا سيما في النقل من الكتب الأجنبية.
وفي مثل هذه المسائل بالذات. فإن هذه الحالة أسهل. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي. ولكن الدافع الذاتي إنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور.
من تقرير هيئة كبار العلماء في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"
والخلاصة أنه إذا رجعنا إلى هدف الكتاب الحقيقى وجدناه يتمثل في الحقائق التالية كما فصلها تقرير هيئة كبار العلماء.
أولا: جعل المؤلف الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا مع أن الدين الإسلامي على ما جاء به صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات الإصلاح أمور مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا، وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
ثانيا: زعم أن الدين لا يمنع من جهاد صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك. لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
ثالثا: زعم أن نظام الحكم في عهد صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام، أو اضطراب أو نقص، وموجباً للحيرة.
رابعا: زعم أن مهمة صلى الله عليه وسلم كان بلاغا للشريعة. مجرداً من الحكم والتنفيذ.
خامسا: انكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد لسلامة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
سادسا: أنكر أن القضاء وظيفة شرعية. وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا من الخلافة.
سابعاً: زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده -رضى الله عنهم- كانت لا دينية. وهذه جرأة لا دينية.
وهكذا تتكشف تلك المؤامرات الخطيرة التى استغلها الاستشراق وبعض التغريبيين خصوم الشريعة الإسلامية للقول بأن هناك رأيين: بينما لا يوجد غير مفهوم واحد . هو أن الإسلام دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. وأن ما قال به على عبد الرازق هو وجهة نظر الاستشراق الصهيوني التلمودي الهدام .. وأنه ليس رأي أي مجتهد أو عالم أو إمام في الإسلام. وأن على عبد الرازق لم يكن إلا مضللا أو مخدوعا.
(7)
سَاطع الحصري
سقطت نظرية ساطع الحصرى فيلسوف القومية العربية، لأنها قامت على أساس التفسير الغربي للتاريخ، ففصلت العروبة عن الإسلام وهو أول من جعل العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني، وهو أول مسئول عن التعليم العالي التركي في الوزارة التى شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة وأول من صرح بأن قومية إسرائيل تقوم على الدين وأن الإسلام دين تعبد وينكر أنه نظام حياة ومجتمع، والحقيقة أنه ما ذنب العروبة والإسلام إذا كان ساطع الحصرى غربي الفكر والذوق أعجمي النطق يتجاهل أن لغتنا لغة فكر وعقيدة وأن ديننا يجمع بين المادة والروح بين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة.
حدثني الدكتور مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف، وهو رجل صادق مؤمن، أنه في خلال عمله زار الأستاذ ساطع الحصرى في سويسرا ورأي السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري دعوته إلى طعام للغداء فلما قدم مع الدكتور الوكيل حياة السفير المصري فقال:
"مرحبا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام" وقد عجب الرجلان من ساطع الذى رد في عنف وحدة:
"عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك .. أنا لاييك".
وكلمة "لاييك" تعنى أن صاحبها علماني أو لا دينى.
* * *(40/210)
ما نزال ندوة الاعتصام تركز على تاريخ الإسلام والعرب المعاصر وعلى الأعلام البارزين: سعد زغلول، لطفي السيد، ساطع الحصرى إلخ وقد أحرز ساطع الحصرى شهرة وافرة في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية باعتباره "فيلسوف القومية العربية، حيث روج لنظرية خطيرة كانت بعيدة الأثر في حجب مفهوم العروبة الأصيلة المرتبطة بالإسلام فكراً وعقيدة، وبالعالم الإسلامي تكاملا وإخاء .. لقد كان دعاة حركة اليقظة في البلاد العربية يرون أن الجامعة الإسلامية قائمة بين العرب والمسلمين "فرساً ودركاً" بعد زوال الدولة العثمانية. ولكن ساطع الحصري كان من أوائل الدعاة إلى فصل العرب عن المسلمين بمفهوم القومية الغربي الوافد الذي طرحه في أفق الفكر السياسي العربي. وهذا يرجع إلى أن ساطع الحصري كان ثمرة من انضج ثمار المدرسة الاتحادية التركية، وأكبر الدعاة الذين نقلوا مفهوم القومية الطورانية التركية إلى أفق العروبة التي كانت ترتبط بمفهوم الإٍسلام في العلاقة بين الشعوب التي جمعها التوحيد والقرآن ونبوة صلى الله عليه وسلم والفكر الإسلامي الأصيل.
لقد كان ساطع الحصري مديراً للتعليم في الدولة الاتحادية التي حكمت تركيا بعد إسقاط السلطان عبد الحميد بمفهوم العلمانية بالطورانية.
وقد تعلم في مدرسة الاتحاديين، وآمن بفلسفتهم، ونقل فكرهم ومضامينهم إلى العرب، وذلك في سبيل تمزيق الوحدة الإسلامية الجامعة عرباً وتركاً وفرساً، وخلق أسلوب القوميات والاقيلميات التى تقوم على الصراع والاستعلاء بالجنس والعنصر.
وهو أول من حمل لواء العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني. وقد كان فلاسفة الفكر القومي التركي من الاتحاديين تلاميذ الفلسفة الوضعية متشبعين بالنزعة الطورانية العدوانية. وقد استمد ساطع الحصري مفهومه للعروبة من مفهوم القومية الغربية، والنظرية التى طبقها الاتحاديون في تركيا. فقد ركز على اللغة والتاريخ وعزلهما عن الفكر الإسلامي الجامع ككل كما ركز طه حسين على الأدب وعزله من وحدة الفكر الإسلامي.
ونظرية ساطع الحصري التى روجت لها بعض الأحزاب السياسية العربية قد اثبتت خلال أكثر من ثلاثين عاما فشلها الذريع، وعجزها عن العطاء، لأنها فرغت مفهوم العروبة من قيمه وتاريخه وعناصره الأخلاقية والروحية وجعلته مفهوماً مادياً خالصاً.
وقد اعترف ساطع الحصرى بأن إسرائيل قومية تقوم على الدين ورفض اعتبار الإسلام مقوماً بوصفه دينا. ذلك أن مفهوم ساطع الحصري للإسلام ناقص، فهو يراه دينا لاهوتياً وليس ديناً ومنهج حياة ونظام مجمتع على النحو الذي يؤمن به دعاة العروبة الإسلامية.
لقد فهم الإسلام على أنه "عين عبادي" كما فهم الأوربيون المسيحية، ولم يفرق بين الدين بعامة والإسلام، ولم يفرق بين العصر والبيئة والجذور الثقافية التي يختلف فيها عن مفهوم القومية في أوربا. ولقد كان مفهومه العروبة ناقصاً. فلم يصل إلى مفهوم العروبة المترابط مع الإسلام. هذا الترابط الجذري الذي لا سبيل للانفكاك عنه.
ويرى كثير من الباحثين أن ساطع الحصري لم يعايش المناخ العربي قبل أن يضع مجموعة آرائه، وأنه استهدي بمناخ البلقان والنظرية الألمانية في حركته القومية التي رفع فيها شعار اللغة في مواجهة الدولة العثمانية المتحرر منها. وأنه كان حاقداً على الترك حقد المحافل الماسونية التى احتضنت الاتحاديين ووجهتهم وجهتها، ودفعتهم إلى الدعوة إلى الذئب الأغبر كرمز لها بدلا القرآن.
وقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميات "ماكس مولر" "وتوردو" وهما فيلسوفان يهوديان قصداً من وراء نظرية اللغة إلى إحياء القومية اليهودية.
وقد اعتبر ساطع الحصري اللغة أساس القومية، وعارض نظرية الأرض التى دعا إليها أنطون سعادة دون أن يتنبه إلى أن الفكر لا اللغة هو مصدر الوحدة.
وقد أجرى ساطع الحصري الجدل حول عديد من النظريات الأوربية في القومية دون أن يواجه جوهر المفهوم العربي الإسلامي المصدر والجذور. هذه الجذور التى تجعل من العسير فصل اللغة عن الفكر واعتبارها مقوماًَ منفصلا، أو الاعتماد على نظرية بقاء اللغة أو ضياع اللغة مع أن الأساس هو بقاء للعقيدة والفكر الذى يحمى وجود الأمة الحقيقى.
والواقع أن ساطع الحصري كان غربي الفكر أساساً بل وغربي الذوق أعجمي النطق، وأن تركيبه الثقافي والاجتماعي يحول بيته وبين تبنى نظرية عربية أصلية مستمد من واقع الأمة العربية وكيانها، وذاتيتها وقيمها التى لا تنفصل فيها اللغة والتاريخ عن الفكر نفسه. وفي ذلك مغالطة أو جهل. ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أمة فحسب ولكنها في نفس الوقت لغة فكر وعقيدة فإذا كان العرب وهم مائة مليون يتحدثون بها فإنها لغة العقيدة والفكر لألف مليون من المسلمين مرتبطين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك التراث الضخم من الفقه والعلم والتاريخ. وأن اللغة لا تنفصل عن الفكر وأن تاريخ العرب لا ينفصل عن تاريخ الإسلام.(40/211)
ومرجع ذلك إلى أن ساطع الحصري نشأ - كما ذكرنا - في بيئة الاتحاديين الأتراك الذين كانوا صنائع للفكر الغربي، والذين نشأوا في أحضان المنظمات الماسونية، وحملوا لواء الإيمان بالفصل من الدين والمجتمع، وفهموا الإسلام فهما غربيا على أنه دين لاهوتي.
وعلى هذا الفهم الخاطئ القاصر قامت نظرية ساطع الحصري التى لمعت تحت تأثير الخداع والأهواء حتى أن بعض دعاة الماسونية في العالم العربي راح يفسر عن طريقها تاريخ الإسلام كله فيرى أنه تاريخ قومي عنصري عربي. ومن ثم وجهت عبارات الحقد والخصومة إلى الأمة الإسلامية، وهذا هو الثمرة الحقيقية التى تهدف إليها حركة الغزو الثقافي والتغريبي من طرح هذه النظرية القومية، الإقليمية الضيقة العدوانية الوافدة. بديلا عن المفهوم الأصيل للعروبة في إطار الإسلام كما كان يفهمه شكيب إرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد المبارك.
هذه النظرية المضطربة التى خدع بها ساطع الحصرى الكثيرين، والتى سايرها كثير من المثقفين قبل أن يعرفوا سمومها العميقة. فلما عرفوها هاجموها وكشفوا زيفها.
والنظرية مضطربة من أساسها. ولو كان ساطع الحصرى حسن النية لصحح موقفه من فهم الدين فهما غربيا لا تركيا وفهم الإسلام بمعناه الجامع بين العقيدة ونظام المجتمع. لقد اعتمد أساس نظرية مفهوم الدين اللاهوتي بمفهوم أوربا والغرب للدين، ولذلك عجزت النظرية عن أن تنجح في إطار الفكر الإسلامي، بل إن كل العناصر التى عالجها كانت عناصر البيئة الغربية في مواجهة الصدع بين الجامعة المسيحية الأوربية وبين القومية الإقليمية والتي كانت وراءها اليهودية الصهيونية لتمزيق هذه الوحدة والسيطرة على كل قطر على حدة. وهو نفس ما أرادته بالنسبة للجامعة الإسلامية التركية التى وقفت أمام دخول الصهيونيين إلى فلسطين وموقفهم من السلطان عبد الحميد واضح معروف.
إن كل التحديات التى تعالجها نظرية القومية الوافدة لا توجد أساساً في المناخ الإسلامي. هذا فضلا عن اختلاف مفهوم "العروبة" عن مفهوم القومية في الغرب فضلا عن اختلاف مفهوم الإسلام عن مفهوم الدين بصفة عامة.
ومصدر خطأ ساطع الحصرى أنه عجز عن فهم أبعاد الفكر الإسلامي وأعماقه، وعلاقة العرب بالإسلام، وعاش في مؤلفاته خادماً لنظرية القومية الأوربية الوافدة التى قدمها النفوذ الأجنبي من بين ما قدم ليحطم الوحدة العربية الإسلامية الجامعة بعد أن عجز عن فرض الإقليميات القائمة على التاريخ القديم كالفرعونية والفينيقية والأشورية والبابلية.
وذلك أنه لما رأي هذه المحاولات تتهادى ورأي أن العرب يتجهون إلى الوحدة أراد أن يفرغ هذه الوحدة من مضمونها العقائدي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والآخرة إلى مفهوم اقتصادي مادي صرف، وبذلك فشلت نظرية القومية الوافدة كما فشلت مناهج التعليم الغربي، والقانون الوضعي وأسلوب التنظيمات السياسية الليبرالية وغيرها.
ولقد وقف ساطع الحصرى في وضوح موقف الخصومة والحقد والتعصب على الإسلام كلما عرض له، وقد تجاهله طويلا في أبحاثه كأن العرب لم يعرفوه خلال تاريخهم الطويل. وكانت محاولاته للفصل بين اللغة العربية والفكر الإسلامي من ناحية. وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام محاولة ساذجة. ثم كشف نفسه وأسقط مكانته كاملة حين اعترف بالقومية اليهودية القائمة على الدين، بينما عارض عنصر الدين في فهم القومية العربية وإن كانت كلمة "دين" لا تؤدي معنى الإسلام حين يكون البحث حول العروبة.
وقد ثبت أن ساطع الحصرى قد خدم بدعوته وفكره مفاهيم الماسونية والنظرية القومية الوافدة التى كان النفوذ الغربي حريصا على تلقينها العالم العربي. وهي ليست إلا صورة مفهوم الإقليمية اللبنانية والمعروف أن ساطع الحصري كان من أعمدة وزارة المعارف في تركيا منذ أوائل حكم الاتحاديين في تركيا العثمانية إلى أن انتهت الحرب الأولى. وإنه كان من أخطر الموجهين للبرامج التربوية والتعليمية في العراق. حيث عمد إلى فصلها عن الإسلام فصلا تاماً. وكان دوره أشبه بدور الدكتور طه حسين في التعليم المصري.
لقد حاول ساطع الحصرى أن يقيم "فكراً عروبياً إقليميا". منفصلا عن الإسلام في روحه ومضامينه وشريعته. ولقد تجاهل أعماق الأثر الذي تركه الإسلام في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ وتجاهل أثر القرآن الكريم في اللغة العربية وفي العرب، ومدى ترابط ذلك إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة بالأمة الوسطى الحنيفية السمحاء التى جاء بها إبراهيم عليه السلام فربطت هذا العالم الوسط "عالم العرب والإسلام" بروابط تاريخية وثقافية عميقة دعمتها الأديان السماوية التى نزلت في أرض الرافدين، وختمتها رسالة الإسلام العالمية التى نزلت في الجزيرة العربية.
(8)
محمد التابعي
الرجل الذي أنشا صحافة البحث وراء أسرار البيوت والذي نقب عن خفايا الأسر والأعراض، وهو الرجل الذى دعا رجاله الثورة إلى ديكتاتورية الحزب الواحد وحرض على الدعاة إلى الله بالقتل والإبادة.(40/212)
انتهت حياة الرجل الذي كان له أكبر الأثر في إنشاء الصحافة الهزلية: الكاريكاتير الساخر، والبحث خلف أسرار الناس والتطلع إلى ما وراء الأبواب المغلقة. ذلك هو الأستاذ محمد التابعي الذي تصدر هذا الفن في الصحافة المصرية الحديثة منذ عام 1926م حينما تولى إصدار مجلة "روز اليوسف" مع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة هذا المجلة، ثم انفرد بهذا الفن حين أصدر مجلة "آخر ساعة" عام 1934 وكانت فنون الكاريكاتير السياسي والسخرية قد بدأها "سليمان فوزي" صاحب "الكشكول" التي كانت تحمل على حزب الوفد حملات قاسية مما دعا مكرم عبيد إلى اقتناص محمد التابعي ليحمل لواء هذا الفن للدفاع عن الوفد بنفس أسلوب الصحافة الهزلية والكاريكاتير والسخرية من كل القيم والإيغال في مهاجمة كل الأخلاقيات واقتحام أسوار الأسر والبيوت لابتداع فن الخبر الاجتماعي المثير الذي كان سلاحاً قاسيا في ضرب السياسيين القدامى ورجال الأحزاب بعضهم ببعض.
وقد بلغ الأستاذ محمد التابعي بإشرافه على مجلة روز اليوسف قمة التعريض والهجاء والنقد اللاذع عن طريق الخبر والكلمة والصورة.
وقد بدأ التابعي عمله في الصحابة ناقداً مسرحياً ثم تحول إلى التعليق السياسي وعندما حُوكِمَ وصدر الحكم عليه بالحبس سنة أشهر مع إيقاف التنفيذ لم يكن ذلك في سبيل الدفاع عن حقوق وطنيه وإنما كان من أجل مقالات عن مقالات عن مغامراته في أوربا تحت عنوان "ملوك وملكات أوربا تحت أجنحة الظلام". يقول الصحفي محمد على غريب: إنه لما كانت توجد مجلة الكشكول وقد تخصصت في مهاجمة سعد زغلول ولقيت الرواج العجيب، لذلك صح الرأي في أن تصبح روز اليوسف مجلة سياسية واستطاع التابعي أن يجهز على مجلة الكشكول وقد عرف أسلوب التابعي بالسخرية القاسية والدعاية العنيفة.
ويعد محمد التابعى صاحب هذه المدرسة التى سارت عليها من بعد كل صحف الكاريكاتير في مقدمتها روز أليوسف، وأخبار اليوم.. ويعد مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس من تلاميذ هذه المدرسة العتيدة. وقد تعود التابعي كما كتب على أمين في آخر ساعة ألا يعود من الخارج إلا ليحزم حقائبه لرحلة جديدة حتى إنه لم يكن يستقر في مصر أكثر من شهرين في السنة فيقضى الشتاء في سان مورتز والربيع في باريس ومونت كارلو، والصيف بين رأس البر والاسكندرية وإيطاليا، والخريف في القاهرة ليستريح من عناء رحلات الشتاء والربيع والصيف، وإنه يوما في جزيرة كابري ويرها في مونت كارلو وإنه يسافر ومعه أكثر من عشرين حقيبة ملابس الصيف والشتاء والربيع والخريف وملابس الصبح والضحى وبعد الظهر والمساء والليل وإنه ينزل في الجناح الملكي لفندق سوفرنيا.
وقد دمغ القضاء المصري صحافة الكاريكاتير الهزلية هذه في كثير من المحاكمات التى قدم لها التابعي بأنها "تنشر فاحش القول وسقطه وإنها غالت في الاقذاع في الناس، والبحث وراء أسرارها في تعريض وتلميح، وإن أصحابها يغمسون أقلامهم في السموم القاتلة والتصادير الخلاعية التى كان لها أسوأ الأثر في قرائها من الشباب المراهقين. وكان التابعي حريصاً على فضح أسرار الأسر والبيوت وكشف خفاياها وأعراضها لحساب الخصومة الحزبية.
هذا هو الأثر الأول والضخم في حياة محمد التابعي الذى نماه من بعده وطوره اتباعه وتلاميذه وحواريوه بكل الدول الصحفية تقريباً والذى كان ولا يزال بعيد الأثر في الصحافة المصرية الحديثة. وما كتابات إحسان عبد القدوس التى ينشرها بالأهرام هذه الأيام عنا ببعيد.
أما الأثر الثاني في حياة محمد التابعي فهي موقفه الخطير فى التحريض على الدعاة في سبيل الله ورجال الدعوة الإسلامية كراهية في تطبيق الشريعة الإسلامية، وعملا على تدمير القوى المؤمنه التى تحمل لواء الدعوة إلى تحرير الحياة الفكرية والاجتماية من التحريض على الفساد والشهوات والصور العارية والقصص الماجنة وغيرها من الأساليب التى كان يعمل لها أصحاب التابعي وتلاميذه وهم يبثون في ثنايا كتاباتهم ذلك اللون الخطير الذي أريد به إفساد شباب الأجيال وتدميرهم وانحلالهم.
وقد وقف التابعي مرتين موقف التحريض على "جماعة الإخوان المسلمين" في محاولات الحل الذى تعرضت له مرتين عام 1949م وعام 1954 . وفي كل مرة كان قاسيا على أهل القرآن، متهما إياهم بكل نقيصة، محرضا عليهم بالقتل والسحق والإبادة حتى لا يجد قلما أو لساناً ينقد تصرفه الفاسد ودعوته الضالة.(40/213)
أما الأثر الثالث الذى يوضع في ميزان أعماله عند الحساب فهو دعوته الحادة المسمومة إلى ديكتاتورية "الحزب الواحد" وتنكره لكل أساليب الديمقراطية والنظم التي تسمح بالرأي الآخر أو وجهة النظر الأخرى.. وقد غالى التابعي في الدعوة إلى الحزب الواحد وأغرى به حكام مصر في فترة من أدق فترات التاريخ السياسي كان المصريون يتطلعون فيها إلى نظام دستوري يحقق الشورى والعدل، فإذا به يظاهر دعوة الدكتاتورية القابضة على الرقاب والعقول والنفوس فكانت تلك هي آخر كلماته التى عارضه فيها أقرب الناس إليه وتلميذه الأثير "مصطفى أمين". ثم أصابت التابعي على أثر ذلك ضربة القدر التى لا تتخلف إزاه كل ظالم ومدمر لقيم هذه الأمة وأخلاقها.
(9، 10)
مدحت وأتاتورك
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
"الرد على عبد الحميد الكاتب"
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية ولماذا يوصف عمل مصطفى كمال أتاتورك بإسقاط الخلافة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة" أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!
وقد نسى هؤلاء وأولئك حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم : "إن أول دينكم نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام يجرانه على الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الارض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته، وما ينطق عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذى جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية "حدثا" خطيراً لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية، وقد كان مصدراً لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملا ضروريا بعد أن فسد الدعوات الإقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولابد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
معلومات مسمومة:
ولست أدرى لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة مضللة انتشرت زمناً وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التى تدحضها؟
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!!
والحقيقة أن الرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي" هم عملاء النفوذ الاجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب ورصفها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديا مثل "مدحت" أو رجل هو من الدونمة أصلا مثل "أتارتورك" إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلا بتزييف "صفحة الدولة العثمانية" والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!(40/214)
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أريد بها القضاء على النظام الإسلامي وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلا أعلى للتقدم والتجديد ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عاماً لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذى جاءت ثورة إيران اليوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلها أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وإن الذين حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي "شرقية وغربية" سبيلا للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم، فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية والحيلولة دون امتلاك المسلمين لإرادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو امتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
مدحت باشا:
إن الصورة التى رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلا قومياً ولكنه كان واحداً من قوى المؤامرة التى أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفاً لدى السلطان عبدالحميد الذى كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافية الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيداً في الحقيقية، لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإٍسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذى دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإٍسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذى كان عاملا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد "هرتزل" عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من تمثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته .. وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير. فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه "خاطرات جمال الدين"، يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التى عجلت به. وهي قوله:" يا مسلمى العالم اتحدوا" وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية "العرب والترك" تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعاً شديداً. فقد مضى بخطى حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقية هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون إسقاط الدولة. كان ذلك فهم أحرار العثمانين والعرب جميعا، وقد كان هذا ممكناً لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين أعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
وحدة إسلامية وليست عنصرية(40/215)
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدول العثمانية لم تكن علاقة استعمار. فإن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.
زيف ما في كتب الموارنة واتباعهم:
ولاشك إنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون" عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانها من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدول العثمانية وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى الباحث المنصف أن يرجع إلى الإضافات الجديدة التى ظهرت بعد الخمسينات والتى تكشف فساد ما كتبه جرجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل بيهم، وعبد الله التل، والعقاد وخليفة التونسي وعجاج نويهض وتوفيق بروه فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التى ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم. لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت إلى العربية، فلماذا هذا التزييف يحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
حقيقة أتاتورك :
إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهداً ولا مصلحاً، وإنما كان تتمة الاتحاديين. لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني. فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفى ماليتها ووجودها. وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغرب، وينقلها نقلة واسعة من دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضى على الإسلام تماماً، ومعاهدته السرية المعروفة التى عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدى دوره كاملا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم. أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفا، وأن غيره هو الذى قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.
ولقد كان أتاتورك عميلا غربيا كاملا، وعميلا صهيونيا أصيلا، وقد أدى دوره تماما. وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التى تركت آثارها من بعد العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرؤا الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى. وذلك دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة لفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم "هاملتون جب" إن العرب لم يقعوا في براثن هذه التجربة التى خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلا منه رئاسة الدولة التركية. وكان كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التى يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. لقول توينبى إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شئ إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.(40/216)
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعى المدعون شيئا جديداً ولكنه كان حلقة في المؤامرة التى بدأها مدحت وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وهو عمل ضمن مخطط يرمى إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، ودعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس. وهم عناصر الأمة الواحدة التى جمعها القرآن وقادها صلى الله عليه وسلم وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربى في كتابه "حاضرالعالم الإسلامي قبل أربعين عاما" وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية " ودورها الذى قامت به في وجه الصليبية الغربية.
أما صيحة العناصر والأجناس التى حاول كاتب أخبار اليوم يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية. أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليمية والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التى كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.
ولا ريب أن الأسلوب الذى اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التى استطاعت أن تحمى وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة بإسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصراً عسكرياً أو سياسياً وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذى فتح الطريق إلى كل شئ، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال. وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذى لم يكن إلا عميلا من عملاء الخيانة لحسابه الصهيونية العالمية، والنفوذ الغربي، والشيوعية أيضا فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام.
ولا شك أن الضربة الذى وجهها أتاتورك إلى الخلافة الإسلامية قد فتحت صفحة خطيرة في تاريخ الإسلام الحديث، وأن الذين فرحوا لذلك من كتاب يكتبون باللغة العربية سوف يرون أنهم كانوا غير بعيدي النظر في فهم الأمور، وأنهم استعدوا ذلك الفرح من مشاعر حافلة بالحقد والكراهية للإسلام، وأن الخلافة الإسلامية عائدة لا محالة، وأنها هي العنوان الحقيقي للجامعة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وأنه لا سبيل إلى نهضة المسلمين إلا بقيام الخلافة الإسلامية. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعندها ستنكس روؤس الظالمين.
المعاهد السرية
التى عقدها أتاتورك والتى سميت بشروط كرزن الأربعة:
ينص بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 المعروفة بشروط كرزن الأربعة على ما يلى:
أولا - قطع كل صلة بالإسلام.
ثانيا - إلغاء الخلافة الإسلامية.
ثالثا - إخراج أنصار الإسلام من البلاد.
رابعا - اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.
غاندي
غاندي سرق الحركة الوطنية من المسلمين. والهندوسي الهندي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل وللشاة.
وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال منادياً بمهادنة السلطة وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوى ولقنوها لنا في الشرق هي التعامى عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.
كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التى تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزاً للمصريين أبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمد إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة نحى بها المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1957 التى قادها المسلمون كان حريصاً ألا يتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظلت تحكم الهند أكثر من خمسمائة عام مرة أخرى بعد أن أسقط دولتهم ..(40/217)
والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و " لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدما واضحا في هذا المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في لكنؤ (بمباوي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطنى العام وسموه المجلس الملى الوطنى الهندى العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات "وهم لا يريدون من كلمة الأقليات غير المسلمين" وفي عام 1916 تنبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد على، شوكت على .ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918، أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان "المسلمون والهندوس" على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعمالء الفريقين.
وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسية المسلمين، فاجتمع زعماءهم في لكنؤ بدعوة مولاى عبد البارى رئيس علماء أفرنجى محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية. فأطلق هذه الجماعة "جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين" وتأسست جميعة الخلافة في بومباي "18 فبراير 1920" برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجى خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعرفون في الهند. ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسى الأشهر في تقريره الذى قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.
كان "غاندى" إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعاً في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تأليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في الناتال وجنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولدى "خوجندى" وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبة للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوى هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافية مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وتدبوه السعى إلى ذلك فقام وطاف الهند على حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بالانضمام إلى الكونجرس "المؤتمر الوطني" الذى تأسس لملاحقة المسلمون، وانتزع حقوقهم في الهند. فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازاً على الثقة في "غاندي" وعقد الكونجرس اجتماعا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس ولما تلى عليهم القانون الأساسى اقترحوا تعديل المادة التى تقول باصلاح حالة الهند إلى عبارة "استقلال الهند" فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا باجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة "البريطانية" لهذا التغيير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون. واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان "الأمة الهندية" وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره "مؤتمر جمعية الخلافة" فأعلن موافقته أيضا بالاجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندى خطيبا وقال، إن اتحاد الهندكة مع المسلمين يبقى متينا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها. ورد عليه أبو الكلام آذاد فقال:
"إن كان غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دمائه وليعلم غاندى أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا على الله عز وجل وعلى أنفسهم".(40/218)
وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسولم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب النياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الانجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادك محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتداداً عظيما ليس له مثيل. فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء لأن السجون لم تعد تسع المعتقلين. وخطب اللوردريدنج "الحاكم العام" في كلكتا فقال:
إننى شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدرى ماذا أصنع فيها.
ومن هذا السياق تستطيع أن تصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغاً ما بلغ من النشاط السياسى لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع زعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالا فعليا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن. فكان الوطنيون يرفعون قضياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث إرتباك شديد في الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلا من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندى، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندى على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد قال لغاندى:
"إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعماءها فلو أسرعنا وأجبناكم إلى طلباتكم، وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستعدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولا لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإنى أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتصل في الاعتراف لكم بالاستقلال".
وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على "مولانا محمد على" كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة .. يقول في هذا التعليق:
"أن ما فهمته الحكومة كان مخالفاً لمرادى" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد على لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سرياً لايطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير السحرى الذى كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
"إن محمد على تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التى ارتكبها".
وأنهم محمد على من المسلمين بالتراجع، ورمى بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفه إلا حين مؤتمر الخلافة في كراتشى "أغسطس 1920" حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انقباض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء: شوكت على، حسين أحمد، كثار أحمد، بير غلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعاً إلى المحكمة المخصوص للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملا بقرار المؤتمر السابقة وامتنوعا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد على، سيف الدين كنشلو منشوراً بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة "أحمد أباد" سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية التى ستقرر الإفراج عنهم، ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس "ديسمبر سنة 1920" حضر غاندي وقال:
"بما أن الزعماء يعتقلون، ولا سبيل للمداولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فاقترح عليكم تعيينى رئيسا للمؤتمر، وتخويلى السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحاً من الاجراءات".(40/219)
فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تتنبه إلى ما كان يغمره هو من المقاصد التى قد لا تنفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتى. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندى للحكيم أجمل خان:
"إن إعلان الاستقلال في الظروف الواهنة غير مناسب".
وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسيحيون كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 اجتمع الكونجرس تحت رئاسة غاندى في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذى يصر فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتى فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إراداتهم في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين. وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندى، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين:
هذا هو النص الذى أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبى عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندى بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندى الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.
هذا هو غاندي في حقيقته التى لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتى أخفيت عنا تماماً خلال تلك الفترة التى كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي ويدعون بدعوته إلى الاستسلام النفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف. وهذه هي الفلسفة التى استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيراً في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة أبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني ولذلك فإن هذه الصفحات التى ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندى يجب أن لا تخدعنا كثيراً فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفاً وقسوة في معاملة مسلمى الهند، وقد كانت أنديرا غاندى ابنة نهرو أبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملا على الحد من تعداد المسلمين في الهند. فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التى يراد بها تغطية حقيقة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحركة البريطانية وأدخل أمثال محمد على وشوكت على وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب الحركة الوطنية بالتآمر من أيديهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة. وذلك للعمل لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرير من نفوذ غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
(12)
زكي نجيب محمود
كان السؤال في الندوة عن مخططات التغريب والعزو الثقافي في هذه المرحلة لمواجهة حركة اليقظة الإسلامية، وانكشاف مخططات الاستشراق والتبشير، وافتضاح كل خيوط المؤامرة التى جند لها عدد كبير من التغريبيين بقيادة "المعلم" طه حسين. ثم تحطم كل هذه المخططات قبل رحليه.
والحقيقة أن النفوذ الأجنبي قد غير جلد طه حسين وحاول أن يقدم مخططاً جديداً لقيادات جديدة بعد أن هلك هذا التغريبى الكبير ووضع أمر ذلك في عدة خطوات اتخذت بسرعة لتغطية الفراغ .. منها عقدة مؤتمر ثقافي مغلق في الكويت ضم مجموعة من اتباع الاستشراق والتغريب، واليساريين، وأتباع الفلسفة المادية. وكان على رأسهم "زكي نجيب محمود" و " محمد النويهي" لمواجهة الموقف بعد وفاة ذلك الزعيم الصنم الذى كان يمر في السنوات الأخيرة من حياته بمرحلة الاحتضار.
وكذلك كلف المستشرق "جاك بيرك" بالطواف في البلاد العربية . ودول الإمارات لإلقاء محاضرات من طه حسين في محاولة لاستعادة الثقة به بعد أن تحطمت هذه تماماً نتيجة للأبحاث الى كشفت عن دخيلته وخاصة ما كاتب محمود محمد شاكر ومحمد نجيب البهيتى وكاتب هذه السطور.(40/220)
كذلك فقد حاولت جريدة الأهرام في عهد هيكل أن تجمع في نطاقها مجموعة كبيرة من دعاة التغريب أمثال توفيق الحكيم الذى وصف إسرائيل بأنها دولة متحضرة. وحسين فوزى الذى تنكر لعروبته واعتز بفرعونيته ورضى لنفسه أن يجعل درجة الدكتوراة من جامعات العدو. ونجيب محفوظ الذى عرف بتلمذته لزعيم التغريب سلامة موسى وهي ما تزال تحتفظ بهم إلى اليوم بعد أن أضيف إليهم أنيس منصور ويوسف إدريس.
وقد بدأ في السنوات الأخيرة أن الأضواء كلها قد ركزت تماماً على الدكتور زكي نجيب محمود كقائد لهذه الكتيبة التغريبية وقد مهد الدكتور لذلك بأن أعلن أنه أعاد النظر في التراث الإسلامي "وأسماء العربي" في محاولة لخداع البسطاء ولتغطية ماضى طويل في الفكر المادي كانت قمته كتاب المعروف "خرافة الميتافيزيقا" أي بمعنى صريح اتهام مفهوم الغيب الذى جاء به الإسلام بأنه خرافة. وإنكار كل ما سوى المحسوس والمعفول متابعة في ذلك للمذهب الفلسفي الذى اعتنقه طوال حياته مقلداً في ذلك فيلسوفاً أوربياً مادياً ملحداً ينكر الأديان المنزلة ويفاخر بأنه يمثل مدرسته "أوجست كونت" وفي طريق كسب الأنصار والتقرب إلى الشباب الواعي المثقف يتحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الإيمان بالله وعن الإيمان باليوم الآخر، وعن أعلام التراث: الغزالى وغيره. وذلك كله محاولة لإلقاء حاجز بين الماضى والحاضر وإحراز الثقة التى تمكنه من بث مفاهيمة وآرائه.
ونحن لا نتهم أحداً في عقيدته ولا تتعقب العورات ولا نلتقط ما نتكشف عنه السرائر من وراء الوعى ولكننا نقرر بدأءة بأن المنهج الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود معارض لمفهوم الإسلام الصحيح من جوانب عديدة وخاصة بالنسبة لتلك القضية الكبرى التى يثيرها في كل كتاباته وهي مسألة العقل والعقلانية فالإسلام لا يعطى العقل هذا السلطان المطلق كله، ولا يقر مثل هذا المعنى. وإنما يرسم للعقل طريقا كريماً في ضوء الوحى. والعقل في الإسلام مناط التكليف ولكنه ليس حكماً على كل شئ ذلك لأن العقل أداة تصلح إذا صلح تكوينها وتفسد إذا فسد تكوينها. وهي إن اهتدت بالوحى أضاءت وأشرقت عليها أنوار الفهم. أما إذا اهتدت بالفكر البشري فإنها تكون بمثابة أداة تبرير لكل شر ولكن أهواء النفس.
فالعقلانية بالمعنى الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود نظرية مادية صرفة ومرفوضة تماماً. وإذا كان هو وجماعة المستشرقين والتغريبيين يعتزون من التراث بالجانب الخاص بالمعتزلة فإن هذا الاعتزاز لا يمثل إلا إنحرافاً في مفاهيم الفكر الإسلامي. فالمعتزلة خرجوا عن مفهوم الإسلام الجامع المتكامل بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدنيا والآخرة. وأعلوا مفهوم العقل. فانحرفوا وتحطموا وحكمت عليهم الأمة كلها بأنهم خرجوا عن مفهوم الإسلام الصحيح حين دعوا إلى خلق القرآن واستعدوا الخلفاء على المسلمين والعلماء. وقد هزمهم الله شر هزيمة على يد الإمام أحمد بن حنبل، وأعاد للإسلام مفهومه الأصيل الجامع.
والموقف نفسه يقفه الإسلام بالنسبة للدعوة إلى التصوف كمنطلق وحيد لهم الحياة والأمور من خلال الحدس والروحانيات وحدها ولقد كان هو زكي نجيب محمود في دراساته في التراث مع ذلك المفهوم العقلاني الذى انحرف عن مفهوم الإسلام الجامع، والذى استمد مادته من الفلسفات اليونانية الوثنية المادية، والالحادية الإباحية التى غامت سحابتها على الفكر الإسلامي ثم انقشعت تحت تأثير أضواء المفهوم القرآنى الأصيل.
كذلك فإن مفهوم الدكتور زكي نجيب محمود للألوهية مفهوم ناقص وقاصر لا مفهوم الإسلام "على النحو الذى أورده في مقاله في الهلال".
لقد مرت البشرية بمراحل كثيرة في فهم الألوهية ناقصة ومنحرفة وجاء الإسلام بالمفهوم الجامع الحق فلم يعد هناك مجال لإعادة ترديد هذه المفاهيم بعد مرور أربع عشر قرنا على نزول دعوة التوحيد الخالص.
إن الذى يقبله شباب الإسلام اليوم من الباحثين هو مفهوم الله الحق لا مفهوم الآلهة كما فهمه الوثنيون أو المعددون، أو المشركون الذين كانوا يؤمنون بالله خالقا ولا يؤمنون به مصرفاً للأمور كلها .. وقد جاء الإسلام ليكشف هذه الحقيقة وحدها، ويدعو إليها وهي: "إسلام الوجه لله".(40/221)
أما مفهوم الإيمان بالله على النحو الذى كتب عنه الدكتور زكي نجيب محمود فهو عرفه المشركون ولم يقبله منهم الإسلام. ولعل من أكبر الخطأ عرض مفهوم أرسطو وأفلاطون في الألوهية ومحاولة تفسيره بمفهوم الإسلام مع أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك بل إن القرآن الكريم دحض كثيراً من مفاهيم أرسطو وأفلاطون والفلسفات اليونانية والوثنية والعنوصية لنقضها وقصورها. وخاصة ما ادعاه هؤلاء من أن الله تبارك وتعالى يدير ظهره الكون ولا يعلم الجزئيات، وأن المادة خالدة إلى غير ذلك من تلك التفاهات بل إن مفاهيم أرسطو وأفلاطون للألوهية تدخل تحت ما أسموه "علم الأصنام" فكيف يقدم هذا المفهوم الشباب المسلم اليوم على أنه مفهوم الألوهية الحقة؟! ولقد كشف علماء المسلمين منذ وقت بعيد فساد مفاهيم الفكر البشرى ونقصه. وكيف أنها منحرفة . وكيف أن الله تبارك وتعالى يعلم الأمور كلها " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس".
وأن هذا الكون ليس مخلداً، ولا باقياً وأن له نهاية كما كانت له بداية، وأن الله تبارك وتعالى يمسك هذا الكون لحظة بعد لحظة ويديره ساعة، وأن كل ما يقوله الفلاسفة هراء.
والمسلمون يعلمون أن الكتب المنزلة حرقت وغيرت مفهوم الألوهية الحقة "الله رب العالمين" فنسبه البعض إلى أنفسهم وقالوا: إنه رب الجنود وربهم وحدهم. وقال الآخرون بأن لله ولداً وكذبوا "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه".
وليس مفهوم الألوهية صحيحاً ولا كاملا إلا فى الإسلام وحده. مفهوم إسلام الوجه لله: "إياك نعبد وإياك نستعين".
وقد حاول الفكر البشرى أي يزيف مفهوم الألوهية الحقة. وأخطأت الماسونية حين قالت:" المهندس الأعظم" وهناك انحرافات الباطنية والماديين والوجوديين ودعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد على النحو الذى عرف عن كثيرين. وهناك مفهوم الإسلام بوصفه ديناً لاهوتياً. والحقيقة أن المطلوب ليس إثبات وجود الله تبارك وتعالى ولكن المطلوب معرفة حقيقة هذا الوجود بعيداً عن هذه المفاهيم المنحرفة ويستتبع الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان بشريعته.
ولكن الدكتور زكي نجيب محمود لا يلبث أن ينتقص من شأن هذه الشريعة وبصفها بأنها قاصرة ومجافية للعصر ويطالب بتخطيها في سبيل تحقيق المعاصرة، وهو يقبل بالحضارة الغربية كما كان يقبل بها سلفه طه حسين "حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب" فما عرف عنه أنه دعا المسلمين إلى أخذ العلوم مثلا دون أسلوب العيش ولكنه يدعو إلى شئ غريب هو أن المسلمين ليس لهم فلسفة حياة وهو ادعاء باطل وظالم.
فكيف يمكن أن يقال لأصحاب القرآن الذى وضع منهجاً للحياة والمجتمع غاية في الاحكام جربته الشعوب والأمم ألف عام فأقام فها حياة الرحمة والعدل والإخاء البشري. كيف يمكن أن يقال لهذه الأمة إنها لا تمتلك منهج حياة. وكيف يقبل وهو العقلاني الصحيف هذا المنهج الذي يعيش الغرب سواء الغرب الليبرالى أم الماركسى في ذلك الخضم العفن الفاسد المتآكل من الشهوات والإباحيات والانحراف والتحلل والغربة بشهادة كتاب الغرب والشرق على السواء.
وكيف يغض وهو الأمين على الكلمة عن أزمة الحضارة وأزمة الإنسان الغربي. وقد قرأ عشرات من الكتابات آخرها ما كتبه "سلجوستين" ودمغ به حضارة لغرب التى يكبرها زكي نجيب محمود وحسين فوزي وتوفيق الحكيم. ويفخرون بها ويغوصون بأقلامهم في تلك الحمم من الدماء والعفن والفساد. وهم يقولون لا إله إلا الله على الأقل وراثة، ويرون كيف يقدم الإسلام ذلك المنهج النقى الطاهر الأخلاقي الكريم الذى يرفع من قدر الإنسان. وكيف يحق لأمة تحمل لواء القرآن "ألف مليون مسلم" أن تتخلى عن رسالتها في تبليغ كلمة الله الحق إلى العالمين وتنصهر في بوتقة الأممية والحضارة المنهارة التى تمر بآخر مراحلها.
وهل من الأمانة أن يدعو هؤلاء أمتهم إلى هذا وهم روادها، والرائد لا يكذب أهله ولا يغشها. إن مسئولية القلم وريادة الفكر هو أضخم المسئوليات عند الله تبارك وتعالى يوم الحساب. وقد كان أولى بهم جميعاً أن يصدقوا أمتهم النصح ويدعونها إلى أن تقميم حضارة الإسلام مجددة في إطار "لا إله إلا الله" والأخلاق والرحمة والإخاء الإنساني وأن يلتمسوا أسلوب العيش الإسلامي ليقدموا للبشرية نموذجاً جديداً نقيا تتطلع إليه النفوس والأرواح اليوم بعد أن عم الفساد البلاد الغربية كلها من جديد. ولن يكون غير الإسلام وسوف يدمغهم التاريخ بأنهم كانوا رواداً غير مؤتمنين على الأمانة. وسوف تكتب أسماؤهم في سجل الذين عجزوا عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينصحوا لأمتهم وهم الذين عاشوا حياة الغرب، وعرفوا فساد مناهجه وأساليب حياته، وعرفوا أن هذه الأمة الإسلامية الكريمة على الله أعز من أن تسحق في أتوان الشهوات وأن تدمر بأيدى أبنائها ودعاتها الذين تلمع أسماؤهم وتخدع الناس شهرتهم.
إن الدكتور زكي نجيب محمود قد أخطأ الطريق حين فهم التراث الإسلامى ذلك الفهم الذى جعله يكرم أمثال "ابن الراوندى" "ومزدك"، و"مانى"، و"الحلاج"، و"الباطنية"، و"الشعوبية" و"إخوان الصفا" وتلاميذهم.(40/222)
كذلك فهو مؤمن بمجموعة من المسلمات الخاطئة من عصارة مفاهيم الفكر البشري الوثني المادي فضلا عن أن إيمانه بالعلم والعقل وحدهما وهو في مفهوم الإسلام قصور شديد عن المفهوم الجامع.
وإني لأسأل الدكتور زكي نجيب محمود: هل يؤمن بالوحي؟ هذا هو مقطع المفصل بيننا وبينه. وإذا كان يؤمن به فلماذا لم يعلن فساد منهج كتابه "خرافة الميتافيزيقا" ولماذا لا يؤمن بهذا الوحى الذى جاء به القرآن شريعة ومنهج حياة؟
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود قد تراجع عن، خرافة الميتافيزيقا" وغيرها من آرائه. أليس من الشجاعة أن يعلن ذلك صراحة حتى يستطيع أن يكسب إلى صفه بعض الناس.
إن محاولة اقتعاد مكان طه حسين اليوم هو أمر مضيع. فقد انتهى ذلك العهد وصحا الناس وخطت حركة اليقظة الإسلامية خطوات واسعة فكشفت عن فساد تلك النظريات والأطروحات الزائفة التى قدمها الآباء العتاة الذين كانوا يستقبلون أبناءنا في الجامعات الأوربية وهم من اليهود أمثال مرجليوث ودور كايم غيره.
أما قول الدكتور زكي نجيب محمود أن الثقافة الإسلامية في العصر العباسى قد اغترفت ثقافات الدنيا بغير حساب فهو قول باطل. لقد وقفت الثقافة الإسلامية موقف التحليل والغربلة لكل ما ترجم، وأخذت منه ما وجدته صالحاً ومطاباق لمفهوم التوحيد الخالص. أما ما عدا ذلك فقد رفضته وشنت عليه حربا عنيفة، وأخرجت دعاته من طريق الفكر الإسلامى فأطلقت عليهم اسم "المشاؤون المسلمون" إعلانا لتبعيتعم المشائين اليونانيين، ولم تقبل منهم ما جاءوا به.
وأعلن المسلمون أن منهج اليونان أو منهج العنوصية الشرقية كلاهما باطل وأن للإسلام منهج خاص مستقل كما نفعل نحن اليوم إزاء ما يقدمه التغريبيون من فكر الشرق والغرب مما هو ليس مقبولا في الإسلام بحال.كذلك فإن نظرية زكي نجيب محمود بالتوفيق بين المترجم الوافد الغربي وبين المجدد من التراث الإسلامي "وهو ما يسميه بالعربي استنكاراً" هذه نظرية ليست متسحدثة بل هي نظرية طه حسين وهيكل والزيات وغيرهم. وهي نظرية اتضح بطلانها. أما ما تعارفت عليه اليقظة الإسلامية فهى أن يقوم أساس إسلامي أصيل من مفهوم الإسلام الجامع "بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع" وفي ضوئه يحاكم التراث كله والوافد كله، ولا يقبل إلا ما يزيد هذا المنهج قوة وعماً مع الاحتفاظ بأسلوب العيش الإسلامي "عقيدة وشريعة وأخلاقا" ودعوى زكى نجيب محمود بالمواءمة مرفوضة. فالمسلمون على استعداد التضحية بالتقدم المادي في سبيل الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي هي في حقيقتها ليست معوقة للتقدم المادي ولكنها حائلة دون فساد الحضارة الغربية وزيفها وانحلالها الذى يود هؤلاء القوم إغراق هذه الأمة فيه والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(13)
سارتر
وعبد الرحمن بدوى
جرى التساؤل في الندوة حول نظرية الوجودية بعد أن هلك سارتر وما هي الآثار التي تركتها على جبين الأدب العربي والفكر الإسلامي؟
والواقع أن نظرية الوجودية قد نفقت قبل هلك سارتر بوقت طويل وإن حاول هذا الشقي أن يمد من عمرها بانتمائه في السنوات الأخيرة إلى الشيوعية واحتضانه لقضايا الصهيونية إذ هو نصف يهودي كما كان يطلق عليه عباس العقاد لأن أمه يهودية. وقد خدع بعض البلهاء من المصريين حتى أعدوا له زيارة ليحصلوا منه على تصريح يخدم القضية الفلسطينية بعد أن نقلوه إلى خيام اللاجئين في غزة . فما أن غادرها حتى كشف عن هويته الصهيونية اليهودية وأعطى الماركسيين الذين احتفلوا به درساً كشف عن عمالتهم هم، ومكره هو والذين رافقوه ومع هذه اللطمة القاسية فإن كتاباً مصريين وعرباً ما زالوا يذكرون سارتر ويتحدثون عنه ويشيدون بمذهبه وبما يسمونه الوجودية العربية التى قادها عبدالرحمن بدوى وكان لها على فترة طويلة أعواناً.
وكات كتب سارتر تظهر في باريس بالفرنسية وفي بيروت بالعربية في وقت واحد. وربما ندم بعض الكتاب عن تبعيتهم لسارتر، وأحسوا أنهم أخطأوا الطريق بعد أن قرأوا ما كتبه "جاك بيرك" مثلا حين قال:
"إن سارتر عقل كبير ولكنه مع الأسف يفتقر إلى الذكاء السياسى وليس من الضروري أن يكون العقل الكبير عقلا سياسيا ولكن المشكلة عند سارتر أنه يريد أن يكون سياسياً فيما يجابه من التيارات اليسارية ومنها الشيوعية بنوع من العقد النفسية .. ومن المؤسف أن سارتر الذى يبقى معظم فلسفته على فهم الآخر لا يفهم الآخر ولا يحس به . لم يستطيع سارتر أن يتغلب على ما أحيط به من الدعاية والتضليل الصهيوني. فاعتبر إسرائيل "صيحة" وقلب القصة فاعتبر إسرائيل "مدعى عليها" وقد بلغت الدعاية الصهيونية به أن يقلب الحقيقة التاريخية في أوربا كلها . إنهم ينفون أن يكون الوجود الصهيوني استعماراً.
ويردد كثير من أنصار سارتر فشل سارتر وكيف تبخرت مفاهيمه التى ضللت الشباب العربي ردحا من الزمن، وكيف انقشع بريق اسمه فظهرت الوجودية فلسفة للفوضى والانحلال، وكيف هوجمت فلسفة سارتر من كلتا النزعتين الرأسمالية والشيوعية ورفضوا مفهومه عن الحرية ووصفوها بأنها حرية فوضوية ومن ثم حاول سارتر أن يتقرب إلى الشيوعيين وتراجع عن كثير من آرائه السابقة.(40/223)
وفي مصر تقدم عبدالرحمن بدوى برسالة دكتوراه عن "الزمان الوجودي" ورأس الحفل الدكتور طه حسين واشترك مع المستشرق بول كراوس وأعلن طه حسين أن عبد الرحمن بدوى أول فيلسوف وجودي مصري، وقد قدم بدوي الفكر الوجودي وترجم كل المصطلحات الوجودية الشاقة وترجم كتاب سارتر الضخم: "الوجود والعدم".
ولم يلبث عبد الرحمن بدوى أن اختفى وطوته الموجة التى تطوى كل المذاهب الضالة والمنحرفة، وكشف الفكر الإسلامي عن آصالته في أنه يرفض كل ما ليس متصلا بقيمه الأساسية مهما بدأ يوماً وله بريق أخاذ.
لقد كان فلسفة سارتر شؤماً عليه. فقد أضفت عليه ظلال مظلما ما زال يلاحقه.
وقدكان عبد الرحمن بدوي قبل سارتر تابعاً للفلسفات الباطنية والمحسوية يحييها ويرد إليها الروح، ويقدم شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام ويشيد بأمثال الرواندي والحلاج وغيرهما من الزنادقة. وإلى جانب ذلك فقد قدم في الفلسفة الإسلامية الجانب الصوفي المتصل بوحدة الوجود والحلول وأشاد بالسهروردي وابن عربي وابن سبعين: تلك الشخصيات الضالة التى عمل استاذه الأول ماسينون" على إحيائها. وكان طه حسين هو صاحب الدعوة إليها في الأدب العربي منذ أعادة انبعاث "إخوان الصفا" وكما سقط الفكر الباطني سقط الفكر الوجودي وانهارت تلك الصروح على رؤس أصحابها {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أمن أسس بنيائه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}.
وإذا كان الأدب الغربي قد عرف وجودية كيركجارد، وكامي، وسارتر، فإن ذلك كله مستمد من أصول أصيلة فيه تقوم على فكرة الخطيئة المسيحية، أما في الفكر الإسلامي فإن محاولة زكي نجيب محمود عن المنطق الوضعي وفؤاد زكريا عن الفلسفة الماركسية وعبدالرحمن بدوي عن الفلسفة الوجودية هي محاولات ضالة باطلة سرعان ما لفظها الفكر الإسلامي صاحب الصرح الشامخ القائم على فكرة التوحيد الخالص والإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
وقد ذابت محاولات إحياء الفلسفة الصوفية التى قام بها "ماسنون" أربعين عاماً بإحياء الحلاج لأن المسلمين عرفوا طريقهم إلى التوحيد الخالص . فقد اسقطت حركة اليقظة محاولات إحياء الفلسفة، والتصوف الفلسفي، والكلام ، والاعتزال، وجعلته ركاماً حين أحيت "المنهج القرآني" الأصيل حيث بدت كل محاولات الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين وكأنها مقدمات موقوفة انطوت صفحتها حين برز نور المفهوم القرآني: مفهوم أهل السنة والجماعة على نفس النسق الذى واجه المشائين القدامي أمثال ابن سينا والفارابي. وقد تكشفت نزعتهما إلى الباطنية الإسماعيلية في الأخير بعد أن خدع بهما الكثيرون، وحين يتنادى باسمه اليوم بعض غلمان المستشرقين فإن الأمر لا يخدع أحداً ذلك أن الحقائق التى تكشفت قد ردت كبار الكتاب عما خدعهم به البريق الخاطف.
يقول أنيس منصور:
"من الضروري أن نفلت من جاذبية شخص كبير لتجد نفس ومعك حريتك. لقد وقعنا في غلطة حين تأثرنا بأستاذنا عبد الرحمن بدوى ذلك أن كثيراً مما رآه رؤيته هو والذي وجده شاتا كان مشكلته هو والذي أحبه كان مزاجه هو ولكن في السنوات الأخيرة عاودت قراءة الفلسفة من ينابيعها التى أفزعنا منها عبد الرحمن بدوى فلم أجدها كذلك.
وهكذا تبين أن هذه الهالة كانت باطلة، بل إن أنيس منصور يبشرنا بأن سارتر عندما مات قال على فراش الموت: لا شئ ، كل شئ عدم.
ويستطرد أنيس منصور قائلا: سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد كانت آخر كلماته لا شئ. أي لا فائدة من أي شئ. فهى يرى أن الوجود والعدم لهما نفس القوة ولهما نفس المعنى. فهي كالليل والنهار لا ينفصلان، ولا تعرف على أي شئ أجاب سارتر لآخر مرة بكلمة لا شئ، ولا فائدة، لا معنى، لا هدف، كل شئ عدم، أو كل وجود عدم، أو كل موجود معدوم.
* * *
وهكذا يندم أنيس منصور على أنه تابع هذا الفكر الضال أكثر من عشرين عاماً من عمره قضاها في تحسين هذا الفكر وزخرفته وتقديمه إلى الشباب في عشرات من الكتب التى طبع منها مئات الألوف لتخدعهم عن الحقيقة ولتزيف لهم الواقع ولتردهم عن الفم الأصيل. عندما كتب مقالاته عن رحلته إلى الأراضى المقدسة، وكان عليه أن يعلن انسحابه من كل هذه المفاهيم والعقائد، وأن يصحح موقفه أمام قرائه خلال هذه السنوات الطويلة. واليوم يصف فلسفة الوجودية بأنها فلسفة المقابر، لأن سارتر تحدث عن الموت والدمار والخراب، والوحدة والقلق والفزع، والخوف والغثيان والعدم، والتقت كل هذه المعاني السوداء في قلمه وفي خياله. هناك وجودية ملحدة عند سارتر وكامي وهيدجر واسبرز وأونامونو. ووجودية مؤمنة عند جابريل مارسيل، وبرديالف، وجاك مارتيان.
وكان حقا على أنيس منصور أن يقرأ الفكر الإسلامي الأصيل ويعرف زيف الوجودية جملة بمفهوم الانطلاق من الضوابط والحدود والقيم التى رسمها الدين الحق، وأن يعلم أن نظرية الوجودية كما جاء بها سارتر إنما كنت تمثل تحدياً خاصاً مر بالشعب الفرنسي بعد سقوطه في قبضة ألمانيا إبان الحرب. هذا السقوط الذى كشف كما قال زعيمه "بيتان" عن انهياره الأخلاقي العاصف.(40/224)
ولما كانت الصهيونية العالمية هي التى صنعت هذا بالثورة الفرنسية فإنها قدمت سارتر على جميع أجهزة الإعلام والدعاية لتفتح صفحة أشد عنفاً من الانهيار الخلقى والاجتماعي. تلك التى صنعتها فلسفة سارتر بظهور جماعات الوجوديين الذين تشكلوا في الغرف المظلمة والحوارى الضيقة وتحت أسطح العمارات ليمارسوا أسوأ صور الجنس ويعلنوا احتقارهم للمجتمع. ومنهم نشأت بذرة "الهيبية" التى تعم الآن العالم كله.
ولقد كان أخطر ما في الدعوة الوجودية إنكار الله تبارك وتعالى والسخرية بالأديان واعتبار الإيمان بالله عائقا كبيراً عن حرية الإنسان وأن أثر التعاليم الربانية على الإنسان جد خطير لأنه يضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات. فالوجودي لا يؤمن بوجود الله "تبارك وتعالى" ولا يؤمن بنظام خلقى يسود على الإنسانية. الإنسان عندهم حر ومسئول أمام نفسه فحسب . لا أمام الله. وهكذا تجد سارتر يدعو إلى الحرية المطلقة من كل قيد!!
ولقد جاء سارتر إلى مصر ترافقه سيمون دي بوفوار، التى قالت لنساء مصر في صراحة تامة: نحن نريد أن نحطم "قوامة" الرجل ودعت إلى حياة زوجية محررة من "العقد الشرعي" كحياتها هي مع سارتر، ولقد كشفت إحدى المرافقات لسارتر خلال رحلته إلى مصر في الفترة الأخيرة خفايا كثيرة في الزيارة اللعينة. فأشارت إلى أن
"رفيق" سارتر وسيمون كان رجلا يهودياً "كلود لانزمان"، وهو الذى وجه الزيارة على النحو الذى أرادته الصهيونية. وقد أشارت إلى أن كتاب اليسار استقبلوا سارتر بتقدير بالغ كان موضع دهشته هو أساساً. وذلك مثلا حين كتب أحد الشيوعيين مقالا عنوانه "سارتر ضمير العصر" وكان سارتر يتساءل بعدها "أنا ضمير العصر كله؟!
أنا لست حتى ضمير نفسى" ثم يطلب ضاحكا من لاتومان أن يتحمل عنه بعض هذه الألقاب.
وتقول الكاتبة :" لقد سمع ورأى. ولكنه لم يتأثر فيه أنمله بما سمع ورأى.
"ولقد كان استقبالنا لسارتر أشبه بمظاهرة. وكان كلامنا معه أشبه بالصدى في وادى مهجور. إلا أن الصهيونية كانت أذكى منا وأكثر دقة في قيادته إلى أهدافها. فقد دست "كلود لانزمان" بفكره الصهيوني المغلف بطبقة مزيفة من الفكر التقدمي التضليل. دسته على سيمون في وقت كان فيه سارتر يتأرجح بين وجوديته والشيوعية فاستطاعت سيمون بتأثير من "لانزمان" أن تسوق سارتر إلى أن يخرج عن قاعدته ويسير وراءها منوما أو كالمنوم. فانبهر بما قدم إليه فترة. قبل أن يعود إلى قواعده سالماً. وقد رأينا كيف كان لانزمان يقف في الظل وراء سارتر في كل زياراته ليسمعه صوت "هرتزل" واضحا مجلجلا وهو يهمس به إليه.
كان هذا في مارس 1967 وفي نوفمبر من نفس العام اكتملت الصورة. فقد منحت إسرائيل شهادة الدكتوراة الفخرية لسارتر في سفارة إسرائيل بباريس بحضور عدد من المثقفين الفرنسيين على رأسهم سيمون وفرانسواز جيرو وزيرة الثقافة الفرنسية، وأذاع التلفزيزن الفرنسى كلمة سارتر التى قال فيها:
"إن قبولي لهذه الدرجة العلمية التي اتشرف بها له مدلول سياسي في القبول يعبر عن الصداقة التى أحملها لإسرائيل منذ نشأتها.
هذا سارتر الذي كتب "المسألة اليهودية" وهو الذي زار إسرائيل وأشاد بها، وهو الذي شارك في المظاهرات، ووقع البيانات المويدة لإسرائيل. وقد قبل سارتر الدكتوراة الفخرية منالجامعة العبرية بينما رفض من قبل كل الجوائز التى أهديت له بما فيها جائزة نوبل.
وكان سارتر قد قام بزيارته لإسرائيل قبل حرب 1967 ببضعة شهور. وما لبثت نذر الحرب بعد عودته إلى فرنسا أن بدت في الأفق في مايو 1967 فسارع سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين الآخرين إلى إصدار بيان في تأييد إسرائيل التي سيدمرها العرب. ولكن إسرائيل بدأت بالهجوم، واحتلت من الأرض ، وقتلت من العرب ودمرت. فلم يراجع سارتر نفسه، ولم يعدل موقفه إلا بعد أن اشتعل النضال الفلسطيني بعد الهزيمة، وامتدت نيرانه إلى بعض العواصم الأوربية.
وبعد فلقد سقط فكر سارتر قبل أن يذهب لأن دعوته هي نوع من هوى النفس. وهي مواجهة لتحد عاشه في عصره. ولكن الزمن يتحول ، والفكرة التي تكون اليوم استجابة لوضع معين .. فإنها سرعان ما تسقط مع تحولات الزمن والبيئات. ولذلك فغن الوجودية لم تستطع أن تكون مذهباً قائماً أو مستمراً . وهكذا كل الأيدلوجيات البشرية التى صنعها الفلاسفة. وظنوا أنهم قد استطاعوا حل مشاكل عصرهم. ذلك أن هناك منهجاً واحداً: هو الذى يستطيع أن يحل مشاكل الإنسان في كل العصور والبيئات. ذالك هو منهج الله الحق "لا إله إلا الله".
(14)
لويس عوض
*توفيق الحكيم يرى عزل مصر عن البلاد العربية وتحويلها إلى فندق سياحي عالمي للوافدين العرب تقدم لهم كرم الضيافة من المتعة والراحة.
*لويس عوض يحاول تحطيم دور مصر الرائد في مواجهة الفكر العربي وموقفها التاريخي من الإعصار التتري والحروب الصليبية.
*كراهيتهم الإسلام ثابتة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكن بتدو في التصرفات وطريقة معالجة القضايا والمشاكل.(40/225)
*طه حسين يقول في تمجيد الفرعونية وإعلاء شأنها على الإسلام: إذا كان الإسلام سيقف حجر عثرة في طريق مصريتنا الفرعونية لنبذناه.
*كان الإسلام وما يزال روح المجتمعات الدولية ومهد الحضارات الإنسانية ووقود الحركات الوطنية والتحررية.
*لا غرو فالإسلام هو الذى صنع الشخصية المصرية منذ أربع عشر قرناً والإسلام اعتنقه المسلمون ديناً واعتنقه غير المسلمون حضارة وثقافة وعادات.
دارت التساؤلات حول يوميات كتاب الصحف اليومية وما أثاره لويس عوض وتوفيق الحكيم والسيد ياسين من وجوه النظر حول علاقة مصر بالتاريخ الغربي والإٍسلامي، وبالدولة العثمانية والغرب، ومحاولة تصوير مصر على أنها شخصية فرعونية غارقة في الوثنية أو منحازة إلى الغرب. وتتجاهل هذه الدراسات أن الإسلام هو الذي صنع الشخصية المصرية منذ أربعة عشر قرناً وأن التاريخ وعلماء التاريخ قد أعلنوا بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح .. سواء منهم الغربيون أو العرب، أنه قدحدث انقطاع حضاري جب كل ما كان قبل دخول مصر في الإٍسلام، وأن تاريخاً ضخماً طويلا استمر أكثر من ألف سنة من تاريخ اليونان والرومان في هذه المنطقة من الشام إلى مصر إلى أفريقيا كل هذا التاريخ بقرائه ولغاته ومفاهيمه وقيمه قد أصبح في خبر كان بعد دخول الإٍسلام بقرن واحد فقد اعتنقت المنطقة كلها الإٍسلام .. اعتنقه المسلمون دينا واعتنقه غير المسلمين حضارة وثقافة وعادات". وقد أشار كرومر إلى هذا المعنى حين قال: إن المسلمين والمسيحيين يضدرون عن أخلاقي واجتماعي واحد مع طول التأثر.
ولكن إخواننا ينسون هذه الحقيقة الواضحة ويناقشون الشخصية المصرية على أنها منعزلة لم يصنعها القرآن أو الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو اللغة العربية، وينسون أن المنطقة كلها هجرت لغاتها القديمة بعد قرنين من دخول الإسلام إليها، كذلك فقد كان الإسلام ولا يزال روح المجتمعات وشارة الحضارة ووقود الحركات الوطنية والتحريرية، ولقد كان الدعوات إلى الإقليمية والقوميات واحدة الفكرة والمنهج .. ولذلك سرعان ما عجزت عن تحقيق أشواق النفس العربية الإٍسلامية. وستظل هذا الظاهرة الإسلامية الفكرية والاجتماعية أساساً مكيناً وحصناً حصيناً للشخصية المصرية ما عاشت .. لأنها عميقة الجذور من ناحية ولأنها منصهرة فيها انصهاراً عضوياً يعجز خصوم الإسلام عن القضاء عليه.
إن الدكتور لويس عوض لا يستطيع أن يخرج عن التفسير الفرعوني الوثني الذى سار عليه كل كتاباته وعرف به ومن ثم فقد أصبح في تقدير الباحثين غير منصف ولا راغب في معرفة الحقيقة الخالصة لوجه الحق وحده.
ولقد جاءت تساؤلات عن محاولات توفيق الحكيم في تحييد مصر عن البلاد العربية وعزلها، والدعوة إلى جعلها فندقاً عالمياً سياحياً يقدم للوافدين من كل مكان المتعة والترفيه، وكان في ذلك مشاركاً للدكتور لويس عوض في تحطيم دور مصر العالمي الذى عاشت تقوم به في مواجهة التيارات الغازية والغزوات الطامعة التى واجهت عالم الإسلام، وكان لها دورها الخطير في رد هذه الغزوات وحماية عالم الإسلام وحماية الغرب نفسه كما حدث في الإعصار التتري وفي الحرب الصليبية وفي الاستعمار الغربي الحديث، وسوف يكون لها دورها الخطير في دفع الغزوة الصهيونية ووقاية المسلمين والعرب منها..
ولا ريب أن دعوة توفيق الحكيم تصدر عن مفهوم بعيد أشد البعد عن الانتماء العربي الإسلامي .. ولقد كان توفيق الحكيم طوال حياته يفخر بذلك معليا شأو العنصرية في حديثه عن مصر، كارهاً لطابع مصر العربي الإسلامي .. وبالرغم من أن الدكتور طه حسين أعلى من شأن الفرعونية على الإسلام حتى قال قولته المشهورة: "إذا كان الإٍسلام يقف حجر عثرة أمام مصريتنا وفرعونيتنا لنبذناه" بالرغم من هذا فإن الدكتور طه حسين يرى أن رأي توفيق الحكيم في العرب أشد تحاملا وتعصبا من رأي كثيرين من متعصبة المستشرقين أمثال رينان ودوزى. ولعل التقارب في الرأي بين توفيق الحكيم ولويس عوض يرجع إلى مصادر الثقافة الغربية الواحدة التى تأثر بها كلاهما في فترة كانت البعثات الأجنبية سواء إلى فرنسا أو إلى انجلترا تستهدف سحق مقومات هذه الأمة وإلقائها في أتون الإقليمية فهي كراهية مشتركة للعروبة والإسلام، وهو ممتدة إلى اللغة العربية وإلى القرآن وهي مبثوثة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكنها تبدو في التصوف وفي تناول القضايا.(40/226)
وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد لخص تفسير القرطبي وظن بعض الذين يأخذون بظواهر الأمور أنه في الطريق للتعرف إلى الإسلام إلا أنه لم يلبث أن كشف عن تلك المحاولة المسمومة التى ترددها طائفة معروفة الآن باسم طائفة الخادعين المسلمين بالحديث عن الشريعة الإسلامية وذلك حين ردد ما كان يقوله منذ سنوات عن تطوير الشريعة الإسلامية وهي دعوة يحمل لواءها من وقت بعيد: محمد النويهي وعبد الحميد متولى ومحمد أحمد خلف الله وآخرون بهدف تذليل الشريعة لتبرير أوضاع المجتمعات الحديثة وفي مقدمتها الربا وعلاقات المرأة والرجل خارج نطاق الزواج، واحتواء الشريعة الإسلامية ونصوصها في داخل القانون الوضعى على النحو المسموم الذى دعا إليه عبدالرازق السنهوري منذ سنوات وهي دعوى ممتدة يغذيها النفوذ الأجنبي ليحول بها دون تطبيق المجتمعات الإسلامية للشريعة الإسلامية أو عدوتها إلى طريق الأصالة، ومن أهم هذه المحاولات المسمومة: القول بتغير الأحكام مع تغير الزمان " وهو قول محدود جداً يتصل بالفرعيات ويعتمد في ذلك على نص للشيخ محمد عبده الذي يعتمد عليه الماركسيون وأعداء الشريعة لا يمثل الإمام المجتهد ولا المتخصص في هذا الأمر، وإنما هي اجتهادات كان لها وضع وظروفها في وقت كانت الشريعة الإسلامية تضرب بالسياط على أيدى كروم في مصر وليوق في المغرب وهي لا تمثل اجتهاداً يمكن الأخذ به ، كذلك الخطأ الذى وقع فيه على عبد الرازق حين أراد أن يصف الإسلام بأنه دين روحاني ويلغى نظامه الاجتماعي إلغاء تاماً وتلقف بعض المستشرقين هذه النصوص الزائفة التى لم يعتمد فيه على كتاب أو سنة لضرب الإسلام. كذلك هناك ما يثار من شبهة الشبهات والتغيير ومحاولة وضع العقيدة في مكان الثبات والشريعة في مكان المتغير وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه. وأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت خالصة ثابتة صالحة لكل العصور والبيئات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد دحض الدكتور عبد المنعم النمر شبه توفيق الحكيم هذه التى ما زال يرددها منذ سنوات حين قال له : كان الحكيم يريد أن يجعل كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الإنسان خاضعا للتغيير بتغير المجتمع وراثة، ومن هنا تهب ريح الخطأ في التفكير، بل والخطر أيضا على شريعة الله إذ معنى ذلك ومؤداه لو قبلناه أن لنا أن نبيح الزنا والخمر والرقص متى قبل المجتمع ذلك ونتحلل من عقوبات السرقة والحرابة والزنا ومن كل شئ حرمه الله ورسوله لو قبل المجتمع ذلك !! وهذا اتجاه خطير يهدم الشريعة ويزلزل كيانها لأنه يجعلها تابعة وخاضعة لهو الناس وما يتجهون إليه في حياتهم في أي مكان وفي أي عصر والله تبارك وتعالى يقول لرسوله:{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تبع أهواء الذين لا يعلمون}.
ونقول أن الجماعة ينتدبون أحدهم فترة بعد فترة ليثير القضية ثم ينظرون ثمة ليعود آخر إلى إثارتها وكل همهم أن يخرج المجتمع الإٍسلامي العربي والمصري من شريعة الله إلى قبول الربا والرشوة والتساهل في أمر العرض واستعراض المرأة لمفاتن جسدها ومراقصة الأجانب. وهكذا.
الحقيقة أن قضية المرأة تأتي في المقام الأول من عملية تحطيم المجتمع، وهي تهدف إلى تدمير الأسرة وتعاون على ذلك قوى كثيرة منها القصة والمسرحية والأغنية والصورة العاربة وبعض كتاب اليوميات الذين يزينون التيارات التى تهدم المجتمع ممثلة في بعض الروايات الجنسية والكرة والرقص.
وتجرى الصحف لاهثة وراء تفاهات يسمونها نصراً للمرأة سواء في مجال الرقص أو الغناء أو قيادة السيارات وكلها أمور لا أهمية لها تستهدف إخراج المرأة من مكانها الحق ووضعها الصحيح. وتلك مجموعة أخرى من الكتاب لها صلاتها بالروتاري والليونز ومخططات الهدم والتدمير.
سجلت صفحات الدكتور لويس عوض أحقاداً وسموماً بالغة الخطر عمقة الأثر:
(أولا) من أخطرها حملته على اللغة العربية الفصحى ودعاواه الكاذبة في مواجهتها كراهية الإسلام والقرآن، وقد كان من أخطرها كتابه "مدخل إلى فقه اللغة العربية" التى حاول فيه الادعاء بأن العرب جاءت من القوقاز، وأن اللغة العربية لغة آرية ليس لها أي تميز خاص وقد خاض في شبهات حول الإعجاز القرآني وغير على نحو مضلل.
(ثانيا) موقفه من الشعر العربي وهجومه على الأصالة واحتضانه لشعراء التفعيلة من أمثال: صلاح عبد الصبور وأدونيس والسياب وغيرهم ودعوته إلى تحطيم عامود الشعر وكسر بلاغة اللغة العربية وهي دعوى قديمة ما زال يرددها ويجددها.
(ثالثا) موقفه المتعددة من التراث الإسلامي والفكر الإسلامي وهي مواقف توحى بالشبهة في سلامة البحث وعلميته، والالتجاء إلى أفكار المستشرقين ومتابعتهم وكراهية أمة العرب والإسلام، والتى تكشف عن أحقاد دفينة.
وقد واجهه كثير من المفكرين وكشفوا زيفه، وفي مقدمتهم الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أسمار وأباطيل".
محتوى الكتاب
الموضوع الصفحة
1- لطفي السيد
2- سعد زغلول
3- قاسم أمين
4- طه حسين
5- سلامة موسى
6- على عبد الرازق
7- ساطع الحصرى
8- محمد التابعي
9-10- مدحت وأتاتورك.
11- غاندي
12- زكي نجيب محمود
13- سارتر وعبدالرحمن بدوى(40/227)
14- لويس عوض
==============(40/228)
(40/229)
الديمقراطية : تأملات وطموحات
مفيدة محمد إبراهيم
إعداد وانتقاء سليمان الخراشي
( أنا لا أريد أن أنفرد في مناقشة هذا الكلام في الديمقراطية وإنما سأشرك القارئ الكريم ليناقشه من خلال تفكيره في عدد من التساؤلات منها:
1- كيف يوفق دعاة الديمقراطية الأوروبية بين حرية الفكر وحرية تشكيل الأحزاب الأوروبية الفكر من جهة ، وجمع كلمة الأمة التي يؤكد عليها الجميع من جهة أخرى؟ كيف تجتمع كلمة الأمة على قرار، أي قرار، من خلال الأحزاب المتضادة الانتماءات المتعارضة الفلسفات؟ كيف تتفق كلمة الماركسي الشيوعي الذي يعتمد فلسفة مادية ملحدة مع كلمة الليبرالي العلماني المادي الفلسفة ، والذي يتجه بعقله وقلبه إلى غرب أوروبا وأمريكا يستلهم منها الفكر والهداية، مع كلمة المؤمن بفلسفة إلاهية ، والذي يتجه بعقله وقلبه إلى أعلى، إلى الله يستلهم منه العون والهداية؟
قد يقول قائل : بالموضوعية! وبالديمقراطية وبحرية الفكر!!!
مما يستدعي التساؤل: أهي ذات الموضوعية وذات الفكر المتحرر الذي يتعامل بهما المهيمنون على هذه الأحزاب ، ليس فقط مع غيرهم من الأحزاب الأخرى وإنما أيضاً مع بعضهم البعض داخل الحزب الواحد؟ ينشقون ليكونوا أحزاباً منفصلة، حتى صار لكل حزب عدد من الأحزاب المنشقة عنه؟ وهو مرض أصاب معظم الأحزاب التغريبية من أول ما انشق الأفغاني عن الحزب الماسوني المرتبط بالمحفل البريطاني وكون حزباً ماسونياً مرتبطاً بالمحفل الفرنسي، وحتى يومنا هذا، مما جعل وصفي التل يقول لمن كان يدعو للسماح بحرية تشكيل الأحزاب: "سيكون في هذه الساحة أكثر من حزب بعث عربي اشتراكي لتمثل الفئات البعثية المختلفة والمتنافسة.
وسيكون في هذه الساحة أكثر من حزب إسلامي ، لتمثل التيارات الإسلامية المختلفة والمتنافسة .
وسيكون في هذه الساحة أحزاب تمثل توجهات إقليمية أردنية وأحزاب تمثل توجهات إقليمية فلسطينية.
وسيكون في هذه الساحة أحزاب تمثل الشلل السياسية الملتفة حول بعض الشخصيات السياسية البارزة.
وسيكون في هذه الساحة أحزاب تحركها وقد تمولها بعض الدول العربية أو بعض الدول الأجنبية..." .
أهي ذات الديمقراطية والنور الفكري الذي جعل كل منشق يتهم قيادة الحزب الأم بالدكتاتورية والتعنت ؟! فعلى سبيل المثال:
كيف تتفق حرية التفكير وحرية تشكيل الأحزاب ، وتنحية الأحزاب القائمة بالقوة؟ أليس لهذه الأحزاب أتباع لهم حرية فكر وحرية تشكيل أحزاب؟ أم الحرية هذه تمنح للبعض وتمنع عن البعض الآخر؟ وإن كان الأمر كذلك فما هو المعيار لهذا المنح والمنع؟ خاصة وأن الأحزاب هذه في الغالب ذات فلسفة مادية وفكر تغريبي مستورد، ومن له الحق في هذا المنح والمنع ما دام الكل في الاستيراد والتبعية سواء؟
إن كان على أساس مصلحة الشعب مقابل العمل المخرب؛ فهذه كلمات لها مفاهيم تختلف باختلاف عقائد الأحزاب المختلفة وبرامجها وأهدافها وانتماءاتها الخ.. فالمتغربون مثلاً يرون مصلحة الأمة في الانفتاح التام على الغرب وغيره تخريب، والشيوعيون يرون مصلحة الأمة في الانفتاح على روسيا ودول الكتلة الشرقية والانغلاق على الغرب ويرون غير ذلك تخريباً يجب مقاومته! وأصحاب التراث يرون الانغلاق على ذات الأمة وتراثها وبناء نفسها بنفسها هو ما يحقق مصلحة الأمة وغير ذلك كله باطل وتخريب . فكيف إذا تكون الحرية لمن يعمل لمصلحة الأمة وليس للمخرب؟!! ومن هو المخرب؟
وهل صحيح أننا أخذنا من الديمقراطية الغربية قشورها وتركنا لبها ؛ لأن الذين تزعموا طيلة نصف قرن وحتى الخمسينات وحدوث الثورات رجال لهم مصالح وعصبيات؟ أم أن الديمقراطية الغربية هي التي أخذها هؤلاء بقشرها ولبها، إن كانت تحتوي على لب أصلاً .
وهل أقام الديمقراطيات في أوروبا إلا المصالح وأصحاب المصالح الذين لا يزالون يديرونها ويوجهونها لما يحقق هذه المصالح؟ حتى إن أديب إسحق المعجب بالديمقراطية الغربية ذكر هذا الأمر فقال: "... محافل الشورى والندوات، مجالس نواب يتصرفون في أمور الأمة نقضاً وإبراماً، فيضعون مع وكلاء الدولة ما شاؤوه من القوانين ويعدلون منها ما يريدون، بل ربما قضوا على موكليهم بحرب تنحى على أموالهم بالنهاب وأرواحهم بالذهاب، أو انقادوا لأصحاب القوة الإجرائية ودانوا لهم مستعبدين الأمة معهم، كما جرى خلال المسألة الشرقية في كثير من الممالك الشورية" وذكر حكومة الشورى في الدول الأوروبية فقال: " إن هذه لا تلبث أن تنقلب شر منقلب كما جرى لحكومة لويس السادس عشر، وشارل العاشر، ونابليون الثالث في فرنسا ؛ فإن حكومات هؤلاء الملوك وإن وسمت بالشورية ظاهراً، فقد كانت استبدادية باطن ...(40/230)
وقد شهد شاهد من أهلها! وهو ونستون تشرشل، إذ قال في بيان عام 1932، منتقداً النظام الديمقراطي: " إن الانتخابات حتى في أكثر الديمقراطيات ثقافة تعتبر بلية ومعرقلة للتقدم الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي، وحتى خطراً على السلم العالمي، ثم تساءل : لماذا ينبغي علينا في هذه المرحلة أن نفرض على شعوب الهند الجهلة ذلك النظام الذي تشعر بمزعجاته اليوم حتى أكثر الأمم تقدماً، الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإنكلترا نفسها؟ وقال في مكان آخر عن إنكلترا: تبين جميع التجارب أنه عندما منح حق الانتخابات للجميع، وتحقق ما يسمى بالديمقراطية الكاملة، تحطم النظام السياسي برمته بصورة سريعة .
وتشرشل نفسه كزعيم لنظام ديمقراطي كان لا يقيم وزناً للحزب أو يرى حاجة لاستشارة مؤيديه. وكان يعتبر الحزب وسيلة تمكنه من القفز إلى السلطة وليس كجمعية ينبغي عليه أن يخدمها . وكان يعتبر الأحزاب ضرورية مثل ضرورة الحصان للفارس، وقد ذكر البعض أن الحزب لروح تشرشل المتغطرسة هو مجرد أداة، ولذلك تخلى عن حزب المحافظين لينضم إلى الأحرار، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى صفوف المحافظين... بحسب ما يحقق مصالحه ويضمن له موقعاً في السلطة، وقد كان مستبداً برأيه لا يسمح لرأي أحد حتى إن بيفر بروك قال: " عندما يكون تشرشل على رأس التيار فإنه يحمل معه صفاة الطغاة ". وقد عاش تشرشل من أجل الأزمات وأفاد منها وعندما لا يكون ثمة أزمة كان يعمل على افتعالها ليفيد منها ويحقق طموحاته في المال والشهرة من خلالها ، وقد كان ضعيفاً أمام إغراء المنافع الذاتية ، وكانت خدمته للشعب البريطاني محدودة، وقد استخدم الكلمات كما لو أنها أسلحة فعالة، وكان كذلك عبداً لهذه الكلمات... ولطالما ضحى بأناس في سبيل العبارات الرنانة، وتحقيق طموحاته التي من أجلها كان وهو بعيد عن مواقع السلطة يوجه الانتقادات العنيفة إلى الوزراء في العلن، ويبدي عروضاً للتعاون في السر... حتى اعتبره البعض عقاب الشعب الإنكليزي !!
ومرة أخرى : هل صحيح أننا أخذنا من الديمقراطية الغربية قشورها وتركنا لبها؟ فأي لب مما ذكره أعلاه لم نأخذه ؟
وحرية التفكير نفسها أين حدودها؟ فالتبشير بمبدأ سياسي يتبناه حزب معين ومهاجمة ما عداه أو التقليل من شأن سواه ألا يعني هدراً لحرية التفكير عند الآخرين أو على الأقل تدخلاً فيه؟ وإن لم يكن كذلك فلماذا إذاً تعتبر الدعوة إلى التمسك بالدين وبالتراث ومهاجمة الأفكار التي تهدم الإيمان به والعمل بدستوره حجراً على حرية التفكير عند الآخرين وعبودية لابد من التحرر منها؟.
يقول الأستاذ الرزاز: " إن الحزب آلة لتثقيف الشعب ووسيلة لتوجيهه وحصر آرائه" فهذا الحصر والتوجيه ألا يهدر حرية التفكير عنده؟ فمرة أخرى، أين حدود الحرية الفكرية عندهم؟ ثم ماذا يحدث عندما يكون هناك عشرة أحزاب -ولا نقول عشرين- فيكون للشعب عشرة آلات للتثقيف والتوجيه بثقافات وتوجيهات مختلفة؟ ولكل منها شعاراته!!!
ويرى الرزاز أن الأحزاب هي مدارس لأفراد الشعب... يكسبون منها أكثر مما يكسب الحزب نفسه . فهل للحزب في نظره كيان ومكاسب تختلف عن تلك التي للشعب بجميع تشكيلاته؟ وما هي المكاسب التي يحصل عليها الفرد من الحزب بعيداً عن مكاسب الحزب نفسه؟ وإن كان للأفراد مكاسب يحققها هذا الحزب أو ذاك من الأحزاب الجديدة التي يدعو إلى تشكيلها الرزاز، فما الفرق إذاً بينها وبين الأحزاب التي يريد تنحيتها بحجة أنها تتجه إلى تحقيق مصالح أعضائها وأنصارها الشخصية؟ وماذا عن عامة الناس من غير المنتسبين للأحزاب؟ من يحقق مصالحهم؟!
ويرى أن الأساس في الديمقراطية أن يكون الفرد قادراً على تعيين اتجاهه بالنسبة للقوانين ، وأن التعليم وتحرره السياسي والاقتصادي يساعده ويسهل عليه ممارسة الديمقراطية، فكيف يتم تحرره السياسي وهو مرتبط بهذا أو ذاك من الأحزاب وملتزم بمبادئها وبرامجها ؟ خاصة إن كانت هذه الأحزاب من التي تعتبر الرجوع عنها مسألة تستحق الاضطهاد على الأقل إن لم يكن التصفية النهائية؟ وكيف يوفق هو وغيره من الدعاة بين مسألة التحرر الاقتصادي وذلك النوع من الاشتراكية الذي يدعون له ، والذي يجعل كل وسائل الإنتاج والخدمات بيد الدولة ويجعل الفرد عبداً لأهوائها؟ وأهواء الحزب الحاكم الذي يخدم مصالح أعضائه من دون غيرهم كما أكد الرزاز نفسه في قوله إن الفرد يستفيد من الحزب أكثر من الحزب؟!!
ويرى أن وجود الأحزاب الديمقراطية الشعبية ذات البرامج الموضوعة والمنشورة يساعد الفرد أيضاً على ممارسة الديمقراطية . فهل يا ترى أن هذه البرامج المنشورة هي برامج حقيقية أم هي مجرد تضليل؟ وكم من الأحزاب تمسك بهذه البرامج وعمل بموجبها؟ سواء أكان خارج السلطة أو ممسكاً بزمامها!!(40/231)
فعندما كان يتحدث خالد بكداش عن الحرية والديمقراطية كان يتحدث كما يقول مجيد خدوري بأسلوب يغري كثيرين من الشباب بالانضمام إلى الحزب سعياً وراء هذين المبدأين ، ولشد ما تكون دهشتهم حين يكتشفون أن ليس للحرية ولا للديمقراطية وجود تحت قيادة بكداش. وذلك لأنه كان فضاً مستبداً مما حمل كثيرين على ترك الحزب...، وكان الحزب الوطني الديمقراطي في العراق يتمسك في برنامجه المنشور بالديمقراطية وحرية الفكر وإفساح المجال للتبشير بمختلف المبادئ والمذاهب السياسية ، ولكن أحد أعضائه المتمسكين بالبرنامج طلب إخراج كل من يبشر بالمذهب الماركسي من الحزب .
والأمثلة كثيرة على تضليل البرامج الحزبية المنشورة للناس وبعدها عن الواقع والتطبيق، ولو أن أقل القليل مما وعدت به برامج الأحزاب قد حققته هذه الأحزاب وهي في مواقع السلطة لما احتاج الدعاة اليوم للمطالبة بأي إصلاح للأحوال!! ألم تصل الكثير من الأحزاب الديمقراطية الشعبية الخ... هذه التي دعا إلى تكوينها الرزاز وغيره إلى سدة الحكم؟ ألم يشغل مفكرو هذه الأحزاب ومنذ تلامذة الأفغاني أمثال عبده وقاسم أمين ولطفي السيد وسعد زغلول وبعدهم طه حسين وكثير غيرهم حتى يومنا هذا مناصب فكرية وسياسية واقتصادية وتربوية الخ... وسيطروا على ساحة الفكر والسياسة معاً؟ فهل حققوا برامجهم وشعاراتهم ووضعوها موضع التنفيذ؟ ألم يهدر هؤلاء الدعاة الحرية قبل غيرهم؟ ألم يطأوا بأقدامهم الثقيلة على صدور أفراد هذه الأمة -المبتلاة بهم- حتى لا يتنفسوا إلا بمقدار ما يسمحوا لهم به؟ مما جعل الأستاذ فتحي رضوان -رحمه الله- يصيح بعدد من المفكرين المتباكين على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد العربية، الذين اجتمعوا في ليماسول في قبرص ليتدارسوا ما آلت إليه أحوال الأمة، وبعد أن ذكرهم بملاحم التضحية والفداء التي سيطرتها أجيال سابقة من أبناء الأمة : اتهمهم بقتل الحريات وانتهاك حقوق الإنسان لأنهم عندما كانوا في مقاعد السلطة نسوا وتناسوا حقوق الإنسان لمعارضيهم وشاركوا في انتهاكه .
والآن وبعد أكثر من مائة عام على بداية الدعوة للديمقراطية وحرية الفكر على الطريقة الأوروبية وبعد أكثر من أربعين عاماً على دعوة الرزاز أعلاه، سيطر خلالها الدعاة أنفسهم على الساحة بكل ما فيها، فكرياً وسياسياً، ماذا تحقق للمواطن العربي من الديمقراطية والحرية؟ ماذا حصل من حقوق؟ ألم تهدر حقوقه بأكثر مما كان يحدث قبل الدعوات؟
الآن وبعد أكثر من مائة عام على دعوة الديمقراطية والحرية وفي عام 1989 يشهد مجلس الشعب المصري صداماً عنيفاً بين نواب الأغلبية والمعارضة تحول إلى اشتباك بالأيدي ، وفيه حاول وزير الداخلية ضرب النائب!!! من كثرة الديمقراطية والحرية الفكرية! والثقافة الحوارية !! ) .
وهم لانبهارهم لم يروا ما رآه محمد مزالي مثلاً من حقيقة الديمقراطية الأوروبية إذ قال: " في الظاهر تتمتع أمريكا والبلاد الأوربية بحريات وتعدد أحزاب وانتخابات وجرائد متصارعة مما يبدو وكأن الأمر على أحسن ما يرام ولكن إن تعمقنا بكل ذلك، حينئذ فقد ندرك أن سلطان الأغنياء ورؤوس الأموال لا يزال قوياً ومؤثراً في مجريات الأمور " ويضرب مثلاً فرنسا -الجمهورية الرابعة- حيث كل كتلة كانت تؤثر على الحكومة وتسير الانتخابات والنواب بحسب مصالحها فيتفوق المزارعون تارة والتجار طوراً والشغالون أخرى... والصحافة التي يقال عنها حرة تخضع في الغالب لمراكز قوة رأسمالية جشعة ، أو مذهبية متعصبة ، ومن المعروف أنها تمول بالإشهار الذي كثيراً ما يزدري بالأخلاق والتربية ولا يقيم وزناً للمصلحة العليا أو تعيش بالمنح الخفية " ويتساءل فيقول: " فهل أنا حر حقيقة في اختياراتي وفي مواقفي، وأنا ومنذ صغر سني ومنذ عهد الدراسة أتأثر من حيث لا أشعر بنظريات وشعارات ومعلقات وأفلام وجرائد لا تخدم دائماً مصلحة العامة ولا تقر حساباً للأخلاق ؟!
أما عن الانتخابات فهو يرى أن إعطاء كل فرد صوتاً في الانتخابات شيء جميل نظرياً ولكنه في الواقع يؤدي إلى سيطرة عديمي الكفاءة ؛ فالتصويت يستوي فيه الجاهل والمثقف الواعي .والسياسيون المتزعمون قيادة الأمة يُقدمون على كل شيء ويعدون بكل شيء يجلب أصوات ما دامت المسألة أصوات وأغلبية .ويستشهد بقول مونتسكيو : إن الديمقراطية لا تنجح إلا إذا اقترنت بالفضيلة ؛ أي أن السياسة تقتضي الأخلاق ، ولكنه يرى أن شرط اقترانها بالأخلاق والفضيلة يسقط أهميتها ، ويساويها بالحكم الفردي ؛ لأنه " مع وجود الأخلاق سيكون أي حكم سيكون جميلاً، ديمقراطياً أو غير ديمقراطياً. وتبقى للحكم الفردي في هذه الحالة الأفضلية لأنه لإصلاح الحكم الفردي، يتطلب الأمر إصلاح أخلاق فرد أما الحكم الجماعي فيتطلب الأمر إصلاح مجموعة كبيرة " .
فالديمقراطية كما يراها البعض لها أنياب ومخالب وأنها أشرس من الدكتاتورية، وقد شكا الكثير من الغربيين من زيف الديمقراطية التي توجهها قوى ظاهرة وخفية لمصالح فئات معينة ، ولكن النهضويون عنها غافلون!!(40/232)
وهم لانبهارهم أيضاً لم يتتبعوا نشأة هذه الحضارة وديمقراطيتها التي بدأت بالقتل وإبادة الالآف من البشر . فهناك أبحاث تقدر الضحايا من الأفارقة خلال الثلاث مائة عام الممتدة من 1600 إلى 1900 بأكثر من مائة مليون مستعبد بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى ، وقتيل في المعارك ومن سياط التعذيب والاختناق في أقبية السفن التي تمخر عباب المحيط الأطلسي، هذا غير استعباد أو إبادة ملايين بل عشرات الملايين من الهنود الحمر في الأمريكيتين ، وتقدر الإحصاءات أن عدد الهنود الحمر الذين أبيدوا في عصر النهضة الأوروبية هذه يفوق مائة مليون إنسان، هذا بالإضافة إلى مئات الألوف وربما ملايين الضحايا التي تكبدتها بلدان آسيا المختلفة بعد أن انطلق الوحش الأوروبي ليحرر العالم!! مضافاً إلى كل ذلك إبادة سكان أستراليا والكثير من جزر المحيط الهندي. كل هؤلاء قتلوا أو استعبدوا باسم نشر الحرية والديمقراطية وإخراجهم من الهمجية!!
فهل أخذ النهضويون الذين أرادوا لنهضة الأمة العربية أن تكون مثل نهضة أوروبا وأن تكون ديمقراطيتها مثل ديمقراطية أوروبا كل هذا بنظر الاعتبار على أنه جزء من هذه الحضارة وقيمتها وأهدافها وتوجهاتها؟ وهؤلاء الذين يرون عصر النهضة الأوروبية هو العصر الذي انتقل فيه الأوروبي من العبودية إلى المواطنية! كيف نظروا إلى عبودية هذه الملايين وخاصة منها عبودية أمتهم العربية واستعمارها؟!! وكيف برروها ؟
إنهم لانبهارهم لم يروا من الديمقراطية الأوروبية إلا ما أراد لهم الأوروبيون رؤيته. فهم رأوا من الثورة الفرنسية -مثلاً- شعاراتها فقط : الحرية والإخاء والمساواة، ولكنهم لم يروا ما كانت تخفي هذه الشعارات وراءها من وحشية وسفك للدماء جعل الفرنسيين أنفسهم وبعد مائتي عام يشعرون بالخجل مما حدث فيها من مآس وسفك لدماء الأبرياء، فقد حرر الثوار سبعة مساجين من الباستيل بكل تلك الضجة التي أثاروها حوله ولكنهم قتلوا (25) خمسة وعشرين ألفاً من عامة الناس، لا يزيد عدد النبلاء ورجال الكنيسة منهم عن (10%) عشرة في المئة !! وسحق الثوار الأحرار، مؤسسو الحرية والديمقراطية! المعارضة للثورة بعد ذلك وفي كل مكان من فرنسا بوحشية لا يمكن وصفها، يدل عليها ما كتبه أحد ضباط الجيش الجمهوري عام 1793 إلى رؤسائه يشرح لهم كيف عامل الثوار المعارضين في فائدتين فقال: إنه سحق الأطفال تحت حوافر جواده وقتل النسوة حتى لا ينجبن مزيداً من المنشقين المعارضين ، وإنه لم يأخذ سجناء، بل محا كل شيء، وقد قُتل من رجال الكنيسة في تلك الحوادث وفي تلك المنطقة بالذات مالا يقل عن ألفي رجل ، وقتل قبلها في باريس وحدها 191 رجل في سجن كارمي عام 1792 .
ومما ينسب إلى نابليون قوله "إن أي رجل يفكر هو عدوي" .
إنهم لانبهارهم لم يروا اللأخلاقية التي هي جزء من الديمقراطية الأوروبية التي تعتمد مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) فتستخدم الأحزاب كل الوسائل من أجل إيصال أفرادها إلى السلطة للقفز عليها، بغض النظر عن شرعية هذه الوسائل أو انسجامها مع المفهوم العام السائد للأخلاق حتى في مجتمعاتهم، فالنفاق وتزوير المشاعر وكيل الوعود -بالأطنان- لهذا ، وكيل الاتهامات والشتائم -وبالأطنان أيضاً- لذاك ؛ هي من مستلزمات الحملات الانتخابية، والتي تسيّر الأحزاب فيها أفرادها - من أجل تحقيق الانتصارات على الحزب الخصم-كالأغنام، بغض النظر عن آرائهم ومشاعرهم ، فكل عضو يستفيد عليه أن يفيد الحزب ، فايزنهاور مثلاً الذي أوصله الحزب بقدرة قادر إلى رئاسة الجمهورية وقبلها إلى رئاسة جامعة كولمبيا، وهو الجنرال العسكري!! عليه أن يدفع الثمن بمساعدة أعضاء آخرين للوصول إلى مواقع السلطة مستغلاً مركزه كرئيس دولة، من أجل استمرار حزبه في الحكم!! فهو كان يقوم بمهام منصبه مكرهاً كما يقول سالزبرجر الذي كان يرافقه أحياناً ، وكان يلعن اليوم الذي سيسافر فيه... لتزكية أعضاء حزبه في انتخابات الكونجرس، وعدما حضر لتسلم جائزة فورستال هتف بسالزبرجر قائلاً بحنق :والآن ما هي هذه الجائزة ؟بحق الجحيم إنهم لم يبلغوني بها ولا أعرف عنها شيئاً...(40/233)
وتصارع الأحزاب -والأفراد- على السلطة أبعد ما يكون عن كونه تصارعاً شريفاً ؛ حيث يسرف أحدهما في اتهام الآخر بشتى التهم ولا يهم إن كانت بالحق أو بالباطل ما دام ذلك يمكن أن يقرب أحدهما خطوة نحو الفوز في الانتخابات!! فالجمهوريون في فرنسا خلال القرن الماضي كانوا يتهمون الملكيين فيما يتهمونهم بالاعتداء على حريات الشعوب الأخرى،مما جعل العرب يستبشرون ويتوقعون الخير منهم ، ولكن ما إن تسلطوا على الحكم في فرنسا حتى ازدادوا خنقاً لحريات هذه الشعوب وصاروا يتفاخرون بكونهم استطاعوا أن يخضعوا لحكم فرنسا من الشعوب الأخرى ما لم يستطع الملكيون مجاراتهم فيه !! ولذلك أظهر الطهطاوي وغيره خيبة الأمل فيهم وإن كانوا لم يغيروا موقفهم المؤيد لهؤلاء الأحرار وحماة الحرية!! وما حدث للطهطاوي في فرنسا حدث للأفغاني مع الحزب الحر في الحكومة البريطانية، إذ نادى الأفغاني مع المنادين بالإشادة بهذا الحزب -حزب الأحرار- الذي كان يدّعي أن كل الحروب الاستعمارية والتعديات على حقوق الإنسان كأفراد وكشعوب هو من أعمال المحافظين ، ولكن ما إن وصلوا إلى السلطة حتى أكدوا كل ما فعله المحافظون من انتهاكات للحريات في الهند وإيرلنده وغيرها ! وزادوا على ذلك مستمرين في ذات السياسة الاستعمارية ، وشنوا حربهم على مصر واحتلوها، وكأن معارضتهم كما قال الأفغاني للحكومة السابقة " والمحاماة عن الحق آلة للوصول إلى باطلهم، أو عموا عن معرفته بعدما استقروا على منصة الحكم واستبدوا بالأمر " .
فنجد المرشح على هذا الحزب يكيل الاتهامات للمرشح عن ذاك الحزب الآخر المنافس والتي أقلها الاتهام بالكذب والخداع والنفاق وقلة الخبرة وقلة المعرفة الخ... والتي أي منها عند ذوي النظر لا تسقط هذا المرشح وتجعله غير مؤهل لتولي مسؤولية الأمة ، وإنما تسقط الاثنين معاً، أحدهما لقلة الكفاءة والآخر للاستهتار والسفاهة بالتشهير بالآخرين لتحقيق مكاسب خاصة!!
ولكن في انتخابات الحضارة الغربية فإن من يعلو صوته بالشتيمة والاتهام أكثر من الآخر يكون احتمال فوزه أكبر ! كما حدث في مناظرة بين الرئيس الأمريكي فورد والرئيس كارتر التي نقلها التلفزيون آنذاك ، والتي فيها علا صوت كارتر بالاستهزاء وتعمد الإهانة لا لشيء في الغالب إلا لإثارة البهجة بين المستمعين وكسب أصواتهم!! وهذا مثل من أمثال كثيرة لا يمكن حصرها ولا تخلو منها مناظرات المرشحين، حتى إن هرزبرك رئيس دولة المحتل الإسرائيلي أذاع بياناً أذاعة راديو العدو في 13/10/1988 شجب فيه ما حدث خلال الانتخابات آنذاك من أعمال العنف الجسدية والكلامية ورجا أن تقتصر الحملة الانتخابية على الحوار من غير الشتم والتشهير.
وقد كان ديغول لا يهمه كيف يصل إلى الحكم، المهم أن يصل لينقذ فرنسا كما يقول! إذ يذكر سيروس سالزبرجر في كتابه (آخر العمالقة) أن ديغول عبر له عام 1956 عن يأسه من إصلاح النظام والدستور في فرنسا وأنه ذكر له أن المرء يحتاج إلى دراما أولاً ... ليس حرباً بالضرورة ، فقد يكون الجواب في ثورة أو نوع من الشغب والإضراب، ولما سأله سالزبرجر إن كان يعتقد أن من الضروري حدوث فترة من الفوضى في فرنسا وقد تكون مصحوبة بسفك دماء قبل أن يتمكن من العودة ؟ أجاب ديغول: "نعم لابد أن يحدث بعض الفوضى أولاً... وإن كان هناك قليل من الدماء وإن كان هذا أمر مؤسف ولكن ما العمل! وأكد سالزبرجر أن ديغول عمل بكل جهده على تحطيم الجمهورية الرابعة وفرض شخصيته... ولوى عنان فرنسا طبقاً لإرادة لا تقهر، وإن كان شغوفاً بفرنسا، إلا أنه كان يزدري الفرنسيين ويكره دساتيرهم وأحزابهم السياسية والتدخل المتكرر لجيشهم في السياسة ، وقد كان متآمراً موهوباً مستعداً لتولي السلطة بوسائل غير مشروعة، وكان يزدري الديمقراطية الفرنسية وأحزابها وقد قال: "إن في فرنسا خمسة أحزاب، الشيوعين والاشتراكيين والراديكاليين والمعتدلين والجمهوريين الشعبيين، أما الشيوعيون فقال إنهم ليسوا حزباً فرنسياً ومن المستحيل تصور إمكان اتخاذ سياسة فرنسية بالاعتماد على الحزب الشيوعي .وأما سائر الجماعات الحزبية الأربع فهي تحارب بعضها وليس من بينها من يحظى بتأييد قطاع هام من الشعب ولا يمكن الاعتماد على هذه الأحزاب لأنه ليس في وسعها الاتفاق على سياسة واحدة..." وقال أيضاً: "إنه لا توجد حكومة في فرنسا وإنما فقط أناس يسكنون قصور الحكومة" ويرى أن المشكلة الكبيرة بالنسبة لفرنسا في أنها خلال 150 عاماً كان لها 13 دستوراً وتعرضت للاحتلال ست مرات، ولم يستطع ديغول العمل إلا بعد أن ضرب اليسار باليمين ليستعيد السلطة ثم ضرب اليمين باليسار ليبقى فيها .(40/234)
ولم تقتصر الوسائل غير الديمقراطية أو غير المشروعة في الوصول للسلطة على الديمقراطيات الأوربية ذات الأحزاب المتعددة ، وإنما تستخدم هذه الوسائل أيضاً في الحكومات ذات الحزب الواحد ، فالصراعات على السلطة في هذه الأنظمة غالباً ما تتخذ سبلاً أكثر عنفاً ، وليس صراع ستالين مع تستروتسكي ببعيد عن الأذهان ، وبعد موت ستالين كان الصراع بين مولوتوف وخروشوف على الحكم، إذا أيد ثلثا أعضاء اللجنة المركزية موتولوف وبناءً عليه أعد مولوتوف نفسه لسكرتارية الحزب ورياسة الوزراء، وأعد قائمة بالوزراء ولكن خروشوف بالتعاون مع زوكوف، وزير الدفاع الذي وضع طائرة تحت تصرف خروشوف ليتمكن من نقل أنصاره من أجهزة الريف إلى مقر الاجتماع... غير الموقف لصالحه ، مما قلب الحال!
وقد انتقل هذا المفهوم للديمقراطية بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة عبر المفكرين إلى الأحزاب في البلاد العربية، فلا يهم الحزب من أجل جمع المؤيدين حوله والوصول إلى السلطة ما يشيع عن المنافسين له من الإشاعات الباطلة ولا ما يكيل من الوعود بالجنة الموعودة، إن هو وصل إلى الحكم! ليصل بعد ذلك بالانتخابات أو بالثورة وتتبخر الوعود ولا يبقى غير الحقد على المنافسين وملاحقتهم وتصفيتهم، وحتى هذه الملاحقة والتصفيات ليست إبداعاً خاصاً بهذه الأحزاب كما قد يعتقد البعض ، فهي إن لم تكن تقليداً لحال الدول الأوروبية المتعددة الأحزاب والتي يخف التنافس فيها حال فوز أحد الأحزاب ويبدأ التهيؤ للحملة التالية إلا أنها تقليد لحال الدول الأوروبية ذات الحزب الواحد، فكل يوم تظهر الصحف الروسية -مثلاً- فضائح جديدة للتصفيات التي قام بها ستالين لخصومه ولتصفيات من جاء بعده من الحكام لخصومهم! هذا غير ما فعله تيتو وشاوسيسكو وغيرهم.
إن أكثر مفكري النهضة لم يروا الديمقراطية الأوروبية على حقيقتها ولا كما هي في الواقع وإنما دعوا إليها كما توهموها، فنشروا على الناس أوهامهم هذه عنها، فتوهموا أنها تأتي بأكفأ من في المجتمع وأحسن رجاله، مهملين القوى الخفية التي تحرك الانتخابات لإيصال رجالها بغض النظر عن كفاءتهم . والقارئ لسير معظم من أوصلتهم الانتخابات للحكم في أوروبا وأمريكا، ليعجب كيف وصل هؤلاء وبلادهم فيها الكثير ممن هم أكثر كفاءة، فكيف وصل ونستون تشرشل إلى حكم بلاده وهو الطالب الفاشل الذي لم يستطع أن ينهي أية مدرسة أو يحصل على أية شهادة أو حتى يدخل الكلية العسكرية إلا بواسطة والدته التي كانت على علاقة بأكبر المسؤولين في الدولة من جهة ! وبكون أسرته تتوارث لقب لورد من جهة أخرى! والذي قضى خدمته في الجيش في الخطوط الخلفية للمعارك، يكتب للصحف مقالات عنها مقابل أجور محددة لكل مقالة! مخالفاً بذلك شروط وظيفته التي تمنع ذلك.
وبقدرة قادر تولى قيادة بريطانيا وهي في عز مجدها ولم يتركها إلا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة !
وتوهموا أن الديمقراطية الأوروبية تمنع استبداد الحكام لأنها لا تسمح للوصل إلى السلطة إلا من تشرب السلوك الديمقراطي، بينما يؤكد سالزبرجر على أن ديغول كان يحكم بأسلوب أوتوقراطي إلا أنه مستبد عادل وأنه لا يؤمن بالديمقراطية ويرى أن نظام الحزبين على النمط البريطاني أو الأمريكي متعذر إقامته في فرنسا ، وهو مقتنع بحاجة فرنسا إلى حكم قوي لأن صغار الرجال في نظره لا يستطيعون معالجة عظائم الأحداث، ولذلك كان معجباً بستالين ويقول إنه كان علماً ضخماً، قيصراً حقيقياً، كان يسيطر على كل شيء بنفسه... إنه كان رجلاً عظيم ، ويؤكد البعض أن أديناور رئيس دولة ألمانيا الغربية مثل ديجول لا يسمح لأحد باتخاذ قرارات سياسية أساسية غيره -لا البرلمان ولا الوزارة- وهو مثل ديجول يستخدم أساليب تصفية ولم يقتصر تسلط أديناور على فترة حكمه بل هو بعد خروجه من السلطة قال لمن سأله كيف سيقضي فترة تقاعده: "إنه يريد أن يستخدم سلطانه لضمان بقاء السياسة التي يرغب فيها " وذلك بوصفه من شيوخ السياسة وأئمته .(40/235)
ولم يكن هو وحده الذي فرض سلطته على الحكم حتى بعد تقاعده ، وإنما ونستون تشرشل عمل ذات الشيء إذ عينت له الخارجية البريطانية شاباً اسمه أنطوني براون يعرض عليه البرقيات ويشرح له المواقف بصفة عامة حتى يستطيع أن يفهم الأسباب التي تتذرع بها الحكومة في قراراتها حتى لا يعترض تشرشل على سياسة لا يفهمها فيلقي في ذلك خطاباً فتسقط الوزارة ، وتشرشل معروف في هذا ؛ ومن يقرأ سيرته يرى أنه دائماً يحصل على ما يريد من مجلس العموم من خلال خطبة شديدة اللهجة يلقيها فيه تؤدي إلى تراجع بعض المعارضين مما يسمح بتمرير ما يريد .ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في المسألة الفلسطينية، ففي الذكرى الرابعة لوعد بلفور حدثت مشاكل في فلسطين ناقشها البرلمان البريطاني عارض مجلس اللوردات تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، ورغم رجاء بلفور نفسه ، إلا أنهم صوتوا ضد وعد بلفور 160 إلى 29 صوت، وعارض مجلس النواب ذلك أيضاً وطالب بإجراء انتخابات تحسم الأمر، إلا أن تشرشل -الصهيوني بحسب ما ذكر كاتب سيرته وليام مانجستر - ألقى خطاباً في البرلمان وقال فيه إن العرب حاربوا مع الحلفاء مقابل وعد بأن يخلصوهم من الحكم العثماني ، وفي ذات الوقت أعطي وعد مهم جداً لليهود بأن تعمل بريطانيا كل جهدها من أجل تأسيس دولة يهودية لهم في فلسطين، والآن بريطانيا تمتلك هذه البلاد وقد أوفت بوعدها للعرب بتأسيس دولتين : العراق والأردن مما حقق الطموحات الوطنية العربية ، والآن إن أجريت انتخابات في فلسطين فإن الأكثرية العربية سترفض السماح بالهجرة اليهودية إلى البلاد وهذا سيمنع بريطانيا من تحقيق وعدها لليهود وهذا سيضر بسمعة بريطانيا في الشرق الأوسط كله!! وطلب ترك الأمر للخبراء يحلون المشكلة من غير ديمقراطية وانتخابات !! وصفق له البرلمان الذي غيّر موقفه !! إذ قال أوستن شامبرلن -ابن شامبرلن الأب- إن تشرشل غيّر الجو في البرلمان تماماً بكلامه ، ورغم أن مجلس اللوردات رفض الاقتراح إلا أن تشرشل بدأ يضع دستوراً لفلسطين يمنع الأكثرية العربية من عرقلة الاستثمار والتمليك لليهود ، وتشرشل كما يبدو لقارئ سيرته رغم فشله في كل ما أنيط به من مناصب ومسؤوليات فهو طاغية مستبد وهو في السلطة ، وعبد ضعيف يتذلل لهذا أو ذاك ويتوسل ويوسط والدته أو زوجته! هذا غير أصدقائه ومعارفه من أجل الحصول على منصب، أي منصب في الدولة ، ولكنه يعود وبقدرة قوة لا يعرف كنهها إلى سلطة أكبر ويصور فشله السابق وكأنه نجاح يحقق لصاحبه البطولة!!!
وقد توهم المفكرون أيضاً أن الديمقراطية هذه توفر الاستقرار وتمنع التغييرات العنيفة ؛ كالثورات ، وتجعل الحكام يعيشون آمنين مطمئنين لأنهم جاءوا إلى السلطة باختيار الشعب لهم . وهو وهم تبدده الاغتيالات المتكررة لرؤساء الجمهوريات ؛ وخاصة في أمريكا معقل الديمقراطية.وتبدده إجراءات الأمن المشددة التي تحيط بالرؤساء ؛ حتى أن آيزنهاور كان يشكو من أن من المتعذر عليه أن يحيا حياة عادية في ظل البوليس السري المخصص لحمايته وحماية أسرته وأن البوليس السري يكاد يعزله عزلاً في أي مكان يذهب إليه، وإن أخشى ما يخشاه البوليس اختطاف أحفاده ، وشكت زوجته أيضاً من متابعة البوليس السري لكل تحركاته ، والكل يذكر ما حدث في فرنسا عام 1968 من اضطرابات انتهت بإنهاء حكم ديغول الذي كان يريد دراما وثورة أو اضطرابات تأتي به إلى الحكم! فأنهت حكمه الاضطرابات والفوضى.
هذا غير الأحزاب والجمعيات المتطرفة التي تنشر الصحف بين حين وآخر أخبار اغتيالاتها للمسؤولين وتفجيراتها خاصة في إيطاليا وألمانيا وصقلية الخ... ومع ذلك فمما لا ينكر أن هذه البلاد تتمتع بكثير من الاستقرار، ولكن لا علاقة للديمقراطية بهذا الاستقرار .. فعدم حدوث الثورات والاضطرابات في الدول المتقدمة الديمقراطية سببه: أن الثورات أدت دورها في أوائل عصر النهضة الصناعية في القضاء على الإقطاع الذي كان يحتكر السلطة من جهة والأيدي العاملة التي تتطلبها الصناعة من جهة أخرى، وانتهت مهمتها حالما سيطرت عليه واحتكرت السلطة والأيدي العاملة لنفسها ، فلم يعد هناك حاجة إليها ، بل العكس، قد أصبحت الثورات والاضطرابات بعد نمو وتطور الرأسمالية الصناعية خطراً يهدد استقرار رأس المال ويعطل الصناعات، فأبطلوها -الثورة- وشغلوا الأمة بالحاجة ، وربطوا الإنسان بعجلة الصناعة تستبعده وتقوده أنى شاءت، فوقت الإنسان وجهده ومردودها -الأجر- في قبضتها ،لم تدع له الفرصة للبطر والخوض فيما لا يعود عليه بالفائدة، وبالضمان الاجتماعي جعلت جوعه لا يشتد إلى الدرجة التي تدفعه إلى الثورة والانغماس بالسياسة ، وبذلك صارت لعبة السياسة باسم الديمقراطية تمثيلية تقوم بإخراجها مراكز القوى الرأسمالية -التي هي نفسها كانت تخرج الثورات- ويمثل الأدوار فيها مجموعة من الساسة الذين يتم اختيارهم بعناية لهذه الأدوار، واقتصر دور الجمهور على المشاهدة والمشاركة إن رغب بالتصفيق فقط لهذا أو ذاك من الممثلين .(40/236)
وما يحدث في اليابان ما هو إلا مثل من الأمثلة على كون الديمقراطية لعبة تلعبها مراكز القوى لا غير، فقد ذكرت الإيكونومست أن حزب الأحرار الديمقراطي الحاكم في اليابان أنفق بليون ونصف البليون دولار أمريكي (210 بليون ين) في الحملة الانتخابية ليبقى في الحكم في الانتخابات التي جرت في 18 شباط عام 1990 (مقابل 400 مليون دولار!! أنفقها جميع المرشحون في أمريكا لانتخابات الرئاسة لعام 1988 إذ احتاج كل مرشح من اليابان وهم 323 مرشح إلى أربعة ملايين ونصف المليون دولار أمريكي (650 مليون ين) أما المرشحون الشباب الجدد فيحتاج كل مرشح ضعف هذا المبلغ ، ولذلك كانت أكثر المقاعد وراثية يرثها الأبناء والأحفاد، ولا تصرف هذه المبالغ على النشرات والدعاية التلفزيونية وغيرها لأن هذا محذور، ولكنها تنفق على تأجير القاعات للاجتماعات وعلى الطعام وعلى استخدام مختصين للمساعدة على جلب الأصوات وعلى إعطاء الناخبين هدايا مختلفة تتراوح من مبالغ صغيرة لأجل المناسبات الرسمية إلى جميع نفقات الدراسة في المدارس الخاصة الخ، حتى قيل إن كل صوت في الانتخابات عام 1980 كلف ثلاجة، ولابد أنه كلف أكثر في انتخابات 1990، أما جمع هذه المبالغ فله أيضاً طرق مختلفة منها، وعود الحزب للشركات الكبيرة بخفض الضرائب على الكماليات أو بإعفائها من بعض الضرائب أو بابتزازها بالاختيار بين دفع مبالغ كبيرة للحزب والإفادة من سياسته في السوق الحرة أو المجازفة بوصول حكم اشتراكي يضر بمصالحها، ومع ذلك فإن الحسابات الرسمية للحزب لا تستطيع أن تقدم وثائق رسمية بمصدر كل هذه الأموال ولا بأوجه إنفاقها، بينما الأموال المتوفرة للحزب المعارض لا تتعدى واحداً بالمئة مما ينفقه حزب الأحرار الديمقراطي الحاكم، ولهذا كثيراً ما دفع حزب الأحرار الحاكم من ماله الخاص للمعارضة ليبقي على المنافسة وليحافظ على الشكل الديمقراطي في البلاد !!، ولذلك قال رسل : إن من مزايا الديمقراطية: أنها تسهل مهمة خداع المواطنين العاديين ؛ لأن هؤلاء يعتبرون الحكومة القائمة حكومتهم .
فالديمقراطية الأوربية لم تمنع كما توهم مفكرو النهضة الاستغلال والفساد بأشكاله المختلفة وعلى رأسها الرشاوي التي تطلع الصحف علينا بأخبارها كل يوم في كل مكان من الدول الصناعية المتقدمة والديمقراطية! لتلوث أكبر الرؤوس فيها، ولم تمنع إهدار الحريات إن كانت تهدد المصالح الحقيقية لمراكز القوى الرأسمالية ، حتى إن الدول العربية التي تتهم بهدر حقوق الإنسان وكرامته متهمة باستيراد هذه التقنيات من الدول الأوروبية وخاصة دول الكتلة الشرقية (سابقاً) وذات الحزب الواحد التي طورت فنون وأدوات تعذيب الناس أكثر مما طورت وسائل عيشهم وراحتهم !
وأمر ديمقراطية وحرية هذه الدول الأوروبية يمكن معرفته من خلال ما تنشره صحفها عن الحكام السابقين فيها، ولم تنج الدول الديمقراطية العريقة مثل أمريكا وسويسرا وفرنسا وألمانيا من نقد منظمة العفو الدولية لها لما يهدر من حقوق الإنسان في ربوعها حيث يجري التدخل في سلك القضاء وتتغيب المرافعات الحرة بسبب الرشاوي، ويجري التجسس على المواطنين وتساء معاملة السجناء الخ ، إن أهم ما غفل عنه مفكرو النهضة الأوائل منهم والأواخر أو تغافلوا عنه، هو كيف دخلت هذه البدعة الأوروبية التي اسمها الديمقراطية إلى المجتمعات العربية؟ وماذا كان ولا يزال الهدف منها ؟.
( خلاصة القول : إن الدول الأوروبية استهدفت من إدخال مفهوم الديمقراطية الأوربية بما فيها من تأليف الأحزاب ووضع دساتير للبلاد على النسق الأوروبي كأحد مستلزمات هذه الديمقراطية، إلى المجتمعات العربية عدة أمور ؛ منها:(40/237)
1- إحداث فجوة بين الحاكم والمحكوم ، وإشاعة جو من عدم الثقة بينهما ؛ وذلك من خلال استعداء الشعب على الحاكم باعتباره مستبداً يهدر حقوقهم وحرياتهم، فإن استجاب وسمح بالأحزاب والانتخابات، فإنهم يحولون المجلس النيابي إلى منبر للتهجم على الحكومة بالحق وبالباطل، وأيضاً يتهمون هذه الانتخابات بالتزييف والتحريف ، فيحل الحاكم المجلس! ، فتبدأ من جديد المطالبة بالمجالس والانتخابات ..وهكذا، فيحس الحاكم أنه هو المقصود بكل هذه المعارضة ، وأن الدستور والمجالس ما هي إلا حجة لإضعاف مركزه أو إسقاطه ؛ فتنطلق فيه غريزة الدفاع عن النفس، وهي غريزة طبيعية في البشر، والحاكم بشر وليس من الملائكة! فيبدأ باضطهاد المناوئين هؤلاء ..وهكذا حتى يتم إسقاطه. وهذا ما حدث للسلطان عبدالحميد وللخديوي إسماعيل، وللكثيرين غيرهما من الحكام حتى يومنا هذا. وما حدث لشاه إيران محمد رضا بهلوي ورئيس الفلبين ماركوس إلا مثلين قريبين على استخدام هذا السلاح في وجه من يخرج عن طاعة السادة أصحاب الحضارة والمعاصرة!! فقد حكم الشاه أربعين عاماً كانت الديمقراطية فيها بألف خير وحقوق الإنسان على أفضل ما يكون!! ولكنه ما أن انتهى دوره لسبب أو لآخر حتى شُهر في وجهه سلاح الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فسقط! وكذلك ماركوس، حكم عشرين عاماً كان خلالها حاكماً ديمقراطياً وتحررياً جداً ويستحق الدعم والمساندة!!! - حسب زعمهم - وفجأة أصبح عدو الديمقراطية مزوراً للانتخابات !!وضع بطائرة أجنبية بالحيلة وجيء بالبديل الديمقراطي المهيأ بالدولة الأجنبية ذاتها وبطائرة أجنبية أخرى!!
وهكذا استخدمت، ولا تزال تستخدم، الحرية والديمقراطية لإحداث الفجوة بين الحاكم والمحكوم، هذه الفجوة التي تجعل الاثنين فريسة سهلة للاستعمار يقضي منها مآربه كيفما يشاء،ولن يستطيع أي منهما اتخاذ موقف صلب إزاءه .
وما قصة عرابي وثورته إلا مثل واضح على ذلك، فقد هيأ لها فكرياً الأفغاني ومن ورائه الماسونية، وما أن غادر الأفغاني حتى تسلمها بلنت رجل المخابرات البريطانية، الذي حرض عليها وشجع عرابي على تأليف الحزب الوطني الذي كتب هو وعبده برنامجه وأخذ موافقة الخارجية البريطانية عليه ونشره في الجرائد البريطانية قبل نشره في مصر!! وعندما قامت الثورة ووجد توفيق نفسه في موقف حرج وذلك لأن عرابي وصحبه ما كانوا يخفون رغبتهم بجعل النظام جمهورياً، فقد كتب عرابي إلى بلنت يقول له : إن خلع إسماعيل أزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن قد فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من أسرة محمد علي بأجمعها، وكنا عندئذ أعلنا الجمهورية .
وكان البارودي، أحد قادة الثورة يقول: كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا ، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة، لأنهم متأخرين عن زمنهم ( ! ) ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت .
فماذا يفعل توفيق لإنقاذ نفسه وهو يرى عرابي وصحبه يسيطرون على الموقف؟ لجأ إلى الأسطول الإنكليزي وتشبث باليد الإنكليزية الممدودة إليه مدعية إنقاذه من الغرق في الطوفان الذي أعدته وشاركت في إحداثه!! وهكذا كانت الديمقراطية الأوروبية تحقق أهدافها !
وما حدث للسلطان عبدالحميد لا يختلف كثيراً عن هذا. إذ تحالفت مجموعة حزب الاتحاد والترقي -الذي هو أساساً نبتة أوروبية نبتت في فرنسا وبريطانيا- مع كل أعداء الدولة العثمانية في الداخل والخارج وعلى رأسها الماسونية والصهيونية، وأسقطوا السلطان عبدالحميد مستخدمين ذات السلاح الزائف البريق ( الديمقراطية )، التي يفتقر إليها حكم عبدالحميد ويتصفون هم بها! وحريتهم وديمقراطيتهم هذه كانت وراء كل الاستبداد الذي لاقته الأمة العربية من الدولة العثمانية ، وكانت الوباء الذي قضى على الدولة العثمانية نفسها، فهذه المجموعة هي التي أدخلت للدولة العثمانية : الملكية الكبيرة، أو شبه الإقطاعية- وهي التي أسهمت في تدمير الاقتصاد المستقل، وفتحت الأبواب للتغلغل الغربي اقتصادياً وثقافياً وسياسي . وهي التي سنت القوانين والأنظمة التي تكرس العنصرية وتعمل على سيادة العنصر التركي في الإمبراطورية ؛ مما أثار حفيظة بقية القوميات فيها وأدى بالتالي إلى القضاء على الدولة العثمانية.(40/238)
2- تفريق كلمة الأمة وتشتيت شملها من خلال الأحزاب المختلفة بشكل يسهل لها (أي الدول الأوروبية) أمر الهيمنة على الساحة السياسية في البلاد ، سواء قبل الاحتلال للتمهيد له أو أثناء الاحتلال أو بعد الجلاء عن البلاد، ولذلك شجعت تأليف الأحزاب، فالماسونية الأوروبية كانت وراء تأليف الأفغاني لحزبه الحر ولحزب مصر الفتاة، كما كان بلنت وحزبه الحر! وراء تشكيل حزب عرابي الوطني! كما كانت بريطانيا وفرنسا وراء تشكيل عدد من الأحزاب القومية والوطنية هنا وهناك في البلاد العثمانية وعلى رأسهم حزب الاتحاد والترقي، وانتشرت حمى تشكيل الأحزاب بعد ذلك بأسماء مختلفة في مصر أولاً ؛ فهذا الحزب الوطني الحر وهذا الحزب الوطني -من غير حر !- وهذا حزب الأمة وذاك حزب الأحرار أو حزب الدستوريين الخ... وكل حزب انشق إلى فروع وكل فرع انشق إلى فروع الفروع وهكذا، وانتقلت عدوى تشكيل الأحزاب من مصر إلى بقية البلاد العربية وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، فالعراق لم يعرف الحياة الحزبية العلنية إلا منذ عهد الانتداب 1921-1932 حيث تألفت عشرة أحزاب !!! ومعظم مؤسسي هذه الأحزاب وأعضائها كانوا ممن لهم ارتباطات بالدول الأوروبية من خلال مدارسهم المنتشرة في البلاد العربية ، أو من خلال جمعياتهم السرية كالماسونية والفابية والكاربوناري الخ ، فأعضاء الحزب الوطني الحر وتلامذة كل من الأفغاني وعبده هم الذين سيطروا على الحياة الحزبية بعد ذلك في مصر إذ كونوا أولاً حزب الأمة -الذي يسميه كرومر حزب الإمام- ومنه تفرعت الأحزاب الأخرى ، فلم يكن حزب الوفد كما يؤكد محمد محمد حسين إلا امتداد له واستمر الحال إلى يومنا هذا حيث خلفت تلك الأحزاب الأولى أبناء وأحفاد!
وعندما قامت الثورات في الخمسينات من هذا القرن ألغت الأحزاب لمعرفتها بها وبانتماءاتها وبعجزها عن تحقيق شيء للأمة ، قد ذكر على لسان جمال عبد الناصر أنه قال: "لو سمحنا بحرية الأحزاب السياسية اليوم، لقام عندنا 3 أحزاب: أحدهما موال للكتلة الغربية والآخر للكتلة الشرقية والثالث مستقل، إن مجادلاتهم يمكن أن تدمر الوحدة وتنقل إلينا الحرب الباردة" . ولكن حتى عندما كونت الثورات هذه حزباً جديداً واحداً أو أبقت على حزب واحد هو حزبها انتقل فكر وممارسات تلك الأحزاب الأولى إلى هذه الجديدة عبر الأعضاء الذين انتقلوا من تلك إلى هذه ، أو من خلال تلامذتهم ومريديهم مع زيادة التطرف في العلمانية والتغريب وابتعاد أكثر عن القيم والتقاليد الدينية والاجتماعية للمجتمعات العربية، هذا غير ما أضافه هذا الدم الجديد إلى هذه الأحزاب ، مما زاد الطين بلة كما يقول المثل الشعبي. ولذلك لم تنقطع تبعية هذه الأحزاب الجديدة للدول الأوروبية، ولم تكن الصدفة وحدها هي التي جعلت أكثر مؤسسي الأحزاب من خريجي هذه الجامعة أو تلك من الجامعات الأجنبية العريقة في المنطقة العربية.
وقد نجحت خطط الدول الأوروبية في دفع الحزبية وتشكيل الأحزاب باسم الديمقراطية سواء السرية منها أم العلنية، وحققت أهدافها بشكل مدهش، فقد احتل الإنكليز مصر بأقل ما يمكن من الخسائر ، وذلك لأن الأحزاب آنفة الذكر كانت قد مهدت للاحتلال بما أوجدته من فوضى فكرية شوشت فيها المفاهيم وشتت الانتماءات وفرقت كلمة الأمة وأسدلت ستاراً من الغموض على الأهداف الوطنية فحجبتها عن أبناء الأمة ، مما أضعف مقاومة الأمة للغزو الأجنبي .
أما بعد ذلك فلم تقتصر مساهمة الأحزاب والجمعيات التي أنشأتها الدول الأوروبية ودعمتها على هذا الدور في التمهيد لاحتلال البلاد العربية الأخرى، وإنما تعدت هذا وصارت إلى مساعدة عسكرية فعلية، فبالإضافة لكون الإنكليز حاربوا الدولة العثمانية بجنود مصريين والفرنسيين بجنود تونسيين أو جزائريين فقد ساهمت الأحزاب والجمعيات هذه من خلال الحركات العربية في دحر الدولة العثمانية والقضاء عليها وتسليم البلاد العربية للإنكليز والفرنسيين ليتصرفوا بها تصرف المالكين فيقسمونها كما يشاؤون ويضعون على رأسها من يشاؤون من الحكام والملوك ويهدون منها لمن يشاؤون!! ولذلك قال لورنس في كتابه أعمدة الحكمة السبعة: "كم أنا فخور بالمعارك الثلاثين التي خضتها والتي لم ترق فيه نقطة دم لإنكليزي" . وفي تبرير دوره في غش العرب بوعود كاذبة لا تتحقق قال: "إنه كان متأكداً بأن مساعدة العرب كانت ضرورية لإحراز الإنكليز النصر في الشرق رخيصاً وسريعاً" . وبالتالي فإن انتصارهم -الإنكليز- ونقض عهودهم أفضل من اندحارهم!(40/239)
أما بعد الاحتلال فقد انشغلت الأحزاب بالتنافس والتناحر فيما بينها، تاركين الاستعمار يتحكم في البلاد على هواه! هذا غير أن أكثرهم كان يحاول تقديم الخدمات للاستعمار ليكسب من دعمه! فعبده مثلاً كان يتبرع بتقديم الخدمات لكرومر ؛ مثل تقديم لائحة إصلاح التعليم له التي فيها يدل عبده الإنكليز على كيفية السيطرة على المصريين المسلمين من خلال الدين! ولائحة تنظيم إدارة البلاد التي يقترح فيها منح الإنكليز سلطات أوسع وتجريد الخديوي من أية سلطة مهما كانت، وعلى مثل ذلك جرى حزبه ومن جاء بعدهم .
ومن تبعية هذه الأحزاب للدول الأوروبية أنها أصبحت أدوات تستخدمها هذه الدول في مناهضتها لبعضها البعض، تماماً كما فعل الأفغاني وعبده من خلال العروة الوثقى إذ هاجما إنكلترا بدعم من فرنسا متغاضين عن استبداد فرنسا في البلاد العربية، وانقطع صوتهم الهادر ضد الإنكليز حال اصطلاح الطرفين، فرنسا وإنكلترا، بتوقيع معاهدة بينهما اتفقا فيها على تقسيم مناطق النفوذ بينهما!!
وكذلك حدث بعد ذلك واستمر حتى يومنا هذا، فعندما ضرب الفرنسيون عام 1925 دمشق بالمدافع فتركوا شوارعها وقصورها خراباً وأعملوا في ثوارها تقتيلاً حتى بلغ عدد القتلى من السوريين نحوًا من عشرة آلاف شهيد ، لم تثر هذه النكبة في نفوس مدعي القومية والوطنية من السوريين المتواجدين في مصر من مشاعر الغضب ما يجعلهم يهاجمون فرنسا أو يلومونها ، فهؤلاء -كما يقول محمد محمد حسين- وأمثالهم في مصر لا يتحدثون -إن تحدثوا- إلا عن ضحايا الاستعمار الإنجليزي، أما ضحايا الاستعمار الفرنسي فهم يغمضون أعينهم عنه ،فإن اضطرتهم الظروف للكلام استعانوا بكل ما رزقوا من لباقة ولم يفصحو . وحتى عندما تقوم بعض الأحزاب الأخرى بحل ما عقده الأول، كما حدث مع الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل مع عبده وحزبه، حزب الأمة، من بعده ومع الوفد وسعد زغلول وغيرهم بعد ذلك، حتى هذا الحزب المعارض نفسه لا يستطيع العمل مقابل هذه الأحزاب الموالية للمحتل والمدعومة من قبله إلا إن وجد له من يدعمه من الخارج، ولهذا نجد أن مصطفى كامل وحزبه مثلاً حاولوا دائماً الاتكال على دعم فرنسا لهم ، خاصة بعد تولي الاتحاد والترقي الأمر في الدولة العثمانية .
وهكذا استطاع المحتل بواسطة الأحزاب -الديمقراطية !- أن يكرس احتلاله ويجعله أسهل وأرخص ، كما كان احتلاله بفضل الأحزاب كذلك . وبدلاً من أن تجتمع كلمة الأمة ضد المحتل تفرقت بين الأحزاب المتنافسة التي اشتدت مع الأيام منافستها حتى صارت بعد عام 1923 في مصر مثلاً إلى حد لم يعد فيه هم الأحزاب وهدفهم بلوغ السلطة في البرلمان، بل التنديد بخصومها وإسقاطهم عبر الغوغائية بالتحريض حتى لو كانت النتائج تناقض المصلحة العامة، وكثيراً ما انهمك الزعماء السياسيون في تبادل الشتائم والسباب والمهاترات متهمين بعضهم البعض بالخيانة والنفاق مما أدى إلى زعزعة ثقة الناس بجميع الزعماء إلى حد كبير ، ولم تحل سنة 1952 حتى كانت المهاترات وفوضى الخلافات الحزبية قد بلغت قمتها، وزاد الأمر سوءاً أن الشعب نفسه قد تقسمته أهواء الأحزاب التي يزعم كل منها أنه ينطق باسمه، وهي جميعاً أحزاب مصطنعة لا مبرر لوجودها ، فكلها قد وجدت لأسباب شخصية، ولا فرق بين برامجها، لأنها جميعاً متولدة عن حزب الأمة، وقد بدأت جميعاً مستندة إلى العصبيات وإلى أصحاب المصالح من كبار الملاك .
ولم يقتصر دور الأحزاب على تسهيل الاحتلال وتكريسه ، وإنما استمر دورها في خدمة مصالح الاستعمار بعد الجلاء والاستقلال ، وذلك إذ صارت تعمل على إدامة التبعية بكل أشكالها للاستعمار ، ولم يأت عملها هذا بالصدفة!! وإنما جاء نتيجة تخطيط مسبق من قبل المحتل الذي أجرى خلال احتلاله عملية مسح للأفكار والنزعات والآمال والأهداف السائدة في الوطن، ولما أدخله من أفكار وقيم ونزعات، ولما كان سائداً في العالم من نزعات عالمية كالاشتراكية والشيوعية والفابية الخ.. التي كان من المتوقع لها أن تسود، ثم قام بصهر كل ذلك وصبه في القوالب التي يريد، فشجع تأليف الأحزاب المختلفة الأسماء والاتجاهات، منها ما هو قومي ومنها ما هو اشتراكي ومنها ما هو ديمقراطي ومنها ما هو شيوعي الخ.. ولكن الحزب القومي هذا يدعو إلى ذلك المفهوم من القومية الذي يريده الاستعمار والبعيد كل البعد عن كل مقومات الأمة وكل ما يشكل شخصيتها.(40/240)