إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير, وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله عز وجل: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
المصدر : شبكة المشكاة الإسلام
==============(39/154)
(39/155)
البانتشاسيلا
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
البانتشاسيلا (أو المبادئ الخمسة المتلاحمة) هي خمسة مبادئ رئيسة أعلنت غداة الاستقلال سنة 1945م ووضعت في دستور اندونيسيا المسلمة، ليسير على هديها الشعب الاندونيسي المسلم، بديلاً عن العقيدة الإسلامية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• في سنة 1945م عقدت لجنة الإعداد للاستقلال في اندونيسيا، لوضع أسس للدولة المقبلة.
ـ واحتدم الخلاف بين القوى الإسلامية والوطنية ـ كما يقال عنهم ـ حول أساس الدولة، هل هو الإسلام أو اللادينية؟.
ـ في أثناء ذلك وضع سوكارنو ـ وهو أول رئيس لاندونيسيا بعد الاستقلال - المبادئ الخمسة (البانتشاسيلا) لتكون أساس وفلسفة الدولة.
ـ وأنجزت اللجنة التساعية التي ضمت الزعماء الإسلاميين والزعماء الوطنيين مهمتها في وضع ميثاق جاكرتا وتم التوقيع عليه في 22 يونيو 1945م. وهذا الميثاق أصبح مقدمة لدستور سنة 1945م. بعد إلغاء جملة: "مع وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية (*) على معتنقيها". ويقال إن سبب إلغاء هذه الجملة هو صدور إنذار من النصارى ـ وهم قلة قليلة في اندونيسيا ـ بعدم المشاركة في النضال لنيل الاستقلال إذا لم تحذف هذه العبارة.
ـ وهكذا ضاع أمل الإسلاميين في إنشاء دولة إسلامية في اندونيسيا نتيجة فكر الدول الصليبية وتلاميذها من القادة العلمانيين.
ـ وكان سوكارنو ـ واضع المبادئ الخمسة ـ يحكم اندونيسيا مثل باقي العسكريين الذين استولوا على السلطة في دول العالم الثالث بالحديد والنار.
ـ وعرف سوكارنو ببعده عن الإسلام وتحلله الأخلاقي طوال فترة حكمه وقد لقيت الدعوة الإسلامية في اندونيسيا أشد العنت إبان حكمه.
ـ الرئيس (سوهارتو) الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري وأقصى سوكارنو عن الحكم.. سار على نهجه، في صبغ اندونيسيا المسلمة بالصبغة العلمانية (اللادينية) وأطلق يد كل أعداء الإسلام للعمل في البلاد وفتح أبواب اندونيسيا للتنصير وإحياء الوثنية (*) ونشر الفساد والتحلل الأخلاقي في البلاد.
الأفكار والمعتقدات:
• يقوم البانتشاسيلا على خمسة مبادئ هي:
ـ الإيمان بالله الواحد الأحد (الربانية المتفردة).
ـ القومية وتنادي (بالوحدة الاندونيسية).
ـ الديمقراطية (*) أو (الشعبية الموجهة بالحكمة في الشورى النيابية).
ـ الإنسانية العادلة المهذبة.
ـ العدالة الاجتماعية.
ـ على أساس أن هذه المبادئ هي نقاط التفاهم بين جميع الطوائف في اندونيسيا.
ـ هذه المبادئ الخمسة بقيت مبادئ نظرية محضة، أو شعارات مرفوعة ـ كما هي الحال في الحكومات العسكرية في العالم الإسلامي ـ وتخفي وراءها العلمانية التي تسعى إلى سلخ الشعب المسلم في اندونيسيا عن الإسلام شيئاً فشيئاً.
ـ لا يقصد بـ (الإيمان بالله) (المبدأ الأول من المبادئ الخمسة)، الإيمان القائم على العقيدة الصحيحة والوحي (*) الإلهي المجرد من كل المؤثرات، وفكرة الله عند سوكارنو (المنظِّر لهذه المبادئ): (أن الإنسان الذي لا يزال يعيش على الزراعة يشعر بحاجة إلى الله، وإذا بلغ مرحلة الصناعة لم يعد يرى ثمة ضرورة لوجود الله).
ـ إذاً المقصود بوجود هذا المبدأ (الإيمان بالله) هو الخداع والتمويه على الحقيقة اللادينية للبانتشاسيلا.
• العلمانية والتغريب هما خلفية البانتشاسيلا ومن هذا الباب دخلت الصليبية والجمعيات التنصيرية من كل طائفة وملة إلى اندونيسيا بتسهيلات من الحكومة الاندونيسية، والأمم المتحدة (*) باسم رعاية الأمومة والطفولة، ومكافحة الأمراض وفتح المستشفيات.. الخ.
• بلغ عدد الذين تركوا الإسلام واعتنقوا الكاثوليكية في اندونيسيا 20 ميلوناً ضمن سكان الدولة المسلمة التي كانت مسلمة مائة بالمائة.
• الرابطة القومية ـ اللادينية ـ هي التي تربط أفراد الشعب الاندونيسي بعضهم ببعض.. وهذه الرابطة صدى للدعوات القومية التي ظهرت في أوروبا وتسعى الآن للتخلص منها وإحياء الانتماء لديهم للنصرانية واليهودية.. وهدف القومية الاندونيسية إبعاد العقيدة الإسلامية عن عوامل وحدة الشعب الاندونيسي وبالتالي إبعاد الشعب عنها شيئاً فشيئاً.
• الإنسانية فكرة أصبحت مبدأ من المبادئ الخمسة، تخفي وراءها الدعوة اللادينية، والحقد على الإسلام.. باعتبار أن الشعب الاندونيسي ليس كله مسلماً.. وأن الذي يجمعهم هو الإنسانية.
• العدالة الاجتماعية.. مقولة جميع الحكام العسكريين في دول العالم الثالث ولكن بدون ممارسة حقيقية، أو وجود واقعي.. وإلا فلماذا انتشر الفساد واللصوصية والرشوة والمحسوبية بين المسؤولين في اندونيسيا وفي سواها ممن نهج نهجها؟.
ـ انطلاقاً من التزام الحكومة بالبانتشاسيلا باعتبارها الأساس الوحيد المعترف به للسياسة العامة للدولة فقد صدرت القوانين التي اعتبرت أية دعوة لتطبيق الدين (*) الإسلامي دعوة تخريبية تهدد أساس استقرار المجتمع ـ كما حاولت الحكومة عام 1973م منع المسلمين من التحاكم لقوانين الشريعة الإسلامية (*) المتعلقة بالزواج والطلاق والأحوال الشخصية إلا أن تلك المحاولة أسقطتها المظاهرة التاريخية الكبرى التي قام بها الشباب المسلم آنذاك.(39/156)
• كما اتجهت الحكومة لمنع حجاب الشابات المسلمات وألحقت جهاز بوليس بكل مصلحة حكومية لتولي مسؤولية مراقبة وملاحقة أنشطة الدعوة الإسلامية.
• وعلى أساس البانتشاسيلا اعترفت الحكومة بالنصرانية وتمثل 5 % والأديان الوثنية (*) [البوذية 2 % والهندوكية 2 % وباقي الوثنية 2 % ] على الرغم من أن الإسلام يمثل 88 % من عدد السكان البالغ 160 مليون نسمة.
• وتعامل الحكومة ـ انطلاقاً من البانتشاسيلا ـ الأديان (*) معاملة متساوية لذلك أتاحت للهيئات التبشيرية كامل الحرية في نشر الديانة النصرانية بين المسلمين وكذلك تقدم الحكومة برامج متساوية على شاشة التلفزيون لنشر تعاليم كل الأديان !!.
ـ ونظراً لأعمال البانتشاسيلا فإن عدد الكنائس (*) والمعابد البوذية والهندوكية أصبحت مقاربة لعدد مساجد المسلمين.
• أدخلت الحكومة مبادئ البانتشاسيلا كمادة أساسية في مجال التربية والتعليم في جميع المراحل التعليمية، وأعدَّت دورات تدريبية لجميع موظفي الحكومة والقطاع الخاص لدراسة مبادئها. زعماً بأن البانتشاسيلا ليست ضد الإسلام والمسلمين وإنما تعني حرية الأديان للتعايش السلمي.
• ومما تجدر ملاحظته ما قيل من أن الرئيس سوكارنو قد اقتبس مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والإنسانية من الزعيم الوطني " سون يات سن " وأضاف إليها مبدئي الألوهية ووحدة اندونيسيا.
• وهكذا انطلقت الجمعيات التنصيرية لتنصير المسلمين في اندونيسيا حتى أصبح المُنَصَّرُون من المسلمين الاندونيسيين يتعدون عشرين مليوناً انطلاقاً من البانتشاسيلا التي باركها الغرب.
ويتضح مما سبق:
أن البانتشاسيلا هي خمسة مبادئ أعلنت غداة استقلال اندونيسيا المسلمة ليسير الشعب على هديها وهي: الإيمان بالله الواحد الأحد والقومية والديمقراطية (*) والإنسانية والعدالة الاجتماعية، وفي ظل هذه الشعارات النظرية عربدت العلمانية في اندونيسيا. ففي بيان المبدأ الأول قال سوكارنو منظِّر هذه المبادئ إن المزارع يشعر بحاجته إلى الله أما الصانع فلا يرى ضرورة لوجوده، وفي ظل هذه المبادئ تم تنصير الملايين من المسلمين في اندونيسيا، وفي ظل هذه المبادئ تمنع الحكومة الحجاب وتلاحق الدعاة إلى الله.
------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
ـ اختاروا إحدى السبيلين: الدين أو اللادينية للدكتور محمد ناصر رئيس وزراء اندونيسيا السابق الدار السعودية للنشر ط 2، 1403هـ/ 1983م.
ـ صفحات من تاريخ اندونيسيا المعاصرة لمحمد أسد شهاب.
ـ مجلة الاعتصام ـ القاهرية ـ عدد ربيع الآخر 1410هـ ـ نوفمبر 1989م.
ـ مجلة الدبلوماسي العدد الثامن ذو القعدة 1407هـ يوليو 1987م مقال "البانتشاسيلا أساس الدولة في الجمهورية الاندونيسية"
=========(39/157)
(39/158)
جناية نفاة المؤامرة والنظرة السطحية للسياسة الغربية على السياسة العربية والإسلامية
خالد بن عبدالله الغليقة
إلى متى تترك قضايا الأمة الإسلامية المصيرية القائمة على أمر أقر القرآن الكريم على حتميته، واعترفت السنة المشرفة بقطعيته؟ إلى متى تترك غائبة عن الطرح السياسي حتى يعترف بها من يسمون بالكُتَّاب السياسيين؟ وإلى متى تظل مغيبة عند تفسير وتحليل سياسات الأعداء حتى يقر بها من يدعون بالمفكرين السياسيين؟
مثال الأمر الحتمي والقطعي الغائب المغيب: حتمية مؤامرة اليهود والنصارى على الإسلام، وقطعية كراهيتهم لقوة المسلمين وعزتهم ونفوذهم كما قال تعالى:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 89].
وسبب تغييب هؤلاء الكتاب، وأولئك المفكرين لهذه الحتمية، وتلك القطعية هو نظرتهم الظاهرية لعلمانية الغرب، وتحليلهم السطحي لكتابات الغربيين، وأخيراً اكتفاؤهم بالقشرة السطحية من كلمات ومحاضرات وندوات الغربيين.
صحيح أن قوانين الغرب تنص على فصل الدين عن السياسة، وبعض كتاباتهم وكلماتهم ومحاضراتهم تقول بوجوب الإخاء والمساواة والتعايش بين الشعوب، ومن الصحيح كذلك أن بعض منظمات الغرب تنص على ترك الشعوب بنفسها تحدد مصيرها، وتترك لتنال عزتها، وترفع الذل والظلم عنها، وتمنح حريتها السياسية والاقتصادية، فأخذ هؤلاء الكتاب وأولئك المفكرون السياسيون بالظاهر من هذه القوانين، واكتفوا بالقشرة السطحية من تلك الكتابات والكلمات والمحاضرات والندوات،فألغوا نظرية المؤامرة من طرحهم السياسي، وغيبوا الأمر الحتمي والقطعي في تحليلهم لسياسات الغرب.
فكانت النتيجة أن استُعمرت البلاد الإسلامية باسم دعوة إلى المحبة بين الإسلام والغرب، واحتلُت المقدسات الإسلامية بمثل هذه الدعوة، وأُكلت خيرات المسلمين تحت شعار نبذ الكراهية بين المسلمين والغربيين.
ومن العجيب أن بعضهم إلى يومنا هذا ما زال غائباً عن هذه المؤامرات والدسائس، وما زال متمسكاً بالظاهر، وبالقشرة السطحية، كصاحب كتاب «فلسفة الكراهية - دعوة إلى المحبة - »(1)، ذل المسلمون وظلموا وشتتوا تحت مظلة التعايش بين الحضارات والتآخي بين الملل والتساوي بين الأعراق والجنسيات.
فهذه جناية سطحية هؤلاء الكتاب السياسيين على الأمة الإسلامية، وهذه جريمة التفسير الظاهري لدى أولئك المفكرين السياسيين، وهذه جريرة إلغاء الأمر الحتمي - المؤامرة اليهودية النصرانية على الإسلام وأهله. التي دل عليها القرآن دلالة صريحة - في طرحهم السياسي، وهذه جريرة تغييب الأمر القطعي - كراهية اليهود والنصارى لقوة المسلمين وعزتهم ونفوذهم التي وضحها الوحي - في تحليلهم السياسي لسياسة الغرب ووعوده.
وبالمناسبة هناك سياسي فلسطيني أحسن التعبير عن هذه الوعود الغربية بعد خمسين سنة من حسن الظن، وبعد خمسين سنة من الأخذ بالقشرة السطحية من وعود الغربيين تجاه القضية الفلسطينية، فقد سأله أحد الصحفيين عن الوعد الأمريكي البريطاني بقيام دولة فلسطينية؟
فأجاب إجابة عميقة، وحلل تحليلاً عميقاً لا تنقصه الخبرة، وتؤيده التجربة،حيث قال: "لا أعرف وعداً غربيًّا نفذ إلا وعد بلفور".
لكن بعد أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها يحق لأصحاب التفسير العميق للسياسة الغربية، وأصحاب النظرة الواقعية كذلك ومن يملكون طرحاً سياسيًّا قائماً على أمور حتمية، ومبنيًّاعلى أساسات قطعية أن يفرحوا، ويزفوا البشرى للأمة الإسلامية بتكشف عورة الطرح السياسي القائم على نفي المؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين، وبداية هزيمة التفسير والتحليل السياسي القائم على التمسك بالشعارات الغربية الظاهرية كالدعوة إلى المحبة بين الغرب والإسلام، ويهنئوا من يحملون هَمَّ الإسلام بهزيمة نفاة كراهية الغرب لنهضة وعزة وقوة المسلمين.(39/159)
ومثال ذلك كتاب صدر بعد هذه الأحداث لأحد هؤلاء الكتاب السياسيين، ومن أصحاب التفسير الظاهري القائم على نفي المؤامرة، ونبذ الكراهية، فقد اعترف هذا الكاتب بخطئه في الماضي في الاعتماد على ظاهر الدستور الأمريكي في نصه على العلمانية، وفصل الدين عن السياسة، وأقر هذا الكاتب بأن هناك حقيقة لا يعرفها سوى الباحثين المتخصصين.
يقول الكاتب: "لابد من التسليم في البداية أن الولايات المتحدة دولة علمانية دستورها الفصل التام بين الدين والسياسة. ولابد من التسليم أن كثيراً من النخب الأمريكية المؤثرة أبعد ما تكون عن الدين والتدين. مع هاتين الحقيقتين اللتين نسمع عنهما كل يوم هناك حقيقة ثالثة لا يكاد يعرفها سوى الباحثين المتخصصين، وهي انتشار الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة على نحو لا مثيل له في أي مجتمع مسيحي آخر".
فقول هذا الكاتب عن الحقيقة الثالثة (لا يكاد يعرفها سوى الباحثين المتخصصين) دليل على أن القول بالحقيقتين السابقتين ليس هو قول الباحثين المتخصصين.
لم ولن يذكر الكاتب أن من هؤلاء الباحثين المتخصصين (علماء الشريعة)، مع أنهم أكثر من يقول بهذه الحقيقة ويفسر سياسة الغرب من خلالها، ويحلل تصرفاتهم منطلقاً منها، والسبب فيما يظهر لي أنه يصعب على النفس الاعتراف الكامل بالهزيمة الكاملة، وانتصار الآخرين الساحق.
لكن الذي يهمنا في ذلك موافقة الكاتب للحقائق ولو لم ينسبها، والأهم الاعتراف بالواقع والمشاهد ولو لم يَعْزُه.
ومن الأدلة التي ساقها الكاتب لإبطال الحقيقة الأولى والثانية، وإحقاق الثالثة قوله: " اشتهرت التسمية "بالمسيحيين المولودين من جديد" بعد الرئيس جيمي كارتر الذي كان أول رئيس أمريكي يعلن أنه (من المسيحيين المولودين من جديد)، وعن هؤلاء سيكون الحديث....تصل نسبة هؤلاء 41% من مجموع المسيحيين في الولايات المتحدة... ربما كان من دواعي سرور المسلمين - والمتدينين عموماً - أن يوجد هذا العدد من المتدينين في مجتمع منحل لو أن الأمر وقف عند الدين وحده، إلا أن الظاهرة تتجاوز الدين إلى السياسة فمعظم المسيحيين المولودين من جديد - وأنا استعمل كلمة "معظم"من باب الاحتراس - يشعرون بتعاطف قوي مع إسرائيل، مرجعه اعتقادهم أن الله في العهد القديم وعد اليهود بأرض فلسطين، كما وعد بمباركة الأمم التي تباركها (ولعن الأمم) التي تلعنها، كما أن هذه الطائفة تؤمن أن تجمع اليهود في فلسطين ضرورة لابد منها لكي يتحقق المجيء الثاني للمسيح.
ويعتقد باحث عربي معاصر - أولى الموضوع الكثير من الاهتمام - أن الجذور الحقيقية للصهيونية تنبع من الأصولية المسيحية الأمريكية، وأن الولايات المتحدة لا تعتبر إسرائيل مجرد حليف إستراتيجي، ولكنها تنظر إليها باعتبارها امتداداً حقيقيًّا - لا مجازياً - للأمة الأمريكية.
يقول الأستاذ شفيق مقار عن العلاقة الأمريكية/ الإسرائيلية: تلك العلاقة العضوية غائرة الجذور بين الأمة الأمريكية،التي اعتبرت نفسها واعتبرها قادتها وزعماؤها ومفكروها دائماً (إسرائيل هذا الزمان) وشعب الله المختار الجديد، واعتبرت غزوتها الاستيطانية التي أبيد في غمارها سكان القارة الأمريكية الأصليون لبناء أورشليم الجديدة على أرض العالم الجديد، وفكر قادتها قبل أن يتخذوا النسر شعاراً لهم أن يرسموا على علمهم القومي صورة موسى "على رأس بني إسرائيل في الطريق إلى الأرض الموعودة"، وبين الامتداد العضوي والتحقق الأقصى لتلك الأمة، أي إسرائيل.
ويضيف هذا الباحث: المشروع الاستيطاني لم يقتصر على المرحلة التمهيدية( فلسطين) بل شمل منذ البداية - وبتعاقد قانوني صريح بين الشعب المختار والإله - كل الأرض من النيل إلى الفرات. فهل يمكن أن نتصور أن تقوم الأمة الأمريكية - الأمة المتدينة الفتية التي تربت على تعاليم التوراة ورضعتها من الصغر - على تلك المعاصير المميتة فتنقض - لأجل خاطر الزعامة المصرية أو أي زعامة عربية موالية - ذلك الاتفاق الإلهي بين (مع) الشعب المختار الأصلي، أو تقدم على ما هو من شأنه أن يؤخر تنفيذه بإعادة ما أخذته إسرائيل من الأراضي المحتلة المتفق عليها مع الإله ذاته منذ قرون عديدة؟
ويمضي هذا الباحث متحدثاً عن القدس: يحسن أن نتوقف لحظة عند القدس أو أورشليم... فما أكثر من ظلوا يحلمون بإمكان استخلاص القدس من براثن إسرائيل عن طريق تسوية ما تعقد تحت جناح الأصدقاء الأمريكيين، ولكن أحداً - فيما يبدو - لم يفكر في الرجوع إلى الأصول الكهنوتية للمسألة،أو يخطر له التنقيب في تلك المنابع التي نتحدث عنها، ولو عني أحد بأن يكلف النفس تلك المشقة لتبين له بوضوح وجلاء واقع الموقف الصهيوني فيما يخص المدينة المقدسة التي انتزعت من كل البشر لا من الفلسطينيين وحدهم لتكون عاصمة لمملكة صهيون المسماة حتى الآن إسرائيل.(39/160)
ولنصغ مثلاً إلى أشعياء: " استيقظي استيقظي، البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم، المدينة المقدسة ؛لأنه لا يعود يدخلك في ما بعد أغلف، ولا نجس، انتفضي من التراب، قومي اجلسي يا أورشليم، انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون، فإنه هكذا قال الرب: (ولا يدخلك أغلف ولا نجس)، أي:لا يدنسك أممي من غير اليهود فيطأ ترابك بقدمه" (أشعياء 52/ 1 - 3).
ويعقب الباحث على تصريح للرئيس أنور السادات عن كارتر: «إن الثقة كاملة بيننا لأنه رجل متدين مثلي. ولذلك فإننا لن نختلف». فيقول: لو كان السادات عني بالنظر في تدين كارتر لتبين أن كارتر من شيعة تدعو نفسها (المسيحيون المولودون من جديد) Ch r istians Bo r n Again" وهي من شيعة ينبني إيمانها على مُسَلَّمة أساسية هي أن غرض الله لن يتحقق إلا إذا عاد اليهود إلى أرض الميعاد فلسطين، وأقاموا مملكة إسرائيل اليهودية الخالصة التي لا يشاركهم فيها أحد، أو يقيم على أرضها مواطن من مواطنيها سوى اليهود. انتهى كلام شفيق مقار.
حسناً ذهب جيمي كارتر بخيره وشره، ونحن نتعامل الآن مع جورج بوش الابن، أول رئيس بعد كارتر يعلن على الملأ أنه من "المسيحيين المولودين من جديد". ألمح بوش الابن خلال حملته الانتخابية أنه قرر ترشيح نفسه للرئاسة سنة 1999م، على أثر موعظة سمعها في الكنيسة، وكان موضوعها اختيار الله موسى لقيادة بني إسرائيل، إلا أن أصولية بوش الابن جرَّتْ عليه بعضَ المتاعب، في سنة 1993م أثناء الحملة الانتخابية لاختيار حاكم تكساس، قال المرشح بوش الابن لصحفي يهودي: إنه يعتقد أن جميع الذين لا يؤمنون بالمسيح - ويدخل ضمنهم اليهود - سيذهبون إلى جهنم، أثار التصريح ضجة في الصحافة اليهودية، ونشرته منافسته في الحملة الانتخابية آن ريتشاردز في عدد من الصحف اليهودية.
نام الموضوع، ثم ثار من جديد سنة 1998م قبيل زيارة كان بوش الابن - حاكم تكساس وقتها - ينوي القيام بها إلى إسرائيل، سأله الصحفي اليهودي نفسه عما سيقوله لليهود في إسرائيل، فردَّ بوش الابن ممازحاً: سأقول لهم: «اذهبوا إلى الجحيم»!.
فيما بعد اعتذر بوش الابن لليهود عن تصريحه القديم، وبدأ يقول في تصريحاته العلنية: إنَّ دخول الجنة من اختصاص الله، وليس حاكم تكساس.
وموقف الابن بوش الأصولي من اليهود ليس مستغرباً، وهو يعتقد أنه من لا يؤمن بالمسيح لن يدخل مملكة السماء (لأن هذا ما يقوله العهد الجديد)، وهو مؤمن أن من حق اليهود أن يملكوا فلسطين منحة إلهية (لأن هذا ما يقوله العهد القديم).
وهناك مفارقة لاحظها كثير من الذين عاشوا فترة في الولايات المتحدة: كثير من الذين يؤيدون إسرائيل بلا تحفظ لا يستلطفون اليهود كأفراد، ولنا أن نلحظ هنا أن الصحفي اليهودي الذي سأل بوش الابن عن رأيه في مصير اليهود في الآخرة لم يسأله عن رأيه في إسرائيل في هذه الحياة الدنيا، ربما لأن السائل والمسؤول يعرفان الإجابة. ا هـ(2).
بعد هذه الأدلة وهذا الاعتراف من هذا الكاتب، واعترافات غيره من المفكرين نطرح سؤالاً مهماً للغاية، واستفهاماً مصيرياً: هل من المعقول أن يترك المسلمون حلَّ قضاياهم المصيرية سنين من الشتات والذل من دون حلها حلاًّ مبنيًّا على الحقائق الحتمية،كقوله تعالى عن اليهود والنصارى:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة: 120]؟!
وهل من المعقول أن يتركوها إلى أن يقتنع هؤلاء الكتاب بواقعية هذه الحقائق وتراها أعينهم ؟!
وهل من الوعي السياسي أن يمتنع المسلمون سنين من الظلم والقهر من تبني سياسات قائمة على أساسات قطعية كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
يمتنعون من تبني هذه السياسات حتى يعترف أولئك المفكرون بصدق هذه الأساسات وحقيقة تلك الأسس؟!(39/161)
وللأهمية هذه السطحية وتلك الظاهرية عند هؤلاء الكتاب، وأولئك المفكرين والرجوع عنها بعد حين، والاقتناع بفشلها وسقوطها بعد زمن، والاعتراف بجدوى وواقعية الطرح الإسلامي، لكن بعد ماذا.... بعد سنوات من الشتات، وبعد سنين من ضياع الجهود وهدر طاقات الأمة، والنتيجة أن سيطر الأعداء على الأمة الإسلامية، واحتل الغاصبون أراضي المسلمين ليست هي أولى جنايتهم، بل سبق أن جنوا وجاروا، وسبق أن تبنوا جريرة مثلها، كتبنيهم مبدأ القومية العربية، وجنايتهم على سياسة الأمة بهذا المبدأ.
فبعد سنين من الجعجعة لم ير العرب طحناً، وبعد أن هدأ الغبار لم تر الأمة العربية فرساً، بل شاهدوا حماراً هزيلاً ومتعباً ومنهكاً، لكنه في الحال نفسه صبوراً على هؤلاء الكتاب وأولئك المفكرين الذين أثاروا الغبار في وجوه الناس، وجعجعوا مع زعماء القومية؛ وفي النهاية ذموها، واعترفوا بعدم جدواها وعدم فاعليتها في بناء أمة واحدة، ونهضة قوية، وحضارة فاعلة، وتبرؤوا منها ومن زعمائها لكن متى؟ وبعد ماذا؟
وسبب عدم جدوى هذا المبدأ، وعلة عدم صلاحيته أنه مبني على أساس هش لا يمكن بناء تجمع متماسك عليه.
وعلى أرضية لينة لا يمكن لأمة الوقوف والمشي فيها، أو عليها.
وسبب الهشاشة، وعلة الليونة مخالفتها لدستور هذه الأمة، فقد حرم هذا الدستور التجمع على أساس قومي أو عرقي، أو لغوي، وحذر من مغبة ذلك، وبيَّن أن نهايته الفشل، ونتيجته التنازع، وعاقبته الفرقة، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [الممتحنة: 1].
فقد بيَّن الله أن نتيجة التجمع على أساس قومي على حساب الدين الإسلامي هو ضلال السبيل.
وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
فقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - أن العرب كانوا متفرقين وأعداءً فاجتمعوا على مبدأ الدين، لا على مبدأ الجنس، والعرق، واللغة، وإنهم استبدلوا الشتات بالتجمع، والفرقة بالوحدة بعد أن اهتدوا، وآمنوا، واتقوا.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
فمن التنازع والفشل تفريق الأمة الإسلامية على أساس قومي وعرقي ولغوي.
بعد هذه السنوات العجاف من المخالفة الصريحة من قدماء القومية العربية لأهمِّ أساس يجمع المتشتت، ويوحد المتفرق، يعترف أولئك الكتاب بفشل تجربتهم في إيجاد وحدة متماسكة قوية سياسيًّا واقتصاديًّا، وتكشف كتاباتهم بعد ذلك مقاصد زعماء القومية الشخصية، وتكشف مزاعمهم ودعاويهم.
من ذلك مؤلف لأحد هؤلاء القوميين باللغة الإنجليزية(!؟) عنوانه «ينابيع الذاكرة».
قام قومي آخر بعمل عرض للكتاب والإشادة به في "صحيفة الشرق الأوسط"، وأشار إلى أفضل ما فيه،حيث قال: " لابد لي أن أبدأ بالزعم أن لي بعض الفضل في خروج هذا الكتاب بقلم الصديق الزميل عيسى القرق - سفير الإمارات في لندن - إلى الناس... قد لا يجد الكهول أمثالي في تجربة عيسى القومية/ الناصرية الجديد.
كنا جميعاً ذات يوم ذلك الرجل، وأصيب بعضنا - بعد زوال الوهج - بفقدان الذاكرة،إلا أن الشباب من القراء سوف يتذوقون نكهة التيار القومي العارم الذي كان يلف العالم العربي بأسره، حتى في منطقة الخليج،حيث كانت بريطانيا - أو الدولة البهية القيصرية الانكليس - تصول وتجول، وتحكم بأمرها، وبوحي مصالحها، على أن الكتاب إذا كان لا يضيف جديداً إلى معارف الكهول عن عبد الناصر وفترته، فإنه يروي واقعة غريبة جديدة تفتح المجال أمام أسئلة مثيرة تستحق بعض الاهتمام من المؤرخين.
يروي لنا عيسى أن عبد الناصر سأل حاكم دبي الشيخ راشد بن سعيد المكتوم - رحمهما الله - عند لقائهما في القاهرة سنة 1959م عن الإدارة الحكومية في دبي؟
ردَّ الشيخ راشد قائلاً بأن كل الخدمات الرئيسية تدار بمعرفة مسئولين بريطانيين. كان جواب عبد الناصر - كما يرويه عيسى - مفاجأة غريبة: " أشكرك لأنك أخبرتني الحقيقة".(39/162)
لديَّ ملفات عن كل هؤلاء، عليك أن تحتفظ بالإنجليز على الدوام، بوسعك أن تستند على أكتافهم، وأن تستخدمهم في تعليم الأولاد والشباب الانضباط، أنا لست ضد الإنجليز، لا تستمع إلى ما يقوله صوت العرب".
يطرح هذا التعليق عدداً من الأسئلة: هل كان عبد الناصر يبحث عن قوم يمكنه «الاستناد على أكتافهم»؟
هل كان عبد الناصر يشعر أن عدم الانضباط مشكلة تهدد ثورته؟
وهل كان عبد الناصر نفسه يرفض تصديق صوت العرب؟
لا أعرف الجواب، وإن كنت أزعم أن «عدم الانضباط» كان عاملاً رئيساً من عوامل كارثة حزيران الأسود(3).
ونفس عارض الكتاب - وهو سفير لإحدى الدول الخليجية في بريطانيا - قال عندما افتتح مكتب المركز الإسلامي في لندن قال في كلمة الافتتاح: "... لا دعوة عصبية، ولا عرقية، ولا قومية قادرة على التجميع والوحدة، بل الدين الإسلامي السلفي وحده هو القادر على ذلك...".
يظهر هذا القول من قومي في الوقت الذي تعلن فيه نتائج انتخابات مجلس الشعب المصري، وليس فيه إلا عضو واحد من الحزب (الناصري) الحاكم السابق.
فهذه اعترافات، وإقرارات بفشل ما تبنوه سابقاً، وما آمنوا به في الماضي،مع أن علماء الشريعة كانوا في بداية الأمر ينتقدون مبدأ القومية، وينبذونه كطرح سياسي بديلٍ عن الطرح الإسلامي، ولديهم يقين بعدم قدرته على التوحيد والوحدة.
وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في بحثه الموسع "نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع".
فمن أبعد نظرة، وأعمق فكرة، وأفضل قراءة للمستقبل وأكثر اعتباراً بالتاريخ؟!
وأي الفريقين انخدع بالمظاهر، وجرى خلف السراب، واكتفى بالقشرة السطحية من دعاوى القوم الشخصية، وأخذ بالمظاهر تجاه مزاعم المدعين للقومية؟
ومن الذي مشى خلف مخطط غربي تدميري رسم له ليمشي خلفه، علماء الشريعة؟ أم الآخرون؟
والسؤال الأهم: هل يتعظ المسلمون باعترافات هؤلاء لاحقاً؟!
وهل يستفيد المسلمون من الدروس الماضية، ويعتبرون بالتجارب السابقة فيسقطوا دعاة الديمقراطية حاليًّا؟
أم ينتظرون سنين من الشتات، والضياع، والذل، والقهر، والظلم حتى يعترف دعاة الديمقراطية بفشلها، ويقرون بسقوطها، وعدم جدواها وفاعليتها، ويتفقون مع علماء الشرع بأن الديمقراطية ليست من شروط قوة الدولة المسلمة، وليست من عوامل نهضة المسلمين،وليست من دعائم الاستقرار السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي ؛لأنها قائمة على مخالفة القرآن ومعارضة السنة.
----------------------------------------------
(1) بعد كتابة هذا المقال بما يقارب السنة أعلن صاحب هذا الكتاب تراجعه عن نفي المؤامرة، ورجوعه يعتبر حدثا مهما لأنه صاحب أكبر كتاب ألف خصيصاً لنفي المؤامرة، فهذا يؤكد ما سنقوله، فقد نشر ملحق الرسالة التابع لصحيفة المدينة في تاريخ 18/1/1424هـ. تحت عنوان (ضرب العراق من أجل إسرائيل) قوله: (إنَّ ما تتذرع به الولايات المتحدة من حرب على النظام العراقي، كله غطاء للحقيقة وراء الحرب المعلنة، كما أرى أن ما يتناوله الإعلام العربي وكذا الأجنبي على أنه أسباب أيضاً غير حقيقي، جازما أن السبب الحقيقي والجوهري وراء الغزو الأمريكي والاحتلال الذي كشر عن أنيابه إنما هو لأن "بالويالات المتحدة أكثر من (53) ألف أمريكي من طائفة نصرانية معينة ممن يرون أن الديانة المسيحية امتداد لليهودية، وأن المسيح لن ينزل إلا في ظل قيام دولة إسرائيل، ويرون أن حماية إسرائيل واجب مفروض، لافتاً أن ليس من المصادفة أن كافة رؤساء الولايات المتحدة من تلك الطائفة الكنسية ما عدا اثنين منهم، كنت أعد ذلك من قبيل نظرية المؤامرة التي أتقرب إلى الله بعداوتها حتى كشف تقرير بثته وكالة بي بي سي أون لاين تحدث فيه كاتبه جستين ويب عن التدين على الطريقة الأمريكية، حيث استهله بقوله "أنا وزوجتي لا نعتقد في وجود الله، وخلال إقامتنا السابقة في بروكسل وسط البلجيكيين المفترض أنهم من أتباع الكنيسة الكاثوليكية،لم يكن عدم الاعتقاد الديني يمثل لنا مشكلة، لكن في واشنطن، تترنم إدارة بوش بالصلوات دائما وتجمعات أداء الصلاة تعقد ليل نهار، ويمضي في اندهاش وسخرية معا، لقد جاء المستوطنون الأوائل إلى هنا ليمارسوا شعائرهم بالطريقة التي يودون، ومنذ ذلك الحين أصبح الترويج للمعتقدات الدينية، بوضوح وبصوت عالٍ جزءاً من لحم الحياة الأمريكية وشحمها، وتابع "جستين ويب" في سخرية متناهية: ولا شك أن الرئيس الأمريكي وشعبه كانوا يصلون بحرارة لكي تدهس حافلة صدام حسين، لكن إذا تعذر وجود حافلة فإنهم سيعتقدون أن لديهم الحق في فعل ما قرروه الآن فقط وليس قبلا يمكنني أن أقتنع بأن احتلال العراق، وما سيأتي من أجل عيون إسرائيل الكبرى... وربك من ورائهم محيط).
(2) كتاب «أمريكاو السعودية مواجهة إعلامية أم سياسية»(ص 107).
(3) صحيفة "الشرق الأوسط) 18/11/1998م.
================(39/163)
(39/164)
حتى لا نظل عصا في يد (العم) سام...!
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
عندما يغفل المسلمون عن بدهيات الحقائق العقدية المختصة بعلاقتهم بغير المسلمين، كفاراً كانوا أو مرتدين أو منافقين، فإن ثمن تلك الغفلة يكون فادحاً، حيث يصيرون باستمرار ألعوبة في أيدي الأعداء الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
وقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وقال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149].
وقال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36].
وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 68].
وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
وقال: {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2].
وقال: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
وقال: {إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: 101].
وقال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
إن هذه الآيات المذكورة وغيرها هي إيضاح مبين لأصول الدوافع التي تحكم مواقف الكفار منا ـ أو مواقف أكثرهم ـ من الزعماء والمتنفذين والمنتفعين؛ فمجرد الرغبة أو الرضى في وجود المسلمين على هدى أو غنى أو أمن أو استقرار أو صلاح أو فلاح لا توجد عندهم؛ ولهذا تكاثرت الآيات أيضاً في الوصية بقطع الولاية عنهم، وعدم إحسان الظن بهم، فضلاً عن اتخاذهم بطانة أو مستشارين أو مؤتمَنين على مصالح المسلمين؛ لأنّهم كما قال الله ـ تعالى ـ: {كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: 101].
لقد فسَّرَت أحداث وتفاعلات العقود الأخيرة لأجيالنا، الكثير من تلك الآيات عملياً، وأسفرت عن حقائق تلك المواقف تطبيقياً؛ ففي كل مرة يُحسن قطاعٌ من الأمة أو من المحسوبين عليها الظنَّ بغير المسلمين، فإنهم يُطعَنون منهم في الخلف، ثم يُساؤون في الوجه، بعد أن يُستخدموا أداة في إضعاف وإتلاف وحدة الأمة وقوتها. حدث ذلك مراراً خلال التاريخ الإسلامي. وفي العصور الأخيرة برز من ذلك ما حدث لأشهر حكام مصر في العصر الحديث: (محمد علي باشا) عندما أحسن الظنَّ بالأوروبيين، وسار في ركابهم، فركِبوه لضرب قوة المسلمين الأولى في ذلك الوقت ممثلة في الدولة العثمانية، فلما استنفدوا منه أغراضهم ونفّذوا أهدافهم، انقلبوا عليه، حتى لا يبرز قوةً بديلة ناهضة تسعى للقوة والتحديث، فاجتمعت عليه قوى أوروبا الاستعمارية، فمزقت قوته، وشتتت دولته، ودمّرت أسطوله في عُرْض البحر في معركة نفارين عام (1243هـ / 1827م).
لقد استُخدمت فيما بعدُ الكثير من الأنظمة في العالم الإسلامي، لضرب عوامل القوة في الأمة من الداخل، وقد كان أغلب ذلك لا يحتاج إلى كثير خداع أو قناع، بل كان هؤلاء يقودون المعركة ضد الإسلام ذاته تحت مسمَّيات مختلفة: التصدي للرجعية، مواجهة التطرف، مكافحة الأصولية...، وأخيراً الحرب ضد الإرهاب!!
وكان المثال الأوضح في القرن الماضي استعمال زعماء الثورة المصرية عام 1952م في محاربة محاولات النهضة الإسلامية، لا في مصر وحدها، بل في البلدان حولها، حتى عُدّت تلك التجربة أنموذجاً مفضلاً ومرشحاً للتصدير إلى كل بلد يحاول الإسلاميون فيه النهوض بالدعوة الإسلامية، ولكن اللافت أن معظم الزعماء الذين استُعمِلوا في ضرب الإسلام في مصر أو غيرها، تخلى عنهم أولياؤهم، ولم يسمحوا لهم حتى بأن يموتوا أبطالاً في نظر شعوبهم؛ بل منهم من مات مهزوماً على يد أعدائه، ومنهم من اغتيل مُهْدَرَ الدم على يد شعبه، ومنهم من مات كمداً بسبب تآمر أصدقائه الذين ظهر له أنهم ألدُّ أعدائه!
وفي العقود والسنوات الأخيرة تكررت تجارب أكبر وأخطر، انتقلت من المستويات المحلية والإقليمية إلى المستويات المؤثرة على المعادلات الدولية.(39/165)
- باكستان وأفغانستان وكسر القطب الثاني:
لمّا عزمت الولايات المتحدة أو (العم سام)(1) على إخضاع نِدِّها الأخطر، ومنافسها الأكبر في الاستقطاب الدولي؛ وهو الاتحاد السوفييتي الشيوعي، كانت أرض أفغانستان المسلمة ساحةً للحرب بالنيابة بينها وبين ذلك الاتحاد؛ لضربه هناك بأيدي المسلمين وأرواحهم وأموالهم. وقد استطاعت أمريكا أن تجيِّش غالبية العالم الإسلامي بحكوماته وشعوبه وجماعاته الإسلامية وعلمائه ومفكريه وحتى مجاهديه ضد الاتحاد السوفييتي؛ لأنه (احتل) أفغانستان، مع أن هذا الاتحاد ظل قائماً على أنقاض العديد من الجمهوريات الإسلامية (المحتلة) في آسيا الوسطى.
لقد كان احتلال أفغانستان بالفعل جريمة، أراد بها الروس أن يسبقوا الأمريكيين إلى الاستيلاء على منابع النفط حول المياه الدافئة في إيران والعراق ومنطقة الخليج؛ لكن العرب والمسلمين الذين استجابوا لدعوة التصدي لاحتلال أفغانستان، لم يستطيعوا أو لم يرغبوا أن يقفوا الموقف نفسه ضد احتلال فلسطين الذي سبق احتلال أفغانستان بنحو ثلاثين عاماً، ولم يستطيعوا أن يتكتلوا في مواجهة احتلال لبنان، الذي اجتيحت عاصمته بيروت في ذروة الانغماس في حرب أفغانستان!
لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي كان محقاً في الوقوف إلى جانب الشعب الأفغاني في ذلك الوقت، ولكن البُعد الغائب في تلك القضية آنذاك هو التفريق الحاصل بين الاحتلال المتوافق مع مصالح (الصديق) الأمريكي والاحتلال المتعارض مع مصالح ذلك الصديق، تماماً كما حدث عند احتلال الشيشان من قِبَل الروس أنفسهم، وكما حدث من قبل حين اعتُبِر احتلال العراق للكويت أمراً يحتاج إلى تجييش العالم الإسلامي ضده، بينما أصبح احتلال أمريكا للعراق ذاته أمراً يحتاج إلى حشد العالم الإسلامي معها!
المقصود من إيراد مَثَل الحرب في أفغانستان هو: أن الولايات المتحدة استخدمتنا ـ نحن المسلمين ـ في ضرب عدوها اللدود في ذلك الوقت ـ الاتحاد السوفييتي ـ وأوهمت العرب والمسلمين بأن القضية هي قضيتهم فقط وليست قضيتها، وذهب الأمريكيون في استخدامنا إلى حد دعم الفصائل المجاهدة في أفغانستان بالسلاح، وطَلبِ دعمها بالمال من الحكومات ـ ومن ثمَّ الشعوب ـ التي لها علاقات جيدة معها!
ثمَّ ماذا كان الأمر؟ لقد انقلب الأمريكيون على المجاهدين بعد أن استنفدوا أغراضهم منهم، وقلبوا عليهم حكوماتهم، حتى عُدّ (العائدون من أفغانستان) أشبه بمجرمي الحرب، وحتى أُضرمت الفتنة بين زعماء الفصائل الأفغانية إلى حدّ الاقتتال فيما بينهم على دخول العاصمة؛ لأنَّ الولاءات كانت قد تباعدت بسبب تحركات الاستخبارات العالمية بالفتن فيما بينهم.
وبالجملة: فقد كانت أفغانستان ومعها باكستان، ومن ورائهما بقية العالم الإسلامي، وسيلة أمريكية لضرب الاتحاد السوفييتي في مقتل. وهذا، وإن كان شرفاً قدرياً لأمة الإسلام في جعلها سبباً لكسر اتحاد الإلحاد؛ إلا أن اللافت أن ذلك كان ضمن أجندة أمريكية أكثر منها إسلامية؛ بدليل أن البديل المراد أمريكياً في أفغانستان لم يكن هو الإسلام.
مرة أخرى يتكرر اللعب بالإسلاميين، في صورة لا تظهر فيها مطلقاً أدوات اللعب؛ حيث أعطت أمريكا الضوء الأخضر لحكام باكستان أن يدعموا حركة طالبان، التي كانت محقة من طرفها في الخروج لإصلاح ما أفسدته الفصائل الجهادية المتنازعة، لكن الذي أُريد بطالبان هو أن تكون أداة لكسر ما تبقى من شوكة المجاهدين السابقين بعد أن انتصروا على الروس، ليبدوَ مشهد الإجهاز عليهم شأناً داخلياً وطبيعياً؛ لكن طالبان فهمت اللعبة مبكراً.
ثمَّ لمَّا جاء الدور عليها كانت الخطط قد أُعدّت بعد خمسة أعوام فقط من بدء نشاطها، وقبل هجمات سبتمبر 2001م بنحو عام؛ للإجهاز على أصحاب هذا الإنجاز؛ فبعد أن استُخدمت طالبان كعصا للتكسير، كُسِّرت بعد ذلك وقُلِبت عليها باكستان.
- ضرب القوميتين العربية والفارسية ببعضهما:
هذا مثال صارخ آخر؛ فقد تخلّت أمريكا عن نظام الشاه في إيران لمصلحة حركةٍ ناهضة على دعامتين من شأنهما أن يشيعا التوتر في بلاد العرب والمسلمين، وهما: النزعة الطائفية الشيعية، والنعرة القومية الفارسية، لتكون تلك العصبية المذهبية العنصرية مصادِمةً للنعرة الجاهلية الأخرى التي ارتفعت في بلاد العرب باسم (القومية العربية) والتي أثيرت من قبلُ لتقف في وجه القومية التركية (الطورانية).(39/166)
وقد تغاضى الغرب عن استفحال شأن الحركة الشيعية الإيرانية، التي تحوّلت إلى ثورة بقيادة (الخميني) حتى تحولت الثورة إلى دولة، ولمّا تطلعت إلى التوسّع والانتشار على حساب مصالح أمريكا والغرب، بحث هؤلاء عن عصا لتأديب هذه الثورة التي بدأت تشب عن الطوق، وإيقافها عند حدها المرسوم، فلم يجد الأمريكان أنسب من النفخ في بوق القومية العربية لحماية البوابة الشرقية للعالم العربي من الخطر الإيراني الفارسي، وهُيئت الساحة في العراق لأنْ يكون الجيش العراقي أداة الكسر وعصا التحطيم لثورة الفرس في (قادسية) جديدة لم يكن الهدف منها إطفاء نار المجوس، بقدر ما كان لإشعال نار الفتنة بين الشيعة والسُّنّة، بعد أن خمدت تلك النار عقوداً طويلة.
وأُهِّل العراق عسكرياً، ودُعم مالياً ولوجستياً من غالبية الدول العربية السُّنّية، في تحالف يبدو في الظاهر (سنّىاً أمريكياً) حتى استطاع ذلك التحالف أن يكسر كبرياء الفرس، ويُخضع أعناق الراغبين في تصدير الثورة بعد حرب الخليج الأولى التي استمرت زهاء ثماني سنوات.
ولمَّا بدا أن القومية العربية قد تلقّفت رايات النهوض من القومية الفارسية، دُبّرت المكيدة الأكيدة لقهر العراق الصاعد، وقبرِ تلك القومية العربية التي كان (صدام) قد تسلّم قيادتها، فكان غزو الكويت الذي تغاضت أمريكا عن خطته؛ تمهيداً لقضاء مبرم على القومية العربية وعلى قائدها المنتصر، وعلى ثمرة الانتصار على إيران الذي كلّف العرب مئات الآلاف من الأرواح، ومئات المليارات من الدولارات التي ذهبت إلى جيوب تجار السلاح في الغرب، والذين كانوا يمدّون الطرفين أثناء الحرب الطويلة بالسلاح والخبرة والمعلومات الاستخباراتية.
ثم أتى الدور على قوة (صدام) بعد أن استُخدمت عصا لكسر إيران، وحشدت أمريكا ضده جمهوراً غفيراً من العرب ـ شعوباً وحكومات ـ بعد أن كانوا معه ضد إيران، وأثمر هذا التجييش هزيمة مذهلة للعراقيين، بتدبير الأمريكيين وبأموال وأرواح المسلمين، وذلك في حرب الخليج الثانية عام 1991م، وكان واضحاً وقتها أن تلك الحرب لا تزال لها فصول باقية؛ لأن حكومة إيران هُزمت ولم تسقط، ولأن قوة (صدام) ضعفت ولم تمت، ولهذا جاءت حرب الخليج الثالثة ـ في أحد مراميها ـ لتعيد الصراع مرة أخرى بين السُّنّة والشيعة، أو بين العرب والفرس، وقد دُبّر ذلك بذكاء شيطاني مذهل من أبالسة الأمريكان؛ حيث أُغري المغفلون من شيعة العراق ـ علمانيين ودينيين ـ بركوب دبابة الغزو الأمريكي، لكي يشتعل الصراع داخلياً هذه المرة بين سُّنّة العراق وشيعته، ولكي تُفتح شهية الشيعة الإيرانيين للانتقام من صدام ومن كل من وقفوا معه في حرب الخليج الأولى، وجرى ما جرى من تسهيل الشيعة الإيرانيين والعراقيين للغزو الأمريكي المدعوم بتحالف غربي وعربي، لتستعر من جديد أجواء المواجهة الدامية بين السُّنّة والشيعة، وبين العرب والفرس، لا في العراق فحسب؛ بل في دول الجوار وما بعد الجوار.
- إعادة الكرَّات، وتكرار اللدغات:
تتهيأ الآن ـ فيما أرى ـ أجواء أجزاءٍ من المنطقة للدخول في مواجهة جديدة بإغراء وتغرير أمريكي وغربي، لا يقل وضوحاً عن ذلك الذي حدث مع الأطراف المختلفة في حرب أفغانستان، أو في حروب الخليج الثلاثة السابقة، وقد بدأت السُّحب الداكنة للمواجهة القادمة تتلبد في سماء المنطقة، بعد الإعلان الغامض عن تكوين ما أسمته (كوندوليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية بـ (تحالف الاعتدال)! فيما يمكن أن يكون مقدمة لتجييش العالم الإسلامي مرة أخرى للحرب بالوكالة لمصلحة أمريكا، في مواجهة قد تبدو للشعوب حرباً ضرورية لقضايا مصيرية يقوم بها المعتدلون ضد المتطرفين الخارجين عن الشرعية الدولية.
إنَّ أمريكا ـ فيما تُظهر الشواهد ـ ستلجأ إلى تسعير الخلاف الديني بين فِرق المسلمين، وسوف تجد من مسوِّغات الاختلاف بينهم دينياً ودنيوياً ما يمكن أن يُنسي المختلفين اختلافهم معها.
إنه لا أحد من العقلاء ـ فضلاً عن أصحاب الدِّين ـ يمكن أن يدافع عن الجرائم التي تُرتكب باسم التشيع المزعوم لآل البيت، ولا يمكن لأحد أن يسوِّغ الخيانات العظمى التي ارتُكبت، ولا تزال ترتكب ضد أمة الإسلام، بزعم محاربة الوهابية السُّنّية! ولكن: أيكون هذا هو علة الحرب التي تدبّر لها أمريكا الآن وهل هذه المواجهة لنصرة السُّنّة على البدعة حتى ينشأ تحالف (سُّنّي أمريكي)؟!(39/167)
إن المطلوب هذه المرة ـ فيما يبدو ـ أن تُضرَب إيران لصالح الأمريكان بأرواح ومقدرات وأموال العرب السُّنّة، لتذهب تلك الأموال وتخلُص مرة أخرى إلى الخزائن الأمريكية ثمناً للسلاح المستخدم فيها، والذي ستتوالى صفقاته بمئات المليارات لتعويض الاقتصاد الأمريكي عن تعثراته، ولتكونَ هذه الحرب وقوداً لثأر جنوني شيعي ضد دول الجوار السُّنّي، حتى يُنهِك الطرفان بعضهما بعضاً ـ مثلما حدث في حرب الخليج الأولى ـ ريثما تتهيأ الأجواء لانفراد أمريكا ـ ربما في جولة لاحقة ـ بإيران المنهكة والمعزولة بعد استعمالها في إضعاف العرب السُّنّة، واستعمال العرب السُّنّة في إضعافها! ولكي لا تقوم قائمة بعد ذلك لإيران الطامعة في منافسة الغرب في خيرات بلاد العرب، والطامحة إلى مزاحمة دولة اليهود (إسرائيل) في الزعامة الإقليمية في المنطقة.
أقول: لو كان لنا نحن ـ العرب والمسلمين السُّنّة ـ قوة كافية وإرادة مستقلة لكان علينا، وفق حساباتنا المرسومة بحسب السياسة الشرعية، أن نتكتل ضد أي كيان ذي شوكة يقوم على البدع المغلظة التي تشوِّه دعوة الإسلام وتصد عن سبيل الله، في إيران أو غير إيران، ولكن وفق رؤيتنا وأجندتنا وأحكام شريعتنا. ولقد سئلت في حوار مع أحد المواقع إبان الحرب في لبنان، بين ما يسمى بـ (حزب الله) واليهود، عن رأيي في مساندة الشيعة في تلك الحرب، فقلت: إن محاربة اليهود من قِبَل حزب من لبنان أو حتى من اليابان أمر جيد، ولكن العمل لتمكين الشيعة في أي بقعة إسلامية أو تلميع صورتهم وتزكيتهم أمر غير جيد. ولو فرض أن ما يُسمى بـ (حزب الله) قاتل اليهود وانتصر عليهم وأخرجهم من فلسطين ليحل محلهم؛ لكان واجباً علينا ـ أهلَ السُّنّة ـ إذا توافرت لنا القدرة والاستقلال في القرار، أن نخرجه من فلسطين ولو بالقوة، حتى لا يشيع التشيّع في الأرض المقدَّسة ويُشتَم الصحابة وأمهات المؤمنين ويكفروا!
وإيران اليوم لا يجوز أن تكون لها هيمنة إقليمية تضر بدعوة الإسلام في أكثر أراضيه أهميةً وحساسيةً، ولو تمكنا نحن ـ أهل السُّنّة ـ من كف شرّها وإيقاف مدّها، دون أن يكون ذلك لحساب العدو الآخر الذي لا يقل خطورة عن الأمريكيين واليهود، ودون أن يكون ثمن إضعافها هو مزيداً من قوتهم ومزيداً من ضعفنا؛ فإن ذلك يكون من الواجبات التي لا يجوز تأخيرها.
لكن المقطوع به ـ في ضوء حقائق الدين والواقع ـ هو أن كفار أهل الكتاب يودّون لنا العَنَتَ، ولن يزيدونا إلا خبالاً إذا أطعناهم واتخذناهم خبراء أمناء، وأصدقاء أولياء في أيٍ من قضايانا المصيرية.
- السيناريو المتوقع:
من غير استبعاد نهائي لسيناريو (الصفقة) مع إيران ضد العرب، في حال عجز أمريكا عن خوض مواجهة نهائية وفاصلة معها في المرحلة الراهنة ـ كما بيّنتُ في مقال سابق ـ فإن أقرب السيناريوهات المتوقعة ـ في ظني ـ وبحسب سوابق أمريكا ونواياها الخبيثة بكل العرب والمسلمين، هو أن تقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربات لإيران في هجوم جزئي أو شامل، على مواقع استراتيجية في العمق الإيراني، بحيث يكون هذا الهجوم منطلِقاً من بعض دول الخليج، وربما بتأييد منها، لا لتأديب إيران الآن، بقدر ما هو لتأليب شيعتها وشيعة العالم كله ضد السُّنّة العرب، وبخاصة في منطقة الخليج، وعندها ـ والله أعلم ـ ستكون ساحة الحرب الإقليمية الطائفية في أوْج استعدادها للانفجار والانتشار، ليحقق الأمريكيون ـ لا أكسبهم الله ـ العديد من المكاسب التي من أبرزها:
- كسر العصا الإيرانية، بعد أن استُخدمت في كسر العصا العراقية.
- إشغال العرب جميعاً في صراع بديل لما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ليحل محله صراع جديد هو (الصراع العربي الفارسي). وهذا ما سيُنسي هؤلاء العرب، أنه كانت هناك يوماً قضية اسمها القضية الفلسطينية؛ ظلت تُعدّ القضية المركزية الأولى للأمة العربية والإسلامية.
- إعادة الاعتبار (للعدو) الأمريكي في نظر شعوب المنطقة، بعد جرائمه وفظائعه ليعود صديقاً؛ بل منقذاً للعرب من نظام طهران، كما سبق أن (أنقذهم) من نظام صدام! وهو ما يمكن أن يسمح باستمرار الارتهان له والامتثال لأمره.
- دفع حركة تجارة السلاح إلى الرواج، عندما يصطف العرب لشراء الصفقات التسليحية التي ستوقد نار المعركة ضد الأطماع الفارسية؛ حيث سيُرفع كالعادة شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) ولو كان هذا الصوت هو صوت مصلحة الشعوب وحقوقها في الاستقرار والتنمية والتحديث.
- إعادة ترتيب أوراق المنطقة وسط دخان تلك الحرب، بما يسمح بقفز أولياء أمريكا إلى مقدمة كراسي المسؤولية، سُّنّية كانت أو شيعيّة.
- إجبار المقاومة السُّنية في العراق ـ وربما في غيرها ـ على تغيير وجهتها عن الأمريكيين إلى غيرهم، بعد أن أذاقت تلك المقاومة جيش أمريكا طعم الهزيمة، ولتتوجه كل جهود المجاهدين لقتال شيعة إيران والكف عن الأمريكيين وحلفائهم، وهو ما يمكن أن يوفر لهؤلاء الأمريكيين فرصة لالتقاط الأنفاس والعودة من جديد للتفرغ للمجاهدين.(39/168)
- إلهاء إيران عن مواصلة برنامجها النووي، وتطويرِ التقنيات العسكرية والاقتصادية لبناء نفسها كقوة إقليمية، وتخويف غيرها من السلوك نفسه؛ حتى تبقى دولة اليهود هي القوة الإقليمية (الوحيدة) في المنطقة.
- توفير غطاء مقبول يحفظ ماء وجه أمريكا إذا أرادت أن تخرج من العراق، مدّعيةً أنها لم تُهْزم؛ وإنما فشلت مهمتها في بلد (لا يريد) الحرية والديمقراطية!
إن لهذا (السيناريو الكابوس) دلائل وعلامات، تدل على أنه أحد الاحتمالات الجادة، التي لا ينبغي الاستهانة بها وبفداحة خطرها على الجميع؛ حيث برزت، ولا تزال تبرز، في الآونة الأخيرة مؤشرات تدلُّ على أن أمريكا تتعمد تسعير أجواء الحرب بين السُّنّة والشيعة إقليمياً، بعد أن سخّنتها محلياً في العراق، بتفويض الشيعة في إدارة الشأن العراقي بشكل انتهازي واستفزازي للسُّنّة داخل بلاد الرافدين وخارجها.
ومن المؤشرات والعلامات الدالة على الدفع الأمريكي باتجاه مواجهة إقليمية سُّنّية شيعية، من خلال التحرش بإيران وتهييجها على دول الجوار، ما يلي:
1 ـ استراتيجية بوش الجديدة للعراق، ليست خاصة بالعراق فقط، بل هي رؤية وخطة لمواجهة كل القوى المناهضة لأمريكا في المنطقة، سُّنّية كانت أو شيعيِّة؛ فالخطة تغلق الأبواب أمام احتمالات إخلاء المنطقة من الوجود العسكري الأمريكي؛ بل تقرر زيادته في العراق وحدها بنحو (21 ألف جندي أمريكي). كما تدل استراتيجية بوش الجديدة التي أُطلق عليها (استراتيجية الدفع) على توجُّهٍ نحو تأكيد ثلاثة خيارات استراتيجية أمريكية في التعامل مع الأطراف في المنطقة:
أولاً: الحفاظ على تماسك التحالف بين أمريكا وبين من تعدهم (قوى الاعتدال) في المنطقة؛ وهم مصر والأردن ودول الخليج وتركيا، وربما باكستان.
ثانياً: الثبات على اتخاذ موقف المواجهة مع إيران وسورية ومن يدور في فلكهما؛ خلافاً لتوصيات لجنة بيكر ـ هاملتون.
ثالثاً: تطوير استراتيجية المواجهة الشاملة للقوى السُّنِّية المقاومة في العراق.
فتلك الاستراتيجية تنطوي في خطوطها العريضة على توجُّه ٍنحو تحالف جديد ضد إيران وسورية، إضافة إلى المقاومة السُّنّية في العراق، وهو ما يعني توسيع جغرافيَّة المواجهة إلى ما هو خارج العراق.
وتأتي التحضيرات العسكرية الأمريكية المتصاعدة في منطقة الخليج مؤخراً نوعاً من التهيئة الفعلية لساحة العمليات؛ فالتحضيرات العسكرية ـ حتى الآن ـ شملت تعزيز القدرات البحرية الأمريكية في المنطقة، بزيادة مجموعات قتالية كبيرة، تضم حاملات طائرات وقطعاً مقاتلة، وغواصات وكاسحات ألغام، كما تضم دفاعات صاروخية من نوع (باتريوت)، وتشمل تعزيز القدرات الاستخباراتية داخل إيران نفسها. وقد طلب الرئيس الأمريكي لتغطية استحقاقات المرحلة المقبلة من الكونجرس أن يوافق على الميزانية المطلوبة حالياً والتي تقدر بأكثر من (700) مليار دولار، وهو ما يعد أكبر من ضعف تكاليف عملية غزو العراق.
2 ـ توجُّه أمريكا نحو إضعاف القوى الشيعية الموالية لإيران داخل العراق، بعد استهلاكهم في إقصاء السُّنّة وإضعافهم، وبعد الفراغ من استعمالهم في الحرب ضد صدام، حتى لا يصيروا ظهيراً لإيران في حال مواجهة أمريكا لها، ومن ذلك دفع الحكومة الشيعية العميلة لمواجهة (عصابات مقتدى الصدر) الأداة الأكثر إجراماً في يد إيران، وكذلك حرق أوراق عصابة الغدر بزعامة (عبد العزيز الحكيم) وتهييجها ضد الصدريين وضد الشيعة العلمانيين، ويدخل في ذلك ـ أيضاً ـ ضرب الشيعة العرب بالشيعة الفرس عن طريق استغلال اختلاف المرجعيات.
3 ـ إصرار أمريكا في المحافل الدولية وفي أوساط التجمعات العربية على عزل إيران، وتضييق الخناق عليها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وهو ما تُرجِم مؤخراً باستصدار قرارات للعقوبات الدولية عليها، وهو السلوك الذي اعتادته الإدارة الأمريكية مع كل من تنوي له شراً؛ حيث تسير إلى خط الصِّدام عبر خطوات التصعيد الدبلوماسي، ثم العزل السياسي، ثم الحصار الاقتصادي، ثم جمع الحلفاء للحسم العسكري.
4 ـ محاولات استدعاء رموز قديمة من حزب البعث، ربما لاستخدامها كجزء من (قادسية جديدة) ضد إيران، باسم القومية العربية (البائدة) ضد القومية الفارسية الصاعدة.
5 ـ كانت عملية إعدام (صدام حسين) مليئة برموز الشحن الطائفي؛ حيث سمحت أمريكا للشيعة (وكانت قادرة على عدم السماح) بأن يختاروا التوقيت الأسوأ والكيفية الأسوأ في تنفيذ الإعدام؛ ليوصِِّل ذلك إلى أشد العواقب سوءاً على مشاعر السُّنّة ضد الشيعة في إيران والعراق. وكان لهذه الخطوة الأمريكية الماكرة آثار ظاهرة في إفقاد الشيعة كل أسهم الإعجاب والتعاطف الذي كان لدى شريحة كبيرة من المخدوعين بهم، وقد كان هذا فخاً لهم، وقعوا فيه بغباء خارق.(39/169)
6 ـ هناك فيما يبدو (فوضى خلاّقة) ـ على مذهب (كوندوليزا رايس) ـ يجري الإعداد لها داخل العراق، قد تسمح بإحداث وضع جديد من بين ركامها، يمكن أن يُخرج إدارة جديدة للعراق غير موالية لإيران. فأمريكا حتماً ستلعن عملاءها هناك بعد أن انتعلتهم. وقد بدأت إشارات ذلك بتصريح بوش ـ رأس الفتنة ـ بأن حكومة المالكي (غير ناضجة)! وفي هذا الصدد، قد تستعين أمريكا ببعض مغفلي أهل السُّنّة، وتدفع بهم إلى الوجهة الأمامية، ليقولوا أمام المسلمين: إننا الحاجز المنيع ضد الشيعة الإمامية! وليكون هؤلاء ـ في تلك الحال ـ جزءاً لا يتجزّأ من (تحالف الاعتدال)!
وقد تزايد اتِّهام إيران في الآونة الأخيرة، بأنها وراء الكثير من أعمال العنف وفِرَقِ الموت في العراق، واعتقلت الولايات المتحدة عملاء لإيران هناك. واتّهم الأدميرال (وليام فالون) المرشح لمنصب القيادة الأمريكية الوسطى، إيرانَ بالعمل على عرقلة استقرار النفوذ الأمريكي في الخليج، في تصريح له في أواخر يناير من عام 2007م. وهناك تصعيد واضح في لهجة القوى المعادية لإيران فيما يتعلق بضرورة حسم خطرها النووي قبل أن يخرج عن السيطرة، وقد قال الرئيس الأمريكي في 12/1/2007م: «إن كل الخيارات مطروحة في التعامل مع إيران» وهو يقول ذلك تجاوباً مع حملات التحذير الأخيرة من أن إيران على وشك تجاوز القنطرة فيما يتعلق بالتسلح النووي؛ حيث قال المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن في (30/1/2007م): إن إيران قد تتمكن من إنتاج سلاح نووي في غضون سنتين. وقال المعهد في تقريره السنوي: «إن إيران واصلت تحقيق تقدُّم في إنتاج معدات التخصيب، وخزّنت 250 طناً من المواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم، بما يكفي لإنتاج 30 إلى 50 قنبلة نووية. وحذّر المعهد من أن تخطي إيران للعقبات الفنية وانفتاح الطريق أمامها لإنتاج سلاح نووي؛ قد يعجل باحتمالات الخيار العسكري».
وقد ذكر مسؤولون أمريكيون وخبراء مستقلون أن شنَّ هجوم سريع على إيران، سيعرقل برنامجها النووي لمدة لا تقل عن أربع سنوات.
وهنا يرتفع صراخ ونباح الدولة العبرية، مرة بالتهييج وأخرى بالتهديد، خوفاً أو تخويفاً من التلكؤ مع إيران حتى ينفلت الزمام، وقد قال (إفراييم سنيه) نائب وزير الدفاع الإسرائيلي: إنه لا يستبعد هجوماً وقائياً إسرائيلياً على إيران، على خلفية برنامجها النووي، وقال في (10/11/2006م): «إن الهجوم على إيران سيكون الحل الأخير.. وربما يكون الحل الوحيد»!
وقال (عمير بيرتس) وزير الدفاع الإسرائيلي في (30/1/2007م): «إن عام 2007م، سيكون عاماً حاسماً في مواجهة الخطر النووي الإيراني»!
لكل هذا استشعر الأمين العام للجامعة العربية (عمرو موسى) الخطر المحدق بالمنطقة ـ وهو في موقع يؤهله للشعور بذلك الخطر ـ حيث حذّر من التداعيات الخطيرة لأي هجوم أمريكي على إيران فقال في (24/1/2007م): «إذا اندلعت الحرب، فسيخرج مردة آخرون من القمقم، ولا يمكننا أن نتخيل التأثير على دول الخليج ودول البحر المتوسط».
- وهنا لا بد من وقفات وتساؤلات:
علماء الأمة وحكماؤها وأهل الرأي مدعوّون اليوم قبل الغد لتداول الرأي حول عدد من المسائل المتعلقة بالتصعيد الطائفي والعسكري الحاصل في المنطقة، والذي يُعدّ الجزء الأكبر منه صناعة أمريكية بصياغة صهيونية، تدبرها العقلية التي لا تزال تحكم أمريكا الآن، وهي عقلية المحافظين اليهود الجدد، ومن هذه الوقفات والتساؤلات:
أولاً: المعركة بين أهل السُّنّة والشيعة في جوهرها اعتقادية وليست عسكرية فليس مجرد أن الشيعة مبتدعة ـ مهما كان الغلو في بِدَعِهم ـ كافياً لأن يكونوا على قائمة الأولوية في الحرب العاجلة من أهل السُّنّة، وإلا كان كل صاحب اعتقاد فاسد محلاً لحرب المسلمين وجهادهم، وهو ما يجمع عليهم أمم الأرض جملة واحدة. ثم إن فساد اعتقاد الشيعة ليس جديداً كي يسوِّغ لنا الآن الدخول معهم في حرب طاحنة إلى جانب الأمريكان. وإذا كانت المعركة معهم عقدية في الأساس، فإن مجالها لا يزال هو البيان والحجة واللسان؛ فهذه وسيلة جهاد مَنْ لهم شَبَه بالمنافقين والزنادقة. ولكن التساؤل هنا هو: ألا توجد وسيلة لتفادي الصدام المدمر معهم الآن، في حرب لا يبدو أن أهل السُّنّة في كامل الجاهزية لها، وليس وارداً العزم على حسمها، وبخاصة أن الشيعة في العالم يُقَدَّرون بعشرات الملايين، ولا يمكن إفناؤهم إلا بأضعاف أعدادهم من أهل السُّنّة؟!
ثانياً: صحيح أن الخطر الشيعي على أمن المنطقة ـ وبخاصة منطقة الخليج ـ هو خطر صاعد إلى التنامي والتمدد، وهو ذاهب إلى اتجاه الصِّدام، لكن الجزء الأكبر منه هو قضية تخص أمريكا وإيران، فلماذا يُقحَم أهل السُّنّة فيه مبكراً؟! فلتحارب أمريكا من تشاء من أعدائها ومنافسيها على الثروة والنفوذ، ولكن أليس من حقنا أن لا يكون ذلك بأرواحنا وأموالنا وسلامة أراضينا؟ وهل من المحتّم على ساسة المنطقة أن يتحالفوا مع أمريكا في أي حرب تقرر خوضها في الزمان والمكان الذي تريده؟!(39/170)
ثالثاً: الشحن المذهبي، والحقد الطائفي الذي أفرزه شعور الشيعة بنشوة الانتصار الكاذب، يجب ألاّ يجبرنا أو يجرنا إلى سلوك مشابِه؛ لأنَّ مآل ذلك هو إلى الصِدام الحتمي على المستوى الإقليمي، مثلما آلَ الأمر على المستوى المحلي في العراق على غِرَّةٍ من أهل السُّنّة، وإعدادٍ واستعدادٍ من الشيعة. أوَ ليست هناك وسيلة ـ من جانبنا على الأقل ـ إلى العودة إلى تسكين زوابع الاحتراب المذهبي المفضي إلى معركة لا حاجة لها ولا ضروره إليها ولا فائدة منها إلا للحريصين على إضرام نارها من اليهود والنصارى المتربصين بالطرفين؟! ألا يمكن التصبّر عن منازلة الشيعة، ريثما يكون عندنا ما عندهم (مثلما يقال دائماً عن المواجهة مع دولة اليهود)؟! أليس من الأحرى بدول وشعوب أهل السُّنّة، وبخاصة دول الجوار، أن يتفادوا الصدام الآن، حتى يتملّكوا ما يمكن أن يكون سلاح ردع مكافئ، مثلما فعلت باكستان مع الهند، وروسيا وكوريا مع أمريكا؟!
رابعاً: قوة الشيعة وتغوّلهم ليس في صالح السواد الأعظم من الأمة بداهة، والمد الشيعي هو دائماً حسم من المدّ الإسلامي الصحيح، ولكن تَقَوِّي الشيعة وصعودهم ـ بما في ذلك البرنامج النووي ـ لا بد أن يُضارَع بقوة تُبنى على علم واقتدار قبل أن يُضارَع من موضع ضعف وانكسار. ولا يعني هذا الدعوة للتقارب معهم على دَخَنٍ منهم وتَقِيَّة، ولا للتهوين من خطرهم، على حساب سلامة المعتقَد وسلامة الأرض والعرض؛ ولكن الخوف كله من الاستجابة لداعي العجلة، التي كثيراً ما تكون من الشيطان.
خامساً: جزء مهم من المعركة مع التشيع المغالي، هو في الجانب السياسي، وساسة الشيعة الإيرانيون قد أظهروا حنكة وقدرة عالية على التعامل مع الموازنات والتطورات العالمية، وهم في غالبيتهم جماعة من الدينيين خريجي الحوزات والجامعات الدينية، ولم يمنعهم ذلك من تناول الشأن السياسي والتعاطي معه. فلِمَ تُترك قضايانا المصيرية نحن ـ أهل السُّنّة ـ بيد حفنة من الخبراء العلمانيين والساسة اللادينيين، الذين يُصرّون على فصل السياسة عن الدين إلى الأبد، مُضَحّين بالسياسة وبالدين معاً؟! ألم يحن الأوان أن يفرض الإسلاميون ـ نوابُ الأمة الحقيقيون ـ رؤيتهم في قضايا أمتهم، عبر الوسائل التي تفرضها إمكاناتهم وحجمهم الأكبر في الأمة؟ ولماذا يسوس الشيعةَ علماؤهم وحكماؤهم، بينما يساس السُّنّة بعكس ذلك؟!
سادساً: ألا توجد هناك طريقة لإقناع المتنفذين في بلاد العرب والمسلمين، بأن أمريكا لو عزمت على ضرب إيران ِلحِفْظِ مصالحها، فسوف تضربها سواء بهم أو بغيرهم؟ فلماذا تسوقنا نحن سَوْقاً ـ كما فعلت من قبل ـ إلى حرب ستستفيد هي منها في كل شيء، ولن يستفيد المسلمون منها بأي شيء؟! ألا توجد صيغة لتفادي تكرار اللدغ من الجُحر نفسه؟
وأخيراً: إن الولايات المتحدة على شفا سقوطٍ مدوٍّ إلى هاوية التراجع والانعزال، وربما التفكك والانحلال؛ فلماذا نقدم لها نحن طوق النجاة؟ ولماذا يتعامل بعض السياسيين معها وكأنها ستظل في كامل قوتها، مع أنها في أخطر منحنيات ضعفها؟!
إن الصبر على سقوط أو إسقاط الصنم الأمريكي المتمايل في العراق وغيره، أهون وأقل تكلفة وأعلى فائدة من المسارعة إلى اقتحام الفخ الإيراني الأمريكاني الملغم بالمواجهات والمفاجآت، وإن تمكين الأمريكان من اتخاذنا عصا مرة أخرى لضرب أعدائها سيقويها ويقوِّضنا. ولهذا فإن من واجب المسلمين جميعاً أن يرفضوا أن يكونوا عَصا بيد أولئك العُصاة المردة؛ بل من المفترض عليهم أن ينزعوا كل عصا بيد أمريكا أو غيرها، ليحرموها منها أو يضربوها بها؛ حتى تبتعد عن شؤون المسلمين وتخرج من بلادهم، وهذا ما فعله المجاهدون في العراق بهم، فيما نحسبه دفاعاً عن أنفسهم وأعراضهم ودينهم؛ وهو حق كفله الباري ـ جل وعلا ـ بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
فتحيةً لهم وهم يرفعون الإثم عن الأمة كافة! والله المستعان.
==============(39/171)
(39/172)
ثقافة التلبيس(12) :خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني !
سليمان بن صالح الخراشي
يتردد عند كثير من الكتاب هذه الأيام الحديث عن " الوطنية " ، والتغني بحب الوطن ، دون ضوابط من البعض تمنعه عن الخلط بين الحب " الشرعي " للوطن المسلم ، بالحب غير الشرعي . ولاأذيع سرًا إذا ما قلتُ بأن لفظة " الوطنية " غير محببة لدى كثيرين ؛ بسبب ارتباطها أول نشأتها بالفكرة الانعزالية التي تقيم حاجزًا بين أبناء الإسلام إذا ما اختلفت أوطانهم ، وتُطغي حبهم لأوطانهم على حبهم لدينهم ؛ حتى قال قائلهم في وطنه :
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني *** عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي *** إذا فهتُ الشهادة والمتابا !
وهذه " وثنية " لا " وطنية " ؛ لا أظن مسلمًا يرضاها لنفسه - والعياذ بالله - .
وللفائدة ؛ فهذه الدعوة الوطنية " الوثنية " ابتدأت - باعتراف أحد دعاتها وهو الدكتور محمد عمارة - منذ الحملة الفرنسية على مصر ؛ يقول الدكتور : ( لقد كان الناس في مصر يفكرون تفكيرًا إسلاميًا يعرف الملة ولا يعرف الوطن ولا القومية ؛ فسلكت الأفكار الوطنية أو القومية التي ألقى الفرنسيون بذورها في تربة مصر إلى عقول الناس ) ( 1 )
ثم ازدادت هذه الفكرة الوثنية اشتعالا بسبب النصارى العرب - سواء القادمين من الشام إلى مصر أ الأقباط - فنفخوا فيها ونشروها ؛ لأنها تحقق لهم مصالحهم - كما لا يخفى - . ثم سرت في معظم بلاد المسلمين - للأسف - برعاية استعمارية ؛ يستفيد منها العدو في عزل بلاد المسلمين عن بعضها البعض ، وتشتيتها من خلال هذه الدعوة الجاهلية .
ويزداد الأسف ؛ عندما نرى بوادر لهذه الدعوة تسري إلى بلادنا من خلال كتابات هنا وهناك ؛ تحاول لبس الحق بالباطل ؛ وتعيد هذه الفكرة جذَعة في بلاد التوحيد ؛ في محاولة لصرف ( المملكة العربية السعودية ) عن دورها الإسلامي العظيم المنتظر منها في قيادة المسلمين إلى كل خير .
لذا ؛ فقد أحببت أن أنتقي ما وقفت عليه من عبارات للشيخ العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - ؛ يوضح فيها الفروق بين الحب الشرعي للوطن ، والحب الجاهلي ؛ لعل الله ينفع بها .
يقول الشيخ في شرح حديث " وإذا استنفرتم فانفروا " :
( ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مره واحدة ؛ يجاهَد أعداء الله ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن ، لان الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر ، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم ، لكن المسلم يدافع عن دين الله ، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلا ، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام .
ولهذا يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم ؛ يجب علينا أن نُذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة ، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية ، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شي ؛ لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج إلى حماية ودفاع ، فلا بد أن ندافع عنه بهذه النية . أما الدفاع بنية الوطن أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد ؛ لأن الرسو صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليُرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". انتبه إلى هذا القيد ! إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء ، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ممثلة في بلدك ؛ لأن بلدك بلد إسلام ، ففي هذه الحال ربما يكون القتال قتالا في سبيل الله .
وثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - أي يجرح - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك " .
فانظر كيف اشترط صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله . فيجب على طلبة العلم أن يبينوا هذا والله الموفق ) . ( 2 ) .
وقال - رحمه الله - في شرح حديث " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " :
( ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر ؛ لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه . والذي يُقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد ، ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك ، الواجب أن نقاتل من اجل الإسلام في بلادنا .
انتبه للفرق : نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا ، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا ؛ سواء كان في أقصى الشرق أو الغرب ، فيجب أن تصحح هذه النقطة : فيقال : نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي ، ندافع عن الإسلام الذي فيه .
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإسلام شيئا ، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن .(39/173)
وما يُذكر من أن " حب الوطن من الإيمان " وأن ذلك حديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم كذب . حب الوطن إن كان إسلاميا فهذا تحبه لأنه إسلامي ، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه .
على كل حال ؛ يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلدنا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي لا لمجرد الوطنية ) . ( 3 )
وقال - رحمه الله - عند حديث " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء .." :
( بقي علينا : الذي يقاتل دفاعا عن بلده ؛ هل هو في سبيل الله أو لا ؟
نقول : إن كنت تقاتل عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا قاتلت لأجل أنها وطن فقط ؛ فهذا ليس في سبيل الله ، لأن الميزان الذي وضعه النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطبق عليه ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة ، والله الموفق ) . ( 4 )
وقال - رحمه الله - تعليقًا على عبارات " النشيد الوطني " لما سئل عنها ؛ فلم يتوقف سوى عند عبارة " عاش المليك للعلم والوطن " قائلا :
( يُنظر أولا : هل العلم وهو جماد يُخاطب بمثل هذا الخطاب ؟
ثانيا : هل مثلا يقال لله والوطن ، أو عاش المليك للعلم والوطن ؟
ما معنى هذا الكلام ؟ أما قولنا : عاش المليك فلا بأس أن ندعوا له بالعيش الحميد والحياة الطيبة ، وأن يسدد الله خطاه وأن يدله على الخير ، هذا لابأس به ؛ بل من منهج السلف الدعاء لولاة الأمور بالصلاح والسداد ، لكن العبارة الثانية : " للعلم والوطن " ما معنى للعلم والوطن ؟ هل المعنى عاش للعلم وعاش للوطن ؟ أو المعنى أقول ذلك تعظيمًا للوطن ؟
والحقيقة إن الذي ينبغي علينا هو أن نوجه شبابنا إلى التحمس للدين ، وليس للوطن من حيث إنه وطن ، ولهذا ترك الصحابة أوطانهم في الفتوحات الإسلامية وذهبوا يسكنون الكوفة والبصرة والشام ومصر ؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينه ، فكوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن أو ما أشبه ذلك ، دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا ، أو ندافع عن وطننا من أجل ديننا ، لأن وطننا والحمد الله - أعني بذلك المملكة العربية السعودية - هي من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله ، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية ، أي أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر ، بالنسبة لإقامة الدين ، فأنا أدافع عن وطني لأنه الوطن الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره ، وإن كان عندنا خلل كثير ، فهذا لا بأس ، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة ) . ( 5 )
قلتُ : لعل عقلاء هذه البلاد يدركون الفارق بين الدعوتين ، فيُلحون على المعنى الشرعي الذي يُبرز أن رفعة وطننا وعزه ، وسبب محبتنا - بل محبة المسلمين له - والدفاع عنه أنه مأرز الإيمان ، ومنطلق الرسالة ؛ حيث لافخر لنا بغير هذا ؛ مع عدم إغفال تواصلنا مع المسلمين في كل مكان ، ودعمنا لقضاياهم ، وتصدرنا لها ، فهذا هو - والله - خير ما يبقى لأهل هذه البلاد ، وهو الذي يُحقق ما يهدف له من يريد نشر المحبة الحقيقية للوطن ، ويجعل المسلمين يتفاعلون معه . بخلاف المعنى الضيق الذي لايزيد الأمر إلا سوء مهما بذلنا واجتهدنا ؛ لأن معظم المسلمين - ولله الحمد - لاينقادون لغير المحبة الشرعية .
مع التنبه والحزم مع كل من يريد بث المعنى الوثني الضيق للوطنية ؛ الذي لايليق بهذه البلاد ؛ وينطبق عليه قوله تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ؟
ومن الاقتراحات التي أراها مناسبة لترسيخ المعنى الشرعي لحب الوطن في هذا البلاد ؛ أن نتبنى شعار : ( السعودية .. وطن الإسلام ) ؛ ليكون شعارًا لحملة وطنية يتم من خلالها إبراز مكانة هذه البلاد ، ومعنى الحب الشرعي لها ، واختيار الأفراد المناسبين للقيام بها . والله الهادي ..
-----------------
الهوامش :
( 1 ) الأعمال الكاملة للطهطاوي ، 1/41
( 2 ) شرح رياض الصالحين ، 1/27
( 3 ) السابق ، 1/56
( 4 ) السابق ، 1/285
( 5 ) الباب المفتوح 41-50/ص 37
===============(39/174)
(39/175)
محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا
د / محمد بن خالد الفاضل
اختيار سليمان بن صالح الخراشي
( عجبت من الكاتب حسن المصطفى حديثه باسم الشعراء ومحبي الشعر في السعودية، ونيابته عنهم في الترحيب بمحمود درويش والتلهف على تشريفه لنا، ومبالغته عندما قال: "قد يكون أحد أحلام الشعراء وجمهور الشعر في السعودية أن يحل الشاعر العربي محمود درويش ضيفاً عليهم ولو لمرة واحدة في العمر، قارئاً ما تيسر من شعره وسط أناس طالما ظلوا يحسدون من حولهم على نعمة وجود هذا الشاعر بينهم، خصوصاً أن يوم الشعر العالمي مر عليهم وكأنهم أيتام ثكلوا أمهم وأباهم" !! (صحيفة "الاقتصادية" الثلاثاء 2/2/1425)، إلى آخر ما دبجه الكاتب في مقاله من عبارات الوجد والشوق والهيام، التي يخيل إليك عند قراءتها أنها قيلت في رجل سيكون خلاص الأمة من ضعفها وهوانها وتأخرها على يديه، مع أن الحقيقة أن هذا الشاعر وأمثاله سبب رئيس من أسباب تأخر الأمة وهزائمها في كل الميادين.
وما دام الكاتب الكريم قد سمح لنفسه أن يتكلم باسم شعراء المملكة ومثقفيها ومحبي الشعر فيها، فليسمح لي أن أتكلم أيضاً باسمهم جميعاً، وعندي مستند قوي للحديث باسمهم، وليس عنده ذلك المستند، فأقول: أجزم أن الكاتب الكريم يتفق معي في أن شعب المملكة شعب مسلم بكل فئاته من مثقفين وعامة، وأن المسلم مهما كانت درجة التزامه وتدينه لا يرضى أن يسب أحد دينه أمامه أو خلفه، ولا يسمح بأن يتطاول أحد على ربه أو نبيه أو قرآنه حتى ولو كان بعيدا عنه، فكيف سيحلم بأن يحتفي به أو يستضيفه ؟!
كما أن المسلم كيفما كان وحيثما كان لن يفتح صدره وقلبه وبيته لشخص قد وضع يده في يد عدوه، وكيف يجرؤ على ذلك والله سبحانه يقول في آية صريحة واضحة محكمة: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه...) فانظر أخي حسن في هذه الآية الواضحة واعرض نفسك عليها وكل من يحلم معك بالتشرف بالجلوس تحت منصة يسخر فيها من الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، وأذكرك ونفسي والقراء بأن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ؛كما قال الحسن، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم "أوثق عرى الإسلام -وفي رواية الإيمان- الحب في الله والبغض في الله" رواه أحمد والطبراني وغيرهما وصححه الألباني.
فهل بعد هذه النصوص وغيرها كثير يهون علينا ديننا وربنا ونبينا وقرآننا، فنجلب بأموالنا من يسب ذلك كله في ديارنا ؟! ووالله إننا لا نحسد من حولنا على استضافة هذا الرجل وأمثاله كأدونيس وغيره، وإنما نشفق عليهم ونرثي لحال شبابهم الذين سيتربون على شعر الإلحاد والزندقة الذي خدر الأمة وضيعها، واحتفى به أعداؤها الصهاينة، ولعلك قد قرأت كما قرأ غيرك أن وزير التربية الإسرائيلي قد كافأ محمود درويش على نضاله وكفاحه بتضمين المناهج الإسرائيلية نصوصاً من شعره في المقاومة! ولا أدري أي مقاومة كافأه عليها اليهود؟! هل هي مقاومة الاحتلال، أو مقاومة الانتفاضة؟!
ولعلك قد قرأت أيضاً أن السفير الإسرائيلي في باريس قد سلم قبل عامين تقريباً محمود درويش وأدونيس وبعض زملائهما خطاب شكر على البيان الذي وقعوه ونشرته صحيفة اللوموند الفرنسية يستنكرون فيه المؤتمر الذي كان سيعقد في بيروت لفضح الصهيونية (الهولوكست)، وأحيلك على تفصيل القضية في المقال الذي كتبه الأستاذ محمد رضا نصر الله في جريدة "الرياض" 14/1/1422هـ وعلى مقال قبله للأستاذ نصر الله في الصحيفة نفسها 30/12/1421هـ، كشف فيه حقيقة الشاعر سميح القاسم -زميل درويش في النضال- ورد عليه سخريته بالمملكة ودول الخليج في ندوة عقدها نادي الصحافة العربية في باريس.
وإن العجب لا ينقضي منا نحن أهل الخليج، فما رأيت شعباً يحتفي بمن يحتقره ويزدريه ويسبه في أقدس ما لديه ويراه ما زال بدوياً متخلفاً لا يحسن التصرف في هذه الثروة التي هبطت عليه فجأة : مثلنا؟
متى سنصحو ونعرف الصديق من العدو؟
متى سنميز الشريف من الخائن؟
متى سنفرق بين المناضل والعميل؟
لا أدري : هل أخي حسن قد قرأ ما كتبه الأديب رجاء النقاش في كتابه (محمود درويش شاعر الأرض المحتلة) -وهو غير متهم بالتجني عليه لأنه من المعجبين به- فقد ذكر في صفحة 133: أن محمود درويش قد عمل في جريدة الاتحاد، ومجلة الجديد، وهما من صحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وعلاقة درويش بهذا الحزب وعضويته فيه ثابتة لا شك فيها، وقد أفاض فيها النقاش في كتابه المذكور، وأكدها حسين مروة في كتابه: "دراسات نقدية" حينما قال على لسان درويش: "وصرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي أشعلتنا حماساً وأملاً، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعاً عن الحقوق القومية"؟ ثم أسأله أين الحقوق القومية عند شاعر يحتفي اليهود بشعره في مناهجهم وتأتيه رسائل الشكر من سفرائهم على مواقفه القومية؟!(39/176)
وإن أردت شواهد على سخرية الرجل بديننا ومقدساتنا، فاقرأ قوله: "رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم واستأجرتني آية الكرسي دهراً ثم صرت بطاقة للتهنئات" !!
وقوله: "وتناسل فينا الغزاة تكاثر فينا الطغاة، دم كالمياه وليس تجففه غير سورة عم وقبعة الشرطي وخادمه الآسيوي" !!
وقوله: "ونمت على وتر المعجزات ارتدتني يداك نشيداً إذا أنزلوه على جبل كان سورة ينتصرون" !! وهي مقاطع من ديوانه.
ثم اقرأ قوله عن أخته: "أبي من أجلها صلى وصام وجاب أرض الهند والإغريق إلها راكعاً لغبار رجليها، وجاع لأجلها في البيد أجيالاً يشد النوق، أقسم تحت عينيها قناعة الخالق بالمخلوق، تنام فتحلم اليقظة في عيني مع السهر فدائي الربيع أنا وعبد نعاس عينيها وصوفي الحصى والرمل والحجر فاعبدهم لتلعب كالملاك وظل رجليها على الدنيا صلاة الأرض للمطر"!!
وإني بعد هذه النصوص القليلة جداً من شعر هذا الرجل لأسأل أخي حسن: هل يعجبك هذا الاستهزاء بآية الكرسي وسورة عمَّ وسورة ينصرون؟ وابتذال ألفاظ الصلاة والصيام والعبادة والإله بهذه الصورة الساقطة المهينة، وتحويل الإله من معبود يسجد له الناس ويركعون إلى عبد حقير يركع لغبار رجليها؟
تعالى الله علواً كبيراً عما يقول الظالمون الجاحدون.
ثم لو حاولنا أن نصرف النظر جانباً عن المضامين الإلحادية التي في شعر هذا الرجل، وحاولنا أن نمعن النظر فيه من الناحية الفنية والبيانية والصور الشعرية الجميلة، لما وجدنا فيه شيئاً يفهم، ولرأيناه أقرب إلى سجع الكهان وهلوسة المجانين منه إلى أخيلة الشعر وصوره الجميلة، إلا إن كان يقرأ أو يُفهم بلغة غير اللغة العربية التي درسناها وعشنا معها العمر كله وحصلنا فيها على أعلى الدرجات العلمية، وهذا ليس شعوري وحدي بل شعور كل زملاء التخصص في جامعات المملكة، الذين لم تسحرهم الآلة الإعلامية الضخمة المشبوهة التي تروج لهذا الأدب المشبوه، وليس أهل الحداثة وجمهورها بأكثر علماً وفهماً من فحول أساتذة اللغة العربية، وإنما هم تحت تأثير مخدر لعبت فيه الحزبية والشللية دورها، وقد بدأ الأمر ينكشف عندما انفض سامرها وبطل سحرها، وصرنا نقرأ هذه الأيام في الصحف تراشقاً بين أبطالها واتهامات وهجوماً عليها وعلى قصيدة النثر ورموزها، وكل هذا من بركات كتاب "حكاية الحداثة" وصاحبه، وليست هذه أولى بركاته، فمن بركاته التي كشفت الموضوع للمبصرين في وقت مبكر إشادته البالغة بكلمة (تَمّتْ) التي خُتمت بها إحدى القصائد، وجعلها بيت القصيد في هذه القصيدة العظيمة، ثم يتبين أنها ليست من القصيدة وإنما زيادة من الناسخ الباكستاني الذي طبع القصيدة !! فأي فهم هذا، وأي عبقرية هذه؟ ) .
----------
* رسالة وصلتني من الدكتور محمد بن خالد الفاضل ..
================(39/177)
(39/178)
نظرات شرعية في فكر منحرف ( المجموعة السابعة )
عبدالله العلايلي - على حرب - خليل عبدالكريم - حسين أمين - محمود العالم - سيد القمني
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
نظرة شرعية في فكر : عبدالله العلايلي
* هوالشيخ عبدالله بن عثمان العلايلي، مفتي جبل لبنان سابقاً، ولد سنة 1914م بلبنان، وفيه تلقى تعليمه الأولي، ثم انتقل سنة 1924م إلى مصر والتحق بالأزهر، وتتلمذ فيه على أيدي علماء عدة منهم سيد المرصفي ويوسف الدجوي، وعاد إلى لبنان عام 1940م، له اهتمام كبير باللغة والأدب، من مؤلفاته: (الإمام الحسين) و(دستورالعرب القدامى) و(المعجم) و(المعري ذلك المجهول). انظر: د. فايز ترحيني -الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر ص 21 وما بعدها، ط الأولى 1985م، منشورات عويدات - بيروت، باريس ". ( ص 52 ) .
* قال الدكتور مفرح القوسي عنه في رسالته " الموقف المعاصر من المنهج السلفي " ( ص 234-238) :
" الشيخ عبد الله العلايلي: صاحب كتاب (أين الخطأ؟ - تصحيح مفاهيم نظرة تجديد) الذي ضمنه آراءه في تجديد الشريعة وفي تصحيح ما يظنه أخطاء، فنطالعه يقول في مدخل الكتاب -مبيناً رأيه في التجديد بعد أن يسوق حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(1)-: "والحديث الكريم هذا هو في نظري دستور كامل لحركية الشريعة وديناميتها في مجال صيرورة الزمن، فهي تجدد دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل… إذاً فلا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة بل تبدلية عاملة دائبة، وكل توقف في التكيف داخل أطر يصيب الأفراد والجماعات بتحجر يؤول إلى حتمية تخلف، بل انحدار ذريع ، وقد أحس القدامى بدواعي التغير، فلا ينبغي أن يؤخذ الخلف والسلف جميعاً بالمقتضى الواحد (فقد خلقوا الزمان غير زمانكم)" (2). ويتابع قائلاً: "ثم نقع في الحديث الشريف على عبارة (يجدد دينها)؛ وهي أمعن في الدلالة على "التشكل والتكيف" بحسب الموجب أو المقتضي؛ لأنها تتجاوز الترميم إلى الإبداء والإنشاء ، إنشاء آخر، فلم تخص التجديد بشأن دون شأن أو بأمر دون أمر، بل أحياناً في أمورها مجتمعة، وهذا واضح بكلمة "دينها" الذي هو هنا بمعنى الأقضية والنظم"(3).
فالتجديد في نظر العلايلي تبدل وتغير وتشكل وتكيف في الشريعة إزاء الظروف المتغيرة أبداً، ويبدو ذلك أكثر صراحة ووضوحاً في عبارته التالية في وصف ما يسميه الشريعة العلمية: "فالشريعة العملية إذاً هي من الليان بحيث تغدو طوع البنان إزاء الظرف الموجب مهما بدا متعسراً أو متعذراً"(4)، وفي قوله: "وإذا ضممنا الحديث السابق إلى مثيل له وهو (إني بُعثت بالحنيفية السمحة) (5) يتضح ببيان جلي أن خاصية الشريعة الأولى هي الطواعية ومجافاة التزمت"(6).
ويضيف العلايلي حديثاً آخر مخضعاً إياه كسابقه لفهمه الخاص الجديد، حيث يقول: "وإذا كان الإسلام العملي مصدر إبداع فقد صوره الحديث النبوي بما هو أجمع وأكمل: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ) (7)، ولكن لا كما فهمه القدماء بظنهم أن كلمة "غريباً" من الغربة، بل هي من الغرابة أي الإدهاش بما لا يفتأ يطالعك به من جديد حتى لتقول إزاءه في كل عصر: (إن هذا لشيء عجاب)" (8). ويرى أن القرآن نفسه قابل لمعانٍ متعددة؛ ويستدل على ذلك بحديث (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف) (9) الذي يدل -في نظره- على أن القرآن قابل لأشتات من وجوه المعاني ومطواع لتقبل الدلالات على أنواعها(10).(39/179)
والعلايلي في نظرته للشريعة -العملية كما يسميها- لا يحتج إلا بالقرآن والحديث المشهور، وما دون ذلك فهو عنده مما يستأنس به فقط ولا تقوم به حجة، فنراه يقول: "إني في الواقع لا أقول ولا أعتد إلا بالتنزيل الكريم وبالمشهور من الحديث الذي هو في قوة المتواتر، وبالمنطق الفقهي الشامل لـ(علوم الخلاف والأصول والاستدلال)، وما عدا ذلك لا أرتفع أو أرقى به عن مقام الاستئناس إلى مقام الحجية لأكون قويماً لحّاً أو صميماً مع الإسلام العملي الصحيح"(11). ويفرق في موضع آخر من كتابه بين العبادات والمعاملات في الاحتجاج بالسنة، فيرى أنه : "1-في (العبادات) ينبغي الأخذ بالقرآن وما صح من الحديث. 2-وفي (المعاملات) يؤخذ بالقرآن وحده ويستأنس بالحديث استئناساً فقط، ويبرر هذا التفريق المأثور والشائع (أنتم أدرى بشؤون دنياكم)…، ووجه التفرقة بين العبادات والمعاملات أن الأولى تبتلات وابتهالات شأنها تسامي الفرد روحياً… بينما الثانية شأنها التنظيم الاجتماعي العام… وهي خاضعة للمتغيرات العاملة الدائبة ففي كل حين هي في شأن"(12). ومن هذا المنطلق نجده في كتابه يجيز زواج المسلمة من الكتابي !! اعتماداً على قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (13)، فالآية كما أنها صريحة في النص على تبادل حلية الطعام؛ هي -في نظره- صريحة في تبادل حلية الزوجية؛ أي نساؤهم حل لنا ونساؤنا حل لهم، ويرى أن الفقهاء وإن درجوا إجماعاً على القول بعدم حل مثل هذا الزواج إلا أن إجماعهم -في نظره- متأخر ولا يقوم على دليل قطعي.
ولم يكتف العلايلي بجعل باب المعاملات في الفقه الإسلامي خاضعاً للمتغيرات الدائبة ووصفها بأنها كل يوم هي في شأن -كما تقدم- بل أشرك معها في هذا الشأن باب العقوبات، حيث ادعى بأن العقوبات المقررة في الشرع ليست مقصودة بأعيانها بل بغاياتها وهي الردع عن ارتكاب الجريمة؛ فكل ما أداها يكون بمثابتها. ومن هنا ادعى أنه لا رجم في الإسلام ولا قطع ولا جلد ولا حد إلا بعد معاودة الجريمة وتكرارها والإصرار عليها، فنراه يقول تحت عنوان (أبأعيانها أم بغاياتها هي الحدود الجزائية): "خلاصة ما انتهيت إليه في هذا الموضوع أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعيانها حرفياً بل بغاياتها، وليس معنى هذا الرأي أن عقوبة القطع في السرقة ليست هي الأصل وأنها لا تطبق، بل أعني أن العقوبة المذكورة غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها، وتظل هي الحد الأقصى الأقسى بعد أن لا تفي الروادع الأخرى وتستنفد، ومثلها الجلد في موجبه. وجل ما في الرأي الذي أطرحه أنه أشبه بما يُتبع في القوانين الجزائية من النص على عقوبة ما فيتعداها ويتجاوزها القاضي إلى الأخف فيحكم بالغرامة لا بالسجن، وذلك تبعاً للدواعي والملابسات والتقدير. وانتهيت إلى هذا الرأي انسياقاً مع روح القرآن الكريم الذي جعل القصاص صيانة للحياة وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين؛ هذا مقطوع اليد والآخر مقطوع الرجل والآخر مفقوء العين أو مصلوم الأذن أو مجدوع الأنف. وحق لي من بعد أن أنتقل إلى المفاجأة الكبرى، وهي أنه لا رجم في الإسلام -كما هو مذهب الخوارج عامة- لأن ما شاع وذاع من قول بالرجم يعتمد على طائفة من أحاديث لم ترتفع عن درجة الحسن (منها الحديث المتعلق بماعز بن مالك الأسلمي، والحديث المتعلق بالغامدية الأزدية)، ولأن هذه الأحاديث مخالفة مخالفةً صريحة للقرآن فلا يُعتد بها. ولو كان عقاب المحصنة من الحرائر الرجم حتى الموت كان أحرى أن يُنص عليه تعييناً لهوله، وادعاء النسخ بالحديث قلبٌ لمقاييس الأحوال. ولا يتسنى لزاعم متزمت اتهامي بأني أنكر ما هو نص قرآني، لأني جعلته أقسى العقوبات الزواجر وأقصى الروادع التي يُلجأ إليها. والذي يهمني من وراء هذا كله هو اعتماد "التعزير" الخاضع لتقدير القاضي وحصر النظر به وحده، وأنه لا قطع ولا جلد ولا حد إلا بعد استتابة ونكول وإصرار معاود للمعصية"(14).(39/180)
ومن غرائب ما يدعو إليه العلايلي في كتابه هذا لتجديد الشريعة وتطويرها: الدعوة إلى صهر المذاهب الفقهية المختلفة في بوتقة واحدة، وجعلها مستمداً لا ينضب معينه بغض النظر عن موافقتها للصواب من عدمه، ويكون ذلك كما يقول بـ"التسليم بكل ما قالت به المدارس الفقهية على اختلافها وتناكرها حتى الضعيف فيها، وبقطع النظر عن أدلتها، واختزانها في مدونة منسقة حسب الأبواب كمجموعة "جوستنيان"، وأعني كل ما أعطت المدارس: الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية…، وذلك يجعل هذه الثروة الفقهية منجماً لكل ما يجد ويحدث"(15). ويستطرد قائلاً: "ويتأسس على هذا المقترح أنه في حال ما إذا واجهتنا مشكلة من المشاكل اليوم، أو نازلة من النوازل نأخذ الحل من هذا المنجم الفقهي بقطع النظر عن قائله أو دليله، وبتغير الظروف يتغير الحكم المعتمد… فالمُرجّحُ إذاً هو الظرف فقط مادمنا قد سلمنا بأقوالهم جميعاً وقبلناها جميعاً، فما هجرناه اليوم من قول في مسألة ما ثم اقتضاه الظرف بعد حين نعمد إلى ترجيحه والأخذ به"(16). انتهى كلام الدكتور مفرح - وفقه الله - .
- وقال الأستاذ أحمد أبوعامر في الرد على العلايلي :
" كان العلماء المسلمون على مر التاريخ -انطلاقاً من كونهم حملة هذا الدين والمبلغين عن خاتم الأنبياء والمرسلين والورثة لما خلفه لنا الرسو صلى الله عليه وسلم من تعاليم- كانوا أحرص الناس على اتباعه واقتفاء سنته ، وكانوا أبعد ما يكونون عن مخالفة هديه وعن تنكب سيرته. لذا كانوا يمقتون المبتدعة والابتداع في الدين للتحذير النبوي الوارد عن صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) لذا تقرر عند علماء الإسلام قديماً وحديثاً أن الأقوال الواردة عنهم لا تؤخذ قضية مسلمة بل لابد من عرضها على الوحيين فما وافقهما أخذ وما خالفهما رد. وأثر عنهم أنه إذا خالفت أقوالهم الدليل فيضرب بها عرض الحائط.. وما يؤسف له أن وجد في القرون الأخيرة فئات من العلماء المحسوبين على الإسلام اختطوا لأنفسهم توجهات جديدة بعيدة كل البعد عن مشكاة النبوة لتحكيمهم العقل على النصوص ولتأويلاتهم واستنباطاتهم التي لا يسندها دليل من النقل والعقل ويسمون ذلك اجتهاداً منهم ، ولصاحبنا في هذه الحلقة آراء من هذا القبيل والتي تهدف إلى تطويع الإسلام للحياة ولي عنق الأدلة لتوافق ما يراه بل مما يؤسف له أن نجده يدعو إلى العلمانية بحذافيرها؛ ففي كتابه (دستور العرب القومي) يطالب بإعادة من سماهم برجال الدين إلى معابدهم فلهم فيها خير وصلاح وفيه للمجتمع خلاص من آثامهم وجهلهم!! وهذا التوجه منه بزعم جهل العلماء إنما هو افتراء لا مبرر له سوى ردود الأفعال منه حينما رفضت أفكاره التي رأى فيها إصلاحات للمحاكم الشرعية والأوقاف ورفضها المختصون آنذاك، فكيف يسوي بين علماء الإسلام ورجال الدين النصارى؟ بل إن هؤلاء يعملون في السياسة بخلاف ما يعتقدون وما تزال حتى الآن الأحزاب المسيحية الديمقراطية تحكم بعض الدول الأوروبية ولم يقل أحد مثلما قال الشيخ العلايلي.
إن ردة الفعل يجب أن تضبط وألا تؤدي بالفكر إلى مخالفة الصواب والوقوع في أخطاء خطيرة تناقض المعلوم من الدين بالضرورة وسنرى المزيد من تلك الآراء العجيبة له .
والحق يقال: إن الشيخ العلايلي نموذج فريد من حيث الإحاطة بالعلوم والفنون المتنوعة فهو خريج الأزهر ومحسوب على العلماء المعروفين في لبنان وكاد يكون مفتياً هناك كما سترى فيما بعد ، وهو لغوي متمكن وله جهود علمية لغوية جبارة يعجز عنها الكثيرون سأتطرق لبيانها فيما بعد ، وهو كذلك عمل بالسياسة كتابة وتحليلاً في بلاده والعالم العربي وهو منظر فكري وأيديولوجي وسيعجب القارئ حينما يعلم بأنه شارك في تأسيس الكثير من الأحزاب العلمانية المعروفة في لبنان ، ويعتبره بعضهم مصلحاً اجتماعياً لما طرحه من آراء وأفكار رأى فيها حلاً لمشكلات لبنان.
نبذة عن حياته:
هو الشيخ عبدالله بن عثمان العلايلي من إحدى الأسر العريقة في لبنان ولد عام 1914م وشجرة أسرته تعود جذورها إلى أصل (كريتي-يوناني) وفدت أسرته إلى مصر لأغراض تجارية في أواخر الحكم (العبيدي) وفي أواسط القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي ، وفدت أسرته إلى لبنان للتجارة وما يزال بعض (العلايليين في بيروت يرون أنهم يعودون إلى أصل تركي ، وفد من قرية (علايا) التركية لكن الشيخ عبدالله يرى أنهم يعودون إلى أسرة شريفة ترجع إلى (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه ولعل اسمها مصحف من (علي لي) على طريقة النسبة في اللغة التركية الشائعة آنذاك بمصر).
ومسألة الأصل في نظري لا تقدم ولا تؤخر ما لم تقدم على أساس من التقوى والاتباع للنبي r.(39/181)
عاش الشيخ في صغره في حي شعبي في بيروت يموج بالفئات البائسة إبان الحرب العالمية الأولى وتركز في لا شعوره صور مؤثرة عن تلك الأحوال مما أنشأ لديه عاطفة الشفقة والرحمة للضعفاء، دخل الكتاب عام 1919 وتنقل بين ثلاثة منها ويرجع ذلك إلى ظاهرة الضرب المبرح التي يمارسها المعلمون لإجبار الأطفال على الحفظ ، ثم نقله والده إلى مدرسة (الحرش) التي أسستها (جمعية المقاصد الخيرية) وكانت تأخذ بالأساليب الحديثة في التربية وفيها تعلم مبادئ العربية والفرنسية والحساب والتاريخ، ثم غادر إلى القاهرة عام 1924 بصحبة أخيه (الشيخ مختار) الذي كان يدرس في الأزهر آنذاك وبقي معه حتى عام 1937 حيث درس هناك وتأثر ببعض أساتذة الأزهر مثل (سيد المرصفي) و(أبو الفضل الجيزاوي) و(محمد شاكر) واطلع على أفكار محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومصطفى كامل وناصر الحركة الوطنية ذات التوجه الإسلامي وكان يتابع الندوات الفكرية والسياسية وكان معجباً بإصلاحات علماء الأزهر، وكان يدرس أحوال المجتمع المصري متفاعلاً مع فئاته الشعبية وما تعانيه من أزمات اقتصادية، واطلع كذلك على المدارس المتنوعة هناك واختط لنفسه منهجاً مزج فيه بين القديم والحديث ، وكان معجباً بأسلوب (مصطفى الرافعي) وفي هذه الفترة كتب بعض الآثار التي فقدت ومنها (أدباء وحشاشون) ونظم قصيدته المطولة (رحلة الخلد) في 1500 بيت ولم يبق منها سوى جزء بسيط ترجم للفرنسية وله أيضاً مجموعة شعرية مطبوعة بعنوان (قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل) أو من أجل لبنان وكتب في الإسلاميات (مدخل إلى التفسير) في مجلدين كبيرين.
وبعد تخرجه من الأزهر دخل كلية الحقوق في (جامعة الملك فؤاد: القاهرة حالياً) وتوقف عن الدراسة عام 1940 حينما نصح الأساتذة الطلبة الغرباء بالعودة إلى بلدانهم لورود أنباء عن زحف (رومل) على القاهرة فعاد إلى بيروت.
العمل السياسي:
بعد عودته بدأ بكتابة سلسلة مقالات ساخنة بدعوة من صديقة (ميشال أبو شهلا) رئيس تحرير مجلة ( الجمهور الجديد) تحت عنوان (إني أتهم) عن واقع المجتمع اللبناني شؤونه وشجونه، ثم انصرف إلى تأليف كتابه (دستور العرب القومي) وهو دراسة شاملة للقومية العربية التي يرى أنها رابطة مهمة يجب أن يلتف حولها العرب لتربطهم مع بعض برباط غريزي. (ويرى أن عناصر هذه القومية تتمثل في اللغة والمصلحة المشتركة والمحيط الجغرافي والتاريخ المشترك...) ثم تحدث عن مرتكزاتها ومواقفها من الأقليات وضرورة اندماجهم فيها لضمان مستقبلهم ، وكثيراً ما يتناول بالحديث مواضيع اجتماعية وسياسية وتاريخية وفكرية وهذا الكتاب مصدر لمن جاء بعده من كتاب كتبوا عن القومية كساطع الحصري ، والحقيقة أن القومية أحد العناصر التي نجح الأعداء في تكريسها لتمزيق كلمة المسلمين وتشتيت قواهم ونشوء عنصريات قومية رد فعل لها كما لا يخفى وقد أبدلنا الله بها الإسلام بقوله تعالى: ]إن أكرمكم عند الله أتقاكم[ ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من دعا إلى عصبية"، وفي الوقت الذي تجاوزت الأمم الأوروبية هذه النزعة الجاهلية تعمل جاهدة على الوحدة الأوروبية الشاملة وقد تطرق كثير من العلماء والمفكرين لدراسة القومية ونقدها بدراسات علمية جادة من أهمها (دراسات في القومية العربية) للشيخ محمد الغزالي ود. صالح العبود في كتابه (فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام) حيث ناقش دعاتها وأسقط حججهم واحدة بعد الأخرى. وهو في الأصل رسالة علمية.(39/182)
أما الأحزاب والتنظير لها: فقط شارك الشيخ العلايلي في التأسيس والتنظير لكثير من الأحزاب الوطنية والقومية اللبنانية مثل (حزب النداء القومي) و(عصبة العمل القومي) و(كتلة التحرر الوطني) واتفق مع كمال جنبلاط على تأسيس (الحزب التقدمي الاشتراكي) وأنه أشار إلى (ميشيل عفلق) باسم حزب البعث حيث أخبره بأنه استفاد من كتابه (دستور العرب القومي) ويرى الشيخ في (انطوان سعادة) -مؤسس الحزب القومي السوري الذي أعدم فيما بعد لنشاط حزبه المشبوه- إنساناً موهوباً وأنه معجب بأفكاره، ويعلل الشيخ مشاركاته تلك في تأسيس تلك الأحزاب بأنه يرى أنها تهدف إلى غرض نبيل وإيجابي في الخدمة الوطنية وتحاول صياغة علاقات متقدمة بديلة للعلاقات المختلفة القائمة على الطائفية والعشائرية والفئوية، لقد كان الشيخ صديقاً للحزبيين في لبنان على اختلاف منطلقاتهم إذ كان يلقي الخطب والمحاضرات في مراكزهم. وكان معجباً بحركة أنصار السلام ومنافحاً عنها وهو بالطبع ليس شيوعياً كما هو حال تلك المنظمة لكنه قد يكون معجباً بأفكارها اليسارية التي تزعم العمل على نهضة الشعوب وتقدمها ، ونعلم كيف تحطمت تلك الأفكار الشيوعية مؤخراً وصارت أثراً بعد عين بعد فشلها الذريع طوال حكمها بالحديد والنار في شرق أوروبا وغيرها. ولن أناقش الشيخ في مدى صلاحية تلك التوجهات الحزبية من عدمها لأنه بنفسه بعد رحلته الحزبية الشائكة وما لمسه من دورها الكبير في زعزعة استقرار بلاده وما أدت إليه من مآسٍ ونكبات تجده يقول عنها (إن الاضطرابات التي حصلت والتي لا تقوم على منطق الفكر وضعت علامة استفهام كبرى حول الكائن اللبناني وأجدني متألماً على الحاضر قلقاً على الغد اللبناني. لا وجود لأحزاب حقيقية توجد تجمعات غوغائية وليست أحزاباً مبدئية، ولو كانوا عقائديين لما اختلفوا ولما احتكموا إلى السلاح ) .
معركته مع الإفتاء:
وفي عام 1952 وبعد وفاة المفتي (محمد توفيق خالد) شغر منصبه فهب الكثيرون بطلب ترشيحه للمنصب على أثر مطالبة الصحافة والأحزاب وكانت لديه رغبة في ذلك إذ كان يمني نفسه بالإصلاحات التي تأثر بها من علماء الأزهر كالمراغي ويعزو فشله لوقوف السلطة في طريقه ثم يعود لمصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 ويقف العلايلي منها مترقباً وسرعان ما عارضها وهاجمها بحجة أن حكم العسكر لم يكن في الواقع سوى إجهاض لمشاعر الشعب لا سيما بعد وقوف السلطة في وجه العمال المطالبين بزيادة أجورهم ثم إعدامهم لهم ومنهم (مصطفى خميس) فرثاه بقصيدة (قارع الأجراس).
جهوده اللغوية:
عاد الشيخ لأعماله اللغوية التي بدأها عام 1938 بكتابة (مقدمة لدرس لغة العرب) والذي تطرق فيه إلى تعريف اللغة ونشأتها وتطورها عند القدماء والمحدثين وتطرق لمسائل علمية مهمة كرأيه في التعريب والشروط التي يراها له وأدلى برأيه في المصطلحات العلمية والتي رأى أنه لا يصح أن تملأ لغتنا بكلمات أجنبية معربة دون داع وأن ما يكفل غنى العربية ويجعلها قادرة على مسايرة التطور هو الوضع فقط ولم يقتصر على ما أقرته المجامع والجامعات بل عمد إلى وضع مستحدثات كثيرة ذكرها في معاجمه وفي حواشي كتابه (أين الخطأ؟) وقد لاقى الكتاب قبولاً ورفضاً بين العلماء والمفكرين بين مادح أو قادح.
وفي عام 1954 قام بعمل جليل هو (المعجم الكبير) الذي صدر منه 4 مجلدات من الجزء الأول وكان مقرراً أن يصدره في 24 مجلداً ليكون تطبيقاً حياً لما أبداه من آراء في مقدمته الآنفة الذكر ولمحاولة طبع هذا المعجم أسست (دار المعجم العربي) بمساعدة نفر من الأدباء واللغويين المهتمين واشترت الدولة (1000) نسخة وكاد أن يطبع بكامله من قبل (الاتحاد السوفيتي) لولا تخوفه من أن يصبغ بصبغة معينة.
أما الدول العربية والمؤسسات المختصة فلم تقدم له إلا الدعم الكلامي فقط. وبعد عشر سنوات من بدء نشر معجمه الذي لم يكتمل فكر في نشر معجم وسيط يوظف مردوده المادي لتحقيق حلمه في طبع معجمه ومنحته جمعية أصدقاء الكتاب اللبناني جائزة رئيس الجمهورية السنوية تقديراً لجهوده اللغوية التي توجت بكتابه هذا وقد نهج في معجمه الوسيط نسق المعجم إلا أنه يقوم على ذكر المصطلح في موضعه من النطق متأثراً بطريقة الغربيين الحديثة في ترتيب معاجمهم لكنه لم يتخل عن المنهج العربي لدى القدماء، فعمد إلى إثبات تصريف الأفعال المجردة والمزيدة أما المشتقات فذكرها وفقاً للفظها لكنه أحال إلى موضعها حيث تقع من النطق، وهذا الكتاب لم يكتمل نشره بعد حيث توقف الطبع بعد نشوب الحرب الأهلية.
وله أيضاً (المعجم العسكري) الذي قام به بإيعاز من الرئيس السابق (فؤاد شهاب عام 1958) مع لجنة خاصة وتناول هذا المعجم المصطلحات العسكرية مع ما يقابلها بالإنجليزية والفرنسية وقد طبع الكتاب. ولكن يا ترى هل استفادت الجيوش العربية من هذا المعجم المهم أم لا..؟! وفي نظري لو أن الشيخ قصر جهوده على الأعمال المعجمية العربية لما تشتتت جهوده بلا طائل.
التجديد والإصلاح:(39/183)
سبق أن تقدم بآراء إصلاحية للمحاكم الشرعية والأوقاف لكنها لم يؤبه لها من الجهات المختصة وفلسفته في الإصلاح تنطلق من رأيه بأن واجب الكاتب هو هضم معطيات عصره والتفاعلات القائمة فيه وتمثيل الهضم التمثيل الكامل وأن قيمة الفرد لا تقاس بمقدار ما يملك بل بمقدار ما ينفع به الإنسان والمجتمع، ويرى العلايلي أن الإسلام حل من الحلول الكبرى وأنه (فكروية: أيدلوجية) متكاملة له مميزاته المستقلة التي هي سر قيمته ومحل شخصيته وأنها العلاج لعالم اليوم الذي يعيش السقم والعياء ، ويرى أن حديث (التجديد) دستور كامل لحركية الشريعة وديناميتها وأنها تجدد دائم وقد وضع منطلقاته في التجديد مطبقة في كتابه: (أين الخطأ-تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد) والذي صدر من دار العلم للملايين عام 1987 إذ يرى فيه أن الشريعة متجددة دوماً وإذا توقفت عن التجدد توقفت عن الحياة ولذا ضمنه آراء جديدة لا يقر عليها ؛ فعند حديثه عن الجانب الاقتصادي الإسلامي طرح رأيه حول البنوك الربوية مدعياً أن الفوائد جائزة مخالفاً بذلك الإجماع قديماً وحديثاً ، وعند حديثه عن الحدود الشرعية زعم أن الرجم للزاني والقطع للسارق غير لازم التنفيذ ويفلسف ذلك بأن الحدود إنما هي بغاياتها وليست بأعيانها وأن أي رادع يقوم مقامها يغني عنها!! وهذا ادعاء لا دليل عليه ويتناقض والأدلة الشرعية المحكمة التي أقرها إجماع علماء المسلمين قديماً وحديثاً.
وطامة الطوام في آرائه الجديدة هو تجويزه زواج غير المسلم من المسلمة !! مقرراً بذلك ما يعرف بالزواج المدني الذي تطالب به الأحزاب العلمانية وغير المسلمة في لبنان وهو يخالف أحكام الإسلام وإجماع المسلمين ، وهكذا يرى أخي القارئ بأن ما ادعاه من تجديد وإصلاح لا يمت للتجديد الذي دعا إليه الرسو صلى الله عليه وسلم في حديث التجديد إنما هو شيء آخر لا يمت للحقيقة بصلة وهو ترجمة لآراء المدرسة (العصرانية) التي تسعى لتقديم خليط من الإسلام ممزوج بأفكار أجنبية وتحاول إيجاد مواءمة بين النقيضين معتمدة على أساليب التأويل والتحوير وأسلوب التنازلات والتسويغ باسم الاجتهاد ، وبالطبع لن نناقش هذه المسائل الفقهية لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة ولا يكفي المجال لإيضاح وبيان أخطائها لكن أحيل من يريد المزيد من البيان لحقائق هذه المسائل إلى المراجع التالية:
-ففي مسألة الفوائد الربوية أحيله إلى بحث في المعاملات المصرفية البديل د/ رمضان حافظ. وكتاب (فوائد البنوك هي الربا) د/ يوسف القرضاوي الذي ناقش أحد العلماء المعاصرين بما لا مزيد عليه.
-أما مسألة الحدود فأحيل القارئ إلى كتاب (التشريع الجنائي) لعبد القادر عودة.
- أما مسألة الزواج المدني فأحيله إلى كتاب (الزواج الإسلامي أمام التحديات) د/محمد علي الضناوي المحامي. حيث تعرض بالتفصيل لهذه المسألة والأسباب الخاصة والمشبوهة التي تدفع بعضهم وعلى الأخص في لبنان للمطالبة به والآثار الخطيرة المترتبة عليه " . انتهى كلام الدكتور أحمد أبوعامر ، ( المجلة العربية ، صفر 1412هـ ) .
يضاف على ماسبق :
* قال الأستاذ عبدالله الطويل - حفظه الله - في رسالته " منهج التيسير المعاصر " ردًا على تجويز العلايلي زواجَ المسلمة من كافر :
" ومن المنتصرين لهذه المسألة الشيخ عبدالله العلايلي فقد فصل فيها وعلل وأطنب، فبعدما ذكر ما نُقل من إجماع العلماء على حرمة ذلك ادعى أن إجماعهم في هذه المسألة بالذات هو نوع من الإجماع المتأخر الذي لا تنهض به حجة إلا إذا استند إلى دليل قطعي ! ثم بين أن احتجاج الفقهاء بقوله تعالى: ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) لا يقوم حجة على حرمة زواج الكتابي من مسلمة، ويعلل العلايلي ذلك بأمرين: -
الأول: أن الكتابي ليس بمشرك ولا بكافر، وهو يعد الشرك والكفر مترادفين ولا يشملان أهل الكتاب.
الثاني: أن هذه القضية وإن تك فقهية، فإنها تؤول بدورها إلى مشكلة وطنية، أو هي عقبة دون التآخي الوطني الأكمل.
ولنقض ما تقدم ونقده أقول: إنه متى ما ثبتت الردة، أو إسلام المرأة وبقاء زوجها على كفره فإن التفريق أثر من آثار ذلك، لأنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تبقى تحت رجل كافر، والدليل على وجوب التفريق بينهما قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) .
فهذا نص قاطع في وجوب التفريق بين الزوجين بسبب كفر أحدهما، وقد قال ابن كثير-رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين"(17).
ويقرر الشافعي -رحمه الله- وجوب التفرقة بين الزوجين إذا أسلم أحدهما والآخر مقيم على الكفر(18).(39/184)
وفي المدونة قال(19): " إذا ارتد رجل انقطعت العصمة بينه وبين امرأته ساعة ارتد" أي أنه يرى الردة مفرقة بين الزوجين دون الحاجة إلى حكم قضائي بالتفريق.
ثم قال -رحمه الله- : "إذا ارتد الزوج كانت تطليقة بائنة لا يكون للزوج عليه رجعة إن أسلم في عدتها"(20).
أما تعليلات العلايلي وتأسيساته فهي مجانبة للصواب، وذلك للأسباب التالية:-
أولاً: يقول العلايلي: إن القول بعدم حلية الزواج بين كتابي ومسلمة هو نوع من الإجماع المتأخر الذي لا ينهض حجة.
هذا الكلام غير مسلم به؛ لأن الإجماع على حرمة تزويج المسلمة من كتابي هو من إجماع السلف وخير القرون، يقول شيخ الإسلام: "وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم ولا يتزوج الكافر المسلمة"(21) ومعلوم أن اتفاق المجتهدين من أمة صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي حجة قاطعة وهو محل اتفاق جمهور الفقهاء وعلماء الأصول، وأن ما يُبنى عليه من حكم يجب اتباعه ولا تجوز مخالفته، فإذا انعقد الإجماع على واقعة -كحرمة زواج الكتابي من مسلمة- فهو حجة قطعية يجب العمل به، وتحرم مخالفته، وتصبح المسألة المجتهد فيها قطعية الحكم، لا تصلح بعدها أن تكون محل النزاع، وليس للمجتهدين في عصر تال أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد، لأن الحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته، ولا لنسخه.
وعليه: فإن تأثير الإجماع هو رفع الحكم من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع ؛ أي أن يثبت المراد به على سبيل اليقين بأن يكون موجباً للحكم قطعاً كالكتاب والسنة وهو قول عامة المسلمين وجمهور العلماء(22).
ثانياً: خالف العلايلي إجماع العلماء في تأويل قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) ، فادعى أنها لا تقوم حجة على حرمة زواج الكتابي من مسلمة، ويعلل ذلك أن الشرك والكفر لا يشملان أهل الكتاب.
هذا التعليل من الشيخ باطل وغير مسلم به ؛ لأن العلماء بينوا أن النصوص لا تفرق بينهم لأن ملة الكفر واحدة، يقول قتادة والزهري في قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) : أي لا يحل لك أن تنكح يهودياً أو نصرانياً ولا مشركاً من غير أهل دينك(23)، وهذا يدل على أنه لا خلاف أن المراد بالشرك هنا الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفر(24).
كما أن العلماء لم يفرقوا بين كافر ومشرك وكتابي، واعتبروا أن الجميع ينطبق عليه لفظ الشرك فيحرم تزويجهم بالمسلمة.
وهذا ما أكده الفخر الرازي حيث قال: "اختلفوا في أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب، فأنكر بعضهم ذلك، والأكثرون من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب، وهو المختار"(25) ثم استدل لذلك بأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) وقوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) ثم قال في آخر الآية (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصرى المسيح ابن الله): وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك(26). لذلك حرم الله تعالى على المؤمنات أن يتزوجن مشركاً من أي أصناف الشرك، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، عابد وثن أو مجوسياً، أو من غيرهم من أصناف الشرك، وعلى هذا انعقد إجماع علماء الأمة وقد فصله الشيخ أبو زهرة فقال: "اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج غير مسلم، سواء أكان مشركاً أم كتابياً، وقد ثبت ذلك التحريم بنص القرآن والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن).
أما السنة فقد وردت الآثار الصحاح عن السلف الصالح أنهم كانوا يفرقون بين النصراني وزوجه إذا أسلمت، روي أن رجلاً من بني ثعلبة أسلمت زوجه وأبى هو أن يُسلم ففرق عمر رضي الله عنه بينهما، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها فهي أملك لنفسها" وبهذا استفاضت الأخبار عن أصحاب الرسو صلى الله عليه وسلم ما بنوا عليه حكمهم.
وقد انعقد إجماعهم على ذلك فكان ذلك ثابتاً بالإجماع، مع أن نص القرآن حجة قاطعة لا مجال للشك فيها"(27) لذلك كان زواج المسلمة بغير المسلم باطلاً حراماً بإجماع المسلمين.
ثالثاً: يعلل العلايلي فتواه أنها إذا رُفضت ومُنع زواج الكتابي من مسلمة سيؤول إلى مشكلة وطنية، أو عقبة دون التآخي الوطني !
وهذا التعليل: هو تعد على الأصول العقائدية، وتلاعب بالمفاهيم الشرعية، وتعطيل للشريعة الإسلامية باسم التآخي الوطني، وكيف تقوم العائلة بزواج المسلمة من غير مسلم، وكيف تكون القوامة والولاية له وتستقيم قواعد الإرث... وغيرها ؟
كما أن إباحة زواج الكتابي من المسلمة لا يلزم منه بالضرورة الانصهار الوطني الذي جعله الشيخ من أساسات وغايات اجتهاده المصادم للنصوص القاطعة والإجماع.(39/185)
وكان الواجب على الشيخ -الحريص على الوحدة الوطنية- أن يدعو أهل الكتاب إلى نبذ التعصب، والتخلي عن الممارسات الطائفية، لأن الدين لا يدفع للنزاع والصراع، بل هو صمام الأمان للتوافق والانصهار الوطني.
وكان الواجب على الشيخ أن يعلمهم أن الإسلام بما يدعو إليه من سماحة وعدالة قد كفل حرية الإنسان في عقيدته، وأن دار الإسلام ما ضاقت بغير المسلمين، بل وسعتهم بعدلها ونظمها وأحكامها، وتركتهم وما يدينون، وهذا كله أقوى ضمانة لأمنهم على أنفسهم وحقوقهم ومقدساتهم، يتمتعون بكافة حقوق المواطنة والانصهار الوطني، وهذا كفيل بأن ينمي أواصر التآخي والتماسك الوطني الأكمل(28).
نخلص مما سبق إلى أن زواج المسلمة بالكتابي، أو بقاءها تحت الكافر إذا أسلمت: حرام وباطل، لأن حكمه ثابت بالدليل الشرعي القاطع المحكم، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها " . ( منهج التيسير المعاصر ، ص ) .
وقال الدكتور سيد العفاني عن العلايلي :
" يقدم الشيخ (!)عبد الله العلايلي مفتي جبل لبنان سابقاً في كتابه "أين الخطأ" مجموعة من الأخطاء يريد تصحيحها, مثل : إباحة التعامل المصرفي الربوي , وأنه لا رجم في الإسلام, ولا قطع ولا جلد إلا بعد معاودة الجريمة وتكرارها, وأن الزواج المختلط بين المسلمين والكتابيين رجالهم ونسائهم حلال شرعاً !!
- ويرى الشيخ (!) عبد الله العلايلي أن إقامة الحدود لا تتم إلا في حال الإصرار, أي المعاودة تكراراً ومراراً, إذ أن آخر الدواء الكي.. وبلغ من استهزائه بالحدود الشرعية أن قال: "إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن الذي جعل القصاص صيانة للحياة, وإشاعة للأمن العام, وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين: هذا مقطوع اليد, والآخر مقطوع الرجل والآخر مفقوء العين, أو مصلوم الأذن, أو مجدوع الأنف".
أما الرجم: فيقول فيه بمذهب الخوارج: "لا رجم في الإسلام كما هو مذهب الخوارج عامة, ومنهم من يعتد بخلافه فقهياً.. على أن ما شاع من قول بالرجم يعتمد على طائفة من الأحاديث لم ترتفع عن درجة الحسن, ومنها الحديث المتعلق بماعز بن مالك, والحديث المتعلق بالغامدية الأزدية !! (29)
يضاف - أيضًا - :
* لمز العلايلي عمر - رضي الله عنه - بأنه لم يصب في ترشيح أهل الشورى، وأن سياسته المالية أضرت بالدولة! (انظر كتابه: مقدمات لفهم التاريخ، ص 139-141)
* وطعن في عثمان -رضي الله عنه- في كتابه "سمو المعنى" . (انظر: الشيخ العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر، فايز ترحيني، ص 301).
* وطعن في عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه "لم يترك الانتخاب حراً بل استعمل فيه طريقة المداورة والانتهازية" !! (مقدمات لفهم التاريخ، ص139).
* وطعن في معاوية -رضي الله عنه- . (انظر المرجع السابق، ص 298).
* وأثنى بمبالغة على اليهودي عبدالله بن سبأ ، وجعل منه مصلحاً !! كما في كتابه (مقدمات لفهم التاريخ العربي، ص 65 وما بعدها و112).
نظرة شرعية في فكر : علي حرب
- علي حرب مفكر لبناني معاصر ، يكتب في الفلسفة وفي ما يُسمى " النقد التفكيكي " على وجه الخصوص .
- وهو لايؤمن بجميع الأديان - لا الإسلام ولاغيره - ! وقد جهر بهذا في مواضع من كتبه ، منها : قوله : "إنني أسعى إلى التحرر من كل أدلوجة، وأحاول النهوض من كل سباتٍ عقائدي؛ أكان نبوياً أم فلسفياً، دينياً أم علمانياً، أصولياً أم حداثياً" . (الفكر والحدث، ص237).
- وقد اعترف في النهاية بأنه لا يملك مشروعًا فكريًا ! إنما هو الهدم للعقائد ، وعلى رأسها الإسلام ! ، يقول : "لا أزعم أنني صاحب مشروع فكري وثقافي" (الفكر والحدث، ص94). ويقول - أيضًا - : "لا مشروع عندي" . (السابق، ص265).
- ويقول معترفًا بعلمانيته " الملحدة " : "إنني إذ انتقد الأطروحة العلمانية لا أعني بذلك التخلي عن العلمانية " . (الممنوع والممتنع، ص26).
- ويقول ملمحًا إلى هدفه من نقده التفكيكي : "إن المنحى الحفري التفكيكي شكَّل أهم حدث فكري في النصف الثاني من القرن العشرين عند من يرى ويسمع، أو يقرأ ويفهم. به تزعزعت ثوابت فكرية راسخة، وتداعت قلاع ما ورائية حصينة" . (الممنوع والممتنع، ص24).
- أما عن مناقشة فكره التفكيكي فأتركها لأحد المتخصصين :
قال الأستاذ حسن الأسمري في رسالته الجامعية التي لم تُطبع بعد " موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي " ( ص 385-395 ) مناقشًا فكر علي حرب :(39/186)
" يعتني الدكتور علي حرب بالنص، وتقوم دراساته حول النصوص الفكرية والفلسفية، وسبب اهتمامه بالنصوص أن النص (لم يعد مجرد أداة للمعرفة، بل أصبح هو نفسه ميدانًا معرفيًا مستقلاً، أي مجالاً لإنتاج معرفة تجعلنا نعيد النظر فيما كنا نعرفه عن النص والمعرفة في آن. من هنا فهو يستأثر الآن باهتمام الباحثين، وينشغل به أهل الفكر على اختلاف ميادين عملهم ومجالات اختصاصهم) (30) النص (بات يشكل منطقة من مناطق عمل الفكر. وهذا ما يجعل منه منطقة من مناطق عمل الفكر) (31)، وتصور النص عند علي حرب تحكمه رؤية (جديدة مفتوحة تستبعد منهجين كلاهما يقوم على الحجب والاستبعاد، فهي تستبعد أولاً المنهج اللاهوتي الماورائي الذي يعتبر أن الخطاب هو مجرد تعبير عن معنى قائم بذاته موجود في عقل أعلى أو متعال، إلهي أو إنساني يتصف بالمعنى والقصد، وتستبعد ثانيًا المنهج الواقعي الموضوعي الذي يحكم على النص بإسناد الخطاب إلى مرجع خارجي أو من خلال مطابقة الكلام لموضوعه.. وحدها النظرية الجديدة التي أوثر تسميتها "أنطولوجيا النص" تعيد الاعتبار في آن، للنص ولتفاسيره وقراءاته..) (32)، منهج يهتم بالنظر إلى النص فقط، دون اعتبار لقائله والمتكلم به، ودون اعتبار لأي ظروف محيطة به، ويبقى الإشكال مع النصوص الدينية، فالنصوص الدينية لا تقبل الانفصال عن قائلها، فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، والحديث هو من الوحي الذي تكلم به الرسو صلى الله عليه وسلم ، وأي نظرة إلى كلام الله أو كلام رسول صلى الله عليه وسلم تستبعد المتكلم تقع في محاذير كثيرة، فإن هذه النصوص لا تنفصل عن قائلها وعن مراده، وأي نظر إليها دون النظر إلى مراد الله ومراد رسول صلى الله عليه وسلم يفتح الباب للقول فيها بالظنون والأقوال الباطلة.
وعلي حرب مع اهتمامه بالنص على الصورة السابقة، إلا أنه يهتم أكثر بنقد النص، والنقد والنص مفهومان مصنوعان في حضارة الغرب، مفهومان مفروضان من قبل الثقافة الغربية، بصورة ضيقة معروفة في بعض المنهجيات الفكرية الغريبة، وقد أخذ علي حرب هذين المفهومين وأنزلهما على الإسلام.
أي أن علي حرب لا يتعامل مع النص بصورته الواقعية المعروفة وإنما بصورته التي صنعتها بعض الاتجاهات الفكرية الغربية، فهو يتعامل مع (نص) صورته مصنوعة في فترة زمنية معينة، ومن قبل فئة معينة، وإذا أتى زمنٌ آخر وفئة أخرى بصورة جديدة للنص، انتقلنا إليها، وهكذا.
بعد هذا ننتقل إلى الأمر الثاني وهو النقد التفكيكي، خاصة أنه أصبح من أهم المفاهيم المنتشرة في الفترة الأخيرة عند كثير من الاتجاهات، وإن كان أكثر في الجانب الأدبي، إلا أنه موجود كذلك مع الاتجاه الفلسفي، مع أن أهل الاتجاه الأدبي التفكيكي لا يفرقون بين النصوص، فالأدبية والدينية والفكرية نصوص متساوية ينطبق عليها هذا المنهج، لكنهم يركزون نشاطهم فقط على النصوص الأدبية، ويرجع ذلك في أغلبه إلى طبيعة تخصصهم من جهة، ولظروف المكان الذي يعيشون فيه من جهة ثانية.
حرب والنقد التفكيكي :
إذا كان علي حرب يتعامل باهتمام مع النص، فإن نقده للنص هو أهم ما يميز تعامله مع النص، وذلك تحت مفهوم جديد وهو (النقد التفكيكي)، والآن نحاول التعرف على هذا النقد:
في البداية ينبه علي حرب، ويكرر ذل مرارًا بأنه لا يمارس النقد بصورته التقليدية، فنقده (لا يقوم على نقد المذاهب والمدارس والأدلوجات على أساس التفريق بين الصحيح والفاسد، أو بين الصادق والكاذب، أو بين العلمي والخرافي) (33) وإن كان أحيانًا يذكر أهمية مثل هذا النقد، ولكنه لا يمثل أهمية كبيرة تعادل نقده الجديد، بل ويصب نقده اللاذع لمثل هؤلاء النقاد.
وهذه عادتهم جميعًا ، فلا بد من البدء بإلغاء الآخرين، وإلغاء المنهجيات الأخرى والتصورات الأخرى التي تخالفه، ثم يأتي وكأنه المنقذ وصاحب المنهج السليم.
يقول عن نقده بأنه يمثل (النقد الحديث كما مورس ابتداءً من كنط وكما تطور واغتنى بعده وبخاصة لدى المعاصرين بدءًا من نيتشة وانتهاءً بآخر المدارس النقدية) (34).
وتتمثل شخصيات النقد التفكيكي في نيتشه وهيدغر وميشال فوكو وأخيراً جاك دريدا (الذي تبنى المصطلح وبرع في استثمار التفكيك حتى اشتهر به) ويأتي أحيانًا معهم جيل دولوز(35) إضافة إلى الذين ساهموا في تشكيل التيار البنيوي فقد مارسوا هذا النمط من التفكير أمثال ألتوسير ولا كان وليفي شتراوس وبارت(36)، أما فوكو ودريدا وجيل دولوز وألتوسير ولا كان وليفي وبارت فهم من المتأخرين في الثقافة الأوروبية، وأغلبهم يعيشون في مكان واحد، وبيئة واحدة، في فرنسا، ولهم تأثر كبير بالعلوم الاجتماعية الحديثة إضافة إلى علم اللغة الحديث الذي افتتحه دوسوسير، وكذلك يجمع بينهم إلغاء الإنسان أو إعلان موته، أو موت المؤلف، وذلك بعد أن أعلن نيتشه موت الله، وفي المقابل نجدهم يعلون من شأن بعض الأنظمة الفكرية واللغوية بصورة يجعلونها متحكمة في مصير البشر والفكر والمعرفة والتصورات إلى حد جعلها أشبه بالخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه.(39/187)
ننتقل من النقاد إلى بعض الملامح العامة حول النقد عنده، ونرى تصوره للنقد، فالنقد عبارة عن (بحث في قبليات المعرفة وشروط إمكان الفكر… يرمي إلى البحث في المؤسسات والأبنية والممارسات التي تتيح للخطابات أن تتشكل وتنتشر …. باختصار إن النقد بالمعنى الحديث بل الأحدث، هو قراءة في النصوص والتجارب لسير إمكاناتها واستنطاقها عن مجهولاتها. وهذا هو النقد بالمعنى الأنطولوجي للكلمة… يستقصي المجهول والمغيب والمستبعد…)(37) وبهذا يتخطى النقد (نقد الفرق والمذاهب إلى نقد أصول المعرفة الإسلامية. نتخطى نقد التفاسير والشروحات إلى نقد الوحي نفسه، وذلك بالتعامل معه كمعطى يخضع للمعرفة النقدية وشروطها..) (38) والفضل في افتتاح هذا النقد يعود إلى محمد أركون(39).
وعلي حرب يرى أن هذه القراءة النقدية (تستثمر إمكانات النص وتعيد إنتاجه، فتحوله من معرفة جامدة إلى معرفة حية، بالتعامل معه كرأسمال ثقافي يمكن تحويله وصرفه) (40) هنا يتضح مدى التحول في معنى النقد الذي يتبناه علي حرب، وإن كان في حقيقته وجوهره يعود إلى المعنى المباشر من النقد. وهكذا يصبح (نقد النص) عبارة عن تلاعب في النص، وفيه تتم إسقاطات متنوعة من قبل الناقد على النص، وهذه الإسقاطات تشوه النص، وتخرجه عن مقصده، وهكذا فكل إنسان، وكل فئة، وكل مجتمع، هو الذي يُنزّل على النص ما يريده هو لا ما يريده النص، مع أننا نجد أن تركيزه منصب على كشف المستور والمخفي، وبهذا ينحصر النقد في جهة واحدة، وبهذا يصبح نشاطه محصورًا وضيقًا وهو يخالف زعمه عن القراءة المنفتحة، أو القراءة الحية كما يسميها، فقراءة القرآن الحية كما يقول: (تعنى بالبحث عن القَبْلي والمحتمل، وتهتم بالكشف عن المجهول والمغيَّب والمسكوت عنه… تبحث في النص عن البداهات المحتجبة أو عن القبليات المنسية أو عن البنيات المترسبة أو عن الآليات المستخدمة) (41).
وإذا كان النشاط النقدي عبارة عن إسقاطات، وعبارة عن معانٍ في أذهان هؤلاء ينزلونها على النصوص، ويحملونها ما لا تحتمله، فإن الباب لن يغلق أمام التلاعبات المتواصلة من قبلهم، كيف والنص عبارة عن رأسمال، يمكن صرفه في أي وقت، وبأي طريقة، وهذه هي حقيقة النقد التفكيكي، إنه نقد قائم على انعدام الحقيقة، وخاصة الحقائق النبوية، وبهذا فلا بأس بأن نقول في النص ما نشاء، وأن نقرأه كيفما نشاء، فهو نص رمزي، وعملة يمكن صرفها.
يضع علي حرب بعض القواعد حول نقد النص، ومن المناسب التوقف مع بعض ما فيها، لأنها حوت كثيرًا من الأصول التي تحرك الاتجاهات الفلسفية الأخيرة، ومن هذه القواعد:
أولاً: (النصوص سواء) فالاختلاف هنا لا يهمّ، والفرق هنا لا يهمّ، سواءً كان من حيث المضامين والمحتويات، أو من حيث الموضوعات والطروحات، إنما الذي يهم كيفية انبناء الخطاب وطريقة تشكله وآلية اشتغاله.
هنا يمكن الجمع بين النص الفلسفي والنص النبوي، إذ كلاهما يشكل نصًا لغويًا(42).
وهو بهذه الصورة يستطيع التعامل مع النص النبوي كأي نص دون أي ميزة له، فيسقط عليه منهجياته ونقده، دون أي مشكلة أو تحرز، فكلام الله لأنه نص مثل كلام إبليس أو فرعون أو أي متكلم مخلوق لأنها كذلك نصوص !!
ولكن هل المنهج العلمي يتعامل مع الأسماء المشتركة على ما تحويه من معاني مختلفة على أنها شيء واحد؟ وهل العقل يقول بهذا؟ إن الجواب واضح.
ثانيًا: (كينونة النص) حيث يصبح النص مستقلاً، ويُنظر إليه من دون إحالته لا إلى مؤلفه، ولا إلى الواقع الخارجي. ففي منطق النقد يستقل النص عن المؤلف كما يستقل عن المرجع(43)، وهذا "الفصل" يطغى على الفكر البنيوي والألسني والفلسفي المعاصر. وإذا كنا نستطيع فصل النص عن قائله إلا أن دراسته وفهمه ستبقى ناقصة، وهذا في النصوص البشرية. أما كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، فإن فصله عن المتكلم به معناه الابتعاد عن مراد الله سبحانه الذي أوضحه لنا رسول ا صلى الله عليه وسلم أتم توضيح وبينه أفضل بيان، وبالتالي تُنزل الأهواء الشخصية والمرادات الفردية والرغبات الخاصة على هذه النصوص، وبهذا يصبح النص حتى على دعواه غير مستقل، وانفصاله لم يتم، فهو إن فصله عن المتكلم به، فقد جعل نفسه وكأنه المتكلم به، لأنه الوحيد الذي كشف حقيقته وعرف مراده المخفي والمعلن.
ثالثًا: لا يوجد حقيقة جوهرية للنص، وإذا لم تكن هناك حقيقة جوهرية وثابتة فلا مجال عندئذٍ للحديث عن الخطأ والصواب.. فالتخطئة أو التصويب يصحان إذا كنا نتعامل مع النص بوصفه يعكس أو يتطابق مع حقيقة ذهنية أو خارجية قائمة بمعزل عنه، وكمثال (فالنص النبوي، مثلاً، لا تكمن أهميته في كونه يروي الحقيقة ويتطابق معها. بل تكمن بالدرجة الأولى في حقيقته هو، أي في رؤيته للوجود وفي آلية إنتاجه للمعنى وفي كيفية تعامله مع الحقيقة أو في طريقته في الكلام على الأشياء) (44).(39/188)
إذًا فالنص هو الذي يصنع الحقائق، لا أن هناك حقائق ثابتة يتحدث عنها النص أو يصفها، وعندما لا تكون هناك حقائق فالباب مفتوح أمام القارئ ليتخيل ما شاء من مضامين لهذه النصوص، وعلى هذا يكون فعل الرسو صلى الله عليه وسلم مع صحابته إنما هو من باب الغشّ لهم، فهو قد أخبرهم بهذه النصوص بما فيها من حقائق، واعتقدوها وصدقوا بها، وفي القرن العشرين تمّ الاكتشاف الحديث بأن هذه النصوص لا تدلّ على حقائق ثابتة كما يقول النقاد من طه حسين إلى علي حرب على خلاف بينهم في مستوى الإنكار!!
تأتي بعد ذلك أربع قواعد متقاربة، ففي "استراجية النص" يرى أنه (لا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تخفيه وتستبعده…)(45)، وأما سبب سكوت النص فهو يرى أن (النص يسكت ليس لأن مؤلفه ضنين بالحقيقة على غير أهلها ولا بسبب تقية من سلطة يخشاها ولا لغرض تربوي تعليمي يرمي إليه، كما ذهب بعض مفسري القرآن، بل لأن النص لا ينص بطبيعته على المراد، ولأن الدال لا يدل مباشرة على المدلول… ومن هنا يتصف النص بالخداع والمخاتلة ويمارس آلياته في الحجب والمحو أو في الكبت والاستبعاد…)(46)، وبهذا تتحول النصوص مع علي حرب إلى ألغاز وأسرار وخفايا، وبهذا لا يكون التعامل معه حسب ظاهرة، بل حسب ما يخفيه والذي لا يعرفه إلا أمثال علي حرب ! وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد خاطب عباده بكلام لا تظهر فيه الحقيقة، بل هي مختفية، وهذه طبيعة في أي نص، بل هناك ما هو أكثر من ذلك توضحه القاعدة الخامسة (النص يمارس حجبًا مضاعفًا إذ هو يحجب ذاته كما يحجب ما يتكلم عليه) (47)، وبهذا يتحول النص إلى كلمات مغلقة، ومعاني مستعجمة، لا يمكن معرفتها والوصول إليها إلا بشق الأنفس، ويصبح النص محفوفًا بالمخاطر، والاعتماد على ظاهره خطأ فادح، والطمأنينة إلى ظاهره في غير موضعها ولها ضريبتها، بل يزيد من هذا البلاء من علي حرب بلاءًا آخر حيث يقول بأن (الحجب والمخاتلة) يمثل فعلاً قوة النص (ولهذا فأنا أذهب إلى أن قوة كل نص هي في حجبه ومخاتلته لا في وحدته وتجانسه) (48) وهنا ينحصر نقد النص في قراءة ما لم يقرأ، أو كشف المحجوب والمختفي، وهذه هي القراءة الحية، بخلاف القراءات الميتة، وهذه القراءة وهذا النقد من لا يقبلهما ومن لا يستوعبهما -حسب زعمه- فهو عاجز عن قبول التحدي(49).
هذه هي قواعد علي حرب، والمتتبع لنشاط أغلب الفلاسفة المتأخرين يجد أنهم يدورون حول هذه المعاني.
يلاحظ أن هذه القواعد قد حولت النص، ومنه النبوي إلى لغز من الألغاز، بل وحصرت قوته وأهميته في قوة حجبه وإخفائه للحقيقة، وفي قوة تلاعبه وتمويهه بها ، وإذا نظرنا إلى ثقافات البشر، نجد أن هذه المعاني تناسب الألغاز، وتقترب من نشاط السحرة وأشباههم في تلبيس الحقائق، بل وتعتبر قوة الساحر في قدرته على إخفاء سحره وفي نجاحه في التمويه والتلاعب بأبصار الناس وعقولهم.
ويجب التنبيه في هذا المقام إلى أن لكل نص صورته الخاصة التي تميزه عن غيره، وحالته الخاصة، ووضعه الخاص، ولذلك تتمايز النصوص، ويختلف بعضها عن بعض، فنصوص لا يناسبها إلا الوضوح، ونصوص مجالها في بلاغتها ومجازاتها واستعاراتها، أما النصوص النبوية فهي نصوص لا تدخل تحت هذه التقسيمات الخاصة بنصوص البشر، فهي وحي من السماء، وهي نصوص لهداية البشر، نزلت بأفضل صورة، وعلى أكمل وجه، وبلسان عربي مبين، ففيها الحق، وفيها النور، وفيها الحياة، وفيها البيان، وفيها الهداية، وما كان كذلك فلا يناسبه الغموض والاختفاء والتمويه والتلاعب والحجب الذي ينادي به علي حرب، والذي لم يُكتشف إلا في القرن العشرين، وبقي غامضًا على الأمة الإسلامية وعن علمائها أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، فما أعظم جنايته على كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأمة الإسلامية عمومًا، بل على الأديان السماوية كلها.
لقد جعل علي حرب للنص ظاهرًا وباطنًا، فالظاهر ما يعرفه الناس، وباطن أو مخفي أو محتجب أو مستور وهذا ما يعرفه علي حرب عن طريق تفكيكية اليهودي جاك دريدا، وهذا يذكرنا بالظاهر والباطن عند أهل التصوف وأهل الباطن، وهذا ربما يفسر سر إعجابه الكبير بابن عربي وببعض المتصوفة، وهو بهذا يخالف مزاعمه في جعل النص واسعًا حيث ضيقه، وجعله محصورًا في جانب واحد، وهو الباطن المخفي.
نعم إن كلام الله سبحانه وتعالى مليء بالمعاني والدلالات التي لا تنفذ، ولكن ليس معنى ذلك أن يُنظر إلى النص ويفسر أو يفكك -كما يقول علي حرب- بعيدًا عن سياقه، وبعيدًا عن مراد قائله، فالابتعاد عن النظر إلى النصوص متكاملة، والابتعاد عن قائلها يحول النصوص إلى ساحة لأهواء البشر ورغباتهم، وتفسير النصوص عندها بما يريده المفسر لا بما تريده النصوص وتدل عليه.(39/189)
إن هذه الانحرافات الخطيرة، وخاصة في جانب النظر إلى النصوص الشرعية، عند علي حرب ومن شاكله في النقد أو التصور، له علاقة كبيرة بذلك التصور الفلسفي الفاسد نحو النصوص الشرعية الذي يزعم بأن النصوص الشرعية، نصوص تخييلية، أو أسطورية أو ما شابه ذلك من الأقوال حسب توجهات كل متفلسف، وإذا كان قد تم التحقق من السابقين من جهة أثر هذا التصور عليهم، ففي هذا الموطن ننظر إلى أثره في علي حرب.
يرى علي حرب وكما سبق بأن النص لم يعد يعبر عن حقيقة(50)، وإنما كل نص يصنع حقيقة ويوهم الناس بها وليس بالضرورة لها وجود، والفضل في هذا الكشف يعود إلى مفكري التفكيك، ويرجع كذلك إلى اكتشافات دوسوسير في زلزلة المعنى والحقيقة(51)، وهذا الأمر هو صورة غالية لقول الفلسفة وتصورها العام بأن النصوص النبوية نصوص تخييلية.
يركز علي حرب كغيره من المتأخرين على بعض القضايا التي تتعلق بالفرد والمجتمع من أجل الاستمرار -دون حذر- في نقد النص الديني أو أي نص، ومن أهمها الدعوة إلى فتح الباب أمام حرية الباحث في النقد، وأن يتحلى بها كل باحث، فيتخلص من كل سلطة حسية أو معنوية، وينفتح على نقد النصوص دون حرج، حتى ولو كانت هذه النصوص هي آيات كتاب الله أو أحاديث رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وهي دعوة إلى حرية النقد لهذه النصوص بصورة تجعل الحرية فوضى مدمرة.
يقول علي حرب عن هذه الحرية بأنها (إمكانية الدخول على الإسلام من هوامشه ومنافيه، أو من مكبوتاته ومرذولاته، أو من عوالمه السفلية وقبلياته التاريخية؟ أو إمكانية الدخول على التراث الإسلامي من خارجه، كما يفعل المفكرون العرب المعاصرون الذين يدخلون على الإسلام وتراثه من الفضاء الغربي الحديث على اختلاف عقلانياته وأدواته المنهجية وأنظمته المعرفية) (52)، وهذه الحرية (تعني إمكانية التعامل النقدي مع الإسلام لا بوصفه مرجعية مقدسة أو سلطة معرفية لا تجادل أو هوية ثابتة ونهائية، بل بوصفه أحداثًا تاريخية أو مخزوناً ثقافيًا أو رأس مال رمزي..) (53).
هكذا أقام علي حرب نقده، على خطوات مرتبة، أولاً فتح النص أمام كل ناقد، خاصة بعد أن جعله كأي نص، وسلبه الحقيقة، وجعله نصا رمزيا ، أتى بعد ذلك ليزيل ما يمكن أن يتبقى لدى بعض المسلمين من احترام وتعظيم لكلام الله سبحانه وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، فمن خلال باب الحرية ومشروعيتها لا يبقى عند ذلك عائق عن النقد، وسواءً من جهة النص فهو مفتوح للنقد، أو من جهة قائله فلا عائق من جهة قائله (أو مؤلفه كما يقول علي حرب)، لأن النص قد تم فصله عن قائله والمتكلم به، ولا عائق من جهة الناقد القارئ ، فمن خلال شعار الحرية خف تعظيم الله سبحانه وتعظيم رسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم كلامهما.
مع أن الناقد والقارئ قد تم إلغاؤه من قبل علي حرب، وجعل إمكانيته النقدية والتفسيرية محصورة في صورة ضيقة وضعها.
وبهذا لم يترك علي حرب أي باب أمام من أراد نقد النص الشرعي إلا وفتحه وزينه، فنكون بذلك مع أسوأ المتفلسفين تعاملاً مع النص الشرعي باسم المنهج النقدي، نحن نجد أحيانًا بعض الاعتذارات عند أركون ونصر حامد بأنهم لا يقصدون نقد النص الشرعي، وإنما يقصدون نقد التصورات المحيطة به، مع أنها اعتذارات كاذبة، أما علي حرب فهو يرفض مثل هذه الاعتذارات؛ لأنه لا حاجة إليها، وعندما صرح أركون مرة بإعجابه بالقرآن، فهذا موقف لا يعجب علي حرب لأنه (موقف إيماني عقائدي أو عشقي لا موقف ناقد محلل) (54) أما ما يعجبه في أركون فهو نقده الصريح للقرآن، فإن قراءته النقدية (أجدى وأخصب من القراءات الأيدلوجية التبجيلية التي تتعامل مع النص بوصفه معرفة ميتة أي جاهزة نهائية) (55).(39/190)
هكذا يصبح علي حرب أكثر غلوًا وتطرفًا في نقده للنص الشرعي، ويصبح أسوأ من الماركسيين والوضعيين وأشباههم، وهو يرى أن مشروعه يجعل الأولوية للإنسان بدل الإسلام والدين(56)، مع أن الله لم ينزل دينه ويرسل رسله إلا من أجل صلاح الإنسان وسعادته، ولكنه (كعلماني) (57) لا يمكن أن يقبل دين الله سبحانه، ولا يقبل بتطبيقه في حياة البشر، لأن الذين (فكروا بتعليم البشر، أو بتطبيق الأفكار والنظريات لم يحصدوا سوى سراب أو خراب، أكانوا أنبياء أم فلاسفة) (58)، وذلك يعود إلى أن النصوص النبوية بالذات والنصوص عمومًا لا تدل على حقائق، فإذا فرضناها على الناس، فنكون بذلك قد فرضنا عليهم أباطيل لا واقع لها، وعلى هذا القول الشنيع يكون جهد الأنبياء عليهم السلام في هداية الناس ودلالتهم إلى الحق إنما هو من باب العبث، لأن نصوصهم خالية من المعقولية حيث يقول: (لو نظرنا إلى النص النبوي من منظار نقد العقل لبدا لنا خاليًا من أية معقولية. من هذه الوجهة يُقرأ الخطاب بوصفه كلامًا لا مصداقية له ولا صلاحية، أي يجري التعامل معه وكأنه سند لا رصيد له من الحقيقة) (59) إننا نسير مع متفلسف لا يملك أية مبادئ أو ثوابت أو عقائد يؤمن بها ويصدق بها ولهذا فلا يستغرب منه مثل هذه المواقف ، يقول: (ليس المهم ما نؤمن به، وإنما المهم كيف يمارس المرء إيمانه أو يتعاطى مع معتقده سواء كان يؤمن بالدهر أم بغيره، بالخالق العظيم أم بالانفجار الكبير) (60). انتهى كلام الأستاذ حسن الأسمري - وفقه الله - .
يضاف على ماسبق :
- في مقاله: " الحجاب وما يفضحه"! يقول علي حرب : "إذا كنت أحيي شيخ الأزهر على موقفه، فأنا لست معه في رأيه حول الحجاب، إذ لا أعده فريضة دينية، بل عادة من عادات اللباس تعود إلى المجتمع الأبوي والعبودي، وعلى فرض أنه فريضة، فالفرائض والأحكام تخضع للتبديل، لا يسعنا الآن العيش باتباع نفس القواعد والأحكام والعادات التي خضع لها من سبقونا منذ أربعة عشر قرناً" !! (الإنسان الأدنى، ص 153). ويقول : "المرأة هي كائن اجتماعي من الدرجة الثانية في النظام الحقوقي الإسلامي"! (حديث النهايات، ص 65). و يقول : "لا يمكن للثقافة في أي حال وأياً كانت درجتها أن تحرر العلاقة بين الرجل والمرأة من طابعها الجنسي على ما تتوهم المرأة المثقفة" . (الفكر والحدث، ص179).
- يحارب علي حرب الإسلام في كتبه متخفياً تحت ستار محاربة ما يسميه الأصولية. (انظر مثلاً كتابه: الأختام الأصولية والشعائر التقدمية، وكتابه: العالم ومأزقه).
- يسخر من طالبان ومواجهتها لدولة الكفر "أمريكا"، ويقول عن الأفغان: "هم أكثر تشدداً وتطرفاً من العرب في ممارستهم لهويتهم الدينية، والشواهد على ذلك أسماؤهم الإلهية الدالة على الأحسن والأفضل، والأحق والأكمل، وهي صفات تكذبها على الأرض الممارسات البشرية الشيطانية". (العالم ومأزقه، ص80).
- يقول: "إن مصطلحات كالنفقة والمتعة والمهر والأجر والهجر أو الضرب، وسوى ذلك من المفردات التي تنظم العلاقة بين المرأة والرجل؛ إنما تعود إلى العصر المملوكي والمجتمع الأبوي البطريركي" !! (حديث النهايات، ص59).
- ويقول متطاولا ومستهزئًا بالإسلام وأحكامه : "إذا تحدث الغربيون عن مسألة حقوق الإنسان نرفع الصوت عالياً بأن هذه الحقوق هي من صميم الإسلام، مع أن العقيدة الإسلامية شأنها -شأن سائر العقائد- لا تخلو من الاصطفاء والاستعباد" !!(حديث النهايات، ص65).
- ويقول : "الإسلام الحقيقي لم يوجد ولم يُطبق، لا في هذا الزمان ولا في صدر الإسلام" . (الممنوع والممتنع، ص 28).
- ويقول متهجمًا على أهل الإسلام : "لا أعتقد أن الحركات الإسلامية قدمت أفكاراً جديدة خصبة، تصلح لتفسير هذا العالم أو لتغييره وإعادة بنائه، بل إن ما تقدمه يتخذ طابع النفي والسلب، ويترجم دماراً ذاتياً" . (الممنوع والممتنع، ص85). وانظر : (الفكر والحدث، ص108)
- ويمدح الملحد صادق العظم ويعترف "بألمعيته وجدارته" ! (الممنوع والممتنع، ص165).
- ويقول متهجمًا على التاريخ الإسلامي - غير مفرق بين الجهاد الشرعي والحروب الأخرى - : " يستغرب الكثير من المسلمين العنف الذي يمارس في المجتمعات الإسلامية بين المذاهب والأحزاب والفصائل المتحاربة، فيتساءلون: هل يُعقل أن يتقاتل المسلمون على هذا النحو البربري؟ والحقيقة أنني كلما سمعت مثل هذا الاستغراب أجيب المتسائل: كأنك لست بمسلم، أو كأنك جاهل بتاريخ الإسلام السياسي الذي هو عبارة عن فصول من النزاعات والفتن والحروب، فالنبي خاض حروباً وقاد معارك، وبعد النبي تنازع خلفاؤه وصحبه على المشروعية واقتتلوا فأهرقت دماء في حروب أين منها داحس والغبراء! " . ( الممنوع والممتنع ، ص 176) .
عدمية علي حرب :
- بعد أن رفض علي حرب الأيدلوجيات - كما يقول - ، ومن ضمنها الإسلام طبعًا ، فهو يتجه نحو العدمية أو العبثية أو اللاأدرية أو الضياع ، وإليك بعض أقواله ، واحمد الله على نعمة الإسلام :(39/191)
- يقول متفائلا بالعولمة ! : " ما تتيحه موجات العولمة وما بعد الحداثة، هو ولادة شكل جديد لوجود البشر وأنماط تعايشهم، يتجاوز الشكل اللاهوتي للمخلوق الآثم الذي ينتظر يوم الدينونة لكي يُحاسب على عمله، كما يتجاوز الشكل الماورائي للكائن الذي يستمد من خارجه عِلَل وجوده ومبادئ سلوكه، فالماورائيات والروحانيات لم تشكل عبر تاريخها سوى خطابات مخرومة تمزقها النوايا المفخخة والمقاصد المنتهكة، أو أستار رقيقة تشف عن تحولات الطبيعة ومخاتلة الرغبة " .
- ويتابع : " كذلك هو يتجاوز مقولة الإنسان الأعلى، بقدر ما يتجاوز في الوقت نفسه مقولة الإنسان الإله التي يدعو إليها لوك فرّي، هذه المقولة هي أيضاً دعوى خادعة ونبوءة كاذبة، إذ المسألة ليست الآن أن يَتَألهن الإنسان ولا أن يتأنسن الله، ذلك أن الشكلين، الإلهي والإنساني، الأعلى والأدنى، هما وجهان لممارسة قدسية واحدة، باسمها تشن الحروب وتهرق الدماء، ومن أجلها يجري تصحير الطبيعة وتدمير الكائنات، وأخيراً لا آخراً، فالشكل الممكن هو تجاوز ثنائية الله والشيطان، إذ الشيطان، بحسب المنطق الديني، هو مخلوق إلهي لا يسير العالم من دونه، ولذا فقد أعطاه الله سلطة الوسوسة والغواية على الخلق إلى نهاية التاريخ والإنسان ".
- ويتابع : "وهكذا فإن الشكل الجديد الذي تتيحه ظاهرة العولمة وانفجارات ما بعد الحداثة، هو محاولة لتفكيك الأشكال السائدة، القديمة والحديثة، ذات الجذر الديني واللاهوتي، أو ذات المنشأ العلماني والناسوتي " .
- ويتابع : " لم تعد المسألة أن نختار بين مشروع شمولي ومشروع آخر، بل أن نتخفف من أعباء المشاريع والروايات الطوباوية الواعدة بالتحرير الكبير " .
- ويتابع : " من هنا فإن السجالات بين العلمانيين والأصوليين، على الرغم من عنفها، إنما تنتمي إلى عهد إنساني آخذ في الزوال، ذلك أن المسألة الآن ليست أن نختار بين التدين والتعلمن، أو بين طوبى قديمة وأخرى حديثة، بل أن نكف عن تقديس الأفكار لكي ننخرط في تشكيل فضاء فكري جديد، يتجاوز العقليات القديمة والعقلانيات الحديثة التي باتت عاجزة عن فهم الوقائع وصناعة العالم، لقد أُرهق الإنسان من جراء عبادة الأصول والنماذج والنصوص، وما يحتاج إليه هو الخروج من عصور القداسة، القديمة والحديثة، التي أوصلت إلى هذه النهايات الحافلة بفضائحها والحارقة بعنفها وتوحشها ". ( حديث النهايات ، 191-193) .
- قال عنه الدكتور محمد عمارة: "يتجاوز الآن الحداثة إلى عبثية وتفكيك وعدمية ولا أدرية ما بعد الحداثة عندما استخدم منهاج شنعت فوضحت في وصفه الموجز لهذه الحداثة فقال إنها القول بمرجعية العقل وحاكميته، وإحلال سيادة الإنسان وسيطرته على الطبيعة مكان إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون" !! (التجديد في الفكر الإسلامي - مجموعة أبحاث، ص 91- نقلاً عن مقال لحرب في جريدة الحياة 18/11/91م).
- أخيرًا : للدكتور عمر كامل رد على علي حرب بعنوان : "حوار مع علي حرب".
نظرة شرعية في مؤلفات : خليل عبدالكريم
-كاتب يساري حزبي، يكتب في الإسلاميات. ولد عام 1348هـ وهلك عام 1423هـ .
- من أسوان بمصر تخرج في دار العلوم، تتلمذ على يد الحقوقي عبدالقادر عودة، انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين (!) وتنقل بين القرى والمدن المصرية للدعوة إليها، وتعرض للاعتقال أيام عبدالناصر، بعد أن تسلم السادات الحكم وبدأت فكرة عودة الأحزاب وجد أن حزب التجمع هو الأقرب إليه، إذ يهتم بالعمال والفلاحين والطبقة المسحوقة (كما يقول)، وبدأ الحزب ينظم له جولات لزيارة فروعه في المناطق والأرياف ويلقي بها محاضرات، وقد جمعها في كتاب أسماه "العمل والعمال وموقف الإسلام منها" ضمن سلسلة "كتاب الأهالي"، وكانت دور النشر تعتذر عن نشر كتبه لما فيها من تضليل وهجوم على الإسلام ورموزه .
- كان من أوائل المؤسسين لفرقة "اليسار الإسلامي" عام 1396هـ قبل أن ينضم إلى حزب "التجمع اليساري" حيث أصبح أحد قادته، وأثارت كتبه ومعاركه فتنة كبيرة، فصودرت كتبه وكُفّر من قبل بعض العلماء، ومثل أكثر من مرة أمام نيابة أمن الدولة لأجل ذلك، وكانت آراؤه مضلِّلة ومناقضة للنصوص الشرعية وتفسيراتها ، ويكفي دلالة على انحرافه كونه أحد قادة "التجمع اليساري" الحزب العلماني الاشتراكي، وقوله إن أول من مارس الإرهاب هو خليفة رسول ا صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، لا لشيء إلا لأنه حارب المرتدين! هذا ما ذكره في كتابه "النص المؤسس ومجتمعه"، وقال فيه أيضاً: "القرآن ربَّى مجتمع الصحابة تربية فاسدة؛ لأنه كان يحابيهم ويدللهم ويربت على أكتافهم" كبرت كلمة تخرج من فيه، وفي كتابه "الإسلام بين الدولة الدينية والدولة الدنية".
- دعا إلى إحلال الديمقراطية -بالمفهوم الغربي العلماني- محل الشورى في النظام السياسي الإسلامي؛ لأن التمسك بالشورى " يساعد على تجذير الطيف السياسي وتكريسه واستشرائه وإضفاء سند شرعي عليه" !! هكذا قال .(39/192)
- امتازت كتبه بالوقاحة والتطاول على صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، في محاولة ماركسية دنيئة لتشويههم أمام الأجيال حتى لا يكونوا قدوة - كما سيأتي إن شاء الله - .
- عندما احتفل المسلمون في مصر بمرور أربعة عشر قرناً على الفتح الإسلامي لمصر كتب هو مقالاً بعنوان "نعم للاحتفال بدخول الإسلام مصر، ولا للاحتفال بالقرد العربي" !! معتبراً أن الفتوحات الإسلامية لم تستهدف نشر الإسلام أبداً ، بل كان الهم الأكبر والأوحد لأصحابها هو قضم ثروات البلاد الموطوءة وهبشها وسبي نسائها وفرض الضرائب . وكل هذا وغيره ترديد لأفكار أعداء الملة من المستشرقين ومنها ما لا يفسر إلا بالحقد الأعمى وحب الضلال .
- ختم حياته بأفظع كتبه "النص المؤسس ومجتمعه"، وقبله أكثر من (12) كتاباً آخر، منها: الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، العرب والمرأة، حفرية في الأسطير المخيم، العمل والعمال وموقف الإسلام منهم، نعم للشريعة لا للحكم، قريش من القبيلة للدولة المركزية، شدو الربابة في أحوال الصحابة، فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، الأسس الفكرية لليسار الإسلامي، دولة يثرب: بصائر في عام الوفود وفي أخباره، الطائفية إلى أين (بالاشتراك مع فرج فودة ويونان لبيب)، مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي"(61).
- للدكتور إبراهيم عوض كتاب نافع في الرد عليه بعنوان " اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسولل والصحابة " في 267صفحة . أنتقي منه التالي :
- يقول الدكتور إبراهيم : " الشيخ خليل عبدالكريم كاتب يساري معروف، وكان في كتاباته الأولى يسمي نفسه هو وأمثاله بـ"اليسار الإسلامي" مؤكداً أنهم هم وحدهم أصحاب الحق في النطق باسم الإسلام والدعوة إلى مبادئه، لكنني في ذات الوقت كنت ألاحظ أنه يلمز الإسلام من طرف خفي متظاهراً بأنه إنما يريد حمايته ممن ينتقدونه ويشنّعون عليه، ثم أسفر الرجل وأصبح يهاجم الإسلام ونبيه وصحابته على نحو مباشر " ( ص 5 ) .
- " يؤكد خليل أن الإسلام ليس شيئاً آخر غير العبادات والأخلاق، مضيفاً أن ميدانه الأصيل هو "المساجد والجوامع والتكايا والربط والخانقاهات والزاويا والمصليات والحسينيات والخلاوي وحضرات الصوفية وحلقات الذكر ومجالس دلائل الخيرات"، وواضح ما في هذه العبارة من تهكم واحتقار، إذ لا يصلح الإسلام في نظره إلا للدراويش والتنابلة والراقصين في حلقات الذكر الذين يسيل لعابهم على أشداقهم وقد غابوا عن الوعي أو انخرطوا في نوبات عصبية من نوبات التطوح والصياح " . ( ص 24 ) .
- " يؤمن بتاريخية النصوص وربطها بأسباب ورودها والزمن والمجتمع والبيئة التي انبعثت منها، وكذلك الظروف الجغرافية ودرجة التحضر التي كان عليها المسلمون في عصر النبي ومستواهم الثقافي " . ( 28 ) .
- يدعي " أن الأمية المذكورة في القرآن لا تعني الجهل بالقراءة والكتابة بل يُقصد بها الإشارة إلى الأمم الأخرى من غير اليهود، أي الأمم التي لم ينزل عليها كتاب سماوي، ومقصده من هذا القول أن الرسو صلى الله عليه وسلم كان يستطيع القراءة والكتابة، ومن ثم كان مطلعاً على التراث الديني عند أهل الكتاب وأفاد منه في القرآن الذي ألّفه وادّعى أنه نزل عليه من عند الله " . ( ص 30 ) .
- " في كتابه "مجتمع يثرب -العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" يستفرغ خليل عبدالكريم كل وسعه في محاولة تلطيخ سمعة الصحابة رجالاً ونساء باتهامهم بالشبق الجنسي وبالزنا، الذي يتوقح فيلمز الرسو صلى الله عليه وسلم من طرف خفي بأنه كان يسهل أمره ويخترع الوحي من أجل ذلك " !! " فهو يريد أن يقول إن القرآن والأحاديث لم يستطيعا أن يغيرا شيئاً في المجتمع العربي لأن الظروف المادية لم تتغير في عصر الرسول عنها في العصر الجاهلي ". ( ص 71-72 ) .
- " إن خيال الكاتب الجانح يسوّل له أن المسلمين الأوائل لم يكن لهم ما يشغلهم إلا الجنس، وكأنهم كانوا يعيشون في جنة وفيرة الثمار جارية الأنهار وارفة الظلال، فلا حاجة بهم من ثم إلى عمل أو كدّ أو كفاح في سبيل لقمة العيش، أو كأنهم لم يكن يحيط بهم الأعداء المتربصون من كل جانب فلا غزوات ولا حروب، أو كأنهم لم يكن عليهم أن يحفظوا القرآن ويدرسوا الإسلام ويصلوا ويصوموا ويحجّوا! أين مثل ذلك المجتمع يا ترى إلا في الخيالات المريضة؟ " . ( 78) .
- يقول الدكتور إبراهيم مخاطبًا خليل عبدالكريم : " إن الأمثلة التي أخذت تتقمّمها من هنا وههنا بتلذذ غريب ومريب هي أمثلة معدودة، وبعضها تكرره بطريقة توحي أنها أمثلة أخرى، وكثير منها لا عيب فيه إلا في العقول والنفوس غير السوية التي لا تجد في الورد عيباً فتقول له: "يا أحمر الخدين"! " . ( ص 83) .(39/193)
- "يدعي بكل برود أن دعوة الإسلام، رغم كل مزاعم الإعجاز للنصوص التي أتت بها كما يقول، لم تستطع أن تصنع شيئاً أمام تيار الجنس والزنا الكاسح في مجتمع المدينة (والمجتمع العربي بوجه عام)، لأن النصوص مهما قيل في إعجازها لا تؤتي ثمرتها إلا إذا تغيرت عوامل الإنتاج وأساليبه، وهذه من دعاوي الشيوعية، التي لا تعترف إلا بشيء واحد هو العامل الاقتصادي، وكأن البشر لا يعملون إلا من أجل المال، والمال وحده، فلا حب ولا غيرة من الرجل على زوجته وأمه وبنته وأخته ولا جهاد في سبيل الله والوطن ولا تطلع إلى ثقافة ولا تذوق لمنظر جميل..إلخ أليس هذا عجيبا؟ إن على الباحث الذي يتمسك بالمنهج العلمي أن ينحّي نفسه وأشباهه وميولهم عن مجال بحثه حتى لا يتأثر بشيء من ذلك. وإذا كان الشيوعيون لا يرون في الدنيا شيئاً غير الفلوس، إذ هي في نظرهم المادي الشديد الضيق محركة التاريخ، ولا شيء يتم إلا بها، فهناك بشر كثيرون تحركهم دوافع أخرى أيضاً أرقى من الفلوس، وينبغي على الشيوعيين أن يضعوا هذا في الاعتبار عند دراستهم المجتمعات الإنسانية، وبخاصة بعد أن ثبت فشل نظريات كارل ماركس منذ البداية وانهار الاتحاد السوفييتي بعد سبعين عاماً فقط من قيام الثورة الشيوعية الكبرى في روسيا (وهذه الفترة في تاريخ الدول تقابل مرحلة الرضاعة في عمر الكائن البشري، أي أن الاتحاد السوفييتي قد مات وقُبر قبل أن يتم فطامه) بيد أن الشيوعيين للأسف لم يتغيروا، ولا أظنهم سيتغيرون " . ( ص 85-86) .
-" يحاول خليل عبدالكريم في كتابه "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية" أن يقول إن الأمر بالنسبة ل صلى الله عليه وسلم لم يكن أمر نبوة بل أمر زعامة ورئاسة، فهو ليس أكثر من حلقة في سلسلة تنتظم أجداده قُصيّا وهاشماً وعبد المطلب، الذين كان كل منهم حاكماً على مكة وزعيماً لقريش وعمل على أن يجعل لها الزعامة على العرب كلها فلم يوفِّق إلى هذه الغاية، إلى أن جاء محمد فكان أحسن منهم حظاً، إذ استطاع أن يحقق ما لم يستطيعوه، وأسس الدولة القرشية التي كانوا يصبون إلى إقامتها ". ( ص 127) .
- " في كتابه "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، وهو الكتاب الذي يحاول فيه أن يثبت أخذ النبي عليه السلام دينه من عرب الجاهلية، ومن ثم فلا بد أن يكونوا قوماً مثقفين متحضرين حتى يسوغ هذا الاتهام الذي يوجّهه ل صلى الله عليه وسلم " . ( 184) .
- يختم الدكتور إبراهيم كتابه بقوله : " إن هناك شيئاً يحيك في صدري بخصوص هذه المقالات والكتب التي طلع بها علينا فجأة سيدنا الشيخ ! بعد أن كبر، وبخاصة أنها تقوم على اصطياد الأخبار والروايات التي لا يكاد يعرفها إلا الذين يطلبونها طلباً ويفتشون عنها وينقّبون في بطون الكتب القديمة عمداً مع سبق الإصرار بهدف الكيد بها للإسلام والتشنيع عليه، وهم طائفة المستشرقين، فكيف يسهل على النفس أن تصدق أن ذلك من عمل سيدنا الشيخ؟ إن هذا شيء أحسه إحساساً، وأدع للدارسين من بعد أن يوالوا البحث فيه" . ( 264) .
- قلت : وللدكتور سامي عصاصة كتاب في الرد على خليل بعنوان : ( رد على حاقد آخر على الإسلام ) :
يقول فيه ( ص 5 ) : " من الكتب الخطيرة التي صدرت حول صلى الله عليه وسلم كتاب للباحث الأستاذ المحامي خليل عبدالكريم، العضو الرئيس في التجمع التقدمي الوحدوي عنوانه: "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" والعنوان يفسر نفسه بشكل تلقائي، فهو يبحث في الظروف التي رافقت، بل أحاطت بالأحداث التي عاشها في مطلع حياته الصادق الأمين أيمحمد صلى الله عليه وسلم .
- لقد نشر خليل أكثر من كتاب مهد بها للأفكار الجريئة التي أفصح عنها في كتاب "فترة التكوين" مثل: "قريش، من القبيلة إلى الدولة المركزية". و"الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" حاول فيها ترسيخ الانطباع لدى القارئ بأن بعض التشريع الإسلامي أو كله مستمد من الحضارات القديمة أو هو من صنع الحكماء والشعراء المفكرين مثل قس بن ساعدة وزهير بن أبي سلمى وأمية بن أبي الصلت قبل الإسلام، وفي كتاب آخر له بعنوان: "شدو الربابة في مجتمع آل الصحابة" يأتي بتحليلات وأقاصيص تفكك بنيان سمعتهم وتسيء إلى ذكراهم " .
- " يمكن تلخيص أهداف خليل عبدالكريم بأن خديجة رضي الله عنها وورقة بن نوفل هما اللذان صنعا محمدًا r. وهما من البشر، وهذا ينفي فكرة الوحي الإلهي " . ( ص 129 ) .
- وقد كتب الأستاذ بدر الشبيب موجزًا بأهداف كتبه ، فقال :
" أولاً : كتاب ( للشريعة لا لتطبيق الحكم) :(39/194)
وهذا الكتاب يقوم على فكرة واحدة أساسية ، هي أن تطبيق الشريعة الإسلامية ، لم يعد صالحًا في هذا العصر ، لأن هذا التطبيق سوف يجر علينا ، من المشاكل ما لا حصر لها . ومع أن الإسلام ، وكما جاء في القرآن العظيم ، هو الدين الخالد ، الذي يصلح للبشر كافة ، ويصلح في كل زمان ومكان ، إلا أن خليل عبد الكريم ، له رأي آخر ، فهو يقول بالحرف :" إن الإسلام ليس عبادات فقط ، بل هو أيضًا تشريعات وعقوبات ونظام سياسي " ، وهنا الخطورة من وجهة نظره ، إذ يرى أن تطبيق الشريعة ، سوف يؤدي بنا إلى أضرار ، تفوق بمراحل الأضرار ، التي تترتب على إهمالنا لتطبيقها . وتلك هي دعوة العلمانيين واللادينيين ، الذين يفضلون القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية .
ثانياً : كتاب ( الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية) :
وهذا الكتاب ، يعتبر استكمالاً وتأصيلاً للكتاب الأول ، إذ أنه ينطلق من نفس الفكرة ، التي ترفض الشريعة الإسلامية ، وترفض تطبيقها ، وهنا يقول خليل عبد الكريم :
" إن هذه الشريعة التي ينادون بها ، هي مجرد تعاليم ، كان يقول ويأخذ بها عرب الجاهلية ، ثم جاء محمد ، فأخذ هذه التعاليم ، وأعمل فيها عقله وفكره ، حتى بدت وأنها شيء جديد ".ولهذا فإن السؤال الذي يطرحه خليل عبد الكريم ، هو : هل تصلح هذه التعاليم ، التي كان يطبقها بدو الصحراء ، قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا ، لكي تحكمنا اليوم ؟! على أن ما هو أخطر من هذا السؤال ، ما معناه وخلاصته ، أنه ليس ثمة شيء منزل من السماء ، بل إن الأشياء كلها من صنع نبينا محمد " r " … !!
ثالثاً : كتاب ( الأسس الفكرية لليسار الإسلامي) :
وفى هذا الكتاب ، يقول خليل عبد الكريم صراحة : إن الإسلام ليس شيئًا غير العبادات .مع أن طلبة المراحل التعليمية الأولى ، يعرفون أن الإسلام يقوم على دعامتين ، هما : العبادات ، والمعاملات .ومعنى هذا أن الإسلام دين للعبادة ، وليس دينًا للحياة . إنه يحصر وظيفته في دور العبادة ، أما شؤون الناس وتصريف حياتهم ، فليس للإسلام شأن بها . وهنا نعود إلى مقولات المغرضين ، الذين يقولون إن الإسلام ، ليس دينًا ودولة ، بل هو دين فقط .
رابعًا : كتاب ( مجتمع يثرب .. العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي) : وهذا كتاب مَعيبة ، لأنه يشوه الإسلام في أعظم عصوره ، أي في مرحلة النبوة ، وصدر الإسلام ، والخلفاء الراشدين . وسوف يلاحظ القارئ ، في اللحظة الأولى ، أن الكاتب يستخدم ، كلمة ( يثرب ) ولا يستخدم اسم ( المدينة ..... ) علمًا بأن الاسم الأول ، قد نسخه الإسلام ، وألغاه صلى الله عليه وسلم ، وأطلق عليها هذا الاسم الجديد الجميل . ولكن ليست هذه هي المشكلة في هذا الكتاب ، ولكن المشكلة ، هي في الدراسة الاجتماعية المزعومة ، التي قدّمها ، والتي شوه بها ، ومن خلالها ، أعظم المجتمعات وأعظم العصور وأعظم الشخصيات ، حين نكتشف ، أن المجتمع في مدينة رسول الله " r ، وهو المجتمع الذي أقام دولة ، ونشر دينًا ، هذا المجتمع ورجاله ، لم يكونوا مشغولين بشيء ، قدر انشغالهم بالمرأة والجنس معًا !!
خامساً : كتاب ( قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) :
وهذا الكتاب ، ينزع فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم صفات الرسالة والنبوة والوحي جميعًا ، إذ يحاول المؤلف أن يثبت ، أنه ليس هناك شيء من هذا كله ، ولكن الأمر كان ينحصر في رغبة قريش ، في أن تقيم دولة ، وأن تسود على القبائل العربية ، في شبه الجزيرة وما حولها . وقد تم هذا وفق تخطيط محكم قام به رجل داهية ، هو جدّ النبي ، r ! وهو عبد المطلب الذي جاء بحفيده " محمد " r ، ولم يكن أقل منه ذكاءً ، وصنع منه حاكمًا ومؤسسًا لهذه الدولة . لقد أراد عبد المطلب ، أن " يصنع " ملكًا فصنع نبيًا ، أي أن الحكاية كلها هي الحكم ، وهي السيطرة ، وهي السيادة إلى جوار ملوك وأباطرة ، يحيطون بقبائل العرب ، ابتداء من كسرى حتى هرقل .
سادساً : كتاب ( شدو الربابة بأحوال الصحابة ) :
وهذا كتاب لا يقل سوءًا ، إن لم يزد عن الكتب السابقة ، وهو أيضًا يأتي استكمالاً لكتابي مجتمع يثرب ، وقريش القبيلة والدولة . وفي هذا الكتاب الجديد ، يعرض المؤلف لأحوال صحابة رسول الله ، فيقول فيهم كلامًا ، لم يرد في كتب السيرة ، ولا في كتب التاريخ ، ومنه أن رسول الله ، r ، كان يختلي بالصحابي الجليل سلمان الفارسي ، لأيام طويلة لكي يأخذ منه ، ويتعلم على يديه ، لأن سلمان ، فيما يقال كان من كبار مثقفي عصره ، وكان عالمًا بالعقائد والأديان ، وكان يحيط بالمذاهب المختلفة . وقد جلس صلى الله عليه وسلم بين يديه ، كما يجلس تلميذ بين يدي أستاذه ، ليتعلم منه كل الأسس والقواعد والتجارب والتواريخ والسير ، التي استفاد منها النبي بعد ذلك في رسالته الإسلامية المحمدية
سابعًا : كتاب ( فترة التكوين في حياة الصادق الأمين) :(39/195)
وهذا هو آخر كتب ، خليل عبد الكريم ، ولعله من أخطرها جميعًا . ويقوم هذا الكتاب على فكرة واحدة أساسية ، هي أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس نبيًا !! ولكنه تلميذ عبقري ، لمجموعة من الأساتذة هم : السيدة خديجة ، وابن عمها ورقة بن نوفل ، وبقية أفراد الأسرة وهم : ميسرة ، والراهب بحيرا ، والراهب عداس ، والبطرك عثمان بن الحويرت! ولقد قامت هذه المجموعة على " صناعة " هذا صلى الله عليه وسلم ، بعد أن عكفوا على تعليمه ، لأكثر من خمسة عشر عامًا ، حفظ فيها كتب الأولين والآخرين ، وعرف التوراة والإنجيل ، والمذاهب والعقائد ، وانتهى هذا كله بنجاح " التجربة " أي الرسالة ، وصنع هذا العبقري ، الذي أصبح نبيًا ، ووضع كتاب حيّر العاملين ، على امتداد القرون هو القرآن الكريم ! " .
يضاف على ماسبق :
- يقول خليل في كتابه : " الأسس الفكرية لليسار الإسلامي " ( ص 11 ) :
" نحن نؤمن بتاريخية النصوص وبربطها بأسباب ورودها وبالفترة الزمنية التي ظهرت فيها وبالبيئة التي انبعثت منها وبالمجتمع الذي ولدت فيه، بل وبالظروف الجغرافية التي واكبتها بالدرجة الحضارية للمخاطبين بها وبمداهم المعرفي وأفقهم الثقافي مع الوضع في الاعتبار أن النصوص ذاتها ذكرت صراحة أنها تتوجه إلى أمة أمية " .
- ويقول ( ص 17 ) عن الخلافة وتحكيم الإسلام : " إنه ليس فرضاً دينياً ولو كان كذلك لما استطاع أتاتورك إلغاءه لأن الغازي لم يلغ رسماً من رسوم الإسلام مثل الصلاة والصيام والحج " !!
- ويقول ( ص 45) : " إن كل من قرأ تاريخ مصر منذ غزتها جيوش الفتح العربي الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص، تأكد لديه أن الفتنة بين المسلمين والقبط لا تستيقظ وتطل بوجهها الكئيب الكالح إلا بفعل مؤثرات خارجية، لأن المصري صاحب أعرق حضارة عرفها التاريخ -ومهما كان نصيبه من التعليم- يدرك في أعماق نفسه أن الدين مسألة ذاتية لا علاقة ولا تأثير ولا فعالية لها في مجال التعامل مع الآخرين " .
- ويقول في كتابه " مجتمع يثرب " ( ص 89 ) مصرحًا بهدفه من الهجوم على الصحابة رضي الله عنهم : " إن هذا الضرب من الدراسات والبحوث الذي ندعو إليه بكل ما نملك من قوة سوف يؤدي بطريق الحتم واللزوم إلى تفكيك "القباب المقدسة" قداسات زيوف والتي تخيم على العقل العربي (بما فيه المصري) منذ قرون فتحجب عنه الهواء النقي والشمس الساطعة وإلى كسر القيود التي تكبله وتمنعه من الانطلاق إلى الآفاق الرحيبة والفضاءات غير المحدودة التي تسبح فيه عقول الآخرين وإلى تسليط الأنوار الكاشفة على "النصوص" لتُعرف على حقيقتها، وساعتها ينعتق المخاطبون بها من هيمنتها وتسلطها عليهم في كل مناحي حياتهم حتى عندما يدخلون أماكن قضاء الحاجة!!!وإلى تعرية رموز كبيرة الشأن رفيعة المقام ونزع الهالات المصطنعة التي أحاطوها بها وعرضها بالصورة الحقيقية الواقعية بلارتوش كما هي مرسومة في كتب التراث بعد إقصاء التزويقات والتجميلات التي أشرنا إليها فيما سلف، وساعتها سوف يصيح من "يعاينها على الطبيعة" :كم كنا مخدوعين!! " .
- ويقول في كتابه : " الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية "( ص 130 ) : " إن القبائل العربية وقت المبعث بتقاليدها وأعرافها ونظمها وشعائرها هي المسودة أو البروفة أو التجربة للإسلام والشريعة الإسلامية "!
- ويقول مبينًا هدفه من فريته السابقة ( ص 131) : " إن دراسة القبائل السابقة عن طريق ما كتب عنها في مختلف المجالات وفي الآثار التي خلفتها على قلتها والقبائل الحالية ومالديهما من أعراف وتقاليد ونظم وعادات، هذه الدراسة سوف تضع أيدينا على إجابات لكل الأسئلة والمشاكل التي تصرفنا عن تدبر حاضرنا ومستقبلنا وتدفعنا إلى الانشداد إلى الماضي الذي لن يعود والتي يفجِّرها الدعاة مثل: الحجاب والنقاب وعمل المرأة وحبسها في البيت والفصل بين الجنسين في معاهد التعليم ومنعن الآلات الموسيقية خلا الدف والذهاب إلى الجامعة على ظهر ناقة والذهاب إلى قضاء الحاجة في الخلاء الصحراء في جماعة متشابكة الأيدي، والاستجمار بثلاثة أحجار بدل الماء بشرط ألا يكون من بين تلك الأحجار روثة لأن استخدامها في الوقود أجدى وأنفع ولا عظمة لأنها طعام إخوتنا الجن، وتحريم الفنون الجميلة: الموسيقى، المسرح، السينما، الأوبرا، ...الخ لبس شورت الرياضة للرجال تحت الركبة حتى لا تظهر العورة التي تبدأ من السرة حتى الركبتين، ولعب الفتيات الرياضة في الخفاء بعيداً عن عيون الناظرين وتحريم فوائد المدخرات والأنشطة المصرفية ما لم يتغير اسمها إلى عوائد أو أرباح أو منح من الدولة في حالة شهادات الاستثمارعندئذ سوف تنقلب من سحت إلى حلال سائغ وإلى أن استبدال الأعضاء المريضة أو عمل غسيل للكبد أو الإدخال لغرف الإنعاش أو العناية المركزة أو إجراء عملية جراحية كل هذا حرام لأنه يهدف إلى إطالة عمر المريض ويناقض إرادة الرب الذي حكم عليه بهذه العلل ليقبض روحه، وضرورة سفر ذي رحم محرم مع المرأة التي تسافر لأبعد من مسافة قصر الصلاة...الخ ..الخ.(39/196)
إننا إذا توصلنا بطريقة علمية منهجية إلى أن كل هذه القيود التي يتمسك بها الدعاة ويصرون على تطبيقها إنما هي في أصلها أعرف قبلية لها تاريخ مسطور استخرجه العلماء من بطون الكتب مختلفة الأنواع والآثاريون من الحفريات التي قاموا بها في مواطن القبائل العربية وعلماء الاجتماع من اختباراتهم للممارسات اليومية التي تصدر من أفراد القبائل التي تعيش معنا اليوم والتي تمثل المخزون الحي للأنظمة العتيقة التي توارثها جيل عن جيل خاصة ما كان من تلك القبائل من يتواجد في أماكن شبه منعزلة يجعل تأثرها بالتطورات الحديثة شبه معدوم نقول إذا ثبت ذلك كله حُق لنا أن نعيد النظر في تلك القيود التي يريدون أن يكبلوا بها حركتنا إلى الأمام ويكون من السائغ بحثها وتمحيصها من منطلق شهادة المنشأ الخاصة بها والتي توصل إليها العلماء عن طريق دراساتهم الجادة ".
خليل عبدالكريم يجمع بين الاشتراكية والتشيع الرافضي !!
* قلت : ومما لا يعرفه كثيرون أن خليل عبدالكريم أبان عن تشيعه ورافضيته التي تناقض هجومه على جيل الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - ، وإلا فلماذا يستثني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دون غيره ، ويكيل له المدح ؟!
* فقد ألف خليل لهذا الغرض كتابه " إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " ، وتطاول - أخزاه الله - على الصحابة بكلمات سوء ، أنقل شيئًا منها ليعرف القارئ مدى الغل الذي يحمله هذا الرافضي الوقح ، مع الاعتذار لكل من تؤذيه هذه العبارات التي مانقلتها إلا لكشف حقيقة الرجل :
- يقول الخبيث عن عائشة- رضي الله عنها - (ص 30) : " من المعلوم أن التيمية بنت عتيق بن أبي قحافة هي الضلع الأول: أما الثاني فهو طلحة بن عبيد الله وثالثهم الزبير بن العوام . ومن عجائب التاريخ أن هذا الثالوث غير المقدس دأب على التحريض على الخليفة الثالث الأموي عثمان بن عفان والتحريض على قتله" .
ويقول - قبحه الله - ( ص 42-43) : " العدوية (عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل.. كانت عند عبدالله بن أبي بكر بن أبي قحافة ومات شهيداً في حصار الطائف، فتزوجها عمر بن الخطاب فلما قتل عمر خطبها طلحة ابن عبيد الله فمشى في أمرها هبّار بن الأسود فأفسد عليه فتزوجها الزبير بن العوام.
وبعده تزوجها محمد بن أبي بكر فخرجت معه إلى مصر فقتل ومثل به فتزوجها عمرو بن العاص، وهذا العمرو له يد طولى في قتل محمد بن أبي بكر والتمثيل بجثته بيد أن العربة -رجالاً ونساءً- لا يعرفون فضيلة الوفاء والإخلاص بل يتصفون بالخساسة والجبانة ، ودليله أن العاتكة العدوية أو العدوية العاتكة لم تر أي بأس في الزواج بالسفاح الذي ساهم في نحر حليلها السابق ولا مشاحة أن النكاح المنحوس تم في اليوم التالي مباشرة لانقضاء عدتها.
وما لنا نلومها على فعلتها فابن عمها وأحد بعولها العدوي ابن الخطاب اقترح على التيمي عتيق الخليفة الأول حرق بيت فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين لأن شيعة الإمام علي اتخذوه مقراً لاجتماعاتهم " .
- ويقول - عامله الله بعدله - ( ص 108) : " إن غالبية رموز تلك الحقبة أضيفت إليها قداسات زيوف وأضفيت عليها هالات متخيلة وأن التاريخ الذي حملته مصنفات السير والطبقات..الخ، التي لا مطعن عليها يناقض الصورة المزورة التي يرقش بها كتبهم الطبالون والزمارون والمداحون " .
- ويقول عن عمر و المغيرة بن شعبة - رضي الله عنهما - ( ص 109 ) : " وأختم مقالي بمسألة حيرتني ووقفت عندها ملياً هي أن هذا المغيرة الشبق بشهادة صديقه العدوي والذي شهد عليه ثلاثة أحدهم صحابي والذي حصر همه في مفاخذة النسوان حتى ضرب الرقم القياسي في هذا المضمار -هذا الذرائعي الذي وظّف دهاوته في جر النفع لنفسه حتى باستعمال الرشوة المحرمة في كل الأديان والعقائد والملل والنحل، هذا (الصحابي الجليل) كما لا يزال يصفه التفخيميون والتعظيميون يحمل بعض دواوين السنة ذات المقام المحمود لدى أهل السنة والجماعة عدداً من رواياته لأحاديث المصطفى عليه السلام " .
رضي الله عن الصحابة أجمعين ، وخيب الله شانئهم في الدنيا والآخرة .
* أخيرًا :
* للدكتور سليمان العنقري مقال - في حلقتين - يرد فيه على أفكار خليل عبدالكريم ، في صحيفة الجزيرة ( عدد 11052) .
* للأستاذ صلاح الزيات بحث على الشبكة في نقد كتاب " النص المؤسس ومجتمعه " لخليل عبدالكريم ، بعنوان : " الوعد المنجز في نقد النص المؤسس " ، تجده على هذا الرابط : http://www.saaid.net/book/open.php?cat=88&book=1630
نظرة شرعية في فكر : حسين أحمد أمين(39/197)
" هو ابن الكاتب والمؤرخ أحمد أمين، ولد بالقاهرة في 19 يونيو 1932م، تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1953م، ثم درس الأدب الإنجليزي بجامعة لندن، تنقل في أعمال كثيرة منها المحاماة والإذاعة والسلك الدبلوماسي المصري الذي وصل فيه إلى درجة سفير سنة 1986م، وهو كاتب نشط ساخر سليط اللسان، له العديد من المقالات والبحوث المنشورة في المجلات العربية، كمجلة (العربي) و(الثقافة) و(الرسالة) و(روز اليوسف)، ومن مؤلفاته: (معضلة الرجل الأبيض) و(الحروب الصليبية في كتابات المؤرخين والعرب المعاصرين).
انظر: غلاف كتابه " دليل المسلم الحزين"، و " العقلانية هداية أم غواية " لعبدالسلام بسيوني ، ص 131-132.
- قال الدكتور مفرح القوسي عنه في رسالته " الموقف المعاصر من المنهج السلفي " ( ص 419-426) :
" هو أحد دعاة العلمانية المعاصرين المتحمسين لنشر مبادئها بين المسلمين، ومن أشهر المعادين للاتجاهات الإسلامية عامة؛ والسلفية منها بوجه خاص، ولا سيما في كتابيه (دليل المسلم الحزين) و(حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية) اللذين هاجسه الأساسي فيهما: أن أمة المسلمين في عصرنا الحاضر أمة متخلفة، وسر ذلك التخلف -عنده- هو يد الماضي الميتة التي تكبل أعناق المسلمين، ويد الماضي هي منهج السلف والسنة النبوية التي نسبها الفقهاء -كذباً على حد زعمه- إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليضفوا على أفكارهم الشخصية صفة مقدسة تضمن لاجتهاداتهم الرواج. وحيث إن النسخ وقع في القرآن فإن على المسلمين أن يطوروا دينهم بما يوائم معطيات العصر، حتى لو أدى بهم ذلك إلى الخروج على نصوص قرآنية قطعية الدلالة، فالمهم: استلهام روح الإسلام لا النصوص التي نزلت لمعالجة أوضاع خاصة بالمجتمع البدوي في شبه جزيرة العرب في العهدين النبوي والراشدي، ولذا يُطالب بإلغاء الحدود الشرعية وإقرار عقوبات عصرية تناسب أحوال القرن العشرين.
ويمكن تلخيص أهم أفكاره فيما يلي:
أولاً: الحط من قدر السلف الصالح ومنع الاقتداء بهم، فنراه يعقد في كتابه (حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية) فصلاً بعنوان (تأملات في حقيقة أمر السلف الصالح) يسعى فيه إلى الحط من قدرهم -رحمهم الله- والنيل من مكانتهم لدى المسلمين، والطعن في صحة المصادر الإسلامية التي تُشيد بصحة منهجهم وحسن سيرتهم وتمسكهم بدينهم، ويعد الإشادة بمناقبهم في المصنفات الإسلامية تصويراً رومانسياً خيالياً بعيداً عن الموضوعية، ويرد هذه النظرة الرومانسية إلى أسباب عدة منها:
1-"اضطرار المؤرخين إلى تبني موقف من أحداث الماضي شبيه بموقف الفقهاء منها؛ بسبب انتصار الأخيرين عليهم في الحرب التي قامت بينهما -على حد زعمه- فأضحى الهدف من الكتابات التاريخية هو الهدف الذي حدده الفقهاء للمؤرخين، ألا وهو أن يكون علم التاريخ وأدب التراجم وسيلة من وسائل غرس القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية الرفيعة والمثل العليا، لا تسجيل الحقائق بأكبر قدر مستطاع من الموضوعية بعد تمحيص ما تجمع منها لدى المؤرخ"(62)، ويستطرد فيقول: "ومن هنا بدأت تتكون نظرة المسلمين الرومانسية إلى تاريخهم وأبطال ماضيهم، وأضحت للحقيقة التاريخية مكانة تقل في الأهمية بكثير عن هدف تعزيز الإيمان والوعظ وبيان نماذج السلوك التي ينبغي على المتقين أن يحذو حذوها أو يتجنبوها، وكانت ثمرة ذلك أن بات المسلمون ينظرون إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز مثلاً على أنه من أعظم خلفاء الإسلام لمجرد ورعه وتقواه وموقفه العادل من العلويين وبني هاشم، في حين لم تجلب السياسة المالية والإدارية لهذا الخليفة غير خراب الدولة، ولا يزال المسلمون إلى يومنا هذا يمصمصون شفاههم إعجاباً بموقفه من واليه على حمص الذي كتب إليه: " إن مدينة حمص قد تهدم حصنها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إصلاحه" ، فرد عليه عمر بن عبد العزيز بقوله: (أما بعد فحصنها بالعدل والسلام)، وهو رد -رغم ما فيه من بلاغة تستهوي العرب- يستوجب المؤاخذة البرلمانية في أي نظام حكم ديمقراطي"(63).
2-"طبيعة تكوين العقلية العربية الإسلامية، فالمعروف عند العربي اتجاهه إلى اتخاذ مواقف عقلية متطرفة من الناس والعالم والأحداث حوله، وإلى النظر إلى كل ما يصادفه وكل من يلقاه بمنظار لا يرى من الألوان غير الأبيض الناصع أو الأسود القاتم، دون الفروق الدقيقة في الأفكار والألوان والظلال، ولا يعبر عن رأيه إلا في صيغة منتهى التفضيل، ولا يرتاح خاطره إلا إن تطرف في أحكامه، فالشيء عنده إما ممتاز أو فظيع، والعمل الفني إما أكثر من رائع أو في منتهى السوء، والرجل إما ملاك كريم أو شيطان رجيم"(64).(39/198)
3-"شغف العربي بالأوضاع والأشكال المثالية، حتى مع إدراكه في قرارة نفسه أنها تناقض الواقع وتخالف الحقيقة وطبائع الأشياء، وهو واجد في هذه الصورة المثالية ما يرضي حاسته الجمالية إرضاء لا توفره فوضى الواقع الذي يعيش فيه وتعقده… وقد كانت تعاسة غالبية أفراد المجتمعات الإسلامية أحد الأسباب الرئيسة في اختيارهم الهرب إلى الماضي، علّهم يجدون في أمجاده تعويضاً عن واقعهم البائس"(65).
ويستكثر حسين أمين أن يكون للأمة الإسلامية سلف صالح، وينسب إلى الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خامس السابقين إلى الإسلام وعاشر المبشرين بالجنة أنه لم يكن يُحسن الصلاة ويُفطر في نهار رمضان. ويصف حسين أمين الأئمة والفقهاء بـ(اللؤم وقلة الأمانة)، ويصنفهم ضمن صنف الجبناء، ويتحدث عن مجتمع المسلمين بحسبانه أرض النفاق في عنوان بارز(66).
ثانياً: وَصْم المنهج السلفي بالجمود وضيق الأفق، فنجده يصف منهج السلفيين الذين رفضوا التحايل على الأحكام الشرعية، أو التلاعب بنصوص القرآن الكريم، يصفه بالجمود الفكري والسطحية وضيق الأفق(67). ويقول: لكي تسير سفينة العالم الإسلامي لابد من إلقاء الجثث منها، وأضخم هذه الجثث وأشدها تعفناً هي قبول المسلمين بتمكين يد الماضي الميتة من القبض على أعناقهم، وبتحكم قيم هذا الماضي ومعتقداته في حاضرهم ومستقبلهم(68).
ثالثاً: معاداة الاتجاهات الإسلامية السلفية المعاصرة، فنراه يقول مهاجماً ومعنفاً: "تظهر جماعات دينية تطالب بالعودة إلى سنن السلف الصالح وتطبيق الشريعة، وهي لا تعلم شيئاً عن تاريخ أمة المسلمين، ولا عن تاريخ موضوع تطبيق الشريعة، ولم يرضها مدى تمكن الماضي من أنفسنا، بل تصر على أن يكون لهذا الماضي الهيمنة الكاملة على سلوكنا ومعتقداتنا ومقدراتنا، قاصرة حق التفكير على الأموات، وآبية على نفسها وعلى الغير حق التجديد والابتداع، … وكيف يسعني أن أصفح وأغتفر إذ أرى فريقاً قوياً من متخلفي العقول يقودهم أفراد من المرتزقة الخبثاء أو من المجانين؛ يسعى في نجاح إلى الرجوع بالأمة الإسلامية مئات السنين إلى الوراء، وإلى وأد كل فكر حر وكل بحث مخلص عن الحقيقة"(69).
ونراه يعنف بشباب الصحوة الإسلامية ويصفهم بالمتطرفين لاطلاقهم اللحى، وارتداء بعضهم الجلابيب، وارتداء نسائهم النقاب، ولاقتناعهم بتحريم الموسيقى والغناء واقتناء الصور، وضرورة الأكل باليمين، وكراهية شرب المسلم وهو قائم، ولحرصهم على أداء الصلاة جماعة في المسجد، وقراءة صحيح الإمام البخاري(70).
رابعاً: اتهام علماء الأمة وفقهائها بوضع الأحاديث واختلاق الأسانيد، فهو يدعي أن أتقياء المسلمين وفقهاءهم في عصور الإسلام المتقدمة كانوا يتساهلون بوضع الأحاديث التي من شأنها خدمة الإسلام وتعزيز الفضائل والإيمان، وأنه "لم يكن المعيار عندهم هو صدق نسبتها إلى رسول الله أو كذبها، وإنما المعيار هو مدى اتفاق مضمونها مع تعاليم الدين"(71). ويزعم أنهم لما أفزعهم الكذب على الرسو صلى الله عليه وسلم أرادوا محاربة هذا الكذب فوضعوا أحاديث تحرم الكذب علي صلى الله عليه وسلم ، أي: أنهم أرادوا أن يحاربوا الكذب فكذبوا ووضعوا أحاديث في ذلك، ويضرب مثلاً لذلك بحديث (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار(72))(73)، علماً بأنه من الأحاديث المتواترة، وقد رواه أكثر من ستين صحابياً(74)، ولم يستطع حتى الوضاعون نفيه، وإنما حاولوا صرف مدلوله عنهم؛ بزعمهم أنهم لم يكذبوا عليه وإنما كذبوا له. ويقول أيضاً: "ظل الفقهاء دوماً يُعملون فكرهم ويصلون إلى الرأي بالاجتهاد، غير أنهم صاروا إذا أرادوا الخروج به وتدريسه يلجأون إلى وضع الأحاديث، أو تفسير الأحاديث القائمة تفسيراً يوافق رأيهم؛ حتى يلقى الرأي قبولاً لدى العامة وأولي الأمر، وحتى يخرسوا المعارضين"(75).
ولم يكتف حسين أمين بذلك، بل شكك في أمانة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وأومأ إلى اتهامه بوضع الأحاديث واختلاقها على النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال بعد ذكره تورع بعض كبار الصحابة عن رواية الأحاديث النبوية خشية التقديم أو التأخير فيها أو الزيادة أو النقص: "بيد أن سائر الصحابة ما كانوا جميعاً كهؤلاء النفر، فأبو هريرة مثلاً -وهو الذي لم يصحب النبي إلا خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته- تبلغ مروياته في كتب الأحاديث ثلاثة آلاف وخمسمائة حديث -وفي رواية ابن الجوزي خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً- تشغل زهاء ثلاثمائة صفحة من مسند ابن حنبل، وقد أثارت كثرة مروياته عن رسول الله شكوك سامعيه؛ خاصة أنه كان مزاحاً"(76)، وقال أيضاً: إنه "كان هناك بين أجلة الصحابة -كعبد الله بن عمر ابن الخطاب- من يُسيء الظن به، بل وأطلق عليه البعض وصف الكذاب الورع"(77).
خامساً: رفض الأحكام الشرعية وربطها بزمان نزولها في صدر الإسلام، وبالتالي تغيير هذه الأحكام وكذا القيم والمفاهيم الإسلامية بتغير الزمان، والزعم بأن التمسك بها في وقتنا الحاضر والإصرار عليها يؤدي إلى الجمود ويعرقل التطور، فنراه -على سبيل المثال-:(39/199)
1. يُبدي انزعاجه الشديد من الحجاب الإسلامي، ويعد عودة النساء المسلمات إلى الحجاب ظاهرة غير عادية، كما يعد هؤلاء العائدات نساء غير عاديات(78)، ويحاول جاهداً إقناع قراء كتابه -"حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة"- بأن حجاب المرأة المسلمة ليس من الإسلام في شيء(79).
2. ويدعي أن عقوبة قطع يد السارق في الشريعة الإسلامية خاصة بالمجتمع البدوي أو الجاهلي في شبه جزيرة العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كانت السرقة أكثر الجرائم شيوعاً في ذلك المجتمع، وتثير العداوات والحروب بين الأقوام، وأنها غير مناسبة البتة للتطبيق في مجتمعنا المعاصر، الذي -كما يقول- اختلفت أحواله أشد الاختلاف عن أحوال المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، بحيث بات قطع يد السارق فيه منافياً كل المنافاة لعلة الحد في العصر الذي فرض فيه(80).ويعقب على ذلك فيقول: "أما ما نقبله وندعو إليه فصياغة إسلامية للتطوير؛ صياغة من منطلق إسلامي تكون وسيلة للتقدم ولمواجهة احتياجات العصر لا عقبة في سبيلهما، وإذا المبتورة(81) سُئلت بأي شرع قطعت"(82).
3. ويقرر "أن الأخذ بروح الإسلام لا الالتزام بأحكام معينة متناثرة هو الكفيل بأن يكون بمثابة البوصلة التي تهدينا سواء السبيل في أي مكان أو زمان كنا فيه، ومع اختلاف الظروف"(83).
سادساً: مدح علي عبد الرازق، بل والمبالغة في ذلك المدح، والإشادة بكتابه (الإسلام وأصول الحكم) وما تضمنه من أفكار تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة(84) " . انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي .
- وقال الدكتور سيد العفاني في الرد عليه :
" المفكر المستنير الطاعن في الثوابت الدينية الماركسي حسين أحمد أمين مؤلف كتاب (دليل المسلم الحزين):
الرسو صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً عند حسين أحمد أمين:
الرسو صلى الله عليه وسلم في نظره ليس معصوماً إلا في نقله للقرآن فقط، وبهذا المفهوم يلغي السنة تماماً.
يقول هذا المستنير: " ومع أن رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يدع قط أنه معصوم من الخطأ إلا حين يملي أو يتلو آيات ربه (!!) بل ونبه القرآن إلى أخطاء بدرت منه؛ فقد افترض أنصار الالتزام بالسنة - يقصد جمهور أهل السنة والجماعة ابتداء من الصحابة حتى أيامنا هذه- أن العناية الإلهية إنما كانت توجه كل عمل أتى به وكل كلمة صدرت عنه، منذ بعثه الله رسولاً إلى قومه، إلى أن مات، ومن ثم فقد رأوا أن أحكام السنة ملزمة في الحالات التي لم يرد بصددها نص قرآني" (85).
يقول هذا المستنير الماركسي (الدوحة - مارس 83): " كان هؤلاء المجتهدون يفكرون لأنفسهم (!!) ويراعون في وضعهم الأحكام مراعاتها للظروف المتغيرة في مجتمعاتهم، غير أنهم سلكوا مسلكاً خاطئاًً - لاحظ المصادر الكاملة للنيات والحكم عليها بتعمد الخطيئة لا الخطأ - إذ صاغوا آراءهم المبتدعة في قالب أحاديث نسبوها إلى صلى الله عليه وسلم واختلقوا لها الأسانيد الكاملة حتى تلقى قبولاً من الأمة" .
وهكذا بجرة قلم خاطئة تسقط المدارس الفقهية والحديثية، وعلوم الجرح والتعديل، بل وسائر العلوم التي قامت على أساس الإسناد كفقه اللغة العربية وغيره.
ويقول المستنير نفسه في كتابه (دليل المسلم الحزين) (ص45):
" لجأ الفقهاء والعلماء إلى تأييد كل رأي يرونه صالحاً، ومرغوباً فيه؛ فهم يصنعون أو (يفبركون الأحكام ويختلقونها) بحديث يرفعونه إلى النبي صلي الله على وسلم " (86) !!
إنكار حسين أحمد أمين لكثير من الأحاديث الصحيحة في كتابه (دليل المسلم الحزين):
أنكر حسين أحمد أمين كثيراً من الأحاديث الصحيحة في كتابه (دليل المسلم الحزين)، وراح يتهم الفقهاء بوضع الأحاديث النبوية، ويهاجم رواة الحديث بشدة، وما سلم من هجومه أحد حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم(87).
ومن أقواله في كتابه: " وكيف يمكن لنا انتقاء الصحيح من الحديث؟ إنه لمن السهل علينا تبين كذب الأحاديث التي اختلقها أتباع الفرق السياسية، كالشيعة والخوارج والأمويين ... وكذلك من السهل اكتشاف كذب الأحاديث التي تتنبأ بوصف ليوم القيامة تأباه عقولنا، أو كل ما ناقض المنطق ومجه التفكير السليم .." .. وذهب ينكر بعض الأحاديث الصحيحة، مردداً أقوال من سبقه من المبتدعة والحاقدين.
يقول ساخراً من حديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" يسخر من هذا الحديث؛ لأنه لا يخضع لعقله فيقول: " كان انتقاء البخاري للأحاديث الصحيحة على أساس صحة السند لا المتن، فالإسناد عنده وعند غيره هو قوائم الحديث إن سقط سقط، وإن صح السند وجب قبول الحديث مهما كان مضمون المتن" (88) (89).
البيان في تفسير القرآن تفسيراً ماركسياً:(39/200)
يقوم المستنير حسين أحمد أمين بتفسير القرآن الكريم تفسيراً ماركسياً على حلقات في مجلة (العربي) تحت عنوان: (البيان في تفسير القرآن)، ومما جاء في العدد (351) في تفسير قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيما وأسيراً) : يقرر أن الماركسية مع الإسلام، ويسقط من روحها عليه ليثبت أنها لا تفارقه كما يهاجم - كعادة الشيوعيين - الرأسمالية فيقول: " لقد تنبأ كارل ماركس في القرن الماضي بأنه من شأن النظام الرأسمالي أن يزيد الفجوة بين مستوى معيشة الأغنياء ومستوى معيشة الفقراء" إلى أن يقول: " ومع ذلك فإن نبوءة كارل ماركس بدأ يظهر صدقها، واحتمال تحققها في مجال آخر ما كان هو نفسه ليتوقعه أو يحلم به، ألا وهو اتساع الفجوة بين مستوى المعيشة في الدول الغنية والدول الفقيرة.." إلى آخر التحليل الشيوعي الذي يريد أن يفسر به الآية (!!)(90).
إنكاره لأصول الإسلام:
يقول حسين أحمد أمين، نابذاً الاعتقاد بالقدر - ويترتب عليه نبذ القرآن الكريم نفسه - ومحاولاً القول بأن الاعتقاد بالقدر عقيدة بدائية جاءت مع حركة التدرج الإنساني والنمو الحضاري (جريدة الشعب المصرية - ديسمبر 87): " ثمة مواقف عقلية هي نتاج منطقي لطبيعة حياة البدوي، فرضت نفسها على أهل الحضر والريف من شعوب الأقطار التي فتحتها جيوش الإسلام، رغم مخالفتها للموقف العقلية الأساسية لأفراد المجتمعات الزراعية وسكان المدن، خذ لذلك مثلاً: نزعة الإيمان بالقضاء والقدر. إن لمن السهل علينا أن نتبين جذور هذه النزعة وأسبابها عند البدوي، فحياة البدوي تعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على الماء والكلأ، يجد في الغيث نجاة، وفي الجفاف تهلكة، وكلاهما لا سلطان له عليه ولا حيلة له فيه" .
" فهو يفسر نشأة عقيدة القدر ويردها إلى أسباب اقتصادية على طريقة ماركس، فهي من نتاج البيئة الصحراوية في الحجاز، ثم هو يقرر أن هذه العقيدة البدوية قد انتقلت إلى الإسلام(؟!) مع تغير طفيف، (إذ حلت فيه) - كما يقول - " فكرة الله محل الدهر" (91).
ويقرر حسين أحمد أمين أن الحجاب " وهم صنعه الفرس والأتراك، وليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه" ، و" أن الرجال يتمسكون بالحجاب ليستبدوا بالمرأة فينفسوا عن قهرهم سياسياً واجتماعياً".
ويؤول حسين أحمد أمين آية الحجاب تأويلاً بعيداً عندما يقول:"بالنسبة للحجاب الذي يفرض في المدينة حيث كان النساء يلقين من المتسكعين من شباب المدينة كل مضايقة وعبث كلما خرجن وحدهن إلى الخلاء فنزلت آية (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) ، وذلك حتى يميز الشبان بين المحصنات وغير المحصنات"(92) !
موقفه من الفقه والفقهاء:
هاجم حسين أحمد أمين الفقهاء وأهل الحديث معاً فقال: " لقد شاءت المعارضة، التي بات لها الغلبة في الدولة ؛ أن ترجع كافة الأحكام الشرعية إلى سند من القرآن أو السنة، وأبت الأخذ بالرأي والاجتهاد" ، وذلك في القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ثم يقول: " وإذا كانت الأحاديث المتوفرة آنذاك قليلة ولا تكفي، لجأ القوم إلى الاختلاق، وقد عظم هذا الاختلاق للأحاديث كلما زاد إصرار العلماء على الاستناد إلى الحديث في بيان الأحكام، أي أن العرض زاد بزيادة الطلب " (93).
وقد اتهم حسين أحمد آمين بني أمية بتشجيع الفقهاء لوضع الأحاديث، ومنها حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " ليصرفوا الناس عن الحج أثناء سيطرة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه على الحجاز، وذلك بزيارة مسجد الصخرة الذي بناه عبد الملك بن مروان في القدس(94).
والاتهامات ساقطة من أساسها، وتافهة لا تنم إلا عن ضحالة فكر وتبعية ذليلة لمستشرق حاقد ، وهذا الاتهام مسروق من أستاذه جولد زيهر" (95).
مع أن الحديث رواه البخاري في صحيحه - كتاب فضل الصلاة في مكة والمدينة، ومسلم في كتاب الحج .
ولحسين أحمد أمين فتوى عجيبة في حد السرقة، عندما يقول: " لقد كان الاعتداء على الساري في الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة وسلاح في مصاف قتله؛ لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة حازمة رادعة بالغة الشدة لجريمة السرقة في هذا المجتمع" (96) !!
يمجد الحجاج ويجهل عمر بن عبد العزيز:
قال حسين أحمد أمين عن الحجاج: " إنه أعظم الإداريين في العالم"(97).
ومع هذا فإنه يصب جام غضبه على إمام الهدى عمر بن عبدالعزيز، فيرى أنه ساهم بجهله في الشئون السياسية في تدهور أحوال الدولة الأموية ثم سقوطها، ثم يقول: " ولم تجلب سياسته المالية والإدارية غير خراب الدولة "(98) !!
حسين أحمد أمين يصف الفتوحات الإسلامية بأنها استعمار كالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين فيقول:
" إن الدول الإسلامية، كانت في عصر من العصور على وشك التهام القارة الأوربية-بعد التهامها أقطارًا عدة في أفريقيا وآسيا.
وقد يحتج بعض المسلمين بأن الاستعمار الإسلامي! لدولة أسبانيا كان بناء وفي خدمة التمدين والعمران، ولم يتخذ شكل النهب والسلب، الذي اتخذه الاستعمار الأوربي لدول آسيوية وأفريقية.(39/201)
غير أن الاستعمار الأوربي لأمريكا الشمالية وأستراليا كان هو الآخر بناء، وفي خدمة التمدين والعمران، في حين لم يجلب الاستعمار العثماني (!) للبلقان غير الخراب"(99).
ولست أدري كيف يستوي - عند مسلم - نشر دين الله وإقامة العدل بأروع صورة بين البشر مع غزو الأوربيين الذي قام على النهب والاستنزاف؟
ولذلك فهو يهاجم الكاتب ((جوستاف لوبون)) الذي قال: " لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب " (100) . " أعلام وأقزام " ( 2/137-143) .
* وقال الأستاذ أحمد أبوعامر في الرد على حسين أمين :
" مما رزيء به عالمنا اليوم في عقوده الأخيرة ظهور اتجاهات فكرية جديدة أخذت تلبس لبوس الإسلام، حينما فشلت التيارات العلمانية في طروحاتها وتساقطت أوراقها بعد أن استبان للكثيرين عوارها، فلم يكل العلمانيون، فركبوا موجة التدين، فوجد ما سمي بالعصرانية وما يسمى (باليسار الإسلامي) ، وهي اتجاهات لها فلسفاتها ورموزها ؛ ومنهم الكاتب (حسين أحمد أمين) ، والذين تكشفت حقائقهم من واقع أبحاثهم ومؤلفاتهم وهذه الفئة في الغالب ليسوا متخصصين في الدراسات الإسلامية، ومع ذلك تجدهم قد أعطوا أنفسهم حق الاجتهاد وحرية القول مما سنراه مما يضحك الثكالى.
صاحبنا هو ابن الكتاب والأديب المعروف (أحمد أمين) الذي درس التعليم الأولي بالأزهر والتحق بمدرسة القضاء الشرعي بعد افتتاحها ومنها تخرج وعُين معيداً بالمدرسة عن طريق أستاذه (عاطف بركات) الذي عرف عنه النزعة العقلية وعنه أخذ هذا الاتجاه وتأكد ذلك لديه من الدروس التي كان يتلقاها على يد بعض المستشرقين في الجامعة المصرية ، وظهر هذا المنحى في أبحاثه ودراساته في (فجر الإسلام وضحاه وظهره) ويلمس القارئ ذلك بصورة بارزة حينما تطرق (أحمد أمين) (للحديث النبوي) في (فجر الإسلام) تأريخه وتدوينه حينما تبني طروحات المستشرقين الناقدة بلا علم للسنة. وكان يرى نقد أقوال المستشرقين دون عزوها إليهم لئلا تقابل بالرفض من القراء لها كما هي نصيحته لزميله (د.علي عبدالقادر) التي بينها ووضح مدى مجابهتها للحقيقة ود. مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه القيم (السنة ومكانتها في التشريع) ، وكان (أحمد أمين) يحتفي باتجاه المعتزلة باعتباره أكثر المدارس التزاماً بالعقلانية وأخذ الابن هذا الاتجاه عن أبيه كما سنرى فيما بعد.
حياة الابن ودراساته: قضى حسين سنواته الثلاث الأولى في روضة الأطفال والسنة الأولى الابتدائية حيث يقول: إنها أهم السنوات في تكوين شخصيته وتكثيف استعداداته وقد أوجدت منه صبياً جم المطامح شديد الإحساس بذاته لا يرهب الناس ولا يرضى بغير الزعامة. وفي صباه المبكر كان والده يسمح له بحضور الندوات الأدبية والفكرية مع زملاته من رجال الفكر والأدب.
في المدرسة النموذجية: وهي مدرسة خاصة على نسق المدارس الإنجليزية التي لا يؤمها سوى أبناء الذوات، وكان يُحظر فيها التحدث بغير الإنجليزية وقد أسست لإيجاد طبقة من الشباب تكون مؤهلة للقيام بأعباء الدولة المختلفة.
تربية والده: ذكر حسين أن والده يحرص في أحاديثه معه وأخوته أن ينمي فيهم ما سماه (بنظرة الدين المستنيرة) التي لا تشوبها الأوهام والخرافات كقوله بأن (الجنة) في حقيقة الأمر هي: طمأنة الروح وسكونها! وأن (الجحيم) هو العذاب الناجم عن تأنيب الضمير ووخزه! وأن هذا بخلاف ما يقوله الخدم من الوصف الحسي المعروف للجنة والنار والذي هو أقوى تأثيراً في نفوسهم مما يقوله والدهم ، وأنه لم يعرف الدين وهو في السابعة إلا حين يشارك أهله في السحور في (رمضان) والاستعداد للعيد وحضور الصلاة ، واستطاع أن يطلع في مكتبة والده على أعمال (جورجي زيدان) الروائية وأعمال العقاد والحكيم وهيكل وابن تيمية وابن حزم ومن الأجانب قرأ: لنتشه وأفلاطون وبدأ يشارك في مجلة الثقافة التي يحررها والده الذي كان يقول لهم (ألا يسمحوا للآراء الشائعة للنقاد أو الناس أن تحد من حريتكم في الحكم على ما تقرأون). ونتيجة لاطلاعه على بعض الكتب الإلحادية نتج عنده اضطراب فكري شجعه للانضمام إلى (جمعية سرية شيوعية) مع بعض زملائه واستشار زميل والده عما يفيده في الفكر الشيوعي فأشار عليه بقراءة (رأس المال) لماركس لكنه سئم ومل من تعقيد أسلوبه فتركه ، وبعد أن عثر بواب العمارة على زميله يوزع منشوراتهم ضربه علقة ساخنة فتر بعدها حماسه للجمعية فانتقلت العدوى للآخرين من الأعضاء فتلاشت تلك الجمعية.(39/202)
تدينه ومآله: كان أخوه عبد الحميد متديناً ولعله تأثر به ولكنه تدين كما يقول بعنف بعدما شاهد ابنة عمه الشابة التي كان يحبها تقع تحت عجلات القطار فاتسم بقتامة كئيبة وجدية مفرطة لا يعرف معها هزلاً حتى أنه لا يفتح موضوعاً مع إخوانه إلا وذكر حكم الشرع فيه ويقول: إن ذلك منه (ثقل دم شديد)!! فضج إخوانه منه ومن سعيه لهدايتهم وتحول صبرهم إلى سخرية منه حيث كانوا ينادونه (الشيخ حسين) مما أفلحوا معه في إسكانه ، وفي هذه الفترة اطلع على اتجاه (الأخوان المسلمين) عن طريق زميله خليفة وأنه لم يوافق على رأي الإخوان في الجمع بين الدين والسياسة وكيف أنه كان يحب (الزعيم النقراشي) الذي يذكر أن الإخوان قتلوه. كل ذلك جعل رحلته مع أهله في الصيف إلى الإسكندرية وسكنهم بجوار أسرة لها بنات متبرجات حاولن إغراءه لكنه مستعصم كما يقول بقراءة كتاب في الأحاديث الموضوعة مما دعا والده للتدخل وأمره بترك كتبه وكراساته وإقناعه بأن ما هو فيه ليس من الدين في شيء!! ويتحطم تدينه حينما رأى فيلماً خليعاً. والتدين بلا أساس صحيح سريعاً ما ينهار بنيانه.
الفكر الجديد أو ما يسمى باليسار الإسلامي:
هذا الاتجاه الذي سبق أن أشرنا لوجهته في البداية انطلق منه الكاتب (حسين أحمد أمين) والذي أرجعه في نظري إلى أساسين:
1. تأثره بوالده الذي كان متأثراً بالاستشراق كما سبقت الإشارة إليه في كتابه فجر الإسلام ، وعلى هذا الأساس نجد (سلسلة الظلام) فيما يرويه حسين أحمد أمين عن أبيه عن المستشرق المجري (جولد تسيهر) ولذا لم نعجب من تأثر والده بالمدرسة الاعتزالية التي يزعم أنها أسلم المدارس منهجاً.
2. تأثره بما تلقاه في مدرسته النموذجية ذات الاتجاه العلماني والذي قال عنها: إنها ثاني أحد العوامل في تكوينه.
3. تأثره بما قرأه واطلع عليه من الدراسات العقلانية التي وافقت هواه ووجهته، مع العلم أنه غير متخصص في الدراسات الإسلامية ولا تلقاها عن ثقاة وعلى هذا النهج ظهر (حسين) مفسراً ومحدثاً ومفكراً ، فما مدى صحة ما جاء به من آراء وتوجهات. هذا ما سأتطرق له بإذن الله.
أولاً: كيف ادعى علم التفسير:
التفسير لغة هو الكشف والإبانة وفي الشرع الكشف عن معاني آيات الله والغوص في أعماقها للوصول إلى مراد الله بقدر الجهد البشري ولابد للمفسر كما اتفق العلماء أن يكون تفسير القرآن بالقرآن أو تفسيره بالسنة أو تفسيره بأقوال الصحابة وبأقوال التابعين وبعموم لغة العرب، لكن ما هو تفسير هذا الكاتب الذي يتطرق فيه إلى بعض الآيات القرآنية ويحكم فيها رأيه بما لم ينزل الله به سلطاناً ولنرى:
أولاً: في زاويته (البيان في أسباب نزول القرآن) التي نشرتها مجلة (العربي) ففي العدد (322) عند تطرقه لقوله تعالى: ]ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب[ الآيات وقوله تعالى: ]قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم[ فبعد ما نقل ما قاله المفسرون قال: إننا ابتلينا في السنوات الأخيرة بمن صار يرى جوهر الدين وحقيقة الإسلام في مسائل كالجلباب وتقصيره وضرورة الأكل باليمين، وقال: إن من يقصرون فحوى الآيات أو يضيفون لها الأوامر والنواهي يسيئون للدين عن قصد أو عن غير قصد وأن هذا الأسلوب يعود بالمسلمين للوراء. داعياً إلى عدم الإصغاء لهؤلاء لوضوح عبارات الآيات لئلا يقع السائل في براثن من لا يرى بها الخير.
والتفسير ليس بالرأي وإنما له أسلوبه الذي سبق ذكره ودعوى معرفة القرآن لوضوحه فيه نظر. ولذا كان هناك كتب كثيرة للتفسير منها ما هو بالرأي وما هو بالأثر وما جمع بينهما وليس فيهما ما زعمه المفسر المزعوم (انظر البيان في أسباب نزول القرآن) العربي 322.
1-وقوله تعالى: ]إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين[ وبعدما نقل ما أورده صاحب طبقات بني سعد حمل على من يدعو إلى الاقتداء بالسلف ووصفهم بالغلاة لأنهم بزعمه يرفضون الاجتهاد ويقصرون الحق على التفكير بالأموات وإن هذا راجع إلى شغف العربي بالأوضاع والأشكال المثالية وانتهى إلى أنه لا مخرج لنا من التحجر الذي نعاني منه سوى الكف عن الحنين للماضي وأن سلطان العقل هو الذي يحدد ما ينفعنا بين الماضي والحاضر. (انظر البيان في أسباب نزول القرآن) العربي 327. فأين ضوابط الشرع المطهر للتعامل والسلوك ؟ إنها في رأيه لا قيمة لها بما طرح من ضوابط عقلية.(39/203)
2-عند حديثه عن سورة (المسد) تحت عنوان (تأملات في حقيقة أبي لهب يهوذا بني هاشم) بدأ بالتشكيك في سبب النزول ورأى أنها ليست من السور المكية وإنما نزلت في الغالب بعد وفاة أبي لهب ولم يستند فيما رآه إلى أي حجة بل مجرد تخرصات لم يسبق إليها واتهم المفسرين باختراع سبب النزول مع أنه ثابت في صحيحي البخاري ومسلم وبقية الصحاح ، والكاتب لم يلبث أن كشف أوراقه وبين ما يسعى إليه من نشر مذهبه المادي من خلال كتابته هذه ، فهو يجرد الدعوة الإسلامية من علاقتها بالوحي ويفسر أحداثها تفسيراً مادياً ذاكراً علاقة الرسول الطيبة به قبل الإسلام وأن ابنيه قد خطبا ابنتي الرسول فماذا حدث حتى يكون أبو لهب من رءوس الكفر !! ثم أخذ يشرح كيفية انتقال المجتمعات من رعوية إلى تجارية وهي دعاوى باطلة لا دليل عليها أثبتها النقل الصحيح فلا مجال لأي عقل ليقول ما لا علم له به رحم الله سلف الأمة: فقد حذروا من التفسير بالرأي لقوله تعالى: ]ولا تقف ما ليس لك به علم[ ولقوله صلى الله عليه وسلم "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"، ولذا وجدنا (أبو بكر رضي الله عنه) يقول: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) فهل يعي ذلك أدعياء العلم.
كيف أصبح محدثاً ؟
السنة هي التفسير العملي للقرآن والتطبيق الواقعي والمثالي للإسلام والمنهاج التفصيلي لحياة الفرد والمجتمع في الإسلام وإجماع الأمة عبر العصور، فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع وأصبحت السنة علماً له أصوله ومصطلحاته مما لا يعرفها صاحبنا لكنه يأبى إلا يتحدث في الأحاديث فيصحح ويصوب بلا علم ولا كتاب مبين فتجده في مقاله (دور الأحاديث المنسوبة إلى النبي في تاريخ المجتمع الإسلامي) يزعم أن حديث الرسو صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا في عصر التابعين وأن الرسول لم يدع أنه معصوم عن الخطأ إلا حين يملي أو يتلو آيات ربه ثم تطرق لوضع الحديث وأثر الصراع بين المذاهب فيه واتهم الصحابي الكبير (أبو هريرة) بأنه يضع الأحاديث وأن الفقهاء يضعون الأحاديث حسب الطلب مما أصبح معه الحديث بحراً خضماً يختلط فيه الصحيح بالزائف.
أما كيف نعرف الحديث الصحيح فقال: إنه يمكن معرفة الأحاديث التي اختلقتها الفرق من ذم بعضها أو مدح نفسها وأن الأحاديث التي تتنبأ بأحداث مستقبلة مكذوبة وأن الصعوبة في معرفة مدى صحة نوعين من الأحاديث النبوية.
1-فضائل الأعمال التي تحث على مكارم الأخلاق أو آفاتها.
2-ما يتعلق ببيان الحلال والحرام وأحكام الشريعة وبخاصة وأن الفقهاء حينما يجتهدون في مسألة يلجأون إلى وضع الحديث أو تفسيرها حسب رأيهم !!
وهذه مقالات لو نسبها لصاحبها الأصلي (جولد تسهير) لكان ذلك غير مستغرب أما أن يتبناها وينشرها باسمه فهذه هي الطامة لأنها كلها مفتراة ولا أساس لها من الصحة. فالسنة جمعت منذ عصر الرسول وعرف بعض الصحابة أن لهم صحفاً يكتبون فيها وهذا يطول شرحه ويمكن الرجوع إلى كتاب (السنة قبل التدوين) د. محمد عجاج الخطيب ، والرسولل معصوم من الخطأ فيما يبلغ عن ربه ]وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى[ الآية ولقد قام العلماء المختصون في الجرح والتعديل ببيان حقيقة الوضاعين للأحاديث. انظر إلى رسالة (الوضع في الحديث) للدكتور عمر فلاته ، أما اتهام أبي هريرة رضي الله عنه فهي شنشنة نعرفها من أخزم تولي كبرها أعداء السنة قديماً وحديثاً ونحيل القارئ الكريم (إلى السنة ومكانتها في التشريع) للسباعي لتتبين منه كذب ادعاءات الكاتب في اتهام الفقهاء بوضع الأحاديث. أما معرفة الحديث الصحيح من الموضوع فقد نقحه العلماء العدول ووضحوا الصحيح من غيره. انظر سلسلتي (الأحاديث الصحيحة) ( والضعيفة والموضوعة ) للعلامة الألباني على سبيل المثال لا الحصر، ورأيناه يورد أحاديث نبوية مثل (من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) وحديث (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر) رافضاً تلك الأحاديث بزعم مصادمتها للعقل !! منطلقاً من مبدأين يراهما وهما:
1. الحفاظ على ثقة الناشئة بالسنة النبوية.
2. التخلص من الأحاديث التي تقف في طريق التطور والتقدم.
والحقيقة أن هناك مبادئ أساسية للتعامل مع السنة تنفي انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين وهي:
أولاً: توثيق السنة بثبوت صحتها حسب الموازين العلمية الدقيقة.
ثانياً: فهم النص النبوي وفق دلالات العربية وفي ضوء سياق الحديث وسبب وروده وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الأخرى وفي إطار المبادئ العامة والمقاصد الكلية للإسلام.(39/204)
ثالثاً: التأكد من سلامة النص من معارض أقوى منه من القرآن وأحاديث أخرى أوفر عدداً أو أصح ثبوتاً أو أوفق بالأصول وأليق بحكمة التشريع مع العلم أن الحديث الأول ورد في صحيح البخاري والثاني في مسلم ، وللحديثين الأوليين تأويلات لدى العلماء يمكن الرجوع لها في كتاب (السنة ومكانتها في التشريع) للسباعي و(مشكلات الأحاديث) للقصيمي. مع العلم أن تحكيم العقل في مناقشة النقل الصحيح يقود الباحث إلى التورط في إنكار جانب كبير من السنة وهو خطأ نتيجة للنزعة الحسية الأوروبية ينتهي بأصحابه إلى تحكيم العقل حتى في القرآن وتفسيره تفسيراً تعسفياً بغية إخضاعه لمنطق العقل نفس المنطلق الذي حوكمت به السنة وهو حشر للعقل خارج محاله الصحيح.
الكاتب مصلحاً ومفكراً:
أولاً: وبنفس المنطلقات العقلانية التي لا تقيم للنص احتراماً كما سبق بيانه يحرص على أن يسمى مصلحاً ومفكراً وهو أبعد ما يكون عن هذين الأسمين ولأنه فيما طرحه من أفكار فجة وتفسيرات وطروحات لا يقيم للنصوص أي قيمة معتبرة وبالتالي يضرب بعرض الحائط أقوال العلماء والفقهاء ولعلنا نشير إلى بعض الآراء التي طرحها في هذا الباب ومنها:
1-القرآن في نظره ليس فيه نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه ، وأن الرجال إنما يتمسكون بالحجاب لنسائهم ليستبدوا بالمرأة فينفسون عن قهرهم سياسياً واجتماعياً ولا ندري إلى ماذا استند في رأيه الغريب هذا ؟ أما آيات الحجاب في سورتي النور والأحزاب فهل هي غير كافية في نظره أم أنها كما يقول بعض المتفيقهين إنما هي لنساء صلى الله عليه وسلم ؟ وأنى يذهب بالقاعدة الأصولية (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) لو كانت خاصة بنساء النبي جدلاً.
2-خبط خبط عشواء وخلط بين البدع في العبادات والبدع في أمور الدنيا حيث يرى أن نظرة علماء المسلمين لا تفرق بين الأمرين مستدلاً بما زعمه من تحريم بعضهم لشرب القهوة واستخدام الملاعق والسكاكين بل وحتى الطباعة وتساءل هل استنكار البدعة وكراهية الجديد موقف إسلامي؟ أم جاهلي؟ فأجهد نفسه في إيراد الأدلة من غير أن يوفق لجواب صحيح والقول الحق هنا أن البدعة في العبادات موقف إسلامي وكراهية الجديد في غيرها موقف غير إسلامي.
3-وضع رسالة له في (الإصلاح الديني ) على هيئة خطاب ناقد له وذكر أن صاحبه الناقد قال عنه بأنك قلت: إن الهدم أحياناً يفوق البناء في القيمة وأن التشكيك له ما للإيمان من أهمية ونفع ، إذ كيف يمكن للمرء أن يقبل الحق عقيدة إن كان عقله وقلبه لا يزالان قانعين بالكثير من البهتان والزور. وحينما رد عليه لم ينكر ما اتهم به وكأنه يرى أن ذلك حق، وأضاف على تلك السمات:
- التدرج والترفق في تعليم العامة فذلك السبيل الأوحد إلى صلاح عقائدهم.
- تعليم الناس قدر عقولهم حتى يستوعبوا ما يلقى عليهم من علم.
- متى أضرت النوافل بالفرائض لزم رفضها وأن المرء ما أراد العدل الأكبر فلا بأس من بعض الظلم.
- إن من الدعاة من ترك صالح دعوته بسبب تجاهله لواقعه.
- أنه متفائل من الناس بواسطة التعليم والدعوة المستنيرة والتقنية سيتضح الناس ويستقبلون الحقائق مجردة من الخرافات والترهات.
- هذه هي منطلقات المدرسة (العصرية) التي يريدون من ورائها تحقيق أهداف بعيدة المدى:
أ- حملة على السنة لاستبعادها من المعاملات ليسهل تسلل نظم الغرب إلى عقائدنا ومجتمعاتنا .
ب- حملة على الفقه والفقهاء ليفقد الإسلام ضوابط الأحكام الشرعية ولهدم المنطلقات الأصولية.
ج- يؤدي ذلك إلى انقضاء الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة.
ثانياً: ألف عدة كتب أشهرها (دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين) وقد نال عليه جائزة أحسن كتاب إسلامي في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة عام 84هـ !!
وهو في نظري لا يستحق الجائزة ككتاب إسلامي لأنه لم يتقيد بمسماه إلا إذا أريد بالإسلامي أن يكتب في الإسلام بصرف النظر عما إذا كان مع الإسلام أو ضده وهذا الكتاب فصول لما تطرق له في هذه المقالة من الشك في سورة المسد والتشكيك في مكانة السنة ورسالته في الإصلاح وغيرها.(39/205)
أما موضوع العنوان الذي سمى به الكتاب فهو يدور حول بدايات الحضارة الغربية في العالم الإسلامي وتأثيرها على دعوات التجديد في العالم الإسلامي وأزمة الغرب الروحية وموقف المسلم في هذا العصر ما بين إفراط وتفريط ثم السلوك المطلوب في خضم تصارع الأهواء والفرق وشيوع الجهل والخرافة والتأويل الزائف واختراع الحديث من أجل فرض الرأي، وقال : إننا بحاجة إلى سيرة نبوية لا تطمس الوقائع ولا تخترعها وإلى استبعاد المخترع من الحديث ولو أدى ذلك إلى إسقاط جله وإلى كتابة التاريخ الإسلامي على أسس جديدة!! وإلى تنمية نظرة الدين والتراث لا باعتبارها وسيلة للهرب إلى الماضي من المشكلات والإحساس بالأمن الزائف وإنما كوسيلة للتصدي إلى مشكلات الحاضر والمستقبل وغرس القيم الإيمانية في الناشئة القائم على الحقائق الثابتة لا الأكاذيب . وهذه الآراء هي مجرد كلام يحتاج إلى قاعدة وفلسفة ينطلق منها الكاتب لكننا عرفنا أنها تفتقر إلى منهج علمي حق في الفهم وفي الاستدلال ومنهج علمي في الولاء والبراء لهذا الدين وبخاصة أن الاتجاهات العقلية قد تؤدي بصاحبها أحياناً إلى ضلال مبين ما لم تكن منطلقة من أسس نقلية لشريعة قائمة على التوحيد وهذا مع الأسف ما ينقص صاحبنا كما ظهر من آرائه المضطربة " . انتهى كلام الأستاذ أحمد أبوعامر . ( المجلة العربية ، رجب ، 1411هـ ) .
يضاف على ماسبق :
- للأستاذ منذر الأسعد رد على حسين أحمد أمين باسم: "إسلام آخر زمن: قراءة في آراء حسين أحمد أمين" - ثلاثة أجزاء- صدر عن دار المعراج بالرياض.
قال الأستاذ منذر في مقدمة رده (ص 15):
" بين يديّ الطبعة الثالثة من كتاب "دليل المسلم الحزين" والطبعة الثانية من كتاب "حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية"... وقد جمع الكتابان -وهما من تأليف الأستاذ حسين أحمد أمين- في كتاب واحد يتكون من 400 صفحة من القطع المتوسط، نشرته مكتبة مدبولي عام 1987م.
وقد سبق للمؤلف أن نشر فصول الكتاب في عدد من المجلات العربية في مصر وقطر.
الهاجس الأساس للمؤلف هو أن أمة المسلمين في عصرنا الحاضر أمة متخلفة، وسر ذلك التخلف عنده -هو يد الماضي الميتة التي تكبل أعناق المسلمين... ويد الماضي هي السنة النبوية التي نسبها الفقهاء -كذباً- إلى النبي الكريم، ليسبغوا على أفكارهم الشخصية صبغة مقدسة، تضمن لاجتهاداتهم الرواج، وحيث أن النَّسخ وقع في القرآن، فإن على المسلمين أن يطوروا دينهم بما يوائم معطيات العصر، حتى لو أدى ذلك بهم إلى الخروج على نصوص قرآنية قطعية الدلالة، فالمهم هو استلهام "روح" الإسلام، لا النصوص التي نزلت لمعالجة أوضاع خاصة بالمجتمع البدوي في شبه جزيرة العرب، في العهدين النبوي والراشدي !
خلال ذلك يطلب المؤلف أن تلغى الحدود الشرعية كحد السرقة والخمر، ليضع المجتمع عقوبات تناسب (أحوال القرن العشرين).
- يحمل حسين أمين حملة ظالمة لتشويه صورة السلف الصالح، وفي المقابل يُعظم الفراعنة ويقول: "إن كان لابد من التطلع إلى سلف صالح؛ فإن أخناتون بنظرته الثاقبة هو بكل تأكيد ذلك السلف الصالح"! (جريدة الوطن الكويتية، عدد 5367).
- استمرأ حسين ذم الحجاب وتشويهه (انظر: دليل المسلم الحزين مبحثي: عودة النساء إلى الحجاب، وحجاب المرأة هل هو من الإسلام، ص 227- 251).
- يقول حسين : "إن أفضل العلاقات بين أفراد الطوائف الدينية المختلفة هي تلك التي تسود بين الملحدين من كل طائفة، ممن قد تلاشت لديهم العقيدة، وجمع بينهم الشك في صحة الأديان جميعاً، هنا يختفي التعصب والحيطة والحذر، ويصبح من الممكن أن تقوم الصداقة الحرة والألفة الحقيقية، ويصبح شعارهم بيت الشاعر القروي: سلام على كفر يوحد بيننا، وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم!". قال الأستاذ محمد مبروك تعليقاً على هذا الكلام الكفري: " أي أن الإلحاد هو الحل لديه لتعايش الأديان" . (مواجهة المواجهة، ص 269).
- ويقول حسين ملخصاً رأيه في حكم الشريعة لما سئل : "هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام كنظام حكم؟" قال: "لا، طبعاً، إذا اكتفت باقتباس أحكامها من القرآن والسنة فقط"!! (رأيهم في الإسلام، ص86).
-يرى أنه لا يكفي مجرد التسامح مع الكفار، إنما نتجاوزها إلى الاعتراف والمعايشة! بل وصل به الحال إلى تقرير وحدة الأديان ! و"أن كل رؤية تحمل جانباً من الحقيقة لم تركز عليه سائر الرؤى"! وأنه "ليس ثمة دين خاطئ إن كان معتنقوه يرونه كافياً لسد احتياجاتهم الروحية"!! (التسامح الديني والتفاهم بين المعتقدات، ص 27، 30).
قلت: ولا يخفى على المسلم ما في هذه الدعوة من كفر وضلال باتفاق أهل الإسلام.
- ممن رد عليه - أيضًا - : الدكتور أحمد عبدالرحمن في كتابه "أساطير المعاصرين" (ص 133-166).
- مفكر مصري ( شيوعي ) .
- ولد في 18 فبراير في حي الدرب الأحمر في القاهرة.(39/206)
- بدأ دراسته الأولى في كتّاب الشيخ السعدني في مدخل حارة السكرية. ثم في مدرسة الرضوانية الأولية في حي القرية، ثم في مدرسة النحاسين الابتدائية بحي الجمالية، ثم في مدرسة الإسماعيلية الثانوية الأهلية بحي السيدة زينب، ثم مدرسة الحلمية الثانوية بالقرب من حي القلعة.
- التحق بعد شهادة الثانوية (البكلوريا) بقسم الفلسفة - كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول (القاهرة اليوم)، حصل على شهادة الليسانس.
- حصل على درجة الماجستير من الكلية نفسها في موضوع (فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية) . ثم عمل بالجامعة .
- تم فصله عام 1954 م مع عدد آخر من الأساتذة والمدرسين من مختلف كليات جامعة القاهرة لأسباب سياسية، كما تم فصله من الإعداد لرسالة الدكتوراة . بعد فصله عمل في إعطاء دروس خاصة في الفلسفة والمنطق واللغتين الانجليزية والفرنسية حتى التحق بمجلة روز اليوسف مسؤولاً عن افتتاحيتها السياسية . كما أخذ يكتب فيها مقالات في النقد الأدبي .
- عمل في مجلة الرسالة الجديدة مديراً لتحريرها تحت رياسة الأستاذ يوسف السباعي، وكانت المجلة تصدر عن مؤسسة التحرير، وفي هذه المجلة بدأ سلسلة من الكتابات النقدية.
- تم فصله من عمله في الرسالة الجديدة وفي مؤسسة التحرير عامة.
- في أواخر نوفمبر 1958 م بدأت حملة اعتقالات واسعة للشيوعيين المصريين وفي فجر يوم أول يناير 1959 تم اعتقالة في منزله .
- تم الإفراج عنه منتصف عام 1964.
- عمل محرراً أدبياً في مجلة " المصور " الأسبوعية, ثم ما لبث أن عُيِّن بعد ذلك رئيساً لمجلس إدارة هيئة الكتاب، ثم شركة الكاتب العربي، ثم رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة المسرح، ثم رئيساً لمجلس إدارة أخبار اليوم.
- ثم تمت إحالته إلى المعاش باقتراح من الأستاذ الوزير الجديد للثقافة أنذاك "يوسف السباعي" وموافقة رئيس الجمهورية أنور السادات.
- تعين في جامعة أكسفورد ، ثم انتقل إلى باريس ليُعيّن في جامعة باريس 8، مدرّساً للفكر العربي. ويظل بها من 1973 م حتى عام 1984 م .
- خلال هذه الفترة في باريس أنشأ مع بعض الرفاق المصريين مجلة شهرية هي " اليسار العربي " ، وشارك في الجبهة الوطنية المصرية المناهضة للسياسة الساداتية عندما بدأ مشروعه للصلح مع إسرائيل، مما أفضى إلى أن يُقدّم غيابياً لمحكمة "العيب" ويحكم عليه بحرمانه من حقوقه المدنية والسياسية ويتعرض للتقديم للمحاكمة في حالة عودته إلى مصر.
- بعد وفاة السادات عاد إلى مصر .
-تفرّغ فور عودته لإصدار كتاب غير دوري هو " قضايا فكرية " ، كما اختير مقرراً للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، فضلاً عن أنه عضو في نقابة الصحفيين، وعضو في اتحاد الكُتّاب، وكان نائباً لرئيس رابطة المثقفين المصريين التي كان يرأسها سعد الدين وهبة.
- أهم مؤلفاته :
1- ألوان من القصة المصرية- دار النديم- 1955 تقديم د. طه حسين .
2- في الثقافة المصرية بالاشتراك مع د. عبدالعظيم أنيس- طبعة ثالثة 1989 -القاهرة.
3- معارك فكرية : دار الهلال 1970- ترجمة روسية 1974-موسكو.
4- الثقافة والثورة : دار الآداب-1970-بيروت.
5- تأملات في عالم نجيب مجفوظ : 1970 القاهرة- الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر.
6-فلسفة المصادفة : 1971- دار المعارف- القاهرة.
7-هربرث ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود : 1972- دار الآداب-بيروت.
8-الإنسان موقف : 1972- المؤسسة العربية للدراسات-بيروت.
9- الرحلة إلى الآخرين : 1974- دار روز اليوسف-القاهرة.
10-الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر ك 1973-دار الآداب-بيروت.
11- البحث عن أوروبا : 1975 - المؤسسة العربية للدراسات-بيروت.
12-توفيق الحكيم مفكِّراً فناناً : 1994 - دار قضايا فكرية-القاهرة.
14-ثلاثية الرفض والهزيمة : دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم - 1985-دار المستقبل العربي-القاهرة.
15- الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر : طبعة ثانية - دار الثقافة الجديدة- 1988-القاهرة.
16-الماركسيون العرب والوحدة العربي : دار الثقافة الجديدة - 1988.
17-مفاهيم وقضايا إشكالية : دار الثقافة الجديدة - 1989 .
18-البنية والدلالة - في الرواية العربية المعاصرة 1994-دار المستقبل العربي.
19-الفكر العربي بين الخصوصية والكونية : دار المستقبل العربي - 1996 .
20- مواقف نقدية من التراث : دار قضايا فكرية - 1997 .
قال الدكتور مفرح القوسي عنه في رسالته " الموقف المعاصر من المنهج السلفي " ( ص 502-508) :(39/207)
- " محمود أمين العالم: من كبار المفكرين العرب الماركسيين، الذين تناولوا في كتاباتهم العديد من القضايا الفكرية وحاولوا معالجتها على أساس المنهج المادي الجدلي؛ ووفق الرؤية الماركسية عامة، ومن المتحمسين للتوجه الماركسي، فنجده ينافح عن الماركسية ويمتدحها ويدافع عنها دفاعاً قوياً، من ذلك على سبيل المثال قوله: "والحقيقة أن النظرية الماركسية هي أنضج النظريات وأعمقها وأصرحها كذلك في فهم الديمقراطية وتقييمها، إنها النظرية الوحيدة التي تعترف بالأساس الاجتماعي الطبقي للديمقراطية، وتحدد السبيل العملي لتوفير أرقى مستوى من الديمقراطية للمجتمع البشري، ومنها اختلفت الآراء حول التطبيق الديمقراطي في البلدان الاشتراكية ، وحول مفهوم دكتاتورية البروليتاريا، فإن النظرية الماركسية للديمقراطية تكاد تكون النظرية العلمية المسلم بها عند المناضلين في جميع أنحاء العالم، على اختلاف تجاربهم الاجتماعية، بل وعلى اختلاف مواقفهم من النظرية الماركسية نفسها. والنظرية الماركسية للديمقراطية هي في الحقيقة تعميم علمي لتجربة المجتمع البشري عبر تاريخه الطويل، وهو يتمرس بأنماط متنوعة من علاقات الإنتاج وأشكال الحكم…"(101). وقوله: "إن القول بالحتمية التاريخية لا يتنافى أبداً مع القول بقدرة الإرادة البشرية على التغيير الاجتماعي والتاريخي، بل إن إرادة الإنسان تُمكِّن للحتمية أن تتحقق، كما أن الوعي بالحتمية يُمكّن للإرادة أن تكون فاعلية وحرية"(102).
ونجده يرد على منتقدي المبادئ الماركسية(103)، ويدعو إلى دكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا)، ويجتهد في تبرير تلك الدكتاتورية وبيان فضائلها ومحاسنها(104).
كما نجده يدعو إلى التطبيق العملي للماركسية أو الاشتراكية العلمية -كما يسميها- بوصفها الطريق الوحيد لتحقيق الرقي والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي(105).
ويقف من السلفية والسلفيين موقفاً معادياً متهجماً متجنياً، حيث يُعَرِّف السلفية في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر بأنها: "نزعة دينية تتخذ من العودة إلى الأصول ومن الاستئناس بتراث الماضي معياراً أساسياً لتقييم الحاضر ومواجهته وصياغة المستقبل"، ثم يقول بعد ذلك: "وهذا تعريف صحيح، ولكنه غير كاف وحده لتحديد معالم الحركة السلفية في فكرنا الحديث والمعاصر، فالسلفية كذلك وبشكل عام حركة وطنية إصلاحية، تتسم بالمعارضة والرفض لأوضاع الفساد والتخلف والتشرذم الاجتماعي والتبعية للغرب، وهي دعوة إلى اتخاذ الأصول الدينية وتراث الماضي أساساً للتخلص من هذه الأوضاع. فإذا انتقلنا من التعريف الأول المجرد، ومن التعريف الثاني العام، وحاولنا أن نتلمس الحركة السلفية في تجلياتها الواقعية المختلفة لوجدنا اختلافات شتى في الممارسات العملية والتوجهات الفكرية، فليس هناك سلفية واحدة، هناك أكثر من سلفية تختلف باختلاف العوامل الموضوعية والاجتماعية التي وَلَّدتها وأبرزتها في هذه البلد أو تلك، في هذه اللحظة التاريخية أو تلك، بل هناك أكثر من سلفية داخل السلفية الواحدة، فقد تبدأ من نقطة، وسرعان ما تتغير وتتبدل عبر ممارساتها، بل قد تنتهي إلى نقطة وموقف البداية، وما أكثر الأمثلة الحية الماثلة في واقعنا العربي منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم. لقد أصبحت بعض الحركات السلفية أدوات لتكريس التخلف وتعميق التبعية بعد أن كانت قد بدأت دعوتها حرباً عليهما، أصبحت أيديولوجيات رسمية لبعض أنظمة الحكم العربية، لإضفاء مشروعية عليها، ولإخفاء تخلفها وفسادها وتبعيتها. على أن الجانب الوطني الإصلاحي المتمرد على واقع التخلف والفساد والتبعية لا يزال صفة بارزة لبعض الحركات السلفية المعاصرة، وإن اختلفت منهاجها العملية وتوجهاتها الفكرية، فمن بين هذه الحركات المتمردة نزعات تتسم بالتزمت والجمود، وفقدان الرؤية الاجتماعية والتاريخية تماماً، ومن بينها نزعات تتميز بالتفتح والاستنارة، كهذا التيار الفكري الذي أشرنا إليه فيما سبق وأسمينا أصحابه بالسلفيين الجدد"(106)، ويعني بهم محمد عمارة، وحسن حنفي، وأنور عبد الملك، وطارق البشري، وعادل حسين، وجلال أحمد أمين.(39/208)
- ويَدَّعي -عند حديثه عن المفهوم الديني السلفي للزمن التاريخي- أن الزمن عند السلفيين المُحْدَثين زمن هابط، وأنهم تجريديون مثاليون يسعون إلى إلغاء حركة التاريخ، بفرض نسق تاريخي معين على التاريخ كله، فنراه يقول -خالطاً مع السلفيين غيرهم-: "يَعتبر المفهوم الديني السلفي الذي نتابعه، منذ بدايته الأولى في الحركة الوهابية حتى حركة الإخوان المسلمين، وخاصة في كتابات سيد قطب، وفي حركة (التكفير والهجرة)، يعتبر هذا المفهوم الحاضرة الحديثة شكلاً آخر من أشكال العصر الجاهلي الذي ينبغي رفضه وإزالته، على أن يُستبدل به نسق آخر من الحياة، هو نسق مرحلة الدعوة الأولى. والزمن عند أصحاب هذا المفهوم زمن هابط، إلا أنه في المقدور السيطرة عليه وتعديل مساره. وبالرغم أن هذا المفهوم يتضمن مشروعاً في التاريخ وفي مواجهة التاريخ، إلا أن هذا المشروع مشروع غير تاريخي يقوم على التماثلية في حركة التاريخ، أي: إلغاء هذه الحركة بفرض نسق تاريخي معين على التاريخ كله. والفعل التاريخي بحسب هذا المفهوم هو فعل إرادي انقلابي أساساً، يهدف إلى إزالة ما يراه شذوذاً في مرحلة تاريخية، ليحقق تماثلاً مع مرحلة أخرى مثالية نمطية"(107).
- ويحدد النهج السلفي في التفكير فيقول: "هو تنقيب في الماضي التاريخي والتراثي لاكتشاف ثوابت معيارية يمكن اتخاذها سنداً لإضفاء المشروعية على توجهات سياسية أو فكرية في الحاضر، أو تقديم تبرير تاريخي تراثي لها…، والتاريخ عند المفكر السلفي متماثل الآنات واللحظات والمراحل غير متحرك أو متطور، بل قد يكون تراجعاً وانحداراً وليس تقدماً أو تطوراً. فالماضي عنده هو محور الإشارة الذهبي المطلق الصحة والكمال، ولهذا فقيمة أي فكر أو أي فعل إنما تقاس بمدى مطابقتها أو اقترابها من محور الإشارة هذا، على أن هذا النهج السلفي في التفكير قد نجده كذلك عند كثير من المفكرين الذين يتبنون دعوة التحديث والتجديد، وتتمثل هذه السلفية عندهم في التوقف عند نص باعتباره معياراً ثابتاً مطلق الصحة، ورفض أي محاولة لتأويله أو الخروج عليه إذا كشفت حركة الحياة المتجددة ضرورة ذلك، كما تتمثل هذه السلفية في مختلف مواقف التشبث والجمود عند ثوابت أو سمات معينة في مختلف الخبرات الإنسانية الماضية، واتخاذها كذلك معياراً ثابتاً مطلق الصحة للحكم والتقييم والسلوك، مع افتقاد روح العقلانية والنقد والكشف والإبداع"(108).
- ويعود مؤكداً قوله السابق فيقول: "خلاصة الأمر أن الموقف السلفي -عامة- من مفهومي الخصوصية والأصالة، سواء في المجال الديني أو السياسي أو الاجتماعي، هو: البحث عن ثوابت مجردة مطلقة، واتخاذها معياراً نهائياً لتقييم الحاضر وتبريره وتكريسه. على أن الخصوصية في الحقيقة ليست ثوابت مجردة مطلقة فوق المكان والزمان، بل هي سمات مشروطة اجتماعياً وتاريخياً، ولهذا تختلف الخصوصيات باختلاف الملابسات الاجتماعية والتاريخية. حقاً هناك بعض السمات المشتركة المتصلة عبر التاريخ، ولكن هذه السمات نفسها تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع الملابسات الاجتماعية والتاريخية. ولا شك أن الأوضاع الجغرافية الثابتة قد تلعب دوراً في تحديد بعض هذه السمات، على أن الأوضاع الجغرافية نفسها محكومة في كثير من الأحيان -إن لم يكن دائماً- بالأوضاع السياسية، فهي في الحقيقة أوضاع جغرافية سياسية؛ ولهذا فهي بالضرورة كذلك مشروطة اجتماعياً وتاريخياً. وتأسيساً على هذا فإن القول بالاستمرارية التاريخية المجردة المطلقة هو قول ميتافيزيائي غير علمي، وقول سلفي في جوهره وكذلك الشأن بالنسبة للأصالة، فالأصالة لا تكون بالارتباط بثوابت تراثية قديمة على نحو مجرد مطلق، وإنما تكون باستيعاب التراث القديم استيعاباً نقدياً، كما تكون -أساساً- بعمق الفاعلية الإبداعية الإنسانية، بحسب مقتضيات وملابسات وتكوينات الواقع الاجتماعي والتاريخي المعين، لا ارتفاعاً فوقه أو تعالياً عليه أو تغافلاً عن حقائقه الحية. ليست الخصوصية استمراراً تاريخياً راكداً لنمط ثابت، وليست الأصالة استغلاقاً وانغلاقاً فكرياً وقيمياً في إطار خبرة تاريخية في لحظة عبر سيادة روح النقد والعقلانية والفاعلية والبناء والإنجاز والإبداع، أما غير ذلك فهو شكل من أشكال السلفية والجمود إن لم يكن الغفلة والتضليل"(109).(39/209)
- ويصم الاتجاه السلفي في العصر الحديث بـ(التزمت)، فنراه يقول تحت عنوان (ليست ظاهرة دينية خالصة): "التيار السلفي المتزمت هو نهاية المطاف في حديثنا الذي طال عن (التراث وتحديات العصر)، على أن الحديث عن هذا التيار حديث متشعب، فبرغم أن هذا التيار الفكري يتخذ من التراث الديني عامة، ومن ظاهر النص الديني خاصة معياراً مطلقاً للحكم والتقييم والسلوك، فما أشد التنوع والاختلاف في الرؤية والنهج والموقف العملي داخل هذا التيار نفسه، وهو اختلاف ينبع من اختلاف الملابسات التاريخية والاجتماعية التي يتجلى فيها هذا التيار أو يوظف. وما أريد في هذا المقال أن أفصل القول في ذلك، وإنما حسبي أن أعرض لهذا التيار في أشد مظاهره وتجلياته وتوظيفاته تزمتاً"(110)، ضارباً المثل لهذا التيار بجماعة (التكفير والهجرة) من خلال قراءة نقدية لكتاب أميرها ومنظرها -شكري مصطفى- المعروف بكتاب (التوسمات) (111).
- ويزعم أن النظرة السلفية إلى التراث "نظرة تقديسية تسعى لفرض الماضي على الحاضر؛ تسعى لتثبيت الحاضر وتجميده باسم الماضي، وهي تبطن موقفاً اجتماعياً مختلفاً"(112).
- ويشن حملة قوية على جميع الجماعات الإسلامية المعاصرة؛ الغالية منها والمعتدلة، متهماً إياها بالجهل والتخلف والجمود وسوء النوايا(113)، كما يربط بين التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية وتطبيقها وبين التعصب والجمود والتخلف الحضاري، فنراه يقول -مدعياً-: أنه "ليس ثمة بلد عربي واحد تتعارض قوانينه وتشريعاته الأساسية والفرعية مع الشريعة الإسلامية…، بل إن بعضها يغالي في تطبيق الشريعة إلى حد الحرفية والجمود والتعصب المظهري الشكلي. والأمر الذي له دلالة أن هذا يتمثل بوجه خاص في أشد البلاد العربية والإسلامية تخلفاً من الناحية الاجتماعية والثقافية والحضارية عامة"(114) !!
- ويصف مفهوم الداعين إلى تطبيق الشريعة بأنه: "مفهوم مثالي لا تاريخي ولا اجتماعي للتشريع عامة، فليست القضية الأساسية أن نطبق التشريع الإسلامي أو لا نطبقه، إنما القضية الأساسية هي ما هو التوجه السياسي والاجتماعي الذي نطبق التشريع بمقتضاه، فالتشريع هو تعبير عن علاقات اجتماعية وإنتاجية سائدة، أي: هو انعكاس لعلاقات الإنتاج، أو لنمط الإنتاج السائد. ولهذا يختلف التشريع باختلاف أنماط الإنتاج، واختلاف العلاقات الاجتماعية عامة، ولهذا فليس بالتغيير التشريعي وحده يتغير المجتمع، وإنما يتغير المجتمع أولاً ثم يأتي التشريع لتكريس هذا التغيير وإعطائه مشروعيته، ويضمن له الاستقرار والاستمرار"(115). انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي .
يضاف على ما سبق :
* يقول العالم عن نفسه: "استقريت على الماركسية منهجاً، والشيوعية طريقاً وطريقةً" .(اعترافات شيخ الشيوعيين العرب، ص27).
* غير مقتنع بسقوط الماركسية (انظر كتابه: مواقف، ص219). ويقول في لقائه لموقع إيلاف: "حتى لو انهار الاتحاد السوفيتي لم تنهار الماركسية"!
* ويقول : "لا حداثة بغير تحرير المرأة من القيود التي تقيد جسدها وفكرها وحياتها" . (مفاهيم وقضايا إشكالية، ص 82).
* يقول الدكتور عبدالحكيم بدران: "يظل محمود أمين العالم ماركسياً، يلاحق التجمعات الماركسية والمؤتمرات التي تُعقد الآن تحت دعاوى النظر في شرعية النظرية الماركسية وإمكانية تطويرها..." . (خيانة المثقفين، ص 54).
* يدعي العالم أن العلمانية لا تعارض الإسلام! يقول : "الخلاف هو في واقع الأمر بين العلمانية من ناحية، والفهم الأصولي للدين والفكر الديني المتعصب الذي يتسم بالجمود والنصية الحرفية واللاتاريخية والاطلاقية والنزعة الاستعلائية الاقصائية من ناحية أخرى" . (العلمانية بين الإسلام والعقل والتأسلم، د رفعت السعيد، ص 59 نقلاً عن: الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن).
* من أقواله: "إن العودة إلى الماضي خديعة" . (مفاهيم وقضايا إشكالية، ص8).
* وينظر لقاء مجلة المستقبل العربي معه (العدد323) ، وكتاب "اعترافات شيخ الشيوعيين العرب" للأستاذ سليمان الحكيم.
* أخيرًا : قال عنه الأستاذ جمال سلطان: "أحد جسور الغزو الثقافي الماركسي للعقل العربي، وهو من مؤسسي الحركة الماركسية في مصر" . (دفاع عن ثقافتنا، ص 16).
نظرة شرعية في مؤلفات : د / سيد القمني
- باحث مصري ولد - كما يقول - في 13/3/1947 بمدينة الواسطي من أعمال محافظة بني سويف أولى محافظات صعيد مصر. انتهج الوجهة الماركسية في نظرته للكتاب والسنة ؛ حيث التطاول عليهما ؛ لأنهما - عنده - مجرد نصوص تاريخية خاضعة للنقد ! ، وليستا وحيًا من الله . وهكذا فعل مع التاريخ الإسلامي .
وهو يصرح بهذا ولا يخفيه . يقول في كتابه " أهل الدين والديمقراطية " ( ص 305 ) : " إن ذعر الاقتراب من الدين الإسلامي نقداً أو تفكيكاً وتحليلاً أو لمجرد تقديم قراءة وتفسير جديد، جعل الجميع يحذرون الاقتراب من جوهر المشكلة، رغم أن المشكلة الآن هي في تركيب الدين نفسه وتكوينه الذي يتفرد به عن معظم الأديان الأخرى، والتي وسمته بخصائص جعلته يحمل كثيراً من التناقضات الداخلية في المفاهيم والأحكام " !!(39/210)
ويقول ( ص 309 ) : " القرآن ليس كتاب علم، بل هو كتاب دين روحي، وهناك تناقضات تتراكم كل يوم وليلة بينه وبين واقع الحياة المتغير المتبدل دوماً " !!
ويقول ساخرًا ممن يرى أن الإسلام جاء بحقوق الإنسان ( ص 311 ) : " .. يعلنون سبق الإسلام في ميدان الحقوق رغم مبدأ كقتل المرتد أو نهاية الرق من التاريخ وبقائه بالإسلام " .
ويقول عن أحكام المرأة التي جاء بها الإسلام ( ص 312-313) : " لدينا مشكلة مستعصية فيما يتعلق بوضع المرأة في الإسلام ووضعها الحقوقي اليوم، ففي الإسلام هي ناقصة دين في العبادة، وناقصة عقل عن الولاية وهي نصف الذكر في الميراث وفي الشهادة...
أليس عدم المساواة بين المرأة والرجل في الميراث اليوم ظلما؟ أليس عدم المساواة بين غير المسلم والمسلم اليوم ظلما؟ " !!
ويقول - أخزاه الله - ( ص 318 ) : " العقيدة الإسلامية مليئة بالأساطير، كيف يمكن تنقيتها من كل هذه الشوائب؟ كل الأديان مليئة بالأساطير وليس الإسلام وحده " !!
- وقد ادعى مؤخرًا أنه رجع عن أقواله بسبب تلقيه خطاب تهديد من الجماعات الإسلامية ! والعارفون به يقولون إن الأمر مجرد ترويج لكتبه ، وإثارة إعلامية .
- للأستاذ منصور أبوشافعي كتاب في الرد عليه بعنوان " مركسة التاريخ النبوي " ، ثم لخصه في مقال بموقع إسلام أون لاين ، قال فيه :
" سيد القمني باحث ماركسي في التراث استطاع على مدى الخمسة عشر عاما الماضية وبأربعة عشر كتابا أن يضع مشروعه الفكري في قلب الخطاب العلماني الذي سوّقه باعتباره "فتحا وكشفا كبيرا" و"اقتحاما جريئا وفذًا لإنارة منطقة حرص من سبقوه على أن تظل معتمة"، بل واعتبر "بداية لثورة ثقافية تستلهم وتطور التراث العقلاني في الثقافة العربية الإسلامية ليلائم الإسلام (وليس التراث) احتياجات الثورة الاشتراكية القادمة".
ولم يقف التسويق العلماني عند هذا الحد. ففي حين لا يتورع عن أن يرى أن القرآن (الإلهي) "يجسد نصّا تاريخيّا" لا بد من وضعه "موضع مساءلة إصلاحية نقدية"!! فقد تعدى هذا الإعلام نقطة الانحياز وأغلق في وجه العقل باب مراجعة أو إمكانية نقد مشروع القمني بحجة أن محاولة نقده "نقدا موضوعيّا أمر مستحيل"!! وهو ما أراه انهيارا للعقل العلماني أمام مشروع د. القمني (الفكري - النسبي - البشري)؛ إذ القول باستحالة نقده يكاد يعني "قداسة" هذا المشروع و"تطهره من الخطأ"!
وبدا أن القمني نفسه والذي قيل عنه إنه "واحد من العلماء الصارمين الذين يعتمدون العلم لا الأساطير". يؤكد هذه القداسة ولا ينفيها حين يقول عن نفسه إنه في مشروعه الفكري عاين التراث "حيّا بلحمه وشحمه ودمه" وقدمه "كما كان حقّا".
وعلى كلٍ فقد مارس القمني حقه الكامل في السؤال وفي البحث وفي الإجابة في كتبه ومقالاته التي يحوم بعضها حول المناطق الحساسة في التاريخ والعقيدة. وبعضها الآخر يقتحم -بلا حذر وأحيانا بتهور- هذه المناطق تحت ضغط أيديولوجي فاقع اضطره -في أغلب كتاباته- إلى التضحية بالمعلوم بالضرورة في كتب مناهج البحث العلمي عن "نقد الأصول". وإلى اعتماد "الأساطير" سواء التراثية أو حتى الاستشراقية بحجة -كما قال وأكد- أن "مهمتنا (مهمته) أبدا ليست تدقيق معلومة يعطيها لنا علماء"، وأن "المعلومات سواء كانت خطأ أم صوابا فهي ذلك المعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ".
ولأن ذلك كذلك. فسأحاول -وبإيجاز شديد- إلقاء بعض الضوء على المشروع الفكري للدكتور القمني. وكيف أعاد إنتاج الإسلام ماركسيّا "ليلائم احتياجات الثورة الاشتراكية"؟.
وللأهمية القصوى نبدأ بإثبات تعريف القمني لنفسه بقوله: "أنا مادي". ومن المهم كذلك إثبات حقيقة أن الفارق الجوهري (الفلسفي) بين الموقف "المثالي" والموقف "المادي" في "ألف - باء" الماركسية، يتلخص في أن:
الأول يقول بـ"أولية الله على المادة في الوجود"، وبالتالي فهو يؤمن بوجود إله خالق للكون وللطبيعة وللإنسان، وبأن العلاقة بين الله (الخالق) والإنسان (المخلوق) يمكن أن تكون في شكل رسالة (وحي) ورسول (نبي - بشري).(39/211)
وأما الثاني فيقول بـ"أولية المادة على الله في الوجود"؛ وبالتالي فهو حسب "المادية الديالكتيكية" لا يؤمن بوجود موضوعي حقيقي لله. ومن ثَم -وهذا طبيعي- لا يذهب إلى إمكانية وجود علاقة (سواء في شكل دين أو وحي) بين إله (غير موجود عنده أصلا) وبين إنسان هو الخالق الفعلي لله!! وحسب "المادية التاريخية" فـ"المادي" لا بد أن يبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإنسان عن وجود وتطور فكرة الله والدين.وهذا ما حاول القمني الالتزام به في مشروعه الفكري الذي رفض فيه ما أسماه بـ"الرؤى الأصولية" التي تقول بأن الإسلام "مفارق سماوي"؛ لتناقض هذا القول "الأصولي" أو "المثالي" مع "مادية" القمني التي تقول بـ"أنه لا شيء إطلاقا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها ويتجادل معها، بل ويفرز منها حتى لو كان دينا". والذي حاول فيه (ومن خلال دراسته للأديان عموما وللإسلام خصوصا) إثبات أن "فكرة التوحيد" هي الأخرى لا تأتي من فراغ، ولا تقفز فجأة دون بنية تحتية تسمح بها؛ لأن هذا القفز الفجائي يخالف منطق التطور وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية"، حسبما تعلم "في فلسفة التاريخ وقوانين الحراك الاجتماعي".
ولاعتقاد القمني (الماركسي - المادي) أن الإسلام مجرد "إفراز" أفرزته "القواعد الماضوية" (الجاهلية). ولأنه -حسب الرؤية المادية- لا يمكن تفسير الظهور التاريخي للإسلام (كبناء فوقي) وفقا لوعي الإسلام المثبت في قرآنه، بل ينبغي تفسيره بتناقضات الحياة المادية (كبناء تحتي)؛ لذلك فقد رجع القمني في دراساته عشرات الأعوام في عمق الحقبة الجاهلية؛ لينقب في وقائعها عن جذور "جاهلية" لمثلث (الرسول - الرسالة - الدولة).
ولكن ليقين القمني أن اللحظة التطورية (الاقتصادية - الاجتماعية) في الزمن الجاهلي لحظة بدائية أو بدوية لن تسعفه وقائعها في "جهلنة" المثلث الإسلامي، خصوصا أن هذه الوقائع -في رأيه- قد تم "أسطرتها" بزيادة هائلة ومكثفة "عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين"، فلم يبدأ القمني دراسته للقواعد الماضوية بنقد الوقائع المدونة في سجلات الإخباريين لتخليصها من النسبة الأسطورية "الهائلة والمكثفة" في معلوماتها. وإنما -وعن قصد- تخلى عن عقله النقدي، وتجنب الوقائع العقلانية في السجلات التراثية. وذلك ليوسع رقعة "الأسطرة" كضرورة أيديولوجية وليست علمية تمكنه من تفكيك المثلث الإسلامي وإعادة ترتيبه ليكون الإسلام (الرسالة) مجرد "إفراز" أرضي وليس وحيا سماويّا.
تحت ضغط هذه الغاية اعتمد الدكتور ما أسماه بـ"المعطى الجاهز له من أهل التاريخ" عن الصراع الهاشمي الأموي قبل البعثة الإسلامية. ورغم أن سبب هذا الصراع كما سجله الطبري (مرجع القمني) أن هاشم بن عبد مناف أطعم قومه الثريد "فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف -وكان ذا مال- فتكلف أن يصنع صنيع (عمه) هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب (أمية) ونال من هاشم". ورغم أن أغلب الكتب التراثية التي روت واقعة الصراع قدمت معلومات تشكك في حقيقته، منها أن "هاشم توأم عبد شمس"، و"كان لهاشم يوم مات خمس وعشرون سنة". أي وكان لعبد شمس يوم مات "توأمه" خمس وعشرون سنة. وهي معلومة -كما نرى- تثير تساؤل: كم كان سن أمية يوم مات عمه أخو أبيه وتوأمه؟ (خمس سنوات أو حتى عشرة). بل ورغم أن ابن إسحاق وابن هشام وابن سيد الناس وابن كثير سكتوا عن مجرد الإشارة إلى هذا الصراع في مؤلفاتهم التي تصنف ككتب "أصول". فقد تجاهل القمني كل ما سبق حتى لا يشك في تاريخية هذا الصراع الذي انتقاه ليكون "القاعدة الماضوية" والمحرك للمجتمع المكي على جسر "الدين" نحو "الدولة".
وبدون دخول في تفاصيل كثيرة. أو تعليق على عشرات الأخطاء "الطلابية" التي امتلأت بها معالجة القمني لمراحل وتطور هذا الصراع؛ فالذي يجب رصده أن "الحزب الهاشمي" في بدايات تأسيسه لم يكن فاعلا بشكل جذري؛ لأنه -في أهدافه (سواء في زمن قيادة هاشم أو في زمن قيادة شقيقه المطلب)- كان ملتزما بخط "قصي" (الجد). ويكاد يدور في دائرته؛ لذلك كان الصراع يحل سلميّا "حرصا على المصالح التجارية وما سبق أن حققه عمه "المطلب" الذي "رحل تاركا له استكمال المهمة الجليلة". فقد نقل الصراع مع أبناء عمومته (الحزب الأموي) من المناوشات المحدودة إلى المواجهة الشاملة. وبتعبير القمني "من التكتيك إلى الأيديولوجيا".
ولأن عبد المطلب -كما يقول القمني- تربى في يثرب "حيث كان كل التاريخ الديني
يتواتر هناك في مقدسات اليهود"، وحيث كانت حكايات اليهود "عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها النبي داود". فقد أتى من يثرب إلى مكة بالمشروع الإسرائيلي (اليهودي) بمثلثه (العرقي - الديني - السياسي) ليهتدي به في "مهمته الجليلة" بـ"وضع أيديولوجيا متكاملة لتحقيق أهداف حزبه الهاشمي".(39/212)
أولا: أرجع النسب العربي من نسب أسلاف القبائل المتفرقة إلى التوحد في "سلسلة النسب الإسرائيلية". وأعلن "أن العرب جميعا وقريشا خصوصا يعودون بجذورهم إلى نسب واحد، فهم برغم تحزبهم وتفرقهم أبناء لإسماعيل بن إبراهيم".
ثانيا: بعد "قراءة" للواقع العربي المتشرذم تمكن عبد المطلب من "تحديد الداء (المكي - العربي) ووصف الدواء. والداء فرقة قبلية عشائرية. والأسباب تعدد الأرباب وتماثيل الشفعاء."ومن هنا انطلق عبد المطلب يضع أسس فهم جديد للاعتقاد" و"انطلق يؤسس دينا جديدا يجمع القلوب عند إله واحد".
ثالثا: وبإزالته أسباب "الفرقة القبلية" لم يكتف عبد المطلب -في رأي القمني- بتبشير قومه بـ"إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة تكون نواتها ومركزها مكة تحديدا". لكنه عمل أيضا على ملء المساحة الفاصلة بين نقطة الوسيلة (الدين) ونقطة الغاية (الدولة) بحركة جماهيرية تكون بمثابة الجناح الديني للحزب الهاشمي. وهو ما حدث فعلا في رأي القمني "فقد آتت مخططات عبد المطلب ثمارها واتبعه كثيرون" كوّنوا حركة الحنفاء "حتى شكلوا تيارا قويّا، خاصة قبل ظهور الإسلام بفترة وجيزة". وكان عبد المطلب هو "أستاذ الحنيفية الأول" و"الرجل الأول" في هذا التيار.
رابعا: ولأن المشروع الإسرائيلي هو المرجع، ودولته "التي أنشأها النبي والملك داود" هي النموذج، ولأن عبد المطلب التزم في "استكماله للمهمة" وفي "وضعه للأيديولوجيا" الهاشمية بخطوط التجربة الإسرائيلية. فقد انتهى إلى "أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة (العربية) المرتقبة نبيّا مثل داود".
خامسا: بالوصول إلى حل "النبي الملك" أو "الملك النبي" كحل سبق تجريبه، وحقق توحيد "أسباط" اليهود في "دولتهم الغابرة". وليبقى أمر التنفيذ -كما في أمر التخطيط- محصورا في البيت الهاشمي. فقد ذهب د. القمني إلى أن عبد المطلب زعيم قريش وقائد الحزب الهاشمي سلّم عقله ويداه لـ"الحبر اليهودي" ليشاهد ويشهد "أن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة". وليرشده (بعد قراءة الكف) بحتمية زواجه من بني زهرة "لأن فيهم الملك والنبوة". وسارع عبد المطلب بالزواج -هو وابنه عبد الله- من بني زهرة في ليلة واحدة.
بالتحول "الانقلابي" و"الثوري" للصراع الهاشمي الأموي من صراع ساذج على "إطعام قريش الثريد" -كما في الخبر التراثي- إلى صراع حضاري غير مسبوق في التاريخ. وبوضعه لـ"الأيديولوجيا" الهاشمية استطاع عبد المطلب "ذاك العبقري الفذ" أن يغير -بجذرية- ليس فقط الواقع العربي الجاهلي. وإنما أيضا كل المستقبل الإنساني بدوره "التأسيسي" للدين (الحنيفية - الإسلام) وللدولة (العربية - الإسلامية) ولنبوة حفيده محمد !!
نعم في توثيقه لدور عبد المطلب "التأسيسي" للدين "التوحيدي" قطع القمني بأن ما ذهب إليه هو نفس ما يؤكده ابن كثير بما رواه عن عبد الله بن عباس عن "ديانة أبي طالب بن عبد المطلب: هو على ملة الأشياخ. هو على ملة عبد المطلب". وبالرجوع إلى مرجع القمني ("البداية والنهاية" - جـ 3 - 170) وجدنا ابن كثير في فصل "وفاة أبي طالب" وفي تعليقه على آية (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) يروي عن عبد الله بن عباس "أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول: لا إله إلا الله. فأبى أبو طالب أن يقولها. وقال: هو على ملة الأشياخ.. هو على ملة عبد المطلب".
ومن سياق ما رواه ابن كثير (وأخفاه القمني بقصد) نفهم أن الحفيد (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب) روى أن عمه (أبو طالب) رفض أن يقول "لا إله إلا لله". وتمسك (ضد هذا القول التوحيدي) بملة الأشياخ (آباء البيت - الحزب الهاشمي). وتحديدا بملة عبد المطلب التي حسب ظاهر وباطن السياق لا تقول (أي لا تؤمن) بلا إله إلا الله. ورواية الحفيد (ابن عباس) استشهد بها ابن كثير لتأكيد موقفه الذي سجله في أكثر من موضع في كتابه من أن "عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية" (ج2 ص 285).
ونضيف أن ما فعله القمني من تحريف لما رواه ابن كثير كرّر فعله مع ما نقله عن "السيرة الحلبية" (جـ1 ص73) في توثيقه لما أسماه بـ"علم عبد المطلب اليقيني بنبوة حفيده محمد" وسعيه لتحقيق هذا "اليقين" على أرض الواقع بالزواج من بني زهرة. وأيضا هذا التحريف هو ما فعله مع ما نقله عن كتاب "طوالع البعثة المحمدية" (للعقاد) في توثيقه لشرط "توحيد الأرباب" في أنه كمقدمة لازمة لـ"توحيد القبائل" في دولة، ولشرط "أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيّا مثل داود".
وكل هذه الوقائع (وهي قليل جدّا من كثير جدّا) تؤكد تدخل القمني في نصوص مراجعه "ليجبرها" (بالتحريف والتحوير) على تمكينه (كماركسي - مادي) من تخييل عبد المطلب ليس فقط كقائد لـ"الحزب الهاشمي" في صراعه (الأسطوري) مع "الحزب الأموي". إنما -أيضا والأهم- لتخييله "كمؤسس" للدين (الحنيفية - الإسلام) وللدولة (العربية - الإسلام). وكل هذا لحصر دور حفيده محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في دائرة "التنفيذ".(39/213)
هنا نود لفت نظر القارئ إلى سكوت القمني عن تناول -أو حتى الإشارة إلى- المساحة الزمنية الفاصلة بين انتهاء التخطيط لمثلث (الدين - الرسول - الدولة) في حياة (الجد) عبد المطلب وبين بداية التنفيذ بإعلان (الحفيد) محمد نبوته. فالمعروف أن عبد المطلب مات ومحمد في الثامنة من عمره، ومحمد أعلن نبوته في سن الأربعين، أي أن المساحة الزمنية الفاصلة بين التخطيط والتنفيذ تزيد على الثلاثين سنة، وطول هذه الفترة يستنفر في عقولنا السؤال الطبيعي عن مدى فاعلية أداء "الحزب الهاشمي" أثناءها؟ وهل تلقف راية "الحزب" أحد أبناء عبد المطلب لاستكمال الكيان التنظيمي والأيديولوجي؟ أم أن عبد المطلب استكمل كل شيء؟ وهذا كان يوجب على د. القمني أن يشغل عقله بالسؤال عن الموانع التي منعت عبد المطلب من تنفيذ ما خطط له؟ أو بالسؤال عن أسباب زهد أبناء عبد المطلب في نيل شرف تنفيذ خطة "الحزب الهاشمي"؟ وهل مرور هذه الفترة الطويلة جدّا كان نتيجة فراغ قيادي؟ أم كان نتيجة تمرد أبناء عبد المطلب على "دينه" الذي "أسسه"؟ أم أنه حسب "الخطة المرسومة والمدروسة والمنظمة" كان كمونًا تكتيكيًا معلومًا ومتفقًا عليه بين قيادة وقاعدة "الحزب الهاشمي" إلى حين تهيئة الحفيد (محمد) لـ"الداودية" (النبي - الملك).
وأستطيع القول: إن هذا هو ما حاول القمني طرحه ليس كغرض وإنما كحقيقة موثقة. فالثابت في دراسات القمني أنه كما اعتمد الجد (عبد المطلب) على التجربة الإسرائيلية (العرقية - الدينية - السياسية) في تأسيسه للدين وللدولة وفي ترويجه لنبوة حفيده. فالحفيد (محمد) في تنفيذه لـ"خطة" جده تخفف من العبء الأخلاقي. فأولا: ولتحقيق الأمان المالي تزوج "الأرملة الثرية" خديجة بنت خويلد بعد خداع والدها وتغييبه عن الوعي (بالخمر) لانتزاع موافقته التي تنكر لها بمجرد استيقاظه. ووصل الأمر بالأب إلى حد التظاهر ضد هذا الزواج في شوارع مكة. ولتأكيد هذا الخداع أشار القمني وبكل ثقة إلى نقله لهذه المعلومة عن ابن كثير.
وبالرجوع إلى مرجع القمني وجدناها بنصها في كتاب "البداية والنهاية" جـ2 - ص 229). ولكن وجدنا أيضا (وأخفاه د. القمني بقصد) أنها رواية ضمن روايات "جمعها" ابن كثير ليرجح عليها رواية أخيرة هذا نصها "قال المؤملي: المجتمع عليه أن عم خديجة عمرو بن أسد (وليس والدها) هو الذي زوجها محمدا. وهذا -في رأي ابن كثير- هو الذي رجحه السهيلي وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد مات قبل (حرب) الفجار، أي قبل زواج محمدمن خديجة بخمس سنوات.
وثانيا: والمهم عند القمني- أنه بعد تحقيق الأمان المالي بدأ الحفيد (محمد) "يتابع خطوات جده" لتحقيق النبوة بالوحي. وهي خطوات قادته إلى سرقة أشعار أمية بن أبي الصلت. وادعاء أنها وحي الله إليه. وبقصد وليوهم د. القمني القارئ بأن ما قاله عن المصدر الشعري (الجاهلي) للقرآن ليس رأيا تفرد به، فقد أكد أن ما قاله كان نقلا عن عالم مشهود له بالموضوعية والدقة هو د. جواد علي. وبالرجوع إلى موسوعة د. جواد "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (جـ6 من ص 490 حتى ص 498) اكتشفنا أن د. القمني قام بتحريف أقوال د. جواد ليجبره على أن يقول بما ختم به القمني دراساته.
"لعبت هاشم بالملك فلا … …ملك جاء ولا وحي نزل"
وهذه جزئية تناولتها بإسهاب وتفصيل في كتابين: الأول بعنوان "مركسة الإسلام" والثاني بعنوان "مركسة التاريخ النبوي" (صدر في سلسلة "التنوير الإسلامي").
وما أوردته فيها من أدلة موثقة على تعمد القمني الكذب ليتمكن من إرجاع مثلث (الإسلام - الرسول - الرسالة) إلى منابع جاهلية ويهودية. يغنيني -الآن- عن الإطالة ويغريني بالتوسع في دراسة موقف د. القمني من القرآن (مصدره -جمعه وتدوينه- وعملية التعامل مع نصوصه). وهذا ما أحاوله الآن " . انتهى مقال الأستاذ منصور أبو شافعي .
* وللدكتور عمر كامل كتاب في الرد على القمني بعنوان " الآيات البينات لما في أساطير القمني من الضلالات " .
قال فيه ( ص 61 و 383-391) - ملخصًا أفكار القمني - : " لقد وَلِهَ "سيد القمني" بكتابات المستشرقين والعلماء الغربيين، ولعله نوع من العقد النفسية التي تلازم المنبهرين بحضارة الغرب، وكأن مصدر الانبهار هو تطور علومهم التاريخية أو الدينية أو اللغوية، وليس العلوم الطبيعية والتكنولوجيا.
فأخذ بآراء علماء تشابهت عليهم الأمور لأسباب عديدة منها: عدم رسوخ علوم اللغات القديمة، حيث نجد أن الترجمة تختلف من شخص لآخر كتابة ولفظاً.
ثم إن علم الحفريات لم ينته بعد، وما تزال فيه فجوات كبيرة، فمن الخطأ الجزم به لا سيما إذا كان الأمر على قدر كبير من الخطورة وهو ادعاء أن تعدد الآلهة هو الأصل !!
إن الرسالات السماوية تؤكد أن الأصل هو التوحيد، وعندما يحث الانحراف يبعث الله رسولاً ليصحح ما فسد من عقائد الناس.(39/214)
وإن المطلع على كتابي: "مفهوم الألوهية في الذهن العربي القديم" و"تاريخ الله" للكاتب "جورجي كنعان" يكتشف الكثير من الأخطاء والمغالطات التي وردت في ثنايا دراسات الغربيين، وهي التي اعتمد عليها "سيد القمني" في صدامه مع القرآن وعقيدة التوحيد. ولكن لا غرو فـ"كل فرنجي برنجي"!
وهذا موجز لما في كتب القمني :
1-كتاب قصة الخلق :
- قوله: فعندما كان المجتمع في الابتداء مشاعاً كان أرباب السماء في متعة الشيوع تمرح، وعندما تم تقسيم العمل على الأرض تحول مجتمع السماء إلى آلهة شغيلة، وآلهة للتفكير والتدبير، وعندما تمكن الإنسان من الابتكار وصنع الجديد تمكنت آلهة السماء من الخلق والتكوين!!
- قوله: الأمر ]كن[.. لم يعد الآن مجدياً بعد أن وجد الكون فعلاً بالطريقة اليدوية التصنيعية!!
- تجرؤه وسوء حديثه وقبح عبارته مع الأنبياء حيث قال عن نبي الله يوسف عليه السلام : أما مصدر شهرة يوسف فهو أنه كان جميلاً فتاناً!! والثاني: أنه كان كثير الأحلام !! والثالث: أنه كان مفسراً أيضاً للأحلام".
- وقوله: عن نبي الله موسى عليه السلام: قُدِّر لهذا النبي أن يكون صاحب مغامرات كبرى وشهيرة.. ألقته أُمه في اليم، لكن "أقدرا الميلودراما" !! ساقته إلى قصر الفرعون.. لكنه كان يعرف أصله العرقي مما دفعه للانتصار لأحد اليهود من بني جلدته فقتل بسبب انتصاره لعصبيته مصرياً دون أن يتحقق حتى من موضع الحق.. ولما طلبه القانون للقصاص هرب وهناك قابله رب اليهود ليقود شعبه المختار!!
- رفضه مُلك نبي الله سليمان عليه السلام ودليله المزعوم: أنه لم يكتشف نص واحد إلى الآن يشير من بعيد أو قريب إلى مُلك باسم سليمان أو داود.. وهو أمر غريب بالقياس إلى ما ادعته التوراة عن شهرة المملكة السليمانية وبالتالي فهو يغمز القرآن لأنه أشار لملك سليمان وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم
2-كتاب الأسطورة والتراث :
- حزنه العميق للتوجهات الإعلامية الرسمية وسعيها الدؤوب لوضع الدين على قمة الهرم الفكري، لخوفه من أن يظهر الدين وحده، والإسلام تحديداً كما لو كان هو كل تراث أمة العرب.
- غمزه ولمزه في سيده، ترجمان القرآن في عصرنا وحامل لواء تقديمه للناس، فيصفه: بالمتعالم التلفازي، وبأنه يحيل شبابنا بعيداً عن كتب الكيمياء والفيزياء والاجتماع والتاريخ والسياسة... الخ، إلى كتاب الله وحده!!
- زعمه أن إبليس كان ملاكاً عاصياً وينقم على المفسرين أن يجعلوا إبليس من "الإبلاس" كل ذلك بسبب لهثه وراء مراجع ملئت بالخرافات فيلعق منها ما وافق قصده الخبيث.
- نقمه على الإسلام إفراد الله تعالى بالعبادة وحده فيقول: ولم تنته عبادة الأنثى إلا في بيئة رعوية مائة بالمائة، ذكرية مائة بالمائة، أقصد في الدين الإسلام الذي تحول بالعبادة عن الأنثى نهائياً.
- زعمه أن وقفة عرفات لممارسة الجنس !! وليست للعبادة واسمع لقوله: "عُرف الجبل باسم عرفة لأن "آدم" عرف أو جامع "حواء" عليه، ومن هنا تقدس الوقوف بعرفة، وكان الوقوف بعرفة من أهم مناسك الحج الجاهلي، فكانوا يتجهون إلى هناك زرافات ذكوراً وإناثاً يبيتون ليلتهم حتى يطلع عليهم النهار. وإن العقل ليتساءل أمام مشهد ألوف الرجال والنساء يتجهون إلى الجبل ليبيتوا هناك جميعاً حتى الصباح؛ ما وجه القدسية في هذا الطقس؟ إن لم يكن من قبل ذلك تجمعاً لممارسة طقس الجنس الجماعي طلباً للغيث والخصب ولا نعرف جبلاً يجمع اسمه إلا "عرفات"؟! فهل الجمع هنا للجبل أم للمجتمعين على الجبل في حالة جماع أو عرفات يماثلون به الفعل الأول الذي قام به "إساف" عندما عرف "نائلة" أو "آدم" عندما ضاجع "حواء" !!
- ثم يضيف: "وطقس عجيب آخر هو الاحتكاك بالحجر الأسود، وأن كلمة "حج" مأخوذة أصلاً من فعل الاحتكاك، فهي في أصلها من "ح ك" مع الأخذ بالاعتبار "هيئة الحجر الأسود وشكله"!!
- ويضيف: "وما لزوم طقس حلق الشعر -وبالذات عند المروة- الذي لا يمكن فهمه بالمرة إلا في ضوء طقوس الخصب الجنسية القديمة والذي كان بديلاً عن الجنس الجماعي.. والحلق هو المستدير في الشيء وهو رمز جنسي واضح.
- زعمه وجود التضارب والتناقض بين كثير من الآيات !! فيقول: والمعلوم أنه عندما جمع المصحف "زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه" تم جمع كثير من الآيات المنسوخة وهو الواقع الذي أدى إلى ظهور كثير من الآيات بمظهر التضارب والتناقض.
- زعمهم ممالأة القرآن لليهود قبل وصول صلى الله عليه وسلم للمدينة.. وأن صلى الله عليه وسلم اشترع للمسلمين صوم يوم الغفران اليهودي، والتوجه في الصلاة وجهة اليهود.
3-كتاب رب الزمان :
- زعمه أن المأثور الإسلامي كان دوماً إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة متجاهلاً بل متعامياً أن القرآن الكريم لعن اليهود واتهمهم بتحريف التوراة، وقتلهم الأنبياء بغير حق .. الخ .
- تمجيده للفرعوينة، وزعمه أن اليهودية كدين ليس فيه إيمان بالبعث والحساب .(39/215)
- نفيه الصريح للنبوة والأنبياء حين يزعم: أن التاريخ كعلم؛ لا يعرف في وثائقه المدونة ولا في حفائره الأركيولوجية على الإطلاق شخصاً باسم يوسف، ولا جماعة باسم الأسباط، ولا صديقاً للإله باسم إبراهيم، ولا نبياً باسم موسى، ولا عظيماً باسم داود، ولا حكيماً حاز على شهرة فلكية مُلِّك على مملكة أسطورية باسم سليمان.
- ويواصل نفث سمومه فيزعم أن التاريخ كعلم لم يسمع أبداً ولم يسجل في مدونات مصر، ولا في مدونات الدول المجاورة مصر، ولا في مدونات الدول المجاروة خبر جيش الدولة العظمى، وهو يغرق في بحر تفلقه عصا !
- كذبه وادعاؤه على موسى أنه الذي أخذ آل فرعون بالسنين .
- تكذيبه للقرآن وللأحاديث الصحيحة في أن ملك سليمان لم يؤته أحد من العالمين ويقول: "إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث، أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهينات" !
- وصفه للأمة المسلمة بأنها أغرب أمة أُخرجت للناس!! وسبب اتهامه ذلك الرؤيا الإستاتيكية !! فهو برؤيته الإستاتيكية هذه يتهم الأمة بأنها تخلط التراث بمسلمات ما أنزل الله بها من سلطان بالحكى الشعبي، بالتاريخ الحقيقي، مع تزييف نموذجي ليلتقي بالمأثور الديني.
- الكذاب!! يريد أن يخرج من دائرة الإيمان والكفر إلى قضاء أوسع لا يظله إلا مناخ علمي حر تماماً، بالطبع لأنه يرى في الإيمان تقييداً لحريته العبثية فهو يريد أن ينفلت من دين الله، بدليل أنه يرفض أن يظل أسيراً لتواتر الوحي القرآني والإسلام.
- يُريد أن يُبقي الآيات القرآنية حبيسة الوقائع التاريخية لأسباب النزول فقط؛ وبالطبع انتهت هذه الأسباب الآن فلا دور إذن للقرآن بيننا الآن؟!
- زعمه أن الدين الإسلامي أعاد المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، يمركز الشر كله حولها، فهي شيطان غواية لأنها رفيق إبليس، ويسخر من أحاديث صلى الله عليه وسلم بأنها خلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين، وما خلت برجل إلا كان الشيطان ثالثهما؛ والرد على هذه الترهات وبيان كذبه وجهله بأحكام الدين، ووصاية صلى الله عليه وسلم بالنساء.
4-كتاب النبي إبراهيم والتاريخ المجهول :
- إنكاره للدين وأنه منزل من عند الله رب العالمين وادعاؤه أن : "الأديان الكبرى الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، أفرزتها المواطن السامية شرقي المتوسط " .
- إنكاره زيارة نبي الله إبراهيم لجزيرة العرب، ونفيه لأي علاقة بين الخليل إبراهيم والإسلام، وثقته في التوراة الموجودة الآن أكثر من ثقته في القرآن والدليل أنه يستدرك بها على القرآن.
- معاودة إنكاره للنبي إبراهيم عليه السلام جرياً وراء أسياده المستشرقين، وعلى أساس أنه لم يُعثر في آثار وادي النيل، أو آثار وادي الرافدين له على أثر !!
- اتهامه للنبي r بالكذب في نسبت صلى الله عليه وسلم للنبي إبراهيم عليه السلام وزعمه أن ذلك كان لتأليف قلوب اليهود، فلما فشل النبي في ذلك -بزعمه- أخذه من الجميع عنوة واقتدارا، وزعم أنه جده البعيد، وجد جميع العرب المسلمين ومؤسس العقيدة الإسلامية !
- اتهامه -كذباً وجهلاً بحقائق الأمور وتدليساً على القارئ- للمؤرخين الإسلاميين بأنهم استقوا معلومات هائلة، كما وكيفاً من التوراة الموجودة الآن، وأصبحت هذه التفاصيل مرجعاً إسلامياً.
- تكذيبه للقرآن في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، وإنكاره أصلاً لوجود ذلك النمرود ؛ وزعمه أن هذا الاسم لم يعرف إلا في بداية العصور الإسلامية.
- تأويله الخاطئ المبني على قصور في الفهم نتيجة للجهل بالحديث الشريف الذي ورد في أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وهما صحيحا البخاري ومسلم بحق خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام بخصوص: الثلاث كذبات.
- اعتباره القرآن الكريم والأحاديث النبوية مأثوراً شعبياً، واتهامه زوراً كعب الأحبار بأنه دس أحاديث الأنهار التي في الجنة والتي وردت في صحيحي البخاري ومسلم، وذلك تعصباً لجنسه فهو عبراني يهودي، كما يقول مؤلف الشؤم هذا.
- تخبطه الشديد في أنساب العرب حتى زعم أن العدنانيين ليسوا عرباً أصلاً. وبذلك ينفي هذا الدعي الجاهل نسب صلى الله عليه وسلم للعرب، ولا ندري ما السبب في ذلك؟ فلم تفصح عنه نفس خبيثة منهم حتى الآن، وليس ببعيد أن ينسبوا صلى الله عليه وسلم إلى الإسرائيليين في يوم ما. ربما يمهدون بهذا الهراء؛ لذلك، فاعلم أيها الرويبضة -أنت ومن على شاكلتك- أن نسب صلى الله عليه وسلم الشريف إلى عدنان. متفق عليه بين كل النسابين ولا شبهة غبار عليه، ولعنه الله على الجاحدين.(39/216)
- وفي قاصمة - قصم الله ظهره- يفْجُرُ على نبي الله، وخليل الرحمن الذي جعله الله تعالى أمة وحده، فيقول: "وعندما يترك الابن الضال بيت أبيه، يخسر كل ما يعطي الحياة قيمة حقيقية، وينحط إلى مستوى الخنازير، ولو شعر في بداءة الأمر بنشوة السرور الوقتي للحصول على الشهوة المشتهاة، إن سقطة إبراهيم في مصر تعطينا صورة عن طبيعته الأصيلة التي لم تكن نبيلة بأي حال من الأحوال، فإبراهيم بطبيعته الأصيلة لم يكن يسمو كثيراً عن سائر بني المشرق، الذي لا يترددون عن الكذب لكسب خير، أو دفع ضر" !!
- زعمه أن كلمة "آمين" التي يُؤَمِّن بها المصلي خلف الإمام أن أصلها يرجع إلى الواحد الخفي -هل تعرفون من هو ذلك الله الخفي؟ - إنه يزعم أنه الإله المصري القديم "آمون" والذي حُرف وأصبح "آمين"!!
5-كتاب الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية :
- يلف ويدور حول أن أجداد صلى الله عليه وسلم يحاولون تأسيس دولة في شبه الجزيرة وإن كانوا عجزوا عنها فسوف يحقق هذا الحلم حفيدهم محمد!!
- غمزه ولمزه لزواج صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها.
- اتهامه صلى الله عليه وسلم أنه ألب العبيد على أسيادهم ووعدهم بكنوز كسرى وقيصر، وأن عتقه لعبده زيد بن حارثة ثم تبنيه؛ أعطى للدهماء من الأعراب أملاً عظيماً متجاهلاً أن القرآن الكريم هو الذي قال: ]ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله[.
- غمزه للأنصار واتهامهم بالانتهازية في إرسالهم الوفود للنبي r ومبايعته .
- اتهامه للنبي r بمصانعة اليهود حتى تحين له الفرصة ليتخلص منهم .
- إفصاحه عن خبيئة نفسه الخسيسة بقوله: "أما المهمة الجليلة والعظيمة فكانت قيام صلى الله عليه وسلم بإنشاء نواة لدولة عربية إسلامية في الجزيرة محققاً نبوءة جده: إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء " .
6-كتاب حروب دولة الرسو صلى الله عليه وسلم :
الجزء الأول :
- اتهامه للنبي r بأنه تحول إلى جهة أخرى مرحلية على خطوات الطريق الاستراتيجي الطويل، تحول بموجبها نحو المستضعفين وهم دوماً مادة الحروب لمصالح الطبقات المسيطرة، ومادة الانتقال الثوري لمصالح طبقة غيرهم، والمعُدَمين والعبيد يدعوهم إلى النسب وامتلاك كنوز كسرى وقيصر.
- ويواصل مفترياته على صلى الله عليه وسلم فيقول: وتبع تلك الخطوة خطوات متتابعات سريعة فتم تكثيف الهجوم المباشر على الأثرياء وتوعدهم بسوء المآل... ثم يعدد كل مآثر الإسلام ونصرته للحق وللضعيف ووقوفه في وجه الظالم وأكل أموال الناس بالباطل على أنها خطة من صلى الله عليه وسلم في سبيل تدعيم مملكته الجديدة.
- تصويره لبيعة العقبة الأولى والثانية على أنهما لقاء بين صلى الله عليه وسلم وأخواله اليثاربة لينتقل إلى حمى جديد يرفع الضغط عن أعمامه.
- اتهامه للجماعة الإسلامية كلها أنها تحولت إلى دولة محاربة هجومية دولة عسكر ومغانم متكاملة كالقبيلة تماماً، واتهامه للنبي r بأن تأجيله لوعده بالرخاء والنعمة إلى الآجل في رغد الجنة بأنه كان تأجيلاً ميتافيزيقياً لحل قضيتهم.
- محاولة غمزه للنبي r بالكذب عندما قال للأعرابي: "نحن من ماء" .
- غمزه للمسلمين بحبهم للحرب والدماء، ومدحه لقريش ووصفها بأنها مُحبة للسلم.
- اتهامه للنبي r بأن له خبيئة نفس والطعن في شرفه وذمته فيقول - قبحه الله - : "...والقول الشريف هنا يُفصح عن خبيئة نفس المصطفى عليه الصلاة والسلام لأهله وبلده، وعن التناقض الآتي الذي سيفصح عن نفسه في أواخر الحياة النبوية المشرفة..." .
- اتهامه دون دليل للمسلمين بقتل الأسرى في بدر.
- زعمه أن جيش المسلمين في بدر كان كله من الشباب، وجيش قريش كان من الشيوخ والأشراف، لذا كانت الهزيمة لهم والانتصار للمسلمين.
- ادعاؤه إلغاء "المؤاخاة" وظهور طبقة برجوازية بعد غزوة بدر.
- إشادته بأخيه عبدالله بن أُبي ابن سلول ووصفه بالحنكة العسكرية وتندره على التاريخ الإسلامي حين يضع ابن أُبي كرأس للمنافقين.
الجزء الثاني :
- زعمه أن الحروب الإسلامية كانت بدافع المغانم، وأنها كانت هي الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة المعدمين وانخراطهم مع العصبية الإسلامية.
- اتهامه لآيات القرآن وسوره؛ بأنها سايرت الواقع وهادنت الأثرياء، وهدأ تنديدها بهم، مع إهمالها لقضايا المستضعفين بعد أن كانوا مادة الحركة ووقود حروبها.
- غمزه لفريضة الزكاة، والصدقة، واتهامهما بغسل الأموال التي استولى عليها المسلمون بالغزو في زعمه.(39/217)
- اتهامه للدولة الجديدة بزعمه والتي ظل يدندن حولها وكيف أفلح صلى الله عليه وسلم فيما أخفق فيه أجداده، بأنها دولة تحوي كل النقائض، وأنها اعترفت بمقدسات القرشيين والتي كانت تعد وثنيات، وتقديس شعائر الوثنيين، وتكريس المقامات، وضرورة أن يكون للدولة معبد بعد أن تراجعت عن القدس "أورشليم"، وأن يكون هذا المعبد معبد قريش قبيلة الرسول في المقام الأول، وسدنته الهاشميون آل البيت. تدليس وكذب وافتراء، كل ذلك بسبب إنكاره للحج في الإسلام واعتباره شعيرة من شعائر الوثنية " . انتهى كلام الدكتور عمر كامل .
- للشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - تعقب على دراساته التاريخية . ( انظر : مجلة العرب ، جمادى الأولى والثانية 1415هـ ) .
يُضاف على ما سبق :
* سخريته في كتابه " الفاشيون والوطن " ( ص 97 وما بعدها ) من بعض الأحاديث النبوية ؛ كحديث قطع المرأة للصلاة وغيره .
* هجومه على الصحابة - رضي الله عنهم - ؛ كعثمان وعمرو بن العاص ، في كتابه " عفاريت التراث " ( ص 62 ومابعدها ) ، وادعائه أن فتوحاتهم كانت لمجرد المال !
- إنكاره لعقوبة الرجم ، في كتابه السابق ( ص 547ومابعدها ) . وقوله عنها في كتابه " أهل الدين والديمقراطية " ( ص 309) : " فقهاء الإسلام طبقوا التوراة بدل القرآن في حد الرجم فلا وجود لحد الرجم في القرآن " .
* طعنه في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بأنه مستبد ومتسلط وظالم بسبب قتاله لأهل الردة ! ( انظر كتابه : شكرًا ابن لادن ، 100) .
* قوله في كتابه السابق ( ص 107 ) عن سياسات أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أنها " كانت كلها صراعًا على الدنيا " ! ولا أدري لماذا لم يذكر عليًا - رضي الله عنه - معهم !!
- قوله في كتابه " أهل الدين والديمقراطية " ( ص 319 ) : " أما مفهوم الجهاد فهو مفهوم طائفي عنصري، يقصي من العمل الوطني كل أبناء الوطن من غير المسلمين، ويدافع من أجل الله ومقدساته قبل وطنه ويؤدي إلى نفور الضمير الدولي الذي تجاوز العنصرية والطائفية " .
- أخيرًا : من الطريف أن هذا الماركسي عندما رأى سقوط وتهافت الماركسية في هذا الزمن تحول - كغيره من المرتزقة - 180 درجة إلى الضفة الأخرى بادعاء الليبرالية !! ، يقول : " تبنيت الطرح القومي مع موقفي النقدي من الإسلام والخطاب الإسلامي حتى حدث احتلال الكويت وما تلاه، لأهتم قليلاً بالقراءة السياسية حيث اهتزت قناعتي القومية أو بالتحديد العروبية المصبوغة بنماذج كالناصرية، لأتحول إلى الليبرالية مبدأ وعقيدة كنموذج أمثل لخلاص الوطن " !
==============(39/218)
(39/219)
الحزب الديمقراطي الكردستاني
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
الحزب الديمقراطي الكردستاني حزب (*) قومي علماني اشتراكي يدعو إلى إنشاء دولة كردية في منطقة كردستان بعد توحيدها.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• في عام 1927م توحدت جميع المنظمات الكردية في حزب (خويبون) الذي أسسه عدد من المهاجرين الأكراد المقيمين في الخارج.
• وفي العام نفسه انعقد المؤتمر الأول للحزب في مصيف بحمدون في لبنان وقد أسهم في أعمال المؤتمر زعيم من الأرمن اسمه ف.بابازيان.
• اعتمد الحزب على تأييد الدول الاستعمارية التي كانت ترى في المسألة الكردية وسيلة للضغط على تركيا (من الدول المؤيدة للأكراد انجلترا وفرنسا بشكل خاص).
• كان الحزب يخضع بشكل مباشر لنفوذ الطاشناق المؤلف من القوميين الأرمن ذوي الاتجاه الغربي، والمعادين لتركيا بشكل شديد.
• في عام 1930م قام الأكراد بثورة (*) إسلامية في تركيا في العهد الكمالي العلماني المعادي للإسلام، بقيادة الشيخ سعيد النورسي.
• في عام 1944م تأسست منظمة اسمها "كومة له زياني كورد" أي "جمعية الإحياء الكردي" في مهاباد عاصمة كردستان الإيرانية.
• في عام 1945م (15 آب) تأسس الحزب الديمقراطي الكردي أو ما يطلق عليه "البارتي" في مهاباد بإيران، متخذاً جمعية الإحياء الكردي قاعدة له.
• في 1946م (23 ديسمبر) أعلن عن تأسيس حكومة وطنية كردية ذات نظام جمهوري في كردستان إيران، برئاسة قاضي محمد، زعيم الحزب، واستمر الحكم أقل من سنة، وقضي على الجمهورية بعد معركة مع الجيش الإيراني، ذبح فيها ما يزيد على 15000 من أفراد الحزب (*) ومن الأكراد.
• وفي 31 مارس 1947م أُعدم قاضي محمد وأخوه صادر قاضي عضوي البرلمان الإيراني وابن عمه سيف قاضي وزير دفاع الجمهورية الكردية.
• مصطفى البرزاني قائد القوات المسلحة التابعة لجمهورية "مهاباد" الكردية لم يلق السلاح في المعركة، وهرب إلى العراق، إلا أن الجيش العراقي كان في انتظاره، فهرب مع 500 فرد من مقاتليه إلى تركيا، ثم عاد إلى إيران مجددًا، وبعد معركة حاسمة دخل مصطفى البرزاني وقواته الاتحاد السوفيتي ولم يعودوا إلى العراق إلا بعد الثورة (*) العراقية عام 1958م. وقاد مصطفى البرزاني أخر الثورات سنة 1961م التي انتهت سنة 1975م بعد اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران.
الأفكار والمعتقدات:
• من برنامج الحزب الديمقراطي الكردي المعلن عند تأسيسه:
ـ الحرية (*) والحكم الذاتي للشعب الكردي ضمن نطاق الدولة الإيرانية.
ـ استعمال اللغة الكردية في التعليم وجعلها اللغة الرسمية في الشؤون الإدارية.
ـ تولي السلطة العليا في المنطقة الكردية.
ـ إقامة علاقات أخويه مع شعب أذربيجان في النضال المشترك جنباً إلى جنب مع بقية الأقليات القومية.
ـ تحسين الأوضاع الاقتصادية باستثمار الموارد الطبيعية في كردستان وتنمية الزراعة والتجارة وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية.
• للحزب توجه اشتراكي (*) ماركسي بالإضافة إلى التوجه القومي العرقي ويعد نضاله جزءً من نضال الحركة الديمقراطية للبروليتاريا (*) "طبقة العمال والفلاحين".
• يعلن زعماؤه دائماً عن ارتباط حزبهم برباط الصداقة مع الاتحاد السوفيتي قبل انهياره والمعسكر الاشتراكي قبل زواله.
• هذا ويمكن ملاحظة ما يلي:
ـ لم ترد كلمة الإسلام الذي هو دين (*) الأكراد في مبادئ الحزب وتوجهاته أبداً، بينما ينوِّه الحزب بالرباط المتين الذي يربطهم بالأرمن في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه، خاصة وبالأحزاب الأرمينية المتطرفة في العالم بصفة عامة.
• يستخدم الحزب (*) المصطلحات الشيوعية في كتاباته وتوجيهاته مثل، الحزب التقدمي، الطبقة العاملة، طبقة الفلاحين، الطبقة البرجوازية (*) البروليتاريا (*).. الخ.
ـ يتكلم زعماء الحزب عن الأكراد الذين يعيشون في أرمينيا ويعدونهم من البناة النشطين للمجتمع الشيوعي السوفيتي قبل انهياره، ولا يذكرونهم على أنهم ذوي قومية تطالب بالانفصال كما هو شأن الأكراد في إيران والعراق وسوريا وتركيا.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• يرجع الحزب الديمقراطي الكردستاني في أفكاره إلى الفكر القومي العرقي الذي ساد في المنطقة العربية وتركيا في بداية هذا القرن.
• ونظراً لعلمانية هذا الحزب، فإن الفكر الماركسي الشيوعي يسير جنباً إلى جنب مع الفكر القومي، كما هو الحال في الأحزاب القومية العربية مثلاً.
أماكن الانتشار:
ينتشر الحزب الديمقراطي الكردستاني في كل من إيران والعراق وتركيا وسورية.
ويتضح مما سبق:
أن الحزب الديمقراطي الكردستاني حزب قومي علماني يهدف إلى تحقيق الحرية والحكم الذاتي للشعب الكردي ضمن الدولة الإيرانية وإقامة علاقات أخوية مع شعب أذربيجان في ظل ما كان يعلنه زعماء الحزب دائماً من ارتباط حزبهم برباط الصداقة مع الاتحاد السوفيتي قبل تفككه وانهياره. ويلاحظ أن كلمة الإسلام، الذي هو دين (*) الأكراد، لم ترد ضمن مبادئ الحزب.
-----------------------------------------------------------
مراجع للتوسع:
ـ كردستان والأكراد ـ عبد الرحمن قاسملو ـ بيروت.(39/220)
ـ كردستان وطن وشعب بدون دولة ـ جواد الملا، لندن 1985م.
- Lotha r A. Hein r ich: die Ku r disch Nationlbeweyung in de r Tu r dei 1989.
=============(39/221)
(39/222)
نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي
سليمان بن صالح الخراشي
من عبد العزيز بن باز إلى حضرة الأخ الكريم الدكتور حسن الترابي وفقه الله لما فيه رضاه آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..... أما بعد :
فأشفع لمعاليكم بهذا نسخة من الرسالة الواردة إلي ممن سمى نفسه (عبد البديع صقر ) صاحب مؤسسة الإيمان، المؤرخة في 24/11/1400هـ راجيًا من معاليكم بعد الاطلاع عليها التكرم بالإفادة عن صحة ما نسب إليكم فيها من الآراء ؛ لنعرف الحقيقة والشبهة التي أوجبت لكم هذه الأقوال إن صحت نسبتها إليكم ؛لمناقشتكم فيها على ضوء الأدلة .
ونسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل
إنه خير مسؤول . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد :
فهذه نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي - هداه الله - ، الذي أثر على كثيرين من محبي الإسلام في هذا الزمان ، سواء في بلده ( السودان ) ، أو في بلاد أخرى ، فاغتروا بفكره الحركي وتناسوا لأجله جميع انحرافاته الخطيرة - كما سيأتي - ، فلم يعرجوا عليها أو يناصحوه في شأنها إلا قليل منهم لم يرضوا لأنفسهم أن يغشوا الأمة أو يغرروا بشبابها ، مجاملة له أو خشية على انقسام الحركة الإسلامية - كما يقال - .
وقد آثرت جعل هذه النظرات تعريفا للقارئ بأهم الردود التي صدرت في التنبيه على أخطاء الترابي وانحرافاته ، من خلال تهذيب المهم منها ؛ ليكون شباب الإسلام على علم بها ؛ فيتجنبوها ويرشدوا من وقع فيها ؛ ولعلها تكون موقظة لبعض الدعاة عندنا الذين سبق لهم ثناء وتزكية للترابي ! أن يراجعوا موقفهم . وهذا العمل مساهمة مني في ( تصفية ) الساحة الإسلامية في هذا الجانب ؛ تمهيدًا لعودتها - إن شاء الله - أمة متحدة ذات عقيدة واحدة .. وما ذلك على الله بعزيز . فأقول مستعينًا بالله :
تعريف بالدكتور الترابي :
وُلد د. حسن عبد الله الترابي سنة 1932 من عائلة دينية من الطبقة المتوسطة، وتتلمذ على يد والده، شيخ طريقة صوفية أقلية، فحفظ القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات، وتعلم علوم اللغة العربية والشريعة في سن مبكرة على يد والده، وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان.
تزوج الترابي من وصال الصديق المهدي شقيقة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي زعيم حزب الأمة.
تدرج في سلك التعليم حتى حصل على إجازة الحقوق من جامعة الخرطوم، ثم على الماجستير من جامعة بريطانية في 1957، ثم الدكتوراة من السوربون الباريسية في 1964، وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية مما أثر في فكره - كما سيأتي - .
وبعد عودته إلى وطنه تولى الترابي عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم .
أصبح الترابي الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامية لدى تشكيلها. وعن هذه الجبهة انبثقت جماعة الإخوان المسلمين في السودان، واعتُقل ثلاث مرات خلال السبعينيات، في ظل نظام الرئيس جعفر نميري، ومع ذلك شغل في 1979 منصب النائب العام، وأيد الترابي قرار نميري إقرار الشريعة الإسلامية في 1983، وبعد سقوط نظام نميري في 1986، شكّل الجبهة القومية الإسلامية .
انفصل الترابي عن جماعة الإخوان ، وتصاعدت الخلافات بينهم نظرًا لخروجه عن نهج الجماعة وطريقتها في الدعوة والتربية ، وانحرافاته التجديدية ! التي خرج بها عن إجماع المسلمين ؛ مما أدى بهم إلى التشهير به والرد عليه .
في يونيو 1989، تحالف الترابي مع الفريق عمر البشير، لقلب الحكومة المنبثقة عن انتخابات ديموقراطية بقيادة صهره زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، وطبع اتجاه الترابي السياسة الخارجية للسودان على خلفية دعم المدّ القومي الإسلامي؛ بهدف التحرر من الهيمنة الأميركية الصهيونية. وفي أبريل 1991، أسس المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي نُصِّب أمينًا عامًا له، ليشكل منبرًا للقضايا الإسلامية، وعقد المؤتمر الذي يضم حركات وتنظيمات إسلامية من العالم أجمع دورتين في ديسمبر 1993، وفي أبريل 1995 في الخرطوم .وفي فبراير 2000، أغلقت السلطات مقر المؤتمر.
انتُخب الترابي رئيسًا للمجلس الوطني (البرلمان) في 1996 و1998، لكن علاقاته توترت مع البشير، الذي عارض هيمنته على المؤتمر الوطني، الذي حلّ محل الجبهة القومية الإسلامية التي تم حلها في 1989، وتحول في ما بعد إلى حزب سياسي بموجب قانون التوالي السياسي، الذي أتاح تشكيل أحزاب سياسية، وبدأ العمل به مطلع 1999.
ووجه البشير الذي تتلمذ على يد الترابي ضربة قاصمة لأستاذه مع إقصائه عن رئاسة المجلس الوطني وحله في 12 ديسمبر 1999، وإعلان حال الطوارئ وتعليق بعض مواد الدستور. وجاء القرار بعد 48 ساعة من تصويت النواب على تعديلات هدفها الحد من صلاحيات رئيس الدولة.(39/223)
وفجّر القرار الصراع على السلطة بين الرجلين، وداخل المؤتمر الوطني. وبدأ العد العكسي للتحالف بين قطبي السلطة في السودان. ووافق الترابي في 23 يناير 2000 على مقترحات المصالحة والتعايش مع البشير، مكتفيًا بمهام تنظيمية داخل الحزب، بعيدًا عن مقاليد الحكم، مع اتجاه البشير للتقارب مع جيرانه العرب والأفارقة، وأبعد أنصار الترابي عن المناصب الحكومية مع تشكيل الحكومة، وتعيين حكام جدد للولايات في 24 يناير 2000.
من تآليفه :
1 - الصلاة عماد الدين .
2 ـ المشكلة الدستورية.
3 ـ الإيمان
4- المصطلحات السياسية في الإسلام.
5- ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية.
6- الصحوة الإسلامية والدولة القطرية في الوطن العربي.
7 - خصائص الحركة الإسلامية المعاصرة.
8 - تجديد أصول الفقه الإسلامي.
9- المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع .
( المرجع : مجلة المجتمع ، العدد 136 - موقع اسلام اون لاين - موقع قناة الجزيرة - مع إضافات يسيرة ) .
==================(39/224)
(39/225)
الطريق إلى خلاص المسجد الأقصى
الشيخ محمد عبدالكريم
1. كل المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يتطلعون إلى خلاص المسجد الأقصى وفلسطين من أيدي أعداء الله اليهود الغاصبين، ولكن هذه الأمنية تحتاج لتحقيقها واقعاً إلى تغيير في نفوسنا، يخلصنا أولاً من العبودية لغير الله في أي صورة من صور الشرك وعبادة غير الله. فلا بدّ من تغيير عميق للجذور, نبني به رجل العقيدة المسلم, الذي يحقق العبودية لله تعالى في نفسه ويعبِّد الآخرين لخالقهم, وبهذا الأساس الصلب سينفذ جيل النصر القادم لا محالة إلى اليهود القابعين في بيت المقدس, وبذلك الوصف سينادي الحجر والشجر جند الله المؤمنين الذين سينازلون اليهود: (يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي وارئي تعال فاقتله)، وسبيل ذلك التربية المتوازنة على العقيدة الصافية التي لا تكدرها شائبة, من خرافة ومحدثة وشبهة، العقدية التي يريدها القرآن الكريم، وتريدها السنة الصحيحة أن نعتقدها بشمولها عبادة ونكساً، وولاءً وبراءً، شريعة وحكماً، دون تجزئة , أونسيان حظ مما ذكرنا به، كما قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) .
2. السعي الدؤوب لوحدة المسلمين على كلمة سواء من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم والاعتصام بهما (واعتصموا بحل الله جميعاً ولا تفرقوا) ، وأثبت الواقع أنه لم ولن تكون القومية العربية إطاراً يحقق الوحدة لأنها بناء قائم على جرفٍ هارٍ ودعوة مالها من الله من برهان ولا نصير، في حين اثبت الإسلام صلاحيته لتوحيد شعوب مترامية المسكن, مختلفة الأجناس, صهرهم في بوتقة واحدة, وصقلهم وهذب أخلاقهم وطباعهم، وأبدع بهم حضارة حكمت الشرق والغرب، وحقق لها شعور الانتماء الواحد , أكثر من الذي يشعر به أبناء البلد الواحد, واعتبر الإسلام هذه الرابطة أقوى وشيجة بقوله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة) وقوله تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) , وبمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (أن آل أبى فلان ليسوا بأوليائي أن وليّ الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) .
إن رابطة البنوّة فَصَمَتْ بين نوح عليه السلام وابنه عندما انعدمت رابطة الإيمان (إنه ليس من أهلك أنه عملٌ غيُر صالح) , كذلك رابطة الأبوة بين إبراهيم عليه السلام وأبيه فصمت لما انعدمت رابطة العقيدة (فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه أن إبراهيم لأواه حليم) . كذلك لم ينفع أبا لهب وهو العربي القرشي رابطةُ النسب والقوم، وكان من الهالكين لكفره, لكنّ بلالاً الحبشي, وصهيباً الرومي, وسلمان الفارسي كانوا من خير أبناء هذه الأمة, وهكذا ضمّت دائرة الإسلام العرب والفرس والأكراد والترك والبربر والهنود والصين والأفارقة وغيرهم, وجعلت منهم أمة واحدة من دون الناس كما قال عليه الصلاة والسلام, فكان لهم التاريخ الواحد, والمآثر الواحدة, والأفراح والأعياد الواحدة, ولغة الدين الواحدة، وسل التاريخ ينبئك!! فها هم أولئك المماليك الذين حموْا هذه البقعة من بلاد الشام وبيت المقدس لم يكونوا من جنس العرب، وإنما كانوا من جنس التتار، ولكنهم قاتلوا حميّة للإسلام، وحمى صلاح الدين هذه البلاد من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية، وهو كردي لا عربي, ولكن حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين, وكان الإسلام في ضميره هو الذي كافح الصليبيين كما كان الإسلام في ضمير بيبرس والمظفر قطز .
لقد آن الأوان لننبذ كل تلك الطروح القومية والوطنية والاشتراكية والشيوعية والعلمانية وسواها من رايات الفشل والشقاق , ونتخذ راية الإسلام شعاراً لتوحيد الجهد والجهاد في سبيل الله (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) .
3. ما أشبه الليلة بالبارحة! فكما رزء المسلمون في القرن الخامس الهجري قبل فتح بيت المقدس بالحركات الباطنية كالعبيديين, والحشاشين, والنصيريين والدروز, فإننا اليوم مبتلون بهذه الحركات وغيرها مما لم يكن في الماضي كالقاديانية والبهائية, وإذا كان الإمامان نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي قد وفقا لإدراك خطر الدولة العبيدية على وحدة المسلمين ولم شعثهم، فإننا اليوم ينبغي أن نتصدى لهؤلاء بكل الوسائل الممكنة, ويجب أن نحذر من اعتبارهم في أي وحدة لانهم كالسوس ينخر من الداخل.(39/226)
4. إن السبيل الأوحد في إدارة الصراع مع اليهود, لإخراجهم من بيت المقدس وفلسطين هو قتالهم في سبيل الله، وإن من أعظم صور الجهاد، وأروع ضروب الاستشهاد، ما يقوم به شباب الجهاد في فلسطين من عمليات فدائية، أفزعت اخوان القردة والخنازير، وأقضّت مضاجعهم، حتى أبلغت قلوبهم حناجرهم. ولما كانت هذه العميات الجهادية تستوجب وجود عنصر بشري لإحداث التفجير، بسبب إحكم العدو للتدابير الأمنية، سواءً بتدريع جسم المجاهد بالمتفجرات، أو باقتحام الثكنات بعربة ملغّمة، أو بالسقوط عليها بطائرة مفخخة. فإن جماهير العلماء في عصرنا الحاضر قد نصوا على جواز ومشروعية هذه العمليات الفدائية، لعموم نصوص الكتاب والسنة المحرّضة على قتال الكافرين، بُغية الإثخان في أعداء الله، والانتصار للدين، ومن ذلك قول الله تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ، وقوله تعالى : (يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتلون) وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل (فيُقتلون ويَقتُلون)، وقوله سبحانه: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) ، وقوله عز وجل: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) ، ومن الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة يُحبهم الله -ذكر منهم- الرجلُ يلقى العدو في فئةٍ فينصُبُ لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه) ، وقوله صلى الله عليه وسلم (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلما سمع هيْعَةً أو فزعة طار عليه يبتغي القتلَ والموتَ مظانَّهُ) ، ولحديث الغلام في قصة أصحاب الأخدود، وذلك أنَّه علَّم ملك نجران كيف يقتله، وأنه لا سبيل لهم إلى قتله إلا بالطريقة التي دلهم عليها، فكان متسبباً في قتل نفسه، من أجل دخول دخول أهل تلك البلاد في دين الله، وكان ما أراد، حيث قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام. ومن المعلوم بداهة أن قتل الأعداء من أعظم المخاطرة، لما في ذلك من تعريض النفس للتلف..
الجود بالمال جود فيه مكرمة *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وإذا كان أكثر أهل العلم قديماً قد ذهبوا إلى مشروعية الاقتحام على العدو، والانغماس في صفوفه، مع تحقُّق الهلاك، وضعف العدة، وقلة العدد، بقصد النكاية بالعدو، وكسر عنفوانه، وفلِّ شوكته، وتوهين قناته، فإن الصورة العصرية أيضاً مشروعة لذات المقصد والغاية. قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني ـ تلميذ الإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله: "لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده فلا بأس بذلك، إذا كان يطمع في النجاة، أو نكاية في العدو. وإن كان قصده إرهاب العدو، وليعلم صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه. وإن كان فيه نفع للمسلمين فتَلِفتْ نفسه لإعزاز الدين، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى به المؤمنين بقوله تعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)" .
وصحح أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم؛ لأربعة وجوهٍ: طلب الشهادة، ووجود النكاية، وتجرئة المسلمين عليهم، وضعف نفوسهم ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع. ومن شواهد ذلك في السيرة: حمل سلمة بن الأكوع والأخرم الأسدي وأبي قتادة وحدهم رضي الله عنهم على عيينة بن حصن ومن معه، وقد أثنى صلى الله عليه وسلم فقال: (خير رَجّالتنا سلمة) . قال ابن النحاس: "وفي الحديث الصحيح الثابت أول دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده، وإن غلب علىظنه أنه يُقتل إذا كان مخلصاً في طب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي" ، ومن المشهور أيضاً فعل البراء بن مالك في معركة اليمامة، فإنه احتُمِل في ترس على الرماح، وألقوه على العدو فقاتل حتى فتح الباب، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، ومن ذلك أيضاً قصة أنس بن النضر رضي الله عنه في وقعة أحد، فقد قال: "واهاً لريح الجنة"، ثم انغمس في المشركين حتى قُتل .
ولا ريب أن البون شاسع بين من قتل نفسه جزعاً من الحياة و تخلصاً من آلامها كما في قصة قُزمان الذي نحر نفسه فاستعجل الموت ، أو ما يقع من حوادث انتحارية جراء المعيشة الضنك، وبين صورة ذلك الشاب المجاهد، الذي يقتل نفسه ليحيي أنفس الأجيال المسلمة من بعد ذلك (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) فحاشا لمثل هذه الصورة الفدائية المشرقة أن تكون مجرد حماسة فائرة، أو عزمة مفردة، أو تغريراً بأنفس متهورة في باطل فضلاً عن أن تكون انتحاراً أو قتلاً للنفس بغير حق. قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: "إن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين" ، ونقل النووي الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .(39/227)
وما دامت الجيوش الباسلة في بلاد المسلمين (مدجَّنةً) لا تحرك ساكناً إزاء غطرسة اليهود ومجازرهم، وحالها أنها (ملجّمة) من قِبل المخذِّلين والمنافقين، فلا سبيل إلى زعزعة هذا الكيان الجرثومي إلا بهاتيك العمليات الجهادية الفدائية، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أما مفاوضات الاستسلام, فإنها تزيد اليهود غطرسة وعدواناً, ولا تورثنا إلاّ ذلاً وهواناً, لأن مشكلة فلسطين والمسجد الأقصى, قضية إسلامية بحتة, وماهي بمشكلة العرب وحدهم.. أو الفلسطينيين وحدهم.. فليس من حق كائن من كان أن يساوم عليها*, فهي من شمالها إلى جنوبها بقدسها الشريف أرض إسلامية تنتظر المخلص الإسلامي المجاهد, وهذا واجب كل مسلم وهو في حق مسلمي فلسطين ومن جاورهم أوجب, وإن أخشى ما يخشى اليهود اليوم أن تستيقظ روح الإسلام في النفوس , وتنتشر روح الجهاد وحب الاستشهاد، كما صرخ طائرهم بن غوريون قائلاً: "نحن لا نخشى الاشتراكيات, ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة نحن نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً, وبدأ يتململ من جديد".
5. يجب أن ننزع من قلوبنا حب الدنيا والتهالك عليها, ونتعلق بالآخرة التي نعيمها هو النعيم السرمدي الباقي (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزينّ الذي صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون) , وها هو ذا صلاح الدين في الماضي قد شمر عن ساعد الجد وترك اللهو, وتقمص بلباس الدين, وحفظ ناموس الشرع, فحمل هموم الإسلام والمسلمين, ولم يهدأله بال, ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه, يصف صاحب كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) صلاح الدين وهو ينقل الحجارة بنفسه لعمارة سور القدس فيقول: (ولو رأيته وهو يحمل حجراً في حجره, لعلمت أن له قلباً قد حمل جبلاً في فكره)
سيُدرك النصر إن يأذن به صمد *** بعد امتحان بخير المال والولد
ودولة الظلم لن تبقي إلى أمد *** وهل تدوم ومادامت الي أحد
ستشرق الشمس لا تجزع لغيبتها *** ويبزغ الفجر فوق السهل والنجد
وترجع القدس تزهو في مآذنها *** وعد الإله الكريم المنعم الصمد
(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
===========(39/228)
(39/229)
صناعة الحدث
محمد بن شاكر الشريف
الحياة في جانبها الحركي مجموعة من الأحداث التي تصدر لتحقيق غايات أو استجابة لمؤثرات، والحدث لا بد له من ظرف أو وعاء يحدث فيه من الزمان والمكان، والحدث الإرادي من صفات الأحياء، ولا ينفك ذلك عنه، فإذا انقطع منه الحدث كان ذلك دليل موته، أو ضعف حيويته ضعفا شديدا، والأحداث إنما يصنعها فاعلها لتحقيق مصالح أو أغراض وأهداف، لكنه لا يملك النتيجة، فقد تأتي النتيجة موافقة للغرض الذي من أجله صنع الحدث، وقد تأتي مخالفة مخالفة تامة ، أو تحقق شيئا وتعجز عن شيء، وقد تحقق شيئا من الغرض وتحقق معه شيئا آخر معاكسا، وهذا لا شك أنه من الأقدار التي يقدرها الله بحكمته وعلمه، فكل شيء مخلوق بقدر " إنا كل شيء خلقناه بقدر" لكن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة تمضي وفق نظام، وهو السنن والأسباب التي قدرها لحصول المسببات، فمن اتبع السنن وأخذ بالأسباب أوشك أن يحقق مطلبه إلا أن يشاء الله تعالى شيئا غير ذلك، وهو الحكيم الخبير، وعلى هذا فليس هناك في ميزان الشارع تعارض بين الإيمان بالقدر وبين إتباع الشريعة والأخذ بالأسباب؛ فإن القدر والأسباب يسيران في اتجاه واحد ولا يتعاكسان، ومن هنا فإن ترك الأخذ بالأسباب الموصلة لمسبباتها -إذا كان تحصيلها مطلوبا- تقصير يلام عليه الإنسان، وذنب يحاسب عليه بحسبه، والأحداث قد يصنعها المرء بنفسه ليحقق بها هدفه، وقد يصنعها عن طريق معاونين له في ذلك، وهذه صناعة مباشرة للأحداث، ولكن هناك صناعة غير مباشرة وهي التدخل في أحداث الآخرين؛ لتأتي محققة لأهداف المتدخل فيها، فإذا أمكن أن نجعل الآخر وهو يصنع حدثه بإرادته ليحقق مصلحته، بحيث يكون ذلك محققا لأغراضنا، فإن ذلك يعد نجاحا عظيما، إذ يتمكن الإنسان بذلك أن يجعل الآخرين - حتى وإن كانوا مخالفين أو معادين- ساعين أو مساهمين في تحقيق أغراضه، بإرادتهم وفق قناعاتهم الخاصة بهم لتحقيق مصالحهم التي يرونها، لكن السؤال الذي نحاول في هذا المقال أن نجيب عليه: هو كيف يمكننا أن نحقق ذلك ؟
ومعنى هذا أنه ينبغي لنا أن نبحث عن إجابة للسؤال الذي يقول ما التقنيات أو الأساليب التي يمكن من خلال اتباعنا لها أن نتدخل في صناعة الحدث عند الآخرين ؟
وللإجابة عن هذا السؤال يحسن بنا أن نستعرض بعضا من صور صناعة الحدث أو التدخل في صناعته عند الآخرين، في القديم وفي الحديث ثم نستخلص من تلك الصور الجواب المطلوب:
• قصة ملكة سبأ
فيما قصه الله علينا في قصة ملكة سبأ، فقد أبلغ الهدهد سليمان عليه السلام بخبر تلك المرأة التي تعبد هي وقومها الشمس من دون الله تعالى، كان الحدث الذي يريده سليمان عليه السلام هو هداية تلك المرأة وقومها، وعبادة الله وحده لا شريك له، فماذا فعل عليه السلام:
1-أرسل لها خطابا يقول فيه " ألا تعلو علي وأتوني مسلمين" وهذا أمر جازم يصدر إلى ملكة مما يشعرها بمكانة مرسل الخطاب وقوته؛ إذ لا يجرؤ أن يكلم الملكة بهذه الطريقة إلا من كان أقوى منها وأعز جانبا.
2- رفض قبول الهدية التي أرسلتها لتختبره، أو في مقابل تركها وما تعبد من دون الله، مما يدل على أنه رجل صاحب رسالة وليس طالب دنيا، وقال للرسول حامل هدية الملكة " أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {27/36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ " ويبدو أن الملكة بعد وصول هذا التهديد الشديد لها استشعرت خطورة القضية فقررت الذهاب إليه لتستطلع الأمر بنفسها.
3- أمر سليمان أحد جنوده أن يأتي له بعرشها قبل أن يصلوا إليه، وأمر بتنكير العرش أي تغيير وضعه وترتيبه، ثم جاءت فوجدت العرش قد سبقها وقيل لها " أهكذا عرشك" أملا أن تدرك أن هذا عرشها رغم هذه التبديلات، فتعلم أن سليمان لم يكن لديه القدرة على إحضاره إلا بعون من الله، فيحملها ذلك على الإيمان ، لكنها مع ذلك لم تهتد
4- قيل لها " ادخلي الصرح" فلما رأت الصرح حسبته لجة وكشفت عن ساقيها؛ لتصون ثيابها من الماء، ولم تكتشف حقيقته، فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير، وإنه لا خوف عليها من الماء، عند ذلك أدركت المرأة أن سليمان نبي من عند الله تعالى، وأن ما يدعو إليه هو الحق، فآمنت به واعترفت بأنها كانت ظالمة لنفسها وقالت " رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العامين" ومن ذلك نجد أن سليمان عليه السلام لكي يصنع مع الملكة حدث الإيمان أتبع عدة أساليب:
1- الأمر الجازم الجاد الذي يشعر الخصم بقوة خصمه وهيبته وثقته في نفسه وفي إمكاناته.
2- عدم المساومة على المبدأ ورفض قبول الهدية التي تكون في مثل هذه المواقف رشوة مقنعة.
3- تخويفهم بالقوة الشديدة التي لديه، وبتبدل حال النعيم التي هم فيها، وخروجهم عن الأوطان والديار أذلة صاغرين(39/230)
4- إظهار المقدرة غير المعتادة، التي تدل على الإمكانات الهائلة التي لدى سليمان عليه السلام كإحضار العرش قبل وصولها إليه، مما يدل على عدم جدوى معاندته أو الوقوف أمامه.
5- إقامة الدليل العقلي بالتجربة العملية على أن العين قد تخطئ في تقدير أقرب الأشياء إليها، فتخطئ في إدراك حقيقة ما تحت أرجلها، مما يدل على خطأ نظرها في عبادة الشمس من دون الله، ومن كل ذلك تولد لدى المرأة اليقين التام بصدق سليمان عليه السلام، وأن ما يدعو إليه هو الحق، لذلك أعلنت الإيمان بما جاء به، وبذلك نقول: إن سليمان عليه السلام قد تدخل في صناعة الحدث ليكون على النحو الذي يريد.
والملاحظ أن الحدث الذي كان يريد سليمان عليه السلام حصوله، هو إيمان الملكة، وهو الانتقال من دينها إلى دين الإسلام، وشأن الانتقال من دين إلى دين آخر شأن ليس بالهين أو اليسير، ولذا فإن هذا يحتاج إلى قوة غير عادية لإحداث هذا التغيير، وهذا ما يفسر - من وجهة نظري- لهجة الخطاب الأول، كما يفسر لهجة التهديد الشديد بعد ذلك؛ فلعل تلك القوة تحملها على مزيد التفكير الذي يقودها للإيمان، فلما تغير موقف الملكة ووافقت على الذهاب إلى سليمان عليه السلام، ظهر من مسلكها نوع من التعقل والانصياع ، لذا استعمل معها أسلوبا آخر وهو التعامل مع قدراتها العقلية من خلال تنكير العرش، ومن خلال الصرح الممرد؛ حتى يتبين لها أن تلك الأفعال ليست في مقدور بشر غير مؤيد من الله ، وأما في الجانب المقابل، فإن الملكة في أول أمرها كانت تريد البقاء على دينها، وكانت تريد صرف سليمان عليه السلام عنها، ولذا فقد حاولت أن تتدخل في صناعة هذا الحدث عن طريق المؤثرات فأرسلت إليه بهدية، لكنها فشلت في تحقيق ذلك؛ لأن ذلك اصطدم بالإيمان، فغلبه الإيمان.
• عمرة الحديبية:(39/231)
كان الرسو صلى الله عليه وسلم يريد العمرة، وكان هذا هو الحدث الذي يريد صناعته، فلم يخرج لحرب أو قتال فخرج ومعه المسلمون وقد ساقوا الهدي، وأحرموا من الميقات، ليعلم الناس أنه خرج من بلده، زائرا للبيت الحرام ومعظما له؛ حتى إذا بلغ عسفان لقيه بشر بن سفيان ( وقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم قد أرسله عينا له يأتيه بخبرهم) فقال: يا رسول الله إن قريشا قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العوذ المطافيل(1)، وقد لبست جلود النمور استعدادا لحربك وقتالك، وقد عاهدت الله أن لا تدخلها عليهم أبدا ، ولما لم يكن الحرب والقتال هو الحدث الذي يريده الرسو صلى الله عليه وسلم بل العمرة، فإن هذا الكلام لم يستفزه ويخرجه عن مقصده ويجعله يغير وجهته، أو يتخذ قرارا مناقضا لمقصده ، لا تدعو إليه ضرورة أو حاجة ، بل بين له أنه لم يأت إلا لزيارة البيت ، ثم حاول أن يتلافى الالتقاء في الطريق مع قريش، فقال لأصحابه: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها، فسلك بهم رجل طريقا وعرا في سكة تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة، فلما سلكوا في ثنية المرار بركت ناقة الرسو صلى الله عليه وسلم ، عندئذ أدرك الرسو صلى الله عليه وسلم أن حابس الفيل قد حبسها، وأن هذا أمر قد قدره الله تعالى، لذا عزم على القبول بأي خطة يطلبها المشركون يعظمون فيها حرمات الله ، وجاءه هناك بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من قومه، فكلموه، فبين لهم الرسو صلى الله عليه وسلم وجهته ووضح لهم أمره، وأخبرهم أنه لم يأت لقتال ولا يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، كما قال لبشر بن سفيان من قبل، وهكذا قال لمكرز بن حفص لما جاءه من بعده ، وهو r في كل ذلك يبين أمره ويفصح عن مقصده، لعل ذلك يبلغ قريشا فيعرفون وجهته ولا يتعرضون له، أو يعترضون طريقه، وقد سنحت لرسول ا صلى الله عليه وسلم فرصة عظيمة، فلم يكن لمثله وهو الذي أوتي الحكمة وهو الهادي إلى صراط مستقيم أن تفته، فقد أرسلت قريشا الحليس بن علقمة سيد الأحابيش، فلما رآه الرسو صلى الله عليه وسلم مقبلا قال لأصحابه: إن هذا من قوم يتألهون(1) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده رجع إلى قريش ولما يصل إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، وقال: "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت"(2) فقالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له، والذي نفس الحليس بيده: لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، وهنا يكون التدخل في صناعة حدث الآخر قد بلغ أقصاه، إذ استطاع رسول ا صلى الله عليه وسلم بهذا التدخل أن يجعل أحد قيادات المسكر المناوئ له نصيرا، حتى كاد أن يشق صف التحالف، ثم آل الأمر بعد ذلك بين الرسو صلى الله عليه وسلم وبين المشركين إلى الصلح ، ولو استقبله الرسو صلى الله عليه وسلم بغير ذلك كأن يجعل الصحابة يشهرون أسلحتهم من السيوف والرماح ونحوها، فربما رجع إلى قومه وقال لهم: استعدوا للقتال، فالرسو صلى الله عليه وسلم كي يصنع الحدث " الاعتمار" قام بما يلي:
1- الإعلان الواضح عن المقصد وبث ذلك بين الناس الذين يمكن أن يبلغوا قريشا ذلك.
2- ساق الهدي الذي هو دليل واضح على المراد وعلى تعظيم البيت.
3- تدخل في تصرفات المعسكر المناوئ حتى ضم الحليس إلى صفه،ففرق بذلك صفهم، أو كاد.
وفي الجهة المقابلة فقد صنعت قريش بتهورها حدثا معاكسا لما تريده، فهي قد اجتمعت وتحالفت مع غيرها من أجل صد الرسو صلى الله عليه وسلم ومن معه، لكنها لما تهورت في الرد على سيد الأحابيش وكلمته بكلام خشن لا يناسب مقامه، وقالوا له بطيشهم ونزقهم وعدم تقديرهم للمواقف: "اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك " أوشك ذلك أن ينقلب عليهم ويفك تحالفه معهم على ما تقدم ذكره، وقد جاء عروة بن مسعود الثقفي يريد أن يخوف رسول ا صلى الله عليه وسلم ومن معه ويخذلهم عن مقصدهم فقال لهم: " هذه قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله على أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله لكأني بهولاء قد انكشفوا عنك غدا، فهو يريد أن يصد المسلمين عن مقصدهم ويحطم معنوياتهم، فعظم لهم من قوة قريش، ومن تصميمها على صدهم، ثم حاول التخذيل والتخويف بأن المسلمين قد ينفضون عن الرسو صلى الله عليه وسلم ولا يصمدون في المنازلات عندما تشتعل الحرب، بل يفرون، ولكن معرفة الرسو صلى الله عليه وسلم بأقدار الرجال الذين معه وقدرتهم على الصمود في المواقف الصعبة، مما أفشل صناعة الحدث الذي يريده مسعود الثقفي.
• ثمامة بن أثال:(39/232)
كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام ويحب أن يؤمن الناس جميعهم بل هذا كان أولى شيء عنده، لذلك كانت كل تصرفاته على مختلف أنحائها ووجوهها من أجل تحقيق هذا الهدف، ولنرى في قصة ثمامة كيف تحقق هذا الحدث؟ يقول أبو هريرة رضي الله عنه " بعث صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال: له ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك،إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..الحديث( 1 ) فثمامة هذا سيد قومه، وإسلامه علاوة على أنه خير له، ففيه أيضا قوة للإسلام ومدعاة لإسلام قومه أو أكثرهم، فماذا فعل الرسو صلى الله عليه وسلم ليحصل ذلك الحدث:
1- اطلع ثمامة على عبادة المسلمين، وذلك من خلال ربطه في المسجد؛ فيرى إقبال المسلمين على الصلاة في خشوع ونظام، ويسمع القرآن الذي جعله الله تعالى هداية للقلوب، ويرى أثناء ذلك تعامل المجتمع المسلم من خلال تعامل الصحابة مع بعضهم البعض، ومن خلال تعاملهم مع قائدهم رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولو حبسه في بيت من البيوت لما تحقق شيء من ذلك.
2- بيان أخلاق المسلمين في تعاملهم مع الأسري، وذلك من خلال إطعامه، وإحضاركميات كببرة له من الطعام ، فلم يقوموا بضربه أو تعذيبه إذ لا فائدة هنا ترتجى من وراء ذلك، مما يكون له أثر كبير على موقف الرجل من الإسلام.
3- - ما ظهر له من أن المسلمين ليسوا طلاب دنيا، وأنه لا يدعوهم إلى أسره الرغبة في جمع المال فلم يلتفتوا إلى قوله: إن كنتم تريدون المال أعطيتكم منه ما شئتم .
4- وقد تبين للرسو صلى الله عليه وسلم أن موقف ثمامة بدأ يتغير، وذلك من خلال اختلاف أجوبته، ففي أول مرة قدم التهديد حيث قال: أن تقتلني تقتل ذا دم، أي إن قتلتني فهناك من يأخذ بثأري، لكنه ما عاد يكررها في المرات التالية وقدم على ذلك مجازاة إحسان الرسو صلى الله عليه وسلم بالاعتراف بالجميل والشكر عليه وذلك بقوله: وإن تنعم تنعم على شاكر، وهنا أطلقه الرسو صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الخير في إطلاقه على كلا الحالين: فهو إن أسلم فذلك خير كبير، وإن لم يؤمن لكنه سوف يحفظ هذه المنة للمسلمين كما قال " إن تنعم تنعم على شاكر " أي يشكر هذه النعمة ويكافيء عليها، فصار ليس في قتله فائدة وقد صدق ما توقعه الرسو صلى الله عليه وسلم في ثمامة فأعلن إسلامه وشهد شهادة الحق.
والأمثلة في ذلك كثيرة جدا، وبعضها أوضح من بعض في الدلالة على المراد، وننتقل إلى العصر الحديث لنرى صناعة بعض الأحداث فيه.
• حرب حزيران 1967 م:
في الخامس من شهر حزيران من عام 1967م نشبت حرب بين اليهود والعرب انتهت في مدة وجيزة بانتصار ساحق لليهود، حققوا به جزءا من أحلامهم التي تحدد دولتهم بأنها من النيل إلى الفرات، فكيف حدث ذلك:
تم تسريب خبر مضمونه أن دولة اليهود تحشد جنودها على الحدود السورية وهي على وشك أن تجتاح هذه البلدة الصغيرة، ومسربو الخبر يريدون إشعال حرب بين العرب واليهود، يظهر فيها العرب على أنهم البادئون في الوقت الذي تنتهي فيه هذه الحرب بفوز اليهود، وانطلاقا من دراسة الواقع فقد جرى تسريب ذلك الخبر، ففي الجانب المقابل الزعيم العربي الذي ملأ بضجيجه دنيا العرب بالآمال العريضة، فقد كانوا يعلمون شخصيته المحبة للظهور بمظهر البطولة المفتونة بالعظمة وبإعلائه لوثن القومية، وأن خبرا مثل هذا سوف يدعوه لإظهار خصائص شخصيته، وسوف يتصرف تصرفات هوجاء لا تقوم على أية حسابات (وإن كان لا يريد حقيقتها وإنما للاستهلاك المحلي) ويقوم اليهود في الطرف المقابل في استغلال تلك التهويشات بشن الحرب الخاطفة التي تكون في نظر العالم يومئذ حربا دفاعية وليست عدوانية، ( وهناك تحليلات كثيرة وتسريبات تذهب إلى أن زعيم القومية العربية كان متواطئا مع اليهود في تلك الحرب وذلك بإدخال الجيش في حرب غير مستعد لها؛ كي يحسم النزاع الداخلي على السلطة بينه وبين الجيش الذي كان مستحوذا على السلطة الفعلية، ولكن هذا لا يهمنا كثيرا الآن، وإنما نحن نتحدث هنا بحسب الظاهر) وقد قامت الحرب بالفعل بعد أيام قليلة وهزم الجيش المصري هزيمة نكراء ، وكسب اليهود فوزا ساحقا رخيصا لم يكلفهم ثمنا يذكر، وصارت هذه الحرب هي الطريق إلى إذلال العرب حتى اليوم، وقد تحقق الحدث على الصورة التي أراد له المصممون ، وقد تم ذلك من خلال :
1- المعرفة الجيدة بشخصية جمال عبد الناصر زعيم القومية في ذلك الوقت!
2- المعرفة بضعف إمكانات الجيش وعدم قدرته على خوض معركة لم يجهز أو يعد لها.(39/233)
3- الدعاية بأن اليهود في موقع الدفاع أمام طوفان العرب الذي سوف يلقي بهم في البحر كما يصرح بذلك زعيم القومية.
4- استعداد اليهود لهذه الحرب والتخطيط لها منذ أمد، فالحرب لم تفرض عليهم ولم يخوضوها رغما عنهم، بل هم في الحقيقة الذين فرضوها .
ولم يبق بعد ذلك إلا صناعة الحدث الذي تتوالى بعده الأحداث ، ولم يستطع عبد الناصر أن يصنع شيئا بتهديداته لأنها كانت بلا رصيد، وكان الطرف المقابل يدرك ذلك جيدا.
• حرب الخليج الثانية:
وقريب مما تقدم ما عرف بحرب الخليج الثانية، فقد كانت أمريكا قد بدأت في الاستعداد لتنفيذ مخططها، لتصبح امبراطورية عظمى وحيدة في العالم، وكان من شرط ذلك أن تستولي على مصادر القوة الاقتصادية في العالم، بعد أن استحوذت على القوة العسكرية التي لا تقاوم، وأول ذلك النفط لتوقف جميع الصناعات على تواجده بوفرة، لذلك اتجهت بنظرها صوب نفط الخليج لتستولي عليه، أو لتجعله على الأقل في المرحلة الأولى تحت تصرفها، وكان من ما يدخل في مخططها أيضا تأمين الوجود اليهودي في فلسطين، والقضاء على أية قوة يحتمل أنها تهدد ذلك الوجود في يوم ما ، ومع المعرفة بمكونات شخصية رجل مثل صدام حسين ، ومع المعرفة بضعف دولة مثل الكويت ، إضافة إلى الخلافات القديمة بين البلدين، فقد تم تسريب خبر لصدام: أن أمريكا لن تتدخل في أي نزاع محلي مادام ذلك لن يؤثر على الإمدادات النفطية التي تحتاجها، وقد كان ذلك بمثابة إشارة البدء لتحقيق الحدث التي هدفت إليه أمريكا من وراء ذلك، وقد قام صدام باتخاذ الخطوة التي خططت لها أمريكا، وهي احتلال الكويت، وقد أوقعه طمعه الشديد في ابتلاع الطعم الذي كانت سنارة الصياد ظاهرة فيه ، ثم تداعت الأمور بعد ذلك على النحو المعلوم للجميع، والذي تم الترتيب له سابقا، حتى انتهى الأمر باحتلال العراق بعد ما يقارب عقدا من الزمان ليكون العراق النموذج " المؤمرك" لدول الشرق الأوسط، وليمثل ذلك التحول غير المتوقع صدمة للأنظمة العربية، حتى تهرول إلى التغيير المطلوب الذي تسعى أمريكا إلى حصوله، ولكن من غير أن تدفع أمريكا ثمنا لذلك، ولكن الريح لا تجري دائما بما تشتهي السفن، فقد ظهر في المعادلة رقم صعب لا يمكن تجاوزه لم تكن أمريكا قد عملت حسابه بشكل دقيق، وذلك متمثل في المقاومة العراقية، التي كانت مفاجئة للجميع.
ومن هنا يتبين أن عدونا يظل يخطط لما يريد حصوله سنوات عديدة سابقة على الحدث ، فيحاول تحقيق شروط الحدث، ثم يفتعل أسبابه حتى تستكمل الخطة ما تحتاج إليه، ثم لا يبقى بعد ذلك إلا " القشة التي تقصم ظهر البعير " كما يقال، ثم تتداعى الأمور على النحو المرتب له، والمدروس دراسة جيدة، فلا يكون والحالة هذه هناك مفاجآت تعترض وقوع الحدث كما تم تصميمه، ولكن يبقى بعد ذلك قدر الله العلي الكبير، والقدر غالب ليس بمغلوب.
• أحداث الحادي عشر من أيلول:
تذهب طائفة من المحللين أن تلك الأحداث قد رتب لها على طريقة صناعة الحدث، إذ الخطط لاحتلال أفغانستان كانت معدة قبل ذلك، كما كشفت عن ذلك كثير من المصادر الإخبارية، وحتى مع اعتراف تنظيم القاعدة بمسئوليته عن هذه الأحداث، فإن هذا لا يتعارض مع تلك التحليلات، إذ تكون المخابرات قد رصدت هذا التوجه، واعترضت رسائله المشفرة، وقامت بفكها، وتركتها تأخذ مسارها من غير تعطيل لها، مع المتابعة حتى يكون الأمر تحت السيطرة، وتم الاستفادة منه واستغلاله في إخراج الحدث على النحو الذي يجعل ما تقوم به أمريكا له ما يسوغه أمام العالم، ولعلنا ندرك السبب الذي من أجله تحاول أمريكا أن تجعل لعملها مسوغا أمام العالم، رغم امتلاكها لأكبر قوة عسكرية مجهزة بالعتاد الأقوى في العالم، إذا نظرنا إلى أن أكثرية دول العالم إن لم يكن جميعها قد سكتت على ضرب أفغانستان، ولم تعترض على ذلك، بينما العكس في حالة العراق إذ أن كثيرا من الدول بل الأكثرية تعارض احتلال العراق، لأنه في الحالة الثانية يتم بغير مسوغ مقبول، ولعله من أجل هذا سعت أمريكا دوما ولا زالت تسعى للإيجاد علاقة بين صدام حسين وبين تنظيم القاعدة.
فأمريكا لكي تحقق هدفها من أقامة امبراطوريتها وفرض سلطانها على العالم قامت بما يلي:
1- اختيار أهداف ضعيفة يمكن التغلب عليها بسهولة، مع إظهار القوة الفائقة في ضرب هذه الأهداف التي تخيف الآخرين، وتردعهم عن الوقوف في طريق المشروع الأمريكي.
2- الإعلام المكثف، والدعاية المضللة، وترويج مصطلح الإرهاب بدون تحديد مضمون له، حتى يكون سيفا على رقاب الجميع.
3- تخويف وترويع الآخرين بأن يحددوا مواقفهم، وأن من ليس مع أمريكا فهو في صف أعدائها وعليه أن يتحمل تبعات ذلك .
4- المساهمة بطرق مباشرة وغير مباشرة في بعض الأحداث التي تسوغ لها شن الحرب بزعم الدفاع عن نفسها(39/234)
5- ابتداع مصطلح الحرب الاستباقية الذي مضمونه شن الحرب على الآخرين بغير مسوغ إلا ضمان تفرد أمريكا بالقوة المسيطرة على العالم، وقد وصلت أمريكا بذلك إلى الحد الذي يجعلها تقصد إلى ما تريد قصدا من غير الاحتياج إلى اللجوء إلى تقنيات صناعة الحدث، لكن نتائج الحرب على العراق قد تردها عن ذلك وتحوجها إلى الرجوع إليه.
متطلبات صناعة الحدث:
1- دراسة كاملة وافية للحدث من جميع جوانبه ، فتتم دراسة البيئة التي يراد صناعة الحدث فيها، من حيث الزمان والمكان والظروف المحيطة، والمؤثرات التي تؤثر فيه سلبا أو إيجابا، وطرق تعزيز المؤثرات الإيجابية وإضعاف المؤثرات السلبية، كما يتم في ذلك دراسة تأثير دول الجوار على الحدث مع استكشاف الموقف العالمي.
2- دراسة الحدث نفسه وكيفيات التحقيق الممكنة، واختيار أفضلها ، مع إمكانية التغيير وفق تطورات الواقع وما يستجد فيه من مؤثرات، فإن صناعة الحدث قد تستغرق عدة سنوات يتغير فيها أشياء كثيرة، لم تكن وقت التخطيط على مسرح الأحداث.
3- الاستكشاف الدوري لبيئة الحدث، حتى لا يحدث تغيير غير ظاهر قد لا ينتبه له مصممو الحدث، مما يكون له تأثير كبير على النتائج ( وقد يكون ما يحدث الآن من المقاومة في العراق نتيجة مباشرة لعدم قيام العدو بهذه الخطوة المهمة) وللاستكشاف وسائل متعددة منها: الاستطلاعات، والاستبانات، والأبحاث التي تقوم بها مراكز الأبحاث المتخصصة، وغير ذلك من وسائل تجميع المعلومات، ثم تفرز هذه المعلومات وتصنف وتجرى عليها الدراسات والمعالجات التي يتوصل منها إلى نتائج، تعتمد دقتها على دقة المعلومات المتحصل عليها ودقة معالجتها.
4- سعة أفق الفريق الذي يقوم بصناعة الحدث أو التدخل فيه، والخبرة الطويلة والحكمة في التصرف، مع الصبر والتأني وعدم الاستعجال والتهور ، وعدم الرغبة في الظهور أو إبداء المظاهر البطولية ، وينبغي أن يعمل الفريق خلف الأضواء لا أمامها.
5- الاعتماد على الدراسات الدقيقة الموثقة، وليس على مجرد التصورات أو التحليلات الفكرية التي لا تستند إلى واقع صحيح، مع وجود البدائل المتعددة التي يمكن اللجوء إليها عند الحاجة.
6- معرفة الآخر معرفة جيدة من حيث: فكره وتصوراته، وعقائده وإمكاناته، وطبيعة الأفكار والتصورات التي تسود المجتمع، وكيفية مواجهة القيادات للأحداث والتفاعل معها، والمؤثرات التي تتدخل في صنع القرار السياسي، والحالة الاقتصادية، وغير ذلك مما يعكس رؤية الآخر رؤية واضحة مفصلة، تمكن فريق صناعة الحدث من تصميم الحدث تصميما ملائما للحالة.
7- عدم تغيير أو تعديل الخطط المعدة مسبقا لأي عارض يطرأ، ما لم يدرس الأمر دراسة جيدة، ويكون التغيير أمرا لازما، على أن يتم اتخاذ الخطة الجديدة بالطريقة نفسها التي أقرت بها الخطة المعدلة.
• تقنيات( أساليب) صناعة الحدث:
من خلال ما مر بنا من أمثلة يمكننا أن نستنبط مجموعة من التقنيات( الأساليب) التي تستخدم في صناعة الحدث، فمن ذلك:
1- الجد والصرامة في التعامل مع المقابل، بحيث لا يطمع في التحايل أو الالتفاف، عن طريق الترغيب كالرشوة ونحو ذلك ( كما في قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ).
2- التهديد الجازم باستخدام القوة المؤثرة مع القدرة على التنفيذ( القصة السابقة أيضا).(39/235)
3- الإعلام القوي الذي يبين القدرات ويوهن من عزائم الطرف المقابل، سواء كانت العزائم معنوية( كما في إطلاق الهدي في عمرة الحديبية) أو كانت العزائم عسكرية أو قتالية وقد أرشد القرءان الكريم إلى ذلك فجاء قول تعالى:" وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ" فإن إعداد القوة المتزايدة التي يصعب هزيمتها والإعلان عن ذلك، قد يصنع حدث الانهزام في العدو المقابل وإيصاله لمرحلة الاستسلام من غير خوض حرب حقيقية، أو التعرض لتكاليفها، ولذلك فإننا نجد أن كثيرا من الدول تحرص على بيان ما لديها من قوة نيران لا تقاوم، وتقوم بعملية عرض للسلاح الجديد التي من شأنها أن تخيف الأعداء وتردعهم، ومن الأساليب المتبعة في ذلك القيام بالمناورات وإجراء العروض العسكرية ، وقد مارس المسلمون الأوائل شيئا من ذلك عندما قدم الرسو صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون في عمرة القضية فقال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة فجلسوا مما يلي الحجر ( من الكعبة) ينظرون المسلمين، وأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا بين الركنين (حيث لا يراهم المشركون ) ليرى المشركون شدتهم وجلدهم، وقد أتى ذلك السلوك بالنتيجة المرجوة منه، فقال المشركون لما رأوا ذلك : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ! هؤلاء أجلد من كذا وكذا(1 ) قال ابن حجر تعليقا على ذلك :" ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم"(2 ) كما حدث هذا أيضا في فتح مكة فبعدما أسلم أبو سفيان رضي الله تعالى عنه أوقف بمضيق الوادي عند خطم الجبل، وجعلت كتائب المسلمين تمر عليه كتيبة كتيبة كلما مرت قبيلة يقول: من هذه، فيقولون: هذه سليم، فيقول: ما لي ولسليم، وهكذا قبيلة قبيلة، حتى أقبل رسول ا صلى الله عليه وسلم في كتيبة المهاجرين والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال : ما لأحد بهؤلاء طاقة والله، فقال له العباس : النجاء إلى قومك، فجاءهم أبو سفيان يصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقد أوقف أبو سفيان في هذا المكان ليرى كتائب المسلمين، ويرى قوتهم واستعدادهم وإمكاناتهم؛ ليبلغ قومه عن اقتناع ويقين أنه لا أمل في المقاومة، وأن الاستسلام خير لهم وأبقى ، وهكذا صنع هذا المسلك حدث الانهزام عند المشركين فلم تعد بهم رغبة للمواجهة، وإنما صار هم الواحد منهم أن يبحث عن طريقة ينجو بها، وقد كان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، أثر كبير في صنع الانهزام التام؛ إذ أنه أفسح بذلك لهم مجالا للنجاة، ولو أن صلى الله عليه وسلم ما جعل لهم طريقا ينجون به، وأدركوا أنهم هلكى هلكى فربما دفعهم ذلك إلى التجمع والمقاومة، التي يترتب عليها في الغالب وقوع إصابات في صفوف المسلمين0فكان الذي فعله رسول ا صلى الله عليه وسلم من ذلك مطابق للحكمة التي يعلمها للناس.(39/236)
4- الإقناع الملزم أو القاهر عن طريق الإعلام والاستعراض وإظهار القوة القاهرة، فعندما يريد قائد أن يصنع حدث الانهزام عند الطرف المقابل، فإنه يحاول بطرق متعددة أن يرسخ في أذهانهم أنه لا أمل في النجاة أو الفكاك، ولا جدوى من المقاومة إلا مزيدا من المعاناة _ ويستعينون في ذلك بالمخذلين- فإن هذا يؤدي إلى الاستسلام، وفي كثير من هذه الحالات فإن الطرف المقصود بذلك لا يفكر حتى في مجرد النجاة، بل ربما لو أتيحت له بعض الفرص للنجاة والهرب من ذلك المصير لم يحسن أن يستغلها؛ لفرط انهزامه القلبي ولقناعته بأنه لا فائدة من ذلك ، بل تنهار عنده كل عزيمة في التفكير في النجاة، ولا يبقى أمامه غير الاستسلام للقدر المحتوم، وقد روى التاريخ شيئا من هذه الانهزامية العجيبة التي صنعها أعداؤنا على أمتنا فترة من الزمن، فإن كتب التاريخ تروي لنا: أن التتري كان يلاقي مجموعة من المسلمين فيقول لهم مكانكم حتى آتي بالسيف، فيذهب إلى بيته أو معسكره حتى يأتي بالسيف ويقتلهم واحدا واحدا، وما فكر أحد منهم في مجرد الهرب عندما فارقهم ليحضر سيفه؛ من شدة الهزيمة وفقد الأمل في أي نجاة، ولاشك أن أمة تصل إلى هذا المستوى فإن الهلاك والانزواء هو مصيرها، وقد حاولت أمريكا أن تصنع ذلك في حربها على أفغانستان والعراق ، وهذه الطريقة في صناعة الحدث تفسر بعضا من حالات الاستسلام المزرية على كثير من الشعوب في مواجهتها لطغيان أمريكا وحلفائها ، وقد صنعت أمريكا ذلك في الحرب العالمية الثانية عندما استخدمت لأول مرة في التاريخ أسلحة الدمار الشامل وقامت بضرب اليابان بالقنبلة النووية فقتلت وأصابت مئات الآلف في لحظات، ثم عاودت الكرة في اليوم الثاني مما جعل اليابان تستسلم وتنهار انهيارا تاما، ويشهد لهذا الأسلوب ما جاء في الخصائص النبوية قول صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر"( 1 )
5- الاستدراج: وهو أسلوب يجري على أرض الواقع قبل التنفيذ بفترة للتأكد والتدقيق في المعلومات المتوفرة، ومدى مناسبتها للخطة الموضوعة، وكمثال لذلك: عندما تنشب معركة بين جيشين فقد يعمد أحدهم من أجل استكشاف إمكانيات الجيش الثاني من حيث حجمه، والقوة التي معه، ومرابض النيران وقوتها، ونوعيات الأسلحة، والتكتيكات التي يتبعها، إلى الاستدراج وذلك عن طريق إخراج مجموعة صغيرة من القوات: الجنود والآليات، بغرض أن يشن عليه القائد الآخر الهجوم فيكتشف من خلال ذلك المعلومات التي يريدها، وهو في هذه الحالة لو وقعت في جنوده خسارة قادر على تحملها، لأن هذه القوة هي مجموعة صغيرة ولا تمثل القوة الضاربة لديه ، وإذا كان القائد الآخر حكيما وليس أهوجا فأنه لا يستدرج لمثل ذلك، وقد يترك هذه القوة ولا يتعرض لها مع متابعتها حتى لا يؤخذ على غرة ، أو يخرج لها قوة مكافئة من غير أن يستخدم لذلك كل قوته فيكشف عنها لعدوه.
6- إرباك الطرف المقابل : فعندما نريد مثلا صناعة حدث التفرق والتشتت في الرأي عند الخصم، فقد نعرض عليه عدة بدائل للاتفاق على أحدها، على أن تختار البدائل بعناية فائقة بحيث يكون كل بديل محققا لطموحات فئة من الفئات المقصودة بذلك الحدث، بينما يكون مخيبا لآمال الفئات الأخرى، وهكذا فتتفرق تلك الجموع وتتشتت حول تلك البدائل مما يوهن الطرف المقابل ويضعفه.
7- الاستثارة : وهي استثارة ما عند الناس من قوي الخير المركوزة في الفطرة كمن يريد أن يستثير الناس للدفاع عن الديار فيرسل لهم خصلة من شعور النساء ويبين لهم أن النساء عرضة للأسر من قبل الأعداء المهاجمين ما لم يقف الشعب مع حكومته في مواجهة ذلك الهجوم، وعندما تكون عند الناس غيرة على الحرمات فإن ذلك يعد مثيرا جيدا، ومن المثيرات أيضا الترغيب وقد فعل ذلك الرسو صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر عندما قال لأصحابه: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، ومن المثيرات أيضا الترهيب، ومن الوسائل المعاصرة التي تستخدم في ذلك: الصورة والأفلام المتحركة التي تنقل صورة حية لها تأثير أقوى بكثير من مجرد الكلام، فعندما تعرض فيلما متحركا ليهودي وهو يضرب امرأة فلسطينية عجوزا، ويبعثر لها أغراضها على الأرض، ويركلها برجله، وهي تحاول جمع هذه الأغراض، فإن تأثير ذلك أقوى بكثير من نقل هذه الصورة عن طرق الكلمات فقط.
8- تقدير الناس وإنزالهم منازلهم حتى وإن كانوا من المخالفين أو الأعداء وانظر ماذا فعل تقدير الرسو صلى الله عليه وسلم للحليس عندما علمه ممن يعظمون الهدي وأطلق الهدي أمامه إشارة لتقدير ذلك عنده، وانظر في الطرف المقابل عندما لم تقدره قريش، وكيف انتصر للصف المقابل لهم.(39/237)
9- الإيهام: كأن تتصرف تصرفا يوهم الطرف المقابل بما تريد أن يتصوره من غير أن يكون لذلك حقيقة، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك ما قامت به مصر قبل حرب العاشر من رمضان، من محاولة إيهام اليهود بأن مصر ليست مقبلة على الحرب أو القتال، إذ نزل إعلان في الصحف المصرية: بفتح باب القبول لطلبات الحج من الضباط المصريين الراغبين في أداء فريضة الحج، فكان في ذلك إيهام لليهود أن مصر ليست مقبلة على قتال، مما يساعد على تشويش التفكير اليهودي حول النوايا المصرية في الحرب.
ومما يساعد في تلك الأساليب ويعين عليها: اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب، الإحاطة بدقائق الأمور وخصائصها المتعلقة بالحدث، سرعة التحرك والاستفادة من الفرص المتاحة، بناء قاعدة معلومات عن الطرف المقابل، التوازن وعدم الاضطراب في مواجهة الأمور، التفكير في أكثر من اتجاه ولا نحصر أنفسنا في اتجاه واحد، إيجاد أكبر عدد ممكن من البدائل للجوء إليها عند الحاجة إليها، تقسيم الحدث إلى عدة أحداث جزئية كل منها يؤدي إلى الآخر، توظيف الحدث القائم ( الاستفادة منه ) إذا لم يمكن صناعته.
ومما ينبغي معرفته أن الأساليب تختلف من حدث إلى آخر، فكل حدث له أسلوب يناسب صناعته، بل الحدث الواحد يختلف أسلوب صناعته باختلاف البيئة التي يطبق فيها أو عليها.
إن عدم القدرة على صناعة الحدث له أخطار وأضرار كثيرة إذ أنه يجعل غالب الأفعال والتصرفات مجرد ردود أفعال والغالب على ردود الأفعال أن تكون غير مدروسة، وقد يكون رد الفعل في هذه الحالة داخل في نطاق صناعة الحدث المعادي ، فيكون رد الفعل غير المدروس في هذه الحالة أو الذي لم يأخذ حظه من الدراسة الصحيحة محققا للمراد من الحدث المعادي ، فقد يقوم العدو بعمل استفزازي يجعل أصحاب القرار يستعجلون الرد للحفاظ على الهيبة والمكانة بين الأتباع مما يجعل العدو يقوم بعمل آخر قد أعد له مسبقا على أساس رد الفعل غير المدروس يكون أقسى وأشد من السابق مما قد يضعف العزيمة والرغبة في المقاومة والثبات في الميدان إلى حد بعيد، وهذا يستلزم وجود مراكز أبحاث متخصصة لدراسة الأمور الواقعة ، والأمور المحتملة الوقوع ودراسة الواجب إزاء ذلك كله حتى يمكن الخروج من دائرة رد الفعل السريع المنفعل الذي قد يضر أكثر مما ينفع.
كيفية مواجهة صناعة الحدث المضاد:
كما نحاول نحن أن نتدخل في صناعة الحدث عند الآخرين لمصالحنا، فإن الآخرين يفعلون الشيء نفسه بالنسبة لنا، وينبغي أن تكون لنا القدرة على مواجهة ذلك حفاظا على ديننا ودنيانا، فمن ذلك:
1- التقيد الصحيح بما شرعه الله لنا؛ فإن شريعة الله لعباده شرعها رب العالمين أحكم الحاكمين الذي هو بكل شيء عليم، الذي يقدر مآلات الأمور ، وقد شرعها الله تعالى ليكون الالتزام بها محققا للناس سعادة الدنيا والآخرة، فالالتزام بها يحقق للمسلمين صناعة الحدث على النحو الأفضل لهم، ويحقق لهم في الجانب المقابل مواجهة حدث الآخرين وإن هم لم ينتبهوا لذلك، ولم يخططوا له قصدا، فإن الشريعة موضوعة على هذا الوضع الذي يكفل السعادة والنصر للمسلمين بمجرد الاتباع و التقيد، فاتباع الشرع دائما يصب في إفشال الحدث الذي يريده الشيطان بالمسلمين، والشيطان هو ولي الكافرين وهو الذي يخطط لهم ويمدهم، والله ولي المؤمنين وقد أنزل لهم الشريعة ليكون اتباعها نجاة من أساليب الشيطان وأوليائه، وتلك نتيجة الطاعة في أرض الواقع.
2- الهزيمة تبدأ أول ما تبدأ في القلب، ثم تنتقل بعد ذلك إلى الساعد والسلاح، فالثقة بالله والاعتصام به، والإيمان بالقدر، يمنع من هزيمة القلب، فيظل المسلم حتى آخر لحظة من حياته وهو عالي الرأس.
3- الثقة في وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين ، فذلك يجعل المؤمنين يخططون ويعملون بهمة ونشاط، وهم على أمل الظفر، ويعلمون أن الله لا يخلف وعده، فإذا تخلف شيء من ذلك فإنما أسباب ذلك ترجع إلى تقصيرهم، وعدم قيامهم بما أوجب عليهم ربهم.
4- العاقبة للمتقين، فالمعرفة بذلك والتيقن منه تمنع من الإحباط- الذي يقتل الهمم- حتى مع التعثر وحتى إن طال الطريق.
5- التحلي بسعة الأفق واتساع نطاق المعرفة، والخبرة بالنفوس البشرية وتقلباتها، ووجود القدرات الاستكشافية العالية، التي ترصد تحركات وتصرفات الآخر بدقة، والتي تمكن من رسم الخطط على بصيرة.
6- نشر العلم الشرعي بين الناس والدعوة إلى العمل به، ونشر ثقافة صناعة الحدث .
والموضوع بعد ذلك موضوع كبير وعريض، ولعل ما قدمناه هنا يكون محرضا لأهل الاختصاص على المشاركة والنزول إلى الميدان
=============(39/238)
(39/239)
هكذا يربي اليهود أبناءهم
نائل نخلة(*)
يقول يوري إيفانوف في كتابه: «الصهيونية حذار!»: إن دائرة الأفكار التي يسمم بها الصهاينة عقول أطفالهم والتي يرجى منها أن تستقر في أفهامهم تبدأ عادة بالتوراة. ويؤكد أندريه شوراكي في كتابه: «دولة إسرائيل» أن جميع اليهود يعمدون إلى الرجوع في كل مناسبة إلى الماضي الذي تضمنته التوراة وروح الأنبياء، وإلى الدور التاريخي والروحي للشعب اليهودي؛ أي إنهم يرجعون إلى قلب التراث الضخم الروحي والفكري والأخلاقي والقانوني للتاريخ العبري.
أما فيكتور مالكا فيرى في كتابه «مناحيم بيغن: التوراة والبندقية» أن اليهود استقوا من توراتهم تعليمات في أعمال العنف واستخدام القوة. فقد جمعت قوانين الحرب في العهد القديم في سفر التثنية، وهي تحدد لهم أسلوب الاستيلاء على المدن، وأسلوب التعامل مع أهلها، وهذه القوانين يعدها القادة الإسرائيليون مصدراً للوحي وشريعة مقدسة لاستئناف البعث اليهودي في فلسطين، على أساس أن كل جريمة تصبح شرعية وقانونية من أجل تحقيق وعد الرب.
ولعلنا نستشف من هذا الكلام المصدر الذي ينهل منه الصهاينة أفكارهم وأسلوب حياتهم وهو التوراة؛ ولكن الوسيلة التي تتم من خلالها عملية نقل هذه الأفكار والتي تنتج الاحتلال والتمييز والتفرقة والعنصرية والتعصب هي مناهج التعليم في المدارس والجامعات الإسرائيلية؛ وهو ما أجملته الدكتورة الإسرائيلية تسيبورا شاروني في مقدمة حديثها عن التوجه القومي في برامج التدريس في المدرسة العبرية ـ ضمن يوم دراسي في الكلية الأتوثوذكسية بمدينة حيفا في عام 1988م ـ بالجمل الآتية: «إن جميع الجنود ممن يؤدون الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة... أولئك الشباب الذين يسكنون أور يهودا... حيث عمليات إحراق العمال العرب... إن ذلك كله نتاج مدرستنا... نتاج البرامج التعليمية... نتاج التربية الرسمية وغير الرسمية... ولكن للتربية الرسمية نصيب الأسد في ذلك. إذ لم ترد كلمة واحدة في البرنامج التعليمي لليهود حول التطلع للسلام بين إسرائيل وجاراتها... فمثلاً من منا يذكر كتاباً واحداً في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية؟ لا وجود لهذا على الإطلاق؛ فالطلاب يتعلمون ذلك، وكأنه خلق هكذا... الأسماء العربية لا وجود لها على الإطلاق ... أنا لا أتكلم عن قرى عربية تم محوها .. لا يذكرونها قطعاً ... هل هذه تربية؟... وماذا يعني كل هذا؟... لا يوجد في الصفوف إطلاقاً خارطات تشمل الخط الأخضر... أرض إسرائيل الكاملة في جميع الخارطات بما فيها القدس والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة بوصفها جزءاً من دولة إسرائيل».
الصهيونية والدين اليهودي علاقة وثيقة:
ليس تأثير الدين اليهودي والمتدينين طارئاً على دولة إسرائيل؛ فمنذ انطلاقة الحركة الصهيونية وهذا التأثير ملازم لها؛ إذ يشير ناجي علوش في كتابه: «الأساطير والوقائع الصهيونية والأمة العربية» أن اليهود في أوروبا الغربية عندما نشأت الحركة الصهيونية كانوا يمرون بنوع من الانعتاق؛ ولكن الانعتاق أخافهم؛ لأنه يقود إلى الاندماج.
ولكن يهود أوروبا الشرقية كانوا متدينين وأكثر تمسكاً بالتوراة وطقوسها. ولم يجد رواد الصهيونية السياسية إشكالاً في ذلك، ووجدوا الحل بدمج الصهيونية السياسية، بالصهيونية الدينية.
وهذا ما قاد الصهيونية السياسية إلى تبني الأفكار والرموز الدينية المألوفة لدى الجماهير وتحويلها إلى رموز وأفكار قومية في صياغة شبه دينية للبرنامج الصهيوني ليكون محل قبول من كافة التنوعات الاجتماعية والعرقية والحضارية والثقافية ليهود أوروبا. وطبيعي أن يقود هذا إلى علاقة وثيقة بين الصهيونية والدين اليهودي.
ويضيف العلوش أنه على الرغم من أن الصهيونية بدأت من رجال يبدون علمانيين إلا أن رواد الحركة الصهيونية اندفعوا إلى الدعوة للتمسك بالدين وإحياء علومه ولغته ومحاربة الزواج المختلط.
التربية العبرية تحفظ اليهودية!
يقول الباحث الفلسطيني فارس عودة: لعل الدارس لطبيعة المجتمع الإسرائيلي يلاحظ تلك الملاءمة والتوافق القوي بين أهداف التربية اليهودية من جهة وأهداف الحركة الصهيونية وحاجات المجتمع الإسرائيلي من جهة أخرى، فلقد كانت التربية اليهودية بخلفيتها الدينية والتوراتية التلمودية العنصرية، وبفلسفتها المستمدة من تعاليم الصهيونية العدوانية، هي الوسيلة الأولى والأهم التي استخدمت لتحقيق أهداف الصهاينة في إنشاء دولة إسرائيل وبقائها.
لقد جعلت الصهيونية التربية أحد الأسس والركائز التي تعتمد عليها لبناء جيل يهودي ووطن صهيوني.
وهو ما أشار إليه مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في يومياته حين خصص التربية باعتبارها أسلوباً لتحقيق هدفه، فأشار إلى بعض المواد التي يركز عليها في مقدمة منهاجه واعتبرها ضرورية لذلك وهي الأناشيد الوطنية والدين والمسرحيات البطولية.
أما القيادي اليهودي إلياهو كوهين فرأى في المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين (1951م) أن مصير إسرائيل يرتبط بإيجاد جهاز حقيقي لتنفيذ التعليم والتربية حسب المبادئ الصهيونية.(39/240)
بينما أكد دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل في المؤتمر الصهيوني الرابع والعشرين والمنعقد عام 1956م أنه لن يكون للحركة الصهيونية مستقبل بدون تربية وثقافة عبرية لكل يهودي بوصفه واجباً ذاتياً.
واعتبر أن معرفة التوراة كفيلة بتزويد الفرد اليهودي بجذوره وأصله وعظمته ومستقبله، ويضمن ارتباطه بشعبه في مملكة إسرائيل. ثم يسأل بن غوريون: ما الذي سيحفظ اليهودية؟! ويجيب: «إنها التربية العبرية».
ويحدد وزير المعارف والثقافة الإسرائيلي السابق زبولون هامر أهمية التربية في المجتمع الإسرائيلي بقوله: «إن صمودنا أمام التحدي الكبير الذي يواجهنا يتمثل في مقدرتنا على تربية قومية مرتبطة بالتعاليم الروحية اليهودية، تربية يتقبلها الطفل راغباً وليس مكرهاً؛ ولهذا فإن على جهاز التعليم الرسمي والشعبي أن يتحمل التبعية الكبيرة للصمود أمام التحديات التي تواجه إسرائيل.
الهجرة والاستيطان... التوسع والاحتلال... التميز والتعصب:
ويميز الدكتور وائل القاضي أستاذ التربية في جامعة النجاح الوطنية ـ والذي أجرى بحثاً حول التربية في إسرائيل ـ بين الأهداف المعلنة للتربية في إسرائيل وغير المعلنة؛ حيث يشير إلى أن الأهداف المعلنة للتعليم الحكومي في إسرائيل والتي حددتها المادة الثانية من قانون التربية والتعليم الإسرائيلي لعام 1953م هي إرساء الأسس في التعليم الابتدائي على قيم الثقافة اليهودية ومنجزات العلم، وحب الوطن، والإخلاص والولاء للدولة والإعداد الطلائعي، والسعي لتشييد مجتمع قائم على الحرية والمساواة والتساهل والتعاون المتبادل، وحب الغير من الجنس البشري.
وقد أعرب اليهود عن قلقهم من أنهم لم يشددوا على القيم القومية بما فيه الكفاية، فشرعوا بإدخال موضوع الوعي اليهودي الذي صادقت عليه الكنيست في عام 1977م وجاء فيه: «في التعليم الابتدائي والثانوي والعالي ستهتم الدولة بتعميق الوعي اليهودي بين صفوف الشبيبة الإسرائيلية وتجذيره في تاريخ الشعب اليهودي وتراثه التاريخي وتقوية انتمائه الخلقي لليهودية من خلال إدراك المصير الواحد والمشترك والواقع التاريخي الذي يوحد يهود العالم عبر مختلف الأجيال والأقطار».
وهكذا نجد أن الدراسة الدينية تحتل مكاناً بارزاً في مناهج التعليم عموماً. وكثير من الموضوعات التي تعالج تحت أسماء مختلفة كـ «الوطن والتاريخ والجغرافية واللغة العبرية» تدرس من الزاوية الدينية، وتؤكد هذه المناهج على تنمية الوعي والحسّ اليهودي لدى الأطفال بقصد زيادة التركيز على صلة الطالب اليهودي بتراثه القديم من خلال دراسته الدينية. ويتم التركيز في هذه المناهج على زرع الأفكار الدينية في عقول الناشئة لتسويغ وجود رابطة دينية بينهم وبين أرض فلسطين؛ ممّا يعطيهم الحق في بناء دولة لهم فيها، ويروِّجون أن إقامة دولة يهودية في فلسطين هو تحقيق لما جاء في التوراة؛ فالرب قد اختار الشعب اليهودي واختار الأرض. وما دام هذا الاختيار إلهياً فإنه يعطي امتيازاً للأرض وللشعب الموعود بها أيضاً. وبذلك تكون (أرض إسرائيل) مخصصة لبني إسرائيل وحدهم دون غيرهم.
كما يتم التركيز أيضاً على أن الحياة اليهودية في فلسطين لم تنقطع منذ أيام الرومان إلى العصور الحديثة، وأن دولة الكيان هذه أنشئت في بلاد قطنها المحتلون والغزاة العرب طوال 1300 سنة، وأن عودة المهجرين اليهود من كافة أنحاء العالم وتوطينهم في فلسطين تحت ستار العودة إلى أرض الوطن التاريخي ليس باعتبارهم غرباء عن هذه الأرض بل باعتبارهم سكانها الأصليين الذين ظلوا بعيدين عنها طوال العهود السابقة.
ووفقاً لما أورده الدكتور القاضي فإن الأهداف الرسمية للتربية والتعليم في إسرائيل تتمثل بما يلي:
أولاً: تكوين مجتمع عضوي موحد.
ثأنباً: بناء دولة عصرية تملك أسباب القوة المادية والروحية.
ثالثاً: الحفاظ على التراث اليهودي ونشره وتعميقه.
رابعاً: دعم مركزية إسرائيل بين يهود العالم والالتزام نحوها باعتبارها دولة اليهود.
وقد حددت السلطات التعليمية في إسرائيل هذه الأهداف لإرساء الأسس التربوية الآتية:
1 - تعميق الوعي اليهودي الصهيوني.
2 - التربية على قيم القومية اليهودية الصهيونية.
3 - الاهتمام بدور اللغة العبرية من أجل الحفاظ على التراث اليهودي وبعثه وتعميقه بين الشباب الإسرائيلي؛ ولهذا فقد أصبح دورها يفوق كافة أدوار التدريس؛ إذ تحتل مكاناً بارزاً في مناهج المدارس الإسرائيلية.
4 - ترسيخ جذور الشباب الإسرائيلي في ماضي الشعب اليهودي، وتراثهم التاريخي؛ وذلك لخلق أجيال إسرائيلية تؤمن بالمعتقدات الصهيونية التي اعتنقها جيل المؤسسين (الرواد)، للتأكيد على (الريادة) وتصوير الرواد الأوائل مؤسسي الدولة نماذج للاقتداء بهم.
5 - التعلق بالأرض: ويرتبط هذا الهدف مع ضرورة تكوين مجتمع موحد فيه الشتات اليهودي ويلتصق به.
6 - فلسفة «دين العمل» ويرتبط مع الهدف السابق بوصفه أحد أركان الثقافة اليهودية والهدف من التعلق بالأرض. وفلسفة دين العمل بها هو تحقيق الاستيطان اليهودي في النهاية على أرض إسرائيل.(39/241)
أما الأهداف غير المعلنة للتربية الصهيونية فيحددها الدكتور وائل القاضي بالآتي:
* الإيمان المطلق بحق شعب إسرائيل في «أرض إسرائيل» وملكيتهم لها والاستيطان فيها من خلال التكرار والتأكيد بالحديث عن الحق التاريخي في «أرض إسرائيل التاريخية».
* تحقيق التضامن اليهودي داخل إسرائيل وخارجها لضمان استمرار الهجرة اليهودية والدعم المادي لإسرائيل خاصة من يهود المهجر.
* تكوين الاستعداد لدى الأجيال الإسرائيلية اليهودية للتوسع والاحتلال والعنف، وكراهية العرب؛ وذلك بحجة إنقاذ الأرض.
* تأكيد الشعور بالقلق والتوتر لتحقيق استمرارية الإحساس بالاضطهاد عند الأجيال اليهودية المتعاقبة، لضمان عدم اندماج وانصهار هذه الأجيال في أي مجتمع آخر غير «إسرائيل».
* إظهار التفوق العبري الحضاري عبر العصور لتكوين الإحساس بالتمايز والتفوق، والشعور بالاستعلاء عند الأجيال الإسرائيلية الجديدة، وعودة الشعب المختار إلى «الأرض الموعودة».
* تشويه وتقزيم الصورة العربية في نظر الطالب الإسرائيلي مقابل التأكيد على صورة «السوبرمان» الإسرائيلي الذي لا يقهر.
* تربية وتنشئة أجيال صهيونية متعصبة جداً لصهيونيتها ودولتها بكل ممارساتها مؤمنة بذلك إيماناً مطلقاً.
على كل تلميذ حفظُ مقاطع من التلمود وتشرُّب روحها. ويؤكد رئيس مركز الدراسات المعاصرة في مدينة أم الفحم الدكتور إبراهيم أبو جابر على أن الديانة اليهودية تعتبر مصدراً هاماً من مصادر الفلسفة التربوية عند اليهود؛ فلقد اعتمدت التربية اعتماداً كبيراً على الدين في سبيل تشكيل أجيال متشبعة بتعاليم التوراة والتلمود، من أجل ترسيخ مفاهيم معينة في نفوس الناشئة اليهودية.
وتهدف التربية الدينية إلى تربية الطفل جسدياً واجتماعياً وانفعالياً وعقلياً عن طريق قصص من التوراة وأسفارها.
وفي هذا يقول حاييم وايزمن أول رئيس لدولة إسرائيل: «عندما بلغت ما لا غنى عنه لأي طفل يهودي، وخلال السنوات التي قضيتها في مدارس الدين تلك، كان عليَّ أن أدرس أشياء من أصول الديانة اليهودية، والذي ملك عليَّ لبي هو سِفْر الأنبياء» وما يمكن ملاحظته وفقاً لأبي جابر هو الاهتمام الكبير بتدريس المواد الدينية في جميع مراحل التعليم لأبناء اليهود أينما وجدوا؛ حيث تأتي مادتا التوراة والتلمود في مقدمة الدراسات، وتعتبر المادتان أساساً وإطاراً للغايات التربوية؛ حيث يقول مائير بار إيلان أحد مفكري التربية اليهودية: «إن روح التلمود ومعرفة عامة شرائعه وآدابه يجب أن يكون جزءاً من دراسة كل يهودي متعلم، حتى وإن لم يكن سيجعل من حقل الدراسة هذا مجالاً للعمل، والأمر شبيه بتعليم الفيزياء والرياضيات؛ فمع أنه ليس كل تلميذ يتخصص فيهما، ولا يستخدم جميع ما يتعلمه فيهما في حياته العملية، إلا أنهما ضروريتان له؛ كذلك بالنسبة للتلمود يجب أن يحفظ كل تلميذ مقاطع معينة منه وأن يتشرب روحها.
ونورد هنا بعض التعاليم والأحكام التي يحتويها التلمود؛ حيث صيغت بمهارة فائقة:
«اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض الأجنبية، فإن عقود الزواج عند الأجانب فاسدة؛ لأن المرأة غير اليهودية بهيمة ولا تعاقد مع البهائم. يجوز لليهودي أن يُقسِم زوراً ولا جناح عليه إذا حوَّل اليمين وجهة أخرى.
إن أخطأ أجنبي في عملية حسابية مع يهودي فعلى اليهودي أن يقول له: (لا أعرف) لا أمانةً، ولكن حذراً؛ إذ من الجائز أن يكون الأجنبي قد فعل ذلك عمداً لامتحان اليهودي وتجربته. من يقتل مسلماً أو مسيحياً أو أجنبياً أو وثنياً، يكافأ بالخلود في الفردوس وبالجلوس هناك في السراي الرابعة».
يقرر التلمود أن اليهودي يعتبر عند الله أفضل من الملائكة؛ لأن اليهود جزء من الله مثلما الابن جزء من أبيه.
ولا نستطيع قراءة كل ما جاء في كتب التدريس، ونكتفي بذكر الآتي وهو وجود كتاب لتعليم القراءة تحت عنوان: «مكريؤت إسرائيل» للصفوف الدنيا من الصف الثالث وحتى الثامن .
وقد قام الدكتور دانئيل بارتنا ـ محاضر علم النفس في قسم التربية بجامعة تل أبيب ـ بدراسة تطرَّق فيها إلى هذا الكتاب قائلاً بأنه بواسطة الكتب التعليمية تمت عملية غسيل دماغ للطلاب ليكرهوا العرب مما ينطوي على أبعاد مزعجة؛ إذ تصور العرب بملامح سلبية: إنهم وحوش وغير إنسانيين؛ فلا يمكننا تجاهل النتائج التي يستنتجها طفل لدى قراءته الخلاصة والأحكام التي يخرج بها عن العرب كلهم.
وفي كتاب آخر لتعليم اللغة أصدرته دار النشر «هكيبوتس همؤحد» في السبعينيات وما زال يدرس حتى يومنا. جاء في ص 277: «جلب اليهود روح التقدم والازدهار إلى الشرق الأوسط؛ بينما زاول العرب أعمال النهب والسطو والقتل».
وقد استطاعوا بث هذه القيم في نفوس طلابهم وتحقيق هذه الأهداف عن طريق مناهج التعلم الموجهة بدقة، فإذا اطلعنا على حجم دراسة مواد الدين اليهودي واللغة العبرية في مناهج الصفوف الابتدائية الدنيا ( 2 ـ 4) كمثال على ذلك نجد أن نسبة عدد ساعات دراسة هذه المواد تبلغ 35% في التعليم المدني بينما تبلغ 51% في التعليم الديني في الصفوف الابتدائية المشار إليها.(39/242)
وكما أنهم ركزوا جهودهم لتحقيق هذه الأهداف عن طريق (الكم) فإنهم اعتنوا أيضاً بنوع المادة المطروحة في المناهج، فمنذ نعومة أظفار الطفل اليهودي تركز التربية التي يتلقاها على أهداف محددة واضحة، ويذكر مؤلفا كتاب (فلسفة وأهداف تربية الطفل اليهودي في فلسطين) أن أهداف التربية في مرحلة رياض الأطفال تندرج تحت منظومة عامة من الأهداف تتلخص في «الهدف الرئيس وهو تكوين مجتمع موحد ويرتبط أفراده بثقافة ومشاعر مشتركة، ويتخاطبون باللغة العبرية، ويذكر المؤلف أن إسرائيل عنيت بتعليم الأطفال اللغة العبرية والديانة اليهودية باعتبارهما الأساس لقيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين. وثمة أهداف أخرى للعملية التربوية منها: بناء دولة عصرية تملك أسباب القوة المادية والروحية، والمحافظة على التراث اليهودي ونشره وتعميقه بين الناشئة اليهود. ولذلك أقامت إسرائيل الجامعة العبرية في القدس، وسعت إلى اتباع أحدث الاتجاهات الغربية في التعليم. وبالنسبة للمصادر التي تستمد إسرائيل منها هذه الأهداف فإنها تشمل:
الديانة اليهودية، الحضارة الغربية كحضارة عقلانية علمية، الحركة الصهيونية كخلاصة للتفاعل بين المصدرين الأول «الدين اليهودي»، والمصدر الثاني «الحضارة الغربية»، والناتجة عن قيم معينة تتلخص بالريادة والعمل.
وعن الغايات المنشودة من وراء رياض الأطفال فإنها ـ وفقاً للمؤلف ـ تدور حول تهيئة الأطفال للتعامل الرشيد مع عالمهم المادي والاجتماعي، وتثقيفهم بالثقافة العبرية، وإعدادهم لتحمل المسؤولية في المستقبل»(1).
وفي الحقيقة فإن الأهداف التي تبلورت عبر التطور التاريخي للمؤسسة التعليمية (الإسرائيلية) «قد عبرت عنها المناهج بشكل واضح، وبخاصة كتب الديانات والتراث والتاريخ واللغة والأدب، حيث تتمحور حول المنطلقات التالية:
- هناك شعب يهودي كان في الماضي البعيد يعيش في وطنه «أرض إسرائيل» موحداً، ثم تشتت بفعل الاحتلال الأجنبي لهذا الوطن.
- خلال سنوات «الدياسبورا/ الشتات» كان الشعب اليهودي يحلم بالعودة إلى وطنه، وعكست تعبيراته الدينية وموروثاته الثقافية الاجتماعية هذا الحلم.
- مع بدء التفكير في العودة إلى الوطن، كان «الجوييم» الأغيار لا يزالون يقيمون في هذه البلاد، يسيطرون عليها أو يحتلونها.
- ونظراً إلى أن الوطن «القديم ـ الجديد» مأهول بالأغيار، فثمة ضرورة للقيام بعدة اقتحامات في وقت واحد، أبرزها: اقتحام الأرض ـ اقتحام العمل والإنتاج ـ اقتحام الحراسة... إلخ.
- إن الروابط الدينية والتاريخية بين اليهود و «أرض إسرائيل» هي روابط أزلية/ أبدية؛ الأمر الذي يجعل العرب في البلاد وكأنهم غير موجودين.
ويظهر من خلال الدراسة التي قام بها البروفسور أدير كوهين ـ رئيس قسم التربية بجامعة حيفا ـ والتي تضمنت تحليلاً علمياً لأهم ما ورد في (42) من كتب الأطفال العديد من تلك المعالم والمنطلقات؛ إذ يكثر في هذه الكتب الحديث عن مملكة داود وسليمان، وعن حروب الرومان واليهود، وعن الغزو الأجنبي للبلاد، وفي كل هذه الأمور وسواها تتناول الكتب أحداثاً مثيرة تركز على ما يسمى (بطولات يهودية) ودفاعهم المستميت عن الوطن»(2).
(نحن) فقط، وسوانا صفر:
وقد شهد غريبون ـ بل يهود أيضاً ـ بالنتائج البغيضة لهذه السياسة التعليمية التي أثمرت العنصرية والإرهاب في أوساط اليهود، ففي عام 1946م زارت فلسطين لجنة تحقيق إنجليزية أمريكية حول أساليب التربية الصهيونية، وخلُصت من التحريات التي أجرتها بأن المدارس اليهودية، وهي تحت إشراف الطائفة اليهودية وتدار بأموالها، قد أصبحت مشبعة بروح قومية ملتهبة، وغدت وسائل فعالة بالغة الأثر لبث روح القومية العبرية العدوانية.
وفي عام 1959م وجَّه المجلس الأمريكي لليهودية في مؤتمره السنوي الخامس عشر المؤسسات التعليمية اليهودية لتجرد مناهجها من الطابع الصهيوني والقومية اليهودية المتطرفة التي تنادي بها الصهيونية.
وخلال مناقشات الكنيست في عام 1975م وصف النائب مائير فلنر التربية الصهيونية في إسرائيل بقوله: «إن التربية الصهيونية في إسرائيل تسعى إلى ترسيخ مشاعر التعالي القومي والعنصرية، ومعاداة العرب، والروح العسكرية وإنكار حقوق الآخرين... إن كل سياسة الحكومة الإسرائيلية غير إنسانية بما في ذلك سياستها تجاه تربية أولادنا».
ولعل المحامية الإسرائيلية فيليتسيا لانغر عبرت بصدق عن خلاصة واقع التربية الصهيونية وهي تخاطب الشباب اليهودي الذي يهدم بيوت العرب في الأراضي المحتلة إذ قالت: «لقد علموك منذ كنت صغيراً فن الحرب، وزرعوا فيك مشاعر التعصب القومي، والحقد على العرب، وأرادوا لك أن تحقد بكل ما أوتيت من قوة على العرب الذين أعدوك لمحاربتهم، لكي لا ترتجف يداك عندما تضغط على الزناد، وعندما دخلت المدرسة الابتدائية كان هناك من قرر بعد اثنتي عشرة سنة أنك ستكون جندياً؛ لذلك ستتركز تربيتك منذ الآن على تعلم الحرب، وبدأ ذلك بتنمية مشاعر التفوق القومي فيك مع رصيد لك في ماضيك من إهانة لقيم الشعب الآخر.(39/243)
«نحن فقط... وسوانا صفر» هذا ما استنتجته بحق من مادة التدريس»، وهذا الشيء في مجال السياسة معناه: «لنا كل البلاد ومن سوانا لا وجود لهم. ما أتفه العرب: ـ هكذا بدوا في عينيك بالقياس إلى كل هذا المجد. وعندما بلغت سن الرشد علموك عن الطبيعة السيئة للعربي الذي لا يفهم إلا لغة القوة والقسوة، والمستعد دائماً أن يقضي عليك بلا رحمة، فرددت وراءهم عبارة حكمائنا: «الذي ينوي قتلك سارع إلى قتله»؛ لأنه لا يوجد لك خيار طبعاً؛ لهذا فإن السلام سيأتي فقط بعد أن ننتصر على العرب في الحرب؛ لأنهم لا يفهمون إلا لغة القوة».
إقبال شعبي:
لم يكن الاهتمام بالقيم التوراتية والتلمودية في التعليم الصهيوني اتجاهاً رسمياً وحسب، بل إنه أيضاً يعبر عن رغبة شعبية متنامية في الاتجاه إلى إلحاق الناشئة بالتعليم الديني التوراتي إيماناً منهم بالنص التوراتي الذي يقول: «من كان له ولد فليعلمه التوراة». وهذا الاتجاه المتنامي حقيقةٌ تشير إليه الإحصائيات والأرقام الرسمية ـ خاصة في الفترة الزمنية الأخيرة، حيث تشير معطيات نشرتها وزارة التعليم الإسرائيلية بمناسبة بدء اليهود العام الدراسي الماضي أن عدد التلاميذ اليهود الملتحقين بمؤسسات ومدارس التعليم الديني في إسرائيل ازداد بأكثر من 130% خلال العقد الماضي.
وبحسب المعطيات الرسمية التي نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» فقد ارتفع عدد التلاميذ في أطر التعليم الديني من 48 ألف عام 1990م إلى 111 ألفاً عام 2000م.
ويتضح أيضاً أن عدد الطلاب في مدارس تعليم الشريعة اليهودية (التوراة) ازداد في نفس الفترة بحوالي 88%؛ حيث ارتفع عدد الطلاب الدارسين فيها من 17 ألف طالب قبل عشر سنوات إلى 32 ألفاً في السنة الحالية.
وأشار مسؤولون في وزارة التعليم الإسرائيلية إلى أن اتجاهات الزيادة القائمة في عدد الطلاب في أطر ومؤسسات التعليم الديني ستستمر في السنة الدراسية المقبلة، ويعزو المسؤولون أسباب ازدياد الإقبال على هذه المؤسسات والمدارس إلى حملات الدعاية، وتخفيضات الرسوم التي تقوم بها شبكات التعليم الخاصة التابعة لأحزاب المتدينين المتزمتين، ولا سيما الشبكة التي يديرها حزب «شاس» الديني ـ الشرقي.
ووفقاً للمعطيات الرسمية ذاتها فقد سجل في مقابل هذا الارتفاع الكبير في عدد طلاب مؤسسات التعليم الدينية انخفاض في نسبة طلاب وتلاميذ جهاز التعليم الحكومي في إسرائيل من 73% عام 1990م إلى 67% في العام قبل الماضي.
هكذا يربى اليهود أبناءهم، وهكذا يقبل اليهود على تعلم دينهم، فما موقفنا نحن من التعليم الديني في بلادنا؟
حقائق عن إسرائيل:
يتكون المجتمع اليهودي في إسرائيل الآن من يهود متدينيين وغير متدينين. وبين مختلف الفئات هناك الأرثوذكس المتطرفون، وهم يغالون في التدين ويناوئون الصهيونية، وهناك من يعتبرون أنفسهم علمانيين. ومهما يكن من أمر فليس هناك خطوط واضحة بين هذه الفئات.
وبصورة عامة يمكن القول إن20% من السكان اليهود ملتزمون بالفرائض والشعائر الدينية، وعلى هذا الأساس هم أرثوذكس. وهناك حوالي60% يلتزمون بقسم من الفرائض والشعائر، حسب ميولهم وتقاليدهم السابقة في حين يعتبر 20% غير متدينين إطلاقاً.
وهناك مقاييس أخرى يمكن استخدامها لتحديد مدى التزام جمهور معين بأسلوب حياة متدين، منها التحاق الأطفال بالتيار التعليمي المتدين (30%)، أو تصويت الناخبين لصالح الأحزاب المتدينة (10 ـ 15%).
المتدينون ينقسمون من حيث الالتزام الديني والعلاقة مع الدولة لشرائح وأنواع:
1 - المتدينون المتزمتون (الأرثوذكس أو الحريديم): وهم الذين يحملون أفكاراً معارضة لمبدأ تأسيس الدولة، ويشكلون غالبية التيار المتدين، ويسكنون أماكن خاصة بهم، ولهم أنماط حياة أيضاً خاصة، منهم من يتعاملون مع الدولة ومؤسساتها ويشارك هذا التيار في الانتخابات انطلاقاً من مبدأ المصلحة أمثال (شاس، ديغل هتوراة، حباد).
وقسم آخر يرفض ذلك جملة وتفصيلاً، بل يتهم دعاة الصهيونية بالزندقة والكفر، ولا يحمل بعضهم الهوية الإسرائيلية، أمثال جماعة ناطوري كارتا.
2 - المتدينون الوطنيون: وهم جزء من المتدينين اقتنعوا بطروحات الحركة الصهيونية ومبادئها، فخلطوا التدين والوطنية، فهم يشاركون منذ قيام الدولة في الحكم، ويخدم أبناؤهم في الجيش جنباً إلى جنب مع الآخرين غير المتدينين، وهؤلاء ينتمون لحركة (المفدال).
3 - المتدينون الإصلاحيون: وهؤلاء وجودهم قليل في إسرائيل لكون مقرهم الولايات المتحدة الأمريكية. وهم أشبه بالتيار التحريري لدى النصارى (البروتستانت)، وعلى صراع مرير مع المتدينين المتزمتين بحكم تحررهم في المسائل التعبدية، وتجاوزهم لكثير من المعتقدات لدى اليهود الأرثوذكس.
-------------------
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين
المصدر : مجلة البيان
==============(39/244)
(39/245)
في مايسمى " صدام الحضارات "
د.فواز الجابري
- جدة - المملكة العربية السعودية
لفت نظري منذ فترة تنوف عن عامين, وفي غمرة استعدادات الدولة الاكبر في العالم ل"محاربة الارهاب" في أفغانستان , عنوان كتاب ل"صموئيل هتنغتون" وهو من مثقفي هذه الدولة يدعى" صدام الحضارات". بدأ,لم يثر العنوان اهتماما في , حيث انه كان مذكورا بأيجاز شديد في صفحةداخلية لصحيفة عربية تصدر في أوروبا. لكن تطورات الاحداث آنئذ في أفغانستان ثم العراق وبقاع أخرى من العالم, مع مارافقها من ظهور عالمي لتنظيمات جديدة أخذت تشرّع نفسها بلغة سياسية-دينية أسوة بالقوة الاكبر , جعل الريط بينها-أي الاحداث- وبين محتوى الكتاب أمرا لامناص منه. وجاءت قناعتي بكتابة هذا المقال بعد أن أرسل صديق لي عبر البريد الالكتروني مقتطفات باللغة الانكليزية من الكتاب المذكور مشفوعة باعجابه الشديد بالكتاب فكرة وموضوعا ومحتوى مع قناعته باحتوائه(أي الكتاب) على كثير من الحقائق. هنا, كان لابد من وقفة لوضع نقاط على حروف ولاستيضاح بعضا من تعريفات ضاع معناها الحقيقي في زحام الحرب الاعلامية المستعرة حاليا:
أولا: في تعريف الحضارة:
1- الحضارة civilization : يقصد بالحضارة أو التمدن(الترجمة الحرفية للمصطلح اللاتيني) الانتاج الفكري والمادي والسلوك العام لمجموعة معينة من الناس في حقبة زمنية معينة. يشمل الانتاج الفكري كافة النشاطات العلمية والادبية والفلسفية بينما يشمل المادي انشاء البنى التحتية والفوقية والثراء المادي للفرد والمجتمع, أما السلوك العام فيمثل العادات والتقاليد والقيم الفكرية والاخلاقية والمفاهيم الاجتماعية للمجتمع والسلطة الحاكمة لهذا المجتمع.
2- منابع الحضارة r esou r ces : يستنتج من التعريف السابق ضرورة وجود مصادر مادية وفكرية لتكوين وبناء الحضارة في بلد ما . بالنسبة للمصادر المادية تمثل الثروات الطبيعية كالماء بكافة أشكا! له الطبيعية والنفط والمعادن والتربة الصالحة للزراعة أهمها بالاضافة للقوى البشرية الضرورية لاستثمار تلك الثروات في انشاء البنى التحتية والفوقية وفي التبادل التجاري. اما المصادر الفكرية فيمثل الدين والفلسفة والعلوم التجريبية والترجمة أهمها بالاضافة - بالطبع - الى العقول البشرية اللازمة لحفظ وتطوير ونشر تلك المصادر في المجتمع وفي المجتمعات المجاورة.
3 - نرى اذا - وبداهة - ان العنصر البشري هو العامل الاساسبي والمشترك لبناء كافة أشكال الحضارة مادة وفكرا. ومن هنا تبرزأهمية المحافظة عليه وتربيته وتنشئته بطريقة صحيحة جسما وعقلا ليؤد دوره كاملا في بناء المجتمع وتكوين الحضارة والارتقاء بها.
4- محطات للحضارة: عرفت البشرية على مر تاريخها الطويل الذي يقدر بملايين السنين أشكالا مختلفة من الحضارة, لكن كانت هنالك محطات رئيسية ومفصلية في مسيرة قطارها حيث أحدثت تلك المحطات تغييرات جذرية في الحضارة الانسانية واعطتها دفعات كبيرة الى الامام كما ونوعا. اهم هذه المحطات هي:
اكتشاف النار, اكتشاف وتصنيع أدوات الصيد, أكتشاف الزراعة والري ,أكتشاف العجلة, أكتشاف الكتابة وتطور أدواتها وأسلوبها, أكتشاف الرقم صفر والكشوفات الرياضية والفيزيائية والكيميائية الاخرى,الكشوفات الجغرافية والفلكية الكبرى, الثورة الفكرية فالصناعية وأخيرا-وليس آخرا-المعلوماتية.
هذا غيض من فيض من فترات حاسمة أعطت للنتاج الحضاري الانساني دفعات كبيرة للأمام,وبنظرة سريعة وشاملة لسلّم تطوّر الحضارة نلاحظ انّ شعوبا وأمما عدّة ساهمت في صنعها وأدلت بدلوها فيها بغضّ النظر عن انتمائها الجغرافي أو العرقي أو الطائفي.
5- مفاهيم مشتركة للحضارة: كالأبنية المتماثلة حجما وتصميما في شارع واحد والمختلفة والمتنوعة محتوى , هي المظاهر الحضارية عند مختلف الامم والشعوب,فقد تطابقت الأمم في أسس تكوين الحضارة من بنى تحتية وفوقية ولغة وقوانين وأنظمة حكم وأنتا! ج علمي وأدبي وفنّي بفروعه المختلفة, وتنوعت في مظاهرها, فالادب-على سبيل المثال- مفهومه واحد لم يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان لكن اختلفت لغته واختلف شكله وأسلوبه واتّخذ خصوصية تدل على الامة التي انتجته وكذلك بالنسبة للموسيقى ولجميع فروع الآداب الاخرى.
أما الانتاج العلمي فلا خصوصية له, فهو مشترك بين جميع الامم البائدة والحاضرة تقريبا, ويمكن تشبيهه بكرة الثلج التي تكبر عندما تتدحرج من مكان الى مكان, حيث يغتني عبر الازمنة والامكنة بمفاهيم جديدة وتتعدل أخرى وذلك يمساهمة كل شعب وكل أمة بنصيب في ذلك الاغناء. اما طرق هذا النقل فهي عديدة وتشمل الحروب بين الامم والممالك, طرق التجارة, السفارات بين الامم والبعثات العلمية والتجارية, الكتابة والكتب وأخيرا وسائل الاعلام والمعلوماتية المعاصرة.
6- نتائج مهمة: يجب ذكرها قبل أن نورد أسباب نفي صدام الحضارات وهو الهدف من مقالنا هذا:
أ- لايستطيع أي شعب أو أية أمة أو جماعة في أي! زمان أو مكان الادعاء باحتكار أي أنتاج حضاري(39/246)
أيا كان نوعه أوهدفه وبالتالي ادعاء التفوق على أقرانهم من باقي الشعوب والامم, اذا فالحضارة
والعنصرية لايجتمعان وهما يتاقضان بعضهما تماما.
ب- أن الصراعات بين الامم والدول - وهي احدى وسائل الاحتكاك بين الشوب كما تقدم - هي التي تسهل
انتقال واغناء الانتاج الحضاري وليس العكس كما ذكر هذا الكاتب المرموق(الحروب الصليبية,حملة
نابليون على مصر,الفتوحات العربية الاسلامية, غزوات البرابرة للامبراطورية الرومانية).
ثانيا: العنصرية أداة ولها أدواتها:
1- تعريف العنصرية: صلى الله عليه وسلم acism : هي تعصب فرد أو فئة من الناس لجنس أو عرق أو قبيلة أو عشيرة أو دين أو طائفة أو معتقد أو حتى لون بشرة واباحة قتل أو اضطهاد أو حتى ازدراء الفئات الاخرى بدون وجه حق أو سبب واضح سوى انها تختلف عنه في جنسها أو عرقها أو طائفتها أو لون بشرتها(زنوج وهنود أمريكا,القبائل العربية قبل الاسلام, فكرة الحروب الصليبية, الحركة الصهيونية,النازية,التحزّب والحزبية,الصدامات العرقية والطائفية المعاصرة, مصطلح محاربة الارهاب).
2- تربة العنصرية Envi r onment: من التعريف السابق نصل الى نتيجة بالغة الاهمية هو أن الفكر العنصري يزدهر في المجتمع الجاهل والبيئة غير المتنورة, نتيجة عدم معرفة الفرد أو تلك الفئة من الناس بالطبيعة الانسانية وبحضارات وتاريخ الآخر وكذلك - وهو الاهم حتما -! الجهل التام أو الجزئي بالقيم الدينية والاخلاقية والنواميس الالهية التي لاتتغير على مرّ العصور. اذا: الجهل مرادف للعنصرية وبكلمة أخرى : الجهل عدو الحضارة.
3- الفكر العنصري كأداة للصراعات: بما ان الفكر العنصري مناف للعقل والحضارة كما تقّدم, ويجد في المجتمعات المتخلفة فكريا وصحيا واقتصاديا مرتعا خصيبا له,فلايدّ اذن من وجود مستفيدين وأصحاب مصلحة في وجوده ثم استمراره في مكان وزمان معينين وذلك عبر استخدامه كستار لخدمة وتحقيق مصالحهم الفردية والمادية فقط . لذا, يمكن اعتبار الفكر العنصري كأداة فعّالة في يد أصحاب طموح السلطة والنفوذ والجاه على مرّ العصور واختلاف الامكنة(نفس الامثلة التي ذكرتها في تعريف العنصرية). ويقتضي التنويه للاهمية البالغة هنا بأن أصحاب الفكر العنصري والمستفيدين منه ليسوا مجموعة واحدة متجانسة يورثون فكرهم وسلطتهم لاحفادهم أو منتسبي مجموعتهم فقط (كما يعتقد بذلك أصحاب نظرية المؤامرة), بل هم موجودون ومنتشرون في كافة البلدان وعلى مرّ العصور, والشواهد التاريخية كثيرة جدا لايتسع المجال لذكرها هنا.
4- أدوات الفكر العنصري: حالما تتوافر التربة الملائمة لنمو الفكر العنصري ويتواجد من يستفيد منه كما تقدّم, يبدأ البحث عن وسائل لنشره وترويجه وتشريعه بين أكبر عدد ممكن من الناس على أنه المعيار الحقيقي لاسباب الصدامات بين المجتمعات الشرية. هنا, يبدأ تشويه التاريخ ونتشأ مصطاحات جديدة مغلوطة, ويتغير تفسير أخرى معروفة منذ قدم التاريخ المكتوب لتلائم هذا الفكر الخطير. أما أهمّ مظاهر وأدوات الفكر العنصري فهي - الترتيب حسب الاهمية - :
أ- تشويه الفكر الديني وجعله بخدمة طبقة من الساسة والطامعين بدل أن يكون هو الموجه لرقي وصلاح المجتمع والفرد ولدفع مسيرة الحضارة. من أبرز مظاهر هذا التيار: قادة الحركة الصهيونية, الاباطرة البيزنطيين,ملوك فرنسا وألمانيا وانكلترا في العصور الوسطى, بعض القادة" والخلفاء" المسلمين وخاصة العثمانيين وقادة الثورة "الاسلامية في ايران ,الاحزاب والمنظمات الدينية المعاصرةالتي شوهت مفهوم الجهاد والخلافة في الاسلام وابتدعت مصطلح الصليبية العالمية وذلك خدمة لاهداف الولايات المتحدة في ربط المقاومة الفلسطينية واللبنانية المشروعة بالارهاب والعنصرية وبالتالي محاربتهما.
تتجلى هنا "ثقافة الطائفة" بأسوأ صورها حيث تبيح هذه "الثقافة" رفض وأحيانا الالغاء الجسدي (ان لزم)
لأفراد من طوائف اخرى وذلك خدمة فقط - وثم فقط - لاصحاب المصالح- من الاقطاعيين والملوك في
العصور الوسطى- وليس لعامة النلس الذين سيكتشفون لاحقا بانهم " طلعوا من المولد بلا حمّص"....!!!
( الحروب الصليبية, حرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا,الصراعات بين الامبراطورية النمساوية وروسيا
القيصرية والدولة العثمانية).
ب- تشويه الفكر القومي: نشأ هذا المنحى في عصور لاحقة (العصور الحديثة بالتعريف التاريخي والتي تبدأ مع مطلع القرن 15 حتى اليوم) بعدما بدأت الامبراطوريات القديمة بالتهاوي(البيزنطية، الرومانية المقدسة ثم
الاسبانية, البرتغالية والهولندية) والتي كانت قائمة على التحالف المشبوه بين الاباطرة ورجال الدين(وليس الدين)
وحلّت محل أصحاب القرار نخبة من الصناعيين وكبار التجار التي مافتئت تزيد ثرواتها من خلال امتصاص
دماء شعوبها وشعوب مستعمراتها الآخذة في التوسعّ. تلك النخبة كانت تبحث عن " تشريع" legalization
وتبرير لحروبها الاستعمارية, فاستخدمت النعرات القومية والاثنية لذلك واستغلت الفروق والخصائص القومية(39/247)
والحضارية الموجودة اصلا بين الشوب والامم على مرّ العصور واختلاف الامكنة لتحقيق مآربها الشخصية من مادية واسترتيجية (نابليون,المانيا,ايطاليا,فرنساوبريطانيا في القرن التاسع عشر الى الحرب العالمية الثانية,
الاحزاب القومية المعاصرة في شتّى بقاع العالم).
ج- تشويه الفكر الانساني: وذلك باستخدام معايير انسانية وأخلاقية ثابتة ومطلقة لتبرير وتغطية التوسع والهيمنة:
كالدفاع عن الحرية والديموقراطية, محاربة الارهاب(وهو بيت القصيد في مقالي هذا).
د- استخدام نظريات ومصطلحات ماتت مع موت أصحابها: كالماركسية, الاشتراكية الخيالية, الهيغلية, المكيافيللية الفوضوية,......الخ.
ه- ابتداع نظريات وفلسفات خاصة لتغطية وتبرير التوسع والهيمنة: كالنازية, الفاشية, الصهيونية, و العلمانية.
5- اعود للتنويه والتركيز على أن الفكر العنصري بكافة أشكاله وادواته المعروضة سابقا هو أداة وليس هدفا في حدّ ذاته, حيث لم يكن يهم أصحاب القرار السياسي تحقيق الهدف المعلن لهم والذي شرّعوا على أساسه عدوانهم أو حربهم ضد الآخر بل كان يهمهم تحقيق أكبر كسب مادي واستراتيجي على حساب الاطراف الاخرى المتصارعة(الحربين العالميتين الاولى والثانية, انشاء دولة اسرائيل).
ثالثا: الاديان,الحضارة والعقل:
عودة الى تعريفنا السابق للحضارة ومقوماتها, حيث ذكرت بان العقل البشري هو أحد المقومات الرئيسية لصنع الحضارة وان الاديان هي أحد المصادر الفكرية الرئيسية لها.
بمحاكمة منطقية بسيطة وبعيدا عن السفسطائيات نصل الى نتيجة عظيمة في الاهمية وهي : حيثما يوجد عقل سليم يعمل نجد حتما تطبيقا سليما للدين وبالتالي نجد الحضارة. اي أن العقل والدين والحضارة توائم ثلاثة لاتنفصل مطلقا على مرّ العصور وباختلاف الامكنة, وان أي غياب لاحدها يعني حكما غياب الاثنين الباقيين.
وبمحاكمة مماثلة نستنتج أنه حيثما يوجد الفكر العنصري وأدواته وزبانيته يغيب العقل والدين الصحيح والحضارة.
لكن, هل ينطبق هذا الاستنتاج على الواقع التاريخي قديما وحاضرا؟ وبعبارة أخرى؛ ! هل حدث وتعايش في مكان واحد وزمان واحد الفكر العنصري مع بيئة حضارية متنورة أم لا؟
الجواب؛ نعم حدث في أكثر من زمان ومكان أن تعايش الفكر الجاهل العنصري مع الفكر الحضاري المتنور. هذا واقع تاريخي لايمكن انكاره, وهو يناقض- ظاهريا على الاقل- النتيجة التي توصلنا اليها منذ قليل,لكن بقليل من الدراسة المتأنية لمعظم الدول والحضارات البائدة والسائدة نتبين انكفاء الجهل والفكر العنصري(وليس غيابه نماما) في حال ازدهار الحضارة كما نلاحظ ازدهاره في فترات انكغاء الحضارة والعقل, وهذا مايفسر وجود طبقات السياسيين والاقتصاديين المغامرين والطامعين الى الثروة والسلطان حتى في أعتى الدول قوة وأكثرها حضارة( بسمارك وهتلر في ألمانيا, نابليون في فرنسا, لينين في روسيا واتحاد الصناعات العسكرية والمافيا في الولايات المتحدة), كما يفسر أيضا وجود جمهرة مفكرين وكتّاب متنورين حتى في أشد المجتمعات تخلفا وظلامية. اذن, انه صراع أبدي وتوازن بين العقل والجهل, بين الحضارة والتعصب, وبعبارة أخرى: بين الخير والشرّ.
رابعا: الشرق والغرب:
سأكتفي بسرد مثالين مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا منذ قدم التاريخ شكّلا- ومازالا يشكلان حتى اللحظة الراهنة_ محور الصراعات العالمية أو مايعرف ب" الصراع بين الشرق والغرب" وهما: الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الغربية الحديثة:
كان لظهور الاسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي الاثر الاعظم في نقل المنطقة بأسرها من حالة الجهل والتخلف والعنصرية القبلية وعبادة الاوثان وتقديس الطاغوت الى عبادة الاله الواحد وازالة الفروق بين البشر. حمل الاسلام كافة المفاهيم الانسانية الى ثلاثة محاور رئيسية: محور علاقة الفرد مع خالقه(العبادات), محور علاقة الافراد والمجتمعات ببعضها بعضا(التشريع الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي), ثم محور علاقة الحاكم بالرعية وأسلوب الحكم.
لم يتسامح الشرع الاسلامي في اهمال اي محور من تلك المحاور وشدد على تطبيق الكل, وهذا مانراه واضحا في سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - والصحابة والخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم_ حيث شددوا في كل مناسبة على تلازم هذه المحاور بحيث يكون المسلم مسلما في كل شيء ابتداء من سلوكه الشخصي فسلوكه مع محيطه وأخيرا اسلوب حكمه(اذا كان حاكما).
النقطة التي تهمنا هنا هي "اسلوب الحكم في الاسلام". فبحسب النصوص الشرعية والكتب الكثيرة المختصة بهذا الشأن, قام الحكم في الاسلام على ثلاثة دعامات رئيسية: العدل, التسامح وتكافؤ الفرص. أما العدل فيقصد به اعطاء كل ذي حق حقّه من ثواب أو عقاب بغض النظر عن صفة اعتبارية أو لون أو عرق أو دين. وأما التسامح فيعني حرية المعتقد والاتجاه السياسي. وأخيرا يعني تكافؤ الفرص وضع الرجل المناسب في المكان المناسب واتاحة الفرصة أمام جميع الرعايا لممارسة عملهم ونشاطهم اقتصاديا أكان أم اجتماعيا أم علميا.(39/248)
كان لتطبيق أسلوب الحكم الذي ذكرته آنفا والنابع لاشك من ايمان ديني عميق الاثر الكبير في انطلاق الحضارة العربية الاسلامية واشعاعها على العالم كله في ذلك الوقت. انقلبت موازين وتغيرت مفاهيم ودالت دول الى غير رجعة وزالت طواغيت الى الابد في فترة زمنية قصيرة لاتنوف عن الثلاثين عاما منذ أنزل الوحي على الرسول- صلى الله عليه وسلم - لاول مرّة , وتتابعت الانجازت الحضارية التي كان الشرع الاسلامي دعامتها ومنبعها وملهمها دائما. كانت الفترة التي طالت حوالي ستمائة عام تقريبا فترة عقل وتنوير وانفتاح بحقّ. ولم يجد العلماء والمفكرين المسلمين وغيرهم ممّن انضووا تحت لوائها حرجا من الاستفادة من كل ماوقع تحت ايديهم من علوم واكتشافات وحتى فلسفات لشعوب اخرى بغضّ النظر عن دينها أو عرقها حيث لم يخرج ذلك عن نطاق النصوص الشرعية الاسلامية التي أمرتهم بالبحث عن المعرفة اينما وجدت.
بالطبع, لم تعدم تلك الفترة وجود الطامعين السياسيين واصحاب المصالح المادية البحتة, ولم تعدم وجود الباحثين عن السلطان والجاه والنفوذ, غير ان الوعي الديني الصحيح بين كافة فئات الناس من خاصة وعامة ومن علماء وباحثين ومستشارين وادباء وحتى عامة الناس, هذا الوعي كان يحبط دائما الانحراف في مسيرة الحضارة تلك.
في الفترة ذاتها(العصور الوسطى: 500-1500 م)كانت القارة الاوروبية غارقة في الجهل والتخلف والعنصرية. كان يحكمها خليط من امبراطوريات ادّعت خلافة الامبراطورية الرومانية ومن اقطاعيات عديدة متفرقة وصغيرة انتشرت في انحائها. وكان اصحاب السلطة والنفوذ من أباطرة واقطاعيين وأمراء يتحالفون مع رجال الدين لاضفاء الشرعية على سلطتهم. ولم يجد اولئك مقاومة تذكر من الشعوب التي حكموها آنذاك كونها(اي الشعوب) كانت غارقة في الفقر والجهل والمرض الذي بدأ يدبّ في أوصالها في السنين الاخيرة للامبراطورية الرومانية. لم تنفع محاولات قسطنطين (في القرن الرابع الميلادي) من اعلانه المسيحية دينا رسميا للدولة ثم تقسيمه لها الى شرقية وغربية في بعث الروح في جسد الامبراطورية الميّت بل عجّل -على العكس - في نهايتها, حيث حوّل بخطواته تلك تسامح المسيحية الاصولية وعالميتها كما نادى بها السيد المسيح- عليه السلام- وحواريه الى تعصب ديني وصل الى أوجه مع بداية الحروب الصليبية.
ظلّ نجم الحضارة للشرق العربي الاسلامي في صعود وللغرب الاوروبي في هبوط حتى ارهاصات القرن الثالث عشر الميلادي. فمع توسع مساحة الدولة الاسلامية وانطواء شعوب كثيرة تحت لوائها,كثرت المطامع السياسية وعادت المناحرات القبلية الى الظهور وخاصة مع ازدياد ثروة ورخاء الامّة, فكان التقسيم السياسي لها الى دويلات يحارب فيها الاخ أخيه(الاخوة أميري دمشق وحلب قبيل الغزو الفرنجي)مما أثار شهوة الدول والشعوب المجاورة ايضا والغير متحضرة(المغول البداوة والفرنجة الاقطاعيين), هنا بدأ نجم العقل والدين وال! حضارة يأفل ويفسح المجال لانحطاط بدأ سياسيا وانتهى دينيا واجتماعيا وفكريا واقتصادي الانزال نعيش اثاره لليوم(حلقة الجهل والفقر والمرض)....لكن:
لم تأب الحضارة العربية الاسلامية أن تختفي وتضمحلّ قبل أن تفسح المجال للأوروبيين بان ينهلوا منها, فكيف؟.
كانت الاندلس وصقلية وجنوب ايطاليا ثم الممالك الفرنجية في بلاد الشام الجسور التي عبرت منها الحضارة العربية الاسلامية وشعّت الى الغرب الاوروبي, حيث تدفّقت الانجازات الحضارية بكل اشكالها من علم وفلسفة وأدب ولاهوت عبر مناطق التماس تلك الى الشعوب الاوروبية سواء بالبعثات الدراسية أو بالترجمات المكثّفة أو الدبلوماسية أو بالتجارة أو بالحروب, ووجد في الغرب من يتبنّى التنوير ويعتبره فرصة للخلاص من نير وتسلّط الحكام والامراء ورجال الدين وخاصة في المدن التجارية الايطالية(البندقية, بيزا وجنوا)التي احتفظت على الدوام بعلاقات جيّدة مع الشرق الاسلامي.
شيئا فشيئا استبدلت بخارى والري وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان ومراكش وفاس وقرطبة كمراكز اشعاع فكري وحضاري في العالم المعروف آنذاك ببادوا وسالرنو و بولونيا وفلورنسا وبالرمو ثم لاحقا لشبونة وروما ومدريد ومونبيلييه وباريس وبرلين ولندن, وكانت نقطة البداية هي كسر القاعدة التي وضعها رجال الدين والقائلة بعدم دراسة فكر الشعوب الاخرى غير المسيحية باعتباره " زندقة وكفرا ومروقا على الدين".
استمر الصراع حادّا- وبالتوازي - بين الفكر الظلامي والفكر التنويري في أوروبا لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام, حيث لم يسلّم الحلف المكوّن من! الملوك والامراء ورجال الدين مواقعه بسهولة. عرفت القارة موجات عارمة من التعصب الديني والطائفي والعرقي وعانت من حروب داخلية مدمّرة, لكنها عرفت في الوقت نفسه حركات اصلاح ديني وفكري واجتماعي واقتصادي كثيرة تّوجت بالثورة الفرنسية والانكليزية ثم الوحدتان الالمانية والايطالية, وعرفت على الصعيد العلمي تتابع الاختراعات والاكتشافات حتى يومنا هذا..(39/249)
كانت النهضة الفكرية الاوروبية بدورهاسببا رئيسيا في الكشوف الجغرافية الكبرى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر التي خلقت طبقة من كبار التجّار ثم الصناعيين بفعل الثروات المادية المتدفقة من المستعمرات, وهذه, بالاضافة للثورة الفكرية والعلمية, ساهمت في ادخال القارة في دوامة الحلقة الحضارية التي كان الشرق الاسلامي قد دخلها قبلها بحوالي 800 عام وهي حلقة الغنى والعقل والصحة.
أفسح اضمحلال طبقة الملوك والاقطاعيين ورجال الدين وزوال التحالف بينهم المجال لظهور طبقة جديدة في مراكز القرار وهي طبقة تحالف الشرك! ات الصناعية والتجارية الكبرى مع رجال السياسة الذين تبدلت ألقابهم وتغيرت مسمياتهم, اذ كان لابد للصناعات المتنوعة التي استحدثت بفضل التقدم العلمي والثروات الهائلة من المستعمرات المكتشفة حديثا أن تبحث لها عن أسواق لتصريف منتجاتها ,الى يد عاملة رخيصة والى- وهو الاهم- مواد أولية خام ضرورية لتلك الصناعات, فاشتد التنافس الاستعماري بين الدول الاوروبية الاكثلر تطورا واتصف لاول مرة في التاريخ - ومن الآن فصاعدا- بالعالمية لانه لم يعد مقتصرا على الحدود البرية المشتركة بين بلدين -كما كان سابقا-بل شمل كل البقاع التي وصلتها أساطيل وجيوش تلك الدول.
وصل التنافس الاستعماري بين ساسة وصناعيي الدول المتطورة الى ذروته خلال النصف الاول من القرن العشرين, وحاول كل طرف تحقيق مكاسب استعمارية جديدة على الساحة العالمية المفتوحة وخاصة بعد انضمام لاعبين جدد للنادي الاستعماري(المانبا, ايطاليا, بلجبكا, الولايات المتحدة,اليابان والاتحاد السوفياتي). وفي حين شهدت الحرب العالمية الاولى زوال آخر الامبراطوريات الاقطاعية -اللاهوتية القديمة ( النمسا,هنغاريا , الدولة العثمانية,روسيا القيصرية) شهدت الحرب العالمية الثانية زوال القوى الاستعمارية الامبريالية المتطورة (فرنسا,بريطانيا,المانيا,ايطالياواليابان) وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الى المسرح الاستعماري العالمي كقوتين عظميين وحيدتين تصولان وتجولان كما يحلو لهما عبر ماسمي "بالحرب الباردة", اذ لم يحدث صدام عسكري مباشر بينهما بل حدث عبر حروب ساخنة شتّى في العديد من بلاد العالم الثالث( كوريا, فييتنام, لاوس, كمبوديا, لبنان, فلسطين, القرن الافريقي, كوبا, نيكاراغوا, أنغولا....الخ). وقد اتخذت هذه الحروب ذرائع شتى من قومية وطائفية وقبلية وايديولوجية اذكت اوارها الآلة الاعلامية الضخمة للقوتين العظميين بالاضافة للتنظيمات والانظمة التابعة لها في تلك البلدان وايضا الجهل والفقر والمرض المتفشي بين شعوبها(اي شعوب العالم الثالث).!
شهد العقد الاخير من القرن العشرين انكفاء الاتحاد السوفياتي كقوّة عالمية وتفرّد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في الساحة العالمية. تجلّى ذلك في اكتسابها مواقع استراتيجبة جديدة في شتّى بقاع العالم عبر اثارة الحروب الاهلية والاعمال الارهابية مباشرة أو بواسطة منظمات وأنظمة تعاديها ظاهريا, ثم التدخل عسكريا بحجة ايقافها واعادة الامن والاستقرار. كان هذاواضحا في يوغوسلافيا السابقة,بنما,القوقاز, أفغانستان,العراق.... والبقية تأتي.....!!
خامسا: الحركة الصهيونية, الهيمنة الامريكية وصدام الحضارات؛ نتيجة
هل هنالك ثمة علاقة بين الفكرة الصهيونية ونظرية" صدام الحضارات"؟
للاجابة على هذا السؤال يلزمنا العودة الى بعض التعريفات والمحطات التاريخية.
تعرّف الحركة الصهيونية بانها حركة تهتم بتجميع يهود العالم أجمع في "وطن قومي" أو "دولة يهودية" عبر جميع الوسائل الممكنة, وقد لخص روّادها هذه الوسائل " بالتجمّع والاقتحام", حيث قامت منظمات صهيونية عديدة بتجميع السكان اليهود من كافة بلدان العالم وتقديم التسهيلات المادية والاجتماعية لهم مقدمة لارسالهم الى فلسطين,ومن هناك, وبعد توفير عدد كاف منهم وتدريبهم تدريبا عسكريا مكثفا, قاموا بتثبيت أقدامهم في "الارض الموعود" ومن ثم تأسيس " الوطن القومي" ثم الدولة في عام 1948 م.
اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتهاعلى الاساطير الدينية التي لاأساس لها من الصحة كغطاء لعملها ولاعطائه الشرعية اللازمة,
لم تستطع الحركة الصهيونية منذ نشأتها في عام 1897 م وحتى اللحظة الراهنة- مرورا بكافة مراحل انشاء الدولة اليهودية- العمل منفردة ومن دون دعم مادي وسياسي وعسكري وبشري, فكان اعتمادها على بريطانيا وفرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ومن ثم انتقل السند الى الولايات المتحدة التي ماتزال تعتمد عليها حتى الآن. ومن جهتها وجدت هاتان الدولتان في تلك الحركة ورقة رابحة عظيمة الاهميّة لتحقيق اهدافها الاستعمارية في المنطقة العربية خاصة بهدف تمزيقها الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي(اهمية وحدة مصر والشام في تكوين دولة قوية في المنطقة).
بناء على كل ماسبق نخلص للنتائج التالية:(39/250)
1- الحركة الصهيونية هي حركة عنصرية خالصة اعتمد خطابها على تفضيل اليهود على ماسواهم من البشر وتصويرهم للعالم على انهم المضطهدين والمساكين تمهيدا للقيام بأكبر عملية استعمارية استيطانية في التاريخ.
2- اتفق المضمون العنصري للحركة الصهيونية مع تفكير بني اسرائيل الاول حين حوّلوا الشريعة الالهية التي نادى بها موسى عليه السلام من توحيد الهي وعالمي لكل البشر الى عنصرية يهودية خاصّة بهم(شعب الله المختار).
3- تزامن ظهور الحركة الصهيونية عام 1798 م مع بداية ظهور الولايات المتحدة الامريكية كقوة استعمارية عالمية عام 1898 م ذلك وخلال الحرب الاسبانية-الامريكية التي جرّدت اسبانيا من معظم مستعمراتها في العالم.
4- اعتمدت الولايات المتحدة منذ ظهورها كقوة عالمية جديدة تسعى الى الهيمنة, أساليب وتشريعات عديدة لتبرير تدخلها الاستعماري ومنافسة القوى الكبرى المعروفة آنذاك أسوة بكل القوى والنظم الاستعمارية على مرّ التاريخ)كما ذكرت قبلا). وكان توافق المصالح بين الحركة الصهيونية من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة اخرى, واعتماد تلك الحركة كليا عليهما, كان ذلك مقدمة للزواج الابدي بين الحركة الصهيونية ومراكز صنع! القرار في الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة.
أمّا الاساليب والخطابات التبريرية التي اعتمدها الثنائي "الصهيونية-الولايات المتحدة" حسب التسلسل الزمني فكانت كما يلي:
1- نقاط الرئيس الامريكي ويلسون الاربعة عشرة بشأن حق الشوب في تقرير مصيرها بنفسها(عام 1919 غداة انتهاء الحرب العالمية الاولى) وماتبعها من انشاء عصبة الامم ثم اعطاء الدول الاستعمارية الكبرى مايسمّى ب" حق الانتداب" لتهيمن به على الشعوب المستضعفة بحجة مساعدتها على بناء نفسها وتقرير مصيرها حيث ان هذه الشعوب غير مؤهلة للاستقلال بعد.....!!!!
2- محاربة النازيّة والفاشية والآلة العسكرية اليابانية باسم الحرية والديموقراطية وذلك في فترة مابين الحربين العالميتين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وانشاء محاكم "نورمبرغ" لمحاكمة" مجرمي الحرب النازيين" كما ادّعوا.
3- محاربة "الشيوعية" المتمثلة في القوة العظمى الثانية(الاتحاد السوفياتي)التي ظهرت الى المسرح العالمي قبيل الحرب العالمية الثانية.وقد استمرّ هذا المنحى حتى تفكك الاتحاد السوفياتي السياسي نهاية عام 1991 م.
4- محاربة الارهاب: وهو مصطلح قديم حديث بدأ الكلام عنه في بداية السبعينات من القرن العشرين مع تصاعد المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الوجود الاسرائيلي في فلسطين(وليس فقط ضد الاحتلال الاسرائيلي لاراضي مابعد حرب 1967).اذ روّعت المقاومة الفلسطينبة(وقبلها الجزائرية والفيتنامية والدومينيكانية والبوليفية وبعدها الافغانية ضد الاحتلال السوفياتي واللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي) دوائر صنع القرار في الثنائي الامريكي-الصهيوني ووجدت نفسها أمام عدو حقيقي اعتمد الفكرة والاسلوب الصحيحين في مواجهة الظلم والطغيان. لم تتبن المقاومة الفلسطينية- وبعدها اللبنانية- أي مشروع عنصري أو طائفي في صراعها مع عدوّها, كما لم تخرج قيد أنملة عن قتال من يجب قتاله(وهو الجيش المحتلّ فقط), فكان أن كسبت احترام العلم كله بمصداقيتها بمثل ماحققت من مكتسبات على صعيد التحرير وارباك العدو وترويعه ناهيك عن افقاده مصداقيته ومشروعيته. لقد حققت حركات المقاومة هذه بعض ماحققه نور الدين زنكي وصلاح الدين الايوبي قبل حوالي ثمانمائة عام في صراعهما ضد الغازي الفرنجي(وليس النصراني)رغم محاولات الفرنجة اضفاء الشرعية على غزوهم للشرق الاسلامي.اعتمد نور الدين وصلاح الدين الاسلوب ال! حضاري والصحيح في مقاومة الاحتلال ومحاربة قوى الظلام والعنصرية مشفوعا بالايمان الديني الصحيح وهو ماأدّى-حكما- الى نجاحهما.
لم يكن أمام الولايات المتحدة من خيار أمام تصاعد حركات المقاومة تلك واكتسابها تعاطفا شعبيا عربيا واسلاميا وعالميا, وخاصة بعد دعم الاتحاد السوفياتي لبعضها في سياق الحرب الباردة(وليس بالطبع لحسن نيّته), لم يكن أمامها من خيار الاّ البحث عن وسائل جديدة لتطويع المقاومة الشعبية ضد قوى الهيمنة والظلام , فكان اللجوء الى ثقافة العنف الطائفي والارهاب ومحاربة الارهاب, فكيف؟(39/251)
اعتمد استراتيجيو البنتاغون لهذا ثقافة كاملة بدأ نشرها عبر وسائل الاعلام المتعددة و خطابهم السياسي بشكل مكثّف منذ منتصف السبعينات وهي ثقافة "الطائفة" حيث حلّت المسميّات الطائفية والاثنية محل المسميات الدالة على الظلم, الاستبداد, التحرر والمقاومة وتحول وصف الصراع في ايرلندة الشمالية من صراع بين الوحدويين والانفصاليين في اذاعة ب.ب.سي. باللغة الانكليزية الى صراع بين البروتستانت والك! اثوليك في نفس الاذاعة باللغة العربية......!!!...... ساعدهم في ذلك بشكل رئيسي كثير من الانظمة والمنظمات والحركات والاحزاب في العالم الثالث التي استحدث بعضها و"حدّث" بعضها الآخر خصّيصا لتلك الاغراض. شكّلت الحرب الاهلية اللبنانية التي دامت ستة عشر عاما(1975-1991 م) أكبر مثال على ذلك حيث برزت ثقافة الطائفة والاقليمية والاثنية بشكل واضح فيها, كما شكلت الحرب الاهلية الافغانية التي دارت بين "المجاهدين" الافغان في العقد الاخير من القرن العشرين المثال القبيح لثقافة القبلية والطائفية.
وفي الواقع, فان تمرير ثقافة الطائفة لغايات استعمارية لم يكن جديدا في العصور الحديثة. فقد استعمل بشكل واضح في القرن التاسع عشر من قبل القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت في الشرق العربي والهند . حيث تسابقت تلك القوى- وبدعوى حماية طائفة معينّة من التصفية على يد الطائفة الاخرى(ياللعجب....!!)- الى التدخل المتزايد في تلك البلدان واقتسام تركة الدولة العثمانية المريضة , حيث ادّى ذلك الى تقسيمها ! بعد استقلالها الى كيانات سياسية عديدة,كما ادّت تلك السياسة في الهند الى تقسيمها لثلاثة دول كان التوتر هو الغالب على علاقاتها ببعضها لغاية الآن.
استعمل سلاح "ثقافة الطائفة" بشكل فعّال كذلك في وأد الاتجاهات التنويرية التي ظهرت في مصر والشام والصين والهند والبلقان وروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر. اذ حّجم مشروع محمد علي باشا في مصر لبناء دولة اسلامية حديثة منفتحة وعصرية وقوية,واثيرت الحركات الاثنية والطائفية ضده. كما صّور كثير من كتاب مصر والشام المسلمين وغير المسلمين المتنورين كملحدين مارقين وعملاء "للغرب الصليبي" وللمستشرقين الاوروبيين. تمّ هذا بمباركة السلطات العثمانية والدول الاستعمارية الاوروبية التي كانت تفَضّل وجود دولة مريضة ظالمة في الشرق تمهيدا للانقضاض عليها في اللحظة المناسبة,.هكذا,وبدلا من قيام ثورة عامة ضد الظلم والاستبداد في كافة ارجاء الدولة العثمانية ومن كافة شعوبها بدون استثناء (كما بشّر الكواكبي في كتابه"طبائع الاستبداد"), قامت ثورة "عربية" غير واضحة الاهداف متعاونة مع البريطانيين في وجه حكم طوراني متعصّب ساهمت بريطانيا نفسها في صنعه.....!!!!
توافق استعمال سلاح"ثقافة الطائفة" مع مضمون الحركة الصهيونية من أساسها كما ذكرت سابقا, ووجدت الحركة في تلك السلاح تشريعا أساسيا لوجودها ولوجود الدولة العبرية المصطنعة , ومن جهة أخرى, ونظرا لحاجة الولايات المتحدة الدائمة لتبرير استعمارها وهيمنتها و الحاجة لوجود عدو ايديولوجي دائم تحاربه(كما تدّعي), تم اعتبار الارهاب كعدو أول للديموقراطية والحرية الامريكية بعد سقوط الشيوعية ومن قبلها النازية والعسكرية اليابانية,ووجدت في الانظمة والمنظمات التي استعملت العنف الديني والقومي ضالتها فأخذت تشجعها وتدعمها تمهيدا لعصر جديد من الهيمنة العالمية.أما الحركات والمنظمات التوّاقة الى الحرية والتنوير فقد أخذت تضمحل شيئا فشيئا وأصبحت توصف بالارهاب أسوة بالمنظمات الارهابية الفعلية الاخرى التي كان للولايات المتحدة الدور الكبير في صنعها.
وأخيرا كان للصبغة الدينية أو الاثنية لتلك المنظمات الايحاء الاكبر(لدى شعوب العالم الثلث خاصة) بان الحروب التي يخوضها الثنائي الصهيوني الامريكي هي حروب دينية وأثنية لاعلاقة لها مطلقا باية مصالح استرتيجية أو اقتصادية, وهو بالضبط ماأراد هذا الثنائي ايهام العالم به ! واظنه نجح الى حدّ ما في ذلك......للأسف.
سادسا: هل يوجد صدام للحضارات؟:
بعد كل ماتقدم, هل نستطيع أقرار وجود صدام للحضارات؟
هل يعقل أن تدمر حضارة ما حضارة أخرى اذا كان السلام والامن أحد ركائزها؟
وهل من المنطقي أن تدمر الحضارة نفسها بالحروب بينما اسمها وتعريفها يعنيان "البناء والازدهار"؟
وهل ثقافة العدل والتسامح ونشر المعرفة تؤدي الى العنصرية والاحتكار والطغيان؟
وهل تحضّ تعاليم السماء حقا على قتل الانسان للأنسان لمجرد اعتقاده؟
وأخيرا, هل من الممكن أن تصارع الحضارات بعضها اذا كان وجود كل واحدة منها سبب للأخرى؟
هل يريد السيد هتنغتون أن نصدّق أن البروتستانتي والكاثوليكي يقتلان بعضهما بسبب المعتقد في بلفاست بينما يشربان البيرة سوية في احدى بارات لندن أو ليفربول؟(39/252)
وهل يريدنا أن نصدّق ان الغرب "المسيحي" والشرق "المسلم" يكرهان بعضهما لدرجة الموت بينما عشرات الرحلات الجوية ومثلها البحرية الشرعية وغير الشرعية تنتقل كل يوم ناقلة "الشرقيين" الباحثين عن الامن الاقتصادي والاجتماعي الىالغرب المتطوّر من جهة وناقلة الغربيين الى الشرق المليء بالتاريخ والحضارات والمغامرة الفكرية والفلسفية؟
وهل يطلب منّا أن نوافقه القول باستحالة تعايش الماليزي المسلم والصيني البوذي والهندي بكافة طوائفه وأديانه في ماليزيا ويبنون معا بلدا متطورا وحضاريا منفتحا؟
هل يطلب منّ الاطباء والعلماء العرب بعدم اعتماد المراجع الاجنبية في دراستهم وابحاثهم بحجة انتمائها(أي المراجع) لحضارة مغايرة؟
وهل كان يتصوّر نهضة أوروبا في نهاية العصور الوسطى من دون الاحتكاك المستمر بالعرب والمسلمين؟
وهل في اعتقاده أن حضارة بلده(الولايات المتحدة) قد نزلت من السماء ولم تأت عبر الاطلسي من أوروبا نفسها ومن العقول الجبارة لابناء العالم الثالث المهاجرون اليها؟
هل يريد السيد هيتينغتون أن لايعرف غير الامريكي بأرنست همنغواي وأن لايعرف غير الروسي بليون تولستوي وغير العربي بنجيب محفوظ؟ وبناء عليه هل يريد ألغاء الترجمة ورمي القواميس في البحر نظرا لانتفاء الحاجة لها في عصر صدام الحضارات؟
ان الحضارة ياسيد هتنغتون ليست سيوفا ورماحا ودبابات وطائرات وصواريخ تفني بها أمّة سواها من الامم, وهي ليست مطامع مادية واس! تراتيجية وسياسية. ان الحضارة تعني العقل, والعقل لايعرف سوى العقل, والفكر لايعرف سوى الجدل والدين لايعرف سوى التسامح, والثقافة تقول دائما لنظرائها :" هل من مزيد"؟
اذا كان هنالك مايسمّى فعلا "صدام الحضارات" فلماذا انتشرت الكتابة المسمارية من جنوب مابين النهرين صعودا حتى "ايبلا" (جنوب حلب) والى أوغاريت(شمال اللاذقية)؟, ولماذا انتشرت الابجدية الكنعانية وحروفها الى كافة انحاء أوروبا ثم العالم كله عبر الابجدية اللاتينية؟. لماذا سمّى العرب المسلمون " أبوقراط الاغريقي" بأبي الطبّ وترجمت كتبه وكتب جالينوس الى العربية؟. كيف انتشرت صناعة الورق من الصين الى أوروبا مرورا بالشرق الاسلامي؟.و لماذا ظلّت مؤلفات الرازي وابن رشد وابن زهر وابن سينا تدرّس في الجامعات الاوروبية حتى نهاية القرن الثامن عشر؟ . لماذا ألّفت المستشرقة الالمانية(الشرقية الشيوعية) "زيغريد هونكه" كتابها المشهور " شمس العرب تسطع على الغرب" ؟,ولماذا اتجه معظم المثقفين والعلماء من كافة انحاء العالم الى باريس (عاصمة النور)ولندن وبرلين للدراسة والتحصيل ابتداء من القرن التاسع عشر؟. وأخيرا, لماذا يتمنى مئات الملايين من سكان ه! ذا العالم البائس الاقامة في الولايات المتحدة سواء للعمل أو للتحصيل العلمي في عصرنا الحالي؟.
أذا سلّمنا بوجود ما يسمّى"صدام الحضارات" فكيف نفّسر الحروب اللانهائية التي شهدتها دول أوروبا"المسيحية" فيما بينها على مدى ألف وستمائة عام؟ وكيف نشرح الفتن السياسية والطائفية التي شهدتها بلاد الشام والعراق ومصر والاندلس "الاسلامية" عندما بدأت منذ ألف وثلاثمائة عام ولازالت؟؟!!... بماذا ننظّر حرب استقلال الامريكيين "البروتستانت" عن بريطانيا " البروتستانتية" ثم الحرب الاهلية الامريكية(بين الامريكيين البروتستانت انفسهم) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ؟...وهل كانت الغزوات الهمجية لتيمورلنك "المسلم" في العراق والشام " الاسلامية" أوائل القرن الخامس عشر تعتبر صداما حضاربا؟؟!! وكيف نفسّر الستعمار الاوروبي "المسيحي" الدائم لافريقيا "المسيحية" وامتصاص ثرواتها ودماء شعوبها وتركها فريسة للمجاعات والجهل والمرض؟.
وأخيرا كيف نفسّر وجود دولة اسرائيل بذاتها على أساس ديني (كما ادّعوا) بينما يتواجد ثلاث! ة أرباع يهود العالم خارجها(خاصة يهود الدول المتطورة), بينما تعاني تلك الدولة المصطنعة من علل الهجرة المعاكسة والتمييز الحاد بداخلها بين يهود الاشكناز والسفارديم....!!!؟.
سابعا: لماذا" صدام الحضارات"؟
ماهي الأهداف اذا من تعميم نظرية "صدام الحضارات" وماشابهها من نظريات "كالصراع الديني والعقائدي" ," الحروب الصليبية الجديدة(كما نطقها السيد بوش ) وانتظار قدوم المسيح الدجّال, "نظرية المؤامرة والثورة العالمية"...الخ؟.
اذا عدنا لما جاء سابقا في المقال , سنجد أن الاهداف من تعميم تلك النظريات تتلخص في النقاط التالية:
1- اضفاء الشرعية على انشاء دولة "اسرائيل" ذات الطابع العنصري والتي هي اصلا أداة بيد سياسيي واقتصاديي الدول الاستعمارية على مدى تاريخ وجودها.
2- ابعاد الانظار عن الاهداف الحقيقية للتدخلات الاستعمارية في كافة بقاع العالم وهي كما أثبت ويثبت لنا التاريخ كل يوم أهداف اقتصادية واستراتيجية(النفط خاصة)بحتة, وأودّ التنويه فقط بان احصائية نشرت في منصف عام 2002م أظهرت بان الشعب الامريكي وحده والذي يشكلّ تعداده 1/ 25 من التعداد العالم! ي يستهلك 1/4 الانتاج اليومي العالمي من النفط...!! أليس هذا سببا كافيا؟؟(39/253)
3- ايقاع الشعوب المقهورة والباحثة عن حرّيتها وكرامتها بفخ الصراعات الوهمية التي تهدف الى الالغاء الجسدي للآخر( تشجيع الفكر العنصري).
4- تشويه التقييم التاريخي الصحيح للأفراد ولأنظمة الحكم والدول والحقبات الزمنية وغيرها, بحيث يتمّ تقييمها في هذه الحالة على أساس انتمائها الطائفي أو العرقي أوالقومي وليس على أساس نتيجة عملها وبمقدار ماساهمت به في الحضارة الانسانية.
5- الخلط بين حركات التحرر من جهة وحركات الارهاب من جهة اخرى واعتبارها كلّها ارهابا مصدره حضارة معيّنة يجب مواجهتها بحضارة اخرى(الارهاب الاسلامي والتمدن الغربي....!!).
ثامنا: مواجهة الفكر العنصري:
عودة على بدأ, وكخاتمة لمقالي هذا, هل هنلك من سبيل لمواجهة الفكر العنصري؟
الجواب: نعم, وهذا دور يقع على عاتق المثقّفين والمتنوّرين في جميع انحاء العالم. فبما أنّ تعلّم أية لغة يبدأ بتعلّم حروفها الابجدبة وتمييزها ونطقها نطقا صحيحا, كذلك هي الطريقة التي تجب فيها مواجهة الفكر العنصري ونظر! يات" صدام الحضارات" التي هي أحدى افرازاته.
لقد استعمل منظّرو الفكر العنصري التاريخ بشكل رئيسي لتمرير أفكارهم معتمدين على جهل وعدم معرفة معظم العامة والخاصّة به على مرّ الازمنة واختلاف الامكنة. وكما رأينا سابقا فان الجهل يشكّل الوعاء الخصب لنمو الفكر العنصري وترعرعه. اذا, وكنتيجة منطقية وحتميّة يعتبر استخدام العقل الدواء الناجع لمرض الفكر العنصري هذا ولاحد أهمّ اعراضه وهو "صدام الحضارات".
ادعوا جميع متنوّري العالم وخاصّة العرب والمسامين منهم الى اثبات تنورهم وعقلانيتهم وعدم تحيّزهم. ادعوهم الى حكم صحيح ماأمكن على التاريخ اذا أرادوا مستقبلا أفضل. ادعوهم الى فرز الغثّ من السمين من زحام المصطلحات المشبوهة التي حفل بها حاضرنا, وليتذكروا دوما انّ التاريخ واحد لايتغيّر مهما حاول دعاة الفكر العنصري تجييره لصالحهم وانّ حكمه هو الاصحّ على الدوام مهما طال الزمن.
دعونا - ان كنّا مثقفين ومتنوّرين حقّا - نقتدي بسيرة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وغيرهم من عقلاء الامّة واليشرية كلّها. دعونا نقتدي بنور الدين وصلاح الدين اللذان ل! نتصرا على العنصرية الصليبية بالعقل والتسامح والرحمة وليس بالرمح والسيف فقط. لنتذكّر دائما أبا ذر الغفاري وابن الحلاّج والمتنبّي الذين قاوموا الطاغوت ونطقوا بوجهه كلمة الحقّ بدون خوف أو وجل. دعونا نقتدي بديكارت الذي قال:" أنا أفكّر اذا أنا موجود" وفرنسيس بيكون صاحب المنهج التجريبي وجان جاك روسّو صاحب "العقد الاجتماعي", ولنضع نصب أعيننا دائما كلام العالم الايطالي غاليليو الذي همس لمساعده بعدما وقّع على وثيقة أمام قوى الجهل والعنصرية يتراجع فيها عن قوله بدوران الارض, اذ قال:" ومع ذلك فهي تدور"....!!
والله أعلم
=============(39/254)
(39/255)
مع الداعية الإسلامي الدكتور محمد ناصر
(رئيس الوزراء الثاني بعد الاستقلال)
وتكررت زياراتي لإندونيسيا ، وكان لقائي الأخير بالداعية الإسلامي والمحنك السياسي رئيس وزراء إندونيسيا بعد استقلالها من الاستعمار الهولندي وعملائه من أهل البلد هي في سنة : 1421هـ وكانت هذه الزيارة هي الزيارة العاشرة لإندونيسيا، وتتابعت الزيارة لهذا البلد بعد ذلك، ولكن الدكتور فارق الحياة بعد اللقاء الأخير.
كنت أحرص في كل زيارة أن أجتمع بالدكتور محمد ناصر رحمه الله ، وقد اجتمعت به أربع مرات في أربع رحلات :
المرة الأولى سنة 1400هـ.
المرة الثانية سنة 1410هـ.
المرة الثالثة سنة 1412هـ.
المرة الرابعة سنة 1413هـ.
رجل يستحق الحب والإكرام.
وفي كل زيارة من هذه الزيارات تمكنت من مقابلة الدكتور محمد ناصر، حرصا مني على المثوبة من جهة، لأني أحبه في الله وأزوره لذلك، وحرصا مني على أخذ ما أمكنني منه من المعلومات عن الإسلام والمسلمين في إندونيسيا، والرجل جدير بكلا الأمرين، فهو رجل مناضل في سبيل الحق وإقامة الحكومة الإندونيسية على أساس الإسلام، وابتلي بسبب ذلك، فترك الجاه والمنصب وأجبر على الإقامة في جاكرتا، وأصيب بأمراض حاول السفر للعلاج في الخارج فلم يؤذن له مع كبر سنه، ولكنه لا زال يوجه الشباب ويخدم الإسلام والمسلمين، وينذرهم بالخطر التنصيري والعلماني والماركسي الإلحادي، والفساد الخلقي، ويبين ذلك بالإحصاءات والأرقام، فهو يستحق الحب والإكرام والتقدير من المسلمين في إندونيسيا وخارجها، وسأكتب هنا ما تجمع عندي في الزيارات الأربع بحسب تواريخها والله المستعان.
الزيارة الأولى للدكتور محمد ناصر كانت وقت المحنة.
لم أكتب عن الدكتور محمد ناصر كثيرا في هذه الزيارة، لأن الأوضاع السياسية في إندونيسيا كانت صعبة جدا، إذ كان رجال الأمن يتابعوننا أينما ذهبنا-كما هي عادة أعداء الإسلام من العلمانيين وغيرهم-حتى إن بعضهم جاء إلى الفندق الذي نزلنا به، وأخذ يحقق مع زميلي: من أين أتيتم وماذا تريدون؟ وبمن تتصلون هنا؟ وهل تريدون إلقاء محاضرات وما موضوعاتها؟ وأي المدن تريدون زيارتها؟ وكنت عندئذٍ خارج الفندق.
استمرار النشاط الدعوي المستطاع على رغم المضايقات.
ولا شك أن الدكتور محمد ناصر كان مراقَبا، لذلك آثرت عدم الكتابة، وكان ممنوعا من التحرك داخل إندونيسيا وخارجها ، ولكني سمعت منه ما يدل على استمرار النشاط الدعوي برغم الحالة الأمنية، وقد أبدى الدكتور قلقه من النشاط النصراني في كل المجالات، ومحاولات النصارى الاستيلاء على المراكز الحساسة في الأمن والتعليم والاقتصاد والطب والجيش وغيرها، يساعدهم في ذلك عملاء علمانيون من أبناء المسلمين الذين ابتعثوا للدراسة في الخارج-في أوروبا وأمريكا-فحملوا مؤهلات وأسندت إليهم وظائف حساسة في الدولة، وهم يحاربون الإسلام علنا، أكثر من محاربة النصارى، وإن كان النصارى هم الموجهين والمحركين، ومن ذلك محاولة إلغاء المساجد في الجامعات، وحرمان أبناء المدارس الحكومية من الإجازة في رمضان، وقد كانوا يستفيدون من هذه الإجازة بالتعلم في المدارس الإسلامية والمساجد، حيث يتعلمون أمور دينهم التي لا يجدونها في المدارس الحكومية.هذا ما سجلته عن الدكتور محمد ناصر في الزيارة الأولى.
الأحد 10/6/1410هـ ـ7/1/ 1990م.
(تنبيه كان الدكتور يتكلم بلغة بلده، لأنه لا يجيد اللغة العربية،وبعض العاملين معه يترجم، ومعلوم ما يحصل في الترجمة من ركاكة أحيانا، والكلام كله للدكتور محمد ناصر، إلا ما أجعله بين قوسين، فهو تعليق مني)
وفي هذه الزيارة كتبت عنه معلومات تتعلق به، وأخرى تتعلق بالإسلام والمسلمين في إندونيسيا.
هو: محمد ناصر بن إدريس.
ولد في:17 يوليو، سنة 1908م في سومطرة.
الدراسة: ابتدائية ومتوسطة وثانوية، وليسانس في كلية التربية في باندونج، ونال دكتوراه فخرية في الجامعة الإسلامية في جوك جاكرتا.
الوظائف: التدريس في التربية في عهد الاستعمار الهولندي، في باندونج.
وعندما جاء الاستعمار الياباني قضى على كل المدارس الموجودة، لإقامة مدارس على منهج المدارس اليابانية.
ثم توظف في إدارة التربية في باندونج مديرا.
كفاح محمد ناصر قبل الاستقلال وبعده.
وقبل الاستقلال طلب منه الدكتور محمد حتى نائب رئيس الجمهورية أن ينتقل إلى جاكرتا للكفاح من أجل الاستقلال سنة 1945 م. وبعد الاستقلال كوفئ المجاهد كما كوفئ سنمار :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار
ومن هذا الوقت دخل معترك النشاط السياسي.
وكان أحد أعضاء مجلس النواب.
وفي عام :1946م بعد الاستقلال عين وزيرا للإعلام، وأنشأ حزب ماشومي، وهو اختصار لـ(مجلس شورى مسلمي إندونيسيا)
وكانت فكرة إنشاء هذا المجلس قد بدأت في أول الحرب العالمية الثانية، لمواجهة الاستعمار من أجل الاستقلال لتوحيد المسلمين من الجمعية المحمدية ونهضة العلماء وغيرها، وكان المجلس يسمى: مجلس إسلام أعلى إندونيسيا (MIAI) أي المجلس الإسلامي الأعلى لإندونيسيا.(39/256)
وفي عهد الاستعمار كان يوجد تجمعان: أحدهما وطني والآخر إسلامي، فأراد محمد ناصر أن يكون الحزبان متحدين على أساس الحكم الإسلامي، وكان يدور نقاش بين الحزبين حول ذلك، وكانت كنية محمد ناصر في هذا الحوار: (أبا مخلص).
وبعد الاستقلال أراد سوكارنو أن يكون حزبه هو الحزب الوحيد (وهو الحزب الوطني) والمسلمون كانوا يريدون قيام الحكومة على أساس الإسلام فقط.
وفي سنة 1956م أنشئ المجلس الاستشاري الأعلى (من الطرفين) للتباحث في الأمر وطال النقاش ولم يحصل اتفاق، ولم ينجح أحد من الطرفين، وكان سوكارنو يريد قيام الدولة على أساس البانتشاسيلا. وهي المبادئ الخمسة التي يترتب عليها الولاء والبراء عند العلمانيين وعليها قامت دولتهم بعد ذلك، وأجبرت كل المؤسسات الإسلامية على قبولها ، وتدريسها في عهد سوهارتو وقد ذكرت معناها في مكانها من المعلومات عن إندونيسيا في سلسلة ( في المشارق والمغارب )
كان وزيرا للإعلام ثم رئيسا لحزب ماشومي.
بقي محمد ناصر وزيرا للإعلام أربع سنوات، وفي هذه الفترة كان يوجد مجلس تنسيق بين الحكومة الإندونيسية والحكومة الهولندية يسمى: أوشي إندونيسيا-هولندا.
اقترحت هولندا أن تقوم في إندونيسيا عدة دول كونفدرالية وتعترف هي بذلك، وكان قد أعلن قبل ذلك أن حكومة إندونيسيا موحدة، ولهذا رفض محمد ناصر عرض هولندا وتنازل عن الوزارة ووافق على اقتراح محمد حتى (نائب سوكارنو) ونشط محمد ناصر في تكوين حزب ماشومي وحصل على:90% من الحزب مؤيدين له.
ولم يكن سوكارنو يريد ما اقترحته هولندا ولكنه استسلم للواقع.
وقدم محمد ناصر مشروع إندونيسيا الموحدة للبرلمان ويعرف هذا المشروع بـ(موسي إنتجرال محمد ناصر) MOSI INTEG r AL MUMMAD NASI صلى الله عليه وسلم
ثم رئيسا للوزراء.
وطلب من محمد ناصر أن يكون وزارة، فأصبح رئيسا للوزارة سنة:1950م، وهو الرئيس الثاني لمجلس الوزراء بعد الاستقلال، وعندما كون الوزارة لم يدخل فيها الجبهة الوطنية فأصبحت حزبا معارضا، وكان سوكارنو-وهو رئيس الجمهورية-يؤيد الجبهة الوطنية، فكان يساعدها ويدعمها.
قال محمد ناصر: وفي حفلة المولد النبوي في القصر الجمهوري كان سوكارنو يريد إعلان إلغاء مجلس التنسيق وحث الجبهة الوطنية على تأييده، وكان محمد ناصر يرى إعلان ذلك عن طريق البرلمان في شهر مايو في مفاوضات بين وزير خارجية إندونيسيا ووزير خارجية هولندا، ولكن سوكارنو أصر على موقفه، ولهذا أعلن محمد ناصر استقالته بعد الاحتفال وكان ذلك في شهر مارس سنة:1951م وبقي رئيسا لحزب ماشومي.
وكان يدور نقاش في البرلمان، وفي المجلس التأسيسي للدولة.
زيارات محمد ناصر بعض الدول الإسلامية ورجال الدعوة فيها.
وبدأ محمد ناصر في الاتصال بالعالم الإسلامي فزار باكستان ومصر وسوريا وإيران والعراق وزار الهند أيضا عام:1952م.
وكانت عنده رغبة أن يلتقي الأستاذ البنا، ولكنه لم يتمكن من ذلك لأنه توفي قبل أن يقوم بالزيارة للخارج ولم يره، ولكنه زار المودودي وحسن الهضيبي وبعد نقاش طويل دار بينه وبين كل منهما رأى أن فكرته متفقة مع فكرة الإخوان في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان.
معارضة محمد ناصر لسوكارنو لتعاونه مع الشيوعيين.
واحتدم النزاع واشتد النقاش مع سوكارنو عندما بدأ سوكارنو يتعاون مع الشيوعيين.
وكانت بعض فرق القوات المسلحة في بعض المناطق تعارض سوكارنو، واجتمع بهم محمد ناصر وحث القواد منهم على معارضة سوكارنو، ولكن محمد ناصر كان حريصا على عدم انفصال بعض المناطق عن إندونيسيا، وكانت أمريكا قد قدمت مساعدات لبعض القواد في منطقة لمبوك في إندونيسيا الشرقية ليقوموا بالانفصال.
واتصلت منطقة آتشيه بالحكومة التركية ولم يتم اتفاق معها.
وكان الهدف من التنسيق مع القواد أن تكون مناطق إندونيسيا محافظات وليست دولا منفصلة.
وكان سوكارنو يضرب بالقنابل القوات المعارضة في سومطرة، وكان بعض الوزراء شيوعيين، ومنهم قائد القوات الجوية (سوريا دارما) واستمرت الحرب أربع سنوات وكان محمد ناصر مع المقاومين في الغابات.
الدكتور محمد ناصر في السجن.
وبعد عام 1961م ضعف الدكتور محمد ناصر أمام سوكارنو بسبب تعاون الدول الأجنبية مع سوكارنو، ومنها الاتحاد السوفييتي، واعتقل محمد ناصر وأدخل السجن، والمجاهدون في الغابات كانوا قائمين بالحركة ضد حكومة سوكارنو من قبل، ولكنهم تعاونوا مع محمد ناصر عندما انفصل عن الحكومة.
وكانت المقاومة في كل من آتشيه و سلاويس و جاوة الغربية، وتسمى دار الإسلام والجيش الإسلامي.
وكان محمد ناصر يظن أن القوات في جاوة مع الجيش الإسلامي المجاهد، ولكن الجيش في جاوة لم ينضم إليهم ما عدا أفرادا منه، ولهذا ضعفت المقاومة.
حل سوكارنو حزب ماشومي.
وحل سوكارنو حزب ماشومي وجميع الأحزاب المعارضة، وانقلب عليه الذين كانوا يوالونه ويعاونونه ونجحوا في الانقلاب وتولي السلطة، وكانوا يسمون محمد ناصر وحزبه وهم في الغابة: حكومة الثورة في الجمهورية الإندونيسية.(39/257)
وبعد العودة من الغابات استسلموا ماديا مضطرين، ولكن بعد أن جلسوا مع بعض المتعاونين معهم، ومنهم الأستاذ شفر الدين برواتا نيفارا (توفي قبل سنة من تاريخ هذا اللقاء مع محمد ناصر) اتفقوا على الاستمرار في العمل الإسلامي، ولم يتعاونوا مع سوهارتو عندما طلب منهم ذلك، لأنه يريد القضاء على زعماء المسلمين بأسلوب ماكر.
حزب التنمية الإسلامي وموقف سوكارنو منه.
ونشأ حزب صغير أظهر أنه يريد تطبيق الإسلام وبعض أعضائه من الماشوميين وهم الذين كونوا هذا الحزب سنة:1968م بالاتفاق مع الدكتور محمد ناصر وتولي رئاسة الحزب محمد روم، وكان وزير الخارجية في السابق، ولكن الحكومة حظرت ذلك الحزب، وكان اسم الحزب PA r TI MUSLIMIN INDONISIA وسمي بعد ذلك بالحزب الإنمائي.
وسمح له بعد أن غير اسمه وحذف منه كملة مسلمين وقَبِل مبدأ البانتشاسيلا، ولكنه حزب ضعيف لم ينجح إلى الآن.
ويوجد في الحزب الإنمائي أعضاء صالحون يعملون للإسلام، وقد صوتوا في البرلمان لمصلحة مشروع الأحوال الشخصية، وهددوا بالانسحاب إذا لم ينجح المشروع، وهو أحد الأحزاب الثلاثة المأذون لها رسميا بمزاولة النشاط السياسي.
والحزب الأول هو الحزب الحاكم (حزب جولكار) أي العمال، والحزب الثالث هو الحزب الديمقراطي ويتكون من النصارى وبعض المسلمين وكذلك الحزب الحاكم.
ويوجد من المسلمين المنتمين إلى تلك الأحزاب من يدافع عن الإسلام في البرلمان، ومعهم بعض العسكريين.
من ماشومي إلى المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية.
وأصبح حزب ماشومي المحلول رسميا يعمل باسم المجلس الأعلى الإندونيسي لشؤون الدعوة الإسلامية.
وهو يعمل في مجالين: الدعوة، والتربية الإسلامية.
والمجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية لم يكن حزبا سياسيا - من الناحية الرسمية - ولكنه يوجه بعض أعضاء البرلمان ويؤثر فيهم كما هو الحال في مصر وغيرها من الدول العربية ، كالأردن.
تقويم العالم الإسلامي.
قبل سنة: 1980م زار محمد ناصر المملكة العربية السعودية واتصل بزعماء المسلمين، لكنه بعد ذلك منعته الحكومة، وهو يرى أن الضغط على المسلمين موجود في كل مكان، ولكن يوجد أمل طيب كالوضع في الجزائر ( هذا الكلام كان قبل فوز المسلمين في الانتخابات التي أزعجت العلمانيين وبخاصة جنرالات الجيش الذين سحقوا الشعب بالدبابات، وترتب على ذلك ما ترتب من المحن على هذا الشعب المنكوب) وكذلك الأردن ومصر. ودول الخليج على صغرها بدأ أهل الخير فيها يزورون المسلمين ويهتمون بشؤون المسلمين.
ويعتبر محمد ناصر نائب رئيس المؤتمر الإسلامي في كراتشي.
ابتلاء المسلمين بالشر والخير وتوقف نجاحهم على قوة إيمانهم.
وسئل محمد ناصر عن الأخطاء التي يراها من العاملين للإسلام؟ فقال:
نحن في حالة ابتلاء بالخير والشر، الابتلاء بالشر نحمد الله أنا نجحنا فيه بإيماننا الذي نحارب به ، كالاستعمار الذي حاربناه حتى تم الاستقلال، ولكن الاختبار بالخير يحصل فيه شئ من الفشل، كالاستقلال والوظائف، تجد المسلم الموظف الكبير يتعاون مع غير المسلمين، كما تعاون الموظفون المسلمون في الحكومة الإندونيسية مع الصينيين فيما فيه ضرر على المسلمين في إندونيسيا ، وقد يكون ذلك موجودا في غير إندونيسيا، ونحن في حال الشدة نتحد (أحيانا) فإذا حصل خير أصابتنا الأنانية في المكاسب.
التنصير ونسيان المسلمين لمخاطره!
وهناك خطورة شديدة ننساها، وهي شاملة لكل بلدان المسلمين، وهي خطورة التنصير، وهي تأتي من الكاثوليك (الفاتيكان) البروتستانت (سويسرا) وهيئات أمريكية وأسترالية بأشكال مختلفة: سياسية واجتماعية، وكلها ترمي إلى
يستخدمون الضغوط الآنية كالفقر الذي يوزعون على أهله الأموال، والجهل الذي يساعدون أهله بإنشاء المدارس والمنح الدراسية.
الداعية الإسلامي السياسي المحنك رئيس وزراء إندونيسيا بعد الاستقلال
استيلاء النصارى على الوظائف الخطيرة في إندونيسيا.
قال الدكتور محمد ناصر: وفي إندونيسيا 20% من الوزراء مسيحيون: وزير الدفاع، والوزير المنسق للأمن والسياسة، والمالية، والتخطيط، ووزير التجارة المساعد، ولأول مرة يكون محافظ البنك الإندونيسي نصراني ،وغيرهم من المتعاونين. والقضاة 40% مسيحيون.
والمجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة أكثر نشاطه في مواجهة التنصير في المناطق المنعزلة النائية التي ينشط بها المنصرون، ويوزعون الأموال، ونحن نأخذ تبرعات وتوزعها وإن كانت قليلة.
وللمجلس مكاتب في المناطق لا تقل عن 23 مكتبا، وخلال شهرين تأتي التقارير من تلك المكاتب.
المنصرون يبالغون في أعداد من يدخل في دينهم.
هل يتنصر المسلمون حقا، وما نسبتهم؟
قال الدكتور محمد ناصر: عندما توزع الهيئات النصرانية المساعدات تكتب أسماء الذين تقدم لهم المساعدات ويزعم المنصرون أنهم دخلوا في النصرانية، وكثير منهم في الحقيقة لم يتنصروا.(39/258)
ومن الأمثلة قرية في جزيرة (منتاوي) بها من السكان ثلاثة آلاف من البدائيين مسلمين وغير مسلمين، ذكر النصارى أن سبعة آلاف من سكان القرية تنصروا، مع أن عددهم كلهم ثلاثة آلاف، والسبب في ذلك تكرر أسماء الذين يقدمون لهم المساعدات، كلما قدموا للشخص الواحد مساعدة حسبوه متنصرا جديدا؟
ومثال آخر في (كانن) ذكر النصارى أن 90% منهم تنصروا و(كانن) في جاوة الوسطى، ولكن بعد أن بني هناك مصلى ونشطت الدعوة، كانوا يأتون إلى المسجد يصلون وهذا دليل على عدم صحة كلامهم.
وكان السكان أولا يخافون من العمدة، وعندما بني المسجد وتكاثر وطلبوا من المجلس إنشاء روضة لتعليم أطفالهم.
ومعنى هذا أنه توجد مبالغة في دعوى كثرة المتنصرين، وإن كان التنصير موجودا، ولو قامت الدعوة بقوة في أوساط الذين يقال إنهم تنصروا لرجعوا إلى الإسلام.
والنشاط التنصيري يوجد في أوساط المثقفين بسبب إعطائهم منحا دراسية في أوروبا وأمريكا وبعضهم يتنصر، والمتنصرون من المثقفين المسلمين قليلون، وكانوا يربونهم من الصغر أو أيام الدراسة بسبب المنح.
وفي جوك جاكرتا بني مصلى عند المعبد البوذي وأسلم أكثر من في قرية (كيون بروجو) وأصبح المعبد فارغا، وتوجد لدى المجلس كتيبات مقارنة بين الإسلام والمسيحيين توزع على الوثنين.
وعندما تولى وزارة الدفاع نصراني، وحاول النصارى أن تكون بعض المناطق تابعة لهم، تنبه بعض قواد الجيش من المسلمين لما أراده النصارى ونبهوا بعضهم بعضا.
ونسبة النصارى في الجيش غير معروفة، ولكن نسبة المسلمين في الجيش تزداد.
وماذا يقترح محمد ناصر لمكافحة التنصير؟
توعية المسلمين وإيقاظهم في عامة الشعب، والمجلس الأعلى للدعوة يوزع نشرات بمعلومات كافية، فقد طبع ما لا يقل عن مائة ألف نشرة، ووزعت فتوى بعدم جواز حضور المسلمين أعياد الميلاد، مع أن الرئيس سوهارتو يحضر احتفالاتهم، وقد قبض البوليس على بعض الشباب عندما وقفوا ضد حضور الأعياد.
وعندما زار البابا إندونيسيا كتبنا كلمة ظاهرها الترحيب، وحقيقتها بيان خطورة التنصير على الشعب الإندونيسي.
الخطاب الموجه إلى البابا حول التنصير.
(هذا الخطاب الذي وجه إلى البابا ومعه وثيقة بالنشاط التنصيري في إندونيسيا نشر في كتيب باللغة العربية بعنوان: خطاب للبابا يوهانس باولوس الثاني من أجل إيقاف الاستغلال على الحاجات الإنسانية وهو بتوقيع:
الأستاذ محمد ناصر الشيخ الحاج مشكور.
الشيخ الحاج رسل عبد الواحد البروفيسور محمد رشيدي.
ونشره المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية 1410هـ - 1989م.
(وحيث إن الخطاب وما ألحق به وثيقة تبين استياء المسلمين مما يرتكبه النصارى بطرق خبيثة ماكرة يخالف الاتفاقات التي تتم بينهم وبين المسلمين، وتخالف قوانين البلاد فإن إثبات صورة له في هذا السِّفر من المعلومات مناسب، وقد أثبت صورة الخطاب وما ألحق به في المجلد الثاني من المعلومات المتعلقة بإندونيسيا، مع المقابلة التي أجريتها مع الدكتور محمد ناصر.)
ثم قال الدكتور محمد ناصر: رأس مال كفاح التنصير هو التوعية لتحريك الأمة وتحذيرها.
وللمجلس مجلة تسمى الدعوة، وهي شهرية وتهتم بموضوع التنصير، وللأستاذ محمد ناصر مقال شهري بعنوان توصيات المنبر.
وللمجلس نشاط في الجامعات يقوم أعضاؤه بالتوعية ويبنى المساجد في الحرم الجامعي، في جامعة إندونيسيا وفي جامعة لامبونغ، وفي جامعة بوغور، وباندونغ، وفي جوك جاكرتا، وسمارانج، وفادانج، وأجونغ باندونغ.
وتقام دورة ثلاثة أيام للتوعية والتثقيف، لأنها لا توجد في الجامعة إلا مادتان-عن الإسلام-في الأسبوع.
(لكن الاهتمام بالثقافة الإسلامية بدأ في الفترة الأخيرة في الجامعات الإندونيسية، وتوجد جامعات إسلامية حكومية في عدد من المدن الإندونيسية، إضافة إلى جامعات إسلامية أهلية)
قال الدكتور محمد ناصر: و المجلس يبذل جهودا بحسب إمكاناته لإصلاح معيشة الشعب في طبقاته الدنيا، عن طريق إقامة جمعيات تعاونية في المساجد تجارية وزراعية وغيرها، وقد ساعد في ذلك بعض المسلمين في الكويت.
ونقطة الضعف عند المسلمين تكمن في ضعف المادة والمسيحيون يعرفون ذلك، وهم أقوياء ويستغلون قوتهم المادية والاقتصاد يه، ونحن لا توجد عندنا مؤسسات مماثلة.
ويرى الدكتور محمد ناصر أننا لا ينبغي أن نخصص رأس مال كبير لمكافحة التنصير، لأنه يحتاج إلى أيد أمينة وخبرة وكفاءات لاستثماره وتعريفه .(1)
ونحن عندنا جمعيات صغيرة وصلت إلى 162 جمعية يبذلون مالا قليلا بدون ربا، وهي ناجحة ولدينا مشروع قرية (طيبة) وتسمى مؤسسة السعادتين-أي الدين والدنيا-.
ويوجد معهد دار الفلاح في بوقور، وهو تابع للمجلس الأعلى للدعوة الإسلامية.
ويشرف المجلس على 162 داعية متفرغين يتبعون مركز جاكرتا، كما يوجد دعاة محليون في المناطق وهم كثير، ولو تمكنا من الإكثار من الدعاة المتفرغين في المناطق البعيدة لنجحنا في الدعوة.
ويقوم المجلس بطبع الكتب والنشرات والمجلات، ولديهم مطبعة قديمة تحتاج إلى إصلاح، والمجلس في حاجة إلى مطبعة حديثة.
وتوزع نشرات قبل صلاة الجمعة في مساجد إندونيسيا كلها.(39/259)
ويقوم المجلس بإعداد الدعاة وتأهيلهم حتى يكونوا أكفاء.
وحصل المجلس على منح دراسية من الجامعات في المملكة العربية السعودية، وهو يطلب المزيد من هذه المنح لهذا الغرض.
دمعت عيناه خشية على فراغ موقعه بعد وفاته!
وعندما سألت الدكتور: كم بلغت من العمر؟
توقف واغرورقت عيناه وقال: إنه يخشى من حصول فراغ بعده وقد بلغ إحدى وثمانين سنة من العمر.
وهنا قلت له: إنك قد أديت واجبك، وقد بارك الله في جهودك وشبابك ينتشر في كل مكان في إندونيسيا،كما شاهدت ذلك في جولاتي في مناطقها المختلفة، وسوف لا يضيع الله عملك وهو قادر أن يوجد من يخلفك فاطمئن والله مؤيد دينه وناصره.
وسألت الأستاذ عن صلته بالمسلمين في الخارج؟
فقال: نأمل أن تساعد رابطة العالم الإسلامي الدعوة في إندونيسيا، ولكنها اتجهت إلى إفريقيا والى الأقليات ونسيت الأكثريات، وقد صرح الدكتور عبد الله نصيف إنه الآن يوجه اهتمامه إلى إفريقيا، وللمجلس اتصال بالهيئة العالمية الإسلامية وبيت الزكاة في الكويت.
تحديات إمام العمل الإسلامي.
قال الدكتور محمد ناصر: واجه المجلس في مستهل إنشائه حطاما وركاما من مخلفات عهد سوكارنو البائد(معلوم أن سوكارنو فتح الباب على مصراعيه للشيوعيين الملحدين) وتحديات خطيرة من خصوم الإسلام وأعدائه، وخاصة أولئك الذي عاونوا سوكارنو وأيدوه وتعانوا معه، حيث أصبحوا بعد الإطاحة بطاغوتهم وانهيار حكمه ونظامه، وافتضاح خطل تعاليمه وانكشاف مباذله ومخازيه، يتخوفون من الإسلام الذي أصبح البديل المنطقي الوحيد، الذي سيحل محل البائدين ويرث الأرض ومن عليها.. ولكن العهد الجديد كان حربا على الإسلام، مثل القديم، وإن اختلفت الأساليب الماكرة.
فالشعب الذي غرر به سوكارنو وحواريوه وضللوه وسخروه لمآربه ومآربهم سنوات عديدة، أفاق ذات صباح يوم ضاح ليشهد بعينيه مأساة الثلاثين من سبتمبر سنة: 1965م وما اقترفت من وحشية وبهيمية وضراوة متناهية، أبرزت حقائق الشيوعية والتقدمية التي كان يروج لها سوكارنو وأعوانه.
تضليل المسلمين بفتاوى علماء السوء.
قال الدكتور محمد ناصر: لقد كان سوكارنو يقول: إن الشيوعية والإسلام صنوان لا يتعارضان، فلم تتورع طائفة من الذين يحلو لهم أن يقال عنهم بأنهم شيوخ الإسلام وأئمة الدين، أن يقولوا معه ويؤيدوا هرطقته.
وعندما بشر ببدعه "الناسا كوم" (والكلمة منحوتة من ثلاث كلمات بالإندونيسية تعني القومية والدين والشيوعية) التي تقول بوجوب تعاون واندماج هذه الثلاث أيديولوجيات ليتحقق الرفاه والسعادة للشعب الإندونيسي، سبح المغفلون بحمد هذا "الناساكوم" تسبيحا، وأرادوا أن يشخصوا إمكان تحقيق هذا المبدأ، فاعتلى المنصة-في اجتماع شعبي عام-ثلاثة شخصيات من زعماء الأحزاب التي أريد لها أن تمثل كلا من القومية والإسلام والشيوعية، وتعانقوا عناق اللوعة والاشتياق، وكانت مهزلة سخيفة أن يبدو "حمل" الإسلام يعانقه "ضبع" القومية و"ذئب" الشيوعية، ولكن الحمل كان معتزا فخورا...
ولما أعلن سوكارنو المجابهة ضد ماليزيا البلد الجار والشعب الشقيق، بتلفيق مختلف التهم ضدها، جاراها أولئك المغفلون، بل أصدروا فتوى بتحريم الاستماع إلى إذاعة ماليزيا!.
وانساقت طوائف الشعب الساذجة، وراء الخدعة بفضل أمثال هؤلاء الزعماء الذين كانوا إما مأجورين أو مغفلين، فقد كانت جماهير الشعب تضع ثقتها فيهم بحكم عمائمهم وتزييهم بزي العلماء!
وانهالت ألقاب الشرف العلمية على سوكارنو من كل حدب وصوب، حتى أصبح يفتخر بتعديد شهادات الدكتوراه الفخرية التي أهديت إليه، وكاد أن يكون أحق بلقب: "الدكاترة سوكارنو!"
وتسابق زعماء هؤلاء المسلمين إلى إهدائه ألقاب الدكتوراه الفخرية، في الدعوة الإسلامية وفي التوحيد، بل لقبوه بأنه (ولي الأمر ضروري بالشوكة).
ثم أطيح أخيرا بطاغوت "الناساكوم" وتمت عملية رفع الستار عنه وعن مخازيه وأعمال تهريجه، في خضم المظاهرات الطلابية التي أطاحت به وبحكومته في سنة: 1966م (كما أطاحوا بالطاغوت الثاني في سنة 1998م)بعد إحباط الانقلاب السبتمبري في أكتوبر سنة:1965م وانجلت الحقيقة لكل ذي عينين، واتضح أن الشيوعية هي الشيوعية، وأن الشيوعيين شيوعيون، سواء أكانوا أعضاء رسميين في الحزب الشيوعي أم لم يكونوا أعضاء، وأن دعوة الشيوعيين للوحدة والاتحاد و(الجبهة القومية) ليست إلا وسيلة من وسائل تحقيق غايتهم القصوى، وهي السيطرة والتمكن (كما فعلوا في اليمن) وبعد ذلك كان القضاء التام على من سواهم، بالاختطاف والاغتيال، كما حدث لقادة الجيش في صبيحة يوم أول أكتوبر سنة: 1965م، كما اتضح أن الشيوعية إن هي إلا زندقة والحاد وكفر صراح.(39/260)
وشدهت الجماهير الساذجة لهذه الحقائق المرة التي انكشفت بعد إحباط الانقلاب السبتمبري الفاشل، وأصيبت بالذهول، وتخبطت تخبط القطيع الذي يحاول أن يتلمس سبل الإفلات والنجاة من سطوة الذئاب الضارية، وهالها أن تشعر في النهاية بأنها كانت مخدرة من قبل زعمائها-أو من حسبتهم زعماءها-الروحيين، وراحت تتلمس وتبحث عن العقيدة الصحيحة التي تكفل لها الخلاص وتستطيع أن تكفر بها عن ماضيها وتطهرها من أدرانه.
رئيس الوزارة الثانية بعد الاستقلال
المنصرون يتصدون للعمل !
وكان من مستلزمات عمليات القمع وقطع دابر مدبري الانقلاب السبتمبري الفاشل، أن ألقي القبض على عشرات الألوف ممن ثبتت علاقتهم بالانقلاب، وأودعوا المعتقلات رهن التحقيق.
ولقد سمحت الحكومة للهيئات الدينية أن تقدم خدماتها الإرشادية إلى المعتقلين، رجاء إمكان إصلاحهم وإعادتهم إلى حظيرة الإيمان والعقيدة، فهرع المنصرون من مختلف الطوائف والنحل يباشرون نشاطهم مع هؤلاء البؤساء لا عن طريق الإغاثة الإنسانية والإرشاد، ولكن عن طريق استغلال بؤسهم ومحنتهم، فقد كان المبشرون يبدون لهم استعدادهم لإعالة ذويهم وإعاشة أسرهم، شرط أن يوقعوا على صك الاعتراف بانضمامهم إلى الكنيسة التي يبشر المبشرون بها، وهؤلاء البؤساء يعرفون جيدا تردي الأوضاع الاقتصادية آنذاك، وماذا يعني ذلك بالنسبة لذويهم، فقد كانوا من أصحاب الفضل في ذلك أيام تهريجهم مع سوكارنو، لذلك سارعوا في الاستعداد للتوقيع على الاعتراف، واثقين من أن في عملهم ذاك سلامة أسرهم من غوائل الجوع والمسغبة، وهكذا تدرج أسماؤهم تقارير التبشير وعدد الذين تنصر بالرضا والاقتناع.
وهو أسلوب متناه في الإسفاف والدناءة في ابتزاز العقائد، باستغلال البؤس والعوز والفاقة.
الوسائل التي اتخذها سوكارنو لإضعاف الإسلام.
والحق أن المبشرين قد مارسوا نشاطهم التبشيري-كما أسلفنا-منذ أيام سوكارنو، فقد كان سوكارنو يعلم أن الإسلام يعتبر قوة هائلة في البلاد، وأن المسلمين كانوا أصحاب السهم الوافر في حروب الاستقلال ومقاومة المستعمرين، منذ أن وطئت أقدام الاستعمار إندونيسيا، فكان يحاول إضعاف نفوذ الإسلام بشتى الطرق، من ذلك تشظية وحدة العمل الإسلامي بتفريقه إلى عدة أحزاب، ومن ذلك أيضا تنشيط العناصر المقاومة للإسلام الموتورة منه، فقرب إليه الشيوعيين رغم طعنتهم الغادرة للنضال التحرري الإندونيسي سنة: 1948م بثورتهم الرهيبة التي أشعلوها في جاوة الشرقية، ومكنهم من التسلل إلى مختلف المراكز الحساسة في جهاز الدولة.
وساند النشاط التبشيري بمختلف الوسائل حتى نال المبشرون من التسهيلات، ما لم يكونوا يحلمون به في أوج الاستعمار النصراني في إندونيسيا، فقد أصبح المبشرون يفدون إلى إندونيسيا من مختلف مراكز التبشير العالمية، ومن مختلف الملل والنحل، لا يسألهم سائل من أين جاءوا والى أي منطقة في إندونيسيا سيذهبون، وأقيمت الكنائس في المدن والقرى، أما في جاكرتا فكانت كنائسها المستجدة من حيث الكثرة والفخامة تفوق الحد والحصر، خاصة بالنسبة لوزارة الشؤون الدينية أيام سوكارنو، وكانوا يشيدون كنائسهم في الأحياء الإسلامية الصرفة بل تجرأوا على إقامة كنيسة لهم في آتشيه، المنطقة المعروفة بنقائها الإسلامي الصرف.
أهم أسباب تمكين النصارى في إندونيسيا.
أما كيف أمكنهم هذا، فالسبب يكمن في وجود هيئات تبشيرية عالمية ذات إمكانات مادية ضخمة، حيث تتلقى هبات مالية سخية من المؤسسات التجارية ومن شركات البترول التي تستغل بترول العالم الإسلامي، هذه الهيئات التبشيرية العالمية هي التي تمد التبشير في إندونيسيا.
واعترف سوكارنو بالهندوكية والبوذية والوثنيات، كأديان تقف على قدم المساواة مع الإسلام في إندونيسيا، إمعانا منه في إضعاف شأن الإسلام، وحرصا منه على تنحيته من مكان الصدارة والأولوية.
وبفضل جهود سوكارنو عاد للبوذية كيانها في إندونيسيا، وتجرأ البوذيون من مختلف أصقاع العالم على إقامة شعائر دينهم في معبد "بوروبودرو" بجاوة الوسطى، بعد أحقاب طويلة، كان هذا المعبد لا يعدو كونه تحفة من التحف من التحف تحت رعاية مصلحة الآثار والعاديات، وأصبح للبوذية والهندوكية ركن خاص في الإذاعة والتلفزيون.
وبعد سقوط سوكارنو تضاعف نشاط التبشير تضاعفا عظيما، فأصبح المبشرون لا يتورعون عن اقتحام حلقات الدروس الدينية في المساجد والمصليات، يوزعون مطبوعاتهم، ويرتادون بيوت المسلمين في غيبة الآباء، يبشرون النساء والأولاد، مما أثار ردود فعل عنيفة جدا، وأثار أزمات مستحكمة في سنوات 66 و 1967م.
وقد دعا الرئيس سوهارتو إلى عقد مؤتمر للأديان ضم زعماء المسلمين والنصارى والبوذيين، وناشد الأطراف المعنية بأن لا يمارسوا التبشير بين جماعات الطرف الآخر، ولكن المسيحيين اعتذروا وتذرعوا بحجة أن الإنجيل يأمرهم بإنقاذ الحملان الضالة، ودار حديث طويل في جلسات المؤتمر لم يسفر عن تخفيف النشاط المحموم للمبشرين.
أهداف ومخططات(39/261)
وجد المجلس نفسه أمام هذه الحقائق، وجابه تلك التحديات، وشرع يعمل، وهو لا يملك أكثر من الإيمان بأنه مدعو للاضطلاع بالمسؤولية الضخمة، وأنه مجند للقيام بواجب الإنقاذ، وكان معظم قادته وزعمائه حديثي عهد بالخروج من معتقلات سوكارنو، وقد صودرت أملاكهم أيام سوكارنو، حتى بيوتهم كانت مسكونة بأصفياء سوكارنو، ولكنهم بدءوا العمل..
بدءوا عملهم بعملية حصر للدعاة والوعاظ والمبلغين الذين نذروا أنفسهم للعمل الإسلامي، وبعملية حصر للميادين التي سيعملون فيها وطبيعة العمل الذي سيقومون به، والأساليب التي سيستعينون بها والوسائل التي سيستخدمونها.
وجدوا أن المبلغين والدعاة أكثرهم من "الهواة" ينقصهم الإعداد الفني، وتنقصهم المادة، وينقصهم التنسيق، ولكنهم رغم ذلك عملوا أو ظلوا يعملون ويمارسون واجبات الدعوة حتى في أحلك أيام طغيان سوكارنو.
ووجدوا أن ميدان العمل فسيح الأرجاء، متشعب المسالك، مترامي الفجاج:
فهناك: ضحايا الإلحاد والشيوعية ممن خوت ضمائرهم من القيم والعقائد الروحية.
وهناك: طلائع الجيل الصاعد من الشباب والطلبة، الذي فتح أعينه على لافتات سوكارنو الطويلة العريضة، وملأت آذانه الصيحات الغوغائية المنطلقة في هستيرية رعناء من حناجر سوكارنو وأتباعه، وعاش ردحا من الزمن في ظل قيم ومفاهيم وتقاليد ليس بينها وبين مجتمعه أي سبب أو رابطة.
وهناك: جماهير الشعب التي أبعد عنها زعماؤها الحقيقيون، وظلت سنوات عدة تجبر على تجرع التعاليم والمبادئ الإلحادية.
أما الأساليب التي سيستخدمونها في الدعوة والإرشاد، فسوف لن تقتصر على الطرق التقليدية، من خطب ومواعظ تلقى في حلقات الدروس الدينية المقصورة على رواد الجوامع والمساجد.
حقا إن الدعوة وعظٌ وإرشاد، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، ولكن كيف يكون هذا الوعظ وكيف يقدم هذا الإرشاد.
يقول الأستاذ محمد ناصر، الرئيس العام للمجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية.
قال: لحكمة إلهية سامية جاء ذكر الدعوة إلى الخير في سياق الآية الكريمة مقدما على ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} فأسلوب الدعوة الذي سينتهجه مجلس الدعوة يتجه أول ما يتجه إلى تكوين هذه "الأمة" التي تضطلع بالدعوة إلى الخير، بكل ما تنطوي عليه كلمة الخير من معنى، تقدم الدعوة بالكلمة الحسنة وبالأسوة الحسنة.
وهكذا أقيمت حلقات التدريب لجماعات الدعاة والمبلغين، وأعدت طائفة خاصة لمواجهة القسس والمطارنة إعدادا خاصا.
ويشترك في هذه الحلقات عادة مبلغون من مختلف أنحاء إندونيسيا يقيمون في جاكرتا مدة أيام التدريب. ( قلت : هذه هي الطريق الشرعية الصحيحة للدعوة إلى الله: إيجاد الرجال الذين يفقهون دين الله، ويطبقونه في أنفسهم، ويحملونه إلى الناس دعوة بالقدوة الحسنة والجهاد بكل أنواعه، وليس المهم البدء بمدرسة أو مسجد أو ملجأ، فإن هذه كلها لا تنفع إلا إذا وجد الرجال الذين يقيمونها ويقومون بأمرها، ولهذا لم يبن الرسو صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة إلا بعد أن نشر رسوله: مصعب الإسلام فيها، وأصبح القرآن يتلى في كل بيت من بيوت الأوس والخزرج )
إحياء رسالة المسجد.
وبما أن الجوامع والمصليات في إندونيسيا "أهلية" لا تتلقى إعانات من الحكومة، فقد عمل المجلس لكي يكون كل مسجد مركز ارتباط ورباط لجماعته، يتولون رعايته وينظمون شؤونه ويدفعون اشتراكات كهربائه، كما أقام رابطة تجمع المساجد والمصليات، مبتدئا بجاكرتا أولا، ثم نظم الدروس الدينية التي تلقى فيها وخاصة دروس الفجر، حيث رتب شؤون القائمين بها، كما قدم أسوة حسنة للجماعات بإسداء الرعاية الصحية مجانا للمبلغين وعائلاتهم، فوزع بطاقات خاصة بالمبلغين يقدمونها إلى العيادات الصحية أو الأطباء الذين تطوعوا لمساعدة المجلس في مهمته الإنسانية النبيلة، وعلى هذا الأساس يتلقى الداعية العلاج مجانا هو وأفراد عائلته المسجلة أسماؤهم على البطاقة.
والحديث عن الرعاية الصحية للدعاة والمبلغين يجرنا إلى الحديث عن تنظيم الرعاية الصحية العامة لإثبات حضور الإسلام في هذا الميدان الذي كاد المسيحيون ينفردون فيه.
فقد عمل المجلس على إنشاء عيادات طبية في المساجد والمصليات، تطوع للعمل فيها الأطباء المسلمون المنتمون سابقا إلى المنظمة الطلابية الإسلامية، يعملون فيها يوميا مناوبةً، ذلك لأن كل حي لا يخلو من وجود مسجد أو مسجدين، وبذلك يوفر موضوع تأمين المكان اللائق بالعيادة، ويضفي على المسجد دورا إنسانيا مستحدثا وهو تأمين العلاج البدني بجانب العلاج الروحي المعتاد الذي يتوفر في مبناه.(39/262)
والمجلس يحاول أن يحصل على عدد من سيارات الكلينو موبيل التي يمكنه استخدامها لتقديم العلاج إلى سكان القرى والأصقاع النائية، تزود بطائفة من الأطباء والممرضين والممرضات والأدوية، كما تزود بالدعاة والمبلغين والكتب الدينية والنشرات والمطبوعات، فترتاد الأرياف في مواعيد منتظمة وتتمركز في أحد المساجد نهارا تقدم العلاج البدني، وليلا تقدم العلاج الروحي للسكان، بهذه الوسيلة يمكننا أن ننافس المؤسسات العلاجية التبشيرية بمستشفياتها الضخمة المقامة في المدن والعواصم، ولكن بطريقة أخف مؤونة وأجدى نفعا، تكفي القروي مؤونة الذهاب إلى المدن والارتماء في أحضان المؤسسات التبشيرية.
وبهذا الأسلوب استطاع المجلس أن ينظم عمل الدعوة على وتيرة خاصة، فخطباء المساجد تنشر أسماؤهم في صحيفة "أبادي" كل يوم خميس مع ذكر أسماء الجوامع التي سيخطبون فيها، وبذلك يتذكر كل خطيب موعده ومسجده، وحلقات الدروس الدينية تقدم غذاء دسما في مختلف موضوعات الساعة التي تهم المسلمين، على أيدي مدرسين مؤهلين لذلك.
الدعوة في أوساط المثقفين.
من نتائج ازدواجية التعليم التي كانت ولا تزال، منذ أيام الاستعمار حتى الآن، وجود طائفة من المسلمين معلوماتهم عن الإسلام ضئيلة ضحلة، ولكنهم حريصون على تنمية مداركهم ومعلوماتهم الدينية وعلى الحصول على الأجوبة الصائبة لكثير من مشاكل الحياة والعمل التي يواجهونها.
لأمثال هؤلاء تعقد حلقات خاصة بهم، يحاضر فيها طائفة من مثقفي الدعاة أصحاب المؤهلات الجامعية، وهذه الحلقات تقام أسبوعيا.
الدعوة في أوساط الطلبة والحرم الجامعي.
لطلبة الجامعات في إندونيسيا منظمة طلابية إسلامية تنظم حركاتهم ونشاطهم العلمي، وتقدم لهم الرعاية الروحية عن طريق قسم الدعوة والإرشاد فيها، والمجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية على علاقة وثيقة مع هذا القسم من المنظمة ومع المنظمة نفسها، فهو يمدها دائما بالكتب والمطبوعات الدينية باللغة الإندونيسية والإنجليزية، كما يقوم بتدريب الطلبة أنفسهم على أعمال الدعوة والتثقيف الديني.
ويختار المجلس يوم الخريجين، عندما يتسلم الطلبة شهاداتهم الجامعية في يومهم المشهود، ليهدي إليهم مجموعة من تفسير القرآن الكريم باللغة الإندونيسية والإنجليزية، ومن الكتب الإسلامية الموضوعية من نتاج مفكري الإسلام، أمثال المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب وغيرهم، ويمكننا أن ندرك عمق المغزى والأثر في مثل هذه المناسبات السعيدة بالنسبة للطلبة الخريجين وعائلاتهم، حين يتسلمون فيها تلك الكتب المهداة، من تذكيرهم بدورهم المنتظر كمسلمين في أوساط المجتمع الذي سيخدمون فيه.
والتربية الدينية في المدارس والجامعات والمعاهد العليا واجبة، وإن كانت غير ذات أثر في النجاح أو الرسوب، والحاجة إلى المدرسين القديرين المؤهلين في هذا المجال ملحة جدا، ويسهم المجلس في سدِّ ثغرة هذه الحاجة بالاستعانة بمدرسي المواد العلمية الهامة في تلك المعاهد والجامعات، من ذوي الاستعداد لتدريس الدين، فيقيم لهم المجلس حلقة تدريب خاصة لاستكمال الشؤون التقنية ويزودهم بالتوجيهات وبالكتب اللازمة.
وقيام هؤلاء المدرسين بتدريس الدين للطلبة، له أثر كبير في إقبال الطلبة، نظرا لمكانة هؤلاء المدرسين في المواد الدراسية الأساسية التي يدرسونها للطلبة، وقد يكون هذا الإقبال مدفوعا بعامل بغية استرضاء المدرس حتى يضفي عليهم الرعاية في تلك المواد، وقد يكون إقبالا صادقا.
ومما يذكر بهذا الصدد أنه يوجد في كل الجامعات الحكومية والأهلية بإندونيسيا مساجد مقامة في الحرم الجامعي، تؤدى فيها الفرائض الدينية، كما تلقى بها الدروس والمحاضرات الدينية العامة، وهذه المساجد يقيمها الطلبة أنفسهم، ويتولون إدارتها ورعايتها، كما أن المدارس تستخدم بعض قاعاتها لأداء صلاة الجمعة.
الخدمات المقدمة لمعتقلي الشيوعيين
يقوم المجلس بتقديم الدعوة إلى معتقلي الشيوعيين وإرشادهم إلى واجباتهم الدينية، فيبعث إلى المعتقلات بعدد من المبلغين والدعاة، كما يقدم لهم ثياب الصلاة (الأزر) والمصاحف، وقد بلغ من تأثر بعض المعتقلين أن طلبوا إلى المجلس أن يتعهد أسرته بالرعاية الدينية، فقد حرمت من ذلك بسبب نشاطه الشيوعي السابق، وقد أهدى المعتقلون الشيوعيون رسما زيتيا كبيرا للمسجد الحرام وهو غاص بالمصلين، رمزا لامتنانهم.
وقد صدر قرار بإقامة معتقل خاص بأقطاب الشيوعيين في جزيرة (بورو) المنعزلة، ويضم زهاء بضعة آلاف معتقل، والجزيرة تقع في أقصى مناطق إندونيسيا الشرقية بالقرب من إيريان الغربية، وللمجلس نشاط ضخم في خدمة هؤلاء المعتقلين، غير أن وسائله لا تكاد تذكر بجانب ما يستخدمه المبشرون من معدات ووسائل، ولكن المجلس يقوم بواجباته في حدود طاقاته وإمكاناته، والا فسيغدو نزلاء المعتقل فريسة التبشير.
الخدمات الصحية(39/263)
للهيئات التبشيرية بإندونيسيا جهود ضخمة في الخدمات الصحية، فقد أقامت عددا من المستشفيات الضخمة في مختلف أصقاع إندونيسيا، وفي جاكرتا نفسها يوجد مستشفى سانت كارلوس الكاثوليكي ومستشفى "تشي كيني" التابع للبروتستانت، والمستشفيان مزودان بطائفة من نطس الأطباء الممرضين لمختلف الأمراض، كما يوجد بهما أحدث الأجهزة الطبية الدقيقة.
ويرى المجلس أن إنشاء مثل هذه المستشفيات فوق طاقة المسلمين، ثم إنها تكلف كثيرا في سبيل صيانتها، وقد بدأت جمعية المحمدية في إنشاء مستشفى إسلامي بجاكرتا، ولا تزال تواصل جهودها في ذلك وقد كلفت أموالا طائلة.
وقد حاولت طائفة المعمدانيين (البابتيست) إنشاء مستشفى لها في مدينة بوكيت تينقي عاصمة سومطرا الغربية، وسو مطرا الغربية تعتبر من معاقل الإسلام في إندونيسيا بل من مراكز الإشعاع الإسلامي في جنوب شرق آسيا.
ولقد لقي مشروع البابتيست معارضة قوية من السكان، ولكن الأصابع الخفية استطاعت أن تحمي المشروع فتم إنشاء المستشفى ملحقا بثكنة حامية المقاطعة.
ورأى المجلس أنه من اللازم الإسراع بإنشاء مؤسسة صحية منافسة، فأنشئ مركز صحي باسم (مستشفى ابن سينا) كنواة لمستشفى حقيقي، والمجلس بسبيل الاكتتاب وجمع التبرعات لهذا المشروع.
وقد أنشئ لهذه الغاية مؤسسة خاصة باسم (مؤسسة مستشفى ابن سينا الإسلامي) دعامتاها هي (المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية) بجاكرتا و مؤسسة المستشفى الإسلامي بجاكرتا.
ومشروع المؤسسة سينفذ على قطعة أرض مساحتها هكتاران، تقع في وسط المدينة وفي منطقة تمتاز بجمال الطبيعة الجبلية، وقيمة هذه الأرض ستة ملايين روبية (حوالي ستة آلاف دينار كويتي أو ليبي).
أما تفاصيل المبنى فسيضم في المرحلة الأولى إعداد صالات للمركز الصحي وللمستشفى، ويضم عيادة طبية ومستشفى ولادة، ومعملا ومركزا لرعاية صحة الأم والطفل، وصيدلية وصالات للعلاج، ومركز أشعة وصالة جراحة ومصلى، وتقدر تكاليف هذه المرحلة بمبلغ خمسين مليون روبية (حاولي 50 ألف دينار كويتي أو ليبي).
وفي يوم 5 سبتمبر 1971م أقيم احتفال بمدينة بوكيت تينقي لإرساء حجر الأساس في مشروع مبنى مستشفى الرئيس ابن سينا الإسلامي، قام بوضع حجر الأساس الأستاذ محمد ناصر الذي حضر خصيصا لذلك من جاكرتا.
وقد قدرت اللجنة تكاليف المشروع في مرحلتين زهاء 160 مليون روبية (حوالي 160 ألف دينار كويتي أو ليبي).
خدمات مستوصف ابن سينا الحالي.
لقد قدم مستوصف ابن سينا الإسلامي خلال عام واحد منذ إنشائه الخدمات التالية:
-تولت عيادته علاج 3000 مريض شهريا.
-أما الحوامل اللاتي ترددن على مركز رعاية صحة الأم والطفل التابع له، فقد بلغ عددهن 1000 حامل شهريا.
-باشر مستشفى الولادة التابع له 30 عملية توليد شهريا.
-قام بتقديم العلاج وبإجراء عمليات جراحية بسيطة.
-تأمين الأدوية عن طريق صيدليته.
خدمات الأشعة.
وقد قدم (المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية) إلى المستشفى في أول إنشائه سيارة إسعاف فولكس واجن، تبرع بها محسنون من إندونيسيا ومن الخارج.
المساعدات الصحية التي تلقاها المجلس.
وقد تلقى المجلس في مجال نشاط خدماته الصحية معونات قيمة من إندونيسيا ومن الخارج، فمن إندونيسيا ما نشاهده من تطوع عدد من الأطباء المسلمين، لإسداء الخدمات الطبية في العيادات و المستوصفات التي أسسها المجلس، سواء في جاكرتا أو خارج جاكرتا.
ومنها تبرعات بعض مصانع الأدوية بالأدوية والعقاقير الطبية.
كما تلقى من الهلال الأحمر الكويتي ومن وزارة الصحة الكويتية كمية ضخمة من الأدوية وسيارتي أسعاف، استخدمت واحدة لمستشفى السيدة خديجة (رضي الله عنها) والأخرى للخدمات الصحية بمدينة جاكرتا، جزى الله هؤلاء المحسنين أحسن الجزاء وأجزله.
مجال الخدمات التربوية والتعليمية
لا يزال التعليم في إندونيسيا على ازدواجيته الموروثة من أيام الاستعمار مع بعض محاولات الإصلاح الطفيفة، والازدواجية تعني وجود نوعين من التعليم: علماني محض، وديني محض، وقد قررت الحكومة إدخال مادة الدين في مناهجها الدراسية منذ المرحلة الابتدائية حتى الجامعية، كما أن وزارة الشؤون الدينية أنشأت معاهد إسلامية متوسطة وثانوية وعددا من الجامعات الإسلامية على غرار الأزهر.
والمجلس يحاول تصعيد مستوى التعليم الإسلامي في المدارس، ونشر اللغة العربية في إندونيسيا، ويسلك لذلك طريقين:
الأولى: إصلاح المناهج التعليمية في المعاهد الإسلامية الحرة، ومعظم مدارس المسلمين في إندونيسيا حرة غير حكومية.
والثانية: ابتعاث الطلبة إلى البلاد العربية لإتمام الدراسة الجامعية هناك.
وقد تلقى المجلس عددا من المنح الدراسية من جامعة المدينة المنورة وعددا من وزارة المعارف السعودية ومن وزارة التربية الكويتية، ومن كليات الدراسات الإسلامية في بغداد، وقد ابتعث حتى الآن عشرات الطلبة والطالبات إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الملك فيصل الإسلامية بالرياض، والى جامعة الكويت ومعاهدها الثانوية، والى كليات الدراسات الإسلامية في بغداد.(39/264)
كما تلقى المجلس من وزارة التربية الكويتية مجموعة قيمة من الكتب الدراسية المنهجية، وزعها على المعاهد والمدارس الإسلامية، كما سبق أن تلقى عشرات الصناديق من كتب تعليم اللغة العربية للبنات من السادة الأساتذة المؤلفين عن طريق الأستاذ السيد محسن باروم، كما تلقى من رابطة العالم الإسلامي آلة كاتبة كهربائية.
هذه المساعدات القيمة مهدت للمجلس سبل تقديم المعونات القيمة إلى المعنيين بإنهاض التعليم الديني في إندونيسيا، والى التمهيد لإنشاء اتحاد المعاهد الإسلامية بها الهادف إلى توحيد المناهج والتنسيق بين المعاهد الإسلامية، وقد انعقد أول مؤتمر للاتحاد في مدينة قرسيك بجاوة الشرقية في أواخر أغسطس الماضي سنة:1971م كان من بين موضوعات البحث فيه موضوع إنهاض تعليم اللغة العربية والتعليم الديني بوجه عام (وقد اقتبس المجلس منهج وزارة التربية الكويتية في تعليم اللغة العربية والتربية الدينية، وأصدر كتيبا بالمنهج وزعه على المعاهد).
معهد دار الفلاح الزراعي في بوغور.
من بين المؤسسات التي يستعين بها المجلس لأداء الدعوة الإسلامية، معهد "دار الفلاح" الزراعي، ويقع في إحدى ضواحي مدينة "بوقور" على بعد 70 كليو مترا من جاكرتا.
ويلتحق التلميذ بهذا المعهد فور إتمامه المرحلة الابتدائية، فيدرس به مدة أربع سنوات، يتلقى خلالها مختلف علوم الزراعة وتربية المواشي وتربية أسماك المياه العذبة ومزرعة للدواجن والألبان.
والمعهد مقام على قطعة أرض مساحتها 37 هكتارا (92.5 فدانا) تبرع بها للمعهد أحد الغيورين على الإسلام، وتشتمل الأرض على وهاد وهضاب وسهول، ويخترقها نهير دفاق، مما وفر للمعهد إعداد الفصول الميدانية للدراسات التطبيقية، وأنشئ فيها مباني المعهد ومساكن الطلبة والمسجد الجامع، وحظائر الدواجن والمشاتل وأحواض الأسماك.
ويتوخى المعهد في إعداد الطالب إعدادا مهنيا مبنيا على الاستقلال الذاتي والنظام والانضباط، وتوطين النفس على العودة إلى القرية بعد إتمام الدراسة لخدمة المجتمع فيها، وليس على الرغبة في التوظف أو مواصلة الدراسة والهجرة إلى المدن.
ومن أمثلة التربية النفسية في المعهد، نجد اللافتات الموجهة تصاغ بأسلوب يبعث الإحساس الذاتي بواجب الطاعة والانضباط، فبدلا من أن تكتب عبارة (ممنوع غسل الثياب في الحمام) تكتب (الشخص المهذب لا يغسل ثيابه في الحمام) وبدلا من كتابة (ممنوع إتلاف زهور الحديقة) تكتب عبارة (الإنسان المهذب يرعى نباتات حديقته) وهكذا، وبدلا من كتابة (أدّوا الفريضة) تكتب عبارة (من منّا الذي لم يصلِّ بعد؟).
ويتولى التدريس بالمعهد مدرسون من خريجي المعهد العالي للعلوم الزراعية في "بوقور" الشهير بمستواه العالمي العلمي.
ويقوم المجلس بالإشراف والتوجيه والرعاية لهذا المعهد.
نشر الكتاب الإسلامي في إندونيسيا.
من أهم الأهداف التي يعمل لها المجلس هو نشر الكتاب الإسلامي في إندونيسيا، سواء باللغة العربية أو الإندونيسية أو الإنجليزية، والكتب العربية بصفة خاصة مر بها عهد طويل والإندونيسيون محرومون منها، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثم قيام حرب الاستقلال بعد ذلك، ثم الظروف الاقتصادية العصيبة التي أصابت البلاد بعد الاستقلال.
وقد اضطلع المجلس بترجمة الكتب الإسلامية من العربية والإنجليزية إلى اللغة الإندونيسية، وأنشأ مؤسسة للطباعة والنشر والتوزيع أسمها (سينار هدايا) وقد أصدرت حتى الآن عددا من كتب الشهيد سيد قطب وعبد القادر عودة والمودودي وأبو الحسن الندوي مترجمة إلى الإندونيسية، كما تنشر الكتب المؤلفة أصلا بالإندونيسية.
وقد تلقى المجلس دعما كبيرا جدا من المحسنين في إندونيسيا وفي العالم الإسلامي في هذا السبيل، فقد تلقى من وزارة الأوقاف الكويتية ومن الإخوة المحسنين الكويتيين مئات الصناديق من الكتب الإسلامية القيمة، سدت الكثير من حاجة مكتبات الجامعات والمؤسسات العلمية والقراء الإندونيسيين، كما تبرع بعض كبار المحسنين في الكويت بنفقات طباعة عشرات الآلاف من نسخ (الفرقان في تفسير معاني القرآن) بالإندونيسية، مكنت المجلس من إمداد المجامع والمعاهد العلمية والجامعات والمؤسسات التعليمية وقسم الرعاية الروحية للقوات المسلحة الإندونيسية، بهذا التفسير.
من الواجب أن نسجل هنا أن هدايا الكتب التي تلقاها المجلس من العالم الإسلامي، من الكويت وقطر وغيرها، قد غمرت إندونيسيا من أقصاها إلى أقصاها، بالمصاحف وكتب التفاسير والأحاديث المتنوعة، وأهم ما أصدرته مطابع الشرق العربي في الآونة الأخيرة من الكتب ومن إنتاج إحياء التراث الإسلامي، وكان لها وقع الصيب الهاطل على التربة الخصبة العطشى.(39/265)
وهناك مساعدات أخرى تلقاها المجلس من وزير الإعلام السعودي السابق معالي الشيخ جميل الحجيلان، وهي عبارة عن جهاز عرض سينما وآلة تصوير سينمائية ومولد كهربائي، يمكن من عرض الأفلام السينمائية في الأماكن التي لا توجد فيها كهرباء، كما أمدّ-حفظه الله-المجلس بعدد من الأفلام التسجيلية وآلة تسجيل ومسجلات غنائية وغيرها، كما قدم السيد عبد الله باروم رجل الأعمال السعودي بضعة أفلام سينمائية إسلامية، وقد تمكن المجلس بهذه المعدات الحديثة من تقديم الدعوة الإسلامية إلى مختلف الأصقاع النائية من إندونيسيا.
والمجلس يضرع إلى الله أن يثيب كل شخص أسهم في هذا المضمار، لقاء كل نفس أفادت هداية من إحسانهم، وإزاء كل روح اهتدت إلى سبيل ربها بسبب جميلهم العظيم، أجزل الله المثوبة وأتمها.
مشروعات ومنجزات.
تلك هي خلاصة وجيزة لمشروعات "المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية".
وما تم إنجازه منها:
-إعداد مبلغين ودعاة مؤهلين للعمل، وتخصيص فئات منهم لمختلف طبقات المجتمع، وتزويدهم بما يسهل لهم مهامهم المتشعبة، وإسداء الرعاية الصحية لهم ولذويهم.
-تأمين الكتاب الإسلامي والعربي وتسهيل سبل اقتنائه للقراء.
-نشر الكتب المترجمة إلى الإندونيسية من نتاج مفكري العالم الإسلامي، ولا يزال يسعى لترجمة نتاج مفكري المسلمين الإندونيسيين إلى اللغة العربية وغيرها...
-السعي لابتعاث الطلبة الإندونيسيين للدراسة بالخارج، بما يتلقاه من منح دراسية من المملكة العربية السعودية والكويت والعراق والباكستان وغيرها...
-النهوض بمستوى التعليم الديني في المعاهد والمدارس وخاصة تعليم اللغة العربية.
-تنشيط وتنظيم المبادرات الشعبية الإسلامية في الخدمات الصحية، ولا يزال يسعى للحصول على سيارات الكلينو موبيل، لاستخدامها في تقديم الخدمات الصحية للمناطق النائية عن المدن، كما يوالي جهده لإنجاز مشروع مستشفى ابن سينا الإسلامي في سومطرا الوسطى بالاكتتاب له داخل البلاد وخارجها.
- تدعيم مختلف العلاقات بين إندونيسيا والعالم الإسلامي.
ولا يزال أمامه الكثير والكثير من المشروعات الهامة.
والمجلس لا يقتصر بجهوده على إندونيسيا وحدها، بل يولي اهتمامه للجارات المتاخمة لإندونيسيا.
مستقبل الإسلام والعمل الإسلامي في إندونيسيا.
قال الدكتور محمد ناصر: بقيت كلمة لا بد أن تقال أو سؤال لا بد من الإجابة عليه، ذلك عن مستقبل الإسلام والعمل الإسلامي في إندونيسيا.
إن موقع إندونيسيا الجغرافي يضعها بين قارتي آسيا وأستراليا، ووسط أقطار تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، فهناك في الشمال بلاد الفلبين الكاثوليكية، ويتم فيها إعداد القسس والمبشرين المخصصين للعمل في إندونيسيا، وفيها محطة إذاعة تبث إذاعة التبشير باللغة العربية المنطلقة من الحبشة.
ثم الصين الشعبية، وهي معقل من معاقل الشيوعية والبوذية، وقد سبق أن أسهمت في إعداد الانقلاب السبتمبري الشيوعي في إندونيسيا.
ثم أقطار الهند الصينية وسيام، وهي أقطار عريقة في البوذية، وأصبحت الآن محط الصراع العنيف الشيوعي للتسلل جنوب شرق آسيا، كما أن هناك أيضا بورما والهند.
أما في جنوب إندونيسيا فهناك أستراليا البلد "الأبيض" الرخي.
كل هذه الأقطار ترى في إندونيسيا، البلد النامي المهيض، الذي انتصر على الاستعمار بعد صراع عنيف،كان وقوده الأغلبية المسلمة من بين سكانه البالغ عددهم 120 مليون نسمة، بلدا تحرص على معالجته معالجة تتسق مع أديانها أو مع أيديولوجياتها.
وهذا الوضع يجعل من إندونيسيا، إما مركز إشعاع إسلامي ينجح في أن يغمر بالنور الإلهي الوهاج جاراتها تلك، وإما أن يجعلها هدفا ومرمى يسدد-من كل حدب وصوب-رماة مهرة في تسديد الأهداف.
لقد اكتشفت مؤامرات عدة ضد إندونيسيا، منها المؤامرة الشيوعية الكبرى التي قمعت سنة: 1965 م.
ولا تزال الآن تسعى جاهدة لمقاومة مؤامرات أخرى غيرها.
والتبشير له نشاط عملاق في هذا البلد، يكفي للتعرف عليه أن نعلم أنه له في منطقة إيريان الغربية أسطولا جويا مكونا من طائرات الـ(تشينا) وطائرات الهيلوكبتر، يتنقل عليها رجاله لارتياد المناطق النائية في أعماق الجزيرة، على قمم الجبال وسفوحها ووهادها.
والذي يقول: إنه يستبعد اتجاه التبشير لتنصير المسلمين، إما مغفل مغرق في الغفلة والسطحية، وإما مُغرض يتغامز مع المتآمرين.
هذا مجرد نموذج لا يجوز أن يرهب أو يخيف، ولكنه يجب أن يمكننا من إدراك طبيعة المواجهة التي يكابدها العمل الإسلامي بإندونيسيا، وإدراك التحديات التي توجه نحو الإسلام والمسلمين فيها.
والمجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة في تصديه للاضطلاع بواجبه الإسلامي واثق كل الثقة من قوله تعالى:
{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين}.(39/266)
((( كان غالب هذه المعلومات مما أدلى به الدكتور محمد ناصر في مقابلات المتكررة له في منزله ، وبعضها من كتيبات ومنشورات سلمني إياها بيده ، مع العلم أنه كان بين حين وآخر يبعث لي ببعض المعلومات عن طريق الطالب الإندونيسي ك الأخ عبد الواحد بن علوي في الرياض ، وهو من أعضاء المجلس الأعلى للدعوة .)))
مؤلفات الدكتور محمد ناصر
كثير من الدعاة إلى الله الذين شغلوا أنفسهم بنشر الإسلام بين المسلمين وغيرهم ، وبالدفاع عن هذا الدين ، تكون كتاباتهم - غالبا - متعلقة بحركتهم الدعوية ، وبث الروح الإسلامية في نفوس أتباعهم ، وتبصيرهم بمناهج الدعوة وأساليبها ووسائلها ، وتوضيح مسئولياتهم عن إيصال مبادئ الإسلام وفرائضه ومحاسنه ، إلى الأمة ، ولا يجد هؤلاء الدعاة الوقت الكافي للكتابة والتأليف ، والدكتور محمد ناصر من هذا النوع .
وقد أطلعني الإخوة المسئولون في مكتب المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية عند زيارتي لهم في جاكرتا يوم الجمعة 18/5/1421هـ - 18/8/2000م على بعض كتب الدكتور محمد ناصر التي لم أكن أعلم بها من قبل ، إذ لم يذكرها لي رحمه الله في لقاءاتي المتكررة له :
1- كتاب فقه الدعوة .
2- مجموع الرسائل في مجلدين ، ويقول الإخوة في المكتب : إن له رسائل أخرى قد يصل الكتاب بها إلى ثلاثة مجلدات ( ويبدو أنه شبيه برسائل الأستاذ البنا في مجال الدعوة ) وكلاهما باللغة الإندونيسية . ولعل الإخوة في المكتب من تلاميذ الدكتور يترجمون الكتابين إلى اللغة العربية ، ليستفيد شباب الجماعات الإسلامية العرب من تجارب الداعية الإندونيسي الكبير ، رحمه الله
وقليل من الدعاة الحركيين المجاهدين من يتمكن من تأليف كتب علمية كثيرة ، كالمجاهد الداعية الفقيه العالم الرباني شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله .
وفاة الدكتور محمد ناصر .
ولقد انتقل الدكتور محمد ناصر إلى جوار ربه بعد أشهر من اجتماعي به في آخر زيارة قابلته فيها في نفس السنة التي كان اجتماعي به فيها هو الاجتماع الرابع ، إذ وافته المنية في 1413هـ - 1993م بعد أن عانى من الأمراض التي أقعدته في منزله ، وكان مع شد تلك الأمراض يتصلب ويصبر ويصابر ، موجها طلابه وأتباعه ، حاضا لهم على مواصلة المسيرة في الطريق القويم الذي قادهم فيه إلى رضا الله ، مستقبلا ضيوفه الذين يزورونه من خارج إندونيسيا ، برغم محاولة أسرته وتلاميذه ثنيه عن ذلك لعلمهم بحالته الصحية التي تصعب معها حركته .
وكانت وفاته رحمه الله في الساعة الواحدة بعد ظهر يوم السبت الخامس عشر من شهر شعبان من السنة الهجرية المذكورة - السادس من شهر فبراير من السنة الميلادية السابقة .
وقد كتبت مقالة آنذاك في جريدة ( المسلمون ) السعودية تعزية لأسرته وأهل بلده وللمسلمين عامة .
وكان عمره خمسة وثمانين عاما ، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، ووفق طلابه وأتباعه لمواصلة الدعوة إلى الله مخلصين له متبعين سنة رسول صلى الله عليه وسلم ، مجتمعين على كلمة الحق ليدحروا عدو الله وعدو عباده المؤمنين الذي لا يفتأ ساعيا في التفريق بينهم لتكون عاقبتهم الفشل ، أعاذنا الله منه . والله الموفق .
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه .
=================
(1)- يبدو أن يمكن وجود مثل هذه الكفاءات وليست صعبة كما صورها الأستاذ محمد ناصر.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
=============(39/267)
(39/268)
فلسفة المواطنة
أ.د عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاح
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد /
فإن ربانية المنهج الإسلامي الذي جاء به صلى الله عليه وسلم من ربه في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، أنه لا يمثل ، ولم يمثل إشكالية لأتباعه بين مصالحهم ومبادئهم، ولا بين السقف الحضاري الذي يعيشونه في لحظة تاريخية معينة ، وقيم الإسلام الثابتة.
من ذلك الدوائر المحيطة بالإنسان (الأسرة ، العائلة ، القبيلة ، الوطن .. إلخ) . هذه الدوائر لم يأتِ الإسلام ليلغيها تماماً ، ولا ليتقمص شيئاً منها على حساب الآخر، فالإسلام ليس دين قبيلة ولا وطن ولا جنس قومي خاص ، ولكنه أيضاًَ لم يلغ اعتبارات هذه الدوائر التي يمثل كل منها حاجة تاريخية معينة للناس ، بل لقد اعتمدها الإسلام ، ودليل ذلك أنه أعطى في كل منها توجيهات قيمية تهذيبية تؤكد الفضائل ، وتنفي الرذائل . وبما أن الإسلام دين الله للبشر فقد جعل قيمته الكبرى وهي العبودية لله حاكمة على تلك الدوائر كلها صابغة إياها بصبغة الإسلام المتميزة ، مما يجعل تلك الدوائر متناغمة فيما بينها دون تشاكس تبعاً لوحدة القيم الموجهة لها .
إن مشكلة المسلمين - في هذا العصر - أنهم يتعاملون مع قضايا الحياة لا من خلال قيم دينهم مباشرة ، ولا من خلال مصالحهم المستقلة ، وإنما من خلال التفاعل مع حضارة الآخر إما استلاباً لمعطياته الحضارية ، أو مخالفة لها ورفضاً ، بذريعة العداء التاريخي مع هذا الآخر ، أو الاختلاف الديني معه.
وقضية المواطنة من هذه القضايا ، فقد غالى بعضهم في الانفعال بها في منطلقاتها الفكرية التي تجعل محور الولاء هو الوطن بديلاً عن الدين باسم (الوطنية) وضاد ذلك آخرون فحاربوها باسم الإسلام .
هذا في الجانب الفكري أما الجانب العملي فإن تعامل كثير من المؤسسات المعنية بها لم يكن بالجدية المفترضة بشأنها ، ولا ينفي ذلك وجود اهتمام ببعض الأشياء الجانبية كالنشيد الوطني وتحية العلم وإحياء التراث الشعبي الوطني ، إنما المقصود أن المواطنة بصورتها الحضارية حقوقاً وواجبات وحفظاً للذمام ، واحتراماً للنظام ، لم تأخذ حقها المطلوب ولم تؤصل في النفوس مما جعل الولاء للوطن مجالاً للمساومة أمام جواذب الأيدلوجيات المنطلقة من خارج الوطن .
إذا أردنا بناء مواطنة سوية مرتكزة على قيم الإسلام التي يتنفسها المجتمع السعودي ويتجاوب مع امتداداتها ؟ فما التأسيس الفكري لها ، وما المنحى التطبيقي لها؟
صفحات هذه الورقة مداخلة في هذه الشأن المهم ، مرتكزاً على دراستين سابقتين لي في الموضوع إحداهما عن الوطنية نشرت في مجلة المعرفة عدد ذي القعدة 1420هـ وثانيتهما عن المواطنة ومفهوم الأمة الإسلامية .
والله الموفق ،،،
قضية المصطلح :
(المواطنة) و (الوطنية) لفظتان مرتبطتان ببعضها في الجذر اللغوي وفي الدلالة المضمونية .
الوطنية تعني بحسب لفظها نزوعاً انتسابياً إلى المكان الذي يستوطنه الإنسان مثلما هو جار بالنسبة للأديان يهودي ، بوذي ..، أو للجماعة البشرية قبلي ... إلخ. كان هذا النزوع موجوداً لدى العرب منذ القدم وهو نزوع عاطفي برز في شعرهم تغنياً بالأوطان وحنيناً إليها عند التغرب عنها :
قفا ودعا نجداً و من حل بالحمى
**
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
**
ولي وطن آليت ألاّ أبيعه
وحبب أوطان الرجال إليهمو
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
… …وقل لنجد عندنا أن يودعا
**
بواد وحولي إذخر وجليل
**
وألاّ أرى غيري له الدهر مالكاً
مآرب قضاها الشباب هنالكا
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
والعرب ينتسبون إلى أوطانهم ، فهذا نجدي وذاك حجازي وآخر تهامي ثم كان بعد الإسلام الشاميون والعراقيون والمصريون ... إلخ .
وقد يتفاخرون فيما بينهم بأوطانهم ؛ وميزات كل منها ؛ لكن ذلك لم يتجاوز إلى أن يصبح الوطن مصدر الولاء الأول لدى المنتمين إليه ، سابقاً الولاء للقبيلة في الجاهلية ، والإسلام بعد بعثة الرسو صلى الله عليه وسلم ، فهذا المفهوم المذهبي للوطنية جديد على الأمة في هذا العصر مستمد من المسار الحضاري للغرب في عصره الحديث ، والوطنية بمفهومها الغربي الحديث تعني أن الولاء للوطن مقدم على أي ولاء سواه ، والولاء للوطن يعني الولاء لبقعته الجغرافية ولجماعته من الناس ولدولته ولشاراته (العَلَم - النشيد الوطني ... إلخ) وتمثلات هذا الولاء هي المواطنة من قبل المواطن لوطنه .(39/269)
وعلى كل فإن الوطنية - هنا ليست مجرد ذلك النزوع الشعوري ولكنها نزعة فكرية (مذهبية) لها مبادئها العامة وطقوسها السلوكية التي يزرعها رواد هذه النزعة في نفوس الناس وينشئون عليها ناشئتهم ، ويحاكمون إليها مواقف أتباعهم، وينظرون إلى الآخرين من خلالها ، الوطنية بهذه الصفة ليست حديثة ، فقد وجدت في المجتمعات القديمة ومن أشهر صورها الوطنية اليونانية ، ثم وطنية الإمبراطورية الرومانية التي كانت تنظر للشعوب الأخرى المنضوية تحت ظل الدولة الرومانية بصفتهم عبيداً تابعين للوطن الأم ، لا يقبل من هؤلاء الأتباع الانصهار في بوتقته والاندماج به كما حصل مثلاً الاندماج في الحضارة الإسلامية ، ولقد تجلت النزعة الوطنية متماهية مع القومية في أوربا الحديثة نتيجة التفلت من الإمبراطوية الجامعة التي كان رباطها الجامع بين الأوربيين هو المسيحية التي دخلت إليها في القرن الثاني الميلادي .
هذا التفلت بدأ بالملوك ثم برجال الدين فيما عرف بالحركات الإصلاحية حيث تقسمت القارة الأوربية كما يقول الندوي (إلى إمارات شعبية مختلفة وأصبحت منازعاتها ومنافستها خطراً خالداً على أمن العالم)(1).
هذه (الوطنيات القومية ، أو القوميات الوطنية ) سعت - كل منها - من أجل تقوية نفسها وشحن شعور الأتباع بروح التضحية لها إلى تعميق الروح الوطنية بإحلالها بصفتها ديناً له قداسته محل المشاعر الدينية المسيحية ، حتى أصبح الدين والوطنية كفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى . وقد ظلت العصبية الوطنية - كما يقول (إدوراد لوتين) - " تقوى وفي المقابل تخف كفة الدين كل يوم" (2) ووضعت الوطنيات على مرور الزمن مراسم لتحقيق ذلك تضاهي المراسم الدينية .
هذه الوطنية هي الرحم الذي أنجب المواطنة التي تمثلت في علاقة الحاكم (الملك) بالسكان من حيث تبادل الحقوق والواجبات بناءً على الرابطة الوطنية بعيداً عن الدين .
المواطنة : لم ير بعض أهل اللغة دلالة لهذا اللفظ على مفهومها الحديث إذ إن واطن في اللغة تعني مجرد الموافقة واطنت فلاناً يعني وافقت مراده، لكن آخرين من المعاصرين رأوا إمكانية بناء دلالة مقاربة للمفهوم المعاصر بمعنى المعايشة في وطن واحد من لفظة (المواطنة) المشتقة من الفعل (واطن) لا من الفعل (وطن) فواطن فلان فلاناً يعني عاش معه في وطن واحد كما هو الشأن في ساكنه يعني سكن معه في مكان واحد(3) .
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق - متبادلة - في تلك الدولة ، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات) (4).
المواطنة في صورتها الغربية المعاصرة :
بناء على شمولية الإسلام الذي وجه المسلم نحو الاستقامة على القيم الفاضلة في كل مفاصل حياته الفردية والاجتماعية كان المسلمون يعون أنهم يرتبطون مع من حولهم بحقوق وواجبات متبادلة يترتب على الإخلال بها خلل في تدينهم وحياتهم ، و يعرفون أن لهذا الإخلال - من قبلهم - جزاءً وعقوبة قد تكون دنيوية وقد تكون أخروية وهي الأخوف بالنسبة للمسلم .
هذه الحقوق والواجبات متبادلة بين الناس في مكان أو بلد أو تجاور ومتبادلة بين مجموعة الناس بصفتهم شعباً لمجتمع والولاية التي تحكمهم ، لم تأخذ هذه الأمور اسم (المواطنة) ولم يكن مستندها الوطن بصفته جامعاً بديلاً للجوامع الأخرى دينية أو قبلية ، كان مستندها الشرع الإسلامي ، وتفهم على أنها جزء من منظومة القيم الإسلامية الشاملة .
في العصر الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين برز شعار الوطنية لدى المسلمين عرباً وأتراكاً وغيرهم وبأخرة تردد شعار المواطنة ، ولم يكن خافياً أن هذين الشعارين مستوردان من الخارج وأنهما من معطيات الحضارة الغربية الحديثة ومن هنا كان التوجس والتساؤل عن مضمون هذين الشعارين في أرضهما الأصلية ومن ثم لدى ناقليهما.
ليس من شأن هذه الورقة المقتضبة أن تؤرخ لقضية المواطنة في الفكر الغربي نشأة وتطوراً وفلسفة وصوراً عملية ، وإنما هي مجرد إضاءات بحسب ما يخدم الموضوع .(39/270)
بدأ تشكل المواطنة في أوربا بعد انحسار هيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوربا ، وتراجع توجيهها المباشر للحياة السياسية فيما يتعلق بحياة الناس ، هذا الانحسار والتراجع جعل العلاقة بين الدولة أو الملك - في أوربا - وبين الشعب أو السكان مباشرة مما جعل الشعب يشعر أن الدولة دولته ، وأن له عليها حقوقاً كما أن الدولة ترى أن لها على هذا الشعب حقوقاً خاصة الضرائب التي يقضي إقناع الناس بدفعها إشراك ممثلين لهم في الحكومة يشرفون على صرفها ، فضلاً عن سبب آخر مهم دفع الناس والدول إلى اتخاذ مبدأ المواطنة حلاً لمشكلاته ، هذا السبب هو تعدد الشيع الدينية النصرانية في القرن السابع عشر بالذات ، وشيوع الصراع والفتن بينها حيث (استمرت هذه الفتن حتى بلغت حداً من الشدة حمل الناس على أن يقبلوا ولو ببطء وتردد أن يتجاوزوا الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة وأن يسلموا بمبدأ آخر وهو أن الاختلاف في العقيدة الدينية لا يحول دون الانتساب لمواطنة مشتركة) (5) .
ويرى الأستاذ علي خليفة الكواري أن ثلاثة تحولات كبرى متكاملة حدثت في أوربا هي التي أرست مبادئ المواطنة في الدولة القومية الديمقراطية المعاصرة:
• بروز الدولة القومية نتيجة صراع الملوك مع الكنيسة الذي انتهى بتبعية كل رعية لملكهم ومذهبه الذي اتبعه في إطار المجتمع الذي تقوم فيه دولته بقوميتها وتاريخها وثقافتها المتميزة .
• المشاركة السياسية التي كانت نتيجة الحاجة المتبادلة بين الدولة وشعبها وما نتج عنها من الاعتراف بحقوق متبادلة وتشارك في العمل السياسي والإشراف على حركته - كما سبق - .
• حكم القانون : حيث انتشرت في الدولة القومية التي تشكلت صياغة القوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واستمر إصدار هذه القوانين تلبية لحاجات تلك المجتمعات وانتقل إصدار هذه القوانين بعد ذلك إما تدريجياً - كما في بريطانيا - أو ثورياً كما في فرنسا وأمريكا إلى الشعب الذي أصبح مصدر السلطات والتشريع حيث مثل ذلك قمة (المواطنة) .
ويشير أحد الكتاب إلى أساسين كبيرين من أسس المواطنة في العصر الحاضر هما :
• المشاركة في الحكم من جانب .
• المساواة بين جميع المواطنين من جانب آخر (6).
وقد تبلورت هذه العناصر كلها فيما سمي (حقوق المواطن) أو (حقوق الإنسان في ظل وطنه) سواء كانت حقوقاً مدنية أم سياسية أم اجتماعية تتعلق بقضايا الاقتصاد والثقافة والاجتماع التي أصبحت دولية تدان أي دولة تنتهكها .
ولكن يبقى واضحاً - دون إنكار لما في الوطنية والمواطنة من إيجابيات - أنها - وإن عولمها الغرب نتاج للتحولات التاريخية الغربية ، واستجابة لمتطلباته الحضارية (الخصوصية) بالدرجة الأولى وإن كان فيها ما تستفيده البشرية خارج السياق الأوربي . وخلاصة القول أن (المواطنة) في مفهومها المعاصر ومسارات تطبيقها ومتطلباتها التربوية تتمثل في :
• المساواة بين المواطنين في ظل قومية وطنية واحدة على أساس الانتماء لهذه الوطنية .
• امتلاك (المواطن) حقوقاً اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية يتكفل بها النظام .
• تحمل (المواطن) واجبات تجاه الدولة والمجتمع ، ضرائب ، تجنيد ، أعمال تطوعية .. إلخ .
• استحقاق المواطن أن يشارك بصورة ما في خدمة وطنه عبر المجال السياسي مباشرة أو بالإنابة.
• الولاء من المواطن للوطن ولكل رمزياته نشيداً وعلماً ولغة وأعرافاً إلى درجة التضحية في سبيله .
علاقة المواطنة بقيم المجتمع الذي تقوم فيه :
على الرغم من كون (الوطنية) - بصفتها شعاراً معاصراً يتقمص مضامين محددة - نتاجاً حضارياً لتحولات الغرب التاريخية في عصوره الحديثة بما جعل هذه المضامين مصطبغة بصبغة حضارته الراهنة : العلمانية ، المنطلقة من منظور لا ديني يسمح وفق المنظور الليبرالي الديمقراطي لكل المقيمين داخل حدود قطر معين بالعضوية المستحقة لكافة الحقوق ويعطيهم مجال المشاركة في التأسيس السياسي والتأثير في المجتمع ثقافياً وسياسياً - على الرغم من هذه الصورة المثالية - إلا أن الواقع لم ولا يمكن أن يتحقق بها لأن أي مجتمع يتشكل من جماعات لكل منها مطالبها ورؤاها التي تتناقض مع مطالب غيرها مما يقضي بوجود منطلقات مشتركة تضبط حركة الجماعات وتؤطر مطالبها لذلك كان الحل لتحقيق مواطنة إيجابية هو ( أن يكون المجتمع مستنداً إلى قاعدة من القيم المشتركة التي تتقيد بها كل الجماعات المؤسسة له . ويرى تالبوت بارسونز : أن المجتمع بالضرورة هو نظام أخلاقي مستند إلى الدين ، ويحصل مجتمع متعدد الثقافات مثل أمريكا على تماسكه من حقيقة أن القيم اليهودية والمسيحية المعتمدة على الدين تم تأسيسها في البنى الاجتماعية وغرسها ذاتياً في شخصيات الأفراد إلى الحد الذي أصبح فيه طبيعياً اعتبار التزامات الفرد لأي من المجموعات الدينية أو للجماعات العلمانية الصورية متوافقة مع الأنماط المؤسسة للقيم ولا يمكن للمجتمع أن يقوم من دون هذه الرابطة المشتركة للقيم المعتمدة على الدين) (7)(39/271)
لا شك في أن هناك من يخالف هذه الوجهة تحرزاً من إقحام الدين في قضية تستهدف إدماج أناس ينتحلون أدياناً وثقافات مختلفة ، حيث يرى بعض أصحاب هذه الوجهة أن الديمقراطية بقيمها المشتركة كافية لتمثيل قاعدة ترتكز إليها المواطنة .
والملاحظ أن الطرح الثاني لم يبعد عن الأول إلا في استبعاد مصطلح الدين وإلا فمن قال إن قيم الديمقراطية ذات المنشأ والوجه الغربي قيم مشتركة ؛ أي إنسانية ؟ والواقع يشهد أن القيم ذات البعد الديني حتى وإن كان هذا البعد مضمراً هي الموجهة لحياة الإنسان في المجتمعات الفاعلة في حضارة اليوم لهذا لم يك مستغرباً أن تنضم دول لم تنفك من الشيوعية إلا قبل سنوات للاتحاد الأوربي بسرعة مذهلة - وهو الاتحاد الذي يسعى الآن لصياغة نمط من المواطنة عابرة للقوميات الخاصة - فرنسية وألمانية ... إلخ - بينما ظلت تركيا - ذات الخلفية الإسلامية - الهائمة بالانضمام لهذا الإتحاد تلهث منذ عقود نحوه وكلما قاربت أبرزت عوائق جديدة في وجه هذه الانضمام .
هذه الحقيقة - حقيقة أن المواطنة تتشكل من القيم السائدة في المجتمع - بحيث يتجاوب معها الجميع ، وتقوم هي برعاية الجميع حتى من غير اتباع تلك القيم هي التي جعلت عدداً من الباحثين في مسألة المواطنة في الإسلام يرفضون اتهام بعض المستشرقين مثل (برناردلويس) الذي يؤكد أن مفهوم المواطنة غريب تماماً على الإسلام بحجة أن لفظة مواطن بالمفهوم الغربي الذي يعني المشارك في الشؤون المدنية غير موجود في اللغة العربية(8) .
رفض باحثون عرب هذه الاتهام وبينوا أن هناك لفظة تحمل مضمون المواطنة من حيث هي حقوق وواجبات متبادلة بين عناصر المجتمع ، هذه اللفظة هي (مسلم) ؛ ومن ذلك ما رآه طارق البشري من قيام مفاهيم المواطنة التي تبناها النظام العالمي على الترابط التاريخي بين أهل إقليم معين يكون هذا الإقليم أساساً للعضوية فيها واستثناء غيرهم من حقوق المواطنة كذلك في الإسلام حيث يستند المفهوم الإسلامي للجماعة السياسية على الدين بحيث يكون إسلام الشخص مؤهلاً إياه للتمتع بحقوق المواطنة .
ويبرز الأستاذ عبد الوهاب الأفندي هذه القضية قائلاً : ( إن مطابق الكلمة العصرية (مواطن) في المصطلح الإسلامي القديم هي كلمة (مسلم) وليس (مواطن) (ويرجع ذلك إلى أن هوية المجتمع الديني والسياسي في بدايات المجتمع الإسلامي كانت من المسلمات حيث يتمتع الفرد بحكم كونه مسلماً بعضوية فورية وكاملة في المجتمع السياسي وبالمعنى الإيجابي ، بل و (الجمهوري) للمواطنة النشطة ، يحمل الحديث الشريف المشهور هذا المفهوم (المسلمون ذمتهم واحدة ، ويسعى بذمتهم أدناهم ومن حقّر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (رواه البخاري ومسلم ) ويقول المعلق على البخاري بأن لفظة "المسلمين" تشمل نظرياً النساء والأطفال (9).
وخلاصة القول أن المواطنة في صيغتها المعاصرة تركن إلى قيم ذات بعد تراثي (ديني) لأهل المجتمع أو لغالبيتهم ، وأن المواطنة في الإطار الإسلامي تركن إلى قيم الإسلام التي تحدد الحقوق والواجبات المتبادلة في مختلف الدوائر - التي يعنينا منها هنا دائرة الوطن - فإن كان مواطنو المجتمع كلهم مسلمين فالأمر واضح في تساويهم في الحقوق والواجبات المتبادلة بينهم وبين دولتهم ، وإن كان في المجتمع أقلية غير مسلمة فمن حق هذه الأقلية التمتع بحقوق المواطنة ارتكازاً للقيم الإسلامية التي تحمي حرياتهم الدينية ومصالحهم المادية والسياسية دون غبن أو جور وقد شهد التاريخ بالموقع المتميز للأقليات في المجتمع الإسلامي ، بل إن الملاحظ أن حقوق المسلمين في مجتمعات كثيرة في تاريخهم قد قيدت أو صودرت خلافاً لحقوق غير المسلمين .
وإذا كانت المواطنة في ظل تداعيات العولمة الراهنة والتغيرات العالمية تمر بمرحلة مراجعة تستهدف كسر حاجزها القومي ، إذ كما يقول أحد علماء الاجتماع الفرنسيين في كتاب عنوانه ( ما المواطنة - باريس 2000) : لماذا ترتبط المواطنة بالقوم أو بالوطن الخاص؟ ما الذي يمنع من أن تضيق نحو مواطنات أصغر نحو الجماعات الفرعية ذات الجامع اللغوي أو العرقي ، وما الذي يمنع من أن تتوسع نحو مواطنة عابرة للقوميات الوطنية(10) .
وهذا المسار هو الذي تسعى القوى الفاعلة اليوم لتوظيفه لمصالحها حيث تتكتل القوميات في العالم المتقدم (الاتحاد الأوربي مثلاً) بينما يجري تفتيت الأمم الأخرى ومنها الأمة الإسلامية نحو وحدات أصغر وأضعف .
والإسلام لا ينظر إلى المواطنة بمفهوم (إسلامية المسلم في مجتمعه الخاص ) على أنها حركة مغلقة ، بل هي حركة منفتحة ؛ فإقامة المجتمع المسلم المتماسك يستهدف الانفتاح على ما وراءه انفتاحاً إيجابياً إلى المجتمعات المسلمة للتوحد معها والإسهام في حمل همومها ، وإلى المجتمعات الأخرى للإسهام في إعلاء القيم الإنسانية التي تحقق للعالم تعايشاً سلمياً وتفاعلاً حضارياً نافعاً .
تمثلات المواطنة إسلامياً بين قطاعات المجتمع :
في أي وطن ، تتمثل العناصر الكبرى التي تتبادل الحقوق والواجبات ، وتقوم بينها المواطنة في ثلاثة:
• الشعب .
• المؤسسات .(39/272)
• الدولة .
المواطنة بين أفراد الشعب :
مدنية الإنسان ؛ أي ارتباطه بالناس الآخرين بعلاقات تبادلية ، تتجاوز صورتها الفطرية لتصبح ضرورة حياتية بل وجودية بالنسبة لهذا الإنسان ؛ لهذا نجد أن أشد المذاهب مغالاة في فردية الإنسان تعترف بضرورة وجود قيم تنظم علاقات هؤلاء الأفراد فيما بينهم حتى تحتفظ فردياتهم بأعلى قدر من التحقق .
والإسلام يجعل العلاقات التي ينظمها في المجتمع وغيره مع حسن علاقة المسلم بربه ، و الوفاء بعهده سبيل فلاح الإنسانية ، وبالمقابل يجعل إهدار الحقوق المرتبة على تلك العلاقات مع الإفساد في الأرض ونقض ميثاق الله سبباً في استحقاقهم مقت الله وسبيلاً للشقاء الأبدي.
يقول سبحانه وتعالى{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار* جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزاواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار * والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} الرعد 18-25 .
تتمثل الحقوق والواجبات المتبادلة على المستوى الشعبي في تشعبات كثيرة بحسب الصفة التي يأخذها شخص تجاه الآخر ؛ فهناك حقوق بين الوالدين وأولادهم وحقوق بين الزوجين ، وحقوق بين الأرحام ، وحقوق بين الجيران ... إلخ .
هناك أيضاً حقوق تتداخل مع هذه ولكنها تصاغ على مسارات أخرى مثل حقوق البيت ، وحقوق الشارع، وحقوق المسجد وحقوق دور العلم ، وحقوق السفر والحضر .. إلخ . وما هو أوسع هناك الحقوق العامة المؤكدة بين عموم أفراد المجتمع لأنها أساساً حقوق عامة بين المسلمين لكنها بصفتها سلوكيات تتركز فيمن يعايشهم الإنسان أي أبناء مجتمعه وإذا شئنا نماذج منها مما جاءت به النصوص فإن من ذلك ما جاء في قوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون * يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون*يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} الحجرات 10-12 .
وقول صلى الله عليه وسلم ( حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس) . وقوله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة) (11) .
وعلى هذا نقول : إن من المهم للارتقاء بالعلاقات بين الأفراد الذين يجمعهم مجتمع مسلم إلى المستوى الإنساني ، المحقق للسعادة ، أن تتجلى فيها الأخلاق التي شرعها دين الإسلام بين المؤمنين عموماً ، ومنها الأخلاق التالية :
- الولاء الذي ينعقد برابطة الإيمان بين المؤمنين ، وهو الذي على أساسه تتشكل البنية العضوية المتماسكة للمجتمع المسلم ، وبالتالي للأمة الإسلامية ، وبضعفه تفسد حال الأمة ، ويندثر وجودها الحضاري . ولهذا قال سبحانه وتعالى في سورة الأنفال : (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) الأنفال 73 . قال الشوكاني : (قوله : إلا تفعلوه ، الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم .. وترك موالاة الكافرين ) (12) .
- الألفة والتواد والتعاطف ، حيث تسود العلاقات بينهم روح تقارب نفسي وعملي إيجابي يشد بعضهم إلى بعض شداً إيمانياً إنسانياً حقيقياً ، لا مصلحياً أو مظهرياً فقط، وقد أوضح ذلك الرسو صلى الله عليه وسلم في تشبيه بليغ ، في قوله عليه الصلاة والسلام : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (13) .
- النصيحة ، وهي كلمة جامعة تقتضي السعي بكل ما فيه مصلحة للمنصوح له ، وليست مقصورة على الإرشاد نحو أداء عبادة متروكة ، أو ترك منكر مقارف.
وقد كان من عناصر المبايعة التي بايع الصحابة صلى الله عليه وسلم عليها : (النصح لكل مسلم) (14) . وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن صلى الله عليه وسلم قال : (الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ، والمسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يكذبه ، ولا يظلمه وإن إحدكم مرآة أخيه ، فإن رأى به أذى فليمطه عنه) (15) .(39/273)
ومن صور النصح فيما بين المسلمين : (إرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخراهم ، وكف الأذى عنهم ، وستر عوراتهم ، ودفع زلاتهم ، وإبعاد المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر برفقٍ وإخلاص ، والشفقة عليهم ... ) (16).
- الإصلاح بين الناس ، وإزالة أسباب الفرقة والنزع والشقاق بينهم ، والمبادرة إلى احتواء التنافر والخصام إذا حدث ، ومنعه من أن يتطور ، وقد جعل الإسلام خصلة الإصلاح من أفضل الأعمال ، فالله يقول في كتابه { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} النساء 114.
- النصرة : فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصره بما يستطيع من قدرات وإمكانات، والنصر شامل للجوانب المادية والمعنوية ، فكما يجب عليه نصره عندما يظلم في أمر مادي ، يجب عليه أن ينصره إذا وقع عليه ظلم أدبي ، كالغيبة والنميمة، وتشويه السمعة ونحوها.
والنصر للمسلم مطلوب من أخيه على أية حال ، ولهذا قا صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قال رجل : أنصره إذا كان مظلوماً ، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال : تحجزه وتمنعه من الظلم ، فإن ذلك نصره) (18) .
- ومن ذلك أيضاً : سائر الأخلاق الإيمانية ، التي جعلها الشرع من صفات المؤمنين ، مثل صدق الحديث ، والوفاء بالعهود ، وأداء الشهادة بالحق ، والعدل في التعامل ، والعفة والحياء ، والتواضع ... إلخ .
- وكذلك الآداب العملية التي تقتضيها حركة الحياة اليومية بين الناس ، مثل : آداب التعامل المالي ، وآداب الصحبة ، وآداب الشارع والبيوت ، كالاستئذان للدخول ، وعدم التلصص عليها ، وستر ما يراه مما تضر إشاعته بأخيه ، واحترام الكبير ، والعطف على الصغير.
ومثل ذلك أيضاً : الآداب الواردة في الأحاديث الجامعة ، كالواردة في حديث:( أمرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم بسبع:أمرنا بعيادة المريض ، واتباع الجنائز وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، أو المقسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي،وإفشاء السلام) (19).
ثم إن القيم الخلقية التي شرعها الإسلام لتكون قواعد موجهة وضابطة للحياة الإسلامية تتمثل بصورتها المباشرة في هذه العلاقات بين أفراد المجتمع سواء كانت من المطلوبات كالصدق والعدل والحياء والإحسان ، والتعاون على البر والتقوى ، والإكرام ، و النصيحة أو كانت من القيم المنهي عنها كالغش والغل والتعدي على حقوق الآخرين والتكبر على الناس ، والاتهامات الباطلة ، والتلصص على العورات .. ونحوها مما جاء النهي عنه في الشريعة .
وهي قيم باستطاعتها لو استطاع النظام التربوي غرسها في نفوس الناشئة وبناء شخصياتهم عليها أن توجد مجتمعاً تتلألأ إنسانيته في أعلى درجاتها ، ويتناغم أفراده نفسياً وفكرياً وحركياً بأرقى صور الكمالات البشرية .
الشعب والمؤسسات الوطنية :
المؤسسات شخصيات اعتبارية ذات أهداف ربحية أو خيرية ، ثقافية أو اجتماعية ، قد تكون أهلية بحتة ؛ تابعة لمؤسسات الدولة الرسمية ولكن بشيء من الاستقلال النسبي .
هذه المؤسسات حال وسط بين الأشخاص أو أفراد الشعب ، وبين الدولة بما هي سلطة حاكمة .
بين هذه المؤسسات والشعب حقوق متبادلة كما الشأن بين أفراد الشعب نفسه :
فمن حقوق الشعب على هذه المؤسسات الصدق وعدم الغش فيما تقوم به من أعمال فقول صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا)(20) تدخل فيه المؤسسات كما يدخل فيه الأفراد ، بل إنها تدخل في حديث (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)(21) فهذا الحديث وإن كان يتجه بشكل مباشر إلى ولاية الحكم إلا أن عمومية اللفظ تشمل المؤسسات التي لها سلطة تتمثل في قدرتها - خاصة الربحية منها - على تحقيق مصالحها على حساب الأفراد استغلالاً واحتكاراً ودعايات مضللة - ، وبالذات إذا كانت الدولة في حالة عجز عن فرض قوانين العدل على هذه المؤسسات ، أو كانت تحمي هذه المؤسسات قوانين فوق الدولة وفق ما تتجه له حركة العولمة الاقتصادية في زمننا - .
ومن حقوق الشعب على المؤسسات أيضاً الإسهام في التنمية الوطنية ، والمبادرة إلى الأعمال الإغاثية ، وعدم مصادمة قيم المجتمع بممارسة أو ترويج ما يسيء إلى دين أو تقاليد الوطن المتواطأ عليها ، من حقوق الشعب أيضاً على هذه المؤسسات أن توجه زكاتها التي تخرجها موسمياً إليه بحيث لا تخرجها من الإطار الوطني إلا في حال الاستغناء عنها وفق دراسات مسحية كافية ويؤخذ هذا من قول الرسو صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أرسله إلى اليمن (وأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)(22) حيث أخذ بعض العلماء من قوله فترد على فقرائهم (ترك النقل - أي نقل الزكاة إلى وطن آخر - فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح - ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها) (23)(39/274)
أما حق هذه المؤسسات على المواطنين فمن أبرز ما يتمثل به عدم الحقد عليها ، أو الإساءة لها بما يشوه صورتها كبث دعاية مغرضة ضدها ، وتفضيلها على غيرها من المؤسسات غير الوطنية عند التساوي بينها في منتجاتها ، ورفض الأعمال التخريبية التي تستهدفها كأعمال التطرف والإرهاب التي تسعى لتدمير المؤسسات الوطنية ، وكذلك الإخلاص عند العمل فيها ، ومواصلة نصح القائمين عليها بما يحقق المصالح العامة مباشرة عن طريق وسائل الإعلام أو غيرها .
الشعب والدولة :
الحقوق المتبادلة بين الشعب من جهة والدولة من جهة أخرى هي مدار ما يسمى الآن بـ (المواطنة ) من حيث هي حقوق متبادلة بين الطرفين .
وفي هذا الإطار ورد إنكار بعضهم - كما سبق - لهذه الحقوق في الإسلام لعدم وجود لفظ (مواطن) بمعنى شخص يشارك في شؤون وطنه ، بل يوجد لفظ يعطي المعنى المقابل - كما يتصور بعض هؤلاء - وهو لفظ (رعية) الذي يطلق على الشعب مقابل (الراعي) الذي يطلق على السلطة السياسية - الحاكم ، ولفظ الرعية يطلق أساساً على الماشية التي يوجهها الراعي كيفما يريد .
لقد أسلفت تأكيد كثير من المفكرين المعاصرين على أن مقابل (مواطن) المعاصرة هي (مسلم) وفق مضمونها الإسلامي الذي يعني شخصاً له حقوق وعليه واجبات تجاه ما يحيط به من أشياء الوجود ومنها قطاعات المجتمع التي منها الدولة .
فضلاً عن هذا فإن التعامل مع لفظ (رعية) بهذا السلق السريع والدعوة إلى أن تخرج الشعوب المسلمة من كونها رعية لتكون مواطنة غير سديد ؛ إن الألفاظ العربية لا تبقى في حدود إطلاقاتها الأولى وإنما تتطور لتتضمن معاني تناسب الصياغات التي تندرج فيها ؛ إن لفظ (الرعية) في الصيغ الشرعية تتضمن معنى حق المرعي على الراعي بالعدل والقيام بالحق وإيفائه حقوقه التي شرعها الإسلام له ، فالنص الشرعي وهو نص ديني عماده التوجيه الخلقي قبل التشريع القانوني يوجه الراعي أن يتحمل مسؤولية إقامة حقوق الرعية تديناً لله وطلباً لرضوانه ، ولنتأمل حديث المسؤليات الذي يقول فيه الرسو صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الاعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ؛ ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (24) .
ولأن المسلمين فهموا مثل هذا النص في جوه الديني العام لم ترد عندهم تلك الصورة البشعة التي تمنح الراعي التلاعب بمصائر رعيته كما الراعي بأغنامه ، إن الذي فهموه عكس ذلك تماماً لقد فهموا أنه دليل على عظم حقوق الرعية وخطورة مسؤولية من تهيأ له إمساك زمام الحكم عليها بل فهموا منه أن الراعي ليس هو الأصل بل الرعية ، وأن الراعي مجرد وسيلة لإقامة حقوق هذه الرعية ،ولنأخذ من كلام هؤلاء العلماء ما نقله ابن حجر في شرح هذا الحديث :
(الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه) ونقل عن الطيبي قوله ( إن الراعي ليس مطلوباً بالذات وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألاّ يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه) (25)
مسألة أخرى ، هي الإصطلاح الجاري عند الحديث عن العلاقة بين الدولة والشعب في قضية المواطنة وهو مصطلح (الحقوق) في إطار الفكر المعاصر ، بينما في الإسلام الحديث عن واجبات، وللأسف أنه من خلال استثمار جرس الألفاظ : حقوق ، واجبات ، تقلب الحقائق بحيث يُصور أن هذا يعني عدم وجود حقوق إسلامية في هذا المجال .
وإذا وعينا أساس ارتباط كل من القضيتين (الحقوق والواجبات) بمنطلقها (المواطنة الليبرالية والإسلام ) ، وعرفنا - أيضا - مدى انحصار دلالة اللفظة في منطوقها أو استيعابها لمقابلها ؛ إذا وعينا وعرفنا ذلك أدركنا القيمة الحقيقية لهذين المصطلحين.
فأما وجه الارتباط - بين مصطلح الحقوق والمواطنة الليبرالية فهو عدم وجود مصدر يتجاوز هذين الطرفين يمنح الحقوق ، ومنطق وجود طرفين يتنازعان مصالح بينهما أن يتم انتزاع كل طرف مصالحه من الآخر بحسبانها حقوقاً له إما بأصل وجوده ، أو بالعقد الرابط بين الطرفين .
وهذا خلاف الأمر في الإسلام فمصالح أطراف الوجود الاجتماعي منطلقها هو الله فهو الذي أوجد هذه الأطراف وهو الأعلم بمصالحها ومن ثم المحدد لها والملزم بها ، فالمصلحة التي للفرد على الدولة ، ومقابلها مصلحة الدولة على الفرد هي مطلوبات شرعية من قبل المصدر الذي يخضع له أطراف المجتمع المسلم كلهم حكاماً ومحكومين، والإخلال بها يعرض صاحبه قبل الجزاء القانوني الدنيوي إلى غضب الله واستحقاق عقابه ، من هنا كان لفظ واجبات أصدق إسلاميا ، وأقوى أثراً نفسياً من لفظة حقوق.(39/275)
أما انحصار أي من اللفظين في منطوقهما المباشر بحيث أن الحقوق لا تدل على الواجبات والواجبات لا تعني الحقوق فخطأ واضح ، إن الحقوق في المواطنة الليبرالية تعني أنها إلزامات للطرف المقابل لصاحب هذه الحقوق ، فحق المشاركة السياسية للمواطن - مثلاً - تلزم النظام السياسي بأن يضع الآليات التي تمنح المواطن التمتع بهذا الحق .
والأمر نفسه بالنسبة للواجبات في الإسلام بين أطراف المجتمع ، إنها واجبات من حيث أمر الشريعة بها ، وهي حقوق متبادلة بين هذه الأطراف.
والحقيقة أن القيمة ليست في المصطلحات بذاتها وإنما في المضامين التي تحملها ثم في تجليها في الواقع العملي في الحياة .
حقوق الشعب (المواطنين) على الدولة :
من أبرز هذه الحقوق :
v أن يكون الحكم وفق المنهج الذي يرتضيه الشعب وهو بالنسبة للمجتمع المسلم تطبيق شريعة الله والحكم بما أنزل في وحيه .
v النصح لجميع أفراد الرعية ، وعدم غشهم بأي صورة من صور الغش الثقافي أو الاجتماعي جاء في الحديث الشريف ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) (26).
v تحقيق القيم الإسلامية كالعدل والمساواة من خلال أنظمة شاملة لجميع المواطنين .
v تحمل المسؤولية أمام أعداء الوطن .
v تهيئة الفرص لأفراد الشعب للقيام المعاشي والمعادي .
v حمل رسالة الإسلام عالمياً .
v مباشرة مؤسسات الدولة الواقع الاجتماعي تصوراً وإصلاحاً وارتقاء به ونحوها مما بحثه العلماء المسلمون في وظائف الدولة في الإسلام مستشهدين عليه بالنصوص الشرعية(27) .
أما حقوق الدولة على المواطنين فمن أهم ما تتمثل به:
البيعة: وهي تمثل تعاهداً بين المواطنين وحاكمهم على أن يحكم فيهم بالشريعة وأن يقيم الحق والعدل ، على أن يكونوا أوفياء للنظام مغلبين المصلحة العامة التي تتبناها الدولة على المصالح الجزئية الذاتية ، والبيعة بالتالي ليست مجرد توافق يتم وينسى ، إن المطلوب شرعاً أن تظل ملازمة شعورياً ومن ثم حركياً للمواطن في كل أحواله .
• الولاء للدولة بحسبانه ولاء للإسلام الذي تتبناه الدولة تطبيقاً ودعوة .
• الإخلاص في العمل للدولة سواء من خلال مؤسساتها أو مؤسسات المجتمع المدني.
• الإسهام في بناء وتنمية الوطن .
• النصح والسعي للإصلاح بالطرق السلمية التي لا تهز استقرار الوطن ودولته .
• الدفاع عن الوطن ضد أعدائه .
• التمثيل الجيد للدولة والمجتمع خارج حدوده .
بناء المواطنة تربوياً :
لم يكن هناك إغفال لبناء المواطنة في المناهج التعليمية ، إذ كانت منبثة في ثناياها ، لكنها اتخذت صوراً تقليدية خاصة وأنها مندرجة في المواد الشرعية حيث تأتي على صورة قيم خلقية ومطلوبات دينية - ومعلوم أن عامة المطلوبات الدينية ذات عموم - دون ربط لها بالإطار الوطني ، لا أقصد حصرها فيه ، و لكن بيان الجانب التطبيقي لها في دائرة الوطن وهي الدائرة الأولى لأغلب تلك المطلوبات ؛ فقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) شامل لكل المسلمين في كل مكان ومع أي إنسان مسلماً كان أو غير مسلم ، لكنه واقعاً يتبلور في المجال الوطني بأوضح صوره وأولها ، ونهيه سبحانه عن التنازع والتقاطع أيضاً عام ولكنه يصدق بالدرجة الأولى المباشرة على الناس الذين يضمهم مجتمع واحد .
إن المطلوب هو تفعيل قضية المواطنة مستلهمة من الشريعة ومصبوبة في قوالب معاصرة ، فالناس الآن لا يعيشون مع القرآن فقط ولا مع كتب الآداب التراثية وحسب ؛ إنهم يعيشون عصرهم بصيغه الحضارية في حقوق الإنسان ، والمواطنة وغيرها ، ومن ثم يحتاجون خطاباً مواكباً لعصرهم ، حيوياً، يصوغ الفكرة ومن ثم يحدد الموقف ليحقق مواطنة تجمع بين الإسلامية والعصرية في آن .
إن أهم مرحلة لبناء (المواطنة الفاعلة) ولسائر القيم هي مرحلة الطفولة والنشوء التي تجعل الشخص يعيش المواطنة فكرةً ووجداناً ، فكم هم الذين استوعبوا الوطنية فكراً ويصيحون بها ولكنهم في واقع حياتهم لا يكترثون بها ، بل ربما استغلوها لتحقيق مصالحهم الأنانية ، إن السبب أن هذه القيمة (المواطنة) لم تحتل وجدناهم منذ الصغر بحيث يشعرون أنها الأصل بالنسبة لوجودهم أكثر من شخصياتهم وأن قيمتهم وعزهم يكون بالتضحية لها فضلاً عن بذل الطاقة لخدمتها.
لن أكتب خطة ريادية لبناء المواطنة تربوياً فهذا ما لا يمكن أن يقوم به فرد ، ولكني سأشير إلى بعض العناصر التي لا بد منها لتحقيق بناء المواطنة في الميدان التربوي ، تقوم هذه العناصر في المنهج المدروس ، وفي تدريس المعلم ، وفي أنشطة المدرسة غير الصفية .
v الربط الوثيق لعناصر المواطنة بالدين لاستثمار توهج الاستجابة لمطلوب الدين في خدمة الوطن ، وليس في هذا استغلال للدين في خدمة أهداف غير دينية ، إن القيم المطلوبة من المسلم حاكماً أو محكوماً ؛ فرداً أو جماعة هي القيم المطلوبة لتحقيق المواطنة النافعة في مجتمعنا السعودي المسلم الذي يتماهى وجوده السياسي والحضاري مع الإسلام - كما سبق - .(39/276)
v على أنه ينبغي أن ندرك أن تدريس الدين في بعض الجوانب يحتاج إلى تفعيل يتجاوز به الجانب التجريدي - التنظير- إلى الجانب الحيوي المرتبط بوضع الناشئ في هذا العصر في مثل قضايا : التوحيد ، والولاء والبراء ، والقيم الخلقية ونحوها - بحيث يعطيه المقرر مسالك تحقيق هذه القضية تحقيقاً سليماً في إطار السقف الحضاري والمعرفي الذي يعايشه ، والوضع الاجتماعي الذي يعيشه .
v ولأن المملكة - بمناهجها التعليمية - تتبنى المنهج السلفي الذي بعثته دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فإنه وفاءً لهذا المنهج ، واستجابة لضرورة التغير الذي حدث للمجتمع والأمة ينبغي تحريره - أقصد المنهج السلفي - لتحديد الموقف الثقافي - الذي يرسمه في ظل الوضع الحضاري الذي نعيشه والامتزاج الثقافي لمجتمعنا مع المجتمعات الأخرى إسلامية وعالمية في ظلال العولمة ، حتى لا يتحول هذه المنهج إلى تراثٍ ماضٍ مقطوع الصلة بالحاضر ، أو إلى رموز تعبوية قابلة لأن تحمل من التأويلات التطبيقية ما يأتي بنتائج سلبية .
v وينبغي أن تُنَزَّل المطلوبات والمصطلحات الشرعية على ما هو قائم في الخطاب المعاصر ، وما هو متداول في الساحة الثقافية والاجتماعية ليتفاعل الطالب مع توجيهات دينه في حركة حياته الجارية .
طبعاً لا يعني هذا تمييع المصطلحات الشرعية لحساب مصطلحات مستحدثة ، فالحقائق الشرعية هي الاصل لعصرنا ومجتمعنا، و للعصور والمجتمعات الأخرى ، المراد هو أن نفسر الحقيقة الشرعية بالمصطلحات العرفية التي تجعل الطالب يدرك الصور التطبيقية في واقعه لتلك الحقيقة الشرعية ، مثلاً في الشرع ذم للنفاق بكل صوره العقدية إضماراً للكفر وإظهاراً للإسلام ، والخلقية (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ...الحديث) (28) وتحقيق مصالحه عبر التلون الاستغلالي للناس(إن شر الناس ذو الوجهين..) (29) في وقتنا يوجد مصطلح الانتهازية الذي يدرك الناس تمثلاته سواء على مستوى أفراد العموم أو على مستوى المثقفين والساسة الذين يتنكرون للمبادئ التي يدعون إليها قبل وصولهم لمناصبهم . مثل ذلك الأثرة المقابلة للإيثار ، والأثرة بما تنطوي عليه من شح وبخل وحسد للآخرين أن ينالهم الخير ، هذا المصطلح يرادفه مصطلح الأنانية ، ... إلخ .
? من العناصر المهمة أيضاً في الربط بين معطيات العصر ومطلوبات الشرع، الحقوق؛ حقوق المواطنة ذاتها .
أوضحنا فيما سبق أن تركيز الاتجاه الليبرالي على (الحقوق) دون الواجبات جاء تبعاً لفلسفة الاتجاه التي ترى أن طرفي المعادلة : الدولة والشعب متعادلان وأنهما يتنازعان هذه الحقوق ومن ثم يتقاسمانها ، وليس هناك سلطة عليا تمنحها تلك الحقوق ، وأن الإسلام عكس ذلك فمصدر تلك الحقوق هو الله هو الذي منحها عباده ، وزاد تفضلاً بأن جعلها التزاماً أمامه من قبل من هي مطلوبة منهم فهي واجبات قبل أن تكون حقوقاً .
هذا ما سبق ، لكن ما يحسن تأكيده هنا هو أن هناك خللاً بين طرفي المعادلة - الدولة والشعب - في هذه الحقوق مقارنة بما هو سائد في المواطنة المعاصرة ، حيث الصوت العالي هو لحقوق الدولة على المواطن - عند المسلمين - مع خفوت لحقوق المواطن على الدولة ليس في الإعلام السياسي فقط بل وفي مدونات السياسة الشرعية ، ربما تم ذلك لمقتضيات تاريخية عند المسلمين ، وربما كان استناداً لكون الحقوق العامة هي الأصل فَوضْعُها بإزاء حقوق الحاكم التي هي حقوق استثنائية إزراء بها، أو لأن الدولة كانت في عصور الإسلام الأولى لما تزل في إطار المشيخة القبلية ولم تتحول إلى مؤسسات تصرِّف تفاصيل شؤون الحياة ، أو لغير ذلك من الأسباب ، لكننا في هذا العصر ، ونحن نسعى لبناء حضاري ذي وجه إسلامي ينبغي أن نتحرر من تحكم ظروف تاريخية مضت لنعود لمصادر الإسلام الأساس وهي القرآن والسنة وهدي الخلفاء الراشدين لنبني من خلالها وفي مواكبةٍ لمعطيات العصر الإيجابية في هذا المجال مواطنة متوازنة الحقوق والواجبات بين عناصر المجتمع ، لتستطيع من خلال موازنتها بحقوق المواطنة المعاصرة تحقيق تفوقها المقنع لفكر الناشئ المشبع لمشاعره الإيمانية .
والمفترض ألاّ تبنى المناهج على ردود أفعال تجاه الأحداث العينية ، بحيث إنه كلما وقعت مشكلة أو برزت ظاهرة طلب أن يزاد في مفردات المناهج ما يعالجها، ينبغي أن تبنى المناهج على المضامين الكلية التي تعطي الطالب في قضية ما أسسها العامة ، وتوصيفها الواقعي ومنطلقاتها التنفيذية ، بحيث تجعل شخصيته قادرة على معالجة كل ما يعرض له من مفاجئات العصر .
ولعل هذا السبب من الخلل في مناهجنا - ضمن أسباب أخرى لا ريب - هو الذي يجعل أبناءها على الرغم من كثافة المعطى الديني والثقافي في المناهج من غير حصانة أمام الاختراق ، وبلا قدرة على الفرز للضخ العولمي بالدرجة المطلوبة للمسلم الفقيه في دينه الواعي لعصره ، المستبصر لحركته فيه.(39/277)
? المنهج التعليمي دائر بين الجانب التربوي ذي المنحى العاطفي ، والجانب المعرفي ذي المنهج الفكري ، والمفترض تكامل الجانبين معاً خاصة لمراحل التعليم ما دون الجامعة ، لكن بعض القضايا تحتاج تكثيفاً لأحد هذين الجانبين ، وقضية الوطنية والمواطنة تحتاج لتكثيف الجانب العاطفي فيها الذي يجعل الناشئ يشعر أن وطنه هو بيته ، هو أهله ، وأن تفريطه بحقه تضييع لملكه ولأهله وبيته ، لنأخذ مثلاً هذه الطرفة التي يقال فيها: إن مدرساً في بريطانيا كان يستخدمها في تدريس طلابه في مادة الجغرافيا ؛ حيث كان يربط ذلك بحركة بريطانيا الاستعمارية ، مثلا يقول: هذه الدولة استعمرها أجدادكم وأعطوها وأخذوا منها ، وهذه الدولة لم تستعمرها بريطانياً ولذا فهي تنتظركم مستقبلاً …
ويحسن بنا في مجال (العاطفة) أن نعي اللون العاطفي الذي يبنيه الإسلام في نفوس المسلمين من خلال ربط المسلم بقضايا الوجود الكبرى ، أمانة العبودية، والخلافة في الأرض ، والسيادة على الكون حيث تتراجع بعناصر أخرى تبدو لدى غير المسلم لها اعتبارها مثل الأشياء الفلكلورية ، والمقتنيات الحفرية معدنية وفخارية ونحوها حيث تبدو تافهة لدى المسلم ، ويعتبر الانشغال بها تلهياً بالذي هو أدنى عن الذي هو خير ولهذا فإن تكريس الوطنية ومن ثم المواطنة من خلال هذه الأشياء وضع للأشياء في غير مواضعها الصحيحة وإيراد للإبل في غير مواردها .
? لا بد لتبني التربية مواطنة إيجابية لدى الناشئة من الارتباط بالواقع القائم ارتباطاً معرفيا ، وحركياً.
• لابد من التشريع للمتضمنات العملية للمواطنة ، في المشاريع التنموية ، في الجندية ، في الرعاية الاجتماعية ... إلخ .
• ثم لا بد من التعريف بهذه المتضمنات وبأنظمة الدولة ومؤسساتها بما يجعل الناشئ يعايش وطنه .
• ومثل ذلك الارتباط الميداني - زيارات - مثلاً - لإمارة المنطقة ، لبعض المؤسسات - أفلام عن خطط التنمية الوطنية .
• أيضاً كشف العطاء وتمجيده ، سواء كان عطاء الدولة للشعب ، أو كان عطاء المواطنين لوطنهم على أن يكون صادقاً.
• هناك جانب مهم في هذا الشأن يتمثل في التعامل غير الواقعي مع متغيرات الزمن ، إننا نتحدث كثيراً عن الأمن في بلادنا وتفوقه على كل بلاد العالم وربما نقارن بما كان قبل توحيد المملكة من النهب والسلب والقتل ، ونذكر الصورة المثالية في الأمن حيث يظل الكيس في البرية شهوراً لا يمسه أحد نتيجة الانضباط الأمني ، مع أننا ندرك أن هؤلاء الشباب يعيشون ، وضعاً ليس بهذه الصورة وأن سرقات السيارات والبيوت ، وعجز الاجهزة عن ضبط كثير من هذه الحالات ، وكثرة ظاهرة القتل موجود ويدركه هؤلاء .
إن المنطق السليم يقضي بأن نعترف بأن الأوضاع قد تغيرت وتعقدت وتوسع المجتمع ، وأن نبين إيجابية الأجهزة الأمنية في الحدود المعقولة والصحيحة ، حتى لا تنغلق العقول عن قبول التبريرات والأمجاد التي نذكرها لهم .
? المواطنة والولاء للأمة المسلمة :
هل (المواطنة) في منظورها الإسلامي أو بتعبير أوضح هل اجتماعية المسلم في إطار دولته مناقضة لولائه لأمته الإسلامية ووحدتها ؟
أو حتى مُشغلة عن السعي لها ، أو ما دون ذلك أنها لا تمثل بعض وسائل تحقيقها؟ إننا حينما نتجاوز الصراع بين المتقابلات المفترضة (مجتمع - أمة - مثلاً) وعندما نتحرر من ردة الفعل تجاه معطيات العصر الوافدة نجد أن المعاني التي يجمعها كونها آداب مجتمع متجانس ، أو حقوقاً لمواطنين في بلد واحد مثل :
• النظرة الإنسانية للآخرين في كرامتهم الأولية ، فضلاً عن أخوتهم الإسلامية .
• صيانة حقوق الناس دماءً وأعراضاً وأموالاً وبيوتاً .
• حفظ الممتلكات العامة والمنافع المشتركة من التدمير أو الإتلاف .
• التعاون المشترك بين الدولة والرعية على تحقيق المصالح الشرعية لأهل البلد.
• تحقيق الدولة للعدالة والشورى ، وتطبيق الشريعة في شؤون الحياة .
• التزام المواطنين بالبيعة لحاكمهم المسلم وطاعته في غير معصية الله .
• الدفاع عن الوطن والاستشهاد في سبيل الله ذوداً عنه ودفعاً لأهل الشر عن احتلاله .
• صيانة المكتسبات الشرعية في تطبيق الإسلام ودعمها والارتقاء بها ... إلخ.
نجد أنها مطالب شرعية قررها الدين قبل دعوات الداعين لها كفاراً أو مسلمين، فهي دائرة بين واجبات بنص القرآن والسنة ، وبين مطالب تقتضيها المصالح الشرعية ، وكلها وسائل مدعمة لمطلب وحدة الأمة إذا ما قامت مثل هذه (المواطنة) في مجتمعات المسلمين ، والتقصير في شيء منها هو تعويق لوحدة الأمة وتحقق وجودها الأفضل .(39/278)
إن من أسباب النظرة التخوفية من مسائل المواطنة ، ومن الاهتمام بقضايا المجتمع الذي يعيش فيه المسلم حدة مواقف القوميين ودعاة الوطنية الضيقة الذين تحولت عندهم إلى عصبية منافرة للإسلام وإلا فإن أولئك الدعاة الرافضين للوطنية والقومية بمفاهيمها العلمانية الغربية يعلنون أنهم لا ينكرون ما للأهل والعشيرة والأوطان من حقوق في رقاب أهلها؛ يقول المودودي بعد دحضه فكرة القومية الوطنية المنابذة للدين (ولكن لا يوهمنك ما قلنا إلى الآن أن الإسلام قد نفى كل العلاقات المادية والإنسانية بين أبناء النوع البشري وقطعها قطعاً باتاً . كلا ، فإنه قد أمر بصلة الرحم وشدد في النهي عن قطعها ، وأمر بطاعة الوالدين وبرهما والإحسان إليهما ، وأجرى الوراثة بين ذوي الأرحام وفضل ذوي القربى على غيرهم في الصدقات والبذل والإنفاق ، وأمر بالذود عن الأهل والمال والبيت، وأمر بقتال الظالم ، وقال : من قتل دون ماله وعرضه ، فهو شهيد ، وأمر بالبر لكل إنسان بدون الاعتبار بدينه ، والإحسان إليه وحسن التصرف معه في جميع شؤون الحياة . ولا يمكن أن يستخرج من أي حكم من أحكامه أنه ينهى عن خدمة الوطن وحفظه أو عن مسالمة الجار غير المسلم وبره ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة 8 .
فكل هذا من الاعتبارات الفطرية للعلاقات المادية وقد أباحها الإسلام وحث عليها المسلمين) (30) .
وقد يكون من أسباب التخوف أيضاً ما استقطب القوميون العرب إليه الإسلاميين في مواجهة الأولين لتيار الصحوة الإسلامية وهو مشكلة الأقليات غير المسلمة في بعض المجتمعات الإسلامية، والتلويح بها في وجه المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية بحجة أن في هذا هضماَ لحقوقهم وتفريقاًَ بين أهل الوطن الواحد، وهو الاستقطاب الذي على الرغم من وضوح عدم صدق القوميين في طرحه لأن دعوتهم القومية لم تراع حقوق الأقليات غير العربية ولم تكترث بها بل دعا بعضهم إلى إدماجهم بالقوة -على الرغم من ذلك - فقد انساق مجموعة من الكتاب الإسلاميين معهم فصارت قضية المواطنة لديهم محصورة في (حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي). ومع أننا لا نشك في حسن نواياهم ولا في جدية كثير من الاجتهادات التي قدموها في هذا المجال إلا أن هذا الانسياق جعل قضية المواطنة محصورة في فهم كثير من الناس في قضية الأقليات غير المسلمة ، ثم إنه شغلهم عن القضية الأصل وهي حقوق الأكثرية الساحقة وهم المسلمون الذين يبلغون أحياناًَ التسعين أو الخمسة والتسعين أو الثمانية والتسعين أو حتى المئة في المئة في بعض الدول كالمملكة العربية السعودية مثلاً.
وقد يكون التخوف آتياً من اللفظ الذي ارتبطت به هذه القضايا وهي لفظ (المواطنة) حذراًَ من تصور الوطن نفسه مصدر تلك الحقوق بجعله إلها مشرعاً بديلاً ، والحق هنا أن الوطن مجرد وعاء يجمع الناس ويتبادلون في إطاره تلك الحقوق والواجبات ، أما مصدرها فهو شيء آخر ؛ فلسفة ، أو دين ، يعيشه أفراد ذلك المجتمع ؛ فالمواطنة في الغرب ترتد إلى الفلسفة الليبرالية التي يمثل فيها الفرد وحدة مستقلة ، لحقوقها الاعتبار الأعلى وأهمها الحرية التي ينبغي أن تصان ما لم تكن خطراً على حريات الآخرين ، وعلى هذا تقوم النظم الديمقراطية ، أما في الإسلام فمصدر الواجبات والحقوق المتبادلة في المجتمع المسلم هو الإسلام بما وضعه من قيم خلقية ، وأحكام تعاملية بين الأفراد أو بين الحاكم والمحكوم .
أما تصور أن المواطنة تعني إقامة نمط من العلاقات الخاصة في وطن محدد يؤدي إلى انعزاله عن أمته الإسلامية وهمومها فهذا غير صحيح ؛ إذ إن موجهات الإسلامية التوسعية أسرة فعشيرة فمجتمعاً فأمة تمنع هذا ، بل أكثر من ذلك تجعل واجبات وحقوق الدائرة الأدنى صاعدة بالناس نحو ما فوقها من دوائر ، والتكامل البنائي الإسلامي في مجتمعَينِ من مجتمعات المسلمين يؤدي تلقائياًَ إلى تماثلهما ومن ثم تقاربهما وتوحدهما في المسار الحضاري ، وهذه أوربا بقومياتها الوطنية الضيقة استطاعت أن تذيب ما بينها من جليد وأن تتوحد شيئاً فشيئاًَ (31).
والله الموفق ،،،
الهوامش
1- أبو الحسن الندوي - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين212 .
2- المصدر السابق .
3- انظر محمد العدناني - معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة 725.
4- مفهوم المواطنة في الدولة القومية. على الكواري - مجلة المستقبل العربي عدد 2 - 2001 ص 66.
5- ما كيفر تكوين الدولة نقلاً عن الكواري - مصدر سابق (117) .
6- هاني لبيب في تعليق على كتاب (مبدأ المواطنة) المستقبل العربي مايو 2000 ص 245 .
7- انظر عبد الوهاب الأفندي - إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية- مجلة المستقبل العربي - عدد 2 -2001 ص 152 .
8- وقد تابعه على ذلك بعض المفكرين العرب - انظر الأفندي مصدر سابق 144.
9- الأفندي مصدر سابق 145.
10- المواطنة في زمن العولمة - السيد يس 21.(39/279)
11- رواه البخاري ومسلم والترمذي - جامع الأصول 6/561-564 والذي قبله رواه البخاري ومسلم - جامع الأصول 6/537.
12- فتح القدير للشوكاني 2/329.
13- أخرجه البخاري ومسلم ، جامع الأصول 6/547 .
14- رواه البخاري صحيح البخاري كتاب الإيمان 1/20.
15- أخرجه الترمذي مفرقاً وجمعه صاحب جامع الأصول قال محققه حسن 6/563.
16- السلوك الاجتماعي في الإسلام - حسن أيوب - 366.
17- حديث صحيح أخرجه الترمذي وأبو داود - جامع الأصول 6/669 .
18- رواه البخاري والترمذي - جامع الأصول 6/568 .
19 - متفق عليه وهو عند البخاري في كتاب الجنائز 2/70 ، وكتب السلوكيات الاجماعية تبسط هذه الحقوق المتبادلة كثيرا- انظر مثلاً السلوك الاجتماعي في الإسلام - حسن أيوب - الطهر العائلي - عبد الرحمن الزنيدي .
20- رواه مسلم والترمذي وغيرهما - جامع الأصول 1/498 .
21- رواه مسلم - الإمارة - فضيلة الإمام العادل .
22- قال في جامع الأصول أخرجه الجماعة إلا الموطأ 8/420.
23- فتح الباري - ابن حجر العسقلاني 3/357 .
24- رواه البخاري - كتاب الأحكام الباب الأول .
25- فتح الباري 13/113 .
26- رواه البخاري ومسلم وغيرهما - جامع الأصول 4/54.
27- انظر محمد المبارك - نظام الإسلام - الحكم والدولة 86 .
28- رواه البخاري ومسلم وغيرهما - جامع الأصول 11/569 .
29- رواه البخاري ومسلم وغيرهما - جامع الأصول 4/546.
30- أبو الأعلى المودودي - طائفة من قضايا الأمة الإسلامية 32 .
31- المواطنة ومفهوم الأمة الإسلامية - عبد الرحمن الزنيدي- بحث تحت النشر - 29-31.
================(39/280)
(39/281)
تركي الحمد وأطياف الأزقة المهجورة (1)
من هو تركي الحمد ؟
تركي الحمد من أسرة قصيمية انتقلت وسكنت بالمنطقة الشرقية ، وعلى وجه التحديد بالدمام .
وكان أبوه يعمل في شركة الزيت العربية الأمريكية ( أرامكو ).
وقد عاش تركي الحمد مرحلة شبابه ومراهقته في الستينات والسبعينات الميلادية بالدمام ، وهي المرحلة التي عاش فيها العالم العربي تحولات فكرية وسياسية متضاربة ، وأحزاب قومية متناقضة من القومية والناصرية والبعثية ... إلى الاشتراكية والشيوعية وغيرها من الأحزاب .
وقد كان للحمد اهتمامات وقراءات في هذه الأفكار أدت به في النهاية إلى الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي وهو في الثانوية العامة .
ثم ألقي القبض عليه وهو في السنة الأولى الجامعية في جامعة الملك سعود ( الرياض سابقاً ) وذلك بعد كشف التنظيم ، وبقي في السجن مايقرب من سنتين وبعد الإفراج عنه سافر إلى امريكا للدراسة .
وهناك مكث ما يقارب العشر سنوات ثم عاد إلى جامعة الملك سعود أستاذا في العلوم السياسية .. ثم تفرغ حاليا ً للكتابة بعد طلبه للتقاعد المبكر .
وجل كتاباته مرتبطة بأفكاره القومية السابقة .. ومن ذلك :
الحركة الثورية المقارنة .
دراسات أيدلوجية في الجامعة العربية .
الثقافة العربية أمام تحديات التغيير.
عن الأنسان أتحدث.
رواياته الثلاث ( أطياف الأزقة المهجورة ) والتي تتكون من ثلاثة أجزاء :
العدامة ( حي مشهور في الدمام ) : طبع عام 1997 من 300 صفحة .
الشميسي ( حي مشهور في الرياض ) : طبع عام 1997 من 250 صفحة .
الكراديب ( أي السجون ) : طبع عام 1998 من 288 صفحة .
وآخر ما كتب .. رواية موسومة بشرق الوادي ، ولم أطلع عليها حتى الآن .
ما هي أطياف الأزقة المهجورة ؟
أطياف الأزقة المهجورة .. هي ثلاث روايات قام بتأليفها وكتابتها تركي الحمد بدءاً من عام 1997 ..
وهي مكونة من ثلاثة أجزاء :
العدامة : وهو حي مشهور في مدينة الدمام ، وقام بطباعتها في عام 1997 ، وهي مكونة من 300 صفحة .
الشميسي : وهو حي مشهور في مدينة الرياض ، وقام بطباعة الرواية في عام 1997 وهي مكونة من 250 صفحة
الكراديب : ويقصد بها السجون ، وقام بطباعتها في 1998 ، مكونة من 288 صفحة .
وكلها نشرت عن دار المجون والخلاعة ، ورعاية الرذيلة في البلاد العربية : دار الساقي ببيروت .
وما ستقرأه أخي الكريم في هذا الموقع من مقالات وتحليلات .. هي محاولة لمعرفة شخصية الرجل من خلال رواياته الأخيرة ، خاصة وقد سئل في صحيفة اليوم التي تصدر في المنطقة الشرقية يتاريخ 8 / 8 / 1419 هـ السؤال التالي :
س : هل كانت تلك الروايات سيرة ذاتية ؟؟
ج : إنها ليست سيرة ذاتية بل فيها الكثير مني .. فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب .
ويعني بالبطل هنا بطل الوايات الثلاث واسمه : هشام العابر .. والذي يمثل شخصية تركي الحمد ، أو انه فيه الكثير من تركي الحمد .
وسأدع تركي الحمد يتحدث عن الكثير عن نفسه ويكشف لنا عن مكنوناتها من خلال نقل حرفي من تلك الروايات التي لو اطلع عليها طفل ذا فطرة سوية سليمة نقية لشمأز نها ونفر .. فكيف بالعاقل اللبيب .
ومنهجنا في الطرح لن يكون بالرد على الكتابات والنقولات .. فالحق واضح أبلج لا غبار عليه ولاشك فيه ، وإنما سيكون في تصنيف الكتابات بصورة تعين القارئ على فهم شخصية ذلك الكاتب ومعرفة حقيقته وحقيقة مايدعو إليه ..
والله المستعان.
مراحل حياته
قبل أن أبدأ أعتذر لعموم الإخوة عما ستحتويه السطور القادمة من كلمات ماجنة وعبارات وقحة ذكرها الحمد في أطيافه المهجورة ..
مرحلته الابتدائية :
قال في ( الشميسي - ص68 ):
( كانا في الصف الرابع الابتدائي وكانت مادتي القران والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ).
مرحلته الثانوية :
قال في (العدامة - ص 158 ):
[ كانت الشلة مجتمعة كعادتها في منزل عبدالكريم . كان عبدالكريم وعبدالعزيز يتحدثان حول رواية جديدة حصل عليها عبدالعزيز من قريب له قادما لتوه من بيروت وكان الاثنان يتحدثان بإثارة واضحة ، خاصة عبدالكريم الذي كان كثير الحركة وصر فخذيه إلى بعضهما .
كانت إحدى روايات البرتو مورافيا بعنوان ( مغامرات كارلا ) يزين غلافها صورة فتاة بيضاء بشعر أشقر وشفتين قرمزيتين وعينين خضراوتين واسعتين وقد جلست بإغراء على ساقين طويلتين وأفخاذها مكشوفة تماما في غاية …………………………
ولم يكن هشام قد قرأ الرواية بعد ولكنه قرأها بعد ذلك عدة مرات وخاصة تلك المقاطع التي تصف فض بكارة كارلا ليلة نام معها عشيق أمها وبقيت أحداث ليلة فض البكارة عالقة في ذهنه لأيام عديدة بعد ذلك ، حين كان يستعيد صور تلك الأحداث مرة بعد مرة في لحظات العزلة الخالصة في ليالي الشتاء الباردة ………(39/282)
كان سالم وسعود يلعبان الكيرم في أحد الزوايا فيما كان هشام وعدنان يجلسان متلاصقين في زاوية أخرى .. كان الجميع مرهفين آذانهم للكلمات التي تخرج من فم عبدالعزيز ويتابعون حركات عبدالكريم وهم يضحكون ويعلقون ( لم لاتذهب للحمام ياعبدالكريم وتفك الأزمة …)) قال سعود ضاحكا (( الآن عرفت سر الصابون الكثير في حمامكم )) قال سالم وهو ينظر إلى عبدالكريم (( لا أدري عن عبدالكريم ولكن عبدالعزيز يستخدم وسائل أخرى ..مبتكرة )).
قال سعود ذلك وانطلق في ضحكة طويلة وهو يصفك بيديه ويهز رأسه بعنف (( ياجماعة حرام عليكم لاتفضحوا خلق الله )) قال هشام وهو يتصنع الجد ثم انطلق ضاحكا مع الجميع (( الله أكبر يعني مايسوي ها الامور إلا حنا ..هشام يلبس نظارة وانت ياسعود وجهك مثل الكركم وانت ياسلم سعابيلك تقطر دائما ..من ايش كل هذا ؟)) قال عبدالكريم وهو يصنع بيديه حركة ماجنة أخذ الجميع يضحكون بعدها وهم يقولون (( غربلك الله ياعبدالكريم عز الله انك فضيحة ..صحيح يخرج الحي من الميت ويخرج الميت مت الحي . أبوك مطوع وانت داشر )).
مرحلته الجامعية :
فقد كانت بين السكر والجنس ، واسمعه يتحدث كثيرا عن نفسه في ( الشميسي - ص 101 ):
[ لديه ثلاثة نساء في حياته الآن .. واحدة يحبها ولا يسمح لنفسه باشتهائها واخرى يشتهيها ولا يشعر بالحب معها وثالثة يحبها ويشتهيها معا ..
فعلا لشد ما غيرته تلك الأشهر الخمسة بالرياض …سجائر وشراب ونساء وراتب كان للصرف على هذه الملذات ..]
النشأة وتكون الأفكار
مازلنا أيها الأحبة ..نحاول في سلسلة مقالاتنا هذه أن نميط اللثام عن شخصية د. تركي الحمد .. ونحن اليوم نتطرق إلى بداية اهتمامته وقراءته :
أولا : نشأته وبداية اهتماماته وقراءاته :
لقد كان لهذه النشأة أثر كبير في انحرافاته الفكرية والسلوكية فيما بعد والتي انتهت بانضمامه لحزب البعث العربي الاشتراكي .
قال في العدامة ص ( 253) وهو يتحدث عن نفسه إذا ذهب مع أسرته إلى بلده القصيم [ وانشغل هشام بجمع بعض الكتب التي كان يؤجل قراءتها لتكون زاده في نهار القصيم الطويل والممل .اختار ( الحرب والسلام ) لتوستوس التي كان يبدأ بقراءتها دائما ، ولكنه كان يشعر بالملل بعد عدة صفحات فيلقيها جانبا . واختار ( العقب الحديدية ) لجاك لندن ، ( وقصة الفلسفة ) لول ديورانت لقراءتها مرة أخرى ، و ( مبادئ الفلسفة ) لأحمد أمين ، بالإضافة إلى دراسة حصل عليها من زكي منذ زمن بعنوان ( من هو اليساري ) لكاتب فرنسي منشورة في مجلة الأزمنة الحديثة الفرنسية وترجمها عضو في منظمة العمل الشيوعي في بيروت ] أهـ
ثانيا : أثر هذه النشأة في فهمه ونظرته للدين :
أولا : نظرته للمذاهب :
يقول في العدامة ( 51 ) مخاطبا أحد رفقائه في حزب البعث [ لافرق عندي بين هذا المذهب أو ذاك بل إني لاأهتم بكل المذاهب الدينية ] .
ثانيا : نظرته للمتدينين :
وفي الشميسي ( 72 ) يتحدث عن عدنان كان صديقا له في الثانوية فلما التحقا بالجامعة التزم هذا الصديق وتدين وأصبح يخالط أصحاب اللحى قائلا [ ولم يكن عدنان يأتي للمقصف وحده فغالبا ماكان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة يشربون الشاي ويحدثون بهمس لايكاد يسمع وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لايبتسمون أبدا وإذا حدث ذلك من أحدهم غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ].
ثالثا : فهمه للقدر :
قال في العدامة ( 181 ) : [ ثم اعتدل هشام في جلسته وهو يقول : ومالفرق بين العبث والقدر ؟ لم أفهم .. قال عبدالكريم : مانسميه قدرا قديكون عبثا ومايسمونه عبثا قد نسميه قدرا .. المسألة ياعزيزي هي كيف ننظر إلى الأمور وليس الأمور ذاتها . ليس هناك حقيقة في ذاتها بل المسألة تكمن في ....] ولك أن تتأمل أخي القارئ طريقته الفلسفية في الحديث ..
رابعا : أداؤه للصلاة :
تحدث عن بطل الرواية هشام والذي فيه الكثير منه كما في الشميسي ( 136 ) قائلا : [ لم يكن من عادته تأدية الفروض بصفة عامة ، وكان والداه متسامحين معه في هذه المسألة ، وإن كانا يحضانه على أداء واجب الرب ولو بعض الحيان ، فقد كانا يؤمنان أن الشدة في هذه الأمور تنفره من الصلاة بشكل كامل ..أما أن يؤدي الفروض في المسجد مع الجماعة فهذا انقلاب جذري في حياته .. حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنزل غالبا ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم الذين لاتجوز الصلاة عندهم إلا في المسجد ...]
وهذا أخي القارئ غيض من فيض فيما يتعلق بالكاتب المذكور ..
أبو عبدالعزيز الظفيري
==================(39/283)
(39/284)
اليزيدية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
اليزيدية: فرقة منحرفة نشأت سنة 132هـ إثر انهيار الدولة الأموية. كانت في بدايتها حركة (*) سياسية لإعادة مجد بني أمية ولكن الظروف البيئية وعوامل الجهل انحرفت بها فأوصلتها إلى تقديس يزيد بن معاوية وإبليس الذي يطلقون علية اسم (طاووس ملك) وعزازيل.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• البداية: عندما انهارت الدولة الأموية في معركة الزاب الكبرى شمال العراق سنة 132هـ هرب الأمير إبراهيم بن حرب بن خالد بن يزيد إلى شمال العراق وجمع فلول الأمويين داعياً إلى أحقية يزيد في الخلافة (*) والولاية، وأنه السفياني المنتظر الذي سيعود إلى الأرض ليملأها عدلاً كما ملئت جوراً.
ويرجع سبب اختيارهم لمنطقة الأكراد ملجأ لهم إلى أن أم مروان الثاني ـ الذي سقطت في عهده الدولة الأموية ـ كانت من الأكراد.
• عدي بن مسافر: كان في مقدمة الهاربين من السلطة العباسية، فقد رحل من لبنان إلى الحكارية من أعمال كردستان، وينتهي نسبه إلى مروان بن الحكم، ولقبه شرف الدين أبو الفضائل . لقي الشيخ عبد القادر الجيلاني وأخذ عنه التصوف، ولد سنة 1073 م أو 1078م وتوفي بعد حياة مدتها تسعون سنة ودفن في لالش في منطقة الشيخان في العراق.
• صخر بن صخر بن مسافر: المعروف بالشيخ أبو البركات رافق عمه عدياً وكان خليفته ولما مات دفن بجانب قبر عمه في لالش.
• عدي بن أبي البركات: الملقب بأبي المفاخر المشهور بالكردي، توفي سنة 615 هـ / 1217 م.
• خلفه ابنه شمس الدين أبو محمد المعروف بالشيخ حسن: المولود سنة 591هـ /1154م وعلى يديه انحرفت الطائفة اليزيدية من حب عدي ويزيد بن مسافر إلى تقديسهما والشيطان إبليس، وتوفي سنة 644هـ / 1246م بعد أن ألف كتاب الجلوة لأصحاب الخلوة وكتاب محك الإيمان وكتاب هداية الأصحاب وقد أدخل اسمه في الشهادة كما نجدها اليوم عند بعض اليزيدية.
• الشيخ فخر الدين أخو الشيخ حسن: انحصرت في ذريته الرئاسة الدينية والفتوى.
• شرف الدين محمد الشيخ فخر الدين: قتل عام 655هـ / 1257م وهو في طريقه إلى السلطان عز الدين السلجوقي.
• زين الدين يوسف بن شرف الدين محمد: الذي سافر إلى مصر وانقطع إلى طلب العلم والتعبد فمات في التكية العدوية بالقاهرة سنة 725هـ.
• بعد ذلك أصبح تاريخهم غامضاً بسبب المعارك بينهم وبين المغول والسلاجقة وبين الفاطميين.
• ظهر خلال ذلك الشيخ زين الدين أبو المحاسن: الذي يرتقي بنسبه إلى شقيق أبي البركات، عين أميراً لليزيدية على الشام ثم اعتقله الملك سيف الدولة قلاوون بعد أن أصبح خطراً لكثرة مؤيديه، ومات في سجنه.
• جاء بعده ابنه الشيخ عز الدين، وكان مقره في الشام، ولقب بلقب أمير الأمراء، وأراد أن يقوم بثورة (*) أموية فقبض عليه عام 731هومات في سجنه أيضاً.
• استمرت دعوتهم في اضطهاد من الحكام وبقيت منطقة الشيخان في العراق محط أنظار اليزيديين، وكان كتمان السر من أهم ما تميزت به هذه الفرقة.
• استطاع آخر رئيس للطائفة الأمير بايزيد الأموي أن يحصل على ترخيص بافتتاح مكتب للدعوة اليزيدية في بغداد سنة 1969م بشارع الرشيد بهدف إحياء عروبة الطائفة الأموية اليزيدية ووسيلتهم إلى ذلك نشر الدعوة القومية مدعمة بالحقائق الروحية والزمنية وشعارهم عرب أموي القومية، يزيديي العقيدة.
• وآخر رئيس لهم هو الأمير تحسين بن سعد أمير الشيخان.
• ونستطيع أن نجمل القول بأن الحركة قد مرّت بعدة أدوار هي:
ـ الدور الأول:حركة أموية سياسية، تتبلور في حب يزيد بن معاوية.
ـ الدور الثاني: تحول الحركة إلى طريقة عدوية أيام الشيخ عدي بن مسافر الأموي.
ـ الدور الثالث: انقطاع الشيخ حسن ست سنوات، ثم خروجه بكتبه مخالفاً فيها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.
ـ الدور الرابع:خروجهم التام من الإسلام وتحريم القراءة والكتابة ودخول المعتقدات الفاسدة والباطلة في تعاليمهم.
الأفكار والمعتقدات:
أولاً: مقدمة لفهم المعتقد اليزيدي:
• حدثت معركة كربلاء في عهد يزيد بن معاوية وقتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه وكثيرون من آل البيت ـ رضوان الله عنهم جميعاً.
• أخذ الشيعة يلعنون يزيداً و يتهمونه بالزندقة (*) وشرب الخمر.
• بعد زوال الدولة الأموية بدأت اليزيدية على شكل حركة (*) سياسية.
• أحب اليزيديون يزيد واستنكروا لعنه بخاصة.
• ثم استنكروا اللعن بعامة.
• وقفوا أمام مشكلة لعن إبليس في القرآن فاستنكروا ذلك أيضاً وعكفوا على كتاب الله يطمسون بالشمع كل كلمة فيها لعن أو لعنة أو شيطان أو استعاذة بحجة أن ذلك لم يكن موجوداً في أصل القرآن وأن ذلك زيادة من صنع المسلمين.
• ثم أخذوا يقدسون إبليس الملعون في القرآن، وترجع فلسفة هذا التقديس لديهم إلى أمور هي:
ـ لأنه لم يسجد لآدم فإنه بذلك ـ في نظرهم ـ يعتبر الموحد الأول الذي لم ينس وصية الرب بعدم السجود لغيره في حين نسيها الملائكة فسجدوا، إن أمر السجود لآدم كان مجرد اختبار، وقد نجح إبليس في هذا الاختبار فهو بذلك أول الموحدين، وقد كافأه الله على ذلك بأن جعله طاووس الملائكة، ورئيساً عليهم!!.(39/285)
ـ ويقدسونه كذلك خوفاً منه لأنه قوي إلى درجة أنه تصدى للإله (*) وتجرأ على رفض أوامره !!.
ـ ويقدسونه كذلك تمجيداً لبطولته في العصيان والتمرد!!.
• أغوى إبليس آدم بأن يأكل من الشجرة المحرمة فانتفخت بطنه فأخرجه الله من الجنة.
• إن إبليس لم يطرد من الجنة، بل إنه نزل من أجل رعاية الطائفة اليزيدية على وجه الأرض!!.
ثانياً: معتقداتهم:
• جرَّهم اعتبار إبليس طاووس الملائكة إلى تقديس تمثال طاووس من النحاس على شكل ديك بحجم الكفِّ المضمومة وهم يطوفون بهذا التمثال على القرى لجمع الأموال.
• وادي لالش في العراق: مكان مقدس يقع وسط جبال شاهقة تسمى بيت عذري، مكسوة بأشجار من البلوط والجوز.
• المرجة في وادي لالش: تعتبر بقعة مقدسة، واسمها مأخوذ من مرجة الشام، والجزء الشرقي منها فيه ـ على حد قولهم ـ جبل عرفات ونبع زمزم.
• لديهم مصحف رش (أي الكتاب الأسود) فيه تعاليم الطائفة ومعتقداتها.
• الشهادة: أشهد واحد الله، سلطان يزيد حبيب الله.
• الصوم: يصومون ثلاثة أيام من كل سنة في شهر كانون الأول وهي تصادف عيد ميلاد يزيد بن معاوية.
• الزكاة: تجمع بواسطة الطاووس ويقوم بذلك القوالون وتجبى إلى رئاسة الطائفة.
• الحج: يقفون يوم العاشر من ذي الحجة من كل عام على جبل عرفات في المرجة النورانية في لالش بالعراق.
• الصلاة: يصلون في ليلة منتصف شعبان، يزعمون أنها تعوضهم عن صلاة سنة كاملة.
• الحشر والنشر بعد الموت: سيكون في قرية باطط في جبل سنجار، حيث توضع الموازين بين يدي الشيخ عدي الذي سيحاسب الناس، وسوف يأخذ جماعته ويدخلهم الجنة.
• يقسمون بأشياء باطلة ومن جملتها القسم بطوق سلطان يزيد وهو طرف الثوب.
• يترددون على المراقد والأضرحة كمرقد الشيخ عدي والشيخ شمس الدين، والشيخ حسن وعبد القادر الجيلاني، ولكل مرقد خدم، وهم يستخدمون الزيت والشموع في إضاءتها.
• يحرمون التزاوج بين الطبقات، ويجوز لليزيدي أن يعدد في الزواج إلى ست زوجات.
• الزواج يكون عن طريق خطف العروس أولاً من قبل العريس ثم يأتي الأهل لتسوية الأمر.
• يحرمون اللون الأزرق لأنه من أبرز ألوان الطاووس.
• يحرمون أكل الخس والملفوف (الكرنب) والقرع والفاصوليا ولحوم الديكة وكذلك لحم الطاووس المقدس عندهم لأنه نظير لإبليس طاووس الملائكة في زعمهم، ولحوم الدجاج والسمك والغزلان ولحم الخنزير.
• يحرمون حلق الشارب، بل يرسلونه طويلاً وبشكل ملحوظ.
• إذا رسمت دائرة على الأرض حول اليزيدي فإنه لا يخرج من هذه الدائرة حتى تمحو قسماً منها اعتقاداً منه بأن الشيطان هو الذي أمرك بذلك.
• يحرمون القراءة والكتابة تحريماً دينياً لأنهم يعتمدون على علم الصدر فأدى ذلك إلى انتشار الجهل والأمية بينهم مما زاد في انحرافهم ومغالاتهم بيزيد وعدي وإبليس.
• لديهم كتابان مقدسان هما: الجلوة الذي يتحدث عن صفات الإله (*) ووصاياه والآخر مصحف رش أو الكتاب الأسود الذي يتحدث عن خلق الكون والملائكة وتاريخ نشوء اليزيدية وعقيدتهم.
• يعتقدون أن الرجل الذي يحتضن ولد اليزيدي أثناء ختانه يصبح أخاً لأم هذا الصغير وعلى الزوج أن يحميه ويدافع عنه حتى الموت.
• اليزيدي يدعو متوجهاً نحو الشمس عند شروقها وعند غروبها ثم يلثم الأرض ويعفر بها وجهه، وله دعاء قبل النوم.
• لهم أعياد خاصة كعيد رأس السنة الميلادية وعيد المربعانية وعيد القربان وعيد الجماعة وعيد يزيد وعيد خضر إلياس وعيد بلندة ولهم ليلة تسمى الليلة السوداء (شفرشك) حيث يطفئون الأنوار ويستحلون فيها المحارم والخمور.
• يقولون في كتبهم: (أطيعوا وأصغوا إلى خدامي بما يلقنونكم به ولا تبيحوا به قدام الأجانب كاليهود والنصارى وأهل الإسلام لأنهم لا يدرون ماهيته، ولا تعطوهم من كتبكم لئلا يغيروها عليكم وأنتم لا تعلمون).
الجذور الفكرية والعقائد:
• اتصل عدي بن مسافر بالشيخ عبد القادر الجيلاني المتصوف، وقالوا بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، وقولهم في إبليس يشبه قول الحلاج الذي اعتبره إمام الموحدين.
• يحترمون الدين (*) النصراني، حتى إنهم يقبلون أيدي القسس (*) ويتناولون معهم العشاء الرباني (*)، ويعتقدون بأن الخمرة هي دم المسيح (*) الحقيقي، وعند شربها لا يسمحون بسقوط قطرة واحدة منها على الأرض أو أن تمس لحية شاربها.
• أخذوا عن النصارى (التعميد) (*) حيث يؤخذ الطفل إلى عين ماء تسمى (عين البيضاء) ليعمد فيها، وبعد أن يبلغ أسبوعاً يؤتى به إلى مرقد الشيخ عدي حيث زمزم فيوضع في الماء وينطقون اسمه عالياً طالبين منه أن يكون يزيدياً ومؤمناً (بطاووس ملك) أي إبليس.
• عندما دخل الإسلام منطقة كردستان كان معظم السكان يدينون بالزرادشتية فانتقلت بعض تعاليم هذه العقيدة إلى اليزيدية.
• داخلتهم عقائد المجوس (*) والوثنية (*) فقد رفعوا يزيد إلى مرتبة الألوهية، والتنظيم عندهم (الله ـ يزيد ـ عدي).(39/286)
• (طاووس ملك) رمز وثني لإبليس يحتل تقديراً فائقاً لديهم. • أخذوا عن الشيعة (البراءة) وهي كرة مصنوعة من تراب مأخوذة من زاوية الشيخ عدي يحملها كل يزيدي في جيبه للتبرك بها، وذلك على غرر التربة التي يحملها أفراد الشيعة الجعفرية. وإذا مات اليزيدي توضع في فمه هذه التربة وإلا مات كافراً.
• عموماً: إن المنطقة التي انتشروا بها تعج بالديانات المختلفة كالزرادشتية وعبدة الأوثان، وعبدة القوى الطبيعية، واليهودية، والنصرانية، وبعضهم مرتبط بآلهة آشور وبابل وسومر، والصوفية من أهل الخطوة، وقد أثرت هذه الديانات في عقيدة اليزيدية بدرجات متفاوتة وذلك بسبب جهلهم وأميتهم مما زاد في درجة انحرافهم عن الإسلام الصحيح.
الانتشار ومواقع النفوذ:
• تنتشر هذه الطائفة التي تقدس الشيطان في سوريا وتركيا وإيران وروسيا والعراق ولهم جاليات قليلة العدد نسبياً في لبنان وألمانيا الغربية ـ سابقاً ـ وبلجيكا.
• ويبلغ تعدادهم حوالي 120 ألف نسمة، منهم سبعون ألفًا في العراق والباقي في الأقطار الأخرى، وهم مرتبطون جميعاً برئاسة البيت الأموي.
• هم من الأكراد، إلا أن بعضهم من أصل عربي.
• لغتهم هي اللغة الكردية وبها كتبهم وأدعيتهم وتواشيحهم الدينية. • ولهم مكتب رسمي مصرح به وهو المكتب الأموي للدعوة العربية في شارع الرشيد ببغداد.
ويتضح مما سبق:
أن اليزيدية فرقة منحرفة ضالة ، قدست يزيد بن معاوية وإبليس وعزرائيل، ويترددون على المراقد والأضرحة ولهم عقيدة خاصة في كل ركن من أركان الإسلام، ولهم أعياد خاصة كعيد رأس السنة الميلادية، ويجيزون لليزيدي أن يعدد في الزوجات حتى ست إلى غير ذلك من الأقوال الكفرية .
-----------------------------------------------------------
مراجع للتوسع:
ـ اليزيدية، تأليف سعيد الديوه جي.
ـ اليزيديون في حاضرهم وماضيهم، تأليف عبد الرزاق الحسني.
ـ اليزيدية، أحوالهم ومعتقداتهم، تأليف الدكتور سامي سعيد الأحمد.
ـ اليزيدية وأصل عقيدتهم، تأليف عباس الغزَّاوي.
ـ اليزيدية ومنشأ نحلتهم، تأليف أحمد تيمور.
ـ اليزيدية، تأليف صديق الدملوجي.
ـ اليزيديون، تأليف هاشم البناء.
ـ ما هي اليزيدية؟ ومن هم اليزيديون؟ تأليف محمود الجندي ـ مطبعة التضامن ط1 ـ بغداد 1976م.
ـ كرد وترك وعرب، تأليف ادموندز ـ ترجمة جرجس فتح الله.
ـ مباحث عراقية، تأليف يعقوب سركيس.
ـ الأكراد، تأليف باسيل نيكتن.
ـ مجموعة الرسائل والمسائل، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ رحلتي إلى العراق، تأليف جيمس بكنغهام ـ رجمة سليم طه التكريتي.
ـ جريدة التآخي العراقية، بغداد 16/9/1974م.
ـ العراق الشمالي، تأليف الدكتور شاكر خصباك.
ـ تاريخ الموصل، تأليف سليمان الصايغ.
============(39/287)
(39/288)
مناهجنا .. آخر الحصون
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي
كمال حبيب
عرف العالم الإسلامي منذ وجوده الأول المدارس الدينية التي قامت بتفسير القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، صحيح أن ذلك بدأ بشكل فردي حيث كان الصحابة يقومون ينقل ما سمعوه عن صلى الله عليه وسلم شفاهة ثم جاء التابعون من بعدهم لنقل ما أثر عن الصحابة ثم تكونت المدارس الفقهية واللغوية والأدبية ، وكان كل نشاط العقل المسلم يدور حول الإسلام والقرآن والسنة ، علماء التفسير والبيان والسنة والجرح والتعديل جميعهم كان نشاطهم العقلي والفكري يستلهم الإسلام ويدور حوله من أجل بيانه وشرحه والحفاظ عليه ، ولم تكن المدارس الفقهية أو اللغوية أو الحديثية أو البيانية ، ذات بيان ولها رسوم مقررة ، لكنها في أغلبها عمل تطوعي وأهلي ومجتمعي .
فأبو حنيفة مثلاً كان تاجراً لكنه متوافر على تأسيس مدرسة فقهية عريقة تعود بجذورها إلى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يحكم ويقضي ويجتهد ؛ هذه المدرسة الفقهية هي تلامذته الذين نقلوا العلم عنه « كأبي يوسف » و « محمد بن الحسن الشيباني » وغيرهم من المجتهدين والعلماء والقضاة ، ثم تبلور في النهاية « المذهب الحنفي » الذي هو طريقة في المنهج لفهم الشريعة ، وكذا الشافعي وكذا « الإمام مالك » إمام أهل المدينة بلا منازع ثم الإمام « أحمد بن حنبل » .
وكان يحدث في هذه المدارس الإسلامية تلاقح فكري وقواعد في الفهم والاجتهاد وهي آية في التضلع الفكري والعلمي العقلي بمعناه الواسع ؛ فالنشاط العقلي والفكري للحضارة الإسلامية هو بالأساس نشاط حول الإسلام وعلومه ، وهذا الذي مثل النسق المعرفي الإسلامي بالأساس ، ثم ظهرت جماعات من شذاذ الفكر الذين تلوثوا بالفكر اليوناني الوثني ، والأفكار النصرانية والخوارجية البدعية ، وكان ذلك في الواقع جزءاً من محاولة العدوان على الفكر الإسلامي الأصيل ، لكن هذا الفكر الشاذ ظل هامشياً ، وكان أهله محاصرين بحكم الشعور الإسلامي العام وبحكم علو الشريعة فكراً وسلطة . كما أن طبيعة العصر التي لم تكن تحقق التواصل ، وكان كل عالم يعيش وحده ، وهو ما جعل آثار هذا التفكير محدودة وليس لها واقع في حياة الأمة والناس ؛ لكنه مع نهاية القرن السابع عشر ومع هزيمة الدولة العثمانية عسكرياً أمام الجيوش النصرانية الغربية ، بدأت السفارات إلى الغرب ، وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة ذات الطابع العسكري بالأساس ، ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في الجيوش الإسلامية ؛ كما بدأ إرسال المبعوثين ، وهنا جرى أول اختراق حقيقي للعالم الإسلامي ؛ حيث تكونت البذور الأولى داخل المؤسسات الإسلامية والتي تحمل أشواقاً لعالم الأعداء ، وتؤمن أن تقليدهم في القيم والأفكار يمكن أن يحقق النهوض للعالم الإسلامي ، ثم صار الإيمان بهذا الفكر الوافد قيمة للعمل من أجل تحطيم العالم الإسلامي وليس النهوض به .
ومن المثير أن يكون الجيل الأول من العلمانيين في العالم الإسلامي قد اشتد عوده وقويت شوكته في مؤسسات الدولة العثمانية حاملة راية الإسلام في هذا الوقت ، بل إن السلاطين أنفسهم كانوا من الذين حملوا الترويج لهذه الأفكار منذ منتصف القرن التاسع عشر . نعم كانت هناك ضغوط غربية من الخارج ! لكن نمط التعليم الغربي اخترق أعلى مؤسسات الدولة كما حدث في الدولة الأموية والعباسية والتي جرى اختراق مؤسسة صنع القرار فيها عبر تبني الخلفاء والملوك للمذاهب القدرية و الباطنية ، وتسلط على مؤسسة الخلافة ذاتها المعتزلة والمبتدعة . ثم انتقل الأمر من عاصمة الإسلام إلى مصر ؛ حيث رحل طلاب العلم إلى أوروبا في كافة الشُّعَب لكن أخطرهم كان « رفاعة الطهطاوي » إمام أول هذه البعثات ، وجاء من بعده « محمد عبده » ومن قبله « الأفغاني » وتأسست مدرسة يمكن وصفها بالمصطلحات المعاصرة « مدرسة التفسير الاستعماري للإسلام » . ومن المدهش أن يكون سعد زغلول ، و قاسم أمين ، و علي عبد الرازق وغيرهم تلامذة في هذه المدرسة التي كانت وثيقة الصلة بالإنجليز . لكن التعليم الإسلامي استرد عافيته بهبة الأمة من أجل الدفاع عن دينها وإسلامها وتعليمها .
تدمير الأزهر :
وظل الأزهر في مصر المدرسة التي تحمي التعليم الديني ، وكان لها تقاليد صارمة علمية في الضبط والتحرير والإنتاج العلمي ، ثم ظهرت مدرسة « دار العلوم » التي تخرج فيها الشيخ حسن البنا ، والأستاذ سيد قطب ، ودار القضاء الشرعي التي تخرج فيها الشيخ جاد الحق ، وكان القصد منها ضرب الأزهر ، لكنه ظل قوياً .
ثم جاء انقلاب يوليو وأصدر قانون « تطوير الأزهر » حيث فصل أوقافه عنه ، واستولت عليها وزارة الأوقاف ، كما جعل شيخه تابعاً لوزير يساري في هذا الوقت هو كمال رفعت ، وأدخل التعليم المدني فيه مثل الطب وغيره بقصد تخريج كوادر دعوية لمواجهة التبشير .(39/289)
وهنا أصبحت المؤسسة الأزهرية التي هي بالأساس مؤسسة أهلية علمية لها أوقافها المستقلة وتمارس الاجتهاد ، ولها تقاليدها بعيداً عن يد الدولة أصبحت في قبضة الدولة ، وحدثني « الشيخ الشعراوي » الذي كان يعمل مديراً لمكتب الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر أنه أي الشيخ حسن مأمون لم يكن يستطيع أن ينقل الفراش من مكتبه ؛ أي نزعت من الأزهر كل أسلحته ، وصار شيخ الأزهر الذي كان يمثل ضمير الأمة كلها مجرد موظف لدى المؤسسة الحاكمة لا يخرج قيد أنملة عما تطلب منه رغم أن العلماء في التقاليد الإسلامية هم بالأساس مراقبون للسلطة وضابطون لسلوكها ، وهم معبرون عن الأمة من مواجهة السلطة .
ثم مضى التطوير قدماً حالياً حيث جرى تقصير مدة الدراسة في الفترة الثانوية لتصبح ثلاث سنوات بدلاً من أربع مثل الثانوية العامة ، وتم إلغاء دراسة المذاهب الفقهية تماماً والتي هي حافظة لطريقة فهم الشريعة وهي ناقلتها عبر الأجيال ، ثم منع الطلاب الراغبون من خارج الأزهر من الالتحاق به وكانوا يمثلون دماءاً فيه لتجديد روح الأزهر وشبابه ، ثم رفع سن القبول في المرحلة الابتدائية ، وتضاءلت دراسة القرآن الكريم ؛ كما حوصرت الكتاتيب ، وضعف مستوى طلاب العلوم الشرعية والقسم الأدبي ، رغم أن الشيخ الشعراوي قال لي : إن إصلاح الأزهر يكون عن طريق دعم القسم الأدبي والتخلي عن القسم العلمي تماماً للتعليم العام فدعاة الأزهر هم خريجو العلوم الشرعية بالأساس ؛ وكل ذلك يجري في إطار ما أطلق عليه : « علمنة الأزهر » أي نزع صفة كونه معهداً لتدريس العلوم الشرعية وتخريج متخصصين في العلوم الشرعية الإسلامية .
وخالف الأزهر عبر شيخه الحالي أعز تقاليده في تحمل الاختلاف الفقهي ، فحوصر المخالفون لشيخ الأزهر وحوكموا وعزلوا وشردوا في الآفاق ، وظن شيخه أن المركز الذي منحته السلطة له يتيح له أن يستخدم سلطة الإكراه في مواجهة خصومه رغم أن سلطة العلماء بالأساس هي سلطة معنوية لا تستند إلى الإكراه ؛ والمتأمل في الاجتماع الإسلامي يلاحظ بوضوح أن السلطة السياسية كانت تعمد إلى فرض الرأي الواحد عبر القوة بينما كان العلماء يعمدون إلى إعطاء الفرصة لكافة الآراء الاجتهادية لا يحتكرها عالم واحد أو مجتهد واحد ؛ وموقف الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة واضح حين عرض عليه المنصور أن يجعل من « الموطأ » دستوراً فقهياً موحداً للأمة لكنه رفض .
كان كل ذلك يتم في إطار علمنة ثقافة الأمة وتحطيم هويتها عبر مصطلحات مثل « تجفيف الينابيع » ؛ فبما أن الأزهر رصيد لتخريج علماء الدين فليجفف ، وطالما أن الطلبة الذين يرغبون في الالتحاق به من خارجه يشتبه في أن يكونوا متطرفين فليمنعوا ، وهكذا .
وطالما أن مادة الدين في التعلم العام يمكن أن تكون مصدراً لتدين الشباب فلتجعل مادة للثقافة المشتركة مع غير المسلمين حفاظاً على الوحدة الوطنية . لم يكن كل ذلك تحت قصف النيران الخارجية أو في إطار خطة مفروضة من الخارج ، بل كان من يقومون بكل هذا ينكرون أن يكون للخارج أي تدخل في فرض أجندته التي تريد أن تفرض التبعية الثقافية على عالمنا الإسلامي وخاصة دول القلب والمركز فيه ، لكن أحداث سبتمبر جاءت لتقلب الأمور رأساً على عقب .
ما بعد سبتمبر والقصف الأمريكي لمناهج التعليم :
كما هو معلوم أن العقل الأمريكي ذي الطابع البراجماتي لا يملك القدرة على الغوص في الأمور لفهمها وتحليلها وهو يعتمد منهج التجريب فيما ينهيه إليه أقرب نظرة له أو أقرب طرفة عين عقلية ، فإن ثبت خطأه جرب غيره ، وهكذا .. وهذا وصناع القرار فيه اتهموا « بغير بينة » ما يطلق عليهم « فوكوياما » الأصوليين ، وفي ظن الأمريكيين أن هؤلاء الأصوليين إسلاميون درسوا علوم الشريعة ؛ وإذن فالمدارس الدينية في باكستان هي التي أخرجت طالبان والمدارس الدينية في السعودية هي التي تخرج أصوليين ، ومناهج التعليم الديني هي التي تحفظ للإسلام قوامه ؛ إذن تجب محاصرة هذه المدارس والمناهج ، والضغط من أجل ذلك ، ومن هنا فما كانت تقوم به الحكومات المحلية في السابق على استحياء أصبحت أمريكا رأساً هي التي تقوم بذلك ، وهي تقوم به بعصبية شديدة وانفعال وقلة خبرة تحت تأثير ضربة سبتمبر ، وهي تجهل أنها تدخل في قلب الوجود الإسلامي وفي قلب هوية الأمة ، وهو ما يعد عدواناً قاسياً وخطيراً يصل إلى حد الحرب . بيد أن أمريكا لم تكتف بذلك ، بل إن مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية اقترحوا تمويل أئمة المسلمين الذين يعارضون الإرهاب على حد زعمهم ويؤيدون الحرية الدينية . وقالت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون العالمية أمام اجتماع « لجنة الحريات الدينية » المعنية بمتابعة الحالة الدينية في العالم وفق الرؤية الأمريكية :(39/290)
« يتحدث كثير من المسلمين عن معارضة الإرهاب لكن ذلك غير كاف ، وعلينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم دينهم التي تعلي من شأن الحياة ، وأوضحت أنه « يجب التفكير خارج الإطار التقليدي وتوظيف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية ، وهنا علينا التفكير في تمويل علماء مسلمين وأئمة وأصوات أخرى للمسلمين » وزادت توضيحاً بالقول :
« علينا أن نضم المزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها أمريكا ، إننا نريد الوصول إلى جمهور أكبر في المجتمعات الإسلامية ؛ وذلك بهدف دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى وعودة الناس للتسامح » .
أي أن أمريكا تريد من المسلمين « إعلاء القيم الدينية التي تحافظ على قيمة الحياة » ويستبطن هذا المعنى إلغاء كل ما يتصل بالقتال في القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبار أن آيات القتال في التصور الأمريكي تهدد حياة الآخرين ، كما أن إعلاء قيمة الحياة تعني منع العمليات الاستشهادية في الأراضي المحتلة ضد الصهاينة باعتبار أن اليهودي في التصور الأمريكي هو إنسان محفوظ الدم والحياة ؛ لأنه لم يعتد على أرض لهم بل هو صورتهم في الاعتداء على الآخرين . وأفكار التسامح تعني إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء والبراء والتمايز على أساس العقيدة ؛ فهم ينظرون « للإنسان » من وجهة نظرهم باعتبار الإنسان الغربي ابن الحضارة الأمريكية والغربية أو التي تصله بها آصرة الثقافة والدين كاليهود .
وهم يروجون لفكرة « الإنسان الكوني » أي الإنسان الذي لا يشعر بأي انتماء خاص لدين أو لوطن أو لعقيدة أو لقضية ، وحين يكون إنسان « العالم الإسلامي »
أو الإنسان الشرق أوسطي « كما يزعمون بهذه الحالة فإنه سيكون نهباً وعبداً لكل ما يطلب منه .
وتبقى العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي هي حصانة العالم الإسلامي في مواجهة الهيمنة الأمريكية الثقافية .
إن أمريكا تسعى اليوم عبر التدخل في مناهج التعليم الديني على وجه الخصوص للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية ، أي أنها تعمل للسيطرة على المستقبل في العالم الإسلامي ، وهي تشعر أنها لا يمكنها السيطرة على هذا المستقبل إلا عن طريق السيطرة على عقول شبابه وأبنائه ، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العبث بمناهج التعليم الديني خاصة .
إن الأمة الإسلامية بحكم صفتها هي أمة روحها هو الدين وتاريخها وثقافتها ونشاطها كله بالأساس حول الدين ، ونزع دينها أو التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه ؛ لأنه خطر وقصف موجه إلى العقل والروح ، هو قصف موجه إلى الجذور ، وهو خطر يستهدف اغتيال الأمة ، ونحن نثق أن الله « غالب على أمره » وحافط دينه ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ ( الحجر : 9 ) وأن هجمة أمريكا ومكرها سيمتد إلىها ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [ ( الأنعام : 123 ) .
لكن الأمة كلها بحاجة إلى تدبر طبيعة الحرب التي تواجهها : إنها حرب صليبية ، الإجلاب فيها بالخيل والرجل من جانب ، وبالغزو الفكري والثقافي لهدم قواعد الأمة وأسسها من ناحية أخرى .
أمريكا وتغيير خصائص الشعوب :
دارسو السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون أنها تعتمد على المدرسة السلوكية وما بعد السلوكية ، وهي في جوهرها تقوم على ما يعرف بـ « الخصائص القومية للشعوب » أي تغيير الطبيعة القومية والنفسية للشعوب ، وقد نجحت في ذلك مع ألمانيا و اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ، وهي تشن حرباً نفسية على العالم الإسلامي عن طريق محاولة تغيير خصائصه ؛ لكن العقيدة الإسلامية هي التي تحفظه وتقف به صلباً أمام موجات العولمة الحديثة كما وقفت أمام موجات الحرب الصليبية والتبشير والاستشراق والاستعمار « الاستخراب » ومن ثم فالحرب الحضارية بين أمريكا والغرب من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى هي حرب عقيدية حول الأساس وحول القضايا الثابتة ، وهي حرب تضرب في الجذور ، وسوف تسعى أمريكا بشكل أساسي لتجنيد العملاء ، لكنهم هذه المرة من قلب المحتل الذي تريد أن تحطمه كما قال « زويمر » من قبل : « الشجرة لا يقطعها إلا أحد أبنائها » فالعملاء لن يكونوا يساريين أو علمانيين ؛ لكنهم سيكونون من علماء الدين والمتخصصين في العلوم الشرعية من المفتين والقضاة والرؤوس في علوم الإسلام ، وأمريكا سوف تمنح وتعطي وتغري وتخاتل وتبدو كالمسيخ الدجال الذي يتلاعب بظواهر الأشياء ويقلب المسميات ويصور للناس أنه يملك الجنة والنار ، وهي تقول :
« من ليس معنا فهو ضدنا » ؛ لذا فالأمر خطير ؛ وليحذر كل امرئ وخاصة العلماء من فتنة أمريكية عمياء ، القابض فيها على دينه وعلى الحق كالقابض على الجمر . إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى « كير » تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية .(39/291)
والدهشة ستمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد الـ F . B . I قد التقى شيخ الأزهر ، ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر .
ونورد ما قاله وزير التعليم المصري في حوار مع إحدى الصحف قال :
« المناهج الدينية تتم صياغتها بإشراف شيخ الأزهر وهو رجل لا يستطيع أحد التشكيك في استنارته وتقدمه ، وهو يعلن مسؤوليته دائماً عن كل ما يدرس من تربية دينية داخل وزارة التربية والتعليم ، وشارك بنفسه في دورة تدريبية لمدرسي التربية الدينية بالوزارة ؛ وبالفعل تم تغيير الكثير من هذه المناهج حتى يمكن صياغة عقل الإنسان الجديد غير المتطرف ؛ وذلك لأننا نعتقد أن العقل هو جوهر الإسلام وعشرات الآيات تحض على العقلانية وإعمال العقل والفكر وقبول الآخر والتسامح والأخلاق والتكامل والرحمة » وهذا بالفعل هو ما تريده أمريكا ، ونحن نندهش ونتساءل : وهل كانت الوزارة قبل هذا الوزير ومنذ وجدت وزارة التعليم في داهية عمياء بلا عقل ولا فكر ولا قبول الآخر ولا التسامح معه ؟ وهل كان الطلاب لا يعرفون كل هذا ؟ لكنها الأجندة الأمريكية الجديدة ، حين يرتبط العقل والتسامح بها فإنها تعني عقلاً خاصاً وتسامحاً خاصاً تجاه أعداء هذه الأمة وتجاه تاريخها . ومن الإنسان غير المتطرف ؟ « أي الإنسان الأمريكي ، الإنسان الشرق أوسطي الذي لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم وإنما يؤمن فقط بالمصلحة إنسان البراجماتية والنفعية .
وتدرك أمريكا ويدرك الغرب معها أن التعليم في أوروبا كان المدخل للسيطرة على الفرد وعلى الأمة ، وكان أساس بناء الدولة القومية العلمانية في أوروبا ؛ ففكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية ؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة
والإخضاع عبر التعليم ، عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان و اليمن ؛ وعبر القضاء على المدارس الدينية والجمعيات الخيرية التي تدعمها .
وذلك يعني محاولة تدجين المجتمع الأهلي الإسلامي الذي يمثل قاعدة نبض الأمة وحيويتها .
ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان ؛ لأنها تحاول توظيف هذه الصداقة عبر ترويج فكرة السلام ، في اختراق وتسميم هذه المجتمعات الإسلامية .
وهنا فالخطر داهم على الأمة حكاماً وشعوباً ؛ ولذا يجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد ، وعلى الجميع أن يعرف أن روح الأمة أقوى من كل شيء ، والحمد لله أن هذه الهجمة الأمريكية واكبت في الأمة حياة ووعياً مؤثراً ، وأجيالاً جديدة حية تدرك وتسعى .
] وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [ ( يوسف : 21 ) .
=============(39/292)
(39/293)
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي تحت القصف الأمريكي
كمال حبيب
عرف العالم الإسلامي منذ وجوده الأول المدارس الدينية التي قامت بتفسير القران الكريم والسنة النبوية المطهرة ، صحيح أن ذلك بدأ بشكل فردي حيث كان الصحابة يقومون بنقل ما سمعوه عن صلى الله عليه وسلم شفاهة ثم جاء التابعون من بعدهم لنقل ما أثر عن الصحابة ثم تكونت المدارس الفقهية واللغوية والأدبية . وكان كل نشاط العقل المسلم يدور حول الإسلام والقرآن والسنة ، وعلماء التفسير والبيان والسنة والجرح والتعديل جميعهم كان نشاطهم العقلي والفكري يستلهم الإسلام ويدور حوله من أجل بيانه وشرحه والحفاظ عليه ، ولم تكن المدارس الفقهية أو اللغوية أو الحديثية أو البيانية ، ذات بيان ولها رسوم مقررة ، ولكنها في أغلبها عمل تطوعي وأهلي ومجتمعي.
فأبو حنيفة مثلاً كان تاجراً لكنه متوافر على تأسيس مدرسة فقهية عريقة تعود بجذورها إلى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي كان يحكم ويقضي ويجتهد؛ هذه المدرسة الفقهية هي تلامذته الذين نقلوا العلم عنه «كأبي يوسف» و «محمد بن الحسن الشيباني» وغيرهم من المجتهدين والعلماء والقضاة، ثم تبلور في النهاية «المذهب الحنفي» الذي هو طريقة في المنهج لفهم الشريعة، وكذا الشافعي وكذا «الإمام مالك» إمام أهل المدينة بلا منازع ثم الإمام «أحمد بن حنبل».
وكان يحدث في هذه المدارس الإسلامية تلاقح فكري وقواعد في الفهم والاجتهاد وهي آية في التضلع الفكري والعلمي العقلي بمعناه الواسع؛ فالنشاط العقلي والفكري للحضارة الإسلامية هو بالأساس نشاط حول الإسلام وعلومه، وهذا الذي مثل النسق المعرفي الإسلامي بالأساس، ثم ظهرت جماعات من شذاذ الفكر الذين تلوثوا بالفكر اليوناني الوثني، والأفكار النصرانية والخوارجية البدعية، وكان ذلك في الواقع جزءاً من محاولة العدوان على الفكر الإسلامي الأصيل، لكن هذا الفكر الشاذ ظل هامشياً، وكان أهله محاصرين بحكم الشعور الإسلامي العام وبحكم علو الشريعة فكراً وسلطة. كما أن طبيعة العصر التي لم تكن تحقق التواصل، وكان كل عالم يعيش وحده، وهو ما جعل آثار هذا التفكير محدودة وليس لها واقع في حياة الأمة والناس؛ لكنه مع نهاية القرن السابع عشر ومع هزيمة الدولة العثمانية عسكرياً أمام الجيوش النصرانية الغربية، بدأت السفارات إلى الغرب، وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة ذات الطابع العسكري بالأساس، ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في الجيوش الإسلامية؛ كما بدأ إرسال المبعوثين، وهنا جرى أول اختراق حقيقي للعالم الإسلامي؛ حيث تكونت البذور الأولى داخل المؤسسات الإسلامية والتي تحمل أشواقاً لعالم الأعداء، وتؤمن أن تقليدهم في القيم والأفكار يمكن أن يحقق النهوض للعالم الإسلامي، ثم صار الإيمان بهذا الفكر الوافد قيمة للعمل من أجل تحطيم العالم الإسلامي وليس النهوض به.
ومن المثير أن يكون الجيل الأول من العلمانيين في العالم الإسلامي قد اشتد عوده وقويت شوكته في مؤسسات الدولة العثمانية حاملة راية الإسلام في هذا الوقت، بل إن السلاطين أنفسهم كانوا من الذين حملوا الترويج لهذه الأفكار منذ منتصف القرن التاسع عشر. نعم كانت هناك ضغوط غربية من الخارج! لكن نمط التعليم الغربي اخترق أعلى مؤسسات الدولة كما حدث في الدولة الأموية والعباسية والتي جرى اختراق مؤسسة صنع القرار فيها عبر تبني الخلفاء والملوك للمذاهب القدرية والباطنية، وتسلط على مؤسسة الخلافة ذاتها المعتزلة والمبتدعة. ثم انتقل الأمر من عاصمة الإسلام إلى مصر؛ حيث رحل طلاب العلم إلى أوروبا في كافة الشُّعَب لكن أخطرهم كان «رفاعة الطهطاوي» إمام أول هذه البعثات، وجاء من بعده «محمد عبده» ومن قبله «الأفغاني» وتأسست مدرسة يمكن وصفها بالمصطلحات المعاصرة «مدرسة التفسير الاستعماري للإسلام». ومن المدهش أن يكون سعد زغلول، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق وغيرهم تلامذة في هذه المدرسة التي كانت وثيقة الصلة بالإنجليز. لكن التعليم الإسلامي استرد عافيته بهبة الأمة من أجل الدفاع عن دينها وإسلامها وتعليمها.
تدمير الأزهر:
وظل الأزهر في مصر المدرسة التي تحمي التعليم الديني، وكان لها تقاليد صارمة علمية في الضبط والتحرير والإنتاج العلمي، ثم ظهرت مدرسة «دار العلوم» التي تخرج فيها الشيخ حسن البنا، والأستاذ سيد قطب، ودار القضاء الشرعي التي تخرج فيها الشيخ جاد الحق، وكان القصد منها ضرب الأزهر، لكنه ظل قوياً.
ثم جاء انقلاب يوليو وأصدر قانون «تطوير الأزهر» حيث فصل أوقافه عنه، واستولت عليها وزارة الأوقاف، كما جعل شيخه تابعاً لوزير يساري في هذا الوقت هو كمال رفعت، وأدخل التعليم المدني فيه مثل الطب وغيره بقصد تخريج كوادر دعوية لمواجهة التبشير.(39/294)
وهنا أصبحت المؤسسة الأزهرية التي هي بالأساس مؤسسة أهلية علمية لها أوقافها المستقلة وتمارس الاجتهاد، ولها تقاليدها بعيداً عن يد الدولة ـ أصبحت في قبضة الدولة، وحدثني «الشيخ الشعراوي» الذي كان يعمل مديراً لمكتب الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر أنه ـ أي الشيخ حسن مأمون ـ لم يكن يستطيع أن ينقل الفراش من مكتبه؛ أي نزعت من الأزهر كل أسلحته، وصار شيخ الأزهر الذي كان يمثل ضمير الأمة كلها مجرد موظف لدى المؤسسة الحاكمة لا يخرج قيد أنملة عما تطلب منه رغم أن العلماء في التقاليد الإسلامية هم بالأساس مراقبون للسلطة وضابطون لسلوكها، وهم معبرون عن الأمة من مواجهة السلطة.
ثم مضى التطوير قدماً حالياً حيث جرى تقصير مدة الدراسة في الفترة الثانوية لتصبح ثلاث سنوات بدلاً من أربع مثل الثانوية العامة، وتم إلغاء دراسة المذاهب الفقهية تماماً والتي هي حافظة لطريقة فهم الشريعة وهي ناقلتها عبر الأجيال، ثم منع الطلاب الراغبون من خارج الأزهر من الالتحاق به وكانوا يمثلون دماءاً فيه لتجديد روح الأزهر وشبابه، ثم رفع سن القبول في المرحلة الابتدائية، وتضاءلت دراسة القرآن الكريم؛ كما حوصرت الكتاتيب، وضعف مستوى طلاب العلوم الشرعية والقسم الأدبي، رغم أن الشيخ الشعراوي قال لي: إن إصلاح الأزهر يكون عن طريق دعم القسم الأدبي والتخلي عن القسم العلمي تماماً للتعليم العام ـ فدعاة الأزهر هم خريجو العلوم الشرعية بالأساس؛ وكل ذلك يجري في إطار ما أطلق عليه: «علمنة الأزهر» أي نزع صفة كونه معهداً لتدريس العلوم الشرعية وتخريج متخصصين في العلوم الشرعية الإسلامية.
وخالف الأزهر عبر شيخه الحالي أعز تقاليده في تحمل الاختلاف الفقهي، فحوصر المخالفون لشيخ الأزهر وحوكموا وعزلوا وشردوا في الآفاق، وظن شيخه أن المركز الذي منحته السلطة له يتيح له أن يستخدم سلطة الإكراه في مواجهة خصومه رغم أن سلطة العلماء بالأساس هي سلطة معنوية لا تستند إلى الإكراه؛ والمتأمل في الاجتماع الإسلامي يلاحظ بوضوح أن السلطة السياسية كانت تعمد إلى فرض الرأي الواحد عبر القوة بينما كان العلماء يعمدون إلى إعطاء الفرصة لكافة الآراء الاجتهادية لا يحتكرها عالم واحد أو مجتهد واحد؛ وموقف الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة واضح حين عرض عليه المنصور أن يجعل من «الموطأ» دستوراً فقهياً موحداً للأمة لكنه رفض.
كان كل ذلك يتم في إطار علمنة ثقافة الأمة وتحطيم هويتها عبر مصطلحات مثل «تجفيف الينابيع»؛ فبما أن الأزهر رصيد لتخريج علماء الدين فليجفف، وطالما أن الطلبة الذين يرغبون في الالتحاق به من خارجه يشتبه في أن يكونوا متطرفين فليمنعوا، وهكذا.
وطالما أن مادة الدين في التعلم العام يمكن أن تكون مصدراً لتدين الشباب فلتجعل مادة للثقافة المشتركة مع غير المسلمين حفاظاً على الوحدة الوطنية. لم يكن كل ذلك تحت قصف النيران الخارجية أو في إطار خطة مفروضة من الخارج، بل كان من يقومون بكل هذا ينكرون أن يكون للخارج أي تدخل في فرض أجندته التي تريد أن تفرض التبعية الثقافية على عالمنا الإسلامي وخاصة دول القلب والمركز فيه، لكن أحداث سبتمبر جاءت لتقلب الأمور رأساً على عقب.
ما بعد سبتمبر والقصف الأمريكي لمناهج التعليم:
كما هو معلوم أن العقل الأمريكي ذي الطابع البراجماتي لا يملك القدرة على الغوص في الأمور لفهمها وتحليلها وهو يعتمد منهج التجريب فيما ينهيه إليه أقرب نظرة له أو أقرب طرفة عين عقلية، فإن ثبت خطأه جرب غيره، وهكذا.. وهذا وصناع القرار فيه اتهموا «بغير بينة» ما يطلق عليهم «فوكوياما» الأصوليين، وفي ظن الأمريكيين أن هؤلاء الأصوليين إسلاميون درسوا علوم الشريعة؛ وإذن فالمدارس الدينية في باكستان هي التي أخرجت طالبان والمدارس الدينية في السعودية هي التي تخرج أصوليين، ومناهج التعليم الديني هي التي تحفظ للإسلام قوامه؛ إذن تجب محاصرة هذه المدارس والمناهج، والضغط من أجل ذلك، ومن هنا فما كانت تقوم به الحكومات المحلية في السابق على استحياء أصبحت أمريكا رأساً هي التي تقوم بذلك، وهي تقوم به بعصبية شديدة وانفعال وقلة خبرة تحت تأثير ضربة سبتمبر، وهي تجهل أنها تدخل في قلب الوجود الإسلامي وفي قلب هوية الأمة، وهو ما يعد عدواناً قاسياً وخطيراً يصل إلى حد الحرب.(39/295)
بيد أن أمريكا لم تكتف بذلك، بل إن مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية اقترحوا تمويل أئمة المسلمين الذين يعارضون الإرهاب ـ على حد زعمهم ـ ويؤيدون الحرية الدينية. وقالت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون العالمية أمام اجتماع «لجنة الحريات الدينية» المعنية بمتابعة الحالة الدينية في العالم وفق الرؤية الأمريكية: «يتحدث كثير من المسلمين عن معارضة الإرهاب لكن ذلك غير كاف، وعلينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم دينهم التي تعلي من شأن الحياة، وأوضحت أنه «يجب التفكير خارج الإطار التقليدي وتوظيف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية، وهنا علينا التفكير في تمويل علماء مسلمين وأئمة وأصوات أخرى للمسلمين» وزادت توضيحاً بالقول: «علينا أن نضم المزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها أمريكا، إننا نريد الوصول إلى جمهور أكبر في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك بهدف دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى وعودة الناس للتسامح».
أي أن أمريكا تريد من المسلمين «إعلاء القيم الدينية التي تحافظ على قيمة الحياة» ويستبطن هذا المعنى إلغاء كل ما يتصل بالقتال في القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبار أن آيات القتال في التصور الأمريكي تهدد حياة الآخرين، كما أن إعلاء قيمة الحياة تعني منع العمليات الاستشهادية في الأراضي المحتلة ضد الصهاينة باعتبار أن اليهودي في التصور الأمريكي هو إنسان محفوظ الدم والحياة؛ لأنه لم يعتد على أرض لهم بل هو صورتهم في الاعتداء على الآخرين.
وأفكار التسامح تعني إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء والبراء والتمايز على أساس العقيدة؛ فهم ينظرون «للإنسان» من وجهة نظرهم باعتبار الإنسان الغربي ابن الحضارة الأمريكية والغربية أو التي تصله بها آصرة الثقافة والدين كاليهود.
وهم يروجون لفكرة «الإنسان الكوني» أي الإنسان الذي لا يشعر بأي انتماء خاص لدين أو لوطن أو لعقيدة أو لقضية، وحين يكون إنسان «العالم الإسلامي» أو الإنسان الشرق أوسطي «كما يزعمون بهذه الحالة فإنه سيكون نهباً وعبداً لكل ما يطلب منه.
وتبقى العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي هي حصانة العالم الإسلامي في مواجهة الهيمنة الأمريكية الثقافية.
إن أمريكا تسعى اليوم عبر التدخل في مناهج التعليم الديني على وجه الخصوص للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية، أي أنها تعمل للسيطرة على المستقبل في العالم الإسلامي، وهي تشعر أنها لا يمكنها السيطرة على هذا المستقبل إلا عن طريق السيطرة على عقول شبابه وأبنائه، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العبث بمناهج التعليم الديني خاصة.
إن الأمة الإسلامية بحكم صفتها هي أمة روحها هو الدين وتاريخها وثقافتها ونشاطها كله بالأساس حول الدين، ونزع دينها أو التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه؛ لأنه خطر وقصف موجه إلى العقل والروح، هو قصف موجه إلى الجذور، وهو خطر يستهدف اغتيال الأمة، ونحن نثق أن الله «غالب على أمره» وحافط دينه { إإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] وأن هجمة أمريكا ومكرها سيمتد إلىها { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 123]. لكن الأمة كلها بحاجة إلى تدبر طبيعة الحرب التي تواجهها: إنها حرب صليبية، الإجلاب فيها بالخيل والرجل من جانب، وبالغزو الفكري والثقافي لهدم قواعد الأمة وأسسها من ناحية أخرى.
أمريكا وتغيير خصائص الشعوب:(39/296)
دارسو السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون أنها تعتمد على المدرسة السلوكية وما بعد السلوكية، وهي في جوهرها تقوم على ما يعرف بـ «الخصائص القومية للشعوب» أي تغيير الطبيعة القومية والنفسية للشعوب، وقد نجحت في ذلك مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تشن حرباً نفسية على العالم الإسلامي عن طريق محاولة تغيير خصائصه؛ لكن العقيدة الإسلامية هي التي تحفظه وتقف به صلباً أمام موجات العولمة الحديثة كما وقفت أمام موجات الحرب الصليبية والتبشير والاستشراق والاستعمار «الاستخراب» ومن ثم فالحرب الحضارية بين أمريكا والغرب من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى هي حرب عقيدية حول الأساس وحول القضايا الثابتة، وهي حرب تضرب في الجذور، وسوف تسعى أمريكا بشكل أساسي لتجنيد العملاء، لكنهم هذه المرة من قلب المحتل الذي تريد أن تحطمه كما قال «زويمر» من قبل: «الشجرة لا يقطعها إلا أحد أبنائها» فالعملاء لن يكونوا يساريين أو علمانيين؛ لكنهم سيكونون من علماء الدين والمتخصصين في العلوم الشرعية من المفتين والقضاة والرؤوس في علوم الإسلام، وأمريكا سوف تمنح وتعطي وتغري وتخاتل وتبدو كالمسيخ الدجال الذي يتلاعب بظواهر الأشياء ويقلب المسميات ويصور للناس أنه يملك الجنة والنار، وهي تقول: «من ليس معنا فهو ضدنا»؛ لذا فالأمر خطير؛ وليحذر كل امرئ وخاصة العلماء من فتنة أمريكية عمياء، القابض فيها على دينه وعلى الحق كالقابض على الجمر. إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى «كير» تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية.
والدهشة ستمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد الـ F.B.I قد التقى شيخ الأزهر، ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر.
ونورد ما قاله وزير التعليم المصري في حوار مع إحدى الصحف قال: «المناهج الدينية تتم صياغتها بإشراف شيخ الأزهر وهو رجل لا يستطيع أحد التشكيك في استنارته وتقدمه، وهو يعلن مسؤوليته دائماً عن كل ما يدرس من تربية دينية داخل وزارة التربية والتعليم، وشارك بنفسه في دورة تدريبية لمدرسي التربية الدينية بالوزارة؛ وبالفعل تم تغيير الكثير من هذه المناهج حتى يمكن صياغة عقل الإنسان الجديد غير المتطرف؛ وذلك لأننا نعتقد أن العقل هو جوهر الإسلام وعشرات الآيات تحض على العقلانية وإعمال العقل والفكر وقبول الآخر والتسامح والأخلاق والتكامل والرحمة» وهذا بالفعل هو ما تريده أمريكا، ونحن نندهش ونتساءل: وهل كانت الوزارة قبل هذا الوزير ومنذ وجدت وزارة التعليم في داهية عمياء بلا عقل ولا فكر ولا قبول الآخر ولا التسامح معه؟ وهل كان الطلاب لا يعرفون كل هذا؟ لكنها الأجندة الأمريكية الجديدة، حين يرتبط العقل والتسامح بها فإنها تعني عقلاً خاصاً وتسامحاً خاصاً تجاه أعداء هذه الأمة وتجاه تاريخها. ومن الإنسان غير المتطرف؟ «أي الإنسان الأمريكي، الإنسان الشرق أوسطي الذي لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم وإنما يؤمن فقط بالمصلحة إنسان البراجماتية والنفعية.
وتدرك أمريكا ويدرك الغرب معها أن التعليم في أوروبا كان المدخل للسيطرة على الفرد وعلى الأمة، وكان أساس بناء الدولة القومية العلمانية في أوروبا؛ ففكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة والإخضاع عبر التعليم، عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن؛ وعبر القضاء على المدارس الدينية والجمعيات الخيرية التي تدعمها.
وذلك يعني محاولة تدجين المجتمع الأهلي الإسلامي الذي يمثل قاعدة نبض الأمة وحيويتها.
ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان؛ لأنها تحاول توظيف هذه الصداقة عبر ترويج فكرة السلام، في اختراق وتسميم هذه المجتمعات الإسلامية.
وهنا فالخطر داهم على الأمة حكاماً وشعوباً؛ ولذا يجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد، وعلى الجميع أن يعرف أن روح الأمة أقوى من كل شيء، والحمد لله أن هذه الهجمة الأمريكية واكبت في الأمة حياة ووعياً مؤثراً، وأجيالاً جديدة حية تدرك وتسعى.
{ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.[يوسف: 21].
المصدر : مجلة البيان
=================(39/297)
(39/298)
ضمانة لحماية جزيرة العرب (*)
كلما امتدّ رُواقُ الإسلامِ على أرضٍ ؛ فعُدَّها دار إسلام ، ومهما تعددت الولايات - العارضة -؛ فالجميع هو المملكة الإسلامية .
وعُدّ عاصمَتها جزيرةَ العرب ؛ لما لها من خصائصَ في الشرع تتميزُ بها ولا يُشاركها فيها غيرُها .
وَعُدَّ جميعَ المسلمينَ - مهما تعدّدت ديارُهم و ولاياتُهم - يكوِّنون الجامعةَ الإسلاميةَ . وعُدَّ عربَ الجزيرة فيها هم حُفّاظُ هذه الرابطة الدينية للجامعة الإسلامية ، وذلك لما لهم من خصالٍ وخصائصَ شريفةٍ لا يشاركُهم فيها غيرُهم .
وإذا كانت مدارجُ الشرفِ في الإسلام هي : الإسلامُ ، التقوى ، العلم ، النسب ، وكان أشرفُ الأنساب هو نسبُ العربِ وكان العربُ هم مادة الإسلام ؛ فعُدَّ عربَ الجزيرة هم صلبَ العربِ ، وهم مادةَ المسلمين بعد أن صفّاهم الله تعالى من نَتَنِ الجاهلية وغَلَيانِ العصبية القبلية ودعاوى الجاهليةِ ، فشرّفهم بالإسلام وحَطّمَ قيودَ الوثنية والنعراتِ القومية والسبلَ البعثية فلا وطنية ولا قومية لكنها الرابطة الإيمانية والأخوة الإسلامية ، وخاطبهم وغيرهم : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " وحفظ لهم ميزاتِهم وسرَّ اختيارهم حَمَلَةَ الرسالةِ الأولين .
إذا كان الحالُ كذلك ؛ فإن دارَ الإسلام أيّاً كانت وإن المسلمين أيّاً كانوا وفي الطليعة هذه الجزيرةُ وعربُها ؛ الكلُّ رأسُ مال تجب المحافظةُ عليه من التوى والضياع والفرقةِ والانقسام ، وتجب تربيته وتنميته واستصلاحُ أحوالهِ، وهذا أولى من مجاهدةِ الكفار لإدخالهم في الإسلام ؛ لأن استصلاح أحوال المسلمين وحفظَ بَيضَتِهم من باب المحافظة على رأس المال ، ومجاهدةُ الكافرين من باب طلبِ الربح .
وهل يَطلُبُ الربحَ من يفتقد رأسَ مالِه ؟! وهل يُوصَل إلى مجاهدةِ الكافرين والنصرةِ عليهم إلا بالمسلمين الذين يمثلون الطرازَ الأول السائرَ على منهاج النبوة .
وإذا كان الأمر كذلك ؛ فإن هذه الجزيرةَ من المنطقة الإسلامية " هي معقلُ الإسلام والمسلمين وعاصمته الخالدة وقلبُ العالم الإسلامي كمركزِ القلبِ في الجسم الإنساني ورأسِ مال المسلمين والخطِّ الأخيرِ في الدفاع عن الوجود الإسلامي " (1) .
وهذه الجزيرة (2)" في العالم الإسلامي ( بمثابةِ ) مركزِ القلب في الجسم الانساني الذي إذا عاش وقَوِيَ وأدّى رسالته في الجهاز الجسمي والنظامِ الحيويِّ الصحي ؛ عاش الجسم وقوي وإذا دَبَّ الوهنُ إلى هذا القلب أو اعتلَّ وتخلّى عن وظيفته ودورِه أسرعَ إليه الموتُ واستولت عليه الأمراضُ والعللُ وعجزَ الأطباءُ الحاذقون عن إعادة الحياة إليه بالطرق الصناعية .
وقد أشار إلى هذه الصلةِ الدقيقة العميقة بين القلب والجسد الحديثُ الصحيح المشهور الذي جاء فيه : " ألا إن في الجسد مضغةً إذا صَلَحت صَلَح الجسدُ كلُّه وإذا فسدت فَسَدَ الجسدُ كله ألا وهي القلب " .
وذلك لأن الحجازَ مَهبِطُ الوحي ومبعثُ الإسلام ومصدرُ الدعوة الإسلامية ومركزُ الإسلام الدائمُ وعاصمته الخالدةُ وهو البلدُ المثاليُّ والمقياسُ الصحيح الدائمُ للحياة الإسلامية وتعاليمِ الإسلام العالمية وصلاحيتِها للبقاءِ والتطبيق وظهورِ المجتمع الإسلامي في حيويته وأصالته وجماله وقوته فالرسالةُ الإسلامية مهما كانت عالميةً آفاقيةً لا بُدَّ لها من مركزٍ يُعَدُّ مقياسًا وميزانا لعمليّتِها وواقعيتها ، وأسوةً وقدوة لجميع المدن والقرى والمجتمعات التي تؤمن بهذه الرسالة وتحتضن هذه العقيدةَ والدعوة .
والإنسان مفطور على البحث عن المقياس الصحيح والبلدِ المثالي والموئِلِ الذي يأوي إليه والمصدرِ الذي يستمِدُّ منه القوةَ والثقة والحماسة والاندفاعَ ؛ سواءٌ في الأديان والشرائع والنظم والفلسفات والحضارات والمدنيات والآداب والعادات واللغات واللهجات والأناقةِ والثقافة وسلامةِ الذوق ورِقّة الشعور .
فكان لكل دينٍ مركزٌ يحتجُّ بعمله وأعرافه ، وكان لكل حضارةٍ بلدٌ مثالي أو عاصمةٌ أو قاعدةٌ يستدلُّ بأساليبِ الحياة فيها، والأنماطِ المدنية ، والمثلِ الاجتماعية في نواحيها، ولكلِّ لغةٍ و أدبٍ مركزٌ يستند إليه في معرفة الصحيح الفصيح من التعبير والبيان ، ومناهجِ اللغة والكلام ، والحكمِ على المفردات واللغات بالصحة والخطإ ، و لكلِ عصرٍ إقليمٌ وبلدٌ مثالي يتظرَّف الناسُ ويتنبَّلون بتقليد عاداته وتقاليده ، واتخاذِ مُثُله وقِيَمِه أمثلةً كاملةً للحياةِ الراقيةِ والأخلاقِ الفاضلة .
وقد عَقَد الله بين العرب والإسلام ، ثم بين الحجاز والأمة الإسلامية ، ثم بين الحرمينِ الشريفينِ وقلوبِ المسلمين للأبد، وربط مصيرَ أحدِهِما بالآخر .(39/299)
وقد حَرَصَ رسول ا صلى الله عليه وسلم - وكان في ذلك نبيا مُلهَما وحكيما كلَّ الحكمة - على بقاءِ هذا الرباط الوثيق المقدَّس بين جزيرة العرب والإسلام فضلا عن الحجاز والحرمين الشريفين ، وحَرَصَ على سلامة هذا المركز وهدوئِه وشدةِ تمسّكه بهذا الدين وعضِّهِ عليه بالنواجذ؛ لأن العاصمةَ يجبُ أن تكون بعيدةً عن كلِّ تشويشٍ وعن كل فوضى وعن كل صراعٍ عقائدي أو مبدئي ، فشَرَعَ لذلك أحكاما بعيدةَ النتائج واسعةَ المدى ، وأوصى لذلك وصايا دقيقةً حكيمةً ، وأخذ لذلك من أصحابه وأمَّتِه عهودًا ومواثيقَ .
وقد ذكرت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها؛ قالت : كان آخرَ ما عَهِدَ رسولُ ا صلى الله عليه وسلم أن قال : " لا يُترك بجزيرة العرب دينان " (3) .
وعن رافعٍ أن صلى الله عليه وسلم " أمَرَ ألانَدع في المدينة دينا غيرَ الإسلام إلا أُخرج ".
وعن جابر بن عبدالله قال : أخبرني عمرُ بنُ الخطاب أنه سمع رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : " لأخرجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدَعَ فيها إلا مسلمًا " (4) .
وأخذ بذلك الخلفاءُ الراشدونَ المهديُّون فكانوا ينظرون دائما إلى جزيرة العرب كمعقلٍ للإسلام ورأسِ مالِ الدعوة الإسلامية " انتهى .
لذلك ؛ فإن المُتعَيّن على أهل هذه الجزيرةِ ، وعلى من بسط اللهُ يده عليهم وعليها : المحافظةُ على هذه المَيِّزات والخصائصِ الشرعية ؛ليَظهر تميّزُها، وتبقى الجزيرةُ وأهلها مصدرَ الإشعاعِ لنور الإسلام على العالم .
وليُعلَم أنه كلما قَوِيَ هذا النورُ؛ امتدَّ هذا الإشعاعُ ، وكلما ضَعُفَ وتضاءَلَ في هذه الجزيرةِ وأهلِها؛ تقاصرَ .ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم اعلم أن هذه الضَّماناتِ منها ما هو عامٌّ لأهلِ الإسلام مهما كانت ديارهم ومهما تعدَّدَ جنسهم ، لكنها تتأكد في حقِّ أهل هذه الجزيرة ، ومنها ماهو خاص بها لموجبِ النصِّ .(5)
ثم منها ما هو متيسِّرٌ إعمالُهُ ومنها ما فيه نوعُ عُسرٍ ومشقَّةٍ لاختلالِ الأحوالِ ، لكن نذكره معذرةً أمامَ اللهِ وأمامَ التاريخِ والأجيالِ المتعاقبةِ - والله المستعان -.
وإليك بيان بعضٍ منها :
1. كما تكون المحافظةُ على الحدودِ المكانيَّةِ لأيِّ إقليمٍ ولائيٍّ ؛ فإن المحافظةَ على الحدود الشرعية والخصائص المرعيةِ وصيانتِها لهذه الجزيرة واجبةٌ كذلك على من بسط الله يده عليها .
وعليه ؛ فإن النتيجة من المحافظة على الحدود الإقليميّةِ الولائيّةِ معاقبةُ من ينتهكها ، فكذلك من باب أولى تجب معاقبة من ينال من حدودها وخصائصها وحرماتِها الشرعيةِ بما يلاقي انتهاكَه شرعا.
2. سلطان الحاكمية فيها لا يجوز أن يكون لغير دولة التوحيد ، ورايةِ التوحيد .
ومن عجائب المقدور ولطائفِ الحيِّ القيوم ، ولأمر خيرٍ يريده الله - وهو سبحانه أعلمُ بالأحوال - في هذه الأمة المرحومة إن شاء الله تعالى : صار العَلَم الولائيُّ في قلب هذه الجزيرة يحمل كلمةَ التوحيد ، وهكذا كان اللواءُ الأبيض للنبي r مكتوبا عليه " لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله " .
رواه أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .(6)
ولهذا ؛ فإن الأعلامَ إن نُكِّسَت - ابتداعا- لموت العظماء ؛ فإن هذا هو العَلَمُ الوحيد الذي يكون تنكيسه من أشد مواطن الإثم والجُناح .
وبالجملة ؛ فلا تُساسُ الأمة بغير شرع الله الإسلام كما قال حسان رضي الله عنه :
وما الدين إلا أن تُقامَ شرائعٌ *** وتُؤمَنَ سُبلٌ بيننا وهِضابُ
واعلم أن أي شقاء في الأمة أو فسادٍ هو بسبب ما يُصَبُّ على الأمة من تحلِّلٍ وانحلال في إقامة الدين بين العباد .
3." اتخاذُ الحياةِ الإسلامية ؛ الحياة التي يرضاها اللهُ وينصُرُ عليها ، والحرصُ على إزالةِ جميعِ المنكرات وأسبابِ السخط ودواعي الخذلانِ والفشلِ في المجال الإداري والأخلاقِ الاجتماعية والفردية ، وتتبُّعُها تتبُّعا دقيقا، والحدُّ من الثراء الفاحش وتكدسِه في عددٍ محدود وطبقةٍ معينة ، وتقييدُ التجارةِ وحركةِ الاستيرادِ الحُرَّةِ على حساب أخلاقِ الشعب وفي مصلحةِ عددٍ محدودٍ جدا وطبقةٍ معينة ؛ فإن كل ذلك مما يمهِّد الأرض ويفتح الطريق للشيوعية المتطرِّفَة (7) ، والاشتراكيةِ المقَنَّعة . والحيلولة بقدر الإمكان وإلى أقصى الحدود؛ فإن ذلك مما يجحِفُ بالشعب ويجني على الأخلاق ويجعلُ الحسبةَ والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر شبهَ مستحيلٍ، وقد نبَّه نابغةُ العرب وفيلسوف المؤَرِّخين العلامةُ ابنُ خَلدون على ضرره وسوءِ أثرِهِ في الحياة " انتهى مُلخَّصا (8).
4. إخضاعُ كلِّ ما يجري ويصدُرُ على أرض هذه الجزيرةِ من أنظمةٍ وأوامرَ وتعليماتٍ وقوانينَ لمقاصد الإسلام وللمقاصد التي بنيت لها هذه الكعبةُ المشرفةُ واختيرت لها هذه الأرض لتكون مركزا للإسلام ومصدر إشعاع عالميا وللحكمة التي نبه عليها القرآن بقوله : " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " .(39/300)
5. إزالةُ التناقض بين إسلامية هذه الديار القائمةِ منذ فجر الرسالة وإلى يومنا هذا وبين كل ما ينافسها " في مجال الإعلام والتربية والمظاهرِ الاجتماعية واتجاهاتِ الشعب من اندفاعٍ مشهورٍ إلى الترفيه والتسلية والأغاني والملاهي والقَصَصِ المثيرة والبرامجِ المستوردة الرقيعة التي أفلت معها الزِّمامُ من يد المربّين والآباءِ والأساتذةِ والعلماء ، والتي لا يحتفظ معها أي شعب بالبقية الباقيةِ من الشعور الديني والحصانة الخُلُقية ولا يستعد للطوارئ والمفاجآت ولا يتحمل أقل صدمة أو خطر من الخارج " (9).
6. يجبُ على من بسط الله يده على أيٍّ من هذه الجزيرةِ منعُ سُكنى المشركينَ وإيوئهم ، وتطهيرُها منهم فضلا عن أن يكون لهم فيها أيُّ كيانٍ أو تملُّكٍ ، شائعًا أو مستقلا .
وإن وجد من له تملك فيها وجب على ولي الأمر بيعه لمسلم ولا يجوز إقراره عليه كما لو اشترى كافر مملوكا مسلما فإنه لا يجوز تملكه له ويجب تخليصه من ملكه : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " فكذلك لا يجوز إقرار أرض من جزيرة العرب في ملك كافر (10).
وعليه ؛ فإن وجودَ أيِّ نظامِ يقضي بتملُّك الكافرِ في هذه الجزيرةِ يُعَدُّ من نواقضِ هذا الواجب ، فيجب إلغاء ما ينقضه .
أما وجودُ لَبِنَة على لَبنة لمعبد كافر : كنيسةٍ أو صومَعَةٍ أو بيتِ نارٍ.. وهكذا ؛ فهذا عينُ المبارزةِ والمحاربةِ لدينه وشرعه : الإسلامِ .
فلا يجوز أن يكون فيها محلُّ عبادةٍ إلا لمسجدٍ في الإسلام .
7. يجب على من ولاّهُ الله الأمرَ المنعُ الباتُّ من منح التجنُّسِ لأيِّ كافر أو مشرك لا يدين بالإسلام ، وتطهيرُها من التصرُّفات الجاهلية في ذلك .
8. وإذا كانتِ العِلّةُ الشرعيةُ في إخراجِ المشركين من هذه الجزيرةِ ، وعدمِ الرضا بأي كيان لهم فيها ، هي : لتبقى هذه الديارُ ديارَ إسلامٍ ، وأهلُها مسلمين ، فتسلمُ قاعدةُ المسلمين ، ويسلم قادتُهم من أي تهويد أو تنصير ... فإن الحكمَ يدور مع علته .
وعليه ؛ فلا يُفيد هذا الحكمُ القصرَ على إخراج أجسادِ المشركين من هذه الجزيرة ، بل يرمي إلى ما هو أبعدُ من ذلك إلى العلة التي من أجلها وجب إخراجهم منها وحَرُمَت سُكناهم فيها .
ولذا؛ فيشمل هذا الحكمَ إخراجُ نفوذهم وتوجيههم وحضارتهم ودعوتهم وتياراتهم المعادية للإسلام وعن كل ما يهدّد أخلاقيات هذه البلاد وينال من كرامتها .
فاحتفِظ - حَفِظنا الله وإياك بالإسلام - بهذا المَدرَكِ الفقهي ، و أسِّس عليه ما تراه من الضمانات بعدُ .
9. وعليه ؛ إذا كانت الجزيرةُ وبخاصةٍ قلبَها تثير حساسية المسلمين عند أي هجمة شرسة عليها من استيلاء استعماري أو فرض منهج عقدي أو سلوكي علني فإن العِدا والمبطنين لها سلكوا مسلك الوأد الخفي لعصب الحياة في العالم الإسلامي على أرض الجزيرة : الإسلام صافيا على منهاج النبوة وذلك بتسرب موجات الغزو تحت شعار الحضارة وقناع العلم وتكثيف اجتماعات ولقاءات تكسر حاجز النفرة من الأهواء المضلة وتذوب صفاء الحياة وتكدر صفوها وتقودها إلى تراقي الاحتضار .
وعليه ؛ فيجب أن يُحسب لهذا كلُّ حساب ، فليُرفَض كلُّ سابلة تؤدي إلى هذا المضمار .
ومن ألأم هذه المسالك ما يعود به عدد من المبتعثين من شباب هذه الأمة إلى ديار الكفر إذ يعودون وهم يحملون تحللا عقديا رهيبا منضوين تحت لواء حزبي مارق وفي لحظات يمسكون بأعمال قيادية عن طريقها ينفِّذون مخططاتهم ويدعو بعضهم بعضا فيتداعون على صالحي الأمة وعلى صالح أعمالها وهذا أضرّ داء استشرى في هذه الجزيرة فهل من متيقظ ؟! وهل من مستبصر ؟!
أما فتح المدارس العالمية الأجنبية الاستعمارية فهي صعقة غضبية يتناثر الصبر دونها ، فحرام فتحها ، وحرام دخول أولاد المسلمين فيها، وقد أفردت بشأنها كتابا- والحمد لله رب العالمين - .
10. وعليه ؛ فتجب ملاحقة البدع ومحاصرتها في أمر كلي أو جزئي وإن دقّ وتنظيف الجزيرة منها .
فإنه " متى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن ، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث " (11).
وإن وجد من يحمل حدثا وبدعة في الإسلام فتستصلح حاله أو يطرد من هذه الجزيرة وينفى عنها لأن الله إذا حرّم شيئا حرم الأسباب الموصلة إليه فقد حرم الشرع استيطان الكفار لهذه الجزيرة ، والأهواءُ المضلة سابقةُ الخروجِ من الملة ، والبدعُ بريدُ الكفر ، والمبتدعة خفراؤه ، فإذا تعذّر استصلاح حملة البدعة والنافخين في كيرها تعيّن نفيُهم حمايةً لحرمة قاعدة الإسلام وسَكَنَتها .
11. جزيرة العرب هي بارقة الأمل للمسلمين في نشر عقيدة التوحيد لأنها موئل جماعة المسلمين الأول وهي السُّور الحافظ حول الحرمين الشريفين فينبغي أن تكون كذلك أبدا فلا يسمح فيها بحال بقيام أي نشاط عقدي أو دعوي - مهما كان - تحت مظلة الإسلام ؛ مخالفا منهاج النبوة الذي قامت به جماعة المسلمين الأولى : صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم وجدّده وأعلى مناره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى .(39/301)
فالجماعة واحدة : جماعة المسلمين تحت عَلَم التوحيد على طريق النبوة لا تتوازعُهم الفرق والأهواء ولا الجماعات والأحزاب .
وإن قبول أي دعوة تحت مظلة الإسلام تخالف ذلك هي وسيلةُ إجهازٍ على دعوة التوحيد وتفتيتٍ لجماعة المسلمين ، وإسقاطٍ لامتياز الدعوة ، وسقوطٍ لجماعتها ، وكسرٍ لحاجز النفرة من البدع والمبتدعين ، والفسق والفاسقين .
والجماعات إن استشرى تعددها في الجزيرة فهو خطر داهم يهدد واقعها ويهدم مستقبلها ويسلّم بيدها ملفَّ الاستعمار لها وبه تكون مجمّع صراع فكري وعقدي وسلوكي ينشأ عن ذلك (12) إسلامٌ إقليمي : فينشأ إسلام إيراني ، وإسلام تركي ، وإسلام هندي ، وإسلام أفغاني ، وإسلام أوروبي ، وإسلام أمريكي ويظهر في جانب من جوانب العالم الإسلامي الواسع تحريفٌ ديني أو مسخ للإسلام أو تنجح مؤامرة يحوكها رجل ذكي من أعداء الإسلام فلا تمكن مقاومتها والتغلب عليها وكان ذلك من حِكم مشروعية الحج وأسراره لأنه استعراضٌ عالميٌّ للأمم الإسلامية وطبقات الأمة المسلمة على صعيد واحد ووقت واحد في رحاب البيت الحرام الذي جعله الله ملتقى المسلمين وقياما للناس (13) .
ولما كانت الجزيرةُ والحجازُ معقلَ الإسلام ومبدأه ومنتهاه ، والموئلَ الذي يأوي إليه الإسلامُ والمسلمون في ساعات عصيبة وأزمات مختلفة وفي آخر الزمان وقد جاء في بعض الأحاديث مايدلّ على ذلك فعن عمرو بن عوف قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
" إن الدين ليأرِزُ إلى الحجاز كما تأرِز الحيةُ إلى جُحرها ، وليعقِلَنَّ الدينُ من الحجاز مَعقِلَ الأَروِيَة من رؤوس الجبال " (14).
وعن عمر عن صلى الله عليه وسلم قال : " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جُحرها " (15).
وعن أبي هريرة أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : " إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " (16).
ولما كانت هذه الجزيرةُ وهذه البقاعُ المقدسة مصدرَ الإشعاعِ العالمي الإسلامي ، ومقياسَ قوةِ الإسلام وسلطانه ؛ كان علماء المسلمين وقادتهم - في كل زمن وبلد - شديدي الحساسية لما يقع فيها من حوادث ولما يجري فيها من تيارات دقيقي الحساب لمدى تمسكها بالتعاليم والآداب الإسلامية ومحافظتها على الروح الدينية والعاطفة الإسلامية كبيري الغيرة عليها وعلى قيادتها للعالم الإسلامي وقد تجلى ذلك في كتابات علماء الإسلام وأدبهم وشعرهم في أزمنة مختلفة وقد سار قول أشهر شعراء إيران وأدبائها: الشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازي (المتوفى 691) مسير المثلِ :
" إذا بدأت طلائع الفساد والانحرافات من فناء الكعبة ورحاب البيت الحرام ؛ فعلى الإسلام والمسلمين السلام " .
وقد فزع الشاعر الفارسي المسمى بأبي المجد مجدودٍ الغزنوي المعروف بالحكيم السَّنَّائي (المتوفى 546) لحوادثَ جرت في عصره ولتسرُّب نفوذ بعض القوى المعادية للإسلام إلى جزيرة العرب وإلى البقاع المقدسة ومركز الإسلام فأشار إلى ذلك في قصيدة له وحَسَب له كلَّ حساب وحذّر العالمَ الإسلامي من سوء عاقبته وأثارَ غيرةَ أهلِ الحجاز وأبناءِ الجزيرة " انتهى .
فواجبٌ واللهِ تنظيفُ هذه الجزيرة من تلكم المناهج الفكرية المبتدعة والأهواء الضالة وأن تبقى عُنوانَ نُصرةٍ للكتاب والسنة والسيرِ على هدي سلف الأمة حربا للبدع والأهواء المُضِلّة .
12. وعليه ؛ فيجب تعميقُ الرابطة الدينية ثم يجب جَذمُ جُذورِ العصبية لغير الكتاب والسنة مهما ظهرت في أي مِسلاخ فهي عصبيات جاهلية مُنتِنَة تثيرُ الشغب وتشعلُ الفتن وتضرِمُ المشاكلَ وتزرعُ الإحنَ .
فواجبٌ محاصرتها وإطفاؤها وتحطيمُ جمعِها، سواءٌ أكانت عصبيةً قَبَليّة أم عصبيةً رياضية أو سواهُما من تلكم الموجات الكاسحة التي تبذل فيها جهود الشياطين حاملين جراثيم الهرج ركضا وراء السراب لنَقلَةِ شباب الأمة إلى آخر أشواط التخلف فيكونون هباء منثورا لا يقتلون صيدا ولا ينكؤون عدوا .
إنها قوة ما إن تفور إلا وتغور ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
13. يجب تعميق الوحدة الأخلاقية في قالب الإسلام لا غير فواجبٌ وقفُ مرحلة الإغارة على أخلاقيات هذه الجزيرة الإسلامية والانتقالِ منها إلى السلوكيات الغُثائية الوافدة في مجالات الحياة كافة وتحت إرخاء العَنان للترفّه والمد الحضاري الغُثائي الغربي ، والتهامِ اللذات والتسابق إلى عوامل الاسترخاء والتميّع والتفكيرِ المترهل والنَّهَم في جلب الكماليات والتسابُقِ إلى مظاهر البذخ حتى في اللباس للذكور والإناث كلُبس البنطال والقُبعة - الكبوس ، ويقال: البرنيطة - والألبسة الخالعة للنساء، وغيرها . فالله الله في لباسكم الإسلامي يا أهل الجزيرة .ومثل : المواقيت والمقاييس والموازين .. إلى آخر شهوةِ التشبّهِ بأعداء الله الكافرين .
وصدق صلى الله عليه وسلم : " لتتبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبرا بشبرٍ وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جُحر ضب لتبعتموهم " (17).(39/302)
وما هذا إلا لأن التشبه يفعل الأفاعيل فيُفقِدُ النفوسَ والبلادَ حُرمتها ومكانتها ويقطع صلتها عن الماضي ويشبه إلى حد بعيد (الميكروبات) فتلك تُمرض القلوب وهذه تُمرض الأبدان .
وإذا كانت الشريعة تنهى عن هذا عمومَ المسلمين ؛ فإن النهي يتأكد في حق أهل هذه الجزيرة .
وواجبٌ واللهِ بجانبِ وقفِ هذا المدِّ عنهم : ترميمُ ما فسد في هذه العصابة الكريمة وما داخَلَها من أخلاق وافدة غريبة عليها في دينها وعُنصُرِها .
ولا بدّ من دعوةٍ جَهيرة لصدّ هذه العوادي و الوِفاداتِ المفسدة لأخلاقيات هذه البلاد وكفّ الخطر المحيط بها، وإنشاءِ أهلِها خَلقا آخر على سَنَنِ الفطرة يمزقون بهَديِهِم وفِعالهم تلك الحملات الغُثائية وما ذلك على الله بعزيز .
14. التميُّز في عامة الهدي عملا وقدوة ودعوة على رسم الكتاب والسنة بلا مضاهاة ولا مشابهة ولا تَغَرُّب فإن الشريعة تنهى عن المضاهاة والتشبه بالمشركين والمنافقين وبالشياطين وبالأعاجم والمبتدعة وأهل الأهواء وبالنساء والمخنّثين .. ونحو ذلك من وجوه الانحراف القاضية على تميز الشخصية الإسلامية بأي نوع من أنواع الانحراف بما " قد يكون كفرا وقد يكون فسقا وقد يكون سيئة وقد يكون خطأ .
وهذا الانحراف أمرٌ تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان فلذلك أمِرَ العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا ".
وإن الشريعة تنهى عن التعرُّب ؛ بمعنى : الرجوعِ إلى البادية بعد الهجرة وبمعنى مشابهة الأعراب فيما يخالف هدي الإسلام ولو بالألفاظ ؛ كلفظ العَتمة : " لا تغلِبَنّكم الأعرابُ على اسم صلاتكم العتمة ؛ فإنما هي العشاء "(18) .وباديةُ كلِّ ديار بحسبها .
وتنهى نهيًا بالغا عن ذينِكَ المتضادَّين : (الحمراءِ) من غير العرب ويقال : أهل التسوية وهم : " (الشعوبية) مذهب أراذل الموالي و(القومية العربية) مذهب أراذل النصارى الذين قامت ثقافتهم على تمجيد القومية العربية ثم تسرب رشحها إلى أفئدةِ مُنحلّةِ المسلمين .. " (19) .
إن الشريعة كما تزدحم نصوصُها وقواعدُها في رفض هذه العوامل المنحرفة ؛ فإنها ترسم للمسلم هديا سويا يرفض التبعية والمحاكاة والانحراف ودعت إلى (تعريب) الأمة فيما أقره الإسلام من فاضل أخلاق العرب وصفاتهم وسماتهم وذلك من طرق شتى :
أ . تعريب لسان الأمة من رطانة الأعاجم إلى شعار الإسلام ولغة القرآن لسان العرب ؛" لأن الدين فيه أقوال وأعمال ، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله ، وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله " .
ب . تعريب أخلاقها وذلك بالمشابهة للسابقين من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان .
وفي هذا نظر إلى فقه السلف حيث فضّلوا كثيرا من غير العرب على العرب لتعريب أخلاقهم ومشابهتها بأخلاق السلف الصالح .
قال الأصمعي رحمه الله تعالى (20) : " عَجَمُ أصبهانَ قُريشُ العجمِ ".
ولما ساق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى آثارا مهمة على هذا المنحى ؛ قال : " إن الأمة مُجمِعة على هذه القاعدة وهي : فضلُ طريقة العرب السابقين وأن الفاضلَ من تَبِعَهم " .
ج. تعريب اللباس الذي هدى إليه الإسلام ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (21) : " وقال الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيره منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل والشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي وغيرهم في أصناف اللباس وأقسامه : ومن اللباس المكروه ما خالف زِيَّ العرب وأشبه زي الأعاجم وعادتهم ، ولفظُ عبدالقادر : ويُكره كل ماخالف زِيَّ العرب وشابه زِي العجم " .
وفي كتاب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (22) : " وعليكم بالمَعَدِّيَّةِ وذروا التنعم وزي العجم " .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : " وهذا ثابتٌ على شرط الصحيحين وفيه أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدِّية وهي زي بني معدّ بن عدنان وهم العرب فالمعدية نسبة إلى معدّ ونهى عن زي العجم وزي المشركين وهذا عام كما لا يخفى " .
فالزموا لباسكم يا أهل الجزيرة ، وذروا عنكم ظاهر الإثم وباطنه في لباس الكفار في القبعة والبنطال وما هذه الفتنة التي نشرت بين شَبَبَتِكم في لبس القبعة بعد عام 1411 ؛ إذ نثرت في الأسواق وعرضت بأرخص الأسعار، وتنافس في لبسها الأطفال والشباب ، وهي في حقيقتها شعار تعبدي للنصارى كالصليب والزنار ، فضلا عن أن تكون من التشبه بألبسة الكفار، فهي رمز تحول في الرجال كالمطالبة بخلع الحجاب رمز تحول في النساء .
وأقول : إن هذه " القبعة " التي راجت بين المراهقين والأطفال هي رمز علني للتحول فلا يجوز استيرادها ولا بيعها ولا لبسها ، ويجب منعها وواجب على ولي أمر الطفل والشاب منعه من لبسها فاتقوا الله في مواليدكم يا أهل الإسلام .
وقد أفردت رسالة بشأنها ؛ لخطرها . والله المستعان .(39/303)
د. التاريخ الهجري : الزموا التاريخ الإسلامي " التاريخ الهجري " في جميع مواقيت عباداتكم ومعاملاتكم وشؤون حياتكم فهو شعار إسلامي ينادي على إسلامكم ولا ترضوا به بديلا ولا مساويا فإنه لمواقيتكم كشعار الأذان لصلاتكم ؛ ذلك أن صلى الله عليه وسلم لما استشار أصحابه رضي الله عنهم ليجعل وسيلة إعلام ونداء للصلوات الخمس أشار بعضهم بضرب الناقوس وبعضهم بكذا .. فلم يرض صلى الله عليه وسلم بشعارات الكفار حتى فرض الأذان في القصة المشهورة .
وكذلك الشأن في التاريخ ، فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار في ذلك فأشار بعضهم بتاريخ النصارى وبعضهم بكذا ..فلم يرض - رضي الله عنه - بشعارات الكفار حتى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه باتخاذ الهجرة بداية للتاريخ فسُرَّ بذلك رضي الله عنه وأجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وجرى عليه عمل المسلمين .
15. وإذا كان الإسلام قد محا العصبية القبلية الممقوتة ؛ فإن المحافظة على سلاسل النسب مطلوبة والمحافظة عل نقاء النطف وأنسابها لا تعني العصبية بحال .
وعليه ؛ فينبغي سدّ منافذ التهجين لأول رائد للإسلام : العِرق العربي لتبقى سلاسل النسب صافية من الدَخَل وملامحُ العرب سالمةً من سُحنة العُلُوج والعَجَم صانها الله من تلكم الأذايا والبلايا .
واعتبار الكفاءة له آثار حسان في التربية وعزة الدار وقوام الأخلاق ومناهج الشرف .
" وأما التساهل في ذلك فله دَخَل عظيم في انحلال الأخلاق لأن للتزوج بمجهولات الأصول أو الأخلاق ، أو بسافلات الطباع والعادات ، أو بالغريبات جنسا مفاسدَ شتى لأن الرجل ينجرُّ طوعا أو كرها لأخلاق زوجته فإن كانت سافلة يتسفّل لا محالة وإن كانت غريبة يتبغّضُ في أهله وقومه وجرّته إلى موالاة قومها والتخلق بأخلاقهم حتى يكون أطوع لها من خلخالها .. " (23).
ولشاعر الحرم علي بن زين العابدين قصيدة معبرة في التحذير من الزواج بالأجنبيات ، منها :
العيون الزرق لا تعجبني *** إنني أهوى العيون العسلية
يافتاة الغرب لا تندفعي *** إنني أهوى فتاتي العربية
دينها الإسلام قد هذبها *** وارتضاها عفة فضلى تقية
صاغها الله عفافا وتقى *** وانتقاها من خيار البشرية
حرة النفس منيعا عرضها *** سمحة الأخلاق من رجس نقية
الوفاء المحض من شيمتها *** والحياء الحق سيماها الجلية
رقة في حشمة في طاعة *** تلك والله صفات قدسية
لم تكن قبلي لغيري متعة *** لا ولن تغدو لغيري في العشية
16. لا تكون جزيرة العرب سردابا للمولّد وألسنة الأعجمين .
بما أن لسان أهل هذه الجزيرة هو لسان العرب وبه نزل القرآن فهو لغة الإسلام ومفتاح المكتبة الإسلامية فإنه لايجوز تهجين اللسان العربي ويجب تنشيط حركة التصحيح للسان العرب وأن يكون أهلها في منأى عن هجنة اللسان وأن تبقى عروبته كلمة باقية في أعقابهم ينشرون في العالم تعريب اللسان ولا يمتد إليهم تغريب له بحال .
واعتبر في الحال الحاضرة - على الرغم من لوثة العجمة وهجنة العامية - فإنه لم يزل عندهم بقية صالحة من السليقة العربية فإذا قرؤوا النص من كتاب أو سنة فهموا المعنى المراد باطمئنان بعيدين عن رسوم التدقيقات و الإشكالات التي تفسد المعنى ولا يشير إليها المبنى خلافا لغيرهم ممن خاضوا هذه المحالة فتشتّتت منهم الأذهان وعميت عليهم الأفهام . والله المستعان .
17. وبما أن الاسم عنوان المسمى وشعار يدعى به المرء في الآخرة والأولى والاسم كالثوب إن قصر شان وإن طال شان ونحن مأسورون في قالب الشرع المطهر ومن أبرز سماته أن لا يكون في الاسم تشبه بأعداء الله ولا متابعة للفساق فعلى المسلمين عامة وعلى أهل هذه الجزيرة بخاصة العناية في تسمية مواليدهم بما لا ينابذ الشرع فإذا أتى إليها الوافد أو خرج منها القاطن فلا يسمع الآخرون إلا عبدَالله وعبدَ الرحمن ومحمدا وأحمدَ وعائشةَ وفاطمةَ .. وهكذا في الأسماء الشرعية في ألوف مؤلفة زخرت بها كتب السير والتراجم .
أما تلك الأسماء لأمم الكفر : فكتوريا ، سوزان .. فليس لها عند أهل الإيمان نصيب ومثلها أسماء الفساق الأخرى التي ليس لها بهاء ولا لياقة .. وهكذا في سلسلة يطول ذكرها .
أقول : على أهل هذه الجزيرة أن يتقوا الله وأن يلتزموا بأدب الإسلام وسنة صلى الله عليه وسلم وأن لا يؤذوا السمع والبصر في تلكم الأسماء المتخاذلة وإن التساهل في الأسماء كالتساهل في الأفعال كل منهما قبيح وعلى جهة الأحوال المدنية وضع الضوابط الشرعية لذلك .
18. هذه الجزيرة مضافة إلى أهلها : العرب والاعتبار لهم بالإسلام فلتبق للعرب والمسلمين نسبا ولسانا ودارا حتى لا تكون الإضافة شبه صورية وإنه لِعالي مكانتهم تعقد الآمال بناصيتهم .
والذي ينبغي أن تأتي وفود الإسلام إلى معقله جزيرة العرب حجاجا أو عمارا أو عاملين فيرتوون من التوحيد الصافي من أي شائبة ليعودوا إلى أهليهم من المسلمين : دعاة توحيد وبناة عقيدة .(39/304)
19. ويجب أن يكون دور حرّاس الشريعة في هذه الجزيرة من منجزات الحضارة الحديثة في الطب والهندسة والاقتصاد .. هو دور الأصالة والتجديد لا دور التبعية الماسخة والوأد الخفي - بل والعلني - لمقومات البلاد الأساسية : الإسلام ، وخوض عجلة الحياة في الأوحال .
وعليه ؛ فبعثُ روح الاكتساب والعمل والجد والتحصيل والتخصص في هذه العلوم من أهم المهمات لبناء الحياة في هذه الجزيرة على يد أبنائها فهم أسلم لها وأصلح لحالها من الدخلاء عليها .
20. حمل أهلها على الحماس الديني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعميق التقوى والشوق إلى الترقي لحماية الشريعة .
ومن الأوليات : شكرُ هذه النعم ببسط لسان التذكير وقلم التدوين بما أفاء الله عليهم وأنعم من هذه الخصائص وأن من شكرها المحافظة عليها وحفظها وإعمال الحياة في قالبها وأن أي تشويش عليها خدش لها ونقص لشكرها وأخيرا غيابٌ لمزيةِ القدوة .
ومن لازم ذلك الإجهاز على أي عادة أعجمية أو عامل حضاري غُثائي وأن يبقى حق الامتياز في هذه الجزيرة إسلاميا محضا يرفض كل تقليد دامس ولايقبل يد أي لامس . والله الهادي إلى سواء السبيل .
بكر بن عبدالله أبو زيد
=========
الهوامش :
(*) فصل من كتاب خصائص جزيرة العرب للفضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد .
[1] رسالة أبي الحسن الندوي : " إلى أين تتجه الجزيرة العربية وإلى أي غاية تنتهي ؟ "
[2] " كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب " للندوي ص 3-5
[3] رواه أحمد وغيره . وفي الباب عن جماعة من الصحابة ، فانظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة (924 و 1132 و 1133 و 1134 )
[4] رواه مسلم وأبو عبيد في الأموال
[5] انظر نقلا مهما عن الإمام الطبري - رحمه الله تعالى - في : " شرح البخاري " لابن بطال : (5/ 342-345).
[6] انظر التفصيل عن رايات صلى الله عليه وسلم وألويته في " التراتيب الإدارية " (1/ 317-323) للكتاني ، وكتاب " العلم العثماني " لأحمد تيمور .
[7] وقد تحطمت الشيوعية اليوم بيد زعمائها ، وانهدمت بمعول ساستها ، فالحمد لله رب العالمين .
[8] الندوي ص 45 .
[9] " كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب " ص44-45
[10] انظر : شرح البخاري لابن بطال : 5/345
[11] اقتضاء الصراط المستقيم ص281
[12] " كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب " ص8-10
[13] راجع باب : أسرار الحج في " حجة الله البالغة " للشيخ أحمد بن عبد الرحيم المعروف بولي الله الدهلوي .
[14] تقدم تخريجه
[15] رواه مسلم 146 ، وابن مندة في الإيمان 421 ، والبيهقي في الزهد الكبير 202.
وورد الحديث أيضا من طريق سعد بن أبي وقاص ، أخرجه أحمد 1/ 184 ، والبزار 3286 ، وابن مندة 424 ؛ بسند صحيح .
وفي الباب عن غيرهما بأسانيد فيها ضعف .
[16] تقدم تخريجه
[17] متفق عليه .
[18] رواه مسلم 644 ، وأبو داود 4984 ، والنسائي 1/270 . وانظر في كتب التفسير تفسير الآية 109 من سورة يوسف .
[19] " العرب والإسلام " للندوي ص8-11
[20] " اقتضاء الصراط المستقيم " ص207
[21] " اقتضاء الصراط المستقيم " ص137
[22] " اقتضاء الصراط المستقيم " ص125-129 ، وانظر شرحه في " الفروسية " لابن القيم رحمه الله . و "المعدية" : نسبة إلى معد بن عدنان .
[23] كتاب " أم القرى " ص180-181
================(39/305)
(39/306)
نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلا يشك مسلم له أدنى بصيرة بالتاريخ الإسلامي في فضل العرب المسلمين، وما قاموا به من حمل رسالة الإسلام في القرون المفضلة، وتبليغه لكافة الشعوب، والصدق في الدعوة إليه، والجهاد لنشره والدفاع عنه، وتحمل المشاق العظيمة في ذلك، حتى أظهرها الله على أيديهم وخفقت رايته في غالب المعمورة، وشاهد العالم على أيدي دعاة الإسلام في صدر الإسلام أكمل نظام وأعدل حاكم، ورأوا في الإسلام كل ما يريدون وينشدون من خير الدنيا والآخرة، ووجدوا في الإسلام تنظيم حياة سعيدة تكفل لهم العزة والكرامة والحرية من عبادة العبيد، وظلم المستبدين، والولاة الغاشمين
ووجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالله سبحانه: بعبادة عظيمة تصلهم بالله، وتطهر قلوبهم من الشرك والحقد والكبر، وتغرس فيها غاية الحب لله وكمال الذل له والتلذذ بمناجاته، وتعرفهم بربهم وبأنفسهم، وتذكرهم بالله وعظيم حقه كلما غفلوا أو كادوا أن يغفلوا وجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالرسو صلى الله عليه وسلم وماذا يجب عليهم من حقه والسير في سبيله، ووجدوا في الإسلام أيضا تنظيم العلاقات التي بين الراعي والرعية، وبين الرجل وأهله، وبين الرجل وأقاربه، وبين الرجل وإخوانه المسلمين، وبين المسلمين والكفار، بعبارات واضحة وأساليب جلية ووجدوا من الرسو صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة وأتباعهم بإحسان تفسير ذلك بأخلاقهم الحميدة وأعمالهم المجيدة، فأحب الناس الإسلام وعظموه ودخلوا فيه أفواجا، وأدركوا فيه كل خير وطمأنينة وصلاح وإصلاح
والكلام في مزايا الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام سامية وأخلاق كريمة، تصلح القلوب، وتؤلف بينها وتربطها برباط وثيق من المودة في الله سبحانه، والتفاني في نصر دينه، والتمسك بتعاليمه، والتواصي بالحق والصبر عليه، لا ريب أن الكلام في هذا الباب يطول والقصد في هذه الكلمة الإشارة إلى ما حصل على أيدي المسلمين من العرب في صدر الإسلام من الجهاد والصبر، وما أكرمهم الله به من حمل مشعل الإسلام إلى غالب المعمورة، وما حصل للعالم من الرغبة في الإسلام، والمسارعة إلى الدخول فيه، لما اشتمل عليه من الأحكام الرشيدة والتعاليم السمحة، والتعريف بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وعظيم حقه على عباده، ولما اتصف به حملته والدعاة إليه من تمثيل أحكام الإسلام في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، حتى صاروا بذلك خير أمة أخرجت للناس، وحققوا بذلك معنى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ومعنى الآية كما قال أبو هريرة رضي الله عنه كنتم خير الناس للناس
لا يشك مسلم قد عرف ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام فيما ذكرناه، فهو من الحقائق المعلومة بين المسلمين، ولا يشك مسلم في ما للمسلمين غير العرب من الفضل والجهاد المشكور في مساعدة إخوانهم من العرب المسلمين في نشر هذا الدين والجهاد في إعلاء كلمته، وتبليغه سكان المعمورة، شكر الله للجميع مساعيهم الجليلة، وجعلنا من أتباعهم بإحسان، إنه على كل شيء قدير
وإنما الذي ينكر اليوم ويستغرب صدوره عن كثير من أبناء الإسلام من العرب، انصرافهم عن الدعوة إلى هذا الدين العظيم، الذي رفعهم الله به، وأعزهم بحمل رسالته، وجعلهم ملوك الدنيا وسادة العالم، لما حملوا لواءه وجاهدوا في سبيله بصدق وإخلاص، حتى فتحوا الدنيا، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، واستولوا على خزائن مملكتيهما، وأنفقوها في سبيل الله سبحانه، وكانوا حينذاك في غاية من الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والتحاب في الله سبحانه والمؤاخاة فيه، لا فرق عندهم بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين شرقي وغربي، بل هم في ذلك إخوان متحابون في الله، متعاونون على البر والتقوى، مجاهدون في سبيل الله، صابرون على دين الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم، يوالون في الإسلام، ويعادون فيه، ويحبون عليه، ويبغضون عليه، ولذلك كفاهم الله مكايد أعدائهم، وكتب لهم النصر في جميع ميادين جهادهم، كما وعدهم الله سبحانه بذلك في كتابه المبين حيث يقول سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(39/307)
ثم بعد هذا الشرف العظيم والنصر المؤزر من المولى سبحانه لعباده المؤمنين من العرب وغيرهم، نرى نفرا من أبنائنا يخدعون بالمبادئ المنحرفة، ويدعون إلى غير الإسلام، كأنهم لم يعرفوا فضل الإسلام وما حصل لأسلافهم بالإسلام من العزة والكرامة، والمجد الشامخ والمجتمع القوي الذي كتبه الله لأهل الإسلام الصادقين، حتى إن عدوهم ليخافهم وهو عنهم مسيرة شهر، نسي هؤلاء أو تناسوا هذا المجد المؤثل والعز العظيم والملك الكبير، الذي ناله المسلمون بالإسلام، فصار هؤلاء الأبناء يدعون إلى التكتل والتجمع حول القومية العربية، ويعرفونها بأنها اجتماع وتكاتف لتطهير البلاد من العدو المستعمر، ولتحصيل المصالح المشتركة، واستعادة المجد السليب
وقد اختلف الدعاة إليها في عناصرها، فمن قائل: أنها الوطن والنسب واللغة العربية ومن قائل: أنها اللغة فقط ومن قائل: أنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال ومن قائل غير ذلك وأما الدين فليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وقد صرح كثير بأن الدين لا دخل له في القومية، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره وهدفها كما يعلم من كلامهم هو التكتل والتجمع والتكاتف ضد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة كما سلف، ولا ريب بأن هذا غرض نبيل وقصد جميل
فإذا كان هذا هو الهدف، ففي الإسلام من الحث على ذلك والدعوة إليه، وإيجاب التكاتف والتعاون لنصر الإسلام، وحمايته من كيد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة، ما هو أكمل وأعظم مما يرتجى من وراء القومية ومعلوم عند كل ذي لب سليم أن التكاتف والتعاون الذي مصدره القلوب، والإيمان بصحة الهدف، وسلامة العاقبة في الحياة وبعد الممات كما في الإسلام الصحيح - أعظم من التعاون والتكاتف على أمر اخترعه البشر ولم ينزل به وحي السماء، ولا تؤمن عاقبته لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضا فالتكاتف والتعاون الصادر عن إيمان بالله، وصدق في معاملته ومعاملة عباده، مضمون له النصر وحسن العاقبة - كما في الآيات الكريمات التي أسلفنا ذكرها - بخلاف التكاتف والتعاون المبني على فكرة جاهلية تقليدية، لم يأت بها شرع ولم يضمن لها النصر.
وهذا كله على سبيل التنزل لدعاة القومية، والرغبة في إيضاح الحقائق لطالب الحق وإلا فمن خبر أحوال القوميين، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور، فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات، يرقص لها الاستعمار طربا، ويساعد على وجودها ورفع مستواها - وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريرا للعرب عن دينهم، وتشجيعا لهم على الاشتغال بقوميتهم، والدعوة إليها والإعراض عن دينهم
ومن زعم من دعاة القومية أن الدين من عناصرها، فقد فرض أخطاء على القوميين، وقال عليهم ما لم يقولوا لأن الدين يخالف أسسهم التي بنوا القومية عليها، ويخالف صريح كلامهم ويباين ما يقصدونه من تكتيل العرب، على اختلاف أديانهم تحت راية القومية
ولهذا تجد من يجعل الدين من عناصر القومية يتناقض في كلامه، فيثبته تارة وينفيه أخرى، وما ذلك إلا أنه لم يقله عن عقيدة وإيمان، وإنما قاله مجاملة لأهل الإسلام، أو عن جهل بحقيقة القومية وهدفها، وهكذا قول من قال: إنها تخدم الإسلام أو تسانده، وكل ذلك بعيد عن الحقيقة والواقع، وإنما الحقيقة أنها تنافس الإسلام وتحاربه في عقر داره، وتطلي ببعض خصائصه ترويجا لها وتلبيسا أو جهلا وتقليدا
ولو كانت الدعوة إلى القومية يراد منها نصر الإسلام وحماية شعائره، لكرس القوميون جهدهم في الدعوة إليه ومناصرته، وتحكيم دستوره النازل من فوق سبع سماوات، ولبادروا إلى التخلق بأخلاقه، والعمل بما يدعو إليه، وابتعدوا عن كل ما يخالفه؛ لأنه الأصل الأصيل والهدف الأعظم، ولأنه السبيل الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عن سبيله باء بالخيبة والندامة، وخسر الدنيا والآخرة، فلو كان دعاة القومية يقصدون بدعوتهم إليها تعظيم الإسلام وخدمته، ورفع شأنه، لما اقتصروا على الدعوة للخادم دون المخدوم، وكرسوا لهذا الخادم جهودهم، وغضبوا من صوت دعاة الإسلام إذا دعوا إليه، وحذروا مما يخالفه أو يقف حجرا في طريقه(39/308)
لو كان دعاة القومية يريدون بدعوتهم إعلاء كلمة الإسلام، واجتماع العرب عليه، لنصحوا العرب ودعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام، وتنفيذ أحكامه، ولشجعوهم على نصره ودعوة الناس إليه، فإن العرب أولى الناس بأن ينصروا الإسلام، ويحموه من مكايد الأعداء ويحكموه فيما شجر بينهم، كما فعل أسلافهم؛ لأنه عزهم وذكرهم ومجدهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم، فاعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره، بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان
نشرة صدرت في كتاب عن المكتب الإسلامي في بيروت ودمشق عام 1400 هـ الطبعة الرابعة.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإسلام وأهله، وذلك لوجوه
الأول أن الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم ؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه؛ وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام، والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق والاختلاف، ويدعو إلى الاجتماع والوئام، والتمسك بحبل الحق والوفاة عليه، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام، وأن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام، ويدل على ذلك أيضا أن هذه الفكرة، أعني الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا من أعدائنا الغربيين، وكادوا بها المسلمين، ويقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم، وتفريق شملهم، على قاعدتهم المشئومة (فرق تسد) وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة، مما يحزن القلوب ويدمي العيون
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية، ومنهم مؤلف الموسوعة العربية: أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو، حتى عقد لها أول مؤتمر في باريس من نحو ستين سنة، وذلك عام 1910 م، وكثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية، وتعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها، بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سورية في ذلك الوقت، إلي آخر ما ذكروا، فهل تظن أيها القارئ أن خصومنا وأعداءنا يسعون في مصالحنا، بابتداعهم الدعوة إلى القومية العربية، وعقد المؤتمرات لها، وابتعاث المبشرين بها، لا والله، إنهم لا يريدون بنا خيرا ولا يعملون لمصالحنا، إنما يعملون ويسعون لتحطيمنا وتمزيق شملنا، والقضاء على ما بقي من ديننا، وكفى بذلك دليلا لكل ذي لب، على ما يراد من وراء الدعوة إلى القومية العربية، وأنها معول غربي استعماري، يراد به تفريقنا وإبعادنا عن ديننا كما سلف
ومن العجب الذي لا ينقضي، أن كثيرا من شبابنا وكتابنا - ألهمهم الله رشدهم - خفيت عليهم هذه الحقيقة، حتى ظنوا أن التكتل والتجمع حول القومية العربية، والمناصرة لها، أنفع للعرب وأضر للعدو، من التجمع والتكتل حول الإسلام ومناصرته، وهذا بلا شك ظن خاطئ، واعتقاد غير مطابق للحقيقة.(39/309)
نعم لا شك أنه يحزن المستعمر ويقلق راحته كل تجمع وتكتل ضد مصلحته، ولكن خوفه من التجمع والتكتل حول الإسلام أعظم وأكبر، ولذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية، وحفز العرب إليها، ليشغلهم بها عن الإسلام، وليقطع بها صلتهم بالله سبحانه. لأنهم إذا فقدوا الإسلام حرموا ما ضمنه الله لهم من النصر، الذي وعدهم به في الآيتين السابقتين، وفي قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
ومعلوم عند جميع العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد ضررين، فارتكاب الأدنى منهما أولى، حذرا من الضرر الأكبر، وقد دل الشرع والقدر على هذه القاعدة، وقد عرفها المستعمر وسلكها في هذا الباب وغيره فتنبه يا أخي واحذر مكايد الشيطان والاستعمار وأوليائهما، تنج من ضرر عظيم، وخطر كبير، وعواقب سيئة عافاني الله وإياك والمسلمين من ذلك
ومما تقدم يعلم القارئ اليقظ أن الدعوة إلى القومية العربية - كما أنها إساءة إلى الإسلام ومحاربة له في بلاده - فهي أيضا إساءة إلى العرب أنفسهم، وجناية عليهم عظيمة. لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر، وشرفهم الأعظم ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها وهذه غايتها:؟! ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير: أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة: (اسمعوها مني صريحة: أيها العرب) حيث يقول في صفحة 27 و 28 ما نصه:
(فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي، رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة والرسالة، وإلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان، وعن أقوى شخصية ظهرت في العالم، وعن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم والأفراد والأشتات، إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية، التي سجلها تاريخ هذه الأمة، وإنها حركة هدم وتخريب، تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، وإنها خطوة حاسمة مشئومة، في سبيل الدمار القومي والانتحار الاجتماعي) انتهى.
فتأمل: أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي الحسني الكبير الذي قد سبر أحوال العالم وعرف نتائج الدعوة إلى القوميات وسوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب والمسلمون اليوم، من فتنة كبرى ومصيبة عظمى، بهذه الدعوة المشئومة، وقى الله المسلمين شرها، ووفق العرب وجميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب
ثم لا يخفاك أيها القارئ الكريم غربة الإسلام اليوم، وقلة أنصاره والمتحمسين لدعوته، وكثرة المحاربين له والمتنكرين لأحكامه وتعاليمه، فالواجب على أبناء الإسلام بدلا من التحمس للقومية والمناصرة لدعاتها: أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام وتعظيمه في قلوب الناس، وأن يجتهدوا في نشر محاسنه وإعلان أحكامه العادلة، وتعاليمه السمحة الصافية، نقية من شوائب الشرك والخرافات والبدع والأهواءه حتى يعيدوا بذلك ما درس من مجد أسلافهم، وحماستهم للإسلام، وتكريس قواهم لنصرته وحمايته، والرد على خصومه بشتى الأساليب الناجعة، وأنواع الحجج والبراهين الساطعة ولا شك أن هذا واجب متحتم، وفرض لازم على جميع أبناء الإسلام، كل منهم بحسب ما أعطاه الله من المقدرة والإمكانات، التي يستطيع بها القيام بما أوجب الله عليه من النصر لدينه والدعوة إليه، فنسأل الله أن يمن على الجميع بذلك، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يقر أعين المسلمين جميعا بنصر الإسلام الصافي من الشوائب، وظهوره على جميع خصومه في القريب العاجل، إنه سبحانه خير مسئول وأقرب مجيب
الوجه الثاني: أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام، ومناصرة لغير الحق، وكم جرت الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة، وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب قال شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصهم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا ) انتهى
ومما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ(39/310)
وفي سنن أبي داود ، عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية وفي صحيح مسلم عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية، ولا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر؛ لأن القومية ليست دينا سماويا يمنع أهله من البغي والفخر، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم، فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق
ومن النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي وغيره، عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوبا وقبائل للتعارف لا للتفاخر والتعاظم، وجعل أكرمهم عنده هو أتقاهم، وهكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى ويرشد إلى سنة الجاهلية التكبر والتفاخر بالأسلاف والأحساب، والإسلام بخلاف ذلك، يدعو إلى التواضع والتقوى والتحاب في الله، وأن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم، جسدا واحدا، وبناء واحدا يشد بعضهم بعضا، ويألم بعضهم لبعض، كما في الحديث الصحيح، عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وقال صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فأنشدك بالله أيها القومي: هل قوميتك تدعو إلى هذه الأخلاق الفاضلة، من الرحمة للمسلمين من العرب والعجم، والعطف عليهم والتألم لآلامهم؟ لا والله، وإنما تدعو إلى موالاة من انخرط في سلكها، ونصب العداوة لمن تنكر لها، فتنبه أيها المسلم الراغب في النجاة، وانظر إلى حقائق الأمور بمرآة العدالة والتجرد من التعصب والهوى، حتى ترى الحقائق على ما هي عليه، أرشدني الله وإياك إلى أسباب النجاة
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن غلاما من المهاجرين وغلاما من الأنصار تنازعا، فقال المهاجري: يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار فسمع ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم فإذا كان من انتسب إلى المهاجرين واستنصر بهم على إخوانهم في الدين، أو إلى الأنصار واستنصر بهم على إخوانهم في الدين يكون قد دعا بدعوى الجاهلية، مع كونهما اسمين محبوبين لله سبحانه، وقد أثنى الله على أهلهما ثناء عظيما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الآية، فكيف تكون حال من انتسب إلى القومية واستنصر بها وغضب لها؟ أفلا يكون أولى ثم أولي بأن يكون قد دعا بدعوى الجاهلية؟ لا شك أن هذا من أوضح الواضحات
ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري ، أن صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم" قيل يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله وهذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، واعتبارها دعوة جاهلية، يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم، وإن صاموا وصلوا، وزعموا أنهم مسلمون فيا له من وعيد شديد، وتحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك
وهنا شبهة يذكرها بعض دعاة القومية أحب أن أكشفها للقارئ، وهي أن بعض دعاة القومية زعم أن النهي عن الدعوة إلى القومية العربية والتحذير منها يتضمن تنقص العرب وإنكار فضلهم.(39/311)
والجواب أن يقال: لا شك أن هذا زعم خاطئ واعتقاد غير صحيح، فإن الاعتراف بفضل العرب، وما سبق لهم في صدر الإسلام من أعمال مجيدة لا يشك فيه مسلم عرف التاريخ كما أسلفنا، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم، ومنهم أبو العباس بن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم) أن مذهب أهل السنة تفضيل جنس العرب على غيرهم، وأورد في ذلك أحاديث تدل على ذلك، ولكن لا يلزم من الاعتراف بفضلهم أن يجعلوا عمادا يتكتل حوله، ويوالي عليه ويعادي عليه، وإنما ذلك من حق الإسلام الذي أعزهم الله به، وأحيا فكرهم ورفع شأنهم، فهذا لون وهذا لون، ثم هذا الفضل الذي امتازوا به على غيرهم، وما من الله به عليهم من فصاحة اللسان، ونزول القرآن الكريم بلغتهم، وإرسال الرسول العام بلسانهم، ليس مما يقدمهم عند الله في الآخرة، ولا يوجب لهم النجاة إذا لم يؤمنوا ويتقوا، وليس ذلك أيضا يوجب تفضيلهم على غيرهم من جهة الدين، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم، كما تقدم في الآية الكريمة والحديث الشريف، بل هذا الفضل عند أهل التحقيق يوجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه أكثر من غيرهم، وأن يضاعفوا الجهود في نصر دينه الذي رفعهم الله به، وأن يوالوا عليه ويعادوا عليه، ودون أن يلتفتوا إلى قومية أو غيرها من الأفكار المسمومة، والدعوات المشئومة، ولو كانت أنسابهم وحدها تنفعهم شيئا لم يكن أبو لهب وأضرابه من أصحاب النار، ولو كانت تنفعهم بدون الإيمان لم يقل لهم صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا وبذلك يعلم القارئ المسلم من الهوى أن الشبهة المذكورة شبهة واهية لا أساس لها من الشرع المطهر، ولا من المنطق السليم البعيد من الهوى.
وهنا شبهة أخرى وهي قول بعضهم: أنه قد روي عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ذل العرب ذل الإسلام ورواه بعضهم بلفظ: إذا عز العرب عز الإسلام قالوا: وهذا يدل علي أن انتصار القومية العربية والدعوة إليها انتصار للإسلام ودعوة إليه، والجواب أن يقال: يعلم كل ذي لب سليم وبصيرة بالإسلام، أن هذه سفسطة في السمعيات، ومغالطة في الحقائق، وتأويل للحديث على غير تأويله، سواء صح أم لم يصح، فإن الواقع يشهد بخلاف ما ذكره القائل، فقد ذل العرب يوم بدر ويوم الأحزاب، وصار في ذلهم عز الإسلام وظهوره، وانتصر العرب يوم أحد وصار في انتصارهم ذل المسلمين والمضرة عليهم، ولكن الله سبحانه لطف بأوليائه وأحسن لهم العاقبة، فهل يستطيع هذا القائل أن يدعي خلاف هذا الواقع؟ وهل يمكن أن يقول: إن انتصار العرب الكافرين بالله، المحاربين لدينه، انتصار للإسلام، من قال هذا فقد قال خلاف الحق، وهو إما جاهل أو متجاهل، يريد أن يلبس الحق بالباطل ويخدع ضعفاء البصائر، سبحان الله ما أعظم شأنه
ثم أعود فأوضح للقارئ أن الحديث المذكور ضعيف الإسناد، ولا يصح عن صلى الله عليه وسلم قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في: (مجمع الزوائد) لما ذكر هذا الحديث بلفظ: إذا ذلت العرب ذل الإسلام رواه أبو يعلى ، وفي إسناده محمد بن الخطاب ضعفه الأزدي وغيره، ووثقه ابن حبان ) انتهى.
وقال الحافظ الذهبي في (الميزان) في ترجمة محمد المذكور: (قال أبو حاتم : لا أعرفه وقال الأزدي : منكر الحديث) انتهى قلت: وفي إسناده أيضا علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف عند جمهور من المحدثين لا يحتج بحديثه، لو سلم الإسناد من غيره، فكيف وفي الإسناد من هو أضعف منه، وهو محمد بن الخطاب المذكور وأما توثيق ابن حبان له، فلا يعتمد عليه لأنه معروف بالتساهل وقد خالفه غيره. ولو صح الحديث لكان معناه: إذا ذل العرب الحاملون راية الإسلام والدعوة إليه، لا العرب المتنكرون له الداعون إلى غيره ولا يجوز أن يرد في سنة رسول الله كل ما يخالف القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أبدا، فإن كلام الله لا يتناقض، وكلام رسول ا صلى الله عليه وسلم كذلك، والسنة لا تخالف القرآن بل تصدقه وتوافقه، وتدل على معناه وتوضح ما أجمل فيه
وقد علق الله سبحانه في القرآن النصر على الإيمان بالله والنصر لدينه، فلا يجوز أن يرد في السنة ما يناقض ذلك، فتنبه أيها المؤمن، واحذر من الشبهات المضللة، والأحاديث المكذوبة، والآراء الفاسدة والأفكار المسمومة، فإن الخطر عظيم، والمعصوم من عصمه الله سبحانه، فاعتصم به وتوكل عليه وتفقه في دينه، واستقم عليه تفز بالنجاة والعاقبة الحميدة.(39/312)
وهذه الشبه وأمثالها تفسر لنا ما صح به الحديث عن صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة: أنه قال: كان الناس يسألون الرسو صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال "نعم" قلت فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال "نعم وفيه دخن" قلت ما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم" دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت يا رسول الله صفهم لنا قال "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال لتلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ، فهذا الحديث العظيم الجليل يرشدك أيها المسلم إلى أن هؤلاء الدعاة اليوم، الذين يدعون إلى أنواع من الباطل كالقومية العربية، والاشتراكية والرأسمالية الغاشمة، وإلى الخلاعة والحرية المطلقة وأنواع الفساد كلهم دعاة على أبواب جهنم، سواء علموا أم لم يعلموا، من أجابهم إلى باطلهم قذفوه في جهنم، ولا شك أن هذا الحديث الجليل من أعلام النبوة، ودلائل صحة رسالة صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالواقع قبل وقوعه فوقع كما أخبر
فنسأل الله لنا ولسائر المسلمين العافية من مضلات الفتن، ونسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين وزعماءهم حتى ينصروا دينه، ويحاربوا ما خالفه إنه ولي ذلك والقادر عليه
الوجه الثالث من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية
هو أنها سلم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من غير المسلمين، واتخاذهم بطانة، والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير، والمخالفة لنصوص القرآن والسنة، الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم، ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة والنصوص في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ الآية سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه،
هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى، ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم، تحت لواء القومية العربية، ويقولون: إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي، وإن تفرقت أديانهم، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله، وتعد لحدود الله، وموالاة ومعاداة، وحب وبغض على غير دين الله؟ فما أعظم ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج والقرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ويقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
ونظام القومية يقول: كلهم أولياء مسلمهم وكافرهم والله يقول: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ويقول سبحانه قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وشرع القومية أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول: أقصوا الدين عن القومية، وافصلوا الدين عن الدولة، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم، حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم، وكأن الإسلام وقف في طريقهم، وحال بينهم وبين أمجادهم، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية، سبحانك هذا بهتان عظيم(39/313)
والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والتحذير من توليهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن، فلا ينبغي أن نطيل بذكرها وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل ، وأبو لهب ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد صلى الله عليه وسلم وبعده إلي يومنا هذا، إخوانا وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة، ومن سلك سبيله من العرب إلى يومنا هذا. هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه، وإن أنكره بعض دعاتها جهلا أو تجاهلا وتلبيسا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أوجب الله على المسلمين: أن يتكاتفوا ويتكتلوا تحت راية الإسلام، وأن يكونوا جسدا واحدا، وبناء متماسكا ضد عدوهم، ووعدهم على ذلك النصر والعز والعاقبة الحميدة، كما تقدم ذلك في كثير من الآيات، وكما في قوله تعالي: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فوعد الله سبحانه عباده المرسلين، وجنده المؤمنين بالنصر والغلبة، واستخلافهم في الأرض والتمكين لدينهم، وهو الصادق في وعده، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ وإنما يتخلف هذا الوعد في بعض الأحيان بسبب تقصير المسلمين، وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان بالله، والنصر لدينه، كما هو الواقع، فالذنب ذنبنا لا ذنب الإسلام، والمصيبة حصلت بما كسبت أيدينا من الخطايا، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
فالواجب على العرب وغيره: التوبة إلى الله سبحانه، والتمسك بدينه، والتواصي بحقه، وتحكيم شريعته، والجهاد في سبيله، والاستقامة على ذلك من الرؤساء وغيرهم، فبذلك يحصل لهم النصر ويهزم العدو، ويحصل التمكين في الأرض، وإن قل عددنا وعدتنا، ولا ريب أن من أهم الواجبات الإيمانية: أخذ الحذر من عدونا، وأن نعد له ما نستطيع من القوة، وذلك من تمام الإيمان، ومن الأخذ بالأسباب التي يتعين الأخذ بها، ولا يجوز إهمالها، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وليس للمسلمين أن يوالوا الكافرين أو يستعينوا بهم على أعدائهم، فإنهم من الأعداء ولا تؤمن غائلتهم وقد حرم الله موالاتهم، ونهى عن اتخاذهم بطانة، وحكم على من تولاهم بأنه منهم، وأخبر أن الجميع من الظالمين، كما سبق ذلك في الآيات المحكمات، وثبت في: (صحيح مسلم )، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول ا صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك وقال له رسول ا صلى الله عليه وسلم لتؤمن بالله ورسوله؟ قال لا قال "فارجع فلن استعين بمشرك قالت ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة فقال لا قال "فارجع فلن استعين بمشرك" قالت ثم رجع فأدركه في البيراء فقال له كما قال أول مرة "تؤمن بالله ورسوله؟" قال نعم فقال له رسول ا صلى الله عليه وسلم "فانطلق" فهذا الحديث الجليل، يرشدك إلى ترك الاستعانة بالمشركين، ويدل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يدخلوا في جيشهم غيرهم، لا من العرب ولا من غير العرب؛ لأن الكافر عدو لا يؤمن. وليعلم أعداء الله أن المسلمين ليسوا في حاجة إليهم، إذا اعتصموا بالله، وصدقوا في معاملته. لأن النصر بيده لا بيد غيره، وقد وعد به المؤمنين، وإن قل عددهم وعدتهم كما سبق في الآيات وكما جرى لأهل الإسلام في صدر الإسلام،(39/314)
ويدل على تلك أيضا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ فانظر أيها المؤمن إلى كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام كيف يحاربان موالاة الكفار، والاستعانة بهم واتخاذهم بطانة، والله سبحانه أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم، فلو كان في اتخاذهم الكفار أولياء من العرب أو غيرهم والاستعانة بهم مصلحة راجحة، لأذن الله فيه وأباحه لعباده، ولكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى، والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله، وأخبر في آيات أخرى أن طاعة الكفار، وخروجهم في جيش المسلمين يضرهم، ولا يزيدهم ذلك إلا خبالا، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
فكفى بهذه الآيات تحذيرا من طاعة الكفار، والاستعانة بهم، وتنفيرا منهم، وإيضاحا لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، عافى الله المسلمين من ذلك، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ أوضح سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فإذا لم يفعل المسلمون ذلك، واختلط الكفار بالمسلمين، وصار بعضهم أولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك بما يحصل في القلوب من الشكوك، والركون إلى أهل الباطل والميل إليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم بأعدائهم وموالاة بعضهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من أكثر المدعين للإسلام حيث والوا الكافرين، واتخذوهم بطانة، فالتبست عليهم الأمور بسبب ذلك، حتى صاروا لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والأضرار ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وقد احتج بعض دعاة القومية على جواز موالاة النصارى والاستعانة بهم بقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى وزعموا أنها ترشد إلى جواز موالاة النصارى؛ لكونهم أقرب مودة للذين آمنوا من غيرهم،
وهذا خطأ ظاهر وتأويل للقرآن بالرأي المجرد، المصادم للآيات المحكمات المتقدم ذكرها وغيرها، ولما ثبت في السنة المطهرة من التحذير من موالاة الكفار، من أهل الكتاب وغيرهم وترك الاستعانة بهم، وقد ورد عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار والواجب: أن تفسر الآيات بعضها ببعض، ولا يجوز أن يفسر شيء منها بما يخالف بقيتها، وليس في هذه الآية بحمد الله ما يخالف الآيات الدالة على تحريم موالاة الكفار من النصارى وغيرهم، وإنما أتي هذا الداعية من سوء فهمه وتقصيره في تدبر الآيات، والنظر في معناها، والاستعانة على ذلك بكلام أهل التفسير المعروفين بالعلم والأمانة والإمامة، ومعنى هذه الآية على ما قال أهل التفسير، وعلى ما يظهر من صريح لفظها: أن النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود والمشركين، وليس معناها: أنهم يوادون المؤمنين، ولا أن المؤمنين يوادونهم، ولو فرض أن النصارى أحبوا المؤمنين وأظهروا مودتهم لهم لم يجز لأهل الإيمان أن يوادوهم ويوالوهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نهاهم عن ذلك في الآيات السالفات ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ الآية.
وقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولا ريب أن النصارى من المحادين لله ولرسوله، النابذين لشريعته، المكذبين له ولرسوله عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يوادونهم أو يتخذهم بطانة؟ نعوذ بالله من الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
وزعم آخر من دعاة القومية أن الله سبحانه قد سهل في موالاة الكفار الذين لم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(39/315)
وهذا كالذي قبله احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها. والله سبحانه حرم موالاةالكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم، ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله ما لم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدل عليه كتاب ولا سنة؟ سبحان الله ما أحلمه، وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم: الرخصة في الإحسان إلى الكفار، والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا، بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها، وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير، فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك، فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سببا في الدخول في الإسلام، والرغبة فيه، وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والأبصار.
وللقوميين هنا شبهة، وهي أنهم يقولون: إن التكتل حول القومية العربية بدون تفرقة بين المسلم والكافر يجعل العرب وحدة قوية، وبناء شامخا، يهابهم عدوهم ويحترم حقوقهم، وإذا انفصل المسلمون عن غيرهم من العرب، ضعفوا وطمع فيهم العدو، وشبهة أخرى وهي أنهم يقولون: إن العرب إذا اعتصموا بالإسلام، وتجمعوا حول رايته، حقد عليهم أعداء الإسلام، ولم يعطوهم حقوقهم، وتربصوا بهم الدوائر، خوفا من أن يثيروها حروبا إسلامية، ليستعيدوا بها مجدهم السالف، وهذا يضرنا ويؤخر حقوقنا ومصالحنا المتعلقة بأعدائنا، ويثير غضبهم علينا.
والجواب: أن يقال: إن اجتماع المسلمين حول الإسلام، واعتصامهم بحبل الله، وتحكيمهم لشريعته، وانفصالهم من أعدائهم والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، هو سبب نصر الله لهم وحمايتهم من كيد أعدائهم، وهو وسيلة إنزال الله الرعب في قلوب الأعداء من الكافرين، حتى يهابوهم ويعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، كما حصل لأسلافهم المؤمنين. فقد كان بين أظهرهم من اليهود والنصارى الجمع الغفير، فلم يوالوهم ولم يستعينوا بهم، بل والوا الله وحده، واستعانوا به وحده، فحماهم وأيدهم ونصرهم على عدوهم والقرآن والسنة شاهدان بذلك، والتاريخ الإسلامي ناطق بذلك، قد علمه المسلم والكافر. وقد خرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى المشركين، وفي المدينة اليهود، فلم يستعن بهم، والمسلمون في ذلك الوقت ليسوا بالكثرة، وحاجتهم إلى الأنصار والأعوان شديدة، ومع ذلك فلم يستعن نبي الله والمسلمون باليهود، لا يوم بدر ولا يوم أحد، مع شدة الحاجة إلى المعين في ذلك الوقت، ولا سيما يوم أحد، وفي ذلك أوضح دلالة على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بأعدائهم، ولا يجوز أن يوالوهم أو يدخلوهم في جيشهم، لكونهم لا تؤمن غائلتهم، ولما في مخالطتهم من الفساد الكبير، وتغيير أخلاق المسلمين، وإلقاء الشبهة، وأسباب الشحناء والعداوة بينهم، ومن لم تسعه طريقة الرسو صلى الله عليه وسلم وطريقة المؤمنين السابقين فلا وسع الله عليه.
وأما حقد غير المسلمين على المسلمين إذا تجمعوا حول الإسلام، فذلك مما يرضي الله عن المؤمنين ويوجب لهم نصره، حيث أغضبوا أعداءه من أجل رضاه، ونصر دينه والحماية لشرعه. ولن يزول حقد الكفار على المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم واتبعوا ملة أعدائهم، وصاروا في حزبهم، وذلك هو الضلال البعيد والكفر الصريح، وسبب العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ فأبان الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات البينات: أن الكفار لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، وندع شريعتنا، وإنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.(39/316)
وأخبر أنه متى أطعناهم واتبعنا أهواءهم، كنا من المخلدين في النار، إذا متنا على ذلك، نسأل الله العافية من ذلك، ونعوذ بالله من موجبات غضبه وأسباب انتقامه.
الوجه الرابع: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف، وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
وقال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها، كما قال عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ(39/317)
فالواجب على زعماء القومية ودعاتها، أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم، وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشئومة، وغاياتها الوخيمة، وأن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلا من الدعوة إلى قومية أو وطنية، وليعلموا يقينا أنهم إن لم يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا عليه ويحكموه فيما شجر بينهم، فسوف ينتقم الله منهم، ويفرق جمعهم، ويسلبهم نعمته، ويستبدل قوما غيرهم، يتمسكون بدينه ويحاربون ما خالفه كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فيا معشر القوميين: راقبوا الله سبحانه، وتوبوا إليه، وخافوا عذابه واشكروه على إنعامه، وذلك بتعظيم كتابه وسنة نبي صلى الله عليه وسلم والعمل بهما ودعوة الناس إلى ذلك، وتحذيرهم مما يخالفه، ففي ذلك عز الدنيا والآخرة، وصلاح أمر المجتمع، وراحة الضمير وطمأنينة القلب، والسعادة العاجلة والآجلة، والأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وكل ما خالف ذلك من الدعوات، فهو دعوة إلى جهنم، وسبيل إلى قلق الضمائر، واضطراب المجتمع، وتسليط الأعداء، وحرمان السعادة والأمن في الدنيا والآخرة، كما قال ذو العزة والجلال في كتابه المبين: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى فأبان سبحانه في هذه الآيات أن من اتبع هداه لم يضل ولم يشق، بل له الهدى والسعادة في الدنيا والآخرة ومن أعرض عن ذكره فله المعيشة الضنك في الدنيا، والعمى والعذاب في الآخرة، ومن ضنك المعيشة في الدنيا ما يبتلى به أعداء الإسلام من ظلمة القلوب وحيرتها، وما ينزل بها من الغموم والهموم والشكوك والقلق، وأنواع المشاق في طلب الدنيا وجمعها والخوف من نقصها وسلبها، وغير ذلك من أنواع العقوبات المعجلة في الدنيا، كما قال الله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وقال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ والآيات في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يعرفنا بذنوبنا، ويمن علينا بالتوبة منها، وأن يهدينا وسائر إخواننا سواء السبيل، إنه على كل شيء قدير.
ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ: محمد الغزالي تتعلق بالقومية قد أجاد فيها وأفاد، حيث قال في كتابه: (مع الله) صفحة 254 ما نصه:
لا مكان للإلحاد بيننا
ما هؤلاء الناس؟ إنهم ليسوا عربا ولا عجما ولا روس ولا أمريكان!! إنهم مسخ غريب الأطوار صفيق الصياح، بليت به هذه البلاد إثر ما وضعه الاستعمار بها وترك بذوره في مشاعرها وأفكارها، فهم - كما جاء في الحديث - من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، بيد أنهم عدو لتاريخنا وحضارتنا وعبء على كفاحنا ونهضتنا، وعون للحاقدين على ديننا والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه.(39/318)
إن هؤلاء الناس الذين برزوا فجأة، وملأت ضجتهم الأودية كما تملأ الضفادع بنقيقها أكناف الليل، يجب أن يمزق النقاب عن سريرتهم، وأن تعرفهم هذه الأمة على حقيقتهم، حتى لا يروج لهم خداع، ولا ينطلي لهم زور، إن صفوف الذين يلبسون مسوح العروبة، ويندسون خلال صفوف المجاهدين، ويزعمون أنهم مبشرون بالقومية العربية ورافعون لألويتها، وفي الوقت نفسه ينسحبون من تقاليد العروبة، ويهاجمون أجل ما عرفت به، ويبعثرون العوائق في طريق الإيمان ورسالته إن هؤلاء الناس ينبغي أن يماط اللثام عن وجوههم الكالحة، وأن تلقى الأضواء على وظيفتهم التي يسرها الاستعمار لهم، ووقف بعيدا يرقب نتائجها المرة، وما نتائجها إلا الدمار المنشود لرسالة القرآن، وصاحبها العظيم محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم لقد قرأنا ما يكتبون، وسمعنا ما يقولون، ولم يعوزنا الذكاء لاستبانة غاياتهم، فهم ملحدون مجاهرون بالكفر، يقولون في صراحة: إن الإسلام ليس إلا نهضة عربية، فاز بها هذا الجنس العظيم في القرون الوسطى، واستطاع في فورته العارمة أن يجتاح العالم بقيادة رجل عبقري، هو الزعيم الكبير: صلى الله عليه وسلم أي أن هذا الدين الجليل، نبت من الأرض، ولم ينزل من السماء، وأنه انطلاقة شعب طامح فاتح، وليس هداية مثالية فدائية، جاءت من عند الله لتنقذ العرب من جاهلية طامسة، كانوا بها في مؤخرة البشر، إلى حنيفية سمحة رفعت خسيستهم، ثم انتشر شعاعها بعد في أنحاء الأرض، كما تنتشر الأضواء في عرض الأفق لدى الشروق. والفضل في ذلك كله لله وحده، الذي اصطفى محمدا، وامتن عليه بالهدى والحق، بعد أن قال له: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ
وقال: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ كما يقول في العرب الذين أرسل فيهم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فأي زحف عربي هنالك؟ وأي عبقرية أنشأت من عندها هذا الغيث الممرع لأهل الأرض؟ إن الزعم: بأن الإسلام (ثورة عربية) أكذوبة كبرى وأضلولة شائنة، وإن هذا القول ليس تكذيبا للإسلام فقط، بل دعوة خطيرة إلى تكذيب الديانات كلها، وإلى إشاعة الكفر والفسوق والعصيان في أنحاء الأرض، والغريب أن هؤلاء الناس يخاصمون الإسلام بعنف، ويحاربون أمته بجبروت، ويهادنون الأديان الأخرى من سماوية وأرضية، كأن الإسلام هو العدو الذي كلفوا باستئصاله وحده، لا بل هو العقبة الفذة التي وضعت المعاول في أيديهم لإهالتها ترابا، أجل، وهل للاستعمار عدو في هذه البلاد إلا الإسلام؟ إنه مصدر المقاومة العنيدة، وروح الكفاح الباسل الذي أعيا المهاجمين وأحبط مؤامراتهم، ومن ثم فعلى الاستعمار أن ينسج خيوطه حوله ليقتله، ويحول بينه وبين الحياة الكريمة، ولقد ابتدع القوميات الضيقة واستجباها بشتى الأساليب، لينال من كيان هذا الدين، فلما سقطت أمام الإسلام في المعركة، دس أتباعه تحت لواء القومية العربية، وزودهم بضروب من الادعاء، ليزحموا العرب المخلصين في هذا الميدان، ولينالوا من الإسلام بطريقة أخرى.(39/319)
وتفسير القومية العربية هذا التفسير الكفور الكنود، هو حرب أخرى ضد الإسلام، إنه لجدير أن يتسمى هؤلاء بأتباع القومية العبرية لا العربية. أليسوا يعملون لمصلحة الاستعمار وإسرائيل، ولقد مرت أربعة عشر قرنا على اشتباك العروبة بالإسلام، أو بتعبيرنا نحن أهل الإيمان: على تشريف الله العرب بحمل هذه الأمانة وإبلاغها للناس، ونظرة إلى البعيد تعرفنا بسهولة أن العرب مرت عليهم أدهار قبل الإسلام، لم يكونوا فيها شيئا مذكورا، ثم جاء هذا الدين فدخلوا التاريخ به، وطار صيتهم تحت رايته، وصدق الله إذ يقول وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ثم أخطأ العرب، فظنوا أن هذا الدين العالمي الذي نزلت فيهم آياته، يمنحهم امتيازا خاصا، ويجعلهم عنصرا أرقى من سائر الأجناس، ونشأ عن هذا الخطأ رد الفعل الذي لا بد منه، فقامت الشعوب الأخرى تدافع عن قيمة دمائها وكرامة عنصرها، وهذه الأغلاط المتبادلة علتها حنين البشر إلى الجاهلية، واستثقالهم مؤنة السعي لتحصيل الكمال الإنساني، فإذا عز على شخص تافه أن يكون تقيا ينسبه عمله إلى المجد والعلا، ذهب ينتحل نسبا آخر إلى أسرة أو وطن أو جنس، ليرتفع به دون جهد، وتلك كلها عصبيات باطلة ونزعات نازلة، ولا محل لها في دين، ولا وزن لها عند رب العالمين، ولكن المهم أن العرب الأولين لما أرادوا المفاخرة والتميز كان الإسلام متكأهم ومعقد فخارهم، فبأي شيء يملئون أفواههم إذا لم يذكروا الإسلام؟ إن وطابهم خال وتاريخهم صفر، حتى جاء الأفاكون في هذا الزمان بالبدعة التي لم يسمع بها إنسان، فإذا العروبة في نظرهم يجب أن تتجرد من الإيمان، وزعموا - قبحهم الله - أنها بالانسلاخ عن الدين تسمو وتسير، بل إن أحد الكتاب من هذه العصابة وجد الوجه الذي يطالع به الناس ليقول: إن الإسلام جنى على العروبة، وإن اللغة العربية قد انتشرت أبعد مما انتشر الإسلام، وإن الإسلام - لأنه عالمي - ضار بالقومية العربية. وظاهر أن هذا الكلام بقطع النظر عن بطلانه، إنما يروج لحساب الاستعمار الغربي منه والشرقي على السواء، وأن قائله يخدم أهداف الغزاة الذين عسكرت جيوشهم في بعض أقطار العروبة وأنزلت بها الهون، ووقفت على حدود البعض الآخر تتربص به الدوائر.
وكاتب آخر من هذه العصابة يطلب منا بإلحاح: أن ننسى التاريخ؛ لأنه لا يضم إلا رفات الموتى، وأن نتطلع إلى المستقبل فحسب، ونسي هذا الغر أن اليهود في كبد الشرق الأوسط، أقاموا دولتهم بإمداد من التاريخ الموحى، وأنهم جعلوا اسم إسرائيل علما عليها، إنه حلال للناس جميعا أن يستصحبوا تاريخهم في كفاحهم، أما نحن المسلمين فحرام علينا أن نذكر فصلا من هذا التاريخ، وأن نستوحي منه عونا في جهاد وأملأ في امتداد، إنها قومية عبرية لا عربية، تلك التي يبشر بها الملحدون وكارهو الإسلام، ولقد عرف الأولون والآخرون أننا نحن المسلمين أحنى الناس على العروبة وأوصلهم لمجدها، وأخلصهم لقضاياها، وأن هؤلاء القوميين لا خير فيهم، بل إنهم مصدر شر طويل وأذى ثقيل).
انتهى ما أردنا نقله للقراء من كلام الشيخ: محمد الغزالي هاهنا،
وقال أيضا في كتابه المذكور صفحة 347 ما نصه:
الهدم الروحي
يجتهد الاستعمار في صرف المسلمين عن دينهم بكل ما يتاح له من وسائل، وفي جعل حركات التحرر الناشطة في بلادهم مبتوتة العلاقة بالدين، حتى تولد ميتة، أو تحيا عقيمة لا ثمر لها ولا زهر وما من نهضة في الأولين والآخرين إلا ولها دعامة معنوية تقوم عليها، وسناد روحي تتحرك به، ولما كان عمل الدين في هذه الحالة ملأ القلوب بالضمائر الحية، وبنى الأخلاق على الفضيلة، وصبغ الحياة بتقاليد جامعة ومعلومة وواضحة، ورص الصفوف على إحساس مشترك، ودفعها إلى مصير واحد، فإن الاستعمار استهدف إقصاء الدين عن آفاق البلاد كلها، وتكوين أجيال غريبة عنه، إن لم تكن كارهة له.
بل إن ذكر الإسلام أصبح محظورا في المناسبات الجادة، والشئون الهامة، وقد يحوم البعض حوله، ولكنه يوجل من التصريح به، كأن الإسلام مجرم ارتكب ذنبا ثم فر من القضاء الذي حكم بعقوبته، فهو لا يستطيع الظهور في المجتمعات، وربما تلوح له فرصة الظهور متنكرا، تحت اسم مستعار، فيتحرك قليلا هنا وهناك، حتى إذا أحس انكشاف أمره استخفى من الأنظار، يا عجبا، لماذا يلقى الإسلام هذا الهوان كله؟
والجواب: عند الاستعمار الذي يجر خلفه ضغائن القرون الأولى ويضع نصب عينه ألا تقوم للإسلام قائمة في بلاده، فهو حريص على خنقه في ميدان التربية والمعاملات والتشريع، وسائر ألوان الحياة، إنه يطمئن إلى مجتمع واحد، المجتمع الذي مات ضميره، والذي تفسخت أخلاقه، في هذا المجتمع الذي غاصت منه معاني الفضل، واستغلظت فيه غرائز الشره، وزحفت فيه ثعابين الأثرة.
يستطيع الاستعمار أن يطمئن إلى يومه وغده، فإذا جاء الإسلام ليمسح هذه الأقذار طلب منه على عجل أن يعود إلى وكره ليخفى عن الأعين. إنه اسم لا ينبغي أن يذكر وحقيقة لا يجوز أن تعيش.(39/320)
هكذا حكم الاستعمار، حتى قيض الله لنا فكرة العروبة عنوانا، نستطيع تحته أن ندفع غوائل الموت، وقد هششنا للفكرة، ورجونا من ورائها الخير، وللعروبة المجردة مثل تعكر على الاستعمار مآربه، إن التعليم في ظل الاحتلال الأجنبي أوجد أناسا تحركهم الشهوات وحدها، أناسا فرغت عواطف اليقين من أفئدتهم فهي هواء، فإذا جاءت إليهم العروبة، فهل يعرفون أن العفة من خلائقها، وأن تقديس العرض من شمائلها، وأن المحافظة على الحريم من صفاتها الباطنة والظاهرة. إن أمثال العرب في الجاهلية تشهد بما لهم من غيرة على نسائهم، فالمثل القائل: (كل ذات صدار خالة) يعني: أن العرب يجعلون في حكم الخالة كل من تلبس ثياب المرأة، فما ينظرون إليها إلا نظرة الاحترام والعفة، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم، ويقول الشاعر:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي … …حتى يواري جارتي مثواها
ويقول الآخر:
ولا ألقي لذي الودعات سوطي … …أداعبه، وريبته أريد...!
يعني: أنه يداعب طفلا مع أمها ابتغاء إثم بالأم نفسها، فهل هذه الشوارع الغاصة بمتتبعي العورات وبغاة الدنية شوارع عربية؟
وهل عرب أولئك الذين ترى الواحد منهم يتأبط ذراع فتاة متبرجة لعوب تسير في وضع يقول لكل ناظر (هيت لك)؟ والعرب الأقدمون كانوا أصحاب كرم غريب، وإيثار لامع، ونهوض بالحق على عض الزمن وشدة الحاجة، واسمع قول عروة بن الورد:
وإني امرؤ عافى إنائي شركة … …وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى … …بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة … …وأحسو قراح الماء والماء بارد
أرأيت صورة الإنسان النبيل، يؤثر غيره بالطعام، ويستعيض برشحات من الماء البارد يصفر بها وجهه، وهو يأبى تضييع من نزلوا به، وحسبه أنه فرق جسمه في جسوم كثيرة.
احتفظ بهذه الصورة، ثم سل نفسك: أمدن عربية هذه التي تراها مزدحمة بأصحاب الفضول من المال النامي. ومع ذلك فقلما تؤوي يتيما، أو تغذو محروما، وما لنا نبحث عن الشمائل العربية المفقودة في بيئات مسخها الاستعمار، وترك عليها طابع الحيوانية والتقطع، إنك ترى الواحد من أولئك يقول: إنه عربي ولغة العرب لا تستقيم على فمه، ومن أعاجيب الليالي أن أسمع المذيع مثلا يقول: يا أخي المواطن، أحنا بنعمل إيه في هذه الأيام، وكان يستطيع أن يقول ما نعمل في هذه الأيام، ولكنه حريص على تخليد لغة الرعاع، والتنكر للغة الفصحى، وهي اللغة التي ترسل بها الإذاعات من جميع محطات العالم لمستمعيها على اختلاف ألسنتهم، إذ أن يخاطب المذيع قومه، في أي عاصمة بلغة غير الفصحى، فهل من مظاهر الوفاء لعروبتنا أن نذيع نحن بلغة الرعاع؟
الواقع: أن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة وأدبا وخلقا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها وأدبها وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز هذا الاسم بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه، وأن يذهبوا عنه الوحشة التي صنعها أعداؤه حوله، حتى يصبح مألوفا في الآذان، محببا إلى القلوب، وإظهار هذا الاسم لا يكفي، فما قيمة شكل لا جوهر لها يجب على الدعاة أن يجمعوا الجماهير على تعاليمه وأن ينعشوا أنفسهم بروحه. .
الضمير الديني الخاشي لله، الرحيم بخلقه، المحتفي بالواجبات، النفور من الرذائل، الشجاع في نصرة الحق، المستعد للقاء بالله، المتأسي بصاحب الرسالة، هذا الضمير، يجب أن ندعمه بل أن نوجده في كل طائفة، وأن يربط به إنجاز كل عمل، ونجاح كل مشروع، ومنع كل تفريط، وصيانة كل حق، فالإسلام قبل كل شيء قلب كبير، قلب موصول بالله، يبادر لمرضاته ويتقيه حيث كان، وهذا القلب لا يتكون من تلقاء نفسه، ويستحيل أن يتكون بداهة وسط تيارات الشكوك والتجهيل التي تسلط عليه عمدا ليتوقف ويزيغ، إنه يتكون بأغذية روحية منظمة، تقدم له في برامج التعليم، وفي عظات المساجد، وفي صبغ البيئة بمعان معينة، تساعد على احترام الفضيلة وإشاعتها، ونحن أحوج ما نكون لإنشاء هذه الضمائر في الذراري المحدثة التي عريت عنها، والطبقات الكثيفة التي مردت على العبث والاستخفاف بجميع القيم، إنني أستغرب كيف نشتري آلة ما بأغلى الأسعار، ثم نوقف أمامها عاملا لا يتقي الله، فهي تخرب بين يديه على عجل، أو يقل إنتاجها لو قدر لها البقاء سليمة، إننا لو بذلنا شيئا زهيدا لغرس التدين الحق في قلب هذا العامل لربحنا الكثير، أفلا يبذل المسئولون هذا الشيء بالزهيد، ولو على اعتباره نفقات صيانة للآلة التي اشتريت؟
إن من حق الله علينا ومن حق بلادنا علينا أن نربي الصغار والكبار باسم الإيمان لابتداء عمل ما، فسوف يتم على خير الوجوه، إن للضمير الديني علاقة راشدة بالسماء، ونواة مباركة في الأرض، وما أصدق قول الأستاذ: أحمد الزين في وصفه:
هو صوت السماء في عالم ال … …أرض وروح من اللطيف الخبير
وشعاع تذوب تحت سناه … …خدع العيش من رياء وزور
هو سر يحار في كنهه اللب … …وتعيا به قوى التفكير
مبلغ العلم أنه روح خير … …باطن الشخص ظاهر التأثير
كل حي عليه منه رقيب … …حل من قلبه مكان الشعور(39/321)
حل حيث الأهواء تنزو إلى الإثم … …م وتهفو إلى مهاوي الشرور
جامحات أعيت على الناس كبحا … …رغم إنذارها بسوء المصير
ثم صاح الضمير فيها نذيرا … …فأصاخت إلى صياح النذير
هو روح من الملائك يسمو … …بسليل الثرى لعالم نور
قد تولت بالأنبياء عصور … …وهو باق على توالى العصور
حافظا في الزمان ما خلفوه … …قائما في الصدور بالتذكير
حاملا من شرائع الخير كتبا … …قدست من صحائف وسطور
ليس يعفو عن الهنات وإن أن … …تملح في اللوم والتعزير
ونحن ننشد هذا الشعر هنا تكريما للأدب العالي، وإلا فلا مجال لقول بعد أن نتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب انتهى المقصود من كلام الغزالي في كتابه: (مع الله) جزاه الله خيرا، ولعظيم فائدته نقلته هاهنا. وأسأل الله عز وجل أن يصلح قلوب المسلمين ويعمرها بتقواه، وأن يمن علينا وعلى جميع شبابنا وسائر إخواننا بالفقه في الدين، والاستقامة على صراط الله المستقيم، فإن ذلك هو سبيل النجاة والفوز بالعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وصح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " والله أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تكميل في المحرم من العام الماضي، أعني: عام 1380 هـ سألني مندوب صحيفة البلاد عن مسائل، بعضها يتعلق بالقومية، فأجبته بما نشر في صحيفة البلاد.
ولتكميل الفائدة للقراء رأيت أن أذكر الأسئلة والأجوبة هاهنا، وهذا نصها:
السؤال الأول: ما رأي فضيلتكم في الدعوة التي تقوم بها بعض الأوساط الخارجية إلى أن القومية العربية وحدها هي الرابطة الأولى بين العرب؟
السؤال الثاني: ما رأي فضيلتكم في الاتجاه الذي يبدو واضحا في هذه الأيام للمقارنة بين القومية والإسلام، والذي يظهر في بعض الجرائد والمجلات بالمملكة؟
السؤال الثالث: بعض المخلصين من الوعاظ يعالجون في وعظهم الأمور البسيطة الفرعية في الدين كطريقة حلاقة الرأس، أو شكل الملابس، في حين أن هناك أمورا هامة تتصل بالعقيدة، تحتاج من هؤلاء المخلصين من الدعاة إلى عناية خاصة لأنها أمور هامة أساسية، فما رأي فضيلتكم في هذا؟
السؤال الرابع: تود جريدة البلاد أن تحمل من فضيلتكم نصيحة إلى قرائها من مختلف الطبقات فما هي؟ .(39/322)
الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا ريب أن الدعوة إلى أن تكون القومية العربية هي الرابطة الأولى بين العرب، دعوة باطلة لا أساس يؤيدها، لا من العقل ولا النقل، بل هي دعوة جاهلية إلحادية يهدف دعاتها إلى محاربة الإسلام، والتملص من أحكامه وتعاليمه. وقد يدعو إليها من لا يقصد هذا المعنى، وإنما دعا إليها تقليدا لغيره وإحسانا للظن به، ولو عرف حقيقة المقصود منها لحاربها وابتعد عنها، وكل من له أدنى معرفة بتاريخ العرب قبل الإسلام وبعد يعلم إنه لم يكن للعرب كبير قيمة تذكر ولا راية ترهب إلا بالإسلام، وبه فتحوا البلاد وسادوا العباد، وبه كانوا أمة مرهوبة الجانب، محترمة الحقوق مرفوعة الرأس، حتى غيروا فغير عليهم، كما قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ الآية. ولا أحب أن أطيل في هذا الميدان؛ لأن الصحيفة لا تتحمل ذلك، والحق في ذلك أوضح من الشمس، لا يرتاب فيه من له أدنى إلمام بحال العرب والإسلام، وما أحسن قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وإذا كان الهدف من الدعوة إلى القومية العربية أن يجتمع العرب، وأن يشتركوا في مصالحهم، وأن ينتصفوا من عدوهم ويطردوه عن بلادهم، فليس هذا هو السبيل إلى هذا الغرض النبيل، وإنما السبيل الوحيد هو الرجوع إلى دينهم الحق، الذي به شرفوا وعرفوا وبرزوا في الميدان، وسادوا الأمم، والتمسك بتعاليمه السمحة وأحكامه الرشيدة، وتحكيمه في كل شيء، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه، وبذلك يحصل الاجتماع، وتدرك المصالح وينتصف من الأعداء، ويكون النصر عليهم مضمونا والعاقبة حميدة في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى في محكم التنزيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة. وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمة الله عليه في هذا المعنى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لقد صدق هذا الإمام في هذه الكلمة القصيرة العظيمة.
اللهم أصلحنا وولاة أمرنا جميعا وسائر المسلمين إنك سميع قريب.
وأما السؤال الثاني فالجواب عنه: أن يقال: إن من أعظم الظلم وأسفه السفه، أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية، وهل للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام، وأن يقارن بينها وبينه؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام والتنكر لمبادئه وتعاليمه الرشيدة، وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم صناديدها وأعظم دعاتها، وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان، دعاته وأنصاره هم: محمد رسول ا صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، وعمر ابن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة صناديد الإسلام وحماته الأبطال، ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها، وهؤلاء رجالها وبين دين هذا شأنه وهؤلاء أنصاره ودعاته، إلا مصاب في عقله، أو مقلد أعمى، أو عدو لدود للإسلام ومن جاء به. وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل من قارن بين البعر والدر، أو بين الرسل والشياطين، ومن تأمل هذا المقام من ذوي البصائر، وسبر الحقائق والنتائج، ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام، أخطر على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا. ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من مات عليها النار، وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم، في دار الكرامة والمقام الأمين؟
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل، إنك على كل شيء قدير.(39/323)
الجواب على السؤال الثالث: لا ريب أن المرشدين هم أطباء المجتمع، ومن شأن الطبيب أن يهتم بمعرفة الأدواء ثم يعمل على علاجها بادئا بالأهم فالأهم، وهذه طريقة أنصح الأطباء وأعلمهم بالله وأقومهم بحقه وحق عباده، سيد ولد آدم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم فإن صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بدأ بالنهي عن أعظم أدواء المجتمع وهو الشرك بالله سبحانه، فلم يز صلى الله عليه وسلم من حين بعثه الله يحذر الأمة من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد إلى أن مضى عليه عشر سنين، ثم أمر بالصلاة، ثم ببقية الشرائع، وهكذا الدعاة بعده: عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره، بادئين بالأهم فالأهم ولكن إذا كان المجتمع مسلما ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره، بل يجب عليه ذلل حسب طاقته؛ لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر المجتمع ويضعف إيمانه. ولا مانع من بداءته بعض الأوقات بغير الأهم، إذا لم يتيسر الكلام في الأهم، ولا مانع أيضا من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم، إذا رأى المصلحة في ذلك وخاف إن هو اشتغل بهما جميعا أن يخفق فيهما جميعا، وهكذا شأن المصلحين والأطباء المبرزين، يهتمون بطرق الإصلاح ويسلكون أنجعها وأقربها إلى النتيجة المرضية، وإذا لم يستطيعوا تحصيل المصلحتين أو المصالح، أو تعطيل المفسدتين، اهتموا بالأهم من ذلك واشتغلوا به دون غيره، ومن تأمل قواعد الشرع وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسيرة خلفائه الراشدين والأئمة الصالحين، علم ما ذكرته، وعرف كيف يقوم بإرشاد الناس، وكيف ينتشلهم من أدوائهم إلى شاطئ السلامة، ومن صحت نيته وبذل وسعه في معرفة الحق، وطلب من مولاه الهداية إلى خير الطرق، وأنجعها في الدعوة، واستشار أهل العلم والتجارب فيما أشكل عليه، فاز بالنجاح وهدي إلى الصواب، كم قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
الجواب الرابع: نصيحتي لجميع القراء هي: أن يأخذوا بوصية الله سبحانه التي أوصى بها في كتابه الكريم حيث يقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ والتقوى كما يعلم القارئ الكريم كلمة جامعة، حقيقتها: أن يتقي العبد غضب الرب وعذابه، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، عن علم وإيمان وإخلاص ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يفوز بالسعادة وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وهما أنصح به القراء وهو من جملة التقوى، التثبت في الأمور، والتريث في الحكم عليها، إلا بعد دراستها من جميع نواحيها، وبعد التحقق من معناها ومعرفته معرفة تامة بعرض ذلك المعنى على الميزان الشرعي وهو كتاب الله، وما صح من السنة، فما وافق ذلك الميزان قبل، وما خالفه ترك، ويجب أن يكون القارئ في دراسته للأشياء، وعرضه لها على الميزان المذكور، بعيدا كل البعد عن الإفراط والتفريط، متجردا عن ثوبي التعصب والهوى، ومتى سلم من هذه الأمور، ودرس الأمور حق دراستها بإخلاص، وقصد حسن، وفق للحقيقة وفاز بالصواب ، وحمد العاقبة، وكم جرت العجلة على أصحابها وغيرهم من ويلات ومشاكل، تذهب الأيام والليالي وآثارها وتبعتها باقية؟ وكم حصل بسبب التعصب والهوى من فساد ودمار وعواقب لا تحمد؟ نسأل الله السلامة من ذلك. ومما أنصح به القراء أيضا وهو من أهم التقوى دعوة العباد إلى الله سبحانه والتواصي بالحق والصبر عليه، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والتغيير حسب الطاقة، كما في الحديث الصحيح:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " وأسأل الله للجميع الثبات على الحق والعافية من مضلات الفتن، إنه خير مسئول، وأكرم مجيب، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
=============(39/324)
(39/325)
نظرات في ملحوظات الكاتبين إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم
على مقررات مناهج العلوم الشرعية في التعليم
كتبها
د/ سليمان بن صالح الغصن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد اطلعت على مذكرة أعدها الكاتبان/ إبراهيم السكران، وساعده عليها/ عبدالعزيز القاسم في نقد أسلوب ومحتوى مقررات العلوم الشرعية في التعليم العام.
وبعد قراءتها أحببت أن أكتب بعض ما لاحظته عليها بإيجاز - حسب ما سمح به الوقت - لعل الله أن ينفع به، ولعل الكاتبين الكريمين يجدا فيما كتبت ما يدعوهما إلى إعادة النظر ومراجعة ما سطراه في المذكرة المشار إليها.
سائلاً المولى - جل وعلا - الهداية والسداد، وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذا وقد جعلت الملحوظات في قسمين: إجمالية وتفصيلية على النحو التالي:
أولاً: الملحوظات الإجمالية العامة:
يمكن إيجاز أهم الملحوظات العامة بما يلي:
1. إن المذكرة التي اطلعت عليها بتراء لم تبدأ بذكر اسم الله - تعالى - ولا بالصلاة والسلام على رسوله الكريم، وهى في إطار معالجة المقررات الشرعية فهي بهذا حقيقة بأن تكون مقطوعة البركة في جملتها.
2. إن القارئ لهذه المذكرة يعجب بأسلوبها الرفيع، ويبهر بقدرة الكاتب على القراءة الموجهة التي تستطيع انتزاع ما تريده من الشواهد المؤيدة لوجهة النظر.
3. يلحظ أن الكاتب استشهد ببعض المقاطع من المقرر منزوعة عن سياقها الذي يبين المراد بها.
4. حذف الكاتب من بعض الشواهد التي ذكرها أول الكلام أو آخره الذي يوضح معناه.
5. اجترأ الكاتب على نقد عبارات واردة عن بعض السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبعهم، بل وعلى مفهوم بعض الأحاديث كما يأتي بيانه.
6. تناول الكاتب نقد عبارات وأمثلة المقرر، ولم يتعرض لتوجيه النصوص التي اعتمد عليها المقرر إلا نادراً.
7. لم يستوعب الكاتب بعض القضايا التي تناولها المقرر مما جعله يخوض فيها برؤية بعيدة عن نصوص ومقاصد الشرع، آلت به إلى نتائج غريبة، كما أن عدم استيعابه لبعض التقسيمات وتنوع الحالات جعله يرمي المنهج بالتناقض.
8. عند المقارنة بين المذكرة والمقررات يلحظ أن الكاتب صادر مفهوم المقرر في كثير من المواطن وغالط في مراده، فأنتج إجحافًا في أحكامه واتهاماته.
9. أهمل الكاتب النظرة الإجمالية المنصفة للمقررات، فلم يذكر من محاسنها إلا ما يدل على تناقضها واضطرابها - من وجهة نظره - وذلك حين يزعم أن هذا المعنى الحسن الذي قرره المنهج جاء ما ينقضه أو يخل به في موطن آخر.
10. ذكر الكاتب أن من وسائل تقويمه للمنهج معرفة مدى استيعابه لمجمل النصوص والقواعد وعدم انحيازه لمعنى دون آخر - والملاحظ أن الكاتب وقع فيما اتهم به المنهج، فلم تكن نظرته التقويمية منطلقة من مجمل النصوص الشرعية، بل أغفل الكلام على كثير من النصوص التي اعتمد عليها المنهج، ودعا صراحة إلى عدم تقرير التفاصيل التي بها يحصل تحرير المواقف وضبط الأحكام، كما يلحظ على الكاتب انحيازه لتقرير قناعات موجودة لديه، فقراءته للمنهج كانت توجهها خلفية سابقة ومنطلقات منهجية، ولذا لم يكلف نفسه الإجابة على كثير من النصوص التي اعتمد عليها المقرر.
11. ذكر الكاتب أنه راجع المقررات من خلال ستة من وسائل التقويم الفقهية، والعجيب أن النتيجة كانت رسوب المنهج في تجاوز أي منها، فقد لحظ الكاتب أن المنهج لم يعتن بشيء منها، بل وقع في التناقض والاضطراب حين تناولها، والأعجب من ذلك أن الكاتب ذكر أن ما توصل إليه من خلل في المنهج لم يكن خللاً منفردًا، بل كان كما سماه نظريات تحرك عناصر المنهج، فهو خلل في الرؤية، وليس في الأخطاء الجزئية العارضة !
12. كثر غمز الكاتب لمنهج السلف الصالح من خلال نقده للعبارات المأثورة عنهم، وجعل الخلاف بينهم وبين خصومهم وردهم عليهم معارك فكرية سياسية بعبارات تهويليه، وأن هذا الموقف من أصحاب الانحرافات العقدية مناقض لقواعد حقوق المسلم وحسن الظن به، وأن عرض مواقف السلف تجاه أهل البدع على الطلاب قد يفهم منه مشروعية القمع العنيف للمخالف، كما زعم أن القول بأن الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين منقول عن مصادر مولودة في ظروف استثنائية لا تصلح أن تكون قاعدة عامة لمناقضتها جملة من الأسس الشرعية، وأن الاعتماد على مثل هذه المراجع أوجد اضطراباً هائلاً في تنظيم الأولويات كما ورَّط الطالب في نيران معارك كلامية فكرية، كما أوحت بعض عبارات الكاتب بأن لدى المنتسبين إلى مذهب السلف الصالح زهواً بمذهبهم، ووثوقية مطلقة بعقيدتهم، وتنقصاً لعقائد المخالفين، وأظن أن قراءة مثل هذا الكلام عن الكاتب كاف في إعطاء تصور عن بعض دوافعه للكتابة في مثل هذا الموضوع.(39/326)
13. ذكر الكاتب أن المقررات تجاهلت تبعًا للنظام السياسي قضايا مهمة - في نظره - كحقوق الإنسان والحريات، فهذه الموضوعات هي التي تقلقه وكأن الطالب يعيش في بلاد قمعية يحتاج فيها إلى تعريفه بحقوقه المسلوبة وحرياته المصادرة، والعجب أن الكاتب يرى أهمية مثل هذه الموضوعات للطالب في هذه المرحلة، وفي المقابل ينعى على المقرر قلقه على العقيدة، وتحذيره من الشرك والكفر، ولم يذكر المعيار الذي تعرف به أهمية الموضوع في تقديمه على غيره.
ثانيًا: الملحوظات التفصيلية:
في الحقيقة أن الرد التفصيلي على الشبهات التي أثارتها المذكرة يحتاج إلى بسط، وربما يكون في ذلك تطويل يسبب إملالاً لقارئه من غير المختصين، ولذلك سأكتفي بالرد الموجز على الملحوظات بما يبين المقصود - إن شاء الله تعالى - وسيكون ذكر الملحوظات مرتبًا حسب ورودها في المذكرة، فأقول مستعينًا بالله وحده:
1. (ص2) ذكر الكاتب أن هذا العمل - أي: نقده لمقررات العلوم الشرعية - جاء ليضبطها بأصول الشرع. أقول: في هذا الكلام تزكية للنفس واستعلاء على الآخرين، واتهام للمقررات بأنها مخالفة لأصول الشريعة.
2. (ص2) ذكر الكاتب أن المناهج لا يمكن أن تكون السبب الأساسي لتحريك العنف المسلح ضد الغرب، و في هذا اعتراف ضمني بأن مناهجنا كانت سببًا في ذلك، وإن لم تكن السبب الأساسي، وهذا الكلام كله يدور في فلك النظرة الغربية والهجمة الشرسة على مناهجنا وبلادنا.
3. (ص3) زعم الكاتب تناقض المنهج حينما دعا إلى حسن التعامل مع المسلمين وخطر تكفيرهم من جهة، ومن جهة أخرى حينما بين خلل الفرق البدعية المخالفة لمنهج السلف الصالح، والحق أنه لا تناقض بين الأمرين، فحسن التعامل مع المسلم والتحذير من تكفيره عمومًا لا يمنع من بيان انحرافه وضلاله إذا حصل منه شيء من ذلك، والضلال درجات ولا يلزم أن يكون كل ضلال كفراً كما أن انتساب المسلم للإسلام لا يعني عصمته من الانحراف والوقوع في أنواع الضلالات، إذا لم يتمثل هدي الإسلام، ويلتزم بعقائد التوحيد التي دل عليها كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
4. (ص4) نقل الكاتب من مقرر التوحيد للصف الأول ثانوي عبارة " الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة و أشاعرة وصوفية حيث قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال، فضلوا وانحرفوا " وفهم من هذا النص أنه اختزل أسباب الاختلاف في تقليد أئمة الضلال، وأنه سوى بين الفرق، ووصفها بالضلال والانحراف.
والجواب أن يقال:
1. إن المقرر لم يختزل أسباب الانحراف في تقليد أئمة الضلال، وإنما جعل التقليد الأعمى سببًا للانحراف، وذكره من ضمن سبعة أسباب، بين أنها من أهم أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة.
2. إن المقرر لم يجعل الفرق المذكورة متساوية في الضلال، وإنما جعلها مشتركة في أحد أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة وهو التقليد الأعمى للمنحرفين وهذا حق، وبهذا يتبين كيف كان فهم الكاتب المغلوط، ومصادرته لمفهوم كلام المقرر، وقطعه عن سياقه مؤديًا إلى اتهام المنهج بماهو منه براء.
5. (ص4) استنكر الكاتب وصف الأشاعرة والماتريدية بالضلال والانحراف عن منهج السلف، وهذا في الحقيقة راجع إلى أحد أمرين: إما أنه يجهل عقيدتهما ويظن أنه لا فرق بينها وبين عقيدة السلف الصالح وهذا جهل فاضح، وإما أنه يعلم انحراف الأشاعرة والماتريدية ولكنه يستعظم وصفهما بالانحراف والضلال وهذا أيضًا ناشئ من الجهل بدرجات الانحراف والضلال - وأنه لا يلزم أن يكون كل انحراف وضلال كفرًا.
6. (ص4) نقل الكاتب عبارة عن المقرر ونصها " من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد كفر " وانتقدها من أربعة أوجه:
1. أن فيها عدوانًا على جمهور علماء الأمة وأتباعهم.
2. أنه لا قائل بالتكفير في هذا المقام بهذا الإطلاق.
3. أن الطالب لا علاقة له في هذا السن - الثاني ثانوي - بدقائق أحكام التكفير هذه.
4. أن في هذا تهوينا لقواعد تعظيم التكفير وبيان خطره.
والجواب من خمسة وجوه:
1. أن الكاتب يتهم جمهور المسلمين بأنهم نفاه لما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا الكلام جرأة وتهويل يخالف الواقع والحقيقة، فالمسلمون في عامتهم على الفطرة الموافقة للكتاب والسنة في إثبات صفات الله - تعالى - ولم ينكر ذلك إلا من تلوثت فطرته، وانحرف فكره، وفسد منهجه.
2. أن الكاتب ظن أنه يلزم من وصف المقالة بأنها كفر، أو إطلاق القول بأن من قال كذا فهو كافر ظن أنه يلزم من ذلك تكفير أعيان كل من قال بذلك، وهذا الظن مخالف لمنهج السلف الصالح الذين يفرقون بين القول والقائل، والفعل والفاعل، والتكفير بالوصف والتكفير بالشخص، فلا يلزم من كون المقالة كفرًا أن يكون قائلها كافرًا، فالتكفير له شروط وموانع فقد يمنع من التكفير جهل القائل، وتأوله، وكذا الخطأ، والإكراه، كما هو معلوم.(39/327)
3. أن تكفير من أنكر ونفى صفات الله - تعالى - مشهور عن أئمة السلف كما قال نعيم بن حماد - شيخ البخاري " من جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر " فكيف يزعم الكاتب بأنه لا قائل بالتكفير في هذا المقام بهذا الإطلاق.
4. أما قوله بأنه لا علاقة للطالب بهذا السن بدقائق أحكام التكفير هذه، فيقال: إن الطالب في هذه المرحلة الثانوية، من المهم أن يعلم خطر إنكار صفات الله - تعالى - وما يؤدي إليه، ثم إن هذه المسألة ليست من دقائق أحكام التكفير، بل هي من أظهرها، فهي متعلقة بأوصاف الخالق - سبحانه وتعالى - الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
5. أما زعمه بأن فيها تهويناً لقواعد تعظيم التكفير فليس الأمر كذلك، فقواعد تعظيم التكفير باقية، ولكنها ليست ما نعة من تكفير من يستحق ذلك، ثم إن تقرير مثل هذه المسألة فيها تعظيم لنصوص الشرع في نفوس الطلاب، وتحذير عن الجرأة عليها بالتحريف لا سيما فيما يتعلق بصفات الله - تعالى-.
7. (ص4) ذكر الكاتب أن المقرر يعد التحريف كفرًا، ومع ذلك يجعل تأويلات الأشاعرة تحريفًا.
والجواب:
1. أن الكاتب لم يذكر مستنده من المقرر على أن كل تحريف كفر.
2. أن الكاتب ربط ما ادعاه بأن كل تحريف كفرًا بما ورد في المقرر من تسمية تأويلات الأشاعرة تحريفًا، والكاتب بهذا الأسلوب التلفيقي يريد أن يزرع في وعي القارئ بأن المقرر يُكَفّر الأشاعرة، وهذه النتيجة التي يريد الكاتب التوصل إليها لا تدل عليها عبارات المقرر، وإنما غاية ما فيه أن تأويلات الأشاعرة لنصوص الصفات من قبيل التحريف، وهذا حق ولا يلزم أن يكون كل تحريف كفرًا.
3. أن الكلام على تحريف الأشاعرة الذي ذكره الكاتب إنما جاء في حاشية المقرر ولم يكن في صلبه، ولذا لم تكن عبارة الحاشية محررة، حيث إنها جعلت تحريف "استوى" إلى معنى "استولى" من قبيل التحريف اللفظي، والصواب: أنها من قبيل التحريف المعنوي فهي تحريف في معاني الألفاظ وليس في اللفظ نفسه.
8. (ص5) انتقد الكاتب جعل إنكار شيء من أسماء الله - تعالى - أو مما دلت عليه من الصفات وتأويلها نوعًا من الإلحاد، وزعم أن في ذلك تصعيدًا للموقف الفقهي من المخالف دون انضباط، وهذا الانتقاد يثير تساؤلاً عن مراد الكاتب، فهل يريد أن يجعل المنكر لشيء من أسماء الله - تعالى - أو صفاته، المخالف لدلالة الكتاب والسنة كالمثبت لها الموافق للوحي؟ أم أنه لا يفهم من الإلحاد إلا إنكار وجود الله - تعالى -؟ ولم يعلم أن الإلحاد هو الميل عن الحق وهو درجات ولا يلزم أن يكون كل الحاد كفراً، ومثل ذلك استنكار الكاتب ما جاء في المقرر من أن " من رد شيئًا من نصوص الصفات أو استنكره بعد صحته فهو من الهالكين " مع أن هذا المعنى مستنبط من أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور في الباب نفسه وهو قوله" ويهلكون عند متشابهة " وربما أن الكاتب لا يعلم من الهلاك إلا الخروج من الملة دون قيد أو شرط .
9. (ص5) ذكر الكاتب أن المقرر يعرض بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالخطأ إلى مستويات مشبعة بالتضليل، ثم أورد نصًا في إنكار بدعة المولد النبوي، ويلاحظ أنه حرّفه بحذف بعض الجمل التي توضح المراد، وسأذكر النص كما أورده الكاتب، ثم أبين بعض الجمل التي حذفها ليتضح المقصود.
فالنص الذي أورده الكاتب كما يلي:
" الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وهو تشبه بالنصارى … فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون … ويحضر جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم ولا يخلو من الشر كيات والمنكرات، وقد يكون فيها اختلاط الرجال والنساء مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش … وهو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اغتنى لها الأكالون ".
ويؤخذ على الكاتب في هذا ما يلي :
حذف بعد قوله، وهو تشبه بالنصارى - عبارة " في عمل ما يسمى بالاحتفال بمولد المسيح "، وهى مهمة تبين حقيقة المشابهة.
ذكر عبارة " ولا يخلو من الشركيات والمنكرات " وحذف ما جاء قبلها وبعدها وعبارة المقرر كما يلي:
" والغالب أن هذا الاحتفال - علاوة على كونه بدعة وتشبهًا بالنصارى - لا يخلو من الشركيات والمنكرات فإنشاد القصائد التي فيها الغلو في حق الرسو صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله والاستغاثة به … "
فالمقرر لم يطلق بأن الاحتفال لا يخلو من الشرك والمنكرات، بل قال: " الغالب"، وفرق بين هذا وما أوهمه تصرف الكاتب في عبارة المقرر.
كما أن المقرر ضرب أمثلة للشر كيات والمنكرات التي يغلب وجودها في هذا الاحتفال، ولكن الكاتب تغافل عنها، ولم يذكر منها إلا مسألة اختلاط الرجال بالنساء، وكأن في هذا إيحاءً بأن كثيرًا من الاحتفالات بهذه المناسبة لا يكون فيها اختلاط، وبهذا يتحقق له المقصود بوصف المقرر بالمبالغة والتهويل.
كما أن عبارة " وهي بدعة أحدثها البطالون" منقولة عن الفاكهاني وليست من صياغة تأليف المقرر كما يوهم نقل الكاتب.(39/328)
10. (ص5) زعم الكاتب أن المقرر قدم قواعد للتعامل مع المبتدعين تتعارض مع القواعد الشرعية للتعامل مع المخالف، وضرب لذلك أمثلة منها " تحريم زيارة المبتدع ومجالسته "..
والجواب عن هذا من وجوه:
1. أن النصوص الشرعية دلت على البعد عن جليس السوء وعن القعود مع الذين يخوضون في آيات الله.. .
2. إن الآثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في التحذير من مجالسة أهل البدع والأهواء وهجرهم كثيرة معلومة.
3. إن النقل الذي ذكره الكاتب عن المقرر حذف منه أمرًا مهمًا جاء بعده وهو عبارة " إلا على وجه النصيحة له، والإنكار عليه؛ لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا " فإذا كانت الزيارة والمجالسة فيها مصلحة شرعية فلا ينهى عنها
4. إن توجه الكاتب للتهوين من ضرر المبتدع والترحيب بمجالسته يعود بالضرر على عامة المسلمين، فإذا لم ينفرا لناس من أهل بدعة التكفير مثلاً، ولم يحذروا من مجالستهم فقد يتأثروا بشبهاتهم وأهوائهم ويصيروا مثلهم.
11. (ص5) هاجم الكاتب رسالة فضيلة الشيخ/ بكر أبو زيد في " هجر المبتدع، " وزعم أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من قواعد العدل، وأخلاق الاختلاف المقررة في الشريعة … إلى آخر ما ذكره عن الرسالة مما فيه حط من قدر علمائنا واتهام لهم في منهجهم في تناول القضايا، وإيماء بأن كتبهم لا ينبغي أن تكون أساساً يربى عليها صغار الطلاب.
12. (ص5-6) ذكر الكاتب أن المقرر أشار إلى بعض التفسيرات العدوانية للسلوك المخالف، وذلك كافتراض التواطؤ في علاقة المخالف بالمستعمر.
والجواب: إن على الكاتب أن يقرأ التاريخ ليعرف مدى علاقة بعض أهل البدع الباطنية وبعض الصوفية بل وبعض النزعات التكفيرية بالمعتدين على بلاد الإسلام من أهل الكفر.
فهل يريد من المقرر أن يزرع في وجدان الطالب حسن الظن بالعملاء لأهل الكفر ممن لاغيرة عندهم على دينهم، ولا اهتمام لديهم بمصلحة وطنهم، في مقابل مصالحهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية، وإن تلبسوا بلباس التدين أو نادوا بالإصلاح و ادعوا الصلاح.
13. (ص6) استنكر الكاتب ما عرضه المقرر من مواقف لبعض الصحابة رضي الله عنه ومن تبعهم من رؤوس أهل البدع، ووصف ذلك بأنه تعامل عنيف مع المخالف، قد يؤدي إلى انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشباب.
والجواب من وجوه:
1. إن ما ذكره المقرر إنما هو مواقف لسلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم ممن هم قدوة لنا وأعلم منا بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ومصلحة الإسلام.
2. إن مواقف التأديب للمبتدعة المذكورة في المقرر صدرت ممن لهم ولاية فلا يرد انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشباب.
3. هل يرى الكاتب أن ما فعله الصحابة رضي الله عنه والتابعون لهم بإحسان فيه إهدار لحرمة النفوس بغير حق، وهل يرى المصلحة في تحبيب أهل البدع للنفوس، وإيجاد الأعذار لهم أم في التحذير من سلوك طريقهم وبيان حقيقة أمرهم في الدنيا والآخرة
14. (ص6-7) انتقد الكاتب ما ذكره المقرر من وسائل لحفظ الدين. ورأى أن حماية الدين الأساسية تقوم على البرهان وجلال الله - تعالى - والفطرة والقسط والشورى والرحمة، وأرى أنه لا تناقض بين الأمرين فما ذكر في المقرر إنما جاء على سبيل التمثيل وبما يناسب المقام وما ذكر الكاتب حق ولكل مقام مقال.
15. (ص7) استنكر الكاتب مبدأ البغض في الله للعصاة ومعاداتهم، ورأى وجوب نشر المحبة والمودة بدل البغض، ولم يدرك الكاتب بأن العاصي من أهل التوحيد يجتمع في حقه الحب والبغض، فيحب من وجه ويبغض من وجه، ولا يمكن أن يتساوى من كل وجه المطيع والعاصي والصادق والكاذب، والأمين والخائن كما أنه لا تناقض بين ملاطفة العاصي وأدب الحديث معه ومعاداته، وقد يكون لكل حالة ما يناسبها من المعاملة، ف صلى الله عليه وسلم أمر بهجر ثلاثة من أصحابه، وغضب في مواقف على من خالف أمره، وهكذا الصحابة رضي الله عنه ولا يصلح أن يجعل أسلوب واحد يعامل به جميع العصاة والمخالفين بحيث لا يشعر أي واحد منهم مثلاً ببغضنا لما صدر منه، كما لا يصح أن يكون بغضنا له سببًا في عدم تألفه ورعاية حقه، ووجود المحبة له.
16. (ص7) ذكر الكاتب نقولاً عن المقرر في ذكر بعض الشركيات الواقعة في بعض بلاد العالم الإسلامي، وزعم أن فيها مجازفة برسم صورة تكفيرية شمولية عن العالم الإسلامي.
والجواب:
1. إن النقول المذكورة لم تعمم الحكم والوصف على جميع العالم الإسلامي، بل نص عبارات المقرر : " أن كثيراً من الناس " كثير من هذه الأمة " جهلة المسلمين "، ويظهر من هذه العبارات الاحتياط في الوصف وعدم تعميمه.
2. أن ما ذكر شرك ظاهر، فهل ينازع الكاتب في أن التقرب للأموات بالدعاء والاستغاثة والذبيح والنذر شرك أكبر، وأن البناء على القبور والغلو في الصالحين من وسائل الشرك ؟
17. (ص8) زعم الكاتب أن المقرر يلقي عبارات إهدار الدماء، واستباحة الممتلكات بشكل فوضوي غير منظم المعنى والمعايير، ويستدل على ذلك بما جاء في المقرر من أن" الشرك الأكبر يبيح الدم والمال " " والمشرك حلال الدم والمال".
والجواب:(39/329)
إن الكاتب لم يتصور الفرق بين إهدار دم المشرك وماله من جهة، وقتله وأخذ ماله فعلاً من جهة أخرى، فالأول حكم له شروطه وموانعه، بينها المقرر نفسه، والثاني تنفيذ الحكم بعد استيفاء شروطه وانتقاء موانعه وهذا خاص بمن له ولاية .
وقد جاء في المقرر نفسه خطورة تكفير المسلم، والفرق بين التكفير بالعموم والأوصاف وتكفير الأشخاص المعينين، والذي ضبط بشروط، وذكر له موانع دلت عليها النصوص الشرعية.
18. (ص8) زعم الكاتب أن المنهج قرر إهدار دم المتهم بالشرك، واستباحة ماله ولو كان جاهلاً، واستشهد على ذلك بما جاء في المقرر من أن الذي يقول: لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى، والتعلق بالأضرحة لا يحرم ماله ولا دمه.
والجواب : إن الكاتب افتات على المنهج، فالمنهج صرح بعذر الجهل، ومما جاء فيه بهذا الخصوص:
" من كان حديث عهد بالإسلام، أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، أنكر شيئًا مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر، وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفر إلا بعد أن تقام عليهم الحجة " وذكر بعد ذلك نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبدالوهاب، جاء ذكره في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي (ص 28).
19. (ص8) يرى الكاتب أن المقرر جازف بأحكام كبيرة تفتقر إلى الدقة الفقهية والتناسب مع مستوى الطالب حينما نقل عن ابن القيم - رحمه الله - تقرير شريعة إباحة دم المشرك وماله، واسترقاقه كما قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.. " الحديث المشهور. فهل يرى الكاتب أن قول الرسو صلى الله عليه وسلم وفعله وما سار عليه المسلمون من مقاتلة المشركين خطأ أو على الأقل لا يناسب تقريره للطالب لما في ذلك من التحريض الذي يخالف المهمة المنتظرة ؟!
20. (ص8) انتقد الكاتب ما وصفه بتعبئة الطالب ضد الاتجاهات الفكرية المعاصرة كالقومية، ونقل عبارات من المنهج في ذلك، والحق أن الدعوة إلى القومية مخالفة لهدي الإسلام الذي جعل مدار الاتحاد والتآخي على الدين لا على القومية، فمن استبدل الوحدة الإسلامية بالوحدة العربية والدعوة إلى قوميتها بغض النظر عن دين صاحبها فقد خالف منهج الإسلام في ذلك، حيث أخرج المسلمين غير العرب من دعوته ووحدته، وقرب كفار العرب وجعلهم من عصبة وحدته. فما الضير في انتقاد هذه الدعوة التي تحييي النعرات والتحزبات الجاهلية، وتهمش الوحدة الإسلامية، ثم إن فيها دعوة إلى تسهيل الكفر في عدم وصف الكافر بما يستحق من الوصف المنفر عن فعلته. نعم ربما تحتاج عبارات المقرر إلى تفريق بين أنواع الدعوات القومية المختلفة من حيث عمق ضلالاتها وانحرافها.
21. (ص9) انتقد الكاتب تحذير المقرر من الرأسمالية ووصفها بالكفر باعتبار أن المبشرين بالنظرية تختلف انتماءاتهم الدينية.
والجواب:
إن المنهج ذكر مسوغ وصفها بالكفر، وأن سببه اشتمال نظامها على ما حرم الله، كالربا مثلاً، ومن المعلوم بأن استباحة ما حرم الله كفر بغض النظر عن دين مستحله أو قناعته وفلسفته.
22. (ص9-10) يعتقد الكاتب أن المقرر بالغ في تكفير المنتمين إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية، وجازف في ذلك مجازفة تخرجه عن الموضوعية والدقة، وأن هذا الكلام يهز التقعيد النظري الذي قدم للطالب عن خطر التكفير وقيمة العدل في الموقف من المخالف " والظاهر من كلام الكاتب أنه فهم من التقعيد لخطر التكفير والعدل في الموقف من المخالف أنه لا يكفر أحد ولو جاء بما يكفر به، وأن تكفير من كفره الله ورسوله مناف للعدل، وكأنه يرى أن مقتضى العدل مع المخالف ألا تكفره مهما صدر منه، وهذه مجازفة تخالف الكتاب والسنة.
23. (ص10) ظن الكاتب أن ما جاء في المقرر من معادات المشرك شركاً أكبر يتناقض مع المحبة الطبيعية ومبدأ الإحسان للعالم كما قررته النصوص الشرعية، والحق أن هذا الظن جهل بمدلول النصوص الشرعية ومنهج السلف الصالح، فالمشرك عدو لله لا يحبه الله - تعالى- فتجب معاداته، وتحرم مودته، ولا يمنع ذلك من الإحسان إليه وبره وإمكان نشوء محبة طبيعية معه كمحبة الزوجة والولد والوالد، بل ولا يتعارض مع وجوب العدل معه وتحريم ظلمه وبخسه حقه، فلا منافاة بين الأمرين، والمقرر إنما نفى المحبة الإيمانية والموالاة الإسلامية.
24. (24 - ص10) انتقد الكاتب ما قرره المنهج من العزة على الكافرين والغلظة والشدة والترفع عليهم، ويرى أن ذلك خاص بالمعتدين، وأما غيرهم فإنما يؤمر باللين والإحسان والقسط معهم.(39/330)
والجواب: - كما سبق - أنه لا منافاة بين الأمرين، فقد قال الله - تعالى - " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " كما أمر بالإحسان لغير المعتدين وبرهم والإقساط، إليهم فلكل مقام وحال ما يناسبها؛ من الغلظة والشدة أو اللين والإحسان، أما الرفعة والعزة فلا تنافي اللين والإحسان: فالمسلم عزيز بما يحمله من الإسلام والإسلام يعلو ولا يعلى عليه كما قال الله - تعالى-: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "، وقال - تعالى- في وصف أهل الإيمان: " أعزة على الكافرين ".
25. (ص11-12) خلص الكاتب إلى أن المقرر لم يعرف أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين، وذكر تحت ذلك ستة أصول اتسم بعضها بالعمومية والإطلاقات غير المنضبطة، ومن ذلك:
1. أن الكاتب قرر بأسلوب ملبس أن رسل الله - تعالى- لم يفصلوا للناس الشرائع، وإنما ذكروا بعض التفاصيل الثانوية، واستدل على ذلك بما لا دلالة فيه، وبما مفهومه لا يوافق ما استشهد به لأجله كما في الآيتين اللتين ذكرهما مما يتعارض مع ما قرره المفسرون في معناهما.
ثم كيف يزعم الكاتب أن الشرائع لم تبين إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، وبعض التفاصيل الثانوية، وقد قال - تعالى- " وكل شيء فصلناه تفصيلاً " وقال: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، " بل لقد قال أحد اليهود لسلمان الفارسي - رضي الله عنه -:" قد علمكم نبيكم r كل شيء حتى الخراءة ! فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم فقد بينه الله ورسوله بيانًا شافيًا، فكيف بأصول التوحيد والإيمان " (مجموع الفتاوي 17/43) .
2. زعم الكاتب أن من حكمة الله - تعالى- أن تبقى مفاوز ظنية محتملة يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب.
والعجيب أن هذا نفس كلام أهل البدع الذين يزعمون أن من حكمة إنزال المتشابه أن يجد أصحاب كل مذهب فيه ما يوافقهم، ومن ذلك ما قاله الرازي في أساس التقديس (ص 248) قال: " لو كان القرآن كله محكمًا لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد فكان على هذا التقدير تصريحه مبطلاً لكل ما سوى هذا المذهب، وذلك ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه... ".
فياسبحان الله كيف تكون الحكمة في عدم هداية الناس إلى القول الحق، وإنما في التلبيس والتعمية عليهم بعمومات محتملة تثير النزاعات والخلافات بينهم !
والحق أنما يفتتن بالمتشابه ويتبعه أصحاب القلوب المريضة كما قال الله - تعالى -:" فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله".
وأما أهل الرسوخ في العلم فيردون المحكم إلى المتشابه ويؤمنون به.
3. ذكر الكاتب أن من الأصول التي أهملها المقرر: تعميق الإيمان بالتعددية، بما يعني الإقرار في الاختلاف، فهل الكاتب يرى أن الإسلام يقر كل تعدد في الدين والرأي مطلقاً دون قيد أو شرط؟ وكيف يفهم ذلك في ضوء النصوص الشرعية كقوله - تعالى-: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله "، وقول صلى الله عليه وسلم :"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله " الحديث، وقوله: " من بدل دينه فاقتلوه ".
وهل يرى الكاتب أن لكل أحد أن يقول ما يشاء ويعتقد ما يريد من الكفر والإلحاد، ويفعل ما يختار وأن يُقَر على ذلك ولو كان فيه ما فيه باعتبار أنه وحده المسؤول عن حرية الاختيار ؟ !
وهل هذا المنهج إلا تهيئة للطالب لتقبل كل فكر منحرف، وعذر صاحبه، ومعلوم ما يحدثه هذا التوجه من شروح في بنية المجتمع الواحد، وزرع للاختلافات، وسماح لشذوذ الأفكار.
4. ما ذكره الكاتب بقوله: " نبذ الزهو المذهبي " لم يفصح بمراده ولم يذكر أمثلة واقعية له؛ فإن كان يرى أن تقرير عقيدة التوحيد في ضوء الكتاب والسنة والدعوة إليها والتحذير مما خالفها، من التوجهات البدعية والشركية إن كان يعتقد أن ذلك زهواً وغرواً مذموماً فهذه مصيبة، وفي ذلك تمييع لقطعيات الدين وقول بنسبية الحق والمعرفة.
والغريب من الكاتب أن يجعل الاعتداد بالحق والدين الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ ما خالفه مشابهاً لاعتداد اليهود والنصارى بأديانهم - كما هو مفهوم كلاًمه-.
5. ما ذكره الكاتب من تكريس قيم التعايش فيه عمومية لم يحدد مقصوده منها، ولم يبين وجه إخلال المنهج بها!
6. ما ذكره من عدم بخس المخالف.. كلام حق وجميل، ولكن هل هذا الأصل غائب في المنهج؟
7. ما ذكره من مراعاة الوسع حق، ولكن ظاهر كلامه فيه خلط بين مراعاة الوسع وبيان الحق والرد على الانحراف، فكون الشخص يبذل وسعه، ويتوصل إلى نتيجة خاطئة ليس بعذر له في نشر باطله وسكوت غيره عن الرد عليه.
26. - (ص13-14) زعم الكاتب أن المقرر بالغ في تصوير الانحراف الواقع في العالم الإسلامي، وذلك بإشارته إلى كثرة البدع والأهواء، ووقوع الشركيات لدى كثير من المسلمين.
والجواب من وجوه:
1. إن ما ذكره المقرر حق فكثير من بلاد الإسلام وقع فيها ذلك.(39/331)
2. إن هذا مصداق ما جاء عن رسول ا صلى الله عليه وسلم من قوله: " وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار الا واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله قال:" من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي "، وفي رواية "هي الجماعة " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وصححه ووافق الذهبي.
3. إن المنهج لم يعمم الحكم والوصف على كل المسلمين، بل ذكر أن كثيرًا منهم يحصل منهم انحرافات، وهذا واقع.
4. إن تصوير الواقع كما هو، وذكر المنهج الصحيح للتعامل معه أولى من المخادعة وتصوير العالم الإسلامي بغير حقيقته، أو الزعم بأن واقعة يمثل الإسلام الصحيح. انتقد الكاتب عبارة المقرر بأنه " أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا أو لا تهتم به أصلاً " وجعل ذلك تهويلاً ضد المؤسسات الاجتماعية.
والجواب:
إن هذا الكلام جاء في سياق ذكر أسباب الانحراف عن العقيدة فهو يتكلم كلامًا عامًا، لا يقصد بلدًا بعينه، ولذا قال: في الغالب، وهذا الكلام حق، فإن الناظر في مناهج التعليم في كثير من بلاد الإسلام يجد تهميشًا لتعليم أمور الدين والعقيدة الصحيحة، بل لا تكاد تجد بلداً يولي اهتماماً بتعليم أمور الدين والعقيدة الصحيحة خاصة في مناهجه كما في المملكة العربية السعودية؛ لأن الدين الإسلامي وهو أساسها ومنهج حكمها، ولذا كثر الشغب والهجوم على مناهجها من أعدائها ومن بعض أبنائها العاقين لها ولمنهجها.
27. - (ص14) انتقد الكاتب ما ذكر في المقرر من سبل توقي الانحراف في العقيدة بالعناية بتدريس العقيدة الصحيحة وإعطائها الحصص الكافية من المنهج ويرى أن في ذلك إجحافًا بارزًا.
والجواب:
أن هذا الكلام ذُكر في المقرر في سياق بيان سبل توقي الانحراف عن العقيدة عمومًا فهو لا يتحدث عن بلد بعينه.
والناظر في واقع كثير من بلاد الإسلام يجد إجحافًا في تدريس العقيدة حال وجوده.
ثم نتساءل: هل الاهتمام والعناية بتدريس العقيدة الصحيحة يعد إجحافًا بالبرنامج التعليمي ؟ وهل يضبط الانتفاع بالعلوم وينضبط توجه المتعلم وإخلاصه لوطنه إلا بالعقيدة الصحيحة ؟ !
28. - (ص14) صادر الكاتب مفهوم عبارة المقرر في بيان انحراف وسائل الإعلام، وحملها ما لا تحتمل، ونص العبارة " أصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعنى بأشياء مادية أو ترفيهية، ولا تهتم بما يقوم الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة ".
وقد زعم الكاتب أن العبارة تجعل وسائل الإعلام منسلخة عن العقيدة منحلة الأخلاق.. وهذا التعميم من الكاتب باطل لا تدل عليه عبارة المقرر لأنه جاء فيها" في الغالب" ولم تجعل الحكم على الجميع كما زعم الكاتب، وذكرت أن وسائل الإعلام لا تهتم بما يقوم الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة ولم تقل إنها منسلخة عن العقيدة منحلة الأخلاق.
29. - (ص15) انتقد الكاتب تحذير المقرر الطلاب من تصديق ما تبثه الإذاعات الأجنبية ووكالات الأنباء الحاقدة... ولا أدري ما العيب في هذا التحذير الذي هو بمثابة التحصين للطلاب ضد سلبيات الإعلام، وكأن الكاتب يريد أن يزج بالطالب في كل واد وأن يشتت ذهنه ويمزق سلوكه، ويشككه في ثوابته، ويوغر صدره على بلده باستماعه كل ما يبث عبر تلك الوسائل الأجنبية الحاقدة والمشبوهة، وكأنه يفترض في الطالب أن لديه القدرة على كشف ألاعيب وخداع وشبهات الحاقدين والمتربصين.
30. - (ص15) نقل الكاتب عن المقرر عبارة محرفة في كفر من حكم بغير ما أنزل الله حكمًا عامًا في دين المسلمين، وزعم أن في ذلك تقديم قواعد خطرة للطالب في تكفير الأنظمة والحكومات معزولة عن ضوابط التطبيق، والجواب:
1. إن عبارة الكتاب ليس فيها ذكر للأنظمة ولا الحكومات.
2. إن الحكم المنقول فيمن بدل شرع الله اعتمد في المقرر على فتاوى الشيخ/ محمد بن إبراهيم (مفتي الديار السعودية في وقته).
3. إن المقرر قدم قبل هذا ذكر ضوابط التكفير وخطره وشروطه وموانعه، فالمحذور المذكور منتفٍ.
4. إن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل، فلا يلزم من جعل الفعل كفرًا تكفير كل من فعله كما هو معلوم من مذهب أهل السنة والجماعة.
كما أن الكاتب انتقد غمز المقرر لمن لا يتحاكمون إلى شرع الله إلا في الأحوال الشخصية فقط، ورأي وجوب وصفهم بالإسلام.
كما رأى أن التنبيه على هذه الثغرة خطير لما ينتجه من التأثير على نفسية الطالب واعتزاله،. وهنا يتبين اضطراب الكاتب وتناقض وجهته، فحيناً نراه يدعو للانفتاح وجعل الطالب يسمع كل ما يقال وينشر ويعرض، وفى حينٍ آخر يدعو إلى إغفال الحديث عن الواقع وتناسيه وتعمية الأحكام على الطالب.
31. (ص16) انتقد الكاتب ما اشتمل عليه المقرر من التخويف من الشرك والنفاق، والتحذير من الردة والبدعة، ورأى أن هذه التهويلات والمبالغات تمزق السكن النفسي للفرد، وتطوق أنفاس الإنسان وحركاته وسكناته، وأوهم أن المقرر صور تلك الأمور" الشرك، والنفاق، والبدعة، والردة " كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها.
والجواب من وجوه:(39/332)
1. إن الخوف من الشرك والنفاق أمر تعضده النصوص الشرعية والآثار السلفية، فقد قال الله - تعالى- عن نبيه إبراهيم عليه السلام:" واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس" قال: إبراهيم التيمي: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم" فمن ذا الذي يدعي العصمة من الوقوع في الشرك، وكيف لا يخاف وهو محبط للأعمال وموجب للخلود في النيران. وقال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه "
2. إن المقرر لم يجعل تلك الأمور مما لا يمكن مقاومته، بل هذه دعوى ومصادرة لمفردات المنهج المتكاثرة في بيان أسباب توقي هذه الأمور.
3. إن الواجب التحذير والتخويف من الوقوع في كل ما يضر بالدين، كما أنا نحذر من كل ما يضر بالصحة والمجتمع ووحدة الصف وأمن الوطن ونحو ذلك، وليس في هذا التحذير تمزيق للسكن النفسي، بل فيه دفعة للمشاركة وتقوية للشعور بالانتماء.
4. إن مفهوم كلام الكاتب أن الواجب إشعار الطالب بخطر تلك الأمور دون تخويفه من الوقوع فيها، وتحذيره من قربها، وبمعنى آخر إفهام الطالب بخطرها وتطمينه من الوقوع فيها، فعلى هذه الرؤية ينبغي الاقتصار على إشعار الطالب بخطر المخدرات مثلاً دون تحذيره من أسبابها، ولا تخويفه من مضارها، ولا تنبيهه على عدم الانخداع بأصحابها، بل يشعر بأنها خطر وأنه في مأمن من الوقوع فيها، وهكذا في كل أمر مماثل.
5. إنه يجب على المسلم ألا يركن إلى علمه ولا يثق بفهمه أو يستغني عن ربه، بل عليه أن يكون دائم الصلة بربه مستشعرًا فقره إليه، طالبًا العون منه على الثبات على الحق وتجنب الشرك وأسبابه.
6. إن انتقاد الكاتب لمنهج السلف الصالح في التحذير من الشرك، وأن الشخص قد يقع فيه وهو لا يشعر إن هذا الانتقاد مخالف لمقتضى النصوص الشرعية في التحذير من الشرك وبيان خطره، ومن ذلك قوله: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء " رواه أحمد وغيره، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: خطبنا رسول ا صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل" فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يارسول الله ؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم " رواه أحمد وغيره. وكيف لا يُخاف ولا يُخوف من الشرك، وقد قال الله - تعالى- فيه: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ".
ومعالجة الإرادات والنيات من أشد الأشياء فقد يكتب الشخص نقدًا أو يعرض مشروعًا أو يقول قولا أو ينفق مالاً يريد به المكانة والشهرة أو أي أمر دنيوي آخر، وإن كان ظاهر حاله أو يظن في نفسه الانتصار لدينه والحرص على وطنه - نسأل الله السلامة والعافية-، ولأن هذا الأمر يتعلق بالنية وهى مصاحبة للشخص في عامة أحواله جاء التركيز عليها، و الحث على تنقيتها.
7. يلحظ على الكاتب جرأة في نقد بعض مدلولات النصوص الشرعية، والإيهام بأن النقد موجه لمفاهيم المقرر التي هي في الحقيقة مستقاة من النص نفسه، كما يلحظ عليه نسفاً للآثار السلفية، وعدم اعتبار لمدلولها كما في غمزه لأثر ابن أبي مليكة، ولكلام ابن القيم في هذا المقام.
32. (ص18-19) عرض الكاتب لموقف المقرر من الحضارة، فاتهمه بالاضطراب والتناقض، ونقل عنه بعض النصوص في هذا الموضوع.
والناظر في هذه النصوص المنقولة يلحظ تناقض الكاتب نفسه، وعدم فهمه، ومصادرته للحقيقة.
فقد نقل عن المنهج حثه على تعلم الصناعات المفيدة واتخاذ القوة والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة والاتجاه نحو البناء والتنمية.
ثم يصور اضطراب المنهج في هذه القضية حينما وجه بعدم استحقاق أهل النظرة المادية للحياة وصف العلم وإن كان لديهم خبرات وصناعات.
والجواب:
1. إن المنهج أشاد بالأخذ بما هو نافع من الأمور الحياتية وما توصلت إليه الحضارات مما هو مفيد ونافع.
2. لا تناقض بين الإشادة بالأخذ بالنافع الدنيوي وذم من يكون همه هو الحياة الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.
3. إن المقرر لم يجعل العلماء الذين انحصر همهم وعلمهم في الصناعة والمخترعات الدنيوية جهالاً في فنهم ودنياهم، بل جعلهم جهالاً في أمور دينهم وهذا هو مدلول قوله- تعالى-:" وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " فأثبت لهم العلم وعدم العلم، فهم علماء في الدنيا جهال بالآخرة، والعجيب أن الكاتب يأخذه الهوى في مصادرة مفهوم عبارة المقرر إلى أن يجعل مدلولها أن علماء الحضارة ثلة من الجهال هكذا بإطلاق موهم، وأن الذي يستحق وصف عالم هو العابد فقط.(39/333)
فأين هذه العبارة وهذا المفهوم من المقرر، وإنما الذي جاء فيه عدم استحقاق أهل النظرة المادية وصف العالم بإطلاق، وأنه إنما يطلق هذا الوصف الشريف على أهل معرفة الله وخشيته، ولم يقل العابد، فالعالم هو من يخشى الله تعالى كما قال - سبحانه - : " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وما ورد في الشرع من إطلاق مدح العلماء ورفع درجاتهم، وأنهم ورثة الأنبياء إنما يستحقه من هو أهل لذلك ولا يستحقه العلماء الماديون الغافلون عن الله والدار الآخرة، هذا هو مقصد المقرر كما يفهم من سياق كلامه وليس كما صوره الكاتب وأوهم بما نقله من بعض النص.
وما ذكره الكاتب من عدم التلازم بين قضية التقدم المدني في الحضارة المعاصرة وقضية الإيمان هو مفهوم عبارة المقرر.
33. (ص20) في أول (ص 20) نقل الكاتب نصًا حذف منه ما يرد عليه مأخذه، إذ إن المحذوف من النص فيه اعتراف بما عند الدول الكافرة من تقدم صناعي، وحث على تقليدهم في النافع من ذلك، وفي الجد وإعداد القوة، كما أن فيه تحذيرًا من تقليدهم في أخلاقهم وعاداتهم السيئة، كما أن الكاتب قطع نصًا آخر واقتصر منه على عبارة " والتي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار كما هو مشاهد في المجتمعات الجاهلية ".
فأوهم الكاتب أن المقرر يجعل كل ما تقدمه الحضارة المادية المعاصرة يقود إلى الدمار، وسياق كلام المقرر في الواقع لا يدل على ذلك، وإنما فيه أن مقومات الحياة المادية كثيرًا ما تقود إلى الدمار إذا كان مجتمعها لا تسوده عقيدة صحيحة، وهذا حق واقع مشاهد لا ينكره إلا مكابر أو جاهل.
34. (ص20) جعل الكاتب إضمار العداوة للكفار وبغضهم من التحريض والاستعداء على المسالمين والحق أن ما قرر الكاتب جهل بنصوص الشرع فإنه لا تلازم بين البغض والاستعداء، فالمسلم يبغض الكافر؛ لأنه عدو لله محاد له، والله - تعالى- نهى عن تولي الكافر وموادته كما قال - تعالى-: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " الآية، وقال - تعالى-:" لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية، والنصوص الشرعية في هذا المعنى كثيرة معلومة، فالكافر تجب معاداته، وفي المقابل لا يجوز الاعتداء عليه، ولا منافاة بين بغضه والإحسان إليه وتأليف قلبه وتحبيب الدين له.
فلا منافاة بين العداوة القلبية والمداراة والإحسان والتأليف والعدل.
35. (ص21-22) ما ذكره الكاتب من الوقائع في الاستفادة مما عند الآخرين من النافع المفيد لامشاحة فيه والمقرر لم ينفه، بل أكد عليه، ومن ذلك ما جاء في كتاب التوحيد للصف الأول ثانوي في موضوع تقليد الكفار قال: " تقليدهم في الأمور التي ليست من خصائصهم، بل هي أمور مشتركة كتعلم الصناعات المفيدة واتخاذ القوة والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة التي أخرج لعباده والأكل من الطيبات من الرزق، فهذا لا يعد تقليداً بل هو من ديننا، والأصل أنه لنا وهم لنا فيه تبع".
36. (ص22) قرر الكاتب جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية مستدلاً بحديث " حدثوا عني بني إسرائيل ولا حرج " وقول أبي هريرة رضي الله عنه " كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ".
ويلاحظ بأن الكاتب اتخذ منهج الانتقائية للنصوص الشرعية وتجزئتها بما يخدم غرضه ورؤيته.
فالحديث المذكور ليس فيه ما يدل على جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية بل مدلوله في إباحة التحديث عنهم بما لا يتعارض مع ديننا وشريعتنا، فالمنقول عن بني إسرائيل إما أن يأتي في شريعتنا ما يؤيده فيصدق وإما أن يأتي ما يعارضه فيكذب، وإما ألا يرد هذا ولا ذاك فلا يصدق ولا يكذب ويبقى الخبر في هذه الحالة معلقًا محتملاً، وهذا ما يفيده ما حذفه الكاتب من بقية أثر أبي هريرة رضي الله عنه ، فقد جاء في تكملته : فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل " الآية.
فحذف الكاتب بقية رواية أبي هريرة المبينة للحقيقة المخالفة لما يهدف إليه.
وإباحة التحديث عنهم فيما لا يعارض شرعنا إنما هو في ذكر القصص والأخبار، أما العقائد والأحكام فلا يجوز أخذ شيء منها لا من التوراة ولا من الإنجيل؛ لأنها محرفة منسوخة، وقد غضب رسول ا صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر رضي الله عنه صحيفة من التوراة.
فكيف يقرر الكاتب أن رسول ا صلى الله عليه وسلم أزال عن الصحابة رضي الله عنه هذه الحواجز في التردد في النقل عن الثقافة اليهودية.
37. ص22-23 لا حظ الكاتب وجود موضوعات في مقرر التوحيد والفقه كرر الكلام عنها في مقرر الحديث وهذه ناحية لا حاجة لإطالة الكلام فيها، وإن كان من المعلوم أنه ليس كل تكرار مذمومًا، وأن التناول للقضايا في مقرر الحديث يختلف هدفه عنه في مقرر الفقه أو التوحيد كما هو معلوم عند أهل الاختصاص.(39/334)
38. (ص23-24) عاب الكاتب على المنهج تزهيده في الدنيا واحتقار مظاهرها وعدم الانبهار بمعطيات الحضارة المادية، وذكر أن سبب هذا العيب في هذا التوجيه هو القلق على العقيدة.
والحق أن مسألة التزهيد في الدنيا وعدم الاغترار بها والركون إليها أمر تواترت بتقريره النصوص الشرعية مما لا حاجة للإطالة بذكره.
وما نقله الكاتب عن المقرر من أن الانبهار بمعطيات الحضارة المدنية سبب في الانحراف العقدي قد حذف منه أوله المبين للمقصود، والذي جاء في المقرر:
" الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية.... " الخ.
فعبارة المقرر ظاهرة في أن الغفلة عن الآيات المقرونة بالانبهار بالحضارة المادية ونسبة ما تم التوصل إليه إلى الجد البشري وحده، ونسيان عظمة الخالق - سبحانه- الذي دلهم وعلمهم وأقدرهم هذا من أسباب الانحراف عن العقيدة.
ويلحظ أن هذا الكلام المذكور في المقرر في تسعة أسطر اجتزأ الكاتب قليلاً منه وذكره بعيدًا عن سياقه، لينتج مراده من التشنيع على المقرر باختزاله الانحراف عن العقيدة بالانبهار بالحضارة المادية.
39. (ص25) زعم الكاتب أن المقرر يُحمٍّل العبارات الدلالات الكفرية دون نظر في قصد قائلها، مثل ما ورد في المقرر من قول " الدين ليس في الشعر"، وقول: " جاءكم أهل الدين، للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والاستهزاء بالقائمين على أعمال البر"، والحق أن المقرر لم يهمل قصد قائلها، بل ذكر هذه العبارات في سياق من يقولها استهزاء بالدين وأهله وشعائره كما دلت عليه آية سورة التوبة " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ".
فإيراد الكاتب لهذه الأمثلة على عدم اعتبار المقاصد مصادرة للسياق ومغالطة للمضمون.
40. (ص26) يفترض الكاتب فهمًا خاطئاً للعبارات التي نقلها عن المقرر، مثل زعمه تجاهل المقرر عذر المخطئ في عبارة " الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون"، وعبارة "الشرك قد يتسرب إلى الإنسان من حيث لا يشعر"
والجواب:
أن هذا الفهم لهذه العبارات غير صحيح، فليس فيها عدم عذر المخطئ، وإنما فيها احتمال وقوع الشرك من الشخص وهو لا يدري أو لا يشعر، وذلك راجع إلى خفاء الشرك في بعض الأمور أو جهل الإنسان وعدم احترازه، وهذا هو مفهوم النصوص الشرعية كما سبق في النصوص التي وصفت الشرك بأنه أخفى من دبيب النمل وإرشاد الرسو صلى الله عليه وسلم إلى قول: " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم".
41. (ص26) انتقد الكاتب ما جاء في المقرر من العذر ببعض حالات الجهل دون بعض، فهو يرى أن الجاهل معذور مطلقًا دون تفصيل.
ولعل الكاتب لم يطلع على أقوال العلماء في هذه المسألة، وأن هناك أمورًا لا يتصور فيها الجهل، وذلك كتنقص الرب - تعالى- بالسب مثلاً فلا يعذر صاحبه بحجة جهله بأن تنقص الرب مخرج من الدين كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول).
42. ( ص26) زعم الكاتب أن عبارة المقرر توحي بإطلاق الكفر على الجاهل ونقل عن المقرر من العبارات قوله: " إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا، فهو شرك أكبر"، وقوله: " الناس قد يقعون في ألوان من الشرك وهم يجهلون ".
والحق أن هذه العبارات ليس فيها ما يوحي بإطلاق الكفر على الجاهل، وإنما فيها إطلاق وصف الشرك على الفعل لا على الفاعل، ومن المعلوم أن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل، فالفعل قد يكون شركًا وفاعله لا يكفر إلا عند توافر الشروط وانتقاء الموانع، وقد جاء في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي بيان خطر التكفير، وأنه لا يحكم على الشخص إلا بعد قيام الحجة عليه.
وكذا يرد على الكاتب زعمه (ص 26) أن المقرر تجاهل عذر المتأول وأوحت عباراته بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة، كما في الموقف من الصفات الإلهية والصحابة فيرد عليه بما سبق من ذكر عذر الجاهل؛ لأن المتأول في حكم الجاهل، وفرق بين وصف الفعل بأنه كفر والحكم على الشخص الفاعل أو القائل بأنه كافر، ثم إن المقرر نص على العذر بالتأويل كما في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي.
43. (ص26) انتقد الكاتب عدم عذر الخائف الوارد في عبارة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والتي قال فيها بعد ذكر نواقض الإسلام العشرة: " ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ".
والجواب:
إن الخائف غير معذور في إظهار الكفر، وإنما يعذر في إخفاء إيمانه، وهناك فرق بين الخائف والمكره - كما نص عليه الشيخ - فالمكره له أن يظهر الكفر، وأما الخائف بلا إكراه فليس له أن يظهر الكفر بمجرد الخوف، والفرق بين الأمرين ظاهر، وعلى هذا فالعبارة ليس فيها إلغاء لعذر الخوف مطلقًا، فالخائف يعذر في جانب دون جانب - كما دلت عليه النصوص الشرعية-.(39/335)
44. (ص26) ذكر الكاتب من نماذج اضطراب المنهج ما قرره عن ممارسة الأنشطة الأسبوعية كأسبوع الشجرة والمرور، حيث يجعلها فسقًا ومعصية، والمشارك فيها آثم؛ لأنها تقليد للكفار ثم نقل النص من المقرر، وهو: " تخصيص بعض الأيام والأسابيع للنشاط في بعض الأعمال واتخاذ الأيام الوطنية والقومية، وهذا محرم وفسق "، ثم قسم الكاتب الأنشطة التي يمارسها غير المسلمين إلى نوعين:
* إما أن تكون شعائر دينية وممارسات تختص بهم، فهذا لا يجوز للمسلم ممارسته.
* والثاني أنشطة اجتماعية يتخذونها بشكل مدني لتدبير شؤونهم العامة، وهذه أجازها الكاتب بثلاثة شروط:
1. تحقيق المصلحة.
2. الخلو من الموانع الشرعية.
3. انتفاء قصد التشبه.
والجواب:
1. إن المنهج لم يمثل بأسبوع الشجرة وأسبوع المرور- كما زعم الكاتب-.
2. أن الكاتب حذف أول عبارة المقرر التي تبين المقصود، وهى قوله:" تقليدهم فيما ابتدعوه في دينهم من الأعياد الباطلة والمناسبات كأعياد المولد، وتخصيص بعض الأيام والأسابيع..." الخ. فظاهر عبارة المقرر أن المحضور أيام وأسابيع دينية، وهو ما قرر الكاتب عدم جوازه للمسلم.
3. ذكر الكاتب من شروط جواز موافقة الكفار في الأنشطة المدنية خلوها من الموانع الشرعية وانتقاء قصد التشبه، وهذا حق.
فإذا لم توجد المخالفة الشرعية، ولم يقصد التشبه بهم في أمر فيه مصلحة فلا مانع من الأخذ به، بل قد يحث على ذلك كما قرره المنهج في القسم الثاني من أقسام تقليد الكفار.
وبهذا يظهر أن الكاتب ناقض نفسه، وزايد على المنهج بما ليس فيه.
45. (ص27-28) أكثر الكاتب من انتقاد المنهج في النهي عن نسبة النتائج إلى أسبابها، وجعل ذلك من الشرك الأصغر.
وانتقد في هذا السياق بعض العبارات الواردة عن السلف في ذلك مثل ما ورد عن مجاهد من التمثيل بقول الرجل: " هذا مالي ورثته عن آبائي "، وتمثيل بعض السلف بقول: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، كما انتقد ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه من التمثيل بنحو قول الرجل: لولا الله وفلان، ولولا كليبة لأتانا اللصوص.
ويرى الكاتب أن المتلفظ بها إذا لم يقصد الشرك فلا تكون شركاً، وإنما تكون شركًا أكبر إذا قصد بها مساواة السبب بالله - تعالى-.
والجواب من وجوه:
1. إن الكاتب في عرضه لهذه المسألة لم يذكر الحالة التي يكون فيها مثل تلك الأقوال شركًا أصغر، وكأن الشرك عنده في هذه الحالات لا يكون إلا أكبر مخرجًا من الملة، وإن قائل مثل هذه العبارات إما أن يقصد مساواة السبب بالله فيكون مشركًا شركًا أكبر خارجاً من الملة، وإما ألا يقصد مساواة السبب بالله فلا يعد كلامه لاشركًا أكبر ولا أصغر، ولو كان ظاهر العبارة المساواة.
2. إن ما ذكره من عدم ضرر العبارة التي ظاهرها التشريك وعدم النهي عنها مخالف لما أثر عن السلف الصالح في هذا الباب، بل مخالف للأحاديث الصحيحة كما في حديث " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ". فالحق أنه ينهى عنها مطلقًا دون نظر في قصد صاحبها، وقصد صاحبها يصرفها إما للشرك الأكبر أو الأصغر، وكل ذلك منهي عنه.
3. إن ما استدل به الكاتب من الآيات التي ظاهرها التشريك والتسوية بين الخالق والمخلوق؛ كقوله - تعالى- : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه، ونحوها قد أجاب عنها العلماء بما يلي:
أ - إن التكلم بعبارة التشريك كما في الآية لا يجوز إلا لله - تعالى-، فكما أنه - تعالى- يقسم بما شاء من مخلوقاته، ولا يجوز للمخلوقين أن يقسموا فكذلك هنا.
ب - إنه ورد النهي عن التشريك والتسوية بين الخالق والمخلوق في الفعل الواحد، " والآية أخبر الله تعالى بها عن فعلين متغايرين، فالله تعالى أنعم على زيد بالإسلام، و صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، وكذا بقية الآيات المشابهة لذلك،( ينظر تيسير العزيز الحميد ).
4. إن قول: لولا فلان لم يحصل كذا " إن أراد به مجرد الخبر الصدق المطابق للواقع فلا بأس به، ومثله قول: " هذا مالي ورثته عن آبائي".
وإن أراد بمثل بذلك السببية فله ثلاث حالات:
أ- أن يكون السبب خفيًا أو لا تأثير له إطلاقًا كأن يقول: لولا وجود قبر الولي في المكان الفلاني لاحترقت القرية مثلاً، فهذا شرك أكبر.
ب- أن يكون السبب صحيحًا ثابتًا شرعا أو حسًا فهذا جائز نسبة الشيء إليه، بشرط: إلا يعتقد أن ذلك السبب مؤثر بنفسه أو ينسى أن الله - تعالى- هو المنعم حقًا كما قال - سبحانه وتعالى-:
" وما بكم من نعمة فمن الله "، ويدخل في هذا القسم ما مثل به الكاتب من قول صلى الله عليه وسلم في عمه: " ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ".
ج- أن يضيفه إلى سبب ظاهر لكن لم يثبت كونه سببًا لا شرعاً ولا حسًا، فهذا النوع من الشرك الأصغر، وذلك كتعليق التمائم، واعتقاد أنها سبب دفع العين؛ لأنه أثبت سببًا لم يجعله الله سببًا، فكان مشاركًا لله في إثبات الأسباب( ينظر في هذا التقسيم القول المفيد للشيخ ابن عثيمين)، فالكاتب يريد أن يجعل جميع العبارات الواردة في المنهج من القسم الثاني الجائز دون قيد أو شرط، وهذا لا يصح .(39/336)
ثم إن المقرر لم يجعل هذه العبارات شركًا مطلقًا، بل قّيد وفصّل فقد جاء في كتاب التوحيد للصف الثالث المتوسط ما نصه:
" يغفل كثير من الناس فلا يذكرون إلا الأسباب وينسون خالقها ومسببها - سبحانه -، فيقولون مثلاً: لولا الطبيب أو المهندس أو السائق... الخ لحصل كذا من الضرر، وهذا لا يجوز إلا إذا كان يعتقد أنه مجرد سبب, وأن الأمر كله بيد الله وكان هذا السبب صحيحًا، والطريقة الأفضل أن يقال: لولا الله ثم فلان.
فالمقرر لم يجعل مثل هذه العبارات شركًا مطلقًا كما زعمه الكاتب، بل جعل فيها تفصيلاً كما سبق، والعبارات الواردة في المقرر جاء النهي عنها إما باعتبار نسيان المنعم الحق والغفلة عنه، أو لاعتقاد أن السبب مؤثر بنفسه أو لنسبة شيء لشيء وليس سببه ظاهراً.
46. (ص28) ذكر الكاتب أن المقرر يعطي العبارات التلقائية والعفوية أبعادًا أفخم من حجمها الطبيعي، كما يجعل من أنواع الإلحاد إطلاق اسم المهندس الأعظم أو القوة المطلقة على الذات الإلهية.
والجواب من وجوه:
1. إن أسماء الله - تعالى- توقيفية، كما قال سبحانه " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ".
2. بما أن أسماء الله - تعالى- توقيفية، فمن سمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه أو يسمه به رسول صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في أسمائه، أي: مال عن الحق فيها.
3. إن الإلحاد أنواع ودرجات وليس كل إلحاد كفرًا.
4. إن الحكم يكون على الفعل والبدعة بغض النظر عن قصد صاحبها، وسبق التفريق بين القول والقائل، فالحكم على القول وليس على القائل، فالقائل لا يحكم عليه إلا بعد توافر الشروط وانتقاء الموانع.
47. (ص29) طالب الكاتب بإعادة النظر في إعداد المقررات؛ لأنها بوضعها الحالي اعتمدت على مصنفات السلف الصالح، والتي وصفها بأنها جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية، والمعارك الدينية السياسية، وأنه لا حاجة إلى تدريس الطالب وتعريفه بالفرق البدعية وفساد مناهجها، وعلل ذلك بأنه لا ينتمي إليها من جهة، وأن حججها لا تصل إليه من جهة أخرى.
والجواب:
1. إن الطعن في تأليف المناهج لكونها اعتمدت على كتب المتقدمين ليس بصحيح؛ لأن كل مؤلف سيعتمد على مرجع قديم أو حديث، وما يقال في القديم يمكن أن يقال مثله في الحديث، والمعارك الدينية والسياسية موجودة في جميع مراحل التاريخ القديم والحديث، فالشأن إذن فيما يحمله المرجع من صواب أو خطأ لا في ظروف تأليفه .
2. إن الدعوة لعدم اطلاع الطالب على المذاهب المنحرفة وبيان فسادها بإطلاق بحجة أنه لا ينتمي إليها ليس بسديد، فافتراض أن ملايين الطلاب ليس عند أحد منهم شيء من التأثر أو الانتماء لشيء من هذه المعارك الفكرية والعقائد البدعية مخالف للواقع، ثم لو فرض ذلك، فلماذا هذه الدعوة إلى الحجر الفكري على الطالب مما فيه فائدة، وأين التحصين ضد هذه الانحرافات، فالمنهج كما يعالج واقعًا، فإنه يحصن من متوقع وممكن، لا سيما مع هذه الثورة المعلوماتية في العصر الحاضر، والتي جعلت العالم - كما يقال - قرية واحدة أو بيتًا واحدًا.
3. إن زعم الكاتب بأن حجج أصحاب ما سماه بالمعارك الفكرية لا يصل إلى الطالب ليس بصحيح، فشبهات أولئك مبثوثة عبر القنوات الفضائية ومواقع الانترنت وفي الكتب المنشورة وغيرها.
فكان الواجب تعريف الطالب بذلك وتحذيره منها ببيان فسادها وانحرافها.
48. (ص29) رأى الكاتب أن المقررات تجاهلت تبعًا للنظام السياسي ومبادئه المكتوبة والعرفية قضايا مهمة، ومنها: تجاهل تنظيم قنوات المشاركة الشعبية والتعبير عن الرأي بطريقة متمدنة، وزعم أن المقررات تخاطب الطالب بصفته الفردية بما يناقض مؤسسات المجتمع، وأنها تصمت عن آليات اندماج الطالب في مجتمعه ومشاركته فيه، ثم قرر أن من واجبات المقررات الدينية والنظام السياسي فتح آفاق المشاركة المدنية.
والجواب أن يقال:
إن ما سماه الكاتب بالمشاركة الشعبية أو المدنية والتعبير عن الرأي عبارة فضفاضة لم يبين مقصوده بها ولا تطبيقات لها.
فإن أراد بذلك إشراك الطالب في مؤسسات مجتمعه، وإسهامه في تنمية وطنه وإبداء آرائه وإشعاره بفاعليته وأهمية عطائه فهذا موجود مبثوث في المناهج عمومًا، وليس هناك حجر عليه ولا تجاهل له، لا من المقررات ولا من النظام السياسي، وأما إن أراد بذلك الزج بالطالب في هذا السن وهذه المرحلة في معارك وقضايا أكبر من مستواه فهذا في الحقيقة ظلم له، وتشتيت لجهوده، وإشغال لفكره ووقته بما يعيق مسيرته وتحصيله.
وأما ما أشار إليه الكاتب من أهمية توضيح آليات اندماج الطالب في مجتمعه فهو مطلب مهم وموجود، ولكن يوصى بالتوسع فيه، ثم إنه ليس خاصًا بالمقررات الشرعية، بل في جميع المقررات كالعلوم والتربية الوطنية وغيرها.
49. (ص30) ختم الكاتب مذكرته بذكر توصيان مَّر أكثرها أثناء كلامه السابق، وهي بمثابة تلخيص لما بسطه، ومنها:
1. أنه دعا إلى تنقية المقررات من آثار المعارك الكلامية والسياسية في تاريخ الجدل العقدي، وأن الواجب ترك ذلك للمختصين.
والجواب:(39/337)
إن مقررات العقيدة وكتب التوحيد ليس فيها معارك سياسية، وإنما فيها قضايا عقدية، وإذا كان الكاتب يرى أن ما حصل من السلف الصالح من ردود ومواقف تجاه أهل البدع كان دافعها سياسيًا وليس دينياً فهذا يحتاج إلى معرفة نواياهم المخالفة لظاهر حالهم.
وأما دعوته إلى ترك الردود على أولئك المخالفين مطلقًا فقد سبق القول في أهمية تحصين الطالب ضد تلك الأفكار المنحرفة، والأهواء المضلة، لا سيما مع هذا الانفتاح والدعوة إلى العولمة.
نعم يمكن إعادة النظر في بعض الجزئيات العميقة التي لا يكاد يستوعبها الطالب إن كانت موجودة، فتعاد صياغتها بما يتناسب مع وضع الطالب.
2. دعا الكاتب إلى تنقية المقررات من النزعات التكفيرية، وهذا فيه اتهام خطير للمقررات، وقد سبق بيان مخالفته للواقع، وأن المقرر بين عظم التكفير وخطره وموانعه وشروطه.
أما إن كان يدعو إلى عدم تكفير من دلت النصوص على كفره فهذه نزعة إرجائية تحتاج من الكاتب إلى إعادة قراءة نصوص الوحيين والصدور عنهما.
3. أطلق الكاتب القول بأن النصوص دلت على الكف عن تكفير أهل القبلة وعصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وأن هذا ما استقر عليه كبار فقهاء الأمة، وهذه القاعدة حق ولكن لها استثناءات وضوابط، فهل يريد الكاتب الكف عن تكفير أحد من أهل القبلة ولو جاء بمكفر، كعبادة غير الله والطعن في رسول ا صلى الله عليه وسلم مثلاً؟ وهل يعتقد أن دم كل واحد من أهل القبلة معصوم حتى لو استحل دماء المسلمين وفارق جماعتهم أو زنى وهو محصن ونحو ذلك، فإذا كان للكف عن تكفير أحد من أهل القبلة والقول بعصمة ماله ودمه وعرضه استثناءات وشروط، وقد ذكر في المقرر بعضها فلا يصح إطلاق القول في ذلك كما لا يصح تخطئة من كفر بقيود واستيفاء شروط.
4. ما ذكره الكاتب (ص 30) في رقم (3، 4، 5، 6، 8) حق في جملته، وذلك غير غائب عن المنهج.
5. اضطرب الكاتب حينما دعا إلى ضبط منظور فقهي للتعامل مع الآخرين برؤية عامة، ونهى عن التفصيل في ذلك، وهذا في الحقيقة ليس بسديد فإن الضبط إنما يتأتى بذكر التفاصيل والحالات وإعطاء كل حالة حكمها.
أما أن يكون في الكلام عمومية، فإنه يتقاطع مع النصوص الشرعية المفصلة والمبنية.
6. ما ذكره الكاتب برقم ( 9 ) سبق الحديث عنه.
" الخاتمة "
وبعد هذه الجولة السريعة مع هذه الملحوظات، فإن الناظر فيما سطره الكاتبان الكريمان ليتساءل عن الدافع لهما في هذا الهجوم العنيف على مقررات العلوم الشرعية، وعلى مقررات العقيدة بالذات، وفي هذا الوقت على وجه الخصوص؟
ونتساءل عن رؤية الكاتبين وملحوظاتهما على تلك المقررات، هل حدثت لهما في هذه الأيام، وهذه الظروف؟ أم أنهما كانا يريانها من قبل ولم يجدا الوقت المناسب لإظهارها ؟
وهل سبق أن قدما ملحوظاتهما هذه للجهات المختصة المعنية، أو تم عرض ما كتبا إلى أحد علمائنا الأفاضل، ما دام الدافع لهما نصرة الدين وحب الوطن، أم أنها جاءت في هذا الوقت وبهذا الأسلوب لتحقيق غرض معين؟!
ثم على فرض صحة تلك الملحوظات فلمصلحة من تنشر بتلك الطريقة العنيفة التي تتوافق مع أصوات الأعداء في الطعن في مناهجنا ومؤسساتنا، وأبنائنا، وقياداتنا؟ وهل عدم الكاتبان الأسلوب الأمثل في النصح والنقد الهادف البناء المتواضع ؟
هذه التساؤلات أترك الإجابة عنها للكاتبين الكريمين، واللذين آمل منهما مراجعة ما كتباه بإنصاف وموضوعية ومحاسبة ومراقبة لله - تعالى-.
سائلاً المولى- جل وعلا- أن يثبتنا على الصراط المستقيم، و ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، و أن ينصر دينه، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء، وأن يديم أمننا ويوفق ولاة أمرنا لكل خير، ويكف عنا كيد الأشرار وبأس الكفار إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،
وكتبه
د/ سليمان بن صالح الغصن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة
والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
28/2/1425هـ
====================(39/338)
(39/339)
المشاركة في الانتخابات البلدية
أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
السؤال
ما رأيكم بالمشاركة في الانتخابات البلدية حيث يرى البعض أنها وافد أجنبي ولذا لا تجوز المشاركة فيها؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فيرى بعض الناس أن الانتخابات وافد أجنبي ونظام غربي، أو أنها ستكون شكلية، مما قد يدفع هؤلاء وأولئك إلى عدم تشجيعها، فضلاً عن ممارستها أو الدخول فيها، ويبدو لي أن جميع أولئك مخطئون في ذلك، ووجه ذلك أن الانتخابات هي البوابة الرئيسية لمبدأ الشورى التي أمر الله بها بقوله:"وأمرهم شورى بينهم" والآية عامة للناس كلهم، الحاكم مع الشعب، وأفراد الشعب بعضهم مع بعض، والرئيس مع مرؤسية؛ بل المرأة مع زوجها (فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما) فتأدية خدمات الناس ومصالحهم اليومية أخذاً وعطاءً دفعاً أو منعاً من أوجب الواجبات الشرعية، بل إن خدمة الحيوان وتسهيل طريقه والرأفة به مسؤولية جماعية وقربة إلى الله، قال عمر بن الخطاب (والله لو أن شاة عثرت في أرض العراق لرأيت الله مسائلني عنها يوم القيامة. لماذا لم تمهد لها الطريق يا عمر) فكيف بخدمات الناس ونظافة بيئتهم!؟جاء في مسند الإمام أحمد عندما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعروف قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تنحي الشيء عن طريق الناس يؤذيهم..." يا سبحان الله! هذا في الخدمات الفردية الاختيارية، فكيف بالخدمات العامة الواجبة شرعاً كتعبيد الطرق، وإنارتها وإيصال الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وهاتف، ووسائل نقل لفك الاختناق في المدن، وعمل حدائق ومنتزهات وميادين عامة ومراقبة الأسواق في المواد الاستهلاكية وإتلاف الفاسد منها. وهذه بعض من صلاحيات مجالس البلديات سواء باشرته البلدية بنفسها، أو اشتركت ونسقَّت مع الجهات الأخرى ذات العلاقة.
وعامة أحكام الإسلام وواجباته يتدارسها الناس ويتشاورون فيها جماعة يؤدونها مجتمعين، ورأي الجماعة خير من رأي الفرد، والشاذ عند المحدثين ما خالف الجماعة، وإن كان ثقة في نفسه. ولئن كانت الانتخابات العامة تأخرت في بلادنا فإن البداءة بانتخابات مجالس البلديات هو عين الصواب؛ لأن التدرج هو سنة الحياة، ونستفيد من تجارب من سبقنا في هذا الميدان. وأعتقد أن هذه التجربة لها أثر إيجابي كبير في نفوس المواطنين عامة فضلاً عن الناخب والمرشح. وأهم ما ينبغي أن يتحلى به المرشح:
(1) الإخلاص لله سبحانه؛ لأن الحب للغير عبادة، فكيف بمباشرتها "أحب لأخيك ما تحبه لنفسك".
(2) حسن الخلق والتفاعل مع المشاريع والمناشط الحيوية التي تخدم الناس مباشرة.
(3) من الولاء للوطن وخدمة المواطنين تقديم المصالح العامة على المصالح الشخصية، والانتماءات القبلية والمذهبية والمناطقية والعرقية.
(4) لابد أن يتحلى العضو المنتخب عند النقاش بروح الفريق لا بروح الفردية والاستعلاء، وأتمنى لتفعيل هذه المجالس البلدية المنتخبة -لتعطي دليلاً ملموسًا لعموم الشعب -أن تبادر وتباشر أول أعمالها بإنشاء مجمع أو أكثر في كل مدينة ومحافظة؛ ليكون أشبه بالمركز والنادي الدائم لسكان الحي شيبا وشباباً، تمارس فيه جميع الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية والترفيهية، وينتخب أهل الحي من بينهم مجلسًا مصقرًا يقوم بإدارتهم، وتشارك الدولة في ميزانيته المالية للسنوات الثلاث الأولى على الأقل.
إن مشاركة المواطنين -والشباب منهم خاصة- في دخول انتخابات المجالس البلدية سواء كان ناخبًا أو مرشحًا أراه أمراً متعينًا عليهم لإنجاح هذه التجربة في بلادنا، ولا يجوز أن يبقوا سلبيين مع هذه الانتخابات بعد أن تولتها الدولة ودعت إليها، وسيتبع انتخابات المجالس البلدية هذه انتخابات أخرى -بإذن الله- وأمرها موكول إلى مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها، فيجب على كل مواطن أن يسرع إلى أخذ بطاقة (ناخب) وينظر في قوائم المرشحين، فليختر منها سبعة أسماء - إن كان في المدينة أو أربعة إن كان في محافظة من المحافظات- وليكن هؤلاء الذين يختارهم أكفأ الموجودين في القائمة وأصلحهم في نظره.
إننا لمتفائلون بنجاح هذه التجربة، وما سيتبعها من انتخابات مقبلة لا تقل عنها أهمية.
وإذا رأيت من الهلال نموه ***أيقنت أن سيصير بدرًا كاملاً
والشكر لكل عامل في هذه الانتخابات كبيرًا كان أو صغيراً أو سعى لتشجيعها والعمل على إنجاحها.
والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه.
المشاركة في الانتخابات البلدية وضوابطها
فضيلة الشيخ أ. د. ناصر بن سليمان العمر
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته.
أما بعد: فنسأل الله الكريم أن يعينكم ويسددكم.
ما رأي فضيلتكم في مشروع الانتخابات البلدية، هل تنصح بالتسجيل للانتخاب أم يخشى من المشروع و آثاره، مثل: فتح مبدأ النقد و الرأي الآخر دون ضوابط ، و لا يفعل نظام الشورى والتشاور .(39/340)
و جزاكم الله خير الجزاء .
الإجابة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ناقش عدد من العلماء مسألة المشاركة في الانتخابات البلدية وتوصلوا إلى جواز المشاركة فيها؛ لأن المصالح المترتبة على ذلك فيما يظهر أكبر من المفاسد المتوقعة؛ ولذلك فإنني أوصي بالمشاركة فيها واختيار من يتصف بالقوة والأمانة؛ لقول الله _تعالى_: " إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ " (القصص: من الآية26).
وكذلك لقَطْع الطريق على من يستغل هذه الولايات لأهداف شخصية أو لمآرب أخرى، كما حذَّرَت من ذلك اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز _رحمه الله_ وستنشر فتوى اللجنة الدائمة هذه قريباً.
ومن يطلع على كتاب (السياسة الشرعية) لشيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ يجد الجواب الكافي الشافي لمثل هذه المسائل المستجدة.
وفتوى شيخنا العلاَّمة عبد الرحمن البراك كافية لمن بحث عن الحق.
والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
انتخابات المجالس البلدية في السعودية
فضيلة الشيخ د . سفر بن عبد الرحمن الحوالي
السؤال
ما هي رؤيتكم حول الانتخابات البلدية في السعودية؟ وما حكم المشاركة فيها، وما هي الضوابط الشرعية لذلك؟
الإجابة
بسم الله الرحمن الرحيم.
فقد ورد إلينا سؤالكم عن رؤيتي حول الانتخابات البلدية في السعودية، وحكم المشاركة فيها، والضوابط الشرعية لذلك ؟
وإني لأشكر لكم جهودكم الملموسة والبارزة على موقعكم في الشبكة الإلكترونية ( المسلم ) في سبيل نشر الخير والسعي فيه _زادكم الله حرصاً وسداداً_ .
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
بعد إطلاعي على نظام هذه الانتخابات وصلاحيات المجلس والمرشحين؛ أرى أنه من الأفضل المشاركة فيها، حيث لم أجد أي محظور شرعي في ذلك ، بل المصلحة موجودة في تولي أهل الأمانة والكفاءة مثل هذه الأعمال التي تمس مباشرة حاجات الناس واهتماماتهم، ولو لم يكن من ذلك إلا تخفيف الفساد، وتقليل سبل إهدار المال العام لكان ذلك كافياً، مع أن للمجالس دوراً إيجابياً واضحاً، فهي خطوة ينبغي اتخاذها لتقوية أسباب الإصلاح وإضعاف عوامل الإفساد، وسوف تؤدي بحكم سنة التطور إلى إصلاح ما هو أعلى منها _بإذن الله_ .
أما الموقف المتجاهل أو الرافض فلا أرى له ميزة ولا ينتج عنه مصلحة.. هذا رأيي مختصراً وقد شرحته في بعض اللقاءات مطولاً، والله الموفق .
سفر الحوالي
4/11/1425هـ
حكم انتخاب أهل الإنحراف
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السؤال
هل يجوز للمسلم أن ينتخب للمجالس البلدية أو غيرها من الدوائر، شخصاًً يعتنق الشيوعية، أو يسخر بالدين ، أويعتنق القومية ويعدها ديناً؟
الإجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم، وبعد:
لا يجوز للمسلم أن ينتخب للمجالس البلدية أو الدوائر الأخرى من علم أنه شيوعي، أو يسخر بالدين الإسلامي، أو اعتنق القومية أو عدها ديناً؛ لأنه بانتخابه إياه رضيه ممثلاً له، وأعانه على تولي مركز يتمكن من الإفساد فيه، ويعِّين فيه من يشايعه في مبدئه وعقيدته، وقد يستغل ذلك المركز في إيذاء من يخالفه، وحرمانه من حقوقه أو بعضها، في تلك الدائرة أو غيرها بحكم مركزه، وتبادل المنافع بينه وبين زملائه في الدوائر الأخرى؛ ولما فيه من تشجيعه من استمراره على المبدأ الباطل وتنفيذه ما يريد.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
شروط من يجوز انتخابهم للمجالس البلدية
فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك
السؤال
فضيلة الشيخ، انتشر الطرح هذه الأيام لموضوع الانتخابات البلدية، فما رأيكم في المشاركة بالترشيح فيها؟
أفيدونا مأجورين.
الإجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مبدأ الانتخاب لتعيين أعضاء مجالس البلدية ونحوها، أو غيرها من الولايات هو من ضروب التقليد والتشبه الدخيلة على المسلمين.
فإن الأصل أن ولي الأمر يجتهد في اختيار الأكفاء الصُّلحاء لولاية أمور الرعية، ويستشير في ذلك أهل الخبرة والنصح، ولكن إذا طلب من الناس أن ينتخبوا، فينبغي لطلاب العلم وأهل الخير أن يشاركوا باختيار الأصلح في أمور الدين والدنيا من المرشحين؛ حتى لا يستَّبِد الجُهَّال والفُسَّاق وأهل الأهواء باختيار من يوافق أهواءهم، ومن هو على شاكلتهم، ففي مشاركة أهل الخير تكثير للخير وتقليل للشر، بحسب الاستطاعة،وقد قال الله _تعالى_:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ "(التغابن: من الآية16).
وقال _عز وجل_: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ " (الزلزلة:7).
ومن الحكمة في ذلك:
على المرء أن يسعى إلى الخير جُهْدَه وليس عليه أن تتم المقاصدُ
والله نسأل أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يولي على المسلمين خيارهم.
والله أعلم.
=====================(39/341)
(39/342)
اللغة العربية ومكانتها بين اللغات
الأستاذ الدكتور فرحان السليم
أهمية اللغة :
اللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة. واللغة هي معجزة الفكر الكبرى.
إن للغة قيمة جوهرية كبرى في حياة كل أمة فإنها الأداة التي تحمل الأفكار، وتنقل المفاهيم فتقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمة الواحدة ، وبها يتم التقارب والتشابه والانسجام بينهم. إن القوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقاً عن مضمونها الفكري والعاطفي .
إن اللغة هي الترسانة الثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها. وقد قال فيلسوف الألمان فيخته : ((اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين . إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان )) .
ويقول الراهب الفرنسي غريغوار : (( إن مبدأ المساواة الذي أقرته الثورة يقضي بفتح أبواب التوظف أمام جميع المواطنين، ولكن تسليم زمام الإدارة إلى أشخاص لا يحسنون اللغة القومية يؤدي إلى محاذير كبيرة، وأما ترك هؤلاء خارج ميادين الحكم والإدارة فيخالف مبدأ المساواة، فيترتب على الثورة - والحالة هذه - أن تعالج هذه المشكلة معالجة جدية؛ وذلك بمحاربة اللهجات المحلية، ونشر اللغة الفرنسية الفصيحة بين جميع المواطنين )) .
ويقول فوسلر : (( إن اللغة القومية وطن روحي يؤوي من حُرِمَ وطنَه على الأرض )) .
ويقول مصطفى صادق الرافعي : (( إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة. كيفما قلّبت أمر اللغة - من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها - وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها .))
وقد صدر بيان من مجلس الثورة الفرنسية يقول : (( أيها المواطنون : ليدفع كلاً منكم تسابق مقدس للقضاء على اللهجات في جميع أقطار فرنسا لأن تلك اللهجات رواسب من بقايا عهود الإقطاع والاستعباد .))
أهمية اللغة العربية :
اللغة - عند العرب - معجزة الله الكبرى في كتابه المجيد .
لقد حمل العرب الإسلام إلى العالم، وحملوا معه لغة القرآن العربية واستعربت شعوب غرب آسيا وشمال إفريقية بالإسلام فتركت لغاتها الأولى وآثرت لغة القرآن، أي أن حبهم للإسلام هو الذي عربهم، فهجروا ديناً إلى دين، وتركوا لغة إلى أخرى .
لقد شارك الأعاجم الذين دخلوا الإسلام في عبء شرح قواعد العربية وآدابها للآخرين فكانوا علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة : المعاني ، والبيان ، والبديع .
وقد غبر دهر طويل كانت اللغة العربية هي اللغة الحضارية الأولى في العالم .
واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية، أو الساميات في الاصطلاح الغربي وهو مصطلح عنصري يعود إلى أبناء نوح الثلاثة : سام وحام ويافث. فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟
إن اللغة العربية أداة التعارف بين ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض، وهي ثابتة في أصولها وجذورها، متجددة بفضل ميزاتها وخصائصها .
إن الأمة العربية أمة بيان، والعمل فيها مقترن بالتعبير والقول، فللغة في حياتها شأن كبير وقيمة أعظم من قيمتها في حياة أي أمة من الأمم. إن اللغة العربية هي الأداة التي نقلت الثقافة العربية عبر القرون، وعن طريقها وبوساطتها اتصلت الأجيال العربية جيلاً بعد جيل في عصور طويلة، وهي التي حملت الإسلام وما انبثق عنه من حضارات وثقافات، وبها توحد العرب قديماً وبها يتوحدون اليوم ويؤلفون في هذا العالم رقعة من الأرض تتحدث بلسان واحد وتصوغ أفكارها وقوانينها وعواطفها في لغة واحدة على تنائي الديار واختلاف الأقطار وتعدد الدول. واللغة العربية هي أداة الاتصال ونقطة الالتقاء بين العرب وشعوب كثيرة في هذه الأرض أخذت عن العرب جزءاً كبيراً من ثقافتهم واشتركت معهم - قبل أن تكون ( الأونيسكو ) والمؤسسات الدولية - في الكثير من مفاهيمهم وأفكارهم ومثلهم، وجعلت الكتاب العربي المبين ركناً أساسياً من ثقافتها، وعنصراً جوهرياً في تربيتها الفكرية والخلقية .
إن الجانب اللغوي جانب أساسي من جوانب حياتنا، واللغة مقوم من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .
إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة، وقد كانت عبر التاريخ مسايرة لشخصية الأمة العربية، تقوى إذا قويت، وتضعف إذا ضعفت .(39/343)
لقد غدت العربية لغة تحمل رسالة إنسانية بمفاهيمها وأفكارها، واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها، اعتبروها جميعاً لغة حضارتهم وثقافتهم فاستطاعت أن تكون لغة العلم والسياسة والتجارة والعمل والتشريع والفلسفة والمنطق والتصوف والأدب والفن .
واللغة من الأمة أساس وحدتها، ومرآة حضارتها، ولغة قرآنها الذي تبوأ الذروة فكان مظهر إعجاز لغتها القومية .
إن القرآن بالنسبة إلى العرب جميعاً كتاب لبست فيه لغتهم ثوب الإعجاز، وهو كتاب يشد إلى لغتهم مئات الملايين من أجناس وأقوام يقدسون لغة العرب، ويفخرون بأن يكون لهم منها نصيب .
وأورد هنا بعض الأقوال لبعض العلماء الأجانب قبل العرب في أهمية اللغة العربية . يقول الفرنسي إرنست رينان : (( اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة .))
ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) .
ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ))
ويقول الدكتور عبد الوهاب عزام : (( العربية لغة كاملة محببة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، وتكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، كأنما كلماتها خطوات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة . ))
ويقول مصطفى صادق الرافعي : (( إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقةً أو حكماً .))
ويقول الدكتور طه حسين : (( إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً.))
خصائص اللغة العربية:
للعربية خصائص كثيرة يضيق المجال عن حصرها في هذه المحاضرة، لذا سأقتصر على بعضها تاركاً، لمن أراد التوسع، الرجوع إلى أمهات الكتب في هذا المجال .
1 - الخصائص الصوتية :
إن اللغة العربية تملك أوسع مدرج صوتي عرفته اللغات، حيث تتوزع مخارج الحروف بين الشفتين إلى أقصى الحلق. وقد تجد في لغات أخرى غير العربية حروف أكثر عدداً ولكن مخارجها محصورة في نطاق أضيق ومدرج أقصر، كأن تكون مجتمعة متكاثرة في الشفتين وما والاهما من الفم أو الخيشوم في اللغات الكثيرة الغنة ( الفرنسية مثلاً)، أو تجدها متزاحمة من جهة الحلق .
وتتوزع هذه المخارج في هذا المدرج توزعاً عادلاً يؤدي إلى التوازن والانسجام بين الأصوات. ويراعي العرب في اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة وتوزعها وترتيبها فيها حدوث الانسجام الصوتي والتآلف الموسيقي. فمثلاً لا تجتمع الزاي مع الظاء والسين والضاد والذال. ولا تجتمع الجيم مع القاف والظاء والطاء والغين والصاد، ولا الحاء مع الهاء، ولا الهاء قبل العين، ولا الخاء قبل الهاء ، ولا النون قبل الراء ، ولا اللام قبل الشين .
وأصوات العربية ثابتة على مدى العصور والأجيال منذ أربعة عشر قرناً. ولم يُعرف مثل هذا الثبات في لغة من لغات العالم في مثل هذا اليقين والجزم. إن التشويه الذي طرأ على لفظ الحروف العربية في اللهجات العامية قليل محدود، وهذه التغيرات مفرقة في البلاد العربية لا تجتمع كلها في بلد واحد. وهذا الثبات، على عكس اللغات الأجنبية، يعود إلى أمرين : القرآن، ونزعة المحافظة عند العرب .
وللأصوات في اللغة العربية وظيفة بيانية وقيمة تعبيرية، فالغين تفيد معنى الاستتار والغَيْبة والخفاء كما نلاحظ في : غاب ، غار ، غاص ، غال ، غام. والجيم تفيد معنى الجمع : جمع ، جمل، جمد ، جمر. وهكذا .
وليست هذه الوظيفة إلا في اللغة العربية ، فاللغات اللاتينية مثلاً ليس بين أنواع حروفها مثل هذه الفروق، فلو أن كلمتين اشتركتا في جميع الحروف لما كان ذلك دليلاً على أي اشتراك في المعنى. فعندنا الكلمات التالية في الفرنسية مشتركة في أغلب حروفها وأصواتها ولكن ليس بينها أي اشتراك في المعنى Iv r e سكران oeuv r e أثر أو تأليف ouv r e يفتح liv r e كتاب lèv r e شفة .
2 - الاشتقاق :
الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسر وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها : كتب - كاتب - مكتوب - كتابة - كتاب.. فتشترك هذه الكلمات في مقدار من حروفها وجزء من أصواتها .
وتشترك الألفاظ المنتسبة إلى أصل واحد في قدر من المعنى وهو معنى المادة الأصلية العام. أما اللغات الأخرى كالأوروبية مثلاً فتغلب عليها الفردية . فمادة ( ب ن و ) في العربية يقابلها في الإنكليزية : son ابن و daughte r بنت. أما في الفرنسية فتأتي مادة ( ك ت ب ) على الشكل التالي : كتاب liv r e مكتبة عامة bibliothèque محل بيع الكتب lib r ai r ie يكتب èc r i r e مكتب bu r eau .(39/344)
وثبات أصول الألفاظ ومحافظتها على روابطها الاشتقاقية يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور، فالحفاظ على الأصل واتصال الشخصية واستمرارها صفة يتصف بها العرب كما تتصف بها لغتهم، إذ تمكن الخاصة الاشتقاقية من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل .
إن اشتراك الألفاظ ، المنتمية إلى أصل واحد في أصل المعنى وفي قدر عام منه يسري في جميع مشتقات الأصل الواحد مهما اختلف العصر أو البيئة، يقابله توارث العرب لمكارم الأخلاق والمثل الخلقية والقيم المعنوية جيلاً بعد جيل. إن وسيلة الارتباط بين أجيال العرب هي الحروف الثابتة والمعنى العام .
والروابط الاشتقاقية نوع من التصنيف للمعاني في كلياتها وعمومياتها، وهي تعلم المنطق وتربط أسماء الأشياء المرتبطة في أصلها وطبيعتها برباط واحد، وهذا يحفظ جهد المتعلم ويوفر وقته .
إن خاصة الروابط الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة، وتوحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.
3 - خصائص الكلمة العربية ( الشكل والهيئة أو البناء والصيغة أو الوزن ) :
إن صيغ الكلمات في العربية هي اتحاد قوالب للمعاني تُصبُّ فيها الألفاظ فتختلف في الوظيفة التي تؤديها. فالناظر والمنظور والمنظر تختلف في مدلولها مع اتفاقها في أصل المفهوم العام الذي هو النظر. الكلمة الأولى فيها معنى الفاعلية والثانية المفعولية والثالثة المكانية .
وللأبنية والقوالب وظيفة فكرية منطقية عقلية. لقد اتخذ العرب في لغتهم للمعاني العامة أو المقولات المنطقية قوالب أو أبنية خاصة : الفاعلية - المفعولية - المكان - الزمان - السببية - الحرفة - الأصوات - المشاركة - الآلة - التفضيل - الحدث .
إن الأبنية في العربية تعلم تصنيف المعاني وربط المتشابه منها برباط واحد، ويتعلم أبناء العربية المنطق والتفكير المنطقي مع لغتهم بطريقة ضمنية طبيعية فطرية .
وللأبنية وظيفة فنية، فقوالب الألفاظ وصيغ الكلمات في العربية أوزان موسيقية، أي أن كل قالب من هذه القوالب وكل بناء من هذه الأبنية ذو نغمة موسيقية ثابتة. فالقالب الدال على الفاعلية من الأفعال الثلاثية مثلاً هو دوماً على وزن فاعل والدال على المفعولية من هذه الأفعال على وزن مفعول .
وإن بين أوزان الألفاظ في العربية ودلالاتها تناسباً وتوافقاً، فصيغة ( فعّال) لمبالغة اسم الفاعل تدل بما فيها من تشديد الحرف الثاني على الشدة أو الكثرة، وبألف المد التي فيها على الامتداد والفاعلية الخارجية .
وتتميز اللغة العربية بالموسيقية فجميع ألفاظها ترجع إلى نماذج من الأوزان الموسيقية، والكلام العربي نثراً كان أم شعراً هو مجموع من الأوزان ولا يخرج عن أن يكون تركيباً معيناً لنماذج موسيقية .
وقد استثمر الشعراء والكتاب العرب هذه الخاصة الموسيقية فقابلوا بين نغمة الكلام وموضوعه مقابلة لها أثر من الوجهة الفنية. فمثلاً يقول النابغة الذبياني :
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها نعم ونسألها عن بعض أهليها
حيث ينقلك إلى جو عاشق يهيم ويتأمل وتهفو نفسه برقة وحنان إلى آثار الحبيب بما في البيت من نعومة الحروف وكثرة المدود وحسن توزعها وجمال تركيب الألفاظ .
ويقول البحتري متحدثاً عن الذئب :
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فينقل تتابع حركات الذئب السريع في ألفاظ قصيرة الأوزان متوالية الحركات .
وقد بلغت هذه الخاصة الموسيقية ذروتها في التركيب القرآني، فأنت تحس، مثلاً في سورة العاديات ، عدو الخيل : (( والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً. فأثرن به نقعاً. فوسطن به جمعاً )).
وكان لأوزان الألفاظ أثر في جمال الكتابة العربية، فالكلمات التي على وزن واحد تتشابه ألفاظها الكتابية مثل الكلمات على وزن فاعل أو على وزن مفعول. إن هذه الكلمات في التركيب يكون منها ما يشبه الزخارف العربية .
وتتأرجح الصيغ بين الثبات والتطور، والثبات غالب ولا يسبب هذا جمود العربية، فإن لها على حالتها الحاضرة من الصيغ والأبنية غنى لا تضارعها فيه لغة أخرى من اللغات الراقية التي تفي بحاجات الإنسان في مثل هذا العصر .
إن الإخلال بهذه الأبنية وإفسادها إفساد لنظام اللغة، فلذلك كان العرب إذا أدخلوا كلمة أعجمية احتاجوا إليها صاغوها على نماذج ألفاظهم وبنوها على أحد أبنيتهم وجعلوها على أحد أوزانهم .(39/345)
وبين العربية والطبيعة صلة وثقى، فالأجسام في الطبيعة على كثرتها ترجع إلى عناصر بسيطة محدودة العدد تتشابه وتختلف بحسب تشابه تركيب مادتها واختلافه. وكذلك اللغة العربية ترجع كلماتها التي لا تكاد تحصى إلى عناصر محدودة ثابتة هي الحروف. وفي الطبيعة تشابه ونمطية وتكرر، فللشجرة مهما كان نوعها أوراق وأغصان جذع وثمر. وفي اللغة أيضاً تشابه بين أبنية الفاعلين والمفعولين والمكان والزمان. ولكل فرد من أفراد الجنس الواحد في الطبيعة ذاتيته مع مشابهته لسائر أفراد الجنس. وكذلك للفظ ذاتيته مع مشابهته لسائر الألفاظ المشتركة معه في الأصل أو البناء والصيغة. وفي الطبيعة تسلسل وتوارث يقابله تسلسل وتوارث في اللغة. وفي الطبيعة محافظة وتجديد، وكذلك في اللغة محافظة وتجديد أيضاً .
4 - التعريب :
يتشابه نظام العربية مع نظام المجتمع العربي. فكما يرتبط أفراد المجتمع العربي وقبائله بصلات القربى والنسب والتضامن والتعاون، ترتبط ألفاظها في نسق خاص في حروفها وأصواتها، ومادتها وتركيبها ، وهيئتها وبنائها .
وحين يدخل غريب على المجتمع فلا بد له لكي يصبح عضواً فيه من أن يلتزم بأخلاقه وعاداته، فكذلك اللفظة الأعجمية إذا دخلت يجب أن تسير على أوزان العربية وهيئاتها وصيغها لكي تصبح عضواً كامل العضوية في الأسرة اللغوية .
ويُستعمل في العربية مصطلح التعريب بينما في اللغة الأجنبية استعارة emp r unt. والتعريب أحد مظاهر التقاء العربية بغيرها من اللغات على مستوى المفردات.
وكانت الألفاظ الدخيلة في العصر الجاهلي قليلة محدودة تتصل بالأشياء التي لم يعرفها العرب في حياتهم. وهي محصورة في ألفاظ تدل على أشياء مادية لا معنوية مثل : كوب - مسك - مرجان - درهم.. وتعود قلة الدخيل إلى سببين : انغلاقهم على أنفسهم واعتدادهم بأنفسهم وبلغتهم .
أما بعد الإسلام فقد اتصلت العربية باللغات الأخرى فانتقلت إليها ألفاظ جديدة تتعلق كلها بالمحسوسات والماديات مثل أسماء الألبسة والأطعمة والنباتات والحيوان وشؤون المعيشة أو الإدارة. وقد انعدم التأثير في الأصوات والصيغ والتراكيب .
إن هذا الداخل على الغالب لم يبق على حاله بل صيغ في قالب عربي، ولذلك كانت المغالاة والإكثار من الغريب وفسح المجال من غير قيد مظهراً من مظاهر النزعة الشعوبية في الميدان اللغوي قديماً وحديثاً .
وكانت طريقة العرب في نقل الألفاظ الأجنبية أو التعريب تقوم على أمرين :
أ - تغيير حروف اللفظ الدخيل، وذلك بنقص بعض الحروف أو زيادتها مثل :
برنامه ـــــــــــــــــــــ> برنامج - بنفشه ـــــــــــــــــــــ> بنفسج
أو إبدال حرف عربي بالحرف الأعجمي :
بالوده ـــــــــــــــــــــ> فالوذج - برادايس ـــــــــــــــــــــ> فردوس
ب - تغيير الوزن والبناء حتى يوافق أوزان العربية ويناسب أبنيتها فيزيدون في حروفه أو ينقصون، ويغيرون مدوده وحركاته، ويراعون بذلك سنن العربية الصوتية كمنع الابتداء بساكن، ومنع الوقوف على متحرك ، ومنع توالي ساكنين ...
وأكثر ما بقي على وزنه وأصله من الألفاظ هو من الأعلام : سجستان - رامهرمز..
أما دليلهم إلى معرفة الدخيل فهو إحدى ثلاث طرق :
أ - فقدان الصلة بينه وبين إحدى مواد الألفاظ العربية :
بستان : ليس في العربية مادة بست .
ب - أن يجتمع فيه من الحروف ما لا يجتمع في الكلمة العربية :
ج ق جوسق - ج ص جَِصّ - ج ط طازج ...
ج - أن أن تكون على وزن ليس في العربية :
إِبْرَيْسَم إفعيلل - آجر فاعُلّ ..
(أحسن الحرير )
5 - خصائص معاني الألفاظ العربية :
تقوم طريقة العربية في وضع الألفاظ وتسمية المسميات على الأمور التالية :
أ - اختيار صفة من صفات الشيء الذي يراد تسميته أو بعض أجزائه أو نواحيه أو تحديد وظيفته وعمله واشتقاق لفظ يدل عليه .
ب - تحتفظ العربية بالمعاني الأصلية الدالة على أمثال هذه المسميات ، فألفاظها معللة على عكس غيرها من اللغات التي لا تحتفظ بهذه المعاني .
ج - الإشارة إلى أخص صفات المسمى وأبرزها أو إلى عمله الأساسي ووظيفته، على عكس اللغات الأجنبية التي تشير إلى ظاهره وشكله الخارجي أو تركيبه وأجزائه. فمثلاً تسمية الدراجة في العربية تشير إلى وظيفتها وعملها وحركتها. أما في الفرنسية فإن bicyclette (ذات الدولابين) تشير إلى أجزائها وتركيبها وحالتها الساكنة. ومثل ذلك السيارة التي تشير تسميتها إلى عملها بينما في الفرنسية كلمة automobile تعني المتحرك بنفسه.
ويظهر تفكير العرب وحياتهم واضحين جليين في مفردات لغتهم، فكلمة العامل، مثلاً بعد الإسلام، أخذت معنى الوالي والحاكم، وهذا يدل على أن الولاية عمل من الأعمال وليست استبداداً، وأن الحكم تكليف وليس تشريفاً. ولفظ ( المرأ ) للمذكر و (المرأة) للمؤنث يدل على تساوي الرجل والمرأة عندهم في الأصل. والمروءة هي الصفات المستحسنة المأخوذة من أخلاق الإنسان ذكراً كان أو أنثى .(39/346)
وللغة العربية طريقة في تصنيف الموجودات، فمفرداتها تدل على أن العرب صنفوا الوجود تصنيفاً شاملاً دقيقاً منطقياً يدعو إلى الدهشة والتعجب، ويدل على مستوى فكري قلما وصلت إليه الأمم في مثل هذا الطور المبكر من تاريخ حياتها .
وهناك ألفاظ تدل على الموجودات بمجموعها مثل ( العالَم) و (العالَمين ) فهي تشتمل على الخلق كله. وكذلك الشهادة ( الحس) وعكسه الغيب .
وتظهر في الألفاظ العربية أنواع الموجودات كالنبات والحيوان. ويتضمن الحيوانُ الإنسانَ والوحوش والطير والسباع والهوامَّ والسوائم والحشراتِ والجوارحَ والبغاث .
وتظهر أيضاً الأخلاق والمشاعر كالمكارم والمثالب، والمحاسن والمساوئ ، والفرح والحزن، والحسيات والمجردات .
ولم تقتصر العربية على الحسيات كما تقتصر كل لغة في طورها الابتدائي. فبالإضافة إلى ما فيها مما لا يكاد يحصى من الألفاظ الدالة على الحسيات لم تهمل المعنويات والمجردات. إننا نجد في العربية سعة وغزارة في التعبير عن أنواع العواطف والمشاعر الإنسانية. كما أنهها اشتملت على الكلمات الدالة على الطباع والأفعال والمفاهيم الخلقية. واشتملت كذلك على المفاهيم الكلية والمعاني المجردة. لقد جمع العرب في لغتهم بين الواقعية الحسية والمثالية المعنوية ، فالمادية دليل الاتصال بالواقع ، والتجريد دليل ارتقاء العقل .
ولها باع في الدقة والخصوص والعموم، إذ تمتاز برقة تعبيرها والقدرة على تمييز الأنواع المتباينة، والأفراد المتفاوتة، والأحوال المختلفة سواء في ذلك الأمور الحسية والمعنوية. فإذا رجعنا إلى معاجم المعاني وجدنا أموراً عجباً. فتحت المشي الذي هو المعنى العام أنواع عديدة من المشي :
درج حبا حجل خطر دلف هدج رسف اختال تبختر تخلج
أهطع هرول تهادى تأود...
والأمثلة كثيرة في كتب معاجم المعاني كفقه اللغة للثعالبي وهو مجلد صغير، والمخصص لابن سيده الذي يقع في 17 جزءاً .
ومن ضروب الدقة ما يظهر في اقتران الألفاظ بعضها ببعض، فقد خصص العرب ألفاظاً لألفاظ ، وقرنوا كلمات بأخرى ولم يقرنوها بغيرها ولو كان المعنى واحداً.
فقد قالوا في وصف شدة الشيء : ريح عاصف - برد قارس - حر لافح .
وفي وصف اللين : فراش وثير - ثوب لين - بشرة ناعمة - غصن لدن .
وكذلك في الوصف بالامتلاء، والوصف بالجدة، والوصف بالمهارة في الكتابة والخطابة والطب والصنعة ووصف الشيء بالارتفاع الحقيقي أو المجازي وغيرها وغيرها .
لا شك أن هذا التخصص في تراكيب العربية في النعت والإضافة والإسناد نوع من الدقة في التعبير، لأن هذه الألفاظ المخصصة ببعض المعاني والأحوال توحي إلى السامع الصورة الخاصة التي تقترن معها. فلفظ باسق يوحي إلى الذهن معنى الارتفاع وصورة الشجرة معاً، كما توحي كلمة وثير معنى اللين وصورة الفراش. وكثيراً ما يحتاج المتكلم إلى أن ينقل إلى مخاطبه هذه المعاني والصور متلازمة مقترنة ليكون أصدق تصويراً وأدق تعبيراً وأقدر على حصر الصورة المنقولة وتحديدها .
وفي العربية منزلة للتخصيص والدقة والتعميم، فلا ينطبق عليها وصف الابتدائية لكثرة ما فيها من الألفاظ الدالة على الكليات والمفاهيم والمعاني العامة والمجردة . وما فيها من الدقة والتخصيص قرينة على أن أصحابها بلغوا درجة عالية في دقة التفكير ومزية وضوح الذهن وتحديد المقصود والدلالة. والمستعرض للشعر الجاهلي يجد نماذج من الوصف تتضمن الجزئيات والتفصيلات في الألوان والأشكال والحركات والمشاعر إلى جانب شعر الحكم الذي يتضمن قواعد عامة في الحياة ومعاني عالية من التعميم والتجريد .
إن دقة التعبير والتخصيص سبيل من سبل تكوين الفكر العلمي الواضح المحدد .
والتخصيص اللغوي والدقة في التعبير أداة لا بد منها للأديب لتصوير دقائق الأشياء وللتعبير عن الانفعالات والمشاعر والعواطف .
لقد ألف اللغويون العرب مؤلفات خاصة بإبراز الفروق بين الألفاظ مثل : الفروق لأبي هلال العسكري، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي. ونجد مثل هذه الدقة في الوصف عند كثير من كتاب العربية في مختلف العصور ولا سيما في القرون الأربعة الأولى بعد الإسلام .
وفي العربية عموم وألفاظ عامة إذ يحتاج الإنسان في مراحل ارتقائه الفكري إلى ألفاظ دالة على معان عامة سواء في عالم المادة أو في عالم المعنويات. وسدت اللغة العربية هذه الحاجة، وأمدت المتكلم بما يحتاج إليه وبذلك استطاعت أن تكون لغة الفلسفة كما كانت لغة العلم والفن والشعر .
6 - الإيجاز :
الإيجاز صفة واضحة في اللغة العربية . يقول الرسو صلى الله عليه وسلم : (( أوتيت جوامع الكلم )). ويقول العرب (( البلاغة الإيجاز )) و (( خير الكلام ما قلّ ودلّ )). وفي علم المعاني إيجاز قصر وإيجاز حذف .(39/347)
الإيجاز في الحرف : والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجماً يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء (KH) مثلاً ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه، أي ما نتلفظ به، وقد نحذف في الكتابة بعض ما نلفظ : لكن - هكذا - أولئك. بينما في الفرنسية نكتب علامة الجمع ولا نلفظها، وأحياناً لا تلفظ نصف حروف الكلمة. ونكتب في الإنكليزية حروفاً لا يمر اللسان عليها في النطق ، كما في كلمة ( r ight) مثلاً التي نسقط عند النطق بها حرفين من حروفها (gh) نثبتهما في كتابتها .
وفي العربية إشارة نسميها ( الشدة )، نضعها فوق الحرف لندل على أن الحرف مكرر أو مشدد، أي أنه في النطق حرفان، وبذلك نستغني عن كتابته مكرراً، على حين أن الحرف المكرر في النطق في اللغة الأجنبية مكرر أيضاً في الكتابة على نحو (f r appe r ) و ( r ecommondation) .
ونحن في العربية قد نستغني كذلك بالإدغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف. فنقول ونكتب ( عَمَّ ) عوضاً عن ( عن ما ) و ( مِمَّ ) عوضاً عن ( من ما ) و (بِمَ) عوضاً عن ( بما ) ومثلها ( لِمَ ) عوضاً عن ( لِما ) .
الإيجاز في الكلمات : وبمقارنة كتابة بعض الكلمات بين العربية والفرنسية والإنكليزية نجد الفرق واضحاً :
العربية وحروفها …الفرنسية وحروفها …الإنكليزية وحروفها
أم 2 …mè r e 4 …mothe r 6
أب 2 …pè r e 4 …fathe r 6
أخ 2 …f r ère 5 …b r othe r 7
وليست العربية كاللغات التي تهمل حالة التثنية لتنتقل من المفرد إلى الجمع، وهي ثانياً لا تحتاج للدلالة على هذه الحالة إلى أكثر من إضافة حرفين إلى المفرد ليصبح مثنى، على حين أنه لا بد في الفرنسية من ذكر العدد مع ذكر الكلمة وذكر علامة الجمع بعد الكلمة :
الباب البابان - البابين les deux po r tes the two doo r s
الإيجاز في التراكيب : والإيجاز أيضاً في التراكيب ، فالجملة والتركيب في العربية قائمان أصلاً على الدمج أو الإيجاز . ففي الإضافة يكفي أن تضيف الضمير إلى الكلمة وكأنه جزء منها :
كتابه son liv r e كتابهم leu r liv r e
وأما إضافة الشيء إلى غيره فيكفي في العربية أن نضيف حركة إعرابية أي صوتاً بسيطاً إلى آخر المضاف إليه فنقول كتاب التلميذ ومدرسة التلاميذ، على حين نستعمل في الفرنسية أدوات خاصة لذلك فنقول : le liv r e de l'élève ، l'école des élèves .
وأما في الإسناد فيكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه وتترك لعلاقة الإسناد العقلية المنطقية أن تصل بينهما بلا رابطة ملفوظة أو مكتوبة، فنقول مثلاً ( أنا سعيد ) على حين أن ذلك لا يتحقق في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ، ولا بد لك فيهما مما يساعد على الربط فتقول :
( je suis heu r eux ) ، ( I am happy ) .
وتستعمل هاتان اللغتان لذلك طائفة من الأفعال المساعدة مثل (avoi r , ét r e) في الفرنسية و (to have , to be) في الإنكليزية .
كما أن الفعل نفسه يمتاز في العربية باستتار الفاعل فيه أحياناً، فنقول (أكتب) مقدرين الفاعل المستتر، بينما نحتاج إلى البدء به منفصلاً دوماً مقدماً على الفعل كما هو الأمر في الفرنسية (je-tu…) وفي الإنكليزية (I , you ...). وكذلك عند بناء الفعل للمجهول يكفي في العربية أن تغير حركة بعض حروفه فتقول : كُتب على حين نقول بالفرنسية ( il a été éc r it ) وفي الإنكليزية ( it was w r itten ) .
وفي العربية إيجاز يجعل الجملة قائمة على حرف : فِ ( وفى يفي )، و (ع) من وعى يعي، و ( ق ) من وفى يفي، فكل من هذه الحروف إنما يشكل في الحقيقة جملة تامة لأنه فعل وقد استتر فيه فاعله وجوباً .
وفي العربية ألفاظ يصعب التعبير عن معانيها في لغة أخرى بمثل عددها من الألفاظ كأسماء الأفعال .
نقول في العربية : ( هيهات ) ونقول في الإنكليزية ( it is too fa r )
( شتان ) ( the r e is a g r eat diffe r ence )
وحرف الاستقبال مثل : ( سأذهب ) ( I shall go )
والنفي أسلوب في العربية يدل على الإيجاز :
العربية : ( لم أقابله ) ، الإنكليزية : ( I did not meet him )
الفرنسية : ( Je ne l'ai pas r encont r é )
العربية : ( لن أقابله ) ، الإنكليزية : ( I will neve r meet him )
الفرنسية : ( Je ne le r encont r e r ai jamais )
الإيجاز في اللغة المكتوبة :
فمثلاً سورة ( الفاتحة ) المؤلفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة .
ويقول الدكتور يعقوب بكر في كتاب ( العربية لغة عالمية : نشر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بالقاهرة 1966 ) : (( إذا ترجمنا إلى العربية كلاماً مكتوباًُ بإحدى اللغات الأوروبية كانت الترجمة العربية أقل من الأصل بنحو الخمس أو أكثر .))
أثر اللغة العربية في اللغات الأخرى :(39/348)
إن الكلمات العربية في اللغات الإسلامية : الفارسية والتركية والأوردية والمالاوية والسنغالية أكثر من أن تحصى. والكلمات العربية في الإسبانية والبرتغالية ثم في الألمانية والإيطالية والإنكليزية والفرنسية ليست قليلة أيضاً .
لقد التقت العربية بالفارسية والسريانية والقبطية والبربرية. وكان عندها أسباب القوة، فهي لغة القرآن، وتتميز ببناء قوي محكم، وتملك مادة غزيرة .
لقد حملت رسالة الإسلام فغنيت بألفاظ كثيرة جديدة للتعبير عما جاء به الإسلام من مفاهيم وأفكار ونظم وقواعد سلوك. وأصبحت لغة الدين والثقافة والحضارة والحكم في آن واحد .
غزت العربية اللغات الأخرى كالفارسية والتركية والأوردية والسواحلية فأدخلت إليها حروف الكتابة وكثيراً من الألفاظ. وكان تأثيرها في اللغات الأخرى عن طريق الأصوات والحروف والمفردات والمعاني والتراكيب .
وأدى اصطدام العربية باللغات الأخرى إلى انقراض بعض اللغات وحلول العربية محلها كما حصل في العراق والشام ومصر, وإلى انزواء بعضها كالبربرية وانحسار بعضها الآخر كالفارسية .
لقد أصبحت لغات الترك والفرس والملايو والأوردو تكتب جميعها بالحروف العربية . وكان للعربية الحظ الأوفر في الانبثاث في اللهجات الصومالية والزنجبارية لرجوع الصلة بين شرق إفريقيا وجزيرة العرب إلى أقدم عصور التاريخ .
التحديات أمام اللغة العربية :
سأل طالب في بيروت أستاذه عن المعنى العربي لمصطلح أجنبي, فقال له الأستاذ : وهل العربية لغة ؟!
لقد اتخذت محاولات الطعن في العربية أشكالاً ومظاهر شتى, فهي تلبس تارة ثوب الطعن في الأدب القديم وصحته, وتظهر تارة بمظهر تشجيع اللهجات المحلية لتفتيت اللغة الواحدة وتمزيق الناطقين بها, وتارة تلبس ثوب الثورة على القديم والدعوة إلى التجديد. فمن مناد بالتمرد على الأسلوب العربي القديم, وهو لا يتمرد في حقيقته على قِدَم الأسلوب وإنما يتمرد على صحة اللغة وسلامتها, ومن قائل بضيق العربية وقصر باعها عن مواكبة الحضارة, ومن مصرح بهجر الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني, ومن داع إلى تغيير القواعد.. ومن داعٍ للاعتراف بالعلمية وما فيها من أدب وفن .! ويلبس كل ذلك ثوب الإصلاح اللغوي .
وبلغ الأمر بأحدهم أنه لا يرى سبباً لهزيمة العرب إلا لغتهم الفصحى, أو يراها من أسباب هزيمتهم. وثان نظر إلى تخلف العرب العلمي في عصر الذرة فأعلن أنه لا يرى لهذا سبباً غير تمسك العرب بلغتهم في مراحل التعليم عامة والتعليم العالي منها خاصة. وثالث لم يجد داء عند العرب أخطر من بقاء الحروف العربية في أيدي أصحابها, فدعا إلى نبذها وإحلال الحروف اللاتينية محلها.
ودعا آخرون إلى اللهجات المحلية وتشجيع دراسة تلك اللهجات باسم البحث العلمي في علم اللغة وفقهها, كما دعوا إلى العامية ودراستها. وما هذا إلا دعوةٌ مفرقة ممزقة بطريقة علمية في عصر تبحث فيه الأمة عن وحدتها وترفع فيه شعار قوميتها. ولقد تأسى كثير من أصحاب هذه الدعوات بما فعله مصطفى كمال أتاتورك في تركية حين نبذ الحروف العربية وكتب اللغة التركية بالحروف اللاتينية فقطع بذلك كل صلة للشعب التركي بمحيطه الشرقي والعربي والإسلامي ظناً منه أن ذلك يجعل تركية في صدارة العالم المتقدم .
ويقول الإنكليزي ( ويلكوكس ) : (( إن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة )). وما يزال أحد الشوارع في حي (الزمالك) بالقاهرة يحمل اسمه .
ودفعت هذه الاتهامات أحد المفكرين إلى أن يصرخ من المرارة : (( من حق إسرائيل أن تحيي العبرية الميْتة, ومن واجبنا أن نميت العربية الحية )). ويقول الدكتور عمر فروخ في هذا المعنى : (( أعجب من الذين يدرسون اللغات الميْتة, ثم يريدون أن يميتوا لغة حية كالعربية .))
إن من يراجع الوثائق التي بدأت بها عملية الاحتلال البريطاني لمصر يكتشف أن أول أعمال الاحتلال هو وضع الخطة لحطم اللغة، يبدو ذلك واضحاً في تقرير لورد دوفرين عام 1882 حين قال : إن أمل التقدم ضعيف ( في مصر) ما دامت العامة تتعلم اللغة العربية الفصيحة .
وقد توالت هذه الحرب ليس في مصر وحدها بل في الشام والمغرب بأقطاره كلها في محاولات قدمها كرومر وبلنت من ناحية ولويس ماسينيون وكولان في المغرب. ثم تقدم رجال يحملون أسماء عربية للعمل بعد أن مهد لهم الطريق ويلكوكس والقاضي ديلمور، وحيل بين اللغة العربية وبين أحكام المحاكم المختلطة والأجنبية .
وكان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في (سورية وتونس والجزائر والمغرب)، فقد كانت لحظة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :
أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكانت تكتب أساساً بالحروف العربية ، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسية .
ثانياً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .
ثالثاً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.(39/349)
رابعاً : ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة .
وكانت الحملة على اللغة العربية الفصحى من خلال حجج ضعيفة واهية منها : صعوبة اللغة، ومنها التفاوت بينها وبين العامية .
وكان فرض اللغات الأجنبية في مختلف أقطار الأمة الإسلامية عاملاً هاماً في فرض ثقافاتها ووجهة نظر أهلها وفي الوقوف موقف الإعجاب بالغاصب والعجز عن مواجهته. ومن يدرس تجارب التعليم الغربي في البلاد العربية يجد الولاء الواضح للنفوذ الغربي .
وفي البلاد الإسلامية غير العربية فعل الأجنبي فعله في إفريقية وآسيا خاصة ففي إفريقية عمد الإنجليز في نيجيريا إلى نقل حروف اللغات المحلية من العربية إلى الحروف اللاتينية فضلاً عن عملية القضاء على كتب التراث الإسلامي التي تعرضت للحريق للقضاء على كل أثر علمي عربي بعد قطع التيار الحضاري العربي القادم من شمال إفريقية ومصر .
وفي غرب إفريقية عمد الاستعمار الفرنسي إلى القضاء على العربية بعد معركة مع اللغة العربية في الجزائر خلال مائة عام كاملة .
وقد جاء هذا كله بعد أن بلغت اللغة العربية كل وصف حتى أصبحت لغة التخاطب بين قبائل نصف القارة كما أشار إلى ذلك ( توماس أرنولد) في كتابه (( الدعوة إلى الإسلام ))، وبعد أن كانت بعوث إفريقية ترسل إلى مكة المكرمة والأزهر أصبحت ترسل إلى الغرب .
وبعد أن كانت اللغة العربية قد شاركت بحروفها وألفاظها في كل اللغات الأساسية في إفريقية وهي الهوسا والماندنجو والوولوف والسواحلية والصومالية ولغات النيجر والدناكل في إثيوبيا وإرتيريا، عمد النفوذ الأجنبي إلى إيقاف كل ذلك وإحياء الثقافات الإفريقية القديمة وصبغها بصبغة إقليمية تساعد على إثارة التعصب وإقامة القوميات المحدودة المحلية في نطاق قبلي ليستغلوا هذه الروح في إقامة سد مرتفع في وجه انتشار اللغة العربية مع نشر الثقافة الإنجليزية والفرنسية من خلال اللغتين ليتحقق الاستعمار الثقافي الكامل .
وهكذا أصبحت اللغتان الإنجليزية والفرنسية - كل في منطقة سيطرتها - لغة أساسية في مراحل التعليم المختلفة، وغلبت اللهجات القومية ولغة المستعمر ليس على مناهج التعليم فحسب بل على أعمال المصارف والمحاكم والدواوين .
أما في آسيا فقد استطاعت اللغات الأجنبية في جنوب شرق آسيا ( الملايو - إندونيسيا - تايلاند ) السيطرة ، وتراجعت اللغة العربية ثم تراجعت الحروف العربية أيضاً في تركيا وإندونيسيا.
وفي إندونيسيا وأرخبيل الملايو نجد الصورة قاتمة، فقد تعرضت إندونيسيا بعد الاستقلال للتحديات في مجال اللغة فكتبت اللغة الأندونيسية بالخط الروماني (اللاتيني) بدلاً من الخط العربي المحلي، وأصبحت العربية لغة أجنبية لا يقرؤون ولا يكتبون بها، وأصبح العدد الأكبر قادراً على أن يقرأ اللغات الغربية وخاصة الإنجليزية .
وإذا أردنا حصر التحديات التي واجهتها اللغة العربية فإننا نلخصها بالتالي :
( استبدال العامية بالفصحى .
( تطوير الفصحى حتى تقترب من العامية .
( الهجوم على الحروف العربية والدعوة إلى استعمال الحروف اللاتينية .
( إسقاط الإعراب في الكتابة والنطق .
( الدعوة إلى إغراق العربية في سيل من الألفاظ الأجنبية .
( محاولة تطبيق مناهج اللغات الأوروبية على اللغة العربية ودراسة اللهجات والعامية .
المواجهة :
وقبل الدخول في المواجهة علينا أن نشخص الأمراض التي نعاني منها على المستوى اللغوي فالتشخيص نصف العلاج .
إن التردي في عصور الانحطاط كان عاملاً من عوامل ضعفنا اللغوي، وهذا التردي لم يكن مقصوراً على العامة من الناس بل شمل العلماء والفقهاء حتى كان يعجز الكثير منهم عن كتابة رسالة خالية من العجمة، بريئة من الركاكة أو العامية، سليمة من الخطأ. وكانت دروس الفقه والدين بل دروس النحو والبلاغة تلقى بلغة مشوبة بالعامية منحطة عن الفصحى. أما أساليب العرب الفصيحة والكلام البليغ فقد كانوا بعيدين عنه كل البعد، وكل ما تصبو إليه النفوس وترتفع إليه المطامح أن يقلد الكاتب أسلوب الحريري في مقاماته أو القاضي الفاضل في رسائله ومكاتباته .
لقد اختفت الفروق اللغوية وأصبحت الألفاظ المتقاربة مترادفة. ولم يبق الترادف مزية من مزايا العربية بل مرضاً من أمراضها الوافدة المنتشرة، وغلب على الناس استعمال الألفاظ في معانيها العامة فضاعت من اللغة بل من التفكير مزية الدقة التي عرفت بها العربية في عصورها السالفة، وأدى ذلك إلى تداخل معاني الألفاظ حين فَقَدت الدقة واتصفت بالعموم، وفقد الفكر العربي الوضوح حين فقدته اللغة نفسها، واتصفت بالغموض ، وانفصلت الألفاظ عن معانيها في الحياة وأصبحت عالماً مستقلاً يعيش الناس في جوه بدلاً من أن يعيشوا في الحياة ومعانيها .(39/350)
إن الموقف يلقي أمامنا مشكلة النهوض باللغة العربية وقدرتها على الوفاء بحاجات أهلها في هذه الحياة الجديدة سواء في ميدان العلوم أو الفن أو الأدب بأغراضه وآفاقه الحديثة، أو في ميدان الحياة العملية بما فيها من مستحدثات لا ينقطع سيلها. كما يدفعنا باتجاه التحرر من آثار عصور الانحطاط من جهة ومن التقليد الأجنبي والعجمة الجديدة التي أورثنا إياها عصر الاستعمار والنفوذ الأجنبي من جهة أخرى .
إن المطلوب تكوين وعي لغوي صحيح يساير وعينا السياسي والفكري بل هو الأساس لتكوين تفكيرنا تكويناً صحيحاً، والأخذ بأيدينا نحو الوحدة اللغوية والتحرر اللغوي والقضاء على التجزئة والشعوبية أو النفوذ الأجنبي في ميدان اللغة والفكر .
إن التعليم الجامعي العلمي خاصة في كثير من أقطار العروبة ما زال باللغات الأجنبية : فهو إنكليزي في أقطار ، فرنسي في أقطار، روسي في أقطار، ولا توجد صيدلة عربية ولا طب عربي .
وما زال هناك إلى الآن من يجادل لإبقاء تدريس العلوم باللغات الأجنبية . لقد انقسم العرب إبان عهد الاستعمار إلى مجموعتين : الأولى هي الدول التي حافظت على اللغة العربية طوال فترات الاحتلال، ولكن العجب أن تتصاعد فيها آراء تشكك في صلاحية اللغة العربية لاحتواء العلوم الحديثة، والثانية هي مجموعة الدول التي استطاع المستعمر فرض لغته عليها، وهي على العكس بذلت جهوداً مضنية لاستعادة مكانة اللغة العربية. ومنذ سنوات ظهرت حلقة من برنامج الاتجاه المعاكس في محطة الجزيرة القطرية الفضائية كان موضوعها عن صلاحية اللغة العربية في تدريس العلوم، وكان النقاش بين أستاذين جامعيين عربيين : الأول يدعو إلى تدريس العلوم باللغة الإنكليزية وهو سوري، والثاني يدعو إلى تعريب التعليم وهو جزائري .
إن كثيراً من دعاة العروبة لا يحسنون لغتهم. وهذا ما دفع أحد المفكرين إلى القول بأن هناك إهانة توجه إلى العربية؛ تتجلى هذه الإهانة في ثلاثة أمور :
1 - السيل من الأفلام والمسلسلات والتمثيليات والمسرحيات والأغاني باللغة العامية .
2 - بعض الزعماء يخلط العربية بالعامية، وهم مولعون بخفض المرفوع وجر المنصوب .
3 - تقليد المنتصر .
وإذا نظرنا إلى ما يفعل أصحاب اللغات الأخرى لخدمة لغاتهم لوجدنا أنفسنا مقصرين كثيراً. فالإنكليز مثلاً يفعلون العجب في تعميم لغتهم، ويبتكرون الحيل الطريفة لتحبيبها إلى النفوس حتى أصبحت الإنكليزية لغة العالم، ولغة العلم معاً .
وقد حفظ لنا تاريخنا جهود رواد بذلوا ما بوسعهم لخدمة هذه اللغة . فمثلاً لما تولى سعد زغلول وزارة المعارف في مصر كان التعليم في المراحل الأولى باللغة الإنكليزية ؛ كان كتاب الحساب المقرر على الصف الابتدائي تأليف (( مستر تويدي )) وكذلك سائر العلوم، فألغى سعد هذا كله، وأمر أن تدرس المقررات كلها باللغة العربية، وأن توضع مؤلفات جديدة باللغة القومية. وبذلك المسلك الناضج حفظ على مصر عروبتها. وهذا الصنيع دفع أحد المفكرين المصريين إلى القول : (( إن سعداً أحسن إلى جيلنا كله بجعلنا عرباً )) فكم سعداً نحتاج إليه ؟
ويسرني أن أختم بأبيات من قصيدة للدكتور عبد المعطي الدالاتي من وحي هذه المقالة :
لغتي عليا اللغاتِ *** قد سمتْ كالكوكبِ
جرسها بين اللغاتِ*** كرنين الذهبِ
قد غدت أخت الخلودِ*** بالكلام الطيّبِ
وفي كل آخر يحسن الحمد لله رب العالمين
=============(39/351)
(39/352)
الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة
د. فرحان السليم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن أول تكليف نزل على رسول ا صلى الله عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف
(( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ))
كان هذا النص قاعدة الإصلاح الأولى التي صنع صلى الله عليه وسلم بها نواة مجتمع حضاري حوَّل مجرى التاريخ في منطقة لا تمتلك أنموذجاً للحضارة .
وفي واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا يحكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم ، فالوطن العربي تمتلك شعوبه هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى ، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها ، بل تنبهت مؤخراً إلى الغزو الثقافي الذي رافق الغزو الإعلامي وأصبح موضوع بحث ونقاش . يطرح هذا في أوساط المؤسسات الثقافية التي تقف حيرى أمام فشلها في الرقي بثقافة الشعوب وتنميتها .
إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم ، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي عقيمة ، ومن ثم فإن الشعب العربي لا يمكن أن يتفاعل مع ثقافات تتنافى مع قيمه وإن سميت ثقافة عربية .
ولا تعني أصالة الثقافة إهمال ثقافة الآخر وعدم الاطلاع عليها والإفادة منها ، كما لا تعني ثقافة دينية بالمعنى الكهنوتي ، وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية التي تدرس في المعاهد كما هي عليه ، بل تعني العودة إلى الأصالة منهجاً وقيماً ومصدراً في تنمية ثقافة المجتمع أيا كان اتجاهها أدباً أو فكراً أو فناً .
والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة ، ولا مترجمة ، ولا ملفقة ، ولا منغلقة ، بل هي ثقافة تعتمد على الإبداع الذي ينبع من التأمل والنظر في الكون،ولا حدود لهذا الإبداع فأفقه مفتوح.
تعد ثقافتنا العربية من أغنى الثقافات العالمية وأهمها ، فبعد أن ترسخت جذورها قبل الإسلام لغة مشرقة وحكماً وخطباً وأمثالاً وشعراً تجلت فيه العبقرية العربية وكان صورة لحياة العرب ومرآة تفكيرهم ومشاعرهم ومسرح خيالهم ، تنزل القرآن الكريم بالعربية فأغناها معاني سامية وبياناً رائعاً ، وفتح لها سبل الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها .
وبعد السلطان المكين ، أقبل العرب على نقل علوم الأقدمين ، ومنها انطلقوا في آفاق العالم مستكشفين مبدعين إلى جانب عطائهم المستمر في الفقه والأدب وفنون القول كافة .
وخلال هذه المسيرة الشاقة تعرضت الثقافة العربية لسهام "الآخرين" ، الذين حاولوا الإساءة إلى اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس ومجالات الحياة المختلفة ، ثم حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة في الثقافة العربية ، ثم جاءت ثقافة العولمة لتزاحم الثقافة العربية في عقر دارها كما تزاحم ثقافات مختلف شعوب العالم لتجعله بلا حدود ولا ألوان ، ساحة للسلع ومتجراً واسعاً يكدس منه الطامعون أرباحاً خيالية هي عرق الكادحين ودم المناضلين في أرجاء الأرض .
إن قدر لغتنا العربية أن تقاوم الإقصاء والتشويه ، وقدر أمتنا أن تحافظ على هويتها وترد َالطامعين بها . إن إرادة الحياة هي الأقوى والحقَّ هو الأبقى والمستقبل لمن صبر حتى نيل الظفر.
الصراع بين دعاة الأصالة والمعاصرة
لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بين ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد : التقليد والتجديد ، المحافظة والتحديث ، الجمود والتحرر ، الرجعية والتقدمية ، الأنا والآخر ، الداخل والخارج ، المحلي والعالمي ، القديم والجديد ، التراث والحداثة، ومنها الأصالة والمعاصرة .
وجدت منذ عصر النهضة ـ وتوجد الآن ـ في المجتمع العربي أقلية تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا ، بهدف الخروج من وضعنا البئيس . إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون ، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء .
إن أمتنا العربية على الصعيد الثقافي لا تبدأ من العدم بل هي تستند إلى إرث ثقافي غني باذخ ، وما يشغلها الآن هو : كيف توائم بين هذا التراث وبين متطلبات العصر الذي نعيش فيه . هل تتمسك بالثقافة المتوارثة التي ألفتها أم تهجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهددانها لأنها إن تمسكت بالقديم مكتفية به عاشت خارج الزمان ، وإن تلبست الجديد بلا روية عاشت خارج المكان .
إن هذه المشكلة قد شغلت العديد من المفكرين والباحثين ، ولكن من الجلي أن الثقافة ليست في أكثر مكوناتها صيغة جامدة لا تتغير ، بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً بجهود البشر . فالثقافة العربية في عصر المعري ببلاد الشام وعصر ابن رشد في الأندلس ليست الثقافة العربية في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو العصر الأموي .(39/353)
إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم ، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى ، ولاسيما في ميدان العلوم والتقانة والتقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة ، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور .
أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية ، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم ، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد .
هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف ،محو التخلف ، ويفترقان في الأسلوب : الأصالة بالمحافظة على الموروث،أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك ؟
كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه ، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه .
ولا ريب : أنه وجد غلاة في كلا الفريقين . ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر ، وجد الجامدون على كل قديم ، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ ، شعارهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حتى قال محمد كرد علي : نسينا القديم ، ولم نتعلم الجديد .
إنها ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل ، وهي ثنائية التكامل ، لا ثنائية التضاد والتقابل ، وقد أحسن د. عبد المعطي الدالاتي صياغتها بقوله : " لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث " .
مكونات الثقافة العربية
إن الثقافة العربية تتكون من مكونين رئيسيين : اللغة العربية والإسلام ومن هنا إصرار بعضهم على تسميتها : " الثقافة العربية الإسلامية " .
إن اللغة هي وعاء العلوم جميعاً ، وأداة الإفهام والتعبير العلمي ، والفني والعادي ، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها ، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية .
ومن هنا فإن كل من يحارب اللغة العربية يحارب بالنتيجة الثقافة العربية . وكان من ديدن أعداء هذه الأمة إضعاف الفصحى ، وإشاعة العامية ، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة القومية ، وإلغاء الحرف العربي في الكتابة ، وإحلال الحرف اللاتيني محله .
أما الدين فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها ، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً ، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية ، وشعائره التعبدية ، وقيمه الخلقية ، وأحكامه التشريعية ، وآدابه العملية ، ومفاهيمه النظرية ، حتى إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم ، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته ، شعر أم لم يشعر ، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول : أنا نصراني ديناً ، مسلم وطناً .
ويأتي السؤال ـ الإشكالية : كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد ؟ كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم ؟ وبين تراثنا الأصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث ـ أو بين الأصالة والمعاصرة ـ هي علاقة التضاد والتناقض ؟ فلا أمل في الجمع بينهما ، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما .
السؤال خطير ، والجواب مهم ، ولاسيما في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها ، بعد أن اكتشفت ذاتها التي غابت أو غُيبت عنها زمناً .
وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين ، فاختار فريق التراث والأصالة ، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان .
واختار آخرون العصر والحداثة ، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان . وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء .
لا تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة
إن الموقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة المتأنية لكل من الأمرين المعروضين . وقد سقط الكثير في هذا الخطأ الشنيع، حين تسرع في الجواب بغير علم عن هذا السؤال .
ويحكي لنا الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " تجديد الفكر العربي " قصة تسرعه حين واجه السؤال عن طريق للفكر العربي المعاصر ، يضمن له أن يكون عربياً حقاً ( أي أصيلاً ) ومعاصراً حقاً .
" قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض بين الحدين لأنه إذا كان عربياً صحيحاً ، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لجديد ـ وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرَة هواء يتنفسونها ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً ، كان محتوما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه ، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين .(39/354)
نعم قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض ، ولذلك يجب السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركّب واحد ، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نارة ، فهل بين الطرفين مثل هذا التناقض حقاً ؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما ، ذلك هو السؤال " .
ويقول الدكتور : " لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد ، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره ، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول : إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم ، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون ، ونجدَ كما يجدُون ، ونلعب كما يلعبون ، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون !! على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ ، فإما أن نقبلها من أصحابها ـ وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع ـ وإما أن نرفضها ، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً ، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال ؛ بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة ، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا ، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً ، والناس ـ كما قيل بحق ـ أعداء ما جهلوا .
ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية ، فما دام عدونا الألدُ هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة ، فلا مناص من نبذه ونبذها معاً ، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص ، يحفظ لنا سماتنا ويردُ عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه " . ويتابع الدكتور قوله : " ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس " ( تجديد الفكر العربي ، القاهرة ، دار الشروق ، ص12ـ 14 ) .
ماذا تعني الأصالة ؟
إن فهم الأصالة يقتضي ما يلي :
1. ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا : فهم هذه الثقافة من مصادرها الأصلية ، ومن أهلها الثقات ، وبأدواتها ومناهجها الخاصة .
2. الاعتزاز بالانتماء العربي الإسلامي : يشعر المثقف العربي المسلم ، الذي ينتمي إلى ثقافة العرب والمسلمين ، أنه عضو في جسم هذه الأمة ، وأنه متحرر من عقدة النقص التي يعاني منها بعض الناس تجاه كل ما هو غربي . إنه يعتز بلغته ، لغة القرآن والعلوم ، ويعمل على أن تكون لغة الحياة ، ولغة العلم ، ولغة الثقافة ، وقد كانت لغة العلم الأولى في العالم كله لعدة قرون ، فلا يجوز أن تعجز اليوم عما قامت به بالأمس .
3. العودة إلى الأصول : إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية ، والأخلاقية ، ونسعى إلى تحويل اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي . إن الاعتزاز يصبح ظاهرة مرضيَة إذا ظل مجرد كلام يردد ، وشعارات ترفع ، وصيحات تتعالى ، لسرد الأمجاد ، وتعظيم الأجداد .
4. الانتفاع الواعي بتراثنا : والغوص في حضنه الزاخر ، لاستخراج لآلئه وجواهره . ولا يتصور من أمة عريقة في الحضارة والثقافة أن تهمل تراثها وتاريخها الأدبي والثقافي ، وتبدأ من الصفر ، أو من التسول لدى غيرها .
إن التراث يحتوي الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، والسمين والغث . ففي التراث روايات يرفضها العقل والمنطق ، وفيه الإسرائيليات التي شاعت وانتشرت . من ذلك مثلاً كلام الفلاسفة الكبار عن العناصر الأربعة : التراب والهواء والنار والماء ، أو عن الأفلاك ، أو عن شكل الكون ، ومركز الأرض ، أو غير ذلك ، مما أبطلته علوم العصر ووثباته الهائلة .
وفي التراث أشياء لم يثبت خطؤها ، ولكن لم تثبت جدواها ، أو لم تبق الحاجة إليها قائمة ، كما كانت من قبل ، مثل مباحث علم الكلام المتفلسف ، ولم تبق تخاطب الناس بلسان العصر ، وبعض مباحثها أمسى غير ذي موضوع ، وبعضها تجاوزه العلم أو أبطله . وينبغي وضع علم كلام آخر يعبر عن عصرنا ، ويواجه تياراته ، ويحل مشكلاته .
وفي علم التصوف شطحات ونتوءات في الفكر والتصور ـ كالحلول والاتحاد ـ تناقض صفاء التوحيد الإسلامي ، وأخرى في السلوك والعمل ـ كالمبالغة في الزهد والتوكل ـ تنافي وسطية الخلق الإسلامي .
وفي كتب الأدب والشعر أشياء تجاوزت الدين والخلق والعرف والذوق ، كالغزل بالذكور والحكايات الهابطة .
إننا لسنا مع الذين يضفون القدسية أو العصمة على كل ما مضى ، ولا مع خصومهم الذين ينأون بجانبهم عن كل موروث ، لا لشيء إلا لأنه قديم ، ولكن لابدَ من التخير والانتقاء ، لاسيما في مجال التربية والتثقيف ، أو مجال الدعوة والتوجيه ،أو مجال الحكم والتشريع .
قراءة مستبصرة للتراث
يجب أن تتحقق قراءة مستبصرة للتراث ، وفق معايير مضبوطة تسهم في نهضة الأمة ، وتأخذ بيدها نحو الصراط المستقيم . فمثلاً نقرأ الشعر العربي فنأخذ من روائع التصوير ، وبدائع التعبير ، عن النفس والطبيعة والحياة ، ونقتبس غوالي الحكم ، ونترك المديح المسرف والهجاء المقذع ، والعصبية القبلية ، والمجون المكشوف ، والشك المتحير .(39/355)
نقرأ حجة الإسلام الغزالي وننهل من تراثه الرحب في التربية والأخلاق ، ونترك ما تضمنت كتبه من غلو الصوفية ، أو من معارف أثبت علم العصر بطلانها ، أو ما استند إليه من الأحاديث الواهية والموضوعة التي لا سند لها .
نقرأ التفسير ، ونحذر من الإسرائيليات ، والأقوال الفاسدات .
ونقرأ الحديث ، ونحذر من الموضوعات والواهيات .
ونقرأ التصوف ، ونحذر من الشطحات والتطرفات .
ونقرأ علم الكلام ، ونحذر من الجدليات والسفسطات .
ونقرأ علم الفقه ، ونحذر من الشكليات والتعصبات .
قراءات متحيزة أو موجَهة للتراث
تنحاز بعض القراءات المتحيزة لبعض المدارس دون بعض ، ولبعض الاتجاهات والشخصيات دون بعض ، تأخذ من التراث وتدع ، وتحذف منه وتبقي ، وفق أهوائها وميولها الخاصة .
منهم من ينحاز إلى " المدرسة الفلسفية " ولاسيما " المدرسة المشائية " ، التي جعلت أكبر همها التوفيق بين الفلسفة والدين ، ولكنها اعتبرت الفلسفة أصلاً ، والدين تبعاً ، فإذا تعارضا أولَ الدين ليتفق مع الفلسفة .
ومنهم من ينحاز إلى " المدرسة الاعتزالية " ، ويعدُ المعتزلة " المفكرين الأحرار " في الإسلام . وحديث هؤلاء عن المعتزلة يوهم أنهم جماعة " عقلانية " محضة ، لا تذعن لنصوص الدين ، ولا تخضع لأحكام الشرع ، وهو تصوير غير صحيح ، لاسيما في مجال الفقه والأحكام العملية ، التي كثيراً ما تبعوا فيها المذهب الحنفي .
ومنهم من ينحاز إلى شخصيات معروفة دون غيرها ، مثل ابن رشد ، وابن حزم ، وابن عربي ، وابن خلدون ، وكلامهم عن هؤلاء وأمثالهم يصورهم بصورة " العقلانيين " الخلصاء ، الذين يرفضون النصوص إذا خالفت مقرراتهم العقلية .
وهذه قراءة متحيزة لهؤلاء الأعلام ، فكتبهم تدل بوضوح على أنهم ـ ككل المسلمين ـ لا يملكون أمام محكمات النصوص ، إلا أن يقولوا : سمعنا وأطعنا .
فابن رشد وابن خلدون كلاهما قاض شرعي وفقيه مالكي ، وابن رشد هو صاحب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " في الفقه المقارن ، الذي يتجسد فيه احترام المصادر والأدلة الشرعية كلها ، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
وابن حزم وابن عربي كلاهما فقيه ظاهري ، يأخذ بظواهر النصوص وحرفيتها في مجال الفقه واستنباط الأحكام ، وإن كان على ابن عربي اعتراضات جمة في تصوفه الفلسفي .
ولكن هؤلاء العصريين يستنطقون تلك العقول الكبيرة ـ على اختلاف اهتماماتها وتخصصها ـ بما يحبون هم أن تنطق به ، لا بما نطقت به بالفعل ، فهم يريدونها مترجمة عنهم ، معبرة عن فكرهم ، لا عن ذاتها وفكرها الخاص .
ويرى الدكتور فهمي جدعان ( نظرية التراث ، عمان ، دار الشروق ، ص26 ) أن هؤلاء يستلهمون التراث الماضي ما يبررون به الواقع الحاضر ، ويرى أن عملية "الاستلهام " هذه ليست إلا عملية تسويغ لقيم الحاضر ، بإسقاط غطاء تراثي عليها ، وأن الذي يحدث عملياً أن الحاضر هو الذي يفرض قيمه ، ويلزم بها .
ومثل هؤلاء من يدعو إلى " إعادة قراءة التراث " وفق مناهج معاصرة ، ارتضاها أصحابها ، تبعاً للمدارس التي ينتمون إليها .
وهذا التوجه شائع عند المثقفين الذين مارسوا خبرة بمناهج العلوم الإنسانية الحديثة ، وبالفلسفات الغربية المعاصرة ، فكل واحد من هؤلاء يقرأ التراث وفقا لمنهجه المحدد ، ويفسره ويوجهه تبعاً لإطاره المرجعي ، فهذا يقرؤه قراءة عقلانية ، وثان قراءة لسانية ، وثالث قراءة مادية ، ورابع قراءة براجماتية ، وقراءات أخرى معرفية ووظيفية وبنيوية ، إلى آخر التصنيفات التي تحاول " أدلجة " التراث ، وتوظيفه لخدمة أفكار مدرسة معينة ، وتوجيهه توجيها قبْلياً واضحاً ، فهي ليست قراءة للفهم ، وإنما للفعل والتأثير بل " للتثوير " عند بعضهم .
يقول الدكتور جدعان : إن هذه " الأدلجة " لم تكن تعني في نهاية التحليل إلا شيئاً واحداًَ هو : أن الحاضر عاجز ـ بإمكاناته وقدراته الكامنة والصريحة ـ عن إحداث التغيير المنشود . وأن التراث الذي يشد الناس إليه ، هو الذي يملك القوة السحرية على التغيير ، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ بعد توجيه قراءته الوجهة التي تخدم الأهداف المنصوبة ( ص28ومابعدها ).
ماذا تعني المعاصرة ؟
إن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان في عصره وزمانه ، ومع أهله الأحياء ، يفكر كما يفكرون ، ويعمل كما يعملون ، يعايش الأحياء لا الأموات ، والحاضر لا الماضي . ويقتضي ذلك ما يلي :
1. ضرورة معرفة العصر :(39/356)
أي أن نعرف " العصر " الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة ، فإن الجهل بالعصر يؤدي إلى عواقب وخيمة ، وهذا ما دفع أحد المفكرين إلى القول : إن المشكلة ليست في جهلنا بالإسلام ، بل المشكلة في جهلنا بالعصر ! والجهل بالعصر سمة مشتركة بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة . إن من بين دعاة الأصالة من يعيش في الماضي وحده ، ويسكن في صومعة التراث ، وقد أغلق عليه بابها ، فلا يكاد يرى أو يسمع أو يحسُ شيئاً مما حوله . ويا ليته يعيش في عصور التألق والازدهار ، بل كثيراً ما يعيش في عصور التخلف والتراجع . فهو يفكر بعقولهم ، ويتحدث بلغتهم ، ويحيا في مشكلاتهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، فهو حي يعايش الأموات ، أكثر مما يعايش الأحياء .
إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من الآبائيين الذين يفرون من مواجهة الواقع إلى أحضان آبائهم وأجدادهم : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )) . وإذا سألتهم عن حل لمشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي يحلوها . حتى قال فيهم جمال الدين الأفغاني : لقد أضحوا على حالة كلما قلت لهم كونوا بني آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا .
المطلوب ـ إذن ـ أن يعيش الإنسان القوي في حاضره ، منطلقاً إلى مستقبله ، ولكي يحسن العيْشة في حاضره وزمانه (عصره) ينبغي أن يعرفه حتى يتعامل معه على بصيرة . وكلمة اللسان الواردة في الآية : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )) ، يفهم منها اللغة ويفهم منها طبيعة العصر .
معرفة الواقع من تمام معرفة العصر : الواقع المحلي ( الوطني ) ، والإقليمي ( العربي ) ، والإسلامي ، والعالمي .
وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع ، أو إصدار حكم له أوعليه ، أو محاولة تغييره .
ولا تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إلا بمعرفة العناصر الفاعلة فيه ، والموجهة له والمؤثرة في تكوينه وتلوينه ، سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية ، بشرية أم غير بشرية ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وروحية .
وتفسير الواقع كتفسير التاريخ ، يتأثر باتجاه المفسر وانتمائه العقدي والفكري .
ويجب أن نحذر من النظرات الجزئية ، والمحلية ، والآنية ، والسطحية ، والتلفيقية والتسويغية .
فعلينا أن نحذر من الاتجاه " الإطرائي " للواقع ، ومحاولة تحسينه وإبراز صورته سالمة من كل عيب ، منزهة عن كل نقص ، وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة فيه ، وإن كانت تنخر في كيانه ، واتهام كل من ينقد هذه العيوب والآفات بأنه مشوش ، أو مبالغ أو متطرف .
ونحذر كذلك من الاتجاه " التشاؤمي " الذي ينظر إلى الواقع بمنظار أسود ، يجرده من كل حسنة ، ويلحق به كل نقيصة ، ولا يرى فيه إلا ظلمات متراكمة ، موروثة من عهود التخلف ، أو وافدة مع عهد الاستعمار . جماهير مُضلَّلة ، وأقطار هي مجموعة " أصفار " !! وما يرجى من تغيير ، أو يؤمل من إصلاح ، فهو سراب يحسبه الظمآن ماء .
ومثل ذلك : الاتجاه " التآمري " الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي أجنبية ، وقوى خفية ، تحركه من وراء ستار . ونحن لا ننكر التآمر والكيد ولكن تضخيم ذلك بحيث يجعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ في عضدنا ، وييئسنا من أي توجه إيجابي لإرادة التغيير ، ويريحنا بأن نشعر أننا أبدا ضحايا من هو أقوى منا ، ولا حلَ أمامنا غير الاستسلام للواقع المر . ومن ناحية أخرى يجعلنا هذا لا نعود على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد ، وتدارك ما وقع .
إن أوْلى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي ، أن نردَها إلى الخلل الداخلي ، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) .
وقريب من ذلك الاتجاه " التنصلي " في تفسير الواقع ، بمعنى أن أحداً لا يريد أن يتحمل مسؤولية ما في هذا الواقع من سوء وانحراف ، فكل واحد ، وكل فريق ، يريد أن يحمل وزره على غيره ، أما هو فلا ذنب له ، ولا تبعة عليه .
الكل يشكو من الفساد ، ولكن من المسؤول عن فساد الحال ؟ وأين الخلل ؟ جمهور كبير من الناس يحملون المسؤولية على العلماء ، والعلماء يحملون المسؤولية على الحكام ، والحكام يحملونها على الضغوط الخارجية أو الضرورات الداخلية .
والحق أن الجميع مسؤولون ، كل حسب ماله من طاقة وسلطة : الجماهير والعلماء ، والمفكرون والمربون والحكام : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) . ( متفق عليه من حديث ابن عمر . صحيح الجامع الصغير برقم 4569) .
ومن التفسيرات الخاطئة للواقع : التفسير التسويغي التبريري الذي يحاول أن يضفي على الواقع ، ما يجعله مقبولاً ومشروعاً ، وإن حاد عن الحق وسواء السبيل ، وفي هذا لون من التدليس والتلبيس ، بإظهار الواقع على غير حقيقته ، وإلباسه زيا غير زيه .
إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعالمنا عموما ، وواقع أمتنا خصوصاً كما هو ، دون تحريف ولا تزييف ، ولا تهويل ولا تهوين ، ولا مدح ولا ذم ، مستخدمين الأساليب العلمية الموضوعية في الكشف والرصد والتحليل ، وفي هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء ووصف الدواء .(39/357)
إن أعداءنا يعرفوننا تماماً ، فنحن مكشوفون لهم حتى النخاع ، فهل عرفنا نحن أعداءنا ؟ وإذا كنا لم نعرف أنفسنا كما عرفها غيرنا ، فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا أنفسنا مثلما عرفها خصومنا ؟
عصرنا بين الإيجابيات والسلبيات
إنه عصر الإيجابيات :
عصر العلم والتكنولوجيا .
عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب .
عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة ، والتطورات الهائلة .
عصر الاتحاد والتكتلات الكبيرة .
عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل .
عصر اقتحام المستقبل ، وعدم الاكتفاء بالحاضر ، فضلاً عن الانكفاء على الماضي .
وهو أيضاً عصر السلبيات :
عصر غلبة المادية والنفعية .
عصر تدليل الإنسان بإشباع شهواته .
عصر التلوث بكل مظاهره .
عصر الوسائل والآلات ، لا المقاصد والغايات .
عصر القلق والأمراض النفسية ، والتمزقات الاجتماعية .
والناس قسمان حيال العصر : منهم من يهرب منه إلى الماضي خوفاً منه بدل المواجهة ، ومنهم من يندمج فيه إلى حد الذوبان ، والخير في الوسط حين نستعمل إرادتنا واختيارنا أمام هذه المؤثرات لنأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا .
ويجب أن ننتبه الى نقطة أن العصر ليس الغرب وحده وإن كان هو المهيمن والمسيطر ، فهناك العالم الإسلامي ، وعالم الشرق الأقصى بدياناته وفلسفاته .
ويردد كثير من تجار الثقافة دعوة مشبوهة هي استيراد الثقافة الغربية بكل عناصرها بدعويين : عالمية هذه الثقافة ، وأنها ثقافة لا تتجزأ .
أما عالمية الثقافة فهي شبهة خاطئة لأنهم يخلطون بين العلم والثقافة ، فالعلم كوني ، والثقافة خاصة بكل قوم وكل جماعة . العلم واحد والثقافات متنوعة متعددة .
أما دعوى أن الثقافة لا تتجزأ فهي مرفوضة تاريخياً وواقعياً . لقد أخذ العرب عن الأمم كثيراً مما عندها من العلوم والمعارف ، ولكنهم لم يأخذوا ثقافتها ، وبقوا محافظين على لغتهم وعقيدتهم وعاداتهم وأعرافهم . أما في العصر الحديث فقد أخذ اليابانيون عن الغربيين العلم والمناهج ، ولم يأخذوا عنهم عقائدهم وشعائرهم وتقاليدهم .
2-العلم والتكنولوجيا :
إن أصالتنا لا تمنعنا من أخذ هذا العلم والاقتباس منه والانتفاع به ، بل هي توجب علينا ذلك إيجاباً . إن التكنولوجيا لا تشترى شراء ، فتلك التي تشترى لا تطور المجتمع ، فهي تساعد على الاستهلاك لا الإنتاج ، والتقليد لا الاتباع . إن التكنولوجيا يجب أن تنبت عندنا ، وأن تتفاعل مع واقعنا ، وأن نحملها نحن . ولا يظنَنَ ظان أن ما نملكه اليوم من أجهزة ومعدات يجعلنا عصريين .
3 - النظرة المستقبلية :
إن من طبيعة المعاصرة ألا نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إلى المستقبل . إن النظرة إلى المستقبل لا تقوم على الكهانة والتنجيم ، ولكن على الإحصاء والتخطيط ، والدراسة والرصد وبناء النتائج على المقدمات . يجب أن نفيد من دراسات المستقبل التي ازدهرت في الفترة الأخيرة ازدهاراً كبيراً .
والناس بين الماضي والمستقبل على ثلاثة أنواع :
1. الماضويون : المشدودون دائماً إلى الوراء لا ينظرون أمامهم أبداً . ومن سماتهم أنهم يضفون لوناً من القداسة على التراث فهو برأيهم حق كله لا يمكن أن نترك شيئاً فيه . ويسرفون في ردّ كل جديد إلى قديم من التراث ، وإن لم يقم على ذلك برهان : فالطب الحديث مأخوذ من الرازي وابن سينا ، وعلم الاجتماع المعاصر يوجد عند ابن خلدون ، واللسانيات المعاصرة عند سيبويه ... وهلم جرَا . وهم يعتبرون كل زمن شراً مما قبله ، ومتعلقون بالصورة والشكل لا بالروح والجوهر .
2. المغرقون في المستقبلية : ينظرون دائماً إلى الأمام ولا يلتفتون إلى الوراء لأن الإنسان يتطور دائماً إلى ما هو أحسن وأمثل ، إنهم كما وصفهم أحد المفكرين : " كأنما يريدون أن يلغوا الماضي من الزمن ، و (أمس) من اللغة ، والفعل الماضي من الكلام ، ويحذفوا الوراء من الجهة ، والذاكرة من الإنسان" . التراث عندهم متهم ، والماضي بغيض ، والسلف متخلفون ، وتاريخ الأمة ظلمات بعضها فوق بعض . يسكتون عن حسنات التراث ، ويضخمون ما فيه من فتن وانحرافات .
ج - دعاة الوسطية : هم الذين سلموا من إفراط الأولين وتفريط الآخرين ، يعلمون أن التطور والتغير ليس دائماً إلى الأحسن والأمثل . يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إلى ما هو أفضل ، وينكرونه إذا اتجه نحو الهبوط والانحدار . إنه تيار الوسطية الذي لا يغفل المستقبل ولا ينسى الماضي .
4. العناية بحقوق الإنسان :
يصور كثير من الباحثين أن حقوق الإنسان نبت غربي لم يكن قبلا في الأمم السابقة ، والحقيقة أن هذه نظرة مبتسرة قاصرة .
إن الأمة العربية قد عرفت حقوق الإنسان عن طريق ما بثه الإسلام ، بمصدريه القرآن والسنة ، من قيم ومبادئ تعترف للبشر بحقوقهم كاملة غير منقوصة ، حتى إنها اعترفت بحقوق الحيوان . لقد شمل الإسلام حقوق الإنسان الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية ، وأكد المساواة والحريات العامة المتنوعة .
وقد شمل الإسلام حقوق البشر بأنواعهم : الرجال والنساء والأطفال .(39/358)
وشمل المسلمين وغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية وخارجها .
وضمن الإسلام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي ، وجعله فرضاً على الفرد والجماعة والدولة .
وقد شرع الإسلام الجهاد لحماية حقوق الإنسان ، ومنع استضعافه ، والبغي على ذاته وحقوقه : (( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان )) .
وقبل أن أختم بحثي أريد أن أؤكد بعض النتائج الضرورية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمتنا :
1. ضرورة تواصل الحوار بين المخلصين من الطرفين : الأصالة والمعاصرة ، لتصحيح المفاهيم ، وإزالة الشبهات ، وتقريب الشقَة ، ومحاولة توسيع مساحة المتفق عليه ، وتأكيد التعاون فيه ، والمناقشة الجادّة في المختلف فيه ، والعمل على تضييقه ، والاجتهاد في الوصول إلى الصواب أو الصحيح أو الأصح ، وأن نعمل بالقاعدة الذَهبية:(نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ).
2. تأكيد كرامة الإنسان : لقد وجه كثير من مفكري الغرب النقد العنيف إلى الحضارة الغربية التي أعلت من شأن المادة وهبطت بقيمة الإنسان ، فعلينا أن نؤكد ذلك ونتبناه ، ونجعل من ثقافتنا الإنسانية واقعاً حياً في أرضنا ومجتمعاتنا ، ونمكن لها في حياتنا العقلية والوجدانية ، حتى تؤدي دورها المطلوب في البناء والإعلاء .
3. لا تناقض في ثقافتنا بين العروبة والإسلام ، إلا إذا حرفت العروبة فكانت معادية للإسلام ، وحرف الإسلام فكان معادياً للعروبة .
4. لا صراع في ثقافتنا بين العلم والدين ، أو بين العلم والإيمان أو بين العقل والنقل . العقل أساس النقل ، والنقل يُشيد بالعقل ويحتكم إليه ، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول . لذا يجب أن نعلي من شأن العلم والإيمان حتى تدخل الأمة العصر بجناحين راسخين .
5. لا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة ، إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها . إذ نستطيع أن نكون معاصرين إلى أعلى مستويات المعاصرة ، وأن نبقى كذلك أصلاء حتى النخاع . إنما تتعارض الأصالة والمعاصرة ، إذا فهمت الأصالة على أنها الاحتباس الاختياري في سجن الماضي ، والمعاصرة على أنها الدوران في رحى الغرب . لذا يجب أن نرفض اتجاهين متطرفين : الاتجاه الأول الذي ينتهي بالأصالة إلى الجمود والتحجر ، والاتجاه الثاني الذي ينحو بالمعاصرة نحو الفناء في الغرب ، واتّباع سننه " شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه " ، ولا يكتفي بأخذ العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة والتنظيم فيه ، واقتباس كل ما تنهض به الحياة ، بل هو يصرُ على نقل الأنموذج الغربي إلينا بكل عناصره ومقوماته ، ولاسيما جذوره الفلسفية ، ومفاهيمه الفكرية ، ومجالاته الأدبية ، وتقاليده الاجتماعية ، وقوانينه التشريعية ، ومؤثراته الثقاف
================(39/359)
(39/360)
حتى وإن دخلوا بغداد...!!
الشيخ قاسم الشيباني
حتى وان دخلوا بغداد . حتى وان كذب الأعلام .حتى وان اختفت الحقائق . حتى وان قتلوا وعربدو ودمروا فى كل مكان .لم ينل ولن ينال ذلك من يقيننا بنصر الله لنا مقدار حبة خردل أن السنن الإلهية علمتنا أن العاقبة للمتقين وان النصر للمؤمنين وان اشتداد الظلام يعقبه الفجر وان ولادة الجنين تمر بألم المخاض وان خلف كل محنةٍ نعمةُ ومنحه.
مجاهدون من هنا ,مجاهدون من مصر , مجاهدون من سوريا , مجاهدون من الأردن , مجاهدون من اليمن , ألتقوا في العراق لماذا ؟! إنها رابطة الدين التي أريد لها ان تتنحى عن حياة المسلمين في ما بينهم لقد سقطت الوطنية وتهاوت القومية ورجعت إسلامية معلنة ان المسلمين للمسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا وان رابطة الدين والعقيدة هي الحادي لهذه الامه وان حفنة العلمانية أفراخ الغرب ودعاة الجاهليه العصرية لم يعد لهم اثر في توجيه الفكر لقد تعانقت قلوب المسلمين في كل مكان نعم ألتقت الشعوب رغم الحدود والعقبات وأنعم بهذه من منحه منحها الله عباده المسلمين بما جرى للعراق أرض الخلافة العباسية والحضارة الإسلامية .
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ *** عددت ذاك الحمى من لب اوطانى
وأننا نسير في هذه الأيام إلى النصر والتمكين ( ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ان شعورا غامراً يغمر القلب ويملأ جوانحه بأن انتصار الإسلام بات وشيكا والدليل على ذلك اشتداد الأزمات ( ان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا ).
اشتدي أزمة تنفرجي *** قد آذن ليلك بالبلج
وإننا لم نعد نرى لمصطلحات الأحزان والآلام والأسى والقهر والحرمان مجال في حياتنا إننا نحتاج اليوم إلى مصطلحات التفاؤل والمبشرات يجب ان تكون مصطلحات النصر والصبر واليقين والثقة بالله والبشريات والتحدى والإعداد هي مدار حديثنا في كل ملتقياتنا من حوار في جلسه إلى لقاء ألي كلمه إلى منتدى إلى ندوة والى خطبة جمعه وهذا الكلام الذي نقوله ليس مجازفة أو مبالغه بل هو الواقع الذي حاول الإعلام الكافر ومن وراءه الأعلام التابع الذليل إخفائه عنا لنعيش في قوقعة هزيمتنا النفسية لنحتسى الأحزان وتتراكم على نفوسنا الآلام حتى تصبح واقعا لا مفر منه فنرضى بالذل ونستسلم للهوى وذلك عين ما يريده أعدائنا نقول ان مصطلحات النصر والثقة والمبشرات والإعداد والتحدى يجب ان تستولى على لغة حديثنا في هذه الأيام لأن الواقع يشهد لها بدءاً من الشيشان والى أفغانستان والفليبين ومن قبل البوسنة مرورا بالعراق والى فلسطين حيث الجهاد المحارب إعلاميا والنصر الكبير الهائل الذي حققه مجاهدي فلسطين المتقدين حماسة وشجاعة واباءً فتعالوا معي لنرى الواقع الذي يشهد بالنصر وارتفاع الراية بعد تعفرها ردحا من الزمن.
وأما في الشيشان فقد خرجت روسيا من الشيشان عام 1996م ذليلة مندحرة تحت ضربات المجاهدين وكان ذلك في الغزو الروسي الأول إبان إعلان المسلمين هناك الاستقلال بأنفسهم عن الحكم الروسي الشيوعي , ثم جاء الغزو الروسي الثاني تحت قيادة الأحمق المطاع بوتين والذي صرح بكل صلف وغطرسه قائلاً اعددنا ما لو احتجنا فيه ان نحارب أله المسلمين لحاربناه فماذا فعل هذا الجيش الروسي المدجج بأعتى أنواع الأسلحة أمام 3000 مجاهد ؟!!
لقد استخدم أسلحة الدمار الشامل والمحرمة دولياً على حد زعمهم فلم يفلح في القضاء عليهم بل سجلت الأحداث خسائر فادحه في الجيش الروسي وهروب مستمر وانتشار للأمراض النفسية في صفوفه وخيانات متواصلة من قادة , إلى ضباط, إلي أفراد بل وصل الحال إلى ان يتسلل رجال ونساء من الشيشان مسلمة إلى موسكو عاصمة الظلم والطغيان فيحاصروهم في مسرح لهم ليقولوا لهم ان دماء مدنييكم ليست اطهر من دماء مدنيينا , وأطفالكم ليسوا أحق بالحياة من أطفالنا فجاء بوتين بحماقته المعتاده ليبين انه لن يستسلم لضربات المجاهدين فكان حله العبقري ان أمر في بالغاز السام المجهول فقتل رعاياه لينطبق عليه مثل الدب الذي قتل صاحبه ثم ماذا يحصل اليوم؟ لقد تنازل الدب الروسي عن كبرياءه وهاهو الآن يرضخ للمفاوضات حول إعطاء الشيشان حق الاستقلال.(39/361)
وتعالوا معي إلى البوسنة فهل كان المسلمون يتوقعون أن يعطي الغرب النصراني البوسنة حق الاستقلال لولا ضربات المجاهدين الخمسة آلاف على الجيش الصربي أقوى الجيوش الأوروبية بريا ً والذي عرف من بين الجيوش الأوربية بشراسته .. لقد أستطاع المجاهدون أن يخترقوا الحدود الصربية حتى صاروا على مقربة من بلقراد عاصمة الصرب حتى قال أحد قادة الغرب الصليبي واصفا ً المجاهدين العرب : إنهم الشياطين الزرق وجاء التدخل الغربي السريع تحت ضغط المجاهدين والذين ليس بأيديهم سوى سلاح الكلاشنكوف ليعطي المسلمين حق الاستقلال على مافيه من تهافت ولولا أن علي عزت بيجوفبتش رضي بهذا الاستقلال الأعور وتخلى عن المجاهدين رضا بهذا الصلح المعيب لما تركه المجاهدون حتى يحرروها كامله بحكم إسلامي قوي مستقل استقلالاً كاملا ً وتعالوا معي إلى أفغانستان والتي يحاول الأمريكان اليوم زعماء الفساد في الأرض أن يقنعوا العالم أنهم قضوا على المسلمين هناك وحملت راية الجهاد في سبيل الله والمصطلح عليهم عند الكفار والمنافقين بالأرهابيين تعالوا معي لننظر هل استطاعت أمريكا القضاء عليهم فعلا ً .
لما انسحبت قوات طالبان المجاهدة من المدن الافغانية تفاجأ كثير من المسلمين وأصيب بعضهم بالإحباط ولم يدرك الكثير سر هذا الإنسحاب الكامل وكان المجاهدون أدرى بالذي يصنعون منا فقد أراد المجاهدون تحقيق ثلاثة اهداف مهمة :
أولها : إيقاف القصف الجوي على المدن والمدنيين وإلغا مشكلة البنية التحتية الثابتة التي تكون هدفا ً سهلا ً للشجاعة الأمريكية الجوية .
ثانيها : المحافظة على أرواح المجاهدين والانحياز المتعمد بهم إلى مواقع محصنه لترتيب الصفوف ( إلا متحرفاً لقتال ) في طريقة للمواجهة بطريقة أخرى هي طريقة الحرب الغير متوازنة نعم وتحييد القوة الأمريكية المتفوقة تحت حرب العصابات المدمرة للجيوش النظامية والقواعد العسكرية .
ثالثها : وبذلك سلب المجاهدون زمام المبادأة بالقتال ليكون لهم فقط فصاروا في موقف الهجوم بعد أن كانوا في موقف الدفاع وصار الأمريكان أهدافا ً ثابتة بما زرعوا من غدد سرطانية أعني قواعدهم العسكرية .
إن المنتصر الآن هم المجاهدون والذين يقتلون الآن هم الأمريكان ، 90% من قادات المجاهدين مازالوا أحياء طلقاء كما نشرت جريدة نيوز ويك فأين ما ادعت أمريكا من وعيد بالقضاء عليهم .
بلغ قتلى الأمريكان مايزيد على ألف ومائتين قتيل أمريكي بينما تعترف حكومة قرضاي العميلة بمائة وعشرين فقط لإخفاء الحقائق وهذه الإحصائية اعني الألف والمائتين قبل ثلاثة أشهر عدا الذي يقتلوا الآن في قواعدهم محاصرين من قبل المجاهدين هناك ؛ والذي يحاول وسائل الإعلام اليوم سكوته تماما عن افغانستان اخفاءه على المسلمين . حقا إنها حرب إعلامية .
تعالوا الفلبين فبعد ستة أشهر من إرسال يوس الارعن قوة عسكرية إلى الفلبين لدحر ما سماه بالإرهاب هناك ، اضطرت تلك القوات أن تعود من حيث جاءت في 2002م بعدما اكتشف الأمريكيون - كما جاء على لسان الجنرال " دونالد وورستران" ان القضاء على الإرهابيين ليس مهمة سهلة معتبرا ً أن من المبكر الحديث عن نهاية الإرهابيين في الفلبين . ووصف الجنرال دونالد الإرهاب الذي أصبح ند أمريكا المعاصر بقوله " عدونا متحرك لا يملك بنية تحتية ثابتة ويتنقل بمجموعات صغيرة ولدية شبكة معلومات جيده وهذا ما يحعل مهمتنا ليست سهلة" .
وأما في فلسطين فإن إسرائيل اليوم وإلى هذه اللحظة تتأرجح بضربات الإنتفاضة المباركة لم تعد كما يضن الكثير مجرد أطفال يلقون الحجارة والحرب جهاد وتحرير عمليات استشهادية اطلاق صواريخ هجوم على المستوطنات إطلاق قذائف الهاون تفجير دبابات تطوير متفجرات قتل بالسلاح الأبيض هجمات على القواعد استخبارات قوية تطارد الشخصيات اليهودية الكبيرة استماتة بعض اليهود مقابل رشوة . حتى بلغ مجموع العمليات العسكرية للأنتفاضة خلال سنتين اربعة عشر ألف عملية. يقول الخبير اليهودي كرفيلد : لدينا قوة كبيرة ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا ان نستعمله وحتى لو استعملناه فثمه شك في نجاحه فالأمريكيون أنزلوا ستة ملايين طن من القنابل على فيتنام ولا أذكر أن هذا الأمر نفعهم ".
أنه عند قيام الانتفاضه كانت نسبة القتلى من العدو 50:1 من الفلسطينين فما زال العد حتى صارت نسبة القتلى 3شهرياً من اليهود حتى بلغت 17 قتيلاُ بعد مجيء السفاح شارون الذي وعد بالقضاء على الانتفاضه بعد مائه يوم فقط حتى بلغ القتلى في شهر واحد هو شهر ابريل 2002 للميلاد مائة واربعين قتيلا هذا العدد في شهر واحد فقط وهو ما لم تحرزه الجيوش العربية القوميه السخيفه في حربها مع اليهود , ان اسرائيل لم تحتمل مقتل 75 قتيلاُ خلال ثلاث سنوات قضتها في جنوب لبنان فكيف تحتمل اليوم مائة واربعين قتيلا في شهر واحد وهم الذين عرفوا بأنهم احرص الناس(39/362)
على حياة !! بل صارت النسبة مرشحة الان لأن تصبح 1:1 من الطرفين تقريبا ولا سوى قتلانا بالجنة إن شاء الله وقتلاهم بالنار وبئس القرار إن اليهود في هذه الايام يعيشون رعبا شديدا حتى قال احد كتابهم في جريدة معاريف الاسرائيلية : ( ان المجتمع الاسرائيلي يشعر باليأس مثل قطيع بلا راع محاط بذئاب مجنونة ).
وحتى قال وزير المالية في اسرائيل يصف الوضع هناك : ( كنا نحارب ونحارب على الحدود أما في هاتين السنتين فأننا نحارب ونحارب في كل مكان في الشوارع والفنادق والمطاعم والمستوطنات في البر والبحر ).
بعد خمسة شهور من الانتفاضة اعلن خمسون ضابطا وجنديا العصيان والرفض في الجيش الاسرائيلي وما زالوا يتزايدون حتى بلغوا اكثر من الالف فسجنوا وبقي منهم مائة وثمانون مصرين على موقفهم رغم السجن .
الهاربون من الخدمة في الجيش الاسرائيلي بلغوا 600 هارب .
بل بلغ بهم الرعب أن احدهم لا يخرج من دبابتة لقضاء حاجته خوفا من الطفل الفلسطيني بل صدر لهم الامر رسميا بعدم الخروج من الدبابة ومن المواقف المضحكة ان احد المجاهدين في فلسطين أقتحم مستوطنة وقتل وجرح حوالي 10 من اليهود على مشهد من الحرس الذين بلغ بهم الذعر الى حد الوجوم والعجز عن الكلام وحتى عن التبليغ عن الهجوم اما الجنود فقد فروا وأعترف احدهم بصراحة مخزية قائلا : ( حين بدأ القتال أختبأت تحت السيارة ) .
صنعت اسرائيل دبابة مركبا 3 والتي تعد أكثر الدبابات متانة في العالم واستطاع الشباب المجاهد في فلسطين تفجيرها بما لديهم من مواد متفجرة بدائية فأنهارت هذه الدعاية وأوقفت الدول التي اجرت مع اسرائيل عقود شراء هذه الدبابة عقودها كالصين وروسيا والهند .
أيها الاخوة قفوا معي لنتعرف على هزيمة اليهود الان في فلسطين وعلى ما قدمة المجاهدون في فلسطين والذي يحرص الاعلام اليوم على نقل الجانب المأساوي للمسلمين هناك فقط ليقنعنا بأن الاستسلام هو الحل , تعالوا معي إلى لغة الارقام لننظر هل المسلمون في فلسطين في طريقهم الى النصر ام لا .
بلغت حالات الخوف والذعر في المستوطنين اليهود الي 78% .
بلغت نسبة المهدئات والمسكنات النفسية الى 50 % .
أنخفضت ثقة اليهود بحكومة شارون الى 37% .
وهاجر 80الف يهودي من المستوطنات في الضفة وقطاع غزة الى الداخل .
وهاجر من اليهود الى خارج اسرائيل عائدين الى ديارهم مايقارب المليون مرتد , والهجرة من اسرائيل عند اليهود ردة !
هبطة نسبة المهاجرين الى اسرائيل في السنة الاخيرة الى 23 % .
كبار المسؤلين هجّروا أسرهم و أبناءهم الى خارج اسرائيل .
واما عن الاقتصاد الاسرائيلي فقد خسر بسسب الانتفاضة ما قيمته 40 مليار دولار .
قل الأستثمار من الخارج من اسرائيل الى نسبة 67% .
بلغة خسارة السياحة 5 مليارات دولار وكان العجز 600 مليون دولار.
أغلق 60 مصنعا في اسرائيل ومائة وخمسين مصنعا للتقنية المتقدمة .
كل ذلك احدثته الانتفاضة الاسلامية الجهادية في فلسطين المباركة فهل ندرك معاشر المسلمين مدى القدرة التي نملكها واذا نظرت الى مقالات اليهود في جرائدهم عرفت ان اسرائيل قد قاربت على السقوط يقول يوئيل ماركوس : ( الحقيقة المره اننا لم ننجح في تصفية الارهاب ودحره بالقوه بل ان الفلسطينيين نجحوا في زرع الرعب في صفوفنا وفشلنا في اضافته ).
ويقول رعنان كوهين : ( أنا انظر بخطورة بالغه الى الوضع لا يستطيع فيه الوزراء ان يتجولوا بحرية داخل الخط الأخضر وأن لم نشعر نحن الوزراء بالطمأنينة فكيف سيشعر بها الجمهور ).
ويتحدث أحد كتاب اليهود عن همة الفلسطينيين وشجاعتهم وجبن اليهود يقول :(يمكن أن تلاحظ تردي الأوضاع عندنا من خلال السنوات المنصرفة كيف أن فضيحة تتبعها فضيحة وفشل يتبعه فشل فالرجال يرفضون الخدمة العكرية والجنود يبكون على القبور إلى أن قال: ومن الجهة المقابلة أنت ترى رغبة شديدة في الأنتقام أي عند الفلسطينيين ومعنويات عالية وما عليك إلا أن تقارن الجنازات حتى تفهم لمن توجد همة عالية أكثر ومعنويات أعلى: عندنا ينوحون وعندهم يطلبون الأنتقام إننا نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينييون بنا ما فعله المجاهدون الأفغان بالجنود السوفيتية في أفغانستان. حقاً أيها المسلمون أننا في طريقنا إلى النصر والواقع كما ترون يشهد على ذلك فلا داعي إذن لليأس ولامجال للأحباط بل ينبغي أستشراف المستقبل بروح متفاعلةً متفائلة مستبشرة بنصر الله وتمكينة في الأرض آبهة بأراجيف المنافقين وحيل الكافرين الأعلامية التي هي في الحقيقة جُلّ حربهم على لمسلمين.
أما ما حدث أخيراً في بغداد فلا نستطيع التنبؤ بحقيقتة ولاكننا على ثقة أن النصر حليف المسلمين وإن أرجف الأعلام وصدق النوام وصدق الله إذ يقول:((لإن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لاينصرون)).
============(39/363)
(39/364)
هُوِيّتُنا أَو الهِاويَةُ
تأليف
محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
عفا الله عنه
الدعوة السلفية بالأسكندرية
2
المقدمة
الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى, لا سيما عبده المصطفى, وآله المستكملين الشرفا.
أما بعد:
فأصل هذه المادة حوار مع إحدى المجلات الإسلامية,وقد أشار بعض الفضلاءبنشرها مستقلة عسى أن تعم فائدتها,
وقد أعتذرت إليه مراراً نظراً لحاجتها إلى التنقيح والتهذيب,ثم لما طال الوقت ولم أتمكن من ذلك آثرت النزول على رأيه وطبعها على حالها, اغتناماً للفرصة
ومبادرة بالأعمال, على أن تضاف الإستدراكات في طبعة لاحقة - إن شاء الله- والله تعالى من ولراء القصد, وهو حسبنا ونعم الوكيل.
محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
مفهوم الهوية
الهوية:هي حقيقة الشيء أوالشخص التي تميزه عن غيره,فهي ماهيته,وما يوصف به من صفات:عقلية, وجسمية,وخلقية,ونفسية,ويعرف به , كما يدل عليه حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت:( كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر, لم ألقهما قط مع ولدها إلا أخذاني دونه, فلما قدم رسول ا صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين, فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس, فأتيا كالين ساقطين يمشيان الهوينى, فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم, وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: "أهو هو؟" قال:"نعم والله", قال عمي: " أتعرفه وتثبته؟ " قال: " فما في نفسك؟ " أجاب:" عداوته والله مابقيت "©©?
©(?) "السيرة النبوية" لابن هشام, و "وفاء الوفا" .
فقوله:" أهو هو؟ " إشارة إلى هوية صلى الله عليه وسلم وأنه الموصوف في التوراة.
فالهوية هي المفهوم الذي يكونه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه من حيث مرجعهما الإعتقادي والإجتماعي , وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون له طابعه الخاص, فهي بعبارة أخرى: (تعريف الإنسان نفسه فكرا وثقافة وأسلوب حياة), كأن يقول مثلا:" أنا مسلم " أو يزيد:" منهجي الإسلام ", أو يزيد الأمر دقة فيقول: "أنا مؤمن ملتزم بالإسلام,من أهل السنة والجماعة.
وكما أن للفرد هوية فكذلك للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميزبها عن غيرها وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء, وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالإنتماء لهذا المجتمع, واعتزازه به, وانتصاره له, أما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة " الإغتراب ", قا صلى الله عليه وسلم : " إن الإسلام بدأ غريباً , وسيعود كما بدأ غريباً, فطوبى للغرباء " (1) ,
وفي بعض الروايات: " أناس قليل في أناس سوء كثير, مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " (2) .
والنتماء الوجداني والا نتساب إلى(( الهوية )) ينبع من إرادة النفس,فَهي قابلة له , راضية عنه, معتزة به, وهذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس, ويحدد أهداف صاحب الهوية, ويرتب أولوياته في الحياة, فتنصبغ النفس به, وتندمج فيه, وتنتصر له, وتوالي وتعادي فيه, مع نفي الانتساب إلى الهوية مضادة أو مزاحمة, أي: أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين الشخص وبين من يخالفونه الهوية.
(1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه, مسلم في "صحيحه" ( 14 ) , والإمام أحمد في "المسند"
( 5/ 296 ), والترمذي (2631) , وابن ماجه (3889 ) .
2. رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما , ابن المبارك في " الزهد " رقم ( 775 ), والإمام أحمد ( 2/177, 222 ) , وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم ( 1619 ) .
أثر الهوية على الفرد والمجتمع
نظراً لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية, فإنها هي الموجه لا ختياره عند تعدد البدائل , وهي التي تقوم " بتهديف " سلوكه, بحيث تجعلهذا معنى وغاية, كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته, وإضفاء صفة " الثبات والإستقرار, والوحدة " على هذه الشخصية, فلا يكون إمعة , ولا منافقاً , ولا ذا وجهين .
وبالنسبة للمجتمع فإن الهوية تصبح الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة , والحصن الذي يتحصنون بداخله , والنسيج الضام , أو المادة اللا صقة التي تربط بين لبناته , والتي إذا فُقِدت تشتت المجتمع , وتنازعته التنا قضات .
أهم مقومات الهوية
من أهم أركان الهوية : العقيدة , ثم التاريخ , واللغة.
فإذا تكلمنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة , بحيث تستغني تماماً عن أي ( لقاح ) أجنبي عنها, فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة , وأصول ثابتة رصينة , تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها , وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً
لاتملكه أمة من الأمم , وتتكلم لغة عربية واحدة , وتشغل بقعة جغرافية متصلة وتشابكة وممتدة , وتحيا لهدف واحد هو : إعلاء كلمة الله , وتعبيد العباد لربهم , وتحريرهم من عبودية الأنداد .
هويتنا عقيدتنا(39/365)
والهوية الإسلاميةفي المقام الأول انتماء للعقيدة , يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها , والالتزام بمقتضياتها , فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية المسلم وشخصيته , وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان , فهي إنتماء إلى :
أكمل دين , وأشرف كتاب نزل على أشرف رسول إلى أشرف أمة , بأشرف لغة , بسفارة أشرف الملائكة , في أشرف بقاع الأرض , في أشرف شهور السنة , في أشرف لياليه وهي ليلة القدر , بأشرف شريعة وأقوم هدي .
وفي القرآن الكريم مدح وتعظيم لهذه الهوية , قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت , وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (125) سورة النساء , وقال عز وجل: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة , وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} (138) سورة البقرة, وقال جل جلاله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (143) سورة البقرة , ونحن لسنا منطقة( الشرق الأوسط ) لكننا منطقة ( الأمة الوسط ) , وقال عز وجل في شرف هذه الهوية : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (110) سورة آل عمران , ثم ذكر حيثيات هذه الخيرية : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } (110) سورة آل عمران .
أما اليهود: فأمة عنصرية , تؤمن بتفوق الجنس الإسرائيلي , ويصفون الله تعالى بأنه ( إله إسرائيل ) , والأمم الأخرى ( الجوييم ) خَُلقوا لخدمة اليهود , ( ولذلك لا تبشير في اليهودية ) قيل: يخافون أن يشاركهم الناس في الجنة !
فالمؤمنون الصادقون هم خير أمة أُخرجت للناس , قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (13) سورة الحجرات , فهذه مؤهلات الخيرية عند الله تعالى , ومِن ثم كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه" كاهناً" بقوله : ( نحن شعب الله المختار ) .
إن الهوية الإسلامية انتماء إلى الله عز وجل , وإلى رسول ا صلى الله عليه وسلم , وإلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين , من كانوا , ومتى كانوا , وأين كانوا , قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (56) سورة المائدة , وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (71) سورة التوبة , {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (105) سورة الأنبياء , وقال عز وجل: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (53) سورة آل عمران , وقال تبارك وتعالى على لسان المؤمنين: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (84) سورة المائدة .
قوم تخللهم زهور بسيدهم *** والعبدُ يزهو على مقدار مولاهُ.
تاهوا به عمن سِواه له *** يا حُسنَ رؤيتهم في حسن ما تاهوا.
وكل مسلم يقول في صلاته : (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )
ويقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وفخراً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا.
دخولي تحت قولك:"يا عبادي" *** وأن صيرتَ أحمدَ لي نبيا.
خصائص الهوية الإسلامية
إن الانضواء تحت ( الهوية الإسلامية ) والاندماج فيها ليس أمراً أختيارياً, ولا مستحباً , ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين , إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , قال عز وجل : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (158) سورة الأعراف , وقال سبحانه : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (19) سورة الأنعام , أي : ومن بلغه القرآن الكريم , وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده , لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " صحيح مسلم ( 153 ) .
ووظيفة هذه الأمة : دعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية .(39/366)
* إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية , وتحدد لصاحبهابكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة , قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (163) سورة الأنعام , وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف .
* وهي مصدر العزة والكرامة: قال تعالى : {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10) سورة الأنبياء , وقال سبحانه: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون.
وقال عمر رضي الله عنه: " إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإِسلام , فمهما نطلب العِزَ بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله " (1)
* وهي هوية متميزة عما عداها : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (6) سورة الكافرون , ولكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة أن يهدينا الصاط المستقيم المغاير بالضرورة لمنهج الآخرين : {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (7) سورة الفاتحة , وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من عمل بسنة غيرنا " (2)
وقد عرف اليهود ذلك , وشعروا أن صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يخالفهم في كل شئونهم الخاصة بهم , حتى قالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. (3)
وقا صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " (4) , وقد صح كثير من الأحاديث التي تفصل هذه المخالفة , وتحض عليها في كثير من أبواب الدين , قال تعالى على لسان المؤمنين وهم يخاطبون الكافرين : { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (41) سورة يونس , وقال سبحانه: { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } (139) سورة البقرة .
1. رواه الحاكم (1/61-62) , وصححه على شرطهما , ووافقه الذهبي , ثم الألباني كما في الصحيحة(51).
2. رواه الطبراني في " الكبير " والديلمي في ( مسند الفردوس ) , وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" ( 5/102) .
3. قطعة من حديث رواه مسلم (302) , وأبو داود (258) , والترمذي (2981) , والنسائي(1/152).
4. عَجُز حديث رواه الإمام أحمد رقم(51114, 5115 , 5667) , ورواه أبو داود ( 2/173 ) , وصححه العراقي في "المغني" (1/342) , وحسنه الحافظ في "الفتح" (10/222) .
علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية
o إن الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم , ولا الحرص على خير هذا الوطن , بل المسلمون الصادقون هم أصدق الناس وطنية , لأنهم يريدون لوطنهم سعادتَي الدنيا والآ خرة بتطبيق الإسلام , وتبني عقيدته , وإنقاذ مواطينهم من النار , قال تعالى حكاية عن المؤمنين : {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا ِ} (29) سورة غافر , وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم خبالاً , وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر , ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود , رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية .
o لكن " الوطن " الحقيقي في مفهوم " الهوية الإسلامية " هو ( الجنة ) حيث كان أبونا آدم في الإبتداء , ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن , ساعون في العودة إليه , و"المنهج الإسلامي" هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم , كما أعرب عن ذلك الإمام المحقق ابن القيم بقوله :
فحي على جنات عدن فإنها منازلِنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ ؟
فالجنة هي دار السعادة التي { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (108) سورة الكهف , لا كماقال من سفه نفسه:
وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
لقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) (1) , فكم تساوي نسبة (الوطن ) من جناح البعوضة ؟! .
o أما في الدنيا , فأحب الأوطان إلى الدنيا مكة المكرمة , والمدينة النبوية , وبيت المقدس , وقد بين صلى الله عليه وسلم أن محبته مكة المكرمة مبينة على أنها " أحب بلاد الله إلى الله " , فمحبتها إلى هذه البقاع التي أختارها الله , وباركها , وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس , ومحضن الطفولة , ومرتع الشباب .
o وأما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا , وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثم وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس , ونذود عنه بالدم والولد والمال .
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً *** الشام فيه ووادي النيل سيان.(39/367)
وحثيما ذكراسم الله في البلد *** عددتُ أرجاءه من لب أوطاني.
أما الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض رسم حدودها أعداؤنا , أو عِرق , أو لون , أو جنس , فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه السلف ولا الخلف , وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الإنتماء الإسلامي , وتهوين الهوية المسلمة , التي ذوبت قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي (( القومية الإسلامية )) ودمجتها في ((أمة التوحيد )) , وهاك شهادة ((شاهد من أهلها )) هو المؤرخ اليهودي (( برنارد لويس )) الذي قال: ( كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة صلى الله عليه وسلم , وكيف انتصر صلى الله عليه وسلم وصحبه , وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية , وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى , ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين , بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام إسمها:
الدولة , والعنصر , والقومية .
وفي هذه المرة يظهلر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام , فإدخال هرطقة القومية العالمانية , أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط , ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً.. " ا.ه .
ويقرر نفس المؤرخ حقيقة ناصعة , فيقول: " فالليبرالية , والفاشية , والوطنية , والقومية , والشيوعية , والاشتراكية, كلها أوروبية الأصل مهما أَقَلمَهَا وعدَلها أتباعاً في الشرق الأوسط , والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة , وتعبر عن مشاعر الكتل الإسلامية قد هُزمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة " اه .
إن الغرب يكيل لنا بمكيال واحد لا بمكيالين , والمكيال الواحد هو مكيال التعصب الأعمى , والحقد الأسود , والظلم الصارخ للمسلمين فبينما يقوم بإلغاء الحدود بين بلاده , ويوحد عملته , ويوطد وحدته , إذا به يمزقنا إرباً إرباً.
*والعقيدة الإسلامية هي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادىء , ويحكم على الأشخاص , وينزلهم منازلهم , وهي:
" المرشح المهيمن " الذي يقوم بترشيح " التراث التاريخي " ليحدد ما يقبل منه وما يُرفض: ففرعون وملؤه كانوا مصريين لكنهم كانوا كفاراً وثنيين
وكان موسى عليه السلام وأتباعه على الإسلام مؤمنين , فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله , ويبرأ منهم , ولو كانوا من جلدته , ويتكلمون بلسانه , ويوالي حزب الله وأولياءه , مَن كانوا وأين كانوا , ومتى كانوا , قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهَُ} (22) سورة المجادلة , وقال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } (28) سورة آل عمران الأية , وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (51) سورة المائدة الأية.
وقال تعالى في الملإِ المؤمنين من بني إسرائيل: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ(251) } سورة البقرة الأية , فنحن_ المسلمين_ نعد هذا نصراً لعقيدتنا الإسلامية على هؤلاء الكافرين وإن كانوا " فلسطينيين " .
وأوضح من هذا وأصرح أن نقول: لو قُدَر أن الله بعث داود وسليمان_عليهما السلام _ إلى الحياة من جديد فإنهما حتماً سيكونان متبعين لشريعة محمد رسول ا صلى الله عليه وسلم , مصداقَ قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (81) سورة آل عمران.
ومصداقه في قول رسول ا صلى الله عليه وسلم :" إنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني "(1) .
فنحن أولى بموسى من اليهود , ونحن على دين موسى دونهم , ولو بُعث موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود , والنصارى , والعالمانيين , وسائر الملحدين , ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم , ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فِلَسطين من قتلة الأنبياء , أحفاد القردة والخنازير , الملعونين على لسان الأنبياء .(39/368)
وحين تقرأ القرآن الكريم وهو يسرد عليك قصة موسى_عليه السلام_ وفرعون إلى أين تتجه عاطفتك: إلى بني جلدتك المصريين أم إلى موسى وحزب الله المؤمنين؟ إلى بني جنسك المصريين أم إلى سحرة فرعون عندما واجهوه وتحدوه؟ فتحبهم لإيمانهم , وإذا قرأت قوله تعالى: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (15) سورة القصص , فإنك تنحاز بلا ترد إلى موسى وشيعته المسلمين ضد أعدائهم ولو كانوا من بني جلدتك.
ومصداق ذلك أيضاً أن المسيح_ عليه السلام_ حين ينزل أخر الزمان يحكم بالإسلام , ويصلي أول نزوله مأموماً وراء المهدي , ويقاتل اليهود , ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام , ويكسر الصليب , ويقتل الخنزير .
(1) رواه الدارمي والإمام أحمد وغيرهما , وحسنه الألباني في "تخريج منار السبيل" تحت رقم (1589 ) .
وقا صلى الله عليه وسلم : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة , ليس بيني وبينه نبي , والأنبياء أولادُ عَلات , أمهاتهم شتى , ودِينُهم واحد " (1) .
فنحن_المسلمين_ أولياء المسيح وأحباؤه , ونحن أتباعه على الإسلام الذي دعا إليه , المقصودون بقولهِ الله تعالى: { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } (55) سورة آل عمران.
وما أحسن ما قال صاحب" الظلال" _ غفر الله له ورحمه :
( عقيدة المؤمن هي وطنه , وهي قومه , وهي أهله..ومن ثَم يتجمع البشر عليها وحدها , لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلإِ ومرعى وقطيع وسياج .
والمؤمن ذو نسب عريق , ضارب في شعاب الزمان , إنه واحد من ذلك الموكب الكريم , الذي يقود خطا ذلك الرهط الكريم: نوح , وإبراهيم , وإسماعيل , وإسحاق , ويعقوب , ويوسف , وموسى , وعيسى , ومحمد عليهم الصلاة والسلام.... {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (52) سورة المؤمنون (2).
إن العقيدة التي هي ركن الهوية الأعظم تربط المسلم بأخيه حتى يصيرا كالجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو , تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى , ( فربْطُ الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك , ورجلك بساقك , كما جاء في الحديث عن صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه , تداعى له سائرالجسد بالحمى والسهر " (3).
1. رواه البخاري(6/477_478) , ومسلم (2365) , وأبو داود (4675) .
2. " في ظلال القرآن " (1/12) .
(3) رواه بنحوه البخاري (10/438) , ومسلم (2586) .
ولذلك يكثر في القرآن العظيم , إطلاق النفس , وإرادة الأخ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه , كقوله تعالى: { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } (84) سورة البقرة , أي: لا تخرجون إخوانكم , وكقولهِ تعالى: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (12)سورة النور , أي: بإخوانهم على أصح التفسيرين , وقوله عز وجل { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } (11) سورة الحجرات
أي: إخوانكم على أصح التفسيرين .
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين , وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية , قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (22) سورة المجادلة , إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر , وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء } (71) سورة التوبة الآية , وقولُه سبحانه: { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (103) سورة آل عمران , إلى غير ذلك من الآيات.
إن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة " لا إله إلا الله " , ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد , وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضا , عطفت قلوب حامل العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الإختلاف قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (7) سورة غافر, إلى قوله عز وجل: { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (9) سورة غافر.
فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله , وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنما هي الإيمان بالله جل وعلا , لأنه قال عن الملائكة: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (7) سورة غافر , فوصفهم بالإيمان وقال عن بني آدم في أستغفار الملائكة لهم { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (7) سورة غافر, فوصفهم أيضاً بالإيمان , فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان , وهو أعظم رابطة .(39/369)
ومما يوضح ذلك قوله تعالى في أبي لهب عم صلى الله عليه وسلم {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (3) سورة المسد , ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي رضي الله عنه من الفضل والمكانة عند صلى الله عليه وسلم والمسلمين , ولقد أجاد من قال :
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفرُ الشريفَ أبا لهبِ
وقد أجمع العلماء على أن الرجل إنْ مات , وليس له من الأقرباء إلا ابن كافر , أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام , ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر , والميراث دليل القرابة , فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية " .
واعتبر ذلك أيضاً بقول الله تعالى مخاطباً نوحاً_ عليه السلام_ في شأن ابنه الكافر: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (46) سورة هود , لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية , كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : " ألا وإن ولي محمد من أطاع الله , وإن بعدت لُحْمَتُهُ, ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته " .
واعتبر ذلك بقصة إبراهيم_عليه السلام_ مع أبيه وقومه الكافرين , وتأمل قول الله عز وجل : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } (4) سورة الممتحنة الآية .
وتأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل كيف أنقسموا إلى " أنصار " مؤمنين , و" أعداء " كافرين على أساس موقفهم من الإسلام , وتأمل كيف يأمرنا الله عز وجل أن نقتدي بهؤلاء المؤمنين , قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (14) سورة الصف .
هذه هي الهوية الإسلامية المتميزة , فطرة الله التي فطر الناس عليها, صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة , لا يعرفها ثم يرغب عنها إلا من سفه نفسه , واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فهل يدرك هذا عاقل- فضلاً عن مسلم مؤمن- ثم يقول للذين كفروا: { هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} (51) سورة النساء؟!
إنه لا يُعرف مفكر مسلم , مخلص لهذه الأمة قد تلطخ بالدعوة إلى هوية غير الهوية الإسلامية , وبالعكس فإن الدعوة إلى الهويات " المزاحمة " والمضادة للهوية الإسلامية لم تترعرع إلا في أحضان أعدائنا الذين لا يألوننا خبالاً , وإلا في كنف الدعاة على أبواب جهنم الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا , ممن رباهم الأستعمار في محاضنه , وصنعهم على عينه وأقامهم وكلاء عنه في إطفاء نور الإسلام , ومحو الهوية الإسلامية من الوجود.
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } سورة التوبة .
من مظاهر أزمة الهوية
يمكنك أن تراها في الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه , وفي سيارته , وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم , وفي المسلمين الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية-بغير عذر ملجىء- ثم يفتخرون (بالفوز) بجنسية البلاد الكافرة , وفي المذيع المسلم الذي يعمل بوقاً لإذاعة معادية لدينه من أجل حفنة دولارات أو جنيهات , وفي الجاسوس والعميل الذي يخون أمته , ويبيع وطنه , وفي تاجر المخدرات الذي لا يُبالي - في سبيل تحصيل المال - بتحطيم شباب المسلمين ونسفهم نسفاً , وفي أستاذ الجامعة الذي يسبح بحمد الغرب صباح مساء , وفي مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدول الكافرة المحاربة لأمة الإسلام , وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته , ويرى بعيون الآخرين , ويسمع بآذانهم .
وباختصار: يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ } (139) سورة النساء , والعجيب أنه يعود مذموماً مخذولاً من هؤلاء جميعاً , ويعامله الله بنقيض قصده , فيتحقق فيه قول القائل:
باء بالسخطين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا .
وإن أقبح نموذج لمسخ الهوية وما يبوء به صاحبه من الخسار والذل هو النموذج التركي الذي يُبغِض كل ما فيه رائحة الإسلام (1) .
إن نظرةً إلى الحيز الإعلامي الذي شغله موت "أميرة ويلز" في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الهوية الإسلامية , وما صاحبه من الطقوس الكنسية .(39/370)
(1) صدر في تركيا مؤخراً ( أكتوبر 2001 ) قانون يحظر على الآباء تسمية أولادهم بأسماء إسلامية متميزة , مثل: زيد , وبلال , وفاطمة الزهراء !!! .
وبين الحيز الذي شغله موت العلامة الشيخ/ محمود شاكر_ رحمه الله_في نفس الفترة , على سبيل المثال , يكشف لنا مدى أزمة الهوية في عصرنا.
الصراع بين الهوية الإسلامية والعولمة
قضية الهوية قضية محورية , أزعجت كل الناس إلا أصحابها , والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين لما يقتنعوا أن الأعداء من حولهم على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا أستئصال شأفة الإسلام , وطمس الهوية الإسلامية وصهرها في أتون العالمية الأممية , وإزالتها من الوجود , لأنها لا غيرها هي الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة , قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} (217) سورة البقرة , وقال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} (89) سورة النساء , وقال سبحانه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (120) سورة البقرة .
إن أي جماعة تعوزها الهوية المتميزة سوف تجد_ في عالم تحكمه شريعة الغاب_ من يحاول استقطابها والهيمنة عليها, وتذويب شخصيتها , عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتنا العقائدية والثقافية التي تحفظ عليها سياج شخصيتها , فيتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل مغسول المخ تابع مقلد .
إن هويتنا الإسلامية هي مصدر عزتنا {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون , وحين تمسكنا بهذه الهوية سُدنا العالم , وخافت بأسنا الأمم , حتى كانت كنائس أوربة لا تجرؤ عل دق نواقيسها حينما كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط.
وحين تخلينا عنها نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا , وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت , قال رسول ا صلى الله عليه وسلم " إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " (1) .
إن إضعاف (الهوية الإسلامية) أخطر وأشد فتكاً بالأمة من "نزع سلاحها"
ومما يؤسف له أن أعدائنا يدركون جيداً أن " الهوية الإسلامية " أقوى سلاح يجب نزعه من المسلمين بإثارة النعرة القومية :
في آخر عام 67م ألقى " أبا إيبان " وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة بجامعة برنستون الأمريكية قال فيها :
( يحاول بعض الزعماء العرب أن يعترف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة , وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل , ولذا كان من أول واجباتنا أن نُبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي)أ.ه
هذا مع أن المجتمع اليهودي في فِلَسطين يتألف من مهاجرين من نيف ومائة دولة مختلفة , يتكلمون سبعين لغة مختلفة من شتات الأرض جمعتهم عقيدتهم الواحدة رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات , والعناصر والأوطان .
وهذا (( أدولف كريمر )) اليهودي يعلنها: " جنسيتنا هي دين آبائنا , ونحن لانعترف بأية قومية أو جنسية أُخرى " .
(1) رواه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أبو داود (3462) وغيره , وصححه الألباني لمجموع طرقه كما في الصحيحة رقم (11) .
قال الأستاذ يُوسف العظم رحمه الله: ( لقد سمعت وزير إعلام عربياً إبان حرب حزيران يقول: " دعونا من خالد الوليد وصلاح الدين , ولاتثيروها حرباً دينية " , قال ذلك وهو يعلق على ما يذيعه بعض الدعاة من حث للجند على الثبات وتشجيع للمقاتلين على الجهاد والاستشهاد , فقلت لمن كان حولي: " منهزمون ورب الكعبة " .
وجاء في صحيفة ( أحرنوت اليهودية ) ( 18/3/78): " إن على وسائل إعلامنا أن لاتنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب , هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً , و يجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد , ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع إستيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل , وبأي أسلوب , ولو أقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد إية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا". أنتهى .
وقال أشعيا بومان: " إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام , لهذا الخوف أسباب : منها : أن الغسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عددياً , بل إن أتباعه يزدادون باستمرار.
ومن أعظم أسباب الخوف وأفظعها أن هذا الدين من أركانه الجهاد " .(39/371)
وحينما أراد الشاعر " محمد إقبال " أن يبين أثر تخلي المرء عن هويته وذاتيته ضرب مثلاً فقال: " كانت مجموعة من الكباش تعيش في مرعى وفير الكلإ عيشاً رغيداً , ولكنها أُصيبت بمجموعة من الأسود نزلت بأرض قريبة منها , فكانت تعتدي عليها وتفترس الكثير منها , فخطر ببال كبش كبير منها أن يتخذ وسيلة تريحها من هذا الخطر الداهم الذي يهددها , فرأى أن استخدام السياسة والدهاء والحيلة هو الوسيلة الوحيدة , فظل يتودد إلى هذه الأسود في حذر حتى ألفته وألفها , فاستغل هذه الألفة , وبدأ يعظ الأسود , ويدعوها إلى الكف عن إراقة الدماء , وإلى أن تترك أكل اللحم , وأخذ يغريها بأن تارك أكل اللحم مقبول عند الله , وأخذ يزين لها الحياة في دعة وسكون , ويقبح لها الوثب والاعتداء , حتى بدأت الأسود تميل إلى هذا الكلام , فأخذت الأسود تتباطأ في افتراس الكباش , فكانت النتيجة أن استرخت عضلاتها , وتثلمت أسنانها , وتقصفت أظافرها , وأصبحت لا تقوى على الجري , ولم تعد قادرة على الافتراس , وبذلك تحولت الاسود إلى أغنام .. لماذا؟
لأنها تخلت عن خصائصها وفقدت ذاتيتها....)) , وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم : " ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا " .
لقد وصلت محاولات ( طمس الهوية ) إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفوا الكلم عن مواضعه , أن نفعل مثلهم , ونمارس هواية
" التحريف " التي طالما تلطخوا بها , فقد كان من محاور اتفاقية " كامب _دافيد " : " ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في الإسلام ".
وصرح " إسحاق نافون " رئيس الدولة اللقيطة الأسبق في خطابه بجامعة ابن جوريون أمام السادات في 27/5/1979م بأن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن التربيات العسكرية والسياسية , وصرح أيضاً أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في 28/10/1980م بأن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً بالسلام الإسرائيلي .
أعداء الهوية من الخارج.. واضحون صرحاء
يحرص " الآخرون " على هويتهم , مع أجتهادهم في تذويب الهوية الإسلامية وطمس معالمها فُيحِلٌون لأنفسهم ما يحرمونه علينا , فعلى سبيل المثال : قال نيكسون في كتابه ((أنتهز الفرصة)) : " إننا لا نخشى الضربة النووية , ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب " , إذاً المسألة بالنسبة لهم حياة أو موت .
وقال أيضاً في نفس الكتاب: " إن العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين " .
وبلغ إعجاب ( كلينتون ) بالهوية الأمريكية , واغتراره بها إلى أن وجد في نفسه الجرأة على أن يقول: " إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري , وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا " .
و لك أن تتخيل كيف تكون " صورة " هذا العالم الذي يكون نسخة من (الغابات التحدة الأمريكية) .
وبالأمس قال "إيوجين روستو": (رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967: (إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته، وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها) أنتهى .
ومنذ زمن قال أحد المسئولين في وزارة الخارجية الفرنسية:
" ليست الشيوعية خطراً على أُوربا_ فيما يبدو لي_ فهي حلقة لاحقة لحلقات سابقة , وإذا كان هناك خطر فهو خطر سياسي عسكري فقط , ولكنه على أي حال ليس خطراً حضاريا تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء , إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي , والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي , فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص , ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة , وهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى "الاستغراب" , وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب , فإذا أصبح لهم عِلمهم , وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع , انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتيَ , وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية , ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ " أنتهى.
ولعلنا نذكر الصراع السياسي الذي احتدم في كندا حول هوية مقاطعة "كويبك" بين المتحدثين بالإنكليزية , وبين المتحدثين بالفرنسية الذين يريدون الاستقلال بهذه المقاطعة .
ونذكر أيضاً أن فرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية الجات , والذي يضمن للمواد الأمريكية أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها الفرنسيون تهديداً صارخاً لهوينهم القومية , وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات .(39/372)
أما تمسك " يهود " بهويتهم الدينية فحدث ولا حرج , فإن دولتهم اللقيطة لم تقم إلا على أساس خالص من الدين اليهودي , فهي تحمل أسم نبي الله يعقوب عليه السلام , وإن كان بريئاً منهم براءة الذئب من دم أبنه يُوسف عليهما السلام _, وليس لها دستور لأن دستورها هو " التوراة " ويتشبث يهود بتعاليم التوراة , ويعضون عليها بالنواجذ في مجالات العلم والدين والسياسة والاجتماع , وفي حياة الفرد اليومية .
حتى العبرية التي أنقرضت من ألفي سنة بعثوها من مرقدها , حتى صارت لغة العلم عندهم , وألفوا بها أدباً نالوا به ما يُسمى بجائزة نوبل .
وعندما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة أصر على أن يكون موقعها على الجبهة الغربية من النيل احتراماً لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل _( الكبرى ) في زعمهم_تنتهي عند الجهة الشرقية منه , ومن الجدير بالذكر أيضاً أن علم دولتهم فيه خطان أزرقان يرمزان للنيل والفرات , وبينهما منطقة السيادة عليها نجمة داود .
- في جامعة " تل أبيب " عقدت ندوة يوم 19/2/1980م حول (دعم علاقة السلام بين مصر و(إسرائيل)) أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن الكريم من ذم لأخلاق اليهود ومواقفهم , وتناقل هذا في مطبوعات أخرى بمصر , فقام د. مصطفى خليل ليطمئن اليهود بقوله: " إننا في مصر نفرق بين الدين والقومية , ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية " , فرد عليه دافيد فيثال قائلاً: " إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة , ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط " .
فإذا نظرنا إلى مكائد الغرب ضد هُويتنا المسلمة لعلمنا أن هدفهم الأعلى هو طمس هُويتنا , باستبدالها بأخرى أيا كانت , سواء هوية وثنية أو قومية , أو قطرية تفتتنا وتشتت شملنا , لأن الهدف هو الحيلولة دون أن يكون الإسلام عماد الحاضر والمستقبل , أو هوية عالمية تميع أنتمائنا لديننا , المهم هو محو الهوية الإسلامية المتميزة , فصرنا كمن قيده عدوه , بعد أن جرده من سلاحه وانتزع أظفاره , وخلع أسنانه , ثم وضع الغُل في عنقه , والقيدفي معصمه , وإذا به يشكر له هذا الصنيع , ويفخر بالغل , ويتباهى بالقيد , ويعتز بأنه " عبد " لهذا السيد .
أعداء الهوية في الداخل
( هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون )
إن تشويه الهوية أو إضعافها عمل إجرامي تآمري يرقى ـ بل ينحط ـ إلى مستوى الخيانة العظمى لأمة التوحيد. قال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الجامع الأزهر السابق ـ رحمه الله تعالى ـ: (إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى، وجناية عظمى) .
ولقد لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم "من غير منار الأرض" رواه مسلم في كتاب الأضاحي رقم(1978).
فكيف بمن يُغَير هوية أمة , ويُضلها عن طريق النجاة ؟
إن التاريخ المعاصر حافل بنماذج بشعة من ممسوخي الهوية , الذين كانوا " يُخربون هويتهم بأيديهم " , فمنهم على سبيل المثال لا الحصر , وإلا فما زالت الشجرة الخبيثة تُخْرج نَكَداً_:
1- مصطفى كمال أتاتورك : الذي مسخ هوية تركيا الإسلامية بالقهر , والذي قال :" كثيراً ما وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان في البحر " , وهو الذي ألغى الخلافة , وعطل الشريعة , وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد , وألغى المحاكم الشرعية , والمدارس الدينية , والأوقاف , وألغى الأذان العربي وحوله إلى التركية , وألغى الحروف العربية واستبدلها باللاتينية , وكان يقول: " انتصرت على العدو , وفتحت البلاد , هل أستطيع أن أنتصر على الشعب ؟" .
ونشرت " الأهرام " بتاريخ 15/2/1986م وثيقة نقلتها عن جريدة " صنداي تايمز " تحت عنوان: (كمال أتاتورك رُشحَ سفير بريطانيا ليخلفه في رئاسة الجمهورية التركية) , قالت الصحيفة: " إنه في نوفمبر 1938م كان أتاتورك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت , وكان يخشى أن لا يجد شخصاً يخلفه , قادراً على استمرار العمل الذي بدأه , فاستدعى السفير البريطاني " بيرس لورين " إلى قصر الرئاسة في أستانبول , وعرض عليه أن يخلفه في منصب الرئيس , وبلباقة رفض السفير وأبرق إلى وزير خارجيته بما دار بينه وبين أتاتورك! " .
2- أغا أوغلي أحمد : أحد غلاة الكماليين الأتراك القائل:
" إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئيهم , والنجاسات التي في أمعائهم " .
3- أحمد لطفي السيد : خصم العروبة والوَحدة الإسلامية , وصاحب شعار: " مصر للمصريين " , والنعرة الفرعونية , ويكفي في بيان عدائه للهوية الإسلامية أنه كان يصف نص الدستور على أن الدين الرسمي للدولة الإسلام بأنه: " النص المشئوم " !
4- الرجل الذي قال في حقه شيخ الأزهر الأسبق العلامة " التونسي " محمد الخَضِر_ رحمه الله: } وقد وصل ببعضهم الشغف بالانحطاط في هوى الأجانب , والانغماس في التشبه بهم أن أقترح في غير خجل قلب هيئة المساجد إلى هيئة كنائس , وتغيير الصلوات ذات القيام والكوع والسجود إلى حال الصلوات التي تؤدي في الكنائس. {(39/373)
ثم علق _رحمه الله_على ذلك الاقتراح بقوله: " وهذا الاقتراح شاهد على أن في الناس من يحمل تحت ناصيته جبيناً هو في حاجة إلى أن توضع فيه قطرة من الحياء " .
5- طه حُسين : عميد التغريب , وداعية التبعية المطلقة للغرب حتى في مفاسده وشروره , والقائل: " لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه " .
وقد طالب " عميد التغريب " : ( بأن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يُحب منها وما يُكره , وما يُحمد وما يُعاب) أنتهى .
6- محمود عزمي : الذي أعلن أن سبب مقته الحجاب مقتاً شديداً :
" هواعتبارهمن أصل غير مصري , ودخوله إلى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب , فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد ) .
والقائمة طويلة ستجد فيها: سلامة موسى , ولويس عوض , وجرجي زيدان , وفرج فودة , وحسين أحمد أمين , وزكي نجيب محمود , وغيرهم _ لا كَثر الله سوادهم .
فرسان الدفاع عن الهوية
هُمْ كُثرٌ والحمد لله {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (31) سورة المدثر , على رأسهم رجل كل العصور: شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله , ومن أراد أنيفهم قضية الهوية حق الفهم فليدرس كتابه الفذ: " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " , ومنهم الأديب البارع مصطفى صادق الرافعي , والدكتور محمد محمد حسين , والأديب العملاق محمود شاكر , والشيخ أبو الحسن الندوي_رحمهم الله أجمعين , وسائر العلماء والمفكرين والدعاة في كافة بلاد العلم الإسلامي .
أساليب طمس الهوية الإسلامية
أولاً: إضعاف العقيدة، وزعزعة الإيمان:
لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول، ومن وسائل ذلك: زرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار، وتشتت الأذهان عن طريق بعث الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، وهز الثقة في السلف الصالح، والتركيز على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد، كنظرية (داروين)، وتاريخ الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم، دون أي نقد، لا: (لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ) [ الأنعام: 55]، ولكن لننبهر ونفخر بسبيل المجرمين.
ثانياً: (تسميم الآبار المعرفية) :
التي تستقي منها الأجيال من المهد إلى اللحد , ومحاولة مسخ الهوية الإسلامية عن طريق تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله،وهذه أخطر مؤامرة ضد الهوية في الوقت الراهن , ويسمونها بكل صراحة: (تجفيف منابع الإسلام)!! , وهي مؤامرة لا تبدأ اليوم ، ولكن منذ أكثر من قرن، ولا تبدأ من الصفر، ولكن تُستمد من معين المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير، ويكفي أن القس (دنلوب) تمكن في عشرين عاماً فقط من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال سياسته التعليمية، بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها لو جندت في سبيل ذلك مليون جندي بريطاني.
قال (كرومَر) رائدَ التغريب في مصر :
(إن الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحونة التعليم الغربي، ومر بعملية الطحن يفقد إسلاميته، وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها، إنه يتجرد عن عقيدة دينه الأساسية) أنتهى.
وقال المستشرق " جب ": ( والسبيل الحقيق للحكم على مدى التغريب هو أن نتبين إلى أي حدًّ يجري التعليم على الأسلوب الغربي , وعلى المبادىء الغربية , وعلى التفكير الغربي ... هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره , وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي , ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين , وقليل من الزعماء الدينيين ) انتهى.
إن التعليم الغربي اللاديني هو " الحامض " الذي يذيب شخصية المسلم , إنه ليس من المعقول ولا من الجائز أن تستورد أمة_ لها شخصيتها ورسالتها , ولها عقائدها ومناهج حياتها , ولها طبيعتها ونفسيتها , ولها تاريخها وماضيها , ولها محيطها الخاص وظروفها الخاصة_ نظاماً تعليمياً من الخارج , ولا أن تكل وظيفة التعليم والتربية وتنشئة الأجيال وصياغة العقول إلى أناس لايؤمنون بهذه الأسس والقواعد , ولا يتحمسون لنشرها والذبَّ عنها .
ثالثاً: تذويب الهوية الإسلامية في الثقافة الغربية:
لاعن طريق القهر كما حدث في الماضي , ولكن عن طريق اصطناع عملاء مأجورين يبيعون كل شيء إرضاءً لسادتهم , وعن طريق محو ذاكرة الأمة وارتباطها بتاريخها المجيد الذي هو خميرة المستقبل , وتمجيد كل ما هو غربي , وتحقير كل ما هو إسلامي , ومزاحمة رموز الإسلام برموز ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية , وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في الغرب بكل مباذلها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية.(39/374)
قال المستشرق شاتليه: " إذا أردتم أن تغزوا الإسلام , وتخضدوا شوكته , وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها , والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم , وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم , عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المُسلم والأمة الإسلامية , بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن , وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم , ونشر روح الإباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي , وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك , لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها " انتهى .
رابعاً: تجهيل العلم :
بحيث يفقد صلته بالخالق سبحانه ودلالته على توحيده , فإن العلم أقوى مؤيد لدعوة الفطرة والتوحيد , بما يكشف عنه من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس , وفي سبيل ذلك يعمدون إلى تجاهل ذكر الله عز وجل , ونسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة , ومحاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته عز وجل .
خامساً: السيطرة العالمانية :
على كراسي الجامعات , وتطعيم مناهجهاالدراسية وكذا دوائر المعارف وكتب التاريخ بمفاهيم تدور في فلك الغرب , وتعادي وتشوه الهوية الإسلامية .
سادساً : التآمر على اللغة العربية :
شدة ارتباطها بالقرآن والإسلام، وأثرها في وحدة الأمة، وذلك عن طريق تشجيع اللهجات العامية، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة القرآن الكريم، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس (المنجد)، والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي.
وإذا كانت (الثقافة) هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها، لتميزها عن غيرها من الجماعات، فإن اللغة هي وعاء الثقافة، ومظهرها الخارجي الذي يميزها.
إن لغتنا ليست لغة قومية، لكنها لغة دينية تجمع حولها المسلمين جميعاً عرباً وعجماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) اهـ.
وقال المرتضي: (من أبغض اللسان العربي أدّاه بغضه إلى بغض القرآن وسنة الرسول لله، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي، نسأل الله العفو) اهـ.
إن للغة دوراً خطيراً في توحيد الأمة، وهاك مثالين يوضحان ذلك :
الأول: (إيرلندا) التي رزحت تحت الاحتلال الإنكليزي منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وذاقت منه الويلات، خصوصاً على يد (كرومويل) الذي أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم وباعهم عبيداً في (أمريكا)، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو لغتهم الإيرلندية، وتذويبهم في المجتمع البريطاني.
ولما حاول بعض الإيرلنديين الوطنيين بعث أمتهم من جديد أدركوا أن هذا لا يتم ما دامت لغتهم هي (الإنكليزية)، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته، وتحقق وحدته.
وأسعفهم القدر بمعلّم يتقن لغة الآباء والأجداد؛ دفعه شعوره بواجبه إلى وضع الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته حتى انبعثت من رقادها، وشاعت، وصارت (النواة) التي تجمع حولها الشعب، فنال استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم بانتخابه أول رئيس لجمهورية (إيرلندا) المستقلة ـ هو الرئيس (ديفاليرا).
الثاني: (ألمانيا) التي كانت مقاطعات متفرقة متنابذة، إلى أن هبّ (هَرْدِر) الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ينادي بأن (اللغة) هي الأساس الذي يوحّد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا حوله قصصاً وبطولات خلبت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم، وأمجاد أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى الانضواء تحت لواء (هوية ألمانية) واحدة، الأمر الذي مهّد الطريق أمام (بسمارك) لتعبئة الشعور القومي، وتوحيد ألمانيا، وإقامة (الإمبراطورية الألمانية) التي كان (بسمارك) أول رئيس وزارة (مستشار) لها.
إذا علمت هذا فأسمع وتعجب من المستشرق الألماني " كاممفاير " وهو يقول في شماتة:
" إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً , فالدين لا يُدرس في مدارسها , وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس , وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية " أنتهى.
سابعاً: الاهتمام المبالغ فيه بإحياء الأساطير الوثنية والخرافات الشركية:(39/375)
والتنقيب عن الحفريات والآثار الوثنية التي تبرز الهوية الفرعونية أو الفينيقية أو الفارسية أو الكلدانية , وتسليط الضوء عليها لردها إلى الحياة , وربطها بالحاضر, بصورة تزاحم بل تتعارض مع الانتماء الإسلامي لأن هذا التراث مهما يكن , فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله , وإذا كان دين الحق قد نسخ كل دين قبله ولو كان أصله سماوياً فكيف لاينسخ الأديان الوثنية ؟
إن أعتناق أي أمة للإسلام يشكل فاصلاً عقيدياً وحاجزاً فكرياً بين ماضي وثني , وبين حاضر ومستقبل مشرق بنور الفطرة والتوحيد , وهذه الهويات قضى عليها الإسلام حين صهرها في بوتقة الوحدة الإسلامية , وما أكثر ما تُسخَّر هذه الآثار في دعم النعرات الإقليمية لكل قطر , واستعلائه بآثاره " وأحجاره " الخاصة , وفي ذلك أعظم الخطر على الهوية الإسلامية .
ويقول المستشرق " جب " في كتابه (وجهة الإسلام):
" وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي : تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن , فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي أندونيسيا , وفي العراق وفي إيران وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا , ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها "انتهى(ص342).
ثامناً: طمس المعالم التاريخية، والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة.
وتكشف أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طرأ عليه، وكذا الوثائق التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب، والتي تدعم الإسلام وتؤيده.
ويجدر بالذكر هنا أن نشير إلى مؤامرة تزييف تزييف تاريخ (الإبراهيمية الحنيفية) التي هي جذر الإسلام، وذلك عن طريق نشر فكرة (السامية) التي تركز على القول، بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود، هو (سام بن نوح)، في حين أن القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ وعزو تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض ليس له سند علمي , وبالتالي صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ التي أولاها القرآن الكريم أعظم الاهتمام ونسبنا إليها، وحثّنا على اتباعها وبرّأ ـ إبراهيم عليه السلام ـ من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً.
تاسعاً: محاولة تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً قومياً عربياً.
كما يفعل البعثيون الذين يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن قوميتهم حين يزعمون أن الإسلام مرحلة في تاريخ العروبة , أو محاولة تصوير التاريخ الإسلامي على أنه تاريخ صراع بين الطبقات " على الطريقة الماركيسية " , أو أنه تاريخ صراع وناورات بين الأمراء والخلفاء والملوك .
إن الهدف من ذلك كله واضح , وهو الحيلولة بين الأمة المسلمة وبين أتخاذ تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها , وإن المنهج الصحيح المثمر في فهم التاريخ البشري هو النظر إليه على أنه تاريخ دين سماوي واحد هو الإسلام , من لدن آدم عليه السلام إلى صلى الله عليه وسلم , وهو تاريخ الرسالات السماوية المتعددة الداعية إلى دين سماوي واحد هو الإسلام بمعناه العام .
عاشراً: طمس المعالم التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي.
كما فعل النصارى في الفردوس المفقود: (الأندلس)، وكما فعل (أتاتورك) في تركيا؛ حينما حوّل مسجد (أيا صوفيا) إلى مُتْحَفٍ وبيت للأوثان، وطمس منه آيات القرآن والأحاديث، وأعاد كشف ما كان الفاتحون قد طمسوه من الصور التي زعمها النصارى للملائكة، وكذا صور من يسمونهم القديسين، والصلبان، والنقوش النصرانية.
وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة، حيث كانت تختار ـ بعناية ـ المواريث الرمزية والتاريخية الإسلامية , ثم يتم قصفها وتدمرها، لتجريد الذاكرة الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها.
وكما يفعل اليهود ـ لعنهم الله ـ في القدس وغيرها من مناطق فلسطين السليبة.
حادي عشر: النشاط التنصيري الذي يستغل الفقر والمرض .
كما حدث ويحدث في إندونيسيا ، وكما كان يحدث في المدارس الأجنبية، من دعوة صريحة للتنصر، وإن كان تم تطوير أساليبهم الآن بحيث تكتفي بقطع صلة التلاميذ بالإسلام، وتذويب هويتهم الإسلامية وصبغهم بصبغة غربية، تمهيداً لاعتلائهم مراكز التأثير في المجتمع في المستقبل، وقد قال عميد المبشرين يوماً: (المبشر الأول هو المدرسة).
ثاني عشر: استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها .
عن طريق ضربها بهويات أخرى قومية أو وطنية، وكذلك تشجيع النعرات الطائفية والقبلية الاستقلالية، لتسخيرها لتكون عوامل إثارة وقلقلة لضرب وحدة المجتمع المسلم، وإثارة البلابل والفتن.
ثالث عشر: الترويج لدعوة " العولمة " .
أي: توحيد الثقافة العالمية , وهو قناع تختفي تحته فكرة " تسويد " الثقافة الغربية , التي كان يُعَبَّر عنها في عهد الاستعمار ب(رسالة الرجل الأبيض إلى العالم الملون ) وتهدف (العالمية) إلى تذويب هوية الأمم , وتبخير مُثُلِها العليا , وصهرها في أتونها , ودمج الفكر الإسلامي واحتوائه في قيم تخالف الإسلام .(39/376)
رابع عشر: التغريب.
الذي استمر سمة ثقافية بارزة حتى بعد أن اضطر الغرب إلى تقويض خيامه ثم الرحيل عن بلاد المسلمين , لكن الذي حدث أنه لم يرحل إلا بعد أن أقام وكلاءه حراساً على مصالحه ومقاصده , لقد رحل الإنكليز الحمر , وحل محلهم الإنكليز السمر , وبعبارة " شاهدٍ من أهلها " وهو صاحب كتاب " تغريب العالم " : " لقد أنتقل البيض إلى الكواليس , لكنهم لا يزالون مخرجي العرض المسرحي ".
خامس عشر: استقطاب المرأة المسلمة، والتغرير بها:
بدعاوى "تحرير المرأة "ومساواتها بالرجل، والترويج لفكرة (القومية النسائية) التي تربط المسلمة باليهودية، والنصرانية، وعابدة الأبقار والأوثان، والملحدة، كأن قضيتهن واحدة! ومعتقداتهن واحدة! ومطالبهن واحدة! ومعركتهن ضد (الرجل) واحدة .
سادس عشر: إشغال المسلمين بالترفيه والشهوات .
ودفع المجتمع إلى السطحية في النظر إلى الحقائق، وذلك بزيادة معدلات تعرضه للإعلام الترفيهي، مع تقليل الزمن المتاح للتأمل والتفكر والتدبر في الأحداث اليومية ، وذلك بتوظيف وسائل الترفيه كآلات الجراحة النفسية المطلوبة لاستبدال الهوية أو مسخها .
سابع عشر: استغلال العامل الاقتصادي في تذويب الهوية .
إن " العطاء " لابد له من مقابل , وغالباً ما يكون هذا المقابل هو إضعاف العقيدة والتنازل عن الهوية .
ثامن عشر: الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية .
لقمع وإنهاك الدعاة إلى الهوية الإسلامية، وتنحيتهم عن مواقع التأثير الإعلامي والتربوي، وتسليط الحملات التي تصفهم بالتطرف والإرهاب والأصولية، مع تركهم مكشوفين في العراء، عرضة لانتقاد وسخرية أعداء الهوية الإسلامية , لكيلا يشكل الدين أي مرجعية معتبرة للأمة , ومثال ذلك القمع البربري المتوحش , ومحاولة إطفاء نور الإسلام في بعض البلاد الإسلامية .
تاسع عشر: تقسيم الدين إلى قشر ولُب .
وإلى شكليات وجواهر , وهي دعوة ظاهرها الرحمة , وباطنها العذاب , ولذا انخدع بها بعض السذج الذين ابتلعوا الطُعم , فاستحسنوا , وصاروا يرجون له , دون أن يدركوا أنه قناع نفاقي قبيح، وأنها من لحن قول العلمانيين الذين يتخذونها قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام دون أن يُخدَش انتماؤهم إليه , نعم تتوقف عند حَسَني النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما أسموه: (قشراً) للتركيز على ما دعوه: (لبّا)، ولكنها عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها , مجرد مدخل لنبذ اللّب والقشر معاً، تماماً كما يرفعون شعار الاهتمام بـ (روح النصوص) وعدم الجمود عند منطوقها , ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء وطبقه الأسوياء؛ إلا أنه خطير إذا تبناه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ إذ يكون مقصودهم حينئذ هو إزهاق روح النص بل اطّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بعد تحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
إنهم يريدونه ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة , يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء على هامش الحياة , محبوساً في الأقفاص الصدرية , لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتماعاتهم .
ولقد لفتنا سلفنا الصالح إلى أهمية التمايز الحضاري بالمحافظة على (قشرة) معينة تفترق بها أمتنا عن سائر الأمم، وهذه القشرة التي تحمي الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله بـ: (الهدي الظاهر)، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها , فما يشيع على ألسنة الناس من أن " العبرة بالجوهر لا بالمظهر " ينطويعلى مغالطة جسيمة , وخداع كاذب , لأن كلاً من المظهر والجوهر لاينفك عن الآخر , والظواهر هي المعبرة عن المضامين , وهي الشعارات التي تحافظ على الشخصية , إنها قضية " مبدإ " وليست مجرد شكل ومظهر , فنحن كما نخاطب الكافرين : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (6) سورة الكافرون , نقول لهم أيضاً : ( لكم قشركم , ولنا قِشرَتِنَا ) .
ونحن بشر مأنوسون ولسنا أرواحاً لطيفة فحسب , ولا أطيافاً عابرة , ومقتضى ذلك أن لنا مظهراً مادياً محسوساً , وهذا المظهر شديد الارتباط بالجوهر , وقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عمَّن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها , بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن خصائص هُويتهم , وآية ذلك: أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم عن أفكارهم، وترمز إلى عقيدتهم:
وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة بطاقيتهم، ولحاهم، وأزيائهم الدينية , وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم.
أليس هذا كله تميزاً صادراً عن عقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بالهوية؟!
وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان التي كسابها أهل الضلال والكفران , فكيف لا نتمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا الله ـ عز وجل ـ ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) [البقرة: 138].(39/377)
لماذا تقدس الحرية الدينية لكل من هب ودب، وفي نفس الوقت تشن (الحروب الاستراتيجية) على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب، حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات، وتصدر قرارات، وتثور أزمات، وتجيّش الجيوش، وترابط القوات، هذا ونحن أصحاب الدار , و:
كل دارٍ أحق بالأهل إلا في رديء من المذاهب رجس
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
أفكل هذا من أجل ما أسموه (قشوراً) لا! بل هم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة حضارية عميقة، ويدركون أنها رمز يتحدى محاولات التذويب والتمييع، ويصفع مؤامرة استلاب الهوية كمقدمة للإذلال والاستعباد.
إن من يتخلى عن (القشرة الإسلامية) سيتغطى ولا بد بقشرة دخيلة مغايرة لها، فلا بد لكل (لب) من (قشر) يصونه ويحميه، والسؤال الآن: لماذا يرفضون (قشرة الإسلام) ويرحبون بقشرة غيره؟ فيأكلون بالشمال، ويحلقون اللحى، ويُلبسون النساءَ أزياء من لا خلاق لهن، ويلبسون القبعة، ويدخنون (البايب) و (السيجار)؟!
إن تقسيم الدين إلى قشر ولب غير مستساغ، بل هو محدَث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير في اتباعهم واقتفاء آثارهم {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } (23) سورة النجم , وهذه القسمة إلى قشر ولُب , ظاهر وباطن _ يتبعها المناداة بإهمال الظاهر احتجاجاً بصلاح الباطن _ تلقى رواجاً عند المستهترين والمخدوعين , حينما يرون القوم يسمون المعاصي بغير اسمها .
وقسمة الدين إلى قشر ولب تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير , وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة , وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي سُميت قشوراً , فلا تلفت قلوبهم إليها , فتخلو من أضعف الإيمان ألا وهو الإنكار القلبي الذي هو فرض عين على كل مسلم تجاه المنكرات.
والتفريط في مُحَقَّرات الأعمال يؤدي إلى التفريط في عظائمها , لأن استمرار هذا التفريط يتحول مع الزمن إلى عادة تنتهي بصاحبها إلى قلة الاكتراث بأمور دينية , والتهاون بها .
ونحن إذا تسامحنا معهم في هذه القسمة إلى قشر ولُب , فإننا نلفت أنظارهم إلى أ، قياس أمور الدين على الثمار من حيث إن لكل منها قشراً ولُباً , وظاهراً وباطناً , لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة خُلِقت عبثاً , حاشاً وكلاَّ , بل لحكمة عظيمة وهي المحافظة على ما دونها وهو اللُب نفسه , وهذا يَحْمِلُنا على أن لا نستهين بالقشرة من حيث كونُه حارساً أميناً على اللُب , وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة .
***
ما السبيل إلى استرداد هويتنا؟
نحن لا نبتدع هوية مفقودة , ولكننا نريد استعادة الوعى بالهوية الموجودة التي صارت كصفحة مكتوبة تراكمت عليها طبقات الأتربة , حتى صارت غير مقروءة , لأن أحداً لم يحاول قراءتها منذ زمن , فالعملية هي إزالة لهذه الأتربة واستحضار واجترار الأفكار والقيم التي يُطلب الوعي بها من وراء حائط النسيان.
وهذا الهدف لا يتم إلا بعد تحديد الوسائل , وتوظيف الطاقات المتاحة , فمن أهم هذه الوسائل:
- تدعيم الإعلام الإسلامي بكافة أشكاله ليؤدي دوره في :
1. إحياء حركة تجديد الدين بالمفهوم السلفي الواضح , لنعود إلى منابع الإسلام الصافية متمثلة في " منهاج النبوة " بعيداً عن مخلفات القرون .
2. الدعوة إلى حتمية الحل الإسلامي لمعضلات واقعنا الأليم , وتحرير الهوية المسلمة من كل مظاهر الخور والتبعية والتقليد , والقضاء على العقبات التي تحول دون تطبيق الإسلام كمنهج شامل للحياة .
3. التصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية , وقطع صلة الأمة بدينها , والتي تجري اليوم على قدم وساق من خلال تخريب مناهج التعليم , وتشويه التاريخ الإسلامي , وإضعاف اللغة العربية , ومزاحمة القيم الإسلامية بقيم غربية , وغير ذلك من أنشطة " التبشير " العالماني والغزو الفكري , وتسميم الآبار الإسلامية , أو ما يُطلق عليه الذين لا خَلاَق لهم عبارة : ( تجفيف منابع الدين ) بلا مواربة- نسأل الله أن يجفف الدم في عروقهم , وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر , ويريح البلاد والعباد من شرورهم.
هل ستعود إلى المسلمين هويتهم؟
هذا السؤال يمكن صياغته بعبارة معادلة: هل سيعود إلى المسلمين مجدهم وسيادتهم ؟ وذلك نظراً للتلازم بين التمسك بالهوية وبين التمكين للدين .
والجواب: نعم , كما وعدنا الله ورسول صلى الله عليه وسلم , وصدق اللهُ ورسولُهُ , قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (9) سورة الصف , وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (..ثم تكونخلافة على منهاج النبوة) , وقال الله تعالى في صفة الذين سيسلطهم على اليهود إن عادوا إلى الإفساد في الأرض: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} (5) سورة الإسراء , وأخبر r أن الهوية الإسلامية ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود , حتي إن الحجر والشجر ليقول:(39/378)
" يا مُسلم يا عبد الله , هذا يهودي خلفي , تعال فاقتله " الحديث , فالإسلام وعباد الله وحده هومفتاح النصر والتمكين , أما شعارات الدجاجلة الذين بدلوا نعوة الله كُفراً , والذين هُم مِن جِلْدَّتِنا ويتكلمون بألسنتنا , فهؤلاء ستجرفهم سنة الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (17) سورة الرعد , فما هؤلاء الضالون المُضلون من دعاة التغريب والقومية والعالمانية....إلخ سوى " فقاقيع " سنحت لها الفرصة لتطفو على السطح , ثم تتلاشى كأن لم تكن , وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع .
إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري , بعد انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة , وبعد انهيار الشيوعية الملحدة , وإفلاس الغرب المادي من القيم الروحية السامية , والعالم الإسلامي له في المجد نسب عريق , وطريق عميق , وله حضور تاريخي متميز , ويملك مقومات الانطلاقة المستقبلية الجادة , إنه صاحب القوة الكبرى الكامنة التي يحسب لها الغرب ألف حساب-رغم ضعفه البادي-ومن أجل ذلك كان له الحفظ الأوفر من مؤامرات تحطيم الهوية ومسخها , وفوق ذلك كله هوعالَمٌ_ أن عاد إلى هويته _ فهو موصول بالسماء , مؤيد بالمدد الرباني الذي لا يَضعه الغرب في حساباته , قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج .
ولنتأمل هذه العبارة التي نطق بها عدو لدود , ولكن لكونها توافق سنن الكون نقول: ( صدق وهو كذوب ) , فقد قصَّ الأستاذ يُوسف الأعظم _ رحمه الله _ أن وزير الحرب اليهودي " موشى ديّان " لقى في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب في حي ًّ من أحياء قرية عربية باسلة , فصافحهم بخبث يهودي غادر , غير أن الشاب المؤمن أبى أن يُصافحه , وقال له: " أنتم أعداء أمتنا , تحتلون أرضنا , وتسلبون حريتنا , ولكن يوم الخلاص منكم لابد آتٍ بإذن الله , لتتحقق نبؤة الرسو صلى الله عليه وسلم : ( لتقاتلن اليهود , أنتم شرقي النهر وهم غربّيه ) , فابتسم "ديان" الماكر , وقال: " حقاً! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض , وهذه نبؤة نجد لها في كتابنا أصلاً.. ولكن متى؟ " واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: " إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه , ويحترم دينه , ويقدر قيمه الحضارية .. وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه , ويتنكر لتاريخه , عندها تقوم لكم قائمة وينتهي حكم إسرائيل " .
فهل من معتبر....؟
============(39/379)
(39/380)
لا يحصل الملك للعرب إلا بصبغة دينية!
هذا هو رأي ابن خلدون في مقدمته عن العرب، والمقصود بالملك السياسة الرشيدة التي يسوس فيها القادة ذوو العصبية القوية رعيتهم على أساس الشورى الصادقة، والعدل الشامل، والبعد عن الظلم والاستبداد، ومراعاة تحقيق مصالح الأمة، ودفع المفاسد عنها، والسعي في جمع كلمتها على الحق، واتخاذ الأسباب التي تقيها التنازع المؤدي إلى الفشل...
والمقصود أيضا إسناد الأمور إلى من هو أهل لها في شئون الدولة كلها، من أعلى موظف فيها إلى أصغر موظف، يضع في كل وظيفة من تتوفر فيه مقوماتها من علم وخبرة ومقدرة على تنفيذ مهماته فيها، بأمانة ومساواة بين الناس، وورع عن هضمهم حقوقهم..
والمقصود كذلك بسط الأمن في الدولة:
الأمن الداخلي، بغرس الإيمان الصادق في نفوس أجيال الأمة، والعبادة الخالصة لله، والإحاطة بكل ما يحتاجه المسلمون من العلوم الإنسانية والكونية، عن طريق دور العلم من المدارس و المعاهد والجامعات، وكل ما بردع القوي عن ظلم الضعيف، والأخذ على أيدي المجرمين من السراق والقتلة وقطاع الطرق والمرتشين، ليأمن الناس على ضرورات حياتهم، وهي دينهم ونفوسهم ونسلهم وعقولهم وأموالهم، وما يكملها في ذلك، بإقامة الحدود والتعازير الجامعة بين عقوبات المعتدين وزجر من يفكر في الاعتداء من مرضى النفوس البطالين...
وبذلك تزدهر البلاد في اقتصادها وتجارتها وزراعتها وسائر ما يحقق أمنها واستقرارها، ويطمئن أهلها على ضمان حقوقهم والعدل في أداء واجباتهم...
كما يُقصد كذلك سمع وطاعة الرعية لولاة أمرها، فيما لا معصية فيه لربها، واستجابتها لما يفرض عليها من حقوق يؤديها بعضهم لبعض، سواء في ذلك ما تعلق بالأمة ممثلة في الدولة، أو الأسرة أو الأفراد... لا ينازعون في الأمر أهله، ولا ينزعون يدا من طاعة، ولا يخرجون على من ولاه الله أمرهم، لما يترتب على ذلك من فوت مصالح ونزول مفاسد، وانتشار فوضى واضطراب وإهلاك للحرث والنسل...
والأمن الخارجي، بحماية صف الأمة من فساد المفسدين، من جواسيس الأعداء و المنافقين، وإعداد العدة لرفع راية الجهاد في سبيل الله، لإرهاب الطغاة المعتدين، وطرد من احتل أي جزء من البلاد من الغاصبين.
وأساس تلك العدة وعمادها، إيجاد الرجال الشجعان الذين يتحلون بالعقيدة والإيمان، والعبادة الصادقة للديان، وإيجاد كل أنواع السلاح الفعال، وتدريب جند الله من حماة الأمة على تلك الأنواع، وعلى كل أساليب القتال، التي تناسب العصر والحال، وحشد الأمة كلها لنصرة أبنائها الأبطال، كل فيما يقدر عليه من خدمة أو مال، ليتم النصر على الأعداء، ويطمئن الشعب ويَثبُت البناء...
ذلك هو الملك الذي عناه ابن خلدون، كما يظهر ذلك من فصول مقدمته الكثيرة في هذا الباب، كما يظهر كذلك من كتب السياسة الشرعية التي كتبها علماؤنا العظام، مثل كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي، وكتاب "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى، وكتاب "الغياثي" لإمام الحرمين الجويني، وكتاب "السياسة الشرعية" لابن تيمية، وما بينه علماء التفسير عند الآيات المناسبة، وشراح الأحاديث عند الأحاديث المناسبة كذلك...
ومما لاشك فيه أن ولاة أمر المسلمين من العرب، قد حققوا تلك الأمور لأمتهم، عندما تمسكوا بدينهم، وكان ذلك بارزا في العصور المفضلة أكثر من غيرها مما تلاها من العصور، وكلما قوي تمسك ولاة الأمر من العرب بالإسلام وتطبيق شريعته في شعوبهم، ازداد تحقق تلك المقاصد والمصالح، وخف وجود المفاسد والشرور...
وعندما يضعف تمسكهم بالإسلام وتطبيق شريعته، يضعف تحقق تلك المصالح، ويكثر نزول المفاسد والمصائب بأمتهم بمقدار ما يصيبهم من ضعف في تمسكهم بالإسلام...
إلى أن يستبدل الله بهم غيرهم، منهم أو من غيرهم، من الشعوب الأخرى التي تتمسك بالإسلام، وكان آخر أمة قادت الشعوب الإسلامية الدولة العثمانية، التي أفل نجمها في أوائل القرن العشرين، لسببين:
السبب الأول: بعد حكامها عن الإسلام وتصدع صففها.
السبب الثاني: تعاون اليهود والصليبيين ومن خدعوا بهم من الطامعين في الزعامات من العرب، كما هو حال أمثالهم اليوم مع الأمريكان واليهود كذلك...
والذي يظهر من كلام ابن خلدون رحمه الله، أن العرب إذا لم تكن سياستهم مصبوغة بالصبغة الدينية، يكونون أبعد من غيرهم عن إقامة الملك الرشيد والحكم السديد، وقد أبدى في هذا الأمر وأعاد.
ويكفي أن ننقل عنه أحد فصول هذا الموضوع من مقدمته، فقد قال رحمه:
"الفصل السابع والعشرون
في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة
والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم.
فإذا كان الدين بالنبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم، فَسَهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين الْمُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس.(39/381)
فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، يُذهب عنهم مذموماتِ الأخلاق ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تَمَّ اجتماعُهم وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى، لسلامة طباعهم من عِوَج الْمَلَكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبُعدِه عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإن كان مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدم..."
وابن خلدون يتمتع بصفات وخلال، تؤهله لمثل هذا التحليل:
فهو أولا عربي أصيل، لأنه يمني حضرمي، لا يستطيع أحد اتهامه بعنصرية أو معاداة للعرب...
وهو ثانيا مسلم متحمس لدينه، كما يظهر مما كتبه في هذه المقدمة وفي تاريخه، فلا يستطيع أحد اتهامه بعدم المبالاة بما يكتب ويقول...
وهو ثالثا مؤرخ اجتماعي، يجمع بين الاطلاع على سجلات تاريخ الأمم وتحليلها اجتماعيا...
وهو رابعا محلل سياسي، يراقب تصرفات الساسة وتدابيرهم، بانيا تحليله على الربط بين التدبير ونتائجه.
ليس المقصود الحط من شأن جنس العرب
ولست ناسيا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله، من فضل جنس العرب في الجملة، فلهم فضلهم في النسب والنجدة والشهامة والشجاعة والكرم وغيرها، فقد قال رحمه الله:
"فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم، وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول ا صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسا وأفضلهم نسبا.
وليس فضل العرب، ثم قريش ثم بني هاشم، بمجرد كون صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول ا صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور" [اقتضاء الصراط المستقيم (1/148)]
ثم ذكر حديث سلمان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال" تبغض العرب فتبغضني) [اقتضاء الصراط المستقيم (1/155) والحديث قال فيه الترمذي: "
حديث حسن غريب..." وقال الحاكم المستدرك (4/96): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]
والمقصود من هذا الفضل، ما يتميز به جنس العرب عن غيرهم، من الخلال الطبيعية التي جبلوا 'ليها، ولكل جنس من أجناس البشر ميزات تخصهم، كما يتميز بعض الأفراد من كل جنس أو قبيلة أو أسرة عن بعضهم.
ولكن تلك الخلال التي تتحلى بها الأجناس والشعوب والجماعات والأسر والأفراد، قد تتغير وتستعمل في غير موضعها، كالشجاعة الممدوحة التي قد تنقلب إلى تهور وعدوان مذمومين، والكرم الممدوح الذي قد ينقلب إلى إسراف مذموم، والنسب الشريف الذي قد ينقلب إلى تعصب ممقوت وكبرياء مذمومة...
والذي يضبط ذلك كله هو الميزان الشرعي الذي قال الله تعالى فيه: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ? [الحجرات]
وفي حديث أبي هريرة قَال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب، لينتهين أقوام فخرهم برجال، أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) [المسند (2/361) و الترمذي (5/734) وحسنه]
وعن أبي نضرة: حدثني من سمع خطبة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، في وسط أيام التشريق، فقال (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، إلا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى. أبلغت؟) قالوا بلغ رسول ا صلى الله عليه وسلم ... قال ليبلغ الشاهد الغائب) [المسند (5/411) مجمع الزوائد(3/266 ، 267) وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، وعن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة على رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق"
وما ذكره ابن خلدون رحمه الله أمر ثابت دل عليه القرآن:
?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)? [آل عمران]
قال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: "أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام، واتباع نبيه محمد عليه السلام، فإن به زالت العداوة والفرقة، وكانت المحبة والألفة، والمراد الأوس والخزرج والآية تعم" [تفسير القرطبي (4/164)](39/382)
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن وذحول، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى" [تفسير ابن كثير (1/390)]
وقال تعالى:?...هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)? [الأنفال]
قال القرطبي رحمه الله: ?وألف بين قلوبهم? أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكان تأليف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب، من آيات صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار والمعنى متقارب" [تفسير القرطبي 8(/42)]
وقال ابن كثير رحمه الله: "ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال: ?هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم? أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك، ?لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم? أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى:
?واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون?
وفي الصحيحين أن رسول ا صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين، قال لهم: (يامعشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي) كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن"
الواقع يدل على ما ذكره ابن خلدون.
وإن الواقع الذي رأيناه في عمرنا القصير في هذا العصر، ليدل دلالة واضحة أن العرب لا تجتمع كلمتهم، ولا ينصاع بعضهم لبعض، بدون أن يقودهم منهج الله الذي أتاهم به كتابه وسنة نبيه.
ولنضرب بعض الأمثلة من دلالة الواقع في زمننا القريب:
المثال الأول: أن غالب الدول العربية جربت كل مبدأ من المبادئ التي ظهرت في العالم شرقيه وغربيه:
أطلقت شعار القومية العربية التي أراد المعتدون الغربيون، إحلالها محل الجامعة الإسلامية، بعد سقوط رمز الخلافة العثمانية، ونشأت على إثرها جامعة الدول العربية، سنة 1945م.
وأطلقت شعار العلمانية التي طبقت في الغرب، وهي تعني في الغرب، فصل الدين عن الدولة، ولكن الدول العربية التي نادت بهذا الشعار لم تكتف، بفصل الدين عن الدولة، بل حاربت كل من يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة وتطبيق شريعة الله، وقامت باعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم وتشريدهم بل وقتل كثير منهم، ولا زالت هذه الحرب مستمرة في بعض تلك البلدان إلى يومنا هذا...
ورفعت شعار الاشتراكية العلمية التي كانت سببا في فقر الأغنياء، وزيادة في فقر الفقراء...
بل إن بعضها رفعت شعار الإلحاد الشيوعي، وقامت عليه، وأنزلت بقادة الفكر والعلم وأهل الرأي في بشعوبها أشد أنواع الابتلاء، التي فاقوا فيها أساتذتهم في روسيا الماركسية و الصين الماوية....
المثال الثاني: عدوان من ملك القوة من زعماء العرب على من ضعف منهم، وما حصل في الستينات وما تلاها إلى أواخر الثمانينات التي كان آخرها حروب الحليج المختومة بالعدوان الصليبي اليهودي اليوم...
المثال الثالث: ما رفع من شعار الوحدة أو الاتحادات سواء كانت ثنائية أو إقليمية، بحيث لا ينادى بها اليوم إلا لتنشب بين أهلها نزاعات وإحن وعداوات غدا، ومن أمثلة ذلك الوحدة بين مصر وسوريا، والاتحاد المغاربي، والاتحاد العربي الذي أعلن بين مصر والعراق والأردن واليمن...
المثال الرابع: فشل المؤتمرات والاجتماعات العربية الثنائية أو الإقليمية أو القومية، التي تعقد بعد ضجيج إعلامي يظن عوام الناس معه أن وراء رعودها وبروقها غيثا مدرارا، ثم يفاجأون بعد زمن يسير بما يحزنهم من المواقف، وقد سربت وسائل الإعلام في الفترات الأخيرة قليلا مما يحدث بين بعض الزعماء من خصام وتلاسن كافيين للدلالة على ما خفي من ذلك...
المثال الخامس: ما جرى بين الدول العربية من حروب وعداوات، بسبب قِطَعٍ من الأميال على الحدود، وهي كثيرة ولا زالت ناشبة في بعض الدول العربية إلى اليوم...
المثال السادس: فشل جامعة الدول العربية التي مضى على إنشائها ستون عاما:
[كان التوقيع الرسمي على ميثاق في 22/3/ 1945م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60 ](39/383)
وقد أعلن قادتها على كل مستويات مجالسها، اتفاقات مهمة سطرت في أوراق وحفظت في ملفات.
ويمكن تصفح قراراتها من عام 1945 إلى هذا العام 2004م، التي يعجز عن حملها مائة وعشرون بعيرا، لوثائق كل سنة بعيران، دون أن ترى شعوبها منها ما يشعرها بالأمل في إنجاز شيء من تلك الاتفاقات...
ومن تلك الاتفاقات ما يتعلق بالاقتصاد، ومنها ما يتعلق بالدفاع العربي المشترك، ومنا ما يتعلق بالموقف من اليهود المغتصبين للأرض المباركة...
تكوين اللجنة السياسية 30/11/1946م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60&page_no=2
معاهدة الدفاع العربي المشترك
2 رمضان 1369هـ ـ 17 يونيو 1950م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=135&level_id=121
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60&page_no=2
اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري العربي 1359م
إبرام اتفاقية الوحدة الاقتصادية 1953م
إنشاء السوق العربية المشتركة 1960م
تكوين اللجنة السياسية 30/11/1946م
http://www.a r ableagueonline.o r g/a r ableague/a r abic/details_a صلى الله عليه وسلم jsp?a r t_id=185&level_id=60&page_no=2
ومن عجائب فشل هذه الجامعة، أن يتنازع زعماؤها تنازعا قد يصل إلى حد القطيعة، في أصعب الأوقات وأشدها حرجا على شعوبها، كما حصل في العدوان العراقي على الكويت، وكما حصل في آخر اجتماع لقمتها في تونس هذا العام 1425هـ ـ 2004م
بل بلغ إن زعيما واحدا من زعماء الجامعة، يستبد بإلغاء اجتماع قمتها قبل انعقاده بساعات، لأسباب خاصة داخلية أو خارجية:
زعيم واحد ينفرد بتأجيل انعقاد مؤتمر القمة...
http://pe r so.club-inte r net.f r /mo r mik/
http://pe r so.club-inte r net.f r /mo r mik/ad182-moatama r %20tounis.htm
حتى أصبح بعض الكتاب يتمنى عدم انعقاد تلك القمة:
"ليتها ما انعقدت! 30/5/2004م"
http://www.da r alhayat.com/opinion/05-2004/Item-20040529-d1e5d1cb-c0a8-01ed-001a-f0b13fc01f94/sto r y.html
وفي نفس الوقت الذي تحصل هذه العجائب، تجد الشعوب العربية بعض قادتها يتسابقون إلى كسب ود اليهود، إما جهارا نهارا، وإما خفية وإسرارا!!!
كما يتسابق بعض زعمائها في تقديم مبادرات في جداول أعمال مؤتمرات قِممِها، كل مبادة تنقض أختها، يتبعها التنازع وعدم الاتفاق على شيء، ثم الخروج بالقرارات والتوصيات الإعلامية المعتادة التي لا تنتظر الشعوب من ورائها إلى فائدة...
مقارنة مخجلة!
وإن مما يثبت نظرية ابن خلدون رحمه الله، في الفشل العربي، مقارنة سريعة بين هذه الجامعة، وبين السوق العربية المشتركة التي أنشئت في روما، عام 1957م أي بعد تأسيس الجامعة العربية باثنتي عشرة سنة، وهذه السوق هي أساس الاتحاد الأوربي الذي أصبح اليوم يضم 25 دولة، بعد أن بدأ بثلاث دول تقريبا، ويكاد الاتحاد أن يعلن: "الولايات المتحدة الأوربية":
العوامل الجامعة والعوامل المفرق بين المؤسستين:
وإذا رجعنا إلى العوامل الجامعة والمفرقة بين المؤسستين، وجدنا عوامل كثيرة قوية تقتضي اجتماع الدول العربية، وعوامل كثيرة قوية تقتضي تفرق الدول الأوربية:
أولا: العوامل المقتضية لاجتماع الدول العربية:
أساس العوامل التي تقتضي اجتماع الدول العربية: الإسلام الذي هو دين غالبها، حيث إن بعض البلدان لا يوجد فيها إلا المسلمون، وبعضها غالب سكانها مسلمون، وغير المسلمين قلة فيها...
والإسلام هو الذي جمع العرب على كلمة سواء، بعد أن كانوا متفرقين، بل جمع العرب وغيرهم في البلدان الأخرى، إما بدخول أهلها في الإسلام، وإما باقتناعهم بفضائل منهج الإسلام الذي لم يجدوا في نظمهم ما يدانيه في عدله ومساواته ونشر أمنه في تلك البلدان...
ومن أهم العوامل الجامعة للدول العربية: اللغة التي حفظها الله لهم بحفظ كتابه وحفظ دينه، واشتراك أي قوم في اللغة، يسهل اتصال بعضهم ببعض في كثير من الأمور: الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية وغيرها، وقد كان للغة العربية أثر بالغ في اجتماع العرب في جميع العصور، حتى في ظل الخلافة العثمانية التي كان قادتها من غير العرب.
كما أن اللغة العربية عامل لاجتماع المسلمين كلهم عربهم وعجمهم، لأنها لغة دينهم ولغة كتابهم ولغة سنة رسولهم، ولغة مصادر ثقافتهم الأصلية...
ومن أهم العوامل التي تجمع الدول العربية: الاتصال الجغرافي بين شعوبها، من موريتانيا غربا، إلى الخليج العربي شرقا، وتتخلل أرضهم بحار وأنهار، ولا تفصل بينهم أي دولة غير عربية.
ولا عبرة بوجود اليهود المغتصبين للأرض المباركة، فهم جسم غريب طارئ طروء ابن الزنا لا جذور له في المنطقة، ومع ذلك لا يعتبر وجودهم فاصلا بين الدول العربية، لأن الشعب الفلسطيني يشاركهم في الأرض، ويعد العدة لطردهم من أرضه...
وهذا العامل يجمع كذلك بين الدول العربية وغيرها من الشعوب الإسلامية، مثل إيران وتركيا وجمهوريات وسط آسيا وأفغانستان، وباكستان...(39/384)
ومن العوامل الجامعة بين الدول العربية: مصيرها المشترك في كل شئون حياتها: العقدية والتشريعية والتعليمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والجغرافية، فهي تعلم أن أعداءها في حالة تأهب قصوى مستمرة، في النيل من كل هذه الأمور.
الدليل على ذلك واضح، في لحرب اليهودية الصليبية قديما وحديثا، على هذا الدين وأسس تشريعه وتعليمه وسياسة أتباعه الشرعية، ومصادر قوتهم الأسرية والسلوكية والعسكرية...
وما نراه اليوم من الحملة الظالمة على هذه الأسس والمصادر، خير شاهد على هذه الحرب...
ولم يتمكن أعداء هذه الأمة من هزيمتها إلا بنيلهم من هذه الأسس والمصادر...
العوامل التي فرقت بين الدول العربية
وإذا شئنا أن نجمل عوامل تفرق العرب في جميع العصور، وبخاصة في هذا العصر، فإننا نلخصها في الأمور الآتية:
الأمر الأول: تفريطها في قاعدة قواعد اجتماعها، وهو الإيمان الصادق بدينها الذي يترتب عليه تطبيق شرع الله في حياتها، بل نقول: مبالغة كثير من حكامها في إبعاد هذه الشريعة عن حياة شعوبها وحربها لمن دعا إلى تحكيك شرع الله بدلا من أحكام القوانين المصادمة للمعلوم من الدين بالضرورة في تلك الشريعة...
الأمر الثاني: تعاطي أسباب التنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب الريح والهيبة، حتى أصبحت كل دولة تعادي الدولة الأخرى، وفقدت الثقة بين دولة وأخرى في الغالب...
بل دب الخلاف بين غالب الدول العربية وشعوبها، وتعددت في تلك الدول الأحزاب والجماعات، واحتدم الخلاف بينها أيضا، فوجه العرب صراعهم إلى ذات بينهم، فازداد ضعفهم الذي مكنوا به تداعي عدوهم على قصعتهم، وأغرقوا سفينتهم بخرقها بأيديهم...
الأمر الثالث: تعاون بعض الدول العربية ضد بعضها مع العدو، وتنافسها في التقرب إليه، طمعا في مصالح وهمية عاجلة زائلة، وهو يتربص بها جميعا، فتنقلب تلك المصالح الوهمية مفاسد عليها وعلى شعوبها، وتتكرر المآسي المترتبة على تلك المعاشرة السيئة، دون أن يأخذوا العبرة منها، فيلغون جميعا من جحر واحد مرات ومرات!
ومن مظاهر ذلك إيثار أعدائهم بالتبادل التجاري والاقتصادي وحرمان بعضهم من بعض، مع حاجة بعض الدول العربية إلى بعض في هذا المجال، حيث يوجد لدى بعضها من المصالح ما لا يوجد عند بعضها الآخر.
فدولة لديها مصادر طاقة ومال، فاقدة الأراضي الزراعية الكافية والمياه الوافرة، ودولة لديها أراض زراعية كافية ووفرة مياه فاقدة المال، وتلك لديها ثروة حيوانية تفقدها أخرى، وهذه لديها كفاءات عالية من المتخصصين في كل مجال، لا يجد كثير منهم العمل في بلادهم...
فتؤثر كل دولة سد حاجتها من الدول الأجنبية بسعر أعلى، وتصدر لتلك ما تحتاجه مما يتوفر لديها بسعر أدنى، وتستقدم كل دولة من تحتاج إليهم من المتخصصين من دول أجنبية بأجور عالية، وتحرم المتخصصين العرب ذوي الكفاءات المتنوعة من العمل فيها بأجور أقل من أجور الأجانب... فيضطر المتخصصون العرب إلى هجر بلادهم والذهاب إلى البلدان الأجنبية، ليشاركوا في بنائها وتقدمها طلبا للرزق الذي حرموا منه في البلدان العربية...
إن الدول العربية لو تبادلت المنافع والمصالح بينها لتكاملت ونالت من القوة ما تفقدها اليوم، ولقلت حاجتها للدول الأجنبية التي تتحكم فيها جميعا...
وطبق ذلك كله بين الدول العربية وسائر حكومات الشعوب الإسلامية...
الأمر الرابع: قلة صبر الزعماء العرب على ما يجري بينهم من خلافات وبخاصة في جامعة الدول العربية، فإذا اختلف زعيم مع آخر في مشروع من المشروعات النافعة، أصر كل منهم على موقفه وعطلوا ذلك المشروع ولو كان مرغوبا فيه عند بقية الزعماء...
الأمر الخامس: استبداد غالب الزعماء العرب بالتدابير العامة في سلم أو حرب، وعدم إشراك أهل الحل والعقد وذوي الاختصاص في شعوبها في تلك التدابير، التي قد يترتب عليها من الضرر ما يصيب الجميع...
وماذا عن الاتحاد الأوربي؟
هذه إشارات سريعة إلى ما يجمع الدول العربية وما يفرقها، وإلى الأحوال التي آلت إليها شعوبها بسبب الميل عن عوامل الاجتماع إلى عوامل التفرقة...
فماذا عن الاتحاد الأوربي؟
إنا إذا نظرنا نظرة تاريخية إلى العوامل التي تجمع هذا الاتحاد، وإلى العوامل التي فرقه، لوجدنا عوامل الفرقة أكثر وأقوى من عوامل الاجتماع...
فالشعوب الأوربية تختلف في لغتها اختلافا واضحا، فلا يفهم شعب منها لغة شعب آخر.
وهي مختلفة في ديانتها اختلافا وصل إلى اشتعال الحروب فيما بينها، ولا زالت المعارك دائرة في بريطانيا بين البروتستانت والكاثوليك، وكانت الحروب طاحنة بين فروع هذه الديانات في الشعب الواحد...
وقد اختلفت في سياساتها واقتصادها اختلافا أشعل بينها حربين عالميتين، أهلكت الحرث والنسل ودمرت الأخضر واليابس...
ولم تقع مثل هذه الحروب بهذه الشدة بين الدول العربية وكذلك الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وإن حصلت حروب متفرقة بين دولة أخرى منها...
و مع ذلك نرى الدول الأوربية، قفزت قفزات عظيمة في تقاربها واجتماعها، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ودبلوماسيا، وكادت ترفع علم الولايات الأوربية المتحدة...(39/385)
ويمكن تلخيص الأسباب التي مكنتها من هذا الاتحاد في ما يأتي:
السبب الأول: الإرادة الجازمة والعزم المصمم على التقارب والتعاون، في الأمور التي يتفقون عليها وتنفيذ ذلك مهما قل أو كثر...
السبب الثاني: الإرادة الجازمة والعزم المصمم على الاستمرار في الحوار في ما اختلفوا فيه، وعدم الانقطاع عن ذلك الحوار ولو طال الوقت...
السبب الثالث: ضبط تصرفات الحكومات الأوربية وتدابيرها، بأنظمة وقوانين تمنعها عن الاستبداد بالأمر، وتجبرها على الرجوع إلى شعوبها وأهل الاختصاص فيها، في الأمور العامة التي تترتب عليها مصالح ومفاسد عامة، فلا تبت الحكومات في أمر من تلك الأمور دون الرجوع إلى شعوبها...
السبب الرابع: صبر الحكومات الأوربية على ما يجري بينها من خلافات، وعد التسرع في رفض ما لا ترغب دولة أو دول قبوله، وتنازل بعض تلك الدول عن بعض مصالحها الخاصة حرصا على مصالح أعظم منها تتحقق لها بذلك...
السبب الخامس: وضع حد للتنافس المفضي إلى عدم انقياد بعضهم لبعض، فهم يتنافسون وتحاول كل دولة أن تحصل على أكبر قدر ممكن من المصالح، ومن ذلك التنافس في القيادة والرئاسة، ولكن هذا التنافس لا يصل إلى عدم انقياد بعضهم لبعض، كما يفعل العرب...
ولهذا رأينا دولا قوية تتساوى مع دول ضعيفة في رئاسة بقية الدول، في الزمن المحدد، وتتفق على كبار الموظفين في الاتحاد...
السبب السادس: اتخاذ الحكومات الأوربية الوسائل القانونية مع شعوبها، فإذا رفضت أحزاب المعارضة ما ترى الدولة عمله في الاتحاد الأوربي، دعا الحزب الحاكم إلى الاستفتاء العام، فيقول الشعب كلمته ويحسم الأمر، وقد يرفض الشعب ما يدعو غليه الحزب الحاكم اليوم، فيجد الاستفتاء غدا، ويحظى بموافقة الشعب، كما حصل مرارا في كثير من تلك الدول، في ما يتعلق بالعملة الأوربية وغيرها...
ومن أهم المشروعات التي احتدم فيها الخلاف، الدستور الأوربي الموحد، ولا زالوا يواصلون التشاور والاجتماعات بشأنه، وما إخالهم إلا سيتفقون عليه قريبا... وستعلن الولايات المتحدة الأوربية التي هيئوا غالب أسس الوحدة لقيامها...
ولقد أجمل داهية العرب عمرو بن العاص رضي الله عنه، لشعوب الروم خمس صفات تميزوا بها، نراها اليوم ماثلة أمامنا، وهي:
1- إنهم لأحلم الناس عند فتنة.
2- وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة.
3- وأوشكهم كرة بعد فرة.
4- وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف.
5- وأمنعهم من ظلم الملوك.
[صحيح مسلم، رقم (2898) وشرح النووي على صحيح مسلم (18/23)
أليست المقارنة بين الاتحاد الأوربي والجامعة العربية مخجلة؟
ألست الشعوب العربية نتجرع غصص اختلافات زعمائها الذين أوصلوها إلى هذه الحال المتردية؟
أليست فلسفة ابن خلدون صحيحة، وهي أن العرب لا تقوم لهم دولة قوية، ولا يحصل لهم اجتماع، ولا ينقاد بعضهم لبعض، إلا بصبغة دينية تجمعهم على الحق؟
ألم تدعم فلسفة ابن خلدون التجارب المتكررة في جميع العصور؟
يا زعماء العرب عودوا إلى ما أنعم الله به على سلفكم، من الوحدة بعد الفرقة، ومن العز بعد الذل، ومن الغنى بعد الفقر، ومن التبعية إلى القيادة:
?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)? [آل عمران]
(يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله) [صحيح البخاري (4/1574) وصحيح مسلم (2 /735)]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============(39/386)
(39/387)
الإسلام والآخرالحوار هو الحل
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير[
صدق الله العظيم
(الحجرات : 13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..
فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..
ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
حمدى شفيق
الفصل الأول
نظرية صراع الحضارات
لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..
وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!(39/388)
و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Fo r cing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .
والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .(39/389)
وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .
وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.
وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .
ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.
وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .(39/390)
ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!
ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :
تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!
وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .
إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .(39/391)
ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .
أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .
وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .
والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة ste r eotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .(39/392)
وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام r يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .
كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .
هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .
المراجع
(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .
(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .
الفصل الثانى
نقد نظرية الصراع(39/393)
تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .
ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .
أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .
هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .
فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .
والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .
ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .
وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .
ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :
• فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية - الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .(39/394)
• وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.
وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟
وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .
• ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .
• ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .
أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .
• وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).
إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا - وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .
وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .(39/395)
وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .
غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.
وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .
والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .
وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .
وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .
إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .
وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .
• فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .(39/396)
إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .
• إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .
• إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .
أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .
وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .
والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .
• • •
إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .(39/397)
وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .
والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :
أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .
ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .
ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .
وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .
وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .
ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .
كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .(39/398)
وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .
ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .
ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .
فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .
وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .
وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .
وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .
ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .
ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .
ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .
المراجع
1. مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .
2. انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.
3. نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .
4. مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .
5. جريدة الأهرام 13/8/1999م .
الفصل الثالث
الحوار هو الحل
فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسو صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :(39/399)
الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .
والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .
والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .
وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .
وأوجز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .
والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .
وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .
مبادىء الحوار فى الإسلام
لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :
1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .
2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .
ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .
وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .(39/400)
3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .
ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .
4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .
وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .
ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .
وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .
5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .
وقد ضرب الرسو صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .
تفاعل مع الآخر
ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .(39/401)
والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .
إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .
وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟
إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .
ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).
تدافع الحضارات(39/402)
ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .
نظرية التعارف
كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..
يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :
نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .
وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .
فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .
ويضيف زكى الميلاد :(39/403)
إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .
وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .
وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :
قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .
ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .
يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .(39/404)
وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .
من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .
كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .
وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .
رأى المؤلف(39/405)
نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .
• والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .
ضوابط الحوار :
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :
• الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .
وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .
• التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .
ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .
وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .
وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .
ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .
وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .
• الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .
فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .
• الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .(39/406)
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).
• ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .
وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .
وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .
ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :
1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .
2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!
4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .
المراجع
1. مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .
2. المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .
3. الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .
4. محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .
(5) موقع البلاغ www.balagh.com .
6. الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .
7. رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .
8. الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.
9. متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .
(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل الرابع
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟
من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :
• لقد عاش الرسو صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .(39/407)
• إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .
• فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .
• دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .
• نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .
قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .(39/408)
ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :
الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .
والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .
فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .
وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .
فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .
شهادة مفكر مسيحى
وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .(39/409)
فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .
وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .
وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟
ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .
وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .
ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!
• ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .
المراجع(39/410)
(1) راجع سيرة ابن هشام - السيرة النبوية لابن كثير - فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .
(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thet r ue r eligion.o r g/conve r ts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .
(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .
(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .
الفصل الخامس
الأقليات فى المجتمع الإسلامى
لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..
• فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .
• واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.
والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).
ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..
ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..
ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله ا صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .
وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .
كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول ا صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :(39/411)
(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..
ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .
ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .
كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .
وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..
والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..(39/412)
كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).
ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .
ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).
وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .
ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول ا صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .(39/413)
ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :
- (كيف أصنع بالمجوس؟
- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :
- أشهد على رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)
فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :
- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .
فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .
وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .
أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .(39/414)
ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى
عقد الأمان
أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .
وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبي صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .
الجزية
وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
• غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .
• أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .
حقوق وواجبات أهل الكتاب
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .
2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .
3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:
• على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
كما أن العهود التى أقامها الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسو صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .(39/415)
كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:
ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .
ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه
فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .
وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .
واجبات أهل الكتاب
واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :
• أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسولم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامى
• والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .
• والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .
النموذج المصرى
إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :
• يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .
• يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..
• يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .(39/416)
• ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .
وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!
حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!
ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا - بوجه الإجمال - فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .
كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..
المراجع
6. تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .
7. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى - طبعة القاهرة 1956م
8. المصدر السابق ص 20 .
9. الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .
10. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127
11. البلاذرى - فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد - طبعة القاهرة 1956م .
12. هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .
13. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .
14. الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .
15. الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .
16. الملل والنحل والأعراق ص 529 .
17. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .
18. آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .
الفصل السادس
المسلمون فى دار العهد
يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..
أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .(39/417)
ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟
أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .
وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .
ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .
وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .
وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .
وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة .
ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .
ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :
(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .
ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .
• يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .
رأى المؤلف(39/418)
ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .
• وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .
• كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!
وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .
فقه الأقليات المسلمة
• وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :
• إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .
• إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .
وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.
• يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .
فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .(39/419)
ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم: (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .
ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .
حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .
أهداف الفقه المنشود للأقليات
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :
أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.
ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .
ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا r فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .
رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .
خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .
سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .
سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .
خصائص هذا الفقه المنشود
ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :
1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.
3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .(39/420)
4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .
5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .
6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .
المراجع
19. أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .
20. تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .
21. الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .
22. د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل السابع
ماذا قدمنا للآخرين ؟
لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..
ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .
وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :
(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .
ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .
وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .
وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .
مدرسة طليطلة
لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .(39/421)
وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :
(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .
(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..
(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .
(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :
- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .
- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .
إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .
ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Manso r i) أى المنصورى التاسع(3).
مدرسة ساليرنو
تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .
ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل - الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .
ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .
الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية
شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .
وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :
مدينة أنطاكية
كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان r egalis Disposite عام 1127م .
مدينة طرابلس
اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .(39/422)
وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .
وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .
وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .
وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .
وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .
ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .
تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .
لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :
(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .
ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .
لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .(39/423)
ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .
وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.
ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .
ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Aviceb r on، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .
كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .
إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .
على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .
ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .
وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .(39/424)
وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .
لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .
ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .
ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .
وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .
ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .(39/425)
ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .
كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .
كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .
ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .
كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .
أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .
وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .
• عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .
• أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .
• أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .
• عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .
• ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .
• ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .(39/426)
وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivi r ) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .
ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (A r senal) ، والغزوة ( r azzia) ، وقالب (Calib r e) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammi r aglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .
وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Du r ra g r ain) ، الطرحون (Ta r ragon)، الباذنجان (Aube r gine) ، البرقوق (Ap r icot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Campho r )، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginge r )، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (O r ange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saff r on) .
وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :
الشفرة (Ciphe r )، العرق (A r rack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algeb r a)، الحبل (Cable)، الزهر (Haza r d) ، الإكسير (Elixi r )، الدمقس (Damask) .
ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .
عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .
إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .
إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .
تعليق(39/427)
لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .
المراجع
(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .
(2) Lucien Lecle r c, Histo r e de la medecien a r abe, Tome 2, P. 343, 345. .
(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .
(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.
(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .
(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .
(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الفصل الثامن
وسائل التواصل
أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..
• وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :
www.jews-fo r -allah-o r g وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .
- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomo r row.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.
www.thet r ue r eligion.o r g/conve r ts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.
www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .
- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .
- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .
وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..(39/428)
ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..
• لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..
صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).
• وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..
ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم . فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!
• ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .
• لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..
ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .
وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..
• ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!(39/429)
• كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!
• وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .
• وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..
• إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!
• وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .
• بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..(39/430)
• كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..
ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!
وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..
• ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..
نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
• نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .
• إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .(39/431)
• دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .
ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
==============(39/432)
(39/433)
قوانين النهضة
د. جاسم سلطان
لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة،
واستخدموها،
وحولوا تيارها،
واستعينوا ببعضها على بعض،
وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد.
( رسالة المؤتمر الخامس )
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أما بعد..
فلقد أشرنا في كتاب "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة"1 إلى الأطوار التي تمر بها أي حضارة، ووصفنا هذه المرحلة التي نعيشها - والتي شارفت على الغروب - بأنها مرحلة الصحوة، تلك المرحلة التي أنبتت نباتاً حسناً بإذن ربها، وأثبتت أن الأمة ما زال بها خير كثير، غير أنها تفتقد إلى دور العقل المرشد والموجه، وإلى الرؤية والاستراتيجية الواضحة.
كما أشرنا إلى أنه قد آن الأوان لتشرق شمس مرحلة اليقظة، التي تسير بتلك الجحافل والجموع المباركة إلى طريق النهضة، من خلال جهود منظمة، ورؤية استراتيجية واضحة، وسياسات قائمة على التعاون والعدل.
وحتى نستطيع دخول هذه المرحلة المرتقبة التي نبشر بها، يجب أن نتعرف على سنن الله في كونه، وعلى القواعد التي تحكم عملية النهوض في أي مجتمع من المجتمعات. لأن أكثر ما يميز مرحلة اليقظة أنها لا تتخذ من الارتجال سياسة ومنطلقاً لها؛ بل هي في انطلاقها تعتمد على أدق قواعد البحث العلمي، وأقصى درجات الإعداد.
والتعرف على قوانين النهضة أمر مهم جداً لكل من يهفو قلبه إلى التغيير، وإلا ضاع فريسة الارتجال. ولقد وجهنا المولى عز وجل إلى أن للكون قوانين ثابتة، فقال تعالى: {فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}2، وقال: {لا تبديل لخلق الله}3. ففي الكون والنفس والسنن الاجتماعية
الكثير من القوانين الثابتة. من أعرض عنها فقد ألغى عقله وأضر بنفسه.
ولو نظرنا إلى موضوع بحثنا، وهو قيام الأمم وسقوطها، وموضوع النهضة، سنجد العلامة الشيخ محمد رشيد رضا يقول في تفسير المنار في قول الله تعالى: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}4 ".. فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غيرها من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء بالتفصيل، عملاً بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه. والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها. والقرآن يحيل إليه في مواضع كثيرة. وقد دلنا على مأخذه على أحوال الأمم، إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها"5 ويقول الشيخ محمد عبده: "ولا يُحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها، فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت الأصول والقواعد، وفرع منها الفروع والمسائل.. ولما اختلفت حال العصور اختلافاً احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما، كانت محتاجة إلى تدوين هذا العلم. ولك أن تسميه علم السنن الإلهية، أو علم السياسة الدينية، سمه بما شئت فلا حرج، فالحياة لم تخلق عبثاً، إنما خضعت لسنن وقوانين، وأمر البشر في اجتماعهم وما يعرب فيها من الصراع والتدافع الحضاري وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة والتداول الحضاري يجري على طريقة قويمة، وقواعد ثابتة، ومن سار على سنن الله ظفر بالفوز وإن كان ملحداً أو وثنياً، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقاً أو نبياً. وعلى هذا يخرج انهزام المسلمين في
أحد، وفي بداية معركة حنين، ويتخرج انهزامهم على الأصعدة المتعددة"6.
هذا المعنى الذي يشير إليه محمد رشيد رضا في تفسير المنار يشغب على كثير من العاملين في المشروع الإسلامي. إذ أنهم يعتقدون أن العلم هو قراءة الفقه وأصوله ومدارسة التفسير، ثم الإعراض عن كل العلوم الأخرى وعن النظر في الكون، وعن التدبر في التاريخ والتجارب الإنسانية، وكل ذلك بحجة قولهم "حسبنا كتاب الله وسنة رسوله"7 وما دروا أن كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم إنما أمرانا بالنظر. وانظر إلى قوله: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}8.
ولقد أشار جودت سعيد في كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم" إلى هذا الصنف من الناس. فيقول: ".. والمصدر الأساسي للعطالة العقلية هي العقيدة العبثية في الكون. اعتقاد العبث واللعب في الوجود. يقول تعالى: }وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين}9 ، ويقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً}10. إن العقيدة العبثية في الكون هي عدم رؤية النظام، وعدم رؤية السنن وعلاقة الطاقة المفكرة الإنسانية بسنن الكون. هذا هو ظن العبثية في الوجود.. هذه الآفة ولدت بعد ذلك أجنتها التي نمت وترعرعت وصار لها أحفاد وذرية. إذ ما دام الأمر يسير على غير سنن نتبعها فلا جدوى من إعمال الفكر لكشف حل أو تغيير الواقع. والقرآن الكريم يطلب منا علماً خارج القرآن، وذلك بالسير والنظر في الأرض إلى آيات الله المودعة في الآفاق والأنفس. فآيات الآفاق والأنفس في القرآن، ولكن(39/434)
مكان طلبها ليس في القرآن إنما في الكون. ومن فقد ملكة العلم لا يعود يستفيد من ملكة الكتاب وإن كانت واضحة بينة. ولكن نحن لم نعد نتعامل مع آيات الكتاب المسطور - أي القرآن - ولا مع آيات الآفاق التي هي الكتاب المنشور إنما نتعامل مع إنتاج المرعوبين الذين تدور أعينهم خوفاً من التبصر. وبدون التبصر تفقد الحياة التي أرادها الله للبشر قيمتها {قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني}11" انتهى كلام جودت سعيد.
مما سبق يتبين لنا أهمية التعرف على قوانين النهضة، وأنها ليست من نافلة القول، أو من الترف الفكري.
إن الحاجة قد باتت ملحة لتأمل التجربة التاريخية البشرية لنستقي منها العبرة. ومن خلال هذه الدراسة التاريخية تم استخلاص هذه القوانين المركزة، والغرض منها تنظيم الخارطة الذهنية لقادة النهضة والعاملين فيها.
وقد تم اختيار هذه القوانين لأن الأمة اليوم في أمس الحاجة إليها. فهناك قصور ملحوظ في مفهوم الأفكار المركزية ودورها، وطبيعة الفكرة المركزية ودورها. وهناك قصور في معرفة دور المحور النفسي. وهناك تشوه في فهم الدور الوظيفي لشرائح إنجاح الفكرة. وهناك أفكار معيقة في التربية. وهناك غياب لمفهوم المؤشرات الحساسة. وهناك صورة ونظرة ضيقة لمفاهيم التدافع والتداول والفرصة التاريخية. ثم هناك ارتباك لأوضاع مرحلة ما بعد التمكين واحتياجاتها. وهذه القوانين تشكل بعض ملامح الإجابة على هذه الاختلالات.
إن القائد العامل في مجال النهضة والتمكين لا غنى له عن فهم هذه القوانين واستيعابها، فهي ليست كتابة إنشلئية بلاغية؛ بل هي أدوات عمل وتحرك نهضوي. كما أن الفرد العامل المفكر الجريء المنتج حريٌّ به قراءتها وتدبرها حتى يُقَوِّم ما يطرح عليه من مقولات وما يطلب منه من مسارات عمل فينتقي لنفسه ويقدر دوره.
والتعامل مع هذه القوانين يتم على مستويين:
فعلى مستوى الفرد يتم تصحيح خارطته المفاهيمية والتصورية، فيحسن التلقي والعمل.
وعلى مستوى القادة والحركات النهضوية يُعلم متطلبات إنجاز مثل هذا العمل وشروط تحققه، فلا تدور عجلة العمل بالسير في المكان وإجهاد الجسد من غير تقدم للأمام.
لقد راعينا في هذه القوانين التبسيط لضمان وصولها لأكثر الشرائح ولأوسع قاعدة من المستفيدين. وتسعة من هذه القوانين تتحدث عن مرحلة ما قبل الدولة، بينما يتحدث القانون العاشر عن مستلزمات النجاح في حالة ما بعد الدولة والتمكين، وذلك حتى تتكامل الصورة في ذهن العاملين عن مستلزمات النجاح.
ونحب أن نوضح أننا لن نتناول القوانين كلها بالذكر؛ بل سنتناول بعضها، ونتعلم كيف يتم التعامل معها. وعلى قائد النهضة أن يُعمِل عقله وفكره لاستخلاص القوانين الأخرى من الكون ومن التجارب التاريخية. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إنها فرصة لتفعيل عبادة التفكر. سواءً كانت تفكراً في القرآن وتجارب السابقين، أو في التجارب التاريخية، أو في الكون المنظور والواقع القريب. وكذلك فرصة لتفعيل عبادة الصلاة، وتلاوة
القرآن من خلال التدبر فيهما لاستخلاص القوانين التي جاءت في معرض ذكر تعامل الله مع الأمم السابقة، أو في بعض الآيات التي أجملت بعض القوانين إجمالاً.
القانون الأول
الفكرة المركزية
منطوق القانون
"لكل نهضة فكرة مركزية وفكرة محفزة"
مفردات القانون
الفكرة المركزية: هي عبارة عن مجموعة المبادئ العامة التي تعتمدها أي دعوة أو حركة أو تجمع. أو المبدأ الذي تعتنقه الدولة، وتنظم حياتها تبعاً لتعاليمه.
وإذا تبنت حركة ما أو دولة ما فكرة مركزية بعينها، يصبح دور الفكرة هو صياغة كل مظاهر الحياة وفقها، وتصبح هي محور حركة الدولة.
الأفكار المحفزة هي التي تخاطب فينا البواعث الداخلية النفسية الدفينة، كالعزة الدينية, والانتصار لمبادئ الإله، أو العزة القومية التي تخاطب المجد والسؤدد، وكالمثالية التي تريد حث الفقراء لمدافعة الظلم وتحقيق المساواة. وبذلك تصبح الفكرة المحفزة هي المحور الذي يتم استقطاب الناس من خلاله. وهي كذلك بالضرورة تعالج مشكلة محسوسة بشكل مباشر للمخاطبين بالفعل.
أهمية القانون
هو أول قانون يجب دراسته دراسة جيدة حيث أن تحديد مفرداته يعني:
1. تحديد ضوابط ومنطلقات العمل النهضوي.
2. تحديد شكل النهضة المنشودة.
3. تحديد خطاب وفكرة الحشد الجماهيري.
ونحسب أن كثيراً من العاملين في مجال النهضة اليوم لا يوجد لديهم تصور واضح للفكرة المركزية وأثرها على التدافع القائم، ولم يضعوا أيديهم على الفكرة المحفزة التي تلمس أوتار قلوب وعقول المخاطبين، وتدفعهم للمشاركة وبذل الجهد، فظلت الحركات والأحزاب والحكومات عاجزة عن تفعيل طاقة الجماهير في المشاركة الفاعلة في التغيير والتنمية.
الفكرة المركزية
ما المقصود بالفكرة المركزية في النهضة ؟(39/435)
إذا نظرنا إلى الحراك الضخم الذي أحدثه الإسلام في الجزيرة العربية - ابتداءً، ثم في بقية أنحاء العالم؛ لوجدنا أن قلب هذا الحراك ومحركه الأساسي هو الإسلام. وإذا نظرنا إلى الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية والدول التي دارت في فلكها، لوجدنا أن محركاً كبيراً مثَّل قلب تلك الحركة، هذا المحرك هو الفكرة الشيوعية.ثم إذا نظرنا إلى حركة المنظومة الغربية سنجد في قلبها الفكرة الليبرالية.
مواصفات الفكرة المركزية
1. تتجسد في أيديولوجيا قادرة على صبغ كل مجالات الدولة بها.
2. قادرة على التعامل مع المتغيرات المستمرة.
3. مركبة بحيث لا يفهمها بدقائقها عامة الناس بسهولة. فلا يلم بها إلماماً جيداً إلا المثقفين وقادة الرأي.
مواصفات الفكرة المركزية
أيديولوجيا تصبغ كل مجالات الدولة
قادرة على التعامل مع المتغيرات
مركبة لا يفهمها عامة الناس
فالفكرة المركزية هي في جوهرها مجموعة من المسلمات والعقائد التي يبنى عليها نظام القيم، ويصطبغ بها نظام المجتمع الأساسي ونظمه.
مكونات الفكرة المركزية
تتكون الفكرة المركزية من جزأين:
1. جزء صلب وهو الذي يعطي الوصف للفكرة.
2. جزء مرن وهو الذي يستجيب لاحتياجات كل مجتمع وخصوصياته.
1. جزأ صلب:
ويتمثل - في الفكرة المركزية الإسلامية - في العقيدة بأركانها الستة على وجه الإجمال. وفي العبادة بالصلاة والزكاة والصيام والحج. وفي العموم كل مستلزمات الشهادتين من فرائض وغيرها. ويدخل في هذا الجزء المعلوم من الدين بالضرورة. وعليه يترتب الولاء والبراء وهو الذي يشكل المرجعية الأساسية.
2. جزأ مرن:
تركه الشارع، وهو على نوعين:
* ما يتراوح فيه الحكم بين خيارات محدودة؛ وهي معظم قضايا الفقه التي جاءت بها النصوص، مثل الخلاف حول "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" هل يدخل الوجه في إطار هذها الأمر كما قال المفتون بالنقاب أم لا يدخل كما قال المخالفون لهم؟ وبالتالي فمساحة الخلاف محدودة بهذين الرأيين.
* الوقائع التي لا نص فيها؛ وهي ما يطلق عليها منطقة العفو التشريعي، حيث يدور الحكم مع تحقيق المصلحة، كما هو مقرر في كتب الأصول، ولكنه مؤطر بمقاصد الشريعة وكلياتها، مثل قضية آليات الحكم وأشكاله، وغير ذلك.
نماذج للأفكار المركزية:
ولنأخذ أمثلة على الأفكار المركزية التي طرحت:
أولاً: الفكرة الليبرالية
يقوم جوهر الفكرة الليبرالية على الفردية. بمعنى أنها تنطلق من فكرة مفادها أن هناك عدم توازن بين سلطات الدولة وحقوق الأفراد، وأن الدولة تسعى - وباستمرار - للتغول واستقطاع حقوق الأفراد، وتنتقص من حرياتهم. وبالتالي فالمبدأ الفردي يقوم على إعطاء أقصى قدر من الحريات للفرد، وحمايته من تغول الدولة على حقوقه. وطغيان وتقديم مصلحة الفرد على المجتمع.
والليبرالية قوامها دنيوي. أي لا تهتم بالبعد الغيبي. فليست هناك حقوق غيبية مقدسة يمكن الرجوع إليها؛ بل هناك أعمال المفكرين وما يتفق الناس على كونه صالحاً ليتعايشوا به.
وقد انعكس هذا الفهم على عدد من الأمور. فمبدأ الليبرالية الثاني وهو الحرية قاد إلى الاهتمام الشديد بتقويض سلطات الدولة، وإطلاق الحريات للناس بشكل كبير. فطرحت الليبرالية تخليص المرأة من سيطرة الزوج والأسرة، وتخليص الأبناء في سن مبكرة من سيطرة الآباء، وتخليص الناس من أن يلقنوا الديانات في المدارس، أو ما شابه ذلك.
ومن مبادئ الليبرالية الكبرى المساواة والتعايش من خلال إعلاء مبدأ العلمانية، فهي ترى أن الناس يمكن أن يتعايشوا رغم الاختلافات ورغم تباين وجهات النظر. وأن هذا التعايش يمكن أن تحل فيه الخلافات بالحوار، وأن المبدأ الأساسي في هذه المجتمعات هو التراضي عبر التصويت، وأن الدستور هو الضامن لما هو متفق عليه، وأنه يجب أن يكون هناك فصل بين السلطات، بين السلطة التنفيذية
مبادئ الليبرالية
الحرية
المساواة
التعايش
التراضي
الدستور
الحوار
المبدأ الفردي: حرية الأفراد وحمايتهم من تغول الدولة
والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.
ثانياً: الفكرة الشيوعية
إذا نظرنا إلى الشيوعية، سنجد أن قلب الفكرة الشيوعية يقوم على تقليص دور الفرد لصالح المجموع. فبحجة حماية مصالح العمَّال، والمصلحة العامة، والقضاء على الطبقة الرأسمالية، وعلى الإقطاع، وعلى استغلال الإنسان؛ تقوم الدولة بالسيطرة على جميع مناحي الحياة وتقييد الحريات، ورسم الحوارات المقننة، وتعريف المساواة بطريقة تجعل الإنسان ترس في الآلة الشيوعية. ولا تقبل الدولة في هذا النظام التعايش إلا بالموافقة على مبادئها والعيش بها. وترى أن التراضي يجب أن يكون بين الطبقة العاملة. وبالتالي يجب قمع بقية الطبقات. والدستور هو دستور الشعب.
فالشيوعية تؤمن بالحرية والحوار والمساواة والتعايش والتراضي والدستور، ولكن بتفسير يصب في مجمله على القضية الرئيسية، ألا وهي تقليص حقوق الفرد لصالح المجموع.
مبادئ الشيوعية
الحرية
المساواة
التعايش
التراضي
الدستور
الحوار
المبدأ الجماعي: تقليص حقوق الفرد لصالح المجموع
ثالثاً: الفكرة الإسلامية:(39/436)
إن جوهر الإسلام هو العدل أو بحسب التعبير القرآني "ليقوم الناس بالقسط"، فيأتي الإسلام ليوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، وينظم هذه العلاقة من خلال نصوص12، سواء أكانت قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، أو ما هو دون ذلك، أو ما هو في منطقة المباح.
وهكذا سنجد أمامنا ثلاثة أفكار مركزية كبرى. تطرح كل منها كلمات مثل الحرية والمساواة والتعايش والتراضي والحوار والدستور وغيرها. لكن ما الذي يفرق بين هذه الأفكار؟
الحقيقة أن هذه الكلمات كالحرية والعدل والمساواة عندما تُجرد بمثل هذا الشكل تسمى مفاهيم. وهذه المفاهيم في حد ذاتها ليست موضع خلاف13. ولكنها تحدد من خلال الفكرة المركزية وتصطبغ بها، ومن هنا يأتي الخلاف.
ولنفهم هذا الموضوع نضرب مثلاً بالحرية. وابتداءً نطرح هذه التساؤلات:
* متى تمنح الحرية؟؟
* كيف تمنح؟؟
* ما هي السعة التي يتحرك فيها الإنسان؟؟
* من يحدد هذا السقف؟؟
سنجد أن هذا السقف في الإسلام يحدده الله سبحانه وتعالى، بينما يحدده الإنسان في كل من الشيوعية والليبرالية.
إن الإطار المرجعي أوالفكرة المركزية لكل مجتمع أو لكل أمة من الأمم هو الذي يصبغ هذه المفاهيم بصبغته، ويكون التصورات لدى هذه الأمم عن تلك المفاهيم. والإطار المرجعي لدى الغرب يتمثل في فكرة الليبرالية، ولدى المجتمعات الشيوعية يتمثل في الماركسية، ويتمثل في الإسلام لدى المجتمعات المسلمة، وهكذا.. وهذا الإطار المرجعي هو من صنع الإنسان في الشيوعية والليبرالية، أما لدى المجتمعات المسلمة فإنه من الوحي.
فإذا قال قائل: إن هناك مفاهيم كثيرة في التراث الإسلامي تشغب على نصاعة الإسلام، وعلى صورته الوردية التي يرسمها دعاة الإسلام!!
نقول له أنه لا يلغى الفكرة الإسلامية بعض الأفكار أو المفاهيم التي دخلت على الفكرة الرئيسة عبر القرون المتطاولة، بل يجب إزالة هذه الحشائش الضارة من هذا التراث الضخم، وأن يؤخذ منه ما هو متفق مع نصوص الإسلام الصحيحة السليمة، وما هو متفق مع أسمى وأنبل ما في
البشرية من أخلاق وقيم.
الإسلام فكرة مركزية من باب الدين و المصلحة
نحب أن نوضح لكل تيارات الأمة أن اختيارنا للفكرة المركزية في مجتمعاتنا الإسلامية ليس فقط من باب الدين - وإن كان هذا هو غاية المنى وأسمى اختيار - إنما هو أيضاً من باب المصلحة. فعلماء الإدارة حين يتحدثون عن التنمية والتغيير في المنظمات والمؤسسات والدول ينصحون بأن يكون متفقاً مع المنظومة القيمية الأساسية داخل هذه المنظمة. وأنه في حالة اختيار منظومة قيمية نقيضة للمنظومة السائدة في هذه البيئة فإن حركة المقاومة ستكون أشد وأعنف. وبالتالي فإن اختيار الإسلام كفكرة مركزية في مجتمعاتنا الإسلامية يسهل عملية التنمية والتغيير. كما أن الإسلام كعاطفة قوية في مجتمعاتنا كفيل بتحريك الشعوب وتحفيزهم للعمل والنهوض من أجل تحصيل الجزاء الأخروي.
ولقد فطن المخططون لقيام دولة إسرائيل إلى هذا الأمر. فرغم أنهم كانوا علمانيين إلا أنهم اختاروا فكرة مركزية دينية تقول بضرورة اجتماع اليهود على أرض الميعاد (أرض فلسطين). وعززوا الخطاب الديني لحشد اليهود من كل أقطار العالم، وسموا دولتهم "إسرائيل" وهو نبي الله يعقوب، فكان اسم الدولة اسماً دينياً، وبذلك فقد اختاروا الخطاب الديني من باب المصلحة.
إن الشيء الذي يجب ألا يكون محل خلاف هو أنه كلما كانت الفكرة المركزية لعملية التغيير متفقةً مع المنظومة القيمية في المجتمع المراد تغييره، كلما كانت عملية التغيير أسرع وأنجح.
إذا تبين لنا ذلك ورأينا أن المجتمعات الإسلامية تعمل جاهدةً على الخروج من حالة الرقود والسكون إلى حالة الحركة والتغيير، عرفنا أنها تحتاج إلى اختيار فكرتها المركزية. وهي قد اختارت بالفعل في مجموعها فكرتها المركزية، ولكن قوى الردة والمقاومة ما زالت تقاوم الفكرة المركزية الإسلامية؛ بل وتدفعها وتؤجلها، وتضربها وتؤخرها، لكنها قادمة بإذن الله سبحانه وتعالى.
إن سرعة اختيارنا للإسلام كفكرة مركزية يوفر علينا آلام التجارب الفاشلة التي قد نمر بها ونحن نحاول استنبات أفكار أخرى في مجتمعاتنا. ونحن قد عانينا بالفعل من هذه التجارب الفاشلة منذ ميلاد حركة النهضة في المجتمعات الإسلامية. و لا زالت تمارس - حتى اليوم - تجارب تلو تجارب، وأفكار تلو أفكار، وكلها تصطدم بالمنظومة القيمية المترسخة في مجتمعاتنا الإسلامية. وتكون النتيجة - بعد عقود من الزمن - خسائر وهزائم ونكسات وتراجعات.
مما سبق يتبين لنا أن كل عملية استنهاض في جوهرها تتبنى ما يمكن أن نطلق عليه فكرتها المركزية. ولكن هذه الفكرة المركزية لا تقوم بتحريك الناس مباشرة، فهي تحتاج إلى عامل آخر مكمل، يمكن أن نطلق عليه الفكرة المحفزة.
الفكرة المحفزة(39/437)
وجوهرها وجود قضية محورية تمس حياة الناس مباشرة. وهي تؤسس خطابها على البواعث الداخلية النفسية الدفينة، كالعزة الدينية،, والانتصار لمبادئ الإله، أو العزة القومية التي تخاطب المجد والسؤدد، وكالمثالية التي تريد حث الفقراء لمدافعة الظلم وتحقيق المساواة، ولكنها تتبنى قضية ملموسة بالنسبة للجمهور المخاطب. وتصبح الفكرة المحفزة هي المحور الذي يتم التركيز عليه لاستقطاب الناس
من خلال مخاطبة المعاني الدفينة، وطرح القضية المحسوسة الملموسة التي تقع في المجال الذي يرى فيه الفرد العادي دوره واضحاً وحاجته إليه ماسة. فيلتف الناس حول هذه الفكرة وينصرونها ويبذلون في سبيلها الغالي والنفيس.
إن الفكرة المركزية وحدها ليست كافية لتحريك الجماهير؛ بل لابد أن يصحبها فكرة محفزة من صلب الفكرة المركزية وتبني على تراثها. فموسى حرك قومه للخلاص من الاضطهاد بحلم الوصول إلى أرض العسل واللبن، أرض فلسطين. والرسول صلى الله عليه وسلم يحرك العالمين للخروج من جور الأديان إلى عدل الإسلام في واقع كان الظلم فيه سائداً. والمصلحون والثوار حركوا شعوبهم من خلال تبني قضايا مستقرة في احتياجات المجتمع وصاغوا منها خطاباً حاشداً للطاقات واضحاً غير معقد. فهذا مارتن لوثر كينج يقود حركة السود في أمريكا بطرح مطالب يستشعرها السود وتتفق مع قيم المجتمع الأساسية، وهي قضية المساواة. وقل ذلك على نيلسون مانديلا وعن حركات التحرير وحركات التنمية المركزة في الصين، حيث الشعور القومي يطالب بصين موحدة مكتفية حرة، لها مكانتها بين الدول، وفلاحين فقراء يستشعرون الظلم الاجتماعي.
مواصفات الفكرة المحفزة
1. فكرة مستقاة من الفكرة المركزية ومنطلقاتها.
2. فكرة غير مركبة وبسيطة جداً تستوعبها عموم الجماهير. مثل الفكرة المحفزة لخطاب الرسو صلى الله عليه وسلم الذي عبر عنه ربعي بن عامر "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، أو لمحمد بن علي مؤسس الدولة
العباسية "الحكم للرضا من آل البيت"، أو للشيوعية حين رفعت شعارات"نريد خبزاً"، "اتحدوا يا عمال الأرض"، أو لليهود "فلسطين أرض الميعاد". إن لمس حاجة المستهدفين بالخطاب هو أحد أهم مفردات النجاح.
مواصفات الفكرة المحفزة
مستقاة من الفكرة المركزية
غير مركبة تستوعبها الجماهير
تتعلق بصورة مباشرة بقضايا الناس
3. فكرة تتعلق بصورة مباشرة بقضايا الناس وهمومهم. ولذلك كان المستجيبون لدعوات الأنبياء والرسل والمصلحين في بداية دعواتهم هم ضعاف القوم الذين يجدون في الفكرة مخرجاً لهم، فيتحملون ويبذلون من أجلها.
ماذا لو غابت الفكرة المحفزة؟!
إن من أهم الأشياء التي يجب أن ينتبه إليها القائد أن تظل الفكرة المحفزة مستعرة في نفوس أنصاره، وأن يذكرهم بها ويؤكد عليها. أما إذا غابت الفكرة المحفزة عن أعين الأنصار، فإنهم يتفلتون وينفضون ويسئمون. فالفكرة المركزية ليست في حد ذاتها كفيلة بالحفاظ على حماس الجموع المحتشدة.
إن من أخطر الأخطاء التي قد يقع فيها قادة مشروع النهضة هي اعتمادهم على الفكرة المركزية في حشد الجماهير دون اختيار الفكرة المحفزة التي تلتقي مع تطلعات هؤلاء الجماهير وتضمن استمرارية الحشد وتعطي للعكل اليومي معناه.
ما هي الفكرة المحفزة التي تتوفر لدينا اليوم ويمكن أن تفجر بها طاقات الأمة؟
لا توجد اليوم أمة إلا وتخلق لها تحدياً يحفزها على النمو والتطور. وانظر إلى المنظومة الغربية عندما كانت تصطدم مع المنظومة الشيوعية، وكانت تجعل هذا حافزاً على التطوير والتصنيع والتنافس. وهكذا كان الخطر الشيوعي يُضخَّم في بلاد الغرب، لكي يتم استغلال أكبر قدر من الطاقات في هذه المجتمعات لعملية التحدي والارتقاء، مع أن كثيرين من المنظرين كانوا يعلمون أن هذه الكتلة كانت تتهاوى وتتراجع، وأن ملكاتها وقدراتها ليست على تلك الكفاءة من الإبداع. ولكن استمرت عملية
التحدي إلى أن سقط الاتحاد السوفيتي، وسقطت معه المنظومة الشيوعية. فبدأ البحث عن تحدٍ آخر يمكن أن يشكل حافزاً لهم، فتكلموا عن الخطر الأخضر( الإسلامي)، ونمّوا هذه الفكرة وطوروها وبنوا لها المعاهد ودارت عجلة البحوث.
هل نحتاج إلى خلق تحديات؟؟
إن عملية استنهاض طاقات أمة من الأمم تصبح في بعض الأحيان مسألة فنية تقنية، يعكف عليها العلماء والمفكرون، حتى يوجدوا تحدياً مناسباً لمجتمع من المجتمعات. ونحن في واقعنا لا نحتاج خلق التحديات. فالتحديات قائمة في مجتمعاتنا وفي مواجهتنا. وما زالت ثلاثية14 التحرير والنهضة والوحدة من أكبر المحفزات التي يمكن الاستفادة منها لإعادة بناء هذه المجتمعات، وتفجير طاقاتها. ولكن تكييفها وطرحها في الخطاب يحتاج إلى معرفة ارتباطاتها بالقضية القطرية المحلية، حيث أن نقطة الانطلاق
العملية لا تتم بخطاب لا يلمس الاحتياجات المحلية لكل قطر. وعلى الحركات والأحزاب والدول أن تختار خطابها الداخلي المفجر والحاشد للطاقات، لتوظفه في عملية النهوض والبناء.
مستلزمات القانون:
1. المعرفة:(39/438)
فمعرفة القانون هي أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة وتشمل:
* معرفة منطوق القانون.
* معرفة الفكرة المركزية وهي الإسلام كنظام شامل والإلمام به كفكرة مركزية تصبغ كل شئون الحياة.
2. الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
تحديد الفكرة المركزية تحديداً دقيقاً وشرحها لقادة النهضة وطلابها والمثقفين في الأمة.15
تحديد الفكرة المحفزة الواضحة لجموع الأمة لحشدهم من أجل عملية التغيير ونهضة مجتمعاتهم.
الاستفادة من التحديات الثلاثة التي تواجهها الأمة - الاستعمار والتخلف والفرقة - في انتقاء الفكرة المحفزة.
3. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة:
اختيار فكرة مركزية من خارج ثقافة المجتمع (محاولة اسنبات الليبرالية والشيوعية في بلاد الإسلام).
اختيار فكرة محفزة لا تتعلق باحتياجات الجماهير وتطلعاتهم المحسوسة (برنامج سياسي لا يلامس الواقع).
إن أمتنا تتوفر لديها فكرة مركزية كبيرة لو أحسن التعامل معها. وفكرة محفزة قائمة يمكن البناء عليها في إطلاق طاقات مجتمعاتنا للنهوض بها، واستخراج أكبر ما عند الإنسان من مخزون مهاري وعقلي وعلمي، ومن جهد عبر استخدام هذا القانون استخداماً مدروساً.
إن تكييف الخطاب السياسي العام انطلاقاً من القضايا الثلاث الكبرى: الحرية والوحدة والتنمية يعني أن ينتقل بها لما هو محسوس. واليوم يمكن أن تُطرح نفس المواضيع من خلال شعار مثل "وحدة المصير"، حيث يرى كل العقلاء أن مشاريع الخلاص الفردي لن تجدي، وأن روح المرحلة هي فكرة وحدة المصير. وهذه أو غيرها قد تشكل قاعدة انطلاق للاحتشاد العام في الحالة الكلية للأمة.
أما الحالات القطرية فلكل منها خصوصيته مع وجود أوجه تشابه كثيرة بين الأقطار. وتستطيع أن تبني من القوى الفاعلة - سواءً كانت حركات أو أحزاب أو دول - قضية محفزة محورية وخطاب الجماهير بها حتى يمكن إطلاقها في ساحة الفعل النهضوي في المجتمع.
وهكذا لابد أن يتضح هذا القانون في أذهان قادة وطلاب النهضة. فلكل نهضة فكرة مركزية وفكرة محفزة.
بمنطوق القانون
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بالإسلام
تحديد الفكرة المركزية
كلما كانت من تراث وثقافة المجتمع كلما كانت أنجح
تحديد الفكرة المحفزة من تحديات الأمة
بحسن اختيار الفكرة مركزية
بحسن اختيار الفكرة المحفزة
معادلات القانون:
فكرة مركزية = أيديولوجيا تصبغ كل مجالات الدولة
فكرة مركزية = جزء صلب + جزء مرن
فكرة مركزية + فكرة محفزة = نجاح على مستوى الحشد
فكرة مركزية - فكرة محفزة = تفلت جماهيري
القانون الثاني
المكنة النفسية
(القوة الدافعة)
منطوق القانون
"لا تغيير إلا إذا حدث تغيير إيجابي في عالم المشاعر"
مفردات القانون
التغيير: عملية التغيير هي انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر. وهذا الانتقال يستلزم ثلاثة أمور:
أولاً: أن نحدد بشكل علمي ماهية الحالة التي ننطلق منها.
ثانياً: أن نحدد ماهية الحالة المطلوب بلوغها أو الوصول إليها.
ثالثاً: يستلزم بعد ذلك قياس الحالة التي نتجت عن تدخلات قادة وطلاب النهضة لمعالجة الواقع.16
تغيير إيجابي في عالم المشاعر: من السلبية والإحساس باليأس إلى التفاؤل والإنجاز والشعور المتجدد بالحياة.
أهمية القانون
يوجد فرق بين تمني شئ ما والاستعداد لتحقيقه. ولا يمكن لشخص أن يكون مستعداً لأمر ما حتى يؤمن أنه يمكنه الحصول عليه. وهذا القانون يحقق البعث النفسي للأمة، والذي يحول بدوره - الأفكار إلى ما يماثلها مادياً. فتتحول النهضة من فكرة إلى حقيقة ملموسة.
شروط البعث النفسي
لقد لخص البنا17 أهم مظاهر الحالة النفسية للأمة في رسالة )دعوتنا( بقوله: "يأس قاتل، وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية، وشح وأنانية". وهذه الحالة النفسية لا يمكن أن تُحدث تغييراً أو تحولاً في الأمة - اللهم إلا التغييرات والتحولات السلبية. فإذا كانت الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها قادة وطلاب النهضة هي تحديد الفكرة المركزية والفكرة المحفزة، فإن الخطوة الثانية تكمن في البعث النفسي لهذه الأمة، وفي إحداث تغيير إيجابي في عالم مشاعرها. وهذا البعث النفسي - أو القوة الدافعة أو المكنة النفسية - له ثلاثة شروط أساسية ليُحوِّل الفكرة المركزية إلى حركة وواقع:
1. الإيمان بالفكرة
ونقصد بها القناعة العقلية والقلبية بالفكرة ونجاحها.
o إيماناً يحول دون التشكك فيها والانحراف عنها.
o إيماناً يولد في النفس شعوراً بصوابها وقدرتها على مواجهة الواقع ومواجهة الاحتياجات.
o أن تتحول فينا الفكرة المركزية إلى فكرة مرجعية، يقاس بها الصواب والخطأ.
فالإيمان بالفكرة يجب أن يتشعب في نفوس المجتمعات وأن يعزز. وكذلك الإيمان بقدرة هذه المجتمعات وبصلاحيتها وبأحقيتها في تبوء مركزها بين الأمم.
2. العزة
الشعور بسمو الفكرة عما سواها من الأفكار.(39/439)
أن ينتشر الاعتزاز بالإسلام، ومظاهره، وأشكاله، ومبادئه، ومفاهيمه. ويجب أن يسود الاعتزاز بجوهر الإسلام قبل مظاهره الخارجية. فالمظاهر الخارجية هي دليل على قوة الالتزام بجوهر الإسلام، فالتميز في أنماط الحياة - فيما نحب وما نكره، وفي أعيادنا وأشكالنا واحتفالاتنا وملابسنا - يدل على شدة الاعتزاز بفكرتنا وما تدعو له. وقد جاء القرآن ليكرم الأمة ويبعث فيها العزة. يقول الله تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}18.
3. الأمل
وهو النافذة الكبيرة التي نفتحها للناس، ليروا أن المستقبل سيكون زاهراً، وأن نهضة أمتنا ستتحقق بإذن الله، ومصداقية هذا الأمر أن تحتشد الأمة في حركة وعمل ومشاريع.
وقد أكد الله في مواضع كثيرة على أن الغلبة لأوليائه والنصرة لهم ليبعث في الأمة الأمل واليقين بتحقق النصر. يقول تعالى:
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}19
شروط البعث النفسي
النجاح في زرع الإيمان
النجاح في زرع
العزة
النجاح في زرع الأمل
اليقين في الفكرة وصوابها
الشعور بعظمة الذات والأمة حاملة الفكرة وملكاتها وقدراتها
اليقين في النجاح
أمة مؤمنة بالفكرة
واثقة بقدرتها على القيام بها
متفائلة واثقة من النجاح
عملية البعث النفسي
مظاهر الإيمان بالفكرة: هو جعلها - أي الفكرة - مقياساً، والحكم بالصواب أو الخطأ على أساسها.
مظاهر العزة: تكمن في تغير أنماط الحياة تبعاً للفكرة وتغليبها على ما سواها، سواء في اللغة والملبس والمشرب وأنماط السلوك.. والشعور بتميز الذات حاملة الفكرة وبقدرتها على التنفيذ (الثقة).
مظاهر الأمل: ظهور الروح الإيجابية والإقبال على العمل.
كيف قام الغرب بزرع المكنة النفسية؟
عندما أدرك قادة الغرب أهمية البعث النفسي لمجتمعاتهم، قاموا بزراعة المكنة النفسية على مسارين:
الأول: إعادة قراءة التاريخ وعرضه
حيث قاموا بتقزيم دور الحضارات المشرقية، والمرور عليها مروراً سريعاً - رغم أن الحضارة الإسلامية وحدها امتدت عشرة قرون كان الغرب حينها في حالة تخلف شديدة - بحيث يخيل للطالب الأوروبي أن الغرب هو منبع الحضارة طيلة العصور20.
الثاني: عمل تراكم في الإنجازات العملية
أسبانيا تطرد المسلمين من الأندلس فترتفع الروح المعنوية للغرب 1492م.
اكتشاف الأمريكتين (مدن الذهب) الذي دفع كل الطموحين للذهاب إلى هناك.
اكتشاف رأس الرجاء الصالح (طريق الحرير الجديد).
حركة الترجمة التي أعقبت الحروب الصليبية والاتصال بعلوم المسلمين.
إعادة قراءة وعرض التاريخ وعرضه
عمل تراكم في الإنجازات العملية
البعث النفسي للغرب
تضخيم الحضارة الغربية
تقزيم الحضارة الشرقية
طرد المسلمين من الأندلس
اكتشاف الأمريكتين (مدن الذهب)
اكتشاف رأس الرجاء الصالح
حركة الترجمة بعد الحروب الصليبية
التحولات العلمية والمخترعات الكبرى
التحولات العلمية والمخترعات الكبرى مثل اختراع آلة النسيج 1768م، والبخار 1769م، حتى اختراع الكهرباء 1879م.
كيف قام الرسو صلى الله عليه وسلم بعملية البعث النفسي في مكة؟
سار الرسو صلى الله عليه وسلم على نفس المسارين في عملية البعث النفسي للأمة العربية:
1. إعادة عرض التاريخ: وقد تم ذلك على محورين:
الأول: من خلال عرض مسار الأنبياء من لدن آدم وحتى مبعث صلى الله عليه وسلم ، وعرض أمجادهم وانتصاراتهم، ثم الإشارة إلى الخط المتصل بين هذا المسار - مسار الأنبياء - وبين الذين اتبعوه، وأنهم لا شك منتصرون كما انتصر أسلافهم. فجعل خطاً رابطاً متصلاً من لدن آدم وحتى صحابته وأتباعه. وقد تم كل هذا
العرض من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
والثاني: من خلال سحب الشرعية عن أهل الكتاب والمشركين وبيان الأسباب.
2. عمل تراكم في الإنجازات العملية: وقد تم ذلك من خلال عدة أشكال:
* إعادة تعريف الهزيمة والنصر: ففي قصة أصحاب الأخدود مثلاً تم الإعلان عن انتصار المؤمنين رغم القضاء عليهم. وهكذا انقلبت موازين النصر والهزيمة. فأصبح بعض ما تراه العين هزيمة يعتبره المسلمون نصراً، وبعض ما يُرى نصراً يعتبره الإسلام هزيمة.
* تقديم إنجازات تبشر الناس بغد أفضل: مثل إرسال الناس إلى الحبشة لينجو بهم من التضييق، وليكون نواة انطلاق جديدة، كذلك دعاء الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين، فكان إسلام عمر نقلة نوعية، وكذلك إسلام حمزة. ثم كانت محاولات القائد المتتابعة لعرض الإسلام على القبائل وطلب النصرة دافعاً للأتباع الذين يرون أن قيادتهم لم تستسلم للأعداء- حتى ولو لم تكلل هذه المحاولات بالنجاح.
* تقديم إنجازات من خلال تصعيد الخطاب: فالكلام في زمن الصمت يعد فعلاً قوياً يحفز الجماهير. لذلك كان القرآن يتنزل في مكة - رغم التضييق - ليحشد الرأي العام المرتقب بخطاب قوي واضح.(39/440)
فكان إعلام قوي ضد أئمة الجاهلية {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}21 كذلك خاطب الوليد بن المغيرة خطاباً
قوياً: {سنسمه على الخرطوم}22 وقال: {ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً. ومهدت له تمهيداً. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيداً. سأرهقه صعوداً}23.
إن هذا الخطاب الواضح - في عهد الاستضعاف - رغم أنه لا يتعدى أن يكون قولاً؛ إلا أنه يتحول عند الرأي العام إلى فعل وأي فعل. فالكلام في زمن السكون فعل، حيث أن قليلين هم الذين يتحدثون24.
3- عمل تراكم في الإنجازات العملية:
الرسو صلى الله عليه وسلم والبعث النفسي
إعادة عرض التاريخ
عمل تراكم في الإنجازات العملية
إعادة تعريف النصر والهزيمة
تقديم إنجازات فعلية
تصعيد الخطاب
الإشارة إلى الخط الرابط المتصل من لدن آدم وحتى تابعيه
سحب الشرعية عن أهل الكتاب والمشركين
حسن عرض الإنجازات العملية
آلة إعلامية ضخمة تعلن عن الإنجازات وآثارها الإيجابية بشكل مؤثر
ونحب هنا أن نؤكد على أمر ثالث: وهو أن التراكم في الإنجازات العملية وحده لا يكفي، بل لابد من حسن عرض هذه الإنجازات على المجتمع لتتولد عنده القوة الدافعة. فالفعل الإيجابي المؤثر وحده لا يكفي؛ بل لابد أن تتبعه آلة دعائية إعلامية تعلن عن الإنجازات وعن آثارها الإيجابية بشكل مؤثر. وسنشير لاحقاً إلى آليات البعث النفسي.
وإذا نظرنا إلى شروط البعث النفسي الثلاثة (الإيمان والعزة والأمل) ومعايير تحقيقها على أرض الواقع، سنجد الإسلام قد غير الروح المعنوية للأمة في مواجهة الآخرين ببعث المشاعر الثلاثة من خلال:
1. الإيمان برسالة الأمة.
2. والاعتزاز باعتناقها والانتماء للأمة.
3. ثم الأمل في تأييد الله لها.
كما سنجد اليابانيين عملوا على بعث شعورهم في عصرنا الحديث من خلال:
1. الإيمان بقدراتهم.
2. والاعتزاز بشعبهم.
3. ثم الأمل في أن يصبحوا القوة الأولى.
وكذلك الألمان في عصرنا عملوا لبعث شعورهم على نفس المحاور:
1. الإيمان بقدرتهم على النصر.
2. الاعتزاز بتفوق العرق الآري.
3. الأمل في أن يصبحوا إمبراطورية عظمى.
ولننظر كذلك إلى بعث شعور اليهود بقوميتهم وعلى نفس المحاور كجزء من المشروع الصهيوني.
ولننظر إلى المكنة النفسية الأمريكية اليوم وما تحاول أن تفعله.
ولكن هل تتم عملية البعث النفسي بهذه السهولة أم أنها تجد من الصعوبات ما يجعل تحقيقها من أشق خطوات الفعل النهضوي؟؟!!
الحرب النفسية
إن ساحة الفعل النهضوي مليئة بالصراعات والمتناقضات. ففيها الصديق والمتحالف والمحايد والخصم. وبنفس القدر الذي نحاول به بعث المكنة النفسية في مجتمعاتنا يستخدم الخصم الحرب النفسية لتحطيم هذه المشاعر الثلاث: (الإيمان والعزة والأمل).
يقول أحمد نوفل في كتابه "الإشاعة": "..الحرب النفسية هي الاستخدام المحقق للدعاية25، أو ما ينتمي إليها من الإجراءات الموجهة للدول المعادية أو المحايدة أو الصديقة، بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك شعوب هذه الدول بما يحقق للدولة المواجهة أهدافها.."26
إذن هناك طرف معادٍ يقوم بالدعاية بأسلوب مخطط، في محاولة غزو نفسية المجتمعات العربية والإسلامية. ويحقق أهدافه من خلال هذا التلاعب بالأفكار والعواطف عند الآخرين. ويقول المؤلف في موضع آخر: ".. ولقد آتت هذه الحرب أكلها، ووصلت إلى نتائجها، لأول مرة في تاريخ المسلمين، هزيمةً روحيةً وشعوراً بالتفوق المنهجي الغربي"27 ويقول تشرشل: "كثيراً ما غيرت الحرب النفسية وجه
التاريخ."28
إن الحرب النفسية حقيقة واقعة على مجتمعاتنا من قبل أعدائنا. وهي حرب لديها برامجها وفكرتها المركزية وفكرتها المحفزة. وهي حين تغزو المجتمعات، فهي تعتقد أنها هشة، وأنها قادرة على امتصاصها، والتلاعب بها، وتُستخدم في توجيه هذه المجتمعات، بحيث تنساق وراء مطالب الدول المهيمنة.
ويقول محمد صفا في كتاب "الحرب": ".. المحاربة النفسية تتجه بكل ثقلها للضغط على الأعصاب، فتلقي في روع السامع شعوراً بعقم المقاومة وحتمية الهزيمة.."
وهكذا سنجد أن الحرب النفسية تتميز بالقدرة على تدمير الإرادة الفردية وإحداث التدمير الاجتماعي. "..وترتبط الحرب النفسية ارتباطاً وثيقاً بظاهرة الرأي العام وشروط تكونه والثبات عليه أو تغييره. وهي تلعب الدور الرئيس والمميز في تكوين هذه الشروط. وهنا يتدخل علم نفس الجماهير كلاعب أساسي على مسرح الحرب النفسية.."29
ما هي المواضيع الرئيسة للحرب النفسية؟
لقد حفل التاريخ القديم والحديث بنماذج متعددة من الحرب النفسية، والتي شملت المواضيع التالية:
* دس الذعر.
* شتم العدو وتحقيره.
* دس الشائعات ونصب الفخاخ.
* تضخيم قوة الصديق والمبالغة في حجمها.
* إثارة البلبلة والتوتر والفضائح.
* الحيلة والإيحاء.
* الترغيب والترهيب والتضليل ورسم الآمال الخيالية.
* استغلال الانشقاقات الدينية والعقائدية أو خلقها.
* التهديد بالسلاح المتفوق.
* عقيدة العدو افتراءً غير محق.
إلى ما هنالك من مواضيع أخرى.30(39/441)
كيف تتلقى الجموع هذه الحرب النفسية؟
وحتى نعلم كيف تتلقى المجتمعات هذه الحرب النفسية الموجهة يجب أن نشير إلى أقسام الرأي العام31 في فترات السكون ثم في مراحل الأزمات.
أولاً: في فترات السكون والدعة:
سنجد أن المجتمعات تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبيرة:
1. عقل قائد: وهم صفوة المجتمع من القادة والمفكرين والعلماء والساسة، وهؤلاء نسبتهم ضئيلة في المجتمع، وهم يصنعون الدعاية ولا يتأثرون بها.
2. عقل مثقف: وهم المتعلمون والمثقفون الذين يشاركون في صناعة الرأي العام والتأثير على من دونهم من حيث الثقافة.
3. عقل العوام: وهو يمثل الرأي العام الشعبي. وهو ما يمكن أن يطلق عليه (رأي أنثوي)، أي يهتم بالعواطف وينساق وراءها، ولا يُحَكِّم العقل.
4. ثانياً: في فترات الأزمات:
وسنلحظ هنا ظاهرة عجيبة. وهي اختفاء الشريحة الثانية في أوقات الأزمات. حيث يتحول العقل المثقف إلى عامي وبالتالي ينضم المثقف إلى الرأي العام العامي. وبذلك نجد أمامنا شريحتين: عقل القائد وعقل العامي.
ولهذا السبب تتجه القيادات السياسية دائماً إلى مخاطبة الرأي العام العامي وليس المثقف في أوقات الأزمات. فنجد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مثلاً يتحدث عن الخير والشر، وعن الأخيار والأشرار عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد.
أصناف الرأي العام
قائد
مثقف
عامي
ونحب أن نؤكد هنا أن الجهل بنفسية الجماهير وكيفية تقبلها للأفكار يحول دون إمكانية حشدها وبعثها نفسياً. ومن المبادئ التي يجب الاهتمام بها عند التعامل مع الجمهور32:
1. الجمهور لا يقبل الأفكار المركبة وإنما يهتم بالشعارات والرموز والصور.
2. الجمهور بحاجة إلى قائد يجسد الفكرة ويرى فيه الأمل.
3. لا يظل الرأي مستثاراً لفترة طويلة إلا إذا شعر الناس بأن صالحهم الخاص يتصل بهذا الرأي اتصالاً قوياً.
4. الجمهور - كقاعدة عامة - يعترض على مواقف لا على مباديء، ومن ثم قد تحدث تغيرات فجائية في الرأي إذا تعدل الموقف.
5. دخول قوة شخصية جديدة تمثل بوضوح مسألة من المسائل، قد يحدث تغييراً مفاجئاً في الرأي. أما الأسباب والبراهين فقلما كان لها سيطرة ثابتة على عقول معظم الناس.
6. يصاب الرأي العام بحالة من الإثارة في حالة إذكاء الروح العسكرية والتبشير بالنصر.
7. يتأثر الرأي العام ويتقرر بالأحداث أكثر من تأثره بالكلمات.33
نماذج للحرب النفسية
نموذج فيتنام وأمريكا
إذا نظرنا إلى التجربة الأمريكية في فيتنام سنجد دولة عملاقة متفوقة حجماً وموارداً وعلماً وتقنية وقدرة تدميرية، تتجه إلى شعب فقير أعزل تريد أن تحاصره، وأن تسيطر وتهيمن عليه. فتنطلق في حرب مدمرة ضده، وتجتذب إليها نصف الشعب ليقف معها، وحكومة عميلة تمارس دور العراب، أو حصان طروادة ،لكسر هذا الشعب الفيتنامي، وتقاوم حركة المقاومة.
وإذا أمعنا النظر في هذا النموذج سنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية المتفوقة تستخدم كل الأسلحة الممنوعة في تلك اللحظة التاريخية ضد حركة المقاومة الفيتنامية. ومن الناحية العملية لا يمكن للثوار ككتلة أن يصمدوا أمام هذه الآلة العسكرية. ولكن يبقى أمام المستضعفين استراتيجية واحدة: وهي إطالة أمد الحرب، وزيادة تكاليف بقاء الخصم. فاستخدموا أسلوب حرب العصابات، وحروب الكر والفر، وحرب الغارات، والهجوم المضاد، بمجموعات صغيرة. وقد كان بإمكان العملاق الأمريكي الضخم أن يدهس أي قوة تواجهه - وإن كانت كتلة كبيرة - ولكن عندما تكون الهجمات من مجموعة من البراغيث التي تلسع فتدمي ثم تفر؛ تحدث عملية الاستنزاف لهذا الفيل الضخم، عبر هذه البراغيث الكثيرة. وهكذا استمرت عملية ليْ الذراع أو العض المتبادل. وكانت الحرب حرب إرادات. وجهت فيها الولايات المتحدة الأمريكية كل آلاتها الإعلامية والدعائية، وكل إجراءاتها لإقناع الطرف الآخر- وهم الفيتناميون- باستحالة تحقيق أهدافهم وحتمية هزيمتهم.
ثم ماذا كانت النتيجة؟! انتصر الطرف الأضعف على الطرف الأقوى؛ لم يعد الفيل قادراً على الصمود، وأصبحت تكلفة البقاء أكبر بكثير، من الفائدة من البقاء، وانتصرت الإرادة، ولم تنكسر نفسية الفيتناميين.
من أين جاءت هذه النتائج التي قلبت المعادلة؟! إذا اتفقنا على أن الولايات المتحدة حاربت الفيتناميين بنسبة عشرين في المائة للحرب النفسية، وثمانين في المائة لحرب الآلة، فقد استطاعت المقاومة الفيتنامية قلب المعادلة بحيث أصبحت الثمانون في المائة حرباً نفسية والعشرون حرب آلة؛ لأنه إذا ما تم كسر إرادة الخصم، لم يعد هناك حاجة إلى استخدام الأدوات، فالأدوات فقط من أجل إقناع الطرف الآخر بعدم جدوى المحاولة بحيث يقع في روعه - كما يقول محمد صفا - الشعور بعقم المقاومة، وحتمية الهزيمة.
هذا النوع من الأداء، أعطى مؤشراً واتجاهاً آخر للحروب؛ فأصبحت الحروب اليوم تتجه في كتلتها الأساسية إلى المحاربة النفسية. إذ تلقي في روع الخصم عدم جدوى المقاومة، وأن الحرب لا محالة منتهية لصالح عدوه، وبالتالي عليه الاستسلام.
الحالة الإسرائيلية مع الحالة العربية(39/442)
إذا نظرنا إلى الحالة الإسرائيلية مع الحالة العربية، سنجد أن هذا الكيان الصغير يؤثر على مجموعة كبيرة جداً من الدول، ويقودها إلى الاستسلام!! وهذا ما لم يكن ممكناً لولا استخدام فن المحاربة النفسية بكثافة شديدة وعنيفة، ما أدى إلى انكسار إرادة قادة أغلب هذه الدول أمام تلك الأوضاع.
آليات البعث النفسي ومواجهة الحرب النفسية
وإذا كانت الحرب النفسية تريد أن تقنعنا كأمم وشعوب بعقم المقاومة، وحتمية الهزيمة، فالمطلوب منا أن نواجه المعركة الضخمة من الحرب النفسية - التي مجالها العقول والنفوس، والتي تستخدم فيها الكلمات والعبارات والإجراءات- بحرب نفسية مضادة، أو بعملية إنقاذ نفسية، إن صح التعبير.
آليات للبعث النفسي
ومواجهة الحرب النفسية
الدعاية
الإعلام
التعليم
المباشرة
غير المباشرة
التنسيق بين كل الجهات لتفعيل المكنة النفسية
وفي آليات البعث النفسي: فإن واجب الإعلام اليوم هو الاهتمام بأدوات التعليم. وواجب قادة الدول الإسلامية وحكوماتها هو إعادة صياغة الخطاب الجماهيري. وإعادة صياغة التعليم، وكل أشكال التوجيه؛ لإيجاد كتلة حرجة مؤمنة بإمكانية النجاح، ومحصنة ضد عوامل اليأس. وهذا يحتاج إلى تعاون بين المفكرين وبين قادة هذه المجتمعات وحكوماتها، وبين قادة الرأي وبين العاملين في الإعلام، والتعليم؛ حتى تصبح نظرية الحرب النفسية مفهومة، وتصبح جزءاً من تكوين الفرد المسلم العربي في مجتمعاتنا. لابد من فهم مؤكد لقضية المحاربة النفسية، وأثرها في التأثير على المجتمعات.
إذن لابد من باعث نفسي داخلي كبير، ليتم تغيير الواقع الخارجي. فانتصار الطرف الآخر علينا - داخلياً في أفكارنا ونفوسنا - يعني عملياً انتصاره علينا في واقعنا. أما انتصارنا على أنفسنا في الداخل، فيعني إمكانية تحقيق النتائج في الخارج.
وخلاصة القول أنه لا نجاح للفكرة المركزية إذا لم ينجح البعث النفسي34. والبعث النفسي يبدأ من الفرد والمجموعة المؤمنة بمشروع النهضة وينتهي بالأمة معقد الآمال.
ونجاح هذا البعث النفسي يتطلب:
* أولاً: إعادة عرض الفكرة المركزية وتاريخها.
* ثانياً: عمل تراكم في الإنجازات العملية.
* ثالثاً: توظيف إنجازات الآخرين لصالح المشروع.
* رابعاً: حسن عرض الإنجازات.
فإعادة عرض التاريخ واختيار المواطن التي تغرس العزة والأمل أمر في غاية الأهمية. كما أن الإنجازات الفعلية أمر لابد منه. خاصة في مجتمعاتنا التي أرهقتها التحديات. يقول دووب: "يظل الرأي العام كامناً إلى أن ينشأ موضوع يشغل اهتمام الناس - والموضوع الذي يشغل اهتمام الناس لا ينشأ
إلا عندما يكون هناك صراع وقلق وإحباط".35
ومن هنا نفهم خطورة المقاومتين الفلسطينية والعراقية على المشروع الغربي. فالمجتمعات والشعوب العربية والإسلامية تدرك تماماً أن هاتين المقاومتين تُحارَبان من قِبَل الجيوش المحتلة، ومن قِبَل أجهزة استخبارات تلك الدول. ومع ذلك لا تزال تلك المقاومة تصر على الفعل المُقاوِم، بل وتحرز الكثير من الإنجازات والمكاسب. فهي بذلك تُجرئ الشعوب العربية والإسلامية على الفعل المقاوم، وتبعث فيهم المكنة النفسية والقوة الدافعة من خلال تراكم الإنجازات العملية على أرض الواقع. ومن هنا تأتي الخطورة الحقيقية للمقاومة على مشاريع الاحتلال. فهي تَجْرِييء للشعوب على المقاومة، ليُفاجأ المحتلون بأنهم لا يحاربون مجموعة أو مجموعتين من المقاومين؛ بل يحاربون الشعوب كلها، وهو ما يهدد مشاريع الاحتلال في صميمها.
أما قضية استثمار إنجازات الآخرين التي تصب في صالح المشروع فلا يزال التخندق - الذي يخيم على بعض العاملين في النهضة- حائلاً دون ذلك. فبعض التيارات لا تعرض سوى إنجازاتها، ولا تعرض إنجازات غيرها ممن قد يخالفها في المدرسة الفقهية أو في مجالات العمل. وهم بذلك يضيقون واسعاً، ويظنون أنهم - وحدهم - ممثلو الأمة، بل وبعضهم يزيد على ذلك فينقد أي إنجاز لتيار آخر، ويخرجه من دائرة الإنجازات.
إن هذه العقلية الطفولية التي لا تنظر لصالح الإسلام ومشروعه هي عقبة كئود في طريق النهضة، وهذه النظرة أرهقتنا كثيراً في مرحلة الصحوة ونتج عنها مشاحنات وخلافات بين أبناء
المشروع نفسه. لسان حال بعض هذه التيارات: {لو كان خيراً ما سبقونا إليه}36. ومرحلة اليقظة تتطلب الإنصاف في عرض الإنجازات، والإيمان بأنها كلها ملك للأمة، وأنها جهود من تيارات مختلفة تعددت اجتهاداتها، فتنوعت إنجازاتها. لقد آن للمشروع أن تقوده عقليات قائدة - تجمع لا تفرق - لا تنظر إلا سفاسف الأمور بل توظف كل إنجاز لرفع الروح المعنوية للأمة. ويكفي أن الوحي بشر بانتصار الروم - وهم ليسوا مسلمين - ليرفع معنويات الأمة آنذاك. قال تعالى: {غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}37.
إن استثمار كل إنجاز لأي تيار وعرضه للجماهير أمر هام جداً في عملية البعث النفسي.(39/443)
وتبقى النقطة الأخيرة وهي حسن عرض الإنجازات واستخدام كل الوسائل والتكنيكات الحديثة لتحقيق ذلك مع دراية جيدة بنفسية الجماهير وكيفية تشكل الرأي العام لديهم.
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل:
+ معرفة منطوق القانون ومعناه.
+ الإلمام بعلوم الإعلام والدعاية السياسية والرأي العام38 والحرب النفسية كأدوات في الصراع.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
إعادة عرض التاريخ.
عمل تراكم في الإنجازات العملية.
توظيف إنجازات الآخرين.
حسن عرض هذه الإنجازات بما يتمشى مع أدق قواعد علوم الدعاية السياسية والرأي العام.
ولعل المهتمين بالعمل الإعلامي والتعليمي والخطابي في مشروع النهضة لهم دور كبير في استخدام هذا القانون.
3- عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية إذا لم يتم استثمار إنجازات جميع العاملين
في ساحة الفعل النهضوي، أو إذا أسيء عرضها أو استخدامها.
كما تتم مصادمة القانون إذا تم التعامل مع هذه الإنجازات بصورة ارتجالية غير علمية، وإذا لم يتم استخدام أدوات الدعاية السياسية والرأي العام والحرب النفسية.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق ومعنى القانون
إعادة عرض التاريخ
عمل تراكمي في الإنجازات
توظيف إنجازات الآخرين
توظيف وعرض الإنجازات
التعامل العلمي
بأدوات التأثير على الجمهور
حسن عرض الإنجازات
معادلات القانون:
وجود فكرة مركزية وفكرة محفزة + بعث نفسي وروح إيجابية = استعداد للعمل والانطلاق.
القانون الثالث
التغير الذاتي
منطوق القانون
"لا تغيير إلا إذا حدث تغيير إيجابي في عالم السلوك"
مفردات القانون
التغيير: عملية التغيير هي انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر.
تغيير إيجابي في عالم السلوك: ويُقصد به تحول إيجابي في ممارساتنا وواجباتنا اتجاه الخالق واتجاه الذات واتجاه الخلق.
أهمية القانون
إن سنة التغيير هي سنة مجتمع لا سنة أفراد. وهي سنة دنيوية لا أخروية. فلابد أن يغير المجتمع نفسه أولاً حتى يُحدث الله التغيير في أحواله الخارجية39. ولا يحدث هذا التغيير إلا بإيجاد الكتلة الحرجة النوعية التي تفقه هذا القانون وتعرف كيف تتعامل معه.
ونقصد بالكتلة الحرجة هنا وجود كم من الأفراد يمكن بواسطة جهودهم الانتقال من حال إلى حال بعد استيعابهم في العملية التغييرية. فإن الكم البشري النوعي الذي يلزم لنجاح أي عملية من عمليات الانتقال من حال إلى حال يختلف من حالة إلى حالة ومن ظرف إلى آخر. ولكن في كل حالة من هذه الحالات لابد من وجود الكتلة الحرجة التي في غيابها لن يحدث التغيير المطلوب.
مجال التغيير الذاتي
إن تغيير الواقع الداخلي هو المحرك الرئيس في التغيير الخارجي. ويقول الله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغير من بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}40. فالتغيير الخارجي في أحوال قوم ما أو مجتمع ما أو أمة ما لا يمكن أن يتم حتى يحدث هذا التغير الداخلي داخل هذه الأنفس.
مجال التغيير الداخلي:
وللتغير الداخلي مجالان: الأول مجال الفكر (العقل)، والثاني مجال المشاعر (القلب). وهناك ارتباط جذري بين هذين المجالين. فعندما يصح عالم الأفكار، وتصبح الفكرة المحفزة قوية وملحة، فإنها تشعل داخل النفس طاقاتها، وتحرك فيها تلك المشاعر من الحب والكره، وتتولد القوة الدافعة أو المكنة النفسية. وبالتالي تنطلق طاقات الإنسان في محاولته لتحقيق فكرته على أرض الواقع. فالتغيير الداخلي في الأفكار والمشاعر أمر أساسي لنجاح حركة التغيير. فعندما تتغير الأفكار والمشاعر، يحدث سلوك جديد، ومن ثم نتوقع أن تكون النتائج أيضاً مختلفة.
مجالات التغيير الداخلي
مجال الفكر
(العقل)
مجال المشاعر
(القلب)
مثال:
فعندما تغيرت أفكار الغرب في لحظة تاريخية ما عن أفكار الكتاب المقدس - في دينهم - بما فيه من أمور رأوا أنها تقيد العقل، وتحد من طاقات الإنسان، وتطالبه بالانعزال عن الكون، وألا يستمتع بجسده أو بالكون من حوله بدعوى الرهبانية، انطلقت فكرة جديدة تدعو إلى:
*
* تحرير العقل.
* إطلاق الطاقات.
* البحث في كل مجال.
* التساؤل عن كل الكون.
* اعتماد العقل كمرجعية في تنظيم المعارف.
* تنظيم المعلومات.
* اعتماد الحجة والبرهان.
* عدم التسليم بمقولات الآخرين.
ومع انتشار هذه الأفكار وغيرها، والحماس لها، ووجود الفكرة المحفزة في هذه اللحظة - وهي مقاومة الفكرة الرجعية السائدة، التي كانت تريد تقييد العقل - ولدت القوة الدافعة. فانطلق العلماء في تحد ضخم، وانطلقت المجتمعات في تحد كبير للأفكار القديمة البالية، وللتيار الذي يمثلها، لتنطلق وتفتح الآفاق، وتجدد الحياة من حولها.(39/444)
هذا السلوك الجديد الذي نشأ عن تغير أفكار الناس ومشاعرهم، نتج عنه تغير سلوكي في عمليات البحث والتقنين والاختيارات وما إلى ذلك. وبالتالي بدأت النتائج الخارجية تتغير لهذه المجتمعات، وبدأت تثمر في ميادين الثقافة والفكر والعلوم التطبيقية والفتوحات والهيمنة والسيطرة على المجتمعات الأخرى.
فالله تبارك وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي حتى تتغير لديهم هذه المنظومات العقلية المقيدة، وتولد عندهم الفكرة المحفزة والروح التي تدفعهم لتحويل هذه الأفكار إلى واقع في حياتهم وذلك عبر التحولات والتغيرات السلوكية الإيجابية.
إذن لدينا قضية كبيرة في عالم الأفكار الداخلي، فالناس لديها عقائد وتطبيقات، ولديها مسلمات مختزنة في عقلها، وهذه إما أن تكون من النوع الحي المحرك الذي يفتح الآفاق، أو النوع المغلق الذي يغلق كل الآفاق.
المطلوب ثلاثة أنواع من التغيير:
1. تغير إيجابي في عالم الأفكار. وهو الجزء الذي يغذيه العلم والخبرة، بشتى أنواعها.
2. تغير إيجابي في عالم المشاعر من السلبية والإحساس باليأس إلى التفاؤل والإنجاز، والشعور المتجدد بالحياة. قال تعالى مبشراً عباده المؤمنين بالنصر: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}41، ودعانا رسول ا صلى الله عليه وسلم لحسن الظن بالله فقال ناقلاً عن رب العزة في الحديث القدسي {أنا عند ظن عبدي بي}42.
3. تغير إيجابي في عالم السلوك والممارسة.43
وهكذا فإن اختيار الفكرة المركزية، واستخدام الفكرة المحفزة، ثم اجتثاث الأفكار المعطلة والقاتلة التي تعيق حركة الإحياء الإسلامي، وتعيق تقدم المسلمين، كل ذلك من متطلبات العصر، ويجب أن تتحمله الأمة الإسلامية وهي تنطلق إلى مستقبلها الواعد إن شاء الله عز وجل. فإذا تمكنت الأمة بعد هذه المعالجات العقلية من أن تبعث عالم المشاعر والأحاسيس، وتزرع المكنة النفسية والقوة الدافعة في المجتمعات العربية والإسلامية، فستنطلق هذه المجتمعات نحو التغيير والنهوض عبر التغير الحادث في عالم السلوك والممارسة.
مراحل وأسس التغيير
وتمر عملية التغيير - سواءً كانت في الأفراد أو المنظمات والهيئات أو الدول - بأربعة مراحل كبرى:
1. مرحلة الإنكار: وفيها يسود الاعتقاد بهدوء وسكون الأوضاع. وتواجه أي صيحة تبشر بالتغيير بالدهشة وعدم التصديق.
2. مرحلة المقاومة: وفيها تبدأ تباشير التغيير بالظهور، فتتعرض العملية التغييرية للمقاومة من قِبَل الجاهلين بها، والمستفيدين من ثبات الأوضاع. فتُوضع العراقيل، ويشتد الغضب على القائمين على العملية التغييرية، وتُكال لهم التهم والنعوت حتى ينفض الناس عنهم.
3. مرحلة الاكتشاف: حيث يشتد عود العملية التغييرية بعد عبورها للمرحلتين السابقتين، فيُقبل الناس على دراسة هذا الأمر الجديد والتعرف عليه. وتثار تساؤلات كثيرة، مثل ما الذي سيحدث لنا في حالة كذا؟ وكيف سنواجه تلك المعضلة؟ وكيف سنفعل كذا؟ وغيرها من التساؤلات حول الفكرة وطبيعتها.
4. مرحلة الالتزام: وفيها يتساءل الناس عن أدوارهم في هذه العملية التغييرية بعد أن تعرفوا عليها واكتشفوها واقتنعوا بجدواها وأهميتها.
مراحل التغيير
مرحلة الالتزام
مرحلة الاكتشاف
مرحلة المقاومة
مرحلة الإنكار
وهنا يثار تساؤل هام حول أسس العملية التغييرية. سواءً كانت للأفراد أو الحركات أو الدول والمجتمعات.
إن لعملية التغيير ثلاثة أسس كبرى:
1. تعلم التعلم: فأول ما يجب غرسه في الأفراد أو المجتمعات التي تتعرض لعملية التغيير هو تعلم كيفية تحصيل المعرفة والعلم. وقديماً قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: "لا تعطني سمكة كل يوم ولكن علمني كيف أصطاد السمك".
2. كسر الأماني والعادات: فعملية التغيير غالباً ما تكون مصحوبة بالآلام والجراح والصعوبات، ولا تتم بسهولة وسلاسة ويسر. لذا فكسر العادات التي تأسر المرء وتتحكم فيه وتمنعه من التضحية
والبذل من أهم أسس التغيير.
3. تغيير السلوك: فعملية التغيير في جوهرها هي الانتقال من حال لآخر. تغيير كامل وشامل في الأفكار والعلاقات والسلوك؛ بل والأشياء. فتغيير السلوك بما يناسب الحالة الجديدة المطلوب تحقيقها أمر بالغ الأهمية.
أسس التغيير
تغيير السلوك
كسر الأماني والعادات
تعلم التعلم
مستلزمات القانون:
1- المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل معرفة القانون القدرة على الإجابة على الأسئلة التالية:
* من المطلوب تغييرهم؟
* وتغييرهم إلى ماذا؟
* وهل المطلوب تغييرهم في جانب واحد أم في جميع الجوانب؟
* ومن الذي سيقوم بالتغيير؟
* وكيف؟
* وإذا كان آخرون قد تغيروا فكيف حدث لهم ذلك التغيير؟
* وما مقاييس أو معايير التغيير؟
* وما المؤشرات الدالة على نجاح عملية التغيير أو فشلها؟
* ما عناصر مقاومة التغيير؟
* وما الجهات التي تقاوم التغيير؟
* وما المدى الزمني للتغيير؟
* وما أهمية أدوات الدولة في التغيير؟
* وأخيراً أين نقرأ عن التغيير؟44(39/445)
وليس لهذه الأسئلة إجابة واحدة؛ بل إن الإجابة عليها تختلف باختلاف الزمان والمكان والظرف. لذا لا يستطيع طلاب النهضة وقادتها في بقعة ما أن يقولوا بمعرفتهم بهذا القانون قبل أن يجيبوا إجابات قاطعة على التساؤلات السابقة.
وهكذا نلمس أهمية هذا القانون، وأنه يكاد أن يكون خطة عمل كاملة لتغيير المجتمعات والنهوض بها.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال إيجاد الكتلة الحرجة النوعية التي تستطيع قيادة العملية التغييرية.
3- عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية إذا لم يتم الإجابة على التساؤلات الخاصة بالعملية التغييرية.
كما تتم مصادمة القانون إذا تم التعامل مع هذا القانون بشيء من السذاجة والعفوية.، كالانشغال بإصلاح جانب دون آخر.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالتغيير
إيجاد الكتلة الحرجة
الإجابة على التساؤلات
عدم تغيير جانب دون آخر
معادلات القانون
وتوضح هذه المعادلة مدى الترابط والتلازم بين هذه القوانين الثلاثة الأولى من قوانين النهضة. ويمكن توضيح هذا التلازم والتفاعل من خلال الشكل التالي:
1) الفكرة المركزية تخاطب العقل
2) تلامس القلب فتكون
القوة الدافعة
3) تحولات سلوكية تؤدي إلى التغيير في الواقع الخارجي
اختيار الفكرة المركزية + استخدام الفكرة المحفزة + بعث عالم المشاعر والأحاسيس= تغير في عالم السلوك والممارسة
القانون الأول الفكرة المركزية
القانون الثاني
المكنة النفسية
القانون الثالث التغير الذاتي
الخلاصة
وهكذا يتبين لنا مما سبق، أن هذه القوانين الثلاثة السابقة تمثل منظومة ثلاثية واحدة. تخاطب العقل من خلال الفكرتين المركزية والمحفزة. وتخاطب القلب والروح من خلال المكنة النفسية أو القوة الدافعة. وأخيراً تقود إلى التغيير من خلال التحولات السلوكية الناجمة عن الاقتناع بالفكرة وملامستها للقلب.
وخلاصة القول أن قيام الأمم والحضارات ونهوضها يعتمد بالضرورة على وجود فكرة صلبة تقتنع بها الأمة. لتولد هذه الفكرة قوة دافعة هائلة تبعث الأمة من رقادها وسباتها، وتكون بمثابة البعث النفسي لها. وأخيراً تأتي التحولات السلوكية الناتجة عن ذلك البعث النفسي لتكون أولى خطوات الأمم نحو التغيير والنهوض.
أما سقوط الأمم فينتج عن فشل الفكرة في مخاطبة العقل، أو فشلها في ملامسة القلب. وبالتالي تفقد الأمة الفكرة الصلبة الجامعة، فتسقط وتهوي.
القانون الرابع
اختيار الشرائح
منطوق القانون
"تحتاج أي نهضة لشريحة بدء وشريحة تغيير وشريحة بناء"
مفردات القانون
الشريحة: ونقصد بها المجموعة من الناس التي تتقارب مستوياتهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والمهارية، بالإضافة إلى تقارب أهدافهم وإمكاناتهم. وسنستخدمه هنا بمعنى أوسع يقترب من فريق أو طائفة.
شريحة البدء: وهم الرعيل الأول من الناس الذين يجتمعون حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، ويستعدون للتضحية من أجلها. وليس بالضرورة أن ينتمي كل أعضاء شريحة البدء لطبقة أو شريحة اجتماعية معينة؛ بل قد يكون هناك خليط من أكثر من طبقة أو شريحة.
شريحة التغيير: هي الفئة القادرة على إعطاء المنعة، والتمكين أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي "ذوو الشوكة" الذين يستطيعون تغيير الأوضاع.
شريحة البناء: وتشمل كل فصائل المجتمع الذين يساهمون في بنائه وتقدمه بعد نجاح العملية التغييرية وهيمنة الفكرة المركزية. لذا فهي تضم المؤمنين بالفكرة وغير المؤمنين بها.
أهمية القانون
إن تحديد الشريحة الملائمة للمرحلة التي يمر بها المشروع في غاية الأهمية. إذ أن أكثر التجارب الفاشلة إنما فشلت للخلط بين هذه الشرائح. لذا فإنه يمكننا القول بأن من لا يفقه قانون اختيار الشرائح لا يمكن أن ينجح. وسيفقد اتجاهه ويدور حول نفسه.
اختيار شرائح التغيير
عادةً ما تبدأ عملية التغيير من نقاط أو قضايا ملحة. حيث تتكون رؤية جديدة من التشكل الاجتماعي، أو يبرز تيار يرغب في المغالبة، أو فئة محرومة، أو دين جديد، أو قضية جديدة، كنقطة تبدأ منها عملية الحراك.
وتحتاج كل حركة تغييرية إلى ثلاث شرائح مختلفة. حيث تعبر كل شريحة عن طبيعة المرحلة التي تمر بها الحركة التغييرية. وهذه الشرائح الثلاث هي: شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة البناء.
شرائح التغيير
شريحة البدء
شريحة التغيير
شريحة البناء
شريحة البدء:
وهم الرعيل الأول أو المجموعة الأولى التي تطلق شرارة التغيير، وتنادي بأفكارها. إلا أنهم لا يملكون من الإمكانات والمهارات - كمجموعة وشريحة - ما يمكنهم من إحداث التغيير بأنفسهم. ولا يعني هذا أن أفراد هذه الشريحة لا يملكون مواهب أو إمكانات؛ إنما نقصد أن هذه الشريحة في مجموعها لم تصل إلى النقطة الحرجة من الإمكانات والمهارات التي تؤدي إلى حدوث التغيير.(39/446)
ولننظر إلى شريحة البدء التي تجمعت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة. فقد تكونت من أناس آمنوا بالفكرة الجديدة إيماناً جازماً قويا.ً فتجمعوا حولها وحول قيادتها، وبدءوا في الدعوة إليها والتبشير بها في المجتمع المكي.
وقد ضمت هذه الشريحة النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، والأحرار والعبيد، والأقوياء والضعفاء. إنهم خليط من الناس الذين اجتمعوا حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، فآمنوا بهذه الفكرة، وأخذوا يدعون إليها، وكانوا على أتم الاستعداد للتضحية والبذل في سبيلها.
وبالرغم من أن هذه الشريحة ضمت العديد من الكوادر النوعية التي تملك الكثير من المهارات والقدرات والإمكانات كأبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في المجال الاقتصادي، ومصعب بن عمير في مجال التمثيل الدبلوماسي - إن صح التعبير - وعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب في القوة والشدة والفروسية وغيرهم؛ إلا أن تلك الشريحة لم تكن تملك في مجموعها القوة الكفيلة بإحداث التغيير وقلب ميزان القوى لصالحها؛ بل إن إسلام حمزة وعمر - الذيْن أعز الله بهما الإسلام - لم تزد ثمراته عن إعلان المسلمين عن أنفسهم وشعائرهم.
دور الشريحة
ويكاد ينحصر دور شريحة البدء - في مجموعها - في التبشير والتعريف بالفكرة، والثبات عليها والصمود أمام الترغيب والترهيب الرامي إلى إثنائها عن التبشير والدعوة للفكرة.
وهنا يجب التنبيه إلى أن شريحة البدء لها عمر افتراضي محدد. وأن لتلك المرحلة التي تمثلها هذه الشريحة وقتاً ودوراً محدديْن. أما إذا طال أمدها ولم يتم الوصول إلى شريحة التغيير تفقد هذه الشريحة
الاتجاه، وتصاب بحالة أشبه بالشلل الفكري والتنفيذي. حيث أنها تعتقد بقدرتها على إحداث التغيير. بينما يؤدي فشلها المتكرر - نتيجة لعدم توفر الكتلة الحرجة من القوى والإمكانات - إلى فقدان الثقة بالنفس، واليأس من إمكانية التغيير، فتعلو الصيحات المطالبة بالاكتفاء بإصلاح الأوضاع الفاسدة بدلاً من تغييرها، فتخبو نبرة القوة وتلين حدة الفكرة.
مواصفات الشريحة
ومن مواصفات هذه الشريحة الثبات والصبر والصمود والقوة، والقدرة على التبليغ والتعريف بالفكرة، وعلى الدخول بها في مساحات لم تكن قد طرقتها من قبل. كإسلام القبائل غير القرشية كقبيلتي غفار ودوْس45. كما تتصف هذه الشريحة - في مجموعها - بالاعتماد شبه الكامل على القائد46.
وهكذا نجد أن إيجاد هذه الشريحة يكاد يكون نقطة البداية الطبيعية لأي حركة أو عملية تغييرية نهضوية.
دور القائد في هذه المرحلة
أما دور القائد في هذه المرحلة فهو رسم الطريق لأتباعه وتأمينهم وحمايتهم بكل طريقة ممكنة، بالإضافة إلى البحث الدءوب عن الشريحة القادرة على إحداث التغيير.
شريحة التغيير:
عادةً تحتاج المشاريع الكبرى كالمشاريع الحضارية، والنهضوية، والمشاريع الأيديولوجية - والتي تهدف إلى استنهاض المجتمعات وتنميتها - إلى القوة التنفيذية لإنجازها. بمعنى أنها تحتاج إلى دولة تملك حق تطبيق هذه الأيديولوجيات أو المشاريع الحضارية على المجتمعات التي تهيمن عليها. وحتى يخطو المشروع هذه الخطوة فهو يحتاج إلى شريحة ثانية. ويمكن تعريف هذه الشريحة، بأنها الفئة القادرة على إعطاء المنعة والتمكين (توفير أداة التنفيذ)، أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي "ذوو الشوكة" الذين يستطيعون نقل دعم الفكرة بقوة الدولة وما تمتلكه من إمكانات.
ولا نعني بكلامنا هذا إلغاء دور شريحة البدء في عملية التغيير؛ ولكننا نقصد أن شريحة البدء لا تمتلك - في مجموعها - أدوات القوة اللازمة لإحداث التغيير. سواءً أكانت تلك القوة المطلوبة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها. وهنا يأتي دور شريحة التغيير التي تمتلك - في مجموعها - هذه القوة المطلوبة، فتمضي الشريحتان معاً - الرعيل الأول وذوو الشوكة - لإحداث التغيير المطلوب.
شريحة البناء:
وعندما تتوفر للفكرة أدوات التنفيذ، وتقوم الدولة المنشودة؛ تأتي مهمة شريحة البناء. وهي شريحة تشمل كل فصائل المجتمع؛ المؤمن بالفكرة وغير المؤمن بها. فيساهم في عملية البناء مختلف الطاقات والفصائل والتيارات الموجودة في المجتمع كجزء من التحولات الاجتماعية والحراك الاجتماعي، مع تفاوت في مساهماتها في عملية البناء. وهنا يلزم عقد اجتماعي يعمل على استيعاب جميع شرائح المجتمع وفئاته بحيث تصبح أداة من أدوات التنمية وتجنيبها أن تصبح عصا لوقف عملية التنمية.
الشرائح الثلاث معاً:
الشريحة الأولى، وهي نقطة البدء سواءً كانت تجمع النوع الذي التف حول المصطفى صلى الله عليه وسلم أو كانت حزباً أو تجمعاً أو حتى أفراداً فهي عبارة عن طليعة أوعقل مفكر. إنها كيان صغير. قد يكون هامشياً ومعزولاً، وقد يكون في قلب الأحداث، لكنها على كل حال نقطة بدء.(39/447)
ثم تأتي الشريحة الثانية بعدها، وهي الفئة القادرة على إعطاء المنعة والتمكين، إذا ما وجدت المبرر لذلك. ثم تتحرك شريحة البناء -والتي تضم كل طاقات المجتمع مجتمعة - من أجل نصرة الفكرة. ولا يُفَعَّل دور هذه الشريحة (البناء) إلا بعد توفر الأداة التنفيذية (الدولة) وبناء العقد الاجتماعي العادل الذي ينصف كل الشرائح.
اختيار الشرائح
والمعضلة الحقيقية التي يعاني منها العاملون في مجال النهضة هي الخلط بين هذه الشرائح الثلاث أو الجهل بها. فكثير من التجمعات أو التيارات والمؤسسات لا تعدو كونها شريحة بدء، ولا تمتلك من الكوادر النوعية وأدوات القوة المناسبة ما يؤهلها لإحداث التغييرات المأمولة. فتدخل في صراعات نتائجها محسومة مسبقاً لصالح الخصم، بدلاً من الانشغال بالوصول إلى شريحة التغيير المؤهلة لإحداث النقلة المطلوبة.
وسنجد أن بعض التجمعات والتنظيمات هي أقرب ما تكون في كوادرها وعقلياتها وقدراتها إلى شريحة البناء المنوط بها إدارة المشروع عقب الوصول إلى الأداة التنفيذية، بينما يزج بهم قادتهم في عمليات تغيير محسومة لصالح الخصم. فيخسر المشروع كوادره الصالحين لعملية البناء بعد التغيير.
نفهم من ذلك أن الخلط أو الجهل بهذه الشرائح يؤدي إلى كوارث حقيقية في ميادين التغيير. كما يصيب أفراد هذه الشرائح بالإحباط واليأس والشعور بالعجز.
إذا تبين لنا خطورة الخلط بين الشرائح الثلاث أو الجهل بها، وقرر قادة النهضة وطلابها ضرورة اختيار الشريحة المناسبة لكل مرحلة، نجد أمامنا معضلة أخرى كبيرة. فشريحة البدء يسهل تكوينها بأي صورة من الصور. فاجتماع أناس حول فكرة ما واقتناعهم بأهميتها، ثم إنشاء منظمة أو تنظيم أو حزب أو جماعة لمحاولة تنفيذ هذه الفكرة على أرض الواقع أمر في غاية السهولة. ولا أَدَّلُ على ذلك من كثرة التنظيمات والجماعات والفصائل والتيارات في العالم الإسلامي؛ بل وفي العالم كله. فالتنظيمات والتجمعات أكثر من أن تحصى. إنما المعضلة الحقيقة التي تقف أمام المشاريع، هي الوصول إلى شريحة التغيير القادرة على نقل المشروع من مجرد تنظيم أو تيار أو جماعة تُحارَب وتُقاوَم إلى دولة تحمل المشروع وتذود عنه وتصبغ المجتمع به.
ويظن البعض نتيجة لقراءاتهم للتاريخ، أو تقليداً لمقولات الأقدمين، أن هناك طريقة واحدة للوصول إلى هذه الشريحة التي لديها المنعة. ولكن الدراسة التاريخية المركزة تشير إلى أن عملية الوصول إلى هذه النقطة، والانتقال بالمشروع من طور الاستضعاف إلى طور التمكين، له من الوسائل ومن الاختلافات ما بين فصول السنة وما بين الليل والنهار وما بين تعدد الألوان والظلال في الكون. فالساحة مفتوحة للتفكير والتصور والتخيل؛ لا تحدها حدود.
خيار الرسول
ولننظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فلقد ظل رسول ا صلى الله عليه وسلم يدعو أهله وأصدقاءه وعشيرته المقربين سراً مدة ثلاث سنوات. بعدها كان الجهر بالدعوة. فكانت دعوة كبراء مكة للإسلام، واتباع القيادة الجديدة. وظل رسول ا صلى الله عليه وسلم يرجو أن يؤتي هذا الخيار ثماره بإسلام القيادة المكية - شريحة التغيير - التي تستطيع نقل الفكرة الإسلامية من جماعة مضطهدة مستضعفة إلى دولة - إن صح التعبير - تملك تطبيق البرنامج الإسلامي على كل المجتمع المكي وتصبغه بالصبغة الإسلامية. ولكن هذا الخيار لم يؤتي ثماره. فالقيادة المكية ظلت على شركها، وظلت مقاومة ومعاندة.
وبدءاً من العام العاشر للبعثة، أي بعد سبعة سنوات من محاولة الوصول لشريحة التغيير المكية، وإحساس صلى الله عليه وسلم بعدم جدوى هذه المحاولة، انتقل الرسو صلى الله عليه وسلم إلى محاولة الحصول على شريحة التغيير من خارج مكة، من خلال الاتصال بالقبائل المحيطة، فكانت البداية بخروجه للطائف - ثاني أكبر قبيلة بعد قريش. وفي هذا يقول المقريزي: "ثم عرض r نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم:
1. بنو عامر،
2. وغسان،
3. وبنو فزارة،
4. وبنو مرة،
5. وبنو حنيفة،
6. وبنو سليم،
7. وبنو عبس،
8. وبنو نصر،
9. وثعلبة بن عكابة،
10. وكندة،
11. وكلب،
12. وبنو الحارث بن كعب،
13. وبنو عذرة وقيس بن الخطيم،
14. وأبو اليسر أنس بن أبي رافع".47
فإذا أضفنا إلى هذه القبائل محاولة الطائف ومحاولته مع أهل يثرب سنجد أن مجموع المحاولات التي قام بها الرسو صلى الله عليه وسلم للوصول إلى الشريحة التغييرية يصل إلى ستة عشر محاولة.
ثم لننتقل إلى نوع الخطاب الذي كان الرسو صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى هذه القبائل. يقول المقريزي:
".. وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟"48.
وسنلاحظ هنا وضوح دور الشريحة في قوله "فيمنعني". أي أنه يريد القوة والمنعة والشوكة ممن
يستجيب له من القبائل.49
وإذا انتقلنا إلى نوع التفاوض الذي تم، ونوع الشروط التي تم وضعها، سنجد أن الهدف الأساسي هو الوصول إلى قوة قادرة على وضع المشروع في موقع التنفيذ من خلال كامل أجهزة الدولة وطاقاتها وملكاتها وقدراتها.(39/448)
وحتى عندما حصل رسول ا صلى الله عليه وسلم على الشريحة ذات الشوكة تدرج في مفاوضاته معها. فكانت البيعة الصغرى أو بيعة النساء. وسنجد أن بنود هذه البيعة خاليةً من قضية المنعة، وامتلاك القوة. لأن صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الجزم بعد بإمكانيات هذه الفئة القادمة التي قد لا تمتلك مثل هذه القوة المطلوبة. وهكذا
أرسل رسول ا صلى الله عليه وسلم مبعوثه مصعب بن عمير إلى يثرب ليرفع واقع المجتمع اليثربي، وللوصول إلى الشريحة القيادية التغييرية هناك.
أما بيعة العقبة الثانية فكانت مع أهل المنعة. وكانت مع قيادات يثرب الذين يستطيعون أن يدعموا المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقوة التنفيذية.
إذن هذا السعي المتعدد، هو وليد دراسة البيئة. فقد كان تكوين البيئة السياسي تكويناً تمتلك فيه القبائل جيوشها الخاصة. وكان يمكن الانتقال إلى قبيلة ذات منعة، لتكوين أول نواة تمتلك قوة حقيقية، كما تمتلك سلطتها التنفيذية.
بعض العاملين في الساحة النهضوية يقفون عند هذا النموذج. ولا يرون فيه المفهوم بل يرون فيه الإطلاق. بمعنى أنهم يتركون المفهوم وهو ضرورة الوصول إلى الشريحة ذات الشوكة والمنعة ويأخذون التجربة على إطلاقها بمعنى أهمية الهجرة وتكوين جيش كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والحقيقة الساطعة للعيان أن من يتبع الإطلاق ويفتقد المفهوم يعاني من خلل في تصوره عن المفهوم الأساسي وهو أهمية الوصول إلى القوة التنفيذية، أياً كانت طبيعتها، والتي تختلف بالضرورة باختلاف الزمان والمكان والظروف.
الخيار الروسي
أما في تجربة الثورة البلشفية في روسيا فقد كان الثوار الروس يفكرون في كيفية الوصول إلى هذه المنعة، والوصل إلى الفئة التي تستطيع أن تنقل السلطة التنفيذية إليهم؟! وهنا وقع اختيارهم على طبقة العمال. فالحزب الشيوعي حدد نقطة البدء، وحدد الشريحة التي ستنقل إليه المنعة والقوة، فاختار عمال المصانع.
والدولة الروسية كانت من الدول الصناعية - وكانت ساعتها متخلفة صناعياً عن بقية أوروبا - التي تعتمد في اقتصادها على المصانع والصناعات المختلفة. ومن المعروف أن الذين يحركون هذه المصانع هم العمال. وبذلك فإنهم يمثلون عصب الاقتصاد الروسي. وعندما تمكن الثوار الروس من الوصول إلى هذه الشريحة أصبحوا بالفعل يتحكمون في الاقتصاد.
ولما كان المال هو أحد أعصاب القوة الرئيسة للدولة كانت السيطرة عليه تجعل الثوار يمتلكون زمام المبادرة والقدرة على إحداث التغيير، وفرض إرادتهم وإملاء شروطهم على النظام القيصري الذي كانوا يعملون على إزالته.
الخيار الصيني
وحتى الصين في نهضتها الحديثة لم تهمل هذا القانون. فرغم اختيار ماوتسي تونج للشيوعية كوسيلة لتطوير الصين إلا أنه لم يستنسخ التجربة الروسية؛ بل اختار شريحة أخرى مغايرة للشريحة التي اختارتها الثورة الروسية. فبينما كانت شريحة العمال هي الشريحة المؤثرة في روسيا كانت شريحة
الفلاحين هي الشريحة المؤثرة في الصين. لذا اعتمد ماوتسي تونج على الفلاحين لإسقاط النظام الإمبراطوري الإقطاعي.
التجربة العباسية
وإذا درسنا نموذج قيام الدولة العباسية، سنجد أن العباسيين قد راهنوا على التبشير في منطقة نائية هي منطقة خراسان. وبالرغم من أن القوة المتطلعة للتغيير هي قوة عربية إلا أن اختيار أهل خراسان كان بناءً على مواصفات ومعايير محددة. وضعها مؤسس الدعوة العباسية محمد بن علي بن عبد
الله بن عباس. حيث نجده يقول: {"إن الشام أموية ولا يعرفون إلا آل أبي سفيان، والبصرة عثمانية -نسبة إلى عثمان بن عفان- أي يدينون بالكف عن القتل والقتال، ويقولون كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، والكوفة شيعة علي، وأما الجزيرة- بين دجلة والفرات- فخوارج مارقة، أعراب مسلمون في أخلاق النصارى، وأما مكة والمدينة فتعيشان على ذكرى أبي بكر وعمر50، وأما خراسان ففيها العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء". فأهل خراسان بتعبير اليوم هم " مادة خام".}51 هذا بالإضافة إلى بعدها عن مركز الدولة في دمشق.
هذا التعدد والتنوع والتلون في اختيار الشريحة المناسبة لعملية التغيير، وفي اختيار التموقع المناسب لشريحة البدء لا تحده حدود، وليس له نمط واحد أو طريقة واحدة. والفكر الإنساني والتجربة البشرية غنية ومليئة بالتجارب والأفكار والإبداعات والابتكارات. لذلك فإن الفئات التي تتكلس
حول تصور واحد حول ما يجب عمله، وتغلق عقلها ولا تترك لخيالها العنان ليبدع ويبتكر؛ لا يمكن أن تحقق نهضة. فهذه الاختيارات الجامدة والتقليد الحرفي، يحول دون التفكير المهتدي بسنن الله سبحانه وتعالى في الكون.
الشرائح التغييرية
ويمكن تقسيم الشريحة التغييرية طبقاُ للاعتبارات التالية:
1. الأعمار: طلاب أو ما فوقهم.
2. الطبقة الاجتماعية: عليا أو وسطى أو دنيا.
3. المهن: العمال أو الفلاحين أو المثقفين أو التجار أو العسكريين.
4. المستوى التعليمي: أساسي أو جامعي.
واختيار الشريحة المناسبة عمرياً واجتماعياً ومهنياً وتعليمياً يعتمد على ثلاثة عوامل:
1. تصور التغيير.
2. وسيلة التغيير.
3. عمق التغيير(مدى التغيير المطلوب هل هو شامل أم جزئي؟).(39/449)
الشريحة التغييرية واعتبارات التقسيم
الأعمار
* طلبة
* ما فوقهم
الطبقة الاجتماعية
* عليا
* وسطى
* دنيا
المهن
* عمال
* فلاحين
* مثقفين
* تجار
* عسكريين
المستوى التعليمي
* أساسي
* جامعي
ويعتمد الاختيار على
تصور التغيير
وسيلة التغيير
عمق التغيير
أما بعد التمكين فالمجتمع يحتاج إلى كل طاقاته، سواءً المختلفة دينياً أو مذهبياً أو طائفياً أو عرقياً. فكل ما يمكن أن يكون جزءاً من المجتمع فالمجتمع في حاجة إليه. ويمكن استثماره في عملية البناء ما وجد الإنصاف والعدل. وكثيرٌ ممن يدعون إلى الإصلاح والتغيير تقوم أفكارهم وتصوراتهم على إقصاء الآخرين عقب التمكين. وهم بذلك واهمون ومخطئون. لأن عملية بناء الدولة تسبقها مرحلتين:
* مرحلة البقاء.
* ومرحلة الاستقرار.
وهاتين المرحلتين تمثلان مقدمتان ضروريتان للبناء.
فعادةً بعد أن تتمكن حركة أو تنظيم أو تجمع ما من إحداث التغيير والوصول إلى القوة التنفيذية فأول ما يواجهه هو تحدي البقاء أو الوجود. بمعنى أن يستطيع السيطرة على زمام الأمور ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تحدث عادة مع التغييرات. فإذا تمكنت هذه القوة الناشئة من تخطي هذا التحدي وأصبح القضاء عليها أو إزالتها مستحيلاً تبدأ مرحلة البحث عن الاستقرار، لتبدأ بعدها مرحلة البناء. وفي هاتين المرحلتين الأوليين - البقاء والاستقرار - يحتاج المجتمع إلى طاقات كل أبنائه على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم. فإذا ما قامت الحركة التغييرية بإقصاء البعض، وكيل الاتهامات للبعض الآخر، ورفضت الاعتماد إلا على أبنائها، فإنها لن تستطيع تخطي هاتين العقبتين (تهديد الوجود والاستقرار).
لذا فإن المجتمعات التي ستفتقد العدل لاحقاً من الأفضل لها ألا تقوم، لأن الذي سيحدث بعد قيامها أنها إما أن تفقد نصاب البقاء، وإما أن تفقد نصاب الاستقرار، وبالتالي لا يحدث النماء الذي وعدت بتحقيقه.
العدل
لابد أن تكون المنظومة الفكرية لفئات التغيير صحيحة. وخاصة حول قانون العدل الحقيقي، قبل أن تباشر عمليات التفكير في التغيير الاجتماعي. فمراجعة المنظومات الفكرية الموجودة عند حركات التغيير في المجتمعات العربية والإسلامية، مقدمة ضرورية للحصول على نتائج جيدة بعد أن تدفع التكاليف الغالية في عملية التغيير.
وكل الكتب السماوية تدعو أن يقوم الناس بالقسط. وإذا افتُقد العدل تحت أي مسمى أو شعار ديني أو مذهبي أو طائفي فلابد أن تنتكس الأمور بعد ذلك. هذه المسألة يجب أن تكون من أولويات التفكير النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
تساؤل
ماذا إذا فقدت أي جماعة التصور الواضح عن شريحة التغيير، وانحصرت في عملية التجميع المستمر دون رؤية لطريق التغيير؟!
تخيل معنا أن شركة أو مؤسسة ما لها ضوابط معينة، يتم فيها تجميع موظفين بصورة مستمرة، ثم لا يوجد عمل حقيقي لهؤلاء الموظفين، ولا يوجد تصور لتفعيلهم خلال برنامج زمني، بل يحاول
رؤساء الشركة إلهاءهم بأي نوع من الأعمال. ماذا سيحدث بعد أن تنتقل هذه الطاقات إلى ساحة الفعل؟!
هذا الاحتقان المزمن داخل هذه الشركة، سينتج عنه احتكاكات وصراعات وتفجرات كثيرة. وستتحول الطاقة المبدعة من محاولة معالجة قضايا الواقع الخارجي إلى محاولة معالجة الواقع الداخلي وتشققاته وشروخه، وعندها تنتكس كل عمليات التبشير التي تمارسها مثل هذه الفئة.
وإذا كنا قد صدَّرنا كتابنا "النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة" بباب العلم قبل القول والعمل فذلك لأهمية العلم. فكثير من أبناء وقادة الحركات التغييرية يفتقدون العلم الحقيقي بقضية التغيير، وأدوات تحقيقه ومراحله. فهم يعتقدون أن هذا التغيير يحدث بطريقة غيبية. لا يعلمون كيفيتها ولكنهم يعتقدون في حتمية حدوثه!!
العامل الزمني
إن العامل الزمني خطير جداً لأي شريحة بدء، ذلك أن وصول قادة هذه الشريحة إلى شريحة التغيير التي تصل بالمشروع إلى أداة التنفيذ (الدولة) يكون هو شغلها الشاغل، ونلحظ أن الرسو صلى الله عليه وسلم وهو يبحث عن الشريحة، كان ما يشغله هو طلب المنعة والنصرة، وإلا فقدت شريحة البدء الاتجاه، فشريحة البدء ليست عرضة لأن تتعاقب عليها الأجيال، فتمر الأجيال تلو الأجيال، والشريحة ساكنة لا تبحث عن شريحة التغيير. إنه التحدي الكبير الذي يواجه قادة شريحة البدء، إذ العثور على شريحة التغيير هو ضمان استمرارية المشروع نحو أهدافه، أما شريحة البناء فهي التي تتعاقب عليها الأجيال لترفع البناء طبقة تلو طبقة في عقود تتلو عقوداً.
مستلزمات القانون:
4. المعرفة:
فمعرفة القانون هو أول ما يجب على قادة وطلاب النهضة. وتشمل المعرفة القدرة على الإجابة على التساؤلات المتعلقة بشرائح التغيير ومواصفات كل شريحة، والأعمال أو الأدوار المختلفة التي تستطيع الشرائح القيام بها، وطبيعة دور القائد مع كل شريحة.
2- الاستخدام:
فالقانون إن تمت المعرفة به وجب استخدامه في التغيير استخداماً محنكاً، وذلك من خلال:
اختيار الشريحة المناسبة لكل مرحلة.(39/450)
عدم تكليف الشريحة بأكثر مما تحتمل. فما تطالب به شريحة البدء غير ما تطالب به شريحة التغيير غير ما تطالب به شريحة البناء.
الاستفادة من التجارب البشرية المختلفة.
3. عدم المصادمة:
وتتم مصادمة القانون والحصول على نتائج عكسية في حالة اختيار شريحة واحدة لكل الأدوار، أو تكليف كل شريحة بما لا يناسبها. أو أن يطول أمد البحث عن شريحة التغيير52.
مستلزمات القانون
المعرفة
الاستخدام
عدم المصادمة
بمنطوق القانون
حسن اختيار الشريحة
عدم الخلط بين الشرائح
ألا يطول زمن البحث عن شريحة التغيير
الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالتغيير
التمييز بين الشرائح عند استخدامها
الاستفادة من التجارب البشرية
اختيار شريحة التغيير المناسبة
معادلات القانون
* شريحة بدء = حملة الفكرة الأوائل
* شريحة تغيير = ذوو الشوكة
* شريحة بناء = أصحاب الطاقات من كل اتجاه
* شريحة بدء + زمن طويل = فقد الاتجاه
* مشروع تغييري - شريحة تغيير = مشروع خيري تربوي
القانون الخامس
القوة والخصوبة
منطوق القانون:
"إن قوة الأمم ونهضاتها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة"
مفردات القانون:
الخصوبة: ونقصد بها حيوية الأمة وقدرتها على إنتاج العدد الكبير من الرجال القادرين على النهوض بها بلا انقطاع.
الإنتاج: ونقصد به المُخرَج أو الناتج النهائي لعمليات الانتقاء والتربية والإعداد اللازمة للفرد لكي يتمكن من المشاركة في عمليات التغيير والتحول الاجتماعي.
أهمية القانون:
إن قوام أي حركة نهضوية هم الرجال. وبدون هؤلاء الرجال الذين يأخذون على عاتقهم تحويل الأفكار إلى واقع؛ يبقى المشروع أسير النظريات. فإعداد الرجال وتجهيزهم لحمل المشروع والانتقال به ضرورة لا غنى عنها.
أسئلة محيرة:
إن قضية التربية أو إعداد الرجال تُعد من أهم القضايا والملفات التي ينبغي أن يهتم بها العاملون في مشروع النهضة. وقد تعددت الاجتهادات وطرحت الكثير من الآراء حول هذا الموضوع في مرحلة الصحوة، إلا أنه لا زالت هناك أسئلة كثيرة تحير القادة والعاملين في المشروع. ومنها على سبيل المثال:
* من هم الرجال المطلوب إعدادهم؟
* من الذي سيعدهم؟
* على أي شيء سيتم إعدادهم؟
* ما هو المخرج النهائي للعملية التربوية؟
* كم تستمر هذه العملية التربوية؟
* ما هي وسائل التربية؟
* ما هي مؤشرات نجاح عملية التربية؟
* متى يمكن أن تستوفي التربية شروط الإقدام على عمليات التغيير؟
* كيف نحافظ على المتربين؟
* كيف نسمح لهم بأن يقودوا؟
* ما المقصود بالقاعدة الصلبة وكيف تتحقق؟
* كيف ستتم عملية التربية في ظل جهود تعليمية وإعلامية أخرى قد تجهض هذه العملية التربوية؟
ونحن لا ندعي أننا نستطيع الإجابة على كل هذه التساؤلات أو غيرها مما يجول بعقول قادة وطلاب النهضة، ولكننا نفتح السبيل لكل مهتم بهذه القضية ليعيد النظر والبحث والتفكير. وحتى يتم تطوير الملف التربوي في مشروع النهضة بما يناسب المرحلة الجديدة (مرحلة اليقظة) التي تقف الأمة على أعتابها وتوشك أن تلج فيها.
تعريف التربية:
"التربية في الإسلام تعني بلوغ الكمال بالتدريج ويقصد بالكمال هنا كمال الجسم والعقل والخلق لأن الإنسان موضوع التربية"53.
وهي "تستهدف مساعدة الفرد على تحقيق ذاته وتنمية قدراته وإمكانياته وتزويده بالمهارات المعرفية والسلوكية والعملية التي تمكنه من أن يحيا حياة حرة كريمة بعيدة عن الجهل وشبح الفقر وإهدار القيمة والكرامة الإنسانية".54
تربية الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه
وقبل أن نتطرق إلى تربية الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه نود أن نشير إلى تعريف المحدثين للصحابي. "فالصحابي عند المحدثين هو من لقي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام.. ومن جهة ثانية يدخل فيمن لقي صلى الله عليه وسلم - كما يقول الحافظ ابن حجر - من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه ومن لم يروِ، ومن غزا معه ومن لم يغزُ، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى"55. وعلى ذلك يدخل في جملة الصحابة من شهدوا حجة وخطبة الوداع مع رسول ا صلى الله عليه وسلم ، والذين بلغ عددهم تسعين ألفاً56.
والذي يتأمل في تربية الرسو صلى الله عليه وسلم لأصحابه يجد أمراً عجيباً. فقد انقسم الناس باعتبار تلقيهم للتربية من رسول ا صلى الله عليه وسلم كماً وكيفاً إلى ستة أقسام:
1. القسم الأول: ويشمل الذين لازموا رسول ا صلى الله عليه وسلم وصحبوه في مكة وتلقوا عنه الوحي آية تلو آية، مثل أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وهؤلاء عددهم قليل جداً إذا ما قورن بغيرهم، يصل في أكثر التقديرات إلى ثلاثمائة صحابياً. فإذا استبعدنا من هذا القسم المجموعة التي هاجرت إلى الحبشة وكانوا يزيدون على المائة - ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة - سنجد أن هذا القسم الذي لازم صلى الله عليه وسلم وصحبه وتلقى عنه مباشرة منذ مبعث صلى الله عليه وسلم وحتى وفاته لن يتجاوزا المائتي صحابي.(39/451)
2. القسم الثاني: ويشمل الذين أخذوا الأمر من الرسو صلى الله عليه وسلم بترك مكة، سواءً للهجرة إلى الحبشة مثل جعفر بن أبي طالب - وكان عددهم حوالي مائة صحابي. أو الذين أسلموا في مكة وأمرهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى قبائلهم وألا يأتوه إلا إن أظفره الله على عدوه مثل أبي ذر الغفاري وأبي موسى الأشعري.
3. القسم الثالث: ويشمل الذين أسلموا بالمدينة قبل أن يأتيها رسول ا صلى الله عليه وسلم وكانت البيعة معهم على النصرة والجهاد.
4. القسم الرابع: ويشمل الذين أسلموا أثناء الصراع والجهاد فلحقوا بالمدينة مثل خالد بن الوليد ونعيم بن مسعود وعمرو بن العاص.
5. القسم الخامس: ويشمل الذين كانوا يكتمون إسلامهم ولم يسلموا إلا قبيل الفتح، ولكنهم كانوا ينصرون رسول ا صلى الله عليه وسلم مثل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم
6. القسم السادس: ويشمل الذين أسلموا بعد الفتح ولحقوا بشرف صحبة رسول ا صلى الله عليه وسلم قبل موته كسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان بن الحارث.
وسنقف قليلاً مع كل صنف من هؤلاء لنتعرف على كيفية تلقيهم للتربية النبوية، ونبحث في مقدار ما تلقوه بالمقارنة بنوعية الأداء الذي مارسوه، والمهام التي وكلت إليهم في المشروع الإسلامي.
أقسام الناس من تربية الرسو صلى الله عليه وسلم
الذين لازموه في مكة
الذين أخذوا الأمر بترك مكة
الذين أسلموا بالمدينة قبل أن يأتي الرسو صلى الله عليه وسلم
الذين كانوا يكتمون إسلامهم أو لم يسلموا إلا قبيل الفتح
الذين أسلموا أثناء الجهاد ولحقوا بالمدينة
الذين أسلموا بعد الفتح ونالوا شرف صحبة الرسو صلى الله عليه وسلم
1- القسم الأول:
لاشك أن الذين لازموا الرسو صلى الله عليه وسلم في مكة - مثل أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم من الصحابة الأخيار - كانوا يتلقون الوحي منه ويتأثرون بسلوكه وتوجيهاته المباشرة. ولكن المتأمل في الجرعة التربوية التي تلقوْها قبل انطلاقهم لنصرة هذه الفكرة الجديدة يجد أنها يمكن أن تلخص في جملة واحدة: "أنهم آمنوا بفكرة الرسو صلى الله عليه وسلم وصدقوا أنه نبي مرسل من ربه". لكن هذا الإيمان لم تكن وراءه تفاصيل أو تفريعات كثيرة، حيث كان يتنزل الوحي ببطء حسب المواقف والأحداث. وسنجد أبا بكر ينطلق لنصرة الفكرة الجديدة والدعوة لها، فيسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة،57
ويعتق العبيد، ويقف لقريش يحول بينها وبين إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن وراء كل هذا الفعل الضخم وتلك الممارسات الفعالة سوى بعض من قصار السور وبعض الآيات، بالإضافة إلى التلقي المباشر من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن الأمور العجيبة أن حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رغم أنهما أسلما في نهاية العام الخامس من البعثة إلا أنهما سبقا في أدائهما ونصرتهما للمشروع الإسلامي الكثير ممن رافقوا رسول ا صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول وتربوا على يديه الشريفتين. قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.58 فما الذي تربى عليه عمر رضي الله عنه حتى يتأهل للقيام بهذه المهمة، التي لم يستطع أن يقوم بها من سبقه من الصحابة والذين سبقوه في التربية كذلك.
يتبين لنا مما سبق أن صلى الله عليه وسلم لم يحدد جرعة تربوية يجب على المسلم أن يأخذها قبل أن يلتحق بالعمل في المشروع الإسلامي - اللهم إلا الشهادتين - ثم يستكمل تربيته في غمار الأحداث.
2- القسم الثاني:
الذين أخذوا الأمر من الرسو صلى الله عليه وسلم بترك مكة وهؤلاء صنفان:
صنف بعثه الرسو صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة بعد سنتين من جهرية الدعوة وقال لهم صلى الله عليه وسلم "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه"59.
وصنف أسلم وعاد إلى قبيلته يدعوها، ثم عاد إلى صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن أظهره الله.
والذي يتأمل في إرسال الرسو صلى الله عليه وسلم لصحابته إلى الحبشة - وهم ما زالوا حديثي عهد بالإسلام - يتبادر إلى ذهنه مجموعة من التساؤلات:
* ما المدة الزمنية التي قضاها الصحابة في الحبشة؟
* من الذي كان يربيهم في الحبشة طوال هذه الفترة؟
* ألم يكن أهلها يدينون بالنصرانية التي قد تفتن المسلمين؟!
لقد كانت الهجرة في السنة الخامسة من البعثة، وعلى أفضل التوقعات فإن الوحي كان يصل للمسلمين في الحبشة بشكل أو بآخر، لكن شخص صلى الله عليه وسلم - المربي- لم يكن معهم. وقد ضمت هجرة الحبشة الثانية حوالي ثلاثةً وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة. وإذا تأملت هذا العدد فستجده يتكون من مجموعة كبيرة وكتلة ضخمة من الذين أسلموا. وها هو الرسو صلى الله عليه وسلم يبعدهم عنه وعن محضنه التربوي لمدة تقرب من الخمسة عشرة سنة، ليعودوا مرة أخرى إليه بعد فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
إنها خمسة عشرة سنة كاملة وهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن الذين رباهم وعلمهم؟! وكيف يخاطر الرسو صلى الله عليه وسلم ويبعث بهذه المجموعة - حديثة العهد بالدين الجديد - ليقيموا وسط مجتمع نصراني يتعصب لعقيدته ذات الشرعية التاريخية ويدافع عنها؟! وهل بعد قدومهم إلى المدينة أجلسهم رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى جواره ليستكملوا تربيتهم ويأخذوا ما فاتهم أم أطلقهم لاستكمال المشروع جهاداً وبذلاً؟!(39/452)