وقد أوردت جريدة الجزيرة السعودية ـ في عددها الصادر في 4/4/2003م ـ مقابلة مع الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب، ناقش فيها هذا الموضوع، وذكر أن خسائر دول الخليج حتى ذلك التاريخ تُقدر بنحو ستين مليار دولار، والمؤسف أن الخسائر المتعلقة بالسياحة والاستثمار الأجنبي والقطاع المصرفي غالباً ما تستمر فترة أطول، وذلك فالخسائر بعد ذلك لا بد أن تكون قد زادت. ولكون دول الخليج في الجملة ذات مداخيل مرتفعة، لذلك فيتوقع أن تتجاوز هذه الخسائر في وقت غير طويل، وهذا كله إذا لم تساهم دول الخليج في فاتورة الحرب، أما إذا حدث ذلك فالصورة قد تختلف جذرياً.
3 ـ مصر:
قامت الحرب والاقتصاد المصري في وضع لا يُحسد عليه، فسعر الصرف الأجنبي وصل إلى درجة لم يشهدها السوق المصري منذ زمن، وفقد الجنيه المصري جزءاً كبيراً من قيمته مقابل الدولار، ومعلوم انعكاس ذلك على مستوى الأسعار بصورة عامة وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية، وأيضاً سوق المال بصورة عامة وجاذبية الاستثمار الأجنبي بصورة خاصة؛ لم تكن في أحسن أحوالها، بل شهد هذان القطاعان حالات نزول حاد، وفي خضم الجهود التي كانت تبذلها السلطات المصرية لمواجهة هذه المعضلات في ظل دين عام يتجاوز ما يعادل 90% من الناتج المحلي، في ظل كل ذلك قامت الحرب فزادت الطين بلة بل غمرته بالماء، فإيرادات قناة السويس التي تعدُّ مورداً رئيساً للاقتصاد المصري تراجعت بشكل ملحوظ نتيجة تراجع الملاحة لظروف الحرب، أما السياحة التي تكاد تكون المصدر الأهم للدخل من النقد الأجنبي؛ فلم تكن أحسن حالاً بل شهدت تراجعاً كبيراً، وترافق مع ذلك تراجع حركة النقل الجوي وما يتبعها.
الاستثمار الأجنبي الذي شهد تطوراً ملحوظاً في العقدين الماضيين؛ مر بظروف صعبة حتى قبل أن تبدأ الحرب، وجاءت الحرب لتمحق ما تبقى من شجاعة لدى المستثمرين الأجانب الراغبين في دخول السوق المصرية، ولم تكتف الحرب بذلك في إنهاكها للاقتصاد المصري؛ بل أضافت على ذلك عودة عشرات الألوف من العمالة المصرية التي كانت تعمل في العراق أو في المواقع القريبة من العراق حيث دول الخليج المجاورة، ويتوقع أن يحتاج الاقتصاد المصري إلى وقت غير يسير ليتعافى إلا إذا كان محظوظاً بتدفقات مالية استثنائية من مصادر خارجية.
4 ـ الأردن:
الاقتصاد الأردني قد يكون الأكثر تضرراً من قيام الحرب، فاحتياجات الأردن البترولية كانت تأتي من العراق، بعضها على شكل منحة من الحكومة العراقية، وبعضها الآخر بسعر تفضيلي واضح وبطريقة رسمية أو غير رسمية، وحتى عبر طرق النقل التقليدية جداً (الصهاريج)، وما أن بدأت الحرب حتى ضاع هذا الأسلوب لسد حاجة الاقتصاد الأردني من المواد البترولية، وإن كانت الحكومة الأردنية قد بذلت جهوداً كبيرة لتعويض ذلك النقص، وقد نجحت في توفير الكميات المطلوبة باتفاق مع الحكومة السعودية والحكومة الكويتية، ولكن قد يكون ذلك بتكلفة مختلفة، فما كانت تحصل عليه من العراق قد يصعب مجاراته من أي أحد، وأيضاً فإن مشتريات برنامج النفط مقابل الغذاء للعراق كانت في غالبها أو حتى كاملها تأتي عبر السوق الأردنية وبعضها منه، وهذا قد حقق تشغيلاً لقطاعات اقتصادية كثيرة، سواء منها القطاع الزراعي، أو تجارة الجملة والتجزئة، أو النقل، أو التأمين، أو قطاع الرسوم (رسوم العبور والجمارك والضرائب والصرف الأجنبي وغيرها)، وما أن قامت الحرب حتى توقف كل ذلك، ومعلوم انعكاس ذلك على الاقتصاد بجميع قطاعاته، وعلى البطالة بشكل خاص، ولا يتوقع ـ مع الأسف ـ وجود حلول بديلة لهذا الحال، وحتى بعد انتهاء الحرب فلا يتوقع أن يعود الحال إلى ما كان عليه، ولا حتى إلى بعض ما كان عليه، فلم يعد الأردن هو المعبر الرئيس إلى العراق، بل قد يصبح آخر المعابر، فالنقل الجوي والبحري عن طريق الخليج، وعن طريق دول الخليج والمعابر التركية؛ كلها قد تكون أيسر وأكثر جدوى من المعبر الأردني، وعليه فخسارة الأردن قد تكون صعبة التعويض، وعلى الرغم من تلقي الأردن مساعدة أمريكية معلنة في بداية الحرب بنحو سبعمائة مليون دولار، لكنها ضيئلة إلى درجة أن فاتورة النفط الأردنية فقط لسنة واحدة قد تزيد على ذلك المبلغ.
5 ـ لبنان:
على الرغم من صغر الاقتصاد اللبناني وبُعده النسبي عن العراق، ولكنه لم يسلم من التأثر الواضح، فقد كان جزء كبير من الصادرات اللبنانية يتجه إلى السوق العراقي من خلال المعابر السورية والأردنية، ومن ثم فإن هذه القنوات التصديرية قد تختفي إلى الأبد، وإذا بقي بعضها فسيكون في تنافس كبير مع صادرات دول أخرى قوية لم تكن منافسة في المرحلة الماضية.
وهناك نقطة أخرى؛ وهي ارتباك المستثمرين خلال فترة الحرب، وتوقف كثير من الأمور لترقب انتهاء الأزمة، وإن كانت هذه النقطة ليست خاصة بالاقتصاد اللبناني بل تصدق على الدول الأخرى المذكورة آنفاً.(36/256)
وقد يختلف الاقتصاد اللبناني عن كل الدول المجاورة في أنه قد يستفيد من هذه الأوضاع، فقد ـ احتمال فقط ـ تُغَيِّر بعض الاستثمارات المالية وجهتها من بعض دول الخليج إلى لبنان؛ مما قد ينعكس إيجاباً على الاقتصاد اللبناني، ولكن هذا قد لا يكون جوهرياً ولا لمدة طويلة.
6 ـ سوريا:
الاقتصاد السوري تأثر مرتين:
المرة الأولى: نتيجة الضغوط السياسية العنيفة التي مورست على السلطات السورية خلال الحرب؛ مما انعكس على توتر مناخ الاستثمار، سواء من المستثمرين المحليين أو الخارجيين، وكذلك على أداء الاقتصاد بصورة عامة نتيجة الترقب والحذر لأي تغيرات متوقعة؛ مما أربك الأداء الاقتصادي بشكل واضح.
والمرة الثانية: بالأسلوب نفسه الذي تأثرت به الدول المجاورة، وعلى الرغم من أن علاقات النشاط التجاري مع العراق لم تزدهر إلا في الفترة الأخيرة التي سبقت الحرب ولكنها بلغت مرحلة جيدة. وقيام الحرب ترك آثاراً بليغة في هذا الأمر، بل قد تكون الحدود السورية أُغلقت تماماً؛ مما أدى إلى توقف تدفق الصادرات السورية أو العابرة كلياً، وأثر ذلك واضح في نشاطات النقل، والتأمين، وتجارة التجزئة، والجملة، وإيرادات الرسوم، والصرف الأجنبي.. وغير ذلك.
كان هناك خط نقل البترول العراقي إلى بانياس، وهذا قد يتوقف ولا يُعلم شيء عن مصيره المستقبلي، فقد يتوقف مؤقتاً ويعود في وقت لاحق، وقد يتوقف كلياً وهذا هو الأقرب؛ لوجود حلول بديلة قد تفضلها الإدارة العراقية الجديدة، ومعلوم تأثير ذلك في الرسوم المحصلة من هذه العملية والأعمال المرافقة لتشغيل هذا الخط، بالإضافة إلى بعض كميات النفط التي كان يمكن توفيرها من خلاله.
كذلك؛ فإن الأوضاع التي عاشتها دول الخليج في فترة الحرب، وستعيشها بعدها سيكون لها تأثير في الدعم الخليجي المقدم لسوريا، وقد يكون له أثر واضح في السياحة الخليجية في سوريا التي كانت مورداً مهماً للاقتصاد السوري في السنوات الأخيرة.
أما جاذبية الاستثمار الأجنبي إلى السوق السورية؛ فقد تكون هي الأسوأ في دول المنطقة، وقد تستمر معاناتها في هذا الجانب إلى فترة غير محدودة، وكذلك الأمر بالنسبة للسياحة، ولكن بصورة أقل حدة، (وقد نشرت جريدة الحياة في عددها (14626) الصادر في 10/4/2003م مقالاً مفصلاً في هذا الشأن لسمير صبح، يمكن الرجوع إليه لمن يرغب في الاستزادة)
--------------
تغيير الخطط.. في مواجهة خطط التغيير
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
واقع جديد تماماً يواجه الأمة الإسلامية بعامة، وخلاصتها من الإسلاميين خاصة، وخاصة خلاصتها من العلماء والدعاة على وجه أخص، واقع جديد بعد هزيمة جديدة منيت بها الأمة على أرض العراق، شاركت في صنعها أحزاب النفاق بفروعها الإقليمية، ومنظمات التمثيل العربي والإسلامي برموزها السلبية، وجماهير الشعوب العاجزة حيناً والمتعاجزة أحياناً، مع أكثر قياداتها الفكرية والعلمية والدعوية المغلوبة على أمرها حيناً، والمغلبة للسلامة أحياناً أخرى.
- واقع جديد تتضاعف فيه نذر الخطر المتصاعد من بين دخان جائحة العراق، التي لم يتداع لها سائر جسد الأمة بالسهر والحمى كما ينبغي.
- واقع جديد، وجد المسلمون فيه أنفسهم في ظل نظام عالمي جديد، بدأ يتشكل تحت قصف القنابل وهدير المدافع وأزيز الطائرات، دون أن يعلموا موقعهم فيه، ومكانهم تحت سقفه المتغير والمغيِّر.
- واقع جديد انهار فيه النظام العربي الرسمي بفعالية منظماته ومؤسساته، ومصداقية قياداته وشعاراته، ومستقبل أطروحاته ومشروعاته.
- واقع أصبحت فيه صرخات فلسطين مهددة بالضياع في صحراء التيه العربي، وغدت حسرات بغداد تتحشرج في حلقها من خيانات وجنايات (العرب الأمجاد) الذين شاركوا في العدوان عليها بحجة «تحريرها» من الطغيان، ثم خرسوا عند وقوعها تحت الاحتلال العسكري المباشر للتحالف بين الصليب وبين النجمة السداسية.
- واقع أصبح فيه التهديد والوعيد، هو لغة الحوار من العالم (الحر)، فيما بدا تجاوزاً لأساليب التفاوض والتفاهم والتعايش بين الشعوب التي كان عليها العمل في ظل (الشرعية الدولية) الراحلة إلى ذمة التاريخ بمؤسساتها وقوانينها ولوائحها.
- واقع نرى فيه ونسمع عن مرحلة جديدة من التحرش الشرس، تبدو ملامحها في تهديد سوريا، ولبنان، وتهييج تركيا، وإيران، وتوريط مصر والسودان، وتكبيل باكستان، وعزل أفغانستان، ووأد الأمل في الشيشان، وقتل الإرادة أو شل الفعالية في غيرها من البلدان.
- واقع جديد، تتعرض فيه الجزيرة العربية لخطر داهم لأول مرة في تاريخها، بما فيها من مقدسات وحرمات؛ حيث أصبح خطر اليهود والنصارى يهدد مكة والمدينة (صان الله أرضهما) بعد أن تربع ذلك الخطر على أرضَي القدس وبغداد (فك الله أسرهما).
- واقع جديد، أصبح اليهود فيه قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ مؤامرة العصر وكل العصور وهي هدم المسجد الأقصى لبناء المعبد اليهودي مكانه، استكمالاً لمعالم (مملكة إسرائيل) أو (إسرائيل الكبرى) التي قفزوا بسرعة إلى حدها الشرقي في الفرات، ريثما يستكملون الوصول إلى حدها الغربي في بلاد النيل.(36/257)
- واقع جديد، أصبحت فيه ثروات الأمة في أكثر البلدان مهددة بالخروج كلية من تحت تصرفها، لتنتقل من أيدي السفهاء الذين آتتهم الأمة أموالها التي جعلها الله لها قياماً، إلى أيدي الأعداء الذين يبغون عليها بأموالها، حرباً وسلاماً.
- واقع جديد أصبح فيه تغيير مناهج التعليم سيفاً مسلطاً على الأجيال الحاضرة والقادمة لتضييعها، بعدا أن ساهمت المناهج الحالية في مسخها وتمييعها.
- واقع جديد أصبح فيه العمل الإسلامي مكشوفاً بكل حركاته ومؤسساته، وبجميع برامجه وإنجازاته ليوضع في مرمى الاستهداف اليهودي والنصراني والوثني والعلماني في جميع أنحاء العالم.
هذه كلها أخطار، أو عناوين عريضة لأخطار تكفي لأن تكتب في بعضها عشرات المقالات، وتوضع في شأنها العديد من الكتب والمؤلفات، وتعقد لأجلها الندوات والمؤتمرات؛ ولكن هذا ليس هو المقصود تفصيله، وإنما أريد هنا أن أتحدث عن أمر آخر وقضية أخرى أراها أخطر من كل تلك الأخطار؛ لأنها سبب مهم في كل تلك الأخطار.
* أم المخاطر:
وأعني بها: ذلك الشغور المخيف والفراغ المروع في موقع القيادة الجماعية لأمتنا الإسلامية في تلك الظروف المصيرية؛ حيث تواجه كل تلك التحديات والمؤامرات الممتدة منذ عقود طويلة بلا خطط للتصدي، ولا برامج للمواجهة، ولا استراتيجية بعيدة ولا متوسطة ولا قريبة المدى؛ تستطيع بها أن تدافع عن حصونها من الداخل فضلاً عن حمايتها من الخارج.
عندما أتحدث عن ذلك الشغور المخيف والفراغ المروِّع في موقع القيادة؛ فإنني لا أقصد تلك القيادات السياسية المتنافسة إقليمياً ومحلياً، أو الزعامات المتنازعة في الجماعات ظاهراً وباطناً، ولا أقصد أيضاً أصحاب المناصب العلمية، والوظائف الرسمية في المؤسسات الإسلامية.. ولكن أقصد تلك الولاية الشرعية العلمية العامة التي استرعاها الله أمانة قيادة الأمة كلها، وتَعَبَّدَ تلك الأمة بالاجتماع حولها والصدور عن رأيها وتوحيد الكلمة خلفها؛ إذا وقعت النوازل وانتشرت الفتن وكثر الاختلاف، إنها تلك القيادة التي أمر الله بالرد إليها بعد الرد إلى الرسو صلى الله عليه وسلم في قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
إنهم كما قال المفسرون: أهل الرأي والحكمة، وكما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «الفقهاء والعلماء الذين يُعلِّمون الناس معالم دينهم»(1).
الأمة اليوم تتخبط في مواطن الخوف، وتخوض في مواضع الخطر، ولكنها مع ذلك تسبح في الموج المتلاطم بلا رُبَّان، بل بلا سفينة! لا على المستوى السياسي العام للأمة، ولا على المستوى العلمي العام لها، بل السائد والمحصلة أننا أمة بلا قيادة موحدة منذ زمن طويل؛ فكيف يكون هذا حال أمة أمرها الله بعد طاعته وطاعة رسوله بطاعة ولاة يلون أمرها كلها؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]؟! إن ولاة الأمر المقصودين هنا ـ كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «هم أهل الفقه والدين»(2)، وكذا قال مجاهد وعطاء، والحسن البصري وأبو العالية.
كان أهل العلم والحكم في مبدأ الإسلام غير منفصلين، أو كانوا على الأقل متكاملين؛ فالعلماء يُبيِّنون، والأمراء يبنون على بيان العلماء، أما إذا ابتُلي الناس بعلماء لا يُبينون، وحكام لا يمتثلون؛ فهنا تضيع الأمة، وتقع نهباً لمكايد الشياطين، {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
لقد أخذ الله على العلماء عهداً أن يبينوا للناس ما يأمر به دينهم؛ وبخاصة عندما تلتبس الأمور وتتفاقم الفتن: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وأخذ الله ـ تعالى ـ أيضاً على الحكام أن يحكموا بمقتضى الشريعة التي يبيّنها العلماء، وينتهوا عن اتباع الأهواء، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26].(36/258)
ولأجل هذين العهدين جُعلت (ولاية الأمر) شرعة من الشرائع، تحفظ بقية الشرائع بتضافر أهل العلم وأهل الحكم. قال ابن العربي: «الصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعاً؛ أما الأمراء فلأنهم أهل الأمر، والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، والتزام فتواهم واجب»، ثم زاد الإمام ابن العربي الأمر توضيحاً، عندما بيَّن أن ولاية الأمراء تؤول في النهاية إلى ولاية العلماء، وبخاصة إذا اختلف حال الأمراء عن حالهم في عصور قوة المسلمين من حيث الجمع بين العلم بالدنيا والفقه في الدين.
وأورد ابن العربي عن الإمام مالك قصة تدل على أنه كان يرى أن الولاية كلها رجعت إلى العلماء بضعف الأمراء، فقال: «قال مطرف وابن مسلمة: سمعنا مالكاً يقول: هم العلماء. وقال خالد بن نزار: وقفت على مالك فقلت: يا أبا عبد الله! ما ترى في قوله ـ تعالى ـ: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}؟ قال: وكان محتبياً فحل حبوته، وكان عنده أصحاب الحديث، ففتح عينيه في وجهي، وعلمت ما أراد، وإنما عنى أهل العلم»، ثم علق ابن العربي على تلك القصة بقوله: «والأمر كله يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال، وتعين عليهم سؤال العلماء، ولذلك نظر مالك إلى خالد بن نزار نظرة منكرة؛ كأنه يشير بها إلى أن الأمر قد وقف من ذلك على العلماء، وزال عن غيرهم لجهلهم واعتدائهم، والعادل منهم مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل»(1).
لا أقصد هنا تفصيل القول في الراجح من هذه المسألة، ولكن أريد الإلماح إلى ما ألمح إليه الإمام مالك من تنقل الأدوار بحسب اختلاف الظروف والأطوار، بما يضمن ألا يوسد الأمر لغير أهله.
إن العلماء لن يتحولوا ـ بداهة ـ إلى رجال حكم وسياسة، ولكن المقصود هنا أن يؤول إليهم ضبط الحكم وتوجيه السياسة، انطلاقاً من ثوابت هذا الدين الذي تستمد منه لا من غيره شرعية أهل الحكم والسياسة.
لقد كانت أمتنا عبر عقود طويلة، في صراع دام ودائم في معظم أقطار العالم الإسلامي بين أهل السلطان وأهل القرآن، حتى حسم الطغاة في الأزمنة الأخيرة المعركة لصالح سلطان بلا قرآن، ونصبت العلمانية خيامها الثقيلة الغليظة على جُل ربوع المسلمين، تحادّ الدين في بلاده، وتحارب التوحيد في مواطنه، وتنفرد بالقيادة والريادة دون أهل العلم والعدل والعبادة، وأصبحت ديكتاتورية لُكع ابن لُكع، أو ديمقراطية الرويبضات التوافه؛ هي صاحبة الحل والعقد واليد الطولى في التخطيط المتخبط، والتصدي المرتجل المرتجف في مواجهة التحديات.
لا أريد الإطالة في مظاهر الفوضى التي عمت شؤون الأمة الإسلامية والعربية بسبب شغور موقع القيادة العامة على مستواها؛ لأن هذا أصبح أمراً معاشاً وحياة مفروضة، ومأساة نقاسيها، لا يعلم إلا الله متى ترتفع غمتها وتنزاح أيامها!
إننا لو تأملنا عناصر القوة في هذه الأمة؛ لوجدناها كلها تُفَرَّغ من مضمونها بذلك الفراغ القاتل في القيادة العلمية الموحِّدة لكلمتها، والموجِّهة لسياستها، والمنظِّمة لعلاقتها، والدافِعة لقوتها في الدفاع أو الهجوم؛ بحسب الضوابط المستمدة من شريعة الله.
إن غياب القيادة القائمة بهذه الشريعة على مستوى الأمة قد أبطل أثر هذه الشريعة في الارتفاع بأمتنا إلى العزة والتمكين، فصارت الشريعة لا تحكم إلا بعض مظاهر الحياة الفردية للناس؛ تماماً كما أرادت العلمانية بزعاماتها المزعومة.
لا أريد أيضاً أن أُكثر في الكلام على أهمية اجتماع الكلمة وراء مَنْ ولاَّهم الله أمر هذه الأمة من أهل العلم والأمانة والدعوة؛ فذلك أمر بدهي عند كل مسلم غيور. ولكني أريد أن نتجاوز مرحلة التأطير والتنظير إلى محطة ـ ولو صغيرة ـ من التحرك والتفعيل؛ انطلاقاً من رؤى موضوعية لا تجافي الواقع، ولا تروم المستحيل، ولكن تهدف إلى معالجة شرعية لتلك القضية التي طال حومنا حولها دون دخولنا في حلها.
* البداية البدهية:
عندما تكون النوازل عامة، والمشكلات ملمة؛ فإن المبادرات الفردية، والحلول الجزئية لا تزيد الأمر إلا تفاقماً، وهنا تبرز الحاجة إلى رأي صادر عن قيادة جماعية، أو جماعة قيادية، تستنزل البركة باجتماع الكلمة، وتستجلب الصواب بالتماس الأسباب؛ أسباب التوفيق والتسديد والمقاربة.
أوضح هذا فأقول: إن غياب الرأي الجماعي المبني في الإسلام على العلم والشورى والتجرد؛ يعد تفريطاً في فريضة ـ بل فرائض ـ شرعية محكمة. وحرمان أمة يبلغ تعدادها اليوم ملياراً وثلث المليار من البشر من آراء حكمائها وعلمائها وأهل النصح فيها، مع ما تواجهه من خطوب وعظائم تستهدف إذلالها أو إزالتها؛ هذا الغياب وذلك الحرمان يعد إجراماً في حق هذه الأمة، خاصة أنها ليست كأي أمة؛ إنها خير الأمم، وصاحبة خير الرسالات، والمسؤولة عن أعظم الأمانات: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].(36/259)
فإذا آل أمر هذه الأمة إلى أن تصبح بلا قيادة، بعد أن أصبحت بلا ريادة ولا سيادة؛ فإن المسؤولين عن ذلك سيُسألون أمام الرب ـ جل وعلا ـ عما فرطوا فيه وأحجموا عنه.
وهنا يبرز السؤال المهم: ما الذي يمنع هذه الأمة من أن تكون لها قيادتها العالمية، ومرجعيتها الاعتبارية في مثل تلك الظروف الخطرة والأجواء الاستثنائية؛ مثلما لليهود قياداتهم العالمية (المؤتمر اليهودي العالمي)، وللنصارى زعامتهم الكونية (المجلس العالمي للكنائس)، بل ولبقية المبتدعة من هذه الأمة مؤسساتهم القيادية ومرجعياتهم الدينية؟!
ويأتي الجواب الصعب: لا مانع؛ إلا أن لهؤلاء صفوفهم المتراصة وراء أهدافهم الموضوعة، ولنا صفوفنا الممزقة خلف خلافاتنا المصنوعة!
ثم يأتي سؤال أهم يحتاج لجواب أصعب، وهو: ما الذي يمنع صفوفنا من التراص، ومواقفنا من الاجتماع على كلمة سواء، مع أن الله ـ تعالى ـ تعبَّدنا مع التوحيد بالتوحُّد، ومع الصلاة والزكاة والصيام، بالاجتماع والاعتصام؟
لا جواب على ذلك إلا أن قيادتنا الاعتبارية العامة مفقودة، ومرجعيتنا العلمية الموحدة غير موجودة، أو موجودة ولكنها غير مجموعة؛ ولهذا كانت غير مسموعة.
بديهيات العقول تقول: لا سفينة بلا ربان... ولا معركة بغير قيادة، ولا نصر بلا اعتصام؛ ولا عزة مع الفُرقة ففيم الإصرار على خطأ عُرف خطره، ولِمَ الإقامة على منكر عُلِمَ إثمه؟!
لقد بلغ أمر تنفير القرآن من الفُرقة، أن جعلها من شعار الكفار، فقال الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وجعل التنازع قرين الفشل فقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
إنك لو سألت أي مهتم بأمر المسلمين: هل يجوز لجماعة من جماعات المسلمين أو كيان من كياناتهم أو شعب من شعوبهم، أن يمضي بلا رأي ولا راية ولا ولاية؟ لبادرك بالقول: هذا لا يصلح في صحيح العقول؛ فكيف يصح في مقاصد النقول؟!
للأسف الشديد؛ فإن هذه حال الأمة في مرحلتها الراهنة، بعد سقوط المراهنة على الزعامات «الملهمة»، والقيادات «الحكيمة»، والزعامات «التاريخية»!
إن مما يحز في النفس أن نرى أن الأنظمة العلمانية كلها أصبحت آيلة للسقوط، أو في حكم السقوط، إلا أن البديل الإسلامي ـ وللأسف الشديد ـ غير جاهز، بل غير موجود!! فهل أسرفنا في الحديث عن (الصحوة) حتى صحونا على واقع يقول: إن صحوتنا لم تبلغ بعد سن الرشد، بل سن البلوغ الذي يؤهلها لاستلام دفة المسؤولية في تلك المرحلة البالغة الخطورة؟!
أعرف أن هذا ليس وقت التأسف والأسى، وليس زمن التشكي والتباكي، ولهذا أعرِض رأياً، وأُسهِم بقول، وأُدلي بنصيحة ـ فالدين النصيحة ـ غير زاعم فيها سبقاً، ولا محتكر فيها صواباً.
* دعوة لأهل الدعوة:
أُثْبِتُ ابتداءً أن كثيراً من الفضلاء والعقلاء والعلماء دعوا منذ وقت طويل إلى صيغ جديدة لإنشاء قيادة علمية عالمية، تمثل مرجعية دينية وقت النوازل لعموم المسلمين، وقد بدأ بعضها متواضعاً، وتعثر بعضها متسارعاً، وسار بعضها الثالث بثبات، ولكن في طريق تتناوشه الأخطاء والأخطار.
وفي رأيي المتواضع أن هناك ثلاثة من تلك الأخطاء والأخطار تتهدد جُل تلك المشروعات الإصلاحية الطموح، تتركز حول ثلاث مفردات ضارة؛ طالما ضارت جهود المصلحين وأضلت سعي الكثيرين، وهي: الحزبية، والرسمية، والإقليمية؛ ذلك الثالوث المدمر المسؤول عن عرقلة أكثر خطط التغيير الإسلامي الصادق، وتعطيل أكثر مشاريعه البنائية والإصلاحية.
لقد طُرحت ـ ولا تزال تطرح ـ مشاريع لتشكيل هيئة عالمية من العلماء تتخصص في بحث نوازل الأمة، وتمسك بزمام المبادرة في التوجيه والترشيد، إن لم يكن في التخطيط والترتيب، وهي مشروعات لا نرى أنها صدرت إلا عن قلوب سليمة، وآراء ناصحة، وعقول ناضجة، ولهذا فسوف ينفع الله ـ تعالى ـ بها أصحابها والأمة كلها في يوم من الأيام، ولكن في الوقت نفسه؛ أرى أن هناك من العوائق والعراقيل ما يمكن أن يطيل أمد تحقيق هذا الأمل؛ فالتركيز على أن تكون هذه الهيئة، أو تلك المؤسسة أو الجمعية، في إطار معين من العلماء فقط، أو من اتجاه بعينه فقط، أو في مستوى شكلي أو رسمي أو إقليمي فقط؛ سيضعف ذلك الكيان، وسيضاعف من العقبات الموضوعة في طريقه، ويزيد من المدة الكافية لنضوجه ونهوضه للقيام بالمهام العظام الموكل بها، إن لم يعطلها كلياً عن الوصول.
أرى ـ وبصراحة تامة ـ أن حالة العلماء الراهنة في العالم الإسلامي؛ تحتاج إلى جهد جبار لإخراجها من حيز السلبية إلى فضاء الإيجابية، ليس لسوء ظن فيهم، ولكن فيمن يحاصرونهم ويخادعونهم ويعطلونهم عن أداء مهمتهم الربانية في قيادة الأمة منذ دهور طويلة وعلى امتداد العالم الإسلامي، لا أجدني في حاجة إلى التفصيل في هذا الأمر المعروف التفاصيل.
لهذا أقترح أن يُبدأ في إقامة هذا الواجب الكفائي العظيم بداية مرحلية تمهد للمرحلة النهائية، وتتميز عنها بسهولة الآلية، ويسر الحركة، وسرعة الإنجاز.(36/260)
* رابطة الدعاة.. نواة لرابطة العلماء:
العالم الإسلامي يشكل كتلة مترامية الأطراف، متعددة المشكلات، متفاقمة الأخطار، ولكنه في الوقت نفسه ثري بالخبرات، غني بالمواهب الدنيوية والدينية، ومن المواهب الربانية لهذا العالم الإسلامي أن فيه آلافاً مؤلفة من الرجال المتميزين الصادقين الذين تعاهدوا على البذل في خدمة هذا الدين؛ دون مطمح دنيوي، أو هدف حزبي، أو غاية إقليمية أو عنصرية أو مذهبية، وهؤلاء هم جمهور المصلحين من أهل العلم والدعوة، وهؤلاء موزعون الآن بين جميع فصائل العاملين للإسلام من طائفة أهل السنة والجماعة، تلك الطائفة التي تسلمت منذ وُجدت أمانة حمل الحق وحمايته والدعوة إليه، والتي تتضاعف مسؤولياتها كلما استولى على المسلمين زمان الغربة أو دهمتهم أجواء الفتن: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»(1).
لا أشك في أن كل اتجاه من اتجاهات العمل الإسلامي، وكل جماعة أو جمعية أو هيئة أو منظمة؛ تضم في صفوفها الكثير والكثير من العقلاء والشرفاء والأمناء الذين يقدمون الانتماء إلى الأمة على الانتماء إلى الجماعة، والولاء للمسلمين على الولاء للحزب، ويقدمون الشريعة على الشعارات، وأخوة العقيدة على خُلة الجماعات والتنظيمات.
هؤلاء الأجلاء أينما كانوا وكيفما كانوا في أنحاء بلاد المسلمين هم خلاصة الأمة، وهم عدتها وعتادها، هم معدنها وجوهرها، ليسوا كلهم علماء، ولكنهم يعرفون قدر العلم والعلماء، قد يكونون ضعفاء، ولكنهم في ميزان الحق أقوياء أعزاء، بعضهم ـ بل أكثرهم ـ معوزون فقراء، ولكن غنى النفس يجعلهم في مصاف الأثرياء.. فيهم الفقهاء والعباد والمجاهدون، فيهم الأطباء والمهندسون والمدرسون، فيهم علماء الذرة، ومنهم أدباء الكلمة... فيهم المهرة المنظرون والمخططون، وفيهم النشطاء المنفذون، رجالاً ونساءً، ولا عجب من تنوع وتفاضل أصنافهم؛ فأهل الجنة أصناف وأصناف، تزيد على أهل الدنيا أضعاف أضعاف: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21]، هؤلاء العقلاء في كل اتجاه إسلامي هم بضاعتنا المطلوبة، وغايتنا المقصودة، الأمة في حاجة إليهم اليوم؛ لتتكون منهم ـ على اختلاف تخصصاتهم ـ رابطة إسلامية دعوية عامة، لا حزبية ولا إقليمية ولا رسمية؛ بل رابطة أخوية عالمية احتسابية، لا يُطلب من أفرادها أن يتركوا مواقعهم، أويتخلوا عن أدوارهم فيما هم بصدده، ولكن المطلوب منهم أن يضيفوا إلى همومهم الدعوية الخاصة هماً عاماً يخص الأمة كلها، وانتماء عاماً لا يتعارض مع الانتماء الخاص ـ إن وُجد ـ وإنما يوجد له دور جديد في الرابطة العامة التي تفرضها الضرورة.
- إن تلك الرابطة ليست حزبية، ولكنها لا تنعى على الجماعات إلا التحزب الضار، أما التحزب على الحق وللحق؛ فشأن شرعي مطلوب؛ فأهل الحق حزب هو حزب الرحمن: {أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22]، ولهذا فإن الرابطة المزمعة لا تأخذ من الحزبية إلا هذا المعنى المتجرد المشروع.
- وهي ليست رسمية، ولكنها لا تنكر أن قسماً كبيراً من الجهود الدعوية الرسمية لها أثرها ومفعولها، وهذا من عظمة هذا الدين الذي يثمر غرسه في أي أرض إذا سُقي من معين الإخلاص.
- وهي ليست إقليمية؛ لأن الإقليمية قد تكون قرينة العنصرية التي ليست من دين الله. ولكن رابطة الدعاة مع ذلك لا تنكر ما لبعض البيئات الإقليمية من خصوصيات مكانية؛ قد تفرض عليها بعض أشكال الاجتهادات والاختيارات التي قد لا تصلح لغيرها.
إن رابطة إسلامية متحررة من آثار الانتماء الحزبي الضيق، والالتزام الرسمي المتقيد، والارتباط الإقليمي المحدود، تملك قدرة عظيمة على اختراق الحواجز والسدود التي طالما أعاقت العمل الإسلامي فيما مضى من مراحل.
ومع تحرر تلك الرابطة من تلك القيود الثلاثة، إلا أنها ستضم حتماً ـ بإذن الله ـ أصلح العناصر الرسمية، وأعقل الموجودين في الجماعات الحزبية، وأخلص المنتمين لتجمعات إقليمية، لا لتقطعهم عن أدوارهم أو تفصلهم عن جهاتهم، لكن لتضيف إلى مهامهم الجزئية بُعداً كلياً عاماً لخدمة الأمة كلها، لا شريحة واحدة منها.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى؛ هي التي يمكن أن تفرز رابطة حرة محتسبة من العلماء غير الحزبيين، ولا الإقليميين، ولا المحصورين في الرسميات الشكلية علماء يُشهد لهم بالعلم والعمل.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تنشئ جيلاً من الدعاة غير المصنِّفين، أو المصنَّفين، الذين يُعَدّون دعاة من كل الأمة لكل الأمة، فيكونون بذلك أقدر على إيجاد رأي عام إسلامي فاعل؛ لاحترام الجميع لهم، وصدور الجميع عنهم.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تمهد لوجود تيار إسلامي عام يجعل الانتماء للإسلام فوق الانتماء للافتات واليافطات والجماعات والأمكنة، وينهي بشكل طبيعي مرحلة التجمعات الجزئية التي استنفد الكثير منها الغرضَ من إنشائها.(36/261)
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تخاطب بلا قيود ولا حساسيات الشريحة الأكبر من قطاع المتدينين، وهي شريحة غير المنتمين.
- إنها بهذا المعنى: يمكن أن تخرج أجيالاً من طلبة العلم الشرعي غير الموجَّه حزبياً، أو المأسور رسمياً، أو المحصور إقليمياً؛ ومن ثم فهي قادرة بإذن الله أن تخرِّج منهم علماء أكفاء، علماء ملة، لا علماء دولة، يخاطبون الناس بلسان الإسلام العام، ويخاطبون أهل الإسلام بلسان أهل السنة ويخاطبون أهل السنة بلسان الانقياد والحياد... الانقياد في الاتباع، والحياد في مسائل الاجتهاد.
- وهذه الرابطة ـ بهذا المعنى ـ أنسب المحاضن لتنشئة قادة غير متعصبين، ومجاهدين منضبطين، ودعاة متجردين.
- وهي بهذا المعنى ستشكل شخصية اعتبارية لقيادة الأمة، تتوزع في كل أقطارها؛ بحيث تخاطب البناء التحتي، والنخب الفوقية، بل هي قادرة في كل موطن على أن تخاطب أهل السلطان بلسان الأمة؛ لأنها تحوي جميع عناصر المسلمين في الأمة، ولأنها لن تترك مجالاً لأحد أن يصنفها تمهيداً لعزلها، أو يشوهها تمهيداً لضربها، إلا إذا أصر المغرضون على أن يصنفوها تحت وصف أهل الدين في مقابل اللادينيين اللاأخلاقيين، وهذا يزيدها مصداقية.
- وإن (رابطة للدعاة) بهذا المعنى: ستملك حرية في التحرك، ومرونة في التصور، وقدرة على النزول إلى ساحات الأمة لمعرفة نبضها، ومداواة جروحها، ووضع التصورات لحل المشكلات؛ بعد أن ينظر فيها أصحاب الشأن وأهل التخصصات.
- إنها مع كونها (رابطة للدعاة)؛ فسيظل قادتها وبركتها هم العلماء؛ فالعلماء هم خاصةُ الدعاة؛ لأن كل عالم داعية، وإن كان كل داعية ليس بالضرورة عالماً، ومع هذا؛ فتلك الرابطة ـ كما سبق البيان ـ مرحلة تمهيدية لإنشاء الولاية العلمية والمرجعية الدينية.
- بل إنني قد أتجاسر وأقول: إذا خلصت النيات، وتضافرت الجهود، وساد التجرد والأريحية وإنكار الذات؛ فقد نصل إلى صيغة ـ في وقت ما ـ تمهد لقيادة واحدة للأمة الواحدة كما أراد الله وشرع وأمر.
تخيل معي رابطة دعوية علمية فكرية علنية، تضم خلاصة أصحاب الخبرة والتجربة من الإخوانيين، وزبدة أصحاب القدرة على البحث والتأصيل من السلفيين، وصفوة الحكماء العقلاء من التبليغيين والجهاديين والحركيين، والنخبة من المفكرين والإعلاميين، ومن تحتاج إليهم الدعوة من الفنيين والمهنيين والمتخصصين، والمخلصين من الرسميين، وهي مع ذلك لا تستبعد إضافات العائدين إلى الحق ممن كانوا قوميين أو ليبراليين.
ولماذا لا؟!.. ألم يقل الله ـ تعالى ـ: {وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، فلنتق الله ونبذل أسباب فريضة الاعتصام بحبل الله، كما أمر الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
نعم.. {جَمِيعًا}.
معاً.. {جَمِيعًا}.
* تساؤلات مبكرة... وإضافات منتظرة:
- أعرف أن الكثيرين سيرون هذا الطرح حالماً، وقد يُصدرون فيه ـ قبل الإيضاح والاستيضاح ـ حكماً متسرعاً أو ظالماً، ولكن أقول: رويدك مهلاً!.. دعنا نتفق أولاً على المبدأ.. فإذا اتفقنا ـ ولا أظننا إلا متفقين على وجوب إيجاد قيادة للأمة ـ فإن كل التفاصيل .. كل العقابيل، كل الخطوات الإجرائية، والمحطات المرحلية، كلها تُدَبَّر وكلها تهون، ويمكن أن تُخضع للحوار والنقاش أياماً وشهوراً؛ فقد صبرنا على الخلل والفراغ عقوداً ودهوراً.
إننا في مرحلة أصبح لزاماً علينا أن ننظر في تغيير الخطط لمواجهة خطط التغيير، فخطط التغيير التي تواجه الأمة اليوم، لم يعد يصلح لها كل ما صيغ منذ عقود أو ما سطر من قرون؛ فالأوضاع مغايرة، والأجواء مختلفة والتحديات بالغة الصعوبة ولا بد من بداية جديدة.
إن تغيير الخطط للأمة لا يصلح له إلا طائفة على مستوى الأمة ومن جميع الأمة.
- سيتساءل كثيرون عن الآليات والمسؤوليات، وكيفية تجاوز العقبات والحساسيات، والموازنة بين الممكنات والمستحيلات، والحقائق والتخيلات في كل ما يتعلق بذلك المقترح، وسيسارع كثيرون بإبداء مشاعر الشفقة أن تُولَد بعض الأفكار خِداجاً ناقصة، أو يجيء بعضها مختزَلاً سريعاً، أو تغلب على الآخر روح العاطفة أو الحماسة الزائدة أو الظن الحسن في غير محله!
وأقول: كل هذا وارد وقابل للأخذ والرد، ولهذا سوف تكون لنا عودة ـ بإذن الله ـ للكلام عن هذه الموضوعات مما يسمح به المقام، وإلى أن يحين أوان ذلك؛ سأتقبل منك رأيك، وأعدِّل قولي بقولك، وأكمل ما نقص من علمي بما كمل من خبرتك، وما زاغ عنه فهمي بما بلغته حكمتك، فلا شك أن هناك العديد من الفراغات والنقاط التي تحتاج إلى تلاقح في الأفكار وتناصح في الدين.
وفي انتظار تعقيب أو تصويب، أو تعديل وتقريب؛ من خلال بريد البيان أو على صفحاتها.
{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] .
--------------
(1) تفسير البغوي، (2/ 239).
(2) تفسير ابن كثير، (1/ 568)، طبعة الندوة العالمية.
(1) تفسير أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 472).(36/262)
(1) رواه مسلم، رقم 5348.
-----------------
جيوش الكنائس الصهيونية الصليبية الأمريكية
تحط رحالها في العراق
أبو إسلام أحمد عبد الله
في خبر صحفي تناقلته وكالات الأنباء عن صحيفة (لوموند) الفرنسية، وبثته شبكة (islamonline) يوم 28/3/2003م، ونشرته مجلة الأهرام العربي بالقاهرة، في عددها الصادر يوم السبت 12/4/2003م ، عن هجوم تنصيري مرتقب وصل بالفعل إلى الحدود العراقية ـ الأردنية؛ استعداداً لحمل العون المادي (والروحي) لسكان العراق، عندما يتحررون من نظام الرئيس صدام حسين.
وأوضح الخبر الصحفي أن (المؤتمر المعمداني للجنوب)، وهو أكبر تجمع بروتستانتي يضم الكنائس القليلة في الولايات المتحدة التي أيدت الحرب على العراق، وهيئة أخرى يديرها القس (فرانكلين جراهام) ابن الواعظ العالمي الشهير (بيلي جراهام)، وهي من أكبر التنظيمات الإنجيلية في العالم؛ قد دفعا بمجموعات من المبشرين إلى الحدود الأردنية العراقية تمهيداً لدخول العراق وإقامة مراكز في الجنوب؛ بينها بعثة تنصيرية معمدانية.
وأشارت صحيفة (لوموند) إلى أن مهمة المنصِّرين المعمدانيين والإنجيليين الذين يستعدون لدخول العراق؛ تثير انتقادات غاضبة في الأوساط التي ترى فيها تأكيداً للمخاوف من حملة صليبية ضد الإسلام، خاصة أن القس (فرانكلين جراهام) لا يكف منذ أحداث 11 سبتمبر عن التهجم البذيء على الإسلام والمسلمين في العالم.
وقالت مجلة (الأهرام العربي) نقلاً عن (اللوموند) أن كنائس هاتين الحركتين لها نشاط تنصيري في دول عربية عديدة وخاصة الإفريقية منها، تحت شعار تقديم المعونات الغذائية والطبية، ويتركز نشاطها في السودان والصومال، وتستعد حالياً للوصول إلى العراق. وهذه الكنائس تعمل بمعزل تام عن الكنائس الشرقية التي تحاربها وترفض الأنشطة التي تقوم بها، وتحاول تنبيه الحكومات العربية إليها، وخاصة أن عمليات التنصير التي تقوم بها للدعوة إلى مذهبها لا تستهدف المسلمين فقط، ولكن النصارى الشرقيين أيضاً.
ومن ناحية أخرى فقد أعلنت المنظمتان في تصريح لشبكتي (believe net) و (new hous) الألكترونيتين؛ أن أعضاءهما موجدون حالياً (28/3/2003م) على الحدود العراقية الأردنية؛ في انتظار استقرار الأوضاع الأمنية للدخول إلى الأراضي العراقية.
* المهام البروتستانتية والإنجيلية في العراق:
وقالت (islamonline) على لسان ما أسمته (مترجم حر): إن مع المنظمتين فريقاً من المترجمين، للقيام بترجمة كتب ومنشورات المنظمتين، من اللغة الإنجليزية إلى العربية. وإنه (المترجم) اطلع على مقتطفات من هذه المنشورات، ولاحظ أنها ذات طبيعة تنصيرية، وأنها تستهدف ثلاث دول عربية: هي العراق، والكويت، والسعودية.
ومن طرفهما أعلنت المنظمتان أن من أوليات عملهما تقديم الطعام للعراقيين المتضررين من الحرب، ونشر الديانة النصرانية بين العراقيين الذين تبلغ نسبة المسلمين بينهم 98%.
وكان (فرانكلين جراهام) ـ الذي تحمل إحدي المنظمتين اسمه ـ قد أدلى بتصريح خاص لموقع (believe net) يوم الثلاثاء 25/3/2003م، قال فيه إن أعضاء منظمته توجهوا إلى العراق لتولي مهمة التنصير، وإنه يفعل ذلك باسم المسيح، بالتنسيق الكامل مع وكالات الإدارة الأمريكية في العاصمة الأردنية عمان، لكنه لا يعمل لحساب هذه الإدارات.
ويذكر أن (فرانكلين جراهام)، كان قد صرح ـ في وقت سابق ـ لشبكة (NBC) التلفازية الأمريكية عقب أحداث سبتمبر 2001م بشهرين تقريباً؛ قائلاً: «إن الإسلام والقرآن يُعلِّمان العنف ولا يَعرفان السلام».
ومن ناحيته أعلن (سام بورتر) مدير إغاثة الكوارث في منظمة المؤتمر العام المعمداني بمدينة أوكلاهوما الأمريكية؛ أن المنظمة تستعد أيضاً للقيام بما أطلق عليه: نشر (محبة الرب) ـ على حد وصفه ـ.
وعن أسلوب التنصير الذي سوف تتبعه المنظمات؛ قال (مارك كيلي) المتحدث باسم مجلس البعثات الدولي التابع للمؤتمر المعمداني: «إن الحديث حول الاحتياجات الروحية سينتج عن أسئلة المواطنين العراقيين عن ديننا».
* صليبية بوش تابعة لصليبية جراهام:
وجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) على علاقة روحية حميمة بمنظمة (المؤتمر المعمداني الجنوبي) التي تعد أكبر مؤسسة دينية موالية لبوش، كما أنه على علاقة قوية بالقس الإنجيلي (فرانكلين جراهام) الذي أدى صلاة خاصة في حفل تنصيب بوش؛ ممثلاً للكنائس اليمينية التي برزت بقوة في الولايات المتحدة منذ مطلع الثمانينيات، لتقود حركة أصولية صليبية ينتمي إليها حوالي40 مليون أمريكي؛ منهم شخصيات عديدة تتولى مراكز قيادية دبلوماسية وسياسية وعسكرية؛ منهم الرئيس الأمريكي جورج بوش وأعضاء إدارته.
وتؤمن هذه الحركة بأن العودة الثانية للسيد المسيح تسبقها عدة نبوءات، تحقق منها حتى الآن ـ بحسب زعمهم ـ: قيام دولة إسرائيل، واحتلال القدس من المسلمين، وبقيت النبوءة الثالثة المنتظرة وهي بناء هيكل سليمان. فطبقاً لنبوءات هذه الحركة؛ فإن العالم كله سوف يتمركز حول الشرق العربي الإسلامي، وكل أمم الأرض سوف تضطرب وسوف تتورط في ما يجري في هذا الشرق.(36/263)
* طنطاوي وشنودة لا يرونها صليبية:
وفي تصريح خاص قال (إبراهيم هوبر) المتحدث باسم مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAI r ): إن (جراهام) يعتقد بوضوح أن الحرب على العراق هي حرب على الإسلام وأهله وأرضه، يباركها الرب.
وأوضح (إبراهيم هوبر) أن (CAI r ) رفضت مشاركة فرانكلين في الجهود الإنسانية العاملة في العراق؛ مشيراً إلى تصريحات متكررة لجراهام قال فيها: «إن الإسلام دين شرير، ... وإنني أريد التوجه بنفسي إلى العراق لإعادتها إلى حظيرة النصرانية».
وفي رد من (إبراهيم هوبر) على جدوى مساعدات هذه المنظمات لأبناء العراق قال: «لن يأتي خير أبداً للمسلمين من (جراهام) وأمثاله».
بينما رفضت متحدثة باسم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؛ التعليق على الموضوع كله.
وفي تعليق لشبكة (islamonline) قالت: ويعتقد مراقبون أن حرب أمريكا على العراق زادت قناعة قطاع كبير من الرأي العام في العالمين العربي والإسلامي؛ بأنها حرب صليبية، على الرغم من رفض مثقفين آخرين بارزين ـ بينهم شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، والأنبا شنودة ـ اعتبارها كذلك.
* الخطة والانتشار:
وعلى ما يبدو أنه نوع من أنواع الصراع الكنسي على العراق، والتنافس على الكعكة كما يقولون، أصدر مركز (Global Mission unit) التنصيري العالمي تقريراً أول أبريل الماضي بعد نشر تصريحات (فرانكلين جراهام) حول بعثته التنصيرية إلى العراق، جاء فيه: (إن فريقاً تابعاً له يقيم في العراق منذ عدة سنوات، يضم خمسة قسس وعائلاتهم وبعض معاونيهم، وهم: بوب، بلن، بل كوبس، روث تيسدال، تيريزا شلينجر، تيري بوس.
وقد نجح هذا الفريق على مدى سنوات أن يفتتح له عدة مراكز لنشر الدعوة النصرانية، وأنشأ ثلاث مكتبات ضخمة ـ واحدة في مدينة دهوك، وأخرى في مدينة أربيل، والثالثة في كردستان ـ، لتوزيع الكتب المجانية، والنشرات، وكتاب الإنجيل، وشرائط الكاسيت، والفيديو. وقد حققوا قبولاً واسعاً هناك).
وأفاد التقرير ـ الذي بثه أيضاً الباحث نواف العباسي، في رسالة إلكترونية ـ أن عمل هذا المركز يأخذ صبغة شبه رسمية، وينشط في مجالات الخدمات الاجتماعية والإنسانية، وفق اتفاقية مع عدة منظمات أخرى:
- منظمات تابعة لهيئة الأمم المتحدة.
- منظمات تابعة لبعض الحكومات الغربية.
- منظمات تنصيرية من مختلف الطرائف الكبرى.
وتخضع كلها إلى هيئة تنسيقية عليا، باسم (مكتب تنسيق إغاثة العراق) (I r CO).
وعن الأنشطة التي حققها مركز (Global) قال التقرير:
1 - توزيع مئات من كتاب الإنجيل باللغة الكردية التي يتحدث بها أبناء (أربيل، ودهوك) وبطبعات أنيقة للغاية.
2 - طبع وتوزيع كتاب ـ باللغتين الكردية والإنجليزية ـ بعنوان (الأكراد في الكتب المقدسة).
3 - التنسيق مع منظمة الكنائس العالمية في استقبال الأكراد الذين يرغبون في السفر إلى أوروبا، بعد تحولهم إلى النصرانية، وتهيئة الظروف الملائمة للاستفادة من إمكاناتهم العلمية والمهنية.
4 - تنظيم سلسلة دائمة من المحاضرات التنصيرية للمهتمين والمتميزين من شباب الأكراد.
5 - إقامة مركز كبير للدراسات الحرة لتعليم اللغة الإنجليزية والكمبيوتر والتمثيل والغناء والموسيقى والرقص.
6 - تشجيع استعمال الحروف الإنجليزية في كتابة اللغة الكردية؛ بدلاً من الحروف العربية.
7 - دعم المنظمات والجمعيات الخيرية والنسائية، بمعونات شهرية، لتغطية نفقات أنشطتها.
* الأمم المتحدة تشرف على تنصير العراقيين بأموال العراق:
وفى تقرير (Globle) أضافت المعلومات أن الكنائس العاملة في العراق، خاصة مناطق الشمال، كان لها النصيب الأوفر من مساعدات هيئة الأمم المتحدة، والتي أسند للكنائس العالمية الكبرى أمر توزيعها والإشراف عليها وتحديد المستفيدين منها.
وأشار التقرير إلى عدة منظمات كنسية أخرى، أضاف إليها الباحث نواف العباسي كثيراً من التفاصيل الدقيقة والمهمة للغاية، من هذه المنظمات:
1 ـ جمعية الكتاب المقدس: ولها مكتب في مدينة أربيل (ص. ب 940)، وتطبع كل نشراتها بمطبعة الثقافة التابعة لوزارة الثقافة العراقية في أربيل.
2 ـ منظمة (تطوير خدمات الشرق الأوسط التنصيرية البريطانية: ومركزها الرئيس في القاهرة، ولها ثلاثة مكاتب رئيسة بالعراق؛ في أربيل ودهوك والسليمانية، وتقوم على أنشطتها مجموعة كاملة موفدة من المكتب الرئيس للمنظمة في مصر، تحت رئاسة (د. إلكسندر رسل) البريطاني الأصل، والذي يعمل أستاذاً لتدريس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ـ جامعة صلاح الدين في أربيل، ويساعده كل من (د. كريستين) زوجة إلكسندر وزميلته بنفس الكلية، وتدير مركز المصباح (Lamp) لمحو الأمية، وخالد (اسم مستعار) النمساوي الأصل، وطارق (اسم مستعار) الإنجليزي الأصل، ومسعد المصري الأصل، وناجي المصري الأصل، والذي كان يعمل سابقاً في مكتب وزارة الخارجية المصرية بمدينة الرياض السعودية. وجميعهم يتحدث الإنجليزية والعربية بطلاقة، إضافة إلى اللغة الكردية.(36/264)
3 ـ منظمة (ينبوع الحياة) الأمريكية: ومركزها في مدينة (شقلاوة) القريبة من أربيل؛ بدعم مباشر من مكتب مساعدة الكوارث الخارجية (O.F.D.A) التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، تحت ستار حفر الآبار وتوفير مياه الشرب النقية.
4 ـ منظمة القوافل الطبية الدولية (Inte r national Medical Teams): ومركزها الرئيس مدينة (بورتلاند) الأمريكية، جاءت إلى العراق برفقة الجيش الأمريكي في حرب الخليج الثانية، وتعمل بدعم مباشر من مكتب (O.F.D.A) وتحت إشراف مكتب التنسيق العسكري الأمريكي (M.c.c)، ولها أربعة مكاتب في (السليمانية، أربيل، وزاخو، ودهوك)، يديرها فريق منظمة (Global)، وجميع مقار هذه المكاتب كان منحة إجبارية من الحكومة العراقية استجابة لشروط دعم الأمم المتحدة من خلال مشروعها (النفط مقابل الحياة).
5 ـ الكنيسة الكلدانية الأمريكية: وهي واحدة من أعرق الكنائس في العراق، والتي تنتسب إلى الكنيسة في قرونها الأولى، وتنتسب إليها جميع الكنائس الكلدانية في العالم.
وتلقى هذه الكنيسة رعاية خاصة من النظام العراقي، خاصة في عهد صدام حسين، والتي أفصح عن جزء منها الخوري العراقي (يعقوب يسَّو) الذي يشرف على كنيسة القلب المقدس الكلدانية التي أسسها في مدينة ديترويت الأمريكية عام 1970م، حيث يقطن أكثر من (100) ألف كلداني عراقي، بحسب تصريح الخوري يعقوب إلى صحيفة الشرق الأوسط، والذي أدلى به هاتفياً قبل احتلال القوات الأمريكية للعاصمة بغداد بأيام قليلة.
قال الخوري إنه تلقى مساعدات ضخمة من الرئيس العراقي صدام حسين، يذكر منها (250) ألف دولار لكنيسته، ثم مثلها إلى كل واحدة من خمس كنائس كلدانية أخرى، كما تبرع بنفس هذه القيمة في مناسبة أخرى إلى إدارة الشؤون الثقافية التابعة لبلدية مدينة ديترويت الأمريكية؛ مما حدا برئيس البلدية أن يمنح الرئيس العراقي المفتاح الذهبي للمدينة.
وأضاف الخوري يعقوب؛ أن دفعات أخرى تلقتها الكنيسة الكلدانية من الرئيس صدام حسين، كان آخرها (200) ألف دولار لكنيسته، وضعفه موزعاً على كنيستين في شيكاغو، ثم مليون دولار في دفعة خاصة لبناء مدرسة خاصة لأطفال العراق في ديترويت.
6 ـ منظمة (المصادر) بريطانية الجنسية: وتعمل في مجال تدريس الكمبيوتر واللغة الإنجليزية، ولها عدة مكاتب فرعية، ومكتب رئيس في مدينة شقلاوة وضواحيها.
وفي ضوء هذه الجهود المستمرة للكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في العراق؛ فإن الكنيسة الأرثوذكسية قد استطاعت أن تؤدي دوراً كبيراً في تمهيد سبل النشاط والحركة، وجمع المعلومات الجغرافية والبيئية حول مناطق الشمال خاصة، وتقديمها إلى الكنائس التي أطلق عليها التقرير وصف (المغتربة).
7 ـ منظمة كاريتاس: وعلى محور مستقل، أعلنت نشرة (النيابة الرسولية الكاثوليكية) التي تصدر بالقاهرة، في عددها رقم 46، الصادر في نهاية مارس الماضي؛ أن منظمة (كاريتاس) الكاثوليكية العالمية، بالتعاون مع مكاتبها داخل العراق ـ والتي لم تحدد مواقعها ـ وبتنسيق مع فروعها في تركيا وسوريا ولبنان والقدس، قد أعدت كمية ضخمة من المساعدات الإنسانية تسد احتياجات ما يقرب من نصف مليون عراقي.
وقال مصدر مسؤول بالنشرة البابوية إن (كاريتاس) تلقت للغرض نفسه (600) ألف يورو من فرعها في ألمانيا للخدمات الروحية (التنصيرية).
وفي تصريح خاص لمسؤول مكتب كريتاس للتنصير ـ الذي يقع أول شارع عبد الحميد حسن بوسط القاهرة ـ رفض ذكر اسمه: أن كريتاس تعمل في العراق منذ أكثر من عشرين عاماً، لكنها ضاعفت من نشاطها بعد حرب الخليج الثانية، خاصة في منطقة شمال العراق التي تعدُّ أرضاً خصبة لأنشطة المنظمات الكنسية بمختلف طوائفها.
وقد اتفقت هذه الكنائس مجتمعة على دعم انتشار اللغة الكردية القومية كبديل للغة العربية، وصناعة مجموعات سياسية وفكرية وثقافية تتبنى دعوة الاستقلال التام عن الأمة العربية، وإنشاء وطن مستقل للأكراد في شمال العراق، ويضم أكراد العراق وسوريا وتركيا وإيران وروسيا.
وبرغم معرفة هذه الكنائس أن هذا (الوطن الحلم) غير قابل للإنشاء؛ بسبب الاختلافات العرقية والثقافية والعنصرية والدينية التي استطاعوا أن يجعلوها عقائد لأبناء العراق في المناطق الخمسة، وأنها لا تزيد عن كونها مناطق (بؤر) لإثارة القلاقل وعدم الاستقرار عندما يحتاج الأمر إلى ذلك.
8 ـ الكنيسة الآشورية: أما آخر طابور العقائد، فكانت لكنيسة تدعى (الآشورية)، بدأت نشاطها مؤخراً بعد موات دام أكثر من (90) عاماً، ويقول أصحابها إنهم أصل النصرانية في العراق، والذين استقبلوا دعوتها منذ القرن الأول الميلادي، وكانوا يعرفون باسم (النصارى السريان)، نسبة إلى الكلمة اليونانية (Assy r ion) المحرفة لكلمة (آشورى).(36/265)
وتتفق كل الدراسات لتاريخ النصرانية في العراق على أن هذه الكنيسة لاقت بطشاً مستمراً من الكنائس الغربية طوال تاريخها، وأنه بسبب خيانات بعض النصارى العراقيين لدولة الخلافة الإسلامية وموالاتهم للجيوش الغربية؛ كان يعطى المسوِّغ دائماً لدولة الخلافة أن تمنح حق الرعاية على غير المسلمين للحكومات الغربية المشابهة لهم دينياً؛ مما ساعد على استبداد الكنائس الغربية كثيراً بالكنائس الوطنية والضعيفة.
وتقول الباحثة النصرانية (نينب أمرايا) في دراسة لها غير منشورة: «إن الدولة العثمانية بهذا القرار؛ مهدت السبيل أمام الإرساليات التنصرية الغربية ليجعلوا من نصارى العراق السريان غنيمة تنهب منها كل كنيسة غربية على قدر ما تستطيع عن طريق شراء الذمم، مستغلة الحصانات الدبلوماسية، وممارسة الاضطهادات، والحصار الاقتصادي لنصارى العراق الأصليين، لإجبارهم على الاحتماء بهذه الإرساليات حفاظاً لحياتهم؛ لقاء اتباع مذهب الكنيسة التي ستتولى الحماية، فكان الثمن المدفوع خلال القرن التاسع عشر وحده، دماء أكثر من ثلاثة ملايين سرياني في مجازر صليبية غربية عنيفة، تحت عين وبصر دولة الخلافة، كان أشدها عنفاً ما حدث عام 1914 ـ 1915م؛ مما أجبر عشرات الألوف على الهجرة إلى روسيا وسوريا والأردن وتركيا وأمريكا وأوروبا وأستراليا».
وتقول الباحثة نينب أمرايا: وهكذا استطاعت تلك الإرساليات الصليبية الغربية أن تمزق أبناء شعبنا إلى مذاهب دينية جديدة هي:
1 - سريان كاثوليك.
2 - سريان أرثوذكس.
3 - سريان إنجيليين.
أما الذين حاولوا الحفاظ على هويتهم العراقية باسم (الكنيسة السريانية الشرقية القديمة)؛ فقد استطاعت الفتنة شقهم إلى ثلاث طوائف:
1 - الكلدان الكاثوليك.
2 - الكلدان الإنجيليين.
3 - أتباع الكنيسة الكلدانية الشرقية القديمة الذين ظلوا على عقيدتهم الأولى.
وتضيف دراسة (نينب أمرايا) التي بثتها الكنيسة الآشورية على شبكة الإنترنت مع أول يوم للاحتلال الأمريكي؛ قائلة: «مع كل هذه الأجواء المشحونة والملتهبة؛ تأتي مجموعة كبيرة من رواد النهضة القومية، متخذين من الصحافة والعلم والسلام نهجاً ثابتاً لنشر رسالة أمتهم القومية، مؤكدين (وحدة الشعب الآشوري) بكل مذاهبه الكنسية الطائفية، وحق أمتهم في الوجود، وممارسة حقوقه المشروعة في أرض آبائه وأجداده».
وتجاوز البيان الآشوري في أحلامه؛ مشيراً إلى تاريخ الكفاح من أجل عودة العراق كله إلى الكنيسة الآشورية القديمة، جاء فيه: (لقد وقف ممثلو الشعب الآشوري عام 1919م في مؤتمر الصلح في باريس مدافعين عن حق الوجود القومي الآشوري، ومن ثم معاهدة «سيفر» التي أبرمت في فرنسا عام 1920م، ومعاهدة «لوزان» بسويسرا عام 1924م، والتي نصت صراحة على الحق القومي للشعب الآشوري في أرض وطنه بالتعاون مع الحكومات الوطنية، ثم تلتها اللجنة الهنجارية البلجيكية عام 1925م التي اقترحت ضم الموصل في الجنوب إلى العراق، وضم (هكاري) في الشمال إلى تركيا، مع المحافظة على الحقوق التاريخية القديمة التي كان يملكها الآشوريون، وحق المهاجرين منهم في العودة إلى ديارهم في (هكاري)، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل تفاقمت الأمور إلى حد ارتكاب واحدة من أبشع المذابح في العام 1933 في منطقة (سميل)، التي أودت بحياة أربعة آلاف آشوري من مختلف الأعمار التي حيكت مؤامرتها من قبل الكنيسة الإنجليزية وحكومتها، بالتعاون مع الحكومة الملكية العراقية الموالية لها حينذاك).
ولأننا لا نملك حق المشاركة في القرار، وقد سفكت صواريخ وقنابل أمريكا دماء آلاف ممن كان لهم حق المشاركة في الرأي، وأحكمت بعتادها العسكري السيطرة على مقدرات البقية الباقية، كما أن سجون الحكومات العربية أصبحت مسكناً لمن حاولوا أو يحاولون ممارسة حق الفكر أو الفهم بشأن العراق والمسلمين؛ فإن السكوت أصبح هو خير ملاذات العصر، ويكفينا سعادة وحبوراً أننا لم نحرم من المشاركة في المشاهدة، وتطبيع المشاعر مع صورة الدماء الفضائية النازفة من أجساد المسلمين في كل أرض، في انتظار نتائج هجمة التنصير الجديدة على العراق المسلم.
--------------
تجديد الخطاب الديني
د. محمد يحيى(*)
طرحت في الفترة الماضية في أحد البلدان العربية دعوة رسمية إلى ما وصف بـ (تجديد الخطاب الديني)، ولأن الدعوة صدرت من المراجع الرسمية العليا تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى التابعة للدولة، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات، غير أن ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة.(36/266)
تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة. وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً، وهي العملية التي احتلت مركز الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب، وظهرت في هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا ترد لأنظمة هنا وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية، أو ضمها إلى نظام التعليم غير الديني، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير، أو تغيير مناهجها بالكامل لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني. وكانت الهجمة على نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال، والأداة التي توجه الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية.
وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان الإسلامية، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت «الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب، بل بدأت الحكومة التركية ومعها دوائر أمريكية تروج بالفعل لنقل هذه التجربة العلمانية القحة المغرقة في العداء للإسلام لتطبق في أفغانستان مثلاً أو حتى باكستان باعتبارها نموذجاً للإسلام الإصلاحي أو المعتدل أو العصري، وفي السياق نفسه طرحت التجربة التونسية العلمانية ممثلة ليس فقط بممارسات الحكومات التونسية ضد أوضاع الإسلام التعليمية والاجتماعية على مدى العقود الماضية، وإنما كذلك بكتابات بعض الكتاب التونسيين المتفرنسين التي أصبحت في السنوات الأخيرة توصف بالإسلام التقدمي، وتُرَوَّج على اعتبار أنها الوسيلة المضمونة لعلمنة وتغريب الإسلام تحت مسمى إصلاحه وتطويره وعصرنته، بل وصل الأمر في هذا الصدد أن أخذت دوائر سياسية أوروبية في بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا وغيرها تطرح تصوراً يقول بأن عناصر من ذوي الأصول الإسلامية الذين هاجروا إلى الغرب وأندمجوا وذابوا في مجتمعاته وتشربوا مجمل القيم والأفكار والتصورات الغربية هم الأجدر بأن يصبحوا من خلال ممارساتهم وكتاباتهم النموذج الذي يجب أن ينقل إلى البلاد الإسلامية ليحتذى ويقلد على زعم أن هؤلاء قد خرجوا من خلال وضعهم الفريد هذا بصيغة عصرية حديثة مطورة من الإسلام صالحة للعيش والتأقلم مع المجتمع الحديث (أي الغربي) وأنهم بذلك الأجدر بنقل الشعوب الإسلامية من التخلف إلى الحداثة وروح العصر.
واتخذت المسألة أبعاداً أقرب إلى الهزل واللامعقول عندما بدأت بالفعل عناصر من أشخاص ذوي أصول إسلامية لكنهم تغربوا بالكامل وتعلمنوا تفد إلى البلاد الإسلامية أو ترسل بكتاباتها وأفكارها إلى المنابر الإعلامية والثقافية وحتى الدينية في تلك البلاد لكي يجري «تقليد» ومحاكاة وتبني هذه الأفكار والتصورات باعتبارها النموذج الأسمى «للاجتهاد» الإسلامي العصري رغم أنها تلغي الإسلام بطابعها المفرق في العلمنة والتغريب. وفي تطور موازٍ أخذ الإعلام الغربي «يكتشف» أن هناك داخل وخارج البلدان الإسلامية مفكرين وكُتَّاباً هم كذلك أصحاب باعٍ في تطوير وإصلاح وتجديد وتغيير وعصرنة وتحديث الإسلام، وأنه يجب على الدول الغربية أن تشجعهم وترفع من شأنهم بالتلميع الإعلامي والدعم المالي والسياسي (كما اقترح مدير معهد جوتة الألماني الثقافي التابع لوزارة الخارجية الألمانية) حتى يمكن فرض أفكارهم بدورهم على الأوضاع الدينية والاجتماعية والفكرية في البلاد الإسلامية، وذكرت في هذا المجال أسماء بعينها من مصر وبلدان المغرب العربي، ثم من المقيمين والمهاجرين في أوروبا وأمريكا.(36/267)
وكان الهدف الأكبر ـ وما يزال ـ من وراء هذه التحركات المحمومة والمتنوعة والواسعة النطاق التي نشهدها في الآونة الراهنة هو إحداث تغيير جذري حاسم في البنية الفكرية العامة للإسلام عقيدة وشريعة وقيماً وممارسة يؤدي في النهاية كما نلمح إلى ثنائية العلمنة والتغريب؛ بحيث يخرج الإسلام من هذه العملية مسخاً مطوعاً للتآلف والانضواء تحت منظومة العالم الغربي فاقداً لتميزه وتفرده وهويته ومفرغاً من مضمونه الحقيقي؛ مما يعني نهايته كدين، وتحوُّل أتباعه عنه. ومن المخزي أن هذه الخدعة الكبرى تجري تحت شعارات جذابة براقة مثل الاجتهاد والتجديد والاستنارة وما أشبه، وينجرف وراءها الآن نفر من العلماء والرؤساء الدينيين المعينين إما جهلاً أو عمداً في سعي وراء مكاسب دنيوية معروفة، غير أن هذه التحركات الغربية التي أشرنا إليها تعاني من ضعف قاتل يشل فاعليتها ويطعن في مصداقيتها؛ فمن الشذوذ البالغ أن يجد الناس أن من يتولى كبر الدعوة إلى إصلاح وتصحيح الإسلام والاجتهاد فيه عناصر أجهزة الاستخبارات والأمن الغربية ودوائر السياسة والإعلام والكنائس هناك، ولا يقل عن ذلك شذوذاً أن يجد الناس في بلدان المسلمين وبشكل مفاجئ أن غلاة العلمانيين واللادينيين والمتغربين في وسطهم ممن لم يعهد عنهم في يوم من الأيام أدنى اهتمام أو شغل بالهم والفكر الإسلامي (إلا من حيث الهجوم الدائب على الإسلام) هم الآن الأعلى صوتاً والأكثر نشاطاً في الدعوة إلى ما يوصف بأنه الاجتهاد الفكري وحتى الفقهي والإصلاح الديني... إلخ، وهنا نصل إلى السبب المباشر والجوهري وراء دعوة تجديد الخطاب الديني كما أطلقتها تلك الدوائر الرسمية من داخل البلد المسلم العربي.
ذلك أن الدوائر الغربية النافذة ورغم تمسكها بتحقيق هدف مسخ وتشويه الإسلام من خلال التحركات التي ألمحت إليها والتي تمسك بزمامها أدركت أنه لا بد لضمان تحقيق هذا الهدف على نحو أفضل أن تتولى عناصر من داخل البلدان الإسلامية نفسها، ويفضل أن تكون من المنتسبين إلى العلم الديني (العلماء والمشايخ) وتكون لها الصدارة في هذه العملية بعد استقطابها لضمان قدر ولو ضيل من المصداقية أمام الجماهير، وحتى لا يقال إن الإسلام قد جرى «تحديثه» و «إصلاحه» على يد الاستخبارات والشرطة الغربية، أو على يد اللادينيين والصليبيين وحتى اليهود.
ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد في اللغة واللهجة، أم في المضمون؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين؟ وهل هي تغيير في المصطلح؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم؟).
خرجت هذه الدعوة معيبة بسبب المناخ الذي أُطلقت فيه ومصدر وأسلوب طرحها؛ ولذلك شابها الإبهام والتخبط إلى حد أن بعض مروجيها اضطروا للتأكيد على أنهم لا يقصدون بها إحداث تغيير أو تلاعب في ثوابت الإسلام؛ وكأنهم بذلك يدفعون تهمة شعروا أنها لا بد موجهة إليهم.
وكان الفاصل في إلقاء الشبهة على هذه الدعوة هو استخدام مصطلح «الخطاب» الذي يحتمل معاني كثيرة من مجرد الأسلوب اللغوي بمفردات المعجم وتراكيب الجمل والصور البلاغية... إلخ إلى مجمل الأفكار والآراء والتصورات الواردة في فكر فرد أو جماعة أو مذهب أو دعوة ما.
وقد سعى طارحو الفكرة إلى الإبهام بأنما هم يقصدون القسم أو المعنى الأول دون أن يجرؤوا حتى على القول بأي هدف يريدون تجديد الخطاب الديني؛ لأنهم لا يجرؤون على الإعلان بأنهم يرمون إلى نشر الدعوة الإسلامية بهذا التجديد؛ لأن الإسلام مرفوض في عصر العولمة الأمريكية والحملة على «الإرهاب».
لكنهم في الواقع كانوا يقصدون المعنى الثاني لكلمة «الخطاب» بحيث يعني تجديده تغييراً شاملاً لمضمون ومحتوى الإسلام. والأدهى من ذلك أن عملية تجديد الخطاب الديني بهذا المعنى الذي لم يُقَل للجماهير أُوكلت للعلمانيين وغير الثقات ممن ينتسبون بشكل واهٍ للعلم الديني مما يكمل دائرة الشر في مرمى وسياق هذه الدعوة.
---------
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الأداب، جامعة القاهرة.
-----------------
تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير (2)
فقه الوفاق .. متى نحييه..؟!
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
أصبح الإجماع الدولي على استهداف الإسلاميين أمراً محيراً، وأصبح انحياز الملحدين إلي جانب النصارى، وانسجام النصارى مع اليهود، وتلاقي اليهود مع الوثنيين، واتفاق أهل النفاق مع كل هؤلاء على ضرب الإسلام وإذلال المسلمين؛ من المحن الدهماء، والفتن التي تدع الحليم حيران، فحتى الدعوات السلمية، والجهود الخيرية، والمقاومات المشروعة للاحتلال في مثل فلسطين والشيشان والفلبين والعراق وأفغانستان، أصبح كل ذلك محرَّماً مجرَّماً، ومعارضاً مطارداً!(36/268)
إنه إجماع غير مسبوق للاعتداء على المسلمين؛ فقد كان الأعداء يتناوبون ذلك الاعتداء على بعض الأطراف ولكنهم يَدَعون بعضها، ويصادمون بلداً ويصالحون آخر، أما اليوم فهم مجمعون ومجتمعون على الحرب والضرب في كل حدب وصوب {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
ولكن دهشتنا وحيرتنا، وانزعاجنا واستغرابنا من ذلك (الإجماع والاتفاق) لا يدانيه في الدهشة والانزعاج، والحيرة والاستغراب، إلا ما يقابله ما يشبه (الإجماع) ـ من هؤلاء المستهدَفين ـ على عدم الاجتماع، من شِبه الاتفاق منهم على عدم الاتفاق. لا أقصد على مستوى الزعامات والقيادات فقط؛ فذلك أمر قد كثر الكلام فيه، وسبق التعرض له، ولكن أقصد على مستوى القواعد العريضة، والبُنى التحتية لهؤلاء الإسلاميين المستهدَفين.
انظر حولك ترَ عجباً: جهوداً مبعثرة، وإمكانات مهدرة، مع صفوف متناثرة، وقلوب متناكرة!.. ما هذا يا أمة الإسلام؟! أفي مثل ذلك الليل البهيم نظل نسهر على التخاصم والتنافر، وننام على التنازع والتدابر؟! أين الصف المرصوص، أين قلب الرجل الواحد، وتداعي الجسد الواحد، وخفض الجناح ولين الجانب، والتآخي والتصافي والتراحم والتواد؟! حقاً لقد صنع الشقاق والجفاء منا غثاء، حتى تعاوت علينا كلاب الأرض، وتعاونت علينا ذئابها، وصدق فينا قول الرسو صلى الله عليه وسلم : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أوَ مِنْ قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»(1)، نعم نحن كثير كثير.... ولكن الشقاق والجفاء حوَّلنا إلى ذلك الغثاء.
* هناك مشكلة:
لقد وُفقت الصحوة الإسلامية في تجاوز عقبات كثيرة في أثناء مسيرتها في العقود الأخيرة، فأحرزت إنجازات، وانتزعت نجاحات، واختطت طريقها وسط كثير من العراقيل والعقابيل بتوفيق وسداد.
ولكننا يجب أن نعترف أنها أخفقت... نعم أخفقت في تأمين الحد الأدنى من وحدة الأمة، بتقصيرها في بذل الحد الأدنى من العوامل «الشرعية» لوحدة هذه الأمة، لا على المستوى العام فقط، بل على المستوى الخاص أيضاً مستوى الإسلاميين العاملين.
إنني أزعم أن هناك قسماً كبيراً من الشريعة التي نتنادى بتطبيقها وإقامة أحكامها، نقوم ـ نحن الإسلاميين ـ إلا من رحم الله ـ بتجافيه والإهمال فيه، وهو ذلك القسم الذي يشمل الأحكام والهدايات والآداب التي تتضمن تأليف القلوب وتوحيد الصفوف؛ فوحدة هذه الأمة منهجياً وقلبياً، مطلب من مطالب الشريعة كبير، ومقصد من مقاصد الإصلاح عظيم، ولا أدري؛ كيف خلت مناهج أكثر الجماعات الإسلامية ـ إن لم تكن كلها ـ من مراعاة تحقيق ذلك المقصد في الواقع العملي؟! صحيح أنه كانت هناك دائماً مساحة للكلام على (الوحدة الإسلامية) من الناحية النظرية، ولكنها من الناحية العملية كانت توظف ـ في الغالب ـ لصالح الوحدة الحزبية أو الفكرية أو التنظيمية، ولن أدلل على ذلك بأكثر من شهادة الواقع على ذلك، مما يعرف الجميع تفاصيله.
* معاتبات (أخوية):
* «المسلم أخو المسلم»(1)هذه مقولة نبوية، وشِرعة إلهية، وهي مع ذلك بدهية أولية من بدهيات الإسلام، ليست من مسائل الخلاف الوعر أو البحث الدقيق. ولكن تعالوا ننظر في واقعنا ـ نحن الإسلاميين ـ: هل ينظر كل منا إلى الآخر هذه النظرة، وهل يطبق معه هذه البدهية؛ فـ «لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره»؟!
* «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى»(2)، كلمات مضيئة من مشكاة النور النبوي؛ فهل تربت الأجيال في الفصائل والتجمعات، على ذلك الخُلق السامي مع (كل المؤمنين)، ولو كانوا مخالفين في «الانتماء»، أو مغايرين في «الفكر»؟!
* ثم.. ما حقيقة هذا «الانتماء»، عندما يتعارض مع الانتماء المعقود في السماء؟ وما قيمة ذلك «الفكر» الذي لا ينطلق من الفقه القرآني والهدى الرسولي عندما يدعو ذلك الفكر إلى قطيعة وجدانية بين المؤمنين الذين «تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم»(3).
* أمْرُ الله لهذه الأمة بالاعتصام بحبله تكليف للعامة والخاصة؛ فكيف ننادي في العامة بالاجتماع تحت راية الإسلام، ونحن غارقون في الفرقة، والناس يروننا ـ ونحن حملة الراية ـ أوْلى الأمة بذلك الاجتماع؟
* «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضَه. وشبك بين أصابعه»(4)، هل أقمنا البنيان على مبدأ الأخوة والمحبة في الله، حتى يشد بعضه بعضاً، أم أقيم ذلك البنيان على أسس من المحبة في ....، وفي......، وفي....، وفي .... حتى أصبحت مبانينا يهد بعضها بعضاً، بدلاً من أن يشد بعضها بعضاً؟!(36/269)
* تنادينا بأهمية الحوار، حتى نادى بعضنا بضرورة الحوار مع (الآخر) ـ يعني الكفار ـ والحوار مع (الآخر) من المارقين والعلمانيين الفجار، وقد سمعنا كثيراً عن حوارات (التقارب بين الأديان) و (الحوار الإسلامي المسيحي) وحوارات (التقارب بين السنة والشيعة) والحوارات بين الإسلاميين والقوميين والليبراليين، ولكن: أين حوار الإسلاميين مع الإسلاميين؟ حوار السُّنة مع السُّنة؟ حوارات جماعاتها مع جماعاتها، وقياداتها مع قياداتها، ودعاتها مع دعاتها؟ أم أن الحوار مع (الأخ) مؤخر دائماً حتى ينتهي الحوار مع (الآخر)؟!
* نتحسس في الكلام ـ كثيراً ـ ونتدسس في الأسلوب ـ غالباً ـ ونهادن أو نداهن في العبارة أحياناً ـ إذا كان الكلام مع (الآخر) ولو كان هذا الآخر منافقاً معلوم النفاق، أو فاجراً يكرمه الناس مخافة شره، أو كافراً لا حرمة له ولا ذمة، خوفاً على شعوره (الرقيق) أن يخدش، وحسه (المرهف) أن يمس، أما إذا جاء الحديث مع، أو عن، أو إلى ذلك الأخ (المخالف) أو فعند الكثيرين منا ـ إلا من رحم الله ـ فلا تحسس ولا تدسس ولا مجاملة ولا حتى حسن مجادلة، مع أن حسن المجادلة مطلوب مع أهل الكتاب، فكيف بمن جعلته الشريعة في منزلة الأقربين من الأهل والأصحاب؟!
* كلما ندب دعاة الوفاق أنفسهم لمحاولة إصلاح ذات البين بين خواص الأمة، انبرى لهم دعاة الشقاق متهمين إياهم بأنهم أصحاب نهج (عاطفي)، أو أن الواحد منهم مجرد (واعظ) لا يرقى إلى مستوى فوق الخطب والمواعظ!!
نقول: هبهم (عاطفيين) فمتى أصبح شأن المؤمنين في (تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم) أمراً مستهجناً؟ وهل تستنزل الرحمة إلا بذلك التراحم وتلك العاطفة فيما بين المسلمين؟ ثم .. ماذا يُنقم من (الموعظة)، ولماذا يُهوَّن من شأنها، مع أن القرآن كله (موعظة) وكذلك التوراة المنزلة من عند الله، والإنجيل المنزل من عند الله. قال ـ سبحانه ـ عن القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، وقال عن التوراة: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]، وقال عن الإنجيل: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46]، وليست المواعظ في الرقائق والسلوكيات فحسب بل إن الأمر بالنظر في جوهر الرسالة ـ وهو التوحيد ـ موعظة، والنهي عن الشرك موعظة، قال ـ سبحانه ـ: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة} [سبأ: 46]، وقال: {وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
[لقمان: 13].
* فلسفة (ليس في الإمكان أحسن مما كان) تكاد تحكم النظرة «التجميدية» للواقع الإسلامي، على ما هو عليه من تشرذم وفرقة، مع أن النظرة الشرعية «التجديدية» تدعو دائماً لإحياء ما اندرس من معالم الدين، ومنها وفي مقدمتها ـ بعد التوحيد ـ عقيدة الولاء والبراء، التي هي أوثق عُرى الإيمان.
* شرعيون لا قدريون:(36/270)
نحن نؤمن بالقدر، لكننا لا نؤمن «بالقدرية» فالقدرية (العقدية) بنوعيها(1)، ابتداع في الدين، وشذوذ في الاعتقاد، عافى الله ـ تعالى ـ منه أهل السنة والجماعة، ولكن نوعاً جديداً من (القدرية الفكرية) بدأ ينتشر بين المسلمين، يشيع بينهم نوعاً من الهزيمة، ولوناً من السلبية، تقعدهم عن العمل بتكاليف الشريعة ومحكمات الأحكام احتجاجاً بالقدر؛ وذلك في صنوف من الأقاويل، منها مثلاً: أن هزيمة أعداء الأمة والتمكين للإسلام لن يكون إلا في زمان المهدي، ومنها: أن انتصارنا على اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال..! ومنها: وهذا هو المقصود هنا ـ أن وحدة الأمة لن تتحقق أبداً؛ لأن القدر محتوم بدوام الافتراق؛ فلهذا فإن من العبث ـ كما يقولون ـ السعي في الوفاق والاتفاق، بل إن بعضهم تنطع وعدَّ الدعاء بجمع كلمة المسلمين من التعدي في الدعاء؛ لأن ذلك يتعارض مع القدر المعلوم باستحالة هذا الجمع!! ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم، لعلموا أن الاعتصام بحبل الله حكم شرعي للتنفيذ لا حكم قدري للتعجيز، أو من باب (التكليف بما لا يطاق)؛ فاجتماع قلوب المسلمين على العمل بالدين هو الدين، وتفرقهم وتنازعهم وفرقتهم ـ بمزاعم قدرية أو حزبية أو مصلحية ـ هو هدم لأهم عوامل التمكين؛ ألم يأمر الله ـ تعالى ـ بالاجتماع في قوله ـ سبحانه ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]؟ إن هذه الآية أصل في فقه الوفاق، وقاعدة من قواعد العلاقات بين المسلمين، ولو كان الاجتماع والوفاق مستحيلاً قدراً، لما جاء الأمر به شرعاً. قال الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسيره لهذه الآية: «يعني بذلك ـ جل ثناؤه ـ: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، يريد بذلك ـ تعالى ذكره ـ: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله»(2)، ولو كان ذلك الاجتماع غير مقدور لما فُسرت الآية بذلك. وقال المفسر ابن عاشور ـ رحمه الله ـ عند كلامه على هذه الآية: «هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية» وعلل ذلك بأنها تشتمل في أولها على النهي عن الموت على غير الإسلام، بما يستوجب النهي عن مفارقة الإسلام طول الحياة، وأنها تشتمل كذلك على الأمر الشرعي بالاعتصام وعدم التفرق بما يستوجب الأخذ بأسباب ذلك وقال ـ رحمه الله ـ: «أمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماءً»(3) فأين هذا من قول من يقول: إن الفرقة قدر غالب، وضربة لازب؟!
إن الأمر بالاجتماع هو أمر بمسبباته من الأوامر الشرعية، كما أن النهي عن الفُرقة هو نهي عن مسبباتها من المناهي الشرعية، ولذلك قال العلامة أبو السعود في تفسير الآية نفسها: { وَلا تَفَرَّقُوا}: «لا تُحدِثوا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة»(4).
وما يوجب التفرق ويزيل الألفة، نعرفه جميعاً في كثير من المجالس والمنتديات، وفي أكثر المجادلات والحوارات الخالية من أدب الحوار الإسلامي، وإذا كان بذل الأسباب لتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين واجباً شرعياً، فإن مع ذلك الواجب واجباً آخر أوجب، وهو أن يكون هذا الإخاء مبنياً على الالتفاف حول ثوابت هذا الدين ومحكماته. والدعوة إلى وحدة العمل الإسلامي هنا ليست دعوة إلى تأليف القلوب على مفهوم مقلوب، أو منهج مبتدع، أو اعوجاج ظاهر عن الأصول الثابتة؛ ولكنها دعوة إلى التآلف على الهدى المحكم، والثوابت المجمع عليها(5)؛ وهذه مساحتها أكبر بكثير من مساحة المسائل المختلف فيها. وأكثر ما تعج به الساحة الإسلامية من خلافات واختلافات، إنما هو في مسائل قد تختلف فيها الأنظار ويسوغ فيها الاختلاف.
ولوحدة الجماعة المسلمة ـ كما يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ «ركيزتان تقوم عليها لتحقق وجودها وتؤدي دورها: الركيزة الأولى هي الإيمان والتقوى المأمور بها في قوله ـ تعالى ـ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، والركيزة الثانية هي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله على منهج الله، لتحقيق منهج الله؛ فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام، من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله، أي عهده ونهجه ودينه، وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر »(1).(36/271)
وقد يقول قائل: وهل حققت التجمعات الإسلامية في العالم الركيزة الأولى حتى تنتقل إلى الركيزة الثانية؟ والجواب: إن الفصائل التي ندعو إلى التوافق القلبي والتوفيق المنهجي بينها؛ هي تلك التي لم تخرج عن (الجماعة) بالمعنى الشرعي، أي التي لم تخالف الأصول العامة لأهل السنة والجماعة، وهذا حال أكثر الفصائل المشهورة والمعنية بالكلام هنا ـ فيما نعلم ـ فهؤلاء وحدتهم المنهجية متقاربة، ولكنهم فرطوا كثيراً في وحدتهم الأخوية الوجدانية. أما الزاعمون بأن اجتماع الكلمة ووحدة القلوب من الممنوع قدراً، بناء على أحاديث الافتراق، وتفرد الطائفة الناجية، فنقول لهم: حديثنا هو عن اجتماع فصائل العاملين من تلك الطائفة، وليس عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً من الطوائف البدعية المخالفة في أصول الاعتقاد؛ فلهؤلاء شأن آخر، ثم إنه لا يمكننا أن نضرب الشرع بالقدر، للهروب من الشرع احتجاجاً بالقدر؛ فهل إذا أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه الأمة ـ قدراً ـ في التشبه بأعدائها في قوله: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم»(2) هل يعني ذلك أننا غير مأمورين شرعاً بترك هذا التشبه؟! وهل يعني تقدير وقوع الفتن ألاَّ يفر المرء من الفتن؟ أو أن تقدير غربة الدين يعفينا من العمل على إزالة تلك الغربة عن الدين؟
إن الوحدة بين المسلمين فريضة توصل إليها فرائض، وشرعة تتضمن العديد من التشريعات؛ فالأمر بالأخوة الإيمانية هو أمر بالعديد من شعب الإيمان الموصلة لها، هو أمر بخفض الجناح، وحسن الظن، والعفو والصفح، وصنائع المعروف، وإبداء النصيحة، وقبول النصيحة، والرفق في النصيحة، والإخلاص في النصيحة، والستر على العيوب، والرفق في الأفعال واللين في الأقوال، والدفع بالتي هي أحسن، والصبر على التي هي أقوم من مواقف العدل وسياسة الإحسان، إلى غير ذلك من العديد والعديد من شعب الإيمان.
أكاد أجزم بأن أكثر شعب الإيمان توصلنا إلى الاعتصام بحبل الله، وكيف لا؟ ورسول ا صلى الله عليه وسلم قد جعلها أهم روابط الإيمان في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله»(3).
وأكاد أجزم ـ في الوقت نفسه ـ بأن الشقاق لا يحصل إلا بعد الوقوع في العديد من شعب العصيان التي يزينها الشيطان ليوقع المسلمين في الافتراق والشقاق.
* الحاضر الغائب (لعنه الله):
أعني به ذلك العدو المبين الذي قال الله ـ تعالى ـ عنه: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]؛ فمن عظيم عداوته، وشدة أذاه لأولياء الرحمن أنه يتربص بأُخوَّتهم، ويستهدف محبتهم، ويحرص ـ لعنه الله ـ على أن ينال حظه من مجموع المؤمنين بالمعاصي الجماعية، بعد أن ينال من آحادهم بالمخالفات الفردية، وذلك بأن يضل الجميع عن أعظم محاب الله، وهو الحب في الله، فينشر البغضاء، ويشيع الكراهية، ويبث الأحقاد والضغائن والإحن، ليظفر ـ عليه اللعنة ـ من وراء ذلك بكم كبير من الكبائر... نعم الكبائر والآثام التي يقع فيها المتدابرون والمتباغضون والمتنازعون المتفرقون.
تصور معي شخصاً، لا يقيم علاقته مع إخوانه المسلمين على الميزان الشرعي للأخوة الإيمانية، فيقع ـ كما نشاهد كثيراً ـ في بغض أخ له بغير حق، وفي عداوته لغير الله، إنه سيحوز بلا شك، من وراد ذلك الخلل الشرعي في علاقته بأخيه، عدداً غير قليل من كبائر الذنوب وموبقات الآثام، وقد لا يشعر بذلك لتزيين الشيطان له سوء عمله حتى يراه حسناً.
- إنه قد يحتقره، واحتقار المسلم من الكبائر «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»(4).
- وقد يهجره هجراً غير شرعي فوق ثلاث، وذلك لا يحل له، لقول صلى الله عليه وسلم : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»(5).
- وقد يعتدي عليه في عرضه أو ماله أو نفسه، وذلك من الكبائر {إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
- وقد يسبه أو يتشاجر معه وذلك من الكبائر؛ لأن «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(1).
- وقد يسيء به الظن؛ وذلك لا يحل بحال؛ لأن {بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12].
- وهو في الغالب سيستحل غيبته ويقع في عرضه، وذلك من الكبائر؛ لأن الله قال: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12].
- وهو لا بد واقع في همزه ولمزه، وذلك من الكبائر؛ لأن الله قال: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وقال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11].
- وأخونا هذا ـ أو أختنا ـ سيقعان غالباً في السخرية من إخوانهم أو أخواتهن، وذلك من الإثم؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11].(36/272)
- وقد يصعِّر أحدهم خده لأخيه، أو يتكبر عليه، أو يمنع عنه الماعون، أو يخذله أو يسلمه، أو يوشي به أو يتجسس عليه أو يؤذيه بأي نوع متعمدٍ من الأذى، وكل ذلك من الكبائر أو الآثام التي كثر التحذير منها في نصوص الشريعة، والتي أجمل الله ذمها وذم أهلها في قوله ـ سبحانه ـ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58] . وهنا يفرح الشيطان، ويرقص طرباً، وهو يتفرج على هؤلاء الإخوة الأعداء الذين قد يقنع منهم بتلك الذنوب من كبائر القلوب، عوضاً عن إيقاعهم في كبائر الجوارح التي يعلم الملعون أن التورع عنها أسهل من التورع عن ذنوب القلوب.
لن نعجب بعد ذلك، عندما نعلم أن حظ إبليس اللعين من الإيقاع بين المسلمين يكفيه في نفث عداوته، وإنفاذ أحقاده؛ وفي هذا يقول الرسو صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم»(2)، إن ذلك التحريش قد يوقعه الشيطان بين أهل الصلاة، بحزازات حزبية، أو خلافات فكرية، أو فروق طبقية، أو عرقية أو عنصرية، وقد يوقعهم في ذلك بسبب حواجز وهمية أو أحقاد متوارثة تاريخية، لا بل قد يحرش بين المصلين بمجرد اختلافات (جغرافية) ليس لأحد فيها اختيار، فيجري على ألسنة المخدوعين به عبارات الاستثقال والاحتقار لأهل بلد، بل لجهة في البلد الواحد دون جهة كأن يسخر مثلاً من أهل (الجنوب) في بلدٍ ما، أو سكان (الشمال) في أرض ما، كما قد يغري أهل (الشرق) بالتكبر على أهل (الغرب) أو العكس، فتنطلق على ألسنة البعض عبارات النتن الكريه الذي كرم الله المؤمنين عنه، وكرَّههم رسول صلى الله عليه وسلم أن يخوضوا فيه، في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمن كادوا أن يفتنوا بالتحريشات الجاهلية: «ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة»(3)، يقصد بذلك r التعالي بالأحساب والأنساب، والتميز بالأسماء والألقاب.
أين موقع التحصين من تلك المخاطر في مناهجنا التربوية، وبرامجنا التعليمية والتثقيفية؟! أظن أن أمامنا الكثير من الوقت، حتى تحل (ثقافة الإخاء) أو (فقه الوفاق) في قلوب وعقول الناشئين والمُنشِّئين؛ لأن الثقافة المعاكسة، والفكر المخالف في ذلك، قد كاد يستفرد بالعقول والقلوب حيناً من الدهر، حتى لقد أثمر هذا الخلل أحوالاً من الخصام شبه العام في غير ما قضية، بما يستوجب بحكم الشرع والدين إجراء مصالحة شاملة بين أنصار الشرع وأهل الدين ترغم أنف الشيطان، وتحبط خطط الأعداء.
* الشعيرة الغائبة:
لا بد من عزمة أكيدة على إحباط خطط الشياطين في التفريق بين المؤمنين، لا بد من أن ينتدب قوم من العقلاء والصلحاء لمهمة إصلاح ذات البين بين خاصة الأمة فضلاً عن عامتها. لا بد من بذل الجهد واستفراغ الوسع في الإصلاح بين طوائفها وفصائلها وجماعاتها ومنظماتها. وما نقوله ليس اختراعاً لاقتراح، بل هو تذكير بشعيرة منسية، يبدو أن الخلافات شغلتنا عنها، والمزايدات زهدتنا فيها.
إن الإصلاح بين المؤمنين فريضة أخرى لا تقل أهمية عن فريضة الاعتصام بحبل الله؛ فقد خاطب الله ـ تعالى ـ خير أجيال البشر في زمان خير البرية r آمراً إياهم بأن يتقوا الله في الإصلاح، ويندبوا له من يقوم به، فقال ـ جل شأنه ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وهل هناك أقدر على الإصلاح في الأمة منا نحن الإسلاميين؟ وهل هناك أحوج إلى الإصلاح في الأمة منا نحن الإسلاميين؟ إن الآية أمر إلهي لنا، وللأمة جميعاً بأن نبادر إلى رفع أسباب الشقاق، وإحلال أسباب الوفاق. يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره لهذه الآية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، «أي: واتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تظالموا، ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه» ثم أورد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قوله: «هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات البين»(4).
وانتداب طائفة من الإسلاميين العاملين لبذل جهد إصلاحي بين الفصائل الإسلامية؛ ليس ـ كما يظن البعض ـ كتابة على الرمال أو نطحاً للجبال؛ فهذا من تسويلات الشيطان وتحريشاته العنيدة، بل إن مجهودات المصالحة لا بد أن تعود بخير؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال في شأن الزوجين: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]؛ فما بالنا بخيرية الصلح بين جماعتين أو اتجاهين أو أكثر أو أقل؟(36/273)
إن إصلاح ذات البين لا بد أن تكون له آثاره وثماره، وقد يكون نصيب المصلحين، ما يعود على أشخاصهم هم من نفع وبر فضلاً عن دفع الشر والضر؛ فالله ـ تعالى ـ يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]، فهل يُزهد في هذا الأجر العظيم، وهل يفرط حريص على الخير في تلك الفضيلة الكبرى التي جاء الخبر المعصوم بأنها الأفضل بين الأفضل من الأعمال؟ قا صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى! قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»(1). بلى والله.. تحلق الدين وتميت الشعور.
* هذا البراء، فأين الولاء..؟
لا أدري، لماذا أشعر كثيراً بأننا شطرنا تلك القضية في واقعنا الإسلامي إلى شطرين: أحدهما: فاعل حيْ، والثاني: خامل ضامر. أعني بذلك أن مسائل الولاء، لم تحظ ـ دعوياً وعلمياً ـ بذاك الاهتمام الذي نالته مسائل البراء، بل تكاد قضايا الولاء الشرعي للمؤمنين بأحكامه ومسائله تذوب وتتوارى خلف قضايا البراءة الشرعية من الكافرين، مع أن هذه لا تقل أهمية عن تلك، ولهذا اقترنت هذه دائماً بتلك؛ فهل السبب في ذلك هو أن الأعداء أفلحوا في إحياء مشاعرنا في البراءة منهم بكثرة اعتدائهم وكشفهم عن أحقادهم؟!... ربما، وهل ساعد على ذلك أن علماء دُعاة الصحوة ركزوا كثيراً في طروحاتهم وأدبياتهم على إحياء البراء قبل الولاء والإخاء؟!... قد يكون.
الحقيقة الضائعة وسط ذلك، هي أن البراء بلا ولاء لن يجدي كثيراً في إنهاضنا من كبواتنا؛ فقضية الولاء ليست ذات بعد عقدي فقط، ولكن لها أيضاً بُعد واقعي، نحياه منذ عهود طويلة، فأنا أزعم، بل دعني أقول: أجزم بأن التفريط في أسباب الولاء والإخاء بين المسلمين هو تفريط في رأس مالنا، وفي أكبر أسباب استجلاب النصر لنا.
فعندما امتن الله ـ تعالى ـ على رسول صلى الله عليه وسلم بأنه أمدَّه بكل أسباب النصرة والتأييد جعل كل تلك الأسباب: من تنزيل الملائكة، وتثبيت الأقدام، وإنزال الغيث، وتنزل السكينة على قلوب المؤمنين، مع إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ـ جعل ذلك كله في كفة، وجعل التأييد بالمؤمنين المتآخين المتآلفين في كفة أخرى، فقال ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ )62( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 - 63]؛ فالله ـ تعالى ـ أيد رسول صلى الله عليه وسلم بمؤيدات كونية وعلى رأسها الإمداد بالملائكة، ومؤيدات شرعية وعلى رأسها التأييد بالمؤمنين المتآلفين الذين ألف بينهم هذا الذين بتشريعاته السامية. قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره لتلك الآية: «أي أعانك بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين، بأن قيضهم لنصرك {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} فاجتمعوا وائتلفوا وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم»(2).
إن روح التحقير أو التنفير من شأن ذلك الاجتماع والائتلاف، هو تفجير لأكبر مستودعات القوة لدى المسلمين، وبعث لأقوى عوامل الفتنة فيما بينهم، مهما كان المسمى الذي تتسمى به تلك الروح. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «كل ما أوجب فتنة وفرقة، فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً»(3).
والذين يطوِّلون ذيل البراء، حتى يمدونه إلى ساحة الولاء وبيت الإخاء بذرائع خلافية، وفي مسائل قد تكون اجتهادية، هؤلاء ينزلون ألواناً من العداوة إلى غير محلها، مع أننا لسنا أحراراً في أفعال قلوبنا من محبة أو بغضاء، بل نحن متعبدون بألا نحب إلا لله، ولا نبغض إلا لله.
وتعدي الحدود الشرعية ـ في ذلك ـ وبخاصة في المسائل الاجتهادية لون من البغي وصنف من العدوان. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، وقال: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].(36/274)
وقد أرسى شيخ الإسلام قاعدة ذهبية في التعامل بين المسلمين على أساس مراعاة الموالاة الإيمانية التي عقدها الله ـ تعالى ـ بينهم في قوله ـ عز وجل ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقول الرسو صلى الله عليه وسلم : «كونوا عباد الله إخواناً»(4)، فقال عليه ـ رحمة الله ـ: «على المؤمن أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن، فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية؛ قال ـ تعالى ـ: {وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم؛ فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله ـ سبحانه ـ بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه، والإهانة والعقاب لأعدائه، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر»(1)، وقد حرص الإمام ـ رحمه الله ـ على بيان الفصل التام بين طبيعة التعامل مع الكافرين بمقتضى عقيدة البراء، والتعامل مع المؤمنين بمقتضى عقيدة الولاء، مبيناً أنه لا تنقطع الموالاة عن مؤمن أبداً، فقال: «الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة، إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه؛ فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان»(2)، وحذر شيخ الإسلام أيضاً من إطلاق العنان للنفس لتحب من تشاء وتبغض من تشاء دون تقيد بسلطان القرآن ومنهاج السنة، فقال: «من الناس من يكون حبه وبغضه، وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله، وبغض الله ورسوله؛ وهذا نوع من الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50]»(3).
إن إحياء الموالاة بين المؤمنين، هو استدعاء لموجبات ولاية الله، وولاية الله موجبة لرحمته ونصرته، وفي الوقت نفسه فإن التنكر لتلك الموالاة للمؤمنين، والتماسها عند غير أهلها من موجبات الحرمان من الولاية الإلهية. عياذاً بالله.
قال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54].
قال حَبر الأمة، عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً»(4).
* أقَْدِم ولا تتردد!
الإخاء روح يسري، وفقه يُشاع، وثقافة تنتشر، وعلى العكس تماماً، فإن الجفاء له روحه وفكره وثقافته، ولكل من روح الإخاء والجفاء أهل، ولكل منهما أنصار ورموز ومنظِّرون ومندوبون، مسوِّقون وموزِّعون. وبقدر ما تُخدم قضايا الإصلاح يجيء الإصلاح، وبقدر ما تخدم جهود الفرقة، تعم الفرقة، وفي أوضاعنا المعاصرة، عندي ما يشبه اليقين، بأن الجهود التي تبذل من أجل الوفاق والائتلاف، لا تبلغ عشر معشار ما بذل ولا يزال يبذل من جهود الشقاق والاختلاف، وإذا كان قد فرط من أمرنا في ذلك ما فرط، مما لا يرضي الله ـ سبحانه ـ ولا رسول صلى الله عليه وسلم ، فلا أقل من المسارعة الآن إلى تدارك ما فُرط فيه؛ قبل أن ينفرط ما تبقى من عقودنا وعهودنا، ويسقط ما تبقى من شعاراتنا ومشاريعنا؛ فالظرف قاهر، والأزمات محكمة، والعدو ـ من كل صنف ـ أصبحوا كصف واحد برأي واحد في تحدٍ سافر، وعناد خطير، هم فيه أولياء متناصرون، وحلفاء متعاضدون: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
نعم! فساد كبير، أن يتحد أعداؤنا ونتفرق، وفساد كبير أن يتعاونوا على الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى، وفساد كبير أن يكونوا على أفجر قلب رجل واحد منهم، ولا نكون على أتقى قلب رجل واحد منا.(36/275)
هل بقي هناك متسع للتردد في أهمية وإمكانية، بل فرضية الانتداب للإصلاح؟! اندب نفسك أخي من الآن، وشارك بعقلك وقلبك وروحك في إشاعة روح الوفاق والاتفاق، فذاك عمل تغييري كبير، ودور عظيم في (العمل الإسلامي) لا يحتاج إلى تنظيم أو جماعة، أو تنظير أو تقعير؛ فالأمر في غاية البساطة: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره» اعلم أهمية ذلك واعمل بذلك، وادع الجميع من حولك إلى إحياء ذلك الهدي النبوي العظيم «لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، التقوى ها هنا»(5). لعل الله أن يجعلنا وإياك من المتقين.
إن روح الإخاء تلتقي مع صفاء الفطرة، وإنه بقدرالغيرة على الدين يكون الحرص على ائتلاف أهل الدين، وإن من علامة سلامة الفكر والعقل سلامة الصدر، ومن أمارات رجاحة الرأي الشغف بالوفاق والنفور من الشقاق، وأنت أيها القارئ! نعم أنت أنت... لا أراك إلا من الموفورين حظاً في صفاء الفطرة وسلامة الصدر ورجاحة العقل، فليكن لك رأي، ولتكن لك مشاركة في دفع تيار المصالحة الإسلامية والولاية الإيمانية نصحاً لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم.
* وقد يقول قائل:
وما علاقة هذا الكلام بملف (التغيير القادم) أو موضوع (تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير)؟ وهنا أقول: إن كل خطط الأعداء قد وضعت على افتراض بقاء المسلمين عامة، والإسلاميين منهم خاصة في حال من الوهن والتشرذم والفشل الناتج عن التنازع والتخالف والفرقة؛ فهم يعلمون عنا ـ من خلال المنافقين بيننا ـ كل ذلك، ولهذا فهم يخططون وينفذون وهم آمنون من أي (مفاجآت) تضامنية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ظانين أن هذه الأمة قد فُرغ منها، فأيس عوامها من زعمائها، وانفصلت قمتها عن قاعدتها على المستوى العام والخاص.
فدورنا الآن أن نغير خطنا في الفرقة والشقاق إلى خطط للوحدة والألفة والوفاق. وحتى لا نكون (قدريين) أو (عاطفيين) أو (واعظين) فقط! فهذه بعض خطوات (عملية) يمكن أن نفتتح بها عهداً جديداً لمرحلة جديدة لعمل إسلامي قائم على أسس الإخاء والتناصح والتراحم:
1 - انتصاب جمع من أهل العلم والدعوة والفكر، من أنحاء مختلفة، لمهمة وضع ورقة عمل، لما يمكن أن يكون (ميثاق عمل إسلامي) يوضح بصورة علمية منهجية الخطوط العريضة التي ينبغي أن يتوافق العاملون في أهل السنة جميعاً على الالتقاء حولها، مع بيان ما يجوز وما لا يجوز الاختلاف حوله، وإبراز ماهية خلاف التنوع الجائز المحمود، وخلاف التضاد المحرم المذموم، وأخلاقيات المسلم عند وقوع الاختلاف ونحو ذلك، على أن تنطلق هذه الورقة من أساس راسخ قائم على علمي أصول الفقه وأصول الاعتقاد.
2 - إبراز أهم الدراسات الجادة في فقه الخلاف، وأدب الحوار، وأصول الجدال بالحسنى، واستخلاص أهم ما يمكن توظيفه (عملياً) من تلك الدراسات في تنقية الأجواء الإسلامية، والمسارعة إلى ما يمكن أن يكون (حملة مصالحة) علمية وإعلامية، ترتكز على مفاهيم الوفاق والاتفاق والأخوة في ظل (عقيدة) الولاء والبراء، و (شريعة) الاعتصام بحبل الله، و (شعيرة) إصلاح ذات البين و (سلوك) المحبة والإخاء، وذلك لدفع تيار عام في الأمة يدعو إلى مصالحة إسلامية، وأتصور أن العديد من منابر الدعوة، ودور النشر، ووسائل الإعلام الإسلامي المقروءة والمسموعة والمشاهدة، يمكن أن يقوم القائمون عليها بدور فاعل في ذلك، يحتسبون فيه الأجر، ويساهمون من خلال ذلك في المسيرة التي طالما طالب الناصحون للأمة بتفعيلها وهي (ترشيد الصحوة الإسلامية).
3 - إضافة بند جديد إلى ما اشتهر مؤخراً بعمليات (المراجعة) بحيث تنطلق من ذلك البند عملية (مراجعة) جديدة وجادة للبرامج التربوية في التجمعات الإسلامية، لتنقيتها من كل ما لا يرضي الله ورسوله، من شوائب التعصب والتحزب، وآفات الفرقة والاختلاف، وهي موجودة بنسب متفاوتة في تلك البرامج، ولكن مراجعتها تحتاج فقط إلى نوع من التجرد والإخلاص.
4 - عند صياغة برامج تربوية جديدة؛ فمن المهم إعطاء قضية الولاء والإخاء والتآلف بين المسلمين، مساحتها الكبيرة الجديرة بها، حتى تتربى الأجيال الناشئة على غير ما تربت عليه الأجيال التي سبقتها، وسيساعد على تلك النقطة ما جاء في النقطة رقم [2]. فمن غير المنتظر أن تزول (آثار العدوان) الشيطاني على أُخوتنا الإسلامية بين يوم وليلة، بحدث قدري بحت ـ كما سبقت الإشارة ـ ولكنه التواصي بالحق والصبر، حتى تنمو ثمرات البر والتقوى.
5 - من المهم إجراء دراسات محايدة لفهم خلفيات الخلافيات، ورصد العوامل التاريخية والشخصية فيها؛ فكثير من الخلافات متوارثة دون تمحيص، والعديد منها أسبابه نفسية قبل أن تكون فقهية أو فكرية، وبالإمكان حصر مسائل الاختلاف الحقيقية بين فصائل أهل السنة المعاصرين، وإخضاعها لبحوث علمية جادة، أو استصدار فتاوى معتمدة فيها، من أهل العلم والفتوى، لتقليل مساحات الاختلاف كلما أمكن.(36/276)
6 - يمكن استحداث منابر متخصصة في شؤون العمل الإسلامي تسعى في جهود (التقريب) بين أهل السنة؛ بحيث يكون بعضها على شكل مجلات، أو برامج أو مواقع، أو على الأقل زوايا خاصة بذلك، تسمح بفتح حوار يدار بأسلوب راقٍ، ونفوس صافية، أو مستعدة للصفاء.
أعرف أن هناك العديد والعديد مما يمكن إضافته من مقترحات لدى المهتمين، من أجل جهد أكبر في إحياء الوفاق الإسلامي، ولعل جهودنا جميعاً تتضافر ـ حسبة لله ـ للمساهمة في تغيير الخطط، قبل أن تدهمنا جميعاً خطط التغيير.
-----------------------------------
(1) رواه أحمد من حديث ثوبان ـ رضي الله عنه ـ، ورواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: صحيح بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة رقم 958).
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، ح (2262)، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح (4650).
(2) رواه البخاري في كتاب الأدب، ح (5552)، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح (4685) واللفظ للبخاري.
(3) أخرجه النسائي في كتاب القسامة، ح (4653)، وأبو داود في الجهاد، ح (2371)، وابن ماجة في الديات، ح (2673)، وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح أبي داود، ح (2390).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ح (459)، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح (4684)، والإمام أحمد في مسنده، ح (944).
(1) القدرية الاعتقادية تمثلها فرقتان؛ فهناك القدرية المغالون في إثبات القدر، القائلون بأن الإنسان مجبر على أفعاله (مسيَّر) وهم أتباع الجهم بن صفوان، ويعرفون أيضاً بالجبرية، وهناك القدرية النافون للقدر، القائلون بأن الإنسان يستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وهذه القدرية هي التي دعا إليها معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
(2) تفسير الطبري للآية: 103 من سورة آل عمران، والنقل من طبعة دار الحديث بالقاهرة (3/21).
(3) تفسير التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، (3/30، 31).
(4) تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، للعلامة أبي السعود (1/526).
(5) من أحسن ما ألف في ذلك كتاب الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي، للدكتور صلاح الصاوي.
(1) في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/ 436).
(2) أخرجه البخاري في الاعتصام، ح (6775).
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ح (17793). وقال الألباني قوي بطرقه وحسن بشواهده، انظر: السلسة الصحيحة، (998، 1728)
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، ح (5605)، ومسلم في البر والصلة، ح (4650).
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، ح (5605)، ومسلم في البر والصلة، ح (4641).
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، ح (1860)، وأحمد في مسنده، ح (14288). وقال الألباني صحيح (السلسلة الصحيحة/2947).
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، ح (4525)، ومسلم في البر والصلة، ح (4682).
(3) تفسير ابن كثير للآية 1 من سورة الأنفال، (1/316) طبعة الندوة العالمية.
(4) أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، ح (2432). وقال الألباني: حسن لغيره، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، ح (2827).
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة، ح (4677).
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ السعدي، (3/ 186).
(3) الاستقامة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (1/ 39).
(4) سبق تخريجه.
(1) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (28/208).
(2) مجموع الفتاوى، (28/ 201).
(3) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (1/ 354).
(4) حلية الأولياء، لأبي نعيم، (1/ 312) وجامع العلوم والحكم، ص 30.
(5) مسلم حديث (4650)، البر والصلة.
----------------
المرأة المسلمة... بين (موضات) التغيير وموجات التغرير
د. فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم
بدأ الاهتمام بقضايا المرأة على المستوى العالمي بشكل واضح ابتداءً من عام 1975م(1)، حيث اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك العام (عام المرأة الدولي)، وأقيم في ذلك العام المؤتمر العالمي الأول للمرأة(2)، ثم في عام 1979م عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً تحت شعار (القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة)، وخرج المؤتمرون باتفاقية تتضمن ثلاثين مادة وردت في ستة أجزاء، للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ـ بالمفهوم الغربي ـ، وجاءت هذه الاتفاقية ـ لأول مرة ـ بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها، إما بتصديقها وإما بالانضمام إليها.
وتعدُّ هذه الاتفاقية من أخطر الاتفاقيات المتعلقة بالمرأة؛ أولاً لأنها تعدُّ الدين شكلاً من أشكال التحيز ضد المرأة؛ وثانياً لأن فيها رسماً لنمط الحياة في مجالاتها المختلفة (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والفكرية.. وغيرها من مجالات الحياة) بالمنظور الغربي لحقوق المرأة القائم على ركيزتي الحرية التامة والمساواة المطلقة؛ ولذلك كانت توصيات مؤتمرات المرأة اللاحقة تنطلق من هذه الاتفاقية وتعدُّها دستورها الأعلى؛ وثالثاً لأنها الاتفاقية الوحيدة الملزمة للدولة التي توقِّع عليها بتنفيذ بنودها ـ كما تمت الإشارة إلى ذلك ـ، وعدم التحفظ على أي بند منها.(36/277)
وحيث إن المرأة المسلمة لم تتطبع بالأنموذج الغربي بالسرعة المطلوبة وبالتواريخ التي كانت المؤتمرات السابق ذكرها تضعها في أجندتها؛ فقد اتُخذت عدة خطوات من أجل سرعة تفعيل تغريب المرأة المسلمة، ويمكن تأريخ هذه الخطوات ابتداء من عام 0002م، وهو العام الذي حددته الأمم المتحدة موعداً نهائياً لتوقيع جميع الدول على اتفاقية «القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة».
ومن تلك الخطوات:
- عقد مؤتمرات قمة للمرأة على مستوى قرينات رؤساء وملوك الدول العربية: وقد أقيمت قمتان؛ الأولى في القاهرة بمصر، والثانية في عمان بالأردن. وقد انبثق عنها عدة مؤتمرات إقليمية ناقش كل منها موضوعاً خاصاً، كالمرأة والإعلام، والمرأة والتعليم، والمرأة والتنمية.. إلخ.
- إنشاء مؤسسات خاصة بشؤون المرأة على أعلى مستوى: مثل: المجلس القومي للمرأة بمصر، والمجلس الأعلى لشؤون المرأة في بعض دول الخليج، كالبحرين وقطر.
وبعد أحداث 11/9/ 1002م، وما تلاه من تداعيات؛ حدثت تحولات عالمية كبيرة ـ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ـ حيث سعت إلى إحداث تغييرات واسعة، كان لها الأثر الواضح في تدخلها على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي للمنطقة العربية والإسلامية ـ أفغانستان مثال ظاهر في هذا الشأن ـ، إلا أن الأمر لم يقتصر على المجالات السابقة، بل شمل أيضاً المجال الاجتماعي متمثلاً بالمرأة وقضاياها، فالولايات المتحدة الأمريكية ـ القطب الأوحد في العالم هذه الأيام ـ استغلت ما أسمته «حرب الإرهاب»، واستلمت زمام الترويج لما يسمى ـ حقوق المرأة ـ، وأخذت تبشر دول المنطقة وشعوبها بالديمقراطية الأمريكية، والتي تقوم ـ في جانبها الاجتماعي ـ على المساواة بين الجنسين، والتحرر الجنسي، والمثلية الجنسية ـ الشذوذ الجنسي ـ، وإباحة الإجهاض، كما أشار إلى ذلك «رونالد إنغلهارت»(1) في مقال له بعنوان: «الصدام الحقيقي بين الحضارات» في مجلة (FP) الأمريكية(2).
وقد كانت هناك تصريحات أمريكية نادت ـ وما زالت إلى هذا اليوم تنادي ـ بوجوب حصول المرأة المسلمة على حقوقها ـ بالمفهوم الغربي المخالف للإسلام ـ، وهذه التصريحات على مستوى الرئاسة الأمريكية؛ بدءاً من بوش ومروراً بوزير خارجيته، وكبار المسؤولين في الحكومة الأمريكية.
وسأنقل الآن بعض هذه التصريحات، مرتبة ترتيباً زمنياً، ـ وإن كان في بعضها شيء من التفصيل ـ؛ وذلك لبيان صفاقة هؤلاء القوم في عزمهم فرض مفهوماتهم وقيمهم الاجتماعية على دول المنطقة، مستغلين هيمنتهم على العالم ـ من جهة ـ، وضعف حال الأمة الإسلامية، ووجود طابور من المنافقين والمنافقات الذين يستجدون هؤلاء القوم لتحقيق أهوائهم وشهواتهم ـ من جهة أخرى ـ.
أولاً: «إبريل بالمرلي» كبيرة المنسقين لقضايا المرأة الدولية في وزارة الخارجية الأمريكية: حيث ألقت كلمة بعنوان: «النساء في مجتمع عالمي»، وذلك في مؤتمر بإستانبول بتركيا بتاريخ 91/9/2002م.
وكان مما قالته: «كما أسهم سقوط نظام طالبان ـ وما كان له من تأثير فوري على حياة النساء والبنات في أفغانستان ـ في زيادة وعي الناس لأهمية الحكم التمثيلي الواسع القاعدة، وأهمية صيانة حقوق الإنسان لجميع المواطنين. ومن الناحية السياسية، ركزت الانتخابات ـ التي شكلت معلماً فاصلاً في أماكن مثل البحرين والمغرب الانتباه ـ على مشاركة المرأة في الحياة السياسية».
وقالت أيضاً: «وصيانة حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من المجتمع العالمي، وحقوق المرأة حقوق إنسانية. وعليه فإننا نستطيع، عبر الترويج لحقوق المرأة، تحسين حياة النساء وعائلاتهن ومجتمعاتهن. ولكن ضمان حقوق المرأة لا يفيد أفراداً وعائلات فقط. بل هو يعزز الديمقراطية، ويدعم الازدهار، ويزيد الاستقرار، ويشجع التسامح. وهو في صميم بناء مجتمع مدني متقيد بالقانون يشكل شرطاً لا غنى عنه للديمقراطية الحقيقية.
وقد أعربت الولايات المتحدة عن التزامها بالترويج لحقوق المرأة في جميع أنحاء العالم؛ عبر إنشائها مكتب (كبير منسقي قضايا المرأة الدولية) التابع لوزارة الخارجية، وهو المكتب الذي أرأسه. وكما قال وزير الخارجية، كولن باول، (إن دفع عجلة قضايا المرأة في جميع أنحاء العالم ليس فقط أمراً متناسقاً مع القيم التي يؤمن بها الشعب الأميركي إيماناً عميقاً، وإنما هو أيضاً في مصلحتنا القومية إلى حد كبير أيضاً). ويجتهد مكتبي في إعلام الناس في الولايات المتحدة وفي الخارج بالحاجة الملحة إلى الاعتراف بحقوق المرأة حول العالم.
أما أهدافنا فهي:
- دفع عجلة مفهومات حقوق المرأة الإنسانية، وتمكين النساء ومنحهن سلطة؛ كعنصرين مهمين في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
- دمج هذا الهدف في السياسات، وتحويله إلى جزء من مؤسساتها عن طريق الدبلوماسية العامة، وبرامج التبادل المحلية والدولية، وتدريب العاملين في السلك الخارجي (الدبلوماسي).
- تشجيع الحرية والإيمان والأسواق الحرة عبر برامج تروّج لقضايا المرأة.(36/278)
- إنشاء شراكات وتحالفات مع الحكومات الأخرى، والمؤسسات الدولية، والمنظمات غير الحكومية المحلية والخارجية، والقطاع الخاص؛ لصيانة هذه المصالح.
ويعمل مكتب (كبير منسقي قضايا المرأة الدولية) على تحقيق مزيد من الترابط والجلاء لهذا البرنامج السياسي، فنحن نروج لمجموعة كبيرة من المشاريع بالتعاون مع المكاتب المختلفة في وزارة الخارجية وغيرها من الكيانات الحكومية الأميركية، بإسهامات من المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية وحتى القطاع الخاص. وقد كان بعض أهم ما قمنا به حتى الآن دورنا القيادي في قضايا المرأة الأفغانية البالغة الأهمية، والتي تحظى باهتمام واسع عن طريق العمل مع الحكومة الأفغانية، وإنشاء المجلس النسائي الأميركي ـ الأفغاني. وعلاوة على ذلك؛ زودنا المشرعين الأميركيين بمعلومات حيوية ـ عبر تقريرنا الشامل للكونجرس ـ عن دعم الولايات المتحدة للنساء والأطفال واللاجئين الأفغان.
وقد عانت النساء الأفغانيات بشكل مؤلم أثناء الحرب، وأثناء قمع نظام طالبان القاسي أيضاً. وتقوم الحكومات المانحة حالياً بدعم المرأة الأفغانية الشجاعة أثناء سعيها إلى المشاركة في إعادة إعمار بلادها. وينبغي أن تكون قضايا المرأة في طليعة جهود إعادة الإعمار في أي مجتمع يمر بفترة ما بعد النزاع».
وقالت أيضاً: «وعلى نطاق أوسع، حدد مكتبي ثلاثة مجالات عامة للسياسة سوف نستهدفها في جهودنا القادمة.
وهذه المجالات هي:
- المشاركة السياسية للمرأة.
- المشاركة الاقتصادية للمرأة.
- الاتصال والتواصل مع النساء في الدول التي يشكل المسلمون غالبية سكانها.
وقد حددنا تحديات مختلفة حول العالم نقوم حالياً بدراستها وإجراء الأبحاث حولها، كما نعمل على إقامة اتصالات لمساعدة الحكومة الأميركية في التشجيع على اتخاذ إجراءات في هذه المجالات».
ومما قالته: «وأذكر على سبيل المثال أن نصف عدد النساء العربيات اليوم لا يستطعن القراءة أو الكتابة. وهذا يعني في الواقع أن تلك الدول تحرم نفسها من إبداع وإنتاجية نصف سكانها. ولا يمكن لأي بلد أن ينعم بالازدهار في مثل هذه الظروف، وقد ربط تقرير برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة حول التنمية البشرية في العالم العربي فعلاً، وإلى حد ما، بين تخلف الاقتصادات العربية وإخفاق الدول في تطوير طاقات نسائها. ونحن ملتزمون بالمساعدة في معالجة هذا الهدر للإمكانيات البشرية.
وكما قال الوزير باول: «إن الأمر ليس مجرد الرأي العام، بل هو حقيقة واضحة: إن الدول التي تعامل النساء بكرامة، وتمنح المرأة حرية اختيار الطريقة التي تريد أن تعيش حياتها فيها، وتمنحها حصولاً متساوياً (مع الرجل) على الخدمات الأساسية، وتمنحها فرصة متساوية للإسهام في الحياة العامة.. إن هذه الدول هي الدول الأكثر استقراراً وقابلية للحياة والنمو، وقدرة على مواجهة تحديات القرن الجديد، وإن هذه الدول هي الدول التي سندعمها».
ولهذا السبب خاصة أُعلن اليوم أن مكتبي سيعقد اجتماعاً في العام القادم لجميع وزراء شؤون المرأة في كل أنحاء العالم لتناول تحدياتنا المشتركة، وتشاطر الحلول الخلاقة، وتعزيز وصيانة القضايا التي تهم المرأة. وسوف ندعم أولئك الذين يتوقون إلى حكومات تمثيلية عريضة القاعدة. ولن تجد الدول صديقاً أفضل من الولايات المتحدة أثناء تقدمها نحو مستقبل يتصف بقدر أكبر من الحرية، وقدر أكبر من التسامح» انتهى(1).
فكبيرة المنسقين لقضايا المرأة الدولية في وزارة الخارجية الأمريكية؛ أبانت ـ بشكل واضح ـ أهداف السياسة الأمريكية تجاه نساء المنطقة، ووضعت برامج العمل، وحددت الوسائل لتنفيذ هذه الأهداف، وضربت بعض الأمثلة على ذلك.
ثانياً: «ستفين جي هادلي» نائب مستشار الرئيس بوش للأمن القومي: حيث استعرض في واشنطن بتاريخ 91/2/3002م الجهود التي تبذلها إدارة الرئيس بوش لأجل بناء عالم أكثر أمناً وأفضل ـ من وجهة نظره ـ، وعلى الأخص في الشرق الأوسط، وأفغانستان، والعراق. فكان مما قاله: «إن الرئيس ـ بوش ـ أعاد تأكيد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب ما سماه (مطالب الكرامة الإنسانية غير القابلة للمساومة)، وهي: حكم القانون، وتحديد سلطة الدولة، وحرية التعبير، وحرية العبادة، والمساواة أمام القضاء، واحترام المرأة، والتسامح الديني والإثني، واحترام الملكية الخاصة».
وأضاف هادلي: «إن هناك بدايات واعدة بالإصلاح والانفتاح في العالمين العربي والإسلامي، وبنوع خاص في البحرين، والأردن، والمغرب، وقطر، وأفغانستان»(2).(36/279)
ثالثاً: «كولن باول» وزير الخارجية الأمريكي: فقد أصدر بياناً بمناسبة صدور تقارير حقوق الإنسان السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية، وذلك في واشنطن بتاريخ 4/3/3002م، حيث قال في هذا البيان: «إن الرئيس بوش والكونجرس والشعب الأميركي متَّحدون في قناعتهم بأن الدعم الفعال لحقوق الإنسان يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية الأميركية. والولايات المتحدة ستكون صديقاً ثابتاً للرجال والنساء حول العالم الذين يتجرؤون على السعي إلى تحسين الامتثال إلى معايير دولية لحقوق الإنسان داخل بلدانهم خاصة وفي العالم أجمع.
إن حكومة الرئيس بوش تعمل بالتعاون مع الحكومات والمنظمات ما بين الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والأفراد، للمساهمة في جعل أداء الحكومات حيال حقوق الإنسان منسجماً مع الأعراف الدولية. إننا نتبنى ـ بإقدام ـ جدول أعمال عريض لحقوق الإنسان على الأصعدة الدولية والإقليمية والثنائية، وينطوي ذلك على تعزيز المجتمع المدني، ونشر مبدأ الحكومات الخاضعة للمحاسبة، والعدالة المتكافئة، والإصلاح القضائي، وحرية الصحافة، والحرية الدينية، والتسامح، وحقوق العمال، وحماية الأطفال، وحقوق النساء والأقليات».
إلى أن قال: «وفي الوقت ذاته، فإننا لن نتراخى في التزامنا بترويج قضية حقوق الإنسان والديمقراطية. فالعالم الذي يمكن فيه لكل رجل وامرأة من كل قارة، وكل ثقافة، وكل معتقد، وكل عرق، وكل ديانة، وكل منطقة أن يمارسوا حرياتهم الأساسية هو عالم لا يمكن للإرهاب أن يروج فيه»(1).
رابعاً: «رتشارد وول» العضو الشعبي في الوفد الأميركي إلى لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ـ وهو محام يعمل في المعهد الجمهوري الدولي ـ، حيث ألقى خطاباً في الدورة السنوية التاسعة والخمسين للجنة حقوق الإنسان حول موضوع «البند [01]: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية» بجنيف، وذلك في 7/4/ 2003م، قال فيه(2): «إن الولايات المتحدة ملتزمة بتوفير الأوضاع الملائمة للأفراد لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الداخل والخارج».
إن نسبة مئوية كبيرة من المساعدات الخارجية الأميركية تستهدف استراتيجيات التنمية الخاصة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية».
ومما قال في هذا الخطاب: «ينبغي ألا تكون هناك أي فكرة خاطئة عن موقف الولايات المتحدة من هذه القضية، فنحن كأمة ملتزمون بتوفير الأوضاع المناسبة للأفراد لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الداخل والخارج.
فنحن ندرك أهمية القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لاستراتيجيات التنمية الشاملة، ولذلك فإن نسبة كبيرة من المساعدات الخارجية تصب في هذا الاتجاه. فقد طلب الرئيس للسنة المالية التي تبدأ في تشرين أول/ أكتوبر ما يزيد على ألفي مليون دولار لبرامج المساعدات الجديدة. وكان الرئيس قد أعلن العام الماضي حساب تحدي الألفية الذي يتعهد بزيادة إجمالي مساعداتنا المخصصة للتنمية إلى خمسة آلاف مليون دولار خلال ثلاث سنوات للدول التي تحقق معايير الحكم الجيد والاستثمار في صحة مواطنيها ورعايتهم الاجتماعية».
* مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية:
هذا وقد صدر عن وزارة الخارجية الأميركية خطة مبادرة شراكة أميركية شرق أوسطية، سميت «بيان حقائق عن وزارة الخارجية»(3)، وذلك بتاريخ 3/4/ 2003م؛ تتكون هذه المبادرة من موجز وثلاث محاور أساسية، هي: التعليم ـ الإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص ـ تقوية المجتمع المدني، وكان لنساء الشرق الأوسط ـ في هذا البيان ـ نصيب من التدخل الأمريكي.
جاء في موجز هذه الشراكة أنها ستعمل مع حكومات وشعوب العالم العربي؛ لزيادة الفرص الاقتصادية، والسياسية، والتعليمية للجميع.
وستتضمن المبادرة أكثر من ألف مليون دولار من المساعدات التي تقدمها الحكومة الأميركية للدول العربية سنوياً.
كما أن الولايات المتحدة تقوم حالياً بتخصيص 92 مليون دولار كتمويل مخصص لبرامج المبادرة لدعم الإصلاح في كل مجال من المجالات الثلاث التي سبق ذكرها.
جاء في موجز هذا البيان ما نصه: «إن المبادرة شراكة، وسنعمل بصورة وثيقة مع حكومات العالم العربي والمانحين الآخرين والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية.
وسنقوم ـ كجزء من هذه المبادرة ـ بمراجعة برامج المساعدة الأميركية الحالية في المنطقة لضمان كون مساعداتنا تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس في جميع أنحاء المنطقة، مع تأكيد خاص على النساء والأطفال. كما أننا نريد ضمان كوننا نقدم أكثر الإعانات الممكنة تأثيراً وفعالية.
وسنستخدم التسعة والعشرين مليون دولار لإقامة برامج رائدة جديدة في كل من مجالات المبادرة التي تحظى بالأولوية. وعلاوة على ذلك، سنطور ـ في كل مجال من المجالات التي تحظى بالأولوية ـ مشاريع تهدف بشكل محدد إلى تمكين النساء وزيادة الفرص المتاحة للشباب.
وسيشغل نائب وزير الخارجية، «رتشارد آرميتيج» منصب منسق المبادرة. وسيدير المبادرة مكتب شؤون الشرق الأدنى التابع لوزارة الخارجية».(36/280)
وأما ما يتعلق بمحور التعليم فأبرز ما يمكن ذكره أن هذه المبادرة ستوفر برنامج «شراكات في سبيل العلم» لتشاطر المعرفة مع جميع شرائح المجتمع في الشرق الأوسط عن طريق برامج مثل: ورشة عمل جامعة ولاية جورجيا لقادة المنظمات غير الحكومية من المملكة العربية السعودية، والكويت، واليمن، والإمارات العربية المتحدة.
وكذلك سيكون هناك برامج تركز على تحسين حياة البنات والنساء من خلال التدريب على القراءة والكتابة، وتقديم المنح للبقاء في المدارس، وتعليم اللغة الإنجليزية.
وسيكون هناك منح للحصول على شهادة البكالوريوس في الولايات المتحدة وفي الجامعات الأميركية الموجودة في المنطقة، مع التركيز على التخصص في حقول كالاقتصاد والتربية والتعلىم وإدارة الأعمال وتكنولوجيا المعلومات والعلوم.
وأما محور الإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص، فأبرز ما سيقدمه للمرأة: «مِنَح وزارة التجارة الجديدة الخاصة للتدرُّب في مؤسسات أعمال أميركية، وهي المنح التي ستؤمن تدريباً في شركات أميركية، وستركز أيضاً على إنشاء شبكات وفرص تدريب لسيدات الأعمال من الشرق الأوسط».
* أبرز التغيرات التي طرأت في قضايا المرأة المسلمة:
كان للتدخل الأمريكي السافر في شؤون المرأة المسلمة عموماً والعربية خصوصاً، بالإضافة إلى نشوء بعض المجالس العليا الخاصة بالنساء في بعض البلاد العربية التي تمت الإشارة إليها في بداية المقال ـ أثر في ظهور متغيرات سريعة ومفاجأة ومتتابعة في تنفيذ بعض القضايا والتوصيات التي نصت عليها الاتفاقيات والمؤتمرات الصادرة عن الأمم المتحدة.
وسأشير إلى أهم القضايا التي حدث فيها التغير في بعض الدول العربية، ودور الولايات المتحدة الأمريكية وبعض المنظمات الغربية في هذا التغير وتشجيعه ـ حسب ما يتيسر ـ:
أولاً: المشاركات السياسية:
أشرت في بداية المقالة إلى المادة السابعة والثامنة من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، والتي فيها إشارة إلى الحقوق السياسية للمرأة.
وقبل أن أتحدث عن مدى ما تحقق من مشاركة سياسية للمرأة في بعض البلدان العربية، ومدى تشجيع ودعم الأمم المتحدة وأمريكا لهذه المبادرات الجريئة؛ أحب أن يطلع القارئ الكريم على اتفاقية صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل حوالي خمسين عاماً(1)، وتحديداً بتاريخ في02/21/2591م؛ وذلك لالتصاقها الوثيق بموضوعنا. وعنوانها: (اتفاقية خاصة بشأن الحقوق السياسية للمرأة)، جاء فيها: «إن الأطراف المتعاقدة، رغبة منها في إعمال مبدأ تساوي الرجال والنساء في الحقوق الوارد في ميثاق الأمم المتحدة، واعترافاً منها بأن لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده، سواء بصورة مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون في حرية، والحق في أن تتاح له ـ على قدم المساواة مع سواه ـ فرصة تقلد المناصب العامة في بلده، ورغبة منها في جعل الرجال والنساء يتساوون في التمتع بالحقوق السياسية وفي ممارستها؛ طبقاً لأحكام ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد قررت عقد اتفاقية على هذا القصد، وقد اتفقت على الأحكام التالية:
المادة الأولى: للنساء حق التصويت في جميع الانتخابات؛ بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون أي تمييز.
المادة الثانية: للنساء الأهلية في أن ينتخبن لجميع الهيئات المنتخبة بالاقتراع العام، المنشأة بمقتضى التشريع الوطني، بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون أي تمييز.
المادة الثالثة: للنساء أهلية تقلد المناصب العامة، وممارسة جميع الوظائف العامة المنشأة بمقتضى التشريع الوطني، بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون أي تمييز».
وقد ركزت الولايات المتحدة في الأشهر القليلة الماضية على هذه القضية كثيراً، فصدرت عدة تصريحات من مسؤولين أمريكيين تدعو إلى المشاركة السياسية للمرأة، وتشجع على المبادرات التي طبقت في بعض البلاد العربية.
وفي مؤتمر، عقد بالعاصمة الأمريكية واشنطن، تم دعوة 50 سيدة من الشخصيات النسائية العربية (2)؛ من الناشطات في العمل النسائي والصحفي من 41 دولة عربية. وقد تقدمت ابنة نائب الرئيس الأمريكي تشيني إليزابيث ـ في هذا الجانب ـ بفكرة حازت إعجاب الإدارة الأمريكية التي تحاول ليس السيطرة على المنطقة العربية فحسب، بل تسعى إلى السيطرة على العقول وفرض ثقافتها بالقوة على الدول العربية، حيث تم إقرار البرنامج تحت عنوان: «الإصلاح الديمقراطي بمنطقة الشرق الأوسط» رصدت له الإدارة الأمريكية خمسة مليارات دولار تشرف عليه إليزابيث بنفسها؛ بزعم تحسين أوضاع المرأة والديمقراطية والتعليم، بالإضافة لما هو معلن إلى برنامج آخر رصدت له عشرين مليون دولار بهدف توسيع هامش الديمقراطية والمشاركة في الإصلاح بالمنطقة والذي يعتمد على استضافة شخصيات عربية معروفة بانتمائها النقابي والحزبي والثقافي وتبادل الآراء بينها وبين الخبراء والمستشارين بالإدارة الأمريكية، آخرها جولة بين 91/01/2002م و 7/11/2002م، تم فيها دعوة سيدات عربيات.(36/281)
وقد نظم للمدعوات رحلات على مدى 14يوماً بخمس ولايات، كما وزعن على مجموعات عمل صغيرة، وجرى إطلاعهن على الدور الذي تقوم به المرأة الأمريكية في عملية الانتخابات، في الترشيح وتنظيم الحملات الانتخابية وإدارتها.
كما عملن بعض الوقت مع المعهد الديمقراطي الوطني، ونظيره المعهد الجمهوري الذي يشرف على الحملات الانتخابية.
وعقد لقاء في واشنطن بين المدعوات وبين إليزابيث تشيني وعدد من زوجات نواب الكونجرس من المنتميات إلى جماعات الضغط الصهيونية في حضور ـ شارلوت بيرس ـ مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للعلاقات العامة.
وقد قامت السيدات العربيات بسرد حالات الإحباط السياسي والقهر التي يعانين منها في بلادهن.
وتناولت وسائل الإعلام الأمريكية اللقاء خاصة صحيفة «الواشنطن بوست» في عددها الصادر في الرابع من نوفمبر، حيث كتب ـ بيتر سلفين ـ مقالاً بعنوان «الإعداد للديموقراطية» لخص فيه الهدف من الندوة، وجاء فيه أن قرابة خمسين امرأة عربية تحدثن في واشنطن عن إحباطهن من السياسات في دولهن، ويشعرن بالإحباط والقهر في ظل الأنظمة العربية القائمة؛ زاعمة أنه يتم قمع رغباتهن في العمل السياسي، وأعربت السيدات عن استيائهن من سياسة بلادهن التي تمنعهن من مزاولة أي نشاط، وابتكار حكوماتهن العراقيل بينهن وبين وصولهن للسلطة.
وهذه (إلين سوربري) سفيرة الولايات المتحدة ومندوبتها إلى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بأوضاع المرأة(1)؛ تصرح في كلمة ألقتها في الدورة التاسعة والخمسين للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف في 01/4/3002م، بأن: «توسعة مشاركة النساء السياسية في جميع أنحاء العالم هدف مهم آخر؛ ذلك أن تعزيز حقوق النساء من خلال المشاركة السياسية يحسن ليس فقط حياة النساء وإنما حياة عائلاتهن أيضاً، ويحسن المجتمعات المحلية والمجتمع الكبير في جميع أنحاء العالم، ولا يمكن لأي دولة أن تصبح ديمقراطية حقة إن كان يتم تعمد إخماد صوت أكثر من نصف سكانها. فبناء مجتمعات جيدة التنظيم يستدعي الإصغاء إلى آراء القطاع النسائي كمجموعة وأخذها بعين الاعتبار في العملية السياسية».
* ومن الدول التي كانت للمرأة مشاركات سياسية:
بعض دول الخليج ـ دولة قطر ـ، فقد جاء تعيين أول امرأة وزيرة في قطر(2) ـ بل أول امرأة في الخليج تتبوأ حقيبة داخل مجلس الوزراء ـ بعد أيام على الاستفتاء الشعبي الذي أُقر أول دستور لقطر في 92/4/3002م.
وأكد الدستور القطري ـ الأول منذ عام 1971م ـ الذي أُقر بعد استفتاء عام، حق المرأة القطرية بأن تَنتخِب وتُنتخَب، وحقها بإقامة حياة برلمانية؛ عبر إنشاء مجلس شورى من 45 عضواً يُنتخب ثلثاه بالاقتراع المباشر.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عيَّن أمير قطر شقيقته نائبة لرئيس مجلس إدارة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة بدرجة وزير، إلا أنها لم تتسلم أي منصب حكومي.
كما وصلت امرأة إلى المجلس البلدي في قطر إثر الانتخابات التي جرت في أبريل عام 2002م. وشاركت النساء للمرة الأولى في الانتخابات البلدية في مارس عام 1999م.
وقد حازت هذه التغييرات السياسية للمرأة في قطر على إعجاب الرئيس الأمريكي جورج بوش(3)، حيث أثنى على أمير قطر، أثناء زيارته للبيت الأبيض في 8/5/3002م، فقال: «وقد أعطى الأمير ـ أيضاً ـ مثلاً قوياً على ما هو ممكن في ذلك الجزء من العالم الذي ينتمي إليه، إنه مصلح، وقد طور دستوراً جديداً يسمح للمرأة بأن تدلي بصوتها، وأدخل النساء في وزارته، إنه زعيم عظيم، وهو يؤمن بقوة بالتعليم، فالمواطنون المتعلمون هم الأكثر احتمالاً بأن يحققوا أحلامهم».
أما في ـ البحرين ـ: فقد نص تقرير وزارة الخارجية الأميركية(4) عن حقوق الإنسان في مملكة البحرين للعام 2002م الصادر عن الوزارة في 13/3/3002م على أن الملك عيّن ست نساء في مجلس الشورى، ويحق للنساء التصويت والترشح للمراكز المنتخبة، وبعض النساء ترشحن في العمليتين الانتخابيتين، لكن لم تفز واحدة منهن بمقعد، ورغم أن أي امرأة لم تنتخب في المجالس البلدية أو النيابية، إلا أن الدستور يمنح المرأة حق المشاركة، وكان هذا موضوعاً تردد مراراً في البيانات العامة للملك وولي العهد. وقد جاءت نسبة الاقتراع في الانتخابات البلدية في مايو بحدود 51%؛ كما أن حوالي 52% من الذين اقترعوا كانوا من النساء. أما نسبة الاقتراع في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر، فكانت بحدود 53%، حسب الأرقام الحكومية؛ ولم تنشر الحكومة عدد النساء اللواتي اقترعن. علماً أن الحكومة البحرينية لا تضم أي امرأة.
أما في ـ دولة عُمان(5) ـ؛ فإن للمرأة حق المشاركة الانتخابية إذا بلغت 12 عاماً، حيث سيتم فتح المجال كاملاً أمام المرأة في المشاركة في العملية الانتخابية دون تقييده بنسبة معينة.
وقد عين السلطان قابوس بن سعيد في مارس من هذا العام رئيسة للهيئة العامة لشؤون الحرفية(1)، بدرجة وزير. وتشغل امرأتان مقعدين في المجلس الاستشاري العماني، وقد انتخبتهما هيئة مؤلفة من رؤساء القبائل والأعيان من كل أنحاء السلطنة.(36/282)
وأما في ـ دولة الكويت ـ فقد أصدر أميرها في شهر مايو من عام 1999م مرسوماً أميرياً(2) يمنح المرأة الكويتية حقوقاً سياسية كاملة بحلول عام 2003م، لكن البرلمان المكون برمته من الرجال لم يوافق على الإجراء حين صوت 23 عضواً ضده مقابل 03 عضواً صوتوا إلى جانبه في وقت لاحق من ذلك العام.
ولا يوجد في الكويت مناصب سياسية كبيرة تشارك فيها المرأة إلا منصب سفير، رغم المحاولات المستميتة من قبل بعض الكويتيات للمشاركة في الانتخابات البرلمانية؛ ولأجل ذلك كان هناك تنسيق بين بعض أولئك النسوة وبين جهات أمريكية من أجل التدرب وتلقي الدعم الأمريكي في هذا الجانب.
فقد توجه وفد نسائي يضم عشر كويتيات(3) إلى «واشنطن» لحضور ما يسمى بالبرنامج المكثف لتطوير المهارات القيادية والشخصية واتخاذ القرارات لدى النساء اللائي يتبوأن مناصب مهمة.
وقالت عضو الوفد الدكتورة «رولا دشتي» إن البرنامج استمر لمدة عشرة أيام بدأ من 26 /1/3002م حتى 7/2/3002م.
وأوضحت أن البرنامج منظم من قِبَل «معهد قيادة الأصوات الحيوية العالمي» في واشنطن برئاسة السيناتور «هيلاري كلينتون» ـ قرينة الرئيس الأمريكي السابق «بيل كلينتون» ـ وزميلتها السيناتور «كاي هيوتشيسون» ـ من الحزب الجمهوري ـ بالتعاون مع برنامج الزائرين الدوليين في وزارة الخارجية الأمريكية.
وقد نُظمت حلقة النقاش التي حملت عنوان «وضع المرأة في الكويت: تحديات وتغيرات تلوح في الأفق» بالتعاون مع «أصوات حيوية(4)» Vital Voices، وتهدف إلى هذه الحلقة إلى مساعدة نساء الكويت في إنجاز حقهن في التصويت والترشيح للانتخابات النيابية، وإلى زيادة إشراك النساء في الحياة العامة ومؤسسات المجتمع المدني عبر تدريب الزعامات النسائية في المنظمات غير الحكومية.
هذا وقد أقيمت في شهر مارس من هذا العام الميلادي ندوة في الدوحة(5) تحت عنوان «دور المرأة الخليجية في الحياة البرلمانية والسياسية» شاركت فيها كل من الإماراتية الدكتورة «موزة غباش»، والكويتية الدكتورة «بدرية العوضي»، والبرلمانية الأردنية «توجان الفيصل».
وقد تحدثت الندوة عن قضية المرأة الخليجية من عدة أوجه كمشكلات دخولها الحياة السياسية، والعراقيل ومكمن الخلل، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على الجانب التاريخي القانوني والدستوري لدول مجلس التعاون الخليجي، ومدى دعم هذه الدساتير لحقوق المرأة.
أما بالنسبة لمصر فإن مشاركتها النسائية السياسية متقدمة على مستوى الدول العربية:
فقد أصبح حقل الدبلوماسية المصرية حافلاً بالموظفات من النساء، بعد أن صارت هناك امرأة دبلوماسية بين كل ستة رجال، الأمر الذي بات معه الرجال يخشون من احتكار النساء للوظائف الدبلوماسية!!
ووفقاً لإحصاءات وزارة الخارجية المصرية(6)؛ فإن النسبة في ازدياد مستمر؛ فقد التحق بالسلك الدبلوماسي مؤخراً 51 امرأة مقابل 12 رجلاً فقط، وهي النسبة الأعلى من نوعها منذ نحو نصف قرن، الأمر الذي يفسر بأنه يشكل تقدماً نسائياً مقابل تراجع الرجال في هذا المضمار.
وتشير هذه الإحصاءات إلى وجود 12 رئيس بعثة دبلوماسية من النساء، بينما تزيد النسبة في الدرجات الأقل؛ إذ إن سدس العاملين في السلك الدبلوماسي نساء، كما أن هناك سفيرة فوق العادة ضمن 11 سفيراً لمصر على مستوى العالم.
وتمضي إحصاءات الخارجية المصرية إلى القول إن عدد الدبلوماسيات بلغ 161 امرأة من أصل 009 دبلوماسي يشكلون واجهة مصر أمام دول العالم، وأن هناك 14 سفيرة و 7 قناصل يشكلون 51% من مجمل رؤساء البعثات بالخارج، مشيرة إلى أن هناك 73 سفيرة من الفئة الممتازة، و 71 وزيراً مفوضاً و 32 مستشاراً، و 81 سكرتيراً أول، و 03 سكرتيراً ثانياً وثالثاً و 54 ملحقاً.
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتورة «فايزة أبو النجا» تشغل منصب وزيرة الدولة للشؤون الخارجية، وهو منصب وزاري مستحدث في التشكيل الحكومي الأخير في مصر، وهو خلاف منصب وزير الخارجية، وإن كان هناك من يرى تداخلاً في الأمر، غير أن «فايزة أبو النجا» تنفي ذلك مؤكدة أنها تعاون «ماهر» في القيام بمهام العمل الدبلوماسي الخارجي في ختام مشوارها الدبلوماسي الذي كلل بأول حقيبة وزارية من نوعها عربياً. كما أن هناك عضوات بمجلس الشعب المصري.
كما أنه صدر قرار رئيس الجمهورية المصرية بتعيين الأستاذة «تهاني الجبالي» أول قاضية في مصر في العصر الحديث، وقد حدث هذا الأمر بعد محاولات استمرت أكثر من 50 عاماً من تقديم أول طلب لتولي منصب القضاء من الدكتورة عائشة راتب آنذاك، وقد تم رفض طلبها وتقدمت برفع دعوى لمجلس الدولة لشرح هذا الموضوع.
ويأتي هذا القرار بتعيين أول قاضية في مصر بالمحكمة الدستورية العليا كقاضي جالس.
هذا وقد أقام المركز المصري لحقوق المرأة احتفالاً بهذه المناسبة شاركت فيه مؤسسات دولية، مثل مؤسسة «كونراد أديناور»، واللجنة الفرعية للدول المانحة وممثليها «أ/ آرلت أوزاريان».(36/283)
وعلى الرغم من ذلك فما زالت الحركات النسائية ومراكز المرأة في مصر تسعى إلى تمثيل أكبر في الانتخابات والمشاركات السياسية، وذلك من خلال إقامة المنتديات والمؤتمرات الداخلية والخارجية حول هذا الأمر.
وأذكر مثالاً واحداً على مؤتمر أقامته «جمعية نهوض وتنمية المرأة المصرية»(1) بعنوان «المشاركة السياسية للمرأة: الواقع والتحديات» وذلك بتاريخ 6/3002م، حيث حضر المؤتمر د. «فرخندة حسن» الأمين العام للمجلس القومي للمرأة، و د. «أمينة الجندي» وزيرة الشؤون الاجتماعية، ود. «مؤمنة كامل» أمينة المرأة بالحزب الوطني الديمقراطي.
ويهدف المؤتمر إلى التأكيد على أهمية ما يسميه المشاركة السياسية للمرأة ودورها في تحقيق التنمية المستدامة، مع إلقاء الضوء على النماذج الناجحة للنساء في العمل العام والعمل السياسي.
وقد صرَّحت د. «إيمان بيبرس» ـ رئيس الجمعية ـ أنه تم من خلال المؤتمر تكريم عضوات مجلس الشعب، وعرض تجاربهن، ورحلة وصولهن للمجلس، كما تم تكريم بعض عضوات المجالس الشعبية المحلية، ورئيسات المراكز والقرى.
كما أشير في مثال واحد ـ أيضاً ـ إلى التعاون الأمريكي مع نساء المنطقة، فقد بدأ «المركز المصري لحقوق المرأة» بالتعاون مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID بالقاهرة التحضير لعقد ورشة عمل تحت عنوان: «ملتقى المرأة العربية»، والمزمع انعقادها في الفترة من أول مايو 2003م بالقاهرة.
وتهدف الورشة ـ كما ينص الخبر(2) ـ إلى دراسة أوضاع المرأة العربية، ووضع خطة عمل عملية لتطوير ودعم جهود المرأة في كل دولة عربية؛ وذلك بهدف تعزيز مشاركة المرأة في جهود التنمية على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وخاصة أن تقرير التنمية الإنسانية العربي الصادر عن الأمم المتحدة قد أكد على أن أسباب تراجع معدلات التنمية في المنطقة يعود لأسباب عدة أهمها غياب الحرية وغياب تمكين المرأة.
وسوف يتم الحوار في هذه الورشة على محورين أساسيين:
المحور الأول: قانوني، ويكون ذلك بما يلي:
- مناقشة البيئة التشريعية التي تضع قيوداً على المرأة وتحد من مشاركتها، وتدريب مؤسسات المجتمع المدني على حشد الرأي العام؛ لتغيير السياسات والقوانين التي تنطوي على تمييز ضد المرأة، فضلاً عن القوانين التي تعوق عمل المؤسسات الأهلية.
- وضع استراتيجيات للتشبيك كخطوة للتغيير. وكخطوة أولى يمكن التركيز على المرأة والمواطنة، مثل: قانون الجنسية ـ الحق في تولي القضاء ـ حقوق التصويت وقانون الشرف «العقوبات».
- وضع آليات تقييم ومتابعة التقدم على الصعيد القانوني للمرأة العربية.
المحور الثاني: سياسي، وذلك على النحو التالي:
- سوف يتم التركيز على مناقشة آلية زيادة مشاركة المرأة في مراكز صناعة القرار، مثل: تدريب القيادات، إدارة الحملات، وتنظيم الحملات الانتخابية.
- التركيز على تدريب مؤسسات المجتمع المدني على تطوير وتنفيذ برامج التعليم المدني وتشجيع النساء على المشاركة في التأثير على السياسات لتصبح مدعمة لحقوق المرأة.
ـ وضع آلية للرصد والتقييم للتطورات على الصعيد السياسي وتأثيرها على المرأة العربية.
ثانياً: ما يتعلق بالأحوال الشخصية:
وأبرز مثالين فيما يتعلق بالتغيير في أحكام الأحوال الشخصية، التي بقيت لم تطلها ـ إلى حد ما ـ يد القوانين الوضعية، ما حصل بالمغرب ومصر، من محاولات مستميتة؛ من أجل تغيير هذه الأحكام المبنية على الأحكام الشرعية، وإلباسها لباس الاتفاقيات والتوصيات الأممية المخالفة للفطرة، فضلاً عن مخالفتها للشريعة الإسلامية، من باب التحديث وحقوق المرأة ومسايرة العالم الغربي. وأشير الآن بشيء من الاختصار إلى التغييرات التي حصلت في هاتين الدولتين المسلمتين، فيما يتعلق بهذا الأمر.
* المغرب:
وأبرز حدث في هذا الشأن ما يسمى: «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»(3) التي أعلنت في 91/3/9991م، وهذه الخطة جزء من مخطط دولي يهدف إلى فرض النموذج الغربي العلماني في العلاقات الاجتماعية والأسرية، وتعديل قوانين الأسرة (مدونة الأحوال الشخصية) لتتماشى معه.
ومما دعت إليه هذه الخطة:
رفع سن الزواج لدى الفتيات من 51 إلى 81 سنة، وتقاسم الممتلكات في حالة الطلاق، وإلغاء تعدد الزوجات، وإضفاء الاختيارية على وجوب حضور ولي أمر المرأة عند الزواج.
وقد تم تنزيل هذه الخطة ـ وبشكل متزامن ـ في الكثير من الدول العربية والإسلامية (المغرب، النيجر، مصر، اليمن...)، هذا المشروع أعدته في المغرب ـ وفي تكتم شديد ـ (كتابة الدولة) المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة بالتعاون مع الجمعيات النسوية والأحزاب والمنظمات الحقوقية اليسارية، ودون استشارة باقي مكونات المجتمع المدني المعنية بقضايا الأسرة وعلى رأسها العلماء.
وقد هاجم الإسلاميون بشدة هذه الخطة، ورأوا فيها طريقة لنسف الأسس الإسلامية للمجتمع، وقد صدرت بيانات استنكارية لهيئات العلماء وبعض الجمعيات الأخرى.(36/284)
وفي شهر أكتوبر من عام 2001م، طالبت «مجموعة ربيع المساواة» المغربية المكونة من تسع جمعيات نسائية الحكومة بإدخال تعديلات شاملة على مدونة الأحوال الشخصية بما يخدم حقوق المرأة ـ في نظر هذه الجمعيات ـ فتقدمت بمذكرة للحكومة ـ كما ذكرت ذلك مسؤولة إحدى الجمعيات التسع(1) ـ تتضمن تعديلات على مدونة الأحوال الشخصية، تقوم بالأساس على نبذ علاقة «الطاعة مقابل الإنفاق» التي تشكل جوهر المدونة الحالية، وتهدف إلى قيام علاقة الندية بين الرجل والمرأة عبر مراحل ثلاث، تبدأ عند الإقدام على الزواج، وتستمر أثناء الحياة الزوجية، وتنتهي بانتهاء تلك الحياة، وهي مجموعة مقتضيات مترابطة.
وأضافت المسؤولة أن مرحلة الإقدام على الزواج تنص على توحيد السن الدنيا للزواج، وهي 18 سنة كاملة بالنسبة للرجل والمرأة على حد سواء، وتمتع كل من المرأة والرجل بكامل الأهلية القانونية لإبرام عقد الزواج بنفسيهما، والنص على منع تعدد الزوجات.
وفيما يتعلق بمرحلة العلاقة الزوجية؛ فإن المذكرة تنص على تساوي الزوجين في الحقوق والواجبات، وتولّي الزوجين الإنفاق المشترك على الأسرة كل حسب إسهامه ـ بما في ذلك العمل المنزلي ـ، وتولي الزوجين معاً الإشراف المشترك على شؤون البيت، وتربية الأطفال، والولاية عليهم.
وعند وقوع الطلاق؛ فإن الجمعيات تقترح أن يحكم القاضي بالطلاق بعد تراضي الزوجين عليه، أو بناء على طلب أحد الزوجين بسبب ضرر متبادل، ثم التصرف المشترك في الممتلكات بأن يتم اقتسام الممتلكات التي امتلكها الزوجان أثناء الحياة الزوجية في حالة الطلاق أو الوفاة، واعتبار العمل المنزلي مساهمة في تلك الممتلكات، وتوحيد شروط الحضانة وذلك بضمان حرية زواج الحاضن من الأبوين: رجل أو امرأة، وبقاء الحاضن من الأبوين في بيت الزوجية، وتوحيد سن المحضون ـ ولداً أو بنتاً ـ في 51 سنة.
وكانت مجمل التعديلات سالفة الذكر موضع خلاف شديد بين حكومة اليوسفي والقوى السياسية المحافظة، تتقدمها المجموعات الإسلامية، وذلك خلال عام 1999م، فحكومة اليوسفي عرضت ـ آنذاك ـ مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي تضمنت بنوداً تقضي بإدخال جل التعديلات السابقة على مدونة الأحوال الشخصية، إلا أن المجموعات الإسلامية في المغرب تصدت لهذا المشروع.
وقد عاشت البلاد ـ آنذاك ـ أجواء مواجهات بين عشرات الأحزاب والجمعيات والنقابات والمنظمات الحقوقية والمنتديات، والتيارات الإسلامية وأطراف محافظة أخرى، حول تحديد السن الدنيا للزواج بـ 81 سنة، وأحقية المرأة في تزويج نفسها، وهو ما يعني الاستغناء عن شرط الولي ـ هذا الاستغناء يجيزه الأحناف لا المالكية ـ، واقتسام الممتلكات التي كونها الزوجان أثناء الحياة الزوجية، وتمكين المرأة من حق طلب الطلاق، والسماح للمرأة الحاضنة بالزواج، ومنع تعدد الزوجات صراحة.
وفي ضوء تصاعد الأمور، حيث قام ما يربو عن أربعين ألفاً ـ من المطالبين بتنفيذ هذا المشروع ـ بتظاهرة يطالبون فيها بإقراره، فهرع مليون ونصف من الشعب المغربي المسلم الغيور في تظاهرة مضادة يطالبون بوأد هذا المشروع المخالف للشرع والعرف المغربي(2)، عند ذلك بادر العاهل المغربي إلى استقبال جميع المنظمات والجمعيات النسائية من مختلف التيارات، وتم الاتفاق على تكوين لجنة من الخبراء والعلماء لتقدم إليه مقترحات في هذا الشأن، غير أنه ـ حتى الآن ـ لم تُقدّم أي حلول للقضايا محل الخلاف بين المنظمات النسائية والقوى الإسلامية.
يذكر أن الملك الحسن الثاني كان قد أدخل تعديلات مهمة على مدونة الأحوال الشخصية في مطلع التسعينيات الميلادية، دون أن يثير ذلك هذا المستوى من الخلاف، ومن أهم تلك التعديلات: منع زواج الشخص المتزوج إلا بإذن صريح ومكتوب من زوجته، وتوفر وثيقة طبية تثبت سلامة الشخص من أي مرض... وغيرها، وهي تعديلات جاءت تلبية لجزء من المطالب التي تقدمت بها الحركات النسائية آنذاك، كما كوّن الحسن الثاني لجنة من العلماء رفعت إليه اقتراحات في هذا الشأن، تبناها مباشرة، وقدمتها الحكومة في إطار مشروع قانون صادق عليه البرلمان.(36/285)
وما زالت هذه الخطة مثار جدل إلى هذا اليوم، بين المغربيات المستغربات، والحركات النسائية الإسلامية، حيث نظمت مجموعة من الفتيات المؤيدات للخطة في الثامن من مارس لهذا العام 3002م (وهو الموافق ليوم المرأة العالمي) تجمعاً أمام البرلمان، نظمته لجنة التنسيق الوطنية للجمعيات النسائية، والتي تضم في عضويتها كل الحركات النسائية المشبوهة، ومجموعة من الجمعيات الحقوقية، وقد طالبن في هذا التجمع ـ من خلال شعارات رفعنها ـ بالحرية والمساواة في الحقوق مع الرجل، والإسراع بالمدونة الجديدة للأحوال الشخصية، وإخراج قانون جديد للأسرة ينص على احترام المرأة، ويدعو إلى التكافل، والمساواة في الحقوق والواجبات بين الزوجين، وإلغاء فصول التمييز الخاصة بالولاية في الزواج وأحكام الطاعة والخلع، والعودة القسرية لبيت الزوجية، وإلغاء تعدد الزوجات، واعتماد الطلاق القضائي، والحق المتساوي للطرفين في طلبه، وإلغاء الفصل الذي يقضي بإسقاط الحضانة عند زواج الحاضنة، واعتبار ممتلكات الأسرة المتراكمة خلال الحياة الزوجية ممتلكات مشتركة وخاضعة للقسمة المتساوية عند الطلاق أو الوفاة، واحتفاظ المطلقة أو المتوفى عنها ببيت الزوجية.
واتهمت الجمعيات النسائية الحكومة بالتراجع عن التزاماتها لتحسين أوضاع النساء الاجتماعية والاقتصادية والقانونية؛ لذلك ألحّت على الدولة المغربية بالتصديق على المواثيق الدولية، خاصة «العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية» في مواده [3] و [32]؛ قصد تحقيق المساواة في جميع القطاعات، مع توفير الآليات والإجراءات العملية لتفعليها.
كما دعت هيئات شبابية يسارية إلى القيام بوقفة جماعية صامتة في اليوم العالمي للمرأة(1)، لمدة نصف ساعة، وبلباس موحد أسود اللون!! أمام قبة البرلمان، تحت شعار «لا لمدونة رجعية، لنتحد شابات وشباباً؛ من أجل قانون حداثي، يضمن للنساء كامل الحقوق»!!
* مصر:
وأما ما يتعلق بمصر؛ فإن أبرز ما حدث ـ في هذا الشأن ـ يتعلق بتعديل قانون الأحوال الشخصية، فقد ناقش مجلس الشعب المصري في منتصف شهر يناير من عام 0002م إدخال تعديلات جوهرية على بنود القانون الذي يحكم قواعد الزواج والطلاق، والمعروف باسم قانون الأحوال الشخصية.
والتعديلات الواردة في قانون إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية متعلقة بما يلي:
- الخلع.
- النزاع حول السفر للخارج.
- الطلاق من الزواج العرفي.
- عدم جواز إثبات الطلاق عند الإنكار إلا بالإشهاد والتوثيق.
- محكمة الأسرة.
- إلغاء المعارضة كطريقة من طرق الطعن.
وقد أتاحت هذه التعديلات للزوجات حق الطلاق بناء على عدم التوافق مع الزوج، شريطة أن تتنازل عن حقها في النفقة الشهرية، أو ما يعرف بالخلع، وأن ترد قيمة المهر الذي قدم لها عند الزواج.
وأما في السابق، فإن الزوجة لا يحق لها الطلاق إلا إذا أثبتت أمام المحكمة سوء معاملة زوجها لها، وفي المقابل فإن الزوج يحق له طلاق زوجته متى شاء.
وقد اعترض بعض النساء المصريات على التعديلات المقترحة على أساس أنها لن تحقق كل ما وضعت من أجله، إذ لن يستفيد منها سوى الثريات من النساء ممن يقدرن على الوفاء بالشروط المالية المرتبطة بالحصول على الطلاق(2).
وأكثر هذه التعديلات الذي أثار نقاشاً طويلاً بين المؤيدين والمعارضين، يتركز على قضية الخلع، فبالنظر إلى التعديل حول موضوع الخلع؛ نجد أن هناك مخالفة صريحة للشرع، فقد جاء في قانون الأحوال الشخصية المصري بعض المواد المخالفة للشرع صراحة ولا تمت إلى أي مذهب فقهي معتبر بصلة، وخاصة المادة رقم [02] والتي تنص على أنه: «إذا افتدت الزوجة نفسها، وخلعت زوجها بالتنازل عن جميع حقوقها المالية الشرعية، وردت عليه الصداق الذي دفعه لها؛ حكمت المحكمة بتطليقها منه طلقة بائنة، ويكون الحكم الصادر بالتطليق في هذه الحالة غير قابل للطعن عليه بأي طريقة من طرق الطعن».
والمخالفات الشرعية في هذه المادة كثيرة ليس هذا مجال بيانها!(3).
يذكر أنه منذ أن أُقر قانون طلاق الخلع في آذار/مارس من عام 0002م، فإنه قد تم التقدم بعدد إجمالي من قضايا الطلاق يبلغ 11.714 قضية أمام المحاكم المصرية في أكبر ست محافظات في مصر، ومعظم هذه القضايا تقدمت بها نسوة في مدينتي القاهرة والإسكندرية، وذلك وفقاً لأرقام إحصائية صادرة عن مركز المساعدة القانونية للنساء.
وقد تم إصدار 022 قراراً بطلاق الخلع لصالح زوجات في عام 2000م، ولكن ليس هنالك أرقام إحصائية بعد عن القرارات الصادرة في السنوات التالية(4).(36/286)
وقد شهد عام 2002م إنشاء (مكتب لشكاوى المرأة) ضمن المجلس القومي للمرأة؛ لتلقي أي شكوى في نطاق العمل أو الأسرة أو أي مشكلة عامة أو شخصية تعاني منها أي امرأة يزيد عمرها عن 81 عاماً، وكانت أبرز الشكاوى التي أخذت شكل الشكوى العامة هي شكوى المطلقات من عدم استطاعتهن تنفيذ حكم النفقة في الحالات التي لا يكون فيها الزوج موظفاً حكومياً. وكان قانون الأحوال الشخصية الذي صدر عام 0002م يسمح للمطلقة أو الزوجة بالتوجه إلى بنك ناصر الاجتماعي لصرف هذه النفقة ويتولى البنك تحصيلها من الزوج، لكن هذا لم يحدث.
كما درس مجلس الشورى المصري مشروع قانون لتخصيص محكمة خاصة للنظر في قضايا الأحوال الشخصية مثل: النفقة، ورؤية الطفل أو الحضانة، أو الطلاق.. أو غيرها؛ بهدف حماية الأسرة والأطفال، واشترطت أن تتضمن المحكمة اختصاصيين اجتماعيين من بينهم امرأة، والمشروع ينظر أمام مجلس الشعب، وينتظر أن يُعمل به في أكتوبر القادم من هذا العام الميلادي 3002م(1).
ثالثاً: بعض القيم الاجتماعية:
أ ـ دمج ونشر مفهوم «الجندر»:
مصطلح «الجندر» يعدُّ من المصطلحات الجديدة، وأول ظهور لهذا المصطلح كان في وثيقة مؤتمر المرأة الرابع في بكين، وقد اعترضت كثير من الدول والوفود على هذا المصطلح؛ لعدم معرفتها بدلالة هذا اللفظ، وطلبت تفسيراً لمعناه من الجهات التي أعدت وثيقة المؤتمر، ولم تكن هناك إجابة واضحة في ذلك الوقت. إلا أنه اتضح فيما بعد أن «الجندر» (Gende r ) يعني «النوع»، وهو بديل عن كلمة (Sex) التي تشير إلى الذكر والأنثى. وهذا التحريف في اللغة والمفهوم؛ يهدف إلى تمرير ما أسمته مؤتمرات الأمم المتحدة «التنوع الجنسي» أو «المثلية الجنسية» الذي يعني الاتصال الجنسي بين رجلين (ويسمى الاتصال المثلي) وهو اللواط، أو بين امرأتين (السحاق)، أو بين رجل وامرأة (الاتصال الفطري)، ذلك أن كلمة «sex» لا تشمل هذه المعاني كلها.
وقد كانت هناك جهود حثيثة إلى نشر مفهوم «الجندر» في الدول العربية من قِبَل المنظمات والحركات النسائية الغربية، بمساعدة من اللجان والمنظمات النسائية العربية، عن طريق ورش وحلقات نقاش تعقد بين حين وآخر قي بعض البلاد العربية؛ وذلك من باب إدماج الشواذ جنسياً في المجتمع، وعدم اعتبارهم منبوذين كما نصت على ذلك المؤتمرات الدولية.
ومن ذلك ما عقد في دولة «قطر»، فقد أقيمت ورشة عمل بعنوان(2) «مأسسة النوع الاجتماعي في المؤسسات»، والتي نظمتها «الاستراتيجية الوطنية لتقدم المرأة»، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة «اليونيفيم» في معهد التنمية الإدارية. في إطار فعاليات الاستراتيجية الوطنية «لتقدم المرأة» التابعة للمجلس الأعلى لشؤون الأسرة.
تهدف هذه الورشة ـ التي حاضرت فيها (خبيرة تدريب في اليونيفيم) ـ إلى تعريف المشاركين والمشاركات بآليات دمج مفهوم «الجندر» في المستويات كافة داخل الوزارات والمؤسسات المختلفة بإطارها النظري والعملي، وتعريف «المأسسة» والعمليات المرتبطة بها، وتقديم بعض الأدوات التحليلية المختلفة التي تصف الوضع الراهن في المؤسسات، وتحديد أساليب وآليات دمج مفهوم «الجندر» في المؤسسات، وتحديد الخطوات اللازمة لدمج مفهوم الجندر في المؤسسات على كل المستويات، ومناقشة بعض المعوقات التي من الممكن أن تواجه عملية دمج مفهوم الجندر في المؤسسات وكيفية التعامل معها.
شارك في هذه الورشة جهات مختلفة في «قطر»، كالمجلس الأعلى لشؤون الأسرة، ووزارة التربية، والتعليم، والداخلية، وشؤون الخدمة المدنية، والإسكان، والصحة العامة، والعدل، والخارجية، والأوقاف، والمجلس الأعلى للبيئة والمحميات الطبيعية، ودار تنمية الأسرة، وقطر للبترول، ومؤسسة حمد الطبية، وجمعية مرضى السكري، وجمعية الهلال الأحمر القطري، وجامعة قطر، والجمعية القطرية لمكافحة السرطان.
كما أقيمت في «اليمن» حلقة نقاش حول الأمر ذاته، فقد نظمت «اللجنة الوطنية للمرأة اليمنية» حلقة نقاش حول «بناء القدرات من منظور النوع الاجتماعي» بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان(3). وركزت الحلقة التي استمرت يومين في العاصمة «صنعاء» على عديد من القضايا المتعلقة بأوضاع المرأة بشكل عام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما تقوم به من دور فعال في تنمية المجتمع.
وناقش المشاركون من الجهات المانحة ومنظمات المجتمع المدني، مفهوم التخطيط الاستراتيجي التنموي، وأهمية إشراك المرأة في التخطيط، وكذا إدماج النوع الاجتماعي في التنمية، وتقليص الفجوة بين الجنسين، إضافة إلى تحديد الاحتياجات الخاصة بالنساء، ودور التنمويين بتوعية المجتمع بالأدوار الفعالة للمرأة، وتحديد المشكلات التي تعوق وصولها إلى مواقع العمل، ومواقع صناعة القرار وإدماجها في عملية التنمية.
وأوضحت ـ ممثلة صندوق الأمم المتحدة للسكان ـ أهمية حلقة النقاش التي تدخل في إطار منهجية عمل علمية وعملية من أجل دمج النوع الاجتماعي في عملية التخطيط التنموي.(36/287)
وأشارت الخبيرة إلى تجربة اليمن في إطار الخطط التنموية لدمج المرأة. وقالت: «إن الحكومة واللجنة الوطنية للمرأة والمنظمات الأخرى المعنية بصدد المباشرة في إعداد خطط جديدة في هذا الاتجاه».
ب ـ مفهوم الصحة الإنجابية:
وهو مفهوم يشتمل على حق وباطل، فمما تشمله «الصحة الإنجابية»: الأمومة الآمنة، وكل ما يتعلق بصحة المرأة من حيث التغذية الصحيحة للحامل والولادة والنفاس، وكذلك الإرضاع الطبيعي، وصحة المرضع.. إلخ. فهذه الأمور حق لا جدال فيها، والإسلام يدعو إلى ما فيه صحة وسلامة الإنسان وبدنه.
أما الأمور الباطلة التي يشتمل عليها هذا المفهوم فهي: التنفير من الزواج المبكر، والحد من الإنجاب، وتناول حبوب منع الحمل للمراهقات، وإباحة الإجهاض.. إلخ. وهذه القضايا دعت إليها مؤتمرات الأمم المتحدة حول المرأة والسكان والتنمية الاجتماعية، وتعتبرها الوسيلة الرئيسة للنهوض بالمرأة!!.
وفي الوقت الذي تُحذَّر فيه نساء العالم العربي والإسلامي ـ مثلاً ـ من الزواج المبكر، وتدعى إلى تحديد النسل؛ نجد ميزانيات دعم إنجاب الأطفال والتشجيع عليه في الدول الغربية تعادل عشرات أضعاف ميزانيات ما يوصف بالمساعدات الإنمائية.
فالمنظمة الدولية لرعاية الطفولة (يونيسيف) مثلاً اختارت قضية «الزواج المبكر» للتركيز عليها في يوم المرأة العالمي، داعية إلى مكافحته عالمياً(1)، مع ذكر أمثلة من النيبال وبنجلادش وسواها؛ دون أن تتعرّض إلى حقيقة ما تقول به الدراسات الطبية، من أن الإنجاب في سن مبكرة، هو الكفيل ـ بإذن الله ـ برعاية أسرية أفضل للطفل، أو أن المرأة التي تنجب الأطفال بعد بلوغها الثلاثين عامًا، أشدّ عرضة أثناء الحمل والوضع للمشكلات الصحية والنفسانية والاجتماعية.
كذلك لم تتعرّض منظمة رعاية الطفولة لانحسار ظاهرة الزواج المبكر في الدول الغربية، والتي أدت ـ مع أسباب أخرى ـ إلى انحسار ظاهرة الزواج نفسها في نهاية المطاف، وإلى انتشار العلاقات الجنسية دون زواج على أوسع نطاق؛ مما هبط بنسبة الزواج إلى نصف ما كانت عليه قبل ثلاثين عاماً، ورفع نسبة الطلاق من تلك الزيجات المحدودة العدد من حوالي 03 إلى ما يناهز 05 في المائة حالياً.
كما أنه كانت هناك محاولات عديدة لإدخال مفاهيم الصحة الإنجابية إلى مناهج التعليم في بعض البلاد العربية، وهنا مكمن الخطورة ـ؛ حتى ينشأ الجيل الجديد من المراهقين والمراهقات على هذه المفاهيم الغربية ويتشربها منذ الصغر، ومن ثَمَّ تصبح جزءاً من ثقافته.
ومن هذه الدول: الأردن، وسوريا، حيث بيّن مسؤول في وزارة التربية والتعليم بسوريا(2)، أنه سيتم تضمين مفهومات «الصحة الإنجابية» و «النوع الاجتماعي: الجندر» في المناهج.
(1) قبل ذلك التاريخ كانت هناك اتفاقيات ومعاهدات لها تعلق بالمرأة، ولكنها غير ملزمة مثل: اتفاقية المساواة في الأجور بين العمال والعاملات 1951م، والاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة 1952م، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966م، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966م، والإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة 1967م، وإعلان طهران لحقوق الإنسان 1968م.
(2) وهو المسمى مؤتمر مكسيكو لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم، ثم تلاه ثلاث مؤتمرات خاصة بالمرأة، هي: المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم في (كوبنهاجن) عام 1980م، والمؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم عام 1985م في نيروبي بكينيا، والذي عُرف باسم (استراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة من عام 6891 حتى عام 2000م)، وأخيراً المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين بالصين عام 1995م..
---------------------------------------------
(1) مدير البرامج لمركز الدراسات السياسية بمعهد البحث الاجتماعي التابع لجامعة ميشغان، ومدير استطلاع القيم العالمية.
(2) مجلة :(fo r eign policy) الصادرة في واشنطن - عدد مارس/ أبريل 2003 م.
(1) انظر: الشبكة العنكبوتية/ موقع وزارة الخارجية - مكتب برامج الإعلام الخارجي -، وعنوانه: http://usinfo.state.gov/a r abic/wfsub.htm
(2) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(1) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(3) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(1) انظر: منظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human r ights Watch) على الشبكة العنكبوتية: http://www.h r w.o r g/a r abic/un-.htm(36/288)
(2) منهن: 4 من الجزائر، 5 من مصر، 4 من الأردن، 5 من لبنان، 5 من المغرب، 3 من سوريا، 5 من فلسطين، 4 من اليمن، 3 من تونس، 12 من دول الخليج. انظر الخبر وأسماءهن على موقع: (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية، وهو موقع خاص بالمرأة، وعنوانه: http://www.lahaonline.com/ وجريدة الأهرام العدد 15324 بتاريخ 91/11/2002م.
(1) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع (مركز الأخبار ـ أمان) على الشبكة العنكبوتية: www.amanjo r dan.o r g/a r abic ، وهو موقع خاص بأخبار المرأة.
(3) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(4) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(5) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(1) اسمها: عائشة بنت خلفان بن جميل، انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر : موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(3) انظر أسماءهن ومناصبهن في موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية، وانظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(4) وهي منظمة دولية للدفاع عن حقوق المرأة مقرها في واشنطن (تزعم أن) هدفها المساعدة في بناء الديمقراطيات والاقتصادات القوية وفي تعزيز السلام، تمولها جزئياً الحكومة الأمريكية. انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(5) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(6) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(1) انظر: موقع (مركز الأخبار ـ أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(3) انظر: موقع (الإسلام اليوم)، وموقع (لها أون لاين)، وموقع (مركز الأخبار - أمان)، وموقع (الخيمة) على الشبكة العنكبوتية.
(1) في تصريح لها لموقع (إسلام أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع (الأسرة المسلمة) على الشبكة العنكبوتية.
(1) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع (الأسرة المسلمة)، وموقعBBC الإخباري على الشبكة العنكبوتية.
(3) انظر: موقع (الأسرة المسلمة) على الشبكة العنكبوتية.
(4) انظر: موقع bbc الإخباري على الشبكة العنكبوتية.
(1) انظر: موقع (إسلام أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(3) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(1) انظر: موقع (إسلام أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(2) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتي
--------------
ملامح التغيير الأمريكي المرتقب للمنطقة العربية
حسن الرشيدي
«إن الإطاحة بصدام حسين ونظامه يمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بطريقة إيجابية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها».
هذا جزء من شهادة كولن باول وزير الخارجية الأمريكية أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ التي عقدت يوم 6/2/2003م، ويعلن فيها بصراحة ووضوح عزم الولايات المتحدة على الشروع في إعادة تشكيل المنطقة.
لقد ظهر للكثيرين أن مسألة القرار الأميركي تجاه العراق ليس قراراً ظرفياً، وليس قرار ردة فعل على ممارسة عراقية معينة، بل إن مسألة التعاطي بالقرار هي جزء من نظرة استراتيجية للإدارة الأميركية وفق أسلوب تعاطيها وتواجدها؛ لا بل وضع يدها على واقع المنطقة ككل.
فالعراق يشكل في وضع المنطقة من الزاوية الجغرافية السياسية والاقتصادية والاجتماعية مركز قيادة حقيقي لترتيب أوضاع المنطقة على حدوده من إيران وتركيا والكويت وسوريا والسعودية حتى الخليج العربي عبر إطلالته على شبه القارة إضافة إلى الأردن كممر على إسرائيل، وطبعاً لا ننسى القضية الفلسطينية وانتفاضتها.
ولكي نحاول أن نستشف هذا التغيير يجب علينا إدراك أمرين:
1 - فهم الدوافع الأمريكية من هذا التغيير.
2 - ثم ميادين التغيير التي تبتغيها أمريكا لهذه المنطقة.
* الدوافع الأمريكية للتغيير:
الدافع العقيدي:
أمريكا مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والتنبؤات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين، ومما قوّى هذه الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من أوروبا إلى أمريكا حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين.
وفي نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس من خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد في عام 1985م قام وارد كريون القنصل الأمريكي في القدس بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس وخطط لتأسيس مستوطنات أخرى ولكن لم يجد الدعم المطلوب من اليهود.(36/289)
وعلى صعيد الجماعات ظهرت جماعة أخوة المسيح وجماعة بناي بريث أي: أبناء العهد وشهود يهوه، ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام العالمي إلى الولايات المتحدة؛ فالرئيس روزفلت اتخذ نجمة داود شعاراً رسمياً للبريد والخوذات التي يلبسها الجنود وعلى أختام البحرية، وجاء بعده ترومان الذي أصدر بياناً طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين وكان له دور مشهود بجانب اليهود في حرب 1948م. ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز لإسرائيل نسوق موقف الرئيس الأمريكي جون كنيدي الذي كان الرئيس الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا؛ حيث قال: إن الانحياز الأمريكي في النزاع العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب بل يهدد العالم بأسره؛ فالأفكار والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.
فالرئيس جونسون الذي قدم الدعم لـ (إسرائيل) أثناء حرب 1967م صرح بعدها قائلاً في إحدى الاحتفالات للحاضرين: إن بعضكم ـ إن لم يكن كلكم ـ لديه روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً؛ لأن إيماني النصراني ينبع منكم وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد.
ويقول الرئيس كارتر أمام الكنيست الإسرائيلي: إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة؛ لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه. وقد وضح كارتر الأمر أكثر في حفل أقامته على شرفه جامعة تل أبيب حيث ذكر أنه باعتباره نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل. لقد كان كارتر مثالاً للرئيس الملتزم بالصلاة في الكنيسة كل أحد، وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته وشماساً في مدرسة الأحد.
أما ريجان فقد قال في أحد خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود الأمريكيين:
«حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة هرمجدّون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً». لقد عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي جون بيتر عن واقع أمريكا عندما قال: إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام قبر مقدّس. هكذا وصل إيمانهم
وجاء بوش الذي خصصت مجلة النيوزويك له منذ فترة قصيرة وقبيل الحرب ضد العراق مباشرة موضوع الغلاف لها حول حياة بوش منذ صباه مع التدين؛ ففي بداية حملته الانتخابية ذكر أن المفكر المفضل لديه هو المسيح عليه السلام، وبعد بضع دقائق من أدائه اليمين الدستورية وهو يضع يده على الإنجيل ردد بعد القسم كلاماً صوفياً غامضاً جاء فيه أن ملاكاً يمتطي صهوة الزوبعة ويوجه هذه العاصفة؛ دون أن يوضح معنى هذه العبارة. وقال الرئيس أثناء فطور وطني خصص للصلاة: إن الإيمان أعانني في النجاح، ولولا الإيمان لكنت شخصاً آخر، ومن دونه لما كنت بالتأكيد هنا. حتى إن آلا ليشتمان المؤرخ المتخصص في شؤون الرئاسة الأميركية في الجامعة الأميركية بواشنطن يقول: إن الربط بهذا الشكل بين الدين والسياسة أمر لا سابقة له لرئيس بدأ مهامه منذ أسبوعين.
* أحداث 11 سبتمبر :
لقد جاءت هذه الأحداث في غير السياق المرسوم للتفوق الأمريكي هذا النجم الذي ظن أصحابه أنه سيبقى ببقاء الحياة.
فقبل شهر من هذه الأحداث ذكر تقرير لوزارة الخارجية البريطانية بأن من شبه الأكيد أن الولايات المتحدة ستظل حتى عام 2030م القوة العسكرية والاقتصادية العظمى الوحيدة في العالم. حتى جاءت هذه الضربة.
لا شك أن هناك تغييرات حدثت في جميع جوانب هذه الزعامة:
يقول خبراء في الشؤون العسكرية: إن ما شهدته الولايات المتحدة هو بمثابة تعبير بارز عن مفهوم الحرب غير المتكافئة التي هي حرب القرن الـ 21.
وهذه الحرب غير المتكافئة تدور بين طرفين أحدهما دولة محددة واضحة المعالم، وطرف آخر مبهم جغرافياً؛ بدليل أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول أعلن رسمياً أن ما حصل هو إعلان حرب على الولايات المتحدة من دون أن يكون قادراً على تحديد الجهة التي أعلنت هذه الحرب.
ويعتبر الباحث الفلسطيني مروان بشارة أن هذه الحرب هي حرب القرن الحالي؛ خصوصاً أن فريقاً من المحللين العسكريين الأميركيين يعتبرون أن آخر حرب متكافئة هي الحرب على الرئيس العراقي صدام حسين الذي خاض حرباً متكافئة على الأرض مع الولايات المتحدة، وأنه منذ حوالي ثلاثة أعوام بدأ هؤلاء المحللون يعتبرون أن الحروب المستقبلية المحتملة لن تكون متكافئة.
لقد شهدت المؤسسة العسكرية الأميركية على مدى السنوات الماضية نقاشاً في شأن الصعيد الذي ينبغي أن يحظى بالأولوية: الصعيد الدولي الشمولي وما يمثله من تهديدات بواسطة الصواريخ الباليستية والأسلحة الكيماوية والجرثومية؟ أم ينبغي تكريس الأولوية لتهديدات الحرب غير المتكافئة؟(36/290)
لقد انتخب الرئيس الأميركي جورج بوش على أساس برنامج يسعى لرفع مستوى الاستثمار في الصناعات العسكرية، ومن هذا المنطلق أعطيت الأولوية للدرع المضاد للصواريخ الباليستية مما أثار العديد من الاحتجاجات في أوساط الخبراء العسكريين المتنبهين لمخاطر الحرب غير المتكافئة وفقاً لما أظهره مثلاً حادث تفجير الـ يو إس إس كول.
وحذر هؤلاء الخبراء مراراً من أعمال إرهابية من نوع جديد تستند إلى شبكات دولية تحظى بدعم مالي مهم، وتستخدم وسائل حديثة للاتصال والمواصلات، وما جرى في نيويورك وواشنطن لا بد أن يرجح كفة الخبراء الذين تحدثوا عن الحرب غير المتكافئة.
وأثبتت أحداث 11 سبتمبر هذه المغامرة العسكرية الكبيرة التي تسمى بالدرع الصاروخي أنها لن تأتي بالنتائج المرجوة في نهاية المطاف فضلاً عن تكاليفها الباهظة على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي.
وتم اختراق الحواجز الأمنية لأكبر قدرة معلوماتية واستخباراتية في العالم بحيث أتى الأمر كله مفاجأة فوق تصور الجميع، وهو ما جعل الأمريكيين وغيرهم يصابون بالذهول ويتساءلون: ماذا لو كان هذا الهجوم من قوة عظمى أو حتى من إرهابيين يملكون أسلحة فتاكة كالأسلحة النووية أو الجرثومية أو غيرها؟
إن تدمير مركز اقتصادي ضخم كان من نتيجته موت كثير من العقول التي تصنع الحياة الاقتصادية في أمريكا، وضياع قدر من الوثائق والأموال ناهيك بما لحق كثيراً من الشركات من خسائر فادحة تقدر بالمليارات، وهذا بلا شك سيضعف إلى وقت طويل المنظومة الاقتصادية العالمية والتي كانت أمريكا تريد ضم العالم إليها.
وكمثال واحد فقط أن مؤسسة (مورغان ستانلي آند دين وتر) كانت تحتل خمسين طابقاً في أحد برجي مركز التجارة العالمي، ولك أن تتصور مدى الخسارة المالية والبشرية التي ستواجهها مؤسسة استثمارية بهذا الحجم. هذه المؤسسة واحدة من أكبر ثلاث أو أربع شركات أميركية تتعامل مع أسهم الأسواق المالية والسندات ليس فقط في الولايات المتحدة بل في آسيا وأوروبا كذلك.
وبعد التفجيرات الأمريكية الأخيرة بدأت نظرية هنتنغتون في صدام الحضارات هي التي تطغى على العقلية الأمريكية في تفسير صراعها مع الإسلام؛ فقد لاحظت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية على سبيل المثال أنها حين حاولت استمزاج رأي بعض المسؤولين الأميركيين حول الفكرة بأن السياسة الأميركية الخاطئة في الشرق الأوسط كانت وراء تفاقم ظاهرة الإرهاب جوبهت بثورات غضب رافضة لأي بحث في هذه المسألة، وكان رد الجميع أنهم يكرهون أميركا ليس لأنها تدعم إسرائيل بل لأسباب ثقافية.
وفي هذا الاتجاه نشرت صحيفة نيس الفرنسية الصباحية مقالة للكاتب اليميني ـ المعروف بتوجهاته ـ مارك شيفانش يذكر فيها أن ما حدث يعكس تماماً ما تنبأ بحدوثه هنتنغتون في صراع الحضارات، وعلينا أن ننظم أنفسنا لمواجهة مثل هذه التهديدات الحضارية التي تواجهنا؛ فإن هذه التفجيرات ما هي إلا مقدمة لمواجهات ومواجهات حضارية.
حتى إن كاتباً آخر ذا ميول يسارية وهو (جان دانييل) رئيس تحرير مجلة (لونوفل) لم يتردد بدوره من تحليل الأحداث بالقياس إلى عالمية إسلامية بحسب رأيه، والتي يرى أنها معادية للغرب بشدة ومعادية في الأغلب للمسيحية، وهي معادية بضراوة للأميركان. وبالقياس إلى فكرة صدام الحضارات يرى أن هذه العالمية الإسلامية لا تملك هدفاً آخر غير ضرب الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
* المحافظون الجدد:
هو المحور الثاني في التحالف السياسي ـ الأيديولوجي الحاكم في واشنطن والذي يرسم استراتيجيتها الجديدة ويسعى إلى فرض سياستها الجديدة على العالم.
يتكون هذا التيار من مجموعة من المثقفين (المسيحيين واليهود) الليبراليين السابقين الذين تركوا الحزب الديمقراطي في عهد ريغان وانضموا إلى الحزب الجمهوري؛ حيث اجتذبتهم السياسة المتشددة التي انتهجها ريغان آنذاك والنزعة المحافظة التي اتسمت بها سياسته الداخلية والخارجية.
وقد انخرط العديد منهم في إدارة ريغان ومن بعده بوش الأب - البعض كمسؤولين مباشرين، والبعض الآخر بصفة مستشارين رسموا عملياً توجهات إدارته وسياسته على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ومنهم من أصبح اليوم يلعب دوراً محورياً في إدارة بوش الابن، ومن أبرز ممثلي هذا التيار أولئك الذين يطلق عليهم اليوم اسم: (حزب الحرب) من أمثال ريتشارد بيرل، ودوغلاس فيت، وبول وولفوفيتز، وجون بولتون؛ وبالطبع ديك تشيني، ودونالد رامسفليد، وكونداليزا رايس.. وآخرون.
وتقول جريدة لوس أنجليس تايمز الأميركية يوم 1/9/2002م إن فكر المحافظين الجدد بدأ يتشكل في سبعينيات القرن الماضي على مبدأين أساسيين:
1 - رفض انعزالية الديمقراطيين (التي يئست من نشر الديمقراطية والقيم الأميركية على المستوى الدولي) ورفض واقعية الجمهوريين (التي تنظر إلى العلاقات الدولية بالأساس كصراع قوى ومصالح، ولا تهتم كثيراً بالرؤى الأخلاقية مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم).(36/291)
2 - البحث عن سياسة خارجية أميركية تضمن هيمنة الولايات المتحدة عالمياً، وتنشر قيمها الأساسية كالديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني والمؤسسات السياسية من خلال سياستها الخارجية. وأن تقرن مساعداتها وضغوطها على دول العالم المختلفة بتبني هذه الدول للقيم الأميركية وتنفيذها داخل مجتمعاتها ونظمها السياسية.. سياسة تنطلق من وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، وتعمل للحفاظ على هذا الوضع والاستفادة منه لأكبر فترة ممكنة.
يستمد هذا التيار قوته ونفوذه وقدرته على التأثير ليس من قوته العددية فهو قليل العدد ويتألف من نخبة من السياسيين والمثقفين والمحللين والباحثين والإعلاميين من كُتَّاب الأعمدة الرئيسية في الصحف الكبرى والذين لديهم القدرة على الوصول إلى منابر إعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة مما منحهم إمكانية التأثير في الرأي العام، بل وصنعه، وكذلك القدرة على تبوُّؤ مناصب عالية في مراكز أبحاث ودراسات استراتيجية؛ حيث أنشؤوا مراكز أدمغة مهمتها وضع الدراسات والاقتراحات النظرية والتوصيات والخطط المستمدة من رؤيتهم للعالم الراهن في عصر الأحادية القطبية؛ حيث الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة والآمرة؛ ذلك هو مصدر قوة ونفوذ. ولقد هيمن دعاة هذا التيار المتشدد من المحافظين الجدد على إدارة بوش اليوم، وهم يؤكدون أن الإمبراطورية الفتية لا يمكن أن تقوم بالأعباء التي ألقاها القدر والتطور العالمي المعاصر على عاتقها إلا باختيار القوة العظمى لقدراتها الردعية باستمرار لكي تثبت فعاليتها وأحقية زعامتها هؤلاء هم الآباء الروحيون لما صار يُعرف اليوم باسم مبدأ بوش: (مبدأ الضربات الاستباقية) و (حق التدخل في كل أنحاء العالم) و (القرارات والخطوات الانفرادية النابعة من مصالح الولايات المتحدة وحدها) والتي لا تأخذ في الاعتبار مصالح وحقوق أي طرف أو بلد آخر حتى ولو كان من أقرب حلفاء واشنطن وأصدقائها.
* النفط:
تدرك الولايات المتحدة أن الاعتماد على بترول الخليج وحده أمر محفوف بالمخاطر في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة؛ وخصوصاً أن منطقة الشرق الأوسط والخليج تشهد تصعيداً بفعل القضية الفلسطينية وانعكاساتها على المنطقة والسياسة العربية ومنها الخليجية.
من هنا جاء الاهتمام الأمريكي خاصة والغربي عامة بمفهوم أمن الطاقة، والسعي للعثور على مناطق بديلة للخليج العربي لإنتاج الطاقة، وظهر الاهتمام ببحر قزوين في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وقد أشارت التقارير الأمريكية أن احتياطيه من الطاقة يكفي لعشرات الأعوام المقبلة.
ويزيد من الاهتمام الأمريكي وفق مصادر كثيرة ان حاجة الولايات المتحدة والمجتمعات الغربية للنفط تزايدت؛ ففي عام 1998م بلغت حاجة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان 37 مليون برميل من البترول يومياً استوردت منه 25 مليون برميل؛ بمعنى أن هذه الدول حصلت على 68% من احتياجاتها من النفط عن طريق الاستيراد.
وتصدر دول الخليج 18 مليون برميل من إنتاجها النفطي الذي يبلغ 40 مليوناً في اليوم إلى هذه الدول وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية؛ فإن حصة دول الخليج من تصدير النفط العالمي التي بلغت 45% عام 1998م سترتفع إلى 65% في عام 2020م.
والأمريكيون يريدون إيجاد مصادر بديلة عن نفط الشرق الأوسط الذي يشكل أكثر من 50 في المائة من استيراداتهم؛ بينما أكد خبير النفط لدى معهد الطاقة في لندن محمد علي زيني أن الغرب لن يتمكن من تعويض النفط العربي لا بالاستيراد من روسيا، ولا من غيرها.
وفي هذا الشأن قال ريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق في محاضرة له في دبي بنادي دبي للصحافة: إن المصالح الأمريكية في المنطقة تتمثل في أمرين:
الأول: ضمان الوصول إلى مصادر الطاقة بهدف الهيمنة.
والأمر الثاني: ضمان أمن إسرائيل.
* مجالات التغيير السياسي :
ينطلق التغيير الذي تريده الولايات المتحدة للمنطقة عبر محاور رئيسية:
* النظم العربية نفسها من حيث بنيتها والتفاعلات الداخلية والخارجية لهذه النظم، ووفق التصور الأمريكي هناك نوعان من النظم:
الأول: نظم ذات علاقة خاصة مع الولايات المتحدة كالنظام الأردني والمصري والخليجي والمغربي والتونسي والجزائري، وهذه النظم تخطط الولايات المتحدة لتغيير نظمها التعليمية والإعلامية وأوضاعها السياسية والاقتصادية وفق آليات تغيير سلمية بالتنسيق مع حكومات تلك الدول مثل الضغوط الدبلوماسية والمنح والمعونات والبعثات التدريبية لنخبة معينة وبرامج الشراكة الاقتصادية.
أما النوع الثاني من النظم: فهي نظم غير صديقة لأمريكا مثل النظام السوري والليبي والسوداني والعراقي أيام حكم صدام حسين وهذه تمارس معها الإدارة الأمريكية الآليات غير السلمية كالعقوبات الاقتصادية أو الوسائل العسكرية. وهذه لها صورتان: الأولى هي التلويح بالقوة العسكرية المصاحب للضغط الدبلوماسي كما حصل مع سوريا مؤخراً، أو من خلال عمل عسكري مبشر يتمثل في شن حرب شاملة أو جزئية مثلما حدث مع النظام العراقي.(36/292)
* الإطار أو النظام الإقليمي الذي يجمع هذه النظم:
تتعدد الرؤى والأطروحات المتعلقة بالمنظومة الإقليمية التي تحاول أمريكا السيطرة بها على المنطقة، وبتتبع تاريخ بريطانيا مع هذه المنطقة نجد أنها ساهمت بشكل كبير في إنشاء جامعة الدول العربية كي تتمكن من إيجاد نظام إقليمي تتمكن به من السيطرة على المنطقة، وحاولت في وقت لاحق في عام 1955م إقامة حلف بغداد وضم في عضويته العراق وإيران وباكستان وتركيا بهدف تقوية دفاعات المنطقة، ومنع الاختراق السوفييتي للشرق الأوسط، وكانت بريطانيا تأمل في انضمام سورية والأردن إلى الحلف في مرحلة لاحقة لإكمال الطوق حول المنطقة، والآن تحاول الولايات المتحدة ممارسة دور الهيمنة على المنطقة عبر منظومة إقليمية جديدة، وتأمل إدارة بوش أن يكون الحلف الذي تسعى لتشكيله من الدول العربية الديمقراطية الحديثة أن يلاقي مصيراً أكثر نجاحاً من حلف بغداد قبل حوالي نصف قرن؛ فباكستان أصبحت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حليفاً أمريكياً يعتمد عليه؛ كما أن تركيا حليف قوي حتى وإن بدت بعض الغيوم أثناء الحرب على العراق.
ولكن الجديد في هذا الحلف هو دخول مصر؛ فقد ظهر اقتراح مصري بإنهاء دور الجامعة العربية وكأنه يمهّد لصيغة ما تلعب فيها مصر دوراً مركزياً في التشكيلات الأميركية الجديدة لدول المنطقة بعد التخلص من النظام العراقي؛ كما أن بعض المحطات الفضائية الأوروبية كشفت الورقة المستورة في الموقف الأردني عندما أشارت إلى مطار في منطقة الرويشد تنطلق منه طائرات الشبح الأميركية القاذفة والتي لا يكشفها الرادار فضلاً عن طائرات مروحية مقاتلة إلى شمال العراق.
الدولتان الوحيدتان من حلف بغداد اللتان استبعدتا من تحالف اليوم الذي ترسمه الولايات المتحدة هما إيران وسوريا. ولكن الصقور في إدارة بوش قد ألمحوا إلى أن تغيير النظام في إيران سيكون الخطوة التالية لهم بعد الانتهاء من العراق، ثم تأتي سورية متأخرة قليلاً على القائمة نفسها. ولعل هذه الضغوط السياسية تدفع هؤلاء إلى الارتماء الكامل في تلك المنظومة وخاصة أن تلك الدول في النهاية تحقق للسياسة الأمريكية أهدافها، ولكن مشكلتها تكمن في طموحاتها العالية في المنطقة والتي تصطدم مع الأهداف الأمريكية، وفي تصريح أخير لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي في أعقاب سقوط بغداد قال بالحرف الواحد: «نأمل أنه نتيجة لما حدث في العراق وللبغض الذي يكنه العالم للأنشطة الإرهابية وتطوير أسلحة الدمار الشامل أن بعض الدول التي كنا على اتصال بها ونتحدث إليها.. سوريا وايران سوف تتحرك في اتجاه جديد».
وجاءت قمة شرم الشيخ لتخطو بها الولايات المتحدة خطوة جديدة في هذا السياق؛ حيث أشارت تقارير صحفية إلى أن من ضمن أهداف القمة بحث مسألة تشكيل نظام إقليمي جديد في المنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين.
وكشفت تقارير صحفية غربية أن هناك ثلاثة مشروعات تم إعدادها بواسطة خبراء استراتيجيين ومسؤولين كبار بالإدارة الأمريكية، لكي يتم عرضها على القادة العرب في قمة شرم الشيخ التي عقدت في مطلع الشهر الماضي، وهذه المشروعات هي:
المشروع الأول: يطلق عليه النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط وهذا المشروع يرى أن مرحلته الأولى تبدأ بتبني الدول الخليجية إصلاحات ديمقراطية وفي مسائل حقوق الإنسان وتعديل الخطاب الديني ليتسم بالاعتدال والواقعية، وكل ذلك ستتضمنه أوراق تفصيلية يناقشها الخبراء الأمريكيون مع مسؤولي الدول الخليجية؛ على أن يتم إنجاز هذه الإصلاحات المطلوبة في غضون 18 شهراً من تاريخ البداية.
ويرى المشروع الأمريكي أنه خلال الـ 18 شهراً التي سيجري فيها تنفيذ هذه الإصلاحات فإن الأوضاع في العراق ستكون قد استقرت، وأخذت درجة كبيرة من التشكل والتطور نحو بناء ما يسمونه بنظام ديمقراطي مستقر وحكومة قوية جديدة داخل العراق.
وفي إطار المرحلة الثانية يركز هذا المشروع على تطوير مجلس التعاون الخليجي القائم حالياً ليضم العراق إلى جانبه كخطوة أولى وربما دولاً أخرى في خطوة ثانية، وأن هذا الاتجاه سيكون غرضه الرئيسي التنسيق في السياسات الأمنية والدفاعية المشتركة إزاء كافة أنواع التهديدات التي تتعرض لها هذه الدول؛ كما أن التعاون الاقتصادي بين هذه الدول سيكون محكوماً باتفاقيات مع الولايات المتحدة، وأن بريطانيا أيضاً قد تنضم إلى هذه الاتفاقيات. وفي هذه المرحلة أيضاً سيتم الاتفاق على إدارة حوار استراتيجي سياسي ممتد بين هذه الدول والولايات المتحدة، وسيكون الغرض الرئيسي من هذا الحوار هو تحقيق الاتفاق والتوافق الكامل في كل المسائل الاستراتيجية والسياسية.
ويشير المشروع إلى أن اليمن ستكون من أوائل الدول المرشحة للانضمام إلى هذا النظام الإقليمي الجديد بشرط أن تلتزم اليمن بعدد من خطوات الإصلاح السياسي والاقتصادي، وأنه في حال تعذر انضمام اليمن إلى ذلك المجلس الإقليمي؛ فإن اليمن سيكون مرشحاً لنوع آخر من الترتيبات الأمنية والاقتصادية في البحر الأحمر.(36/293)
ويؤكد المشروع أهمية منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية مشيراً إلى أن هذه المنطقة مرشحة بقوة لأن تكون جزرها مأوى للإرهابيين، وأنه لا يمكن ضمان نجاح الترتيبات والأوضاع الأمنية الجديدة إلا إذا كان هناك استقرار في التخوم والمناطق المحيطة بها.
وأشار المشروع إلى أن إريتريا واليمن دولتان رئيسيتان في أمن البحر الأحمر بالإضافة إلى دول عربية وأفريقية أخرى، وأنه لا بد من النهوض بالتنمية الاقتصادية في هذه المنطقة، ومساعدة حكامها في اتباع سياسات أمنية ناجحة تمكنهم من القضاء على بؤر الإرهاب.
وأشار المشروع إلى ضرورة بحث إنشاء مجلس جديد للأمن في البحر الأحمر يضم اليمن وإريتريا ومصر والأردن، وقد تشارك إسرائيل فيه، وأن هذا المجلس سيحدد أيضاً جوانب التعاون السياسي والاقتصادي بين أعضائه محكوماً باتفاقيات سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة.
ويؤكد المشروع ضرورة وجود حلقات تنسيق وتعاون أمني جديد بين المجلس الجديد للأمن في البحر الأحمر وبين مجلس التعاون الخليجي، وخاصة أن البحر الأحمر يمثل تخوماً استراتيجية لدول الخليج.
والمشروع لا يستبعد السودان من التفكير في الأطر الإقليمية الجديدة للشرق الأوسط إلا أنه يؤكد أن السودان عليه إنجاز العديد من الواجبات حتى يعود إلى مساره الطبيعي وفقاً للرؤية الأمريكية.
وتأمل الإدارة الأمريكية في الانتهاء من بناء النظام الاقليمي الجديد في المنطقة في غضون الفترة الأولى من الولاية الثانية للرئيس بوش في حال نجاحه حتى يمكن إرساء أوضاع مستقرة في هذه المنطقة.
أما المشروع الثاني ـ الذي يحمله الرئيس بوش ـ فهو يؤكد على ضرورة ضم مصر والأردن مع دول الخليج والعراق الجديد في منظومة أمنية واحدة تكون فيها الولايات المتحدة شريكاً كاملاً في الالتزامات والحقوق والواجبات مع هذه الدول.
ويطلق على هذه المنظومة الأمنية الجديدة مسمى مجلس الدفاع المشترك للشرق الأوسط، ويترك فيه الباب مفتوحاً أمام انضمام دول أخرى وقد رشح المشروع هنا إسرائيل وتركيا للانضمام إلى هذا المجلس في مرحلة تالية.
أما عن المشروع الثالث فإن هدفه بالأساس يركز على توسيع طبيعة المنظومة الأمنية ليشمل دول المغرب العربي وخاصة المغرب وتونس، وأن هذه المنظومة الواسعة سيكون هدفها بالأساس مكافحة الإرهاب واقتفاء أثر ومحاصرة نظم الحكم التي ترعى الإرهاب في هذه المنطقة!!
* القاعدة الفكرية التي تقوم عليها هذه النظم:
تقوم فكرة تغيير القاعدة أو الأساس الفكري للنظم في المنطقة حول نشر الديموقراطية.
ويكشف هيس مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية ـ وهو يهودي ذو ميول صهيونية ـ في محاضرته الشهيرة عن أحد أسباب سعي أمريكا إلى نشر الديموقراطية وهو كما قال: سوف نزدهر أكثر كشعب وكدولة في عالم من الديمقراطيات بدلاً من عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية. ويشرح هيس أسباب هذه الخطوة فيقول: العالم الديمقراطي هو عالم مسالم بشكل كبير؛ فنمط الديمقراطيات المتأصلة التي لا تتحارب مع بعضها البعض هو أحد أهم النتائج التي أمكن إثباتها في دراسات العلاقات الدولية.
إذن ما تهدف إليه أمريكا هو جعل الشعوب التي تعادي أمريكا شعوباً مسالمة كما ثبت في التجربة الألمانية واليابانية.
ولكن ماذا إذا أتت هذه الديموقراطية بأحزاب إسلامية؟ يقول هيس: «نحن ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم؛ لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة؛ بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة. بعد الذي قلته دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً؛ كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة. إن طريقة استقبالنا لنتائج انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة. لقد عبّر عن ذلك رئيس وزراء تركيا عبد الله غول على أحسن ما يرام عندما قال بعد إدلاء القَسَم قبيل تسلمه منصبه: نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون ديموقراطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر. والأميركيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا، ونريد أن نساعدهم في ذلك».
ولكن هذه الديموقراطية لا بد لها من بيئة تتوافر فيها اشتراطات معينة مثل تعديل مناهج التعليم وتحرير المرأة وغيرها من المفردات الثقافية التي تتهيأ أمريكا لتعميمها.(36/294)
لكن أخطر ما يمكن أمريكا فعله لتهيئة ما يسمى الأجواء لتطبق ديمقراطيتها تلك هي محاولة التلاعب بالإسلام كشريعة وعقيدة؛ فقد ذكر أحد الباحثين الأمريكيين في دراسة نشرت مؤخراً أن الإسلام ذاته هو العائق في سبيل نشر الأفكار الغربية بين المسلمين؛ ولذلك إذا أراد الغرب السيطرة على تلك البقعة فعليه بتغيير المنابع التي ينهل منها المسلمون. ولاحظ الباحث أن المسلمين يرجعون إلى النموذج الحنبلي كلما ضاقت بهم السبل؛ ولذلك يجب التعامل مع هذه المدرسة وإفرازاتها وما يتفرع منها، ولعل نغمة تغيير الخطاب الديني تصب في هذا الاتجاه.
الحدود والجغرافيا السياسية للكيانات العربية:
حيث إن هناك نظريات أمام الإدارة الأمريكية لتغيير الوضع الجيوسياسي للمنطقة تتمثل في:
الإبقاء على الوضع الحالي للأنظمة في الخلط بين الأنظمة والكيانات، والتي سادت في حقبة النصف الأخير من القرن العشرين، بحيث كان بعض الحكام يمزجون بين حتمية استمرار النظام السياسي القائم ووحدة الكيان الوطني.
* تجزئة المنطقة العربية إلى كيانات عرقية وطائفية.
* الفيدراليات الديمقراطية. والمقصود به أوطان منقسمة على أسسٍ عرقية أو دينية أو مذهبية، ثمّ تجميع للقطع المبعثرة في صيغٍ فيدرالية ديمقراطية. وسيكون الوجود العسكري الأميركي القوي في منطقة الخليج وداخل العراق مستقبلاً بمثابة قوة ضاغطة (ومساعدة أحياناً) لضمان حقوق الأقليات في المنطقة وللوصول إلى الصيغ الفيدرالية الديمقراطية.
ولعل ما حدث في العراق يوضح ما تنويه أمريكا للمنطقة؛ حيث تصر على أن العراق سيكون المثل؛ فمنذ سقوط النظام العراقي والولايات المتحدة حريصة على إبقاء درجة من الفوضى تسري في أوصاله، بل ذكرت مصادر إعلامية غربية أن بعض هذه الفوضى قد سعى لها الحكم الأمريكي للعراق، وهذه الفوضى تحقق للولايات المتحدة الذريعة لتقسيم العراق إلى كانتونات في حالة إخفاق القوى السياسية العراقية في إيجاد نظام يحقق المصالح الأمريكية في المنطقة.
ولكن يجب أن نقف عند حقيقة لا بد من تبيانها وهو أن ما تريده الولايات المتحدة أو ما تحاول أن ترسمه مراكز أبحاثها ليس شرطاً أن يحدث في الواقع، وقد تمر عقود والأمر أحلام وتمنيات، وقد تحدث متغيرات غير متوقعة تقلب الطاولة السياسية بمن عليها كمجيء إدارة أمريكية ديموقراطية لا تضع هذا التغيير في سلم أولوياتها، أو تقع هجمات وتفجيرات هنا وهناك تؤخر تسلسل الأحداث كما تريدها أمريكا، ويكفي أن إرادة تغيير النظام العراقي كانت عند الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ انتهاء حرب الخليج عام 1991م منذ عهد بوش الأب ومروراً بكلينتون وحتى في السنة الأولى من حكم بوش الابن؛ حيث سعى لإيجاد تكتل إقليمي لضرب العراق، ولم تفلح جولة لتشيني وباول في المنطقة بهذا الصدد، ولكن هذه الإدارة انتهزت فرصة أحداث 11 سبتمبر لتعيد صياغة قواعد كثيرة من النظام الدولي ومفردات الصراع العالمي؛ فالأمر ومناط الأحداث لا يتوقف على ما تريده الإدارة الأمريكية فقط؛ بل إن إرادات أخرى سوف تكون لها كلمتها في المستقبل القريب إن شاء الله
---------------
التغيير التربوي في العالم الإسلامي
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
لقد ولَّدت أحداث سبتمبر وما أعقبها أثراً لدى الغرب وأمريكا بدرجة أساسية، ومن الطبيعي أن يؤدي حدث بمثل هذا الحجم تستهدف به دولة تتربع على عرش القوة والجبروت في هذا العصر، أن يؤدي إلى تغيير في سياسة هذه القوة وأساليب تعاملها مع الآخرين، وبخاصة أولئك الذين تعد أرضهم وبلادهم موطناً ومصدراً لمن تصنفه القوى الغربية على أنه العدو الأحدث والأخطر.
ومن هنا سعت تلك القوة إلى إحداث التغيير في المنطقة وفرض قيمها وحضارتها ومعاييرها على شعوب الأمة المسلمة.
ويدرك الغرب أن التربية والتعليم هي أخطر أسلحة الأمة، وأنها هي التي تصنع عقول أبناء الأمة وتوجه مسيرتهم، ومن هنا حظيت التربية بأهم مجالات التغيير التي يتطلع إليها الغرب.
وليس هذا بجديد؛ فقد رأينا في أحداث التاريخ الماضي كيف أنهم يسعون عند مواجهة أمة من الأمم إلى تغيير تربيتها وثقافتها، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في كل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث أملى عليها المنتصرون شروطاً قاسية وصارمة لتغيير تربيتهم.
لذا بدأت تتوالى التصريحات التي تطالب بالتغيير من كبار أصحاب القرار في العالم الغربي، ومن ذلك تأكيد باول في مقابلة له مع القدس العربي بأنه مع احترامه لتقاليد دول المنطقة! فعليها أن تعيد النظر في تقاليدها وممارساتها بهدف معرفة ما إذا كان التغيير ممكناً، وأثنى على ما سماه إصلاحات في بعض الدول، ودعا الآخرين إلى السير على الطريق نفسه(1).
وقال باول أيضاً: «وبالنسبة إلى الدول الصديقة لنا في المنطقة، كل واحدة لها نظامها الخاص، وكل واحدة عليها أن تحكم بنفسها ما إذا كانت تريد أن تتغير، ومدى السرعة التي ستتغير بها، ونأمل أن نستطيع التأثير عليها من حيث كيف يتحقق التغيير، وأي تغيير يمكن أن يكون أفضل لها من أشكال أخرى من التغيير»(2).(36/295)
* مجالات التغيير التربوي:
تتنوع مجالات التغيير التربوي التي يسعى إليها الغرب في دول المنطقة، ومن أبرزها:
1 - إعادة فهم الإسلام:
يسعى الغرب الذي ينادي بحرية التدين، وعدم التدخل في خصوصيات الآخرين إلى مطالبة المسلمين مطالبة صريحة بتغيير دينهم، وإلى أن يعيدوا فهم الإسلام فهماً جديداً يحدده الغرب، فها هو رئيس الوزراء البريطاني ـ الشريك الأساسي للولايات المتحدة في حملة مكافحة الإرهاب في خطاب موجه للزعماء والمسؤولين بالدول الإسلامية، يدعوهم فيه أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن «الإسلام العادي أو الرئيسي» (استخدم لفظ: main st r eam) بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
والأمر تجاوز مجرد التصريح أو إثارة ما أسمي بمفهوم الإسلام المعدل إلى الدخول في التفاصيل؛ فللإسلام المعدل ملاحق تنفيذ؛ فقد أرفقت الإدارة الأمريكية بمنهاج «الإسلام العادي» ملاحق تنص على حذف مجموعة من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد والحث على كراهية المشركين واليهود، وبالإضافة إلى تلك الأحكام تطالب الإدارة الأمريكية بضرورة منع تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؛ لأن ذلك بمثابة «غسيل مخ» وفرض توجه فكري محدد لا يستطيعون تمييزه في هذه السن المبكرة»(1).
2 - فرض القيم الغربية:
يشعر الغرب بأن قِيَمَه هي القيم المرشحة لتحقيق رسالة السلام في العالم، ولحمايته من مخاطر الإرهاب والتطرف.
وحيث إن بلاد المسلمين هي مصدر هذا الإرهاب والتطرف ـ كما يزعمون ـ فلا بد من السعي لتغيير قيمها وإحلال قيم يُفصِّلها ويصنعها الغرب.
وقد أشار وزير الخارجية الأمريكي «كولن باول» في شهر نوفمبر 2001م - في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي - إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات(2).
وأبرز القيم التي يسعى الغرب إلى فرضها ما يلي:
1 - القيم المتعلقة بالمرأة:
تحتل القيمُ المتعلقةُ بالمرأةِ ودورِها القمةَ في القيم الغربية التي يسعى الغرب إلى تصديرها للعالم الإسلامي، وكثيراً ما يتكرر انتقاد واقع المرأة في العالم الإسلامي والحديث عن الرغبة في تغييره.
«وقد أكدت «ماري روبنسون» رئيسة لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في كلمتها الافتتاحية للمؤتمر على ربط تقديم المساعدات لأفغانستان بإعطاء دور حقيقي للمرأة الأفغانية في الحياة السياسية، وليس دوراً رمزياً فقط.
وذكرت روبنسون أن المرأة تشكل 60% من سكان أفغانستان البالغ عددهم 26 مليون نسمة، وعلى الدول المانحة في إعادة بناء أفغانستان أن تتأكد من البداية أن هذا الجزء الهام من الشعب الأفغاني له دور في أي إدارة مستقبلية»(3).
وقالت مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي كونداليزا رايس - والمقال منقول من موقع وزارة الخارجية الأمريكية -: «ويجب أن يكون محور جهودنا المشتركة تصميماً على الوقوف إلى جانب الرجال والنساء في كل دولة الذين يكونون رمزاً لما دعاها الرئيس بوش: «المطالب المتعلقة بالكرامة الإنسانية غير القابلة للتفاوض» - ألا وهي الخطاب الحر، العدالة المتساوية، احترام المرأة، التسامح الديني، ومحدودية سلطة الدولة»(4).
2 - قيم الليبرالية الغربية:
يقوم الغرب على الفكر الليبرالي المتحرر، ويرى أن الحرية التي تسود في مجتمعاته هي التي ينبغي أن يأخذ بها الآخرون.
وفرض هذه القيم الغربية يتجاوز مجرد المطالبة أو الضغوط إلى توظيف الحملات العسكرية؛ فقد جاء في تصريحات ستفين جي هادلي، مساعد الرئيس ونائب مستشار الأمن القومي، في مجلس العلاقات الخارجية في 12/2/3003م ـ والتصريح منقول من موقع وزارة الخارجية الأمريكية ـ:
«لهذا السبب أعاد الرئيس التشديد على وقوف الولايات المتحدة إلى جانب ما سماه «مطالب الكرامة الإنسانية غير القابلة للمساومة»: حكم القانون، وتحديد سلطة الدولة، وحرية التعبير، وحرية العبادة، والمساواة أمام القضاء، واحترام المرأة، والتسامح الديني والإثني، واحترام الملكية الخاصة.
إننا بحاجة للعمل على أساس هذا الالتزام بقيام عالم أفضل في كل أوجه سياستنا الخارجية، بما في ذلك الحالات التي نقوم فيها بأعمال عسكرية. فالولايات المتحدة، كما أشار الرئيس مراراً وتكراراً، ليست بلداً غازياً ـ إننا بلد مُحرّر؛ ملتزم مساعدة الشعوب على انتهاز الفرص المتاحة من أجل الحرية، وبناء مجتمعات أفضل لها ولأولادها»(5).
ويرى الغربيون أن العالم العربي عالم متخلف وأن من مسؤوليتهم الإسهام في تغييره؛ فها هو روبرت فيسك الكاتب البريطاني صديق العرب يكتب في تعليق بعنوان: «الأمم المتحدة تسلط الضوء على الحقائق المرّة في العالم العربي» في صحيفة الإندبندنت 4/7/2002م، يقول: «لن يجد العالم العربي ـ المحروم من الحرية السياسية، والمعزول عن عالم الفكر، والمضطهد للنساء في مجتمعه، والقامع للعلم والتطور ـ ما يقوله ضد الاستنتاجات التي توصل إليها تقرير صادر عن الأمم المتحدة يصف بدقة متناهية الحياة القاحلة والمتحجرة في كثير من الأقطار العربية»(6).(36/296)
3 - المؤسسات التربوية الإسلامية:
تكتسب المؤسسات التربوية أهمية قصوى في أي مطلب للتغيير في المجتمعات، وتعد المؤسسات التربوية بؤرة لإعداد الإرهابيين وتخريجهم ـ كما يرى الغرب ـ ومن ثم فلا بد أن يكون لها النصيب الأوفى من عملية التغيير.
ومن أبرز المؤسسات التربوية المستهدفة في التغيير ما يلي:
أ - المدارس الشرعية:
يتجه للمدارس الشرعية الآلاف من الشباب في المجتمعات الإسلامية، ولها أثرها البالغ في نشر العلم الشرعي وفي إشاعة التدين لدى صفوف الشباب.
وقد بدأ الاهتمام بتغيير المدارس الشرعية بعد أحداث سبتمبر مباشرة وقبل الحرب الأفغانية، وقد تجاوزت الحملة على المدارس الشرعية مجرد المطالبة والحديث عن التغيير، فتمت خطوات عملية في ذلك، ومن أبرزها ما تم في اليمن بشأن المعاهد الدينية التي تبلغ أربعمائة معهد حيث تم إلغاؤها ودمجها بالتعليم المدني.
أما ما تم في باكستان فإنه تدخُّل سافر وصفيق؛ حيث قدمت أمريكا مائة مليون دولار لإطلاق برنامج رقابة على المدارس الشرعية التي يقدر عددها بسبعة آلاف مدرسة، تضم حوالي مليون طالب، وهي التي تُتهم بأنها خرَّجت قيادات حركة طالبان الأفغانية، وسيكون من أهداف ذلك البرنامج الذي تشرف عليه وزارتا الداخلية والشؤون الدينية الباكستانية الرقابة على منشورات تلك المدارس ودور النشر التابعة لها، ويتضمن البرنامج تشكيل خلية خاصة من أجهزة الاستخبارات الباكستانية تدرب أشخاصاً للتسلل إلى تلك المدارس ورصد كل ما يجري داخلها، كما يوجه جزءاً من التمويل الذي قدمته الولايات المتحدة إلى إدخال مواد دراسية جديدة في تلك المدارس التي كانت تقتصر على تدريس القرآن وعلومه. وعلى نحو تدريجي سيتم إدماج المدارس القرآنية مع المدارس المدنية الأخرى(1).
وتحدث الدكتور حامد عبد الماجد عن هذا التغيير، ورأى أن الأمر سيتجاوز ما حدث في اليمن وباكستان إلى سائر المؤسسات التعليمية الشرعية كالأزهر فهي ستتعرض بدورها لضغوط بشكل أو بآخر، ولن يشفع لها ما كانت تمارسه سابقاً من أدوار؛ لأن المطلوب هنا ليس مواقفها السياسية ولكن بنيتها ذاتها ونمط التفكير الذي تنتهجه؛ ولذلك سوف يتم العمل على تجفيف جذور هذه المؤسسة الدينية، والتوقعات هنا أن تتم محاصرة انتشار الأزهر من ناحية بناء المعاهد، كما سيتعرض المضمون الدراسي لتعديلات متلاحقة، ويعاد تكييفه ليتوافق مع التعليم المدني العادي، وفي مرحلة لاحقة تدرج جامعة الأزهر في إطار التعليم المدني، ويتم الإبقاء على الأزهر كجامع فقط(2).
ب - المساجد:
والأمر لا يقف عند حدود المدارس، بل سيمتد إلى المساجد، وهذا ما يتوقعه أحد المهتمين بقوله: «كذلك تشير التوقعات - بناء على ما يصدر عن المصادر الغربية - إلى أن التأثير لن يقتصر على التعليم بشقيه الديني والمدني، بل سيتجاوزه أيضاً إلى المساجد، سواء عبر ما يُلقى فيها من خطب ودروس دينية؛ بحيث تتجنب هذه الخطب والدروس ما يُوصف بأنه إثارة للكراهية وعدم قبول الآخر، وأن تشيع بدورها ما يوصف بثقافة السلام.
ويعتقد البعض أن قرارات مجلس الوزراء المصري التي صدرت أوائل ديسمبر الماضي ووضعت شروطاً عشرة لبناء المساجد أهمها عدم بناء هذه المساجد أسفل العمارات السكنية ـ وهو الشكل الشائع في مصر ـ هدفها هو الحد من بناء المساجد التي زاد عددها بحيث أصبح من الصعب على وزارة الأوقاف الإشراف والإنفاق عليها وتعيين أئمة لها، كما أصبح من الصعب على الأجهزة الأمنية مراقبة ما يدور في كثير منها(3).
ومن ذلك ما قام به معهد بحوث إعلام الشرق الأوسط وهو معهد أنشئ في عام 1998م بهدف تغذية الحوار حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وقد قام المعهد باستعراض قائمة من خطب الجمعة التي ألقيت في السعودية، وبالذات في المنطقة الشرقية والغربية ومدينة الرياض، وذكر بعض الاستشهادات منها مما يرى أنه يصب في تغذية الإرهاب، داعياً إلى السعي للتغيير في هذه المنابر(4).
4 - مناهج التعليم:
والحديث عن المناهج أشهر من أن يستشهد له، وقد سبق تناول الموضوع بالتفصيل في مقالة سابقة.
ولعل من أبرز الأمثلة على الاتجاه للتغيير في المناهج تصريح باول الذي يقول فيه: «لكن إذا أرادت دول أن تكون لها علاقات حسنة معنا؛ فعليها أن تعرف أنه مهما كانت الطروحات الدينية التي تدرِّسها لأبنائها في مدارسها العامة، فإننا ننتظر منها أن تلقن الطريقة السلمية التي تحقق بها تلك الطروحات. وعلى كل سفراء أمريكا أن يحققوا هذا الجزء من القضية؛ لأنه إذا لم يكن التسامح عالمياً فإن التعايش مستحيل».
وقد دعا كلينتون ـ في كلمته امام المنتدى الاقتصادي بجدة ـ الدول الإسلامية إلى تغيير مناهجها المدرسية لمنع ترسيخ العقائد في النظام التربوي».
فالأمر يتجاوز مجرد كتابات لبعض الصحفيين إلى تصريح لمسؤول، ومهمة يطالب السفراء بمتابعتها.(36/297)
أما تصريحات الصحفيين والمفكرين والمراكز المستقلة وشبه المستقلة فهي أشهر من أن تورد، ومنها على سبيل المثال لا الحصرالدراسة التي قام بها (الدكتور أرنون جريس) وهو إسرائيلي الجنسية، ويعمل صحفياً في راديو إسرائيل! وقام فيها بتحليل محتوى ثلاثة وتسعين كتاباً من كتب المواد الشرعية التي تدرس في السعودية، وكان من أهم نتائج دراسته أن المناهج تدَّعي أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول، وأن اليهود والمسيحيين هم أعداء المسلمين الأبديين، وأن كتب الجغرافيا لا تعترف بدولة إسرائيل...إلخ.
وقد أدان مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الخطوات الرامية إلى تغيير المناهج الدراسية في بيان أصدره، ومما جاء في البيان: «ولقد تبع هذه التصريحات والكتابات دعوات غريبة وشاذة للتدخل في أخص خصائص الإسلام والمسلمين، فتجاوزوا التدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية للعالم الإسلامي، إلى الحديث عن ضرورة تغيير مناهج التعليم الديني، والمدارس القرآنية في بعض البلاد الإسلامية، وفي مواجهة هذه الحملة الظالمة والغربية الشاذة، يرى مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أن يعلن أن التهجم على أي دين من الأديان، والسعي لتغيير أو تعديل هويات الأمم وثقافات الشعوب، إنما هو تجاوز للخطوط الحمراء يصل إلى حد اللعب بالنار وتعريض السلام العالمي لأشد المخاطر والتحديات.
وأضاف أن الإسلام يصنف هذه الدعوات والكتابات والتصريحات والمساعي في باب (فتنة الناس في دينهم) والفتنة أشد من القتل ـ وهي سبب من أسباب الإذن والتحريض على الجهاد حتى يكون الدين خالصاً لله، وحتى تكون الحرية مكفولة لكل صاحب عقيدة وهوية وثقافة، ويختار ما يريد ضميره الحر، لا ما يفرضه المتجبرون على المستضعفين.
لذلك يحذر مؤتمر المجمع من العواقب الوخيمة لهذه الحملة الظالمة والشرسة على الإسلام وعلى التعليم الديني الإسلامي»(1).
5 - سياسة تجفيف البويضة:
وهذا «ليوسي واسكال» الضابط في وحدة الأبحاث التابعة للاستخبارات الصهيونية، يفصح عبر الراديو عن مخططهم لمواجهة الإسلام فيقول:
(إن أجهزة الاستخبارات تعمل على مستويين وستعمل قريباً على ثالث:
المستوى الأول: مستوى التحالف: وقد نجحنا في ذلك مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إمدادها بالمعلومات عن حماس والجهاد وحزب الله، وقد تم ذلك بالتعاون مع دول التحالف في المنطقة بنطاق استخباري، وهو الأمر الذي أدى إلى وضع هذه التنظيمات على قائمة الإرهاب.
المستوى الثاني: مستوى الإحباط: إذ تعمل بها أجهزة الشاباك والاستخبارات عبر مد الجيش بالمعلومات الدقيقة حول نشاطات الفلسطينيين والتي تتمثل بالتصفيات والاعتقالات من خلال وحدات المستعربين والدفدفان وحرس الحدود وغيرها.
أما المستوى الثالث والذي سيعمل به قريباً فهو: (تجفيف البويضة) إذ تعتمد الحرب على الفكر، ونحن الآن في مواجهة الحركات الإسلامية التي تنتهج فكر المقاومة لإسرائيل، ومن هذه الأفكار: اقتحام المستوطنات، إطلاق قذائف الهاون، وإطلاق الصواريخ، وإطلاق النار داخل إسرائيل؛ هذا الأمر يدفعنا للوقوف إزاء محاربة هذا الفكر من خلال معرفتنا بكيفية التعامل مع الإسلام الهادئ، والإسلام المتطرف، وأعني بذلك محاربة أيديولوجيا الحركات الإسلامية؛ بحيث لا تقف الحرب عند حدود التعامل مع الإرهابيين على النطاق العسكري، وإنما الوصول إلى الروحانية التي يتمتع بها أعضاء الحركات الإسلامية من خلال تجفيف البويضة(2).
* خطوات مواجهة التغيير:
إن إدراكنا لجدية وضخامة هذه الحملة التي تواجه فيها أمتنا بدينها وهويتها ـ والتي قد لا نبالغ حين نقول إنها أخطر من العدوان العسكري المسلح ـ يفرض علينا أن نفكر بجد في أساليب مواجهة هذا الطوفان، وأن يتجاوز الأمر مجرد الحديث عن التغيير إلى الخطوات العملية.
1 - توعية الأمة:
إن حجم هذه الهجمة وهذه المطالب أكبر من أن يواجهها فئة محدودة من الدعاة، ومن ثم فتوسيع دائرة الوعي بها ومواجهتها مطلب لا غنى عنه.
ومن هنا يتأكد علينا أن نعتني بتوسيع دائرة الوعي بهذه الحملة، من حيث حجمها ومجالات انتشارها، ومن حيث مخاطرها وآثارها التي لا يعيها الناس.
والأمر يحتاج إلى توظيف الوسائل التي تخاطب الأمة، والعمل على الارتقاء بالحديث وتجاوز اللغة العاطفية التي تردد كيد الأعداء ومكرهم، إلى الحديث العلمي الموثق الرصين.
2 - تأكيد ارتباط التعليم بهوية الأمة:
التعليم يمثل هوية وثقافة ألأمة، وهو يسعى إلى تقرير هذه الهوية، وتربية الأجيال الجديدة عليها، ولئن كان هذا الأمر مهماً في أي عصر فهو أكثر أهمية في عصرنا؛ حيث تتعرض هوية الأمة وثقافتها لكثير من الاهتزازات، وتضيق الدائرة التي يسهم التعليم في بنائها لدى الجيل لصالح مؤثرات أخرى.
ومن هنا؛ فالحاجة ملحة لمزيد من ارتباط التعليم بهوية الأمة، وإشعار الأمة بخطورة هذا الأمر، وأن التعليم أهم مواطن السيادة لدى المجتمعات الواعية بهويتها.
3 - إعطاء الأمر أولوية واهتماماً:(36/298)
إن مثل هذه المطالب ليست دعوة لمنكر محدود ينتهي أثره، إنما هي دعوة لتغيير مسيرة الأمة، والخطوات التي تتخذ في ذلك يصعب التراجع عنها.
وهذا يحتم على الغيورين أن يعطوا مثل هذا الأمر أولولية واهتماماً، ويقدموه على غيره من المشروعات التي هي دونه في الأهمية.
ومواجهة مشروع التغيير التربوي تستمد أولويتها من اعتبارين رئيسين:
الأول: خطورة التأثير واستمراره.
والثاني: كونها قضية الوقت.
4 - تحديد أولويات المواجهة:
الناس في هذه القضايا ليسوا فئتين لا ثالث لهما؛ فمن المسلمين ـ سواء من هم في موقع الفكر والرأي، أو في موقع القرار والتنفيذ ـ من يختلف معنا بصورة أو أخرى، ومساحة الاختلاف ليست واحدة فهي تضيق مع أشخاص وتتسع مع آخرين.
وقد يتناغم بعض هؤلاء مع المطالب الغربية، ومن هنا فنحن بحاجة إلى الحكمة في التعامل مع هؤلاء ومع أطروحاتهم، وأن ندرك أننا أمام صراع خطير يستوجب منا تحديد الأولويات، ورعاية رتب المصالح والمفاسد.
فثمة خلافات ينبغي أن نتجاوزها، وخلافات ينبغي أن نؤخر الحديث حولها، وعلى الذين يصرون على أن يمُلوا كافة اقتناعاتهم، وعلى الاستماتة على وجهات نظر تقبل الأخذ والعطاء، على هؤلاء أن يكونوا واقعيين، وأن يفرقوا بين التنظير والتقرير الفكري، وبين صراع يتطلب حكمة وحنكة.
5 - تفعيل الجهود الاحتسابية:
هذه الحملة لا تقف عند مجرد الإثارة الفكرية، بل هي تسعى لاستصدار قرارات عملية، ومن ثم يتأكد الاحتساب لمواجهة التغيير، والسعي لتفعيل كافة فئات المجتمع وشرائحه للوقوف في وجه التغريب الذي يسعى لطمس هوية الأمة سواء كان مصدره من العدو الخارجي، أو المستغربين من أفراد الأمة.
6 - تفعيل دور التعليم غير الرسمي:
مع أهمية المحافظة على التعليم الرسمي القائم، وترسيخ الهوية الإسلامية فيه، فلا بد من السعي في مجال موازٍ له يتمثل في تفعيل التعليم غير الرسمي من خلال المدارس الخاصة، أو الدروس العلمية في المساجد، والدراسات المسائية، وبرامج التعليم الذاتي، وغير ذلك.
والأمر يحتاج إلى توسيع دائرة الانتشار لمؤسسات التعليم غير الرسمي، ويحتاج إلى الارتقاء بأداء القائم منها؛ فكثير من الجهود القائمة لا تتلاءم نوعياً مع مستوى ما يتطلع منها.
7 - الاعتناء بترسيخ القيم:
مجالات الخلل والانحراف في الأمة كثيرة ومتعددة، وهي ليست ذات درجة واحدة؛ فالخلل في السلوك والممارسة خطير، لكن الخلل على مستوى المبادئ والقيم أكثر خطورة؛ لذا صارت مما يستهدفه الغرب بالتغيير.
ومن ثم يتأكد الاعتناء بترسيخ القيم، وتأصيل المفاهيم الشرعية، وهذا لا يتحقق من خلال التناول المعرفي المجرد لها، بل هو بحاجة إلى برامج متنوعة تحقق تأثيراً راسخاً يصعب اقتلاعه.
وثمة منابر متاحة تمكن الغيورين من تأصيل المفاهيم والقيم الشرعية، وثمة مجالات عدة يمكن التحرك من خلالها وتوظيفها توظيفاً إيجابياً.
8 - الارتقاء بأداء المعلمين والمعلمات:
مع أهمية المنهج المدرسي وخطورة تأثيره، فيبقى للمعلمين والمعلمات أثر قد يؤدي إلى تهميش تأثير المنهج أو تطوير أثره.
ومن هنا لا بد من الاعتناء بدور المعلمين والمعلمات بكافة تخصصاتهم.
إننا نملك في مدارسنا فئة غير قليلة من المعلمين والمعلمات يملكون الغيرة على مجتمعات المسلمين ولديهم الرغبة في الإسهام والإصلاح.
إلا أن التحديات القادمة تتطلب الارتقاء بخبراتهم وأدائهم حتى يمتلكوا قدرة أكبر على توظيف المنهج توظيفاً إيجابياً في تحقيق هوية الأمة.
9 - الاعتناء بالجوانب الأخرى من المنهج:
المنهج ليس قاصراً على تلك الأوراق التي يدرسها الطالب؛ فمن الاهتمامات المعاصرة في التربية ـ على سبيل المثال ـ ما يسمى (المنهج الخفي)، ويعنى به: كل ما يمكن تعلمه في المدرسة من تعلم غير مقصود وغير موجود في المنهج الرسمي.
ويمكن استنباط المنهج الخفي من القوانين واللوائح الداخلية والقواعد والتنظيمات العامة الموجودة في المدرسة، ومن العلاقات العامة الموجودة داخل المدرسة كعلاقة الناظر بالمعلمين، وعلاقته بالطلاب، وعلاقة كل فئة بالأخرى، ومن خلفيات هذه الفئات المختلفة الطبقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن طبيعة بنيان المدرسة والأثاث المستخدم للطلاب والعاملين، وطبيعة المنافع والمرافق العامة، ومن شكل المعرفة المدرسية وليس مضمونها(1) .
10 - التغيير الإيجابي:
المناهج والنظم التربوية مهما بلغت من التميز تبقى جهداً بشرياً لا يخلو من النقص والقصور.
وكثيراً ما ينطلق المنادون بالتغيير من ثغرات موجودة في النظام التعليمي، وقد أدت الأجواء المتوترة المرتبطة بإثارة قضايا التعليم والتربية إلى إصرار العديد من الغيورين والخيرين على الإبقاء على الواقع والدفاع عنه رغم سلبياته.
ومثل هذا اللون من التعامل مع هذه الظاهرة إن تحقق له النجاح فسيبقى نجاحاً وقتياً، وما يلبث أن ينهار أمام عوامل التغيير.(36/299)
وهذا يدعونا إلى أن نبادر بحكمة حتى يكون لنا إسهام في التغيير، وأن يكون التغيير إيجابياً فنقطع الطريق على من يسعون لتوظيف التغيير توظيفاً سيئاً، أو على توظيف أصحاب النوايا الحسنة ممن لا يرضيهم الواقع القائم فيسايرون تيار التغيير السلبي.
11 - التوازن بين رفض التغيير ومراعاة المصالح والمفاسد:
ففي مثل هذه المواقف تبدو نظرتان: نظرة تتجه إلى الإصرار على التمسك بكل صغيرة وكبيرة ورفض أي مرونة أو استجابة، ونظرة تتجه إلى التعامل الواقعي مع المشكلة والانحناء أمام العاصفة.
وكلا النظرتين لها مسوِّغاتها، والخلل ينشأ في الغالب من الإصرار والمبالغة في النظرة إلى جانب واحد فقط.
فنحن بحاجة إلى التمسك بمكتسباتنا والحفاظ عليها والوقوف في وجه التغيير، وبحاجة إلى الحكمة ومراعاة المصالح والمفاسد.
وفي صلح الحديبية رفضت قريش أن يكتب الرسو صلى الله عليه وسلم باسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب (محمد رسول الله) فلم يصر صلى الله عليه وسلم على ذلك، ووافقهم على ما يريدون مراعاة للمصلحة الأهم والأكبر، وقد أخذ علي ـ رضي الله عنه ـ بهذا المعنى في حواره مع الخوارج.
-----------------------------------------------
(1) http://news.bbc.co.uk/hi/a r abic/news/newsid_2576000/2576345.stm
(2) http://usinfo.state.gov/a r abic/mena/1217pwla صلى الله عليه وسلم htm
(1) http://www.elakhba صلى الله عليه وسلم net/pages310502/monde3.htm
(2) الأهرام، 18/12/2001م.
(3) http://www.islamonline.net/A r abic/news/2001-12/05/A r ticle78.shtml
(4) http://usinfo.state.gov/a r abic/t r /1016rice.htm
(5) http://usinfo.state.gov/a r abic/mena/0219usisl.htm
(6) http://www.islamonline.net/A r abic/politics/2002/07/a r ticle15.shtml
(1) http://www.islamonline.net/a r abic/politics/2002/01/a r ticle12.shtml
(2) http://www.islamonline.net/a r abic/politics/2002/01/a r ticle12.shtml
(3) http://www.islamonline.net/a r abic/politics/2002/01/a r ticle12.shtm
(4) انظر: موقع المركز على شبكة الإنترنت www.mem r i.o r g
(1) http://www.alwatan.com.sa/daily/2002-04-19/cultu r e/cultu r e05.htm
(2) http://www.amin.o r g/views/abdulaziz_ r antisi/2002/jan08.html
(1) انظر: المجلة التربوية. جامعة الكويت. عدد 39 ص (82 ـ 83).
----------------
(هنا البيت الأبيض)
فن الدعاية الرمادية
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
«جوزيف جوبلز».. وزير الإعلام في عهد هتلر، ومؤسس فن الدعاية السياسية بلونها الرمادي، ساهم بقوة في ترويج الفكر النازي، وساق في ركابه عشرات الملايين من الألمان، ورغم العداء الغربي للنازية، إلا أن جوبلز يعد مؤسس مدرسة إعلامية يحتشد ضمن صفوفها صقور الإدارة الأميركية الحالية الذين تفوقوا على معلمهم الأول؛ بحيث استغنوا عن منصب وزير الإعلام؛ لأن كلاً منهم بات في داخله «جوبلز» ذاتي، يمارس مهام الدعاية بطريقة تلقائية.
وجوبلز صاحب نظرية نصف الحقيقة؛ ومن هنا جاء الوصف الرمادي. يعني ذلك خلط بعض الحقيقة مع بعض الأكاذيب وتقديمها كوجبة إعلامية دعائية متكاملة للشعوب، وهو القائل: «اكذب الكذبة مئة مرة.. تصدقها»، والدعاية السياسية بمفهومها الغربي لا يمكن أن تنفك عن الكذب أصلاً، فترجمة المصطلح الإنجليزي «p r opaganda» هي في الأصل مصطلح كنسي لوصف التنصير، وأول من استعمله كان البابا جريجوري الثامن في سنوات (1572 ـ 1584م)، ومعلوم ما بين التزوير والتنصير من ارتباط وثيق.
ولم يقتصر التطوير الأميركي للدعاية السياسية على تعدد «الجبالزة» فقط، فقد أصبح الميدان غاية في التعقيد والتشعب، وتداخلت السياسة مع الإعلام بصورة كاملة؛ فمن جهة تحول وتغول الإعلام ليصبح لاعباً أساسياً في الملعب السياسي، ومن جهة أخرى أصبح الأداء السياسي الرسمي المعلن يبدو وكأنه فقرة إعلامية لها مقدم ومعد ومخرج، ولتوضيح الجانب الذي نريده من هذه العلاقة المركبة، نقول: هناك عدة صور للارتباط بين الأداء السياسي الرسمي الإعلامي، وبين الأداء الحقيقي غير المعلن، يمكن توضيحها باستخدام مفهوم العلاقة بين الشكل وظله؛ ففي بعض الأحيان يكون هناك تماثل بين الاثنين، ويترجم ذلك سياسياً بتزايد مستوى الشفافية إلى حد كبير، حيث يعبر الشكل عن ظله بنسبة مئة في المئة، وهو أمر يندر وجوده واقعياً، وأحياناً يكون الظل أصغر من الشكل، حين يراد التضخيم والخلط والإبراز لما ليس بواقع، وأحياناً يكون الظل أضخم من الشكل، حينما تتداعى أسباب الكتمان والسرية والإخفاء، لكن في جميع الحالات تبقى درجة تعبير للشكل عن ظله، أما في الحالة الأميركية، فهناك نمط مبتكر للعلاقة بين الشكل السياسي وظله؛ حيث حدث افتراق تام ومقصود بين الاثنين ـ في كثير من مفردات الأداء السياسي ـ وأصبح الشكل لا ظل له، والظل لا شكل له؛ فالثاني غير معلن، ويفترض ألا يُعرف عنه شيء، والأول يعبر عن شكل افتراضي لا وجود له في الواقع، وهذا يعني أن الإعلام بمعناه الحرفي فقدَ ماهيته، وطُوِِّع كلية للدعاية الرمادية.(36/300)
ولإكمال فهم الصورة، نقول: إن هذا التطويع لم يخضع له الإعلام فقط، بل حتى العمل الاستخباراتي تم تطويعه على يد «جبالزة» الإدارة الأميركية، ليصبح تابعاً للقرار السياسي لا قائداً ومرشداً له ـ في حالات كثيرة ـ وبدلاً من التتابع المنطقي: «معلومة ـ قرار» والذي يجعل من المعلومات المخابراتية محوراً رئيساً، أصبح القرار السياسي محوراً للمعلومات. يقول راي كلوز أحد المخضرمين في السي آي إيه: «الرئيس شخص قوي جداً.. وعندما تحس بما يريد، فمن الصعب جداً ألا تخرج بحثاً عنه وتجده». ويزيد متخصص آخر الصورة إيضاحاً فيقول عن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد: «إنه أيديولوجي، فهو لا يبدأ بالحقائق على الرغم من ذكائه الحاد، إن لديه نقطة جوهرية، ويقوم بجمع الحقائق لدعم هذه النقطة الجوهرية». وقد اتضحت هذه الحقيقة في قضية ادعاء امتلاك أسلحة الدمار الشامل كمسوغ للحرب على العراق.
مؤشر آخر على اهتمام الإدارة الأميركية الحالية بالدعاية الرمادية، يتمثل في كثرة مراكز الإعلام المتخصصة التي يتم إنشاؤها داخل مختلف الإدارات، وبغرض التعامل مع العالم العربي والإسلامي بصفة رئيسة؛ فبالإضافة إلى النشاط الإعلامي المعروف لوزارة الخارجية، أنشأ رامسفيلد مكتب التأثير الاستراتيجي، والذي اشتهر باسم «مكتب التضليل الإعلامي» وسيأتي الكلام عنه لاحقاً، وكذلك أنشأ جورج بوش الرئيس الأميركي مكتباً آخر خاصاً به في البيت الأبيض، هو مكتب الاتصالات العالمية، ويضم 11 موظفاً بصفة مبدئية، ويرمي إلى الترويج لوجهة النظر الأميركية، ومكافحة المشاعر المعادية للولايات المتحدة، وبالخصوص في العالم الإسلامي..
* البيت الأبيض.. قمة الهرم المقلوب:
رغم أن ساكن البيت الأبيض يمثل قمة الهرم الأميركي، لكن يبدو الوضع في حقيقته على غير هذه الصورة؛ فهناك هرم آخر مقلوب، في أعلاه تصطف مراكز القوى الأميركية التي تعد المتحكم الرئيس، وتتقاسم هذه المراكز وتتبادل التأثير في سياسة الإدارة بطريقة لا تترك لجورج بوش نفسه سوى نطاق محدود ـ نسبياً ـ من الخيارات، ومن خلال هذا الحيز تبدو التوجهات الدينية اليمينية لجورج بوش وبعض مسؤوليه، وعلى رأسهم رامسفيلد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضعف شخصية الرئيس الأميركي أتاح الفرصة لتكوين مراكز قوى داخل الإدارة نفسها تتنازع بدورها السيطرة على هذا النطاق المتاح.
ويمكن تصنيف أربع مراكز رئيسة للقوى، في مقدمتها: القوى الرأسمالية، وتتمثل في الشركات الكبرى، وعلى رأسها شركات السلاح، واللوبي اليهودي، ثم يلي ذلك الإعلام، وإن كان يعتبر وسيلة تأثير غير مستقلة يتحكم فيها أطراف متعددة، ثم يأتي في الأخير الشعب الأميركي، وهو يفترق عن سابقيه في كونه ليس كياناً واحداً محدد المعالم والمطالب، ولكنه كيانات متعددة، في الدين والعرق والتوجه، بل حتى الانتماء، فهو من مراكز القوى الافتراضية، لكن تفرقه، وتكتل الأطراف الأخرى يجعله في ذيل قائمة التأثير، ويفقده القدرة على المواجهة والتحدي لتأثير القوى الأخرى، ويجعله أكثر قابلية للخداع؛ لذا كان خداع الشعب الأميركي بمثابة علم وفن له أصوله وقواعده، وتميزت الإدارة الجمهورية الحالية بزعامة جورج بوش بمنهج تجديدي في صياغة العلاقة بين الإدارة الأميركية والشعب، وكانت أحداث سبتمبر، والحرب على الإرهاب، هي المنطلق الأساسي لهذا النهج، وكان الإعلام وسيلته الرئيسة.
ولكي نفهم توجهات الإعلام الأميركي، ينبغي الإشارة إلى حجم السيطرة والتأثير اليهودي في هذا المجال؛ فالشركات الإعلامية الكبرى الثلاث: والت ديزني، فياكوم، تايم وارنر، والصحف الأميركية الكبرى: نيويورك تايمز، والواشنطن بوست، ووول استريت جورنال، وكذلك الشبكات التلفزيونية الرئيسة: سي بي إس، إم بي سي، إيه بي سي، وشبكة فوكس، سي إن إن، والمجلات الكبرى، التايم، النيوزويك، وكبرى شركات إنتاج الأفلام: كولومبيا، مترو جولدن ماير، وورنر برازر، بارامونت، يونيفرسال، سينشري فوكس... كل هذه المؤسسات الأميركية الضخمة يملكها أو يديرها أو يسيطر عليها تماماً اليهود. وباختصار: تشير الأبحاث المتخصصة إلى أن 155 شخصاً يسيطرون على الإعلام الأميركي، أغلبهم بالطبع من اليهود ومؤيديهم، وإذا كنا تحدثنا عن التأثير التبادلي بين الإعلام والسياسة، فيمكن لنا أن نلخص دائرة التأثير المتبادل بين العناصر الثلاث كما يلي: (يهود سياسة ـ يهود إعلام - إعلام سياسة - سياسة إعلام)، ومن ثم يسهل ملاحظة أن اليهود لا يكمن تأثيرهم الأخطر في ممارسة أساليب الضغط المباشر، ولكن في إيجاد مناخ سياسي عام مواكب - في الولايات المتحدة - يتم من خلاله تنفيذ مخططاتهم بصورة تلقائية، ودون تدخل مباشر في كل حين.
* القوة.. اللغة الرسمية لإعلام البيت الأبيض:(36/301)
تبنت إدارة الصقور الجمهورية نمطاً جديداً من الإعلام الرسمي ـ هو انعكاس للسياسة الرسمية ـ يُفعِِّل لغة القوة ـ العسكرية في الأساس ـ كوسيلة للحوار والتخاطب في السياسة الدولية، بمعنى أن العلاقات الدولية التي تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها تعاد صياغتها حرفياً وفق موازين القوة الفعلية، وقد نجحت الإدارة الأميركية في ذلك كثيراً، على الأقل في العلاقات مع العالم الإسلامي، ويمكن ملاحظة ذلك بتتبع التصريحات والخطب السياسية ذات العلاقة على الجانبين؛ حيث يمكن بسهولة تمييز التغير في هذا المجال بالمقارنة بين فترتي رئاسة بيل كلينتون ورئاسة بوش الحالية.
ويمكن تقسيم مهام الإعلام الرسمي إلى أربعة:
أولاً: الترويج: وهو واضح المعنى، ولا يكون مرتبطاً أو مقترناً في العادة بمهام السياسة الآنية، وبالنسبة للإدارة الأميركية؛ فهي تسعى لإعطاء انطباع للرأي العام العالمي بكونها تسعى لتحقيق الأمن والسلام العالميين، ولنشر الديمقراطية والحرية في دول العالم.. إلخ، كما يشمل ذلك إطلاق بعض الأسماء ذات الدلالة على بعض الأعمال، من قبيل: حرب النجوم، العدالة الدائمة ـ حرية العراق.
ثانياً: التشويش أو التضليل: ويكون مقترناً ببعض المهام السياسية، ويتم بإطلاق كَمٍّ من المعلومات المضللة التي تحدث حالة من اللبس حول حقيقة الأحداث، ويعتبر مكتب التاثير الاستراتيجي الذي أسسه رامسفيلد في البنتاجون مثالاً عملياً على ذلك.
ثالثاً: التسويغ: وعادة ما يحدث في أعقاب تنفيذ بعض المهام السياسية ـ أو العسكرية ـ والتي تثير الرأي العام المحلي والعالمي لما ترتب عليها من نتائج معلنة.
رابعاً: التغطية أو التعتيم: وتأتي أيضاً في أعقاب تنفيذ مهام سياسية، لكن يمنع إعلان نتائجها، وما يترتب عليها من أحداث.
ويتأثر أداء المهام الأربعة للإعلام الرسمي إلى حد كبير بالقوة السياسية والعسكرية، وبصورة عامة يتأثر بمنظومة القطبية السائدة في العلاقات الدولية، فالوضع في حالة العالم متعدد الأقطاب، يختلف عنه في حالة الثنائية القطبية، أو عالم القطب الواحد كما هو حالياً، فعلى سبيل المثال تحتل مهمة الترويج شأناً كبيراً في الوضعية المتعددة والثنائية، وكذلك فإن التسويغ يتسم بكونه مركباً، ويحظى بمستوى عال من الأهمية.
وقد اتخذت الإدارة الأميركية الحالية من أحداث سبتمبر منطلقاً لتفعيل وضعية عالم القطب الواحد بصورة كاملة، وجاءت الحربان على أفغانستان، ثم على العراق، كتطبيق عملي على هذه الوضعية. يقول الرئيس الأميركي بوش في إحدى خطبه: «سوف نعلم الأنظمة الخارجة على القانون أن حدود السلوك المتمدن سوف يتم احترامها في هذا القرن الجديد»، ويقول تشيروفسكي مدير مكتب تحويل القوة في البنتاجون: «نحن نقبل حقيقة أنه نظراً لما قمنا به في العراق، فإننا نخلق حقيقة استراتيجية جديدة، وهذا يعني وجود فرصة مختلفة لعملية رسم مختلفة للقوة».
وبناء على ذلك فقد ترتبت وصيغت المهام الأربعة للإعلام الرسمي على نحو جديد، فلم يعد للترويج أهميته السابقة، وإن كانت الإدارة الحالية تهتم كثيراً بالترويج قبل أن تقدم على عمل ما مباشرة، كما حدث في حربيها على أفغانستان والعراق، حيث كان التركيز قوياً على مخاطبة الشعبين الأفغاني والعراقي، وإبراز مهمة القوات الأميركية على أنها تحرير الشعبين، وقد بلغ ذلك حد إقامة محطة إذاعية متنقلة تحملها ست طائرات، تجوب الأراضي الأفغانية، وتخاطب الأفغان بلغتهم المحلية، ولكن بمجرد تحقيق الأهداف والفراغ من العملية، يتبخر الاهتمام بالترويج.
وأصبح التشويش والتضليل سياسة رسمية معلنة، تسبب رامسفيلد من فرط حماسته في كشفها، قبل أن يعلن تراجعه عنها، وإن كانت صحيفة الواشنطن بوست قد أكدت بعد ذلك أن مكتب التضليل لا يزال يمارس عمله بصورة غير معلنة، ويخضع الأميركيون لتأثيره تماماً كسائر شعوب العالم، أما التسويغ فتأثرت صياغته بلغة القوة إلى حد كبير، فلم يعد متعدد الطبقات، بل يكفي تسويغ أولي سطحي ذو طبقة واحدة، ومن لم يعجبه «فليشرب من البحر الميت» كما يقول عرفات فاقد القوة.
أما التغطية والتعتيم، فقد برزت أهميتهما في الحرب على العراق، حيث أصبحت شكوى وسائل الإعلام الرئيسة قلة المعلومات عما يحدث، فالأخبار مثلاً تتحدث عن عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف التي ألقتها الطائرات الأميركية، بينما الأهداف المعروفة حتى الآن لا تشكل ربع الأماكن التي ألقيت عليها الصواريخ، وليست هناك أي إحصائية دقيقة ـ أو غير دقيقة ـ عن القتلى بين العسكريين أو المدنيين العراقيين، وقد عبر رامسفيلد نفسه ـ دون قصد ـ عن ذلك، في سياق اعتراضه على ما تبثه الفضائيات العربية من لقطات، لا تعبر عن حقيقة ما يجري، فقال: «ما نراه ليس الحرب في العراق، بل شرائح من الحرب»، فمن يخفي إذن بقية الشرائح؟
* البيت الأبيض يقصف عقول الأميركيين:(36/302)
لم ينتج عن هجمات سبتمبر انهيار مادي لبرجي نيويورك فقط، بل تسعى إدارة الرئيس الأميركي بوش إلى قصف الأبراج التي لا تزال موجودة في العقول الأميركية، ولا أعتقد أنه في التاريخ الأميركي الحديث يوجد حدث كهجمات سبتمبر تم توظيفه بقوة وكثافة، وعلى جميع المستويات المحلية والعالمية؛ بحيث أصبحت أغلب القرارات الأميركية منذ سنتين انعكاساً له، أو تأثراً به، أو استغلالاً له، أو تضخيماً في نتائجه وتوابعه، حتى لم يعد ذلك الحدث يتحمل، ويوشك أن يتداعى سياسياً، مع عقول الأميركيين.
ورغم أن الرئيس بوش يحرص على ترداد مصطلح الحرية، حتى اختار لحربه على العراق اسم «حرية العراق» لكن ذلك لا يمنع أن أولى ضحايا هجمات سبتمبر على الصعيد الأميركي الداخلي هي الحرية نفسها، ولا شك أن هذه الحرية بمفهومها وتطبيقها الأميركي تشكل عائقاً كبيراً أمام أهداف الإدارة الأميركية داخلياً وخارجياً، ويهمنا هنا الحرية الإعلامية، والتي تبين مدى الحاجة إلى تكميمها، وقد نجحت تلك الإدارة في تحقيق بعض ذلك، باستغلال ما يمكن تسميته بإرهاب الإجماع الوطني من ناحية، وعن طريق التشويش على المعلومات والتعتيم عليها من ناحية ثانية، وإعادة صياغة قانونية للإعلام الأميركي من ناحية ثالثة، وقد أثمر ذلك نتائج باهرة؛ حيث ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز اعتماداً على استطلاع للرأي أن 59% من الأميركيين يقرون بأن على السلطة السياسية والعسكرية أن تبسط رقابة أقوى على الإعلام الأميركي.
ولفهم المنهج الذي تعاملت، وتتعامل به إدارة بوش في المجال الإعلامي، على الصعيد الأميركي، سوف نقسم الكلام على محورين: الإعلام كآلة أو وسيلة، الإعلام كمضمون أو رسالة.
* أولاً: الإعلام كآلة أو وسيلة:
كما سبق فإن أكبر وأضخم المؤسسات الإعلامية الأميركية يسيطر عليها أو يملكها اليهود؛ ولذلك فاحتمالات خروجها عن الصف ضعيفة، وإن خرجت فبحساب ولحساب.. وفي ظل ثوابت لا تتبدل على الأقل بالنسبة للقضية التي نعالجها، مع أهمية الانتباه إلى أن جورج بوش نفسه ليس من ضمن هذه الثوابت..
وبالإضافة لهذه المؤسسات فإن الإدارة الأميركية تبذل جهوداً عظيمة في سبيل تأمين وسائل الإعلام، وتحويلها من منبر لليبرالية والاستقلالية إلى بوق يرى المصالح الأميركية القومية كما تراها الإدارة، ولا شك أن الأمر ليس سهلاً أبداً، نتيجة مناخ الحرية المطلقة التي كان يعيشها الأميركيون، ولكن السيطرة على المؤسسات الكبرى يحل الإشكال بدرجة كبيرة.
وهنا ملاحظة هامة لكي لا ترتطم المعلومات في الأذهان وهي أن فن تحريك العرائس الإعلامية في أمريكا يختلف تماماً عنه في عالمنا العربي فالأول فن راق يعتمد تقنية ـ التحريك عن بعد ـ ولكن في محيطنا العربي تبدو العرائس ومن يحركها على المسرح السياسي بلا حرج.
وفي محاولة لضرب وسائل الإعلام الأمريكية المستقلة والأصغر حجماً، والتخلص من الأصوات المعارضة، تسعى الإدارة الأميركية للحصول على موافقة الكونجرس على اقتراح لفك القيود عن قوانين ملكية وسائل الإعلام، وهو تعديل خطير يتوقع أن يطلق حملة من حمى من الاندماجات، مما سيقضي على وسائل الإعلام الصغيرة، ويرسخ حالة احتكار الأخبار. يقول تيد تيرنر مؤسس السي إن إن مبيناً خطورة التعديل القانوني: «لو كانت هذه القوانين مطبقة في عام 1970م لكان من المستحيل إنشاء شركة تيرنر برود كاستنج أو سي إن إن بعد ذلك بعشر سنوات»، ومن النتائج البارزة لهذا القانون الجديد أنه سيسمح لمجموعة استشمارية واحدة أن تمتلك محطات تلفزيونية يشاهدها 45% من الأميركيين، بدلاً من 35%حالياً، وهي وضعية خطيرة، خاصة لو عرفنا أن الأفلام والتلفاز يشكلان الرأي العام الأميركي كما يقول ديفيد ماك الخبير في معهد الشرق الأوسط للدراسات في واشنطن.
وكدلالة على تأثير هذا التوجه على العقل الأميركي، فإن شبكة فوكس الإخبارية التي يملكها الملياردير اليهودي روبرت مردوخ، حظيت مؤخراً بنسبة مشاهدة عالية، حتى إنها تجاوزت منافستها السي إن إن بـ 300 ألف مشاهد أميركي في وقت الذروة، وذلك رغم أن المحطة تتبنى المفهوم الرسمي للإعلام إلى حد كبير، ويدير قسمها الإخباري أحد مستشاري الحزب الجمهوري الحاكم، روجرز أيلز الذي عمل سابقاً كمستشار إعلامي في إدارات نيكسون وريجان وبوش الأب. يقول أحد الصحفيين العرب: «تبدو مقولة أنه ينبغي السماح للرأي بأن يتطور بشكل طبيعي دون أي تدخل خارجي وهماً في الدول الديمقراطية، كما في الديكتاتورية؛ فالرأي العام ظل دائماً توجهه وتتدخل فيه آلة الحرب والعسكريون».(36/303)
وعقب هجمات سبتمبر بدأت الإدارة الأميركية في الاهتمام بالتأثير الكبير لشركات الإنتاج السينمائي في هوليود، واجتمع مستشار بارز في البيت الأبيض مع 40 من كبار المديرين التنفيذيين بصناعة الأفلام السينمائية لمناقشة كيفية المساهمة في حرب أميركا على الإرهاب، وتم تشكيل لجنة خاصة برئاسة جاك فالينتي رئيس جمعية «موشن بيكتشر أوف أميركا»، وهو من أبرز شخصيات هوليود وأكثرهم نفوذاً، وأنتج بمعرفة هذه اللجنة عدة أفلام دعائية تروج للقيم الأميركية، لكن تغير الحال بعد الحرب على العراق والتي لقيت معارضة قوية في هوليود، ورفض فالينتي إنتاج أي أعمال تروج لذلك، وقال: «لا نحتاج إلى إنتاج أفلام دعائية وكل هذه السخافات»، واقترح توزيع المزيد من الأفلام الجديدة على القوات الأميركية.
* ثانياً: الإعلام كمضمون أو رسالة:
يقول بعض الصحفيين الأميركيين ـ باول كروغمان من النيويورك تايمز ـ: إن مصطلح تلفيق يبدو رقيقاً للغاية بالنظر إلى ما فعلته إدارة بوش طوال الوقت» ويضيف: «هذه الإدارة اعتادت بشكل غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، وبشكل منتظم وبصفاقة، التلاعب وتشويه الحقائق..» ورغم أن منطلقات التلاعب تتعلق بالحرب على الإرهاب، إلا أن الأمر اتسع ليشمل مختلف المجالات، وكما يقول كروغمان إنها استراتيجية مألوفة لدى فريق عمل بوش اتبعها في قضايا تتنوع من الضرائب إلى الطاقة، ثم يضرب مثالاً على ذلك بالقول: «أعلنت اللجنة القومية للحزب الجمهوري أن التخفيضات الأخيرة المتعلقة بالضرائب ستفيد كل من يدفع الضرائب.. وتلك ببساطة أكذوبة؛ فقد سمعتم عن قصة الملايين الثمانية من الأطفال الذين حرموا من إعفائهم من الضرائب نتيجة تعديل في اللحظة الأخيرة، هذا التعديل سيؤدي في نهاية الأمر إلى حرمان 50 مليون عائلة أميركية من أي فائدة».
ومنذ سبتمبر 2001م، والإدارة الحالية تسعى لفرض رقابة ضمنية على ما تبثه وسائل الإعلام بحجة المصالح القومية، ولكي يتكتل المجتمع في مواجهة الإرهاب، وتتزايد حدة الرقابة مع بداية كل حرب تتورط فيها الإدارة؛ كما حدث في أفغانستان، ثم في العراق؛ حيث برزت بقوة وظيفتا التعتيم والتضليل، وبات المجتمع الأميركي الذي ترعرع على الحرية المطلقة، يعاني من قلة المعلومات، وعدم حصوله حتى على ما يحصل عليه المواطن العربي العادي، رغم الفارق الكبير في الحرية الإعلامية، ومنذ إنشاء مكتب التضليل الاستراتيجي في البنتاجون، يرصد الباحثون أن 50%من الأميركيين باتوا يعتقدون أن أسلوب التغطية الإخبارية قد انحدر، وكتب كل من بيل كافاتش وتوم روزينيستل الباحثان المتخصصان مقالاً هاماً في نيويورك تايمز أكدا فيه أن نسبة حصول المواطن الأميركي على الحقائق قد انخفضت في شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين إلى 63% بعدما كانت في سبتمبر 75%، وذلك بناء على دراسة لمعهد أبحاث أجراها على محطات التلفزة والصحف والمجلات الرئيسية.
وتتبع الإدارة الأميركية وسائل مختلفة في سبيل ممارسة الرقابة على الرسالة الإعلامية، فقد استدعت مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس مسؤولي وسائل الإعلام الرئيسة في أميركا، ونبهتهم إلى أهمية ما يسمى «منع التسريب.. «leakage»، ومُنعت محطات التلفاز من بث رسائل زعيم القاعدة، وفي بعض الحالات تم عمل مونتاج لها، بحجة التأكد من عدم وجود رسائل مشفرة، وسعياً للسيطرة على التغطية الصحفية للحرب على العراق، فقد رافق القوات الأميركية نحو 500 صحفي، ووزع عليهم لائحة بالقيود والممنوعات تشمل خمسين بنداً في 12 صفحة، ومن أهمها عدم نشر أي صور إلا بعد اعتبارها مناسبة من المختصين، وذكرت بعض التقارير أن الوكالة الحكومية الأميركية للصور والخرائط، اشترت حقوقاً لاحتكار جميع صور الأقمار الصناعية في أفغانستان، وذلك منذ بدء العمليات العسكرية هناك.
وقد اعتمدت إدارة بوش منذ حرب أفغانستان مبدأ إعلامياً يمكن تسميته (التهيئة للأسوأ) حيث يتم تهيئة الأمريكيين لتقبل معدلات عالية من الخسارة البشرية والمادية وكذلك في المدد المتعلقة باستمرار الحرب والبقاء في كل من أفغانستان والعراق فيتم الحديث عنها دائماً بالحد الأقصى وقد أبدى الأمريكيون تقبلاً غير متوقع في هذا المجال وهو ما ينبغي أن يدفع قادة المقاومة في البلدين لإعادة النظر في استراتيجية المواجهة عن طريق إرهاق الوجود الأمريكي.
أيضاً يلاحظ المتابع للإعلام الأميركي أثناء الحرب على العراق أنه لا يرد ذكر الصوت الرسمي للعراق، وكأنه كيان غير موجود، بينما يتم التركيز بقوة على مؤتمرات التحالف والمعارضة العراقية، وقبل بدء الحرب شن الرئيس الأميركي حملة ترويج لأهدافها، من خلال خطبه وكلماته للأميركيين، أكثر فيها من الحديث عن الفظائع التي يرتكبها رجال صدام، وعن خطورة أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها، وبالغ فاعتبر أن القضاء على هذه الأسلحة يرتبط مباشرة بتحقيق الأمن للمجتمع الأميركي.(36/304)
وتولى المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض جانباً من الحملة، حيث مارس نوعاً من الحجر على بعض التساؤلات المطروحة بالنسبة للحرب على العراق، خاصة فيما يتعلق بمدتها، وأعرب عن الاستياء البالغ لجورج بوش من هذه الأسئلة التي تثيرها وسائل الإعلام الأميركية.
ورغم أن إدارة بوش لا تزال تمتلك ناصية الأمور في هذا المجال، إلا أن هناك صيحات تذمر وتململ، خاصة مع اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية. يقول الصحفي الأميركي باول كروغمان: «كل مرة تأتي الإدارة بمن يدافع عنها ـ بمن فيهم حشد من وسائل الإعلام - ممن يصرون بشكل ساذج على أن اللون الأسود أبيض، وأن الأعلى أسفل».
* «هنا البيت الأبيض»... شعار إجباري للإعلام العربي:
ازدحم الفضاء العربي في وقت قصير نسبياً بنحو 140 قناة فضائية، وتزايدت نسب مشاهدة الجمهور لهذه الفضائيات، وتفيد إحدى الدراسات العلمية الحديثة أن نسبة 69% من الجمهور العربي يشاهدون الفضائيات لمدة أربع ساعات يومياً، وأن 31% منهم يشاهدونها لمدة ثلاث ساعات يومياً، و34.5% لمدة ساعتين، و15% لمدة ساعة واحدة يومياً، على حين بلغت نسبة نمو مقتني أطباق البث 12% سنوياً، و40% من هذه الفضائيات تتبع الحكومات العربية، والبقية تعتبر مستقلة ظاهرياً فقط، وعلاوة على ذلك فهي تعبر بصورة أو أخرى عن ثوابت النظام الذي ينتمي إليه أصحابها، وتمثل البرامج الإخبارية في هذه الفضائيات حوالي 5% فقط.
وقبل أن نتناول العلاقة بين البيت الأبيض والإعلام العربي، ينبغي أن نشير إلى بعض السمات المميزة للإعلام العربي، خاصة في مجال الفضائيات، باعتبارها الأكثر تأثيراً في الرأي العام العربي حالياً.
أولاً: تتبنى قناة الجزيرة باعتبارها طليعة القنوات الإخبارية وأكثرها تأثيراً، نهجاً إعلامياً متميزاً، على الساحة العربية، وهو نهج غربي في الأساس يقوم على الاستقلالية والحياد ـ النسبي ـ والحرية في الطرح الإعلامي، وهذا النهج الغربي له تأثير هائل في استثارة الشعوب المحرومة من سماع الحقيقة لسنوات طويلة، وقد تأثر الرأي العام العربي إلى درجة كبيرة بما يقدم وفق هذا النهج الذي أغرى بعض الجهات الأخرى ـ دولاً أو غير ذلك ـ بالتقليد، فرأينا عدداً من الدول تنشئ قنواتها الخاصة غير الرسمية، لكي تستطيع عن طريقها أن تبث وجهات نظرها ورؤاها بعيداً عن القالب التقليدي الذي ملّه الناس، ولكن المشكلة في هذا النهج الإعلامي الغربي المنشأ، أنه يثير كمّاً من المشكلات بقدر ما يحقق كثيراً من الإيجابيات؛ بحيث يدفع للتساؤل: هل هذا هو النهج الأمثل لوسائل الإعلام في واقعنا العربي؟ النظرة قصيرة الأجل تبرز الإيجابيات، والنظرة طويلة الأجل تبرز السلبيات، ولكن هل بات في ديار العرب من يهتم بالنظر طويل الأجل؟
المفارقة هنا تكمن في الاختلاف الجوهري بين الواقع الغربي الذي نقل عنه هذا النهج، وبين الواقع العربي؛ فقد تبنت وسائل الإعلام الغربية ذلك النهج بطريقة طبيعية ومنطقية متساوقة مع التطور السياسي والحضاري، وهو ما يعني أن الشعب الذي يتم مخاطبته عن طريق هذا الإعلام، مؤهل ويمتلك من أدوات التعبير والتغيير ما يجعل من استثارته بهذه الطريقة أمراً له وجاهته، وفائدته، بينما في واقعنا العربي لم نستورد إلا بعض ذلك النهج الإعلامي دون أدوات التعبير والتغيير لمن تتم استثارتهم، فماذا إذن؟ يجد الناس أنفسهم في مفترق طرق: إما أن يكبتوا مشاعرهم التي استثيرت، وإما أن... يكبتوها... وهذا الكبت ينقلنا إلى احتمالات أخرى؛ فقد يولد الانفجار، ولكن هذا أمر تحترز منه الشعوب العربية جيداً، وقد ينشأ عنه حالة من اللامبالاة، بعد أن اكتشفوا الطامتين في وقت واحد: حجم العداء والتآمر ضدهم، وضآلة إمكاناتهم أو المسموح لهم باستخدامه منها، وهناك احتمال ثالث، وهو أن تتحول وسائل الإعلام الثورية في حد ذاتها إلى وسيلة «للتنفيس» والتهدئة.
ثانياً: تعيش الأمة العربية حالة من السيولة في ثوابتها ومتغيراتها، والإعلام أثر وتأثر بذلك إلى حد كبير، وفي خضم هذه الفوضى يصبح البحث عن موقف ثابت أو رأي محدد أو مرجعية واحدة للأمة أمر صعب المنال، ومن ثم يصبح الرأي العام المستسلم لوسائل الإعلام نهباً للاختراق من الجهة المؤثرة والقوية التي تملك أن تفرض شعارها.(36/305)
ثالثاً: من مظاهر التقليد الأعمى الإعلامي للغرب، الهرولة غير العادية من وسائل الإعلام لتغطية الأخبار بطريقة غوغائية، لا تنطلق من ثوابت أو منطلقات نفعية عامة، بل كل همها البحث عن خبر جيد ومثير، وفي أثناء الحرب على العراق، تجمَّع في الأردن وحدها نحو 1400 صحفي يبحثون عن أي أخبار، ولما تبين لهم فقر المادة أصيبوا بإحباط شديد، وعلى شاشات التلفاز تتابع سيل لا ينقطع من الخبراء والمحللين الذين تتضارب أقوالهم، يتحدثون عن تطورات المعارك، وعن المقاومة العراقية الباسلة، ثم لما تبين عدم بسالتها، تحدثوا عن المعركة المنتظرة على أسوار بغداد، ثم لما تبين عدم وجود أسوار، انطلقوا يتحدثون عن عراق ما بعد الحرب. فوضى عقلية غير عادية عصفت بعقول الشعب العربي، وتقاذفته ذات اليمين وذات الشمال، ليفيق بعدها وهو لا يدري ماذا حدث وكيف حدث؟ ولتنقله وسائل الإعلام مرة أخرى وببساطة شديدة لمتابعة أحداث الشوط (...) من القضية الفلسطينية، وعلى الهواء مباشرة من العقبة وشرم الشيخ، ورام الله وغزة و... إلخ.
رابعاً: يربط كثير من الناس بين زيادة الوعي، والكم الذي يتلقاه يومياً من الأخبار، عبر مختلف وسائل الإعلام، وهذا فهم غير سوي؛ فالإنسان مهما بلغ عقله وقدرته على التركيز والاستيعاب لن يستطيع أن يحوز كل ما يتاح له من أخبار. يقول اللفتنانت نيل بيكهام أحد المتحدثين باسم التحالف: «خطر تكنولوجيا اليوم هي كثرة الأخبار.. إذا زودت القاد بالكثير من المعلومات والأخبار فإنهم يصابون بحيرة من كثرتها».
خامساً: من مظاهر تقليد الإعلام الغربي، ما حدث في الكويت في محاولة لإعطاء موقف متعاطف مع الشعب العراقي، حيث تم استجلاب أحد الأطفال الضحايا ـ أحمد ـ الذي يتوفر في حالته كمٌّ مأساوي هائل، ثم يتم التركيز عليه إعلامياً: أحمد يعالج، أحمد في رعايتنا، أحمد شُفي... وهكذا ببساطة يتم إثبات التعاطف مع الشعب العراقي.
سادساً: أبدى عدد من الفضائيات العربية تخبطاً كبيراً في توصيف وتحديد موقفها من الحرب على العراق، تجاذباً بين متطلبات الموقف السياسي الرسمي، وبين ادعاء الحياد والاستقلالية، ومثلت تسمية الحرب نفسها مشكلة كبرى، فهناك: حرب العراق، الحرب على العراق، حرب في العراق، حرية العراق.. وبعض القنوات اتبعت المنحنى الشعبي؛ ففي البداية هي حرب في العراق، ولما هاج الناس أصبحت حرب على العراق، وفي أول الحرب كانوا: قتلى عراقيين.. ومع سخونة الأحداث أصبحوا شهداء عراقيين، وهكذا..
سابعاً: هناك ظاهرة خاصة بالفضائيات العربية ـ المستقلة ـ فقط، وهي أن هذه الاستقلالية تبدأ عادة من بعد الدولة التي تنتمي أو ينتمي إليها أصحاب الفضائية، ويأخذ منحنى الاستقلالية ـ المزعوم ـ في الازدياد مع الاقتراب من الدول المشاغبة ذات العلاقات المتوترة.
ثامناً: النقاط السابق ذكرها تقدم لنا نتائج هامة، وهي أن الإعلام العربي ليس مستقلاً بالصورة التي يحاول أن يظهر بها، وأنه قابل للاختراق بسهولة، وأنه من قلة الوعي الرهان على بعض هذه الفضائيات، والتلقي المفتوح منها، وفي الأخير أن إمكانية التسرب الأميركي إليها واردة، أو وردت بقوة...
* ماذا يريد الأميركيون من الإعلام العربي؟
باختصار: يريد البيت الأبيض من وسائل الإعلام العربية أن تقدم صورة إيجابية عن الولايات المتحدة، وقادتها، وشعبها، وقواتها المسلحة، وأن تنقل ترجمة عربية حرفية للوصف الذي تقدمه الإدارة الاميركية للمعارك في العراق ومن قبل في أفغانستان، وكذا الحال في سائر القضايا الهامة. يعني المطلوب أن يصبح شعار الإعلام العربي: «هنا البيت الأبيض»، وقد حسم الرئيس الأميركي القضية بقولته المشهورة: «من ليس معنا فهو ضدنا».
وكما سبق في تناول الإعلام الأميركي، فسوف ينقسم الحديث إلى محورين: الإعلام كآلة أو وسيلة، والإعلام كمضمون أو رسالة..
* أولاً: الإعلام كآلة أو وسيلة:
تبنت الإدارة الأميركية في هذا المجال عدة وسائل في اتجاهات مختلفة:(36/306)
1 - كانت الجزيرة هي البداية، باعتبارها الأكثر تأثيراً، وحضوراً، ومن ثم كان لا بد من استئناسها، وهذا بدوره له عدة طرق منها الضغط السياسي، ومنها ممارسة ضغط ميداني عن طريق قصف المكاتب، وقتل بعض المراسلين، ومنها فتح قنوات اتصال، وتم إنشاء مكتب إعلامي في لندن من مهامه تنسيق العلاقات مع الجزيرة، عن طريق التركيز على بيان وعرض وجهة النظر الأميركية بصورة دائمة، خاصة في البرامج الحوارية، وتم تخصيص بعض الشخصيات المفروضة في هذا المجال، مثل كريستوفر روس المستشار في الخارجية، وينبغي التنبه إلى أن إدارة بوش لا تريد القضاء على الجزيرة كمنبر إعلامي هام؛ إذ إن استيعابه، واختراقه أفضل من غلقه، وخاصة أنه يقدم فوائد لا بأس بها في مجالات أخرى. يقول جيمس روبن المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية: «إن الإدارة أدركت مؤخراً أنه يجب استغلال قناة الجزيرة وليس التعارك معها حتى يمكن توصيل رسالة واشنطن»، وكانت الجزيرة قد تعرضت لحملة تحريض كبرى في بعض وسائل الإعلام الأميركية، ودعت صحيفة نيويورك ديلي نيوز ـ سادس أكثر الصحف توزيعاً في الولايات المتحدة ـ إلى إغلاق الجزيرة بقوة السلاح، وقالت إن التعامل مع هذه القناة مهمة للقوات المسلحة.
2 - سعت الإدارة الأميركية إلى إنشاء وسائلها الإعلامية الخاصة لمخاطبة العرب والمسلمين، فقامت بتأسيس إذاعة سوا الموجهة، لمخاطبة الشعوب العربية، وبدأت البث في 23/3/2002م، واعتبر المسؤولون عنها في إفادة أمام مجلس الشيوخ أنها حققت نجاحاً، ونقل عن السفير الأميركي في الأردن قوله: إن الإذاعة حققت شهرة بين الشباب الأردني. وتبث الإذاعة الأغاني، ويتخلل برامجها نشرات إخبارية تعرض للرؤية الرسمية الأميركية، وبعد نجاح «سوا» اتخذ الكونجرس قراراً جريئاً بإنشاء فضائية موجهة باللغة العربية، تبث برامجها على مدى 24 ساعة، وتم تخصيص 245 مليون دولار بالفعل، للبدء في ذلك، وأطلق على قرار الموافقة: «برامج دبلوماسية الرأي العام».
3 - أنشأت وزارة الخارجية الأميركية مكتباً خاصاً لشؤون الدبلوماسية العامة، ترأسته شارلوت بيرز، ومهمته تحسين الصورة الأميركية أمام العرب والمسلمين، ولكن لم تلبث شارلوت أن قدمت استقالتها لأسباب مرضية، ولكن ذكرت التقارير أن السبب الحقيقي شعورها بالإحباط؛ لأن أفكارها لم تلق التجاوب واصطدمت مع المكاتب الأخرى المثيلة في البيت الأبيض والبنتاجون، وكان من أساليب مكتب شارلوت إنتاج فيلم دعائي عن الولايات المتحدة، بغرض عرضه في الفضائيات العربية، ولكن رفضه كثير منها.
4 - تمارس الإدارة الأميركية أسلوب التهديد في بعض الأحيان تجاه القنوات المارقة، والتي يخشى منها ذلك، وقد سبق قتل القوات الأميركية لأحد مراسلي الجزيرة، وتعرض مراسلي فضائية أبو ظبي للحصار في بغداد، وعندما أذاعت محطة تلفزيون محلية عراقية رسالة منسوبة لصدام حسين، هدد الجنرال ديفيد بتراوس قائد الفرقة 101 المحمولة جواً في مؤتمر صحفي بأنه سيقصف المحطة؛ لأنها تحرض على أعمال عنف ضد القوات الأميركية.
* ثانياً: الإعلام كمضمون أو كرسالة:
بدا واضحاً أن معدل التدخل الأميركي في المضمون الإعلامي العربي يتزايد باضطراد، خاصة بعد الحرب على العراق، وبات من الطبيعي أن يعلق المتحدث باسم الخارجية أو البيت الأبيض على أشياء من ذلك، وهذا يعني أن مفهوم «من ليس معنا فهو ضدنا» قابل للتغلغل إلى أي مستوى في الداخل العربي. يقول ريتشارد باوتشر المتحدث باسم الخارجية الأميركية: «يؤسفني أن الكثير في الصحافة العربية يسيء تفسير الأمور ويؤجج الأشياء، كل ما نطلبه هو أن نحصل على فرصة عادلة لسماع رأينا، وأن ينظروا إلى الحقائق، وألا يقفزوا إلى النتائج». المشكلة أن العرب والمسلمين لا يحظون بأي من هذه الفرص التي يتم التحدث عنها، وبينما تعتبر هوليود أن العرب والمسلمين هم فئة الأشرار المثالية في أفلامها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ويقول أحد المتخصصين في مجال النقد السينمائي إنه منذ عام 1980م، ومن بين مئات الأفلام التي تتحدث عن العرب، ليس من بينها إلا 12 فيلماً فقط تتحدث عنهم بصورة إيجابية. في المقابل نجد أن المسؤولين الأميركيين يشتكون من تنامي الكراهية ضد الأميركان في الدول العربية، ويصف مسؤول كبير في الخارجية الأميركية تغطية بعض وسائل الإعلام العربية للحرب ضد العراق بأنها: «مثيرة للمشاعر جداً، ومتحيزة جداً».
وهذا يعني أن الأميركيين يريدون لنا أن نشاهد تغطية من قبيل هدم تمثال صدام، ولفه بالعلم الأميركي، أو لقطات لتوزيع عينات الأغذية الأميركية على الشعب العراقي، بينما الطائرات تقصف مستودعات غذائية عراقية تحتوي على حمولة عشرين ألف شاحنة.(36/307)
والمشكلة الحقيقية هنا لا تكمن في الممارسة الأميركية بقدر ما تكمن في رد الفعل العربي؛ فكما ذكرنا هناك قابلية للاستسلام والاختراق غير عادية، حتى إن مثل هذه الضغوط تنشئ ما يسمى بقاعدة للمحاسبة الذاتية؛ حيث يحرص الإعلاميون بداية على الابتعاد عن كل ما يمكن رفضه قياساً على قولة بوش المشهورة، ليتم تنقية الأجواء الإعلامية من كل ما يمس السياسة الأميركية، وهكذا فإن اليهود نجحوا في أن يؤسسوا مناخاً مواتياً في الولايات المتحدة يخدم مصالحهم بطريقة ذاتية، بينما يعجز العرب عن إيجاد مناخ مماثل يخدم المصالح العربية في بلاد العرب، وبدلاً من ذلك يصبح شعار «هنا البيت الأبيض» اخف وطأة، وأحمد عاقبة.
وهذا الوضع المتردي يوجب علينا أن نحدد معالم التغلل الأمريكي المرتقب في الإعلام العربي وكذلك معالم لمنهج إعلامي يصلح لمواجهة هذه الدعاية الرمادية التي تتغلغل في الأوساط العربية، وهو ما سوف نتناوله في مرة قادمة بإذن الله تعالى
============(36/308)
(36/309)
من هم دعاة الإخوة الإنسانية
وما هي جذورهم الفكرية وشيخهم الأفغاني وتلميذه محمد عبده
نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد عمارة( )
ترجمته :
- هو الدكتور محمد عمارة.
- ولد عام 1931م. حصل على الشهادة الابتدائية من معهد دسوق الديني عام 1949م، ثم الشهادة الثانوية من معهد طنطا (المعهد الأحمدي).
- التحق بدار العلوم وتأخر حصوله على شهادتها حتى عام 1965م بسبب سجنه بتهمة الانتماء إلى التنظيمات اليسارية.
- حصل على الماجستير عام 1970م وكانت رسالته حول "مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة".
- حصل على الدكتوراه عام 1975م وكانت رسالته حول "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة".
- عمل باحثاً في وزارة الأوقاف، ومستشاراً في الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- متفرغ للعمل الفكري والتأليف.
مؤلفاته: كثيرة؛ منها :
1- القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب.
2- فجر اليقظة القومية.
3- العروبة في العصر الحديث.
4- الأمة العربية وقضية الوحدة.
5- إسرائيل.. هل هي سامية؟
6- مسلمون ثوار.
7- عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين.
8- الإسلام والوحدة الوطنية.
9- قاسم أمين وتحرير المرأة.
10- محمد عبده، مجدد الإسلام.
11- جمال الدين الأفغاني، موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام.
12- عبد الرحمن الكواكبي: شهيد الحرية ومجدد الإسلام.
13- علي مبارك، مؤرخ المجتمع ومهندس العمران.
14- رفاعة الطهطاوي. رائد التنوير في العصر الحديث.
15- المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية.
16- الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية.
17- المعتزلة وأصول الحكم.
18- المعتزلة والثورة.
19- نظرة جديدة إلى التراث.
20- عندما أصبحت مصر عربية.
21- الجامعة الإسلامية والفكرة القومية عند مصطفى كامل.
22- معارك العرب ضد الغزاة.
23- محمد عبده، سيرته وأعماله.
24- المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد.
25- العرب والتحدي.
26- الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب.
27- العدل الاجتماعي لعمر بن الخطاب.
28- نظرية الخلافة الإسلامية.
29- الإسلام والثورة.
30- الإسلام والسلطة الدينية.
31- الإسلام والحرب الدينية.
32- ثورة الزنج.
33- التراث في ضوء العقل.
34- الإسلام وقضايا العصر.
35- الإسلام والعروبة والعلمانية.
36- دراسات في الوعي بالتاريخ.
37- الإسلام وأصول الحكم.
38- تيارات الفكر الإسلامي.
39- تيارات اليقظة الإسلامية والتحدي الحضاري.
40- الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري.
41- الفريضة الغائبة، عرض وحوار وتقييم.
42- الفكر القائد للثورة الإيرانية.
43- الإسلام بين العلمانية والسلطة الدينية.
44- ماذا يعني الاستقلال الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية؟.
45- جمال الدين الأفغاني المفترى عليه.
46- الإسلام والمستقبل.
47- العلمانية ونهضتنا الحديثة.
48- الإسلام وحقوق الإنسان.
49- الاستقلال الحضاري.
50- معالم المنهج الإسلامي.
51- الإسلام والفنون الجميلة.
52- الشيخ محمد الغزالي.
-كان الدكتور محمد عمارة في شبابه يسارياً متطرفاً إبان فترة توهج الفكر الماركسي اليساري في بلاد المسلمين، ثم تحول عنه في بداية السبعينات لما رأى -كما يدعي!- "سلبيته القاتلة" وأنه مجرد وافد على بلاد المسلمين، ومن ثم توجه عمارة إلى ما يسميه "الفكر العربي الإسلامي العقلاني المستنير".
-بعد رجوعه عن الفكر اليساري اتجه محمد عمارة إلى إحياء تراث المعتزلة قديماً والمدرسة العقلية (مدرسة الأفغاني ومحمد عبده) حديثاً.
يقول عمارة عن توجهه الجديد: "لقد استطعت أن أنجح في خلق(!) قارئ جديد. قارئ إسلامي ليس هو اليساري التقليدي، وليس هو الإسلامي التقليدي"! (رحلة في عالم الدكتور محمد عمارة، ص 107).
أي أنه حاول في توجهه الجديد أن يمزج الإسلام باليسارية التي كان يدين بها! بعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في عالمنا الإسلامية -ولله الحمد-. وهذا دليل على بقاء تعلقه بذلك الفكر المنحرف واستنكافه وتكبره عن التراجع التام عنه -نسأل الله العافية وأن يرزقنا التوبة النصوح-.
انحرافاته :
1-غلوه في تعظيم العقل البشري القاصر:
يبالغ الدكتور عمارة -شأنه شأن أسلافه من المعتزلة وأتباعهم- في تمجيد العقل البشري القاصر وإنزاله محلاً رفيعاً يجعله حاكماً على النصوص الشرعية لا محكوماً لها؛ وهذا مما أداه إلى رد كثير من النصوص والأحكام الشرعية التي لا توافق عقله.
يقول عمارة متحدثاً عن شيوخه المعتزلة ومؤيداً لهم: "قالوا إن الأدلة أولها العقل؛ لأنه به يميز بين الحسن والقبيح" (الطريق..، ص100) ويقول: "إن مقام العقل في الإسلام مقام لا تخطئه البصيرة ولا البصر.." (التراث..، ص183)، ويقول: "إن الإسلام لا يمد نطاق علوم الوحي والشرع إلى كل الميادين الدنيوية التي ترك الفصل فيها والتغير لعلوم العقل والتجربة الإنسانية" (الدولة الإسلامية، ص172).
قلت: وللرد على شبهات العقلانيين -ومنهم محمد عمارة- في تعظيم العقل وتقديمه على النقل يراجع كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" (من ص140 إلى ص258).(36/310)
وأكتفي هنا بنقل جميل عن الدكتور محمد رفعت زنجير ذكره في كتابه "اتجاهات تجديدية متطرفة" (ص57)، يرد به على معظمي العقل على حساب النقل: يقول الدكتور: "وقضية تقديم العقل على النقل مطروحة من أيام المعتزلة، ونحن لا نرى إقحام العقل في تفاصيل قضايا الإيمان بالغيب، وصفات الله، والمتشابهات، لأن العقل محدود العلم، وما يجهله أكثر مما يعرفه، فلا ينبغي له أن يتدخل فيما يجهله، لأنه سيقود إلى نتائج غير سليمة. ونضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً قبل عصر الطيران قال إن البشر سيطيرون من شرق الأرض إلى غربها في يوم واحد، لاتهمه الناس بعقله، فالعقل لا يقول بإمكانية ذلك آنذاك، أما اليوم فمن أنكر ذلك فهو الذي يتهم بالخبل، فإذا كان العقل عرضة لتغيير أحكامه في أمور الدنيا تبعاً لمتغيراتها بين الأمس واليوم، فهو أكثر عرضة لتغيير آرائه بالنسبة للدين، يؤكد هذا أن الله تعالى كلما بعث نبياً، وأصلح الناس، قام الناس بعد رحيل نبيهم بتغيير المنهج وتحريف الرسالة، وهم يعتمدون في ذلك على ما تكن به نفوسهم ويخطر في عقولهم، ولو أنهم التزموا بما أنزل الله إليهم ولم يحرفوا، أو يبدلوا، لبقي المنهج سليماً، وساد الإصلاح، فالعقل قد يضل، أو يتبع الهوى، وليست جميع العقول مستنيرة".
2-اعتناقه واحياؤه لمذهب "المعتزلة":
سبق لنا أن الدكتور بعد أن ادعى الانخلاع من الفكر الماركسي لجأ إلى إحياء تراث فرقة المعتزلة بعد أن لفظته الأمة منذ قرون، محاولاً بذلك صرف شباب الأمة إلى هذه البدعة من جديد. يقول الدكتور ممجداً المعتزلة: "كان التوحيد بمعناه النقي المبرأ من الشبهات هو الذي دعا المعتزلة لنفي القدم عن القرآن…" (نظرة جديدة..، ص91)، ويخصص كتاباً كاملاً هو "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" لينصر فيه قولهم في القدر. ويقول عن شيخهم عمرو بن عبيد: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم، وعلم من الأعلام الذين صنعوا النشأة الأولى للتيار العقلاني في تراثنا". (مسلمون ثوار، ص161)
ولبيان انحرافات المعتزلة بإمكان القارئ الرجوع إلى رسالة "المعتزلة وأصولهم الخمسة" للشيخ عواد المعتق -وفقه الله-.
3-اعتناقه واحياؤه لتراث تيار المدرسة العصرانية الحديثة:
وكما أحيا محمد عمارة تراث المعتزلة لتوافقه معهم في الغلو في العقل البشري على حساب نصوص الوحي، فإنه كذلك أحيا تراث أتباعهم في هذا العصر؛ وأعني بهم مدرسة الأفغاني ومحمد عبده العصرانية، الذي يقول محمد عمارة، عن تيارهم: "أبرز تيارات التجديد في حركة اليقظة العربية في العصر الحديث" (العرب والتحدي، ص291) ويدعو الأمة إلى التزامه.
ولهذا أشرف الدكتور على طباعة ما سماه الأعمال الكاملة لكل واحدٍ منهم؛ نظرًا لتوافقه معهم في انحرافاتهم التي سبق في المقدمة ذكرها، ومن أبرزها: دعوتهم إلى الوطنية، والعلمانية، والاشتراكية، وتحرير المرأة، والتقريب بين الأديان والمذاهب.. الخ
وكما سبق في مقدمة هذه المجموعة -أيضاً- فقد رد العلماء والباحثون على هذه المدرسة، وبينوا انحرافاتها، وأنها في حقيقتها "علمانية" مستترة، وسلاح بيد الأعداء لتغريب ومسخ بلاد المسلمين. فبإمكان القارئ الرجوع إلى ما ذكرته من المصادر.
4-من أخطر انحرافات محمد عمارة أنه لا يرى كفر اليهود والنصارى!! بل هم في نظره مؤمنون مسلمون! كما ذكر ذلك في كتابه "الإسلام والوحدة، ص60،70،71،625". وفي هذا مخالفة لما علم من دين الإسلام بالضرورة؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة صريحة في تكفير من تدين بدين سوى الإسلام، وعلى هذا أجمع المسلمون. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام"( ). وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا"( ).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى الإسلام فهو كافر لا شك في كفره". ومن أراد الأدلة التفصيلية فليراجعها في أصل الكتاب، وفي رسالة "الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام" إعداد علي أبو لوز.
5-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى "الوطنية" التي تجمع المسلم بالكافر، وتجعله يتخذه ولياً من دون المسلمين من غير أهل الوطن، وقد قال تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء). ومع هذا يقول عمارة: "إيمان هذه الأمة بالوحدة الوطنية والقومية إيمان راسخ لا شك فيه"! (التراث..، ص234).
6-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى القومية العربية التي تجعله يوالي العربي الكافر على حساب المسلم غير العربي -كما سبق-، وقد خصص -هداه الله- كتاباً يدعو فيه إلى هذا الأمر، سماه "الإسلام والوحدة القومية".
ولبيان انحرافات هذه الفكرة: راجع كتاب الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن القومية، وكتاب "فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام" للشيخ صالح العبود.(36/311)
7-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى "العلمانية"! وقد يتعجب البعض من هذا وهم يقرأون ويتابعون أن محمد عمارة يرد كثيرًا على من يسميهم "غلاة العلمانيين"، وقد خصص لهذا بعض كتبه ككتابه "العلمانية ونهضتنا الحديثة".
وسيزول عجب هؤلاء إذا علموا أن محمد عمارة يقسم العلمانية قسمين:
1- علمانية الغلاة؛ وهذه يرفضها ويرد عليها؛ وهي ما يسميه "العلمانية الغربية" التي تفصل الدين عن الدولة -كما يزعم-. (راجع كتابه: الدولة الإسلامية، ص64).
2- علمانية إسلامية! أو مستنيرة! وهي التي تقرر -كما يقول- أن "ما قضاه وأبرمه الرسول في أمور الدين عقائد وعبادات لا يجوز نقضه أو تغييره حتى بعد وفاته؛ لأن سلطانه الديني كرسول ما زال قائماً فيه. وسيظل كذلك خالداً بخلود رسالته عليه الصلاة والسلام. على حين أن ما أبرمه من أمور الحرب والسياسة يجوز للمسلمين التغيير فيه بعد وفاته؛ لأن سلطانه هنا قد انقضى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى" !! (الدولة الإسلامية، ص76).
إذن فالدين عند عمارة لا دخل له في أمور السياسة والحرب؛ ومعلوم أن هذا يشمل: علاقة المسلمين بغيرهم، وأحكام الجهاد، وأحكام الخلافة والولاية، وأحكام الحسبة، وأحكام الاقتصاد.. الخ. وإنما يتدخل الدين في أمور العقائد والعبادات فقط! فإن لم تكن هذه هي العلمانية فلا ندري ما العلمانية؟! ولا فرق بينها وبين ما يسميه بعلمانية الغلاة، بل يستويان في حكم الشرع عليهما بالكفر.
8-ومن انحرافات الدكتور عمارة دعوته إلى الاشتراكية التي يسميها زورًا "بالعدل الاجتماعي"! كما في كتابه "الإسلام والثورة، ص53،54، 57،64،70،71".
وقد بين علماء الإسلام حكم الاشتراكية المستوردة من الشرق بما لا مزيد عليه؛ فليراجع مثلاً كتاب الشيخ عبد العزيز البدري -رحمه الله- "حكم الإسلام في الاشتراكية"، ورسالة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- "الاشتراكية في الإسلام".
9-ومن انحرافات الدكتور: محاولته للتقريب بين أهل السنة والرافضة، كما في كتابه "عندما أصبحت مصر عربية، ص74، 113".
وقد بين العلماء عدم إمكانية مثل هذا التقارب الموهوم؛ لأنه لا توجد أرض مشتركة بين الطائفتين؛ طائفة الحق وطائفة الضلال، بل هما دينان مختلفان، إلا أن يكون ذلك على حساب أهل السنة بحملهم على التنازل عن كثير من عقائدهم إرضاء لأعداء الصحابة.
ومن أراد بيان استحالة مثل هذا الأمر وخطورته على أهل السنة؛ فليراجع رسالة الدكتور ناصر القفاري: "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
10-ومن انحرافات الدكتور: دعوته إلى تغريب المرأة المسلمة، متابعة منه للعصريين من أمثال قاسم أمين تلميذ الشيخ! محمد عبده. "انظر كتاب عمارة: الإسلام والمستقبل، ص99، 227، 237، 241" وكتابه الآخر عن المودودي (ص 371، 384، 385، 378، 380) حيث أباح سفورها واختلاطها وعملها في الفن والسياسة.. الخ.
وقد بين العلماء زيغ هذه الدعوة الماكرة وخطرها على نساء المسلمين ومجتمعاتهم في عدة رسائل ونصائح وتوجيهات. راجع منها: "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن إسماعيل، و "حراسة الفضيلة" للشيخ بكر أبو زيد.
11-ومن انحرافات الدكتور: أنه يرى أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط وليس للطلب! (انظر كتابه: الدولة الإسلامية؛ ص 136).
وهذا عين ما يردده المنهزمون الذين يريدون أن يُظهروا الإسلام أمام الناس بمظهر الوديع المسالم المتسامح! ولو أداهم ذلك إلى إلغاء شيء من أحكامه. ومن المحزن أن يتبنى هؤلاء فكرة قصر الجهاد في الإسلام على الدفاع فقط، رغم أن العدو لم يدعهم وشأنهم بل أصبح (يطلبهم) في ديارهم و"ما غزي قوم في دارهم إلا ذلوا".
ومن أراد الرد على هذه الفكرة المنهزمة فعليه بمحاضرة الشيخ ابن باز -رحمه الله- "ليس الجهاد في الإسلام للدفاع فقط"، وهي منشورة في فتاواه كما سبق.
12-ومن انحرافات الدكتور: عدم أخذه بحديث الآحاد الصحيح في مجال العقيدة (انظر كتابه: الإسلام وفلسفة الحكم، ص 118)، كما هو مذهب أهل البدع الذين ردوا كثيرًا من عقائد الإسلام بهذه الشبهة. وللرد عليهم راجع رسالة الشيخ الألباني -رحمه الله-: "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام.
13-ومن انحرافات الدكتور: لمزه لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بأنها عادت الفلسفة وعلم الكلام! (انظر كتابه: الطريق..، ص160).
ومعلوم أن هذه صفة مدح لا ذم! لأن علم الكلام والفلسفة علم مبتدع يحوي صنوفاً من الضلال، ويتناقض مع الإسلام، مهما حاول أصحابه ودعاته أن ينفوا ذلك. وقد بين هذا كثير من علماء الإسلام. راجع كتاب "ذم الكلام" للهروي.
14-ومن انحرافات الدكتور: لمزه المتكرر للدعوة السلفية. يقول الدكتور: "نحن في مواجهة خطر السلفية النصوصية"! (المعتزلة..، ص5). (وانظر كتبه: نظرة جديدة..، ص13، والإسلام والمستقبل، ص249).
ثم يصيبك العجب عندما ترى الدكتور يدندن كثيرًا بأنه من دعاة "السلفية"! فهل السلفية الحقة إلا اتباع نصوص الكتاب والسنة؟!
والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء(36/312)
15-ومن انحرافات الدكتور: طعنه في بعض الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-؛ (كما في كتابه: الإسلام وفلسفة الحكم، ص 158). وهذا ليس بمستغرب من رجل متشرب لتراث المعتزلة أعداء الصحابة. ومعلوم -كما قال شيخ الإسلام- أن "من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم "( ).
16-ومن انحرافات الدكتور: مدحه للصوفية الملاحدة وأهل البدع . يقول عمارة عن ابن عربي الصوفي: "ابن عربي في التصوف الفلسفي قمة القمم"! (التراث..، ص 291).
ويقول عن رأس الاعتزال عمرو بن عبيد: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم.."! (السابق، ص 27).
ويقول عن غيلان الدمشقي القدري المعتزلي: بأن حياته كانت "نموذجاً فريداً…"! (مسلمون ثوار، ص 149). ولبيان حقيقة هذه الشخصيات المنحرفة وغيرها: راجع الأصل ( ص 653-670).
17-ومن انحرافات الدكتور: تمجيده وفخره "بالثورات" التي قامت بها الطوائف المنحرفة في تاريخنا الإسلامي؛ كثورة الزنج، والعبيديين. ولبيان الحقيقة راجع الأصل (ص 671-676).
ختاماً: هذه أبرز انحرافات الدكتور محمد عمارة الذي اختار عند انخلاعه من اليسارية والاشتراكية أن يستبدل ذلك بما يسميه "التيار الإسلامي المستنير" ! الذي يلتقي أفراده على مجموعة من الانحرافات -سبق بيانها في مقدمة هذه المجموعة-، فأفسد ولم يُصلح؛ بل أشغل الساحة الإسلامية بخلافات ونزاعات كان في غنىً عنها لو ارتضى ما رضيه الله لعباده؛ من التزام شرعه واتباع كتابه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح. ولكن (لله الأمر من قبل ومن بعد). نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.
=============(36/313)
(36/314)
المعتزلة
التعريف :
المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة ، وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها : المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية .
التأسيس وأبرز الشخصيات :
* اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال ، واتجهت هذه الرؤية وجهتين :
الوجهة الأولى : أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة ، والحديث في القدر ، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر ، ومن رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب :
1. أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين .
2. أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حلقة خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن : ( اعتزلنا واصل ).
3. أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته .
والوجهة الثانية : أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية ، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين .
* أما القاضي عبد الجبار الهمذاني - مؤرخ المعتزلة - فيزعم أن الاعتزال ليس مذهباً جديداً أو فرقة طارئة أو طائفة جديدة أو أمراً مستحدثاً ، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسو صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى : ( وأعتزلكم وما تدعون ) ( سورة مريم : 46 ) ولقول رسول ا صلى الله عليه وسلم : [ من اعتزل الشر سقط في الخير ] علماً بأن هذا الحديث غير موجود في الكتب التسعة ولم أره في غيرها . .
* والواقع أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية لما سنرى في فقرة ( الجذور الفكرية والعقائدية ) .
* قبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء ، كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي وهذه المقولات نوجزها مع أصحابها بما يلي :
- مقولة إن الإنسان حر مختار بشكل مطلق ، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه قالها : معبد الجهني ، الذي خرج على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث .. وقد قتله الحجاج عام 80 هـ بعد فشل الحركة .
- وكذلك قالها غيلان الدمشقي في عهد عمر بن عبد العزيز وقتله هشام بن عبد الملك في خلافة الأخير . .
- ومقولة خلق القرآن ونفي الصفات ، قالها الجهم بن صفوان ، وقد قتله سالم بن أحوز في مرو عام 128هـ .
- وممن قال بنفي الصفات أيضاً : الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة .
* ثم برزت المعتزلة كفرقة على يد واصل بن عطاء الغزال ( 80 -131هـ ) الذي كان تلميذاً للحسن البصري ، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة في منزله بين المنزلتين ( أي ليس مؤمناً ولا كافراً ) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل موته ، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى : الواصلية .
* ولاعتماد المعتزلة على العقل في فهم العقائد وتقصيهم لمسائل جزئية فقد انقسموا إلى طوائف مع اتفاقهم على المبادئ الرئيسية الخمسة - التي سنذكرها لاحقاً - وكل طائفة من هذه الطوائف جاءت ببدع جديدة تميزها عن الطائفة الأخرى .. وسمت نفسها باسم صاحبها الذي أخذت عنه .
* وفي العهد العباسي برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي وثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد وهو أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره ورأس فتنة خلق القرآن ، وكان قاضياً للقضاة في عهد المعتصم .
- وفي فتنة خلق القرآن امتحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة ، فسجن وعذب وضرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون وبقي في السجن لمدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزلة وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق .
- لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ أنتصر لأهل السنة وأكرم الإمام أحمد وأنهى عهد سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولة فرض عقائدهم بالقوة خلال أربعة عشر عاماً .(36/315)
* في عهد دولة بني بويه عام 334 في بلاد فارس وكانت دولة شيعية توطدت العلاقة بين الشيعة والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدعوة فعين القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضياً لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي ، وهو من الروافض المعتزلة ، يقول فيه الذهبي : (وكان شيعيّاً معتزليّا مبتدعاً) ويقول المقريزي : (إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر) . وممن برز في هذا العهد : الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي : ( كان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد ) .
* بعد ذلك كاد أن ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم .
* عاد الفكر الاعتزالي من جديد في الوقت الحاضر ، على يد بعض الكتاب والمفكرين ، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث .
* ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي :
-أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف ( 135-226 ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها ، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء ،طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة ، فقد تأثر بأرسطوا وأنبادقليس من فلاسفة اليونان ، وقال بأن ( الله عالم بعلم وعلمه ذاته ، وقادر بقدرة وقدرته ذاته ...) أنظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76 . وتسمى طائفته الهذيلية .
- إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام ( توفي سنة 231هـ ) وكان في الأصل على دين البراهمة وقد تأثر أيضاً بالفلسفة اليونانية مثل بقية المعتزلة . وقال : بأن المتولدات من أفعال الله تعالى ، وتسمى طائفته النظامية .
- بشر بن المعتمر ( توفي سنة 226هـ ) وهو من علماء المعتزلة ، وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه فقال : إن كل المتولدات من فعل الإنسان فهو يصح أن يفعل الألوان والطعوم والرؤية وتسمى طائفته البشرية .
- معمر بن عباد السلمي ( توفي سنة 220هـ) وهو من أعظم القدرية فرية في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر وشره من الله تعالى وتسمى طائفتة : المعمرية .
- عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار ( توفي سنة 226هـ ) وكان يقال له : راهب المعتزلة وقد عرف عنه التوسع في التكفير حتى كفر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة ، وتسمى طائفة المردارية .
- ثمامة بن أشرس النميري ( توفي سنة 213هـ) ، كان جامعاً بين قلة الدين وخلاعة النفس ، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة ، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين ، وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وقيل أنه هو الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال وتسمى طائفته الثمامية .
- عمرو بن بحر : أبو عثمان الجاحظ ( توفي سنة 256هـ ) وهو من كبار كتاب المعتزلة ، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة ، ونظراً لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم ، مثل البيان والتبيين ، وتسمى فرقته الجاحظية .
- أبو الحسين بن أبي عمر الخياط ( توفي سنة 300 هـ ) من معتزلة بغداد وبدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم ، وهو تصريح بقدم العالم ، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة وتسمى فرقته الخياطية .
- القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (المتوفي سنة 414هـ) فهو من متأخري المعتزلة ، قاضي قضاة الري وأعمالها ، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره ، وقد أرخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية .
المبادئ والأفكار :
* جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعين :
الأولى : القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل ، فهو يخلق أفعاله بنفسه ، ولذلك كان التكليف ، ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي ، الذي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز ، حتى عهد هشام بن عبد الملك ، فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك .
الثانية : القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين ، هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلماً باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمناً .
* ثم حرر المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول :
1. التوحيد .
2. العدل .
3. الوعد والوعيد .
4. المنزلة والمنزلتين .
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .(36/316)
1. التوحيد : وخلاصة رأيهم ، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمماثل لقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ( الشورى:1 ) . ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس . وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها : استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات . وأن الصفات ليست شيئاً غير الذات . وإلا تعدد القدماء في نظرهم ، لذلك يعدون من نفاة الصفات وبنوا عليه أيضاً أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام .
2. العدل : ومعناه برأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد ، ولا يحب الفساد ، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره وأنه ولي كل حسنة أمر بها ، بريء من كل سيئة نهى عنها ، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه . وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية وإرادته الشرعية .
3. الوعد والوعيد : ويعني أن يجازي الله المحسن إحساناً ويجازي المسيء سوءاً ، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب .
4. المنزلة بين المنزلتين : وتعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر . وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة .
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : فقد قرروا وجوب ذلك على المؤمنين نشراً لدعوة الإسلام وهداية للضالين وإرشاداً للغاوين كل بما يستطيع : فذو البيان ببيانه والعالم بعلمه ، وذو السيف بسيفه وهكذا ، ومن حقيقة هذا الأصل أنهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق .
ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كلياً في الاستدلال لعقائدهم وكان من آثار اعتمادهم على العقل معرفة حقائق الأشياء وإدراك العقائد ، أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاً فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني: ( المعارف كلها معقولة بالفعل ، واجبة بنظر العقل ، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل ، والحسن والقبح صفتان ذاتيان للحسن والقبح ).
ولاعتمادهم على العقل أيضاً أوّلوا الصفات بما يلائم عقولهم الكليلة ، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها .
ولاعتمادهم على العقل أيضاً ، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب ، فقد زعم واصل بن عطاء : أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة ، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا : لا تقبل شهادتهم .
وسبب اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم هو اعتمادهم على العقل فقط - كما نوهنا - وإعراضهم عن النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة ، ورفضهم الاتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك :
( كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين) فيكفي وفق مذهبهم أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ليكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة ، وما هذه الفرق التي عددناها آنفاً إلا نتيجة اختلاف تلاميذ مع شيوخهم ، فأبو الهذيل العلاف له فرقة ، وخالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة ، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة ، والجبائي له فرقة ، فخالفه ابن هاشم عبد السلام فكانت له فرقة أيضاً وهكذا .
وهكذا نجد أن المعتزلة قد حولوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية ، وذلك لتأثرهم بالفلسفة اليونانية عامة وبالمنطق الصوري الأرسطي خاصة .
وقد فند علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم ، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم ، ثم خرج من فرقتهم ورد عليهم متبعاً أسلوبهم في الجدال والحوار .. ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن ووقف في وجه هذه الفتنة بحزم وشجاعة نادرتين .
ومن الردود قوية ا لحجة ، بارعة الأسلوب ، رد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عليهم في كتابه القيم :درء تعارض العقل والنقل فقد اتبع آراءهم وأفكارهم واحدة واحدة ورد عليهم رداً مفحماً وبين أن صريح العقل لا يمكن أن يكون مخالفاً لصحيح النقل .(36/317)
وقد ذكر في هذا البحث أكثر من مرة أن المعتزلة اعتمدوا على العقل في تعاملهم مع نصوص الوحي ، وقد يتوهم أحد أن الإسلام ضد العقل ويسعى للحجر عليه ولكن هذا الفهم يرده دعوة الإسلام إلى التفكر في خلق السموات والأرض والتركيز على استعمال العقل في اكتشاف الخير والشر وغير ذلك مما هو معروف ومشهور مما دعى العقاد - رحمه الله - إلى أن يؤلف كتاباً بعنوان (التفكير فريضة إسلامية ) ولهذا فإن من انحرافات المعتزلة هو استعمالهم العقل في غير مجالة : في أمور غيبية مما تقع خارج الحس ولا يمكن محاكمتها محاكمة عقلية صحيحة ، كما أنهم بنوا عدداً من القضايا على مقدمات معينة فكانت النتائج ليست صحيحة على إطلاقها وهو أمر لا يسلّم به دائماً حتى لو اتبعت نفس الأساليب التي استعملوها في الاستنباط والنظر العقلي : مثل نفيهم الصفات عن الله اعتماداً على قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) وكان الصحيح أن لا تنفى عنه الصفات التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى ولكن تفهم الآية على أن صفاته سبحانه وتعالى لا تماثل صفات المخلوقين .
وقد حدد العلماء مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط منها :
- أن لا يتعارض مع النصوص الصحيحة .
- أن لا يكون استعمال العقل في القضايا الغيبية التي تعتبر الوحي هو المصدر الصحيح والوحيد لمعرفتها .
- أن يقدم النقل على العقل في الأمور التي لم تتضح حكمتها ( وهي ما يعرف بالأمور التوقيفية ) .
ولا شك أن احترام الإسلام للعقل وتشجيعه للنظر والفكر لا يقدمه على النصوص الشرعية الصحيحة ، خاصة أن العقول متغيرة وتختلف بمؤثرات كثيرة تجعلها لا تصلح لأن تكون الحكم المطلق في كل الأمور . ومن المعروف أن مصدر المعرفة في الفكر الإسلامي يتكون من :
1. الحواس وما يقع في مجالها من الأمور الملموسة من الموجودات .
2. العقل وما يستطيع أن يصل إليه من خلال ما تسعفه به الحواس والمعلومات التي يمكن مشاهدتها واختبارها وما يلحق ذلك من علميات عقلية تعتمد في جملتها على ثقافة الفرد ومجتمعه وغير ذلك من المؤثرات .
3. الوحي من كتاب وسنة حيث هو المصدر الوحيد والصحيح للأمور الغيبية ، وما لا تستطيع أن تدركه الحواس ، وما أعده الله في الدار الآخرة ، وما أرسل من الرسل إلخ...
وهكذا يظهر أنه لا بد من تكامل العقل والنقل في التعامل مع النصوص الشرعية كل فيما يخصه وبالشروط التي حددها العلماء .
الجذور الفكرية والعقائدية :
هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكرة عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي .
وقيل : أن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات .
إن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد مورداً من موارد الفكر الاعتزالي ، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية .
ونفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد معبد الجهني وغيلان الدمشقي ، قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو ونيس سنسويه وقد أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني .
تأثر المعتزلة بالفلاسفة اليونان في موضوع الذات والصفات مثل أنبا دقليس الفيلسوف اليوناني . وكذلك قول أرسطوطاليس في بعض كتبه : ( أن الباري علم كله ، قدركله ، حياة كله ، بصر كله ) .
فأخذ العلاف وهو من شيوخ المعتزلة هذه الأفكار وقال : إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته ، قادر بقدرة وقدرته ذاته ، حي بحياة وحياته ذاته .
وأخذ النظام من ملاحدة الفلاسفة قولة بإبطال الجزء الذي لا يتجزأ ثم بنى عليه قوله بالطفرة ، أي أن الجسم يمكن أن يكون في مكان ( أ ) ثم يصبح في مكان ( ج ) دون أن يمر في ( ب ) .
وهذا من عجائبه حتى قيل : أن من عجائب الدنيا : ( طفرة النظام وكسب الأشعري ) .
وأن أحمد بن خابط والفضل الحدثي وهما من أصحاب النظام قد طالعا كتب الفلاسفة ومزجا الفكر الفلسفي مع الفكر النصراني مع الفكر الهندي وقالا بما يلي :
1. إن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة .
2. أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة .
3. القول بالتناسخ .
4. حملا كل ما ورد في الخبر عن رؤية الله تعالى على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبتدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات .
ومنهم من يرجع فكر المعتزلة إلى الجذور الفكرية العقدية في العراق - حيث نشأ المعتزلة - الذي يسكنه عدة فرق تنتهي إلى طوائف مختلفة ، فبعضهم ينتهي إلى الكلدان وبعضهم إلى الفرس وبعضهم نصارى وبعضهم يهود وبعضهم مجوس وقد دخل هؤلاء في الإسلام وبعضهم قد فهمه على ضوء معلوماته القديمة وخلفيته الثقافية والدينية .
الفكر الاعتزالي الحديث :(36/318)
يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد .. فالبسوه ثوباً جديداً وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أوالتطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي .
وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي ، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني .. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم ، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية .. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل إلى من هذا القبيل .
وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة ، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية ، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر .
وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي .. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة .. مثل عقوبة المرتد ، وفرضية الجهاد والحدود ، وغير ذلك فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات والطلاق والإرث ...إلخ وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله .. وتحكيم العقل في هذه المواضيع ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر .
ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة والمرأة الحديدية ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه : ( أستاذ الجيل ) وطه حسين الذي أسموه ( عميد الأدب العربي ) وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا . هذا في البلاد العربية .
أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعار البريطاني ، وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هي أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في ا لمعاملات التجارية ، ورفض عقوبة الرجم والحرابة ، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين ، وهذا الأخير قال به لإرضاء ا لإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم .
وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة .
ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون ، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام ، مثل زكي نجيب محمود صاحب نظرية ( الوضعية المنطقية ) وهي فرع من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه ، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة ( انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص123 ) .
ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام ، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم ، ويقول في كتابه : ضحى الإسلام في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة ( ج3 ص207 ) .
ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور ، والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول : ( إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره ، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس إجتهاداً في الفروع وحدها وإنما اجتهاد في الأصول أيضاً ) انظر كتاب المعتزلة بين القديم والحديث ص 138 .
وهناك كتاب كثيرون معاصرون ، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد وتطويره وتقويم الأحكام الشرعية ، وحتى الحوادث التاريخية .. ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد .
ويتضح مما سبق :
أن حركة المعتزلة كانت نتيجة لتفاعل المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون ، وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة ، وذلك دفاعاً عن الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بألاسلوب الذي يفهمونه ، ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة كما فعل المعتزلة في إنكار الصفات الإلهية تنزيهاً لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين .(36/319)
ومن الواضح أيضاً أن أتباع المعتزلة الجدد وقعوا فيما وقع فيه أسلافهم ، وذلك أن ما يعرضون الآن من اجتهادات إنما الهدف منها أن يظهر الإسلام بمظهر المقبول عند أتباع الحضارة الغربية والدفاع عن نظامه العام قولاً بأنه لم يكن أحسن من معطيات الحضارة الغربية فهو ليس بأقل منها .
ولذا فلا بد أن يتعلم الخلف من أخطاء سلفهم ويعلموا أن عزة الإسلام وظهوره على الدين كله هي في تميز منهجه وتفرد شريعته واعتباره المرجع الذي تقاس عليه الفلسفات والحضارات في الإطار الذي يمثله الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح في شمولهما وكمالهما .
مراجع للتوسع :
- الملل والنحل للشهرستاني.
- الفرق بين الفرق للبغدادي.
- مقالات الإسلاميين للأشعري .
- القاضي عبد الجبار الهمداني للدكتور عبد الكريم عثمان .
- ابن تيمية للشيخ محمد أبي زهرة.
- درء تعارض العقل والنقل للشيخ ابن تيمية .
- البداية والنهاية لابن كثير .
- المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبدة وطارق عبد الحليم .
- ضحى الإسلام لأحمد أمين .
- تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود .
- دراسات في الفرق والعقائد لعرفات عبد الحميد .
- الدعوة إلى التجديد في منهج النقد ، عصام البشير (بحث مقدم لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لنيل درجة الماجستير ).
- عقائد السلف لعلي سامي النشار .
- محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة ، سليمان بن صالح الخراشي .
- حوار هادئ مع الشيخ الغزالي . سليمان بن فهد العودة .
- منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ، د. فهد الرومي .
- العصريون معتزلة اليوم - يوسف كمال .
- العصرانية في حياتنا الاجتماعية . د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي .
- العصرانية . محمد حامد الناصر .
- دراسات في السيرة . محمد سرور زين العابدين .
- تنبيه الأنام لمخالفة شلتوت الإسلام ، الشيخ عبد الله بن ياسين .
- مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد .
- تجديد أصول الفقه ، د. حسن الترابي .
- غزو من الداخل ، جمال سلطان .
- مجلة كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
- المدرسة العقلية الحديثة وصلتها بالقديمة ، د. ناصر العقل ، العدد الثالث سنة 1400هـ.
الموسوعة الميسرة في الأديان
=============(36/320)
(36/321)
رؤية شرعية في الأخوة الإنسانية
02-3-2006
بقلم خباب بن مروان الحمد
"...والغريب أن هذه المبادئ قد نالت حظاً واسعاً بالانتشار في عقول كثير من المسلمين، وبعض المنتسبين للفكر والعلم ! وعقدت الكثير من اللقاءات والندوات الفكرية والحوارية باسمها، لأجل التنظير لها، والمنافحة عنها..."
يرى المفكرون أن من أصيب بالانهيار الداخلي ، والهزيمة النفسية تجاه من يعاديه فإنه سيحاول جاهداً بقدرالمستطاع أن يثبت بأنه محب له ومسالم ، فلا بأس أن يهدي له كلمات المحبة والود والإخاء ، ولو كان ذلك على حساب عقيدته التي ينتمي إليها ويستظل بظلها .
واليوم ونحن نشاهد أعداء الإسلام وقد كشروا عن أنيابهم ، وأبدوا ما كان مخبئاً في صدورهم ومكنون قلوبهم ، من عداوتهم للمسلمين ، وإرادة الشر والمكر بهم ، فلا عجب أن نجد كثيراً من الكبراء أو المنتسبين للعلم والفكر حين يتنازلوا عن أصول الدين ، وثوابته العظام ، خشية أن يصمهم عدوهم بأنهم (متشددين ) أو( أصوليين) .
و لا يزال هؤلاء وأمثالهم إلا انبطاحاً للكفار، ويتزايد سقوطهم الفكري شيئاً فشيئاً، لإرضاء شرذمة الكفر، وعصابة الإجرام - وقد لا يشعرون - ويكون حالهم كما قال الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** والزاد حتى نعله ألقاها
ومع تتابع الحملات الصليبية على الإسلام والمسلمين بعد أعقاب الحدث التاريخي السبتمبري ، وتأكيدهم على أهمية حرب ما يسمى (بالإرهاب) ، فإنهم أكدوا أن هذه الحملة لن تقتصر على القوة العسكرية فحسب ، بل هي حملة واسعة النطاق ، عريضة الجبهة ، ومن أهدافها محاربة عقيدة الإسلام ، وقيمه العظام ، ومبادئه السامية . وإن من المبادئ التي يسعى (التحالف الصليبي) لبثها في الأوساط الإسلامية، وخاصة بين النخب العلمية والمثقفة، والذين لهم تأثيرهم على أتباعهم ومريديهم، مبدأ(الإخاء الإنساني) أو (الإنسانية ) ومن ثم إلى (الإخاء الديني) و(التلاحم الفكري) محاولين أن يصنعوا لها ألواناً براقة [1] ، تخلب الألباب ، وتثير المشاعر ، فيتلقفها المسلمون ، وتسري في عروقهم تلك المبادئ حتى النخاع ، وعندئذٍ يتحقق للصليبين ما أرادوا نشره ، وتنجح لعبتهم الماكرة لكسب المسلمين بجانب صفهم ، وصدق الله حين وصفهم بقوله : {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [2] .
والغريب أن هذه المبادئ قد نالت حظاً واسعاً بالانتشار في عقول كثير من المسلمين، وبعض المنتسبين للفكر والعلم ! وعقدت الكثير من اللقاءات والندوات الفكرية والحوارية باسمها، لأجل التنظير لها ، والمنافحة عنها ، حتى ظنت طائفة من المسلمين بأنها مصطلحات (خير وبر) وما دروا أن السم دس في العسل ، وصدق من قال :
كم حديث يظنه المرء نفعاً *** وبه لو درى يكون البلاء
فلنكشف الأوراق ولنظهر الحقائق :
المُرَاجِعُ لتلك المبادئ وحين يردها إلى أصلها وجذورها التاريخية ، سيجد أن من أوائل من بدأ بالتركيز على إبرازها هي : (الحركة الماسونية) وأذنابها من المستعمرين [3] الحاقدين ، أو ممن تلبس بلباس الإسلام من المنهزمين وكان متأثراً ببعض نظم تلك الحركة ... و لست مبالغاً فإن هذه المنظمة العالمية قد بنت ركائز فكرها ، ودعائم منهجها على ثلاث مبادئ: (الحرية - الإخاء - المساواة) وهم يسعون لنشرها بكل ما أوتوا من قوة مادية أو معنوية ، حتى يتلقفها الجهلة ، ويكونوا بوقاَ لنشرها والتعريف بها .
وقد ذكر الأستاذ : عبد الله التل في كتابه (جذور البلاء) [4] مترجماً لكلام اليهود في بروتوكولاتهم ما نصه :
"كنا أول من اخترع كلمات الحرية والإخاء والمساواة التي أخذ العلماء يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي، وهي كلمات جوفاء لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف بل التناقص الذي يشيع في مدلولها، إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه، قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا" ا.هـ .
وبغض النظر عن صحة البروتوكولات ونسبتها للماسونية اليهودية أو عدمها ، فإنهم قطعوا على أنفسهم عهداً بنشرها ليغزوا بها عقول المسلمين . ولهذا فقد أصدر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي فتوى قيمة ، بعد أن اطلعوا على أفكار تلك الحركة الخبيثة ، وما يهدفون إليه من نشر الثقافات الكافرة ، والكتابات الماكرة ، وكان في تلك الفتوى ما نصه :
"أنها - أي الحركة الماسونية - تبني صلة أعضائها بعضهم ببعض في جميع بقاع الأرض على أساس ظاهري للتمويه على المغفلين وهو الإخاء الإنساني المزعوم بين جميع الداخلين في تنظيمها دون تمييز بين مختلف العقائد والنحل والمذاهب" [5] ا.هـ
الشريعة الإسلامية ومصطلح ( الإخاء) :
قد بينت الشريعة الإسلامية حقيقة وكيفية(الإخاء) كما في الوحيين:(الكتاب والسنة) وهي :(36/322)
1) أُخوة الدين : فمن كان كافراً فهو أخ للكافر، ومن كان مسلماً فهو أخ للمسلم، ومنه قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [6]، وإنما أداة حصر فقد حصر الله الأخوة بين المؤمنين فقط ، ومنه قوله تعالى : {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [7] ، أي في دين الإسلام[8]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم ) [9]، ولذا فإنه لما خاف الخليل إبراهيم - عليه السلام - من بطش الطواغيت بزوجته سارة قال عنها (إنه أختي) أي أخته في الدين الحنيف الذي يجمع بينهما وهو الإسلام .
ولذا فقد بين - عز وجل - أن المنافقين ليسوا بمسلمين وأنهم إخوان للكافرين فنزع أخوتهم من المسلمين وقرنهم بالأخوة التي تربط بينهم وبين أسيادهم الكافرين فقال: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون} [10] . قال ابن الجوزي عند قوله تعالى : {يقولون لإخوانهم} : أي في الدين لأنهم كفار مثلهم وهم اليهود} [11].
2) أخوة القرابة والنسب : ومنه قوله تعالى : {كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون} [12] وقد نص جمع من المفسرين بأن المقصود بهذه الأخوة في هذا الموضع بأنها أخوة النسب ، ومنهم الشوكاني حيث يقول : "أي أخوهم من أبيهم لا أخوهم في الدين" [13]، ومن هذا قوله تعالى لموسى : {اذهب أنت وأخوك بآياتي} [14]، والمقصود به هارون - عليهما السلام - والذي كان أخاً لموسى من أب وأم .
زوبعة عصرية ، وإثارة قضية :
أثار بعض المفكرين العصريين والمناصرين لمبدأ (الإخاء الإنساني ) بأن هذا المصطلح قد ذكره بعض المفسرين في كتبهم، وأن له دليل من القرآن، مثل قوله تعالى: ( وإلى عادٍ أخاهم هوداً) [15] ، قائلين إن القرآن أثبت هذا الإخاء فهو - عليه الصلاة والسلام - لم يكن أخاً لقومه في الدين لكنَّه أخاهم في البشرية والإنسانية ، ولهذا لا مانع بأن نطلق على النصارى واليهود بأنهم إخواننا في الإنسانية .
وجواب ذلك : بأنه لاشك أننا جميعاً مسلمين وكفار خلقنا الله - عز و جل - من أبينا آدم وأمِّنا حواء - عليهما الصلاة والسلام - فنحن جميعاً نشترك في البنوة لهما وهو سبحانه ينادينا جميعاً قائلاً : {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً} [16]، وعليه - راجياً أن يُفْهَمَ ما أعنيه - فلو أطلق البعض هذا المصطلح لأجل تلك البنوة من آدم وحواء - وليس له إلا هذا المراد فقط - لهان الخطب ، وأصبح الأمر قابلاً لوجهات النظر ، من حيث أصل هذا المصطلح ، ولكن ...
هل يريد هؤلاء العصرانيون أن يثبتوا هذا المبدأ بهذا التفصيل ، أم أن وراء الأكمة ما ورائها، وأن المراد غير ما يظهر ، وأن الجوهر بخلاف المظهر ؟
قيل في المثل العربي (الحقيقة بنت البحث) ولا شكَّ أنَّ الغوص في معاني الأمور، ومحاولة إدراك حقائقها ، من الأهمية بمكان ، والحق الذي لا أشك فيه ، أن هذا المبدأ لا يقصد جل من يقوله - نسأل الله لنا ولهم الهداية - إلا خلاف الحق ، وتفريغ الإسلام من محتواه الاعتقادي ، وإبعاد المسلمين عن منهج الله القويم ، وصراطه المستقيم [17]، إلى أن ينتقلوا بمن يتأثر بأطروحاتهم تلك إلى إثبات مبدأ (الإخاء الديني) وقد كان ... فتختلط الأمور، ويصبح الأمر في حيص بيص ، ويطمع الطامعون في إسقاط المسلمين بمزالق عقدية خطيرة تحت مظلة (التقارب الديني) أو (التعايش مع الآخر) أو(نبذ الشك والارتياب بالآخرين) ويصبح من تأثر من المسلمين بتلك الأُطر ، ولهذا فهل يليق بنا السكوت والتعامي عن مراد هؤلاء المنحرفين بحجة أن هذا المبدأ في جملته صحيح ؟!
أهداف المدرسة العصرانية ومقاصدها في التلويح بهذا المبدأ :
1) تمييع عقيدة البراء من الكفار وبغضهم وعدواتهم ، واستبدال ذلك بالدعوة إلى محبَّتهم ومودتهم ومصاحبتهم! إلى غير ذلك من العبارات التي يحاولوا أن يسترضوا بها الكفار، لتربط بينهم وبين المسلمين بوشيحة الإخاء ، وحين يقتنع المسلم بهذه الدعوات المنهزمة فإنه سيقل إحساسه بخطر الكفار ، وأهمية البراءة منهم ، بل سيحصل بينه وبينهم نوع من الانسجام الفكري ، والتنازل العقدي ، بغية الاجتماع على قواسم مشتركة . وممَّا يجدرالتنبُّه له ، ووجدته واضحاً من خلال البحث والاستقراء لكتابات أصحاب المدرسة العصرانية ، حيث رأيتهم متوافقون في مقاصدهم تجاه(الإخاء الإنساني) وأنَّهم يريدون من وراءه القول بمودة الكفار ومحبتهم والتعايش معهم، ولهم كتابات منتشرة في ذلك لو قلَّبها المتابع لوجدها صريحة بنشرهذا المقصد ، فتجد أنَّ بعضهم يقول :
"إنَّ الأخوة الإنسانية العامة التي أوجب الإسلام بها التعارف عندما يختلف الناس أجناساً وقبائل يجب وصلها بالمودة ، والعمل على الإصلاح ومنع الفساد ولو اختلف الناس ديناً وأرضاً وجنساً" .
بل إنَّ بعضهم يقول:(36/323)
"... ومع ذلك التاريخ السابق فإننا نحب أن أيدينا وأن نفتح آذاننا وقلوبنا إلى كل دعوة تؤاخي بين الأديان وتقرب بينها ، وتنزع من قلوب أتباعها أسباب الشقاق" .
والحقيقة أنَّ من تعلَّم العقيدة الربَّانيَّة حتَّى تجذَّرت في أعماق نفسه البشرية ، يعلم أنَّ هذا الكلام مغاير لنصوص الكتاب والسنَّة ، فأين يوجد في كتاب الله أو في سنَّة رسول الله القول بجواز مودَّة الكافر، وأين يوجد ذلك فيما سطَّره علماؤنا في كتبهم ، أو ما طرَّزوه في مسائلهم. فاللَّه ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول في محكم التنزيل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} [18] . وهنا نهي صريح عن إلقاء المودة للكافرين ، ويقول تعالى كذلك: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [19] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذه الآية :
"أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله ، فإن نفس الإيمان ينافي مودته كما ينفي أحد الضدين الآخر ، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده ، وهو موالاة أعداء الله" [20] ا.هـ .
ولذلك فإن هذه الآية لم تخص الذين حاربونا فقط من دونهم بل خصت الكفار أجمعين' وفي هذا يقول الإمام ابن حجر العسقلاني عن هذه الآية : "البرُّ والصلة والإحسان لا يستلزم التوادد والتحابب المنهي عنه في قوله تعالى {لا تجد قوماً...} فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل" [21] .
وقد يقول قائل إنَّ المرحلة تقتضي كهذه العبارات ، لتخفيف وطأة الكفَّار على المسلمين ؟ ولكنَّنا نقول متسائلين كذلك : هل ورد مثل هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام حين كانوا مستضعفين في مكة ، وحين كان الكفار يسومونهم سوء العذاب ، رغم توفرالأسباب الداعية لذلك ، ومحبة كفار قريش لتلاقي دينهم مع دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يداهنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليداهنوه ؟ إنَّ ذلك لم يكن ألبتة ، مع أنَّ الكفار كانوا يودون أن يداهنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليداهنوه ، فقد قال تعالى عنهم: {ودوا لو تدهنوا فيدهنون} [22] .
قال أبو المظفر السمعاني - رحمه الله - "وقوله {ودوا لو تدهن فيدهنون} أي : تضعف في أمرك فيضعفون ، أو تلين لهم فيلينون" [23] .
وذكر القرطبي - رحمه الله - على هذه الآية عدداً من الأقوال ثم قال : "قلت : كلها إن شاء الله صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الدهان : اللين والمصانعة ، وقيل: مجاملة العدو وممايلته ، وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول" [24] .
ومع هذا كله فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستمع لكلامهم بل قال بصريح العبارة : {لكم دينكم ولي دين} [25]، وكان - بأبي هو وأمي - مقتفياً لقوله تعالى : {ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [26] .
وأمَّا ما زعمه بعضهم بجوازأن يقول المسلم للنصراني (أخي) واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى: {إنَّما المؤمنون إخوة} ثمَّ ذكر أنَّ النصراني مؤمن من وجه ، والمسلم مؤمن بوجه آخر، فلا شكَّ أنَّ هذا خطأ ، لأنَّه سبحانه وتعالى جلَّى هذه القضية بكل وضوح فقال عن الكفار: {وماهم بمؤمنين} وقال كذلك عنهم:{فإن تابوا وأقاموا الصلاة فإخوانكم في الدين} [27] . والذي يفهم من هذه الآية أنَّه لا أخوة سابقة بين دين الكفَّار ودين المسلمين إلا إذا دخلوا في الإسلام فهم إخواننا لهم مالنا وعليهم ما علينا .
ومن جميل ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - حول هذه الآية : {وبهذه الأخوة يهدم كل ما كان بينكم وبينهم من عداوة ، وهو نص في أن أخوَّة الدين تثبت بهذين الركنين ، ولا تثبت بغيرهما من دونهما} [28] بل إنَّه مخالف لقوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برؤاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [29]، قال الإمام ابن تيمية: "فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان ، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان") [30] .(36/324)
ولله درُّ الشيخ الداعية عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله - حين حذر من هذه الدعاوى المنحرفة ، قائلا:ً "فانظر إلى إبراهيم إمام المسلمين ومن معه من الأنبياء كيف صرَّحوا بعداوة قومهم وبغضهم لأنَّ الله لا يبيح لهم موالاتهم أو مؤاخاتهم باسم القومية لأي هدف كان حتى يتحقق فيهم الإيمان بالله قولاً وعملاً واعتقاداً . وأوجب الله علينا التأسي بهم ، ذلك أنَّ مؤاخاة الكفار بأي شكل من الأشكال ، ولأي غرض من الأغراض لا يكون أبداً إلا على حساب العقيدة والأخلاق بل لا يكون إلا بخفض كلمة الله واطِّراح حكمه ونبذ حدوده ورفض وحيه ، ومهما ادَّعوا من الأخوة الإنسانية والعمل لصالح الوطن ومقاومة أعدائه ونحو ذلك من التسهيلات المفرضة ، فإنَّ المصير المحتوم للمسلمين هو ما ذكرناه من تجميد رسالة الله وإقامة حكم مناقض لإعلاء كلمته والجهاد الصحيح في سبيله وتحكيم شريعته . وما قيمة الإسلام إذا لم يكن هو الحاكم ظاهراً والمهيمن باطناً" [31] .
والعجب أنَّه مع هذا التنازل من بعض المنتسبين للعلم - هداني الله وإياهم - وإطلاقهم لهذه الألفاظ على الكفَّار؛ لم تلق أذناً صاغية منهم ، ولا يزال هؤلاء العصريون يميعون قضايا الدين ، لإرضاء شرذمة الكفر، ويبقى الكفار يزدادون قتلاً وسفكاً واتهاماً للمسلمين بالتشدد تارة ، والتنطع تارة أخرى ، والإرهاب تارة أخرى ، وصدق الله : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [32] .
ومن المهم حينها أن نعلم بأنَّ الكفارلا يريدون من المسلمين إلا الانسلاخ عن الدين ، والكفر برب العالمين ، ولن يكسب المسلمون من هذا كله دنيا هنية ، ولا ديناً قوياً وأخشى أن نكون كما قيل : نرقع دنيانا بتمزيق ديننا *** فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع .
2) ومما يهدف إليه العصريون من هذا المبدأ : مسخ تميز المسلم عن الكافر بعباداته وعاداته ، وظاهره وباطنه ، و "إزالة استعلاءه بإيمانه ، الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به في كل الأرض .. لكي تنبهم شخصيته وتتميع" [33] . ولا شك أن هذا مفرح للكفار،لأنهم يسعون إلى تذويب المسلم ظاهراً وباطناً في مجتمعاتهم الآسنة، بل حتى لو كان في بلاده فلا يشعر بفوارق بينه وبين غيره من الكفار .
يقول المستشرق النمساوي المعاصر (فون جرونيباوم - Von G r unebaum) في كتاب له يسمى:(الإسلام الحديث - Mode r n Islam) : "إن الحاجز الذي يحجز المسلم عن (التغريب - Weste r nization) هو استعلاؤه بإيمانه ، وإنه لا بد من تحطيم ذلك الحاجز لكي تتم عملية التغريب" [34] .
وجاء في المادة السادسة من الميثاق الإذاعي للدول العربية ما نصه: "(الانفتاح على الحضارة الإنسانية أخذاً وعطاءً وتعميق روح الأخوة الإنسانية والتأكيد على أن الأمة العربية تمد يدها لكل شعوب الأرض دون ما نظر إلى اختلاف الدين أو العقيدة أو أسلوب الحياة للتعاون على توفير أسباب الحرية والتقدم والسلام القائم على العدل وذلك انطلاقاً من جوهر القيم العربية واستهداءً بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان" [35] .
ويبين من هذا أن هذه الكلمة خطة ماسونية غربية تلقفها العصريون ونشروها بين المسلمين بدلاً عنهم ، ولا ريب أن هذا متابعة لهم في ما يهوونه ، وهو ما نهى الله عنه وحذر منه فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم (ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) [36] ، وقال سبحانه : {ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [37] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - "ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ، ويُسرون به ، ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك - ثمَّ قال - ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه" [38] .
3) ومما يهدفون إليه عدم التفكير بجهاد الكفار ، وإماتة الروح الجهادية في قلوب المسلمين ، بحجة أنهم إخوان لنا في الإنسانية فلا بد أن تحترم كرامتهم وإنسانيتهم وأن نكون متسامحين معهم وهذا في جهاد الطلب ، بل أنكر آخرون جهاد الدفع ولو قتل المسلم على أيدي الكفار، وذك لـ"يكون المسلم شهيد السلام والتآخي والتسامح أو أنه (شهيد الفكرة المتراحمة) وهذا الكلام لم ألقه جزافاً وممن نص عليه الطبيب الدكتور : خالص جلبي ، في كتابه: (سيكلوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي) [39] مقرراً لهذا القول العجيب، بهذه القزمة الفكرية ، التي لم تكن حتى عند الجاهليين العرب ، وحقاً هو التضليل الفكري، والصوت النشاز في العالم الإسلامي - نسأل الله العافية والسلامة - وعش رجباً ترى عجباً :
الله أخر موتتي فتأخرت *** حتى رأيت من الزمان عجائباً
إنها ثقافة الانهزام التي تسري في عروق هؤلاء العصريين باسم ثقافة الإخاء والسلام.(36/325)
4) ومما يهدف إليه العصريون بهذا المصطلح (إلغاء المناداة بالرابطة الإسلامية أو تحييدها واستبدالها بالرابطة الأخوية الإنسانية ، إلى الوحدة الأخوية الدينية ) [40]، ولذا فهم يدندنون كثيراً على هذه المصطلحات، ولا ريب أن هذا باطل وزور من القول ، فنحن وإن كنا أبناء لآدم وحواء ، فإن هذا لا ينفعنا عند الله ، والذي ينفعنا هو الدخول في دين الإسلام وعقد الأخوة المسلمين ، وقد امتن الله علينا بهذه الأخوة فقال : {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [41]، وبعدئذ يتوحد الحب لدى المسلم فلا يحب إلا أخيه المسلم ولا يرتبط إلا به ، ولا يصاحب إلاَّ إياه .
وما أروع ما قاله الأستاذ : سيد قطب - رحمه الله - :
"إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان ، إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل ، وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل ... في كل زمان وفي كل مكان ... وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله ، وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن ، و القرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ ، ترتفع فتصبح قيمة واحدة ... هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوم بها الجميع" [42]
ولو دقق في نداء نوح لربه - عز وجل - قائلاً: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} [43]، فقد رد الله - عز وجل - عليه قاطعاً ما بينه وبين ابنه من أواصر القرابة ، قائلاً: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [44]، وذلك أن نوحاً كان ابنه كافراً ، ففصم الله العلاقة بينه وبين أبيه، حتى يتميز حزب الرحمن من حزب الشيطان ، ويعلم أن آصرة التجمع هي على عقيدة الإسلام ،وأن رابطة الولاء لا تكون ولا تنبغي أن تكون إلا لمن اتبع هذا الدين ، وقام به خير قيام . نعم إن الإنسان مخلوق كريم، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [35] ، وقال: {ولقد كرمنا بني آدم} [46]، لكنه لما حاد عن منهج الله ، قال تعالى عنه : {ثم رددناه أسفل سافلين} [47]، ولم يستثن إلا من ثبت على شريعة الإسلام ، فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [48]' فمن اتبع غير شريعة الله فليس ذا كرامة ، كما قال تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [49]، بل سمى الله المشرك نجساً ، فقال: {إنما المشركون نجس} [50] .
فمن جعل من المسلمين شعار (الإخاء الإنساني) هو الشعار المرفرف ، موالياً من والاه ، ومعادياً من عاداه ، فإنه قد ارتكب جرماً كبيراً في حق ربه - عزوجل - وتنكر لأمته وهويته، و جزى الله الشيخ : جاد الحق علي جاد الحق خيراً - شيخ الأزهر سابقاً رحمه الله - حين قال : "إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى ، وجناية عظمى ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غير منار الأرض) [51]، فكيف بمن يغير هوية أمة ، ويضلها عن طريق النجاة ؟" [52] ا.هـ .
فمن فعل ذلك فإنه قد شابه الجاهلية ، والتي تحب أن تنتسب للروابط القومية أو الإقليمية، لذا فقد أزال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرؤى الجاهلية والتي كانت عند الصحابة الكرام - رضي الله عنهم أجمعين - فقال يخاطبهم (إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَة الجاهلية ، وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، وفاجر شقي ، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) [53] .
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - معلقاً على هذا الحديث : "فأضاف العُبية والفخر إلى الجاهلية ، يذمها بذلك ، وذلك يقتضي ذمها بكونها مضافة إلى الجاهلية ، وذلك يقتضي ذم الأمور المضافة إلى الجاهلية" [54] .
وقال في موضع آخر : "وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي ، أحسن من الانتساب إلى غيره ، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث ... أبي عقبة - وكان مولى من أهل فارس - قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، فضربت رجلاً من المشركين ' فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلي فقال: ( هلا قلت : خذها مني وأنا الغلام الأنصاري ؟) [55] .
قال العلامة القاري - رحمه الله - : "وكانت فارس في ذلك الزمان كفاراً ، فكره صلى الله عليه وسلم الانتساب إليهم وأمره بالانتساب إلى الأنصار ليكون منتسباً إلى أهل الإسلام" [56] .
وقال العلامة الشنقيطي - رحمه الله - : "ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية ، لا بروابط عصبية ، ولا بأواصر نسبية" [57] .
تساؤل ... وجوابه :(36/326)
إذا اتفق على مراد هؤلاء العصريون في مبدأهم (الإخاء الإنساني) فقد يتساءل البعض:لِم يستخدم هؤلاء هذه الفكرة محاولين أن يقنعوا الناس بها ؟ والجواب : يحسن التنبيه بأنَّه قد تكون منهم فئة وقعت شبهة في عقولهم ، أو لم يدركوا أبعاد هذه الفكرة فأطلقوها بحسن ظن ونية منهم - فربنا يغفر لهم - إلا أن الغالب على أكثرهم أنهم يلبسون الحق بالباطل ، ويتاجروا بهذه الكلمة ليروجوا باطلهم على أذهان الناس باعتبار أنها في أصلها صحيح ، ولبس الحق بالباطل (قاسم مشترك) بين أهل الأهواء والبدع ليروجوا باطلهم باسم الحق .
قال ابن القيم - رحمه الله - وقد كان يتحدث عن أصحاب الحيل الباطلة: "وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة ، بحسب تلك البدع ... فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق" [58] .
وكذلك فإن مصطلح (الإخاء الإنساني) مصطلح مجمل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً ، والعصرانيون يشتركون مع أهل البدع بأخذهم بالألفاظ المجملة والعمومية التي تسبب كثيراً من الإشكالات ، ليخلقوا الغبش والضبابية حول مفاهيمهم ، فهم لا يحبون التفصيل بل من طبعهم الإجمال في العبارات والنصوص لتبدوا رجراجة غامضة ، ولذا يوصي ابن القيم في نونيته بالابتعاد عن مثل هذا النسق، والذي مشى عليه كثير من أهل البدع ، قائلاً :
فعليك بالتفصيل والتبيين فا *** لإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا *** الأذهان والآراء كل زمان
ولينظر إلى الخوارج كيف أنهم تمسكوا بظاهر آية مجملة وهي في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [59]، فكفروا طائفة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من شهد له بالجنة كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه وأرضاه - بسبب أنهم أخذوا هذه الآية بمجملها و بنوا عليها باطلهم . ولهذا فإن أفضل حل مع هذه الطوائف أن يستفصل عن مرادهم بهذه الألفاظ المجملة كلفظ (الحرية ) و(التجديد) وغيرها من الألفاظ والتي منها (الأخوة الإنسانية) فإن أطلقت هذه المصطلحات فليسأل صاحبها ماذا تريد بهذا المصطلح ؟
قال ابن تيمية : "وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال ، والقيل والقال ، وقد قيل (أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء) [60].
هذا مع أن الأفضل في اعتقادي - والله أعلم - في مصطلح (الأخوة الإنسانية) تجنبه مطلقاً ، وعدم النطق به، ولو لم يكن من ذلك إلا عدم الوقوع في مشابهة الكفارمن الأنظمة الماسونية وغيرها لكفى ، وهذا من أعظم مقاصد القرآن فإنه يحث على تجنب مشابهة الكفار حتى في ألفاظهم والنهي عن النطق بها ، ولو كان ظاهرها صواباً ، لأن أهل الكفر والفساد يقصدون منها معان باطلة ، وتأويلات مغايرة لحقائق الوحيين ، فلفظة (راعنا) عند اليهود كانوا يقولونها استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون منها معنىً قبيحاً ، فنهى الله المؤمنين عن قولها والتلفظ بها لئلا يتشبه المسلمون بالكفار ، فقال : {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} [61]، قال قتادة وغيره : "كانت اليهود تقوله استهزاءً ، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم" [62] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله معلقاً - : "فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها ، لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار ، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم" [63] .
وفي ختام المقال :
فإني أوصي من كان على هذا المنهج العصراني أن يتقوا الله في أنفسهم وأن يستشعروا (أمانة الكلمة) وأن العبد (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)[64] وليت هؤلاء العصريون وكما أنهم يحاولون استرضاء الكفار بالربط بينهم وبين المسلمين بحلقة التآخي؛ ليتهم يوجهوا أنظارهم إلى إخوانهم المسلمين ، ويحلوا مشكلات التفرق والخصومة بينهم بمنهج السلف الصالح ، ويوثقوا بينهم وشيجة الإخاء ، وآصرة الولاء ، ورابطة التجمع على:(لا إله إلا الله محمد رسول الله) .
إلاَّ أن العكس هو الواقع فالمتابع لحركة أصحاب المدرسة العصرية في التأليف والندوات التي يقيمونها يلحظ أن أكثر سهامهم موجهة تجاه المنهج السلفي ، ولمزه تارة بـ(التنطع) و (التشدد) أو أن أصحابه(جامدون - نصوصيون -- حرفيون - كهفيون ...) [65] إلى غير ذلك من الألفاظ ، وبالمقابل يسعون لإرضاء الكفار ومداهنتهم والتقارب معهم ، مع أن الكفار لم يأبهوا بكلامهم ولا رضوا عن فعالهم ، ويصدق فيهم قول الشاعر :
باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت *** عنه ولا أرضى عنه العدا
فمن يقارن حال هؤلاء العصريين مع الكفار ومع من تمسك بالسنة الغراء، فسيجد ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين . وقد أحسن الدكتور: عدنان النحوي ، حين صوَّر حال هؤلاء قائلاً: "وأصبح من المسلمين من يأنس للتحالف مع أعداء الله ، ويأنف من التعاون مع المسلم ، ودوى شعار (تقارب الأديان) وغاب شعار (المسلم أخو المسلم)" [66] .(36/327)
ولا يعني ذلك أن لا يدعو المسلم الكفار لدين الله - عز وجل - وتحبيبهم إليه ، وتبليغهم رسالة الله ، ومحبة الخير لهم ، والعدل معهم ، وعدم ظلمهم ، وهذا مع الكفار المحاربين ، فما البال بغير المحارب منهم فإن الله أمرنا بالبر معهم والإقساط إليهم ، وإعطائهم حقوقهم ، وعدم الغدر بهم، بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [67] .
ذلك هو منهج الإسلام في معاملة الكفار ، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إرخاء ، فهو دين وسط ، كما أننا أمة الوسط ، ونعامل جميع الخلق - مسلمهم وكافرهم -- بهذه الوسطية الحقة التي أمرنا الله - عز وجل - بها قائلاً : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} )[68] . وإنَّ أعظم ما يمزق الصف الإسلامي من داخله ، ويشرخ في وحدته ، حين يتكلم من رأى أمة الإسلام في ركب المتخلفين ، وذيل الأمم ، فأصبح يلفق بين الإسلام وبين ما يسمى بـ(الحضارة الغربية) ويقدم للعالم أجمع إسلاماً (مقصَّصَاً) قد تخلى بنزعة غربية ، ولهجة استرضائية للغرب الكافر، بسبب ضغط الواقع ، معبرين عنه بالإسلام المستنير!! تلك ثقافة الضرار، ومنهجية التلبيس التي صيرت عالمنا الإسلامي المتزلف الأول للكفار، والتي أرى أن يجند دعاة الإسلام وعلمائه للرد عليها ، وكشف شبهها ، علَّ الله أن يهدي أصحابها ومن تأثر بفكرهم ويردهم إلى سواء السبيل .
ورحم الله علماءنا حين قالوا: (رحم الله امرءاً عرف زمانه فاستقامت طريقته) .
فهل من مستمسك بالإسلام والسنة في القرن الخامس عشر، مفارقاً كل شر وبدعة ؟!
أسأله تعالى أن نكون منهم .
-------------------------------
الهامش :
1) وقد وصف العلامة الراحل - محمود شاكر -- رحمه الله هذه المصطلحات بأنها ( ألفاظ لها رنين وفتنة ، ولكنها مليئة بكل وهم وإيهام ، وزهو فارغ مميت فاتك ، توغل بنا في طريق المهالك ، وتستنزل العقل حتى يرتطم في ردغة الخبال ) انظر كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا )، صفحة ( 82 ).
2) سورة إبراهيم آية ( 52) .
3 ) بل هم المستخربين ، فلم يدخلوا بلدة أو قطراً مسلماً إلا وخربوه دينياً وحضارياً فحاشاهم الاستعمار. 4) جذور البلاء، للأستاذ عبد الله التل، صفحة ( 265- 274 )، المكتب الإسلامي.
5) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة - إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي (1 / 518 ) .
6) سورة الحجرات آية (1).
7) سورة التوبة (11).
8) فتح القدير للشوكاني(2/222).
9) رواه البخاري، في كتاب المظالم (4) باب (3)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب (45) باب تحريم الظلم حديث رقم ( 258 ) كلاهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما.
1) سورة الحشر، آية (11).
11) زاد المسير ، لابن الجوزي ( 8/ 217 ) .
12) سورة الشعراء، آية ( 15 - ).
13) فتح القدير ( 3/ 27 ).
14) سورة طه ، آية ( 42 ) .
15) سورة الأعراف، آية (65).
) سورة الأعراف، آية ( 26).
17) قال ابن رجب ( ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملاً ويظهر أنه قصد به الخير ، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض سيء ، فيتم له ذلك ، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ، ويفرح بمكره وخداعه ) وصدق رحمه الله - جامع العلوم والحكم/صـ378 .
18) سورة الممتحنة (1) .
19) سورة المجادلة (22)
2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/17).
21) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (5/233).
22) سورة القلم ، آية (9) .
23) تفسير السمعاني (6/2 ) .
24) تفسير القرطبي (18 / 23 ) .
25) سورة الكافرون، آية (6).
26) سورة المائدة ، آية (49) .
27) سورة التوبة ، آية (12).
28) تفسير المنار ، لرشيد رضا (1/187).
29) سورة الممتحنة، آية (1).
3) مجموع الفتاوى (28/228) .
31) مقطع من خاتمة للشيخ الدوسري على كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد للإمام : محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ ضمن كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين للشيخ / عبدالله العبدلي الغامدي ـ رحمه الله ـ صـ11).
32) سورة البقرة ، آية (12).
33) مقطع من كلام الأستاذ و المفكر الإسلامي : محمد قطب - حفظه الله - من كتابه ( مذاهب فكرية معاصرة ) صفحة (593).
34) مذاهب فكرية معاصرة، صفحة ( 593).
35) المنظمات العربية المتخصصة في نطاق جامعة الدول العربية لغسان يوسف ، صفحة 43 - 431 ) ، بواسطة كتاب الشيخ : علي العلياني - حفظه الله- ( أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية) ، صفحة ( 43 - 431).
36) سورة المائدة، آية (49).
37) سورة البقرة، آية ( 12).
38) اقتضاء الصراط المستقيم (1/98-99).
39) سيكلوجية العنف ، صفحة(52).
4) أنشد بعض المنتسبين إلى الإسلام في إحدى المؤتمرات : الشيخ والقسيس قسيسان *** وإن تشأ فقل هما شيخان !!
41) سورة آل عمران، آية (13).
42) في ظلال القرآن (5/267).
43) سورة هود ، آية(47).
44) سورة هود ، آية (48).
45) سورة التين ، آية ( 4).
46) سورة الإسراء ، آية( 7).
47) سورة التين ، آية ( 5).(36/328)
48) سورة التين ، آية ( 6).
49) سورة الحج ، آية (18).
5) سورة التوبة ، آية (28).
51) رواه مسلم في كتاب الأضاحي، حديث رقم (1978).
52) من كتاب: هويتنا أو الهاوية ، للشيخ : محمد المقدم - حفظه الله - صفحة ( 51).
53) رواه أبو داود في سننه ، كتاب الأدب ، باب التفاخر بالأنساب (5/339- 34) برقم(51)، ورواه الترمذي برقم (3955) وقال حسن غريب ، وصححه ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/247).
54 ) اقتضاء الصراط المستقيم (1/247)، والجعل والجعلان : هي الخنافس التي تأكل الغائط وتخزنه .
55) رواه أبو داود في سننه ، كتاب الأدب ، باب في العصبية (5/343) برقم (5123).
56) عون المعبود : لشمس الحق آبادي ن مجلد (7) جزء(14) صفحة(21).
57) أضواء البيان ، للشنقيطي : (2/29).
58) إغاثة اللهفان ، لابن القيم (1/11).
59 ) سورة المائدة ، آية (44).
6) منهاج السنة النبوية ، لابن تيمية ( 2/217).
61) سورة البقرة ، آية(14).
62) تفسير الطبري ( 1/374).
63) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية (1/175).
64) سورة ق ، آية (18).
65) من سمات أصحاب التوجُّهات العصرانية : احتقار المتَّبعين للمنهج السلفي(منهج أهل السنَّة والجماعة) ، والنظر إليهم نظرة دونية ، ولمزهم بالسطحية والجمود والتطرف ، وأمَّا هم ـ العصريين ـ فهم أهل حضارة وفكر راقي ، ومنفتحون ومستنيرون إلى غيرها من الألفاظ البرَّاقة التي يخدعون بها النَّاس ، ومن خير ما قرأته ووجدته منطبقاً عليهم مقاساً بمقاس ، ما ذكره الشيخ المحدِّث / أحمد شاكر ـ تغمده الله برحمته ـ عن هؤلاء الذين يدَّعون الموضوعيَّة في الكلام والنظرة المنصفة لآثار الكفَّار وتقاليدهم ، حيث قال:(أو من رجلٍ ممَّن ابتليت بهم الأمَّة المصرية في هذا العصر ممن يسميهم أخونا النابغة الأديب الكبير(كامل كيلاني) المجدِّدينات هكذا ـ واللَّه ـ سمَّاهم هذا الاسم العجيب ، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية أجاب بجواب أعجب وأبدع:(هذا جمع مخنث سالم) فأقسم له سائله أنَّ اللغة العربية في أشدِّ الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمن!!) انظر/ جامع الترمذي(1/71ـ72)بتحقيق: الشيخ أحمد شاكر.
66) الانحراف ، للدكتور : عدنان النحوي ، صـ (51).
67) سورة الممتحنة ، آية ( 8).
68) سورة البقرة ، آية ( 143).
=============(36/329)
(36/330)
تيارات التغيير في العالم الإسلامي بين التوسط والتطرف
د. بسطامي محمد خير*
تيارات التغيير في العالم الإسلامي الصلاح والفساد خاصية ثابتة للمجتمعات البشرية يتعاقبان على كل مجتمع كما يتعاقب الليل والنهار والحر والبرد والصحة والمرض . ويعج العالم الإسلامي المعاصر خلال القرنين الماضيين بتيارات مختلفة تسعى لإحداث تغيير في واقعه وإصلاح أحواله . ومن أجل أن نترسم سياسة المستقبل لهذه التيارات نحتاج أولا لتصنيفها وتحليل برامجها ثم البحث عن أفضل السبل المتاحة لها للتوسط ونبذ التطرف .
معايير التمايز:
1. قضية فهم الأصول
أصول الإسلام هي القرآن والسنة . والمنهج العلمي الذي يقوم عليه فهم هذه الأصول من الأمور التي تفصل بين تيارات التغيير . لا شك أن لدى الجيل الحاضر قدرا هائلا مما تركه الأوائل . فما الذي يقبل وما الذي يرفض من هذا التراث؟
2. ترتيب أولويات الإسلام
أقسام الدين الرئيسية ثلاث: عقيدة وشريعة وتصوف وتحت كل قسم منها شعب متعددة . وتختلف تيارات التغيير في ميزان التوازن بين هذه الشعب وترتيب أولوياتها .
3. تحكيم الشريعة
منذ بداية هيمنة الغرب على العالم الإسلامي في منتصف القرن الثامن عشر أزيح الإسلام عن الحياة العامة واستبدلت الشريعة بقوانين غربية ومن ثم أصبحت قضية الحكم الإسلامي قضية أساسية في قاموس تيارات التغيير في العالم الإسلامي تتباين مواقفها منها وتتعدد .
4. مشكلة الحداثة
التطور سنة الحياة وهناك إجابات متعددة لدى كل الحضارات على سؤال ما الثابت وما المتغير في حياة البشر . وللعالم الغربي المعاصر رؤيته الخاصة في هذه القضية تبلورت لقرون في مناهج علمية وأنماط حياة تقوم على فكرة التقدم المطلق ونسبية الحقيقة حسب الزمان والمكان . وبسبب قيادة الغرب الحالية للعالم أصبحت رؤيته للحداثة هي الميزان الذي توزن به نظم الحياة . وتفرقت بتيارات التغيير في العالم الإسلامي الطرق حسب نظرتها وتعاملها مع قضية الحداثة .
5. منهج التغيير
تتعدد طرق التغيير في كل مجتمع ولكل تيار في العالم الإسلامي منهجه الخاص في ذلك من دعوة بالحسنى وتربية وتعليم إلى تكوين احزاب سياسية وثورة بالسلاح وعنف .
خصائص تيارات التغيير:
1. التيار الصوفي
امتداد للطرق الصوفية التي تشكلت خلال عصور متطاولة في نظام محكم للتربية وتزكية النفس ، ولايزال انتاجه الفكرى والعملى محصورا في هذا المجال . ويحتفظ التصوف بنفوذ كبيرفي العالم الإسلامي نتيجة لكثرة الأتباع والامتزاج بالقواعد الأسرية والقبلية العريقة المتيزة بثرائها وسلطانها . وساهم هذا التيار في مقاومة الاستعمار سلبيا بالعزلة وإيجابيا بالثورة . ثم أصبح في الغالب مطية للتيارات الأخرى خاصة للعلمانية .
2. التيار السلفي
يقوم هذا التيار على مبدأ تنقية التراث مما علق به من الشوائب الدخيلة والانحرافات عن طريق الاعتماد على الكتاب والسنة وفهم الأجيال الأولى من المسلمين لها . وقد اتجه جل همه لمسائل العقيدة ومحاربة التصوف ومعظم انتاجه الفكري في هذا المجال . ودخل هذا التيار ميدان السياسة بعد بروز التيار الشيعى وازدياد تاثيره ثم دخل ميدان الجهاد المسلح في الحرب على الشيوعية . ودفعت به هذه التغيرات لاتباع أساليب التيار السياسي الإسلامي في التعبير والتغيير .
3. التيار السياسي الإسلامي
نشأ هذا التيار مع انهيار الخلافة العثمانية ، ومن أولوياته إعادة حكم الإسلام وتحكيم الشريعة وبسط نظم الإسلام في كل مجالات الحياة . ولهذا التيار انتاج فكري غزير في نقد الحضارة الغربية وبيان بدائل الإسلام لنظمها المعاصرة . واتسم بالمرونة في مواجهة التصوف والسلفية ولكنه حارب بلا هوادة العلمانية والاستبداد . وقاد الجهاد المسلح ضد الصهيونية والشيوعية ولكنه مع هذا اتبع غالبا أسلوب التغيير السلمي . وتعرض الاستبداد لهذا التيار باقسى أنواع الاضطهاد من سجن وتعذيب وتشريد ، وأدت ضراوة الفمع له لتشعب جماعات منه تشبه الخوارج في إيمانها بضرورة استعمال السيف والعنف في مواجهة المخالفين .
4. التيار العلماني
العلمانية من آثأر تقليد الغرب وقد بدأت جذورها في أكثر البلاد تواصلا مع أوربا خاصة تركيا ومصر والهند ثم سرت للعالم الإسلامي قاطبة . وتقوم على مبدأ حصر دور الدين في مجالات خاصة وإبعاده من توجيه السياسة والحياة العامة . وقد استعان العلمانيون بالدين في خدمة مصالحهم وخاصة الطرق الصوفية . ولقد قام العلمانيين بقيادة تحرر العالم الإسلامي من الاستعمار المباشر ولكنهم مع وطنيتهم لم يفلتوا من سلطانه الثقافي بالكلية . ومع علمانيتهم إلا أن قليلا منهم قد ألحد ونبذ الدين بالكلية، ولا تزال أغلبيتهم تتمسك بإسلامها على درجات متفاوتة.
5. التيار العصراني
العصرانية مثل العلمانية من آثار تقليد الغرب، ومن أكبر دوافع التيار العصراني ردة الفعل القوية ضد مخلفات عصور انحطاط المسلمين، ومحاولة مراجعة الإسلام في ضوء مفاهيم الحداثة الغربية . ولكنه جاوز كثيرا من الضوابط في تفسير النصوص وتأويلها، وألبس كثيرا من مفاهيم الغرب ونظمه لباسا إسلاميا.(36/331)
بين التطرف والتوسط
مع تباين تيارات الإصلاح الإسلامي واختلافها، إلا أنها كلها دون استثناء مثل ألوان الطيف، يبدو لون كل واحد منها متميزا وخاصا، إلا أنه في حقيقته مجموعة من الألوان المتمازجة المتشابكة. فكل واحد من هذه التيارات يعج بفصائل شتى، بينها شد وجذب، وكر وفر. ومن الحقائق التي لا ينبغي أن تقبل الجدل أن في كل واحد من هذه التيارات توسط وتطرف وإن كانت لا تقر هي في أغلب الأحيان بذلك. ولا شك أن التوسط والاعتدال أمر مرغوب وقد يدعيه كل تيار لنفسه، وأن التطرف والغلو أمر مرفوض وقد يلصقه كل تيار بغيره وينفيه عن نفسه. فما التوسط وما معاييره ومعالمه؟
لا شك أن الوسط من أهم سمات الأمة المسلمة ومن خصائصها الأساسية ، التى أثبتها الله عز وجل لها وعرّفها وميّزها بها ، حين قال: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) . وهذه الآية هى الأصل في تحديد مفهوم الوسط ، ومنها انبثقت مقوماته . وقد اصطبغت بخاصية الوسط التى وجه إليها القرآن القرون الماضية والأجيال المتقدمة من المسلمين ، فكانوا بذلك خير أنموذج للحضارة والتمدن ، وخير قادة وأئمة للبشرية علميا وعمليا . ثم تغيرت الحال وتبدلت وضعفت صبغة الوسط بين المسلمين أفرادا وجماعات، وضاعت ملامحها في عصرنا الحاضر ، بل غاب مفهومها عن كثير من الناس حتى صارت توصف بها جماعات هم أحق بأضدادها . ثم تعقدت المشكلة حين تأثر المسلمون بمفاهيم الغرب للوسط ، وشاعت بينهم مسمياتها ، فصارت الأمور مختلطة مختلة مضطربة .
فما معنى الوسط؟
معنى الوسط
للوسط معان متقاربة دلت عليها شواهد كثيرة ، وبالنظر فيما ورد عنها والتأمل في استعمالاتها يتضح أن المصطلح يعود إلى ثلاثة معان أساسية متقاربة .
الأول أن كلمة وسَط بفتح السين تجيئ اسما لما يكون جزءا من شئ بين طرفين له . تقول مثلا قَبَضْت وسَط الحبْل وكسرت وسَط الرمح وجلست وسَط الدار . ولاحظ ابن منظور في لسان العرب أن وسَط جاءت على نفس وزن نقيضها طرَف ، كما ورد ذلك في كثير من الكلمات الأخرى نحو جَوْعانَ وشَبْعان وطويل وقصير . وأما كلمة وسْط بسكون السين فهي تختلف عن وسَط بالفتح في أمرين ، الأول أنها ظرف بمعنى بيْن وليست اسما ، قال الشاعر:
إِنِّي كأَنِّي أَرَى مَنْ لا حَياء له ** ولا أَمانةَ، وسْطَ الناسِ، عُرْيانا
الثاني: أن وسَط بالفتح يكون بعضا من الشئ المضاف إليه ، تقول مثلا وسَطُ رأْسِه صُلْبٌ لأَن وسَطَ الرأْس جزء منها . أما وسْط بالسكون فلا تكون جزءا مما تضاف إليه مثل قولك وسْطَ رأْسِه دُهن ، لأن الدهن ليس من الرأس .
فالمعنى الأصلى لكلمة وسَط بالفتح يدل على كون الشئ نصفا بين طرفين ، سواء كان ذلك في الحسيات من جهات ومقادير وغيرها أو كان في المعاني . ومن الأحاديث التى استعمل فيها هذا المعنى بوضوح ما رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ) ، فجعل للطعام وسطا وهو ما كان نصفا بين جوانبه . ومن استعمال الكلمة ومشتقاتها في هذا المعنى قول الله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ، يعنى بأوسط ما كان بين الرفيع والدنئ في نوع الطعام اوفي كثرته وقلته . فقد ذكر القرطبي أن معنى أوسط هنا "منزلة بين منزلتين ونصفاً بين طَرفين ، وروى عن ابن عباس قال: كان الرجل يَقُوت أهله قُوتاً فيه سَعة وكان الرجل يَقُوت أهله قُوتاً فيه شدَّة؛ فنزلت: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ). قال القرطبي: وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين. ولهذا جاء في الصحاح في اللغة للجوهري أنه يقال شيءٌ وَسَطٌ، أي بين الجيِّد والرديء.
وبهذا المعنى الأصلى فسر قول الله تعالى (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) . قال الطبرى: وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوّ فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها. ووافق كثير من المفسرين الطبري فيما رجحه في معنى الآية ، منهم القرطبي الذي قال: " ولما كان الوسط مجانِباً للغلوّ والتقصير كان محموداً؛ أي هذه الأمة لم تَغْل غُلوّ النصارى في أنبيائهم، ولا قَصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم." وقال الرازي أيضا: ": يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرِط والمفرِّط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه."
والمقصود أن معنى وسّط الذي جاء في صفة الأمة المسلمة هو القصد والتوازن ، والبينية والبعد عن طرفي الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير أو التشدد والتساهل .(36/332)
الثاني: من معانى الوسط قريب الصلة بمعناه الأصلى ، وهو أن الكلمة أصبحت تدل على الأحسن والأفضل ، لأن وسَط الشئ غالبا أحسن مكان فيه ، مثال ذلك أن وسَط الوادي خير مكان فيه وأكثره كلأ ومرعى ، ووسَط الدابة للركوب خير من أطرافها لتمكن الراكب فيه . وفي الصحاح: واسِطةُ القلادة الجَوْهَرُ الذي هو في وَسطِها وهو أَجودها . وقال أبن عاشور في تفسيره: صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية .
وجاء في حديث مرسل (خيرَ الأمُور أوْساطِها) ، ومن تعليقات ابن الأثير على هذا الحديث قوله: "كُلَّ خُصْلة مَحْمُودة فَلَها طَرَفان مَذْمُومَان ، فإن السَّخَاء وَسَط بين البُخْل والتَّبْذِير، والشَّجَاعة وسَط بين الجُبْن والتَّهَور. والإنسان مَأمُور أن يَتَجَنَّب كلَّ وَصْف مَذموم ، وتجنبه بالتَّعَري منه والبعد عنه ، فكلما ازداد منه بعداً ازداد منه تَعَرِّياً ، وأبْعد الجِهات والمقادِير والمَعَاني من كل طرفين وسَطَهُما ، وهو غَايَة البُعد عنهما ، فإذا كان في الوَسَط فقد بَعُد عن الأطراف المَذْمُومة بقدر الإمكان."
ومن استعمالات القرآن لهذا المعنى للوسط قول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) ، والوسطى مؤنث الأوسط ، وسُمِّيت الصلاة الوسطى لأنها أفْضَل الصلاة وأعْظَمها أجراً ولذلك خُصَّت بالمُحافَظَة عليها ، وإن اختلف في تعيينها ومعنى توسطها ، ففى رأي أنها وَسَط بَين صلاتَي اللَّيْل وصَلاتَي النَّهار ولذلك قيل هي العَصْر وقيل الصُبْح ، وقيل وسط النهار وهي الظهر ، وقيل وسط بين الطول والقصر وهى المغرب.
وأخذ بهذه الخيرية في معنى الوسط جمع من العلماء في تفسير قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) ، واختاره ابن كثير فقال: والوسط هاهنا الخيار والأجود ، كما يقال قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها ، وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات . واستدل الرازي لمن قال أن هذا القول أولى في تفسير الوسط بأنه موافق لوصف الأمة بالخيرية في قول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) .
الثالث: من معانى الوسط أنه العدل ، وقد ثبت في حديث صحيح أن صلى الله عليه وسلم قال في قول الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ، قَالَ "وَالْوَسَط الْعَدْل" ، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ عن أبي سعيد الخدري . وعلّق ابن حجر على تفسير العدل بالوسط أنه لا ينافي تفسير الوسط بمعانيه الأخري فقال: " لا يلزم من كون الوسط في الآية صالحا لمعنى التوسط أن لا يكون أريد به معناه الآخر كما نص عليه الحديث ، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية" . ونقل هذا المعنى في تفسير الوسط عن عدد من الصحابة والتابعين منهم أبوهريرة وابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة . قال الرازي: إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين .
واستُدِل لهذا المعنى من الشعر بقول زُهَيْر :
هُمْ وَسَط يَرْضَى الْأَنَام بِحُكْمِهِمْ** إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
وَقَالَ آخَر :
لَا تَذْهَبَن فِي الْأُمُور فَرَطًا ** لَا تَسْأَلَن إِنْ سَأَلْت شَطَطَا
وَكُنْ مِنْ النَّاس جَمِيعًا وَسَطَا
وبمعنى العدل فسر الأوسط أيضا في قول الله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) ، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضّحاك، وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم . وقال القرطبي: أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم .
والخلاصة: أن الوسط جاء في الأصل لما انتصف بين طرفين ، ولأن أحسن الأشياء أوسطها كان الوسط بمعنى الأحمد والأجود والأفضل والخيِّر ، وما كان خيرا فهو عدل. وعلى هذا فإن معانى الوسط متقاربة وليست متنافية كما قال الرازي .(36/333)
ومع أن مصطلح الوسط كلمة جامعة تتسع لمفاهيم كثيرة من التوسط والتوازن والقصد والخير والاعتدال، إلا أنه من الأمور الإضافية . والمراد من الوسط الذي هو سمة أساسية من سمات الأمة المسلمة ، المفهوم الإسلامي له . إذ أن معنى الوسط يختلف باختلاف الدين والثقافة والحضارة . فما كان وسطا من وجهة نظر الثقافة الغربية مثلا فليس هو الوسط من وجهة نظر الإسلام ، إذ أن لكل ثقافة معاييرها ومنهجها في تحديد الوسط . وأحسب أن هذا ينطبق على كثير من المفاهيم الأخرى مثل العدل والمساواة والحرية وغيرها . فلا بد إذا لتحديد معنى الوسط بمفهومه الإسلامي تحديدا دقيقا من اعتبار ضوابط الإسلام وموازيينه . وقد أوضح الله تعالى الصلة بين الصراط المستقيم والوسط حين قال: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، ثم قال (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ) . فقد فسر كثير من المفسرين أن المقصود بقوله تعالى (وكذلك ) يعنى أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم . فتكون هداية الأمة المسلمة إلى الصراط المستقيم وخصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ، هو الأساس الذي يقوم عليه اتصافها بالوسط علما وعملا . ومن أحسن المواضع التى تستبين منها الصلة بين الصراط المستقيم والوسط قول الله تعالى في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) . فدل ذلك على أن الصراط المستقيم هو طريق المنعم عليه ممن علم الحق وعمل به ، وهو وسط بين طريق من علم الحق ولم يعمل به فكان مغضوبا عليه ، وطريق الضال الذي جهل الحق أصلا ولم يهتد إليه . وفي هذا المعنى قال ابن كثير أن صراط الذين أنعمت عليهم "هم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ." ومما ينبغى التنبيه عليه أن وصف الأمة المسلمة بسمة الوسط لا يعنى أن كل من انتسب للإسلام فهو وسط ، بل وصف الوسط لا يتحقق إلا لمن قام بحقوقه التى سنوضح مقوماتها فيما بعد ، وقد كان للصحابة والرعيل الأول من السلف المقام المعلى من ذلك ، ولا يخلو كل عصر من جماعة هذه صفتهم ، حسب ما جاء من آحاديث في الطائفة الظاهرة ، ومنها حديث الذى رواه مسلم عن ثوبان قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) .
وظيفة الشهادة على الناس
أوضح قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ) ، أنه قد انيط بالمسلمين بسبب كونهم وسطا مهمة عظيمة وهى الشهادة على الناس بالحق والعدل ، مثل ما كان الرسو صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم بذلك . ولا بد من النظر في معنى هذه الشهادة وبيان حقيقتها . أما معنى الشهادة في اللغة فيكفي أن ننقل هنا ما بينه الرازي عنها حين قال:
" الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء: شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ."
فالشهادة إذن هي العلم بالشئ ومعرفته والإخبار عنه والدلاله عليه والاحتجاج له . فالمسلمون شهداء بالحق بسبب معرفتهم به وهداية الله لهم إليه ، وبسبب إخبارهم للناس عنه وبيانهم له والاحتجاج له ، وبسبب حكمهم على الناس خيرهم وشرهم بالعدل وتقويم آرائهم وأعمالهم .(36/334)
وقد دلت الآثار على أن شهادة المسلمين هذه حادثة وحاصلة في الدنيا ، كما أنها أيضا واقعة وكائنة في الآخرة . أما الشهادة في الدنيا فقد دل عليها ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . وأما الشهادة في الآخرة فقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم " يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول لبيك وسعديك يا رب . فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير. فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، فذلك قوله جل ذكره ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ، والوسط العدل .
وقد أشار بعض المفسرين الأوائل لمعنى الشهادة على الناس المقصودة في الآية ، ولكن قد فصّلها تفصيلا وافيا بعض المعاصرين . وخلاصة أقوال الأوائل ذكرها أبوحيان في تفسيره في البحر المحيط حين قال:
" وفي شهادتهم هنا أقوال: أحدها: ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره . وقيل: الشهادة تكون في الدنيا. واختلف قائلوا ذلك، فقيل: المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا، فقال الرسول: " وجبت " يعني الجنة والنار، " أنتم شهداء الله في الأرض " ثبت ذلك في مسلم. وقيل: الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزّجاج. وقيل: معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول ا صلى الله عليه وسلم ."
ومن المعاصرين الذين فصلوا معنى الشهادة سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن ، قال:
" إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ;وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول:هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ; فيقرر لها موازينها وقيمها ; ويحكم على أعمالها وتقاليدها ; ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة ."
معالم الوسط
قد اتضح مما سبق أن الوسط مصطلح جامع يشمل كل خير وعدل ويجافي كل تطرف مذموم . ولا شك أن الإسلام كله من هذه الزاوية هو دين الوسط ، وكما أن الله عز وجل قد عبر عن الإسلام بوصف الصراط المستقيم ، ووصف دين الحق ، وغير ذلك من الأوصاف ، فالصفات والتعابير مختلفة ولكن المسمى واحد . فكذلك الوسط والإسلام ما هما إلا وصفان ولفظان لنفس الشئ . وينتج من ذلك أن مقومات الوسط ومعاييره هي هي مقومات الإسلام ومعاييره سواء بسواء . وقد حاول بعض العلماء النص على بعض معالم الوسط هذه أوتعدادها ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وسيد قطب والشيخ ناصر العمر والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، ولكن ما ذكروه لا يعدو أن يكون أمثلة لما رأوه من وسطية الإسلام ، وكل منهم يعبر عن الوسط ببعض صفاته ، وليس على سبيل الحصر والاستقصاء . فابن تيمية مثلا نظر إلى وسطية الإسلام مقارنة باليهودية والنصرانية ، وعدد هذه الوسطية في مسأئل من العقيدة والشريعة ، منها صفات الله ومكانة الأنبياء والرسل والعلماء والأولياء ، ومنها مسألة النسخ والتشريع والتحليل والتحريم ، ثم ختم بقوله (وهذا باب يطول وصفه ) ، إذ أنه لم يذكر إلا بعضا من مظاهر الوسط في الإسلام ، فكان مما قال:(36/335)
" ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين ؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ، ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود ؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابا كما قال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في " المسيح " فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتانا عظيما حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود بل قالوا هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه . وكذلك المؤمنون " وسط في شرائع دين الله " فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء . ويثبت كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وبقوله : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } . ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } . قال { عدي بن حاتم رضي الله عنه قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : ما عبدوهم ؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم } . والمؤمنون قالوا : " لله الخلق والأمر " فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به . وقالوا : { إن الله يحكم ما يريد } . وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيما . وكذلك في صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ؛ فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء . وقالوا : يد الله مغلولة . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا : إنه يخلق ويرزق ؛ ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفوا أحد وليس كمثله شيء . فإنه رب العالمين وخالق كل شيء وكل ما سواه عباد له فقراء إليه { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } { لقد أحصاهم وعدهم عدا } { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } . ومن ذلك أمر الحلال والحرام . فإن اليهود كما قال الله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } فلا يأكلون ذوات الظفر ؛ مثل الإبل والبط . ولا شحم الثرب والكليتين ؛ ولا الجدي في لبن أمه . إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما ؛ حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعا . والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرا وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت . وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا جميع النجاسات وإنما قال لهم المسيح { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } ولهذا قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } . وهذا باب يطول وصفه ."
أما سيد قطب فقد عدد وسطية الأمة في أمور منها التوازن بين مطالب الروح والجسد في التصور والاعتقاد ، وبين الثبات والجمود والتطور والانفلات في التفكير والشعور، وبين سوط السلطان ومراقبة الضمير في التنظيم والتنسيق ، وبين الفردية والجماعية في الارتباطات والعلاقات، وبين الشرق والغرب في والمكان ، وبين طفولة البشرية ورشدها العقلى في الزمان . فقال:
" وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .(36/336)
(أمة وسطا). . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .
(أمة وسطا). . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ; وشعارها الدئم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .
(أمة وسطا). . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ; وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
(أمة وسطا). . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ; ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
(أمة وسطا). . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
(أمة وسطا). . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ; وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك ."
وسيرا على هذا المنوال سنذكر هنا بعض مقومات الوسط وخاصة تلك التى لها أثر في ائتلاف الصف الإسلامي وتقاربه ، وسوف يِتناول الحديث معالم في مجالات العلم والعمل والدعوة والإصلاح .
من معالم الوسط في العلم
يعيش المسلمون اليوم حياة مضطربة متقلبة متناقضة ، تتشابك فيها ألوان متنافرة وتختلط فيها أشتات من مختلف الثقافات والعادات والتقاليد من الشرق والغرب . فمن ناحية هناك موروثات عهود الانحطاط من جهل وتقليد وعصبية وفوضى ، ومن ناحية هناك أهواء العصر من انحلال ومادية وهوس بسفاسف الأمور . ولعل كل ذلك أثر من آثار اضطراب المعايير والموازيين التي تحدد للناس مناهج حياتهم وغاياتها . ومما لاشك فيه أن الدين كله قائم على مبدأ الوسط والعدل والقسط ، وكل هذه المبادئ تقتضى وضع كل شئ موضعه دون زيادة ولا نقص ولا إفراط ولا تفريط . قال تعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَاب وَالْمِيزَان لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ " (الحديد: 25) . وقال: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " (الرحمن: 7-9) . والميزان هو المعيار الذي يقوّم به الحق والعدل وتعرف به حقائق الأشياء و توزن به مقاديرها وقيمها ، فيوضع كل شئ موضعه فتقوم حياة الناس بالقسط في كل جانب من جوانبها . هذا الميزان هو مودع في فطر الناس وفي العقول السليمة وهو مبين في كتاب الله وعلى لسان رسوله . وفقه هذا الميزان أمر هام لإقامة حياة متوازنة تعرف لكل شئ حقه فتوفيه له وتنزل كل شئ منزلته .(36/337)
منهج العلم: ومن أجل أن يتبين الحق والعدل والوسط الذي تقوم به حياة الناس بالقسط ، فلا بد من من منهج علمي سليم تتمايز به حقائق الأشياء وتوزن به التصورات والأفكار والقيم والمناهج . والقرآن والسنة قد أوضحا هذا المنهج أحسن توضيح . من ذلك أنه لا بد لكل حقيقة أن تثبت بدليل وبرهان من عقل أو حس أو خبر . قال تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" . وقال: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" . ولا يعتمد في اثبات الحقائق على الحدس والخرص والظنون . قال تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" . وعند التفكر في الحقائق ينبغي أن يتجرد النظر من هوى الأنفس إذ أن التفكير بالعاطفة يصرف عن الحق ، قال تعالى: "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى" .
ومن أكبر أسباب اضطراب حياة المسلمين تأثرهم بالمناهج العلمية والفكرية الجاهلية . فقد روى البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ" . فقد أثرت الفلسفة اليونانية ورهبانية الهند على المسلمين فحطتهم من تفوقهم العلمى والحضارى ، وأثرت مادية الغرب المعاصرة على كثير من اتجاهات المسلمين الحاضرة ، وحولتهم قردة مقلدين لها في كل صغيرة وكبيرة دون نقد ولا تمحيص ، وغشتهم بعلمانيتها وعصرانيتها ونظرتها للحداثة . والمنهج الإسلامي السليم لا بد له من أن يتجرد من كل ذلك الغبش والركام .
الثابت والمتغير: ومن آثار الحداثة بمفهومها الغربي على تفكير المسلمين المعاصرين خلطهم بين الثابت والمتغير والدائم والمتطور في الدين ، وتشوش عليهم بسبب ذلك فهم بعض القواعد الفقهية ، من مثل تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ، وإعمال مبدأ المصلحة ومقاصد الشريعة . وقد ظهرت بين الناس فئة يصدق عليهم وصف "فقهاء بلا حدود" ، يفتون في أعقد المسائل وقد لا يحسن أحدهم إعراب بسم الله الرحمن الرحيم . وقابلتهم فئة أخرى جمدت على كل موروث ومنقول ، دون نقد ولا تمحيص . والوسط بين تفريط أولئك وإفراط هؤلاء ، وكثير من قضايا العصر تحتاج إلى دقة في الفهم وضبط لأحكام الاجتهاد ، ولا يصلح للتصدي لها إلا أهلها ومن يأتيها من أبوابها عن دراية وعلم بأسس الشريعة ، وبصيرة وإدراك تمييز بين متطلبات العصر وأهوائه ، حتى يحسن بذلك الجمع بين االأصالة والمعاصرة وبين السلفية والتجديد .
العصبية: وافتراق الأمة شيعا وأحزابا متناحرة ما هو إلا أثر من إطراح المنهج العلمي السليم الذي عليه جماعة المسلمين ، وبسبب العصبية والبغي والظلم بين هذه الفرق تتأجج نار الفرقة والإنقسام ، ولو ردوا التنازع إلى المنهج العلمي السليم لاهتدوا إلى الحق ، كما قال الله تعالى: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " . وموقف المسلم من هذه الفرق أن يكون رائده الحق والحجة والدليل، ولا شك أن الحق في الأمور الكلية والأصول واحد ولا يتعدد ، أما الأمور الجزئية فالتعدد فيه مندوحة ، والمجتهد المخطئ سواء في الكليات والأصول أو الجزئيات والفروع معذور مأجور . فليأخذ المرء من كل طائفة بأحسنها ولا يتعصب لشخص أو مذهب أو طريقة ، وليجتهد الكل في الإعتصام بأصول اليدن وكلياته التي تلقتها ألأمة بالقبول ، وإرجاع الأمور العلمية والعملية إلى مصادرها وأهل العلم والخبرة بها ، إذ كل قوم أعلم بصناعتهم .(36/338)
الوسط السياسي: والسياسة من المجالات التى شغل بها أكثر الناس ، ودخلت كل بيت وصارت حديث كل مجلس وكثر فيها الاختلاف والتنازع ، مع أن الامر فيها قريب سهل . وأكثر ما يدخل على الناس من الخطأ فيها يكون سببه أمران . الأول أن السياسة في عصرنا تتبع أساليب الغربين من مكر وخديعة وكذب ، ولا يتسنى لكثير من الناس معرفة الحقيقة التى تضيع بين دعايات السياسين وأبواقهم الإعلامية الضخمة التى تفعل في الناس فعل السحر . الامر الثانى الذي قد يفوت على بعض الإسلاميين أن السياسة قليلا ما تقوم على نصوص شرعية محكمة بل تعتمد على المصالح المرسلة . والمصالح أمر واسع ، وإن اختلف حولها الناس فالاختلاف فيه مندوحة . فالسياسة لا ينبغي أن تصادم نصا أو أمرا معلوما من الدين ، أو تعارض مقاصد الشرع وقواعده ، ولكن ما وراء ذلك عفو فيه متسع لاستعمال الرأي والعقل وموازنة المصالح والمفاسد . وممن شرح هذه القضية الإمام ابن القيم في حديثه عن السياسة الشرعية ، ورده على من قال لا سياسة إلا ما وافق الشرع . وإن كان جل حديثه عن استعمال السياسة في العقوبات الشرعية ، إلا أنه عام في كل سياسة . يقول ابن القيم:
"السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسو صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي . فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد وقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ** أججت ناري ودعوت قنبرا
ونفى عمر لنصر بن حجاج .
وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق ، وجرءوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم .
والذي أوجب لهم ذلك نوع قصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر . فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمروراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا وفسادا عريضا ، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه ، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك . وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله
وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه ، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات . فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه . والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها . بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له . فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات ."
والأمرالوسط في السياسة الاشتغال بما يفيد الناس ويهمهم ، وعدم تضييع الأوقات في ما لا علاقة له بمصالح الناس المباشرة ، وتوجيه الهمة للهموم الكبرى والمشكلات العظمى ، والتغاضى عن صغائر الأمور وسفاسفها ، وطرح الإشاعات والقيل والقال ، عملا بقول الرسو صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه". واتباعا لقول الله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) . قال ابن كثير عن الأية أنها " إِنْكَار عَلَى مَنْ يُبَادِر إِلَى الْأُمُور قَبْل تَحَقُّقهَا فَيُخْبِر بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرهَا وَقَدْ لَا يَكُون لَهَا صِحَّة" .
من معالم الوسط في العمل(36/339)
سيقتصر الحديث هنا على ثلاثة معالم في ميدان العمل: الشمول في أخذ الدين كله دون تجزئة بعضه عن بعض ، والبصر والفقه بالأولويات والتقديم والتأخير، ومعرفة مواطن الرفق والتيسير دون تقصير أو تحريف ومواضع الشدة والحزم دون تنطع أو غلو.
الشمول: العمل مصداق العلم ولا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا كان شقاء وبلاء ، فالعلم بلا عمل كالعمل بلا علم ، كلاهما انحراف وتطرف ، والوسط أن يكون العلم قائد العمل والعمل دليل العلم وبرهانه. ويتنوع العمل الصالح ويتعدد ، وله ميادين كثيرة ومجالات شتى ، ويخطئ كثير من الناس حين يحصرون الدين في مجال دون مجال أو ميدان دون ميدان ، بل العمل الإسلامي يشمل كل جوانب الحياة ، وهذا معنى قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين) ، والسِّلم هنا المقصود به الإسلام ، ومعنى الآية كما ذكر الطبري: "اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَام كَافَّة ... فَإِنْ قَالَ : فَمَا وَجْه دُعَاء الْمُؤْمِن بِمُحَمِّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِسْلَام ؟ قِيلَ : وَجْه دُعَائِهِ الْأَمْر له بِالْعَمَلِ بِجَمِيعِ شَرَائِعه ، وَإِقَامَة جَمِيع أَحْكَامه وَحُدُوده ، دُون تَضْيِيع بَعْضه وَالْعَمَل بِبَعْضِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، كَانَ قَوْله { كَافَّة } مِنْ صِفَة السِّلْم" . وروى مسلم عن سلمان قال قيل له "قد علمكم نبيكم r كل شيء حتى الخراءة" ، قال فقال أجل .
ولكن مما لاشك فيه أن شمول الفهم للإسلام غير شمول العمل ، إذ أن العمل في أي ميدان يكون حسب الاستطاعة ، لحديث أبي هريرة رضى الله عنه في البخاري ومسلم عن صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" . ومن ثَمَّ تتنوع أعمال الخير حسب مقدرات الناس ومؤهلاتهم ، وأنواع الخير وطرقه وأصنافه كثيرة ، فمن فتح له منها باب فليجتهد فيه وليتخصص فيه . ومن هذا المنطلق لا لوم على كثير من جماعات المسلمين أو أفرادهم أن يختص كل منهم بنوع من الخير، ويصبح ذلك سمة مميزة لهم دون غيرهم ، ولا بأس أن يشتغل بعض الناس ببعض الجزئيات ، إذ كثيرا ما لا يستطيع كل الناس أن يسبقوا في أنواع الخير ، ويكمل المسلمون بعضهم بعضا جماعات كانوا أو أفرادا . وإن كان لا شك أن من تكاملت فيه خصال الخير فردا أو جماعة ، وبلغ في ذلك الشمول أنه يفوق غيره في الفضل والمكانة والخيرية . وليس أدل على ذلك من حديث الرسو صلى الله عليه وسلم في أبواب الجنة . فقد روى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمنَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ " .(36/340)
ترتيب الأولويات: والأخذ بمبدأ الشمولية في العمل الصالح لا تنافي اعتبار أولوياته وتقديم مهماته ، فإن لكل وقت وظرف وحال ما يليق به من العمل الصالح . وترتيب أولويات العمل من الضرورات التى يحتاج إليها كل عامل ، ذلك أن الواجبات أكثر من الأوقات ، وكثير من الناس يقصر في هذه الناحية فيقع في إفراط أو تفريط ، والوسط أن يعطى كل وقت ما يلائمه من واجب . فالفروض العينية واجب مشترك على كل الناس ، وكل من تعين عليه واجب كفائى عليه الإهتمام باتيانه وتقديمه على ما سواه ، وكثير من التفريط يأتي من الاشتغال بفرض مع تضييع فرائض أخرى أو الاشتغال بالنوافل والسنن مع التفريط في الفروض ، كمن يشتغل بكسب عيشه على حساب حقوق أهله وأولاده أو من يشتغل بمصالحه الخاصة على حساب مصلحة المسلمين العامة . وفي الحديث الصحيح "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " . ولابن القيم في ذلك كلمة جامعة إذ يقول: "إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن . والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل . والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار . والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به . والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن . والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل . والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك . والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك . والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك . والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين . والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء . والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك . والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه . والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم . فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه" .(36/341)
التيسير والرفق: ومن معالم الوسط في العمل اليسر والرفق ، فإن شرائع الدين كلها قائمة على مراعاة الطبيعة البشرية والغرائز الفطرية ، وتكليف كل امرئ حسب طاقته وجهده ، والدفع به في طريق البناء والكمال دون كبت لمشاعره وغرائزه ودون انفلات وجموح . وقد أبانت آيات وأحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالرخص في مواضعها والعزائم في مواضعها ، واتباع الرفق والتيسير ورفع الحرج دون تقصير أو تحريف ودون تنطع أو غلو . منها قول الله تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) . ومنها حديث مسلم عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هلك المتنطعون قالها ثلاثا" ، والمتنطعون - كما قال النووي - هم المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ" . وعقب اِبْن الْمُنِير على هذا فقال: "فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة ، فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى النَّاس قَبْلنَا أَنَّ كُلّ مُتَنَطِّع فِي الدِّين يَنْقَطِع ، وَلَيْسَ الْمُرَاد مَنْع طَلَب الْأَكْمَل فِي الْعِبَادَة فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُور الْمَحْمُودَة ، بَلْ مَنْع الْإِفْرَاط الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَلَال ، أَوْ الْمُبَالَغَة فِي التَّطَوُّع الْمُفْضِي إِلَى تَرْك الْأَفْضَل ، أَوْ إِخْرَاج الْفَرْض عَنْ وَقْته كَمَنْ بَاتَ يُصَلِّي اللَّيْل كُلّه وَيُغَالِب النَّوْم إِلَى أَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فِي آخِر اللَّيْل فَنَامَ عَنْ صَلَاة الصُّبْح فِي الْجَمَاعَة ، أَوْ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْوَقْت الْمُخْتَار ، أَوْ إِلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْس فَخَرَجَ وَقْت الْفَرِيضَة" . ومنها حديث ابن عباس قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " .
من معالم الوسط في الدعوة
يتناول الحديث هنا خمسة محاور من معالم الوسط في الدعوة: الصدع بالرأي بعد التحقق من صحته دون محاباة أو خشية ، والعدل والإنصاف في الحكم على الناس عوامهم وعلمائهم وحكامهم وإنزالهم منزلتهم مؤيدين أو مخالفين ، والحوار بالحسنى مع الولاء للحق والتحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف والأحزاب ، والتعاون في الحق والعدل والخير مع كل الناس ، والقوة والقدرة على تغيير الواقع بأفضل السبل دون تعد على الحقوق أو ركون إلى الظلم .
الصدع بالحق: فمن أولى التوجيهات القرآنية في الدعوة قول الله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) ، والصدع هو الجهر بالحق في بيان قوى نافذ ، لا يحلق في عالم المثل والأحلام ولا يلين لضغوط الواقع . فقد خاطب القرآن واقع العرب أولا وعالج مشكلاتهم وعقائدهم وقيمهم ، وخاطب من خلال ذلك البشر كافة وأرسى المبادئ والقواعد الثابتة لكل عصر ومكان . ولأن الحق قد يواجه واقعا صعبا فإن الداعية معرض لإإغراء التنازل والتوافق والمهادنة عن بعضه من أجل مسايرة الناس وطمعا في استمالتهم ، ولهذا كان من توجيهات الله سبحانه لرسوله قوله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ) . فمن الوسط في الدعوة الخطاب المناسب للمخاطبين باللسان الذي يفهمونه والمصطلحات المتداوله بينهم والواقع الثقافي والاجتماعى الذي يعيشونه ، لكن دون مداهنة ولا ركون .(36/342)
الإنصاف في الحكم على الناس: والخطاب الإسلامي في معالجته للواقع وبيانه للحق ، يحتاج للإنصاف في تقويم المواقف والحكم على أقوال الناس وأعمالهم ، عامتهم وخاصتهم ، وخاصة حين التصدي لتقويم العلماء والحكام والجماعات والطوائف . والشهادة على الناس كما تبين في صدر البحث هى وظيفة الوسط وغايته . ولا تنال هذه المكانه من تقويم الناس والحكم عليهم إلا بالعدل والإنصاف وهو الوسط ، الذي أمر الله به حتى مع الأعداء حين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . ومما فسر به الطبري هذه الاية قوله: " يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله ، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم ، ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم ، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة . ومن النماذج في ذلك التى ضربها الله لنا مثلا في القرآن حين نقد أهل الكتاب فأنصفهم ، وقال أنهم ليسوا سواء فمنهم المجرم والشرير وفيهم المحسن الخيِّر ، وأبان معايبهم ونواقصهم ولم ينس ما فيهم من خير فذكره وأشاد به . فليست مهمة الداعية لذع الناس وجمع عيوبهم وفضحها ، ونسيان ما لهم من فضل وما فيهم من خير ، بل مهمة الداعية الإصلاح والقول لمن أحسن أحسنت وللمسيئ أسأت صديقا كان أو عدوا وموافقا أو مخالفا . وقد ذكر مسلم في أول صحيحه تعليقا عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم .
الحوار بالحسنى: ومن الوسط في الدعوة الحوار والجدال الحسن ، وهو من طرق الدعوة التى أمر الله بها حين قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) . والجدل الحسن هو الذي يكون الغاية منه إظهار الحق ولو كان ظهور ذلك على لسان الخصم . ومما جاء في أدب الحوار ما قاله الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) . ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه . وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) . ومن حسن الحوار الولاء للدليل والدور معه حيث دار ، إذ الحق مع الدليل والبرهان نقلا أو عقلا ، ولهذا كان من قواعد الحوار: " إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل" ، ومن كان رائده الدليل لم يتعصب لشخص أو جماعة أو طائفة . ومن حسن الحوار التواضع وخفض الجناح والسكينة والوقار، ولين الكلام وغض الصوت فإن رفع الصوت رعونة وإيذاء .
التعاون في الخير: وجماع هذا المعلم من معالم الوسطية ما قاله الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ، والمقصود منه أن الله عز وجل يأمر في هذه الآية البشرية جمعاء والمسلمون خاصة ، أن المعاونة والتناصر والمساعدة والاجتماع والتحالف يكون في الخير والمنافع والمصالح ولا يكون في الشرور والباطل والمضار . فإن كثيرا من الأعمال لا تتم بحهود فرد وإنما تحتاج إلى جهد جماعى وتعاون بين محموعات كثيرة أو قليلة من الناس . فهذه الجهود الجماعية بين البشر لا يصلح أن تجتمع على الإثم والعدوان بل ينبغى أن تجتمع على البر والتقوى . وهذا التعاون يحتاج إلى عدة أمور حتى يؤتي ثماره في ميدانين ميدان العلم وميدان العمل . فمن الناحية العلمية والنظرية لا بد من وضوح معانى الخير والبر ومعانى الشر والإثم والعدوان . ذلك أن هذه المعانى يغشاها كثير من التلبيس والطمس كما نرى في عصرنا الحاضر حين يسمى الشر بغير اسمه ويزين ويجمل كأنه خير ويسمى الخير بغير اسمه ويشوه ويعتم حتى يبدو للناس المنكر معروفا والمعروف منكرا . وقد قال الله تعالى " وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " . وقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: إن الإسلام بدأ غريبا، و سيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس . فمفاهيم الاسلام ومفاهيم الخير والبر غريبه تخفى حتى على المسلمين فما بالك بغيرهم . وقد قال ابن تيمية إن الإسلا م في غربته يحتاج إلى بيان وتوضيح مثل ما احتاج أولا .(36/343)
أما من الناحية العملية فقد َقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد فِي أَحْكَامه : وَالتَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى يَكُون بِوُجُوهٍ ; فَوَاجِب عَلَى الْعَالِم أَنْ يُعِين النَّاس بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمهُمْ , وَيُعِينهُمْ الْغَنِيّ بِمَالِهِ , وَالشُّجَاع بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيل اللَّه , وَأَنْ يَكُون الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَة ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ) , وَيَجِب الْإِعْرَاض عَنْ الْمُتَعَدِّي وَتَرْك النُّصْرَة لَهُ وَرَدّه عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ . يعنى أن كل فرد يعين الحق والخير بما يستطيع وبما عنده من قدرة بالعلم وبالجاه وبالمال وهكذا .
وقد كان الناس في الجاهلية الأولى يتعاونون ويتناصرون على أساس العصبية والولاء وكان شاعرهم يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت، وإن ترشد غزية أرشد
وغزية قبيلة فالولاء لها والعصبية لها حتى في الغواية والضلالة وليست للحق والرشد . وهذه هى أيضا حال الجاهلية المعاصرة ، فالولاء والتناصر ليس على أساس البر والتقوى إنما على أساس المصالح المادية والعصبيات القومية والعرقية والحزبية والطائفية . فالعمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، يقتضى نبذ هذه العصبيات ، العصبية للجنس والعصبية للوطن والعصبية للجماعة ، كل هذه عصبيات جاهلية والمسلم عصبيته للبر والتقوى وعصبيته ضد الإثم والعدون ، حتى ولو كان من جماعته وحزبه أو من قوميته وجنسيته . وقد روى البخارى وأحمد عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم " اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قِيلَ يَا رَسُول اللَّه هَذَا نَصَرْته مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرهُ ظَالِمًا قَالَ تَمْنَعهُ مِنْ الظُّلْم فَذَلِكَ نَصْرُك إِيَّاهُ " . هذه هى العصبية الإسلامية الصحيحة . وقد جاء في حديث موقوف صيحيح "لا تكونوا إمعة؛ تقولون : إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم : إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".(36/344)
والعمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان يقتضى أن يكون هذا بغض النظر عن الداعي للبر والتقوى حتى ولو كان غير مسلم . فقد قال الله تعالى أولا: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآن قَوْم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام أَنْ تَعْتَدُوا ) ، يعنى لا تحملكم عداوة الكفار وأفعالهم الشنيعة من صدكم عن المسجد الحرام عام الحديبية أن تعتدوا وتتجاوزوا العدل معهم ، ثم قال (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). وقد قال الرسو صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول الذي كان في الجاهيلة " لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، رواه الإمام أحمد بسند صحيح وجاء في رواية مرسله ولو دعيت به في الإسلام لأجبت. فمن العمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان أنه يمكن للسلمين أن يتعاونوا حتى مع غير المسلمين على أمور الخير والبر ومصالح الإسلام وأن يعقدوا معهم الاتفاقات ويشاركوهم في المؤتمرات والمنظمات التى تقصد الخير . وهكذا ترون أن قاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان قاعدة هامة وشاملة ونافعة . منهج التغيير الوسط: التمكن من تغيير الواقع والنجاح في ذلك يقتضى أمران وصف الله تعالى بهما منهج الانبياء في قوله: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) ، فنسب لهم خصلتان: قوة علمية نظرية من فقه وبصيرة ونظر وعقل وفكر سديد ، وقوة عملية تحول الفكر والنظر إلى واقع وفعل مشهود محسوس . وهذه القدرة على تغيير الأفكار والتصورات والقيم وتغيير العادات والمألوفات والأعمال كلها تحتاج إلى بصيرة نافذه بطرق التغيير ومنهجه . ومن ملامح ذلك القاعدة والسنة الإلهية التى قررها قول الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ، وهي توضح أن تغيير الواقع وتحسين الظروف المادية التى يعيشها الناس من رخاء وأمن وصحة وتمكين ونصر وغير ذلك ، كلها لا تحدث إلا إذا أحسن الناس إيمانهم وإسلامهم وعبوديتهم لله عز وجل . ولهذا فإن التغيير الإسلامي الحقيقي هو الذي يتجه إلى تغيير تدين الناس وتزكية أخلاقهم وإحسان صلتهم بربهم ، وهذا أولى الأولويات وما يكون من اهتمام بتنمية حياة الناس المادية فهو أمر مصاحب لتزكية النفوس وإصلاح القلوب عملا بقول الله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) .
وطرق تغيير الواقع تتنوع وتتعدد حسب الطاقة والقدرة ، وحسب الظرف والحال ، وتبدأ من كراهية النفس وضيقها بالظلم والمنكرات ، وهذا واجب مشترك بين كل الناس ، وتتدرج إلى التغيير بالخطاب واللسان والكتابة والبيان والطرق السلمية المختلفة . ويحتاج التغيير باليد والقوة إلى فقه وبصر وموازنة المصالح والمضار ، تضعه في مواضعه التى شرعها الإسلام ، وتراعى في استعمال القوة العدل وحفظ الحقوق . فمنهج التغيير الإسلامي وسط بين الركون إلى الظلم ، وبين التعدي على الناس وظلمهم حقوقهم . أما الركون فمذموم من الله لقوله فيه (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) ، والركون معناه الرضا بالشئ والسكون والميل إليه والاستناد والاعتماد عليه ، وفسره اِبْن زَيْد فقال : الرُّكُون هُنَا الْإِدْهَان وَذَلِكَ أَلَّا يُنْكِر عَلَيْهِمْ . أما العدوان فمذموم من الله أيضا وفيه نصوص كثيرة معروفة ، ويكفي في الخطأ في استعمال العنف في غير محله ، ما قصه الله عن نبيه موسى حين قال: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) . وإنما ندم موسى لأنه سفك دما بريئا وهو لم يؤمر بالقتل في تلك الحال .
آثر الوسط في ائتلاف الصف الإسلامي
لعل هذه الكلمات المختصرات في بيان معنى الوسط ومقوماته في العلم والعمل والدعوة ، قد أوضحت أهمية سمة الوسط وما فيها من مدلولات كثيرة جامعة . والمتأمل في هذه المعالم يمكنه أن يستنتج منها ثمراتها الطيبة المباركة ، وخيرها الكثير العميم . ومن ذلك الاستقامة على الحق ،(36/345)
وجمع الكلمة ولم شتات جماعات المسلمين وتياراتهم المختلفة ، وتوجيه همتهم إلى الهموم الكبرى والمشكلات العظمى ، وتقديم صورة مشرقة ونماذج حسنة للإسلام ترغب في الخير وتحض عليه وتشهد به على العالم كله أنه هو الحق والعدل والصلاح .
وائتلاف الصف الإسلامي هو من أهم آثار التحلى بالوسط والبعد عن التطرف والانحراف . ذلك أن البغى والظلم هو سبب الفرقة والاختلاف كما دلت على ذلك آيات كثيرة ، ومما هو مشاهد مجرب في واقع الناس وتاريخ الاسلام القريب والبعيد . ومن توجيهات القرآن في ذلك قول الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . ومن تعليقات سيد قطب على البغي الذي هو سبب الاختلاف قوله: " فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ; والمضي في التفرق واللجاج والعناد . وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب , القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى , أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق ."
والوسط يعنى العدل ونبذ البغي ، بكل صور ذلك مما أوضحته السطور السابقة في هذا البحث ، من منهج علمي سليم تكون غايته الدليل والبرهان لا العصبية للآراء والشخصيات والجماعات ، ومن حوار بالحسنى دون شطط ولا تطرف ، ومن تعاون على الخير والحق والمصلحة العامة مع كل أحد ولو كان غير مسلم فما بالك بالمسلم ، ومن انصاف في الحكم على الناس على اختلاق مراتبهم ، ومن تقديم المهمات والاولويات والهموم الكبرى على المصالح الصغيرة والمكاسب العاجلة الرخيصة .
والخلاصة أن الوسط وصف جامع مانع ، يعلو بمن تحقق به إلى مكانة سامقة من الخير والحق والعدل ، ويجعله أهلا لقيادة الناس والشهادة عليهم .
قد هيئوك لأمر لو فطنت له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
والحمد لله أولا وآخرا .
==============(36/346)
(36/347)
فقه أولويات الدين …
بقلم الأستاذ بسطامي محمد سعيد
يعيش المسلمون اليوم حياة مضطربة متقلبة متناقضة ، تتشابك فيها ألوان متنافرة وأمواج متلاطمة ، وتطبق عليهم فيها ظلمات بعضها فوق بعض . وتبدو هذه الحياة للناظر إليها كثوب مرقع مبرقع تختلط فيه أشتات من الشرق والغرب وتجتمع فيه ألوان الطيف كلها من شتى الثقافات والعادات والتقاليد . فمن ناحية هناك موروثات عهود الانحطاط من جهل وتقليد وعصبية وفوضى ، ومن ناحية هناك أهواء العصر من الحاد وانحلال ومادية وهوس بسفاسف الأمور . ولعل كل ذلك أثر من آثار اضطراب المعايير والموازيين التي تحدد للناس غايات حياتهم وأولوياتها.
فتجد المرء مثلا يفني عمره في نيل مطعم وملبس شعاره قول الشاعر:
دع المكارم لاترحل لبغيتها فإنك أنت الطاعم الكاسى
وصار همّ بعض الناس العلو في الأرض وحب الرئاسة والشرف وكأنه لم يسمع بالتحذير الذي رواه الامام أحمدعن كعب بن مالك أن صلى الله عليه وسلم قال: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " .
واضطراب الأولويات هذا ليس قاصرا على أهل الدنيا من الناس بل هو يعم كثيرا من أهل الدين علماء كانوا أو عامة . فكثيرا ما تختلط عند هؤلاء الجزئيات بالكليات والفروع بالأصول والفروض بالنوافل .
ومما لاشك فيه أن الدين كله قائم على مبدأ العدل والقسط والانصاف ، والعدل هو وضع كل شئ في موضعه دون زيادة ولا نقص ولا إفراط ولا تفريط . قال تعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَاب وَالْمِيزَان لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ " (الحديد: 25) . وقال: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " (الرحمن: 7-9) . والميزان هو المعيار الذي يقوّم به الحق والعدل وتعرف به حقائق الأشياء و توزن به مقاديرها وقيمها فيوضع كل شئ موضعه فتقوم حياة الناس بالقسط في كل جانب من جوانبها . هذا الميزان هو مودع في فطر الناس وهو مبين في كتاب الله وعلى لسان رسوله .
فالقرآن والسنة مشحونان ببيان حقائق الأمور ومراتب الاشياء و منازلها ، وفقه هذا الميزان أمر هام لإقامة حياة متوازنة تعرف لكل شئ حقه فتوفيه له وتنزل كل شئ منزلته . وهذا النوع من الفقه هو الذي نقصده بفقه أولويات الإسلام .
ونعمد الآن إلى شئ من التفصيل في غاية الاختصار . ونبدأ بأول الأولويات وأولاها .
ثبات الأصل
الإيمان هو أصل الدين . وبمقدار رسوخ هذا الأصل وثبات جذوره ، تعلو شجرة الدين وتستقيم ويستغلظ ساقها وتورق فروعها وتكثر ثمراتها ، كما قال الله تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " (إبراهيم:24-25) . والكلمة الطيبة في قول ابن عباس هي قول لا إله إلا الله ، وهكذا قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وغير واحد .
وأساس الإيمان هو العلم بالله تعالى ، وهو علم لا يقوم على المعرفة الذهنية الباردة ، ولا يستمد من دراسات علم الكلام التي ظهرت كأثر للجدل القائم بين الفرق وللرد على انحرافات تاريخية في عهود سابقة . وليس هو ما يطلق عليه بعلم التوحيد .
ليس الإيمان هو هذا ولا ذاك ولكنه العلم الذي يستمد مباشرة من القرآن والسنة ، ويعتمد على براهينها وأدلتها ، ويستهدي بتعريفاتها وتوضيحاتها . ومنهج القرآن في بيان الإيمان منهج فريد يعرف مداخل النفوس ومفاتيحها ، ويطرق القلوب ويؤثر فيها ويحركها ، ويجعلها حية فاعلة . وذلك تصديق قول الله تعالى: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الأنعام: 166) . يقول ابن كثير في هذه الآية: "هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا أي في الضلالة هالكا حائرا فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله " وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به والنور هو القرآن كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال السدي : الإسلام والكل صحيح " كمن مثله في الظلمات " أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة " ليس بخارج منها" أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه" .(36/348)
وليست هذه دعوة لطرح الاهتمام بالرد على الانحرافات العقدية الماضية أو الحاضرة ، ولا حث على الإعراض عن كتب التوحيد والجدل المتداولة المعروفة ، ولكنها تأكيد على أن هذه الكتب وحدها لا غناء فيها ، وأن أفضل الطرق لتصحيح الأيمان وترسيخه وتثبيته هي فهم القرآن ، والتفكر في عرضه لأيات الله في الكون والأنفس والآفاق ، وتدبر في تعريف الله عزّ وجلّ بنفسه ، وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى . وكم يتمنى المرء أن تعاد كتابة العقائد الإسلامية بهذا المنهج وبهذه الطريقة .
وكتب السنة ودواوينها قد أفردت الإيمان بفصول خاصة وأبواب معينة ، أوضحت حقيقة الإيمان من معين الرسو صلى الله عليه وسلم الصافي وبكلماته الجامعة المباركة النافعة . ومن كان كأن صلى الله عليه وسلم يتكلم إليه وكأنه معه يستمع إليه ، كان ذلك أدعى لنماء الإيمان في قلبه وزيادته لأنه يستمد من نبع طيب ويسقى بماء غير آسن .
وحقيقة العلم بالله إذا رسخت وثبتت كان الله حاضرا في قلب المؤمن يشهد فعله وأثره وصفاته في كل شئ وفي كل حين . وهذا الشهود هو أحسن مقاييس درجة الإيمان . وقس على ذلك شهود حقيقة الرسول وشهود حقيقة الآخره ومشاهدة مشاهدها كأنك تراها رأي العين .
وإذا كان الإيمان هو أولى الأولويات وهو المقدم على غيره من أمور علمية وعملية ، فينبغى على المؤمن أن يفحص دائما إيمانه ويفتش فيه ويسعى إلى تثبيته وترسيخه ، كما قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا" (النساء: 166) . قال ابن كثير: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة اهدنا الصراط المستقيم أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه " .
المنهج العلمي:
ومن أجل أن يتبين الحق والعدل الذي تقوم به حياة الناس بالقسط فلا بد من من منهج علمي سليم تتمايز به حقائق الأشياء وتقوم به قيم الأشياء ومراتبها لتوضع موضعها الصحيح . والقرآن والسنة قد أوضحا هذا المنهج أحسن توضيح .
من ذلك أنه لا بد لكل حقيقة أن تثبت بدليل وبرهان من عقل أو حس أو خبر . قال تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف: 179) . وقال: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء"36) . ولا يعتمد في اثبات الحقائق على الحدس والخرص والظنون . قال تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" (النجم: 73) . وعند التفكر في الحقائق ينبغي أن يتجرد النظر من هوى الأنفس إذ أن التفكير بالعاطفة يصرف عن الحق " إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى" .
ومن أكبر أسباب اضطراب حياة المسلمين تأثرهم بالمناهج العلمية والفكرية الجاهلية . فقد روى البخاري في صحيحه عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " فقد أثرت الفلسفة اليونانية على عقائد المسلمين وأثرت رهبانية الهند على التصوف وأثر مادية الغرب المعاصرة على كثير من اتجاهات المسلمين الحاضرة وخاصة اتجاه العصرانية . والمنهج الإسلامي السليم لا بد له من أن يتجرد من كل ذلك الغبش والركام .
لا عصبية:(36/349)
وافتراق الأمة شيعا وأحزابا متناحرة ما هو إلا أثر من إطراح المنهج العلمي السليم الذي عليه جماعة المسلمين ، كما قال الرسو صلى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن: " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة " . وبسبب العصبية والبغي والظلم بين هذه الفرق تتأجج نار الفرقة والإنقسام ولو ردوا التنازع إلى المنهج العلمي السليم لاهتدوا إلى الحق ، كما قال الله تعالى: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (البقرة: 213) .
وموقف المسلم من هذه الفرق أن يكون رائده الحق ، ولا شك أن الحق في الأمور الكلية والأصول واحد ولا يتعدد ، أما الأمور الجزئية فالتعدد فيه مندوحة . فليأخذ المرء من كل طائفة بأحسنها ولا يتعصب لشخص أو مذهب أو طريقة ، كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " (المائدة: 8) قال ابن كثير: وقوله تعالى " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا . وروى اليخاري في صحيحه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (انصر أخاك ظالما أو مظلوما). فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: (تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره). وفي أثر موقوف: " لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا " . والمسلم غايته الحق والخير فهو لهذا يأخذ بقول الله تعالى " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " (المائدة:2) ، فكل من أراد منك خيرا ووسعك ان تعينه فافعل إن من جماعتك وطائفتك أو من غيرها .
القلب مركز القيادة:
ومن الأولويات إصلاح القلب مركز قيادة الإنسان . ويكفي فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم " ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب." رواه البخاري . فقوام كثير من الأعمال على القلب وهي بغير القلب الصالح هباء منثور. فالنية مثلا هي الأصل لكل عمل كما جاء في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب قال سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . وهذا الحديث أصل في الإخلاص الذي لا يقبل عمل صالح إلا به . وكذلك أعمال القلوب الأخرى من التوبة والشكر والصبر ومحبة الله ومحبة رسوله والحب في الله والبغض في الله ، فكل الناس ينبغي لهم أن يتحلوا بها وإلا كانوا مظاهر جوفاء وخواء كما وصف الله أقواما فقال: " وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ " (المنافقون:4) . قال القرطبي: " شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون , أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام ."
الصلة بالله
ومن أولويات الدين والقدر المشترك بين الناس جميعا إحسان الصلة بالله تعالى وذلك باستحضار ذكره بالقلب وباللسان وبالعمل في كل حين . وهكذا كان دأب الرسو صلى الله عليه وسلم كما روت عائشة قالت: " كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه." رواه مسلم .
الفروض والواجبات
والفروض العينية واجب مشترك على كل الناس ، وكل من تعين عليه واجب عليه الإهتمام باتيانه وتقديمه على ما سواه وكثير من التفريط يأتي من الاشتغال بفرض مع تضييع فرائض أخرى أو الاشتغال بالنوافل والسنن مع التفريط في الفروض ، كمن يشتغل بكسب عيشه على حساب حقوق أهله وأولاده أو من يشتغل بمصالحه الخاصة على حساب مصلحة المسلمين العامة . وفي الصحيح " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " (رواه البخاري ) . ويأتي على رأس هذه الفروض الأركان الأربعة الصلاة والصيام والحج والزكاة .
تنوع أعمال الخير وتفاضلها(36/350)
ثم تتنوع أعمال الخير حسب مقدرات الناس ومؤهلاتهم وأنواع أصنافه كثيرة فمن له منها باب فليجتهد فيه وليتخصص فيه ، ومن هذا المنطلق لا لوم على كثير من طوائف المسلمين التي اختصت كل طائفة منها بنوع من الخير وأصبحت سمة مميزة لهم دون غيرهم ، ولا بأس أن يشتغل بعض الناس ببعض الجزئيات إذ كثيرا ما لا يستطيع كل الناس أن يسبقوا في أنواع الخير وإن كان لا شك أن من تكاملت فيه خصال الخير وبلغ في ذلك الشمول أنه يفوق غيره في الفضل والمكانة والخيرية . وليس أدل على ذلك من حديث الرسو صلى الله عليه وسلم في أبواب الجنة . فقد روي البخاري ومسلم أن أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
وتتفاضل أعمال الخير بحسب النفع ، فإن كان النفع قاصرا على نفس العامل كان أقل من العمل الذي يتعدى نفعه وكلما اتسعت دائرة النفغ كان العمل أفضل وأعلى درجة من غيره . ولهذا كان الإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع من أفضل الأعمال . ويحتج لهذا بنصوص كثيرة منها قول النبي "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله" رواه أبو يعلى .ولهذا كانت الصدقات وتعليم العلم والدعوة إلى الخير من أنفع الأعمال وأبقاها . وقد قال رسول الله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم . وقال "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء . وقال "إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير وقال : إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها . وقال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له .
وتحليل الحلال وذلك بإتيانه معتقدا حله دائرة واسعة تشمل أنشطة كثيرة من الحياة . وفي صحيح مسلم { أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان. وأحللت الحلال وحرمت الحرام. ولم أزد على ذلك شيئا. أأدخل الجنة؟ قال: "نعم" قال: والله! لا أزيد على ذلك شيئا. }. ومن هذا الباب الحديث الصحيح أن ناسا من أصحاب صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ! ذهب أهل الدثور بالأجور. يصلون كما نصلي. ويصومون كما نصوم. ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن منكر صدقة. وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله ! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا". وإذا انضم إلى احلال الحلال ودائرة المبح نية صالحة كان العمل عبادة صالحة مرضية
وتتفاضل أعمال الخير بحسب الوقت والحاجة كما قال الله تعالى " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " (الحديد: 10) . فالإنفاق والدعوة في وقت الشدة والضيق أفضل من وقت اليسر والنصر .
أفضل العمل
ونختم بقاعدة جامعة من كلام ابن القيم وهي:
"إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن . والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل . والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار . والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به . والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن . والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل . والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك(36/351)
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبدالله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت
فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب إياك نعبد وإياك نستعين حقا القائم بهما صدقا ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه"
والله المستعان وعيه التكلان
=============(36/352)
(36/353)
نظريات الحاكمية في الفكر الإسلامي
بقلم الأستاذ بسطامي محمد سعيد خير
الحاكمية من المصطلحات السياسية المعاصرة الشائعة، ويفهم الناس عموما أنها السلطة والمشروعية العليا التى تحكم أي دولة. ومن المعلوم أن الحاكمية مفهوم غربي معروف في الفكر السياسي الغربي، وهناك نظريات غربية كثيرة عن تعريفه وتحديد صاحب الحق الذي يملكه. وقد أفردت للحاكمية مساحة كبيرة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
وقد اعتبرت الحاكمية من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي، وسعت كثير من حركات تطبيق الشريعة الإسلامية إلى تضمينها في دساتير الدول المسلمة. فما الحاكمية؟ وهل هي مفهوم سياسي مستحدث عند المسلمين المعاصرين أم أن لها أصولها عند سلفهم؟ ولمن الحاكمية في الدولة المسلمة؟
هذه الأسئلة هي ما سيحاول البحث التالي الإجابة عليها. ولأن مبدأ الحاكمية كما عرفه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر أثر من آثار الفكر الغربي، فسيبدأ البحث بتعريف الحاكمية في الفكر السياسي الغربي، واستقراء النظريات المتعددة التي ساهمت في بلورة معناه. ويتجه البحث بعد ذلك إلى تعريف لفظ الحاكمية في اللغة واستعمالاته في القرآن والسنة، ثم ينظر في مفاهيم المسلمين المتقدمين للسلطة العليا في الدولة المسلمة، وذلك بتحليل مفاهيم الإمامة والإمارة والخلافة وتعريفاتها عند فقهاء الإسلام. ثم يحاول البحث بعد ذلك تتبع تطور فكرة الحاكمية المعاصرة عند المسلمين، ودراسة الآراء المختلفة التي ظهرت عند مفكريهم المعاصرين عن تعريفها، منذ ظهور المصطلح عند المفكرين الأتراك في القرن التاسع عشر، إلى فكر رشيد رضا وحسن البنا المودودي وسيد قطب وغيرهم ممن أسهموا في الكتابة عنه. ثم يخلص البحث إلى تمحيص الحقيقة من بين هذه الآراء المتنوعة، وتحديد ما إذا كان مصطلح الحاكمية اصيلا أم دخيلا، وما إذا كان دقيقا جامعا مانعا أم عاما مضطربا.
الحاكمية في الغرب
التطور التاريخي
ظهرت فكرة الحاكمية المعاصرة في الغرب في نهاية القرن السادس عشر الميلادي/ التاسع الهجري، وقد تأثرت نظرياتها بالظروف الخاصة التى كانت تعيشها أوربا في تلك الحقبة من تاريخها. ومن أجل أن تتبين النظرة الغربية للحاكمية لا بد من فهم العوامل التي صاحبت نشأتها وكونت صياغتها. ومن أهم تلك العوامل ميلاد الدولة القومية العلمانية وتمليكها الحق المطلق في تشريع القانون.[1] فقد أدى إحياء المبادئ اليونانية والرومانية القديمة في أوربا، وسعيها لتقليص سلطان الكنيسة المطلق، إلى تجديد مبدأ القانون البشري _ أو ما سمي بالقانون الوضعي. وبانتصار فكرة القانون الوضعي أوحق البشر في وضع قانون لأنفسهم، اتجه البحث إلى من يملك هذا الحق، فظهرت نظريات الحاكمية من أجل تقديم إجابة على هذا السؤال الأساسي. وصاحب هذا التطور في النظرة الأوربية لمصدر القانون، تطور آخر لا يقل أهمية عنه، وهو ميلاد الدولة القومية العلمانية، التى كان لها أكبر الأثر في صبغ نظريات الحاكمية الغربية بصبغتها. ففي تلك الفترة من تاريخ أوربا ضعف سلطان البابا والامبراطور، وتضعضع النظام الإقطاعي، وتضاءلت مع ذهابه قوة الأمراء ملاك الأراضي الإقطاعيين المحليين، وازدادت مكانة الملوك في أقطارهم المختلفة. وهكذا تجمعت في أيدي الملوك سلطة مطلقة، بعد أن أصبحوا أعلى سلطة محليا، وبعد أن نالوا استقلالهم من سلطان القوى الخارجية. ومما ساعد على ازدياد سيطرة الملوك المطلقة على بلدانهم، حاجة دولهم إلى سلطة مركزية قوية تتمكن من القضاء على الحروب الأهلية والدينية التى كانت سائدة آنذاك، وتستطيع توفير الأمن والسلم في المجتمع. وفي هذه الظروف ظهرت نظرية الحاكمية وسعت لتقديم مسوغات لدعم سلطان الملوك المطلق. ومن الملاحظ أن الحاكمية في بادئ أمرها، قد وصفت بنفس خصائص الملكية المطلقة، من علو سلطتها واستقلالها وإطلاقها من كل قيد.[2](36/354)
ويرجع فضل صياغة أول تعريف للحاكمية للمفكر السياسى الفرنسي جين بودين، في كتاب له عنوانه (الجمهورية) ظهر في عام 1567 م/974 ھ. فقد اراد بودين تأييد سلطة الملكية الفرنسية للخروج من أزمة الصراعات الداخلية المشتعلة تلك الفترة، فأضفى عليها حقوقا كثيرة منها الحق المطلق للتشريع. ولكن البعض يرى أن بودين قد وقع في تناقض بسبب الفكر السائد في عصره، إذ وصف حق الملكية في التشريع بالإطلاق، وفي نفس الوقت جعله مقيدا ولو نسبيا بالقانون الإلهي[3]. ولقد استطاع الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، أن يتخلص من هذا الولاء المزدوج لمبدأ التشريع الوضعي البشري ومبدأ التشريع الإلهي، حين جعل الدولة مؤسسة تعلو فوق المجمتع كله، بجميع أفراده ومؤسساته بما فيها الكنيسة، وخوّل للدولة كل أنواع القوة والسلطة ومنها حق مطلق لتشريع القانون، وحررها من كل قيد عليها حتى الأخلاق، لأنها هى التى تضع معايير الأخلاق ومقاييس الحسن والقبح. فصارت الدولة في رؤيته وحشا ضخما يتوحد فيه المجتمع بأكمله ويذوب في شخصه حسب نظرية العقد الاجتماعي[4]. ومن أجل هذا صوّر هوبز الدولة بوحش أسطورى مذكور في الإنجيل باسم ليفتيان، وجعل ذلك عنوانا لكتابه الشهير الذي ظهر في عام 1651 م/ 1061 ھ.
وكان التطور التالي في تاريخ الحاكمية في القرن الثامن عشر الميلادي / الحادي عشر الهجري على يد مفكر الثورة الفرنسية جان جاك روسو، الذي أعاد صياغة النظرية وأعطاها تعبيرا جديدا. فبعد أن كانت المشكلة في أقطار أوربا القومية الناشئة، هى تقوية الملكيات المحلية في مواجهة قوى البابوية والامبراطورية، أصبجت المشكلة الجديدة هي استبداد الملكية التى تجمعت في يدها سلطة مطلقة غير مقيدة. ومن أجل الحد من سلطتها اتجهت النظريات السياسية إلى إحياء فكرة االديمقراطية، وإرجاع الحقوق إلى الرعية والشعب. وفي هذه الظروق صاغ روسو نطريته للحاكمية في كتابه المشهور العقد الإجتماعي، الذي نشره في عام 1756 م، جاعلا الشعب المالك الأصلي للسلطة في الدولة والمصدر الحقيقي للقانون والتشريع، متمثلا في إرادته العامة التى وصفها بالعصمة من الخطأ، ونسب لها إصابة الحق والعدل دائما، مدعيا أن "صوت الشعب هو في الحقيقة صوت الإله".[5] ومصطلح إرادة الأمة العامة تعبير عام وغير دقيق، ولا يمكن تحديده بدقة، وإن كان قد ترجم عمليا ليعني الانتخابات والاستفتاء وغيره من طرق للتعبير عن اختيار الأمة.
ثم جاء المفكر القانوني الإنجليزي جون أوستن، فنقل نظرية الحاكمية إلى طور جديد. وقد كان اهتمام أوستن في مجال التشريع، ولهذا اعتبر الحاكمية بأنها هي مصدر القانون الذي عرفه بأنه أمر محدد من سلطة عليا واجب الطاعة، وتوقع عقوبة على من لا يطيعه. وفي رأي أوستن أن الحاكمية لا بد أن تكون بيد جهة محددة، سواء كان ذلك فردا أو جماعة.[6] وقد ترجمت نظرية أوستن عمليا في بريطانيا، بأن البرلمان هو الذي يملك الحاكمية لأنه هو مصدر التشريع والقانون.
خصائص الحاكمية
رغم تنوع نظريات الحاكمية في الغرب، واختلافها حول الجهة التي تملكها، إلا أنها كلها تجمعها خصائص وسمات واحدة، يتبين من النظر فيها حقيقتها وطبيعتها. فأول خاصية أن الحاكمية من سمات الدولة الغربية المعاصرة، التى حولتها ظروف نشأتها - كما ذكر سابقا - إلى مؤسسة قومية علمانية، يحكمها قانون وضعي بشري. ولعل أهم خاصية للحاكمية أنها أعلى سلطة في الدولة التي تملك "الحق المطلق للأمر"، كما وصفها به بودين؛ أو بعبارة أخرى أنها مركز إصدار القرار في الدولة. ولا شك أن هذا يشمل كل قرار في المسائل الخاصة والعامة، ومن أهم هذه الأوامر التي تتمتع بها سلطة الحاكمية إصدار القانون والتشريع، بل إن ذلك - كما يقول بودين - هو أهم ما يميز الحاكمية، وكل خصائصها الأخرى ما هي إلا تبع لهذه الخاصية الأساسية.[7] ومن توابع إصدار الأوامر إيجاب طاعتها من قبل الرعية على كافة المستويات دون استثناء، وتتاسس هذه الطاعة المطلقة على دوافع كثيرة، لعل من أهمها أن الدولة تملك القوة والشوكة التي تردع بها من يخرج عن حدود الطاعة، متثملة في الجيش والشرطة. وإذا كانت هذه طبيعة الحاكمية، فقد وسمت بسمات عديدة، منها أنها أعلى سلطة ولا يعلوها شئ، وأنها السلطة النهائية التي لا ينقض أمرها شئ، وأنها مطلقة لا يحدها شئ، وأنها مستقله عن غيرها لا يؤثر في قرارها شئ. ومن صفات الحاكمية أيضا أنها معصومة عن الخطأ والظلم، فهي تصيب دائما الحق والعدل، ومن صفاتها أيضا أنها خالدة أبدا لا يحدها زمان، ومنها أيضا أنها متوحدة لا تتعدد ولا تتوزع.[8]
لمن الحاكمية؟
هذه صورة الحاكمية كما تصورها مفكرو الغرب في بادئ أمرهم، وهذه صورة مثالية من الصعوبة تحققها في الواقع، وقد اهتزت هذه الصورة ووجه إليها نقد مر سيأتي عرض له لا حقا. وحتى تكتمل الصورة بقيت الإجابة على سؤال هام شغل المفكرين الغربيين كثيرا، وذلك هو لمن الحاكمية؟(36/355)
وقد تعددت الإجابات واختلفت الآراء في صاحب الحق في الحاكمية. الرأي الاول: ذهب بودين وهوبز ومفكرو الحاكمية الأوائل، أنها في من حق الملك.[9] وفي حقيقة الأمر ما ظهرت نظريات هؤلاء إلا لتثبيث الملكية، وحقها في امتلاك السلطة المركزية كلها، من أجل استقرار الحكم في وجه الحروب الداخلية والمخاطر الخارجية. الرأي الثاني: أن الدولة وليس الملك هي صاحبة الحق في الحاكمية، وقد شاع هذا الرأي عند الطبقة الثانية من مفكري الحاكمية، عندما انحسر الحماس والولاء للعوائل المالكة، حتى استقر في عرف الناس الآن أن الحاكمية من أخص خصائص الدولة.[10] الرأي الثالث: ان الشعب هو صاحب السلطة العليا. ومما لا شك فيه أن فكرة أن الشعب هو مصدر السلطات تمتد جذورها في التاريخ القديم، وقد ادعاه القدماء وبلوره اليونانيون في نظمهم الديمقراطية. ولكن مع شيوع المبدأ فإن له تفسيرات كثيره، حتى إن الملكيات كلها تدعي أنها تحكم باسم الشعب وتأخذ تفويضها منه. وقد وجد مذهب حاكمية الشعب تعبيرا معاصرا في أفكار روسو، حتى أنه بات لا يعرف إلا معزوا إليه. ولكن روسو كان يرى حاكمية الشعب بصورة مثاليه مباشرة، ولم ير تفويض سلطتهم لا لمجلس ولا لفرد، وكان يسخر من النظام البرلماني الإنجليزي ويصفه بعين العبودية ومجافاة الحرية.[11] الرأي الرابع: أن المجلس المنتخب من الشعب - أو البرلمان- هو صاحب الحاكمية، وقد نصر هذا الرأي أوستن وتمثل عمليا في النظام السياسي الإنجليزي.[12] الرأي الخامس: أن الحاكمية لله، وهذا ما تبناه اللأهوت المسيحيي عموما، وإن كان قد وجد تفسيرات مختلفة، من أهمها أن البابا هو صاحب السلطة، وقد ساد هذا الرأي في القرون الوسطى وعليه قامت الحكومات الثيوقراطية.[13]
نقد وتقويم
لم يلق مبدأ الحاكمية في تصورة التقليدي المثالي السابق قبولا، بل واجه نقدا مرا خاصة في المائة السنة الماضية، حتى ذهب البعض إلى رفض الفكرة من أساسها.[14] ويقوم هذا النقد على أساسين: أولها أن التطورات السياسية في كثير من البلدان قد غيرت طبيعة الدولة، حتى صار من الصعب الإدعاء بأن فيها سلطة مركزية مطلقة كما تزعم نظرية الحاكمية. ومن هذه التطورات المشكلة لفكرة الحاكمية قيام دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي اعتمدت مبدأ اللامركزية ووزعت سلطة الدولة المركزية إلى عدد كبير من الحكومات الإقليمية، يتمتع كل منها بحاكمية شبه مستقلة.[15] ومن أجل التوفيق بين هذا الوضع الجديد ومبدأ الحاكمية التقليدية قدمت تفسيرات عديدة، منها فكرة توزع الحاكمية التي تبناها الدستور الأمريكي، ومنها الإدعاء بأن الحاكمية يمكن أن تحد من سلطتها المطلقة بنفسها، ومنها التفرقة بين الدولة التي تتمتع بالحاكمية المطلقة، وبين الحكومة التي هي مؤسسة تحت الدولة ويمكن أن تتوزع سلطاتها.[16] ومهما تكن التفسيرات فإن من الواضح أن نظرية الحاكمية بصورتها التقليدية غير واقعية.[17]
ومن المتغيرات التي أثرت على فهم طبيعة الحاكمية شيوع فكرة التعددية داخل الدولة، التي تتيح لمؤسسات كثيرة داخل الدولة، من دينية وعرقية وثقافية مزيدا من الاستقلال والمشاركة في صنع القرار. وقد هاجم المدافعون عن التعددية فكرة الحاكمية، لأنها لا تطابق واقع الحياة السياسية والقانونية المعاصرة التي لا يصدر القرار فيها من مركز ذي سلطة مطلقة، بل يأتي نتيجة ضغوط وتنازلات من جهات متعددة. فالمركز في نظرهم ليس إلا راصد يستجيب لرغبات مؤسسات المجتمع المختلفة.[18] ومما غيّر النظرة لطبيعة الحاكمية تطور القانون الدولي، الذي كان من الصعب معه قبول فكرة حاكمية الدولة القومية وسيادتها المطلقة في إصدار القانون، فإما أن يقر بعلو القانون الدولي على القانون المحلي القومي لكل دولة حفاظا على حاكميتها وسيادتها، وإما أن يقر بعلو القانون القومي للدولة مما يعني أن القانون الدولي لا وجود له.[19] ومن الاعتراضات على مبدأ الحاكمية من ناحية أخلاقية، أنها تسوغ الاستبداد بإصرارها على جمع السلطة كلها بصورة مطلقة ومستقلة بيد المركز. ويعبر عن ذلك أحد المفكرين فيقول: "إن الحاكمية والاستبداد قد صبا معا في نفس القالب، ولا بد من الخلاص منهما جميعا".[20]
وفي وجه كل هذه الاعتراضات لم تستطع الحاكمية أن تصمد في صورتها التقليدية، وحاول بعضهم إعادة صياغتها من أجل أن تتواءم مع المتغيرات المعاصرة الكثيرة. وأهم هذه الاتجاهات الحديثة في نظرية الحاكمية، تصتيفها وتوزيعها إلى أنواع متعددة، مثل الحاكمية السياسية، والتشريعية، وغيرها من التقسيمات.[21] ومع كل هذا الزخم والجدل الدائر والنقد، استمر المناصرون للحاكمية في الدفاع عنها برد الاعتراضات المثارة ضدها والتمسك بها،[22] حتى أضحت الحاكمية عقيدة لا يمكن التخلي عنها، رغم وهنها وضعفها.
الحاكمية عند علماء المسلمين المتقدمين(36/356)
إذا كانت أوربا قد عرفت مصطلح الحاكمية بالمعاني التي سبقت مناقشتها، فإن البحث الآن يتجه إلى معرفة رأي الإسلام في ذلك المصطلح وما يحمله من مفاهيم. ولعله من المفيد تقسيم البحث في ذلك إلى قسمين: الأول ينظر في آراء علماء المسلمين قبل اتصال العالم الإسلامي بأوربا وتأثره بها، وهو ما يمكن أن يصطلح عليه لغرض هذا البحث بلفظ المتقدمين. أما القسم الثاني فينظر في آراء علماء المسلمين المعاصرين وخاصة أولئك الذين عاشوا خلال الثلاثمائة سنة الأخيرة.
لعله من الواضح أن علماء المسلمين المتقدمين لم يعرفوا الحاكمية بهذا اللفظ ولا توجد في معاجم اللغة كذلك، فهي لفظ جديد اشتقه المعاصرون واستخدموه. ومن هنا ينشأ السؤال هل عرف المتقدمون المفهوم وإن لم يستعملوا له لفظ الحاكمية أم أن المصطلح وما يحمله من مفاهيم أمر جديد بالكلية؟ هذا ما يحاول البحث الآن استقراءه. وسيكون المنهج المتبع النظر في آراء الأوائل وأقوالهم وتحليلها ومحاولة فهمها كما هي، إذ من الخطأ الذي قد يقع فيه كثير من المعاصرين، إعادة قراءة أقوال الأوائل وتفسيرها في ضوء مفاهيم العصر، وإلباسها لباسا غير الذي أرادوه. فهذا منهج لا يصل بالمرء إلى الحقيقة، بل لا بد من ترك االمتقدمين يتحدثون بلسانهم وفهم ما أرادوه وسبر غور دلالاته ومعانيه، وإلا كان المرء متقولا عليهم ما لم يقصدوه، وقارئا لأفكاره في أقوالهم.
حقيقة الملك والخلاقة
أول ما يطالع المرء في كتابات الأوائل تعريفهم لحقيقة السلطة الحاكمة على المجتمع البشري، فقد رأوا أن الاجتماع ضرورة بشرية، ولا يتحقق حفظ مصالح الناس ودفع شرورهم بين بعضهم البعض إلا بوازع وحاكم، تكون بيده قوة قاهرة تستطيع أن تخضعهم لسلطته، لا تعلوها قوة ولا تغلبها. ويكفي هنا اقتباس ما قاله ابن خلدون حين قال:
" الملك منصب طبيعي للإنسان، لأنا قد بينا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم... واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم، ولا بد في ذلك من العصبية... وليس الملك لكل عصبية، وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعثوث ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده يد قاهرة،وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور."[23]
ويقسم ابن خلدون الملك إلى ثلاثة أنواع: ملك طبيعي لا يقوم على قانون، وملك سياسي يقوم على قوانين عقلية يرتضيها كافة الناس، وملك شرعي يقوم على شريعة منزلة من الله تعالى. ويخلص من ذلك إلى أن الخلافة الإسلامية هي النوع الثالث من الملك. يقول ابن خلدون:
" لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر... كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق ... فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة ينقادون إلى أحكامها، كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم، وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها... فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية. وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها، كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة... وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء، ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء. فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة، وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية... فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع، في حراسة الدين وسياسة الدنيا به."[24]
فمن الواضح أن لفظ الملك هو المصطلح الذي يستعمله علماء المسلمين الأوائل للسلطة الحاكمة للمجتمع، وحقيقته - كما بين ابن خلدون - قوة ليس فوقها قوة، و"ليس فوق يدها يد"، تستطيع أن تخضع الناس لطاعتها، لأداء وظائفها في حفظ مصالح الناس ودفع شرورهم. ويكون هذا الملك إسلاميا إذا التزم القوانين والشريعة المنزلة من الله عز وجل، وهذه هي التي اصطلح على تسميتها بالخلافة، كما أطلقت عليها مصطلحات الإمامة والإمارة. ويتجه البحث الآن إلى النظر في تعريفات الخلافة، لتتبين منها حقيقتها وطبيعتها وصفاتها وخصائصها.(36/357)
لعله يحسن البدء بتعريف الماوردي، الذي يصفها بأنها (خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا)[25]. فهذا التعريف يشمل ثلاثة أركان. الأول أن الخلافة في الأساس خلافة للنبوة، إذ أن من مهمة الأنبياء أن يسوسوا الناس ويحكموهم، كما جاء في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون)[26]. ولقد لقب أبوبكر رضي الله عنه بلقب خليفة رسول الله لأنه كان أول خليفة، ثم سمي عمر رضي الله عنه بخليفة خليفة رسول الله.[27] ويبدو أن هذا رأي مقبول عند السلف، وقد رفض بعضهم صراحة أن تكون الخلافة خلافة لله[28]. أما الركنان الثاني والثالث فيبينان وظيفة الخلافة وواجباتها بإجمال. فأهم وظائف الخلافة إقامة الشريعة وتمكينها والمحافظة على أسسها، فالسلطة السياسية في الإسلام تنبع من الدين وعليها أن تحرسه وترعاه، ومن عبارات السلف في ذلك قولهم (الدين أس والسلطان حارس). ويؤكد الماوردي هذه العلاقة بين الدين والسلطة السياسية حين يقرر أن الدين دون سلطة سياسية معرض للاضمحلال والزوال، وإذا انفصلت السياسة عن الدين انقلبت إلي استبداد وطغيان.[29] ولكن ليست غاية الخلافة تمكين الدين فحسب، بل إن من وظائفها الهامة سياسة الدنيا وعمارتها.
وتتبين حقيقة الخلافة وطبيعة سلطتها وخصائصها من تعريفات أخرى لها. فمن هذه الخصائص أنها سلطة عامة، ولهذا قد وصفت بالولاية العامة. ومن التعريفات التي توضح هذه الخاصية تعريف التفاتازاني الذي يصفها بأنها (رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم )[30]. وتظهر خاصية العموم من تعريف الجويني الذي يقول: (الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا).[31] ومن الخصائص أيضا أن الخلافة هي أعلى سلطة بحيث لا يكون فوق يدها يد، ولعل هذا قد اتضح من تعريف ابن خلدون لحقيقة الملك حسب ما ورد آنفا، ويشير إليه تعريف القاضي عبد الجبار الذي يذكر أن الإمام لغويا تعني المقدم على غيره، وفي الإصطلاح تدل على من بيده الولاية على الناس والتصرف في أمورهم بحيث "لا يكون فوق يده يد".[32]
ومن خصائص الخلافة التي يقررها الجويني أيضا الاسقلال، فهو يشترط هذه الصفة ويرى أنها ضرورية لتؤدي الخلافة وظيفتها، وإن كأن عليها أن تلتزم بالشورى حتى لا تتصف بالاستبداد، إذ أن الاستقلال في رأيه لا يعني الاستبداد.[33] أما الرازي فقد أضاف في تعريفه خاصية أخرى نبهت لأمر هام حين قال: (الإمامة رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص من الأشخاص)، فأضاف أنها سلطة يحوزها شخص واحد، وسبب هذا القيد كما ذكر أنه (احتراز من كل الأمة)، والظاهر أنه يقصد بهم أهل الحل والعقد، لأن رياستهم فوق الإمام إذ بيدهم سلطة اختياره وسلطة عزله.[34] وهذا نظر ثاقب إلى السلطة التى تتمتع بها الأمة فوق سلطة الإمام، وإن كانت سلطته أيضا عامة وعليا.
وهكذا يتضح من هذه النقاش أن علماء المسلمين المتقدمين قد أبانوا حقيقة سلطة الخلافة وخصائصها، ووصفوها بالعموم والعلو فوق كل سلطة بحيث لا يكون فوقها سلطة، إلا سلطة الأمة التى لها حق اختيار الخليفة وعزله.
الحاكمية عند علماء المسلمين المعاصرين
يتجه البحث الآن إلى علماء المسلمين الذين بحثوا مسألة الحاكمية، بعد هيمنة الفكر الأوربي على العالم الإسلامي، وتأثيرها عليه بفكرها السياسي خلال الثلاثمائة سنة الماضية. وسوف يتناول البحث المفكرون في الأقطار الثلاثة التي كانت رأس الرمح في نشر الفكر المعاصر، وذلك بطبيعة احتكاكها المبكر بالغرب وبثقافته وفكره، وتلك الأقطار هي تركيا وشبه القارة الهندية ومصر.
المفكرون الأتراك(36/358)
يبدو أن أول من تحدث عن الحاكمية في هذا العصر الحديث هم المفكرون الأتراك، وسبب ذلك أن تركيا كانت من أوائل المتأثرين بالفكر الغربي في أواخر عهد الدولة العثمانية. ولعل أول من بحث الحاكمية من مفكري الأتراك المعاصرين الصحفي نامق كمال (1840-1880)، أحد مؤسسى جمعية تركيا الفتاة ومن قادتها البارزين.[35] وليس لنامق كمال كتاب واحد يضم فكره، إنما بثه من خلال مقالاته الصحفية المتعددة. كان نامق كمال متأثرا بأفكار الثورة الفرنسية إذ قد عاش فترة في باريس، وكان يؤمن بمبدأ حاكمية الشعب الذى نادى به روسو، ولكنه سمّاه حاكمية الأمة بدلا من الشعب، وإن كانت نظرته له تختلف عن النظرة الغربية في نواحي عديدة. فقد ناهض نامق كمال الحكم الاستبدادي المتتمثل في سلاطين الدولة العثمانية، ورأى أن الحكومة الصالحة إنما تتأسس باختيار الشعب عن طريق البيعة، التي يتم فيها تفويض السلطة إلى الحكومة، التى رأى أن من أهم واجباتها المحافظة على الحرية الفردية. [36] وفي إجابته على التسأؤل عن كيف يمكن للحكومة أن تحافظ على الحرية الفردية، ظهر الفارق بين تفكيره والتفكير الغربي السائد؛ ففد ذهب نامق إلى أن الضمان الوحيد للحرية الفردية هو القانون، ولكن مصدر القانون في نظره ليس هو الإرادة العامة للأمة كما زعم روسو، لأن مفهوم الإرادة العامة غير محدد وغامض، وليس مصدر التشريع إرادة الأغلبية لأنها يمكن أن تستبد وتتسلط على الأقلية، إنما ينبغي أن يكون مصدر التشريع مصدرا خارجيا، له القدرة على تحديد الحسن والقبيح، وذلك المصدر عند المسلمين ما هو إلا الشريعة الإسلامية.[37] وبهذا التمييز فإن حاكمية الشعب أو الأمة في رأي نامق كمال مهمتها أن تحمى العدالة ولكنها لا تكون مصدرا لها، "لأن الظلم ظلم ولو كان قد شرع ومورس بموافقة الشعب كله"[38]، وهو بذلك يتوافق مع جذور تفكيره الإسلامي، وإن كان قد اقتبس فكرة الحاكمية من الغرب.
أما المفكر التركي الأخرالذي ناقش مسألة الحاكمية في ذلك العهد الباكر، فهو على سعاوي أحد المعاصرين لنامق كمال ومن المؤسسين أيضا لحركة تركيا الفتاة. وقد وقف علي سعاوى من مسألة الحاكمية موقفا مغايرا لنامق كمال، وهاجمه في فكرته عن حاكمية الأمة، وذهب إلى أن الحاكمية بمفهومها الغربي الحديث لا يستحقها إلا الله عز وجل، وهكذا كان أول من نادى بأن الحاكمية لله. يقول على سعاوي في مقال له عنوانه (الحاكم هو الله)[39]:
هناك مصطلح جديد نال شهرة كبيرة، وهو المصطلح الذي أطلق عليه اسم حاكمية الشعب، وكلمة حاكمية أصولها بالفرنسية كلمة "سوفرنتى" المشتقة من اللاتينية... وإذا تمعنا في معناها وجدناها تعنى "الفعال لما يريد" أو " الحاكم بنفسه" أو "الآمر المطلق" أو "الفاعل المختار". حسنا! من هذا الذي يحكم بنفسه وله سلطة الأمر المطلق؟ لا شك أن ذلك لا يمكن أن ينسب لأي شئ غير الألوهية، وعليه فإنه من المستحيل بهذا المعنى أن يملك أي بشر سلطة الحاكمية.
وهكذا من الملاحظ نشأة اتجاهين في التفكير الإسلامي المعاصر عن الحاكمية، اتجاه جعلها من حق الشعب أو الأمة، واتجاه حصرها كلية في الله وجعلها من خصائصه. وظل الفكر السياسي الإسلامي حبيس هذين الموقفين يراوح بينهما ولا يعدوهما بين مفكر وآخر.
وينبغي هنا أن يضاف إلى ذلك موقف آخر جعل الشريعة هى الحاكمة، لعله امتداد لفكرة حاكمية الله، وقد عبر عن هذا الموقف في عهد مبكر المفكر التركي الأمير سعيد حليم باشا (1863-1921). وقد جاء ذلك في عدد من مقالاته، من أهمها مقال له نشره بالفرنسية قبيل اغتياله بعنوان (إصلاح المجتمع المسلم).[40] من الواضح أن المقال كان قد كتب بعد أن شاهد الأمير ذيوع وغلبة العلمانية على الدولة العثمانية، ومن ذلك مبدأ حاكمية الشعب، فنقد ذلك نقدا مرّا، ووصفه بأنه أسطورة مثل الأساطير الأخرى التى قدمها الغرب عن الحاكمية . وقدّم الامير سعيد مفهوم حاكمية الشريعة بدلا عن حاكمية الشعب. فكان مما قال:
إن هيكل النظام الإجتماعي في الإسلام بأكمله، يرتكز على قاعدة أساسية هي حاكمية الشريعة... وقاعدة حاكمية الشريعة تعنى الاعتراف بحقيقة أساسية، هي أن كل موجود في الكون أيا كان نوعه وماهيته، خاضع لقانون طبيعى خاصا به. وعليه فإن الجانب الإجتماعي من حياة الإنسان خاضع لقوانين اجتماعية طبيعية، تماما مثل خضوع جانبه المادى لقوانين طبيعبة مادية. وبذلك طبق الإسلام بنجاح مبدأ أن ليس للإنسان حاجة لأن يخضع لقانون يضعه بشر مثله، لأن ذلك القانون لابد أن يكون مستبدا وجائرا في بعض نواحيه، وإن كان قد صدر بالإرادة العامة للأغلبية؛ ولكن إنما عليه أن يخضع لإرادة الخالق المتمثلة في قوانينه الطبيعية الاجتماعية والمادية.[41](36/359)
أما لماذا يستطيع الإنسان اكتشاف القوانين الطبيعية المادية التى تحكم حياته، ولا يستطيع اكتشاف القوانين الخلقية الاجتماعية، فإن الأمير سعيد يذهب أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في الفرق بين الجانب المادي والجانب الإجتماعي الإنساني. فالإنسان يستطيع بموضوعية وعن طريق الملاحظة والتجربة، أو ما يسمى بالعلوم التجريبية اكتشاف القوانين المادية؛ ولكن الإنسان عاجز عن اكتشاف القوانين الإجتماعية لأن عوطفه تتحكم في تعامله في بحثها، كما أنه لا يملك القدرة على إخضاع المجتمعات البشرية للملاحظة والتجربة الموضوعية التى يستطيع أن يخضع بها الماديات. ومن رأي الأمير سعيد أن فشل الغرب في القوانين الاجتماعية أفضل مثال على عجز الإنسان في هذه الناحية.[42]
مفكرو شبه القارة الهندية
اصطدمت الثقافة الإسلامية في شبه الجزيرة الهندية على ضعفها، بالفكر الأوربي بعد أن احتلتها بريطانيا وأحكمت قبضتها عليها، بعد فشل ثورة المسلمين الهنود في عام 1857. وقد ظهرت تيارات كثيرة تحاول الخروج بالمسلمين من هذه الأزمة، ورغم بروز عدد من المفكرين المشاهير في معظم هذه التيارات، إلا أن قلة منهم فقط تعرضت لمسألة الحاكمية مباشرة، وإن كان كثير منهم قد تناول عموميات الحكم الإسلامي والخلافة. فسيد أحمد خان (1817- 1889) مؤسس التيار العصراني، كان همه المحافظة على المسلمين باستسلامهم للإنجليز، فبشر بفكرة قريبة من فكرة المسيحين الأوائل، ألا وهي المقاومة السلبية والولاء للسلطة الحاكمة، باعتبارها من قدر الله الذي لا ينبغي أن يقاوم أو يعارض.[43] ولكن التيار العصراني لم يكن تيارا متجانسا في أفكاره، فقد كتب أحد أبرز مفكريه السيد أمير علي عن نظام الإسلام السياسي، فذهب إلى أن الشريعة تمثل نوعا من الدستور المهيمن على سلطة الخليفة التنفيذية والإدارية، ولا يستطيع أن يتجاوزها. ولكنه لم يتعرض مباشرة لقضية الحاكمية. ثم جاء من بعده المفكر صلاح الدين خدا بخش من نفس التيار العصراني المتحرر، فذهب إلى نقيض ما ذهب إليه أمير على. فقد كتب خدا بخش في مقالة عنوانها (المفهوم الإسلامي للحاكمية)[44]، وزعم أن الحكم الإسلامي معيب من ناحية الحاكمية، إذ لا تملك الحكومة المسلمة أى سلطة لتغيير الشريعة الإسلامية، فهي بذلك أضعف من مثيلاتها في الغرب التى تملك حق التشريع تغيير القانون. ثم زعم أن الشريعة ليست جامدة بل متغيرة، ودعا إلى تحرير التشريع من سلطان الدين وفصل الدين عن السياسة.
لكن مثل هذه الدعوات لم تجد رواجا بل كان التيار الإسلامي غالبا، ونشطت في هذا المجال بعد انهيار الخلافة العثمانية، الحركة التى عرفت باسم حركة الخلافة الإسلامية. ولكن هذه الحركة لم تمس مسألة الحاكمية إلا مسا خفيفا، ومن ذلك خطب قائد الحركة مولانا محمد على جوهر، التى تنضح منها فكرة أن الله هو الحاكم، وإن لم يفصل في المسألة كثيرا.[45] وحتى المفكر المشهور محمد إقبال (1876 - 1938) لم يسهب في الحديث عن هذه المسألة، وإن كانت كتاباته تتضمن مفهوم حاكمية الله. فقد عبر بوضوح أن نظام الإسلام يقوم على دعامة مبدأ التوحيد، الذي من مقتضياته أن شريعة الله هي العليا، ولا توجد سلطة بجانبها غير سلطة تفسيرها.[46]
المودودي وحاكمية الله
وإذا كانت فكرة حاكمية الله متضمنة في هذه الكتابات الأولى عند مفكري شبه الجزيرة الهندية وغيرهم، إلا أن المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية، قد صرح بهذه الفكرة وجعلها الأساس لنظام الإسلام السياسى، ومنه ذاعت الفكرة وشاعت في العالم الإسلامي، حتى أصبحت حجر الأساس في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة. فما نظرية الحاكمية عند المودودي؟
ينطلق المودودي في التأصيل لرأيه من مبدأ التوحيد، الذي جعله إقبال كما ذكر سابقا الأساس الذي يقوم عليه نظام الإسلام. يقدم المودودي شرحا لمعنى مصطلح الإله والرب، وكيف أن كثيرا من البشر يدفعهم حب السلطة إلى إدعاء الألوهية والربوبية على الناس إما مباشرة أو بواسطة، ويجعلون ذلك وسيلة لاستعباد الناس وقهرهم على الانقياد والطاعة. ثم يخلص من ذلك إلى القول:
"وإذا نظرت إلى المجتمع البشري من هذه الوجهة، استيقنت نفسك أن منبع الشرور والفساد الحقيقي إنما هو ألوهية الناس على الناس، إما مباشرة أو بواسطة، وهذه هي النظرية المشؤومة ... هي أصل كل المصائب والدمار، وهي أصل جميع ما مني به البشر اليوم من البؤس والشقاء، وهذا هو الداء الذي أفسد أخلاق البشر وروحانيتهم وقواهم العلمية والفكرية، وأكل منية الناس وحياتهم الاجتماعية وسياستهم ومعايشهم."[47]
وإذا كان الأمر كذلك فإن صلاح المجتمع البشري إنما هو بعقيدة التوحيد التى جاء بها الرسل جميعا صلوات الله عليهم وسلامه. ويشرح كيف أن عقيدة التوحيد هي أن أساس النطرية السياسية الإسلامية فيقول:(36/360)
"هذه العقيدة هي روح ذلك النظام الذي أسس بنيانه الأنبياء عليهم السلام، ومناط أمره وقطبه الذي تدور رحاه حوله، وهذا هو الأساس الذي ارتكزت عليه دعامة النظرية السياسية في الإسلام، وهي أن تنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين، ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر مثله فيطيعوه، أو ليسن قانونا لهم فينقادوا له ويتبعوه، فإن ذلك أمر مختص بالله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره، كما قال هو في كتابه: ?إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم? (سورة يوسف: 40)... فهذه الأيات تصرح بأن الحاكمية لله وحده وبيده التشريع."[48]
ولكن ما معنى الحاكمية التى يختصها المودودي بالله وحده. يشرح هو فهمه للحاكمية فيقول عنها:
"تطلق هذه الكلمة على السلطة العليا والسلطة المطلقة، على حسب ما يصطلح عليه اليوم في علم السياسة، فلا معنى لكون فرد من الأراد - أو مجموعة من الأفراد أو هيئة مؤلف منهم - حاكما إلا أن حكمه هو القانون، وله الصلاحيات التامة والسلطات الكلية غير المحدودة لينفذ حكمه في أفراد الدولة؛ وهم مضطرون إلى طاعته طوعا أو كرها. وما هناك من شئ خارجي يحد صلاحياته في الحكم غير إرادته ومشيئته هو نفسه، والأفراد ليس لهم بإزائه حق من الحقوق. وكل من له شئ من الحقوق منهم فإنما هو منحة جاد بها عليه حاكمه، وكل حق يسلبه هذا الحاكم ينعدم بنفسه، لأنه لا ينشأ كل حق فطري إلا لأن الشارع قد أنشأه، فإذا سلبه الشارع لم يعد حقا من الحقوق حتى يطالب به. إن القانون يسن بإرادة صاحب الحاكمية ويجب على الأفراد طاته، وأما صاحب الحاكمية نفسه فما هناك من قانون يقيده ويوجب عليه الطاعة، فهو القادر المطلق في ذاته، ولا يجوز سؤاله فيما أصدر من أحكام من الخير أو الشر ولا عن الصواب أو الخطأ. فكل ما يفعله هو الخير ولا يحل لأحد ممن يطيعه أن يعده من الشر ويرفضه. وكل ما يفعله هو الصواب ولا يحل لأحد ممن يتبعه أن يرى فيه شيئا من الخطأ. فلا بد أن يعترف له الجميع بكونه سبوحا قدوسا منزها عن الخطأ، بصرف النظر عما إذا كان كذلك أم لم يكن."[49]
فإذا كان هذا فهم المودودي وتصوره للحاكمية، فمن الطبيعى أن ينسب هذه الحاكمية بكل خصائصها لله عز وجل لا ينازعه فيها أحد من البشر. لكن من الواضح أن المودودي هنا يستقي فهمه للحاكمية من تصورات المفكرين الغربيين الأوائل من أمثال بودين وأوستن وغيرهم. ولكن من الواضح أن تلك نظرة جزئية للحاكمية في الغرب وليست كلية. وهي صورة مثالية لم تتحقق قط في الواقع كما سلف القول عنها. ومن الواضح أيضا أن مثل هذا التصور يدفع المرء للتساؤل عن مكانة البشر في مثل هذا النظام الذي تكون فيه الحاكمية بكل معانيها لله، مع أن البشر في واقع الأمر هم المنوط بهم تنفيذ أحكام الله. يجيب المودودي نفسه على التساؤل حين يقرر، أن القرآن يستعمل كلمة الخلافة لكل من قام بالحكم في الأرض تحت حاكمية الله تعالى، فليست هذه القوة أو السلطة بيد البشر بالحاكم الأعلى، ولكنها نائبة عن الحاكم الأعلى - وهو الله عز وجل. ويذهب ليفصل نظرية الخلافة حسب ما يراها، فيؤكد أنها خلافة عمومية، بمعنى أن كل المؤمنين يتمتعون بها، وليست هي خاصة بفرد أو أسرة أو طبقة من الطبقات، ولكنها عامة بكل الأمة.[50] ويجعل هذه الخلافة العمومية أساسا للديمقراطية في الإسلام، التي تختلف بذلك عن الديمقراطية الغربية التى تجعل الحاكمية العليا والمطلقة للشعب. أما الإسلام فهو قد جعل الحاكمية العليا والمطلقة لله عز وجل "وخول للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة، تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذيه إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من منصبها، وكذلك جميع الشئون التي لا يوجد عنها في الشريعة حكم صريح لا يقطع فيها بشئ إلا بإجماع المسلمين."[51] ومن الملاحظ هنا أن المودودي قد اضطر للاعتراف للبشر بنوع من الحاكمية، أسماها الحاكمية الشعبية المقيدة، مخالفا بذلك ما قرره أولا أنه ليس للبشر أي حق في الحاكمية.
المفكرون المصريون(36/361)
مصر هي البلد الثالث التي يتجه إليها البحث في تطورفكرة الحاكمية عند المسلمين المعاصرين. وأول ما يستوقف النظر بحث علمي في المسألة، لم ينل شهرة كبيرة بل ظل مجهولا عند الكثيرين، وهو رسالة دكتوراة قدمت في باريس عام 1917، للباحث أحمد السقا بعنوان (الحاكمية في القانون العام عند المسلمين).[52] وقد زعم فيها أن الإسلام يفرق بين الحاكمية والسلطة، فالحاكمية بمعنى السلطة العليا والمطلقة فهي لله عز وجل، ومن أهم مظاهرها حق التشريع، الذي بينه الله في القرآن والسنة، التي يحكم البشر بموجب ما فيها من أحكام. ومن أجل تنفيذ حكم الشريعة أقام الله الولاية العامة، وهي سلطة عامة ولكنها ليست عليا ولا مطلقة، ولا ينبغي أن تساوى بمفهوم الحاكمية المعروف في الفكر الغربي. ويفرق السقا بوضوح بين الحاكمية العليا المطلقة التي يستعمل لها لفظ الربوبية، وبين السلطة البشرية المقيدة بتنفيذ أحكام الله في الأرض، ويطلق عليها لفظ الولاية العامة. ويقول أنه يجوز أن نطلق على الولاية بصورة غير دقيقة لفظ الحاكمية، ولكنها ينبغي أن تفهم على أنها ليست السلطة العليا المطلقة، بل هي الولاية ذات السلطة المقيدة.[53]
بهذه النظرة الثاقبة استطاع أحمد السقا أن يقدم حلا لمشكلة الحاكمية قبل أن يحتدم الجدل حولها في العالم الإسلامي، ولكن صوته لم يكن عاليا ولا مسموعا عند الكثيرين.
سلطة الأمة
وعند البحث في آراء المفكرين المصريين، يبدو أن فكرة الحاكمية الشعبية التي نادى بها روسو، هي التي وجدت عندهم رواجا في بادئ الأمر، حتى أن الباحث القانوني الشهير عبد الرزاق السنهوري ادعى أن الإسلام عرف مبدأ الحاكمية الشعبية حتى قبل أن يكتب عنها روسو. وأول من يبدأ بهم في هذا المجال من هؤلاء المفكرين الشيخ رشيد رضا، الذي تحدث عن مبدأ سلطة الأمة في رسالته عن الخلافة[54] التي نشرها بعد سقوط الخلافة العثمانية، في محاولته لإحيائها وتجديدها. وقد جعل رضا سلطة الأمة أحد القواعد السياسية الهامة في الإسلام حين يقول:
"أما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أسسها وقواعدها، وشرع للأمة الرأي والاجتهاد فيها، لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة."[55]
ويسرد الشيخ رشيد رضا الادلة على مبدأ سلطة الأمة في الإسلام، ويعتمد على أمور: منها مسألة الشورى التى جاء الأمر بها في القرآن موجها إلى جماعة المؤمنين جميعهم، حين وصفوا بقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم). والدليل الثاني عند رشيد على سلطة الأمة هو حجية الإجماع والأحاديث الدالة على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة. أما الدليل الثالث فهو أمر القرآن بطاعة (أولي الأمر)، وهم في رأي رشيد رضا أهل الحل والعقد، وليسوا فقط الأمراء أو العلماء وإن كان هؤلاء بالضرورة منهم، ولكنهم يشملون كل من كان له نفوذ ورئاسة في المجتمع ودراية بمصالح المسلمين. والأمر بطاعتهم يعني أن لهم سلطة، ومن تلك السلطة اختيار ولي الأمر وعزله.[56] وإن كان أهل الحل والعقد في زمن الصحابة هم من وجدوا في المدينة، إلا أنه لا بأس أن تتبع طريقة الانتخابات في العصر الحاضر لاختيارهم، وسوف تكون لمجلسهم السلطة التشريعية وسلطة اختيار وعزل السلطة التنفيذية.[57] ومع أن رضا يرى أن سلطة الأمة عند المسلمين تتشابه مع المبدأ الغربي، إلا أن هناك فروقا جوهرية، من أهمها أن سلطة الأمة ليست فوق الشريعة بل مقيدة بها، ولقد فقد المسلمون سلطانهم واستقلالهم باستيراد القواينين الأوربية العلمانية. والفرق الجوهري الثاني هو أن سلطة الأمة ليست مبنية على القومية مثل ما يدعو إليه البعض في تركيا آنذاك من الحاكمية الملية القائمة على العصبية الجنسية.[58]
ونادىالشيخ حسن البنا مؤسس حركة الأخوان المسلمين بمبدأ سلطة الأمة أيضا، ومن أقوال البنا في المسألة:
" وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها ، وأوصي بأن يكون كل مسلم مشرفاً تمام الإشراف علي تصرفات حكومته ، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب ، وهو كما فرض علي الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض علي المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك ، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقوموه علي الحق ويلزموه حدود القانون ويعيدوه إلي نصاب العدالة."[59]
ويقول أيضا في موضع آخر:(36/362)
" إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها ، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب و محاسبتهم على ما يعملون من أعمال ، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم . ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر."[60]
ويفصل البنا في رسالة منفصلة الأسس التى يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام، ويجعل ما أسماه إرادة الأمة ركنا أساسيا لهذا النظام . وعن هذا يقول:
" وأما عن احترام رأى الأمة ، ووجوب تمثيلها واشتراكها في الحكم اشتراكاً صحيحاً ، فإن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفرادها جميعاً في كل نازلة ، وهو المعبر عنه ، في الاصطلاح الحديث بالاستفتاء العام ، ولكنه اكتفى في الأحوال العادية (بأهل الحل والعقد) ولم يعينهم بأسمائهم ، ولا بأشخاصهم. والظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن هذا الوصف ينطبق على ثلاث فئات هم: الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام، وأهل الخبرة في الشؤون العامة، ومن لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤوساء المجموعات . فهؤلاء جميعاً يصح أن تشملهم عبارة "أهل الحل والعقد .
ولقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة ، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدى إلى اختيار أهل الحل والعقد ، وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم تحديد الانتخاب صفات أهل الحل والعقد ، وعدم السماح لغيرهم بالتقدم للنيابة عن الأمة ."[61]
ولم يذكر الشيخ البنا في رسائله وكتبه أية إشارة لحاكمية الله، لتى أصبحت هي العقيدة الرائجة لجماعة الإخوان لاحقا كما سيأتي، وإن كان قد ادعى محمد قطب أن قضية حاكمية الله قد اتضحت في حس البنا في أيامه الأخيرة، ولكنه لم يمهل حتى يرسخ هذا المعنى في قلوب أتباعه، واستدل على ذلك بمقال للبنا منشور في أيامه الأخيرة بعنوان بعنوان "معركة المصحف - أين حكم الله؟" يقول فيه:
" الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك. ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة، أي إلى الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم. وإذا قصر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكماً إسلامياً. وإذا أهملت الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية. وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية....، ومهما ادعت ذلك بلسانها."[62]
ولكن ما يقرره البنا هنا هو أن الحكم بالشريعة أمر لازم للحكم الإسلامي، وهو مطلب أساسي من مطالب دعوته، لكنه لم يصرح بمبدأ حاكمية الله ولا يفهم من مقاله المستشهد به أنه يقصده. ويأتي السؤال ما الذي أدى لتحول فكر الإسلاميين لتبني مبدأ حاكمية الله، وهو ما يبحث عنه في السطور التالية.
حاكمية الله
بدأ مبدأ حاكمية الله يتبلور تدريجيا في فكر الإسلاميين في مصر، وكان في المرحلة مختلطا بفكرة سلطة الأمة. وأحسن من يمثل مرحلة الاختلاط هذه المفكر عبد القادر عودة، أحد قادة الإخوان المشهورين. فقد كتب في كتابه (الإسلام وأوضاعنا السياسية)[63] مؤيدا لمبدأ سلطة الأمة ، وساق نفس الحجج التي ساقها رشيد رضا للتدليل على إسلامية المبدأ، وخصص فصلا كاملا في كتابه عن الشورى باعتبارها ركنا أساسيا لتحقيق مبدأ سلطة الأمة. ولكنه في ذات الوقت جعل الالتزام بالشريعة الإسلامية أمرا لازما للحكم الإسلامي ورفض القوانين الوضعية وحكم ببطلانها، ومع أن هذا لم يكن أمرا جديدا مثل ما جاء في مقالة الشيخ البنا المشار إليها سابقا، إلا أن عبد القادر عودة نحى في الدفاع عن الالتزام بالشريعة وبطلان القوانين الوضعية منحى جديدا حين تساءل عن من يملك الحكم؟ وكانت إجابته على ذلك أن الحكم لله خالق السموات والأرض والناس وحاكمهم. ثم انتقل من ذلك ليقول أن الله تعالى قد جعل للبشر الخلافة، ثم فصل القول في الفرق بين الإسلام والديمقراطية، منتهيا لنفس الرأي الذي انتهى إليه المودودي، من أن الله الذي يملك سلطة الحكم حقيقة قد حدد سلطة كل من الحكومة المسلمة والمحكومين، إذ ليس لهم إلا الالتزام بأحكام الشريعة وعدم الخروج عن حدودها، بخلاف الديمقراطية الغربية التى يكون للبشر فيها حرية مطلقة في التشريع.(36/363)
وفي المرحلة الثانية خلصت فكرة حاكمية الله من كل ما يشوبها، وأصبحت عقيدة راسخة في فكر الإسلاميين في مصر وغيرها. وفي هذه المرحلة ظهر تطور جديد في تناول القضية. فمن ناحية استخدمت كلمة الحاكمية كمصطلح جديد في اللغة العربية مرادف لمفهوم الحق المطلق للتشريع في الدولة كما شاع في الغرب. ومن جانب آخر جعلت الحاكمية أمرا خالصا لله تعالى لا ينازعه فيها أحد، وجعل من شرائط الإسلام أن يعترف الناس بهذه الحاكمية لله بهذا المفهوم، وزعم أن من لا يسلم بذلك فهو غير مسلم. وقد كان سيد قطب من أشهر من نادى بمبدأ حاكمية الله، وكانت محورا أساسيا في فكره وكتبه، وقد أشاعها ونشرها بقلمه الأدبي المؤثر، وبما لاقي بسببها من سجن وتضحيات، حتى أنه ضحى بحياته في سبيلها وأعدم بسبب أفكاره. ونستهل فكره عن الحاكمية بهذا الاقتباس من موسوعته في ظلال القرأن في تفسيره لقول الله تعالى "إن الحكم إلا لله . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " (سورة يوسف: 40)، إذ يقول:
"إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهية . من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد أو طبقة أو حزب أو هيئة أو أمة أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا ، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة ، حتى بحكم هذا النص وحده !
وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم ، وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه - فليس من الضروري أن يقول:ما علمت لكم من إله غيري ؛ أو يقول:أنا ربكم الأعلى ، كما قالها فرعون جهرة . ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر . وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية ، أي التي تكون هي مصدر السلطات ، جهة أخرى غير الله سبحانه . . ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية ."[64]
لعل من الواضح أن سيد قطب هنا يقصد بالحاكمية السلطة التشريعية، ولكنه فيما يبدو يقصد بالتشريع معنى أوسع من مجرد سن القوانين، يقول:
"ولا بد أن نبادر فنبيّن أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية - كما هو المفهوم الضيق في الأذهان اليوم لكلمة الشريعة - فالتصورات والمناهج، والقيم والموازيين، والعادات والتقاليد ... كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه."[65]
ويأتي التساؤل عن دور البشر في مثل هذا النظام، فيجيب سيد بالتفريق بين مصدر السلطة الذي هو الله سبحانه، وبين مزاولة السلطة التي هي بيد البشر، وذلك حين يقول:
"والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته . إنما مصدر الحاكمية هو الله . وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة . فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده . والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه ، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية ، وما أنزل الله به من سلطان ."[66]
الحاكمية في الميزان
يصل البحث إلآن إلى محاولة تمحيص الحقيقة عن الحاكمية، بعد هذا العرض السابق لتطور فكرة الحاكمية في الغرب، ومفاهيم المسلمين المتقدمين للسلطة وتصوراتهم لها، ومفاهيم المسلمين المعاصرين لقضية الحاكمية حسب مفهومها المعاصر. ولعله قد تبينت من ذلك العرض مجموعة من الحقائق يمكن إجمالها فيما يأتي:
أولا: أن مفهوم الحاكمية في الغرب له دلالات كثيرة، مرتبطة بالظروف التي نشأت فيها نظرياتها، ولا تنفك عن مبدأ قومية الدولة ومبدأ وضعية القوانين. وقد تهاوت فكرة الحاكمية المثالية التقليدية التي تراها سلطة مركزية عليا مطلقة، بسبب التطورات الواقعية التي غيرت من طبيعة الدولة المعاصرة، وأتاحت لعدد كبير من المؤسسات أن تكون لكل منها سلطة عليا في حدود دائرتها.
ثانيا: قدم المسلمون المتقدمون تصوراتهم عن طبيعة السلطة في الدولة، وعبروا عنها بمصطلحاتهم، ولكنهم لم يستخدموا كلمة الحاكمية في تعبيراتهم. ومن الممكن وجود بعض إشارات في كتاباتهم فريبة من اللمفاهيم المعاصرة للحاكمية، من مثل وصف الملك بخصائص العموم والعلو بحيث "لا يكون فوق يده يد".
ثالثا: انتقلت تصورات الغرب للحاكمية للمسلمين المعاصرين، لكنهم اختلفوا في حقيقة الحاكمية في الإسلام. فمنهم من ألصق بالإسلام بأنه مناصر لمبدأ الحاكمية الشعبية، ذاهبين إلى تأكيد مبدأ سلطة الأمة وحقها في الشورى في شؤون الحكم، من اختيار الحاكم وعزله وغير ذلك من القرارات العامة. ومنهم من رأى أن الحاكمية لا تكون للبشر بل يختص بها الله عز وجل.(36/364)
وبامعان النظر في هذه الاختلافات بين المسلمين المعاصرين في مكانة الحاكمية في الإسلام، لا يبدو أن السبب في ذلك اختلافهم في تفسير الإسلام وفي تفاصيل نظامه السياسي. بل يبدو أن السبب الرئيسي في هذا الاختلاف هو فهمهم وتصورهم لمعنى الحاكمية. ذلك أن الحاكمية في الغرب نفسه لها مدلولات كثيرة، وقد أخذ كل مفكر مسلم معاصر بما تصوره أنه حقيقة الحاكمية. وفي نهاية المطاف لا يجد المرء بين المسلمين المعاصر ثمة اختلاف يذكر في فهمهم للنظام السياسي الإسلامي. فالكل يقر بمبدأ تحكيم الشريعة الإسلامية في الدولة المسلمة، والكل يؤمن بضرورة الشورى وحق المحكمومين فيها.
وفي ضوء ذلك لا بد من التقرير أن الفكرة الشائعة من أن الحاكمية لله تعالى ليست إلا عبارة عامة تحتاج إلى نوع من التفصيل. أو من الممكن القول أنها "كلمة حق" قد يراد بها باطل إن قصد منها نفي كل حكم أو حاكمية للبشر، مثل ما وصف به علي بن أبي طالب رضى الله عنه قول الخوارج أن (لا حكم إلا لله) حين نفوا فكرة التحكيم. ولقد تبين في عرض فكر المودودي السابق، كيف أنه اضطر- مع مناداته بحاكمية الله تعالي - بالاقرار للبشر بحاكمية محدودة، أسماها الحاكمية الشعبية المقيدة. وكذلك يتضح أن سيد قطب قدم محاولة لتفصيل رأيه، بالتمييز بين ما أسماه مصدر السلطة الذي هو الله تعالى، وبين مزاولة السلطة التي لا بد أن تكون بيد البشر.
وهكذا يبدو من ذلك أن استعمال مصطلح الحاكمية الغربي المعاصر هو سبب المشكلة. فهل يصلح هذا المصطلح للتعبير عن نظام الإسلام، أم أنه ينبغي طرحه بالكلية؟ لا شك أن مصطلحات المسلمين المتقدمين كانت كافية للتعبير عن تفاصيل النظام السياسي الإسلامي. فمن ناحية هناك الربوبية والألوهية، وهي بلا شك خاصة بالله تعالى. وتشمل الربوبية إحلال الحلال وتحريم الحرام، وهو أمر واضح معروف بيّنه الحديث الذي رواه الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب . فقال : ( ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن ) وسمعته يقرأ في سورة [ براءة ] " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " ثم قال : ( أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه. ومن ناحية هناك الملك وهو سلطة بشرية، وتكون خلافة إذا تقيدت بالشريعة الإسلامية كما تقدم في تعريف ابن خلدون السابق. فاستعمال هذه المصطلحات الإسلامية ليس فيه لبس ولا غموض.
لكن استعمال مصطلح الحاكمية الغربية المعاصر فيه لبس وفيه غموض. فإما أن يطرح بالكلية ولا يستعمل ويكتفى بالمصطلحات الإسلامية. أو يستعمل استعمالا غير دقيق، مع تعريف المعنى المقصود به تعريفا كاملا لا يوقع الناس في لبس أو غموض.
[1] أنظر الفصل الثالث في F. H. Hinsely، Sove r eignty، Camb r idge 1986
[2] نفس المصدر ص: 100؛ وص: 95-89 فيA. P. D`Ent r eves، The Notion of the State، Oxfo r d، 1967
[3] ص: 82-379 W. T. Jones، Maste r s of Political Thought، Edinbu r gh، 1960،
[4] ص: 227، 234، 312 في Thomas Hobbes، Leviathan، Middlesex
[5] J. J. r ouseau، The Social Cont r act and Discou r ses. T r ans. G. D. H. Cole، London، 1983، p. 120.
[6] John Austin، The P r ovince of Ju r isp r udence Defined، London، 1832، p. 200.
[7] بودين، المصدر السابق، ص: 159.
[8] Bustami Khi r ، The Concept of Sove r eignty in Mode r n Islamic Political Thought، Leeds، 1996، pp. 15-21.
[9] Hinsely، op. cit.، pp. 100-125.
[10] C. E. Me r riam، The Theo r y of Sove r eignty since r ousseau، 1900، pp. 85-129
[11] r ousseaue، op. cit.، p. 240.
[12] Austin، op. cit.، p. 200.
[13] DeJouvenel، Be r et r and، On Powe r ، 1962، p. 29.
[14] Jacques Ma r itain، 'The Concept of Sove r eignty'، in W.J. Stankiewicz (ed.)، In Defence of Seove r eignty، New Yo r k، 1969، p. 42.
[15] Leon Duguit، Law in Mode r n States، London، 1921، p. 20.
[16] Me r riam، op. cit.، pp. 162 -182.
[17] نفس المصدر ص 200.
[18] Ha r old Laski، A G r amma r of Politics، London، 1925، pp. 44 -88.
[19] Hsns Kelsen، 'Sove r eignty and Inte r national Law'، in Stankiewicz، op. cit.، pp. 115-31.
[20] J. Ma r itain، op. cit.، p. 64.
[21] W. J. r ees، 'The Theo r y of Sove r eignty r estated'، in Stankiewicz، op. cit.، pp. 209 -40.
[22] انظر Stankiewicz، op. cit.،
[23] المقدمة، عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق عبد الواحد وافي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1980، ج 2 ص 574.
[24] نفس المصدر ج 2 ص 576 - 578.
[25] الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، القاهرة، 1973، ص 5.
[26] الجامع الصحيح، اسماعيل أبو عبد الله البخاري، تحقيق مصطفي ديب البغا، بيروت، 1987 ج 3 ص 1273؛ صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، ج 3 ص 1473.
[27] الإنافة في معالم الخلافة، أحمد بن عبد الله القلقسندي، الكويت، 1964، ص 17.(36/365)
[28] الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، دار المعرفة، بيروت، ج 2 ص 552.
[29] أبو الحسن الماوردي، ادب الدين والدنيا، بيروت، 1978، ص115.
[30] شرح المقاصد في علم الكلام، للإمام سعد الدين بن عبد الله التفتازاني ، دار المعارف النعمانية، 1981، ج 2 ص 272.
[31] غياث الأمم في التياث الظلم، أبو المعالي عبد الله الجويني، تحقيق فؤاد عبد المنعم ومصطفى حلمي، الاسكندرية: دار الدعوة، 1979، ص: 9.
[32] شرح الأصول الخمسة، للقاضى عبد الجبار بن أحمد، تحقيق عبد الكريم عثمان، القاهرة، ص 750.
[33] ألجويني، المصدر السابق، ص 90 - 84 .
[34] شرح المقاصد في علم الكلام، سعد الدين التفتازاني، دار المعارف النعمانية: باكستان، 1981، ج 2 ص 272.
[35] لمعرفة ترجمة حياة نامق كمال وفكره في المصادر التركية انظر Be r ks، Niazi، The Development of Secula r ism in Tu r key، Mont r eal، 1969، p. 209.
[36] مقال نامق كمال بعنوان "وشاورهم" منشور في 20/7/ 1878 في جريدة الحرية.
[37] مقال نامق كمال بعنوان حقوق الأمة منشور في 8/7/1872 في جريدة الحرية.
[38] مقالات سياسية وأدبية، نامق كمال، اسطنبول، 1911، مترجمة في كتاب Be r ks، Niazi، The Development of Secula r ism in Tu r key، p. 211.
[39] منشور في جريدة علوم في 1/8/1869.
[40] ترجم المقال إلى الإنجليزية الكاتب الإنجليزي المسلم محمد ممدوك بكثال نشر في مجلة Islamic Cultu r e، Hayde r abad Deccan، no 1، Jan 1927، pp. 111-135.
[41] نفس المصدر ص 112.
[42] نفس المصدر ص 214.
[43] من رسالة له منشورة في J. S. M. Baljon، The r efo r ms and r eligious Ideas of Si r Sayyid Ahmad Khan، Leiden، 1949، p. 14.
[44] S. Khuda Bukhsh، Essays Indian and Islamic، London، 1912، pp. 25 -55.
[45] أنظر Afzal Iqbal ed.، Selected W r itings and Speeches of Maulana Mohamed Ali، Laho r e، 1969، II، p. 37.
[46] Iqbal Muhammad، The r econst r uction of r eligious Thought، Laho r e، 1954، p. 146.
[47] نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، ابوالأعلى المودودي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1969، ص 23 و27.
[48] نفس المصدر ص 31..
[49] نفس المصدر ص 252.
[50] نفس المصدر ص 48-51؛ ص 259.
[51] نفس المصدر ص 35.
[52] Ahmad Sakka، De La Soue r aineté dans le D r oit Public Musliman Sunnite (Pa r is، 1917).
[53] نفس المصدر ص 19-21.
[54] صدر الكتاب أول مرة عام 1922 وطبع مرارا ..
[55] الخلافة، الشيخ محمد رشيد رضا، القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1988، ص 9.
[56] نفس المصدر 21-23.
[57] تفسير المنار، الشيخ رشيد رضا، القاهرة، 1328 ه ، ج 5 ص 187، 195-201.
[58] نفس المصدر ج 5 ص 149-154.
[59] في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين، حسن البنا، في مجموعة رسائل البنا، بيروت، 1981، ص 160.
[60] رسالة المؤتمر الخامس، حسن البنا، في مجموعة رسائل البنا، بيروت، 1981، ص 138.
[61] نظام الحكم، حسن البنا، في مجموعة رسائل البنا، بيروت، 1981، ص 328.
[62] واقعنا المعاصر، محمد قطب، دار الشروق، 1997، ص 355.
[63] الإسلام وأزضاعنا السياسية، عبد القدر عودة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1986.
[64] في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت، دار الشروق، 1971، ج 7 ص 725.
[65] معالم في الطريق، سيد قطب، بيروت، دار الشروق، 1983، ص 119.
[66] في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت، دار الشروق، 1971، ج 7 ص 725.
================(36/366)
(36/367)
رؤية إسلامية لقضية التعددية
بحوث: رؤية إسلامية لقضية التعددية
تاريخ التعددية في الغرب والإسلام
تعددية الحقيقة والقيم
التعددية الدينية
التعددية السياسية
التعددية الثقافية
الخاتمة: التوازن بين الوحدة والتعددية
الصفحة 1 من 7
plu r alismaبقلم الأستاذ بسطامي محمد سعيد خير أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة برمنجهام
مقصود هذا البحث االموجز التأمل في قضية التعددية الغربية المعاصرة ، باعتبارها تصورا ومنهجا لحل مشكلات التنوع والاختلاف ، مع محاولة تقديم رؤية إسلامية لها ، ومن ثم تقويمها وبيان المقبول منها والمرفوض . وسيقتصر البحث على أهم الميادين التى تطرح من خلالها مسألة التعددية ، إذ الإلمام بأطرافها كلها لا سبيل إليه في هذا المختصر .
مقدمة
لعل فكرة التعددية من أكثر المقولات تدوالا في عالم اليوم ، إذ نالت شيوعا وصيتا في كل مجال من المجالات ، من علم وفكر ودين إلى اجتماع وثقافة وسياسة واقتصاد . وأصبحت من أكثر شعارات العصرالرنانة البراقة المستحسنة ، التى يلهج بها كل أحد ويتزين بها كل أحد ، دليلا على الانفتاح والسماحة والتمدين . ومع هذا الشيوع والذيوع لا يماري أحد من المختصين بتعريف هذا المصطلح أنه من الصعب تحديد معنى دقيق له ، أكثر من المعنى اللغوي المتفق عليه وهو أن التعدد يعنى أكثر من الواحد . أما ما وراء هذا المعنى البسيط فإن المصطلح غامض غائم[1] ويستعمل في معان شتى حسب السياق الذي يرد فيه ، حتى لقد وصل الأمر ببعض الدارسين للقول بأنه ينبغى لنا أن نسلم بتعددية التعددية[2] .
وقبل الاسترسال في بحث الموضوع من المهم التفريق بين أمرين أساسين . فمما لا شك فيه أن التعددية وصف لظاهرة مشاهدة محسوسة ، ألا وهي التنوع والتباين والاختلاف بين البشر في ألوانهم وجنسياتهم وآرائهم ومعتقداتهم وقيمهم وثقافاتهم وأديانهم ومناهج حياتهم . هذه حقيقة واضحة جلية قد لا يتجادل حولها اثنان . لكن التعددية أصبحت اليوم مصطلحا للمبادئ والمفاهيم التى تتناول أمرا آخر ، ألا وهو منهج التعامل مع ظاهرة التباين والتنوع في حياة الناس . فالتعددية بوجهها الأول وصف لظاهرة طبيعية قائمة وواقعة في كل المجتمعات ، والتعددية بوجهها الثانى نظرية وتصور لحقيقة حدود التباين والتنوع وضوابط الاتفاق والافتراق ، وكيفية تنظيم المجتمع على أساس ذلك .
وعلى هذا فإن مصطلح التعددية السائد المتداول اليوم ، يقصد به تلك التصورات والمناهج الغربية المعاصرة لتفسير وتنظيم مشكلة التنوع والتباين في المجتمعات البشرية . وقد نشأت هذه المبادئ والمفاهيم الغربية للتعددية خلال تطور طويل في الغرب ، وكانت مرآة لفلسفته ونظرته للحياة في ميادينها المختلفة . ويريد الغرب الآن جعلها نموذجا يحتذيه العالم كله ، بل فرضها في كثير من الأحيان . ومع أن استعلاء ثقافة على ثقافة أخري هو في حد ذاته يناقض مبدأ التعددية التي ينادي بها الغرب ، إلا أن ازدواج المعايير أمر لا غبار عليه عند القوم في التعامل مع غير بنى جنسهم.
[1] انظر McLennan, G r ego r , Plu r alism, Unive r sity of Minneota P r ess, Minneapolis, 1995, p. 7;
Nicholls, David, Th r ee va r ieties of Plu r alism, Macmillan P r ess, London, 1974, p. 1.
[2] المرجع السابق McLennan, G r ego r , Plu r alism, p. ix
تاريخ التعددية في الغرب والإسلام(36/368)
قد يكون من المناسب في البداية تقديم ملامح عن تاريخ فكرة التعددية ونشأتها في الغرب[1] ، مع بعض الملامح أيضا عن ما يقابل الفكرة في الإسلام . ترجع أصول التعددية في الغرب إلى الفلسفة اليونانية حيث ظهرت الفكرة لمناهضة فلسفة وحدة الوجود ونقضا لها ، ومضمونها أن الوجود ليس واحدا بل متعددا . وحين بدأ الغرب يحاول النهوض بإحياء مخلفات التفكير اليونانى، بعثت فكرة التعددية الفلسفية من جديد في القرن السابع عشر الميلادي ، وظلت حبيسة في الإطار الفلسفى دون أن تجد لها سوقا نافقا حتى بداية القرن العشرين . ثم تنامت من جديد على يد المفكرين الانجليزين وليام جيمس وبرتراند رسل ، الذين وجدت آراؤهما قبولا فائقا في مناخ من اليأس السائد بين العلماء آنذاك ، بسبب فشل العلوم التجريبية في حل كثير من معضلات الكون ، حتى لقد أعلن أحدهم انتصاره قائلا: "لقد تكسرت هيمنة الحقيقة المطلقة على ايدينا" . ومن الفلسفة انتقلت الفكرة إلى ميدان السياسة حيث دعا العلماء في أوربا وأمريكا - ومن أبرزهم هارولد لاسكى - إلى تحطيم سلطان الدولة المطلق . وفي الفترة التى تلت انهيار الاستعمار للبلاد الآسيوية والافريقية ، ظهرت كثير من النزاعات والحروب الاقليمية والعرقية والدينية ، بسبب عوامل داخلية ومكائد خارجية ، مما أبرز تفكيرا جديدا في العلوم الاجتماعية عن التعددية وتعايش الجنسيات والثقافات والديانات . ثم انتقل داء النزاع والصراع إلى عقر ديار الغرب وخاصة في عواصمه ومدنه الكبري ، إذ هاجرت أعداد كبيرة من سكان آسيا وأفريقيا واستوطنت هناك ، ووجدت بين الغربين سحنات غريبة وثقافات وديانات غير مألوفة ، فكانت التعددية محاولات لحل المعضلات التى نشأت من جراء هذه الهجرات ، ولاستيعاب هذا التنوع والتباين في البرامج التعليمية والمؤسسات الاجتماعية . وخلاصة الأمر أن التعددية بمبادئها المعاصرة الرائجة ، ليست إلا حلولا أبدعها الفكر الغربي لمشكلات مختلفة أحدثها تطوره التاريخى الخاص ونظرته للحياة ومناهجها ونظمها . ويبقى السؤال ما المقبول والملائم لظرف بلادنا من ذلك كله وما المرفوض .
وإذا توجه المرء بنظره إلى الإسلام ، فالأمر جد مختلف ، إذ أن أصول أي فكرة ترجع إلى الوحي ونصوصه في القرآن والسنة ، اللذان يخضعان في التوثيق والتفسير لمنهج علمى معين ، واللذان يوجهان العقل والتجرية البشرية والتطور التاريخى في أطر محدودة . ومما لا شك فيه أن كلمة التعددية لا توجد في قاموس مصطلحات العلوم الإسلامية ، ولكن لا يمكن لعاقل أن يدعى أن الاسلام ليس له تصور ولا منهج لمسألة التنوع والتباين والاختلاف . بل من يراجع القرآن والسنة وكتب الاقدمين والمعاصرين يجدها ملأى بالحديث عن كثير من المبادئ والقيم والتوجيهات الخاصة بذلك . ويقوم التاريخ الإسلامي شاهدا على تنزيل هذه المبادئ والقيم إلى واقع ملموس ، إذ ضم العالم الإسلامي في أراضيه على امتدادها وفساحتها ، كما هائلا من الجنسيات والأعراق واللغات والمذاهب والآراء والمعتقدات والأديان ، وتفاعلت فيما بينها وتلاحقت وتحاورت وتجادلت ، وشاركت كلها في صنع الحضارة الإسلامية في علومها وفنونها ونظمها ومؤسساتها المختلفة ، وإن ظهرت فيما بينها بين الحين والآخر نزاعات وصراعات وحروب فهي استثناء لا أصل .
ولكن هذا التاريخ الماضى والمجد التليد للمسلمين السالفين، لا يوجد إلا في أضابير الكتب وبطون النظريات ، ويحتاج إصلاح العالم الإسلامي اليوم إلى إحياء ذلك التراث وبعثه وتجديده وتنزيله في الواقع ، مع الاستفادة من معارف الغرب وعلومه ونظمه ، فيما يتفق مع مقاصد الإسلام والمصالح العامة بضوابطها المعروفة ، جمعا بين الأصالة والمعاصرة .
ووفق هذا المنهاج يتجه هذا البحث في قضية التعددية المعاصرة إلى التفصيل والتخصيص . وسوف يشمل النظر مجالات تعددية الحقيقة ، والتعددية الخلقية والدينية والعرقية والسياسية .
[1] راجع الفصل الثاني والثالث من المرجع السابق McLennan, G r ego r , Plu r alism.
تعددية الحقيقة والقيم
إن النظرة الفلسفية للتعددية الغربية المعاصرة هوالمدخل لفهمها ، وهو العمود الفقري لاستيعاب وجوهها وتطبيقاتها المختلفة في شتى الميادين . وتزعم هذه النظرية[1] أن الحقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا بالظرف الذي تنشأ فيه ، أيا كان هذا الظرف من شخصية المرء أو نظامه المعرفي أو ثقافته أو لغته أو زمانه أو مكانه . وبما أن الظروف تتعدد وتتغير فإن الحقيقة تبعا لذلك متعددة . ذلك أن الحقيقة ليست إلا تصورا جزئيا للأشياء ، يعتمد في الأساس على الزاوية التى ينظر منها للشئ ، وبما أن زوايا النظر تتفاوت فالحقيقة كذلك متفاوتة ومتعددة . وعليه لا توجد حقيقة مطلقة يمكن أن يحكم بها على صحة أو بطلان الآراء ، بل كل الحائق نسبية حسب الظرف الذي تنسب إليه .(36/369)
ومن نتائج القول بتعدد الحقيقة القول بتعدد قيم الخير والشر أو ما يطلق عليه بالتعددية الخلقية . ولهذه المقولة ثلاثة عناصر أساسية: الأول أن تعريفات الخير والشر في الحياة الإنسانية متعددة وكل له أحقيته في القبول ، دون أن يكون هناك أي قاسم مشترك أو معيار لقبول تعريف دون تعريف أخر . الثاني: من الممكن إذن أن تتعارض قيم الخير والشر ولا تتفق ، وليس في ذلك من بأس ، بل كل حسب ما يراه صاحبه . الثالث: ليست هناك منهج عقلى أو نظام معرفي يمكن له أن يزيل التعارض بين قيم الخير بين مختلف الثقافات ولهذا فكلها خير .[2]
ومما لا شك فيه أن مدرسة التعددية الفلسفية تواجة نقدا عنيفا من جهات عديدة ، ولكنها أيضا تلقى قبولا متزايدا في كثير من الدوائر . ولا يسمح المجال هنا بذكر هذه الاعتراضات وردودها ، ويكفي الإشارة إلى أن قبول فكرة تعددية الحقيقة والخلق تعنى في النهاية العدم المحض لكل من الحق والخير ، لأن نفس الحق قد يكون حقا حينا وباطلا حينا آخر والخير خيرا حينا وشرا حينا آخر، فلا يبقى هناك حق ولا يبقى هناك خير . وييدو أيضا أن نظرية أن الظرف هو الذي يولد الفكر تغفل أمرا هاما وهو ما الذي يصنع هذا الظرف وهل لا فكاك من سجنه؟ قد يكون واضحا أن الإنسان بما أوتى من مواهب عقلية وقوي الإدراك والحس ، عامل مؤثر وفعال في تكوين ظرفه الاجتماعى والثقافي والمعرفي . فالظرف نفسه يمكن أن يكون حقا أو باطلا وطيبا أو خبيثا ، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا)[3]. ثم إنه من المشاهد أيضا أن الإنسان ليس سجينا للظروف لا ينفك منها ، ولقد عجزت العلوم الاجتماعية من تفسير الابتكارات والاختراعات وابتداع الأفكار الجديدة ، بغير اعتبارها شذوذا عن الأعراف السائدة[4] . أما نسبية الحقيقة إذا كان المقصود بها أن علم البشر قاصر ومحدود ، إذ أنى للعقل البشرية إدراك الحقيقة كاملة فأمر مقبول ولا غبار عليه ، ولكن البشرية بما فيها من عجز وقصور قادرة على إدراك قدر من الحقيقة يكفيها في لتصريف شئون حياتها . ولكن نسبية الحقيقة المقصود منها في التعددية الفلسفية ، أن ما عند البشر من حقائق لا يمكن الاتفاق حوله والجزم بعمومه ، فصوابه وصدقه أمر جزئي خاص غير مطلق ولا عام . وهذا قول ينقض نفسه إذ أنه إذا سلم به على أنه حقيقة فهو عكس ما أريد نفيه .
ومنهج الإسلام لاثبات الحقيقة يقوم على الدليل من العقل أو النص في القرآن أوالسنة ، ونصوص القرآن والسنة هى أيضا مملوءة بالأدلة العقلية لإثبات ما فيهما من حق وخير[5]، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)[6] ، وما يتوصل إليه من حق أو خير باتباع المناهج العلمية لاثبات النصوص أو فهمها أو الاستنباط منها ، حقائق لا شك فيها . من المحتمل طبعا أن يحدث خطأ في اثبات نصوص الحديث ، أو يحدث خطأ في فهم نصوص القرأن أو السنة ، أو يحدث خطأ في الاستنباط منهما ، أو يحدث خطأ في الاستدلال العقلى ، ولكن كل هذا مسألة تعالج بمراجعة النظر في الأدلة وإزالة ما يكون من خطأ ، ولا يعالج بالقول بتعدد الحقائق كلها ونسبيتها لا حتمال الخطأ في بعضها ، كما تحاول التعددية الغربية أن تدعى حين أبطلت العلوم التجريبية ما كان يظن حقائق مطلقة في عصور أوربا المظلمة ، ثم تهاوت العلوم التجريبية حين عجزت عن حل معضلات الكون الكبرى وبات واضحا أن حقائقها تخطئ وتصيب .
واحتمال الخطأ في الاجتهاد يعنى أن الحق واحد لا يتعدد ، يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه، وهذا رأي عامة علماء الإسلام ، إلا المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن الحق يتعدد وأن كل مجتهد مصيب للحق . قال القرطبى:
"وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا ; فقالت فرقة : الحق في طرف واحد عند الله , قد نصب على ذلك أدلة , وحمل المجتهدين على البحث عنها , والنظر فيها , فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق , وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة , ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر." [7]
والأدلة على أن الحق واحد لا يتعدد كثيرة ، منها أدلة في القرآن والسنة ، ومنها أدلة عقلية ، وتفصيل المسألة مبسوط في كتب أصول الفقة[8] . فمما استدل به قول الله تعالى عن اجتهاد داوود وسليمان في القضية التى عرضت عليهما (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)[9]، فأثنى عليهما بالعلم وإصابة القول والعمل عموما ، وخص سليمان بإصابته الحق في القضية المعينة المعروضة . وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا اِجْتَهَدَ الْحَاكِم فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اِجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر"[10]. ومن الأدلة العقلية أن تصويب رأيين متناقضين مثل " كون الفعل محظورا ومباحا ، أو صحيحا وفاسدا ، أو واجبا وغير واجب ممتنع لاستلزامه اتصاف الشيء بالنقيضين" .(36/370)
ومما يجدر ذكره في سياق تعددية الحقيقة ما قد شاع من فهم خاطئ عند بعض المعاصرين لقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان ، واعتبار ذلك مظهرا من تغير أحكام الإسلام حسب الظروف .
[1] راجع في هذا Lynch, Michael P., T r uth in Context: an essay on Plu r alism and Objectivity, Massachusetts Institute of Technology, Massachusetts, 2001.
[2] راجع في هذا G r ay, John, 'Whe r e Plu r alist and Libe r als Depa r t', in Bagha r amain, Ma r ia and Att r acta Ing r am (ed.), Plu r alism: the philosophy and politics of dive r sity, r outledge, London, 2000, pp. 87-88 .
[3] سورة الأعراف: 58 .
[4] انظر الأفكار المستحدثة وكيف تنتشر ، أفريت روجرز ، ترجمة سامي النشار، عالم الكتب: القاهرة ، دون تاريخ .
[5] راجع رسالة الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، 13: 5- 229 .
[6] ألانعام: 115 .
[7] تفسير القرطبي ، سورة الأنبياء آية 97 . وقد نقل عن أبى حنيفة أنه قال: كل مجتهد مصيب والحق عند الله تعالى واحد ، ومعنى كلامه أن المجتهد مصيب غير آثم لأنه اجتهد وسعه ، وليس قوله مثل قول المعتزلة .
[8] كشف الأسرار شرح أصول البزدوي ، عبدالعزيز بن أحمد بن محمد البخاري ، باب أحوال المجتهدين ؛ شرح التلويح على التوضيح ، عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة ، باب الاجتهاد ؛ فتاوى ابن تيمية ، لابن تيمية ، كتاب أصول الفقه ، مسألة التمذهب .
[9] الأنبياء: 79 .
[10] صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ؛ وصحيح مسلم ، كتاب الأقضية .
التعددية الدينية
للتعددية الدينية في الغرب وجوه كثيرة ولكن سيقتصر الحديث هنا على أهمها . وفي البداية لا بد من الإشارة إلى أن تعدد المعتقدات والأديان في العالم ليست أمرا جديدا ، وقد وجدت كثير منها جنبا إلى جنب في كثير من مناطق العالم ، وإن كانت في الغالب في شكل أقليات دينية في وسط محيط من دين واحد مهيمن . ولعل الأمر الجديد هو تقارب العالم كله بعضه من بعض ، مما سهل أكثر التمازج والتقارب بين أتباع الديانات المختلفة ، ولعل الجديد أيضا هجرة مجموعات كبيرة من أتباع الإسلام والهندوسية والبوذية وغيرها من ديانات الشرق لبلاد الغرب واستيطانهم بها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ، وقد كانت هذه البلاد تكاد تكون حكرا للمسيحية مع وجود جيوب قليلة لليهود والمسلمين في بعض الأماكن . في وسط هذا الواقع العالمي والمحلى ظهرت تيارات التعددية الدينية المعاصرة في الغرب بمعانيها المختلفة ، في محاولة للبحث عن منهج للتعامل مع هذه الظاهرة.(36/371)
يستعمل كثير من الناس التعددية الدينية لتعنى التعايش السلمي بين الأديان تحت شعار عالم واحد للجميع[1] . ومما يجدر ذكره هنا أن تاريخ أوربا مثخن بالجراح من النزاعات والحروب الدينية ، و استضعاف المخالفين ليس فقط من غير المسيحين من يهود أو مسلمين ، بل بين طوائف المسيحية نفسها ، ولا تزال بعض النيران مشتعلة مثل ما يحدث في ايرلندا وأرض البلقان . ولم يضعف هذا الظلم إلا بعد أن كانت الغلبة للعلمانية التى همشت الدين وجعلته محصورا على المجال الخاص وحرمت عليه المجال العام ، وتبنت حرية المعتقد والعبادة للجميع. وفي ظل العلمانية وتحت كنف حمايتها وجدت التعددية الدينية التى تسمح بالتعايش السلمى بين الأديان أوبين طوائف الديانة الواحدة . ويقدم هذا النموذج للعالم على أنه الأمثل لحل مشكلة التنوع الدينى ، ولكن نظرة فاحصة لهذا النموذج تكشف عيوبه . فمن ناحية لا توجد مساواة بين الأديان أو طوائف الديانة الواحدة في كثير من بلدان الغرب مع دعواها التعددية الدينية ، إذ تعطى كثيرا من هذه البلاد وضعا مميزا لبعضها دون بعض . فبعض الكنائس تتمتع باعتراف الدولة بها وجعلها من مؤسساتها وتمويلها كليا أوجزئيا دون الكنائس الأخرى أو الأديان الأخرى ، مثل الكنيسة الانجليزية في انجلترا أو الكاثوليكية في ايطاليا أو اللوثرية في بعض البلاد الاسكندنافية . وتتفاوت البلاد الغربية في موقفها من بعض حقوق الأقليات الدينية مثل حق التعليم الدينى ، سواء كان في السماح به في مدارس الدولة أو السماح بإنشاء مدارس دينية خاصة ، ففى فرنسا وأمريكا مثلا المدارس كلها من المؤسسات العامة ولا يسمح فيها بالتعليم الدينى ، بينما تسمح بعض البلدان بالتعليم الدينى داخل المدارس لطائفة خاصة دون الطوائف الأخري مثل الحال في كثير من ولايات ألمانيا . أما الاعتراض الجوهرى لجعل العلمانية الحارس للتعايش السلمى بين الأديان وطوائفها ، هو الطعن في الحيادية التى تدعيها . ذلك أن أهم مسوغ يقدمه المفكرون الأحرار في الغرب لجعل العلمانية في منزلة القوامة على ضمان التعايش السلمى بين الأديان هو حيادها ، ولكن هذا الحياد المزعوم للعلمانية لا يسنده لا دليل نظري ولا وافعى ، بل هو كما يصفه أحد الكتاب الغربيين ليس إلا أسطورة . ويمضى للقول أن العلمانية لها تصورها للحقيقة وللقيم الأخلاقية ولمناهج الحياة مثل كل تصور ومنهج آخر تقدمه الأديان ، وإعطاء العلمانية سلطة الهيمنة على غيرها من المناهج هو نوع من الاستبداد على غيرها والظلم له[2] . وكثيرا ما يحتدم النزاع والصراع بين العلمانية والدين في بعض السياسات وخاصة في المسائل التي تمس الأخلاق، ولكن الدين في الغالب مسلوب الحقوق والإرادة وما عليه إلا أن يسلم بالأمر الواقع .
والحوار الدينى مظهر آخر من مظاهر التعددية الدينية التى يشيعها الغرب ، وقد ابتدرته الكنائس المسيحية ثم انضمت إليهم الأديان الأخرى ، حتى أصبح حركة عالمية نشطة خلال مائة سنة من تاريخه[3] ، لها مجالسها ومؤتمراتها العلمية ومراكزها الدراسية في الجامعات ، ويحظى باهتمام رسمى وشعبى . ومن ثمرات هذا الحوار كسر الحوجز بين القادة الدينين ، وإتاحة منبر للقاء والتشاور، وإسماع العالم رأي الدين في بعض المشكلات العالمية . ولكن كثيرا من المشاركين فيه أنفسهم يلاحظون أنه قليل الأثر ، إذ لا يتعدى دائرة الأقوال والبيانات والتصريحات ، ومحصور في النخبة وليس له أي امتداد في القواعد ، ويتحاشى الدخول في مواجهة جادة حول الأسباب الحقيقة للكراهية والعداء المتأصل في النفوس ويكتفى بالمجاملات والمظاهر .
وأهم اوجه التعددية الدينية الغربية ذلك الذي يقوم على الرأي القائل أن جميع الأديان مرآة للحقيقة وأنها جميعها حق . وهذه النظرة هى التى تتفق تماما مع مبدأ تعددية الحقيقة الذي سبق توضيحه والذي يعد ركنا أساسيا للتعددية الفلسفية الغربية ، وتعكس أيضا النظرة السائدة وسط الحداثة الغربية من أن الدين يمكن إعادة تفسيره وتأويله وتنقيته من موروثات العصور االماضية ليتواءم مع العصر الحاضر . وبانتشار مبادئ العصرانية التى تقوم بمهمة صياغة فهم عصري للدين وسط كل الأديان وخاصة اليهودية والمسيحية والإسلام[4] ، تجد التعددية الدينية بهذا المعنى قبولا اوسع كل يوم ، بل وقد أصبحت هدفا من أهداف الحوار والتقارب الدينى . ومن الرواد لهذا الاتجاه المفكر اللاهوتي الإنجليزي جون هيك ، الذي يدعو إلى أنه لا يمتلك أي دين من الأديان الحقيقة الكاملة ، بل ليس أي دين إلا محاولة للاقتراب منها ، وعليه فإن كل الأديان متساوية في معرفتها الجزئية بالحقيقة ، وليس بعضها أحق من بعض في إدعاء الحقيقة[5] . ولا شك أن كثيرا من المتدينين الملتزمين يرفضون هذه الدعوة باعتبارها متناقضة وهدم للدين بالكلية .(36/372)
أما نظرة الإسلام لتعدد الأديان ومنهجه في التعامل معها ، فيمكن تلخيصه في نقاط قليلة دون اسهاب لكثرة ما كتب فيه . فالدين في نظر الإسلام واحد في أصوله إذ أن مصدره وحى من الله ، ولكن الدين يعتريه عبر تاريخه تفسير وتأويل قد ينتهى به إلى التحريف والتبديل . وعلى هذا فمن الممكن تقسيم الدين إلى ثلاثة أقسام حسب ما شرح ذلك ابن تيمية[6]: شرع منزل وشرع مأول وشرع مبدل . أما الشرع المنزل فهو ما شرعه الوحي من الله ، أما الشرع المأول فهو الاجتهاد في فهم الشرع الموحى فيما ساغ فيه الاجتهاد ، أما الشرع المبدل فهو الذي دخله التحريف والتغيير ففارق أصول الشرع المنزل وخالفها وناقضها .
فالتعددية في الشرع المأول في الأمور الاجتهادية أمر سائغ ، ويدخل في ذلك طوائف المسلمين وفرقهم ومذاهبهم وطرقهم وجماعاتهم ، ويسوغ للناس الاجتهاد كما يسوغ اتباع رأي أحد المجتهدين لمن رأى أن حجته قوية أولمن ساغ له تقليده ، وقد أشير من قبل على أن الحق في الأمو المتنازع فيها واحد والمصيب من المجتهدين واحد ، ومن اتبع ما ظن أنه الحق فقد أدى ما عليه . أما الشرع المبدل فيشمل كل دين غير الإسلام ، وقد وصف بها ابن تيمية أعراف وتقاليد التتار المجموعة في ما يسمى بالياسا[7]، كما يشمل أيضا التحريفات التى ظنها الناس إسلاما . وإذا كانت الحقيقة الدينية لا تتعدد لأن تعددها وتناقضها استحالة عقلية ، فإن الدين الحق هو الإسلام وما عداه من دين مبدل ليس حقا . ولكن إذا نفى الإسلام تعدد الحقيقة الدينية فإنه لا ينفى التعددية الدينية بمعنى التعايش السلمى بين الأديان أوالحوار الدينى الذي يكون هدفه إكتشاف الحقيقة ، وتاريخ الإسلام شاهد على ذلك .
[1] انظر مثلا Diana L. Eck., "The challenge of plu r alism," The Plu r alism P r oject, Ha r va r d Unive r sity, at: http://www.plu r alism.o r g
[2] انظر G r ay, John, 'Whe r e Plu r alist and Libe r als Depa r t', in Bagha r amain, Ma r ia and Att r acta Ing r am (ed.), Plu r alism: the philosophy and politics of dive r sity, r outledge, London, 2000, pp. 87-88.
[3] لتاريخ الحوار الدينى انظر B r ayb r ooke, Ma r cus. - Pilg r image of hope: one hund r ed yea r s of global inte r faith dialogue. - London : SCM P r ess, 1992
[4] راجع عن العصرانية كتاب مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، دار الدعوة الكويت 1982 .
[5] Hick, John, An Inte r p r etation of r eligion, Basingstoke Macmillan, 1989.
[6] فتاوى ابن تيمية 28: 201-200 ؛ 35: 306-300 .
[7] فتاوى ابن تيمية 35: 408 .
التعدد السياسية
تسعى التعددية في معناها السياسي لتقديم الحلول لمشكلة مدى مشاركة فصائل المجتمع المتنوعة المتباينة في القرار السياسى والحكم . وينبغى التنويه هنا أن موضوع هذه المشاركة ليس المقصود منه الخيار بين الديمقراطية وغيرها من النظم ، فالديمقراطية بأشكالها المختلفة ، وبخاصة غير المباشرة والتى تأخذ بنظام الانتخاب والتمثيل النيابى ، أمر مفروغ منه ومتفق عليه فى أوربا وأمريكا ، ولكن موضع النظر وراء ذلك . ذلك أن المجتمع لا يتكون فقط من حكومة وأفراد يشاركون في السياسة من خلال الانتخاب وعضوية الأحزاب السياسية ، بل هناك شرائح أخرى كثيرة في المجتمع مثل الأقليات العرقية والثقافية والدينية والجمعيات العلمية والكنائس واتحادات العمال ومنظمات التجار والزراع وغير ذلك ، فكيف يشارك هؤلاء في القرار السياسى الذي كثيرا ما يمس مصالحهم مباشرة . هذا هو السؤال الصعب الذي تزعم التعددية السياسية أنها الحل الأمثل له . وسوف يكتفى هنا بتقديم أهم مدرستين للتعددية السياسية ، المدرسة الانجليزية والمدرسة الأمريكية[1] .(36/373)
تتجه كلا المدرستين لنقد مفهوم الحكومة المعاصرة الذي نشآ في الغرب نتيجة عوامل كثيرة ونظريات سياسية معينة ، والتى جعلت من الحكومة مؤسسة ضخمة تسيطر على كل الموارد وتقرر في كل صغير وكبير من شئون المجتمع ، حتى شبهها المفكر الانجليزي جون هوبز بمارد أسطوري هائل الجثة مذكور في الانجيل . ويرى نقاد هذا التصور أن الحكومة أصبحت بذلك عامل استبداد وطغيان تسيطر عليه فئة قليلة من السياسين . ومن أجل تذويب سلطان الحكومة هذا فان المدرسة الإنجليزية ترى أن من واجب الحكومة أن تعطى كامل الحرية والمشروعية لقيام هذه الجماعات الوسيطة بينها وبين أفراد المجتمع ، والتي في العادة تشغل معظم اهتماماتهم ونشاطهم الاجتماعى والثقافي والاقتصادي ، وينبغى للحكومة ألا تتدخل في توجيهها ، بل تترك لها تقرير كثير من الشئون التى تتصل بمصالحها الخاصة ، وتقوم بتنفيذها إن لم تكن تتعارض مع مصالح المجتمع العامة . ومن المهم أيضا أن تنأى الحكومة عن تركيز سلطتها المركزية ، وتحاول توزيع سلطانها وتقويض اختصاصاتها إلى إدارات محلية واقليمية . أما المدرسة الأمريكية فلها طريقتها المختلفة لتحقيق تذويب سلطان الحكومة المطلق ، وذلك باتاحة الفرصة لفصائل المجتمع المتنوعة لتكوين جماعات ضغط تلوى القرار السياسي لصالحها . فالسياسة ليس فيها حق إلا القوة ، والمشروعية والعدل هو قرار يتخذه الأقوى ، ولهذا فان القرار السياسى الحكومة ينحاز لجماعة الضغط الأقوى ، والقوة صورها كثيرة منها المال والعلم والقدرة الشخصية والشهرة والوقت والقدرة على كسب الرأي العام . ومن خلال هذه الوسائل تمارس الجماعات الضغط للتأثير في القرار السياسى الحكومى . ويلخض الرئيس الأمريكى روزفلت ذلك بقوله: "إن السياسة في الحقيقة ليست هى إلا علم موازنة مصالح جماعات الضغط المتعارضة"[2] .
وكالعادة فإن كلا الحلين يواجهان نقدا من عدم تحقيقهما المشاركة الكبيرة من قطاعات المحتمع في الحكم . فالديمقراطية التى هى الأساس لهذه المشاركة في نظر النقاد لا تتيح مشاركة حقيقة ، بل إن فئة قليلة جدا من الناس تشارك في الانتخابات لا تكون إلا نسبة ضئيلة من مجموع الناخبين، وكثير من الناس يصوتون لممثلين وليس لسياسات . فإذا كانت الديمقراطية نفسها التى هى أساس مشاركة المجتمع أمر نظري أكثر منه عملى ، فإن التعددية السياسية ليست إلا حلما قليلا ما يتحقق . ويقترح بعض المفكرين حلا[3] لا يختلف كثيرا عن الحل الإسلامي للتعددية السياسية ، وهذا ما يوضحه الشرح التالي .
لقد استوردت الحكومة الغربية المعاصرة إلى حوزة ديار المسلمين ، عن طريق البطش الاستعماري أحيانا ، أو عن طريق التقليد الأعمى للغرب أحيانا أخرى . وهاهنا وقفة لابد منها مع الفكر السياسي الإسلامي . إذ أن هذا الفكر قد تقمص هذا الشكل للحكومة المعاصرة والبسها ثوب الإسلام دون روية ودون تفكير في هل هذا الشكل أمر حتمي لا بد للناس أن يلتزموا به ويأخذوا بقوالبه . والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو هل ستضلع الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر بنفس الدور الذي تؤديه المؤسسة الحكومية المعاصرة في الغرب ، أم لها وظيفة مختلفة . وللإجابة على هذا السؤال يحتاج المرء إلى النظر أولا لتعريف علماء الإسلام للحكومة وتصورهم لوظيفتها ، والبحث ثانية في نماذج الحكم الإسلامي في عصوره السالفة لنتبين من ناحية عملية ما دور الحاكم ودور المجتمع المسلم في التاريخ الإسلامي . ثم نخلص من ذلك إلى هل الشكل الحالي للحكومة المعاصرة يتلاءم مع ذلك أم يختلف .
تصور المفكرين المسلمين للحكومة الإسلامية ووظيفتها أمر يحتاج إلى وقفة متأنية ونظرة فاحصة . فقد تكرر في كتب الأولين أن السلطان حارس ، وأن مهمته تدبير مهمات الدين والدنيا ، كما أشار إلى ذلك الماوردي وإمام الحرمين الجويني[4] مثلا . فالحكومة ممثلة في الإمام وأعوانه تقوم بدور القيادة والتوجيه والحراسة للمجتمع المسلم ليؤدي دوره بأكمل وجه . وحين ننظر في المسئوليات التي أنيطت بعاتق الحكومة نجدها لا تتعدى المهمات من الأمور مثل الجيش والقضاء والشرطة والبريد والأموال العامة . وقد كان المجتمع المسلم يقوم بكثير من الوظائف الأخرى مثل التعليم والصحة وغيرها . وقد كانت كثير من المؤسسات غير الحكوميه هي التي تشرف على هذه الخدمات وتديرها باستقلالية كبيرة . وقد عدد الدكتور مصطفي السباعي أكثر من ثلاثين نوعا من هذه المؤسسات في كتابه "من روائع حضارتنا" . نذكر من ذلك على سبيل المثال عمارة المساجد والمدارس والمستشفيات ، وتوفير المياه بحفر الآبار وشق القنوات ، وتعبيد الطرق وصيانتها ، ورعاية الأيتام والطفولة والأمومة والعجزة والمكفوفين والفقراء ، وإقامة مساكن الحجاج والفنادق والتكايا التي تؤيي وتطعم المسافرين والمحتاجين مجانا ، وإعانة المجاهدين بالسلاح والمؤن ، والإشراف على المقابر وخدمات الدفن ، وعيادات البيطرة وإيواء الحيوانات العليلة والضالة .(36/374)
باختصار يمكن القول أن المجتمع كان يقوم بالدور الأكبر في المصالح العامة وكان دور الحكومة يقتصر على نطاق صغير من هذه المصالح . وقد كفل المجتمع مصالحه ووفر لها المصادر المالية اللازمة عن طريق الأوقاف وغيرها . وقد كانت هذه المؤسسات الطوعية تؤدي دورها رغما عن فساد الحكومات لأن ذلك الفساد لم يكن ليشمل إلا دائرة ضيقة . كان فساد الحاكم في سلوكه الشخصي أو سلوك حاشيته وأعوانه ، ويتمثل في أكثر الأحيان في تعديهم على أموال الدولة أو حقوق الناس الخاصة . وظل المجتمع يضطلع بمهام جسام وتؤدي مؤسساته دورها ، إلى أن أصاب الانحطاط المجتمع بكليته . وحين جاء الاستعمار إلى أكثر بلاد المسلمين قضى أول ما قضى على مؤسسات المجتمع الوقفية وألحق خدماتها بما أقامه من حكومة غربية الشكل والقالب ، غريبة نافرة عن المجتمع المسلم .
ومن البدهي أن كثيرا من العورات قد بدأت تظهر في نموذج الحكومة الغربية المعاصرة كما ظهر ذلك في فكر التعددية الغربية ، والمفكرون في الشرق بدورهم يشكون مر الشكوى من هذه النقائص . ولعله من الأولى التحول إلى النموذج الإسلامي الذي يجعل المجتمع حاكم نفسه . ويمكن تلخيص التعددية السياسية الإسلامية في النقاط الآتية:
1. يقوم الحكم على الشورى ، وحسب رأي علماء الإسلام المعاصرين فإن من طرق الشورى الانتخابات[5] لاختيار رأس الدولة ومجالس شورية .
2. والشورى تعنى أيضا في اجتهادت المعاصرين اتاحة الفرصة لتكوين أحزاب سياسية متعددة ، مع إصلاح النظام الحزبى من عيوبه التى صاحبته في بلاد الشرق[6] .
3. تعتمد الحكومة الإسلامية النموذج التاريخى الإسلامي من توزيع السلطة على أمصار الدولة وعدم احتكارها في المركز .
4. تفوض الحكومة لمؤسسات المجتمع الطوعية أو ما يسمى بمؤسسات المجمتع المدنى ، القيام بأكبر قدر من الخدمات من تعليم وصحة ومواصلات ومياه وغيرها ، تمول عن طريق أوقاف خيرية . ولا تختص الحكومة إلا بالخدمات العامة الهامة من جيش وقضاء وشرطة وخزانة المال العام .
5. تتيح الدولة لكل فرد من أفرادها من مسلمين وغير مسلمين ، بجميع طوائفهم وهئاتهم وجمعياتهم الحق في تكوين مؤسسات طوعيه وقفية تخدم مصالحهم الخاصة من ثقافية ودينية واقتصادية وفنيه وغيرها .
[1] انظر McLennan, G r ego r , Plu r alism, Unive r sity of Minneota P r ess, Minneapolis, 1995;
Nicholls, David, Th r ee va r ieties of Plu r alism, Macmillan P r ess, London, 1974.
[2] Nicholls, David, Th r ee va r ieties of Plu r alism, Macmillan P r ess, London, 1974, p. 2.
[3] راجع في هذا G r ay, John, 'Whe r e Plu r alist and Libe r als Depa r t', in Bagha r amain, Ma r ia and Att r acta Ing r am (ed.), Plu r alism: the philosophy and politics of dive r sity, r outledge, London, 2000, pp. 87-88.
[4] الأحكام السلطانية ، أبو الحسن الماوردي، القاهرة ، 1973 ، ص 5 ؛ الغياثى ، أبوالمعالى الجوينى ، تحقيق عبد العظيم الديب ، القاهرة ، 1401 هجرية ، ص 22 .
[5] الخلافة والإمامة العظمى ، محمد رشيد رضا ، القاهرة ، 1988 .
[6] انظر في النظام السياسى الإسلامي ، محمد سليم العوا ،
التعددية الثقافية(36/375)
تستعمل كلمة التعددية الثقافيه في ثلاثة معان أساسية[1]: يشير المعنى الأول لظاهرة وجود أعراق وألوان ولغات وثقافات متعددة داخل الدول ، والذي لا تكاد تخلو منه دولة في الدنيا ، إذ أنه من المستحيل أن يوجد تجانس كامل بين قطاعات المجتمع كله في أي مكان في العالم لا في القديم ولا في الحديث . أما المعنى الثانى للتعددية الثقافية فيقصد به الاتجاهات السائدة للعلاقات العنصرية بين مكونات المجتمع العرقية والثقافية المختلفة . وتتأرجح هذه العلاقات بين الذوبان الكامل في ثقافة واحدة غالبة في طرف ، يقابله في الطرف الآخر التمييز العنصري بدرجات متفاوتة قد تصل إلى الإبادة العنصرية ، ويتوسط ذلك المساواة وكفالة الحقوق للناس كلهم سواء . أما المعنى الثالث والأهم للتعددية الثقافية فيراد به مجموع السياسات والقوانين التى تكفل المساوة والفرص المتكافئة للجميع في التعليم والعمل والحقوق والاحترام والعيش الكريم . ولعله مما يتصل بهذه القضية ذكر حق المواطنة ، إذ أن الدول المعاصرة تقوم على مبدأ القومية . وتسود ثلاث اتجاهات في هذا الصدد . الاتجاه الأول ومن أمثلته ألمانيا واليابان ، لا يعترف بحق المواطنة إلا لمن ينتمى بالنسب إلى أصول البلد ، فحتى الجيل الثالث من الأتراك المستوطنين في ألمانيا - مثلا - لم ينالوا حق المواطنة . أما الاتجاه الثانى فتمثله فرنسا ، التى تفصل فصلا تاما بين الحياة العامة والخاصة ، فتعطى كل من نال الموطنة حقوق متساوية كافراد وليس كمجموعات ، محافظة منها لوحدة الدولة حسب زعمها ، ومن ثم تتحاشى الاعتراف بأي انتماء عرقى أو طائفى في مجالات الحياة العامة ، وإن كانت تسمح بتنظيم المجموعات لأنفسهم في جمعيات تحافظ على هويتهم الثقافية ، ولكن لا يظهر عمليا أن ذلك يحقق التعددية ، بل من الواضح أن الذوبان هو الغالب . والاتجاه الثالث وتمثله كندا واستراليا أكثر من غيرها ، فهو الذي يسمح بالتعددية العرقية والثقافية ، ويظهر ذلك في السياسات العامة والتشريعات والتعليم . ومع هذا فإن المساواة المدعاة من الناحية النظرية لا تتحقق عمليا ، إذ أن العنصرية أمر مستأصل في النفوس ولا تحل بالقوانين ولا التعليم ، إن لم يكن ذلك عقيدة راسخة في النفوس ، ونضال حركة الحقوق المدينة وإزالة التمييز العنصري في كل من أمريكا وجنوب افريقيا شاهد على ذلك .
فما موقف الإسلام من التعددية الثقافية ؟
قد لا يكون هناك حاجة لتأكيد المبادئ التى أعلنها الإسلام نحو مشكلة الاختلاف العرقى والثقافي ، حين أعلن القرآن (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ )[2] . فكان بذلك إعلانا عالميا للمساواة بين البشر على اختلاق أعراقهم وأصولهم وألوانهم ولغاتهم ، واتجه بهذا الإصلاح إلى مداخل النفس البشرية ، وحربا على التمييز العنصري بكل أشكاله ، ولو كان احتقارا داخل القلب أو تغيرا في الوجة أوهمسة بالشفاه . وترجم ذلك إلى تشريعات عملية شهد عليها التاريخ ، وقد عاشت أعراق كثيرة وثقافات ولغات جنبا إلى جنب ، وساهمت كلها في صنع الحضارة الإسلامية التى اتسعت للجميع ، وإن كانت قد شابت ذلك الأصل في المساواة استثناءات في بعض الأزمنة والأمكنة ، فذلك خروج عن الأصل . وإذا كان المجتمع في الدولة المسلمة هو الذي يحافظ على هوية نفسه ، كما اتضح ذلك في شرح التعددية السياسية ، فإن لكل فرد من أفراد الدولة المسلمة ، من مسلمين وغير مسلمين، بجميع طوائفهم وهئاتهم وجمعياتهم الحق في تكوين مؤسسات طوعيه وقفية تخدم مصالحهم الخاصة من ثقافية ودينية واقتصادية وفنيه وغيرها .
[1] يعتمد الشرح على تقرير اليونسكو MULTICULTU r ALISM: A POLICY r ESPONSE TO DIVE r SITY, UNESCO 1995.
[2] الحجرات: 13 .
الخاتمة: التوازن بين الوحدة والتعددية(36/376)
من الأمور التى قد تغيب حين الحديث عن التعددية بأنواها المختلفة ، أن التعددية قد اكتسبت معنى براقا ويظنها الناس أمرا مستحسنا في عمومه ، وإن كانت هناك بعضا من تفاصيله غير مقبولة . ولكن لا ينبغى أن ينسى أن التعددية إذا تطرفت فإنها تكون شرا محضا ، لأنها من الممكن أن تستأصل وحدة المجتمع وتنزلق به إلى مهاوي الفرقة والانقسام والتناحر . ويسعى كل من ينادي بالتعددية إلى الموازنة بينها وبين الوحدة حتى لا يطغى جانب على جانب ، وإن اختلفوا فيما بينهم في كيف يتحقق هذا التوازن . وتسعى الدول التى تسم نفسها بالتحررية أن تفصل بين المجالين العام والخاص في الحياة ، فتجعل الاختلاف والتعدد في دائرة الحياة الخاصة ، أما دائرة الحياة العامة فتستأثر بها الدولة ولا تسمح فيها إلا بأقل ما يمكن من التعددية . ويكاد أن يتبنى هذا الحل أكثر دول الغرب وإن كان كما شرح سابقا هناك تفاوت في التطبيق ، ومن أحسن الأمثلة على الفصل الصارم بين العام والخاص فرنسا وتركيا . ولكن المغالطة هنا هو الادعاء أن العام محايد لا ينحاز إلى فئة من فئات المجتمع بل هو يتخذ سبيلا وسطا بين تيارات المجتمع المختلفة . وهذا ادعاء غير مسلم به ويواجة نقدا شديدا من الناحية النظرية ومن الناحية العملية[1] . فمما لا شك فيه أن العام يقوم على تصورات وفلسفة ومناحج قد لا تتفق مع كل فئات المجتمع ، بل قد توافق بعضا وتصادم البعض الأخر . والمحصلة النهائية أن بعض فئات المجتمع ينالها الظلم والتهميش ، ومن أكبر الشواهد على ذلك الأقليات اليهودية في خلال القرن التاسع عشر في أوربا ، والسود والملونين في أمريكا ، والأقليات المسلمة في الغرب في الوقت الحاضر. ثم إن التمييز بين حدود الخاص والعام أمر عسير وكثيرا ما تختلط الأمور .
وتعتمد كثير من الدول على اعتبار أن فئات المجتمع على اختلاف انتماءاتها الدينية والعرقية والثقافية ، تجمع بينها ثوابت كثيرة ومصالح قومية ووطينة ، ويعتبر ذلك الضمان الأكبر لمسألة التوازن بين الوحدة والتعددية . ويطلق على ذلك أحيانا تعبير "قواعد اللعبة" ، إذ أن التعدد والاختلاف ينبغى أن يعرف هذه القواعد ويلتزم بها وبذلك تتحقق الوحدة الوطنية . ومن الواضح أن الإسلام ينحو هذا المنحى ، إذ أنه لم يعرف التفريق بين الحياة العامة والحياة الخاصة ، لكنه من أجل المحافظة على الوحدة ، جمع الناس على مبادئ مشتركة ، أما المسلمون فالأمر واضح إذ أن الخلاف له حدوده وضوابطه وأدبه ، وتجمع الناس أصول كثيرة مجمع عليه بين المسلمين ، والجماعات التى تخالف في هذا الأصول ، تجمعهم حقوق مشتركة ، ومن الموافق المشهورة في ذلك قول على بن أبي طالب للخوارج: " إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئا ما دامت أيديكم معنا وأن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدءونا به."[2] ومن الممكن أيضا أن تكون هناك ثوابت جامعة بين المسلمين وغيرهم ، ومن شواهد التاريخ في ذلك وثيقة العهد في المدينة بين الرسو صلى الله عليه وسلم والانصار والمهاجرين واليهود الذين كانوا بالمدينة ، كما ذكر ابن كثير في سيرته قال: وقال محمد بن إسحاق : "وكتب رسول ا صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم ، واشترط عليهم وشرط لهم"[3]. . وقد قال الرسو صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول الذي كان في الجاهيلة " لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، رواه الإمام أحمد بسند صحيح وجاء في رواية مرسله ولو دعيت به في الإسلام لأجبت.
ونسأل الله أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ونعوذ بالله من الزلل والضلال .
[1] Honohan, Isult, 'Dealing with diffe r ence: the r epublican public-p r ivate distinction, in in Bagha r amain, Ma r ia and Att r acta Ing r am (ed.), Plu r alism: the philosophy and politics of dive r sity, r outledge, London, 2000, pp. 156- 176.
[2] البداية والنهاية لابن كثير ، ج 7 ، فصل قتال على للخوارج .
[3] البداية والنهاية لابن كثير ، ج
=================(36/377)
(36/378)
مراجعة لكتاب مستقبل الإسلام السياسي لجراهام فولر …
بقلم الدكتور بسطامي محمد سعيد خير
إذا تأمل المرء في أوضاع العالم الإسلامي وتاريخه المعاصر، يستطيع أن يشهد بوضوح قوة التيارات والجماعات الإسلامية في كثير من بلدانه، واضطراد زيادة تأثيرها في العقود الأخيرة، حتى إن بعضها قد وصل للسلطة وآلت إليه مقاليد الحكم. ولا يقتصر تأثير الحركات الإسلامية السياسية على المستوى المحلى، بل قد تعداه إلى توجية السياسة العالمية، لدرجة أنه من الممكن القول أن الإسلام قد أضحى من أكبر الهموم التى تشغل الدول الغربية الكبرى، وباعثا ومحركا لكثير من سياساتها الداخلية والخارجية. ومن آثار عناية الغرب الحالية بالإسلام، السيل الدافق من الكتابات والبحوث والدراسات، التى تعنى بها مراكز البحوث وتتصدر قوائم المطبوعات وتعج بها وسائل الإعلام.
ومن الكتب التى شاعت وأحدثت ضجيجا عاليا، كتاب عنوانه (مستقبل الإسلام السياسى) للباحث جراهام فولر، درس فيه الجانب السياسي للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، وحاول استقراء مستقبلها وتقويم عوامل نجاحها وفشلها. وقد تميز الكتاب من بين الكتب الغربية المماثلة، بسعة الإطلاع وجرأة الطرح ومحاولة الإنصاف. وتقدم السطور التالية مراجعة له وخلاصة لأهم فصوله، مع تعليق على بعض آرائه ونقدها واستجلاء ما له وما عليه، واستخراج ما يمكن أن يستفاد منها من موجهات لمخططات الغرب تجاه مستقبل مسيرة الإسلام.
ولمؤلف الكتاب جراهام فولر خبرة واسعة عن كثب بأوضاع العالم الإسلامي، تظهر بوضوح في ثنايا الكتاب، فقد عمل لمدة عشرين سنة في وزارة الخارجية الأمريكية، وشغل منصب نائب رئيس جهاز المخابرات الأمريكية سي آي إيه، وكان مسئولا عن قسم دراسات المستقبل الاستراتيجية للسياسة الأمريكية. ويعمل الآن في مؤسسة راند للبحوث، وله عناية خاصة بشئون العالم الإسلامي. وله عدد من الكتب والبحوث بالمجلات، وهو مساهم نشط في الجرائد والمجلات وقنوات التلفزيون.
الأسئلة الأساسية
يطرح الكتاب أسئلة أساسية ويحاول الإجابة عليها من خلال فصول الكتاب. ما الإسلام السياسي؟ وكيف يعمل لتحقيق الأهداف والغايات التى يسعى إليها؟ وما التحديات التى يواجهها وما المخاطر التي يهدد بها العالم؟ وأخيرا ما مستقبله؟ وبالتحديد هل الإسلام السياسي تطور مرحلي مؤقت يمر به العالم الإسلامي للخروج من الأزمات والمشكلات التى يعيشها؟ أم أنه بداية جادة لمشروع حضاري ينقل به الإسلام نفسه من ظلمات الماضي إلى العصر الحديث؟
يستعمل الكاتب مصطلح الإسلام السياسى مرادفا لمصطلح الإسلاميين، الذين يعرفهم بأنهم كل من يؤمن بأن الإسلام ليس دينا فحسب بل نظاما سياسيا واجتماعيا صالحا لإصلاح العالم الإسلامي المعاصر، ويسعى لتطبيق ذلك في مجتمعه بالطريقة المتاحة. ويشمل تيار الإسلام السياسي جماعات كثيرة يفصل الكتاب القول عنها في الفصل الثالث من فصول الكتاب. ولكن محاولة الكاتب لتصنيف هذه الجماعات لا تأتي بجديد، بل تعيد نفس التصنيف والوصف الغربي لهذه الجماعات، وتستعمل نفس المصطلحات. وحسب رأيه أن الجماعات الإسلامية فئات كثيرة، فهناك التقليدون والأصوليون والإصلاحيون والعصرانيون والمتطرفون. ويعترف ابتداء أن هذه مصطلحات عامة وغير محددة، والسبب في ذلك في نظره أن الجماعات الإسلامية متعددة ومتشابكة ومن الصعب التمييز الدقيق بينها. ولكنه يخلص إلى أنه من الممكن القول عموما أنها تمثل قوس قزح، تتوزع ألوانه بين المحافظة والتقليد للماضي في طرف، وبين الإنعتاق والتحرر والحداثة في الطرف الأخر.
سر صعود الإسلاميين
لقد خرج الإسلاميون من رحم العالم الإسلامي، في ظروف صعبة وأزمات كبيرة تعصف به. فقد هوى من حضارة عالمية راقية كانت بيدها سيادة وقيادة الدنيا علميا وثقافيا وتقنيا لأكثر من ألف سنة، والتهمه وسلب خيراته الإستعمار الغربي، وقسمته وتنازعته الاختلافات المذهبية والعرقية والقومية، وسقط في حضيض الفقر والجهل والمرض. ومع كل هذه السيئات فقد حدثت تغيرات هائلة في العالم الإسلامي خلال القرن الأخير، يعرضها الكاتب ويسوقها في إشارات سريعة، منها سقوط الخلافة العثمانية، ونشأة الدول الإسلامية القومية العلمانية واستقلالها عن الاستعمار، وظهور الحركات الإسلامية وبلورتها لفكر سياسى واجتماعي على يد عدد من المفكرين المعاصرين، وقيام دولة اسرائيل، واكتشاف ثروة النفظ الهائلة وما ساقته من ثراء، ونجاح الثورة الإيرانية. وفي خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الأحداث المتتالية، خرج الإسلاميون الذين استطاعوا أن يصبحوا في عقود قليلة أكثر التيارات تأثيرا ونموا في العالم الإسلامي، وقوة جعلت الدول الغربية تحسب لها ألف حساب. فما السر الذي أتاح للإسلاميين هذا الصعود السريع للقمة؟ وهل هم قوة حقيقة أم فقاعة صابون وسحابة صيف سرعان ما تزول؟(36/379)
يحاول الكاتب الإجابة على هذا السؤال الصعب، في فصل كامل من فصول الكتاب لعله أقيم وأمتع ما في الكتاب. ويسخر الكاتب بادئ ذي بدء من النظرة السطحية التى سيطرت على تفكير الغرب ردحا من الزمان، متهمة الحركات الإسلامية بالرجعية وعداء الحداثة الغربة والوقوف ضد الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والإرهاب. ويرى أن نظرية صدام الحضارات رؤية أعور للإسلام، ينقصها الإنصاف هدفها إعفاء الغرب من المسئولية عن ازمات النظام العالمي المعاصر، لكن هذه الإزمات ليست من صنع الإسلام بل للغرب ضلع كبير فيها. وينصح الغرب بأن يقوِّم الإسلاميين تقويما منصفا ينطلق من نظرة شاملة تقيس الأمور من وجهة نظرهم ومن وجهة نظر الغرب.
وانطلاقا من ذلك يرى الكاتب أن الإسلاميين قد استطاعوا أن يملأوا فراغا كبيرا في العالم الإسلامي، لأنهم قد استجابوا لحاجات ملحة وواجهوا واقعا معقدا، وطرحوا حلولا لمشكلات عويصة، وتحملوا وظائف وأعباء جسيمة جعلت أوطانهم ترى فيهم الخلاص والمنقذ والمستقبل. وهكذا أصبح الإسلام الحل الوحيد المطروح بعد فشل كثير من المبادئ والأفكار في العالم الإسلامي من تغريب وعلمانية وشيوعية وقومية. ومن أهم ما قام به الإسلاميون أنهم عرَّفوا الأمة بهويتها، التي تجمع بين المحلية والعالمية وبين القومية والعرقية وبين الأصالة والمعاصرة. وسعوا من الناحية الفكرية لتجديد الإسلام من تقاليد الماضي العتيقة، ولهذا طرحوا أنفسهم بديلا لطائفة العلماء التقليديين الجامدين، وصاروا حربا لهم وللحكومات الفاسدة التي ساندوها بفتاواهم وخطبهم. وسعى الإسلاميون لإعادة صياغة االفكر الغربي المعاصر ونظمه من وجهة نظر إسلامية، وآمنوا بالدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة لأنهم كأنوا أول ضحايا غيابها وأكثر من ذاق ويلات ضياعها. وطالبوا بحرية العمل السياسي وتكوين الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وطالبوا بأن تكون للمرأة حقوقها ومكانتها. ويخلص أنه ليمكن القول أن الإسلاميين ليسوا أعداء للفكر الغربي وما فيه من محاسن كالديمقراطية، بل لعلهم يكونون جسرا لتعديل النموذج الغربي للديقراطية وجعله أكثر ملاءمة لظروف العالم الإسلامي.
الإسلاميون والإرهاب
حتى تهمة الإرهاب التى يلصقها الغرب بالإسلاميين عموما، يرى الكأتب أن فيها إجحاف لأن الإرهاب والعنف محصور في فئات قليلة من بين الإسلاميين، ولا يصح تعميم وصف تياراتهم العريضة به. بل ويرى أن كثيرا من الإسلاميين قد عبروا عن سخطهم واستائهم لحوادث الحادي عشر من سبتمبر، ووقفوا موقفا معتدلا من استعمال العنف الذي لا يجيزونه ضد المدنيين والأبرياء. ويقول حتى لو لم يكن الشرق مسلما بل كان نصرانيا، لوقعت المواجهة بينه وبين الغرب لتضارب المصالح بين الطرفين. وينتقد الكاتب اتخاذ أمريكا الإرهاب عذرا لغزو أفغانستان والعراق، ويرى أن ذلك قد كان سببا لزيادة العداء ضد أمريكا ولزيادة الإرهاب وليس حربه وأضعافه.
محاولة للإنصاف
ولا شك أن هذا التحليل المسهب لأسباب نجاح خطاب الإسلاميين، ومقدرتهم على تجميع الجماهير وتحريكها، فيه كثير من الإنصاف لم يتصف به إلا قلة من الباحثين الغربيين. ويمثل ذلك اتجاها بدأ يقوى ويزداد، ولعل من أكبر دوافعه وأسبابه النقد الذاتي، الذي يوجهه كثير من المفكريين الغربيين لحكوماتهم وسياستها في المشكلات العالمية، بعد انهيار العالم الشيوعى وانفراد أمريكا وأوربا بالهيمنة على العالم. هذه الهيمنة التي بشر بعض المفكرين بأنها فاتحة خير للبشرية ونهاية مسيرة تارخها نحو العدل والسلام، لكن سرعان ما زال السراب واصطدمت الأحلام بالواقع وانكشف الغبار عن الحمار. ودفع هذا بعدد من الغربيين من ذوي االنظر الثاقب إلى التبصر والتفكر ومحاولة قراءة الواقع من وجهة نظر مختلفة. ولا يقتصر هذا الاتجاه على النخبة المفكرة وحدها بل تعداها الى بعض عوام الجماهير، التي شاركت في المظاهرات ضد حرب العراق وإدانة الكذب الصريح لتسويغ الحرب، وأصبحت صيحات الاحتجاج والنقد تتعالى حتى ضد إسرائيل التى كانت تتمتع بحصانة وقداسة لا تمس. ومن المؤسف أن العالم الإسلامي لم يستثمر مثل هذا الاتجاه المناصر لقضاياه والاستفادة منه وتوظيفه ودعمه، لكن ليس على الأعمى والأعرج حرج!!
الإسلاميون والسلطة(36/380)
ويتناول الكتاب في فصل مستقل دور الإسلامين وبرامجهم السياسية في ظل ما تتيحه لهم الحريات في بعض بلدان العالم الإسلامي. ويقول أن الإستعمار والحكومات التى أعقبته حاولت إقصاء الإسلاميين عن العمل السياسي، واستعمال القوة والبطش لمنعهم من التأثير في القرار السياسى. ولكن مع هذه الصعاب والحواجز فقد قام الإسلاميون بجهد واضح وتحملوا أعباء ضخمة لإصلاح المجتمع من وجهة نظرهم. ويعدد الكتاب بعض إنجازاتهم منها التوعية الدينية والدعوة، ومنها إقامة مؤسسات طوعية تعليمية وخدمية واقتصادية، ومنها تكوين جبهات وتحالفات مع الأحزاب الأخرى لتكون جماعات ضغط تؤثر في القرار السياسي، ومنها خوض الانتخابات ودخول المجالس التشريعية والمحلية والمشاركة في الحكومة والسلطة في بعض الدول. ويكاد يجمع كل الإسلاميين على أن السلطة هى مفتاح التغيير للمجتمع وبوابة الإصلاح، لهذا يجدُّون في السعي للوصول إليها والتمكن منها. وإن كانوا يختلفون فيما بينهم في وسيلة الوصول، ففي حين يرى البعض أن الدعوة والتربية هي الطريق لأن الإصلاح يأتي من القاعدة، يرى فريق آخر أن الإصلاح يكون من القمة ومن أعلى إلى أسفل، فإذا صلح الرأس صلح الجسد. ولا يبدي الكاتب رأيا خاصا إزاء هذا الجدل، ولا يتوقع منه ذلك. ولا شك أن الأمران متلازمان ويقوى كل منهما الآخر، ولا يمكن الأخذ بطريقة واحدة واهمال الأخرى، سواء قبل التمكين والوصول للسلطة أو بعد ذلك.
وإذا استطاع الإسلاميون أن يقدموا كل هذا الطرح، وأن يخاطبوا الجماهير بما يدغدغ أشواقها ويبعث طموحاتها، فهل سينجح الإسلاميون في تطبيق شعاراتهم ونظرياتهم؟ يتوجه الكاتب بنظره إلى تقويم تجربة الإسلاميين في السلطة، ويختار لذلك تجربة البلدان الثلاثه التى نجح فيها الإسلاميون في الوصول للسلطة، وهي أفغانستان وإيران والسودان. ومن العجيب أنه يتجاهل تماما تجربة تركيا ولا يتعرض لذكرها. ويتساءل الكاتب عن المنطلق الذي تقوم به هذه التجارب، فيقول أن الغرب عامة وأمريكا خاصة، تخطئ حين تقوِّم هذه التجارب من زاوية مصالحها الخاصة، ويؤكد أنه ينبغي الحكم عليها من وجهة نظر شعوبها ومن معايير وأسس الحكم الصالح، وما تقدمه من خير وما تجلبه من شرور. وابتدأء يرى أن ثلاث تجارب فقط غير كافيه للحكم على القطاع العريض من الإسلاميين، الذين تتعدد حركاتهم وتتفاوت، ولكنها تعطي مؤشرات. كما أن عمر هذه التجارب قصير ولا يمكن الحكم من خلال فترة وجيزة على مشروع الإسلام السياسى بجوانبه الكثيرة وطموحاته الكبيرة، إذ أن بناء الدول والأمم والحضارات يحتاج لوقت ولا تظهر معالمه في زمان وجيز. ويرى الكاتب أن مجرد وصول الإسلاميين إلى السلطة إنجاز لعملهم وسعيهم المتواصل نحوها، ولكنه يعيب على الإسلاميين في هذه الدول الثلاثه، أن وصولهم للسلطة لم يكن عن اختيار ديمقراطي، بل كان عن طريق القوة، نتيجة حرب أهلية في افغانستان وثورة شعبية في إيران وانقلاب عسكري في السودان. ورغم اعترافه بأن هناك انفتاح في السنين الأخيرة في إيران والسودان، لكن لا زالت آثار النشأة تصبغ النظام بنوع من الشمولية والاستبداد. ويمدح الكاتب الذي جعل الديمقراطية مثله الأعلى للحكم، آخذ السودان وإيران بنموذج الحكومة الغربية، ويمدح ما تتمتع به من فصل بين السلطات ومن قيام انتخابات ومجالس تشريعية. ورغم أن النظامين قد مرا بتجارب من الإخفاقات ناتجة أساسا عن قلة الخبرة، إلا أنهما قد تمكنا من تعديل سيرهما حسب نظر الكاتب، ويوصي الكاتب المجتمع الدولي وأمريكا خاصة بمساعدتهما على التطور والإصلاح بدلا من شن الحرب عليهما. وهي نصيحة غالية من خبير ببواطن الأمور ولكن ينبغى الوقوف وإمعان النظر في نوع الإصلاح والتطور الذي تطالب به أمريكا، وبين الإصلاح الذي ينبع من داخل النظام وتمليه الخطط والأهداف النابعة من قلب النظام نفسه.
ولا ينبغى أن يغيب عن البال أن الكاتب رغم محاولته التزام الإنصاف والنظر من زاوية الإسلاميين ورؤيتهم للأمور، إلا أنه من الطبيعي أن يرى النموذج الغربي للدولة والديمقراطية، المثال الذي ينبغي للعالم أجمع الأخذ به واقتفاء آثاره. ولهذا فهو يمدح الإسلاميين حين جعلوا النموذج الغربي مثالهم، وهو مدح لا يغيب عن فطنة الذكي أنه توجيه خفي، والكتاب ملئ بمثل هذه الإيحاءات الخفية. ولكن نظرة فاحصة تبين أن فكر الإسلاميين السياسى لم يتجاوز هذه العقبة، وأن تقمصه للنموذج الغربي للحكم دون روية ودون نقد، وإلباسه هذا الجسم الغريب عن الإسلام لباس الإسلام، أمر يحتاج لمراجعة. إذ أن الحكومة المعاصرة وحش ضخم يسيطر على كل شئون المجتمع، ولا شك أن الحكومة الإسلامية في عصور الإسلام السابقة لم تكن تتحمل هذه الأعباء الجسام كلها، بل كانت تقوم ببعص الوظائف، وتترك للمجتمع الاستقلال بتدبير كثير من الخدمات من تعليم وصحة ومواصلات وطرق عن طريق مؤسسات وقفية، أوما أسمى اليوم يمؤسسات المجتمع المدنى. وليس هذا محل بسط هذه القضية.
المستقبل(36/381)
وأخيرا يختم الكاتب بحوثه باستطلاع لآفاف مستقبل الإسلام السياسي. ويوطئ لذلك بنظرة سريعة للخريطة العالمية والقوى العاملة فيها، التى ستؤثر بثقلها على رسم مستقبل الإسلاميين. فمما لا شك فيه أن العالم يموج بعوامل كثيرة وتيارات متلاطمة، يسوق الكتاب عددا منها. ولعل أقواها تأثير الأفكار الغربية من انحسار الدين عن الحياة العامة وحصره في الحياة الخاصة، واتساع دائرة الحريات الشخصية، وسيطرة العلمانية والمادية الغربية ومذهب المتعة واللذه على شعب الحياة، وتعالي أصوات الأقليات والصراع بين حقوقها وحقوق الأغلبية، وازدياد مشاعر العرقية واالطائفية والمطالبة بحقوقها، وتضخم العولمة وهيمنة الدول العظمى على الأمور صغيرها وكبيرها. وتبحر سفينة الحركات الإسلامية في هذا الخضم الهائل، ولا تستطيع أن تنفرد بتقرير مستقبلها.
ومع هذا فإن الكاتب يرى أن الإسلاميين سيفرضون أنفسهم في المدى القريب، ويتنبأ بوصول الإسلاميين للسلطة في عدد من البلدان مثل مصر واليمن وباكستان، وسيحققون عددا من المكاسب رغم التحديات الكبيرة والعقبات التى تواجههم، خاصة في مجال الاقتصاد والتنمية. ولكنه يخشى أن ينشغل الإسلاميون بردود الفعل الوقتية، والمعارك الجانبية التى قد تستنزف كثيرا من جهودهم ومواردهم، وتصرفهم عن غاياتهم الكبرى ومشاريعهم الرئيسية. وهو خوف يعبر عنه بطريقة ذكية، فيها من التوجيه والإيحاء لإحدى طرق محاربة الإسلاميين، فهل يعى الإسلاميون النصيحة ويكونوا أكبر ممن يتشيطن عليهم بمثل هذه الطريقة الماكرة. ولا يفوت الكاتب أن يتنبأ أن المحك الأساسي لاختبار الإسلاميين هو فخ السلطة، التى إن فشلوا فيها كانت السم الترياق الذي يميتهم ويستأصلهم. وكانه يحث أمريكا على دفع الإسلاميين إلى اعتلاء كرسى الحكم قبل أن يقوى عودهم وتكون لديهم المقدرة على تسيير دفة الحكم. ويقول "لا شئ يمكن أن يظهر الإسلاميين بأسوأ صورة من تجربة فاشلة في الحكم". وهو قول صريح لا ينقصه الصدق، إلا أنه لا يأخذ في الاعتبار أن الإسلاميين يمدهم دينهم بايمان راسخ، أن النصر والتمكين والهزيمة والفشل، لا تعتمد فقط على الأسبباب المادية الظاهرية، بل إنما تحركها يد الله الخفية التى لا يستطيع الغرب أن يحسب حسابها. ولا شك أن الإسلاميين بشر وتجاربهم في الحكم فيها الخطأ والصواب، ولا أظن أن أحدا عاقلا يمكن أن يدعي أن خطأ أي تجربة بشرية للحكم الإسلامي في أي زمان ومكان، يؤاخذ بها الإسلام ويذم بسببها، أو تكون شاهدا ودليلا على فشله وعدم ملاءمته لحل المشكلات العصرية. ومثل ما كانت هناك عدة محاولات فاشلة في التاريخ الغربي المعاصر، إلى أن استطاعت دوله الوقوف على رجليها وبناء نظمها السياسية على أسس مبادئها النظرية التى نادى بها فلاسفتها ومفكروها، فإن التجربة والصواب والخطأ والنجاح والفشل، هو الوسيلة البشرية الوحيدة المتاحة لبلوغ الغايات والأهداف. ومثلما تعددت الجمهوريات الفرنسية من جمهورية أولى وثانية وثالثة، فإذا فشلت تجربة الحكومة الإسلامية الأولى، فأمام الإسلاميين الحكومة الإسلامية الثانية، والحكومة الإسلامية الثالثة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
=============(36/382)
(36/383)
تطوير الخطاب الديني
اسم المعد : نصر بن محمد بن رواق الصنقري
مصري الجنسية ..خريج كلية الآداب والتربية شعبة اللغة العربية ..جامعة الإسكندرية
إمام وخطيب مسجد قباء محافظة مرسى مطروح( يعمل مدرساً للمرحلة الثانوية )
من مؤلفاته : الموسوعة في تربية الأجيال المسلمة مجلد ضخم طبعة دار الإيمان بالإسكندرية موجود في الأسواق
ومن مؤلفاته تحت الطبع : تطويرالخطاب الدين / الفتور الأسباب والعلاج / التفسير المعاصر
الرسالة التي بين أيديكم الآن هي رد على الصرخة التي ينادي بها البعض من وجوب التطوير في الخطاب الديني وهم يقصدون من وراء ذلك تغييره في واقع الأمر بحيث يتناسب وتوجهات الغرب ( الذي يطلقون عليه الغير )
من هذا المنطلق كان حتماً أن نبين التطوير الحق من التطوير المفترى الذي يريد دعاته مسخ الهوية الإسلامية
وهذا العمل المتواضع مرسل إليكم عسى أن يكون لبنة في صرح حائط الصد الشرعي ضد محاولات الغرب والشرق للنيل من إسلامنا الحنيف تحت دعاوى براقة قد ينخدع بها البعض ويركض ورائها آخرون ولما لموقعكم الأغر من قبول ومصداقية عند غالبية المتجولين في النت فقد فضلنا إرساله إليكم ....والله من وراء قصد السبيل
تطوير الخطاب الديني
مقدمة
إن الحمد لله تعالى ، نحمده سبحانه حمد من أعطي فشكر ، و أوذي فصبر ، و لما قدر عفا وغفر ، وأيقن أن النار من مستصغر الشرر ، وأن الآخرة على المجرمين هي أدهى وأمر ، وأن الجنة قرار ومستقر لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم استغفر .
ونشهد ألا إله إلا الله ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء شهيد .
اللهم صل على عبدك و نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية ، وهديت به الإنسانية ، وأنرت به أفكار البشرية ، وزلزلت به كيان الوثنية ، ذي الوجه الأقمر ، والجبين الأزهر ، قائد الغر المحجلين يوم البعث العظيم ، محمد بن عبد الله ـ بأبي هو وأمي ـ صل اللهم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ...............أما بعد .....!!.
فقد طرحت في الفترة الماضية دعوة رسمية إلى ما وصف بـ (تجديد الخطاب الديني) ، ولأن الدعوة صدرت من مراجع رسمية عليا فقد تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى ، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات ، غير أن ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة .
حيث تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة.
وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً ، وهي العملية التي احتلت مركز الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب ، وظهرت في هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا تُرد لأنظمة هنا وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية ، أو ضمها إلى نظام التعليم غير الديني ، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير ، أو تغيير مناهجها بالكامل لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني .
وكانت الهجمة على نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله ، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال ، والأداة التي توجه الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية .
وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان الإسلامية ، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت «الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة ، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد ، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب .(36/384)
وعلى رغم توافر مثل هذه المخاوف لدي المسلمين ـ وخاصة العلماء العاملين ـ إلا أن ذلك لم يمنعهم من القناعة بضرورة الاجتهاد لتجديد قطاعات الحياة الإسلامية ، وأيضاً ضرورة الربط بين التجديد والاجتهاد بمدلولاته الواسعة . ويعتبرون أن غياب التجديد يضع الأمة في حرج شديد لجهة تعطل مصالحها ، مما تأباه مقاصد الشريعة ذاتها ، وإن احتفظوا بثوابتها وأصولها وتحفظوا على المساس بها ، باعتبار أن التجديد والاجتهاد يقتصران على فقه الشريعة وآليات فهمهما. أما أصول الدين من قرآن وسُنة وبالجملة كل ما هو قطعي يقيني لا يجوز إنكاره أو مخالفته أو تغييره ، فهي محفوظة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .
يقول تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1)
وضرورة الفصل بين مرامي تجديد الخطاب الديني وأصل الشريعة لازم ، فالدمج بينهما ، كما أسلفنا ، تعطيل للتجديد وغلق لأبواب الاجتهاد . فالخطاب الديني وسيلة توصيل المعنى الذي قصده الشارع إلى المخاطب به وهنا تبرز الدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن كما فسرها المحدثون من السلف بالقدرة على الإقناع ولإقامة الحجج والبراهين ، يقول تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(2) ، وقال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(3) ، فالإخلاص وحده غير كاف لأداء وظيفة الدعوة بل يلزم معه العلم والاحاطة بواقع الناس وحاجاتهم .يقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(4) .
وفي ظل تعرض العالم الإسلامي لتحديات معاصرة كثيفة وخطيرة يكون تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لا لخدمة أغراض الولايات المتحدة أو الغرب في تقويض مناهجنا التعليمية أو إضعاف عقيدتنا الدينية وإكساب الأمة حيوية افتقدتها في ظل سباق رهيب يدور لاستلاب زمام ريادة في الدنيا كنا أسبق في مضمارها ولدينا الفرصة لاستعادتها ببذل الجهد وليس بالأماني وحدها .
ولذلك لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ، ويغيب عنا الفقهاء ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .
كما أن خطابنا في معظمه لا يزال داخليا ، لم نستطع أن نصل به إلي مرحلة الخطاب العام والعالمي ، علما بأن الخطاب الإسلامي توجه إلي الناس جميعا منذ اللحظة الأولي لبدء الوحي …يقول تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (5)، ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (6)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ . فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟. قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...الْآيَة}َ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (7).
قال الحسن البصري ـ رحمة الله ـ ليس الإيمان التحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، ولهذا قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة . قيل : يا رسول الله ، ما إخلاصها؟ قال: أن يحجره عن محارم الله تعالى(8) .
هذا ما أسعفتنا به الذاكرة لنقدم به لموضوع الخطاب الديني والذي نسأل الله تبارك وتعالى أن ينال رضاكم ، و إلا فنحن لم نسطره طمعاً أو رهباً ، بل سطرناه ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فما فيه من الحق والتوفيق فمن الله و0حده ، وما فيه من باطل أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ....................................وكتب :نصر بن محمد بن رواق الصنقري.
المبحث الأول
ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟
تمهيد
إذا كان القصد من مشروع تطوير الخطاب الديني هو القضاء على العنف ودفع عجلة التقدم فالأصوب والأسلم هو التحول عن منهج معالجة النتائج إلى منهج معالجة الأسباب.(36/385)
والواقع أننا نرى أن مشروع تطوير الخطاب الديني الذي يطرحه العالم الغربي اليوم لاسيما أمريكا كما لو كان تعبيرا عن تحولها إلى منهج معالجة الأسباب هو في حقيقته استمرار لمنهج معالجة النتائج ، حيث أن الخطاب الديني الحالي الذي يصفونه بأنه " متسم بالتشدد " هو في ذاته نتيجة لأسباب أخرى تتصل بالظلم والفساد وانحسار العدالة والهيمنة وغياب احترام كرامة الإنسان ـ هذا برغم التحفظ الذي أبديناه في مقدمه عملنا ـ . وهذا يقتضي أن يطوَر الخطاب الديني بمعالجة أسباب تشدده وليس من خلال تغيير مضمونه الذي من شأنه أن يكثف من ضغوط الهيمنة والإحساس باستخفاف الغرب بكرامة العربي والمسلم.
ورد في مقال للأستاذ خالد أبو الفتوح قوله : " فالأمر بلا تعقيد أن لأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وأن شعوبها ـ بوضعها الحالي ـ تعد معامل تفريخ لمن يهددون أمن أمريكا ، وعلى وجه التحديد فإن «المدارس الدينية في العالم الإسلامي تجند المتشددين الشبان» بحسب تعبير وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد في مذكرة منسوبة إليه(9)، كما أن هذا الواقع يعرقل التعايش والتعاون بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم (إسرائيل).
? فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
ثم يستطرد قائلاً : تعالوا نرتب الأوراق بالمنطق الأمريكاني :
? الإسلام بقيمه ومبادئه يمثل خطراً على أمريكا ، وليس الأمر أمر (قوىً أصولية) يراد التخلص منها.
? وهذه القيم والمبادئ هي التي تفرخ بعض من نشؤوا في المنطقة وتدفعهم للقيام بأعمال خطرة على أمريكا ومصالحها وأصدقائها وحلفائها.
? وهؤلاء يتشربون هذه القيم والمبادئ الخطرة عبر منظومة معقدة من المفاهيم المبثوثة في مناهج التعليم والمواعظ الدينية ، ويغذيها أحيانًا إعلام غير مسؤول ، إضافة إلى عادات اجتماعية متوارثة ترسخ هذا النمط من القيم والمبادئ والسلوكيات .
? فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تساهم في تشكيل العقلية العربية والإسلامية : الإعلام ، والتعليم ، و(الخطاب الديني) ، والأخير هو أخطرها لما يحمله من احترام و(تقديس) لدى فئات كثيرة ، ولكونه يصل إلى جميع الطبقات ويخاطب جميع المستويات .
? و(الخطاب الديني) هو جزء من الهوية والتكوين الروحي والفكري والنفسي والاجتماعي لهذه الشعوب ، فمن غير الممكن مصادمته وإسقاطه كلية بشكل فج ومباشر ، خاصة إذا جاءت هذه المصادمة ممن هم خارج إطاره .
? ومن الملاحظ أن هذا التكوين تشكل عبر سنين طويلة ؛ فمن غير المتوقع إعادة تشكيله عبر الميكروويف من غير احتراق ، ولكن أيضًا فإن المصالح الحيوية لأمريكا والإدارة القاطرة التي تقودها لا يحتملان الانتظار أمام النار الهادئة(10) .
ثم يواصل الكاتب حديثه قائلاً : " الملامح التي لوحظت على هذه الحملة ، وهي في نظري ما يأتي:
? أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي ، مع وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخيًا مرجعيات العالم الإسلامي .
? وأنها جاءت اتساقًا مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها قوى خارجية معينة ، مستغلة أحداثًا وظروفًا معروفة ، فجاءت هذه الحملة استكمالاً لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
? الالتباس المتعمد في هذه الدعوة ، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها ، جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن يكون المقصود بها (مضمون) الخطاب ومحتواه ، وتحتمل أن يكون المقصود بها (شكل) الخطاب بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب ووسائل عرض المضمون .
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني ، أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب ، ولا يخفى على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر . (11)
وكمثال على ما نقول نورد ما ذكره الكاتب المصري أحمد عبد المعطي حجازي(12) في معرض إيضاحه للمقصود بكلمة (الخطاب) أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا ، أو أن هذا ما ينبغي أن نفعله ، فنقرأ ، ونفهم ، نناقش ، ونجرب ، نحلل ، ونقارن لنعرف الأسباب ، ونتوقع النتائج ، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس ، والجسم ، والمجتمع .(36/386)
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها ، وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى ، ونعرف أن الجنون مرض يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه وأنواعه ، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من قبل ، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم ، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح العصر ، لأنه يتفق مع العلم ، أي مع العقل والتجربة» ، «ونحن إذن أمام مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر ، ونتتبع التحولات ، وننتقل من السبب إلى النتيجة ، يبدو لنا العالم مفهومًا ، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه والسيطرة عليه ، والنص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو القبور أنه علم سابق على كل علم وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه ، فالأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف ، ولا جديد تحت الشمس !»(13)
ونلاحظ أن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة وهو في الواقع (هدم القيم والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم ـ فوق التعمية على مقصدهم الحقيقي ـ تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج لها ظنًا منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا التورط أعطى غطاءً مناسبًا لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد هؤلاء العلماء والدعاة.(14)
وفي المقابل: يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة ، وذلك بعد الانتهاء من الدورات التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من 3 أشهر ، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة عدد مماثل من القساوسة ، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين الليبراليين ؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من خلال المشاركة بين القس والخطيب ، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات ، ومن خلال مشاركة عدد من رجال الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين ، تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد وليس موضوعاته فقط ـ خاصة ما ورد في القرآن أو السنة ـ ؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد..(15)
وإذا كان وعي الأمة - أي أمة - يُقاس بقدرتها على: الاستفادة من ماضيها ، واستيعاب حاضرها ، واستشراف مستقبلها ؛ فإن قياس أمتنا - والحال هكذا - لن يكون مشرِّفاً ؛ إذ نرى الأمة غارقة فيما حدث.. متخبطة فيما يحدث.. جاهلة بما سيحدث... وهو ما يدفعنا لطرح قضية «التغيير القادم»، على نطاق واسع ، يصل الماضي بالحاضر ، ويعرض في أثناء ذلك صورتين للمستقبل:
أولاهما: رُسمت بأيدي الأعداء في دهاليز المخابرات وأروقة الوزارات.
والثانية: وضعنا لمساتها الأولى ، وفق رؤية إسلامية ، نستمد معالمها من كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، مع الإقرار بأن ما يعرض للأمة في مرحلتها الآنية ؛ يستدعي تضافر جهود صفوة علماء الأمة ومفكريها ؛ للفرار من جحر الضب ، والحذر من لدغة الأفعى ، كما حثنا النبي عليه الصلاة والسلام.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! . "قَالَ : فَمَنْ ؟!!" (16).
ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد في اللغة واللهجة، أم في المضمون ؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين ؟ وهل هي تغيير في المصطلح ؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم ؟).
ومصطلح التغيير ـ بسبب الملابسات المذكورة أنفا ـ استُعمل جسراً ووسيلة لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة ، وتحيزات فكرية وعملية معروفة ، بل استُعمل لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي ، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية ، في بعض الأحيان .(36/387)
وبالطبع ؛ كانت الاستجابة لهذه التحديات مختلفة باختلاف العقائد والأفكار والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم ، وكل فرد أو طائفة أن يأخذ قضية التغيير مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية ـ للقبول أو للانتقاء أو للرفض ـ ؛ بحسب المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه ، والأفكار التي يؤمن بها.
فينظر إلى مسألة التغيير من عدة جوانب :
أحدهما : علماني حداثي فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب، بل (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية أو عربية ؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها : استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي شكل من الأشكال ؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم (الليبرالي) ، أو جنة الخلد (الديمقراطية) -.. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر .
الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير) مع شيء من التحفظ :
وهو موقف العصرانيين من المسلمين ، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة ؛ (العقلانية الإسلامية) ، (المسلم المعاصر) ، (الوسطية العصرانية) ، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك .
وبالجملة ؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا تُرى واحدية المنهج ، أو تعتقد الصفاء ، أو نجاة طائفة معينة ، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى ، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات التحضر والنهضة (17).
وهناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله ، وهو شغفهم بالتغيير ، وانفتاحهم نحوه ، واستهدافهم جميعاً «المنهج»، غير أن الصنف الأول يستهدف (المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله ، والصنف الثاني يستهدف (المنهج الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص .
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين ، وهو أن الأول منهما شمولي كلي على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو كليات .
أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام ، وكلي في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته .
الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة :
خوفاً من تبعاته وآثاره ، وحذراً من مخاطره وسلبياته ، وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة ، حريصة على عزتها ومكانتها ، ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى ، حتى لمجرد جدته أحياناً .
الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية ومصلحية :
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة ، وخاصة علماء الصحوة ، ورجالات الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية ، وهو المبدأ القائم على قاعدة : (الإسلام عقيدة وعبادة ، وأعمال وأخلاق ، وشعيرة وشريعة ، ودين ودولة ، ومصحف وسيف ، وأصالة وحضارة ) .
ولعل من الممكن ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
1- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}(18)، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي إلى دين فاسد ، أو دنيا فاجرة ؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة ، وتغيير المشاعر و الإيرادات السلبية ، وإحلال أخرى إيجابية مكانها ، وتغيير المسالك والأعمال الخاطئة (دينياً أو دنيوياً) ، وإيجاد البديل الصالح .
2- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي الانتماء للأمة ، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع حملات الأعداء ووكلائهم .
3- التغيير عملية إصلاحية كبرى ، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى مذهب معتنق وعقيدة متبعة ؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً ، في كل شيء ، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات ، وإبطال القواعد والأصول والكليات والثوابت ، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم ، أو العاملون لصالحهم ، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه ؛ لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن ، ويستدعى في كل حين ولكل قضية.(36/388)
4- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية والدينية والمسائل الشرعية ؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة ، فهي الجدار القصير الذي يمكن لكل أحد أن يتسلقه ، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور الأكثر سخونة والأشد عمقاً ، والأقوى تأثيراً ، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح والمؤمن التقي ، والفاسد الشقي ، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته ، ولكن المظالم العامة والانتهاكات للحقوق ، والطبقية المناطقية ، والعنصرية القبلية، والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد ، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة والاحتكار ، والطبقية المالية المتباينة ، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير ؛ مع أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد ، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي والرعية ، وبين الرعية نفسها ، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى ، وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول .
5 - إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب والسنة ، والأخبار والحوادث التاريخية ؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع للاحتلال والعدوان ، فها هو العراق لم يكن لديه أسلحة دمار شامل ، وها هي سوريا لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان ، وعقيدة الولاء والبراء ـ التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر ـ . وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها شيء من هذا ، وها هو المغرب كذلك .
بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة والتعليم من الإسلامي الصريح ؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي ، وأخرجت المرأة من عرشها المصون ، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية ؛ لتتشبه بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب ، ومع ذلك احتُلت العراق ، وسوريا تحت مطرقة التهديد ، وفصلت تيمور عن إندونيسيا ، والصحراء المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب ؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
6 - التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد ميرزا القادياني»، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد أبادي» المشهور باللندني ، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها ، وكان يقال له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران» ، فجعلوه مفتياً بدل عالم السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي» (19).
7- التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع ، ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون ، ليس فيهم من يوثق بعلمه الشرعي ، ولا حميته الإيمانية ، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك المتكامل ، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه حتى الشفاء من دائه ، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموسة بالأهواء ؛ مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية ، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً ، وللغرب حقيقة ومضموناً .
8 - عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية ، عملية خطيرة ذات أبعاد شمولية متكاملة ـ وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو وطنية ولا دينية ـ هذه العملية قد تتم ـ إلا أن يشاء الله ـ ربما بصورة متدرجة ، وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية ، ثم إن تواصلت ـ في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها - فستصل إلى التخوم الخطيرة ، المستهدفة أصلاً ، وسينتج عن ذلك من الصراع الاجتماعي والثقافي ـ وربما المادي ـ ما لا يعلم مداه إلا الله ، فهذه طبيعة التغييرات العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين ، وما زال الجميع يكتوي بنيرانها إلى اليوم ، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية ، في مقام المتهم والممنوع ، و الأمثلة عديدة من ديوان المأساة العلمانية المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك ـ الذي أقل ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ـ ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها، وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة، وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف ـ حتى وإن خالفهم ـ أن يتفهم موقفهم هذا وأن يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً للأمة وفيهم علماء الشريعة ، وأهل الفتوى ، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح ، وهم الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سوق المزايدة ، وراجت بهم بضاعة المناكدة ، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور .(36/389)
9 - ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع ؛ لأنهم يرون أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد ، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس ، أو مستفيد من الأوضاع الفاسدة ، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي ، والمراد هنا الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها وموقوماتها ، والمتجه نحو مصالحها الحقيقية حالاً ومآلاً ، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة الأمريكية ، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية المعبرة عنها ؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس ، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر الدعوية ، والمدرسين الدعاة ، والأنشطة غير المنهجية في المدارس . والكارهون لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها .
10 - أختم هنا بذكر نموذج التغيير الذي تطلبه أمريكا وترغب فيه ، بل وربما تلزم به ، ومعالم هذا التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي والاجتماعي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً ، ولن يكون هو نهاية المطالب ، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك ، فحتى لو أُعطوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن يقبلوا ؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية ، وصدق العليم الخبير : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(20) ، وقال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}(21) ، والأمر تجاوز مجرد التصريح أو إثارة ما أسمي بمفهوم الإسلام المعدل إلى الدخول في التفاصيل؛ فللإسلام المعدل ملاحق تنفيذ؛ فقد أرفقت الإدارة الأمريكية بمنهاج «الإسلام المعدل» ملاحق تنص على حذف مجموعة من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد والحث على كراهية المشركين واليهود، وبالإضافة إلى تلك الأحكام تطالب الإدارة الأمريكية بضرورة منع تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؛ لأن ذلك بمثابة «غسيل مخ» وفرض توجه فكري محدد لا يستطيعون تمييزه في هذه السن المبكرة»
ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية لديها الاستعداد ـ خوفاً أو طمعاً ـ لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة ، وهناك من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية قدوة ، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}(22) .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها، ويقيناً بوعد الله لها، {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ}(23) .
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(24).
المبحث الثاني
ما هو التغيير المطلوب؟!!
الواقع بعدما استعرضنا هذه المقدمة التي لا بد منها لنفهم الأبعاد من وراء هذه الهجمة الشرسة على العالمين العربي والإسلامي ، تبقى المسألة تحتاج إلى طرح آخر فحواه : ما هو التغيير المطلوب ؟ وبذا نعلن الرغبة في التغيير من منطلق شرعي علمي مؤصل ، وإن كنا نوافق الكثيرين ممن ذهب إلى أن التغيير المطلوب ما كان له أن يبرز في هذه الآونة ، ولا في مثل هذه الظروف لئلا يفهم فهماً سقيماً ، وينظر إليه على أنه مجرد نتاج للضغوط الخارجية ، وتنازل أمام مطالب الأعداء السادية لا عن قناعة ورغبة حقيقية !.
ولا شك أن وجهة النظر هذه معتبرة جداً ، ويجب ألاَّ تُغفل أو يُغفل عنها ونحن بدورنا يحدونا الأمل بالرغم من ذلك أن يُفهم الهدف من طرحنا ، وأنه لله تعالى وأننا لا نبتغي أن نكون فيه مجرد أبواق تردد مزاعم أعداء هذا الدين القويم ، أو أننا نريد مخالفة أهل الخير والرؤى الصائبة من أتباع ديننا العظيم .
وإذا كانت قد بذلت جهود مباركة -ولا تزال تبذل- من أجل عودة الناس إلى دينهم وعقيدتهم ، وحيث حققت هذه الجهود _ بعد توفيق الله _ تلك الآثار الإيجابية التي نراها من عودة الأمة إلى الله جماعات وآحادا ، رجالاً وركباناً ، فإن واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يوجهوا جل اهتمامهم لتربية هذه الجموع ، ويبينوا لهم الطريق الصحيح ، لئلا تغرق السفينة بمن فيها ، فإن العبرة ليست (بالكم)! ولكن (بالكيف)!!.(36/390)
يقول الدكتور البوطي : "فلتعلم أن المسلم الذي لا يلتزم جهد استطاعته بأحكام الإسلام ، أو يلتزم ولا يكون مدفوعاً إلى ذلك طلباً لمرضاة الله تعالى وحده ، لا يكون عمله في الدعوة ، إن هو قام بها ، إلا كمن يفتح صنابير مياه على حوض ترك مصرف المياه مفتوحاً في قعره . قد يتجمع شيء من الماء فيه ، ولكنه آيل إلى الذهاب والضياع"(25) .
ثم يواصل قوله : " لقد كانت مهمة الدعوة إلى الإسلام من الفروض الكفائية ،كما قال العلماء ، يوم كانت المجتمعات الإسلامية ، تسير قدماً في طريق الإسلام ، بدفع من اتجاهها الذي وضعت نفسها فيه ، دون أن يكون على الطريق أو عن يمنه أو يساره ، من يتربص بها الدوائر ، ويختلق لها العقبات ، ويصدها عن الوصول إلى الغاية بنيران الشهوات والأهواء.
أما اليوم ، وقد جندت كل امكانات الدنيا ، من مال وطاقة ونساء وفكر ، في سبيل الصد عن صراط الله والوصول إلى مرضاته ، فقد أصبحت مهمة الدعوة الإسلامية فرضاً من الفروض العينية ، يخاطب به كل مسلم صادق مع الله في إسلامه ، ولم تعد مقتصرة على ثلة من الناس ، مهما بلغ شأنهم ومهما كانت أهميتهم "(26).
ونحن وإن اختلفنا مع سماحته فيما ذهب إليه ، إلا إننا نوافقه في المقصود منه !.
حيث بين أن الخطب جلل والغاية كريمة فلا بد أن تبذل في سبيلها كل الطاقات والامكانات المتاحة ، ويبقى أن ذلك كله مداره على الفروض الكفائية كما بين ذلك المولى تبارك وتعالى في قوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (27) .
فضل الدعوة إلى الله أهميتها :
والدعوة إلى الله فضلها عظيم فهي مهمة الرسل والأنبياء، وهم أشرف الخلق وأكرمهم على الله ، وهم الذين اختارهم الله لهداية البشر ، والعلماء هم ورثة الأنبياء ، وقيامهم بالدعوة أعظم تشريف لهم.. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(28)، ومن فضل الدعوة إلى الله أن : [من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً](29) .
والدعوة إلى الله هي التي من أجلها شرّف الله بها أمة الإسلام جميعاً فجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس ، لأنها حملت رسالة الله إلى العالمين ، وجاهدت بها كل الأمم فهم خير الناس للناس.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظة الله ـ : فالمقصود والهدف الأعظم من الدعوة هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار، وينجوا من غضب الله ، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى ، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (30) .
أركان الدعوة .. أو فلنقل أركان الخطاب الديني :
لقد توصلت من خلال الاستقراء والبحث ، ولا أجزم أنه الكامل أو الشامل ، أن الخطاب الديني يرتكز على خمس أسس رئيسة من فوقها يعلو بناء الخطاب ويشتد عوده ، وتظهر فائدته ، وترسخ في عقول وأفئدة الأجيال قيمه ودواعيه وهي :ـ
( أ ) الخطيب ، أو الداعية .
(ب) المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
(ج) وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
( د ) نوعيه الخطاب ، أو كيفيته( مراعاة المكان والزمان ).
( هـ) العائد من الخطاب ، أو الهدف من الدعوة .
أولاً : الخطيب أو الدعية :
===============
هذا هو الركن الأول ، والهام في هذا البناء . بدونه لا يرتفع للخطاب بناء ، ولا ترسخ له أسس ، وإن أهمل شأنه كنا بالخطاب كمن يحرث في الماء .
ومن هنا وجب العمل الدؤوب لإعداد العلماء والدعاة الربانيين، الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية ؛ لأن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن ، الذي إذا استقضى قضى بحق ، وإذا استفتى أفتى على بينة ، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.
مبحث
الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية
ما هي الشروط الواجب توافرها في هذا الخطيب الداعية ؟.
1. أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده .
والإخلاص أمر عسير شاق على النفس ، صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه، فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل .
يقول أويس القرني رحمه الله(31):'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك ، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .(36/391)
و من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص ، وعظيم منزلته : أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام : كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية ( رحمه الله) ، فقال : ' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:
} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا....{ (32). يقول: فمن لم يستسلم لله ؛ فقد استكبر ، ومن استسلم لله ولغيره ؛ فقد أشرك ، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر'(33) .
ويستلزم إخلاص النية لله في الدعوة وفي كل طاعة وقربة ، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل ، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص ؛ أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية ، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ، يتعلم ويعلم ، ويتوخى الحق أينما كان (34).
الإخلاص في الكتاب والسنة:
تارة: يأمر الله عز وجل به، كقوله:} فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {(35).
وتارة: يخبر أنه دعاء الله لخلقه:} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {(36).
وتارة: يخبر أن الجنة لا تصلح إلا لأهله، كما قال:} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(37) {.
وتارة: يخبرنا بمواضع أنه لن ينجو من شَرِكِ إبليس إلا من كان مُخلِصاً لله عز وجل، كما قال:} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (38){. بعدما توعد أنه سيضل الخلق أجمعين ، ويستهويهم بوساوسه وخواطره ، وإضلاله وتزيينه.
وأما ما ورد في السنة فكثير، ومن ذلك:
ما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّy قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ ـ يعني يريد الأجر من الله عز وجل ، ويريد أن يُذكر يقال: فلان مجاهد - مَالَهُ ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ لَا شَيْءَ لَهُ] فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ](39).
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ y قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] (40).
فالأعمال التي تختلط فيها الإرادات ، ويتلفت صاحبها يمنة ويسرة يريد ما عند الله ، ويريد ما عند المخلوقين ؛ هذه الله غني عنها ، ولا يعبأ بها ، ولا يقيم لها وزنًا.
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ y مرفوعاً إلى صلى الله عليه وسلم ما يبين أن محل نظر الله عز وجل إلى قلب العبد ، وهو محل الإخلاص ، والقصد والنية ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] وفي لفظ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ] (41).
وحديث: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] (42). شاهد واضح في الدلالة على هذا المعنى ، ونحن لو أردنا أن نستقصي الآيات والأحاديث التي تدل على أهمية الإخلاص ، ومنزلته، وعظيم أثره ؛ لما كفى لاستيعابها هذه الأطروحة ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق (43).
2 . من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .
أولاً : الحكمة :
نستطيع القول أن الدعوة حتى تكون مؤثرة ومثمرة لابد أن تكون بحكمة ، أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات ، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا ، ونياتنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة ، ولحاجة الأمة حاضراً ومستقبلاً إليها في كل شؤونها ، فكان حتماً ولا بد أن نعرض لها توضيحاً وتفصيلاً ، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة ، وآراء السلف الصالح .
قال الله - جل وعلا -: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(44 ) . وقال ـ سبحانه ـ : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (45) .
قالوا في الحكمة : إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به .(36/392)
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ، ولا يغلط في العلل والأسباب .
وقال صاحب مختار الصحاح : "وصاحب الحكمة والحكيم المتقن للأمور"(46) .
وقال ابن منظور :" وقيل: الحَكِيمُ ذو الحِكمة ، والحِكْمَةُ عبارة عن معرفة أَفضل الأَشياء بأَفضل العلوم . ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ " (47) .
وقال الطبري : "ليست بالنبوة ولكنه القرآن والعلم والفقه ، وقال آخرون معنى الحكمة الإصابة في القول والفعل" (48) .
وقال ابن كثير :
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
وقال السدي : الحكمة النبوة .
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
والصحيح أن الحكمة ـ كما قاله الجمهور ـ لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث (49).
وقال الألوسي : "إن فيها تسعة وعشرين قولاً لأهل العلم ، قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحاً واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهماً من الحكمة ، و إلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام ، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها"(50)
وقال سيد قطب -رحمه الله- حيث فسر الحكمة بأنها: " القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال " (51).
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " ونستطيع أن نقول : إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين : الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان ، والتوفيق، والبصيرة ، والعمل الصائب ، ومنع الظلم ، ووضع الشيء
في موضعه ، وكلها معان متقاربة "(52).
أما في السنة فقد وردت الحكمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قَالَ : ضَمَّنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمإِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ (53).
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
وقال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن (54).
- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (55).
والحكمة هنا فسرت بالقرآن ، كما وردت في حديث آخر. (56)
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظه الله ـ : " هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة ، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا ، ومن ذلك:
1- قيل: هي وضع الشيء في موضعه (57).
2- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك ، إنها: معرفة الحق والعمل به ، والإصابة في القول والعمل ، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن ، والفقه في شرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان (58).
3- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح ، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير (59).
4- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل ، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل ، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة " (60)(61).
ثانياً : العلم :
يقول تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(62) ، ويقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(63) . وقال تبارك وتعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(64 ) .
أما السنة فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ . فَقَالَ : ابْنَ أَبْزَى .قَالَ :وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟!. قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا .قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ؟!. قَالَ : إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ . قَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ r قَدْ قَالَ : [ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ] (65).
ـ و عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ](66) .(36/393)
ـ وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ : [ ... إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ] (67) .
والواقع إننا لو استرسلنا في الأدلة لما وسعنا المقام ولكن يكفي ما أشرنا إليه ، والخطيب الداعية لابد أن يجمع مع العلم ثقافة واسعة في جميع المجالات ، وهي: الثقافة الدينية ، واللغوية ، والتاريخية ، والإنسانية ، والعلمية ، وأن يكون كذلك على دراية بما يدور من حوله من أحداث التي يطلق عليها البعض فقه الواقع ، أو(الثقافة الواقعية) ، بشرط ألا يطغى هذا الجانب على غيره من الجوانب ، ولا يكون عاجزاً في المسائل الشرعية أو الدينية ، بينما هو أستاذ في جانب الواقع فهذا منفصل عن واقعه وإن كان يعيش فيه ؛ لأن المعرفة الواقعية التي لا يضبطها شرع ولا يحدها دين تكون أحياناً وبالاً ، ومصيبة على صاحبها!.
ومن الأشياء التي أعجبتني "وأنا بصدد هذه الرسالة " أطروحة لفضيلة الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ بعنوان "فقه الواقع " ، وجدتها شافية وكافيه ، واقتطعت منها ما يلي : ـ " فقه الواقع : هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة ، من العوامل المؤثرة في المجتمعات ، والقوى المهيمنة على الدول ، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة ، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل " (68).
ثم يستطرد قائلاً : " فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة ، والبحث في كل جديد ، فهو يختلف عن كثير من العلوم ، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث ، ودراسة أحوال الأمم والشعوب ، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله ، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته ، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات ، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية ، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج ، وما اكتشف من أدوية ، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب ، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد ، وبخاصة في عصرنا الحاضر ، الذي أصبح فيه العالم كقرية ، ما يقع في شرقه يؤثر يوميا في غربه ، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه ، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن ، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل " (69).
الآثار الإيجابية لفقه الواقع :
قال الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " هناك آثار إيجابية عظيمة لفقه الواقع ، فمن الخطأ تصور القضية مجرد مزيد من الثقافة ، أو إشباع غريزة حب الاستطلاع ، فالموضوع أهم من ذلك وأخطر ، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن مستقبل الأمة قد يتوقف على مدى فقه الواقع والتعامل معه ، فقد تتخذ مواقف مصيرية - لم تبن على أسس علمية - تؤدي بحياة الأمة إلى مهاوي الردى ، وكم من موقف اتخذ في حياة أمتنا المعاصرة ، لم يستمد من شريعتنا أذاقنا الذل والهوان " (70).
ثم يسرد هذه الآثار بشكل يصلح لموضوعنا تماماً فيقول: من آثار فقه الواقع :
?إحكام الفتوى وإتقانها . ?الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة .
?الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة . ?التربية الشاملة المتكاملة . ?بعد النظر وحسن التخطيط . ?إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .
?حماية العلماء . ?الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
وبعدما جمعت كل ما ذكره ـ حفظه الله ـ إجمالاً سأعرض له بشيء من التفصيل .
?إحكام الفتوى وإتقانها .
أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى أهمية فقه الواقع للمفتي ، (71) والحكم على الشيء فرع عن تصوره ، كما قرر العلماء.
والمفتي يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة ، وبالذات في الفتاوى المتعلقة بالمسائل المستجدة المعاصرة، ولذا نجد عدم ثقة كثير من الناس في بعض الفتاوى الصادرة من بعض طلاب العلم ، لأنها لم تبن على فقه دقيق للواقع المعاصر.
بينما نجد أن الفتاوى التي تصدر من علمائنا مبنية على تصور تام للأوضاع الجارية ، وفقه عميق للمستجدات ، تكتسب أهمية قصوى ، ولا تدع مجالا لطاعن أو مخالف.
ولذا فإن الفتوى تحتاج - في كثير المسائل - إلى فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع ، وإذا اختل ركن من هذه الأركان تداعت الفتوى ، وانهدّ جانبها.
ولا شك أن الفتوى إذا كانت محكمة ومتقنة لها أثر إيجابي في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا ، ولن يتم ذلك إلا باستكمال شروط الفتوى التي حددها العلماء ، ومنها اكتمال التصور عن المسألة ، وهو فقه الواقع في المسائل المعاصرة.
? الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
من الملفت للنظر في عصرنا الحاضر وقوع بعض الجماعات الإسلامية والدعاة إلى الله في أخطاء أساسية في منهجهم ، وأسلوب دعوتهم.(36/394)
وإذا تأملنا في أسباب ذلك نلمس أن أغلب هؤلاء على صنفين:
إما دعاة لديهم إدراك لواقعهم ، ولكنه لم يبن على أصول شرعية متكاملة ، نظرا لتقصير هؤلاء الدعاة في بناء دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة ، فوقعوا في أخطاء فادحة ، دفع أتباعهم ثمنها غاليا ، ولم يحققوا أهدافهم التي أعلنوها ، وهي إقامة حكم الله في الأرض ، نظرا للخلل في المنهج.
وآخرون لديهم علم شرعي ، ومنهجهم سليم في الجملة ، ولكنهم لا يفقهون الواقع ، ولا يتعاملون مع المرحلة التي يعيشونها ، فتخبطوا في أسلوب دعوتهم ، وتعجلوا الشيء قبل أوانه ، ولا يفرقون بين المنهج والأسلوب ، وإن كان الأسلوب فرعا عن المنهج ، فكانت النتيجة سلبية ، وذات أثر محدود.
ومن أجل التخلص من هذه السلبيات والأخطاء ، لا بد أن تكون الدعوة إلى الله مبينة على أسس شرعية ، مستمدة من الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة ، ومن ذلك فقه الواقع ، وبهذا نجنب الدعوة وأتباعها المزالق والمخاطر والانحراف ، ونحقق قول ربنا (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(72) .
? الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة .
المواقف التي لا تبنى على النتائج السليمة المستمدة من المقومات الصحيحة ، آثارها خطيرة على الفرد والمجتمع ، والمجتمع الإسلامي يتخبط في مواقفه منذ سنوات طويلة ولا يزال ، ومن أسباب هذا التخبط المقدمات التي بنيت عليها هذه المواقف ، فأكثرها مواقف انفعالية أو وقتية ، تفتقر إلى الدراسة والتحليل ، وأحيانا تكون مبنية على دراسة قاصرة ، تكون نتائجها غير سليمة ، فيتخذ القرار الخاطئ .
وفقه الواقع يحول دون الفوضى والتخبط ، ويصبح لدى من يملك القرار تصورا متكاملا عن القضية ، مما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، دون قصور أو ارتجال.
? التربية الشاملة المتكاملة .
مما يلحظ على كثير من الجماعات المعاصرة عدم شموليتها واهتماماتها الجزئية ، فهذه جماعة تعني بالتربية الروحية ، وأخرى بالتربية الفكرية ، وثالثة تربي أفرادها تربية عسكرية ، والرابعة تعني بالتربية الإسلامية السياسية ، وهلم جرا.
وقد تأملت في أسباب ذلك فأتضح لي أن أهم سبب لهذا الواقع: تصور كل جماعة أن الخلل في الأمة سببه قصورها في هذا الجانب دون غيره ، فجعلت هدفها الأساسي : استكمال هذا النقص وسد الخلل ، وكما ذكرت في الأثر الثالث: ما بني على مقدمة خاطئة فنتيجته خاطئة.
والمتأمل لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة يدرك أن سبب تأخر أمتنا وتخلفها ناتج من عوامل عدة: روحية ، وعلمية ، وسياسية ، وجهادية ، وعقدية ، واقتصادية ، وهذا التصور الشمولي للواقع يجعل الدعاة يرسمون منهج دعوتهم بشمولية متكاملة ، بعيدا عن التجزئة والفردية.
وهكذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يربي صحابته ، ويبني المجتمع المسلم ، مجتمعا متكاملا ، بعيدا عن روحية الصوفية ، وسياسة العلمانيين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(73) .
? بعد النظر وحسن التخطيط .
إن أمتنا بأمس الحاجة إلى التخطيط الدقيق ، الذي يبني مجدها ، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء ، وكل تخطيط لا يبنى على فهم عميق لمجريات الأحداث ، وتصور متكامل للواقع في جميع جوانبه ، سيكون تخبطا لا تخطيطا.
والأوضاع التي مرت بها بلاد المسلمين ، والمحن التي نعيشها كشفت عن تأخرنا عن أعدائنا في كثير من أمورنا ، حتى أصبحنا عالة عليهم في كثير من شئون حياتنا.
وفي الوقت الذي يخطط فيه أعداؤنا لما بعد مائة سنة أو تزيد ، نجد الفشل الذريع في تخطيط المسلمين لعشر سنوات أو أقل من ذلك.
وفقه الواقع في جوانبه المتعددة يعطي تكاملا في الرؤية ، وبعدا في النظر ، وهي من بدهيات التخطيط الدقيق لمستقبل الأمة ، وتطلعات الأجيال.
وهذا التخطيط يشمل جميع مناحي الحياة: الدعوية ، والعلمية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، وغيرها ، حتى نكون كما أراد لنا ربنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(74) ، أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب ، تخضع لها الأمم والممالك ، وتذل لها الجبابرة والملوك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(75) .
وبهذا نحمي المسلمين ، ونوجد المهابة لهم في نفوس أعدائهم ، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر " (76) وصدق الله العظيم: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(77).
? إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .(36/395)
لقد فضح القرآن الكريم خطط المشركين (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(78). وكشف عن مكائد اليهود والنصارى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(79). (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)(80).
وأماط اللثام عن دسائس المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(81). (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(82).
ومن ثمرات فقه الواقع كشف سبل المجرمين بشتى أشكالهم وأنواعهم ، وكشف خططهم مؤذن بإبطال كيدهم ، ورد تدبيرهم إلى نحورهم ، والعناية بهذا الجانب حماية للمسلمين ، ورد لكيد الظالمين (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(83).
? حماية العلماء .
وفقه الواقع حماية للعلماء من وجهين:
1- فالعلمانيون يكيدون لعلماء الأمة ، ويسعون لتشويه صورتهم أمام العامة ، بما يثيرونه من قضايا ، وما يطرحونه من خلافات في مسائل علمية ، مما يظهر أمام العامة وكأنه تناقض في الفتوى ، وضعف في العلم ، وهم يراهنون على إبعاد العامة عن علماء الأمة ، لأنهم يدركون أن العلماء هم السد المنيع ضد مؤامراتهم ومخططاتهم ، فإذا ظفروا بالعامة كسبوا الرهان ، ففقه الواقع كشف لهؤلاء ، وفضح لمآربهم ، وحماية بالتالي لعلماء الإسلام ودرع الأمة.
2- وفقه الواقع حماية للعلماء من الخاصة ، فعندما تكون الفتوى مبنية على تصور للواقع ، وعلم بفروع المسألة وأصولها ، لا يدع مجالا لطاعن أو مخالف ، مما يكسب الفتوى احترامها وقوتها ، وتتلقى بالقبول من لدن طلاب العلم والعامة ، وهذا ولا شك يقوي صلة طلاب العلم بعلمائهم ، ويقطع الطريق على من يستغل الأخطاء والعثرات لإبعاد شباب الأمة عن علمائها ، وبهذا نحمي جانب العلماء ، ونزيد من مكانتهم في نفوس العامة والخاصة ، لتكون لهم الريادة والقيادة العلمية في توجيه الأمة ، وتبصيرها في شئون دينها ودنياها ، كما كانوا - وسيظلون بإذن الله - على مر الأجيال وتعاقب العصور.
? الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
عندما نغفل عن واقعنا ، ونكتفي بتلمس ظواهر الأمور دونما إدراك لحقائقها ، قد نغفل عما يكاد لهذه الأمة ويحاك لها ، وبالتالي سننشغل عن العمل الإيجابي الجاد ، وقد ينصرف طالب العلم إلى أمور جانبية ظنا منه أن الأمور تسير على خير ، وأن ليس هناك ما يكدر صفوها ، أو يهدد كيان الأمة ومستقبلها.
ولكن عندما نفقه الواقع على حقيقته ، دون إفراط أو تفريط ، سندرك جهود الأعداء في الداخل والخارج لضرب الأمة في أعز ما تملكه ، وهو دينها ، وهنا نكون على مستوى المسئولية ، وتزول الغشاوة التي تضعف رؤيتنا ، وتنتهي المعاذير التي يرددها كثير من الناس ، بدعوى أن الأمور بخير ، وأننا أحسن من غيرنا ، ونحن -ولا شك- بحمد الله وفضله أحسن من غيرنا ، ولكن استمرار هذا القول ، دون عمل أي جهد للمحافظة على هذا "الخير" و"الحسن" قد يؤدي إلى فقدانه وزواله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(84) .
وفقه الواقع بالتالي عامل مساعد للتغلب على المعوقات التي تواجهنا عندما نقوم بما أوجب الله علينا ، فإدراكنا لقوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(85) ، وفقهنا لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)(86). ومعرفتنا بما لاقاه رسول ا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من عقبات في طريق دعوتهم ، كل ذلك سيزيد من إيماننا بأن العاقبة للمتقين ، مهما طال الطريق وتعددت المعوقات.
وفي الوقت نفسه ففقهنا لما عليه أعداؤنا ، وما يكابدونه من مشاق في تحقيق أهدافهم الباطلة ومآربهم الخبيثة ، يزيد من تحملنا في سبيل أهدافنا السامية ، وغاياتنا النبيلة (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(87). (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(88) وبهذا تتحول المشاق والعقبات إلى لذة تتنعم بها ، بدل العنت والشقاء ، كما تلذذ أسلافنا بالجهاد في سبيل الله ، وبهذا نكون أو لا نكون(89).
ثالثاً : الحلم .(36/396)
لين الجانب ( الحلم ): يجب على الخطيب الداعية أن تتوفر فيه الطبيعة الرحيمة ، الهينة ، اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب ، وتتألف حولها النفوس ، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم ، وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام ، والعطف والسماحة ، والود .
يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } (90) . ويقول تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(91) .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : [ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ] (92).
عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : [ مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ](93) .
يقول الحكيم الترمذي : " فالحلم : سعة الخلق ، وإذا توسع المرء في أخلاقه ولم يكن له علم افتقد الهدى وضل ؛ لأن توسعه يرمي به إلى نهمات النفس ، فيحتاج إلى علم يقف به على الحدود ، وإذا كان له علم ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبر بعلمه ؛ لأن العلم له حلاوة ، ولكل حلاوة شره فتضيق أخلاقه ، ويرمي به ضيقه إلى شره النفس وحدتها فيكون صاحب عنف وخرق في الأمور فيضيع علمه " (94) .
عن عطاء قال : ثم ما آوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم (95).
وقيل : الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى بالحلم ولم يتسم بالعقل !.
وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : " ما سمعت الله نحل عباده شيئا أقل من الحلم " ، قال : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ }(96) ، وقال : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}(97) (98).
فالحلم سعة الخلق ، والعقل عقال عن التعدي في أخلاقه ، والواسع في أخلاقه حر عن رق النفس ؛ ولذلك قال عيسى ـ عليه السلام ـ لبني إسرائيل : لا عبيد أنقياء ، ولا أحرار كرماء . لا يشهد كريم أينما انقاد .
والحليم يحتمل أثقال الأمر والنهي بلا كبد ولا مجاهدة ، فكان إبراهيم ـ عليه السلام ـ ممن احتمل الأثقال ، ابتلي بالنار ، وابتلي بالهجرة والغربة ، وابتلي بسارة ، وابتلي بالختان ، وابتلي بذبح الولد ؛ فجاد بنفسه وولده ، فقال الله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (99) (100).
3. من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه ( أي قدوة حسنة ).
إن القدوة من أهم الأسس التي تؤدي إلى حسن التربية للمدعو.. نعم إنه يحتاج ابتداء لإيمان عميق ، تام ، متجدد.. وبحاجة إلى تطبيق ما يدعو إليه على نفسه ؛ حتى تكون حياته الشخصية وسلوكه موافقين لما تقتضيه تربيته لأخيه ، ولكي يتشرب هذا المدعو منذ بدايته بالمبادئ الإسلامية ، وبالخلق القرآني القويم . ولسان الحال أبلغ من لسان المقال ، فليكن كالكتاب المفتوح الذي يقرأ فيه الناس معاني الإسلام ؛ فيقبلون عليها ، وينجذبون إليها. نداؤه كما قال شعيب (عليه السلام) لقومه:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{ (101) .
عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ : [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] (102) .
وكان الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ يقول:" عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السماوات"(103).
وقال الشيخ عبد العزيز بن بازـ رحمه الله ـ : "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي ، بل يجب أن يكون عليها الداعية ، العمل بدعوته ، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه ، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه ، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك ، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ، ويبتعدون عما ينهون عنه قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(104) (105) .(36/397)
هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه ، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً ، ولهذا قال بعده "وعمل صالحاً"، فهو داعية إلى الله باللسان ، وداعية بالعمل ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس: هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة ، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال ، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم .
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال ، والسيرة.. وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال ، ولاسيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والآمال الصالحة ، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها ، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة ، وذا عمل صالح ، وذا خلق فاضل حتى يقتدي بفعاله وأقواله"(106) .
4. من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة :
الصبر هو مكابدة النفس على الطاعات وكفها عن السيئات والاحتساب على البلاء. ولا يخفى ما للصبر من أهمية بالغة في حياة المسلم عامة ، وفي مسيرة الدعوة والدعاة خاصة ، ويكفي دلالة على أهمية الصبر وفضله وعظيم مكانته: أنه مناط الأعمال كلها ؛ إذ الأعمال إما طاعة أو معصية ، وكل طاعة فإنما تتحقق بالصبر ، وكل صبر على الطاعة فهو صبر عن المعصية ؛ لأن ترك المعصية طاعة ، وترك الطاعة معصية ، ولهذا ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز أنواعًا من الطاعات و القربات ثم سماها صبرًا تنويهًا بأن الصبر سبيل تحقيقها ، من مثل قوله تعالى : } الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار ِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ{ (107)
فذكر الله الوفاء بالعهود ، وصلة الأرحام ، وخشية الله ، والخوف من يوم الحساب ، والصبر لله عز وجل لا لشيء آخر، وإقام الصلاة ، والإنفاق سرًا وعلانية ، ودفع السيئة بالحسنة .. ثم سمى كل ذلك صبرًا لأنها لا تتم إلا به .
* أنواع الصبر :
?الصبر على طاعة الله عز وجل .
?والصبر عن المعصية .
?والصبر على الأقدار .
وأكمل هذه الأنواع الصبر على الطاعة ، قال ابن القيم رحمه الله :'والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعات أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية' (108).
يقول الدكتور / عبد الكريم زيدان : والصبر بأنواعه إنما هو بالله بمعنى أن المسلم يؤمن بأن صبره إنما يكون بعون الله ، فالله هو المصبر له ، قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } (127) سورة النحل ، وصبر المسلم لله أي أن المسلم يصبر طاعة ومرضاة له فالباعث على صبره محبه الله وطلب مرضاته وهذا النوع من الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الابتلاء لأن في الأول اختيار وإيثار ومحبة ، أما الثاني فهو صبر ضرورة ولا اختيار للصابر (109).
والصبر في حياة الدعاة يشمل هذه الأنواع الثلاثة ، ونركز الحديث هنا على النوع الثالث من أنواع الصبر ، وهو الصبر على ما يلقاه الدعاة في سبيل الدعوة ولازم هذا الصبر .
* لوازم الصبر في مجال الدعوة :
للصبر في مجال الدعوة وفي حياة الدعاة لوازم كثيرة ، بتحققها يتحقق الصبر على أكمل وجوهه ، ومن أهم لوازم الصبر :
تحمل عنت المدعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم: وكيد المناوئين ملازم لكل دعوة إصلاح ، وهذا جلي في قول الله لرسول صلى الله عليه وسلم :} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ { (110). والعصمة هنا هي: الحفظ والرعاية والتعهد ، فمن بلّغ عن الله فلابد أن يكاد ، وعليه بالتحمل وعدم الفتور عن الدعوة ؛ لأنه لابد أن يصيبه ما يكره إما في النفس ، أو المال ، أو العرض ، أو غير ذلك ، وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم :} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { (111). ولو أن الدعاة لم يتحملوا ما يصيبهم من أذى في سبيل الله ؛ لم يستمروا في أداء واجبهم ، فمتقضى الصبر: التحمل والثبات والاستمرار .(36/398)
ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة : فمن الثوابت الراسخة في مسائل الدعوة ، ومما ينبغي أن يعيه الدعاة : أن على الدعاة أن يولوا جانب التبليغ وإيصال الحق للمدعو كل الاهتمام بإقامة الحجة وإيضاح الدليل والبرهان والاستمالة لا أن يشغلوا أنفسهم بغير ذلك ؛ لأن الهداية بيد الله : } وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... {(112).
ولقد كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة وكان ذلك دأبه مع قلة المؤمنين يومئذ ، وكانوا كما قال عمار (رضي الله عنه) : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلموَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ" (113).
ومما يدل على أن ترك الاستعجال من لوازم الصبر: ما ورد عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلموَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ : [ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ] (114) .
ويؤخذ من الحديث أن لله عز وجل سننًا نافذة لا تتخلف ولا تتبدل ، وما على الدعاة إلا إبلاغ الحق والخير للناس لتكون لهم المعذرة إلى ربهم ، والله يهدي ببركة هذه الدعوة من يشاء.
الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم : فدينه هو الحق المبين وللحق غلبة وهيبة وقوة ، تسكب في فؤاد الداعي أملاً لا ينقطع ، فيكون أبعد الناس عن اليأس والإحباط ، والدعاة وهم يرون الحق في قوته وظهوره وعلوه يستمدون من الله يقينًا فوق يقينهم ؛ فإذا هم ماضون في الدعوة بعزيمة نافذة وكما قالت الرسل ، وقد نالت منهم طوائف المكذبين الجاحدين فقالوا : }وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ { (115).
ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينال منه عتاة المشركين ومع ذلك يمضي في دعوته قدمًا مثابرًا محتسبًا صابرًا ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] (116).
* أثر الصبر في نجاح الداعي : للصبر أثره الحميد في نجاح الداعي وتحقق غايته وهي : دلالة الناس على الخير, وسبله ، وصبر الداعي يكون في تحمل ما يلقاه من صدود وجحود ، وما يكاد له في سبيل منعه ، أو عرقلته من محاولات ودسائس ، وما تنشر حوله من إشاعات وأكاذيب واتهامات ، ولقد واجه صلى الله عليه وسلم كل هذه الألوان الموحشة من كنود الناس وصدودهم وفجورهم ، فصبر وصابر ورابط حتى بلغت دعوته الآفاق صلى الله عليه وسلم
وكان عليه الصلاة والسلام حين يواجههم بالصبر الجميل ، ويقابل إيذاءهم بالتحمل والحلم والاحتساب كان يصارحهم بذلك ، وأنه ماض فيما هو فيه ، وأن هذا العدوان لن يثنيه عن الحق الذي آمن به ! فبعد أن أغروه بزخرف الدنيا وزهرتها ، وهم يودون صرفه عن الدعوة وشجونها قال لهم : [ ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولاً وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم] (117).
وفي هذا منهاج للدعاة والسائرين في طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفيه بيان لما ينبغي أن يكون عليه الداعي في مضي العزيمة والحلم والاعتزاز بالحق ، وأن الدعاة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الدعوة إلى الله ، ولا تغريهم زخارف الدنيا ، وفي هذا ولا ريب يكمن السر الذي تثمر به الدعوة .(36/399)
لقد كان صلى الله عليه وسلم قمة في صبره ، قدوة في مصابرته ، وتحمله وحلمه ، فهو أصبر الناس على جفوة الناس وجحودهم ، وأصبر الناس بعده هم أمثلهم طريقة ، وأكثرهم عزيمة ، وأقربهم إلى المنهاج النبوي ، ومصداق ذلك ما ورد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ] (118).
* ومن فوائد هذا الحديث: أن الابتلاء سنة في حياة المسلم ، وفي حياة الدعاة على الأخص ، قال تعالى : } الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ (119) .
* ومن فوائد الحديث أيضًا: أن البلاء يكفر السيئات ، ويرفع الدرجات ، وهذا هو مبتغى الدعاة ، وعفو الله أوسع . إن الصبر كما أنه من عوامل نجاح الدعاة هو أيضًا زادهم وعدتهم ، به تزكو نفوسهم وتطهر أفئدتهم ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصبر والإنابة (120) .
5. من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه:
الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه فإذا كان من يدعوه كافراً كان حريصاً على إيمانه ساعياً في ذلك بكل سبيل ، وقد كان سيد الدعاة والمهتدين وهو نبينا صلى الله عليه وسلمليحزن أشد الحزن حتى يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته..
يقول تعالى معزياً ومعاتباً له : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(121).
وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (122).. وقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (123) ..
والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه سعى إلى ذلك بكل سبيل ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له ، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة ، وأزال كل عقبة تصده عن الحق.
وأما إذا اتصف بضد ذلك أهمل في دعوة من يدعوه ، ولم يكترث لهدايته أو ضلاله..
وإذا كان من تدعوه مسلماً وكنت حريصاً على أن يهتدي للحق الذي تدعوه إليه ، وللمعروف الذي تأمره به ، حملك هذا على إخلاص النية ، وبذل قصارى الجهد ، والفرح بهداية من تدعوه ، والحزن إذا لم يستجب لك .
مبحث
ثقافة المدعو
ثانياً : المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
المدعو : هو من يراد دعوته وهم الناس جميعاً بوجه عام وأهل الإسلام بوجه خاص .
والمدعو نوعان : أ) فردي . ب ) جماعي .
وهذا القسمان ينقسمان بدورهما إلي قسمين :
1. قسم آمن بالرسالة
2. وقسم كفر بها ...وهذا القسم ينقسم إلى نوعين :
أ ] كفار معلنون لكفرهم .
ب] كفار غير معلنين ( وهم المنافقون ).
وهذه الأنواع تحتاج جميعها إلى خطاب ديني متناسب مع كل نوع ، ومطابق لمقتضى حاله ، ويؤدي المراد منه ، ويحقق الأهداف المرجوة .
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام التي يجب اتباعها مع كل قسم من هذه الأقسام ، ورسم رسول ا صلى الله عليه وسلم السياسة الشرعية الواجبة في دعوة هذه الأقسام إلى الله وكيفية التعامل مع كل قسم منهم.
تمهيد : عالمية الرسالة:
رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (124).. وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (125).. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(126)..
وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (127)، ومن أجل ذلك فالبشر جميعاً مدعون إلى هذا الدين ، والناس جميعاً هم أمة الدعوة الذين أرسل إليهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ثم فهذه هي الأصول العامة والسياسة الشرعية في الدعوة والمعاملة مع هذه الأقسام:
أولاً: الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام:
من الكفار الأصليين من بلغه دعوة الإسلام على الوجه الصحيح ، ومنهم بلغته دعوة الإسلام بصورة مشوهة ، ومنهم من لم تبلغه دعوة الإسلام..
ومن الكفار الأصليين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والوثنيون والمجوس وغيرهم من أتباع هذه الملل الكثيرة ، ومنهم من لا ينتمي لدين أصلاً.
والأصول التي يجب اتباعها مع هؤلاء جميعاً هي:(36/400)
1) إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر:
الأصل الأول في دعوة المسلمين إلى الإسلام أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر كما جاءت في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ولا تقوم الحجة عليهم إلا بهذا.. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (128).. وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (129)..
ولا يكون البلاغ مبيناً قاطعاً للعذر إلا:
أ) إذا فهموه بلغتهم أو تمكنوا من العربية تمكناً يجعلهم يفهمون معانيها كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (130)..
فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ثم يعلموهم العربية ليفهموا عن الله ورسوله..
قال الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله ): "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ، ومن لهم القدرة الواسعة ، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها"(131).
ب) إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم:
ويجب أن تدحض كل حجج الكفار و شبهاتهم حول دينهم الباطل ، وكل دين غير الإسلام فباطل كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه}(132).. وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة}(133).. وقال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}(134)..
ومن أجل ذلك أبطل الله في القرآن كل ما احتج به الكفار على اختلاف عقائدهم في احتجاجهم لدينهم الباطل ، فقد رد الله على اليهود مزاعمهم ، وعلى النصارى ضلالهم وشبههم، وعلى مشركي العرب في جميع ما عارضوا به الإسلام ، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال.
2) لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد ثم الأهم فالأهم:
يجب البدء مع الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام بالتوحيد لأنه أساس الدين ، وجميع الأحكام ترجع إليه ، ولا يصح العمل الصالح إلا به ولذلك كان كل رسول أول ما يدعو قومه يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.
إذ هو الفارق بين المسلم والكافر ، وجميع أعمال الدين ترجع إلى التوحيد ، وتبنى عليه ، فلا يصح عمل صالح للعبد إلا بتحقيق التوحيد لله ، وجميع الأعمال الصالحة تكون باطلة إذا لم يكن فاعلها موحداً لله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا في عمل المشركين والكفار: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب} (135)..
وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد}(136).
وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (137)..
وقد أمر صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله داعياً إلى أهل اليمن أن يبدأ بالتوحيد ثم بالصلاة ، ثم بالزكاة فقد قال صلى الله عليه وسلم [إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتوق كرائم أموال الناس] (138) .
قال ابن حجر في الفتح: "بدأ بالشهادتين لأنهما أصل الدين ، الذي لا يصح شيء إلا بهما ، فمن كان غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار والوحدانية".
وقال: "يبدأ بالأهم فالأهم ، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع لأول مرة لم يأمن النفرة" (139).
3) عرض الدعوة على الكفار باللين ، والحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالحسنى:
في مقام عرض دعوة الإسلام على الكفار، وإن كانوا من المجرمين العتاة، والجبابرة الطغاة يجب اتخاذ اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً إلى عرض الدعوة، وقد فصلنا الحديث في هذا الجانب سلفاً بما لا يحتاج إلى زيادة ، ولأهمية الدعوة باللين ننظر إلى وصية الله لموسى وهارون أن يعرضا الدعوة على فرعون باللين.. قال تعالى: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } (140).
فمع طغيانه وقتله لذكور بني إسرائيل،واستحيائه لنساءهم ، وسومهم رسولهم سوء العذاب إلا أن الله أمر الرسول ـ عليه السلام ـ أن يكون ليناً في عرض الدعوة عليه ، ولعل اللين أن ينفعه فيتذكر ويخشى.
4) وجوب رد إساءتهم وعدم السكوت على طعنهم في الدين:(36/401)
لا يجوز للداعي إلى الله الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون رداً سيئاً ، ويطعنون في الدين الحق ، ويسبون رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أو يعيبون شريعة الله ، بل يجب الرد المناسب عليهم والانتصار منهم لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (141) .
فالظالمون منهم يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه. قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}(142).. ولذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين من الكفار: كبيان فضائحهم ، وكشف مخازيهم ووصفهم بفقدان العقل والفهم ، والاستهزاء بحالهم ومآلهم ، وتحقير آلهتهم، وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة.
5) قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر:
يجب أن يقبل الكافر أخاً في الدين إذا انتقل من الكفر إلى الإسلام ، فلا يعير بدينه السابق ، ولا بما كان عليه من الكفر والشرك ، ولا يذكر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه كما قال تعالى عن المشركين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون}(143).
* أصول في دعوة المرتد:
المرتد: هو كل من رجع عن الإسلام بعد دخوله فيه ، وللمرتد أحكام خاصة في الدعوة منها:
1) لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام:
لا يجوز الحكم على مسلم بالردة إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجع عن الإسلام أو أن يكون قوله أو فعله كفراً مخرجاً من الملة ، ولا يحكم عليه بالردة إلا عالم بالإسلام وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم [من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] (144)..
2) يجب التفريق بين مقالة الكفر والكافر:
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً فربما وقع جهلاً أو تأولاً ولذلك يجب الرد على المخالف ، وإقامة الحجة بيان المقالة الخاطئة ، دون الحكم على قائلها حتى يتبين أنه قد اختار الكفر ، أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره..
* أصول في دعوة المنافق:
المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وهذه بعض الأصول الشرعية في دعوته للإسلام:
1) لا يحكم على شخص أنه منافق نفاقاً اعتقادياً إلا ببرهان لا يقبل النقض أنه يبطن الكفر ، ويظهر الإسلام كذباً..
2) المنافق يدعى إلى الإسلام ، ويوعظ ، ويذكر بالله ، ويجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة ، ويغلظ عليه عند مخالفة الأمر الشرعي. قال تعالى:{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (145) ، وقال تعالى : {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} (146).
قال ابن كثير: "قال تعالى {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له {فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وعظهم} أي واتهمهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم" (147).
ثانياً: الدعوة بين المسلمين:
للدعوة إلى الله بين المسلمين ميدانان هما:
أ) التربية والتعليم.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.
أ) قواعد في التربية على الإسلام وتعليمه:
التربية وهي التزكية والتعليم ، هي مهمة النبي في المؤمنين قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(148)..
والتربية هي تنشأة الإنسان وبناؤه.. قال رسول صلى الله عليه وسلم [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (149) .
وهذه أهم قواعد التربية والتزكية:
1) تصور النموذج المثالي للإنسان الكامل والعبد الصالح:
يجب أولاً أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربى على غراره ، وهذا النموذج قد جاء وصفه التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى منها أول سورة المؤمنون.. قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم على صلواتهم يحافظون}(150).
وفي غيرها من سور القرآن كمطلع سورة البقرة ، والآيات الأولى من سورة الأنفال ، وسورة الحجرات بكمالها ، والآيات من سورة الإسراء من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} ، ..إلى قوله: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (151)..
ولا شك أن القرآن كله قد فصل صفات النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله ويرضاه..(36/402)
وقد كان رسولنا r هو الإنسان الكامل والنموذج والقدوة والأسوة الذي أمر المسلمون جميعاً بالتأسي به {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(152)..
فهو النموذج الكامل للتأسي، وقد كان خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: [كان خلق رسول ا صلى الله عليه وسلم القرآن] (153) .
وكذلك صور القرآن النماذج السيئة من المجرمين والكافرين والمنافقين. قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}(154)..
2) التعليم الدائم:
يجب على الداعي إلى الله ، ومعلم الخير أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد ، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علماً وعباده {وقل رب زدني علماً} (155) ، وعلم الدين لا يحاط به ، والقرآن لا يشبع منه العلماء ، وفضل العلم خير من فضل العبادة.
3) أخذ العلم والعمل جميعاً:
يجب أخذ العلم والعمل جميعاً ، وعدم إفراد العلم عن العمل لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعل ، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له ، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعاً فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات ليحفظ السورة وليعلمها، وليعمل بها كما قال الأعمش : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) (156) فتأخذ العلم والعمل جميعاً ، وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية.
4) اغتنام سني الحفظ الذهبية عند الصغير:
تعليم الصغار يجب أن يكون بالحفظ أولاً اغتناماً لسنوات الحفظ الذهبية وهي من الثالثة إلى العشرين تقريباً.. وقد كان منهج التابعين وتابعيهم تحفيظ الصغير القرآن الكريم أولاً ثم السنة ، ثم متون العلوم المختلفة (المتون هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية وكثيراً ما تكون نظماً).. ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه فيما يكون قد حفظه.
5) تعلم الحق قبل الباطل، والتحصن بجواب الشبهة قبل ورودها:
من قواعد التعليم تعلم الحق قبل تعليم الباطل ، لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (157) والفطرة هي التوحيد. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(158).
فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد ، وتنشئتهم على الفضيلة ، والخلق الطيب قبل إطلاعهم على أنواع الشرك والكفر ، ومعرفة الرذيلة..
ثم يجب تعلم جواب الشبهة قبل ورودها تحصناً منها ، كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جواباً لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (159) فأخبرهم بقول المشركين سبحانه ، قبل أن يقولوه ليعلمهم جوابه. وقال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب..} (160)وهذا كثير في القرآن.
6) التربية بالأسوة:
يجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة ، قبل أن تكون بالتعلم والقدوة الحسنة أبلغ في الدعوة .. فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته وأخلاقه وأعماله أكثر مما يدعو بأقواله.. والرسولل المربي r قد أثر في سلوك أصحابه بأخلاقه وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه..
7) الحلم بالتحلم:
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية ، فالتعليم يكون بنقل العلم بأي وسيلة من وسائل النقل ، ولكن اكتساب الأخلاق لا يكون بمجرد معرفتها وتعلمها بل بوجوب التعود عليها والتخلق بها كما قال صلى الله عليه وسلم [إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم](161).
فلا بد للمربي أن يهيء من يربيهم على التعود على أخلاق الإسلام ولا يكتفي بتلقينها وتعليمها لهم.
8) التدرج في التعليم (تعليم صغار العلم قبل كباره):
من القواعد الهامة في التربية والتعليم أن يكون التعليم متدرجاً فيبدأ بصغار العلم قبل كباره ، وبسهله قبل صعبه ومشكله، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الناس وبما كنتم تدرسون}(162) .
قال: مربين تعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره..
9) التقويم المستمر:
من قواعد التربية و التعليم أن يكون التقويم مستمراً ولو كان في حال الكبر ، فكل من وقع منه خطأ ، أو ارتكب منكراً يجب تقويمه بالتقويم المناسب فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو سيد المعلمين والمربين لأبي ذر (رضي الله عنه): [إنك امرؤ فيك جاهلية]!! لما رآه يعير رجلاً بأمه قائلاً له: [يا ابن السوداء]!! فقال: يا رسول الله على كبر سني!! فقال: [نعم] (163) . ووعظ رسول ا صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل مع حبه له ، موعظة غضب فيها الرسو صلى الله عليه وسلم قائلاً له: [يا معاذ أفتان أنت!!] (164).
وكل هذا يدل على أن الكبير في الفضل أو السن يجب تنبيهه إذا خالف شيئاً من الحق ، وكذلك غضب r على عمر عندما خاصم الصديق وقال: [أما أنتم بتاركي لي صاحبي] (165) .(36/403)
10) تعليم الناس ما ينفعهم ويحتاجون إليه:
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن (رحمه الله) : "وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله -يعني الإمام محمد بن عبد الوهاب- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ، ومعاملاتهم مما لا غنى لهم عن معرفته" (166).
وإذا سأل العامي عن أمور لا يحتاج إليها فإنه ينبغي للمعلم أن يفتح له باباً إلى ما يهمه. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما يحتاج إليه ، أو سأله عما غيره أهم منه ، أن يفتح له باباً إلى المهم ، ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد الناس عنه ، ولا يستبعد فضل الله عليه" (167) .
11) تعليم الناس على قدر أفهامهم:
وينبغي للعالم أن يخاطب الناس كلاً على قدر فهمه..
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "فينبغي للمعلم أن يعلم أن الإنسان على قدر فهمه ، وإن كان ممن يقرأ القرآن ، أو عرف أنه ذكي فيعلم أصل الدين وأدلته والشرك وأدلته ، ويقرأ عليه القرآن ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب ، وإن كان رجلاً متوسطاً ذكر له بعض هذا ، وإن كان مثل غالب الناس ، ضعيف الفهم ، فيصرح له بحق الله على العبيد ، مثل ما ذكر صلى الله عليه وسلم على المسلم ، وحق الأرحام ، وحق الوالدين ، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم " (168 ) .
12) عدم تضييع الزمان في إبطال الشبه الواضحة البطلان:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها فإن - معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته.. وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم عنهم" (169) .
أما إذا كانت الشبهة قد أشكلت على المتعلم أو الناس واحتاجوا إلى إبطالها وجب حينئذ على أهل العلم ردها وتفنيدها وإبطالها بالحجج الدامغة لئلا تستقر في صدورهم فتورث الشك والاضطراب أو الحيرة والارتياب.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الميدان الثاني من ميادين الدعوة إلى الله وهو من فروض الكفايات على الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن".
ولكنه واجب عيني على أولى الأمر من المسلمين وهم الأمراء العلماء كما قال شيخ الإسلام أيضاً: "ويجب على كل أولي الأمر وهم علماء كل طائفة ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر" (170) .
والمعروف: هو كل ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
والمنكر: يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه.
وهذه أهم قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1) لا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر إلا بعد العلم بما تأمر به وتنهى عنه:
لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يقدم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقاً ، ولا ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو من المنكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به.. والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه" (171).
وقال النووي (رحمه الله) : " ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام و الزنا ، الخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها.
وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره ، بل ذلك للعلماء ".
ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم .
وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد ، والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه - على جهة النصيحة - إلى الخروج من الخلاف ، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف ، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافاً بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد ، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره.. والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه.
ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.. ولا ينكر محتسب ولا غيره ، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً ، أو إجماعاً أو قياساً جلياً . والله أعلم (172).
2) اتخاذ إحدى مراتب الإنكار اتباعاً للحكمة والقدرة:(36/404)
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] (173)..
فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار وهو (لأولي الأيدي والأبصار) أهل القوة والتمكن والقدرة فمن لم يستطع لسبب أو آخر تحول إلى الإنكار باللسان ، ذماً للمنكر وأهله ، وبياناً لفساده ، وتحذيراً منه ، فإن لم يستطع تحول إلى الإنكار بقلبه بغضاً للمنكر وأهله ، ومفارقة لمجالسهم كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}(174).
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات ، بل هو ثابت لآحاد المسلمين وعليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم ، وهذا إجماع من الأمة على ذلك وأدلة القرآن والسنة شاهدة بذلك.." أ.هـ (175).
3) وجوب اتباع المصالح الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومما يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعلم المصالح والمفاسد الشرعية التي تترتب على أمره ونهيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمر والنهي - وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح ، أو يحصل من المفاسد أكثر ، لم يكن مأموراً به ، بل يكون حراماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ولن تعوز النصوص من يكون خبيراً بدلالاتها على الأحكام.
ومن هذا الباب ترك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول ا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه ، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به ، واعتذر عنه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه ، حمي له سعد بن عبادة ، مع حسن إيمانه وصدقه - وتعصب لكلٍ منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة"(176) .
4) وجوب إخلاص النية والبعد عن الهوى:
يجب على من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عمله لله خالصاً ، وأن يكون صواباً ، وألا يتبع هواه ، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه ، وذلك أن الضلال في الدين عظيم ، ومن فقد الإخلاص ، ولم يتحر الصواب أوقعه الشيطان في الهوى ، ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "و اتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات"
فإن أهل الكتاب اتبعوا أهواءهم فضلوا. قال تعالى عنهم {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(177) .
ولذلك نهى نبينا أن يتبع أهواء أهل الكتاب ، قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} (178).
فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة ، وأوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد ، وهو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب والسنة وسماهم علماء الإسلام أهل الأهواء..
فيجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون باعثه إخلاص النية ، وعمله على الكتاب والسنة وأن يجانب الهوى ، وإتباع الهوى هو أن يحب ويبغض بدافع من هواه لا إتباعاً للأمر والنهي.
5) الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رفيقاً كما قال صلى الله عليه وسلم [ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه] (179).
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم [إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف].
ولهذا قيل: [ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر] (180) .
هذا وينظر كذلك إلى المبحث الخاص بالصفات التي يجب أن يتحلى بها الخطيب الداعي في دعوته إلى الله والتي سبق لنا أن سردناها بشي من التفصيل ..
مبحث
الدعوة الفردية
المراد بالدعوة الفردية : دعوة الأفراد ، أي: دعوة الناس منفردين ، فالفردية هنا من حيث المدعو ، ويقابل هذا : دعوة الناس مجتمعين من خلال الدروس والمحاضرات ؛ و لا نريد به العمل الفردي الذي يقابله العمل الجماعي.
فضل الدعوة إلى الله: وردت أحاديث كثيرة في فضل الدعوة الله تبارك وتعالى نذكر شيئاً منها:(36/405)
* عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ: [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا...] رواه مسلم .
* وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلميَوْمَ خَيْبَرَ لِعَلِيّ : [ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم .
فوائد الدعوة الفردية
? تربي الأفراد تربية متكاملة ، فلا تقتصر على جانب واحد وتهمل الباقي ، وهذا ما يسمى بالشمولية في التربية ؛ ولأن الدعوة الجماعية لا يمكن أن تتتبع أخطاء الأفراد خطأً خطأ ، بل نجد أن الدعوة الفردية من خلالها يمكن التنبيه على كثير من الأخطاء التي يقع فيها الأفراد ، وبهذا يمكن استكمال التربية.
?بالدعوة الفردية يمكن متابعة التطبيق العملي للتوجيهات الملقاة على الأفراد.
? بالدعوة الفردية يمكن الرد على كثير من الشبهات التي تُلْقى على مسامع الأفراد ، والتي لا يمكن التحدث بها في الدعوة الجماعية .
?بالدعوة الفردية يمكن غرس المبادئ الإسلامية الصحيحة ، والتحدث عنها بكل جدية ووضوح ، إذا جاء الوقت المناسب لكل مبدأ .
?بالدعوة الفردية يمكن إيصال الحق إلى الذين نفروا - أو نُفِّرُوا - عن سماعه ، وعن مجالسة أهله.
?إن هذا النوع من أنواع الدعوة طريقة سريعة لكسب أكبر عدد من أنصار الدين .
?يمكن متابعة الأفراد متابعة دقيقة ، بخلاف الدعوة الجماعية فإنه لا يمكن متابعتهم.
? هذا النوع من أنواع الدعوة لا يحتاج إلى غزارة علم بقدر ما يحتاج إلى حكمة في الدعوة ، فيمكن أن يقوم به أفراد محبون للدعوة .
? الدعوة الفردية لا تحتاج إلى كثير معاناة فهي سهلة ، ويمكن أن يقوم بها كل داعية من خلال عمله ، فالطالب في مدرسته ، أو كليته ، والموظف في مكتبه ، والعامل في مصنعه ...وهكذا .
حالات الدعوة الفردية: هناك بعض الحالات تستلزم من الداعية أن يستخدم فيها الدعوة الفردية ؛ لأن الدعوة الجماعية لا تجدي في مثل تلك الحالات ، وإن كانت الدعوة الجماعية أيسر ، وروادها أكثر ، وسنذكر بعض هذه الحالات التي يجب استخدام الدعوة الفردية فيها:
? المكانة الاجتماعية للمدعو:إن بعض الأفراد يكون معتزاً بوضعه الاجتماعي ويرى أنه لو خالط عامة الناس في تجمعاتهم لذهبت تلك المكانة التي يتمتع بها، وهذا لا يكون إلا لأنه غير ملتزم بالشرع التزاماً كاملاً، ففي مثل هذه الحالة يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية.
?جليس السوء : إن البيئة التي يعيش فيها المدعو لها تأثير على شخصيته ، فمن خالط جلساء السوء ؛ انحرفوا به عن الجادة ، فالمرء على دين خليله ؛ ولذلك فمن كانت هذه حالته فإنه يصعب التأثير عليه ؛ نظراً لتكاتف رفقة السوء عليه ، ولقلة حيائهم ، ومجاهرتهم برد الحق ، وتفاخرهم بارتكاب المعاصي والآثام . ففي هذه الحالة يجب الانفراد بالمدعو بعيداً عن هذه الرفقة السيئة حتى يمكن التأثير عليه إن شاء الله تعالى .
?الحالة النفسية للمدعو: إن من الأسباب العائقة عن الهداية نفور المنحرفين من الدعاة والمتمسكين بالدين ، فهؤلاء يصعب دعوتهم إلى محاضرات عامة ، فيلزم على الداعية أن يستخدم معهم الدعوة الفردية حتى يبين لهم الحق ، ثم إن هداهم الله تعالى يمكن أن ينخرطوا ضمن الدروس العامة.
? معالجة جوانب النقص في الأفراد : قد يكون عند بعض الأفراد جوانب نقص ، أو عيوب شخصية ، ولهذا لا يمكن أن تعالج هذه الأمور ضمن الدعوة الجماعية ، بل يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية لمناقشة المدعو ، وتبصيره بهذه الأمور .
أطوار الدعوة الفردية: هناك مراحل ينبغي أن تمر فيها الدعوة الفردية إذا أراد الداعية أن تؤتي دعوته ثمرتها . وهذه المراحل تختلف من مدعو إلى آخر ، فمنهم من يتدرج معه حسب ما سطرناه ها هنا - وهذا أمر اجتهادي - ومنهم من يمكن أن يتجاوز بعض الأطوار. وهذا الأمر راجع إلى الداعية نفسه ، فهو الذي يختار كيف يتعامل مع مدعوه ، فمتى عرف أنه لا بد أن يمر مع المدعو بكل الأطوار مر معه ، ومتى عرف أنه يمكن أن يتجاوز أي طور من الأطوار التي سنذكرها ، فلا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه .
وإليك هذه الأطوار:
* الطور الأول: أن يوجد الداعية صلة تعارف مع المدعو بحيث يشعره بأنه مهتم به ، وذلك بتفقده ما بين الحين والآخر ، والسؤال عنه إذا غاب ، وزيارته إذا مرض هذا كله قبل أن يفتح عليه باب الدعوة ، حتى إذا صارت القلوب متقاربة ، والأرواح متآلفة ، ووجد التهيوء من المدعو لتقبل دعوة الداعية طرق الكلام فيما يريد ، وليعلم الداعية أنه بقدر نجاحه في هذا الطور مع المدعو يكون التأثير والاستجابة للدعوة ، وأي تسرُّع في هذا الطور قد يحدث النفرة من المدعو.(36/406)
* الطور الثاني: على الداعية أن يعمل على تقوية الإيمان عند المدعو ؛ وذلك أن أصل الإيمان في الغالب موجود إلا أنه تتفاوت نسب الضعف من شخص إلى آخر . وإذا أراد الداعية أن يعالج هذه القضية فعليه أن لا يدخل في الحديث عن الإيمان مباشرة بل عليه أن يستغل الأحداث بمختلف أنواعها ، وأن يربطها بالأدلة الواردة في القرآن والسنة، فمثلاً: حصل مولود لشخص ، فيبدأ الداعية بالكلام حول خلق الله لأبينا آدم ، ثم كيف أن الله جعل ذريته من ماءٍ مهين ، وكيف جعل رحم المرأة مكاناً لنشوء الجنين ، وكيف أوصل له غذاءه طيلة تسعة أشهر ، ثم كيف خرج ... إلى آخر ذلك. مع ربط جميع المراحل بالقرآن والسنة ، فإنه ما ينتهي من كلامه- إن شاء الله - إلا وقد بدأ الإيمان بالازدياد عند المدعو ، مما يجعله متقبلاً لكل ما يلقى عليه ، فإذا شعر الداعية بأن المدعو بدأ يتأثر بكلامه ، وارتفع نوعاً ما ، انتقل به إلى الطور الثالث .
* الطور الثالث: يبدأ الداعية في إعطاء التوجيهات للمدعو التي من شأنها أن تصلح من عبادة المدعو وسلوكه ومظهره ، فلربما كان في عبادته كثير من الأخطاء ، أو أنه لا يصلي الصلوات في جماعة والمسجد منه قريب ، وكذلك يعرفه على العبادات المفروضة ، فيعلمه كيفية الوضوء ، وكيفية الصلاة ، ويأمره بالابتعاد عن السبل التي توصله إلى سخط الله عز وجل.
وأما إذا كان محافظاً على الجماعة ، ولكن عنده بعض التقصير فليعمل الداعية على تبصير المدعو بالمعتقد السليم الذي هو معتقد السلف الصالح رضوان الله عليهم .
ويحسن بالداعية أن يبدأ بإهداء وإعارة بعض الكتب والأشرطة النافعة في مجال العقيدة والإيمان، والترغيب والترهيب ... الخ.
ويعرفه على بعض الشباب الصالحين، ويأمر الشباب الملتزم بالإحاطة بهذا الفرد حتى لا يترك مجالاً لقرناء السوء من اجتذابه مرة أخرى . وبهذا نضمن بإذن الله تعالى استمرارية استقامة المدعو .
* الطور الرابع: يبدأ الداعية بتوضيح شمولية الإسلام ، وأنه ليس مقصوراً فقط في الصلاة والصوم ، بل إن الإسلام يجب أن يحكم في كل صغيرة وكبيرة . وبهذا يكون المدعو في هذا الطور قد حول جميع حركاته وسكناته وفق شرع الله عز وجل.
* الطور الخامس: وفيه يوضح للمدعو أن الإسلام ليس معناه أن نكون مؤدين للعبادات متخلقين بالأخلاق الفاضلة وإلى هنا ننتهي،
بل يجب أن يوضح له أن الإسلام دين جماعي ، نظام حياة وحكم وتشريع ، عقيدة وأخلاق ، ودولة وجهاد ، وأمة واحدة ، وأن المسلم لا يمكن أن يكون آخذاً للإسلام من جميع جوانبه إلا إذا فهم هذا الفهم السليم . فإذا فهمنا هذا الفهم السليم للإسلام ، فإنه سيملي علينا مسئوليات وواجبات يجب أن نقوم بتأديتها امتثالاً لأمر الله حتى يقوم المجتمع على القواعد الصحيحة للإسلام في جميع النواحي السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ...الخ.
* الطور السادس: يوضح للمدعو ما يستوجبه الواقع الذي تمر به الدعوة إلى الله، وأنها محتاجة إلى تكاتف الجهود ، ولَمِّ الشمل ، ووحدة الصف ، والعلم حتى يتمكن المسلمون من إعادة الخلافة الإسلامية التي كاد لها أعداء الله من الداخل والخارج حتى أطاحوا بها . ومنذ ذلك الحين والمسلمون يعيشون في هذا الذل والهوان حتى صار أعداؤهم لا يبالون بهم وهذا كله نتيجة أن المسلمين رضوا بدنياهم ، وابتعدوا عن العمل بكتاب الله ، وعن سنة نبيهم ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، ولهذا يَقُولُ صلى الله عليه وسلم [ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ](181) . فإذا أردنا العزة والتمكين ، وتغيير الأحوال إلى الأصلح ، وإقامة الدولة الإسلامية ، فعلينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا ؛ لأن الله يقول:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ { (182).
* الطور السابع: يحمس المدعو لطلب العلم ؛ لأنه لا يمكن أن يعبد الله كما أمر سبحانه إلا بالعلم ، فيُرَغِّب المدعو بمجالسة العلماء العاملين من أهل السنة والجماعة ، أصحاب المنهج السليم ، ويشعره إذا وجدت محاضرات ، أو جلسات خاصة سواء كان ذلك بالمرور عليه ، أو بالهاتف كما يحثه على اقتناء الكتب النافعة ، وكذا الأشرطة والمجلات ... الخ .
وينبه المدعو إلى أن خير السبل هي سبيل رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وهي سبيل العلم وتربية المجتمع مع تصفيته ، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها . وأنه مهما حاول المحاولون الذين ابتعدوا عن هذا المنهج أن يعيدوا الخلافة الإسلامية ، فإنما مثلهم مثل من يبني بناية على شفا جرف هار يوشك أن يقع(183).
مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
==========================
تمهيد :(36/407)
قد تكون المشكلة اليوم ، هي الخلل في معادلة الدعوة والعمل الإسلامي ، الذي حال دون نمو الاختصاصات ، والتنبه لها بشكل مبكر ، والعجز عن استشراف المستقبل والتحديات المحيطة ، والإبقاء على الوسائل البدائية في الدعوة والبلاغ المبين ، والتوهم بأن الوسائل من الثوابت والمقدسات ، التي لا يجوز تطويرها أو حتى مراجعتها ودراسة جدواها ، وبذلك أصيبت أجهزة الدعوة على يد أصحابها أكثر مما أصيبت على يد أعدائها ، وبدأ دور الإسلام يتضاءل ويتراجع ، وينفصل عن الحياة إلي درجة يمكن أن نقول معها ، إن المنبر انفصل عن المصلين في داخل المسجد ، قبل أن ينفصل عن صياغة المجتمع خارج المسجد ، فافتقدنا فاعلية ما نملك !!.
قال سيد قطب (رحمه الله) :' يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدًا أنه كما أن هذا الدين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متوافق في طبيعته ، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل ! .
فالدعاة حين يدعون الناس إلى الله بالخروج من طاعة غير الله إلى طاعته وحده ، ورفض شرائع العبد والتزام شرعه وحده ، يشعرون بتناقض ـ حين يكون إحساسهم مرهفًا ـ بين ما يدعون الناس إليه وما يبتدعونه لأنفسهم من وسائل الوصول ، إذ يكون الهدف ربانيًا والطريقة بشرية ! .
أما حين تكون الطريقة أيضًا ربانية ؛ فإن الانسجام بينها وبين الغاية يصبح حقيقة واقعة. كذلك يشعر الدعاة ـ حين يكون فهمهم ربانيًا ـ أنهم موصولون وأنهم سائرون على قدم الرهط الكريم من الأنبياء والرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فتمتليء أرواحهم بالأنس ، ونفوسهم بالبهجة ، ويستهينون بالصعاب حين يرون في الأفق البعيد موكب السادة العظماء عليهم الصلاة والسلام.
إذن لو أردنا معرفة المنهج فإننا لا نستطيع معرفته إلا من خلال الأسلوب النبوي في تربية ذلك الجيل السامق الفريد ، وأسلوب الصحابة والتابعين بإحسان ، ومن التجارب ، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت ، أما كيفية الاستقاء فالمرجع فيها هو القرآن ، والسيرة الكريمة في مكة والمدينة ، والسنة عمومًا. فتؤخذ النصوص بجملتها وتكون أساسًا لمنهج تربوي تفصيلي ، دون طمس لأي جانب ، ودون إبراز لجانب على حساب جانب ، فلا نريد أن نعلي من شأن الجانب الروحي على حساب الجانب الفكري ، والعملي ، والحركي الجهادي ، ولا هذا على ذاك بل خطوط متوازية متكاملة تكوّن تلك الشخصية المتكاملة .
ولذا سوف يدور هذا المبحث حول عدد من النقاط نجملها ثم نفصل الحديث عنها لاحقاً ونسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد وهي :
?المنابر المتاحة والتقصير الواضح . ? مراعاة مقتضى حال المدعو .
? اللغة . ?انتهاز الفرص .
?أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة . ?البعد عن التعصب المقيت.
?المنابر المتاحة والتقصير الواضح :
فلو أحصينا عدد منابر الجمعة اليوم في العالم الإسلامي ، التي يبدأ بناء مساجدها إلي جوار أول بيت في القرية ، ويمتد إلي كل حي في المدينة - وخطبة الجمعة والسعي إليها ، والسماع لها دون لغو أو انصراف من فروض الدين - لأدركنا أهمية المواقع والوسائل الخطابية التي نمتلكها ، وما يمكن أن تفعله في العالم لو كنا في مستوى المسؤولية المنوطة بنا ، واستشعرنا التحدي الذي يواجهنا … والمنبر ، بعض أشياء المسجد ، ووسائله ، فإذا أضفنا إلي ذلك المحراب وعطاءه خمس مرات يوميا ، يتلو المعجزة البيانية على عقول وقلوب الأمة ، وشعيرة الأذان التي تعلن بالمرتكزات الأساسية للعقيدة والرسالة الخاتمة ، تنادي الناس وتوقظ النيام كلما كادوا يغفلون ، لأدركنا أي تخاذل في الخطاب ، وأي عطالة فكرية نعيشها ، الأمر الذي يقتضي أن نؤدب على معاصينا أكثر مما نحن فيه .
ولعل بعض وسائل وأساليب الخطاب الإسلامي المعاصر ، تؤثر سلبا على مسار الدعوة الإسلامية ومواقف الناس منها ، وذلك عندما يكون سيئا ، أو جاهلا ، أو غبيا ، أو ساذجا ، فيسيء إلي الإسلام وعظمته ، ويزهد الناس فيه ، ويخوفهم منه ، يجعلهم يتوهمون أن حالتهم أفضل مما يدعون إليه .
لذلك نقول : إن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتمكن من استيعاب أقرب الناس إليه ، أو أكثرهم استعدادا للتجاوب معه ، وهم جمهور المسجد ، علاوة عن كسب الآخرين … فهو خطاب أقرب إلي السلبية ، والجزئية ، والأحادية ، والارتجال ، والحماس ، والذاتية ، منه إلى التفاعل مع هموم الأمة .
ولذا لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ، ويغيب عنا الفقهاء ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .(36/408)
لقد استطاع المسلمون في جيل القدوة أن يوظفوا كل الإمكانيات المتاحة للخطاب ، فوقفوا على أعلى مكان ، ورفعوا أصواتهم إلي القدر المستطاع لإيصال صوت الإسلام بالأذان … ووقف الرجال من حول الرسو صلى الله عليه وسلم يبلغون صورته وتعاليمه إلى أسماع لم يصلها الكلام ، سواء كان ذلك في الخطبة ، أو الدرس ، أو الصلاة … استخدموا كل ما هو متاح في البيئة المحيطة بهم من الوسائل الممكنة ، وكانوا في مستوى إسلامهم وعصرهم … لكن للأسف ، توقف المسلمون ، وتطورت وسائل الإعلام على أيدي غيرهم .
? مراعاة مقتضى حال المدعو :
لقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة مخافة السامة … عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ(184)y يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلميَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا(185).
وكان يحذر أصحابه الذين يطيلون في العبادة حتى تشق على الناس ، من فتنتهم عن دينهم … عَنْ جَابِرٍ y قَالَ كَانَ مُعَاذٌy يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ . فَقَالُوا لَهُ : أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟!. قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ(186) نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمعَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ : [ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا ] قَالَ : سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِعَمْرٍو : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا (187).
وكان الإمام علي رضي الله عنه يوصي بمخاطبة الناس على قدر عقولهم ويقول مستنكرا : « أتحبون أن يكذب الله ورسوله » ؟ !(188).
وتعريف البلاغة - كما هو معلوم - هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال (189)… فأين واقع الإعلام الإسلامي من حال المتلقي ؟!.
ومع ذلك ، لا نزال في دعوتنا وخطابنا الإسلامي ، إن صح التعبير ، نلقي الكلام على عواهنه دون أية دراية بمقتضى الحال ، حتى أصبح عندنا : كل مقال يصلح لكل مقام ، وكل إنسان يصلح لكل عمل ، وكأننا نعيش غربة الميراث الثقافي الإسلامي ، وكيفية الإفادة منه ، وغربة العصر وفهمه ، وكيفية التعامل معه .
? اللغة :
إن عالمية الرسالة تقتضي عالمية الخطاب ، وعالمية الخطاب لا تبلغ مداها المطلوب ما لم تكن عندنا القدرة أولا على فهم العالم بعقائده ، وثقافاته ، وتاريخه ، وحاضره ، ومشكلاته ، وتطلعاته ، وفهم الكيفيات والآليات التي يتم من خلالها تشكيل الرأي العام ، وشروط تغيره ، والتأثير عليه ، كأمور لا بد منها لتحديد المداخل الحقيقية للخطاب ، كما لا بد لنا من التمكن من لغات الخطاب العالمية لنكون في مستوى التكليف في قوله تعالي : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » (190)… فاللغة هي المفتاح الأول ، ووسيلة الفهم بأحوال المخاطب.
?انتهاز الفرص :
فاستغلال الحوادث التي تمر علينا ، مهمة كبيرة من مهام التربية ، ووسيلة من وسائل الخطاب الناجح ، ينطبع أثرها في نفس المدعو ، فلا يزول أثرها بسهولة . فالخطيب الفطن لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه ، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها . و كان القرآن ينزل مع الأحداث ، فيؤثر في النفوس أبلغ التأثير.
?أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة .(36/409)
من وسائل الدعوة الناجحة لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي ، وإن كان الداعية مخطئًا فليسلِّم بخطئه ، ولا يواجه من معه باللوم والتعنيف عندما يخطئون ، فإنَّ ذلك يضر ولا يجدي ، والداعية لا يستنكف عن مجاهدة نفسه فيما يحب ويكره ، فإن كنت مخطئًا فقل: 'إني أرى هذا الرأي فقد أكون مخطئًا' أو أرجو منك أن تصحح خطئي إن كنت مخطئًا ، فكثيرًا ما أخطيء ، فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول:'رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي' ويتجنب الداعية النصح في مكان عام بين الناس ، ولكن يجعل نصيحته سرًا ، فإنها أبلغ في التأثير.
?البعد عن التعصب المقيت : من وسائل الدعوة الناجعة و المؤثرة ، والتي يغفل عنها الكثيرون ، وينبغي أن يعلم أن التعصب صفة ذميمة ، تحمل الإنسان على إتباع الهوى ، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب ، وتحجب عينيه عن رؤية الحق ، فيخبط خبط عشواء ، وقد ذمَّ العلماء التعصب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك :
قال أبو نُعيم :( قاتل الله التعصب ما أشنع إخساره في الميزان ) (191).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ، فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ] (192) .
وقال الشوكاني :[ والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية منه
يأبى الفتى إلا إتباع الهوى ومنهج الحق له واضح ]( 193)
وقال الشوكاني أيضاً :[ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة ، المبرأ من التعصب والتعسف ، أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم ، من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلَّاق العليم :( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (194)].
وقال العلامة ابن القيم :[ ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية ، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض ، بالهوى والعصبية ، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية ] (195).
وقال الزرقاني :[ واعلم أن هناك أفراداً ، بل أقواماً تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب ، كان مبتدعاً متبعاً لهواه ، ولو كان متأولاً تأويلاً سائغاً ، يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام ، وهكذا استزلهم الشيطان ، وأعماهم الغرور ، ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة ، أن تفرق كثير من المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وكانوا حرباً على بعضهم وأعداءً ، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام ، أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة ، متسعاً لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصماً بحبل من الله ، ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )(196). ويقول جل ذكره :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (197). ويقول تقدست أسماؤه : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )(198).(36/410)
لمثل هذا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نتهم مسلماً بالكفر أو البدعة والهوى ، لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري ، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ، ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان وهذا موضوع مفروغ منه ، ومن التدليل عليه ، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين ، عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ، ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد ، ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كل برأيه ، وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرهم الرسو صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يُعِبْ أحداً منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهاداً منه… ] (199) .
وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي :( وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ) (200).
وقال العلامة ابن القيم في نونيته :
وتعرَّ من ثوبين من يلبسهم يلقى الردى بمذمةٍ وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع نصح الرسول فحبذ الأمران(201)
? كسب قلوب الناس :
فإن كسب قلوب الناس ليكونوا بعد ذلك للدعوة محبين وإليها مقبلين ولجندها مناصرين من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يوليها الدعاة عنايتهم واهتمامهم .. وأن يكون لها نصيب كبير من تفكيرهم وتخطيطهم ..
وتأتي أهمية هذا الموضوع من جوانب عدة منها :
أولاً : أن كسب قلوب الناس طريق ووسيلة إلى تقبلهم الحق وبعض الناس معرض عن دعوة الله لعدم انسجامه مع الداعية نتيجة لبعض تصرفاته الخاطئة وقد ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يا أيها الناس إن منكم منفرين ))(202) .
ثانياً: صنف من الدعاة لا يهتم بمعاملة الناس ولا يبالي بموقف الناس منه ولهذا نشأت بينه وبينهم هوة كبيرة حالت دون تبليغ دعوة الله في الوقت الذي نجد فيه بعضاً من أصحاب الأفكار المنحرفة أوجدوا لأفكارهم أتباعاً ولمبادئهم جنوداً وأنصاراً لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع الناس فكسبوا قلوبهم وحركوا نفوسهم إلى ما لديهم من باطل .
ثالثاً : أن كسب الدعاة لقلوب الناس يبدد الجهود المضنية لأعداء الدين على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم والتي يبذلونها في تشويه صورة دعاة الحق بما يبثونه من إشاعات وافتراءات كاذبة عبر وسائل الإعلام المختلفة.. فمعاملة الداعية للناس معاملة الأب الشفيق الرحيم الذي يحرص عليهم كما يحرص على نفسه ويحب لهم ما يحب لها يسد الأبواب أمام أهل الباطل فلا يستطيعون النيل منه أو إثارة الشبهات حوله..
رابعاً: حاجة الدعوة للتفاعل مع الناس ، وهذا التفاعل لن يثمر الثمار المرجوة منه إلا إذا أخذنا بأساليب كسب القلوب التي سنها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (203)
خامساً: أن قيام الدعاة بكسب قلوب الناس من حولهم يزيد في ترابط أفراد المجتمع المسلم ، ويجعلهم أفراداً متراحمين متعاطفين وهذا مطلب شرعي في حد ذاته: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(204) .
وهنا سؤال كبير فحواه كيف نكسب القلوب ؟!!
للإجابة عن هذا السؤال نطرح مجموعة من الوسائل لكسب ود الناس وحبهم ، وقد استقينا بعضها من رسالة للأخ / مازن بن عبد الكريم الفريح جزاه الله خيراً .
? الوسيلة الأولى: خدمة الناس وقضاء حوائجهم :
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ؛ ولذلك قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(205). وعندما سئلت عائشة- رضي الله عنها- : مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلميَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ ؟ .قَالَتْ : كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ (206).(36/411)
ومنا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم ، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم . ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران لقوله صلى الله عليه وسلم"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ". "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ "(207).وقوله في النساء : " وإن أعوج ما فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ؛ بل قال عليه أفضل الصلاة والسلام-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه"(208) . ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته ، ولا نتطلع إلى عورته ، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته ، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه.. وقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال:" والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن" ، قال قائل : من هو يا رسول الله ؟ قال:" الذي لا يأمن جاره بوائقه"(209)(210).
?الوسيلة الثانية: السماحة في المعاملة
يوجز الرسول( صلى الله عليه وسلم )أصول المعاملة التي يدخل فيها المسلم إلى قلوب الناس ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" وفي رواية "وإذا قضى" . فالسماحة في البيع : ألا يكون البائع شحيحاً بسلعته ، مغالياً في الربح ، فظاً في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع فلا يكثر من المساومة ؛ بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع فقيراً معدماً. والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه فانه يطلبه برفق ولين.. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة مرفوعا :" كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" والسماحة في القضاء : هو الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود وانظر كيف دخل الرسو صلى الله عليه وسلم إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قال: ( أن رجلاً أتى صلى الله عليه وسلم فتقاضاه فأغلظ فهمّ به أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم قال أعطوه سناً مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أفضل من سنه فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) فقال الرجل ( أوفيتني أوفى الله بك ) .
ومن السماحة في المعاملة : عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك . فعن أنس قال (خدمت رسول ا صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا )
يقول الشيخ / عبد الرحمن عبد الخالق :
ومن الوسائل : الدعوة إلى الطعام، واستخدام الولاء القبلي كما فعله سعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، فقد دعا كل منهما قبيلته -وهو شيخها- فدخلوا جميعاً في الإسلام في ليلة واحدة.
ومن الوسائل النافعة: حمل الدعوة مع التجارة، فقد دخل بدعوة التجار المسلمين أمم وشعوب كثيرة، وكذلك السياحة، والمراسلات، والمناظرات، واستغلال المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج، والجنائز ... هذا عدا عن الدروس العلمية، والخطابة، وإنشاء الشعر والأدب .
والخلاصة: أنه يمكن لكل أحد أن يدعو إلى الله ، وأن يبلغ الحق، وينشر الخير حتى ولو كان ممن لا يستطيع أن يحفظ العلم ويؤديه كما سمعه، فإنه يستطيع أن ينشر الكتاب، والشريط ويدل على الخير، وأن يكثر سواد الدعاة إلى الله بمصاحبتهم فضلاً عما ينفعه الله به من صحبتهم (211) .
مبحث
مكان وزمان الدعوة
رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو ( مكانه وزمانه) .
==========================
من المهم أن يدرك الداعية أن مكان الدعوة وزمانها له تأثيره الواضح في توجيه خطابه ، وإن غفل عن هذين الجانبين الهامين سوف يفشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى عقول وقلوب المخاطبين ، وسوف يكون خاطبه سقيماً عقيماًً ، فنجد مثلاً في العهد المكي يمكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعو بدون أن يفكر هو ولا أصحابه في رفع السيوف ـ التي تحت سيطرتهم ـ في وجه أعدائهم رغم الدواعي الكثيرة التي تدفعهم نحو ذلك .(36/412)
يقول أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ : " هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب . وخضوع جسم وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحريراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس ، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد . ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ، ويقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ }(212) فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعة إلى ذلك وقوتها" (213) .
أولاً : مراعاة المكان والزمان : مما تقدم يتضح أن مكان وزمان الخطاب مهمان عند الداعية ، فلابد من مرعاه المكان الذي يوجه إليه الخطاب ـ وأقصد تحديد المجتمع وتركيبته ـ والزمان الذي يحوي هذا الخطاب ، وعندما نقول تجديد الخطاب الديني أي تغيير أساليبه حسب المجتمعات التي يتوجه إليها فهذا أمر يكاد يكون ثابتا منذ بداية الدعوة الإسلامية لأننا حتى إذا نظرنا إلى التشريع في وقت نزول القرآن نجد أن الله ـ تبارك وتعالى ـ في الفترة المكية كان يوجه معظم آيات القرآن إلى ترسيخ العقيدة ولم تتعرض الآيات التي نزلت في مكة للتشريع المدني بالصورة الواسعة كما حدث في الفترة المدنية في القرآن الذي نزل في المدينة ، وما ذاك إلا مراعاة للظرف الزماني والمكاني الذي يتوجه إليه الخطاب ، ومن هنا وجب على الداعية ملاحظة ذلك ومراعاته .
وهذا الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كان له فقه في العراق وعندما جاء إلى مصر غيره وهذا حسب تغير المكان فما بالنا بتغير الزمان خاصة ونحن لدينا تغيرات مذهلة تحتاج إلى تجديد يتواكب معها فنحن في حاجة ماسة منذ فترة طويلة للتجديد لكننا لابد أن نرفض الطلب من أعدائنا في هذا الشأن وفي هذا الوقت وهذا الظرف أيضاً .
ثانياً : التدرج مع المدعوين :
من الأمر التي نغفلها في نوعية الخطاب أو كيفيته هو التدرج مع المدعوين وهذا الأسلوب الدعوي ، وإن كان قديماً ، غير أنه مهمل لا يلتفت إليه مما يجعل الدعوة إليه وتفضيله يشكل تطوراً وتجديداً ، فالمسألة ليست ابتداع كل ما لم يكن بقدر ما هي نفض الغبار عن أمور راسخة أصلاً ولكنها ربما مهملة .
وهناك أحكام جرى عليها التدرج في التشريع وما هذا إلا نوع من الخطاب يراعى الملاءمة بين الخطاب الديني والبشر الموجه إليهم فعلى سبيل المثال «الخمر» لم تحرم مرة واحدة ، وكان أول ما نزل فيها قول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (214) وكان المقصود من أن يباين الله ويعارض أمرين هما الرزق الحسن والسكر أن يتفهم كل ذي عقل ناضج أن في الخمر شيئا يكرهه الله سبحانه وتعالى ، بعد ذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها : فبين أنها مع كونها تنفع بعض الناس لكن ضررها أكثر من نفعها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }(215) ، بعد ذلك حدث أن دخل أحد المسلمين الصلاة إماما وصلى بالناس وقرأ سورة «الكافرون» وأخطأ في قوله تعالى «لا أعبد ما تعبدون» وقال «أعبد ما تعبدون» لأنه كان سكرانا فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } (216)(36/413)
وكان هذا تعويدا للمسلمين على أن ينقطعوا عن شرب الخمر حتى يستطيعوا فيما بعد الامتناع عنها نهائيا ثم جاء الأمر الإلهي الأخير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (217)، وهذا يبين أن الخطاب الديني كان ملائما حتى في عصر نزول القرآن وعصر التشريع الذي كان موجودا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحال المخاطبين، وهذه الملائمة من الأمور التي تستدعيها ظروف الدعوة الإسلامية وظروف الخطاب الديني فليس من المتصور توجيه خطاب عال المستوى إلى قوم أميين مثلا ، وإنما يجب توجيه الخطاب إليهم بالأسلوب الذي يلائم ثقافتهم ومعارفهم فالأساس الأول من أسس الدعوة الإسلامية إن تكون المخاطبة بالقدر الملائم لحال المخاطب ـ وقد سبق لنا تفصيل ذلك في موضعه بما لا يحتاج منا إلى مراجعة ـ غير أننا نلفت النظر إلى أهمية التدرج الذي يصلح لمجتمعات هذا العصر الذي انتشرت فيه المعاصي بشكل غير مسبوق ، وأصبحت المعاصي في كل درب ، وعلى كل طريق ، وبأبخس الأثمان ، مصداقاً لقوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(218) .
ثالثاً : عدم استعجال قطف الثمرة :
وهذا البند ربما يكون امتداداً لأحد بنود شروط الخطيب وهو الصبر ، غير أننا هنا ننوه على العجلة وعدم التريث ، ففي الصبر مجالات حددناها هناك ، وهنا التسرع والعجلة في قطف الثمر وأحياناً قبل أن ينضج ويؤتي أكله ؛ فتكون النتيجة هي الخسارة .
فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ y قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا ؟ ، فَقَالَ : " قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " (219) .
والواقع أن بعض الدعاة لديهم نوع من الحماس الزائد مما يدفعهم للتعجل واستبطاء النتائج ، وهذا لا شك خلاف الكيفية التي يجب أن نخاطب بها الناس فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (220) .
رابعاً : توخي الحذر والمداراة على الدعوة والخطاب :
ولكم ضاعت دعوة أصحابها غير مبالين بما يحاك لها ، ويشعرونك أن الأمور هكذا يجب أن تسير فإن أصيبت الدعوة قالوا : هذا قضاء الله وقدره ، ولكن الواقع يقول أنهم لم يحسنوا تدبر أمر الدعوة ، ولم يكونوا على مستوى المسؤولية الملقاة على عواتقهم ، لابد أن تنازع القدر بالقدر ـ كما قال بعض أهل العلم ـ ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعطيل ننازعه بالمكاشفة، والتعبئة . ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون ـ لا شك ـ عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت: فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو مسئولية الحاكم، أو مسئولية المفكر، كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته . أما تحميل المسئولية لجهة معينة: الحكام، أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة ، ونخرج نحن أبرياء . وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: [صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس العلماء والأمراء ] وهذا الحديث لا يصح سنداً، ولا متنا . وبناءاً على تحديد المسئولية؛ نكون جميعاً مطالبون بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه: كل متخصص في مجال يقدم ورقة، ويرفع راية، و يخط طريقة، و يجر وراءه من يستطيع (221) .
ولكي نكون أكثر تحديداً في هذا الجانب نسوق إليكم صنع صلى الله عليه وسلم في الهجرة ـ رغم أنه موعود بالنصر والتمكين ـ فهاهو r يستبقي أبا بكر y للصحبة ، ويشجع على بن أبي طالبy للمبيت في فراشه ، ويخرج متجهاً إلى اليمن لا إلى المدينة رغم أن وجهته المدينة ، ويبقى في الغار ثلاثة أيام حتى يخف عليه الطلب ، وكل ذلك أخذاً بالأسباب وحفاظاً على الدعوة ، ولكي يكون ذلك لنا أسوة .
خامساً : الهدف من الخطاب الديني :
==================== تربية جيل معلَّم(36/414)
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " المنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما انه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى الله أن تدور عليه أبداً، وداخل الإطار الذي ارتضى الله أن تظل داخله أبداً، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله..
وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة. التي تعمل في جسم الكون منذ نشأته، والتي تعمل فيه اليوم وغداً، والتي يلقى البشر من جراء المخالفة عنها، والاصطدام بها، ما يلقون من آلام ودمار ونكال! "(222) .
فإذا كان الإسلام بمنهجه خالداً ، ولن يرث الله الأرض إلا به فهذا يقتضي منا أن ندعوا إليه على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نرسم الأهداف قبل المضي في دعوتنا ، فإذا رسمنا الأهداف بدقة وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد، أو عقدين من الزمان ـ أمام أمة قد دبت فيها الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسان ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، و ركز على ما يحسن، وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل . وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات، والأصعدة، و أصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل:
} وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [40] { سورة الحج .
والخلاصة هي : إعداد جيل مربى ومعلم :
خصائص التربية الناجحة:
لا يمكن أن تكون التربية ناجحة إلا إذا كانت شاملة، ولا تكون شاملة إلا إذا تمتعت بخصائص، منها:
* ربانية المنهج؛ إذ إن المناهج البشرية خاضعة للخطأ والزلل، عرضة للانتقادات، كونها صادرة عن إنسان متأثر ببيئة معينة، فتبقى مناهجه ضمن إطار بيئته، أما المنهج الرباني فهو عام لكل البشر، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، وتفاوت طباعهم، وتعدد آرائهم.
* إنسانية النزعة؛ ليست مقتصرة على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أو تخدم مصالح جماعة معينة أو مجتمع بمفرده، فكلما كانت التربية إنسانية كان نفعها أعم وأشمل.
* عملية التطبيق؛ غير مغرقة في خيالات كاذبة أو فلسفيات مادية عقلية، بل هي تربية قابلة للعمل والتطبيق.
* ذاتية المنطلق؛ نابعة من الشعور بالنفس والآخرين، لا تحتاج إلى رقابة مادية محسوسة، فرقابة صاحب المنهج وهو الله الرب المربي كافية ومغنية عن كل الرقابات المادية مهما كانت دقتها عالية.
* اجتماعية المحتوى؛ ليس فيها من الأنانية القاتلة، ولا الأثرة المهلكة، بل هي تربية التعاون والتكامل، وتربية التكاتف والتكافل.
غايات التربية المنشودة:
إيجاد جيل يحمل الصفات الآتية:
• العلم النافع.
• العمل الصالح.
• الخُلُق القويم.
والطريق إلى ذلك تهذيب النفوس، وتثقيف العقول، وبناء الأمم.
فالتربية في مجملها: الإنسان في جوانبه الجسمية، والعقلية، والعلمية، واللغوية، والوجدانية، والاجتماعية، والدينية، وتوجيهه نحو الصلاح، والوصول به إلى الكمال.
الاهتمام بحامل التربية:
تقدم المجتمعات ونجاحها من نجاح التربية فيها.
من الأمور التي اجتمع عليها المربون إقرارهم بأهمية التربية بوصفها عاملاً رئيساً في توجيه الأفراد نحو أهداف المجتمعات، ولكي نصل إلى أهدافنا ونحقق ما نصبوا إليه و حقاً نبتغيه لا بد من بعض الأمور الهامة وهي:
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة
قال ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟(36/415)
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. (223) إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الأيدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) سورة الحج
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم يكن في الأرض اليوم إسلام قائم فعلاً، فإن فرص بعثه ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسول صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام ما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسول صلى الله عليه وسلم . فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسول صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:(36/416)
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم
*ندعو إليه بعد أن نتحلى به عقيدة، وخلقاً، وسلوكاً، ولا ننسى أن نغذي أفئدتنا خلال ذلك، بأسباب الرغبة في ثواب الله والرهبة من عقابه، والمراقبة الدائمة له.
* ندعو إليه من منطلق الشفقة على عباد الله جميعاً، كي لا يقعوا غداً في آلام كاوية من الندامة التي لا تغنيهم شيئاً. فإن رب العالمين جل جلاله ما دعا عباده إلى دينه هذا، إلا رحمة بهم وحباً لإسعادهم، فأولى بك وأنت جندي تدعو الناس بدعوته، ألا تدفعك إلى ذلك إلا الرحمة والشفقة والغيرة عليهم.
* ندعو العقول عن طريق الحجة والبرهان، إلى اليقين بعقائد الإسلام، وندعو النفوس عن طريق منهاج التزكية النفسية إلى الالتزام بسلوك الإسلام، ولن ننجح في ذلك إلا بعد أن نبدأ فنزكي نحن نفوسنا من أوضارها وأمراضها جهد استطاعتنا.
* نركل من طريق ما بيننا وبين الآخرين كل عصبياتنا وأنانياتنا ورغباتنا في الانتصار للذات، حتى تتاح الفرصة لهم أيضاً أن يفعلوا مثل ذلك فينجوا عصبياتهم وأنانيتهم عن الطريق حتى تنفذ إليهم كلمة
* لا تخلط بأعمال الدعوة شوائب المعوقات، وزوائد الشهوات والأهواء، ولا نشغل بال الناشئة بها، فإنها لا توقعهم إلا في رهق لا جدوى منه، ولا تعود إليهم إلا ببلابل فكرية تورث الفتنة ولا تحقق الخير.
* سلاح الداعي إلى الله أولاً: العلم بكتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه سلف هذه الأمة. ثانياً: العاطفة الإسلامية التي غذيت بالعلم وارتبطت بحدوده. فمن حمل لواء الدعوة إلى الله بدفع من عاطفته وحدها لا يسلم من الوقوع في غواية أو إغواء. ومن حمل لواءها بدافع من علمه المجرد، لا يعدو أن يكون مفتياً يضع أمام الناس قائمة أحكام الحلال والحرام. وتعليم الأحكام، يختلف عن الدعوة إلى الإسلام.
* شعار العبد الذي أخلص في الدعوة إلى الله، هو قوله عز وجل:(فذكر،إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) فهو يؤدي بعمله وظيفة كلفه الله بها. أما هداية الناس واستجابتهم له فشيء مناطه الإرادة الربانية التي يتم على أساسها تدبير الأمور.
* سلاح القائم بدعوة الله، كثير ذكر ودعاء، وتضرع وبكاء، وكثير استغفار في الأسحار، وتلاوة للقرآن. وحراسة دائمة للقلب الا تسيطر عليه الأهواء.
وكل التدابير الأخرى، على أهميتها، إنما يأتي وراء ذلك.
* وأخيراً، مقياس القرب إلى النجاح، أمام الداعي إلى الله، هو قول الله عز وجل(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)فبقدر ما تشيع الاستقامة ويتوفر الصدق والأخلاق في حياة الأفراد، تنهض دعامة جديدة بتوفيق الله في بناء المجتمع الإسلامي المنشود.
والله المستعان وعليه الاتكال.
مراجع البحث
ـ أولاً : القرآن الكريم وعلومه .
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي دار الشعب مصر
ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ط دار الفكر بيروت .
ـ روح المعاني للألوسي دار الفكر بيروت .
ـ تفسير فتح القدير للشوكاني ط دار الحديث .
ـ مناهل العرفان للزرقاني ط دار إحياء الكتب العلمية
ـ ثانياً : الحديث الشريف وعلومه.
ـ صحيح البخاري ط دار ابن كثير .
ـ صحيح مسلم ط دار إحياء التراث.
ـ سنن ابن ماجة ط دار الفكر.
ـ سنن الترمذي ط دار الفكر بيروت.
ـ سنن أبي داوود ط دار الفكر بيروت .
ـ سنن النسائي ط دار الكتب العلمية .
ـ مسند الإمام أحمد ط دار إحياء التراث .
ـ موطأ الإمام مالك ط دار إحياء التراث .
ـ سنن الدارمي دار الكتاب العربي بيروت
ـ المستدرك للحاكم دار الكتب العلمية بيروت.
ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري للعسقلاني. ط الريان
ـ شرح النووي على صحيح مسلم . ط دار الغد العربي
ـ عون المعبود في شرح سنن أبي داوود . ط دار الفكر بيروت
ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير لعبد الرؤوف المناوي المكتبة
التجارية الكبرى .
ـ نوادر الأصول في أحاديث الرسول لأبي عبد الله الحكيم الترمذي
دار الجيل بيروت
ـ ثالثاً : كتب متخصصة :(36/417)
ـ 'صفات الدعاة' للدكتور/ عبد الرب بن نواب الدين.
ـ مجموع الفتاوى لابن تيمية .
ـ سير أعلام النبلاء للذهبي مؤسسة الرسالة بيروت
ـ إعلام الموقعين لابن القيم دار الحديث
ـ الدعوة الفردية وأهميتها في تربية الأجيال رسالة للشيخ/عقيل ا بن
محمد بن زيد المقطري
ـ أصول الدعوة للدكتور : عبد الكريم زيدان ط مؤسسة الرسالة .
ـ أصول الدعوة لعبد الرحمن عبد الخالق الكويت.
ـ هكذا الدعوة رسالة للبوطي سوريا .
ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ط مكتبة
السنة .
ـ رابعاً : الدوريات والنشرات والمجلات والصحف
ـ جريدة الأهرام المصرية .
ـ جريدة الأسبوع المستقلة المصرية .
ـ صحيفة الحياة تصدر في لندن .
هذا مضافاً إليه مراجع أخرى تجدوننا قد أشرنا إليها داخل البحث
فهرس البحث
1
1
6
7
12
19
21
22
22
22
23
…تطوير الخطاب الديني
مقدمة
المبحث الأول
ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟
فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
جوانب التغيير
المبحث الثاني ما هو التغيير المطلوب؟
أركان الدعوة أو الخطاب الديني .
الخطيب أو الدعية.
مبحث
الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية.
أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده.
الإخلاص في الكتاب والسنة.
…25
31
31
32
33
34
35
38
40
…من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .
آثار فقه الواقع .
إحكام الفتوى وإتقانها.
الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة.
التربية الشاملة المتكاملة.
بعد النظر وحسن التخطيط .
إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم.
حماية العلماء.
الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه .
من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة.
تابع فهرس البحث
41
42
45
47
49
50
…أنواع الصبر.
لوازم الصبر في مجال الدعوة.
ـ تحمل عنت الم دعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم.
ـ ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة.
ـ الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم.
أثر الصبر في نجاح الداعي.
من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه.
مبحث
ثقافة المدعو
المخاطب أو المدعو وثقافته .
الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام.
إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح
إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم
لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد
عرض الدعوة على الكفار باللين.
وجوب رد إساءتهم.
قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر.
…54
54
55
60
65
67
70
72
73
75
76
79
84
88
89
92
94
99
…أصول في دعوة المرتد.
أصول في دعوة المنافق.
الدعوة بين المسلمين
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مبحث الدعوة الفردية
أطوار الدعوة الفردية.
مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ـ ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة
منهاجها.
ـ المنابر المتاحة والتقصير الواضح
مراعاة مقتضى حال المدعو.
اللغة.
انتهاز الفرص .
كسب قلوب الناس.
مبحث مكان وزمان الدعوة
ـ رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو
( مكانه وزمانه).
خامساً : الهدف من الخطاب الديني.
تربية جيل معلَّم.
والخلاصة: إعداد جيل مربى ومعلم .
البعث الإسلامي الحضاري.
وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم
==============(36/418)
(36/419)
ثقافة التلبيس ( 13 ) :عدم تكفير اليهود والنصارى ..!
سليمان بن صالح الخراشي
يمارس هذا التلبيس فريقٌ من المنافقين المؤاخين لليهود والنصارى ممن أشربت قلوبهم محبتهم حتى أداهم ذلك إلى أن يمدحوا أديانهم الباطلة ويعدوها أديانًا حقًة لا تثريب عليهم في اتباعها ، وأنهم لا يكفرون بهذا ! في مجاوزة منهم لحدود الله وأحكامه ، ووقوع في ناقض من نواقض الإسلام ، كلُ هذا طلبًا لرضاهم أو خلطًا بين تقدم بعضهم " دنيويًا " والحكم على أديانهم . وهذا ليس بمستغرب ممن قال الله عنهم ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا ) ، ولكنه مستغربٌ من بعض من يُسمون بالمفكرين الإسلاميين ! الذين هان عندهم الوقوع في هذا الناقض في سبيل أن يحظوا بوصف " التسامح " ، أو بسبب الهزيمة النفسية التي تمنعهم من الصدع والفخر بدين الله الذي جعله خاتم الأديان .
ولتأكيد ضلال اليهود والنصارى وأنهم على دين باطل بعد نسخه بدين صلى الله عليه وسلم أمر اللهُ المسلمَ أن يسأله في كل يوم، وفي كل صلاة، وفي كل ركعة، أن يهديه الصراط المستقيم الصحيح المتقبل، وهو الإسلام، وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم: وهم اليهود وأشباههم، الذين يعلمون أنهم على باطل ويصرون عليه، ويجنبه طريق الضالين: الذين يتعبدون بغير علم، ويزعمون أنهم على طريق هدى، وهم على طريق ضلالة، وهم النصارى ومن شابههم من الأمم الأخرى، التي تتعبد على ضلال وجهل، وكل ذلك ليُعلم أن كل ديانة غير الإسلام فهي باطلة، وأن كل من يتعبد الله على غير الإسلام فهو ضال، ومن لم يعتقد ذلك فليس من المسلمين، وفعله هذا من صور الموالاة التي يُحكم على باذلها بالكفر كما ذكر ذلك أهل العلم .
ولمعرفة بداية التشكيك في كفر اليهود والنصارى وغيرهم ، ومراحل الدعوة إلى " وحدة الأديان " يُنظر : رسالة " محمد عمارة في الميزان " ( ص 354-370 ) ، ورسالة " دعوة التقريب بين الأديان " للدكتور أحمد القاضي " 4 مجلدات " ، ورسالة الشيخ بكر أبوزيد " الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان " . وإنما أكتفي هنا ببيان أدلة تكفير اليهود والنصارى ؛ كشفًا لهذا التلبيس :
الوجه الأول : في الأدلة من القرآن على كفر اليهود والنصارى :
وهي كثيرة جداً ، سأكتفي بأوضحها دلالة:
1- قال تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيما ).
قال ابن كثير: (يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان ؛ فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية ، فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم والله أعلم. والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن ردّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ، ولهذا قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله )يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله( أي في الإيمان )ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً( أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال: (أولئك هم الكافرون حقاً) أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ؛ لأنه ليس شرعياً ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه لو نظروا حق النظر في نبوته) . قلت : وهذه الآية أعتقد أنها كافية لمن يريد الهداية .
2- قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة... ).
قال ابن كثير: (أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب) .(36/420)
ففي هذه السورة تكفير لهم لعدم إيمانهم بالقرآن وهو البينة وعدم إقامتهم الصلاة والزكاة، ثم أخبر أنهم في نار جهنم ؛ فقال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) قلت: قد يوحي الشيطان إلى أحد أن هذه السورة في (الذين كفروا من أهل الكتاب) وهم من لم يقيموا دينهم مثلاً. فيقال: لو صح ذلك لقيل إن الله تعالى كفّرهم لأجل عدم إيمانهم بالقرآن وإقامتهم الصلاة والزكاة وهم مشتركون في هذا - طيبهم وخبيثهم - وهذا واضح ، ويقال ثانياً: إن الله تعالى قال: (من أهل الكتاب والمشركين) فيلزم أن في المشركين من يمكن أن يكون مؤمناً! وهذا ما لا يقول به عاقل .
3- قال تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم).
4- قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) الخطاب لجميع أهل الكتاب أن يدعوا اعتقادهم الشركي في المسيح وعزير ؛ فإن لم يفعلوا ذلك فهم ليسوا مسلمين.
5- قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون).
6- قال تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)
7- قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون).
8- قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً). قال ابن كثير: (يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا).
9- قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً). فمن كفر برسول واحد فقد ضل ضلالاً بعيدًا .
10- قال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام...) الآية. وقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا على فترة من الرسل) قلت: فإذا كفتهم رسلهم. فلماذا يرسل الله تعالى إليهممحمدا صلى الله عليه وسلم ؟!
11- قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
12- قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس).
13- قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وتأمل قوله تعالى: (جميعاً) فهو تأكيد لعموم الرسالة لكي لا يُسْتثنى أحد من يهود أو نصارى .
الوجه الثاني : ما يشهد على كفرهم من السنة:
وسأكتفي منها بالأدلة الصريحة وأقلل منها اكتفاءً بما سبق من آيات القرآن :
1- قا صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار" قال النووي في شرح مسلم)(2/188) : ( وقول صلى الله عليه وسلم لا يسمع بي أحد من هذه الأمة أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته ، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما ، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى ، والله أعلم ) .
2- قال صلى الله عليه وسلم " لو تابعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم" رواه مسلم . أي أنهم غير مسلمين إذا لم يتابعوه صلى الله عليه وسلم
3- وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه : ( أن رجلاً أسلم ثم تهود. فأتاه معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو عند أبي موسى- فقال: ما لهذا؟ قال : أسلم ثم تهود . قال : لا أجلس حتى أقتله قضاء الله ورسول صلى الله عليه وسلم ( . والشاهد: قول معاذ )قضاء الله ورسول صلى الله عليه وسلم ) لأنه معلوم عندهم أن من أسلم من اليهود والنصارى ثم رجع إلى دينه قتل لأنه مرتد ، ولم يقل أحد أن الأديان كلها توصله إلى النجاة ! وإلا لتركه الصحابة وشأنه واختياره .
4- وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن صلى الله عليه وسلم قال في حديث التجلي يوم القيامة " .. ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنه السراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون..." وذكر الحديث .
الوجه الثالث: أن المسلمين قد أجمعوا على كفر اليهود والنصارى(36/421)
ولم يشذ أحد منهم غير غلاة الصوفية وفرق الزندقة الذين لا يُعدون من جملة المسلمين . قال ابن حزم في مراتب الإجماع ( ص119 ) : ( واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً ) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (12/496) : ( قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة) ، وقال (12/499) : (نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة والمقرين بالجزية على كفرهم) وقال (35/201) : (إن اليهود والنصارى كفار كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام) . ولقد نقل القاضي عياض - رحمه الله تعالى- الإجماع على كفر من لم يكفر الكافر، وذلك عند كلامه عن تكفير من صوب أقوال المجتهدين في أصول الدين حيث قال: "وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك" ( الشفا ، 2/603) . وقال أيضاً (2/610) : "... ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك" . وقال الحجاوي - رحمه الله تعالى - : " من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر" ( كشاف القناع ،6/170) . وذكر الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- من نواقض الإسلام: "الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر" . وقال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله تعالى-: "فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر" . ( رسالة أوثق عرى الإيمان ، ص 61) . وقال الشيخ عبدالله أبابطين في " الانتصار لحزب الموحدين والرد على المجادل عن المشركين ، ص 43 " : " قد أجمع العلماء على كفر من لم يُكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم " . هذا إجماع أهل الإسلام في قديم الدهر وحديثه استنادًا إلى نصوص الوحي.
أقوال العلماء
- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن من لم يُكفر اليهود والنصارى ويقول عنهم "أهل كتاب" فقط ؟!
فقالت: " من قال ذلك فهو كافر ؛ لتكذيبه بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم ، قال الله تعالى : ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون .. ) الآيات من سورة آل عمران ، وقال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم .. ) الآيات من سورة المائدة ، وقال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .. ) الآيات من سورة المائدة ، وقال : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .. ) الآيات من سورة التوبة ، وقال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة .. ) الآيات من سورة البينة ، وقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء . الرئيس : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، نائب رئيس اللجنة : عبدالرزاق عفيفي ، عضو : عبدالله بن غديان . ( فتاوى اللجنة ، 2/18) .
- ولما كتب أحدهم مقالاً في صحيفة "الشرق الأوسط" ينعى فيه على المسلمين الذين يكفرون اليهود والنصارى، ويدعي أنهم مؤمنون مثلنا! رد عليه الشيخ ابن باز -رحمه الله- بمقال نشر في فتاواه ( 8/196-201). جاء فيه: ".. وهذا الذي فعله - أي كاتب المقال- كفر صريح، وردة عن الإسلام، وتكذيب لله سبحانه ولرسول صلى الله عليه وسلم ".
- وسئل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- عن ما يبثه أحد الوعاظ بأوروبا من المتأثرين بالأفكار العصرانية من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى ؟!(36/422)
فقال: "... من أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا ب صلى الله عليه وسلم وكذبوه فقد كذب الله عز وجل، وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو ... - إلى أن قال- إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام فإنه كافر، لا شك في كفره؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)". ( الصحوة الإسلامية : ضوابط وتوجيهات ، ص 196-201) . وقال أيضًا - رحمه الله - : ( لا إسلام بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إلا باتباعه، لأن دينه مهيمن على الأديان كلها ظاهر عليها، وشريعته ناسخة للشرائع السابقة كلها قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (والذي جاء مصدقاً لما مع الرسل قبله هومحمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ). وقال تعالى: )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله). وهذا يعم الظهور قدراً وشرعاً.
فمن بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمناً ولا مسلماً بل هو كافر من أهل النار يقول النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أهل النار". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وبهذا يُعلم أن النزاع فيمن سبق من الأمم هل هم مسلمون أو غير مسلمين؟ نزاع لفظي، وذلك لأن الإسلام بالمعنى العام يتناول كل شريعة قائمة بعث الله بها نبياً فيشمل إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ما دامت شريعته قائمة غير منسوخة بالاتفاق كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وأما بعد بعثة النبيمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الإسلام يختص بما جاء به ؛ فمن لم يؤمن به ويتبعه فليس بمسلم.
ومن زعم أن مع دين صلى الله عليه وسلم ديناً سواه قائماً مقبولاً عند الله تعالى من دين اليهود، أو النصارى، أو غيرهما ؛ فهو مكذب لقول الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام ). وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ). وإذا كان الإسلام اتباع الشريعة القائمة، فإنه إذا نسخ شيء منها لم يكن المنسوخ ديناً بعد نسخه ولا اتباعه إسلاماً ) . ( تقريب التدمرية ، ص 122-123) .
- وقال الشيخ بكر أبوزيد - وفقه الله - : " يجب على كل مسلم اعتقاد كفر من لم يدخل في هذا الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، وتسميته كافراً، وأنه عدو لنا، وأنه من أهل النار... ولهذا: فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: من لم يكفر الكافر فهو كافر". ( معجم المناهي اللفظية ، ص 92 ) .
وقال - أيضاً - ( ص 166 ) بعد أن ذكر بعض الأدلة على كفر اليهود والنصارى: "والحكم بكفر من لم يؤمن برسالة صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب؛ من الأحكام القطعية في الإسلام، فمن لم يكفرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لنصوص الوحيين الشريفين".
شبهة وجوابها
يحتج أهل التلبيس بآية : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) الآية ؛ ويزعمون أنها تشهد لقولهم الباطل ، وهذه الحجة قد رددها النصارى قبلهم ليدللوا بها على إيمانهم وعدم كفرهم ، وقد احتجوا بها في زمن شيخ الإسلام فكفانا الرد عليهم حيث قال: ( الجواب أن يقال : أولاً : لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم، فإنه يسوى بينكم وبين اليهود والصابئين، وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من بعث المسيح إليهم فكذبوه. وكذلك الصابئون من حيث بعث إليهم رسول فكذبوه، فهم كفار ، فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث صلى الله عليه وسلم ففيها مدح دين اليهود أيضاً، وهذا باطل عندكم وعند المسلمين. وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل، وكذلك يقال لليهودي، إن احتج على صحة دينه.
وأيضاً فإن النصارى يكفرون اليهود، فإن كان دينهم حقاً لزم كفر اليهود، وإن كان باطلاً لزم بطلان دينهم فلابد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما، وقد سوت بينهما.
فعلم أنها لم تمدح واحداً منهما بعد النسخ والتبديل.. فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحًا ) ( الجواب الصحيح ، 2/62) .
توضيح أخير(36/423)
بعد أن عُلم أن كفر اليهود والنصارى أمرٌ مجمع عليه بين المسلمين ، ومن شك فيه أو خالفه فقد خرج عن الإسلام ، يحسن التنبيه إلى أمر قد يرد على أذهان بعض القراء ؛ وهو : هل يلزم من كفرهم وغيرهم أن يُعذبهم الله جميعًا في النار ؟ الجواب : لا يلزم هذا ؛ لأن أمر التعذيب مرتبط بقيام الحجة عليهم ؛ فمن قامت عليه استحق العذاب ، ومن لم تقم عليه لم يستحقه . أما في الدنيا فيُعامل الجميع معاملة الكافر ، ويُطلق عليهم بأنهم كفار .
سئل الشيخ ابن باز - رحمه الله - : " ماحكم من لم تبلغهم دعوة الإسلام ، هل هم كفار ؟ وهل مصيرهم إلى جهنم ؟ فقال : " حكمهم في الدنيا أنهم كفار ، أما مصيرهم في الآخرة فأحسن ما قيل في هذا الصنف من الناس أنهم يُمتحنون يوم القيامة ؛ فمن أطاع الأمر دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار ؛ لقول الله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) " . ( انظر : لقاءتي مع الشيخين ، للدكتور عبدالله الطيار ، 1 /87 ) . ولزيادة التوضيح يُنظر الرابط التالي : ( ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز ) . والله الموفق .
==============(36/424)
(36/425)
ثقافة التلبيس ( 9 ) :قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
سليمان بن صالح الخراشي
تتردد كثيرًا في كتابات المعارضين والمخالفين لشريعة الإسلام عندما يُلزمون بأحكامها عبارات خطيرة ؛ مثل : " الحق المطلق لا يملكه أحد " أو " لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة " أو " الحق نسبي " ... وغيرها من العبارات المشابهة التي اتخذها هؤلاء حلا سريعًا يلجأون إليه عندما يريدون التملص والتخلص من التزام الحق الذي جاءت به الشريعة ؛ حيث تكون الأمور فوضى لا ضابط لها ، ولاحقيقة ثابتة يعرفها الناس ويتحاكمون إليها ! بل أنت تعتقد أن هذا الأمر " حقيقة " وغيرك يعتقد خلافه " حقيقة " ، وكلاكما على صواب ، ولايُنكر أحد على أحد..! فتُمرر جميع أنواع " الكفر " أو " الشبهات " أو " الشهوات " على احتمال أن تكون هي " الحقيقة المنشودة " !!
وقد أحببتُ في هذه الحلقة أن أكشف وجوه التلبيس في هذه العبارات ، وبيان خطورتها على قائلها ، مقدمًا بذكر نماذج لمن يقول بها ، ثم تعريف بأول من قال بها ، مع بيان كيفية الرد عليها ؛ والله الموفق :
نماذج من أقوال المرددين لهذه العبارات الخطيرة !
- ( لا أحد يملك الحقيقة الملكية المطلقة ) . (الممنوع والممتنع، علي حرب، ص180) (وانظر أيضاً: كتابه: نقد الحقيقة، ص 2).
- ( يجب أن يكون واضحاً في غاية الوضوح: أن المطلق مطلق، ولكن الفهم البشري والتفسير البشري لأي جانب من جوانب المطلق هو فهم نسبي" ) .(تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، د. محمد جابر الأنصاري، ص83).
- ( ينبني الدين على حقيقة مطلقة كلية هي الوحي ولما كانت الفلسفة تضع في اعتبارها تعددية المواقف والآراء، ونسبية الحقيقة -أي كونها موزعة من حيث الاحتمال المفتوح بين الناس جميعاً- فإن التصادم بينهما قائم لا محالة ) . (آفاق فلسفية عربية معاصرة، طيب تيزيني، ص 167)
- ( ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية ، وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمراً نهائياً طبيعياً، وتعبيراً عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التغير الكامل والدائم). (السابق، ص 322).
- ( النسبية: هي الرأي الذي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر) . (السابق، ص 329).
- ( ارتكزت التعددية بمعناها المعرفي على الفكرة القائلة بأن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وبالتالي ليس من حق أحد مصادرة آراء وأفكار الآخرين ) . (إشكالية مفهوم المجتمع المدني، د. كريم أبو حلاوة، ص 42).
- ( لن تكون متقدماً أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية ) . (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347).
- ( إن المنطلق الأول للبحث عن الحقيقة هو القناعة بنسبيتها ) . (البحث عن الحقيقة، عبدالله بن حمد المعجل، ص 13).
- جون ستيوارت مل ( يرى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة). (ملاك الحقيقة المطلقة، مراد وهبة، ص 193).
- ( العلمانية من حيث هي التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق). (السابق، ص 228).
- ( كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة إلى حد كبير . لماذا ؟ لأن الاختلاف والتنوع في الرأي والفكر شرط من شروط تحرر الذهن من التحجر والانغلاق ) .( هاشم صالح ، معارك من أجل الأنسنة ، محمد أركون ، ص 16 ) .
- (إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي ، والأخذ بنسبية الحقيقة : هو التسامح بعينه ) ( محمد عابدالجابري ، قضايا الفكر المعاصر ، ص20 ) .
- ( إن فكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها ، ليس هذا السلاح قطعا هو الفكر ؛ فمالك الحقيقة لا يجادل ) . ( عبد الإله بلقزيز ، نهاية الداعية ، ص 70 ) .
- ويقول شاكر النابلسي معددًا مواصفات المجتمع المدني الذي يطمح إليه ! : ( إن القيم في المجتمع المدني نسبية ، وهذه النسبية تجعل القيم متغيرة غير ثابتة . لا احتكار للحقيقة في المجتمع المدني ، وعدم الاحتكار يقود المجتمع المدني إلى التسامح لا إلى التعصب ، وإلى الانفتاح لا إلى الانغلاق ) . ( صعود المجتمع العسكري ، ص 205-206) .
- وانظر : "الفكر الإسلامي والتطور" لفتحي عثمان ؛ (ص 15-16) . ومقال : ( ملاك الحقيقة وتصنيف الناس ) لمحمد بن عبداللطيف آل الشيخ ، جريدة الجزيرة ، 26/8/1425 . وانظر - أيضًا - : " التطور والنسبية في الأخلاق " للدكتور حسام الألوسي . ( وهو متطرف في الأخذ بهذا المبدأ الخطير ! ) .
أول من قال بـ( نسبية الحقيقة ) :
أول من قال بها هم السوفسطائيون - وعلى رأسهم كبيرهم الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد ؛ حيث كانت اليونان تموج بمجموعة من الأفكار والمذاهب المتباينة المتنوعة ؛ فلجؤا لهذا القول في تأييد الآراء المتناقضة ؛ إما شكًا في الجميع ، أو للتخلص من جهد طلب الحقيقة .(36/426)
يقول الدكتور علي سامي النشار: ( نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء -كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر) . ( مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 191 ) .
ويقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: (وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية). (السلم في علم المنطق للأخضري، ص7 ) .
- ( لقد عبر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثورة الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظرية المعرفة أن الإنسان الفرد هو مقياس أو معيار الوجود، فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يقع في خبرة الإنسان الفرد الحسية، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما تراه أنت بحواسك يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا ). (مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، للدكتور مصطفى النشار، ص70 -71).
فتعاليمهم - كما يقول مؤلفا " قصة الفلسفة اليونانية - ( تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي ؛ للدين ، للأخلاق ، لكل نظم الدولة ) . ( ص 69) .
وللزيادة عن السوفسطائيين ؛ انظر : " تاريخ الفلسفة اليونانية " ليوسف كرم ، و " الفلسفة اليونانية : تاريخها ومشكلاتها " لأميرة مطر ( ص 115 ومابعدها ) ، و " تاريخ الفلسفة اليونانية " لماجد فخري ، و " التعريفات " للجرجاني ، و " قصة الإيمان " لنديم الجسر ( ص 36-37) ، و " فلسفة الأخلاق " للدكتور توفيق الطويل ( ص 47-49 ) ، و " مختصر تاريخ الفلسفة " للمختار بنعبد لاوي ( ص 13-14) ، و " الموسوعة الفلسفية " للدكتور عبدالمنعم الحفني ( 482 ومابعدها ) ، و " المعجم الفلسفي " للدكتور مراد وهبة ( ص 444 وما بعدها ) ، و" ربيع الفكر اليوناني " لبدوي ( 165-180) ، و" قصة الفلسفة اليونانية " ( ص 62-72) ، و مقال " السوفسطائيون " لزكي نجيب محمود ، مجلة الرسالة ، صفر ، 1353.
وفي العصر الحديث :
تلقف أصحاب المذهب " البراجماتي " هذه الفلسفة ؛ لأنها تناسب مذهبهم النفعي المصلحي المتلون :
- ( ليس من شك لدى أحد الآن أن بروتاجوراس هو الجد الأول للبراجماتيين المعاصرين؛ سواء على المستوى الفلسفي، أو على المستوى الحياتي؛ إذ لا يمكن فهم أقوال هؤلاء البراجماتيين معزولة عن آراء جدهم الأكبر ، فحينما يقول وليم جميس: "إن الحقيقي ليس سوى النافع الموافق المطلوب في سبيل تفكيرنا تماماً، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا" و"أن المطلق ليس صحيحاً على أي نحو" . فهل يمكن أن نشك لحظة في أنه وأقرانه يمثلون بروتاغوراس العصر الحالي؟! لقد كان شيللر -وهو أحد كبار الفلاسفة البراجماتيين- على حق حينما كتب كتاب " why p r otago r as not plato معلناً أن بروتاغوراس هو جدهم الأول ) . (فلاسفة أيقظوا العالم، د. مصطفى النشار، ص 77).
- (إن المذهب البراجماتي حين يقرر أن مقياس صحة الأفكار يتوقف على نتائجها، فهو بذلك يجعل الحقيقة نسبية غير ثابتة، أي تتغير وفقاً للظروف وأحوال الأفراد والمجتمعات ) . (تطور الفكر الغربي، لمجموعة من الباحثين، ص 424).
- البراجماتية (تعيد إلى ذاكرة التاريخ نسبية السوفسطائية التي تزعم أن الفرد مقياس كل شيء). (أعلام الفلسفة الحديثة، د. رفقي زاهر، ص 171).
- ( الفلسفة البراجماتية تتلخص اليوم في أفكار موجزة ؛ من أشهرها : .. الحقائق نسبية ، ولايمكن الوصول إلى حقيقة مطلقة ) . ( مقال : الطريق إلى العقلية الأمريكية ، محمد فالح الجهني ، مجلة المعرفة ، شوال 1425). ( وانظر : قصة الفلسفة اليونانية ، ص 71).
أقوال علماء الإسلام في السوفسطائية :
لقد عرف علماء الإسلام خطورة هذه الفكرة السفسطائية التي تخلط الحق بالباطل ، وتُشكك المسلمين في دينهم ، وتساوي بينه وبين الديانات المحرفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة ! ، لاسيما وهناك من المنحرفين من يُغذي هذه الفكرة وينشرها ؛ وعلى رأسهم غلاة المتصوفة أهل وحدة الوجود ، ممن يقول قائلهم ؛ وهو ابن عربي : ( فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير ، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه ، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها ؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد) . ( ابن عربي ، سميح الزين ، ص 101).(36/427)
لقد قسم علماء الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - ثلاثة أقسام : ( العِندية ، والعنادية ، واللاأدرية : فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها ؛ لأنهم أقيسة الحقائق . والعنادية تجزم بأن لاحقائق في الكون ؛ لا في ذاتها ولابالقياس إلى المؤمنين بها . وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيئ ؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم ) . ( " السوفسطائيون في نظر العرب " مقال في مجلة الأزهر ، م 21 ، ص 760-763) .
ويقول الشيخ عبدالقادر بدران في حاشيته على " روضة الناظر " ( ص 246-247) : ( وهم فرقٌ ثلاث : إحداهن اللاأدرية ؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية : تسمي العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض والقدح في كل مذهب بالاشكالات المتجهة عليه من غير أهله. الثالثة : تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند" ؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس ، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده ) . ( وانظر : شرح المواقف للجرجاني ؛ ص 42-43) .
1 - وقد رد عليهم جميعًا ابن حزم في كتابه " الفِصل في الملل والأهواء والنِحل " ( 1/44-45) ؛ ويهمنا رده على فرقة " العِندية " التي يُقلدها دعاة النسبية . قال رحمه الله : ( ويقال - وبالله التوفيق- لمن قال هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل : إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل ، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.
وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة ، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق !! مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل ألبتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المُتَنَطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق ) .
2- ورد عليهم - أيضًا - ابن الجوزي في " تلبيس إبليس " ( ص 41 ) ؛ قائلا : ( قال النوبختي : قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية ؛ فيقال لهم : أقولكم صحيح؟ فسيقولون : هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا : دعواكم صحة قولكم مردودة ، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه ) .
3- وقال ابن قدامة رادًا على من نُقل عنه مثل هذا القول من علماء المسلمين : ( وقول العنبري: كل مجتهد مصيب . إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات). (روضة الناظر 20/419-420).
وقال - أيضًا - : ( قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه ) . (روضة الناظر، 2/425) ، ( وانظر : المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، ص314).
4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل ) . (الفتاوى 19/ 135) .
وقال عنه - أيضًا - : ( هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه ... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة ) .(الفتاوى 19/144 -145).
بعض أقوال المعاصرين في مقولات أهل السفسطة :(36/428)
1- يقول الأستاذ بسطامي سعيد : ( هل حقائق الدين نسبية؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".
والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها.
وقضية النسبية r elativism في الحق t r uith أو في الأخلاق ethich قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة ، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً ؟!
وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية ؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.
وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به ، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم ؟!
الأهم من ذلك أن يُسأل : هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة ؟.
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.
قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية ! فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله) . ( مفهوم تجديد الدين ، ص 214-215) .
2- ويقول الأستاذ غازي التوبة : ( نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى.
فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" الذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين ( المحرف ) والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة" في الثقافة الإسلامية ) . ( مجلة المجتمع ، العدد 1337 .
3- ويقول الدكتور أحمد عبدالرحمن : ( الفلسفة النسبية هي السند الفكري الأخير والمرجع النهائي، لكل التيارات المناوئة لمبدأ "الثبات الإسلامي" في العقيدة والشريعة والأخلاق والنظم، سواء كانت وضعية منطقية، أو ماركسية، أو وجودية أو براجماتية.(36/429)
فالنسبية فلسفة تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان ، فما كان حقاً بالأمس لابد أن ينقلب باطلاً اليوم أو غداً، وما كان عدلاً لدى اليونان قبل قرون من الزمان يستحيل أن يظل كذلك إلى اليوم، لا فرق في ذلك بين قانون وضعي وشريعة دينية ، وبهذا التصور الشامل للفلسفة النسبية يقرر أنصار التجديد أن الشعر المقفى، واللغة الفصحى، والعمارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية إلخ إلخ، كانت صالحة لعصر النبوة والراشدين، ولكنها لا يمكن أن تصلح لنا اليوم، ولا مفر أمامنا من أحد أمرين: إما نقل نظائرها الأوروبية العصرية، وإما التخلف عن العصر والفناء تبعاً لذلك!
وأحسب أن فلسفة بهذا الوصف وهذا الامتداد والتشعب في حياتنا الدينية والفكرية والتشريعية والثقافية لجديرة بأن ندرسها، ونتفهمها، ونقومها: وهذا هو ما أرجو أن أنجزه في هذه الكلمة بأقصى ما يسعني من الإيجاز.
لقد ولدت النسبية في حجر السوفسطائيين، الذين صاغوها في العبارة المشهورة "الإنسان معيار كل شيء" بمعنى أنه هو الذي يحدد الحقائق العلمية، والقيم الخلقية ، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، أو يستبدل بها غيرها، وقد تصدى لهم سقراط، مدافعاً عن موضوعية الحقيقة والقيمة واستقلالهما عن إرادة الإنسان وشهواته.
وماتت النسبية دهراً طويلاً، ثم بعثت من جديد وشاعت في الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث...). ( أساطير المعاصرين ، ص 169 - 170 )
كيف ترد على من يردد هذه السفسطة ؟!
من يردد هذه الفكرة إما أن يكون مسلمًا أو غير مسلم . وغير المسلم إما أن يكون ملحدًا أو غير ملحد . فالملحد تُقام عليه الأدلة البينة الدالة على وجود الله ؛ ثم إذا آمن بذلك أقيمت عليه وعلى غير الملحد من الكفار الأدلة الدالة على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ ( وتراجع في ذلك الكتب المختصة بهذا ) فإذا آمن به لزمه أن يؤمن بكل ما جاء به من عند الله ؛ ومن ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان ، وهو الحق الذي لايقبل الله غيره . ثم يُلحق بالمسلم - كما سيأتي - .
وأما إن كان من يُردد هذه الفكرة أحد من يُظهر الإسلام ؛ فإنه يُقال له : هل تعني بهذه العبارات أن الحق قد يكون في الإسلام وقد يكون في غيره من الديانات المحرفة أو الباطلة ؟! فإن قال : نعم ! قيل له : هذه ردة صريحة وكفر بدين الله ؛ القائل ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ، والمخبر بأن الإسلام هو " الحق " في عدة آيات ؛ منها قوله ( إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا ) ، وقوله ( وكذب به قومك وهو الحق ) ، وقوله ( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولايُحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق ) ، وقوله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ) ، وقوله ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) ، وقوله ( والذي أنزل إليك من ربك الحق ) ، وقوله ( وقل الحق من ربكم ) ، وقوله ( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ) .
فإن قال : معاذ الله أن أقول بهذا ؟! ولكني أعني : أن لا أحد يدعي امتلاك الحق من " المسلمين " . فيقال له : ولكن هذا يناقض الفكرة التي ترددها ! لأنك حصرت الحقيقة في أهل الإسلام ! فهذا يدل على بطلان ما تُردد . ولكن تنزلا معك يقال : هل تعني بذلك أن الحق قد يكون عند أهل السنة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع ؛ كالصوفية والرافضة والمعتزلة ..الخ . فإن قال : نعم . قيل له : سبق أنك أقررت بأن الحق هو الإسلام ؛ فلننظر أي هؤلاء يسير على الإسلام الذي أرسل لأجله صلى الله عليه وسلم دون تحريف ؛ لأن صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل الإسلام يفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة . فلما سئل : من هي ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " ، وقال : " من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد " . وماكان علي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معروف معلوم ؛ قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة ، وما حدثت هذه الفرق إلا بعدهم باتفاق الجميع .
فإن قال : بل أنا أعني أن الحق داخل إطار أهل السنة ؛ ولكنه يختلف باختلاف أهل العلم والأشخاص . فيقال : يكفينا هذا منك ! فلماذا لا تعلنه عندما تردد تلك العبارات الموهمة ؟!
ثم الواحد من أهل السنة إن كان عاميًا سأل العلماء الثقات . وإن كان عالمًا أو طالب علم مميز بين الأدلة رجح ما يدل عليه الكتاب والسنة . مع ملاحظة الفرق بين المسائل " الاجتهادية " التي لم يتبين فيها الدليل فلا حرج من الاختلاف فيها مع نية طلب الحق لا التشهي ، وبين المسائل " الخلافية " التي تبين فيها الدليل ووضح " الحق " فلا عبرة بالمخالف ؛ مع حفظ مكانته إن كان من أهل الفضل . ( ويُراجع في هذا الكتب والرسائل المصنفة في الاختلاف ؛ كرسالة " الاختلاف وما إليه " للشيخ بازمول ) .
أسأل الله الهداية والتوفيق للمسلمين ، وأن يُجنبنا الحيرة والشك وحال أهل الريب .
============(36/430)
(36/431)
فلسطين بين ثوابتنا وثوابتهم
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
لحديث عن (الثوابت) في قضية فلسطين، يمارسه كل الناس: أنصار الشعب الفلسطيني وأعداؤه، الصادقون في النصح وأدعياؤه، الراغبون في الحل والراغبون عنه والزاهدون فيه. كل هذا قد يكون طبيعياً باعتبار اختلاف وجهات النظر ومكونات الفكر والمصالح، أما ما ليس طبيعياً، فهو أن يُراد سَوْق الجميع سَوْقاً، طوعاً أو كرهاً إلى السير وفق منهج من «الثوابت» الإسرائيلية، المسنود بمصالح ورؤى غربية يُطلق على مجموعها: (الشرعية الدولية)!
والأعجب من ذلك أن ينتدب إلى الدفع في هذا الاتجاه أقوام من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا في داخل الأرض المقدسة وخارجها، لتكون السيادة في النهاية لتلك «الشرعية الدولية» الغربية الصهيونية ـ على (الشرعية الإسلامية) التي هي أساس الأسس ومنطلق الحلول الحقة العادلة في هذه القضية؛ فالإصرار يزداد على استبعاد الثوابت الإسلامية عنها كلما ازداد اتضاح الحق من جانبنا، وانفضاح الباطل من جانب أعدائنا.
لقد كانت قضية فلسطين، ولا تزال وستظل «قضيةً شرعية» بالمعنى الإسلامي؛ بمعنى أنها نازلة تحتاج دائماً لنظر وعلاج شرعي من قِبَل المسلمين، باعتبار أن العوامل والمسائل التي تحيط بها؛ أكثرها ذات طبيعة دينية، إما من ناحية العرب والمسلمين، أو من ناحية أعدائهم من صهاينة اليهود والنصارى المعتدين. فحقيقة الصراع على أرض فلسطين تحكي قصة المغالبة والنزال بين مقتضيات الحق الإسلامي عقيدة وشريعة، وبين أهداف وغايات أعدائه، القائمة على الباطل ديناً ودنيا. ولهذا فلا بد أن يكون البُعد الشرعي حاضراً ـ وبقوة ـ في كل جولات تلك المغالبة، مع من يمثلون الأبعاد الدينية الكتابية، يهودية كانت أو نصرانية. فلا يصلح أن يظل هؤلاء الأعداء متشبثين وحدهم بمفردات الخطاب العقائدي؛ بينما نظل نحن متراجعين ومطالبين بمزيد من التراجع تحت دعوى المطالبة بـ (تجديد الخطاب الديني) في لهجتنا الإسلامية أو تحديث حديثنا باتجاه «العقلانية» و«الواقعية» الاستسلامية.
إن المفردات الدينية عند أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية؛ لا تزال تُصنَّع من مجموعها كل حين (ثوابت) يهتدي بها الساسة، وتوجه في مساربها مسارات السياسة، ولقد كانت ـ وستظل ـ الظِل المخيم في خلفية الأفكار والخطوات والمخططات التي تنطلق منها مشاريعهم فيما يتعلق بقضية فلسطين على وجه الخصوص، وقضية الشرق الأوسط ـ القديم أو الجديد ـ على وجه العموم. ولعل أحداث السنوات الأخيرة من الألفية الثانية، والسنوات الأولى من الألفية الثالثة تثبت أن تلك (الثوابت) لا تزال تعشش في أدمغة الفريقين، حتى وإن سترتها ظاهرياً القبعات أو الخوذات؛ فالاعتقاد بأحقية اليهود والنصارى الدينية في أرض فلسطين، وملكيتهم لما يسمونه بـ (جبل الهيكل) المقام عليه المسجد الأقصى، بل ووراثة هؤلاء للأرض الممتدة من النيل إلى الفرات كبداية للحرب ضد (محور الشر) وأوهام الاختيار الإلهي لهم كمحور للخير، ونحو ذلك؛ كلها تمثل ثوابت إجمالية نظرية عندهم، تتفرع عنها ثوابت تفصيلية عملية، يحرصون على تنفيذها على أرض الواقع.
وتترجم هذا أحداث السنوات القليلة الماضية، مثل: خلفيات أحداث انتفاضة الأقصى، وملابسات افتعال الحرب العالمية على الإسلام بزعم محاربة الإرهاب، وتضاعيف الحملة المدبرة منذ عقود لإسقاط «بابل» للوصول إلى الفرات، وكذلك التربص العنيد باليقظة الإسلامية في فلسطين، والتوجه المنظم لحصار الشام بعد حصار العراق، والتهديدات المبطنة والمعلنة لإغراق مصر وخنق السودان وحرق إيران ولبنان، وإطلاق «الفوضى الخلاَّقة» في غيرها من البلدان... كل ذلك بتداعياته، وما قد يأتي بعده، يمثل دلالة على أن القوم لا يزالون على العهد ـ القديم والجديد ـ ضد أمة القرآن المجيد!
تشريع الظلم وتقنين الجنون:
مع ما يظهر من غياب مقتضيات العدل والعقل في تلك الأفكار؛ غير أنها تجد مساندة مما يسمى بـ (الشرعية الدولية). فجنون اليهود يتحول إلى «قانون» في شرعة الأمم المتحدة علينا، وظلامات النصارى الغربيين؛ تصير بعد حين «شرائع دولية»، هذا ما شهدناه وشهده آباؤنا وأجدادنا على مدى ما مضى من عقود تداعي الأمم على قصعتنا المكشوفة! فتقسيم العالم الإسلامي بعد إسقاط كيانه الجامع تحت مظلة «عصبة الأمم» وإعطاء إنجلترا «حق الانتداب» على الأرض المقدسة، ريثما تتم تهيئتها لليهود عبر ثلاثة عقود، ثم صدور قرار التقسيم «العادل» بين المغتصِب والمغتصَب، وتزايد قرارات فرض السلام مع هذا المغتصِب... كل ذلك يجري باسم «الشرعية الدولية» التي تتخذ كل حين آليات جديدة لزيادة الضغط وتفجير المواقف الثابتة للعرب والمسلمين.(36/432)
ففي ما يتعلق بقضية فلسطين، كُونت في السنوات الأخيرة لجنة منبثقة عن الجهات المتحكمة في تلك الشرعية، هي التي أُطلق عليها (اللجنة الرباعية) والتي تضم الولايات «المتحدة» والأمم «المتحدة» و «الاتحاد» الأوروبي»، و «الاتحاد» الروسي! وكل هذه الأطراف (المتحدة) قد توافقت على «ثوابت» فيما يخص القضية الفلسطينية في ظل الفُرقة التي تجمعنا. هذه الثوابت، التي يطلق عليها «مطالب الرباعية» تتمثل في: ضرورة أن يلتزم الفلسطينيون ـ والعرب والمسلمون من ورائهم ـ بـ (الاعتراف) بحق دولة اليهود في الوجود على أرض فلسطين؛ أي بمعنى أحقيتها في كل ما اغتصبته ولا تزال تغتصبه من أراضٍ ومقدرات ومقدسات هناك، هذا أولاً. أما ثانياً: أن يلتزم الفلسطينيون ـ والعرب والمسلمون معهم ـ بـ (نبذ العنف) أي عدم تحريك ساكن ضد جرائم اليهود القائمة كلها من أولها لآخرها على مسلسل من العنف الدموي الإجرامي من خلال الحروب والمعارك المتتابعة والتي وصلت الآن لست حروب في ستة عقود، بخلاف «حروب الحواشي» التي أُقحِم فيها العرب والمسلمون من أجل سواد عيون أبناء صهيون. أما الأمر الثالث من مطالب الرباعية أو ثوابتها، فهو «التزام» كل الاتفاقات السابقة بين العلمانيين العرب، والعقائديين اليهود، ابتداء من اتفاقات (كامب ديفيد) عام 1978م، ومروراً باتفاقية (أوسلو) عام 1993، و (وادي عربة) عام 1994م، وواي ريفر عام 1998م ووصولاً إلى «خارطة الطريق» عام 2002م؛ وهي كلها تركز على ثابتين: الاعتراف بدولة اليهود، وتجريم أي مقاومة ضدها.
لكن اتفاقية أوسلو ـ على وجه الخصوص ـ هي الثابت الأول الذي يصرّ الأمريكيون والإسرائيليون والأمم المتحدة والروس على أن تكون أساساً لأي بناء يقام فيه أي كيان فلسطيني محتمل، سواء كان ذا وجهة علمانية أو صبغة إسلامية، أو هجيناً من هذا وذاك في شكل حكومة (وحدة وطنية).
وهذه حقيقة المعركة التي تخوضها حماس الآن؛ فلقد كنت مقتنعاً منذ نجاحها في الانتخابات ـ ولا زلت ـ بأن تلك المطالب أو الثوابت (الرباعية) سيظل أصحابها يصرون على جر المسلمين والعرب والفلسطينيين إليها رويداً رويداً، مرة بإشعال النار في معارك ومداهمات ومؤامرات، ومرة بإحكام الحصار السياسي والاقتصادي، ومرة بإسقاط الخيارات وإفشال الحكومات التي يمكن أن تنشأ على غير تلك «الثوابت» الثلاثة التي استقرت عليها «الشرعية» الدولية، وتبعتها عليها «الشرعية» العربية.
«أوسلو» التي يحتكمون إليها:
هذه الاتفاقية التي أُبرمت عام 1991م في البيت الأبيض بين الطرف الفلسطيني الذي مثله (عرفات) والإسرائيلي الذي مثله (إسحاق رابين) رئيس الوزراء الأسبق، برعاية الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) كانت منعطفاً حاداً في خط سير القضية الفلسطينية؛ إذ إنها مثَّلت الركن الذي يرتكز عليه كل المبطلين للحق الإسلامي في فلسطين، بدءاً من اليهود وأعوانهم من الأوروبيين والأمريكيين والروس، وانتهاءً بالعلمانيين العرب الذين لم يَثبُتوا على أي مبدأ خلال الستين عاماً الماضية من عمر القضية، والذين يلحّون الآن على التمسك فقط ببنود تلك الاتفاقية، مع أن المفاوضات السرية التي سبقتها وقادت إليها لم يُحط بها علماً أي زعيم عربي، حتى الذين سبقوا إلى إبرام معاهدات (سلام) مع اليهود!!
ـ نصت الاتفاقية في وثيقة (إعلان المبادئ) على انسحاب اليهود من منطقتي قطاع غزة والضفة الغربية اللتين احتُلتا عام 1967م، بحيث تترك إدراتهما لسلطة فلسطينية تُجرى انتخابات بشأن تكوينها، على أن يكون من مهام تلك السلطة الرئيسية (حفظ الأمن) في الضفة والقطاع بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية، من خلال لجنة للتعاون الأمني المشترك! وكان المعنى العملي لهذا البند من الاتفاقية، أن يتخندق الفلسطينيون العلمانيون من السُلطة إلى جانب الصهيونيين المحتلين لعموم فلسطين، ضد بقية الفلسطينيين ـ الإسلاميين ـ الذين (يعكرون) أمن اليهود!!
وهذا تماماً ما حصل خلال السنوات الأولى من قيام السلطة في عهد عرفات، حيث قام العميل (دحلان) بتأدية المهمة شر قيام.
ـ ونصت الاتفاقية على أن الجانب الفلسطيني لن يتلقى أي معونات اقتصادية من الخارج إلا من خلال لجنة مشتركة مع الإسرائيليين، تحدد معايير القبول أو الرفض، ومسارات الإنفاق أو الاستثمار لتلك الأموال، وهو ما فرض منذ وقت مبكر آلية رسمية صهيونية لفرض الحصار الإسرائيلي على الفلسطينيين في أي وقت يريده اليهود.(36/433)
ـ حددت الاتفاقية مجالات الولاية المسموح بها إسرائيلياً لهذه السلطة على الأرض التي ينسحب منها اليهود «تكتيكاً» وهي مجالات: (الصحة ـ التربية ـ الثقافة ـ الشؤون الاجتماعية ـ الضرائب ـ السياحة ـ الأمن الداخلي) وهو ما يعني إراحة اليهود من تبعة إدارة شؤون شعب معادٍ لهم، ريثما تكمل مخططات (الترانسفير) أو التهجير. أما القضايا الكبرى مثل: القدس والأقصى والمستوطنات والقواعد العسكرية في الأراضي المحتلة، والحدود واللاجئين وغير ذلك؛ فإن اتفاق أوسلو أرجأ البت فيها إلى ما بعد مرور ثلاث سنوات من إبرام الاتفاقية، حتى يتسنى التأكد من (حسن السير والسلوك) لدى السلطة التي ستنشأ عن اتفاق أوسلو؛ حيث تنص الاتفاقية على البدء بعد تلك السنوات الثلاث في مفاوضات بشأن (الحل النهائي) للقضايا الكبرى.
وقد مرت السنوات الثلاث، وبعدها ثلاث وثلاث وثلاث، في اثني عشر عاماً، ولم يتأكد الإسرائيليون بعدُ من (حُسن النوايا) الفلسطينية في سُلطة عرفات، ومن بعدها سُلطة محمود عباس؛ لكي يبدؤوا بداية جدية في تلك المفاوضات النهائية التي جرت منها فقط مرحلة هزلية في نهاية أيام بيل كلينتون، أُطلق عليها (كامب ديفيد الثانية) عام 1999، ثم سرعان ما فشلت بعدما اكتشف عرفات أنها ما بُدئت إلا من أجل تسليم كلينتون للإسرائيليين مفاتيح مدينة القدس والمسجد الأقصى بشكل رسمي قبل أن يغادر البيت الأبيض، لكي يفعلوا فيه أو في أرضه بعد هدمه ما يشاؤون، تنفيذاً للمبادرة المشهورة بمبادرة (مازن ـ بيلين) التي يعترف فيها محمود عباس (أبو مازن) في اتفاقه مع يوسي بيلين (وزير العدل) الإسرائيلي السابق، بأن تكون القدس لليهود، وللفلسطينيين منطقة خارجها هي (أبو ديس) يتخذونها عاصمة بعد أن يُطلق عليها اسم (القدس)!!
الحل النهائي للتفاوض، والأقصى هو الهدف:
بعدما فشلت مباحثات (كامب ديفيد الثانية) عام 2000م، وبعدما أدرك اليهود والأمريكيون أن استلام الأقصى سلمياً ورسمياً، ليس من السهولة بمكان، وكذلك التسليم بأن القدس يهودية؛ شرع شارون في تهييج اليهود ضد الفلسطينيين، إسلاميين وعلمانيين، وهو ما أشعل انتفاضة الأقصى التي استمرت نحو أربع سنوات؛ ومن يومها؛ والضغوط تتوالى على الفلسطينيين بكافة توجهاتهم من أجل إنشاء ظروف جديدة، تسمح بمعطيات أكثر حظاً لليهود عند أي دخول في مفاوضات نهائية، وقد جرت أثناء مدة المأفون شارون عدة تطورات، تهدف كلها لكسر الإرادة الفلسطينية أو تليينها، حتى تذعن لثوابت اليهود، وترضى بثوابت ما يسمى بـ (الشرعية الدولية)!! وفي ظل تلك «الشرعية» جرى قتل وجرح واعتقال عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وقتل واغتيال العشرات من القادة والرموز، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، كما لم يسلم من غدر اليهود ياسر عرفات نفسه، حيث حاصروه في مقر السلطة التي منحوها له، وشاع أنهم تسببوا في قتله بالسُّم، حتى يُفسَح الطريق أمام قيادات جديدة، أكثر ليونة أو رعونة، ترضى ـ بعد كل ذلك ـ أن تُلتقَط لها الصور التذكارية في الاجتماعات (التشاورية) الودية، مع (شارون) ومن بعده (أولمرت) المتآمر القديم على القدس والأقصى أثناء تسلمه لمنصب بلدية القدس لعشر سنوات بدءاً من عام 1993م.
لا شك في أن ما جرى مؤخراً من فصول جديدة من التآمر ضد القدس والأقصى، يمثل مرحلة متقدمة من المشروع الهادف إلى إحكام سيطرة اليهود عليهما بشكل نهائي، حيث إن الأقصى يتوجب هدمه جذرياً، والقدس يتوجب ضمها نهائياً، حتى تكتمل معالم (الدولة اليهودية) التي أشار جورج بوش الابن إلى ضرورة توافق الجميع على استكمالها، في حضور العديد من الزعماء العرب ـ ومنهم محمود عباس ـ في مؤتمر خليج العقبة عام 2003م!
قناعتي أن الأقصى سيظل يختصر معالم الصراع الديني في قضية فلسطين، إسلامياً ويهودياً ونصرانياً، حيث يتوافق الجميع ـ بغير اتفاق ـ على أنه يبقى بؤرة صراع الأديان في المستقبل القريب والمستقبل البعيد، بعد أن كان محوراً لهذا الصراع منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، عندما بنى داود ـ عليه السلام ـ مدينة القدس وأعاد ابنه سليمان بناء المسجد الأقصى فيها.
هذه ثوابتنا:
الأقصى هو المركز في قصة صراع الحق والباطل بين أتباع الديانات الثلاث؛ ولذلك فمنه ابتدئ سرد ثوابتنا الإسلامية؛ التي يُراد التصدي لها، أو القفز من فوقها إلى حيث ثوابت المغضوب عليهم والضالين، ومن دار في فلكهم من المنافقين:
ـ المسجد الأقصى ليس مجرد مسجد يمكن استبداله أو التفريط فيه؛ فهو يرمز إلى المعتقد الحق، الذي جاء به رسول الحق ، ناسخاً الشرائع السابقة؛ ولذا فإن التفريط فيه تفريط في العقيدة والشريعة معاً.
ـ الأرض المباركة حول المسجد الأقصى، قُدست لارتباطها بقدسية الرسالات السماوية التي خُتمت برسالة خاتم الأنبياء ـ كما دلت حادثة الإسراء، والاعتراف بحق اليهود في الوجود فيها كدولة، هو خيانة لله وللرسول وللمسلمين.(36/434)
ـ هذه الأرض فتحها المسلمون الأوائل من الصحابة ومن تبعهم؛ فلكل المسلمين فيها حقوق وعليهم واجبات؛ لأنها وَقْفٌ عليهم جميعاً، ولهذا لا يحق لكائن من كان أن ينفرد بتقرير مصيرها لغير صالح الإسلام والمسلمين؛ لأن نُصرتها أمانة في أعناقهم جميعاً بأرضها وشعبها ومقدساتها ومجاهديها ومرابطيها وأسراها وجرحاها.
ـ قضايا المسلمين الكبرى ـ كقضية فلسطين ـ لا بد أن يُرَدَّ الفصل فيها لأهل الحل والعقد من المسلمين، الذين يمثلهم في الأساس أهل العلم والفقه على مستوى العالم الإسلامي، أما الساسة والمتنفذون؛ فما عليهم إلا التنفيذ في حال القدرة والاستطاعة، إذا كانوا حقاً مخلصين للأمة.
ـ غير المخلصين للمسلمين، من المعادين للدين أو المهادنين لأعدائه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا ولاية لهم على قضايا المسلمين انفراداً أو شراكة، بل ولا مشورة ولا بطانة؛ وتقريبُ هؤلاء أو التقرب منهم، فيه إزراء بالدين، وتغرير بالمسلمين.
ـ كل اتفاق أو معاهدة أو مبادرة تُبرَم أو تُطلَق من غير الاستناد الواضح لمرجعية الإسلام التي يقول بها العدول من أهل العلم، فهي مجرد حبر باهت على ورقٍ مهترئ، لا قيمة لها ولا اعتبار، ولهذا لا يجوز أن يكون الموقف حيالها هو الاحترام أو الالتزام.
ـ اليهود كانوا ـ وسيظلون للأبد ـ أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ويدخل في حكمهم من شايعهم من النصارى وغيرهم، ولهذا فإن دعوى (السلام الدائم والعادل) معهم، افتراء على الحق، وتضييع للحقيقة؛ لأن عداوتهم زادت وتضاعفت باغتصابهم لحقوق المسلمين وأراضيهم، وجهاد هؤلاء لا يمكن القول بإبطاله أو تأجيله عن وقته، فضلاً عن القول بنبذه والتبرؤ منه؛ لأنه شرعة واجبة إما عينياً أو كِفائياً، وبخاصة في أرض فلسطين.
ـ الشريعة الإسلامية ـ لا النظم العلمانية ـ ستظل مرجع الحاكمية الواجبة في فلسطين وغيرها؛ فالتحاكم إليها واجب حتى عند عدم القدرة على تنفيذها، والعجز عن الحكم بها لا يسوِّغ التحاكم أو الرضى بغيرها، فضلاً عن السعي لتمكين غيرها للحكم في رقاب المسلمين ودمائهم وأعراضهم وسائر شؤونهم.
ـ أرض فلسطين وسائر بلاد الشام، فتحها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين الذي أحلوا فيها نهج الحق والسنَّة، فيجب تعظيم قدرهم فيها، وتعظيم المنهج الذي أحلُّوه فيها، دون فتح المجال لإجلال وتمكين البدعة وأهلها فيها من أعداء الصحابة وأعداء منهجهم الحق، كما حدث ذلك فيما جاور فلسطين من بلاد الشام.
ـ كما ظلت القومية والوطنية العلمانية وكذلك الثورية والليبرالية، تمثل خطراً على مسار القضية الفلسطينية من الخارج؛ فإن التقيد بالحزبية أو القطرية أو المجاملات الرسمية، يمكن أن ىؤخر مسار التقدم باتجاه هذه القضية المركزية عند كل المسلمين.
أعرف أن هناك من سيقول: أين نحن مما تتحدثون عنه، في زمن هوان المسلمين، وظروف تمكن الأعداء، ومناخ المعادلات الدولية والنظرات الواقعية لموازين القوى المؤثرة في طبائع الأحداث؟! فأقول: الواقع ليس حُكماً على الشريعة والعقيدة، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: فإن هذا الواقع يتغير بسرعة لصالحنا كلما غيَّرنا ما بأنفسنا، كما تشهد بذلك ساحات الانتصارات الأخرى. ومن ناحية ثالثة: فإن في مقابل تلك الثوابت الإسلامية، هناك ثوابت (دينية) صهيونية، نصرانية تقابل كل بند فيها، ولعلِّي أترك للقارئ إجراء تلك المقابلة والمقارنة، التي لم تحجزهم عنها أوهام الواقعية أو العصرانية.
ومن جهة رابعة: فإن الأجيال الإسلامية، لا بد أن تنشأ على المفاهيم والثوابت الإسلامية في قضاياها، حتى إذا عجزنا نحن، لم نورِّثهم ذلك العجز، أو نسلِّمهم لمسلَّمات وثوابت المبطلين، من العلمانيين وأشياعهم.
إن العلمانية العربية هي أكثر الأطراف حديثاً عن «الثوابت» ولكنها ثوابت تختلف عن ثوابتنا الإسلامية؛ ومع هذا فإنها كانت ولا تزال الأكثر تفريطاً فيها وتجاوزاً لها؛ فمن الذي لا يذكر ممنوعات عبد الناصر، ولاءات السادات، ومحرمات عرفات، واحتجاجات وتحفظات جبهات (الصمود والتصدي) و (البعث العربي) و (الجامعة العربية) بمؤتمراتها ومقرراتها التي تذهب تباعاً أدراج الرياح؟ إن تلك الثوابت لم يبق منها الآن إلا بعض أشكال الممانعة التي تتشبث بها فصائل المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما؛ ومع هذا يراودها الأكثرون عليها، ويحاولون إبعادها عنها!
وبعدُ: فما الذي أوصل إلى كل هذا التراجع من طرفنا... مع ازدياد العناد والمزايدة من أطراف أعدائنا..؟!
السؤال الكبير:(36/435)
في النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن الهجري، أي ما يوازي منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الفائت، كان هناك سؤال يثور في الأذهان، ويدور على الألسنة، مؤدّاه: «لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟!» حيث كان الجهاد لتحرير أفغانستان من الغزو الروسي يكتسب وقتها زخماً إسلامياً عالمياً، بعد أن أخذت القضية الأفغانية بُعداً اعتقادياً، جمع حولها قلوب المسلمين أفراداً وجماعات ومجتمعات، بينما كانت قضية فلسطين ـ الأكبر والأخطر والأقدم ـ تعاني إهمالاً واضحاً، وضموراً لافتاً في الضمائر، انعكس على ما تترجمه السرائر والظواهر..!
لم يكن على الساحة الفلسطينية ـ حتى ذلك الوقت ـ بروز يُذكر لأي تجمع إسلامي شعبي يجاهد لأجل تحرير فلسطين، بالرغم من مضي زمان يزيد على زمن التيه من احتلالها، بينما وُجد في أفغانستان في غضون سنوات قلائل، جمع من المنظمات الجهادية، ظلت تنازل أكبر جيش في العالم في ذلك الوقت حتى أخضعته وأخرجته صاغراً من الأرض الأفغانية! لقد كان الجزء الأكبر من الإجابة على ذلك السؤال: «لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟!» يكمن في وصف الحال هنا ووصفه هناك؛ حيث كان الفرق الكبير هو أن القضية الأفغانية أخذت بُعدها الإسلامي الاعتقادي إعلامياً وسياسياً بشكلٍ كافٍ؛ بينما كان أسر الإسرائيليين لفلسطين يكتسب الضمانات والحصانات من العلمانية العربية والفلسطينية التي ميَّعت القضية بخطاب بارد جاف، منزوع العقيدة، فاقد التأثير في قلوب المسلمين وعقولهم.
إن هذه الأمة مهما اعتورها من دَخَن أو دَخَل خارجي، هي في جوهرها الداخلي إسلامية القلب، إيمانية الوجهة، ولا يستطيع أن يؤثر فيها أو يأسر قلبها إلا من خاطبها بلسان الإسلام والإيمان، حتى ولو كان ذلك بالمظاهر والشعارات؛ فهي قد تُخدَع لمن خدعها بالإسلام، ولكنها تصدُق مع من صَدَقها في خطاب الإيمان. وقد فهم أعداء الأمة هذا جيداً، فكانوا حريصين كل الحرص على ألاَّ يخاطبها أحد بذلك الخطاب الإسلامي إلا فيما يتقاطع مع مصالحهم، في حين لا يزعجهم كثيراً خطاب الشعارات المائعة، قومية أو وطنية، ثورية أو ليبرالية؛ فهي وإن علا صوتها وتزاحم ضجيجها، فإنها لا تعدو أن تكون قعقعة في بطن جوعان أو زوبعة في قعر فنجان!! وهذا ما حدث عندما خاض العرب تحت تلك الرايات والشعارات حروب الهزائم الكبرى، مستبعدين الإسلام، متجاهلين المسلمين غير العرب، لتظل هذه القضية، قضية (قومية عربية) علمانية.. لم تلبث أن تحولت إلى قضية (وطنية فلسطينية) علمانية أيضاً. لكن لما ظهرت التوجهات الإسلامية في فلسطين على يد حماس والجهاد الإسلامي، كان واضحاً أن هناك تغيراً طرأ على الساحة الفلسطينية، وهو قابل للتطور باتجاه (أسلمة القضية) وهنا قال العلمانيون.. وقال الإسرائيليون والأمريكيون قبلهم: لا...! ولهذا كانت (مدريد) وكانت (أوسلو) التي تعد الوليد ـ أقصد اللقيط ـ الأول للعلاقة الجديدة الناشئة بين العلمانية الفلسطينية والكيان الصهيوني.
لقد أطاحت(أوسلو) وأخواتها بأهم الثوابت المتعلقة بالصراع مع اليهود المغتصبين، بعد أن أغلقت فتح ملف الثوابت الفلسطينية، ولم تُبْقِ منها إلا مسألة الدولة الفلسطينية بزعامة علمانية «صديقة» لليهود، ومع ذلك ظل أصحابها يتحدثون أكثر من غيرهم عن (الثوابت الفلسطينية) التي لا تختلف الآن كثيراً عن الثوابت الإسرائيلية التي تنافح عنها (اللجنة الرباعية) وكان آخر ذلك تصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مع حركة حماس؛ حيث قال في لقائه مع كونداليزا رايس وإيهود أولمرت: «كل الوزراء في الحكومة سيلتزمون بثوابت الرباعية، ولن يلتزموا بإملاءات الجهة التي جاؤوا منها» (يقصد حماس بالطبع)!
إننا أمام معادلة تقول: كلما انخفض سقف الخطاب العربي والإسلامي في القضية الفلسطينية، ارتفع سقف الطمع في التنازلات والتراجعات على الجانب المعادي، إسرائيلياً كان أو أمريكياً أو أوروبياً؛ ولهذا أقول: إن هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه الإسلاميين الفلسطينيين في حماس وغيرها.
السؤال الأكبر:
بعد عام تقريباً من الآن، يكون الاحتلال اليهودي لفلسطين عام 1948م قد مضى عليه ستون عاماً، وإذا أرَّخنا لضياع فلسطين باحتلال الإنجليز لها عام 1918م، والذي تواصَل حتى الاحتلال الإسرائيلي، يكون قد مضى في العام القادم على القضية الفلسطينية تسعون عاماً!
خلال الستين عاماً... أو التسعين عاماً، أضاع العرب والمسلمون الكثير والكثير من الفرص لتحرير فلسطين، وما ذلك ـ في رأيي ـ إلا بسبب التخبط والتردد والتخليط في اختيار الرايات التي ستُحرَّر تحت ألويتها الأرض المقدسة المغصوبة، حيث أكثرَ ساستنا التنقل بين الليبرالية والاشتراكية والقومية والوطنية، مستعينين تارة بالشرق، ومرتمين تارة في أحضان الغرب، وهو ما جعل «ثوابت» القضية الفلسطينية لا تكاد تثبت على حال.(36/436)
تراودني كثيراً في الآونة الأخيرة تساؤلات، تنطوي على مقارنات، بين أوضاع قضية (احتلال فلسطين) التي مضى عليها ما يقرب من ستين عاماً أو تسعين عاماً، وبين قضية (احتلال العراق) التي مضى عليها نحو أربع سنوات فقط!!
وتبرز في تلك التساؤلات الكثير من الفروق والمفارقات:
فلسطين أكثر قدسية أم العراق..؟
اليهود أكثر عداوة للذين آمنوا أم الأمريكان..؟
الجيش الأمريكي أقوى أم الجيش الإسرائيلي..؟
الاحتلال الصهيوني لفلسطين أقدم وأخطر وأطول، أم الاحتلال الأمريكي «المؤقت» للعراق...؟
الدعم الحكومي الرسمي والدعم الشعبي العربي والإسلامي لحركات «التحرير» الفلسطينية كان أكثر على مدى الستين عاماً الماضية، أم «الدعم» المقدم لحركات المقاومة العراقية على مدى أربع سنوات..؟!
المشاركة والتسهيل والدعم لاحتلال أراضي فلسطين عامي 48، 67، كان أخطر؛ أم أن ذلك الذي كان في حالة العراق، إلى الدرجة التي أوصلت إلى وجود احتلال «إيراني» موازٍ للاحتلال الأمريكي في أرض الرافدين..؟!
سنجد بعد الإجابة الموضوعية عن تلك الأسئلة ـ أن الفارق كبير جداً بين مؤهلات الانتصار الأسهل في فلسطين (افتراضاً) ومسببات الانتصار الأصعب في العراق (واقعاً)!
وهنا نعيد السؤال القديم ـ بصيغة جديدة ـ: «لماذا العراق.. وليس فلسطين؟!» لا تقليلاً من قدر العراق أو تهويناً من خطر الأمريكان، ولكن، لنطرح ذلك التساؤل الأصعب: كيف حققت المقاومة العراقية تلك الانتصارات المذهلة في ذلك الوقت القياسي القليل جداً، مع تلك الإمكانات المحدودة جداً وفي تلك الظروف الأصعب جداً؟! في حين أنها تقاتل في وقت واحد عدوين كبيرين: علوج الأمريكان الهائجة وجُعلان إيران الهمجية؛ إضافة إلى قوات التحالف المجموعة من حثالات الأمم!
إن المقاومة في العراق لم تحرز انتصارات كبيرة على أمريكا وحلفائها فحسب، في ظروف استضعاف وتنكُّر وخذلان وإعراض من الأكثرين؛ بل إن أداءها الأسطوري المرعب لأعداء الله، كان سبباً ـ بفضل الله ـ في حماية بقية دول الجوار من بقية مسلسل الجور الأمريكي الذي كان مخططاً لما بعد نجاح الغزو في العراق.
ونعود إلى فلسطين.. حيث السؤال الذي لا يزال يفرض نفسه: متى نرى في اليهود هناك، مثل ما نرى في الأمريكيين وحلفائهم في العراق..؟! إن الجواب يمكن التفصيل فيه، ولكنه يكمن في كلمات محددوة: تنقية الراية، وتصفية وتقوية الثوابت الفلسطينية إسلامياً لتكون خالصة من شوائب «الثوابت» العلمانية، ومصادرها الرئيسية المستمدة من مبادئ الظلم الكامنة في «الشرعية الدولية» ذات الوجهة الصهيونية.
إن الشعب الفلسطيني ـ من حيث هو ـ شعب أبيٌّ صابر ومجاهد ومرابط، ولا يمكن المزايدة على تضحياته بتضحيات أخرى، ولكن تسلط بعض زعاماته بفرض قناعات بعيدة عن المنهج السوي، هو ما قلل من قطف ثمرات تلك التضحيات، وإن ما نشهده من تضييق (الحصار المنهجي) على حركة حماس لتتخلى عن الثوابت الإسلامية، لهو أخطر من الحصار الاقتصادي المفروض على بقية الشعب؛ لأن حصار البطون سيهون وينتهي، ولكن حصار العقول والقلوب لو نجح ـ عياذاً بالله ـ فسوف يباعد أكثر من النصر، ويمكِّن أكثر للعدو، ويفتح المجال لسنن الاستبدال.
إن فلسطين في حاجة إلى مزيد من التشبث بتحرير الولاء لله، لتحرير المقدسات والأراضي والمقدرات من أعداء الله، وهذا ما سوف يحدث قطعاً، عندما تكون الرايةُ الإسلامَ، والغاية العبودية؛ فبهذين الوصفين، سيلتفت العرب وسيتضامن المسلمون، بل سينطق الحجر والشجر لنصرة المظلومين ضد اليهود الظالمين، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله!» فالنداء هنا بوصف الإسلام ووصف العبودية وليس بالقومية أو الوطنية العلمانية التي أضاعت الأرض والعرض في فلسطين لنحو تسعين عاماً.
نقله لصيد الفوائد / محمد جلال القصاص
===============(36/437)
(36/438)
نظرات في كتاب " الحرية أو الطوفان "
د حاكم المطيري ومواجهة أخوية معه
سليمان بن صالح الخراشي
سعدتُ كثيرًا بقراءة كتاب الدكتور حاكم المطيري - وفقه الله -" الحرية أو الطوفان " ، الطبعة الأولى ( 2004م ) ؛ لما حواه من تحفيز لعودة مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المُنزّل إلى عالم الحكم في بلاد المسلمين ، وهو ماكان عليه الحال في الفترة الراشدة ؛ حيث الشورى والعدل الذي يكفل للمسلمين عيشًا كريمًا ، وحياة عزيزة ، لا تخضع لتسلط ظالم خاضع هو الآخر لتسلط الكفار ( إن لم يكن راضيًا في بعض الأحيان ) .
ومما أضاف على السعادة مثلها كون الكاتب - رعاه الله - من دعاة السلفية ، مما يضمن للقارئ - بإذن الله - صفاء في المادة ، وانضباطًا شرعيًا ، وتجنبًا لسلبيات الخائضين في هذا المجال ممن فقدوا تلك الصفات ، ( وما أكثرهم من العصريين ) .
إلا أن هذه السعادة وهذا الصفو كدرته بعض الهنات التي شابت رسالة الدكتور ، ومعظمها - في نظري - كان بسبب ضغط الواقع السياسي المعاصر ، الذي أوقع الدكتور في مجاملة للآخرين ( وأسميها هزيمة نفسية أمام استعلائهم بأفكارهم السياسية ) ، ومحاولة حشر تاريخنا أو نظرتنا السياسية في لبوس ليس لها .
وقبل إبداء ما لدي ، أقدم بعرض لتقسيمات رسالته :
********************
- يقول الدكتور في مقدمة رسالته ص7-: "هذه دراسة موجزة عن الخطاب السياسي الإسلامي ومراحله التاريخية، وعن طبيعة كل مرحلة وأبرز سماتها" أجاب فيه عن أسئلة تدور في أذهان كثيرين -منها-: "كيف بدأ الإسلام ديناً يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله -عز وجل- إلى دين يوجب على أتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة أولي الأمر".
وستأتي مناقشته في هذه الكلام وبيان ما فيه من مبالغة غير لائقة منه؛ لأن من يدعو إلى طاعة أولي الأمر -بضوابطه المعروفة- لا يدعو إلى "خضوع" للرؤساء والعلماء! إنما هو ينفذ أوامر صلى الله عليه وسلم تديناً وقربة، مع إنكاره لانحرافات الظالمين بالطريق الشرعي، وعدم رضاه عنها، فضلاً عن "خضوعه" !
- ثم قسَّم الدكتور مراحل الخطاب السياسي الإسلامي -وعليها مدار كتابه- إلى ثلاثة أقسام:
1-مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المُنزل، وهي فترة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وهي ما يدعو المؤلف إلى محاكاته.
وأبرز ملامحها:
أ-أنه لا دين دون دولة.
ب-لا دولة دون إمام.
ج-لا إمامة دون عقد.
د-لا عقد إلا برضا الأمة واختيارها.
هـ-لا رضا بلا شورى.
و-لا شورى بلا حرية.
ز-أن الحاكمية والطاعة المطلقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم
ح-تحقيق مبدأي العدل والمساواة.
ط-حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية وصيانتها؛ وهي "حق الحياة - الحرية"
ي-وجوب الجهاد في سبيل الله.
2-مرحلة الخطاب السياسي المؤول . وأبرز ملامحها:
أ-مصادرة حق الأمة في اختيار الإمام، وتحول الحكم من شورى إلى وراثة.
ب-مصادرة حق الأمة في المشاركة في الرأي والشورى.
ج-غياب دور الأمة في الرقابة على بيت المال.
د-تراجع دور الأمة في مواجهات الظلم والانحراف.
3-مرحلة الخطاب السياسي المبدل -من عام 1350 تقريباً إلى اليوم- :
وأبرز ملامحها : تنحية الإسلام عن الحكم بدعوى أن الإسلام دين لا دولة، ومحاربة أهل الإسلام من قبل المنافقين.
ثم عقد الدكتور خلاصة قال فيها ( ص 319 ) : " إن الخطاب السياسي الشرعي المُنزل هو الخطاب الذي يمثل تعاليم الإسلام الحق، وأن ما عداه إما مؤول أو مبدل يجب رده ورفضه، والتمسك بما كان عليه الخلفاء الراشدون في باب الإمامة وسياسة شؤون الأمة ؛ كما جاء في الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور"، وأن التمسك بهذا الخطاب هو السنة والسلفية، وما سواه هو من البدع التي أحدثها الملوك، وتابعهم على أهوائهم العلماء والفقهاء، اتباعاً منهم لسنة القياصرة والأكاسرة؛ كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم : "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع".
ثم قال -مبيناً الحل الذي يراه-" هذا الخطاب لن يتحقق إلا بمواجهة الخطاب المؤول والمبدل فكرياً، ثم بالعمل على نشره ودعوة الأمة وحكوماتها إلى تبنيه الطرق السلمية، لتبادر ما فاتها، وإلا فالواجب العمل على تغييرها بكل وسيلة ممكنة، سواء بالعمل السياسي السلمي أو بالعمل الثوري، إذ بقاؤها بقاء للاستعمار ولا سبيل إلى زواله إلا بزوالها" .
********************(36/439)
- يظهر جلياً لمن تأمل كتاب الدكتور أنه كتبه بعد تشبع بالواقع السياسي المعاصر لمعظم الدول الغربية - كما سبق - ؛ حيث شعارات : الأحزاب المتنوعة، وتيارات المعارضة، ، والتعددية الفكرية والسياسية ، والتداول السلمي للسلطة.. إلخ مكونات هذا الواقع [حسب الظاهر بغض النظر عن صدقه أو كذبه على أرض الواقع ] . هذا التشبع انطبع على نظرة أو قراءة الدكتور لتاريخ المسلمين السياسي -سواء فترة الخلفاء الراشدين أو ما بعدها- مما أوقعه في تكلفات، وأحياناً تجاوزات تغاضى عنها في سبيل أن ينطبق واقع تلك الدول الغربية السياسي على تاريخنا.
- انساق الدكتور مع المنادين بأفكار الحرية ومناهضة الاستبداد وهي أفكار -بلا شك- تسلب الألباب لأول وهلة - كما سبق - ؛ لأن الإنسان مفطور على كراهية الاستعباد والظلم والنفور منهما، يكاد يتفق على ذلك بنو آدم. ولكن هذه الحرية والمناهضة للاستبداد... إن لم تُضبط وتُقيد بنصوص الشرع -وإن كانت كُرْهاً لبعض الأنفس- وإلا جمحت وضرت مجموع الأمة وأصابتها بفتنتها.
فكأن الدكتور -وفقه الله- بكتابه هذا يقول للآخرين : إن دعاة السلفية لهم حظ وافر من الدعوة إلى الحرية ومنابذة الاستبداد التي اشتهر بها غيرهم ! وهذا حسَنٌ لو تجاوز صاحبه بعض الأخطاء أو المجاملات التي تنبئ عن هزيمة نفسية تجاه الآخرين ، ومثلها رفع الأسافل لمجرد اتفاقهم معه في هذه الشعارات ( المطاطة ) . وحسنٌ لو قُيدت هذه الحرية بقيود الشرع ؛ لأنه ما كل حرية يجيزها الشرع ، وتسميتها حرية هو من التلبيس ، كمن يسمي الربا المحرم " فائدة " ، فلا ينبغي للداعية أو العالم أن يضعف أمام استعلاء الآخرين بباطلهم ، بل يأخذ منافعه ، ويحذّر من مفاسده ، ويواجههم بها .
الملاحظات التفصيلية :
1- يقول الدكتور في مقدمة كتابه ( ص 7-8) : " لِمَ لَمْ يعد أكثر علماء الإسلام ودعاته اليوم يهتمون بحقوق الإنسان وحريته والعدالة الاجتماعية والمساواة ؟
كيف تم اختزال مفهوم الشريعة لتصبح السياسة الشرعية، وحقوق الإنسان، والحريات، والعدالة الاجتماعية، والمساواة؛ كل ذلك لا علاقة له بالشريعة التي يراد تطبيقها والدين الذين يُدعى الناس إليه اليوم؟!
كيف تم تفريغ الإسلام من مضمونه، فصار أكثر الدعاة إليه اليوم يدعون الناس إلى دين لا قيمة فيه للإنسان وحريته وكرامته وحقوقه، إلى دين لا يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، بل يرفض تغيير الواقع ويدعو إلى ترسيخه بدعوى طاعة ولي الأمر ؟!!
كيف ندعو شعوب العالم الذي تساوى فيها الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤساءه، وينتقدهم علانية ويعزلهم بطرح الثقة بهم، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه؛ إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله؛ إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه؛ إذ طاعته من طاعة الله ورسوله؟! كما يحرم على هذه الشعوب الحرة أن تقيم الأحزاب السياسية أو تتداول السلطة فيما بينها لو دخلت في الدين الجديد ؟!! " .
قلتُ : هذه العبارات المنتشية ، والمصطلحات الجميلة : ( الحرية - المساواة - العدالة الاجتماعية .. الخ ) تُطرب النفوس ، وتأسر الألباب مادامت في المخيلة ، لكنها عندما تنزل للواقع تحتمل أكثر من وجه ، منها الصالح ومنها غير ذلك . وهي - مع هذا - تشهد لمدى تأثر الدكتور بالفكر السياسي الغربي . كما سبق . فماكان ينبغي له أن يسير مع إطلاقاتها ، دون توضيح .
2- قال الدكتور ( ص 8 ) : " هذا وقد أخذت على نفسي والتزمت ألا أورد من الأحاديث إلا الصحيح، ولا من الأخبار والروايات التاريخية إلا المقبول، وقد اجتهدت في دراسة أسانيد الروايات التاريخية -مع ما في ذلك من عسر ومشقة- لأتجنب الروايات الموضوعة، فلم أورد من الأخبار التاريخية إلا ما كان صحيحاً أو مشهوراً بين المؤرخين؛ إذ للتاريخ والمؤرخين منهج يختلف عن منهج أهل الحديث في كثير من التفاصيل " .
قلتُ : هناك من الحكايات والأخبار المشهورة بين المؤرخين ما هو في عداد الموضوعات والأكاذيب عند العلماء ؛ لأن غالب المؤرخين أصحاب " جمع " لا " تحقيق " ، وقد نبه بعضهم إلى هذا في مقدمة تاريخه ؛ كالطبري . فشهرة الرواية وانتشارها في كتب أهل التأريخ لا يجعلها بمجرده صحيحة مقبولة ، وإلا لقبلنا روايات كثيرة لا أظن الدكتور يرتضيها . ومع هذا فقد خالف الدكتور شرطه كما يأتي - إن شاء الله - .(36/440)
3- قال الدكتور ( ص 40 ) : " من ذلك : الحكاية التي تقول أن عمر - رضي الله عنه - قال لصهيب - رضي الله عنه - " أحضر عبدالله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رءوسهم - أي أهل الشورى - فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبدالله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس " .
قلت: هذه الحكاية ألمح شيخ الإسلام في المنهاج ( 4/180) إلى شذوذها ، وقال : " ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين ، بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان
. والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث ، وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا " .
وقال الدكتور عبدالعزيز محمد نور ولي في رسالته " أثر التشيع على الروايات التاريخية " ( ص 321) : " وقد تضمنت الروايات الشيعية - في قصة الشورى - عدة أمور غريبة ، وهي : - زعمهم أن عمر أمر صهيبًا أن يقتل من يخالف من الستة إذا اتفق خمسة أو أربعة منهم على رجل " ثم ضعفها بذكر من رواها . فلتراجع . وتُنظر : رسالة " عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة " للدكتور ناصر الشيخ ( ص 1048) . وللفائدة ، فإن نسخة تاريخ ابن شبة سقيمة ، أفاده الشيخ سعد الحميد .
4- بسبب النظرة المُشبعة التي ذكرت أن قراءة الدكتور لتاريخ المسلمين السياسي استسلمت لها ، نجده يقول ( 49 ) : " وإذا كانت المعارضة الفردية لسياسة الخلفاء هي الأبرز في عهد أبي بكر وعمر، فقد دخل العمل السياسي والمعارضة السياسية طوراً جديداً، وأخذا بعدا أكثر تنظيماً في عهد الخليفتين عثمان وعلي، فقد بدأت المعارضة تأخذ طابعاً جديداً، حيث ظهرت جماعات منظمة معارضة لسياسة عثمان رضي الله عنه وقد بدأت في البصرة والكوفة ومصر، ثم أصبحت أكثر انتشاراً، واستطاعت أن تستقطب إلى صفوفها بعض الصحابة كعمار بن ياسر الذي أرسله عثمان رضي الله عنه لمعرفة أخبار هذه المعارضة في مصر، فانضم إلى صفوفها " !!
قلت : لا أدري أولا : هل الدكتور يتحدث عن تاريخنا الذي نعرفه أو عن أحد التواريخ الثورية في عالمنا المعاصر ؟!
ثانيًا : ولع الدكتور بالأحزاب والمعارضة ...الخ اضطره إلى تصوير قتلة عثمان والثائرين عليه - قبحهم الله - بغير صورتهم ! عندما زعم أنهم معارضة مشروعة ، وفيهم بعض الصحابة ! وكان يسعه أن يقول كما قال ابن عساكر - ونقله عنه ابن كثير رحمه الله - : " إن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله ، تسوروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه ، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم إلا محمد بن أبي بكر... " . ( تاريخ دمشق (ترجمة عثمان رضي الله عنه ) ص503-505، البداية والنهاية 7/202 ، 203) .
وكما قال ابن تيمية -رحمه الله - وهو يدفع مزاعم الرافضي - " ومعلوم بالتواتر أن الأمصار لم يشهدوا قتله ... ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله ... " (منهاج السنة 8/313) ، وقبلهما قال الحسن البصري - رحمه الله - وقد سئل : أكان فيمن قتل عثمان أحدٌ من المهاجرين والأنصار ؟ قال : " كانوا أعلاجاً من أهل مصر " (تاريخ بن خياط ص176) ، وفي طبقات ( ابن سعد ) : كان - قتلة عثمان - رضي الله عنه : حثالة الناس، ومتفقون على الشر (3/71) . ( ويُنظر رد الدكتور سليمان العودة على منقذ التأريخ ! حسن المالكي ) . ( ورد الأخ علي رضا على المالكي - أيضًا - في مسألة صحبة ابن عديس وابن الحمق . ولعله ينشره هنا ما دام مشاركًا في منتدانا ) .
5- قال الدكتور ( ص 57) : " كما تؤكد حادثة السقيفة أن اشتراط القرشية في الإمامة لم يكن معروفاً ولا معلوماً بين الصحابة، وإلا لما نازع فيها الأنصار، ولما احتج أبو بكر وعمر بمثل هذه الحجج، ولقالوا: إن صلى الله عليه وسلم جعل هذا الأمر في قريش ويحرم عليكم أن تنازعوا " .(36/441)
قلت : شرط القرشية - كما يقول الدكتور الدميجي في رسالته الإمامة ( ص 265وما بعدها ) : " من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه ، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين ، ولم يُخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع ؛ كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة " ، وقال : " أول من قال بعدم اشتراط القرشية : الخوارج الذين خرجوا على علي " . وأما شبهة الدكتور حاكم فقد رد عليها وعلى غيرها ، وقال : " أما استدلالهم بقول الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فواضح البطلان ، وذلك لرجوعهم رضي الله عنهم عن هذا القول في تلك اللحظة بعد أن سمعوا النص الوارد عن صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه أبوبكر رضي الله عنه في قوله : ولقد علمتَ يا سعد أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبرُ الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . فيحتمل أنهم قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يُثبت الخلافة في قريش ، ولهذا رجعوا إلى رشدهم لما عرفوا الحقيقة " . مع الانتباه إلى أن شرط القرشية يكون حال الاختيار لا الاضطرار والتغلب - كما بين العلماء - .
6- قال الدكتور ( ص 58 ) عن علي ومعاوية - رضي الله عنهما - : " وقد اتفق الحكمان على خلعهما وإرجاع الأمر للأمة شورى بينها لتختار من تشاء منهما أو من غيرهما " .
- قلت : قصة التحكيم كما ذكر الدكتور مكذوبة ! وبيان ذلك على هذا الرابط :
http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/m/77.htm
وهذا :
http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/mm/11.htm
7- تحدث الدكتور عن تقبل الخلفاء الراشدين للمعارضة ما لم تحمل السلاح ! ثم قال ( ص 61 ) - عن الخوارج - : " قال ابن قدامة: إذا أظهر قوم رأي الخوارج؛ مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين، وأموالهم، إلا أنهم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم .. الخ "
قلتُ : لم يُكمل الدكتور النقل ! وفيه اختيار الإمام مالك أنهم " يُستتابون ، فإن تابوا وإلا ضُربت أعناقهم " ، وفيه حجة من يرى " تكفيرهم " . وكذا لم ينقل رأي ابن قدامة القائل : " والصحيح أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء ، والإجهاز على جريحهم ، لأمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم ، ووعده بالثواب مَن قتلهم .. الخ " .
8- قال الدكتور ( ص 64) : " كما أكد ذلك صلى الله عليه وسلم في أول دخوله المدينة حيث وضع صحيفة المدينة ، التي تُعد أول دستور عرفه العالم، وحدد فيها الحقوق والواجبات التي على المسلمين ومن معهم من أهل الكتاب " .
قلتُ : يُنظر ضعف خبر هذه الصحيفة في رسالة الأخ ضيدان بن عبد الرحمن اليامي " بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة " ، وقال بعد أن ذكر أسانيدها وضعفها جميعًا: "فعلى هذا يتضح لك ضعف هذه الصحيفة وما ورد فيها" .
"ومن ثمَّ لا ينبغي الاحتجاج بها " . وللزيادة تُنظر رسالة " محمد عمارة في الميزان " .
9- قال الدكتور ( ص 69 ) معددًا فوائد حديث " إلا أن تروا كفرًا بواحًا .." : " حق الأمة في خلعها - أي السُلطة - والخروج عليها إذا تجاوزت حدود ما أنزل الله، وأظهرت كفرا بواحاً وهو المعصية الظاهرة كما في بعض الروايات -انظر فتح الباري 13/8- قال النووي: (المراد بالكفر هنا المعاصي -شرح مسلم 12/229- وهذا إذا أمكن بلا فساد " .
قلت: هنا تلبيس تمنيت لو لم يقع من الدكتور - عفى الله عنه - ؛ لأن كلام النووي رحمه الله صريح وواضح في نقيض دعوى الدكتور ، ولو أكمله لتبين هذا ، ولكن !
وإليكم كلامه بالنص : قال " والمراد بالكفر هنا المعاصي ومعنى عندكم من الله فيه برهان أي تعلمونه من دين الله تعالى ، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام ؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم . وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين " . فإنكار المنكر الذي يعنيه النووي غير الخروج الذي يعنيه الدكتور !
10- قال الدكتور ( ص 93 ) : " كما له - أي المسلم - الحق في الانتماء إلى أي حزب أو جماعة شاء، فإذا جاز لغير المسلم الانتماء للأديان الأخرى والتحاكم إلى شرائعها الخاصة ورؤسائها في ظل الشريعة الإسلامية، فالانتماء إلى الجماعات الفكرية والسياسية جائز من باب أولى، ولهذا السبب لم يعترض عثمان ولا علي -رضي الله عنهما- على الانتماء للجماعات السياسية أو الفكرية، كالخوارج إذ لم ير علي رضي الله عنه أن له حقاً في منعهم من مثل هذا الانتماء، ما لم يخرجوا على الدولة بالقوة، لوضوح مبدأ: لا إكراه في الدين " .
قلت : عجبًا للدكتور - هداه الله - ، فهو في سبيل تقرير " التعددية الفكرية " المنقولة من الغرب ، سوّغ للمسلم أن يلحق بأهل البدع - المختلف في تكفيرهم - ! مهوّنًا من هذا الأمر الشنيع الذي حذر منه الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، وتوعدا عليه .(36/442)
11- قال عن مرحلة الخطاب المؤول ( ص 107 ) : " وقد انتهى عصر الخلفاء الراشدين سنة 40 هـ ، وبدأ العصر الأموي ، حيث بدأ تراجع الخطاب السياسي الممثل لتعاليم الدين المُنَزل ، وبدأ خطابٌ سياسيٌ يُمثل تعاليم الدين المؤول ، حيث بدأ الاستدلال بالنصوص على غير الوجه الذي أراد الله ورسوله ، وقد قا صلى الله عليه وسلم : أول من يُغير سنتي رجلٌ من بني أمية " .
قلت : الحديث المذكور ضعيف مُنقطع ، أعله البخاري والبيهقي وابن كثير ، يُنظر لبيان ذلك : البداية والنهاية لابن كثير ( 6/234) ، و تعليق الأستاذ محمد ناصر العجمي على " الأوائل " لابن أبي عاصم ( رقم 63) . فلا عبرة بمن حسّنه غافلا عن علته . فمابال الدكتور - عفى الله عنه - يحتج به مخالفًا شرطه ؟ ثم يحمله على معاوية - رضي الله عنه - ! رغم أن من تسامح في إيراده ذكره عند ترجمة يزيد . وشتان بينهما لمن أنصف .
12- ثم قال الدكتور ( ص 107 ) عن مرحلة الخطاب المؤول : " وقد بدأت هذه المرحلة بعد عهد الخليفة الراشد عبدالله بن الزبير سنة 73 ، وهو آخر خليفة صحابي ، وامتدت إلى سقوط الخلافة العثمانية " .
قلت : تحديد الدكتور بداية هذه المرحلة بهذا التأريخ ( 73هـ) مناسب ؛ لأنه سيعافيه مما تورط فيه كثيرٌ من أهل البدع- خاصة الرافضة - ومن تابعهم من " الثوريين " في طعنهم بمعاوية - رضي الله عنه - ، وتحميلهم إياه أخطاء وتجاوزات كل من حكم بعده ! وكأنه مسؤول عنها ! والسبب أنه اجتهد في اختيار مَن يحكم المسلمين بعده ، وسيأتي عُذره في هذا - إن شاء الله - .
إلا أنه - أي الدكتور حاكم عفى الله عنه - رغم هذا التحديد المناسب لم يثبت عليه ! حيث نحى بعد صفحات باللائمة على معاوية - رضي الله عنه - في توليته يزيد ، فجعل القارئ في حيرة من أمر بداية هذه المرحلة " المؤولة " ! هل تبدأ من عام 73هـ أو من حكم معاوية - رضي الله عنه - ؟!
والسبب لهذا الاضطراب - في نظري - هو تزاحم بل تصارع فكرتين في ذهن الدكتور ، الأولى سلفية تربأ عن جعل أحد الصحابة مجالا للوم أو النقد ، والثانية متشبعة بقراءات من سبق ، ممن لا يتورعون عن اللوم والنقد ، بخيالات مريضة ، وأسباب واهية . فكان هذا الاضطراب والقلق .
ولو قال - وفقه الله - بما قال به بعض أهل الورع و التحقيق ، ممن يرون أن معاوية - رضي الله عنه - وإن لم يكن من الخلفاء " الراشدين " المُخبر عنهم بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .." ، وحديث : " ..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ، إلا أنه يُعد من الخلفاء الاثني عشر الذين بشّر بهم صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش " رواه مسلم . قال القاضي عياض : " يحتمل أن المراد من يعز الإسلام في زمنه ، ويجتمع المسلمون عليه " . وللتفصيل تُنظر رسالة الدكتور خالد الغيث " مرويات خلافة معاوية رضي الله عنه في تاريخ الطبري " ( ص 155-167) .
لو قال بهذا ، وجهر به ولم يجامل فيه أحدًا ؛ لسلم من التنازع الذي صبغ عباراته وفكرته .
13- قال الدكتور ( ص 142 ) عن خروج جيش ابن الأشعث ومن معه على الحجاج : " وقد التقوا هم والحجاج وجيشه إحدى وثمانين وقعة، كان النصر فيها حليفهم، حتى كانت آخر وقعة وهي يوم دير الجماجم سنة 83هـ. " . قلت : ليته أكمل بأنهم هُزموا شرّ هزيمة في هذه المعركة ! فأصبحوا ما بين قتيل وشريد وسجين - عفى الله عنهم - ، حتى تمنى من شارك فيها أن لو لم يفعل . وذهبت انتصاراتهم الثمانين ! هباء منثورا .
14- قال الدكتور ( ص 150 ) مستبشرًا بنجاح العباسيين في خروجهم على الأمويين ، وأن هذا دليل على صحة هذه الطريقة في التغيير : " وبهذا قامت دولة بني العباس على أنقاض دولة بني أمية؛ ليثبت بطلان نظرية الحسن البصري وادعائه عدم قدرة القوة على التغيير، وأن التوبة هي السبيل إلى تغيير الواقع ورفع الظلم، وأنه ما أفلح قوم خرجوا على إمامهم قط " .
قلت : هنا ثلاثة أمور : 1- أن نجاح الوسيلة - أحيانًا - في الوصول للمراد ، لا يدل على شرعيتها من عدمه ، بل ذلك يُعرف بالأدلة . وإلا لجوزنا السرقة للوصول للحق مادامت ستؤدي إليه أحيانًا دون تعرض لخطر ، ومثله تجويز السحر للوصول للمودة بين الزوجين مثلا .. وهكذا .
2- أن الدكتور جزم " بنجاح " هذا الخروج لأنه أزاح حاكمًا " بني أمية " وأحل آخر " بني العباس " ! فهل هذا هو نهاية مقصد الدكتور ومن يؤيده على هذه الوسيلة ؟ دون النظر إلى ما تحققه من مصالح للإسلام والدعوة والخير ؟ وما تُفوّته ؟
إذًا : ما الفائدة من هذا الجهد والتعب إذا كانت النتيجة مجرد تغيير " حاكم " لا تغيير " واقع " ؟ بل ازداد " الواقع " سوءًا لمن تأمل . ومهما حاول الدكتور أن يُرجّح حكم العباسيين على الأمويين ليتوافق ذلك مع فكرته ، فإن الواقع - بشهادة كل منصف - يقول غير هذا . فشتان بين الحكمين ؛ عزة للإسلام وظهورًا للسنة .( وليس هنا مكان الموازنة ) .(36/443)
3- أن بعض العلماء ؛ كشيخ الإسلام - رحمه الله - يخالف في نجاح هذا الخروج ؛ لأن الخارجين كانت عاقبتهم غيرحميدة . قال - رحمه الله - : " وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة ، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق ، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان ، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا ، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء .
وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا ، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهُزم أصحابهم ، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا ، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة " .
15- قال الدكتور ( ص 252-263) عن الدولة السعودية الأولى : " لقد عاد الخطاب السياسي الشرعي بعد قيام الدولة الإسلامية الجديدة في نجد إلى مفاهيم الخطاب السياسي المؤول، كما تقرر في كتب الأحكام السلطانية، كمشروعية العهد بالأمر إلى الأبناء كما كان عليه الحال في عصر بني أمية وبني العباس، دون جعل الأمر شورى بين المسلمين كما كان عليه الحال في عصر الخلفاء الراشدين ..
ولو نجح الشيخ في إحياء هذه المفاهيم لكان للدعوة صدى أكبر وأثر أبلغ في تغيير واقع العالم الإسلامي، ولكانت نموذجاً راشدياً يقتدى به ويقتفى أثره. وقد يكون السبب الذي حال دون ذلك هو الظروف التي أحاطت بالدعوة، مع أن الظروف التي أحاطت بالدولة في عصر الخلفاء الراشدين كانت أشد وأقسى ..
ويمكن عزو أسباب عدم التجديد في الخطاب السياسي الشرعي بعد قيام الدولة إلى عدم حاجة المجتمع إلى مثل هذا التجديد آنذاك، بل كانت حاجته إلى إصلاح العقائد، وإقامة الشرائع، وتحقيق الأمن والعدل، فهذا كل ما كان يحتاجه أهل الجزيرة العربية في عصره، إلا أن الدعوة إلى السلفية تقتضي إحياء سنن الخلفاء الراشدين في الحكم وسياسة شئون الأمة، والاقتداء بهديهم، واتباع طريقهم من رد الأمر شورى، والحيلولة دون توريث الإمامة، إذ هو الطريق إلى الاستبداد، ومن ثم السقوط " .
قلت : أولا : الشيخ محمد - رحمه الله - تعامل مع عصره بواقعية وذكاء ، ولم ينسق وراء الخيالات أو الطموحات التي قد تعيق دعوة التوحيد عن الانتشار ، فقدّم المصلحة العليا التي لأجلها بُعثت الرسل - عليهم السلام - على أي أمر آخر لايعدو أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق هذه الغاية . لاسيما وهو المحتاج للنُصرة لتبليغ دين الله .
ومع هذا فيذكر المؤرخون أن الشيخ - رحمه الله - كان له النصيب الكبير في تسيير أمور الدولة ، ومن ذلك قول ابن بشر - رحمه الله - في ترجمته : " كان رحمه الله هو الذي يُجهز الجيوش ، ويبعث السرايا ، ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه ، والوفود إليه ، والضيوف عنده ، والداخل والخارج من عنده " . وقال عنه ( ص 15 ) : " فكانت الأخماس والزكاة وما يُجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها كلها تدفع إليه بيده، ويضعها حيث شاء، ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره، بيده الحل والعقد والأخذ والعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه، فلما فتح الله الرياض، واتسعت ناحية الإسلام، وأمِنَت السُّبُل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز ، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكن ما يقطع عبد العزيز أمرًا دونه، ولا ينفذه إلا بإذنه" .
ثانيًا : أن عبدالعزيز بن محمد - رحمه الله - كان هو المؤهل للحكم - دينًا وسياسة - ، وهو تلميذ الشيخ النجيب الذي تربى على عينه ، قال عنه ابن بشر : " كان عبد العزيز كثير الخوف من الله والذكر ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، يُنفِّذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيماً إذا ظلم فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه، ولا يتصاغر حقيراً ظُلم، فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن... وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية وخصوصًا أهل البلدان ؛ بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم ، والدعاء لهم ، والتفحص عن أحوالهم ..(36/444)
وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشةٍ هنية، وهو حقيق بأن يُلقّب مهدي زمانه، لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال أي وقت شاء، شتاء وصيفاً، يمناً وشاماً، شرقاً وغرباً في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعُمان، وغير ذلك، لا يخشى أحداً إلا الله، لا سارقاً ولا مكابراً، وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب، وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يُسيِّبون جميع مواشيهم في البراري من الإبل والجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مُراعي ..
وكان يوصي عماله بتقوى الله ، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع ، وإعطاء الضعفاء والمساكين ، ويزجرهم عن الظلم ، وأخذ كرائم الأموال " .. الخ صفاته الجليلة - رحمه الله - .
فهل يُراد من الحكم إلا ما فعله هذا الموفق ؟!
وكيف يسوغ للشيخ - رحمه الله - بعد هذا - تقديم غيره عليه ؟!
16- قال الدكتور ( ص 135 ) : " إن الحال قد تغير بعد العهد الراشدي، فصار الخليفة يتصرف في بيت المال بذلاً ومنعاً بلا حسيب ولا رقيب إلا من ضميره، وأصبح له مطلق الحرية في ذلك، وقد بدأ هذا الانحراف منذ العهد الأموي، فقد خطب معاوية في يوم جمعة، فقال : إنما المال مالنا، والفيءُ فيئُنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يَرُدَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال: مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن شهد المسجد، فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياه الله، سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يُردُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة"، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني، أحياه الله، ورجوت ألا يجعلني الله منهم) رواه أبو يعلى الموصلي، ح رقم (7382) وقال في مجمع الزوائد: (رجاله ثقات)، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1790).
قلت : سبحان الله ! هذه الحكاية - لمن تأملها - فيها منقبة لمعاوية - رضي الله عنه - حيث لم ينطبق الحديث عليه ، لأنه لم يرض هذا الأمر لنفسه ، فكيف أصبحت عند الدكتور مذمة ؟!!
17- قال الدكتور ( ص 253) : " غير أن حركة فكرية جديدة بدأت تشق طريقها وتجدد خطابها السياسي بقيادة جمال الدين الأفغاني (1838م- 1897م) المولود في إمارة كنر في أفغانستان من أسرة حسنية علوية شهيرة -وهذا ما أكد المؤرخ الأديب شكيب أرسلان في ترجمته له، وقد التقى أرسلان قبل الحرب العالمية الأولى في الحج أحد أشهر سادات كنر الأفغانية فأكد له أن جمال الدين من أسرتهم، وكذا أكد ذلك جميع سفراء حكومة أفغانستان روجالها للمؤرخ أرسلان- بعد أن رأى ما آل إليه وضع الشرق الإسلامي من ضعف وتشرذم وسقوط تحت سيطرة الاستعمار، وغياب لدور الشعوب عن مجريات الأحداث؛ لجهلها بما يدور حولها، فأشعل جمال الدين شرارة النهضة وصرخ فيها كما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: (في هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، أنه صوت جمال الدين الأفغاني، موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد) شروط النهضة ص22... وكان هدفه الأول: أن يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة آنذاك، كما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس (الأخوة الإسلامية) التي تمزقت في صفين، وبددتها النظم الاستعمارية نهائياً " !!
قلت : لقد اختلطت الأمور عند الدكتور - هداه الله - ؛ بسبب إغراقه في قضية " مواجهة " الاستبداد ؛ مما أداه إلى رفع الأسافل والدفاع عنهم وعن أفكارهم ومحاولة تلميعهم ، عندما وافقوه في هذه الجزئية ، كما فعل هنا مع الأفغاني " الرافضي " " الماسوني " الذي كان هدفه إشعال الثورات في العالم الإسلامي ، لتكون النتيجة في النهاية من صالح الدول الاستعمارية المتربصة ! ، إضافة إلى فساد عقيدته وسلوكه .. الخ مخازيه التي بينها العلماء والكتاب المخلصون الناصحون لأمتهم ؛ ممن لم يغتروا بشعاراته الكاذبة ، ولمن أراد معرفة حقيقة أصله وأفكاره - بالأدلة - فليرجع إلى رسالة " دعوة الأفغاني في الميزان " للأستاذ مصطفى غزال ، ورسالة " المدرسة العقلية " للدكتور فهد الرومي ، ورسالة " العصرانية قنطرة العلمانية " على هذا الرابط :
http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/22.htm
وفيها بيان أن دعوته المسماة زورُا بالجامعة الإسلامية - أو كما يقول الدكتور : الأخوة الإسلامية ! - ما هي إلا دعوة " شرقية " لا تُفرق بين مسلم وكافر !(36/445)
18- ثم قال الدكتور ( ص 267 ) : " إلا أن صدى حركة الأفغاني كان هو السبب الرئيس في بعث روح الأمة من جديد لمواجهة الاستعمار الغربي؛ إذ قام أتباعه في كل مكان يستنهضون همم المسلمين للتصدي له وإخراجه من الشرق الإسلامي، وقامت الثورات في كل مكان، وخرج الاستعمار العسكري " .
قلت : هذا غير صحيح ؛ بل كانت دعوته في مصر سببًا لاحتلال الإنجليز لها !! وتفصيل ذلك على هذا الرابط :
http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/39.htm
19- نقل الدكتور عن مالك بن نبي قوله : " ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من هذا الرجل .. الخ " ، ولم يتعقبه . وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول : " شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا ، وشاءت الأقدار كذا وكذا " ؟
فأجاب : " قول : " شاءت الأقدار " ، و " شاءت الظروف " ألفاظ منكرة ، لأن الظروف جمع ظرف وهو الزمن ، والزمن لا مشيئة له ، وكذلك الأقدار جمع قدر ، والقدر لا مشيئة له ، وإنما الذي يشاء هو الله عز وجل ، نعم لو قال الإنسان : " اقتضى قدر الله كذا وكذا " . فلا بأس به . أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة ، ولا إرادة للوصف ، إنما الإرادة للموصوف " انتهى . "مجموع فتاواه " (3/135) .
20- الدكتور - وفقه الله - يعد كل من " ثار " على الدولة الأموية إنما يريد " الشورى " ! ( ص 146 ومابعدها ) ، لهذا تراه يحتفي بهذه الثورات . ولا أدري أي شورى أقامها العباسيون عندما حكموا ؟!
21- قال الدكتور ( ص 181 ) : " لقد غابت المفاهيم التي تُمثل مبادئ الخطاب السياسي الشرعي المُنزل ، وشاع مفهوم : اسمع وأطع وإن أُخِذ مالُك ، وضُرب ظهرك " ، ثم ضعف الحديث في الهامش . وليته اكتفى بهذا ، لكنه أوهم القارئ أن الشيخ الألباني يرى ضعفه أيضًا عندما اقتصر على ذكر تضعيفه للسند ! ومن رجع للموضع الذي نقل منه الدكتور " الصحيحة ، رقم 1791" وجد الألباني - رحمه الله - يقول بعد هذا : " لكن تابعه نصر بن عاصم الليثي عن خالد به نحوه وفيه " فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه " أخرجه أبوداود وأحمد . قلتُ - القائل الألباني - : وهذا إسناد حسن " انتهى . وتُنظر السلسلة الصحيحة ( 2739) فقد صحح الحديث الأول - أيضًا - .
ولو تنزلنا مع الدكتور في تضعيفه لهذا المتن ، فأين يذهب عن عشرات الأحاديث الآمرة بطاعة ولاة الأمر ، والصبر على جورهم وظلمهم ، طلبًا لمصلحة أعلى ، ودرءًا لمفسدة أعظم ؟! هل سيقدح فيها أيضًا ؟! وأربأ به عن ذلك ؛ لأن هذا من مسالك أهل الأهواء . أو يستجيب لوصية صلى الله عليه وسلم - وإن كان كُرهًا لبعض الأنفس - ، ويعلم أن ثمّ الحكمة والفلاح ؟ ويتهم رأيه ، ولا يُجامل أحدًا في دينه .
22- تعليقًا على ما اختاره الدكتور من حل ، وما جاء في كتابه من " تهييج " على الخروج ومنازعة الحكام ، كتبتُ التالي :
منهج أهل السنة في التعامل مع الحكام
لقد كتب كثير من أهل العلم في هذه المسألة - ولله الحمد - ، وبينوا ووضحوا أن منهج أهل السنة في هذا الباب معتمد على النصوص النبوية الصحيحة الصريحة التي تأمر بالصبر على جور الحاكم المسلم الظالم ، مع عدم ترك النصيحة له ، ونشر الخير بين المسلمين إلى أن يستريح بر أو يُستراح من فاجر ، أو يجعل الله بعد عسرٍ يسرا ، أما الحاكم الذي صدر منه كفر بواح عندهم فيه من الله برهان ، فالواجب تغييره إذا تحقق شرط القدرة . كل هذا وضحه العلماء ، ولم يأتوا به من كيسهم ، إنما التزامًا منهم بأقوال صلى الله عليه وسلم ، وفيها الخير كله ، لا محبة في سواد عيون الحاكم ، الذي جاءت النصوص بترهيبه وإيعاده بالخيبة والخسارة إن هو استمر على ظلمه وجوره .
وليس معنى هذا كما يفهم السذج وأصحاب الأهواء أنهم يرضون عن ظلم الحاكم أو يؤيدونه أو لا يناصحونه ، بل هم أصحاب المواقف المشرفة في بذل النصيحة ، والتحذير من التجاوزات ، ومن شذ عن هذا فإنما هو يمثل نفسه ، وقد جاءت النصوص بالتحذير من فعله .
ومن عاب على أهل السنة طريقتهم الشرعية في التعامل مع الحكام ؛ فإنما يعيب - شعر أو لم يشعر - على نبينا صلى الله عليه وسلم الذي شرع هذه الطريقة ، فهل يستطيع الجهر بهذا ؟!
والعجيب الغريب أن كثيرًا ممن يعيب على أهل السنة طريقتهم - سواء من أهل البدع أو العصريين أو من تأثر بهم - تجده ( واقعًا ) يلتزم بها ، ولا يدعو إلى خروج أو ثورة خشية من المفسدة ( قد تكون المفسدة أحيانًا دنياه ومصالحه ! ) ، ولكنه عند التنظير ينقلب إلى أسدٍ هصور على أهل السنة . فتأمل .
واللوم يعظم عندما يقع في هذا من يعلم أن أهل السنة متبعون لا مبتدعون .
وما أجمل ما قاله الدكتور عبدالله الدميجي في رسالته " الإمامة العظمى " ( ص 548 ) بعدما عرض لطريقة أهل السنة :
" يلاحظ تشديد السلف رضوان الله عليهم في النهي عن الخروج على أئمة الجور بالسيف ، والأمر بالصبر عليهم ، وذلك لما يلي :
أ عملا بالأحاديث الواردة في ذلك كما سبق .
ب- حرصًا على تجنب الفتن وتعريض الأمة لها ، وإراقة الدماء في غير محلها .(36/446)
ج - ومحافظة على هذا المنصب الجليل في الأمة ، التي متى ضعف استهانت بهم أعداؤهم ، ومتى قوي خافتهم وهابتهم .
ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنه الإجلال لأولئك العصاة واحترامهم ، ولا الخوف منهم ، ولا الطمع فيما في أيديهم ، وكسب رضاهم . يدل على ذلك سيرتهم معهم ، وما يلقونه بسببهم من المحن ، وهي مشهورة منشورة ، ومدونة في بطون الكتب " .
وقد أحببتُ أن أذكر هنا كلامًا قيّما لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، يُلخص فيه طريقة أهل السنة في هذا الباب ، ويُحذر من مخالفتها ، رغم أنه ممن ناله الأذى من حكام المسلمين الجهلة الظلمة ، ولكن هذا ليس مسوغًا له أن ينساق وراء العاطفة ، فلا يعدل في هذه المسألة .
قال - رحمه الله - في " منهاج السنة ، 4/527-544 " : " ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان كما قال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقال صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم . ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدا r بصلاح العباد في المعاش والمعاد وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما ، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله ، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه .
فإن الله تعالى بعث رسول صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم ؛ فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى غيره كما يفعله من يرى السيف ؛ فهذا رأى فاسد ؛ فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته ، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء
، وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم ، فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور ، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وُهزم أصحابهم فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة ، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال ، وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم ، وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق ، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين ، والله يغفر لهم كلهم .
وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث : أين كنت يا عامر ؟ قال : كنت حيث يقول الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء .
وكان الحسن البصري يقول : إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإن الله تعالى يقول : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ، وكان طلق بن حبيب يقول : اتقوا الفتنة بالتقوى، فقيل له : أجمل لنا التقوى،فقال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله ، رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة ؛ كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد ، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابته عن صلى الله عليه وسلم ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم ، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين .
ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابته عن صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولي الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور ، ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج ، وغلب على ظنهم أنه يُقتل ، حتى إن بعضهم قال أستودعك الله من قتيل ،وقال بعضهم لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج ، وهم في ذلك قاصدون نصيحته ، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين . والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة ويخطيء أخرى .(36/447)
فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك ، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا ، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول ا صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوما شهيدا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك ، وصار ذلك سببا لشر عظيم ، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن .
وهذا كله مما يبين أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ، ولهذا أثنى صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة .
وأحاديث صلى الله عليه وسلم الثابته في الصحيح كلها تدل على هذا ؛ كما في صحيح البخاري من حديث الحسن البصري : سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال : سمعت صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول : إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيد وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ، وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوبا ممدوحا يحبه الله ورسوله ، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه صلى الله عليه وسلم ، ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن صلى الله عليه وسلم على أحد بترك واجب أو مستحب .
ومما ينبغي أن يُعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده ، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية ، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق وقصده ، فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمة ولا يمكنها دفع ظلمة إلا بما هو أعظم فسادا منه ، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك وأسيد بن حضير رضي الله عنهما أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ قال : ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
.وفي رواية للخباري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، فقال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه ستصيبكم أثرة بعدي
. وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال : على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه
، وفي الصحيح عن صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال:بايعنا رسول ا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
، فقد أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم وأن لا ينازعوهم الأمر ، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ولم يصبروا على الاستئثار،ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات ويبقى المقاتل له ظانا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه إما ولاية وإما مال
كما قال تعالى (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) ، وفي الصحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال :ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل يقول الله له يوم القيامه اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا إن أعطاه منها رضي وإن منعه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطى بها أكثر مما أعطي
.فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة ، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين ؛ فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال : ما من راع يسترعيه الله
رعية يموت يوم وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة
، وأمر الرعية بالطاعة والنصح ، كما ثبت في الحديث الصحيح : الدين النصيحة ثلاثا ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم(36/448)
، وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم ؛ لأن الفساد الناشىء من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر ، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما
، ومن تدبر الكتاب والسنة الثابته عن رسول ا صلى الله عليه وسلم واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الآفاق علم تحقيق قول الله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ، فإن الله تعالى يري عباده آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القران حق ، فخبره صدق وأمره عدل ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) " .
قلتُ : رحم الله شيخ الإسلام . وقد سبق التنبيه إلى أن عدم الخروج أو المنازعة لا يعني الخضوع أو الركون عن الدعوة وتعليم الناس العلم ، ومواصلة " التصفية " لأحوال المسلمين في جميع المجالات ، و " تربيتهم " على أحكام الإسلام ، فبهذا الفعل والجهد المستمر ، سيجد المسلمون العاقبة الحميدة في الدنيا قبل الآخرة ؛ لأن المسلمين إذا صلحوا فإنهم لن يرضوا بغير حكم الإسلام بديلا ، ولن يجد المنافقون لهم مكانًا بينهم . وليس معنى هذا أن يكون المسلمون كلهم كذلك ، لا .. بل يكفي " مجموعهم " ممن يؤثرون في المجتمع ، كما كان الحال في زمن صلى الله عليه وسلم ، رغم وجود المنافين والجهلة .
لماذا اختار معاوية - رضي الله عنه - ابنه يزيد للحكم ؟!
من الأمور التي يحسن عرضها تكميلا لما سبق : الموقف من تولية معاوية - رضي الله عنه - الحكم من بعده لابنه يزيد ، وهو الأمر الذي شنع به عليه خصومه - وما أكثرهم ! - ، بدءًا من الرافضة المخذولين ، ومن تبعهم من الزيدية والمعتزلة والتنويريين والثوريين . فقد جعل هؤلاء من معاوية - رضي الله عنه - شماعة لفشلهم وخيبتهم ، وشنعوا عليه بأبشع العبارات - والعياذ بالله - ، دون خوف أو ورع ، وتفننوا في اختراع الأكاذيب والحكايات الباطلة التي تخدم غرضهم ، ومن لم يكذب ويفتري صدق ونقل دون تمحيص أو تدقيق . وليس هنا مقام عرض أقوالهم الكاسدة .
أما أهل السنة ، فقد حفظوا لصحابة صلى الله عليه وسلم حقهم ، وكانوا واضحين في موقفهم ؛ حيث لم يدعوا العصمة لأحد منهم ، لكنهم عذروا وأحسنوا الظن ، وكفوا ألسنتهم . ودافعوا عنهم وردوا على خصومهم . وهم يعلمون أن معاوية - رضي الله عنه - ليس من كبار الصحابة وأفضلهم ، ولكنهم اضطروا لتكرار الحديث عنه ، لدفع بهتان خصومه ، ولو سكت أولئك لسكت أهل السنة .
وأما في قضية توليته ليزيد ، فقد تفهم أهل السنة الواقع ، والتمسوا له المعاذير اللائقة به ، لاسيما مع عدم وجود النص الشرعي الذي يُحرم تولية الابن بعد أبيه ، مادام سيحكم بالشرع . ورغم هذا فهم وإن عذروه فإنهم ( عند الاختيار ) لا يعدلون بطريقة الخلفاء الراشدين غيرها . وهذا هو الفرق بينهم وبين أهل الأهواء المشنعين دون بينة ولا برهان ولا فهم للواقع أو عذر لأهل الإيمان .
ولتوضيح ملابسات القضية ، وليظهر عذر معاوية - رضي الله عنه - ؛ فإني أورد هنا ما ذكره الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني - وفقه الله - من أسباب دعت معاوية لهذا الفعل ، في رسالته " مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية " ( ص 126-140 ) :
قال : " أولاً: السبب السياسي (الحفاظ على وحدة الأمة) :
يجب أن نعرف أن الظروف التي بويع فيها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك الفترة التي أخذ فيها معاوية البيعة لولده يزيد.
فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يشك أحد في أنه أفضل شخص بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا لم يبرز خلاف في أفضليته وأهليته بالخلافة، فشخصيته تحظى بتقدير واحترام المسلمين، وذلك لقاء ما قدمه من تضحيات، وتحمله الآلام في سبيل هذا الدين.
ثم أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر بن الخطاب، وهو من هو في الفضل والمكانة، ويعرف المسلمون أنه أفضل شخص بعد أبي بكر، ولهذا انعقدت له البيعة وانقاد المسلمون له ولم يخالفه أحد.
ولما أصيب عمر رضي الله عنه أوصى بأن يكون الخليفة أحد الستة المبشرين بالجنة وهم: (عثمان بن عفان - وعلي بن أبي طالب - والزبير بن العوام - وعبدالرحمن بن عوف- وسعد بن أبي وقاص- وطلحة بن عبيد الله) رضي الله عنهم.
وهنا أصبحت الخلافة محصورة في واحد من هؤلاء الستة، حيث كان لهم من الآهلية والفضيلة والسابقة المحمودة في الإسلام، والبشارة لهم بالجنة، ما يجعل الناس تقر لهم، وتعترف لهم بالفضل والسابقة في الدين.
وبعد استشارة واستقصاء لأراء الصحابة رضي الله عنهم، وقع الاختيار على عثمان رضي الله عنه، وذلك باعتباره أفضل المرشحين الستة لخلافة المسلمين، وبرزت الفتنة في أواخر خلافته، وحوصر وقتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه.
وتولى الخلافة من بعده علي رضي الله عنه ولم يجمع الناس على بيعته، حيث برزت التهم الموجهة له ولأهل المدينة بأنهم تواطؤا، أو تساهلوا مع الثوار حتى قتل عثمان رضي الله عنه بين أظهرهم.(36/449)
وكانت بلاد الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه تمثل هذا التيار المعارض، وكان يسيطر على أهل الشام شعور جارف بوجوب الانتقام من قتلة عثمان الذين يمثلون قطاعاً من جيش علي رضي الله عنه، وحدث القتال والفرقة، وقتل من قتل من المسلمين، وهنا ظهرت فرقة الخوارج التي تكفّر المسلمين وتستحل قتالهم، وفرقة الشيعة التي بدأت تغالي في علي وأبنائه رضي الله عنهم.
وأمام هذا التغيّر في بعض معتقدات وأفكار فئة من المجتمع الإسلامي، حتمت الظروف وواقع المجتمع -في تلك الفترة- على معاوية أن يعيد النظر ويتبصر فيمن سيكون خليفة للمسلمين من بعده .
فأهل الشام الذين انتصروا لقتل عثمان رضي الله عنه أثبتوا أنهم أناس مخلصون لمبادئهم وأهدافهم، لهذا حقق بهم معاوية -بإرادة الله- انتصاراته على أهل العراق.
وأهل العراق الذين ينضوي تحت قبائلهم الثوار المتهمون بقتل عثمان رضي الله عنه لم يربط بينهم روابط دينية محددة، فيوجد في صفوفهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين، ويوجد الشيعة التي تبلورت لديهم نظرة متطرفة حول الإمامة، وأصبح البعض منهم يرى أن الخلافة إنما هي قصر على آل البيت دون سواهم، وأصبح مذهبهم يميل إلى السرية ، علاوة على كثرة أهل الشقاق، ومحبي الفتن في هذا الإقليم، والذين كانوا أحد الأسباب في خذلان علي رضي الله عنه، وكانوا مصدر أذى وبلاء عليه وعلى أبنائه من بعده .
وأما أهل الحجاز، ففيهم الصحابة وكبار التابعين، أهل الفقه والراسخون في العلم ويعتبر الحجاز في تلك الفترة المكان الذي يمثل الإسلام أحسن تمثيل، فلا يوجد فيه أصحاب العقائد الفاسدة، ولم تظهر فيه المنكرات والبدع، وكانت بيئة أهل الحجاز بيئة علم ودين وتقى لوجود الصحابة وأبنائهم في كل من مكة والمدينة.
ويبرز من أهل الحجاز أبناء الصحابة الكبار أمثال الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، كأفضل المرشحين ليتولى أحدهم الخلافة بعد معاوية رضي الله عنهم .
وهنا يبرز سؤال ملح وهو، لماذا إذاً لم يرشح معاوية أحداً من هؤلاء الأربعة ؟
وللإجابة على هذا السؤال فإنه يلزمنا الرد على سؤال آخر يطرح نفسه: وهو من هم أهل الحل والعقد الذين يمكن لهم اختيار الخليفة ومن ثم مبايعته ؟
ولكي لا نبعد عن الحقيقة يمكننا أن نقول: إن تطبيقات النظام السياسي في الإسلام لم تأخذ حقها من الممارسة الطويلة حتى تتضح الصورة بجلاء حول اختيار الخليفة؛ والخلافة وما يتعلق بها من أحكام.
فمن هم أهل الحل والعقد في عهد معاوية؟ أتراهم أهل الشام الذين يمثلون الثقل السياسي والعسكري والقيادي في الدولة؟ أم هم أهل الحجاز؟ وهل يدخل في نطاقهم الأنصار وغيرهم، أم هم قريش فقط ؟
ومن أهل الحل والعقد في العراق، أتراه الأمير المعين من قبل الدولة وأمراء الجند؟ أم هم زعماء القبائل العربية مع ما يمثلون من اختلاف في مشاربهم واتجاهاتهم ؟
ومن يا ترى أهل الحل والعقد في مصر، هل هم العثمانية الذين برزوا كقوة مناصرة لمعاوية وأهل الشام أثناء النزاع بين علي ومعاوية؟ أم يكونوا أمراء الجند ومن ينضم معهم من عليه القوم هناك ؟
في الحقيقة إننا لا نستطيع أن نحدد بدقة أهل الحل والعقد في كل بلد؛ ومن ثم يبدو افتراض أن معاوية سينجح في جمع الكلمة على رجل واحد أشبه بالمستحيل.
فأهل الشام ينظرون لأهل العراق كموطن للثوار الذين اغتالوا عثمان، وليس من المعقول أن يتنازل أهل الشام عن مكاسبهم ومبادئهم التي قاتلوا من أجلها وهي نصرة الخليفة المظلوم والأخذ بثأره .
فكيف يمكن لأهل الشام أن يسمحوا بترشيح شخص يحظى بدعم أهل العراق.
وأهل المدينة خصوصاً وأهل الحجاز عموماً ينظر الشاميون لهم على أنهم يشتركون اشتراكاً فاعلاً في تحمل المسؤولية عن قتل عثمان رضي الله عنه، فقد حوصر أكثر من شهر ثم تسور الثوار المنزل عليه وقتلوه بين أظهر أهل المدينة، فإذاً ليس من المعقول -حسب نظرة أهل الشام- أن يقبلوا بمرشح من أهل المدينة.
هذا تقريب لنظرة أهل الشام لمن سيكون مرشحاً للخلافة من هذه الأقاليم.
ولا تبعد كثيراً نظرة أهل العراق عن نظرة أهل الشام فيمن سيكون خليفة بعد معاوية رضي الله عنه . أهل العراق يؤيدون بقوة الحسين بن علي رضي الله عنه، ومن الصعوبة أن يقتنعوا بشخص آخر يحل محله .
ثم إن الأشخاص المرشحين لن يحظوا بتأييد كامل من أقرانهم، فالأمويون لا يرغبون في تحول الخلافة لشخص من غيرهم، فهم أكبر قبيلة في قريش، وهم أهل السيادة والإمارة، كما أنهم على خلاف مع بعض أبناء الصحابة في المدينة.
ثم إن نفس المرشحين للخلافة الذين يفترض أن الخلافة ستنحصر في أشخاصهم لم يجمعوا أمرهم على شخص بعينه، بل إن كل واحد منهم يرى في نفسه الأحقية والآهلية التي تجعل منه خليفة للمسلمين .
وحتى ابن عمر رضي الله عنه الذي ربما اجتمعت عليه الآراء، ويجمع غالب المسلمين على ترشيحه، موقفه من الخلافة معروف، وهو من أزهد الناس فيها .(36/450)
وحسماً للخلاف الذي ربما أدى بالأمة إلى نزاعات جديدة، وفتح ثغراث في كيانات الدولة، نظر معاوية إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة. وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة رحلته الأخيرة للحج، إذا كان الدافع لمعاوية رضي الله عنه عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل .
ثانياً: السبب الاجتماعي (قوة العصبية القبلية) :
لقد خاض معاوية رضي الله عنه الحرب، وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية ومحبة لنبي أمية.
كانت عندهم نظرة متأصلة تجاه أهل المدينة وأهل العراق، بأنهم السبب في قتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه .
هل كان أهل الشام يرضون بأن يتولى الخلافة أحد غير بني أمية، بالمقابل هل سيرضى كثير من أهل العراق أن يتولى الخلافة رجل من غير آل البيت؟ لقد كان هناك شعور قوي بأهمية بقاء الخلافة في بني أمية، وفي بلادهم.
فمثلاً لما بايع بعض أهل الشام لابن الزبير اعترض كثير من أشراف أهل الشام على ذلك وقالوا: إن الملك كان فينا فينتقل إلى أهل الحجاز لا نرضى بذلك.
وكانت الدولة الإسلامية في بدايتها - أي في عصر الخلفاء الراشدين - يسيطر عليها الوازع الديني ، إلا أنه منذ خلافة معاوية كانت العصبية قد قويت، والوازع الديني قد ضعف في النفوس واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
إن نظرة ابن خلدون هذه واستنتاجه لجدير بالاحترام والتأييد، وخصوصاً وأن ابن خلدون خاض الحياة السياسية ودخل في غمارها، فاستنتاجه هذا مبني على تجربة، هو أدرى بظروفها ونتائجها.
وبالذات فإن منعطفات السياسة، يكتنفها في الغالب الغموض وعدم الوضوح، فليس بوسع أي شخص أن يدرك هذه الحقائق منذ الوهلة الأولى.
ثم لا ننسى قوة قبيلة كلب من حيث الوجود والكثرة بين قبائل أهل الشام، وهم أخوال ليزيد.
وإذا أردنا أن نميز قوة القبيلة وبالذات قبيلة كلب، ودورها في تقرير السلطة، لنتذكر ما عمله حسان بن مالك بن بحدل سيد قبيلة كلب وهو من أخوال يزيد، هذا الزعيم القبلي هو الذي شد الخلافة لمروان بن الحكم فيما بعد.
ويذهب إبراهيم شعوط إلى إعذار معاوية فيما اتخذه من العمل على أخذ البيعة ليزيد فيقول: "لما كانت العصبية والقوة في بني أمية، فقد أصبح تصرف معاوية بتولية يزيد أمراً طبيعياً يقره المنصفون ويحرص عليه العقلاء".
ثم إنه من الناحية العلمية كان نقل الخلافة من الأمويين إلى غيرهم في ذلك الوقت مطلباً يكاد يكون مستحيلاً، فالولاة على الأقاليم كانوا من بني أمية أو من أتباعهم، وإسناد الخلافة إلى أحد من أبناء الصحابة في الغالب هو عزل لهؤلاء الولاة، وقد يرفض البعض قرار العزل، ثم ستتكرر معارك الجمل وصفين على نطاق واسع.
ومن الدلالة على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية، أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله عام 73 رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لابن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه معصب بن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان ، فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته ؟ بل نجد العكس: أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين.
ثالثاً: أسباب شخصية في يزيد :
لقد تجلت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام، والقدرة على القيادة، هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير.
وليس معاوية ذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره، وهو يسوس الناس، ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته.(36/451)
لا شك أن الصحابة وأبناءهم أفضل من يزيد وأصلح، ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لم تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه، ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل، وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: "كنت والله يا أبة عاملاً عمل عمر بن الخطاب".
لقد كان معاوية رضي الله عنه يدرك أن كثيراً من المزايا موزعة بين الشباب القرشي، وأن هذه المزايا مع تلك الطموحات الشخصية التي ظهرت فيما بعد ربما تدخل الأمة في حروب وفتن كثيرة، فمع أن يزيد يشارك بعضهم في بعض ما يمتازون به إلا أنه يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أي القوة العسكرية.
بيد أن معاوية يرى هذا التدبير على ما فيه من غمط حقوق الكفاءة للخلافة أضمن لسلامة الدولة، وتتقى به شرور قد تستطير بين الناس كلما مات لهم خليفة، أو قوي أعداؤه فأرادوا استلاب الخلافة منه، ويخشى إذا ظل المسلمون على تناحرهم، أن يجمع أعداؤهم شملهم، ويعيدوا الكرة عليهم في صميم جزيرة العرب، والله أعلم ما تكون النتيجة على الإسلام والمسلمين.
ولايُتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمور على النظر لهم في حياته، فأحرى أن لا يحتمل فيها تبعته بعد مماته، خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصص التهم في الولد دون الوالد.
فإنه بعيد عن الظن في ذلك كله، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة، أو توقع مفسدة، فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب.
قال ابن بطال: "وعقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده جائز على عامة المسلمين لإطباق الصحابة ومن معهم على العمل بما عهده أبو بكر لعمر، وكذا لم يختلفوا في قبول عهد عمر إلى الستة: وهو شبيه بإيصاء الرجل على ولده لكون نظره فيما يصلح أتم من غيره فكذلك الإمام"
لقد كان ابن عباس يشهد ليزيد بالفضيلة، وبايعه، وكذلك بايعه ابن عمر، ولم يبق إلا الحسين بن علي الذي كان رضي الله عنه يغرر به أهل الفتن في حياة معاوية، ونهاه الحسن عنهم، وعزم على الذهاب لهم بعد وفاة معاوية، وقد حذره الصحابة ونهوه عن ذلك فأبى عليهم وحدث ما حدث.
أما ابن الزبير رضي الله عنه عنه فكان معاوية يحذره من تصرفاته، ثم تمنى أخيراً بعد الحصار أن معاوية حياً فيخلصه مما هو فيه، وندور المخالف معروف.
معاوية رضي الله عنه وولاية المفضول مع وجود الفاضل .
لقد عدل معاوية عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، ولا يظن بمعاوية غير هذا ؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.
لقد كان النجباء من أبناء الصحابة كثير، منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير والحسين بن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم ، ولم يكن أبناء الصحابة فيما بينهم يجمعون على شخصية واحدة، فهذا ابن عباس لم يبايع ابن الزبير بعد وفاة يزيد بن معاوية ومبايعة كثير من الأقطار له. بل كان يوجه إليه الانتقادات ويلومه في بعض أعماله.
وكذلك محمد بن الحنفية، وابن عمر لم يبايعا ابن الزبير، إذاً فمن الذي يضمن تراضي جميع الأطراف على شخصية واحدة؟!
لقد اشترط الفقهاء شروطاً عديدة فيمن يصلح للإمامة من ضمنها القرشية، والاجتهاد، والعدالة، والعلم والقوة، والسياسة، والحنكة، وحسن التدبير وغيرها.
ويروى عن الإمام أحمد إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل.
والذي يظهر من سيرة عمر في عمّاله الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فلأجل هذا استخلف عمرًا ومعاوية والمغيرة بن شعبة، مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم، كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة.
ويروى عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأبعث الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، ولكن لعله يكون أيقظ عيناً وأشد بأساً أو قال مكيدة".
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب مع أنه أحياناً يعمل ما ينكره صلى الله عليه وسلم وكان أبو ذر أصلح منه في الأمانة، والصدق، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحبُ لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم".
فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه يراه ضعيفاً.
وكذلك استعمل أبو بكر خالد بن الوليد، مع أنه يرى منه هفوات، ولم يعزله من أجلها ، بل ذلك لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
ونزع شرحبيل بن حسنة وقال: "تحرجنا من الله أن نقرك وقد رأينا من هو أقوى منك".(36/452)
وعن ثابت مولى سفيان قال: سمعت معاوية وهو يقول: "إني لست بخيركم وإن فيكم من هو خير مني: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأعلمكم ولاية، وأحسنكم خلفاً".
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها .
"سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر".
ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فبه يحصل مقصود الإمامة، وينتفع الناس بولايته، ويشملهم الأمن والدعة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم، وحرمهم، وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً ؛ فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه.
وقال الجويني: "والذي صار إليه معظم أهل السنة أن يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا أن يكون في نصبه هرج وهيجان فتن، فيجوز نصب المفضول، إذا كان مستحقاً للإمامة، كيف ولو تقدم المفضول في إمامة الصلاة لصحت الإمامة".
وهكذا يتضح لنا من خلال النصوص السابقة أن ولاية المفضول ثابتة وجائزة شرعاً.
ويزيد بن معاوية لا شك أنه مفضول وليس بالأفضل مع وجود كبار الصحابة وأبنائهم رضي الله عنهم، ولكن هناك بعض الأسباب التي حاولنا مناقشتها والتي ظهرت لنا من عزم معاوية على تولية يزيد، وأيضاً هناك بعض الأمور التي قد تخفى علينا والتي من أجلها أكد معاوية بيعة يزيد " . انتهى . وتُنظر - أيضًا - : رسالة " العالم الإسلامي في العصر الأموي " للدكتور عبدالشافي محمد عبداللطيف ، ص 129-
أما المواجهة الأخوية مع الدكتور فتجدونها على ( هذا الرابط )
============(36/453)
(36/454)
الحوار الإسلامي ... بين الدواعي والمعوقات
تحقيق أعده
محمد بن شاكر الشريف
خباب بن مروان الحمد
في عالمنا المعاصر ولأسباب كثيرة تهتم العديد من الدوائر بالحديث عن الحاجة إلى الحوار الإسلامي النصراني؛ أملا في التقريب بين الرسالتين، تمهيدا لتوحيد الأتباع في دين واحد يجمع بين الإسلام والنصرانية، وتجند لذلك هيئات ومؤسسات وتنفق في سبيل ذلك الكثير من الأموال، لإعداد البحوث والدراسات بحثا عما يدعونه من القواسم المشتركة تحت مسمى الإيمان بوجود إله خالق في مواجهة من ينكرون وجود الله، وذلك من خلال فعاليات كثيرة من المؤتمرات والندوات والبيانات المشتركة، ورغم ما يبذل من جهود ضخمة لإنجاح هذه المؤتمرات والندوات إلا أنها خائبة وخاسرة، لأنه لا يمكن حدوث تقارب حقيقي إلا إذا دخل الكفار في دين الله تعالى، وأما الخطوات التي يخطوها كلا الطرفين للالتقاء في منتصف الطريق كما يزعمون فإنها تبعد المسلم عن دينه حتى يكاد يخرج منه ولا تدخل الكافر في دين الإسلام، والذي ينبغي أن تتجه إليه الهمة والجهد الحقيقي هو التقريب والتوفيق بين العاملين لدعوة الإسلام، لأن المسلمين في حاجة حقيقية لمثل هذا الجهد في واقعنا المعاصر، نظرا لما تتعرض له أمتنا الإسلامية من هجمة صليبية شرسة، ثم هو جهد يبذل وينتج عنه ثمرة حقيقية، لأن عوامل نجاحها موجودة في الإسلام نفسه الذي يعمل له الدعاة، من هنا فكرت مجلة البيان في البحث في الحوار الإسلامي الإسلامي بين أطراف إسلامية تعمل لهذا الدين، تجمعها أطر عامة وكليات ثابتة، وإن حدث نوع من الاختلاف فيما دون ذلك، بغية إحداث تجانس أو تقارب فكري ومنهجي بين الجميع، ينتج عنه عمل يصب في صالح دعوة الإسلام، وقد تحصل لدينا العديد من المحاور والأسئلة التي تخدم هذا الحوار، والتي تدور حول جدوى البحث عن التقارب في ظل النصوص التي يفيد ظاهرها قدرية الاختلاف، وأهمية التقارب الفكري والمنهجي ومدى مساهمته في إحداث التجانس والتعاون والتكامل بين الحركات الإسلامية، وما القواسم المشتركة التي يعمل من خلالها التقارب الفكري، وما خطة العمل الناجحة التي يسير عليها التقارب بين الحركات الإسلامية، والضوابط التي ينبغي مراعاتها في ذلك، كما تطرقت المحاور إلى المعوقات سواء منها الداخلية النابعة من ذاتنا وبيئة العمل، أو الخارجية القادمة إلينا التي تقف في سبيل الحوار والتقارب، فجمعنا العديد من هذه الأسئلة وتوجهنا بها إلى جمهرة كبيرة من العلماء والدعاة في مختلف الأقطار الإسلامية فكان هذا التحقيق :
شارك في هذا التحقيق من أهل العلم والدعاة (بحسب الترتيب الهجائي) الشيخ أحمد فريد من مصر، الشيخ تيسير عمران من فلسطين، الشيخ حامد البيتاوي من فلسطين، الأستاذ حسن يوسف من فلسطين، الأستاذ جمال سلطان من مصر، الدكتور خالد الخالدي من فلسطين، الأستاذ خالد حسن من الجزائر ، الشيخ رفاعي سرور من مصر، الدكتور سفر الحوالي من السعودية، الشيخ سليمان أبو نارو من السودان، الدكتور صلاح الخالدي من الأردن، الشيخ عبد الله الغنيمان من السعودية، الدكتور عبد الله وكيل الشيخ من السعودية، الدكتور عبد الرزاق مقري من الجزائر، الدكتور عثمان جمعة ضميرية من سوريا، الدكتور عمر الأشقر من الأردن، الدكتور كسال عبد السلام من الجزائر ، الشيخ كمال الخطيب من فلسطين، الشيخ محمد حسان من مصر، الدكتور محمد العبدة من سوريا، الدكتور منير محمد الغضبان من سوريا، الدكتور همام سعيد من الأردن
جدوى البحث عن التقارب
البيان:
هناك من ظواهر النصوص ما يدل على قدرية الاختلاف فهل البحث عن التقارب يعد نوعا من الجري وراء ما لا يمكن إدراكه أو الحصول عليه، أم أن هذه النصوص لها تفسيرات بحيث تلتئم مع النصوص التي تحض على الاعتصام بحبل الله جميعا وعدم التفرق في الدين، بمعنى آخر نريد ضبط العلاقة بين النص القدري والنص التشريعي.
المشاركون:(36/455)
يقرر الشيخ الدكتور سفر الحوالي أن دفع القدر بالقدر من عقيدة أهل السنة والجماعة، والذي أخبرنا بالافتراق أمرنا بدفعه بالاجتماع وأرشد إلى أسبابه ووسائله، والفكرة نفسها يقررها الدكتور محمد العبدة فيقول : يجب أن توضح التفرقة بين القدر الكوني والقدر الشرعي فإذا كان التفرق واقعا فعلا كما جاء في الأحاديث فإننا مأمورون شرعا بالابتعاد عن التفرق ومأمورون بالتعاون على الخير، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله، والفكرة نفسها أيضا يدندن حولها الشيخ كمال الخطيب فيذكر أن علينا أن ندفع قدر الاختلاف بقدر الوحدة والتجمع والالتقاء والتقارب تماما مثلما ندفع قدر الداء بقدر الدواء، ويقول الدكتور همام سعيد :إذا كان الخلاف سنة من سنن الله تعالى في خلقه فإن الاتفاق والاتحاد والعمل على إزالة الخلاف وأسبابه فريضة لقوله تعالى:"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، ويتطرق الشيخ أحمد فريد إلى قضية مهمة وهو أن القدر الكائن لا يحتج به على ترك المشروع المطلوب، فالواجب على ذلك السعي وراء التعاون وجمع الكلمة على الحق ولا يجوز ترك ما جاء به الأمر احتجاجا بالقدر وتسليما بالأمر الواقع، وبنحو مما تقدم يقرر الأستاذ خالد حسن أن التدافع سنة الله تعالى في الكون وعلينا أن ندفع قدر الاختلاف بقدر التقارب ولا تعارض بين الأمر الكوني والأمر الشرعي لأن الله تعالى لم يتعبدنا بما لا نطيق، ويرى الدكتور عثمان جمعة ضميرية أن الخلاف إذا كان في جوانب تدخل تحت الإرادة وإذا كان فيما لا ينبغي أن يكون فيه خلاف واختلاف فإن هذا ينبغي الدعوة إلى إزالته ورفع أسبابه ليعود الأمر إلى الاتفاق، وكذلك يري الدكتور عبد الرزاق مقري أن الاختلاف ظاهرة بشرية أي أنها حتمية لا فكاك منها، لكن التفرق مع ذلك مذموم، ما يعني العمل على دفعه، ويرى الدكتور صلاح الخالدي أن الخلاف قدري فلم يخلق الله الناس على نموذج واحد وإنما خلقهم متفاوتين، وكل إنسان نموذج خاص في عقله وفكره، و أن هذا الاختلاف إنما لضرورة تحقيق الخلافة في الأرض-وليس للتنازع والشقاق- فلا تعمر الأرض إلا بالتدافع والتزاحم بين هذه النماذج، لكن هذا التنوع والتدافع لا بد أن ينتج عنه الاختلاف بين الناس، فالاختلاف قدري لا بد أن يقع وهذه سنه الله التي لا تتخلف، ومع تأكيده على قدرية الاختلاف لكنه أيضا يؤكد على أن القرآن دعا المسلمين في آيات كثيرة إلى الاتفاق والتعاون ونهاهم عن التنازع والتفرق فالله الذي جعل الاختلاف قدريا بين المسلمين "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" هو نفسه الذي أمرهم بالاعتصام بحبله ودعاهم إلى التعاون والتنسيق "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، ويذهب الشيخ تيسير عمران إلى أنه لا يصح التذرع بقدرية الاختلاف لأن التذرع بالقدر شأن من لا يريد العمل، ويذكر أن النصوص تدعو إلى الوحدة وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأن المسلمين مكلفون دفع الاختلاف والفرقة والأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ويرى الشيخ سليمان أبو نارو أن السعي والبحث عن التقارب والاجتماع فريضة شرعية قد نص عليها الكتاب والسنة وتواترت في إجماع الأمة وقد توعد الله أهل التفرق بما توعد به أهل الكبائر، فلا وجه أن يكون الدعوة إلى التقارب دعوة إلى ما يستحيل وقوعه، فنحن مأمورون بأن ندفع قدره الكوني بقدره الشرعي جهد الطاقة والوسع، وقد بين أهل العلم أن النصوص الواردة في كل من الإرادة الكونية والإرادة الشرعية مجتمعة ومتسقة وأن الإرادة الكونية لا تعني سوى المشيئة المطلقة القائمة على العلم السابق وهي واقعه لا محالة، كما أن الإرادة الشرعية تعني ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح وبيان ما يبغضه وينهى عنه من الكفر والعصيان، ويذهب الشيخ عبد الله الغنيمان إلى أن الله تعالى خلق بني آدم متفاوتين في الأفكار والأفهام والاتجاهات والميول وكل ذلك من دواعي الاختلاف قال تعالى:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فهو يقرر بذلك قدرية الاختلاف، لكنه يبين أن أهل السعادة هم أهل الائتلاف فهم غير مختلفين، وأما أهل الشقاوة فهم أهل الفرقة والاختلاف، ثم يقرر أن الخلاف على ذلك قسمين :اختلاف على الرسل وما جاءوا به فهو المهلك لأهله، واختلاف من أجل تفاوت العلم والفهم، وهذا لا حرج فيه إذا لم يتخذ سبيلا للبغي والعدوان وجعل مسوغا للفرقة والمعاداة، وبهذا يثبت أن التقارب والتآلف أمر ممكن وقريب بل هو مأمور به وواجب ولا يمكن أن نؤمر ونكلف بالممتنع ولكن الوصول إليه يحتاج إلى جهد وعمل باستطاعة المسلم إدراكه وتحصيله، ويذكر الدكتور منير محمد الغضبان أن قدرية الاختلاف ليست بالنسبة للمؤمنين إنما بالنسبة للبشر بشكل عام "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" والاختلاف بين المؤمنين في الخط والمنهج هو خلل في التربية وليس قدرا مفروضا عليهم، والأصل أن يفيء المؤمنون عامة والدعاة خاصة إلى كلمة سواء، وإلى نحو من ذلك يذهب(36/456)
الأستاذ جمال سلطان حيث يذكر أن الخلاف ليس قدريا وإنما هو اجتهاد بشري تحكمه خبرات الواقع وزوايا النظر إلى الأحداث وأولويات التصور عند كل طرف، فهذه التي تسبب الخلاف بين تيارات العمل الإسلامي، ويرى الدكتور عمر الأشقر أن الخلاف الذي يذكره القرآن أنواع الأول :خلاف في أصل الدين كالخلاف مع اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والبهائيين وأضرابهم، والنوع الثاني :الخلاف القائم بين الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة والشيعة الذين أصلوا أصولا تجمعوا عليها خالفوا بها أهل السنة والجماعة، والنوع الثالث :الاختلاف في الأحكام وهو الخلاف المذهبي، والخلاف القائم اليوم بين الحركات الإسلامية ليس واحدا من هذه الثلاثة بل هو اختلاف رأي واختلاف منهج، ويمكن أن يكون من نوع الخلاف المقبول، ومن الممكن لهذا النوع أن يتراجع أو يزول لو تواصلت قيادات العمل الإسلامي فيما بينها وجلسوا للحوار متآخين متحابين، ، وأما الشيخ رفاعي سرور فيرى أن الاختلاف ظاهرة فكرية، ولكن له حقيقية قدرية وهي أن الاختلاف عذاب، وأن العذاب يرفع بموجبات الرحمة، فتصبح موجبات الرحمة سببا لمعالجة الاختلاف، قال تعالى :" ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" ومن موجبات الرحمة الدعاء وذكر الله وقراءة القرآن ومدارسة العلم فهذا كله من أسباب رفع البلاء، وهذه ليست مسألة رقائق ولكنها حقيقة منهجية صحيحة مهمة جدا.
أهمية التقارب الفكري والمنهجي ودور الحوار في تفعيل ذلك:
البيان :
يتبين مما تفضل به الأخوة المشاركون أن الاختلاف بين الحركات الإسلامية-سواء قيل بقدريته أو عدمها-ليس مسوغا للتفرق والتشرذم، لأننا مأمورون باتباع الشرع الذي أمر بالجماعة ونهى عن التفرق، وهذا يعني إمكانية الاتفاق والالتقاء على كلمة سواء، وهو ما يجعلنا نبحث في توحد أو اتحاد هذه الحركات، لكن قد يكون اجتماع الحركات كلها في جماعة واحدة هدفا بعيد المنال في ظل ظروف الدعوة المعاصرة لأسباب كثيرة منها الداخلي ومنها الخارجي، لكن هذا لا يعني التقاعس عن محاولة الوصول إلى ذلك، ولا ينفي أيضا أهمية السعي لإحداث التقارب الفكري والمنهجي الذي يعد أحد أهم السبل التي تعين على الوحدة أو الاتحاد،
المشاركون:(36/457)
يقرر الدكتور عمر الأشقر أن الحوار مهم جدا لتحقيق التقارب والتجانس بين تلك الحركات ويضع لتحقيق ذلك قيدا مهما بقوله :إذا أحسنوا العرض والحوار والاستدلال والبيان، فبذلك تصقل الملكات وتوضح المشكلات ونتقدم خطوة إلى الأمام، ويؤكد الدكتور منير محمد الغضبان أننا لا نطمح إلى وحدة بين الحركات الإسلامية لكن يجب أن نطمح إلى اتحاد بينها، وطريقه هو البحث عن التقارب من خلال الحوار ثم التنسيق ثم الاتحاد، فالاتحاد يتميز عن الوحدة بأن فيه محافظة على الكيان الخارجي لأي تنظيم إسلامي، مع تنازله عن بعض خصوصياته للمصلحة الإسلامية العليا، ويؤكد أن هذا لن يتم بدون الحوار بين هذه الحركات، ويذكر الدكتور عثمان جمعة ضميرية أن الاتفاق الكامل والتقارب الفكري ووحدة الأمة والعاملين في الدعوة كل هذا مما تحسن الدعوة إليه وبذل الجهد في سبيله، فالنية لا بد أن تتجه أولا إلى تلك الوحدة وذلك الاتفاق، لكن الوحدة أو الاتحاد لا تعني أن يكون الجميع نسخة واحدة، وإنما يكفي اتفاقهم على قاسم مشترك أعظم يلتقون عليه فيكونوا أمة واحدة في الغاية والهدف وفي الفكر والشعور، وفي السمات المميزة لهم، وذلك يمكن الوصول إليه بتوحيد منهج التلقي حتى يعصمهم من التفرق والشتات بما ينشئ من تصورات ثابتة وبما يضع لهم من موازين وقيم لا تتأثر بزمان معين أو مكان محدد، ويبين الدكتور وكيل الشيخ أن الحوار مهم لأن الإنسان مهما بلغ من العلم فهو في حاجة إلى أن يستنير برأي غيره، ويعدد فوائد الحوار بأنه مهم في اكتشاف الحق كما أنه مهم في اكتشاف فهم المخالف بما يعين على توجيهه أو تصحيحه، وهو مهم لإزالة أو تقليل كثير من صور البغي والعدوان بين المتخالفين، وهو مهم لرسم سياسة التعاون بين الهيئات والمؤسسات الإسلامية إذ به تتضح المناهج والقدرات ومجالات العمل فيتم التنسيق المثمر، ثم هو في النهاية صورة من صور النصيحة التي يجب أن يبذلها المسلمون لبعضهم، أما الدكتور همام سعيد فيوضح القضايا المهمة التي من شأنها أن تسهم بشكل فعال في إنجاح الحوار وهي الاعتراف بأن الخلاف سنة من سنن الله في خلقه،والاعتراف بأن العمل على الاتفاق فريضة من فرائض الدين لتحقيق مفهوم الأمة الواحدة، والرجوع إلى الأصول وعدم الجدل في الفروع، والانطلاق من نقاط الاتفاق لا نقاط الاختلاف، والانطلاق من المقاصد لا من الوسائل، ويلخص الشيخ كمال الخطيب أهمية الحوار بقوله من أجل اختصار المسافة بين صواب المصيب وخطأ المخطئ فليس من سبيل إلى ذلك إلا الحوار وتقليص نقاط التباين، مع تصحيح القصد بابتغاء وجه الله تعالى، ويرى الأستاذ جمال سلطان أن الحوار مطلب شرعي وهو المنوط به فهم كل من المتحاورين منطلقات الآخرين ومسوغات مواقفهم، وعندما يغيب الحوار تتحول الأمور إلى الهواجس والظنون والشكوك والتصدعات وهذا هو الخطر، فالحوار يزيل هذه الهواجس والظنون، لكن في المقابل لا ينبغي أن يتصور أحد أن الحوار لابد أن يتمخض عن وحدة في الصف الإسلامي، أو عن اتفاق كامل شامل بينهم، فالمطلوب من الحوار أن يتمخض عنه الالتقاء في مناهج العمل، وإن لم يتمخض عنه ذلك، فلن يخلو الحوار من الخير.(36/458)
ويذكر الشيخ أحمد فريد بأن الواجب على أهل العلم النصح للأمة والسعي إلى الاجتماع ونبذ الفرقة لأن الاجتماع سبيل النصر بينما الفرقة سبيل الفشل وذهاب القوة "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"ففي التقارب روح المودة وعود المخالف إلى الحق، ولا شك أن الحوار والنصح من أسباب الوصول إلى ذلك، ويقدم الدكتور كسال عبد السلام نظرته للحوار من أنه السبيل لتوسيع المدارك فيذكر أن مجال التقارب يكون أكبر كلَّما احتلت السعة في الفكر ثم في المنهج في مختلف التنظيمات مساحة أكبر وحيزاً أوسع يفضي إلى زوال العقبات والفواصل، وليس ثمَّة مجال إلى توسيع المدارك غير الحوار الفكري الصحيح ، وقالبه السليم الموصول بخلق السعة في القلوب والنفوس حتى تصل المعاني إلى المدارك لتُفْحص ، فيتقبل الطرفان منها ما يقوى ويرفضا ما يضْعُف، دون شعور بنقص ولا عقد، وتحررا من الالتزام بمنطق الغالب والمغلوب، ويشير الدكتور كسال إلى قضية مهمة وهو أن الرغبة في الوحدة أو التقارب لا ينبغي أن تكون بابا ينفذ منه من يريد الإخلال بالانسجام السلوكي في المجتمع الإسلامي ليكون الجري وراء الوحدة المظهرية هو أهم ما يُحرَص عليه، بينما يترك المضمون الذي هو الأساس في صلابة البناء العام، وينظر الأستاذ خالد حسن إلى أهمية الحوار وضرورته من خلال أمرين :الأول اشتراك الجميع في توجه الأمر إليهم بطلب الحق والصواب والعمل به وهذا لا يتم على النحو المأمول إلا بالحوار، والثاني أنه ليس بمقدور المتصدر للرأي وصناعة القرار-مهما علا قدره-أن يوفق للصواب منفردا في كل حين وآن، وهذا ينطبق على المجوعة أو الجماعة أو التنظيم كما ينطبق على الفرد، لأن الجماعات والتنظيمات يغلب عليها التطابق والتماثل فيصير حوارها حوارا داخليا لا مشاركة فيه للغير، ما يدل على أهمية الحوار وضرورته في إشراك الغير في الرأي والنظر طلبا للحق ووصولا إلى الصواب، ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن التقارب الفكري والمنهجي هو سبيل الوحدة والتعاون بين الحركات الإسلامية، وان هذا التقارب ممكن أن يأتي من خلال الحوار الدائم، ويقترح لتحقيق ذلك أن يتم الاتفاق على منهج عام في تحليل الأحداث، وترتيب العلاقات بينهم والعلاقات مع غيرهم، وما الذي يجب تقديمه وما الذي يجب تأخيره؟، وما المفاسد التي يجب أن تدرأ أولا؟، وما المصالح التي تمنح الأولوية في السعي لتحقيقها؟، وما المساحات التي يجب التقارب فيها؟، وما القضايا التي لا بأس أن يختلفوا فيها؟، وهو مع ذلك يؤكد أن الاتفاق الكامل غير ممكن ، فالاختلاف الفكري موجود داخل الجماعات، والحركات الواحدة، كما أن الاندماج أمر بعيد المنال، ويذكر أنه سعى في بداية الثمانينات لعدة سنوات مع عدد من الدعاة الأفاضل بهدف تحقيق الاتفاق الكامل والاندماج لكنه أدرك بالتجربة أن الهدف غير واقعي ولا بد من الاهتمام بالقواسم المشتركة، وأما الشيخ سليمان أبو نارو فمع أنه مقر بأن السعي والبحث عن التقارب والاجتماع فريضة شرعية، إلا أنه يريد أن يكون الهدف الأعلى والغاية القصوى الاجتماع والتوحيد وليس التقارب، ويعلل لذلك بقوله لأن جهد الإنسان قد لا يبلغ غايته فإذا جعلنا الغاية التقارب فأخشى أن تكون النتيجة البقاء على التفرقة، وإن العجز في الطموح يحكي شيئا من الضعف في الهمة والعزيمة في الأمر، إن الأمثل في أمرنا هذا الوحدة والاجتماع وليس التقارب، ولكن ضرورات الواقع المؤلم هي التي فرضت علينا الحديث عن التقارب، ويرى الدكتور محمد العبدة أن الحديث عن الوحدة والاتحاد وإن كان مطلوبا لكنه في الظروف الحالية التي تمر بها الحركة الإسلامية كلام مثالي والأولى من ذلك إذا أردنا أن نكون واقعيين أن يكون الكلام عن الحوار والتشاور والتقارب، ويضع القواعد التي يراها للإفادة من الحوار ومساعي التقارب فمن ذلك العودة إلى تفعيل دور العلماء في قيادة الأمة وتفعيل دور المؤسسات الثقافية والعلمية وإشاعة الحديث عن المصلحة العامة مصلحة الإسلام والمسلمين وتطهير القلوب من الحزبية والحسد وحب الرئاسة، وقريب من ذلك ما يذكره الشيخ تيسير عمران أن محاولة جمع الحركات الإسلامية في بوتقة فكرية واحدة ومنهج عمل واحد طمع في غير مطمع، لكن المأمول أن تجتمع هذه الحركات في إطار من التنسيق والتكامل والحوار،فإذا قام الحوار في جو من الاحترام المتبادل والنقاش العلمي والبحث عن الحق دون اتباع الهوى أو تعصب للرأي فإنه سيثمر بإذن الله تعالى،وعلى الدرب نفسه يقول الشيخ محمد حسان القول بدمج وتوحيد هذه الجماعات أو الحركات على منهج واحد طمع في غير مطمع وأمل تحول دونه حوائل وموانع شتى، وهنا لا بد من الحوار كخطوة عملية على طريق التقارب، وينظر الدكتور صلاح الخالدي إلى الموضوع من زاوية أخرى فيذكر قول الله تعالى :"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله .."الآية ويقول تدعو الآية أهل الكتاب إلى الالتقاء بالمسلمين والحوار معهم والانطلاق في ذلك من أسس ثلاثة عبادة الله وحده والإيمان به إلها وربا، وعدم الشرك به، وعدم اتخاذ غيره إلها(36/459)
وربا، فإن أعرضوا عن ذلك ثبت المسلمون على الحق، ويعطف على ذلك بقوله إذا كانت الآية تفتح باب الحوار بين المسلمين والكافرين فإن الالتقاء والحوار بين المسلمين أولى وإمكانية نجاحه أكبر، وكل ما حول الجماعات الإسلامية يوجب عليهم ذلك اللقاء والحوار، وينظر الشيخ حسن يوسف إلى أهمية التقارب بين الحركات من زاوية تحديات الواقع التي تجابه المسلمين فهو يذكر أن العاملين في دائرة العمل الإسلامي كلهم مستهدفون بقيادة أمريكا في حربها للإسلام تحت مسمى الحرب على الإرهاب، وليس أمام العاملين إلا أن يتكاتف الجميع كي يقفوا أمام هذه الهجمة الشرسة التي تسعى لسحق العمل الإسلامي، وإلا بقوا أشتاتا متفرقين حيث يسهل ضربهم وفي ذلك خسارة كبيرة للمشروع الإسلامي.
القواسم المشتركة:
البيان: يكاد أن يكون هناك إجماع بين المشاركين على أهمية التقارب الفكري والمنهجي بين الحركات الإسلامية وعلى ضرورة إدارة الحوار بينها من أجل تعميق هذا التقارب وإزالة ما يعطله أو يعوقه، ولا شك أن من عوامل نجاح مثل تلك الحوارات أن تكون هناك قواسم مشتركة بين المتحاورين تصلح منطلقا للحوارات، منها ينطلقون وإليها يفيئون، فهل توجد مثل هذه القواسم التي تجمع بين الحركات الإسلامية؟.
المشاركون:(36/460)
ينظر الشيخ حسن يوسف إلى أن القواسم المشتركة هي القضايا التي تتفق فيها الحركات الإسلامية لذلك يقرر أن القواسم المشتركة التي يمكن أن تأتلف حولها الحركات الإسلامية بحيث تكون طريقا للحوار البناء الذي يساهم في عملية التقارب المنهجي والفكري كثيرة جدا في حين أن أوجه الخلاف ضيقة جدا، ومن القواسم الكبرى المشتركة أن ربنا وإلهنا واحد، ورسولنا واحد وكتابنا واحد وهمنا واحد وعدونا واحد ومشروعنا مشروع واحد، وعلى المنهج نفسه يقول الدكتور صلاح الخالدي إنَّنا نعتقد جازمين أنَّ صور ومظاهر الاتفاق بين العاملين للإسلام كثيرة، وأنَّ القواسم المشتركة بينهم عديدة، وأنَّ مظاهر الاختلاف قليلة، ويعدد القواسم المشتركة بين الحركات الإسلامية فيذكر منها القرآن والسنة هما أساس منهج الدعوة والعمل والحركة، والاقتداء بالرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم في الدعوة والحركة والعمل والجهاد، وأن المرجع عند الاختلاف هو القرآن والسنة، وأن الرجال تعرف بالحق ووزن أفكارهم وأقوالهم بميزان الحق، وأن الهدف مشترك والعدو مشترك، وعن تلك القواسم يقول الدكتور عمر الأشقر الإسلام يجمعهم، وأصوله توحدهم، قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، يعتمدون على الكتاب والسنة فيما يأخذون ويدعون، ثم يبين أنه لا ينبغي التوقف عند ذلك بل ينبغي أن يتقدموا خطوة إلى الأمام لتعميق أصول التلقي عند أهل السنة والجماعة وأصول الفقه للكتاب والسنة والأصول التي يقوم عليها العمل وأصول التآخي بين المسلمين والأصول الضابطة في التعامل بين الحركات، ويعدد الدكتور عبد الله وكيل الشيخ أهم القواسم المشتركة التي يمكن أن يتحقق بها التقارب فيذكر منها الاتفاق على أصول الدين الكلية في مجالات الدين المتعددة ؛ و الاتفاق على الأدلة المتفق عليها بين أهل الاستنباط والفقه والاتفاق على التحاكم إلى أدلة الشرع حين الخلاف واعتبارها هي الفيصل في حل النزاع، واعتبار لغة العرب هي الأصل في فهم نصوص الشرع ، وعدم الخروج على مدلولاتها لفهم الأدلة، ومن ثمَّ الحذر من الوقوع في التأويلات التي لا تقرها لغة الشريعة، ومراعاة مصلحة الأمة والاجتهاد في تحقيقها والاعتزاز بدين الإسلام، والإيمان بأنَّه المنهج الصالح المصلح للحياة وقصر الاستمداد عليه، مع الاطلاع على ما عند الناس من تجارب في شؤون الحياة مما يفيد في تطبيق النصوص الشرعية وتوسيع دائرة الأخذ بها، ولا يخرج الدكتور همام سعيد في نظرته للقواسم عن ما تقدم حيث يقرر أن القواسم المشتركة بين الإسلاميين أكثر من نقاط الاختلاف ومن هذه القواسم التي يشترك فيها الجميع أن الله تعالى ربنا، وأن محمدا r رسوله إلى العالمين، وأن الإسلام حق وأن الدعوة إلى الله واجبة، وأن صلاحية الإسلام للعالم أجمع وللزمان كله، وأن الحكم بما أنزل الله تعالى فريضة محكمة من فرائض الدين، وأن الإمامة الكبرى فريضة من فرائض الدين، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن الكفر والشرك فتنة عظمى لا خلاص منها إلا بقوة المسلمين وجهاد أعدائهم، ولا يخرج أيضا الدكتور خالد الخالدي في تعداده للقواسم عما تقدم غير أنه يؤكد على قاسم مشترك وهو كون الحركات الإسلامية تواجه عدوا مشتركا من الأنظمة العلمانية والقومية الفاسدة تستهدفهم جميعا وأن سجونهم لا تفرق بين أتباع هذه الحركات على تعدد انتماءاتهم، وكذلك العدو الخارجي هو قاسم مشترك حيث الصليبيين والشيوعيين واليهود يستهدفون الجميع ومن ثم ينبغي أن يكون هذا باعثا على الوحدة، ويؤكد على مسألة مهمة وهي أن الجماعات المطلوب تقاربها هي الجماعات ذات التقارب الكبير في العقيدة والمقتنعة أن تطبيق الإسلام في شئون الحياة كافة يؤدي إلى حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فهؤلاء هم المقصدون بموضوع التقارب وليس الجماعات الأخرى الخارجة، أما الأستاذ خالد حسن فإنه ينظر إلى القواسم المشتركة نظرة أخرى حيث يراها القضايا التي ينبغي أن تعتني بها الحركات الإسلامية وتوليها اهتمامها فيقول القاسم المشترك الأبرز هو المستقبل وكذا التحديات المشتركة والعمل على إقرار الحريات المشروعة وتحقيق الاستقلال الثاني استقلال الإرادة والقرار وقضايا التنمية ومواجهة الاجتياح الإمبريالي الظالم والاستفادة من الغارة على المجتمع الإسلامي وعلى المنهج نفسه يرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم القواسم الاتفاق العام على أولويات العمل الإسلامي والصبر على الاختلاف، والاهتمام بوحدة الأمة الإسلامية، والابتعاد عن الفتن التي أصبحت تتغذى منها التيارات المعادية للمشروع الإسلامي وثوابت وقيم المسلمين، والتعاون والعمل المشترك من أجل قضية فلسطين، وكذلك المشاريع والمؤسسات الإعلامية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية التي تسع الناس جميعا، ومن المنطلق نفسه يرى الدكتور عبد السلام كسال أن أهم القواسم التي يجب التزامها :أنه ينبغي اعتبار أن الوعاء الذي تصب فيه الجهود واحد انطلاقا من وحدة الهدف، وأن نجاح الغير نجاح للجميع لأن فيه تحقيقا للكفاية وإزالة لحرج الذي لم يؤد(36/461)
بعد بفعل القصور، كما أن إخفاقه زيادة في العبء ، كما ينبغي التجرد من الأنانية لأن الفرد مهما عظمت قدرته إلا أنها تبقى محدودة ، وكذلك الابتعاد عن حب الزعامة لأنها تعمي البصيرة عن إمكانات الآخرين ويكون من أسوأ نتائجها دفن طاقات لو أخرجت من تحت التراب لأثمرت بذرتها نتاجا كبيرا، إضافة إلى خفض الجناح ومعالجة مواطن الضعف في الآخر بدلا من إقصائه، وينظر الدكتور عثمان جمعة ضميرية إلى القواسم المشتركة أنها تشمل القضايا المتفق عليها أصلا بين الحركات والتي من أهمها المنهجية التي توحد أمة التوحيد وهي العقيدة وأصولها وما يتصل بها، والاتفاق على المصادر التي نستقي منها، كما أنها تشمل القضايا التي ينبغي أن يتفق عليها العاملون والتي من أهمها النظر إلى طبيعة عمل الدعاة وتوزيع مهامهم ومسئولياتهم والجهد الذي يقومون به فإن الساحة تتسع لجميع العاملين وما يعجز عنه بعضنا قد لا يُعْجِز الآخرين وعندئذ تنصب الجهود كلها لتحقيق هدف منشود وغاية واحدة، وينحو الأستاذ جمال سلطان هذا المنحى فيذكر أن القاسم الأعظم تحقيق المرجعية الشرعية بحيث يكون الحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن القواسم أيضا إعادة روح النهضة والسبق والاستعلاء العلمي في مجالات العلوم والشئون التي تخلف فيها العالم الإسلامي، وأيضا إعادة العدل والحرية والحق والكرامة، كذلك تحقيق استقلالية العالم الإسلامي دولا وشعوبا في المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجوانب الثقافية والعلمية، ويكاد ينفرد الشيخ رفاعي سرور بعدم قناعته بفكرة البحث عن قواسم مشتركة حيث يقول هذه فكرة غير صحيحة بالمرة لأن المسألة ليست توافيق وتباديل، ويقدم رؤيته بأنه من خلال تصور الحركة الإسلامية أحدد العلاقة بين الاتجاهات الفكرية، يعني ممكن أكون أنا مثلا اتجاه كذا، وأتعامل معك كاتجاه كذا، تعاملا صحيحا محققا النتائج المطلوبة، وذلك يوصلنا للغاية، من خلال إطار سياسي.
خطة العمل من أجل التقارب:
البيان: تبين مما تقدم أنه يوجد تصورين عن القواسم المشتركة أحدها أنها القضايا التي تتفق عليها معظم الحركات سواء في التصور النظري أو في التصرف العملي، والثاني أنها القضايا المهمة التي ينبغي أن يحدث بشأنها اتفاق بين الحركات، فالأولى تمثل الواقع الكائن بينما الثانية تمثل الواقع المأمول، وأيا ما كان الأمر، فإنه لا يوجد مسوغ شرعي لأحد في التباعد والتجافي وعدم الائتلاف مع إخوانه الباقين، ورغم العواطف المشحونة بأمل النجاح ، فإن العواطف وحدها لا تغني عن وجود خطة واضحة يسار عليها لتحقيق المراد، إذ التقارب والحوار عمل، والعمل لكي ينجح ويحقق المراد منه لا بد له من خطة واضحة قابلة للتحقيق، وفق الإمكانات المتاحة، فما الخطة أو المنهج المناسب للسير عليه.
المشاركون:(36/462)
يقول الشيخ محمد حسان هذا سؤال عملي في غاية الأهمية والمنهج له ثلاثة جوانب لا تتجزأ ولا ينفصل منها جانب عن الآخر جانب إيماني وجانب علمي وجانب عملي، ففي الجانب الإيماني تكون الخطوة العملية الأولى تصحيح العقيدة والمنهج حتى لا ننحرف عن الإسلام وسيلة ونحن نتجه إليه غاية، وفي الجانب العلمي ينبغي التأصيل العلمي لقضية الخلاف وذلك بمراعاة عدة أصول الأصل الأول معرفة أنواع الخلاف والأصل الثاني معرفة أسباب الخلاف والأصل الثالث تحقيق أدب الخلاف، وأما الجانب العملي فيكون من خلال عدة أمور منها التقاء القادة والموجهين والعلماء المسئولين في الحركات للتدارس والنقاش، التعاون في بعض الأنشطة التربوية والدعوية ، تكوين مجلس للشورى لفض النزاعات والخصومات والتقريب بين الأخوة والمتنازعين، منع كل جماعة لأبنائها من تناول مسائل الخلاف إلا لمن كان أهلا لذلك حتى لا تتسع هوة التفرق والتنازع، أما الأستاذ جمال سلطان فيرى أنه لا يوجد شيء نهائي في الأمر ولكن يوجد تأملات واجتهادات من واقع الخبرة ومن واقع ما تم من خلافات وجدل بين فصائل العمل الإسلامي ولكن هناك مفاتيح للحوار وأهمها إحسان الظن بين المسلمين، ويذكر الدكتور صلاح الخالدي بعض القواعد التي تعين على التقارب فيذكر منها وجوب شعور قادة الحركات الإسلامية بأهمية الحوار والتقارب وضرورته، جعله خطة استراتيجية للحركات الإسلامية تلتقي عليه كل فصائلها وأساليبها وأدبياتها وليس هبة عاجلة أو حماسة فاترة، تداعي مفكري الحركات الإسلامية إليه وتفكيرهم في استمراره وإنجاحه وتربية أفراد الحركات عليه، استمرار الحديث عن التقارب والتعاون والحوار في مختلف وسائل الإعلام لدى الحركات وعقد المنتديات وإعداد الأبحاث حوله، الوقوف أمام دعوات تعميق الفرقة بين الحركات الإسلامية والرد على أصحابها وتحذير الاتباع من الاستجابة لهم، ويتحدث الدكتور منير محمد الغضبان عن منهج السعي للتقارب بين العاملين للإسلام والدعاة إليه في عدة نقاط :الأولى القناعة بأنه لا يجوز شرعا تفرق العاملين للإسلام، وإن كان هذا لا ينفي مراعاة خصوصية العمل لاختلاف البيئة والقطر الذي تعمل فيه الحركة الإسلامية، بل إن التوازن في تفهم خصوصية إقليمية كل عمل إسلامي وتفهم وجوب العمل على التنسيق هو أهم عناصر منهج حوار التقارب، النقطة الثانية عدم احتكار العمل والحق والهدى عند فريق واحد بحيث ينظر إلى ما سواه على أنه ضلال أو انحراف والنقطة الثالثة فصل المبادئ عن الأشخاص، ويعلق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على طلب الخطة بقوله نعم هذا حق لا مرية فيه فإن التخطيط للأمر في غاية الأهمية ثم يضيف أن هذه الخطة لا يستقل برسمها فرد واحد أو مجموعة أفراد عاديين بل ينبغي أن تتجه لها جهود العلماء والدعاة والمفكرين وذلك كي تكون الخطة ناجحة قويمة، وعلى المنهج نفسه يقول الشيخ أحمد فريد تحديد خطة كاملة وشاملة للوصول لهذا الهدف يحتاج إلى حوار ومشاورة، ثم يذكر بعض المفاتيح في هذا الأمر فيشير إلى ضرورة الإخلاص ونبذ العصبية المقيتة وعدم تغليب المصالح الشخصية، كما يشير إلى أن ولاء هذه الحركات ينبغي أن يكون لإمام واحد متبع على كل حال وهو الرسول الأعظم محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم وجماعة واحدة هي جماعة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما يشير أيضا إلى عدم الغلو في مشايخ الدعوة كما يفعل متعصبة المقلدة الذين يقدمون كلام علمائهم على النصوص الشرعية، ثم يذكر بعض الخطوات العملية في ذلك فمنها :حث الدعاة على التواصل والتناصح في المناسبات، عمل ندوات يشترك فيها أكثر من داعية من عدة حركات على أن يكون موضوعها من الموضوعات التي لا تختلف فيها هذه الحركات وذلك بقصد الإيناس وكسر الحواجز، عمل دورات مكثفة للتقارب وتوحيد الفكر، عمل مؤتمر سنوي يدعى إليه وجهاء من الجماعات، عمل لجنة للتقارب بين أهل السنة وأهل السنة، فهذا أولى من البحث عن التقارب في خارج هذه الدائرة، إصدار نشرات أو مجلات متخصصة لهذا الغرض يكتب فيها كتاب من سائر الجماعات بقصد ترسيخ التقارب، الاتفاق على ميثاق العمل الدعوي الذي يشمل أدب الخلاف والإنصاف في التعامل مع الأفراد والجماعات، وأما الأستاذ خالد حسن فيرى أن مشاريعنا لا يمكنها أن تحقق أثرها المرجو ما لم نرسخ مفهوم القيادة الجماعية والذي يعني أن القيادة مؤسسة وتخصصات وتقاسم أدوار عن طريق المنهجية في الأداء القيادي الجماعي والذي يظهره دليل القيادة العملي، وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى في خطة العمل هي فك الحصار عن العقل الذي فرضه الافتتان بالمشيخة ووصاية التنظيم، والخطة أو المخرج إنما يصطنع بعد ذلك اصطناعا وينضج بالمعاناة وإعمال العقل وإخضاب الرأي والمشاركة في الصواب، أما الانتظار حتى تصل إلينا الخطط الجاهزة المفصلة التي تأتي من القائد الفذ أو القائد الملهم أو رجل الملحمة فإن هذا قد ولى عهده وانقضى ، ويشير الدكتور عمر الأشقر إلى نقطة مهمة وهي أن مجال عمل الجماعات غير متداخل، فكثير من الأعمال غير متضاربة أو متعارضة وإنما هي متنوعة، لكن(36/463)
الجهد الأكبر في الحوار ينبغي أن يبذل من أجل بلورة الأهداف المشتركة التي ينبغي التعاون فيها، ويقول :حبذا لو تشكل مجلس إسلامي أعلى تجتمع فيه قيادة الجماعات الإسلامية للتحاور والتشاور والتقارب فيما بينها، لتجاوز سوء الفهم القائم هنا وهناك ، وللتخلص من الخلاف المفتعل والمتوهم ، ولبلورة الأصول الجامعة للعمل الإسلامي ، ولتخفيف غلواء المتشددين في النزاع ، فإن لم نستطع بلوغ القمة في التوحد فلا أقل أن نكون أقرب إلى القمة بخطوة، ويرى الدكتور خالد الخالدي أن الخطة يمكن أن تتكون من :تشكيل لجنة أو هيئة مختصة مقتنعة بأهمية التقارب بهدف العمل على تحقيقه بين الإسلاميين، تتكون من العلماء والعاملين والدعاة الجادين الذين يحظون باحترام الجميع، ويراعى في هؤلاء الأعضاء أن تتنوع انتماءاتهم حسب تنوع الحركات الإسلامية، تنظيم مؤتمر سنوي يدعى إليه مندوب أو أكثر عن كل حركة، وينبغي لهذه اللجنة أن تبتعد عن تلقي الدعم من جهات رسمية وأن تكون نفقاتها من المتبرعين الذين يحرصون على التقارب، وأن تقوم بإقناع الإسلاميين بضرورة التقارب من خلال طرق متعددة كالمؤتمرات واستكتاب كتاب معروفين في مجال التقريب بين الحركات ونشر مقالاتهم وكتاباتهم، وأما الدكتور همام سعيد فيرى أن الخطة ينبغي أن تكون من مرحلتين الأولى الحوار والاتفاق بين الحركات ذات الأصل الواحد لحسم الجدل بينها والاتفاق على قواسم تصلح لحوار الآخرين، والثانية الحوار بين الأطراف التي تحسن الظن ببعضها حتى يؤدي الحوار إلى نتائج سليمة، وأما الأطراف التي تسيء الظن ببعضها فهذه تحتاج أولا إلى التعارف عن قرب في بعض المشاريع العلمية أو الاجتماعية لإزالة الشكوك وتحسين المناخ، ويقدم الدكتور كسال عبد السلام رؤيته بقوله :الهدف إذا لم يوجد له من يفكر فيه ثم يسعى له لن يجد له إلى النور طريقا، وينبغي على الدعاة أن تعي هذه الحقيقة وتسعى إلى تحقيقها وذلك باتباع جملة من الوسائل، ثم يذكر من هذه الوسائل :المبادرة، معرفة طبيعة الأطراف حتى يكون البناء بدل الهدم والجمع بدل التشتيت، التحرك باتجاه الأطراف المختلفة بطرح الفكرة والاستماع بغية الإثراء، جمع الأطراف المختلفة حول طاولة للحوار الثنائي أو المتعدد الأطراف، الانتهاء إلى جمع الأطراف جميعا في ندوة تؤسس للعمل المشترك توضع له أسس وأهداف ومراحل ووسائل، ويضع الدكتور عبد الرزاق مقري شروطا على الخطة بأن تأخذ بعين الاعتبار دراسة معطيات البيئة الداخلية من حيث القوة أو الضعف سواء بالنسبة للأمة أو الحركات الإسلامية، وكذلك معطيات البيئة الخارجية وما يميزها من تهديدات، على أن تتضمن هذه الرؤية أهدافا كبرى يسعى الجميع لتحقيقها، والتي يمكن تحديدها في ستة أمور: الفكرة الإسلامية من حيث خدمتها بالتعليم والدراسات والبحوث، القيادات والرموز من حيث الإعداد والتأهيل، التنظيم من حيث الابتعاد عن الارتجال والفوضى والاهتمام بالعمل المنظم مع ضرورة تطوير الأنماط التنظيمية القديمة، الجمهور من حيث الارتباط به وحل مشاكله وتربيته بواسطة العلم المنهجي، المؤسسات الحكومية من حيث إنهاء القطيعة الموجودة بين الحركات الإسلامية والمؤسسات الحكومية التي هي ملك الشعوب وليس الأنظمة.
ضوابط التقارب والتعاون:
البيان: جرى الحديث عن خطة أو منهج العمل الذي ينبغي اتباعه في سبيل إحداث التقارب بين الحركات الإسلامية المتعددة، لكن مع ذلك وبرغم النوايا الحسنة قد تبقى بعض القضايا العالقة التي لا تجتمع عليها الكلمة، وهذا يتطلب أن نحدد سقفا لتلك القضايا حتى نتفادى أمرين خطيرين :أولا تمييع القضايا جريا وراء البحث عن التقارب، ثانيا التضييق على إمكانية التقارب بزعم الثبات على المواقف، وهذا يقودنا إلى الحديث عن الضوابط التي ينبغي مراعاتها أثناء العمل على التقارب بين الحركات الإسلامية.
المشاركون:(36/464)
يقول الأستاذ خالد حسن هذه المسألة لا يمكن حسمها نظريا وإنما تنضج وتتحدد نسبيا من خلال التواصل والاحتكاك والتفاعل، ويقول الدكتور كسال عبد السلام ما يجمع من أمور الدين أكثر بكثير مما يمكن أن يُختلف فيه ومن هذا الباب يمكن تحديد سقف هذه القضايا فيما يلي :بالنسبة للأهداف يمكن إجمالها في هدفين كبيرين :الارتقاء بالمجتمع إلى المستوى المنشود، وإيجاد البدائل الريادية من الرجال والبرامج، وبالنسبة للمبادئ يمكن جمعها في مسألتين :اعتماد الثابت من الدين، فتح مجال الاجتهاد في خصوصية البيئات والظروف بما لا يستلزم قراءة موحدة للقضايا الاجتهادية وبالنسبة للوسائل فبالإضافة للوسائل المشروعة كلها جعل التعاون بين التنظيمات والحركات من أهم الوسائل لترتيب البيت الإسلامي واعتماد القدرات الفكرية والبشرية والمادية لتحقيق الهدف المنشود، وبالنسبة للاستثناءات مراعاة الخصوصيات الموضوعية لكل طرف حفاظا على تصفية الأجواء ولبناء إطار من الثقة يقوي هذه الرابطة، أما الدكتور عبد الرزاق مقري فيرى أن أهم ضابط هو الأخوة وحسن الظن وأمن الدعوة الإسلامية وسلامة واستقرار الأمة الإسلامية والثبات على ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق المقاصد والقواعد الشرعية، ويشير الشيخ أحمد فريد إلى أهمية العامل الوجداني في تجاوز القضايا العالقة فيرى أنه بعد بذل الجهد في نشر معاني الأخوة والألفة وحرص كل جماعة على التقارب مع الأخرى ومحبة الخير لها فقد تزول هذه الاختلافات أو يظهر سبيل لحلها خاصة مع الإخلاص والدعاء والرجاء، ويري الشيخ كمال الخطيب أن السقف الذي يحدد التقارب والتعاون هو عدم الاختلاف في العقائد والأحكام والشرائع ، أما الاختلاف في وسائل العمل والتركيز على جانب دون جانب آخر فلا ينبغي أن يحول دون إمكانية العمل المشترك والتقارب والتعاون، ويركز الشيخ سليمان أبو نارو على أن السقف الذي لا يضر بعده تفاوت في وجهات النظر هو الاجتماع على منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة، والذي لا سبيل إلى تجاوزه، وحينها لا يضر الخلاف في شيء من التفاصيل خاصة مع إعمال حسن الظن، ودوام التناصح، وانتهاج أحسن القول، مع الابتعاد عن أساليب الوصاية والحرص على تبعية البعض للبعض الآخر، ويذكر الدكتور همام سعيد أهم ضوابط التقارب والتعاون :التسليم بأننا لا يمكن أن نتفق على جميع نقاط الاختلاف، تكثيف برامج العمل في الجوانب المتفق عليها، طلب الهدى من الله تعالى، الالتزام بالآداب الشرعية في اجتناب الغيبة، والظن، والتجسس، ويربط الدكتور سفر الحوالي السقف بالقضية التي يجري فيها التباحث فيقول إن الثوابت والقطعيات تظل بدون تنازل ويظل هدف الاجتماع هو الذي يحدد الأولوية فإذا كان الاجتماع لمقاومة العدو فالمراعى هنا هو إحداث النكاية وتقديم ما يقوي الشوكة ويحقق النصر ونجتنب ما قد يشق الصف ويثير التنازع المفضي إلى الفشل وذهاب الريح كما ذكر الله تعالى، أما إذا كان الاجتماع لغرض الإصلاح الاجتماعي مثلا فيكون الاهتمام بثوابت الفضيلة والقيم وتجنب ما قد يفضي إلى الفساد والرذيلة، ويعدد الدكتور منير محمد الغضبان ضوابط التقارب فيذكر منها:التنازل عن الاعتداد بالذات وفهم الآخر وحسن الظن به والانطلاق من القاعدة الفقهية العظيمة التي تقول موقفي صواب يحتمل الخطأ وموقف أخي خطأ يحتما الصواب، وكذلك قاعدة نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه وذلك في داخل الصف الإسلامي، واعتبار العاملين للإسلام جميعا مدرسة تكاملية لا تنابذية، وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى السقف الذي لا ينبغي تجاوزه على أنه الثوابت الشرعية والتي سماها الأولون المعلوم من الدين بالضرورة ويستدرك على ذلك بقوله لكن لا ينبغي أن نوسع هذه الدائرة لأنها تمثل خطرا وتوسيعها ضد مصلحتنا ولن يكون مفيدا فالمعلوم من الدين بالضرورة والثوابت العقدية هي ثوابت العمل الإسلامي أما ما بعد ذلك من اجتهادات فكرية وعقلية ومنهجية فما دام أنها لم تصطدم بقواعد شرعية واضحة فلا بأس في ذلك.
منهج السلف الصالح ودوره في الحوار والتقارب الفكري والمنهجي
البيان: سلفنا الصالح لهم مكانة عالية مرموقة وهم قمة سامقة في فهم الدين والعمل به، وما يمر بمجتمعات المسلمين اليوم من حيث الاختلاف والتنازع، قد مر بسلفنا الصالح شيء منه، إلا أنهم حرصوا على الوحدة والجماعة وحققوا ذلك، مما يجعل منهجهم في ذلك حريا بالاتباع
المشاركون:(36/465)
يقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية منهج السلف علماء الأمة رحمهم الله تعالى تطبيق عملي لفهم صحيح سليم، فهم رغم ما قد يقع بينهم من خلاف في مسائل الفقه أو أمور الفروع ولأسباب كثيرة متعددة رغم هذا فإنهم كانوا يلتقون ويتحاورون ويتناقشون ويرد أحدهم على الأخر رأيه، دون عداوة أو بغضاء أو تشهير أو تهمة، وبنحو مما تقدم ينظر الشيخ أحمد فريد، وينظر الأستاذ خالد حسن إلى أهمية الممارسة السلفية التي تخلى عنها من جاء بعدهم فيقول يمكن القول إن أكثر المتحمسين للإصلاح وتحديات النهضة لم يلتفت إلى أهمية وحيوية المفهوم الجماعي للصواب الذي كان حاضرا بقوة في الممارسة التراثية (السلفية) في أوساط العلماء والنظار، إنه لا مناص من إحياء هذه الطريقة وإشاعة المفهوم الجماعي للصواب، ويرى الدكتور عبد السلام كسال أن المنهج الفكري السليم في الإسلام يقوم على قواعد ثابتة أساسها الفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة المطهرة بحيث يتوافق مع ما كان عليه الصحابة الكرام دون ابتداع بالزيادة أو النقصان، ولكن بلا جمود يحول دون الاجتهاد في استيعاب الجديد من مسائل العصر، ويؤكد أن هذا المنهج برصيده الثري الحكم الفصل في حل كل خلاف وفي دفع كل عملية للتقريب، ويقول الدكتور عبد الرزاق مقري :سلفنا الصالح هم قدوتنا من حيث المعايير الأخلاقية والتربوية والمقاصد الشرعية، وأصول فهم الشريعة الإسلامية، وتجربتهم منهج نسير عليه، غير أن هذا المنهج نفسه هو الذي رسم لنا سبل التجديد والاجتهاد لنعيش زمانا غير الزمان الذي عاش فيه سلفنا، يثْبُت فيه الثابت ويتغير المتغير، ويشير الدكتور سفر الحوالي إلى مسألة مهمة قد تخفي على كثيرين وهي أن مذهب السلف ليس مذهبا فقهيا معينا ولا التزاما شكليا بل هو منهاج الاتباع المطلق لرسول ا صلى الله عليه وسلم والحرص على أن تكون الأمة على ما كان عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ظهرت في القرون المفضلة نماذج تدل على رحابة هذا المنهج فقد كان منهم الفقيه والمفسر والمحدث واللغوي وأئمة التعبد والسلوك والجهاد وهذا المنهج أعظم خصائصه قيامه على الحقائق لا على الدعاوى والأسماء ويركز الشيخ كمال الخطيب على أن آخر هذه الأمة لن يصلحها إلا ما أصلح أولها، ومن هنا فإن أي حوار أو تقارب يتم عبر إدارة الظهر أو العقوق لسلفنا الصالح ومنهجهم الفقهي مصيره إلى الإخفاق، لذلك لا يمكن الحوار مع هذه الاتجاهات التي يظهر عقوقها لمنهج السلف بقصد التقارب الفكري معها، بل إنه يجب رفض هذا من أساسه، لأنه ليس فقط عقوق لمنهج السلف وإنما هدم أسس وتقويض أركان ذلك المنهج، هذا في الوقت الذي لا يمكن قبول حصر المنهج السلفي على اتساعه من اتجاهات أخرى في قالب واحد ولون واحد وآلية تفكير واحدة، ويرى الدكتور همام سعيد كما يرى إخوانه من أهل العلم أن منهج السلف هو حجر الأساس لأي تقارب ولكنه يضيف بأنه يلزم الوقوف على منهج السلف في مختلف المسائل وأن يسعنا ما وسع السلف من الاختلاف، ويقول الشيخ سليمان أبو نارو مكانة سلفنا الصالح في فهم الدين والعمل به والدعوة إليه ليست علية فحسب ، بل لا سبيل لفهم الإسلام إلاَّ عن طريقهم إذ هم القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية من المعصوم r وهم الفرقة الناجية المستمسكة بما كان عليه صلى الله عليه وسلم مما يجعل منهجهم هو الأبصر والأقوى حجة
معوقات التقارب والتعاون:
البيان : رغم ما تبين من الحديث عن التقارب وأهميته وقناعة الكثيرين بضرورة السعي لتحقيقه وبذل الجهد في سبيل ذلك وعدم اليأس والصبر على صعوبة الطريق، إضافة إلى الحماس الذي يبديه الكثيرون لهذه المسألة إلا أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن، فهناك الكثير من المعوقات التي تقف في سبيل تحقيق دعوة التقارب وهي في حاجة إلى إماطة اللثام عنها مع اقتراح آليات للتغلب عليها أو الحد من تأثيرها
المشاركون:(36/466)
يرى الدكتور كسال عبد السلام أن المعوقات التي تعترض عملية التقارب تصنف إلى معوقات فكرية ونفسية وبيئية، أما المعوقات الفكرية فهي تختص بطريقة التلقي والتعلم من خلال المدارس أكثر من اختصاصها بالفوارق في القدرات الفكرية، تلك المدارس التي توجه إلى التعصب نحو فكر، أو قراءة تلغي غيرها، وكذلك التعلم الذاتي بغياب المعلم الذي قد ينتج عنه توجه يكون إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب، ولذلك فإن مراجعة سياسة التعليم والتلقين تظل مسألة أساسية وخطوة لا بد منها في طريق التقريب والوحدة، وأما المعوقات النفسية فإنها تعود إلى الأنانية الفردية والجماعية وحب السيادة والسلطة والزعامة والغرور، وهذه يمكن معالجتها عن طريق تبديل الأجواء النفسية والاحتكاك والتحرك والانتقال لاستيعاب الجديد والخروج من الفضاءات الاجتماعية والتعليمية الضيقة إلى فضاءات أوسع، وأما المعوقات البيئية فكالاختلافات الجغرافية والاختلافات التنظيمية والاختلافات الذاتية كاختلاف القدرة والاستطاعة البدنية والفكرية والتي لا يمكن أن يوجد في ظلها اتفاق في مسار تختلف فيه الهموم والقضايا وهذه يمكن معالجتها باعتماد أكبر قدر من الاستثناءات والاقتصار في مجال توحيد القراءة على الأساسي من الثوابت في أمور العقيدة والدين والحياة، ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم العوائق الاختلافات الفكرية التي لا تعالج إلا بالعلم أولا ثم بالتجربة ثانيا ثم بإرادة الحوار والاطلاع على تجارب الآخرين، ومن العوائق الأساسية اتباع الهوى وإرادة المحافظة على المصالح كالزعامة والمنافع المادية والمعنوية الفردية والجماعية، ومن العوائق أيضا قلة المهارة في إنجاز المشاريع المشتركة، ويرى الأستاذ خالد حسن أن التقارب ما عاد هما يشغل حيزا كبيرا في العقول ولا في الخطاب ولا في الحراك، وصار الكل يتطلع إلى الهيمنة وتوسيع الرقعة وفرض الوصاية مما شكل عائقا في حصول التقارب، ويعدد الدكتور عمر الأشقر المعوقات فيذكر منها تعميق الخلاف وتأصيله بهدف أن تتميز جماعته ويكون فيها رئيسا أو قائدا، وطبع اتباع هذه الجماعات أنفسهم بطابع الأفضلية التي تؤول بهم إلى العصبية حتى لا يروا على الحق غيرهم، الفهوم القاصرة والتصورات الخاطئة التي قرت في العقول وظن أصحابها أنها من الحق الأصيل، تصور بعض المسلمين أن هذه الجماعات العاملة للإسلام فرق مبتدعة مثل الخوارج والشيعة، ولا يخرج الدكتور محمد العبدة فيما ذكره عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية، وكذلك الشيخ منير محمد الغضبان، ويوسع الدكتور عثمان جمعة ضميرية مجال العوائق فلم تعد هي عنده العوائق الداخلية فقط بل قد انضم إليها عوائق من خارج الحدود، ففي المجال الداخلي يرصد العجلة وعدم التأني والصبر، وكذلك حظوظ النفس والتأثر بالهوى والريبة والشك في الآخرين ، وأما الخارجية فيرصد منها الكيد الذي يبذل لتكريس فرقة المسلمين، وبذر بذور الفتنة وزرعها والعمل على تمزيق وحدة الأمة ووحدة العاملين، وللتغلب على ذلك يدعو إلى بذل جهد أكبر بعد الاعتماد على الله تعالى وصدق النية وسلامة الطريق والوعي الكامل بما يجري، ويتخذ الشيخ أحمد فريد المنحى نفسه حيث يرى أن المعوقات بعضها من داخل الصف المسلم وبعضها يأتي من خارج الصف المسلم، ويرصد في المعوقات الداخلية اعتناء بعض الحركات ببعض الشرائع في مقابل إهمال أو نسيان شرائع أخرى مما يهيج العداوة والبغضاء بينهم لاعتقاد كل حركة بتقصير الحركة الأخرى وهو مصداق لقوله تعالى :"فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" ويمكن معالجة هذا عن طريق إعادة الصياغة واهتمام كل الجماعات بالإسلام كله، وكذلك اغترار بعض الجماعات بعددها وقوتها، وأيضا حب الظهور ، واحتكار بعض الجماعات لاسم السلفية ونظرتهم إلى بقية الجماعات على أنهم فرق نارية، وأما المعوقات الخارجية فتربص العلمانيين والمنافقين بالجماعات الإسلامية والتشهير بهم وإغراء الحكومات وتهييج الأنظمة عليهم، ويبين الشيخ كمال الخطيب أن ضغوطات الأنظمة الحاكمة والجهات الرسمية تجعل عددا من المدارس والحركات الإسلامية تفضل العمل المستقل بديلا عن التقارب مع بقية الفصائل بل إنها تسعى لدفع هذه التهمة عن نفسها، ثم إن هناك من الجماعات من يخشى من خطر الاحتواء من الآخرين أو التأثر بهم، فيفضل الاستقلال على التقارب والالتقاء مع الآخرين، وهذا كله من المعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق التقارب، وللدكتور خالد الخالدي إسهام مطول في ذلك فيذكر من المعوقات الداخلية التنافس وحب الظهور، قلة الوعي عند الكثيرين من أبناء الحركات الإسلامية،الخلافات الشخصية بين قادة الجماعات الإسلامية، تركيز بعض الجماعات على جوانب وإهمالها لجوانب أخرى، قلة الاهتمام بالجوانب السياسية المتعلقة بهموم المسلمين، وأما المعوقات الخارجية فيذكر منها خوف بعض الجماعات من اتهامها بالإرهاب أدى إلى ابتعادها عن قضايا الأمة الجوهرية، تلقي بعض الجماعات الدعم المادي من دول وحكومات يهمها إبعاد هذه الجماعات المرتبطة بها عن(36/467)
العمل السياسي والجهادي، قيام العدو بزرع العملاء بين الجماعات الإسلامية، ثم يعقب على ذلك بالخطوات المقترحة لمواجهة تلك العقبات فيذكر منها توحيد الخطاب الإعلامي الذي يستهدف أبناء الجماعات الإسلامية، التحذير المستمر من عواقب التباعد وأثر ذلك على ضعف الأمة، إبراز أسباب الهجمة على المسلمين وأن ذلك بسبب تمسكهم بعقيدتهم وإقامة حكم الله في الأرض، نشر وترويج المبادئ والمقالات والكتب والمحاضرات التي تدعو إلى التقارب وتحض عليه، توضيح مخاطر الحزبية وتربية الشباب المسلم على أن يكون ولاؤهم للإسلام قبل أن يكون للجماعة أو التنظيم، التذكير المستمر بخطورة وحرمة الغيبة، الاستشهاد بالتاريخ لبيان أن الوحدة كانت من عوامل الانتصار في المعارك الكبرى ، التذكير بواقع الأمة السيئ وأنه نتاج التباعد والفرقة، ولا يخرج كلام كل من الدكتور همام سعيد والشيخ تيسير عمران فيما ذكراه عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية والخارجية وكيفية معالجتها، أما الأستاذ جمال سلطان فيضيف مسألة في غاية الأهمية والخطورة في المعوقات الخارجية حيث يبين ما تقوم به القوى الدولية الكارهة للإسلام من محاولة صناعة فكر إسلامي أو منهج إسلامي مستأنس أو مدجن بحيث ينفصل عن واقع الأمة وأصول الدين ويتماشى مع القوى الدولية التي تكيد للإسلام وأهله، ويضيف الشيخ حامد البتاوي في المعوقات الخارجية عدم سماح كثير من الأنظمة لأبناء الحركات الإسلامية بالالتقاء وتنظيم مؤتمراتهم من أجل التقارب
تنوع البيئات وتعدد الثقافات والخصوصيات المحلية وأثر على ذلك دعوة التقارب:
البيان: الحركة الإسلامية ليست محصورة في شارع أو حي أو مدينة أو دولة بل تمتد على طول العالم الإسلامي وعرضه ما يعني تباين البيئات واختلافها وتعدد الثقافات والخصوصيات، وهذه لها دور كبير في تربية الناس وتنشئتهم، وهو ما يلقي بظلاله وآثاره على دعوة التقارب، ويصبح من الأمور المهمة أن نعزل أو نقلل من أثر ذلك على خطة العمل للتقارب الفكري والمنهجي والحوار الإسلامي .
المشاركون:(36/468)
يقر الشيخ عبد الله الغنيمان بأثر البيئة ويقول بإمكانية تقليل أثرها بأمرين أحدهما عقلي وذلك ببيان أن ما يسعى إليه الإنسان للتخلص من البؤس والفقر والضيق والشدة كما أن الظفر بهناء العيش وسعادة البال لا يوجد إلا في طاعة الله وطاعة رسوله، والأمر الثاني شرعي وهو طاعة أوامر الله ورسوله التي تدعو إلى الاعتصام بحبل الله تعالى وتنهى عن التفرق والاختلاف، كقوله تعالى :"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن تقليل أو عزل المؤثرات البيئية لا يتم عبر إهمال البيئة والثقافة بل باعتبارهما ولكن بترتيب القضايا وتثبيت الثابت منها، وأما ما اختصت به بيئة دون أخرى مع عدم مخالفته للثابت في شرع الله تعالى فلا مجال للخوض فيه، ولا مشاحة في قبوله، وأما ما لم يثبت فهو محل تصحيح ، كما يمكن قبول الطرف الآخر بهيئته التي هو عليها شريطة ألا يضيق على الآخرين واسعا، ويذكر الدكتور عبد الرزاق مقري أن التطور الهائل في تدفق المعلومات والاتصال أوجد فرصة كبيرة وسهولة في التواصل مما يقلل من تأثير البيئة والثقافة المحلية، ويوافق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على أثر البيئة والثقافة المحلية ولعزل تأثيرها على التقارب أو تقليله يذكر أنه لا بد من صبر ومصابرة ومتابعة وتجرد، وكذلك معرفة طبائع من نحاورهم، ولا بد أن يشعر الجميع بصدق النية وحسن التوجه فإن هذا من أسباب القناعة والتعاون والاتفاق، ويرى الشيخ أحمد فريد أن تقليل تأثير البيئات والثقافات يكون بنشر الوعي والفكر السليم والاتفاق على أصول لا يتعداها الجميع في العمل بالكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، وعدم إحداث ما يخالف ما كان عليه الصحابة، ومع تفهم الدكتور محمد العبدة لأثر البيئة والثقافة لكنه ينبه على قضية خطيرة وهي الخوف من صبغ الإسلام بالصبغات المحلية فيصبح لدينا إسلام مغربي وإسلام مشرقي وإسلام مصري وإسلام خليجي والإسلام هو ما نزل على قلب صلى الله عليه وسلم فينبغي على الدعاة ألا يسمحوا للتقاليد والعادات أن تؤثر على صفاء العقيدة، وخصوصيات بعض البلدان لا تعني أن لا نتفاهم ونتفهم ما عند الآخرين، ويوافق الشيخ تيسير عمران على أثر البيئة والثقافة الواضح على عقليات أبناء الحركة الإسلامية لذلك يرى أن الحكمة تقتضي أن نحترم خصوصية كل بيئة قدر الإمكان ما لم تتعارض مع قطعيات الدين التي يتفق عليها الجميع، وينبغي في بداية الحورات أن نُحَيِّد بعض القضايا ولو مؤقتا إلى أن تصلب الأرضيات المشتركة، ويرى الدكتور منير محمد الغضبان أننا في قضية أثر البيئة معذورون من جهة وملومون من جهة أخرى، أما العذر فلتراكم تباعد البيئات خلال القرون ولزوال الخلافة الإسلامية ولاحتلال الأقطار الإسلامية وما أوجد فيها من ثقافات تغريبية، وهذا يدفعنا إلى الاعتراف بخصوصية البيئات والثقافات المحلية، لكننا ملومون اليوم بعد تحول العالم إلى قرية كونية تجعل عملية الخلافات هذه مذللة من خلال الاتصالات، وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى أن اختلاف البيئات يؤثر في أولويات العمل واختياراته، فبعض الأمور التي تكون ملحة في بلاد الخليج العربي قد لا تكون ملحة في تونس والجزائر وهكذا، لكنه يؤكد على قضية مهمة وهي أنه لا ينبغي أن نتعنت في البحث عن إذابة هذه الاختلافات في اعتبار الأولويات لأنها فرز طبيعي لا بد من احترامه، والعمل وفق معطياته.
ألفاظ جذابة فما حقيقتها وما دورها في الحوار والتقارب:
البيان: في الأيام القريبة المنصرمة بدأ يكثر تداول بعض الألفاظ وما زال، فكثر الحديث عن الآخر وعن الاعتراف به وتجاوز أحادية الفكرة، والتسامح الفكري والثقافي، وضرورة الانفتاح على ثقافات وأفكار وقناعات الآخرين إلى نهاية تلك المنظومة فهل تمثل هذه المنظومة عاملا من عوامل التقارب، أم أنها تعد معوقا من معوقات التقارب لكنها صيغت بلفظ جذاب؟ والشيء نفسه يقال عن لفظ التجديد الذي تحول إلى مصطلح يستبطن العديد من المصطلحات الأخرى كالعقلانية والتعددية والنسبية ذات المعاني والمضامين غير المحددة
المشاركون:
فيما يتعلق بالآخر(36/469)
يقول الدكتور عبد الرزاق مقري لقد سلمنا في بداية هذا التحقيق أن الاختلاف حتمية بشرية، فلنعش هذه الظاهرة في ظل تقوى الله ، ونسيرها ضمن القواعد الشرعية التي تبدأ بالتسليم بأن المؤمنين مهما اختلفوا فهم إخوة في الله، ومهما اختلفوا فلا بد لهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن معرفة الخصوم من خلال نوافذ غير التي كان العاملون يحصرون أنفسهم فيها جعل الكثيرين يعيدون النظر لتبني فكر متوازن لا يجعل الناس جميعا في كفة واحدة، ويكشف الدكتور عثمان جمعة ضميرية اللثام عن هذه الدعوات ويقول إن التباس المفاهيم والمصطلحات أو وضعها في غير موضعها من أهم عوامل الافتراق وبعض هذه المصطلحات يمكن حملها على محمل صحيح وفيها ما هو خاطئ وغير صحيح فمثلا يصبح التسامح سببا للتفلت من الأحكام والتنازل عن الثوابت، والتسامح الفكري والثقافي دعوة للردة أحيانا وقبول الكفر والدعوة للانفتاح طريقا لضياع الشخصية المستقلة وعلى كل فلم يكن الهدف فيما يبدو من تلك المصطلحات هو الدعوة إلى اللقاء والتعاون وإنما الالتفاف على بعض المفاهيم والتشويش عليها باستغلال تلك المصطلحات، ويتوجس الشيخ سليمان أبو نارو من هذه المصطلحات شرا فيقول إن أصحاب هذه الشعارات والمصطلحات لا أعلم أنهم تجمعهم منظومة فكرية واحدة فهم خليط من شتات الفكر والرأي، ولا يجمعهم إلاّ موقفهم من الإسلام على نهجه الذى جاء به صلى الله عليه وسلم ورضيه الله ديناً قيماً لهذه الأمَّة الإسلامية، فهم يبحثون عن كل وسيلة يفرغون بها هذا الدين من مضمونه ويحرفون أحكامه وشرائعه بهذه الأساليب الماكرة بعد أن عجزوا عن مواجهته مباشرة ، فهم كاسحات ألغام يمهدون الطريق لمن هو مُعَدٌّ لإتمام المهمة، ويعقب على ذلك بقوله وبالقطع ليس لهؤلاء مدخل في تحقيق (التقارب الفكري وإثراء الحوار) إلاَّ إذا كان المقصود أنَّ الإحساس بخطر هذا الضجيج هذه الأمة وعلى حفظ دينها، سيدفع العاملين المخلصين للإسلام إلى سرعة الاجتماع والتعاون في سبيل دفع هذه الشرور المعلنة والخفية وسد الطريق أمام كل هذه الشراذم وحيلها ذات الوجوه المتعددة، وهذا ما ينبغي حصوله إن شاء الله تعالى، وينبه الدكتور سفر الحوالي في هذا الخصوص على قضية مهمة بقوله :من أهم ما يجب اجتنابه في القضايا العقدية والفكرية؛ المصطلحات المحدثة أو العامة وأحسب أن مصطلح الآخر منها فهو عام مجمل، وينبغي أن نحدد فنقول مثلاً :العدو الكافر أو الخارجي،ونقول أهل البدع أو أهل القبلة المخالفون , ثم نقول أخيراً :المخالفون في الاجتهاد والرأي وهكذا, ونحن لا نستحدث شيئاً جديداً فالأمة عرفت التفرق, وعرفت الغزو الخارجي بأنواعه, والأصول في التعامل مع ذلك مضبوطة، نعم نحن نحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والوعي وهذا يقتضي التحديد والدقة وليس التعميم، ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن استعمال هذا اللفظ في وقتنا المعاصر إنما هو خدعة من أجل استخدامه بدلا من لفظ اليهودي أو النصراني أو الكافر ويبين أن هذه انهزامية وأنه لا يستقيم إيمان عبد إلا بتكفير اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، ثم يعقب على ذلك بقوله والمقصود أن إهدار عقيدة الولاء والبراء ومحاولة تجميع الناس على أساس ما يزعمونه من التعايش السلمي إنما هي محاولة لإخراج المسلمين عن دينهم، ويعلق الشيخ أحمد فريد على ذلك بقوله إن كلمات الاعتراف بالآخر وحق الآخر ينبغي أن تؤخذ بجانب الاعتبار في الحوار الإسلامي الإسلامي في السعي للتقارب ولا ننصح بقبول كل هذه المصطلحات ولكن نميز بين ما يقبل منها وبين ما لا يقبل، ويفرق الشيخ كمال الخطيب بين الآخر الإسلامي الذي يرفع لواء العمل للإسلام وخدمته فهذا ينبغي السعي للتقارب والالتقاء معه حتى وإن وجدت اختلافات وتباينات معه في الفروع ما دامت الأصول متفق عليها، وبين الآخر المحارب للإسلام ودعاته وإن كان يحاول الظهور باسم الدين كالقاديانية مثلا ، وعلى المنهج نفسه يفرق الدكتور همام سعيد بين آخر الإسلامي فلا بد من إزالة الوحشة بينهم سعيا وراء التقارب وأما الآخر المخالف في العقيدة فهؤلاء أنواع فمنهم الحربي الذي لا لقاء بيننا وبينه، ومنهم غير المحارب الذي يبقى في دائرة الدعوة والحوار لإقناعه بهذا الدين، ويرى الدكتور محمد العبدة أن المسألة تعتمد على من الآخر؟ هل هو في الكفار أم في المسلمين فكل واحد من هؤلاء له حكم وطريقة وموقف في الحوار وغير الحوار، ويرى الشيخ تيسير عمران أن المنظومة الفكرية التي تتحدث عن الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف يمكن أن تؤسس لحوار بين أصحاب الرؤى المختلفة وتفسح المجال لإثراء موضوعات البحث ويمكن أن تحقق شيئا من التقارب الفكري والثقافي ، ويستدرك الشيخ على هذا الإطلاق فيقول لكنها في الوقت نفسه إن تركت دون ضوابط تجعل من ثوابت الأمة حاكما عليها وموجبا لها فإنها تقود إلى التشتت والانحراف، ويقلق الأستاذ جمال سلطان من بعض المصطلحات التي لها رموز أو التي يصعب تحديد مدلولها كمصطلح الآخر والانفتاح على الآخر والحوار مع الآخر ويتساءل من(36/470)
الآخر وما صفته؟ ثم يقول عندما أتحدث عن الاتحاد الأوربي فهذا يختلف عن الكيان الصهيوني فهذا آخر وهذا آخر، ولكن منطق الحوار ومسوغاته ومشروعيته تختلف حتما لاعتبارات كثيرة، ويعقب على ذلك بقوله فأنا أتعامل بحساسية وحذر مع مصطلح الآخر ولكن الحوار في حد ذاته مطلب نبيل.
وفيما يتعلق بالتجديد
يتحدث الأستاذ خالد حسن عن الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في أي حركة تجديدية إصلاحية إسلامية حقيقية فيذكر من ذلك :أن يتحقق الإنتاج الفكري التجديدي بصفات العمل الشرعي حتى لا يحرم من التوفيق الرباني، واستعمال العلم بحيث لا يحدث انقطاع عن العمل وتُتَجاهَل قيمته الفعلية في توجيه النظر والرأي، والتوسل في النظر بمفاهيم عملية شرعية من خلال التمكن من العلم الشرعي فهما ودراية ومنهجية في التلقي والاستدلال، ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن مصطلح التجديد من المصطلحات الخطيرة التي يجب التنبيه إليها فمعانيه هلامية ولا يمكن الوقوف على حجم أو قياس أو معنى محدد له، حيث تظهر التصورات البدعية التي ترغب في التجرد من كل أساس يقوم عليه أمر الإسلام رغبة في إسلام غير الذي جاء به صلى الله عليه وسلم ، إن أهم ما لدى المسلم عقيدته وإيمانه وهو مطالب منذ أيام الوحي بالتجديد فيه قراءة وتدبرا وهو من المسائل الثابتة، وقد كان التجديد للتقوية والتحلية فكيف الأمر بما حكمه حكم المتغير الذي وجب التجديد أن يكون تجديدا في ماهيته وليس في مواصفاته؟ هما في الخلاصة دعوتان صادقة وكاذبة والواجب الالتزام بالأولى والإعراض عن الثانية، ويقدم الدكتور عبد الرزاق مقري نظرة تحليلية متعمقة في هذه الظاهرة حيث يقول التجديد ظاهرة تفرضها الحتمية النصية والسيرورة التاريخية، فهذه الرسالة هي آخر الرسالات ولا بد أن تجيب عن احتياجات الناس في كل فترة من فترات التاريخ، وإذا اعتبرنا أن فترة التجديد السابقة التي كانت في بدايات القرن الماضي والتي كان الهدف الأساسي منها توعية المسلمين وإخراجهم من الذهول الحضاري الذي صاحب انهيار كيانهم السياسي واستعمار أوطانهم قد استنفدت أغراضها، فإننا في بداية قرن جديد والله تعالى يرسل لهذه الأمة من يجدد لها دينها كما جاء الوعد بذلك في الحديث الشريف، وقد بدأت صحوة إسلامية في العالم بأسره وتحقق الشعور بالانتماء وتأكدت إرادة التغيير وبدأت الصحوة منذ سنوات تراوح مكانها من حيث الفكر والممارسة ولم تستطع تحويل الطموحات إلى إنجازات عملية ثابتة ومستقرة، وهذا يحتاج إلى إضافات فكرية جديدة وممارسات شرعية في مختلف المجالات وهذا هو مجال التجديد والاجتهاد وما نراه من تجارب مثيرة للجدل في بعض الأحيان في المغرب والجزائر ومصر والسودان واليمن وتركيا وماليزيا وأندونيسيا هي بدايات التجديد وسيثبت منها الأصلح ويجازي الله تعالى الجميع ، ويقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية الأصل أن عملية الإحياء والتجديد ترتكز على أصول شرعية ولها مفهومها وضوابطها وآثارها وهي علامة على حيوية هذا الدين وأبنائه في العودة إلى أصوله وتنقيته مما علق به أثناء التطبيق العملي، وقد شاعت الدعوة إلى التجديد في هذه الأيام لكن بمفهوم يختلف عن أصل معناه وعندئذ تنقلب الدعوة إلى وسيلة لتغيير الأصول والمناهج وتصبح أداة لنبذ الأحكام أو تغييرها بحجة التجديد وما هو بتجديد ولذا وجب التفريق بين هذين المنهجين، ويغدو التجديد في هذه الحالة عائقا أمام التقارب الفكري والثقافي إذ لا يلتقي المنهجان على أمور مشتركة أو ثوابت وضوابط متفق عليها بين الطرفين وذلك بعكس التعامل مع مصطلح التجديد بضوابطه الشرعية فإن ذلك يكون مدعاة للتعاون واللقاء ، وأما الشيخ سليمان أبو نارو فيتكلم عن أصحاب منهج التجديد المعاصر كلام من خبر أصحابه واكتوى بنارهم فيقول هذا المصطلح (التجديد) بمفهومه المعاصر هو من قبيل المنظومة سالفة الذكر (الآخر)، والحديث عن التجديد تروِّج له المدرسة العصرانية والتي تربي رجالها في كنف رجال الاستشراق وأدعياء الحداثة والمعاصرة . وسعي هذه المدرسة بين الناس على هذا النمط يزيد من صعوبة التقارب والاجتماع ويجعل الحوار (حوار طرشان)كما يقولون حيث لا ثوابت ولا أرضية مشتركة بل إلغاء للثوابت وتحريف للمفاهيم وتشكيك في المسلمات، وقد كان لتساهل بعض التيارات وتعاطف بعض عناصرها مع هذا (الطابور الخامس) لاعتبارات تقديرية أعظم أسباب القوة والقبول لدى بعض الطيبين من العامة بل والخاصة، وقد تحولت أطروحات هذه المدرسة إلى الجسر الذي يتحرك فوقه اليوم الأعداء من يساريين وعلمانيين بل وجماعات تقارب الأديان وتعايشها وينبغي اعتبار هذه المدرسة في قائمة أكثر قوة الهدم في ساحتنا الإسلامية.(36/471)
ويبدو الأستاذ جمال سلطان حذرا من استعمال مصطلح التجديد فيقول:يسري على مصطلح التجديد ما يسري على مصطلح الآخر فهو مصطلح ليس له أصل علمي في تراثنا العربي الإسلامي ، وبالتالي لم يخضع للضبط العلمي والمنهجي بعكس مصطلح الاجتهاد ، الذي صار له دلالة محددة وقواعد ومحددات شرعية وعلمية وموضوعية يمكن أن نتفهمها، أما مصطلح التجديد فعلى من يطلق لفظ المجدد؟ وما مواصفاته؟وما التجديد ؟ وهل هو وفق شرعية لا يخرج عنها؟ وكل هذه الأشياء تثير التساؤلات، ولذلك أنا دائماً حذر في بعض المصطلحات الجديدة وأعتقد أنَّ الغموض فيها يتيح لكل سيء نية أن يوظفها كيفما أراد دون أن يكون لها قيمة في حد ذاتها.
ويقول الدكتور محمد العبدة: قضية التجديد مطروحة في كل عصر فإنه مما يحث عليه الدين وقد بشر به الرسو صلى الله عليه وسلم ولكن التجديد أو أي مشروع أو مفهوم لا يمكن أن يكون دون ضوابط وأسس صالحة ، إنَّ ما يسمونه التجديد الذي شاع في هذه الأيام هو من النوع (المنفلت) من أي قيد والذي تتحكم فيه الأهواء ولكنهم يحيطونه باسم جديد وهو (التجديد) ومثل هذه الأمور لا تساعد أبداً على التقارب الفكري أو الحوار البناء.
ويوضح الدكتور عمر الأشقر معنى التجديد المشروع فيقول التجديد ليس هو لأمر مفقود يحتاج على إيجاد ولكنه أمر موجود يحتاج على إعادة تأصيل وبيان، إن التجديد يعني فقه الإسلام في ضوء الحياة الإسلامية التي كان يحياها الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس هو باكتشاف منهج جديد لم يكن في الإسلام، إن التجديد يعني العودة إلى الإسلام في صفائه ونقائه بعيدا عن التحريف والتشديد والتطرف والمغالاة وليس بدعوة جديدة ومنهج جديد نحتاج أن يكشف عنه أصحاب العقول فيبتدع كل واحد منهجا ونصبح أمام تلال وجبال من المناهج والتصورات فنقع في الضلال،
ويبين الشيخ تيسير عمران بوضوح أن الحديث عن التجديد في الدين وأثره في التقارب الفكري لا يعني مطلقاً إعمال يد التغيير بالحذف أو الزيادة فيه، ولا يعني التنازل عن قيمه ومبادئه تحت دعوى العقلانية أو التعددية أو غيرها ، وإنما يعني كما هو ثابت بالنص الصحيح " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" إنه تجديد لفكر الأمة بالاجتهاد، وإيمانها بالتربية، وفضائلها بالعمل، ومعالم شخصيتها بالعلم والمعرفة، ولا شك أنَّ لهذا التجديد إذا ما تحقق، أثره البالغ في إنجاح الحوار الإسلامي الإسلامي .
ويؤكد الدكتور صلاح الخالدي على أهمية الضوابط في التجديد فيقول :التجديد ليس منفتحاً مطلقاً ، وإنَّما هو تجديد منضبط بضوابط، حتى لا يتحوَّل إلى تخريب وإفساد، ونحن نعيش حمَّى الدعوة إلى التجديد المطلق، وهذه الدعوة تأتينا من أعدائنا ، وقد يردها بعض المغرضين أو المخدوعين في بلاد المسلمين ، ومن أهمِّ الضوابط للتجديد:
أ- التجديد ليس في الأسس والقواعد والثوابت والمقاصد، فهذه حدَّدها الإسلام وأثبتها ، ومنع التغيير فيها والتبديل ، وعد تغييرها إحداث وتحريف مردود ، ينطبق عليه حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم :" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ب- التجديد يكون في الأدوات والأساليب والوسائل ، ويقوم على تحسينها وتجويدها، فالتجديد لا يكون في المضمون، ج- الاستعلاء على ضغوط الآخرين بتغيير الخطاب، والاحتكام إلى المرجعية العالمية الدولية، المتمثلة بمجلس الأمن أو قرارات الأمم المتحدة أو غير ذلك، وعدم الاستجابة لتلك الضغوط والدعوات المشبوهة، والتعامل معها على أساس قول الله ـ عزَّ وجل ـ:(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتونك عن بعض ما أنزل الله إليك...)، ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن دعوة التجديد الحداثية ينبغي أن تكون من الدوافع التي توجب على أهل الحق الاتفاق ونسيان الخلافات الجانبية أو الفروعية، وتقوية أنفسهم وتحصين شبابهم من تلك الدعوات التي يراد منها تمييع الدين وجعله مسايرا للديانات المحرفة،
من يحمل هم الحوار والتقارب الإسلامي :
البيان : كلما تجاوب المجتمع مع دعوة من الدعوات كان ذلك أنجح لها وأدعى إلى الاستفادة منها، وفي المجتمع قوى علمية فاعلة كثيرة مثل الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية ودور النشر ووسائل الإعلام فما طبيعة الدور المرتقب من تلك القوي وكيف تكون مساهمتها فيه، وهل يمكن أن تساعد تلك المؤسسات في الحوار المطلوب أم أن ذلك سوف يظل قدر الحركات الإسلامية وحدها.
المشاركون :(36/472)
يرى الشيخ سليمان أبو نارو أنَّ هذه المؤسسات، لم تقم في الأصل لخدمة الإسلام وإحيائه ولا لجمع العاملين له وتقوية صفهم، بل في غالب أمرها قامت لهدم الدين ومحاربته وتشويه صورته وتلبيس أمره وصرف الناس عنه في عقائده وقيمه ومفاهيمه والتشكيك في مسالمته وخاصة أنها أسست على أيدي الأعداء ووكلائهم وقد قيل:(إنك لا تجني من الشوك العنب)، لكنه يستثني ويقول :هذا في الأصل فإذا كانت هناك استثناءات تخرج عن هذا التعميم أو كان في الإمكان تأسيس مثل هذه المؤسسات على التقوى من أول يوم، فذلك من أعظم الواجبات اليوم، وربما يرى البعض أن هناك إمكانية لخدمة الإسلام والتوفيق بين أهله من خلالها من غير أن يمس ذلك نقاء الدين وسلامة منهجه، ويبدي الشيخ وجهة نظره في ذلك بقوله: إنَّ التجارب والوقائع في جملتها لا تدل على ذلك، ولكلٍّ فيما يحاول مذهب.
ويتفق الشيخ حامد البيتاوي مع الرأي المتقدم فيقول هذه الوسائل الجامعات ووسائل الإعلام ممكن أن تلعب دورا ولكن هي غير معنية بهذا وخصوصاً أنَّ رؤساء الجامعات لهم عقول كبيرة ومفكرة ولكن قناعاتهم في غير هذا الاتجاه، وفي رأيي أنهم إذا أرادوا ذلك يستطيعون و يكون لهم دور فاعل لامتلاكهم القدرات، وينظر الدكتور منير محمد الغضبان بواقعية لحال هذه المؤسسات فيرى أن العمل على التقارب هو قدر الحركات الإسلامية ويوضح ذلك بقوله :في رأيي أن المشكلة تشمل قوى المجتمع نفسها فكثير منها لا يخضع لتوجيهات العاملين للإسلام ويحمل اتجاهاتهم،وقلما توجد الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية المستقلة لكنها مع ذلك تمثل الطبقة المتقدمة في الأمة وحاجتنا فيها إلى المنهج العلمي القائم على الأرقام والإحصاءات والاستبانات، ودور النشر تقذف كل يوم الآلاف من الصفحات وحيث لا تكون قائمة على المنهجية فقد تكون عبئا على عملية التقارب أكثر مما تكون عونا له، فالجامعات والكتب والمؤسسات الموجهة تفرز فكرا أحاديا يؤصل للخلاف أكثر مما يؤصل للتقارب، وتبقى المسئولية الكبرى في عملية التقارب في أعناق الواعين لأهميته وفي أعناق القيادات لهذه الحركات، إن الدعاة إلى الله تعالى حين يختلفون وينشرون خلافاتهم على الملأ إنما ينقلبون دعاة ضد الإسلام أمام الحائرين الباحثين عن الحقيقة مهما كان إخلاصهم لله تعالى، وإن اتفاقهم على ضعفهم وعجزهم خير من تفرقهم وتطرفهم فالتفرق يلتقي مع الكفر تحت راية واحدة "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"، ويربط الدكتور عثمان جمعة ضميرية بين دور هذه المؤسسات وبين استقلاليتها فيقول : عندما تتحرر هذه المؤسسات من الضغوط الخارجية والاستغلال يمكن أن يكون لها تأثير في الدعوة إلى الحوار والتعاون بما تقدمه من دراسات وبما تجمع بين جنباتها من خبرات
ويباين الشيخ حسن يوسف الآراء المتقدمة بقوله: ما من شك أنَّ الجامعات ومؤسسات السلام الاجتماعي أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني لها دور كبير فهذه المؤسسات باستطاعتها أن يكون لها دور فاعل ومؤثر في تقريب وجهات النظر بين أطراف الحركات الإسلامية مع بعضها البعض خاصة إذا سلطت الأضواء على المخاطر المحدقة بالأمة وإذا ما سلطت على وجوب تلاحم المسلمين مع بعضهم البعض بجهود لا تبغي إلاَّ مرضاة الله ولأنه في التوحد خير وفيه بركة والله سبحانه حذرنا من التفرقة وقال "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين"، ويتفق الدكتور همَّام سعيد مع الشيخ حسن يوسف فيقول عن قوى المجتمع : لها دور فاعل في التقارب بأن تفتح أبوابها للجميع والتركيز على المصالح أكثر من الوسائل ، والاهتمام بالأصول أكثر من الفروع ، وإشراك الجميع في عمليات الدفع والممانعة ، و بناء المشروع الفكري الذي يلتقي على هذه الأصول والمصالح، وبنحو مما تقدم يقول الشيخ تيسير عمران أيضا، ويبين الدكتور خالد الخالدي الآليات التي يمكن من خلالها أن تؤدي تلك المؤسسات دورها فيقول : ينبغي لهذه المؤسسات أن تلعب الدور الأكبر في تحقيق أهداف التقارب، ويمكن ذلك من خلال:
1- عقد المؤتمرات التي تدعو إلى الحوار والتقارب بين المسلمين، واستدعاء الطاقات الإسلامية ونشر الأبحاث خلال هذه المؤتمرات مما يؤدي إلى خلق رأي عام تجاه قضايا التقارب، ويشجع على تكرار هذه التجارب
2- دعوة أساتذة الجامعات إلى توضيح أهمية التقارب والوحدة باستمرار، حيث يقف يومياً آلاف الطلبة المسلمين المتحزبين كل إلى جماعته وكل يدعو إلى فرقته، ويمكن استغلال تجمعاتهم وبث روح الوحدة والقوة فيهم، والتشديد على مساوئ التحزب لجماعة إسلامية دون الأخرى.
3- منع أساتذة الجامعات من مهاجمة الجماعات الإسلامية لأن هذا يباعد من التقارب ويحقق الاختلال.
4- نشر الكتب والأبحاث، واستكتاب الكتاب والمفكرين حول مواضيع التقارب والوحدة.
5- إبراز ما حل بالأمة من دمار نتيجة الاختلاف والنزاع، وأن الأوطان لن تتحرر إلا بالوحدة والتكاتف والابتعاد عن الفرقة.(36/473)
6- تخصيص البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تسعى إلى التقريب، ومنع نشر كل ما يبث الفرقة بين المسلمين أو الجماعات الإسلامية.
7- التحذير من البرامج التي تبثها بعض القنوات الفضائية العربية والتي تسعى إلى إظهار سلبيات الحركات الإسلامية التي تقف بوجه الحكومات.
ويرى الأستاذ جمال سلطان أن هذه المؤسسات مختلفة في اتجاهاتها، لكن ينبغي لخيارات العمل الإسلامي أن تهتم بآليات التأثير في العصر الحديث، والاستفادة من هذه الأدوات والآليات من أجل تحقيق الإصلاح المنشود، فلا ينبغي إهمال هذه المؤسسات وخاصة المؤسسات الدينية العريقة بسبب بعض فترات الضعف التي تمر بها، بل يجب علينا أن نعمل على إصلاحها وإحياء دورها ، ويخص الشيخ أحمد فريد المؤسسات الإسلامية بهذا الدور، فيقول :أرى أن من وظيفة المؤسسات الإسلامية كالجامعات الإسلامية ومراكز البحث والمؤسسات العلمية أن تهتم بقضية الحوار فعندها وقت وجهد وباحثين، فتدرس ما يمكن قبوله من أفكار الجماعات وما لا يمكن قبوله، وتحدد من يمكن دعوته لمائدة الحوار ومن لا يمكن، إضافة إلى إعداد جداول للعمل على تقريب هذه الجماعات
وللأستاذ خالد حسن نظرة متعمقة حيث يدعو إلى إنشاء المؤسسات التي نحتاجها إنشاء فهذه هي التي يعول عليها في تحقيق المراد، ويشرح فكرته بقوله :إن صناعة الوعي تستحق التفرغ وبناء المشروعات والمؤسسات، وهناك مستوى آخر لا يقل أهمية وهو تجميع الفاعلين والمؤثرين في الأمة أو من تجاوب منهم مع أصل الفكرة والمبادرة في إطار مناهض لتوجهات الهيمنة والسيطرة والنهب، يرصد الخطط ويرسم استراتيجية المواجهة الشاملة ويقود الطاقات الجماهيرية ويوجه القوى الحية في ظل هذا التربص بالأمة ومقدراتها، هل يعقل أن أمة بطولها وعرضها ومخزونها لا تملك مؤسسة مستقلة أو منتدى حرا أو مجمعا للدراسات والاستراتيجيات يجمع أهل الخبرة والمفكرين سواء في أمريكا أو غيرها من دول الغرب لرصد خطط الهيمنة ووضع التصورات المستقبلية؟، وأمام الفتوحات الأمريكية للقارات والتحكم في مناطق الضخ يبرز مجال أوسع وأعمق في مهمة المفكرين والمصلحين والكتاب والفاعلين والقوى الحية في الأمة وهو رفع مستوى التحدي، ومواجهة استراتيجيات الهيمنة والسيطرة ليس ببث الوعي المجرد والأعزل فقط ولكن أن نؤسس لوعينا ولتصوراتنا مؤسسات ومنتديات تتابع الخطط وتكشفها وتميط اللثام عن الاستراتيجيات وترسم خطوط المواجهة الشاملة للأمة، إن أوقاتنا الراهنة لا يصح فيها تسجيل موقف والتوقيع على بيان إبراء للذمة وإعذارا إلى الله تعالى وبعدها يرجع كل منا إلى عرينه يستأنف مسيرة الوعي المجرد.
وينظر الدكتور كسَّال عبد السلام إلى أهمية التخصص وقدرة المؤسسات على القيام به فيقول :إن البناء المراد إنجازه في المجتمع يتكون من شقين:الأول:يخص الفكرة والتنظيم الذي يمثِّلها في أرض الواقع، والشق الثاني:يخص جانب الأعمال، الذي لم يعد في الوقت الحاضر بتلك البساطة التي كان عليها قديماً، وباتساع هذا المجال صار الاختصاص في كل شيء ضرورة، وهذا الذي تقوم به مؤسسات المجتمع كلها، ولقد صار كل شق يستلزم تثمين الشق الآخر له، إن التزام جانب الدعوة المجرد يعني إبقاء الإسلام على هامش الحياة، ولذلك لا بد من الالتفات إلى هذه المؤسسات، وجعلها عوامل تقوية ودفع لدعوة التمكين للدين، وهو يمدها بأسباب القوة والنجاح وهي تدعمه بوسائل التمكين، ويضيف الدكتور عبد الرزاق مقري :إن قوى المجتمع لا يسيرها الخطاب العام الذي كان له الفضل الكبير في إنشاء الوعي والصحوة فلا بد من الاهتمام بالمؤسسات المجتمعية في مختلف المجالات فهي التي تثبت ولاء الجماهير وهي التي تطور المشروع الإسلامي وهي التي تحمي الدعوة وهي التي توظف الطاقات وتؤهل القيادات وهي التي تحقق الإنجازات وتفتح سبل النجاح بإذن الله تعالى
نسأل الله أن يأخذ بيد الجميع لكل خير، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات
==============(36/474)
(36/475)
البث المباشر حقائق وأرقام
الشيخ أ.د ناصر بن سليمان العمر
http://www.almoslim.net/
أولاً: المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70، 71).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6).
أما بعد:
فقرابة عام 1400هـ قام د / محمد عبده يماني -وكان وزيرا للإعلام وقتئذ بإلقاء محاضرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكان مما ذكر أنه بعد حوالي سبع سنوات سيستطيع المشاهد للتلفزيون أن يرى عددا من القنوات العالمية عبر الأقمار الصناعية، كما يستمع الآن إلى بعض المحطات الإذاعية العالمية. وكان كلامه وقتئذ كأنه أحلام، ولكنه ظل عالقا في ذهني، أفكر فيه مرة بعد أخرى، ولم أجد حينها من الكتابات ما يؤيد ذلك أو ينفيه.
وفي عام 1408هـ بدأ الحديث عن هذا الموضوع، ومع مطلع عام 1409هـ أصبح الحديث أكثر جدية، وبدأت الندوات والتحليلات، مما يدل على أن الأمر واقع لا محالة.
هنا رأيت لزاما علي أن أولى هذا الجانب بعض ما يستحقه من اهتمام، ودعيت إلى إلقاء محاضرة عن الموضوع في رمضان 1409هـ فشمرت واجتهدت، وجمعت المصادر والمراجع، واستمعت إلى ندوة عقدت حول الموضوع، ثم ألقيت المحاضرة ولم أكن أتصور بعد إلقائي للموضوع أنني كمن ألقي حجرا في ماء راكد، حيث أحدثت المحاضرة صدى كبيرا، وتوالت الأسئلة والاستفسارات، ودعيت لإلقاء المحاضرات حول الموضوع داخل المملكة وخارجها، فألقيت ثمان محاضرات وشاركت في ندوتين(1).
وكنت خلال تلك المدة أتابع ما يستجد وأتلقى الرسائل حول هذه القضية. وكانت هناك رغبة في إخراج هذا الموضوع في رسالة أو كتاب، وكلما هممت في إخراجه جاء ما يؤجل ذلك، وبخاصة أنني أشعر أنه لم يكتمل بعد.
ومع بداية عام 1412هـ شعرت أن تحقيق هذه الرغبة أصبح أمرا لازما بعدما رأيت الحلم حقيقة، والخيال أصبح واقعا.
لما رأيت الأمر أمرا منكرا … …حاضرت قومي وكتبت مخبرا
وها هو الكتاب بين أيديكم، فما كان فيه من حق وخير فمن الله، وما كان فيه من تقصير أو قصور فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله.
ولي أمل في إخوتي الكرام أن يراعوا ما يلي:
1- أن الموضوع على جانب كبير من الأهمية، وخطورته لا تخفى، ولكن القضية أن أثره لا يظهر بين عشية وضحاها، وإنما على مر الشهور والسنين، ولذا قد يتصور البعض أن الموضوع لا يستحق هذا الجهد وهذا الاهتمام، وتجربتنا مع الأفلام والتلفزيون كافية، مع الفرق بينهما.
2- اعتمدت في بيان أثره على ما كتب وألقي في الموضوع، ونتيجة الدراسات التي أعدت حول أثر التلفزيون والأفلام، حيث استخدمت (قياس الأولى) وذلك أن ما سيرد في هذا البث أشد مما يعرض في بعض التلفزيونات العربية، بل وأشد مما في الأفلام، ودعوكم من الكلام الذى يقال خلاف ذلك (2) فقد ثبت لدي أن الأمر أدهى وأمر، ولا يصح إلا الصحيح.
3- قد يتعجل البعض فيتصور أني بالغت في الموضوع، وبخاصة عند بيان الأثر، وهذا الأمر غير صحيح، فقد تحاشيت المبالغة، وابتعدت عن العاطفة المجردة من الحقائق، ولذلك حرصت أن أجعل الأرقام والدراسات وكلام العقلاء والمختصين هو الذي يتحدث، ونوعت مصادر الدراسة والاستشهاد، دفعا لهذا التوهم، وأقول كما قال الأول:
أرى خلل الرماد وميض نار
فإن لم يطفها عقلاء قومي …
…ويوشك أن يكون لها ضرام
يكون وقودها ذمم وهام
4- قد يستغرب بعض الأحبة استشهادي بعض الأقوال لأشخاص كان الأجدر عدم ذكرهم، فأقول: مهلا، إن ذكري لهؤلاء ليس ثناء ولا توثيقا لهم، وإنما هو من باب "وشهد شاهد من أهلها" و "الحق ما شهدت به الأعداء" ولأبين أن خطر هذا الداء حقيقة يشترك في معرفتها أغلب العقلاء.(36/476)
5- ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، ومن هنا فقد اجتهدت في بيان العلاج وسبل الوقاية، ووقفت مع أغلب الحلول المطروحة، مناقشا، ومؤيدا، ومخالفا. ثم بينت تصوري حول ما أراه من علاج لهذه القضية، ومع ذلك فالموضوع يحتاج إلى مزيد من بيان سبل العلاج "وفوق كل ذي علم عليم".
6- وأخيرا: أتقدم بشكري -بعد شكر الله- لكل من ساهم في الإعداد لهذا الموضوع برأي أو كتاب أو سؤال (3) والحمد لله أولا وأخيرا على توفيقه وإعانته، وأسأله أن يجعل هذا العمل متقبلا، وأن يتجاوز عن خطأي وتقصيري وأقول بعد ذلك:
ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا
فلا تؤخذاني إن زل اللسان وما …
…نفثت يوما شكاه القلب عن كرر
شيء سوى الحمد بالضراء يجمل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أ.د.ناصر بن سليمان العمر
الدمام: يوم الجمعة 12/3412هـ
ثانياً: تمهيد
أهمية الإعلام في الحياة المعاصرة
منذ عشرات السنين قال الشاعر حافظ إبراهيم:
لكل زمان مضى آية … …وآية هذا الزمان الصحف
أما اليوم فلم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها،،واتخذت أشكالا عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات: وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشارا للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة. فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب، أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دورا مهما في حياة الناس،،ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة،،وتؤثر تأثيرا واضحا.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عددا من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت أحداث الخليج تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومما يذكر في هذا الشأن أن رجلا اشترى راديو من أحد المحلات في الرياض، وطلب من البائع أن يحدد له موجات تلك الإذاعات، ويثبته عليها، كما ذكرت ذلك إحدى الصحف. ورجل آخر اشترى عدة راديوهات وجعل كل راديو على موجة من هذه الموجات، حتى لا يفوته خبر منها.
ولم أر أن العرب أجمعوا على شيء كإجماعهم على الاستماع لإذاعة لندن، مع اختلافهم في تقويمها.
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمنا طويلا، حتى أصبحت في فترة من الفترات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيرا أقوى، حتى أصبح الملوك، والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفا، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يوميا، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
ويكفي أن أدلل على أهمية الصحافة بالتأمل فيما يلي:
(أ) يطبع في المملكة ثمان صحف عربية يومية، توزع أكثر من مليون نسخة.
(ب) يدخل إلى سوق المملكة عدد من الصحف العربية اليومية توزع أكثر من مليون نسخة.
(جـ) يطبع في المملكة عدد من الصحف اليومية باللغة الإنجليزية، توزع مئات الآلاف من النسخ.
(د) يطبع في المملكة عدد من المجلات الأسبوعية توزع مئات الآلاف من النسخ.
(هـ) يدخل إلى سوق المملكة شهريا أكثر من أربعمائة مطبوعة، بين جريدة، ومجلة دورية، توزع أكثر من عشرة ملايين نسخة.
فإذا قارنا هذه الأرقام بعدد سكان المملكة ندرك الدور الذي تلعبه الصحافة في حياتنا.
3- التلفزيون والفيديو:
وهذا بيت القصيد، ومربط الفرس؛ فبالرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى حسب ما بينت سابقا، فإن تأثيرها -رغم قوته - لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلوا منه بيت،أو يسلم من مشاهدته إنسان.(36/477)
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر د / حمود البدر (4) أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير (5) أي في حالة كونه مواظبا على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.
(جـ) طول مدة البث يوميا، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث إن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغبا للمشاهدة مستعدا للتلقي، متلذذا بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلما غريزيا، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مبارة من مباريات كرة القدم.
وقد قامت جريدة عكاظ (6) بإجراء تحقيق مع عدد من الطلاب الذين يشاهدون الأفلام فكان مما قالوه:
1- قال الشاب سلطان الدوسري: إنني أشتري كل أسبوع ثلاثة أشرطة، أو أكثر وأحرص على مشاهدتها منفردا حتى أستطيع أن أحس بالمتعة، والارتياح، وأرتاح كثيرا لهذه الأفلام التي لا أمل مشاهدتها، إذ يمكنني إذا شدتني أن أستمر في مشاهدتها لأكثر من ست ساعات دون أن أحس بأي ملل.
2- قال الطالب بسام العقيل: إنني أحرص دائما على اقتناء أشرطة عديدة من خلال اشتراكي في العديد من محلات الفيديو، وذلك لضمان الحصول على عدد معقول من الأشرطة الجديدة، وخاصة ذات الطابع العنيف، والتي أستمتع بها كثيرا، ولذا فقد أمضي النهار كله في مشاهدة الفيديو دون أن أحس بملل.
3- ويقول عبد الله الحمداني: أنا أشاهد أعدادا كبيرة من الأشرطة تصل غالبا إلى عشرة أشرطة في الأسبوع، حيث أقضي حوالي أربع ساعات يوميا في مشاهدتها. كما أحرص على اقتناء الأفلام ذات الطابع العنيف، والمغامرات والتي تجعلني أستمتع بها كثيرا.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، والتمثليات بلغ الذروة في الإخراج،واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيرا لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر. ولقد تطور التلفزيون تطورا مذهلا، ووصل إلى تقنية عالية الجودة، وانظر إلى هذه الأرقام (7) لتعي ما أقول:
عام
1920م بدأت محاولات إنتاج التلفزيون.
1927م بدأ الإرسال التجريبي.
1951م بدأ إرسال التلفزيون الملون.
1962م أطلقت أمريكا القمر الصناعي (تليستار).
1968م بدأ إنتاج مسجلات الفيديو.
1975م اخترعت شاشة التلفزيون المسطحة.
1979م بدأ عرض التلفزيون ثلاثي الأبعاد.
1989م بدأ البث التلفزيوني المباشر.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدودا إذا قورن بالمرحلة المقبلة، والانفتاح المذهل.
4- وهناك وسائل إعلامية كثيرة: كوكالات الأنباء،والأشرطة السمعية، وما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، والفاكس، والبريد الإلكتروني، وغيرها مما يساعد على تبادل المعلومات بسرعة فائقة، حيث أصبح العالم الرحب كقرية صغيرة، من حيث انتشار الأخبار، وسرعة وصول المعلومات، وتأثير الأحداث، والتدخل في شؤون الآخرين بسرعة مذهلة، فانقلاب في روسيا في الشرق تساهم أوربا وأمريكا في إسقاطه خلال يومين، وإشاعة حول بنك من البنوك في الغرب تقضي على بنك آخر في الشرق.
وقيام انقلاب في الشرق يؤدي إلى انهيار سوق الأسهم في الغرب خلال ساعات معدودة، وفشل الانقلاب يعيد الأمور إلى نصابها.
وبهذا نستطيع أن نقول إن الإعلام اليوم هو الذي يتولى مقاليد الأمور في العالم، والذي يستطيع أن يسيطر على وسيلة من وسائل الإعلام المؤثرة يكون قد شارك في الحكم عالميا، ومحليا حسب تأثير وسيلته، وقوة نفوذها.
ومن هنا، ولما للإعلام بعامة والتلفزيون بخاصة من تأثير على الأمم، والمجتمعات، ونظرا لما يتوقع أن يحدثه البث المباشر من آثار وبخاصة في عالمنا الإسلامي وأخص منه بلادنا نظرا لما تتمتع به من قيم ومبادئ حاول الأعداء اختراقها ففشلوا.
لهذا كله -وللأسباب التالية- جاء هذا الكتاب إعذارا وإنذارا.
وأوجز أسباب تأليفه بما يلي:
1- الآثار السلبية لهذا الأمر على المدى القريب والبعيد.
2- الجهود الجبارة التي يبذلها الأعداء في هذا المضمار، من صناعة الأقمار والأجهزة، وإعداد البرامج،والمؤتمرات استعدادا لهذا الحدث الضخم.(36/478)
3- أن الموضوع لم يعط حقه من الدراسة والتحليل، وما قدم في هذا المجال لا يعدو محاولات جزئية تفتقر إلى العمق، والشمول.
4- وجود بعض الأصوات المهونة من شأنه، والمقللة من خطورته، بل والمرحبة به (8).
5- المقارنة الخاطئة بين أثر الراديو عندما تم البث العالمي، وبين أثر البث التلفزيوني، حيث سوى الكثيرون بين الأمرين.
ثالثاً: البث المباشر:مقدمة لابد منها
بعد أن قمت بإلقاء المحاضرة الأولى عن البث المباشر -وكانت تكاد تخلو من التفصيل في الناحية الفنية لعملية البث المباشر- اتصل بي عدد من الإخوة، ورغبوا الإجابة على كثير من الأسئلة في هذا الجانب.
وعندما ألقيت محاضرتي الثانية في هذا الموضوع ضمنتها تفصيلا لهذا الجانب، فجاءتني بعض الأسئلة، وفيها عتب علي في ذلك، وأن الواجب عدم التفصيل حتى لا يستغلها ضعاف النفوس.
وفي هذه الرسالة سأفصل في هذا الموضوع للأسباب التالية:
1- أن معرفة الشر وطرقه من أجل عدم الوقوع فيه، وتحذير الناس عنه أمر مشروع، فإن حذيفة t يقول: " كان الناس يسألون رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه".
وقد أقره الرسو صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل أجاب على أسئلته.
2- أحاديث الفتن، وفيها بيان الشر وكيف يقع، وذلك من تحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته.
3- أن تجاهل الشر لا يحول دون انتشاره، بل قد يكون سببا لذلك، لغفلة الدعاة عنه.
4- أن ما سأذكره ليس من الأسرار الخاصة، بل هي معلومات متاحة، ومنشورة ولذا آمل من الإخوة الكرام مراعاة هذه الحقائق، وألا نكون كما قال الشاعر:
كن جاهلا أو فتجاهل تفز … …للجهل في ذا الدهر جاه عريض
رابعاً: تعريفه
هو قيام الأقمار الصناعية بالتقاط البث التلفزيوني في بلد من البلدان، وبثه مباشرة إلى أماكن أخرى تبعد عن مكان البث الأصلي مسافات بعيدة، تحول دون التقاط البث دون وسيط.
كيف يتم البث المباشر
من خلال التعريف السابق نلحظ أن مرتكزات البث تعتمد على ثلاث ركائز:
1- القناة التلفزيونية التي تبث البرنامج،أو الحدث.
2- القمر الصناعي الذي يتولى التقاط البث، وإعادة بثه مباشرة للمشاهدين.
3- المتلقي، وهو جهاز التلفزيون العادي، مضافا إليه جهاز التقاط مخصص للبث التلفزيوني المباشر، حيث يتلقى ما يبثه القمر الصناعي مباشرة دون وسيط.
ولمزيد من الإيضاح أشير إلى ما يلي:
إذا أعلن التلفزيون الأمريكي -مثلا- عن برنامج من البرامج، أو حدث من الأحداث كنقل مباراة عالمية تقام في لوس أنجلوس،،ورغب المشاهدون في السعودية رؤية هذه المباراة أو مشاهدة هذا الحدث، فإنه لا بد من الخطوات التالية:
تقوم وزارة الإعلام ممثلة بالتلفزيون بالاتصال بوزارة البرق، والبريد، والهاتف حيث يتم عن طريقها الاتفاق مع قمر من الأقمار الصناعية لحجز قناة تلفزيونية، ثم يتصل بالتلفزيون الذي يريد بث المباراة، ويتفق معه على نقلها فيقوم التلفزيون الأمريكي بالبث للقمر الصناعي، ويقوم القمر الصناعي بالبث للمحطة الأرضية التي تستقبل من الأقمار الصناعية كالمحطة الموجودة في ديراب (9) ثم تقوم المحطة بتحويل ما تتلقاه إلى التلفزيون السعودي الذي يقوم بدوره ببث ما يريد إلى المشاهدين عبر إحدى (10) القناتين التلفزيونيتين العاملتين حاليا، ولا بد من اتخاذ الإجراءات الفنية، والمالية اللازمة لدى كل من - القناة الأمريكية، القمر الصناعي - وزارة البرق والبريد والهاتف - وزارة الإعلام (التلفزيون). وبهذا يتم بث الحدث مباشرة.
أما ما سيحدث مستقبلا -والعلم عند الله- فإن المشاهد سيرى ما يبثه: التلفزيون الأمريكي مباشرة دون تدخل من التلفزيون السعودي، فكما يرى القناة السعودية سيرى القناة الأمريكية إن كانت منقولة، ومع ما سبق فإن هناك عوامل فنية تتحكم في البث المباشر، ولأهمية هذه العوامل فقد قام د/ محمد عبد المنعم فطيم (11) بشرح واف لها حيث قال:
جميعنا يشغله موضوع البث التلفزيوني المباشر من الأقمار الصناعية، وأهم التساؤلات المطروحة تتعلق بإمكانية الاستعاضة عن الهوائيات ذات الأقطار الكبيرة بأخرى صغيرة، وهل استقبال برامج هذه الأقمار بواسطة هوائي التلفزيون المنزلي ممكن أم لا ؟
وللرد على ذلك يجب معرفة بعض البيانات مثل الموقع المداري للقمر المعني، والموقع الجغرافي للراصد، قيمة القدرة المشعة للإرسال، وقطاع التغطية الأرضي لبث هذا القمر، بالإضافة إلى تردد الإشارة المستقبلة (12). أولا: الموقع المداري للقمر،والموقع الجغرافي للراصد (13).
توضع الأقمار الصناعية في مواقع مدارية تتحدد بخط الطول وهي (العنوان الذي نستدل منه على صاحبه) وبالتالي يلزمنا قبل الحديث عن أي قمر،أن نعرف عنوانه (خط الطول الذي يشغله) إذ سيحدد لنا ذلك إمكانية التعامل معه من عدمه، فضلا عن كونه يدخل في حساب اتجاه زاوية النظر الرأسية لهوائي الاستقبال باتجاهه.
أما الموقع الجغرافي للراصد (خط الطول وخط العرض)،فترجع أهميته إلى كونه أحد العوامل الرئيسية التي تحدد قطاع الرؤية، بمعنى أنه مسؤول عن تحديد الأقمار المدارية التي يمكننا التعامل معها من موقع الرصد.(36/479)
فمثلا باعتبار أن موقع الرصد هو الرياض (خط الطول 46.5 درجة شرقا و 24.5 شمالا)،فإن القوس المداري الذي تقع عليه الأقمار التي يمكن التعامل معها هو (332 درجة شرقا إلى 360 درجة شرقا) فوق المحيط الهندي، ويعني ذلك أن الأقمار التي تقع على القوس المداري فوق المحيط الباسفيكي (من 120 درجة شرقا إلى 80 درجة شرقا) والتي تقع على القوس المداري من (280 درجة شرقا إلى 332 درجة شرقا) فوق المحيط الأطلنطي لا يمكن التعامل معها من أراضي المملكة. ثانيا: القدرة المشعة:
ونعني بها شدة الإشارة التي يبثها القمر عند استقبالها بموقع الرصد، وهذه يتم حسابها في مرحلة تصميم القمر وفقا للمنطقة المطلوب تغطيتها، وتكون لها قيمة عظمى عند المركز كما تقل كلما بعدنا عنه، وبالتالي تعتبر قيمة القدرة المشعة عاملا رئيسيا في تحديد قطر الهوائي.
(فكلما زادت القدرة المشعة قصر طول الهوائي وكلما ضعفت زاد طول الهوائي) فمثلا إذا كانت قدرة القمر المشعة منخفضة في حدود (34 ديسيبل وات) فإنه يحتاج إلى محطة استقبال لا يقل قطر الهوائي عن (3) متر، أما إذا كانت القدرة المشعة مكثفة (65 ديسيبل وات) فأكثر فإنه يحتاج إلى هوائي قصير بين (45 إلى 90 سم) فقط حسب الموقع. ثالثا: قطاع التغطية الأرضي:
لا يكفى أن يكون القمر في موقع مداري يمكن للراصد أن يتعامل معه، بل يجب أن تغطي هوائيات الإرسال له موقع الراصد، فمثلا: رغم أن القمر الفرنسي (TDF) يقع على خط الطول (314) درجة شرقا، مجاورا لقمر الانتلسات الواقع على (342) درجة شرقا، وتتعامل معه محطة الرياض (4) إلا أن رصده من المملكة غير ممكن نظرا لعدم تغطية هوائياته لها (14). رابعا: تردد استقبال الإشارة، تردد الإرسال من القمر:
تعتبر الترددات - عموما سواء المستخدمة في القطاع الأرضي (15) أم الفضائي من المصادر الطبيعية التى ينتج عن عدم حسن استخدامها صعوبات ومشكلات هائلة، ولذلك فإن دول العالم ممثلة بالاتحاد الدولي للاتصالات وجهاته المختلفة تولي اهتماما بالغا بتقسيمها، وفقا لطبيعة الاستخدامات، وتضع قيودا على الترددات.
وأقمار البث المباشر قد حدد لها تردد معين، يختلف باختلاف الموقع للقمر والموقع للراصد (16) حيث إن التردد له تأثير على أي إرسال لاسلكي آخر، وعدم التحكم فيه يؤثر على غيره، فنجد أن التردد الذي تستخدمه روسيا للبث في سيبيريا، والذي تستخدمه اليابان للبث إلى جزرها، لا يصلح في أوربا وآسيا لتأثيره على بقية الاتصالات اللاسلكية، بل لا يصلح للبث في وسط اليابان أو وسط روسيا للسبب نفسه (17) .
أقمار البث المباشر :
تطورت الأقمار الصناعية للاتصالات تطورا مذهلا خلال سنوات محدودة، ولقد كانت الأقمار الصناعية تطلق في الفضاء لعدة أغراض (18) فنجد أن القمر يحتوي على عدد من الخطوط الهاتفية وبعض القنوات التلفزيونية، وهذه القنوات لا يمكن التقاطها من المشاهد العادي، بل لا بد أن يكون عبر المحطات الأرضية الضخمة، وبعد اتفاقيات دولية مسبقة. ولقد كانت ساعات البث من تلك الأقمار إلى المحطات الأرضية محدودة جدا ثم زادت شيئا فشيئا حتى بلغت الذروة تبعا لتطور الاتصالات والحاجة إليها. ففي عام 1965م كان مجموع ما بثته الأقمار الصناعية إلى المحطات الأرضية من البرامج التلفزيونية (80) ساعة فقط، ثم ارتفع ارتفاعا مذهلا حتى بلغ عام 1981م، مجموع ما بثته الأقمار الصناعية (26.658) ساعة، ووصل عام 1982م إلى (45.000) ساعة، وفي العام 1984م وصل إلى (75.000) ساعة (19).
أما الآن للبث التلفزيوني. وتعتبر أهم أقمار البث التلفزيوني المباشر والمسجلة بالاتحاد الدولي للاتصالات حتى الآن هي (20) شبكة أقمار ( TDF فرنسا ) و (TV-SAT ألمانيا) و ( TELEالسويد) و (BSB انجلترا) وفي الطريق عدد من الأقمار التي ستطلق قريبا.
ولمزيد من الإيضاح حول الأقمار الصناعية للبث المباشر أوضح ما يلي: (21)
1- القمر الصناعي يقع على ارتفاع شاهق يصل إلى 36 ألف كيلو متر عن الأرض.
2- يغطي القمر الواحد ثلث مساحة الكرة الأرضية.
3- يعمل القمر على مدار (24) ساعة.
4- كل قمر يحتوي على عدد من القنوات تصل في بعض الأقمار إلى (120) قناة.
5- أعلنت وكالة الفضاء الأوربية أن عدد سواتل البث المباشر -الأقمار الصناعية- سيبلغ عام 1990م (24) قمرا، بالإضافة إلى (60) قمرا للخدمات الأخرى.
6- ستعتمد هذه الأقمار على مواصفات جديدة تتفوق على الأنظمة المعمول بها حاليا كـ (بال وسيكام) وغيرهما، حيث ستمنح الصورة صفات نوعية من ناحية الألوان، وكذلك الصوت والتقنية.
7- وأخيرا فإنه من الصعب في الوقت الراهن الحكم على فاعلية أقمار البث التلفزيوني المباشر مستقبلا، نظرا لظهور الكوابل البصرية كمنافس قوي لها من حيث التكلفة ومخاطر الإطلاق (22) وهذا يعني أن الشر قادم، ولكن عن الطريق الأشد (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: من الآية30).
خامساً: الجديد في البث المباشر(36/480)
1- بدأ البث المباشر يستقبل في تونس، حيث نشرت الصحف أن القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي بدأت تستقبل في تونس عن طريق بث القمر الصناعي الفرنسي (تلكوم) وعلى امتداد عشرين ساعة في اليوم من 6 صباحا إلى ما بعد منتصف الليل (23). ومن الجدير بالذكر أن تونس تستقبل التلفزيون الإيطالي منذ عدة سنوات (24).
2- نشرت جريدة الأهرام أن مصر على وشك استقبال البث الفرنسي، ولكن عبر محطة أرضية، ويبث مباشرة إلى المشاهدين وإلى عدد من الدول، وقد تم توقيع اتفاقية بين الدولتين بهذا الشأن، وسيكون البث يوميا، وعبر قناة مستقلة (25).
3- من المتوقع أن يتم إطلاق مزيد من الأقمار الصناعية خلال السنوات القادمة، إذا سار البرنامج حسب ما رسم له من قبل مخططيه، ولم تعترضه عوائق جديدة، فقد ذكرت مجلة اليمامة أن قنوات البث ستبلغ خلال التسعينات (120) قناة (26) وأن إسرائيل على وشك إطلاق قمرها في الفضاء.
4- بدأ التنافس، والسباق بين أمريكا، واليابان،وأوربا الغربية، بل وبعض دول شرق آسيا مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج، وذلك لتصنيع أجهزة الاستقبال من الأقمار الصناعية، ويعتمد التنافس على أيهما أصغر حجما وأقل كلفة وأعلى تقنية، وقد طرح في الأسواق العالمية عدد من هذه الأجهزة بسعر عشرة آلاف دولار أو تزيد قليلا (27).
5- ذكر المهندس عبد المحسن عبد الله أحد الفنيين الكويتيين أن تكاليف هذه الأجهزة ستنخفض خلال ثلاث سنوات، حتى إن جهاز الاستقبال سيكون جزءا من التلفزيون (28).
6- أعلنت الشركات الفرنسية أنها ستشرع في توزيع أجهزة وهوائيات استقبال، ولن يزيد ثمنها عن (6000) فرنك ودخول منافسين سيقلل من قيمتها (29).
7- ذكرت مجلة اليمامة أنه سيكون في المستقبل من الممكن صناعة أجهزة الاستقبال محليا، بل استطاع أحد المهندسين الكويتيين صناعة جهاز استقبال محلي والتقط به البث بنجاح (30).
8- أعلنت شركة (فديوثرون) البريطانية أنها ستبدأ في نقل البث التلفزيوني المصري وتبثه مباشرة إلى المشاهدين في بريطانيا ولكن عن طريق الاشتراك بالخطوط الهاتفية (31).
9- قد تكون هناك مرحلة وسيطة قبل اكتمال البث، وذلك عن طريق المحطات الأرضية التي تبث مباشرة يوميا عبر قناة خاصة، وعن طريق الكيابل السلكية كما في مصر وشركة (فديوثرون) وشبكة (SNN) الأمريكية (32) أو عن طريق أجهزة استقبال خاصة ومكلفة حاليا.
10- تخطط دولة العدو الإسرائيلي لإطلاق قمرين صناعيين يحوي الأول منهما على (17) قناة قمرية للاتصالات والبث التلفزيوني بقدرة أشعة فعالة بينما يصل الآخر إلى ست قنوات قمرية، وسيغطي القمر بالإضافة إلى فلسطين الحدود الشمالية للمملكة، والدول العربية الواقعة شمال المملكة (الأردن -سوريا -لبنان -العراق وجزء من مصر). ومن المحتمل أن يحدث تداخل موجي مع أنظمة عربسات وذلك عن طريق إطلاق القمر مستقبلا، وقد تمت الموافقة على موقع القمرين من الاتحاد الدولي، وستكون على (15) درجة شرق خط غرينتش (33)
11- وأحب أن أشير إلى الظاهرة التي انتشرت أخيرا، وهي تركيب أجهزة استقبال وهوائيات كبيرة، وذلك للتمكن من مشاهدت بث الدول المجاورة، فإن هذا الأمر يتم دون الحاجة إلى أقمار صناعية فضائية، وإنما يعتمد على قوة بث محطة التلفزيون من البلد المعني، ثم على قوة الهوائي المستقبل واحتوائه على مواصفات معينة، أصبحت الشركات وبعض المؤسسات تعلن عنها، وتؤمن تركيبها.
والخطورة التي تشتمل عليها هذه القنوات لا تبعد كثيرا عن خطورة ما يتضمنه البث المباشر. بل قد تكون أشد في بعض الجوانب لكونها باللغة العربية.
12- كما أشير إلى ظاهرة أخرى، وهي أن بعض الناس بدأ يستقبل بعض القنوات العالمية بعد وضع جهاز استقبال عادي ويضيف إليه بعض المقويات للموجات، ثم يتصور أنه يستقبل من القمر مباشرة، وهذا غير صحيح، وإنما الذي يحدث هو أن أحد السكان يستقبل من القمر عن طريق محطة أرضية صغيرة خاصة توضع في الفلل أو على أحد الأسطح، وهنا يستطع كثير من الجيران الاستقبال نظرا لأن هذه المحطة يتعدى بثها إلى مسافات تطول وتقصر حسب مواصفات معينة، ولا يقتصر بثها على صاحبها فقط، إلا إذا اتخذت احتياطات خاصة، ولو تعطلت هذه المحطة مثلا لتوقف الاستقبال عن جميع الجيران الذين يستقبلون منها دون أن يعلموا عن السبب (34).
13- والكتاب في مراحله النهائية أعلن (مركز تلفزيون الشرق الأوسط) عن بدء البث التلفزيوني وذلك يوم 18 سبتمبر 1991م كما يلي:
(أ) لالتقاط البث في أوربا عبر القمر الصناعي الأوربي (EUTELSAT_2_F1) - 13 درجة شرقا.
(ب) لالتقاط البث في العالم العربي عبر القمر الصناعي العربي- عربسات- (IB-S.BAND) - 26 درجة شرقا.
وسيكون البث من الساعة الخامسة عصرا حتى الحادية عشرة بتوقيت غرينتش (35).
سادساً: آثار البث المباشر
أي آثار أتحدث عنها، ماذا آخذ وماذا أدع؟
إن الحديث عن آثار البث المباشر لا ينفصل عن الحديث عن أثر الإعلام الخارجي وماذا جنى على أمتنا خلال العقود التي مضت.(36/481)
والحديث عن البث المباشر هو الحديث عن الأفلام وما خلفته من ركام، ولا تزال تعبث في أجساد وعقول أمتنا شبابا وشيبا. وقبل الدخول في تفصيل ذلك أضع بين يدي القارئ الحقائق التالية:
1- ذكر الدكتور محمد عبده يماني (36) أن منظمة اليونسكو أجرت دراسة اتضح من خلالها أن 90% من الأخبار التي يتناقلها العالم من إنتاج خمس وكالات عالمية فقط، وهي:
(أسوشيتدبرس) و (يونايتدبرس) و (وكالة الصحافة الفرنسية) و (رويتر) و (تاس السوفيتية). والأوليان أمريكيتان، والثالثة فرنسية، والرابعة بريطانية، والخامسة سوفيتية.
وانظر إلى هذا الجدول (37) لترى الأمر العجب وموقعنا بين الأمم:
م
…
اسم الوكالة
…
عدد البلدان المستفيدة
…عدد الكلمات المبثوثة يوميا
1 …أسوشيتدبرس …108 …(17) مليون كلمة
2 …يونايتدبرس …92 …(11) مليون كلمة
3 …وكالة الصحافة الفرنسية …152 …(3,351,000) كلمة +(50) صورة
4 …رويتر …147 …(1,500,000) كلمة
5 …وكالة الشرق الأوسط …25 …(185) ألف كلمة فقط
ويلحظ ما يلي:
(أ) إن هذه الدراسة قديمة وقد زادت بتطور الإعلام.
(ب) انظر إلى عدد البلدان مع الرقم.
(جـ) تم اختيار وكالة الشرق الأوسط لأنها من أقدم وأشهر الوكالات العربية.
ألقى الشيخ سلمان العودة (38) محاضرة عن أخطار الأفلام وتأثيرها، وذكر خمسة عشر خطرا وقال هي إلى المائة أو إلى المائة والخمسين أقرب، كما قال ابن عباس عن الكبائر عندما سئل هل هي سبع؟ فقال: هي سبعون أو إلى السبعمائة أقرب.
وجميع هذه الأخطار متوافرة في البث المباشر، بل الأمر أعظم من ذلك كما سيأتي.
3- عندما تحدث د / عوض منصور عن البث المباشر (39) اقتبس جملة من حديث مشهور، استدل بها على خطورة البث المباشر وهي: " ويل للعرب من شر قد اقترب" (40).
أما مجلة اليمامة فقد اختارت للدراسة التي قامت بها عن البث المباشر عنوانا معبرا حيث قالت: (اختراق يقصم الظهر) (41).
ويقول عبد الرحمن واصل معبرا عن بعض الأخطار: (يبنون ناطحات السحاب على أنقاض صروح الفضيلة) (42). وهذه العناوين والاختيارات تعبر بالجملة عما سأذكره لاحقا -إن شاء الله-.
على رسلكم:
فوجئت -كما فوجئ غيري- ببعض الأقلام تخرج علينا في عدد من صحفنا ومجلاتنا، لا محذرة من خطورة البث المباشر، ولا طارحة بعض الحلول الوسط كما فعل الكثيرون، وإنما لتهدئ من روعنا، وتخفف من مخاوفنا، وتبشرنا بأن البث المباشر لا يحمل الشر كما نتوقع، وليس فيه ما يعكر صفو الحياة والمبادئ والقيم، كما وصل إليه علمنا. وتقول إننا نهول ونولول على غير هدى وبصيرة. وكما فعلنا بالأمس عندما جاء الراديو، ها نحن نعيد الكرة مرة أخرى، وهذا دأبنا عند كل جديد، وستزول هذه المخاوف عندما تصبح الحقيقة ماثلة أمام أعيننا، جاثمة داخل بيوتنا.
بهذه البساطة طرح أولئك القوم أفكارهم، وأثبتوا أنهم وصلوا إلى مرحلة من النضج لا يفرقون فيها بين تأثير الراديو وتأثير آخر صيحات التلفزيونات العالمية. ولا يدركون الفرق بين مستوى وعي العامة منذ سبعين سنة (43) وبين وعي طلاب العلم في القرن الخامس عشر.
وسأختار نموذجين من هذه الأصوات لأبين إلى أي مستوى وصل إليه بعض مثقفينا، ولأنبه إلى أنه في الوقت الذي يجب أن نعالج فيه مشكلات البث المباشر، يجب أن نباشر معالجة البث الغربي بيننا، وفي داخل صفوفنا، ممن يتكلم لغتنا وينتسب إلى بني جلدتنا:
تكاثرت الضباع على خراش … …فلا يدري خراش ما يصيد
فهذا أولهم يأتينا بما لم تأت به الأوائل ويخبرنا عن بني الأصفر ومدى ارتفاع مستوى أخلاقهم، مما جعلنا نعيد النظر فيما جاءنا عن الثقات، وما رأيناه بأم أعيننا عن أولئك القوم. اقرؤا ما يقول - هداه الله: (44) (إن التقدم الذي يجري على وسائل الاتصال ليس كله شرا، ودول العالم التي تملك هذه التقنية ليست كلها متجردة من القيم والأخلاق والمبادئ، ولعل من يراقب برامج التلفزيون في بعض دول الغرب -مثلا- يجد أنها تضع حسابات دقيقة لمواقيت (45) بعض البرامج، مراعاة للأطفال والمراهقين وغير ذلك من الاعتبارات).
أما الثاني: فقد بين كيف كانت حالته في قريته التى ولد فيها على الفطرة، وكيف أصبح بعد ذلك، بعد أن هدم سور القرية، وذكر كيف انزعج الناس من الراديو عندما قدم، وكيف ارتفعت أصواتهم، وإذا به يصبح أمرا عاديا، وأشار إلى الأصوات التي ترتفع الآن ضد البث المباشر، وكان مما قال (أعتقد لو أن البث الإذاعي المباشر تأخر قرنا آخر لقامت الأصوات ضده حين يشاع عن بدئه، كما تقوم الأصوات الآن ضد البث التلفزيوني العالمي المباشر، الذي نأمل أن يثري ثقافتنا، ويفتح عيوننا وعقولنا، وينقل العالم كل العالم إلى غرفنا الخاصة، وبالألوان وبالمجان) (46).
وتحدث في مقاله الذي عنون له بما يزلزل القلوب الحية (أهلا بالبث العالمي المباشر)، وقلنا لعل العنوان للإثارة، ولكن كما قال المثل: (تحت السواهي دواهي).(36/482)
ها هو يقول- رده الله إلى الحق-: (إن الأمم التي سوف ترسل بثها التلفزيوني إلينا عبر الأقمار الصناعية، ليست أمما فالتة من الأخلاق، خارجة عن القيم... كلا (47)... بل هي أمم لها أخلاقها وقيمها، لقد شاهدت التلفزيون الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والهولندي واليوناني -عبر سفريات- فلم أجدها يخدش الأخلاق الأصيلة) (48).
هكذا كتبا، وكتب غيرهما قريبا من ذلك، ولهذا فإني أوضح ما يلي:
1- لن أرد على ما ذكرا، فمن خلال الصفحات التالية ستتضح الحقيقة إن شاء الله.
2- أذكرهما وأمثالهما بقوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219).
وأذكرهما بقاعدة (دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة)،وقاعدة (سد الذرائع) بل أذكرهما بمثل يعرفه أهل القرى (الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح).
3- وأخيرا أقول لهما، ولأمثالهما: على رسلكم، فلن يصح إلا الصحيح و (قل خيرا،أو فاصمت) و (قل خيرا تغنم،أو أمسك عن شر تسلم).
يصعب حصر آثار البث المباشر المتوقعة، ولكن سأكتفي بأبرز ما يتوقع من آثار بناء على الحقائق والأرقام التي سأذكرها، فنحن لا نرجم بالغيب، ولا ننطلق من عاطفة خالية من الحقائق، ولا يجوز أن نسكت حتى يأتي لنرى أخطاره وآثاره.
أولاً: الأثر العقدي :
من أخطر ما يتوقع أن يجلبه البث المباشر زعزعة عقيدة الإسلام في نفوس كثير من الناس، فاليهود والنصارى قد جعلوا من أهدافهم إخراج المسلمين من دينهم وزعزعة العقيدة في نفوسهم، وقد تحقق شيء من ذلك عبر وسائل كثيرة من أبرزها التلفزيون، ولننظر في هذا التقرير الذي صدر عن اليونسكو:
................. … …والحق ما شهدت به الأعداء
"إن إدخال وسائل إعلام جديدة، وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن" (49).
ويمكن تلخيص الآثار العقدية بما يلي:
1. خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها:
وذلك عبر وسائل، وأساليب متعددة حتى يعيش المسلم في حيرة، واضطراب، ويصبح كما أصبح الخيام ذات يوم، عندما عبر عن حالته قائلا:
لبست ثوب العمر لم أستشر
وسوف أنضو الثوب عني …
…وحرت فيه بين شتى الفكر
ولم أدر لماذا جئت أين المفر
وكما عاش سيد رحمه الله قبل الهداية:
وقف الكون حائرا أين يمضي
عبث ضائع وجهد غبين …
…ولماذا وكيف لو تشاء يمضي
ومصير مقنع ليس يرضي
2- إضعاف عقيدة الولاء، والبراء، والحب، والبغض في الله :
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق،والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات،والمسلسلات سيخفف، ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري، فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس. والله جل وعلا يقول: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة: من الآية22) [الآية].
ومن أمثلة ذلك، حب وتعظيم كثير منهم كلاعبي كرة القدم، وخذ مثلا (مارادونا) (50) وبعض المغنيين كـ(مايكل جاكسون) الذي تعلق به كثير من الشباب، والفتيات. و (ستيف) الذي أعجب به حتى الأطفال، وأصبح الواحد منهم يقوم ببعض الحركات ويقول: أنا (ستيف). ناهيك عن حب كثير من الممثلات وعارضات الأزياء، وهلم جرا.
3- تقليد النصارى في عقيدتهم :
وذلك "باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة، والخاصة. ولو نظرنا إلى بعض المسرحيات التي يقوم بها بعض أبناء المسلمين، كيف أن الممثل عندما يخرج إلى الجمهور يصفقون له ثم، ينحني لهم بما يشبه الركوع مما لا يجوز صرفه إلا الله، وهو تقليد غربي. وقس على ذلك ما عداه... ومن ذلك التشبه، حيث رأينا القصات العالمية، قصة مايكل جاكسون وقصة (ديانا)، وكذلك التشبه باللباس، وطريقة الأكل، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة " ومن تشبه بقوم فهو منهم " و " من أحب قوما حشر معهم ".
4- إظهار بلاد الكفر بأنها بلاد الحرية، و الديموقراطية والعدالة: وذلك بما يتاح للفرد فيها ما لا يجده في بلاد المسلمين، كحرية الكتابة، وإبداء الرأي، والمظاهرات، وأسلوب المحاكمات، وبعض هذه الأمور أوجه حسنة- ولا شك- وفي ديننا ما هو أفضل منها، ولكن إبراز هذا الأمر يعطي صورة غير حقيقية عن تلك البلاد، مما يجعل بعض المسلمين يتعلق بها، بل ربما يدخل في روعه أن سبب ذلك بسبب عدم تمسكهم بدين، وأن تأخر المسلمين بسبب دينهم، وقد سمعنا مثل ذلك ممن ذهب إلى الغرب، وفتن بحضارته.
5- نشر الكفر، والإلحاد: حيث إن كثيرا من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. ومن ذلك أفلام السحر، حيث تكثر في تلفزيونات أوروبا، وأمريكا، بل وصلت إلى بعض التلفزيونات العربية، وقد ذكر أحد الدعاة أنه قد رأى ذلك في أحد تلفزيونات الخليج، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(36/483)
6- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية: عبر البث المباشر واقرأ هذه الأخبار لتعرف الحقيقة:
(يستعد الفاتيكان لبناء محطة تلفزيونية كبيرة، للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار صناعية تسمى بمشروع نومين (51) (2000) مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الأرضية.
(عقد في هولندا اجتماع عالمي للتنصر حضره (8194) منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف (21) مليون دولار، برئاسة المنصر جراهام بيلي، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامرتيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير) (52).
ويقول الأستاذ: د/ عمر المالكي:
(والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس، مثل شبكة البث المسيحي (53) (NBN) وشبكة (CBN) والشبكة الأخرى يصل بثها إلى أكثر من (17) مليون عائلة عن طريق الكابلي (vATC) وبرامجها على مدار الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي (SATC 3) وتوجد عدة قنوات للبث الديني، واحدة منها للبث الديني اليهودي، ومن المقرر بنهاية 1990 م أن يصل عدد الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة آلاف (54).
هذه بعض آثار وأخطار البث المباشر على عقيدة المسلمين، وقد لا تبدو تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر، حيث يقول الأستاذ - عبد الرحمن العبدان (55) وهو يصنف أنواع البرامج في البث المباشر، حيث ذكر عددا منها ثم قال ومنها: البرامج الموجهة للصغار، وفي رأيي أن هذه أكثر أنواع البرامج الوافدة خطورة، لأن الطفل أكثر تعلقا بالبرامج الجذابة، وأسرع تأثرا بها، وأقل تمييزا لما يقدم من خلالها، إذ أن تأثيراتها السلبية قد تطال سلامة العقيدة أو صفائها إلى جانب السلوك (56).
وأذكر المقللين من خطورة البث المباشر الذين يحسنون الظن بالغرب أذكرهم بقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120).
ثانياً: الأثر الثقافي والعلمي :
لم أكن أتصور قبل القيام بهذه الدراسة أن واقع البلاد العربية في هذا المستوى من الأمية، والجهل، وارتفاع نسبة الأمية في البلاد العربية له تأثير سلبي أثناء التلقي من الحضارة الوافدة، سواء كانت عن طريق البث المباشر، أو غيره.
وإلقاء نظرة سريعة على هذه الأرقام تغني عن محاضرات وبحوث:
في ندوة (ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) التي عقدت في الرياض عام 1402 هـ تحت إشراف مكتب التربية العربي لدول الخليج، جاءت دراسة مهمة أذكر بعضا منها:
يوجد أكثر من 33% من أطفال البلاد العربية ما بين سن 6 - 14 خارج المدرسة، ويقدر هذا العدد بأكثر من خمسة عشر مليون طفل.
يوجد 75% من شباب البلاد العربية ما بين سن 15- 17 خارج المدرسة الثانوية بمختلف أنواعها.
يوجد حوالي 90% من شباب البلاد العربية من 18- 24 دون تعليم عال، أو جامعي.
يوجد قرابة 50% من أفراد المجتمع العربي فوق سن (15) من الأميين (57). بل إن مما يزيد الوضع صعوبة، وتعقيدا، ما يقضيه الطالب- بين حجرات الدراسة وما يقضيه أمام التلفزيون، فقد ذكر د/ حمود البدر أن الأبحاث، والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفزيون (15.000) ساعة، بينما لم يقض في حجرات الدراسة أكثر من (10.800) ساعة على أقصى تقدير (58).
هذا مع أن هؤلاء التلاميذ لا يشاهدون إلا قناة أو، قناتين، فكيف إذا أتيحت لهم مشاهدة عدة قنوات، دون حسيب،أو رقيب. لهذا فإن البث يشكل خطورة على ثقافة الأجيال التالية، متمثلا بما يلي:
ا- إضعاف مستوى التعليم لدى أفراد الأمة، وقد أجريت دراسة عن أثر التلفزيون على تحصيل الطالب فأفاد 64% ممن شملتهم الدراسة أنه يشغل عن التحصيل، والاستذكار.
2- تلقين مفاهيم جديدة.
3- ربط الناس بمناهج غربية، يساعد على ذلك شيوع تعلم اللغات الأجنبية.
4- شيوع الخمول، والكسل، وعدم الجدية، وبخاصة أن أشد البرامج إغراء ليلتي السبت،والأحد، وهما من أيام الدراسة في البلاد العربية، أضف إلى ذلك السهر الذي سيؤثر على بعض الطلاب؛ لأن وقت عرض البرامج المغرية في أول الليل هناك، يكون الوقت عندنا متأخرا، كان يجري أثناء نقل المباريات العالمية التي تجري عندهم بعد العشاء مباشرة، تكون عندنا قرب الفجر (59).
5- إضعاف مستوى التلاميذ في اللغة العربية، ونحن الآن نشكو من الضعف في هذا الجانب دون بث مباشر، فماذا سيحدث بعد ذلك.
وأختم هذا الجانب بهذه الحقائق:
(شكت وزيرة الثقافة اليونانية (ملينا يركورى) من أن بلدها قد دهمته الثقافة الأمريكية (60)
وفي فرنسا صرح وزير الثقافة الفرنسي في السبعينات أنه خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية للاستعمار- الثقافي الأمريكي (61).(36/484)
وجاء وزير الثقافة الفرنسي الجديد (جاك لانق) وشن حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية، وقال إنها أصبحت صنابير تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، فقد لاحظ أنه في يوم الأحد، وفي الساعة الواحدة ظهرا، تجد خمس قنوات فرنسية تبث مسلسلات أمريكية، مع أن عدد القنوات الفرنسية ست قنوات فقط، أي أكثر من 80% تبث الثقافة الأمريكية (62).
وشكا رئيس وزراء كندا (بيار ترودو) من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي (63).
إذا كانت هذه حال أولئك القوم وشكواهم مع أنهم في وضع سياسي متقارب، ودينهم واحد، ومناهجهم متشابهة، فكيف بنا، وماذا ستكون حالنا مع الثقافة الوافدة، يقول الأستاذ/ عبد الرحمن العبدان، وهو يتحدث عن البث المباشر، وخطورته في الجانب الثقافي (ثم البرامج الثقافية الموجهة، والتي يمكن أن نسميها بالغزو الفكري، وهذه سوف تسيئ لكثير من مفاهيم الشعوب المستهدفة وقيمها، ولا بد من مراقبتها، وتبصير المتلقين بأهدافها، وتحصينهم من آثارها) (64).
ثالثاً: الآثار السياسية :
كانت الدول الكبرى في الماضي تسيطر على الدول الصغرى عن طريق القوة العسكرية، وبهذا تخضعها لنفوذها، وتستعمر أراضيها.
وقد عانت الدول الكبرى، والصغرى من ويلات وآثار الاستعمار الحديدي، أما اليوم فقد انتهى الاستعمار العسكري تقريبا، وأصبحت الدول تتحاشى مجرد. وجود قواعد عسكرية في أراضيها، إلا إذا اتخذ شكل الحماية لتلك الدولة من عدو مجاور، أو قريب.
وبما أن الدول الكبرى لا يمكن أن تتنازل عن مطامعها ومصالحها، حتى لو كانت على حساب الغير، فقد توصلت إلى عدة وسائل تستطيع بها أن تحافظ على نفوذها السياسي، وتستمر هيمنتها وتبعية الدول لها، واستعمار العقول أخطر من استعمار الأراضي.
ومن هنا فقد بدأ ما يسمى بالاستعمار الإلكتروني، والبث التلفزيوني سيساهم بأفلامه، وبرامجه، ومسلسلاته في تحقيق أهداف القوى الاستعمارية، فقد صرح وزير خارجية كندا عام 1976 م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة (65)
وأثبتت بعض الدراسات أن هناك بعض الأطفال الكنديين لا يعرفون أنهم كنديون؛ لتأثرهم بالبرامج الأمريكية التي تبث إلى كندا مباشرة، (66).
وفي فرنسا عندما شعر الرئيس الفرنسي (شارل ديغول) بخطورة تأثير الأفلام الأمريكية، قام بعدة إجراءات منها:
1- إلغاء الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية.
2- الإنسحاب من الحلف الأطلسي.
3- إعادة النظر في العلاقات الثقافية، والسياسية مع أمريكا.
وقد أعلن صراحة أن تلك الإجراءات (حماية لفرنسا من الاستعمار الثقافي الأمريكي) (67). وما أحسن مما عبر عنه فهمي هويدي (68) معلقا على دخول البث التلفزيوني إلى تونس حيث قال:
خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام 1956 م، ولكنه رجع إليها عام 1989 م، لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسرة نومنا.
رجع ليقضي على الدين، واللغة، والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب، والترحاب، كنا ننظر إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه إنه الاستعمار الجديد، لا كاستعمار الأرض، وإنما استعمار القلوب، إن الخطر يهدد الأجيال الحاضرة، والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء، والأمهات. وقال: إن الفرنسيين غادروا تونس عام 1956 م وعادوا إليها عام 1989 م ليقتحموا كل بيت،،وقرروا أن يقضوا داخله 20 ساعة كل يوم، يمارسون تأثيرهم على اللغة،والأخلاق، والفكر، والوعي، عند الصغار والكبار، والنساء والرجال، والشباب، والفتيات، وإن كان الخطر أكبر يهدد الجيل الجديد كله (69).
وأختم هذه الحقائق بما ذكره أحد الغربيين مشيرا إلى أسلوب صناعة الفكر الشرقي.
(كنا نحضر أولاد الأشراف، والأثرياء، والسادة من أفريقيا،وآسيا، ونطوف بهم لبضعة أيام في أمستردام ولندن، فتتغير مناهجهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية، فيتعلمون لغتنا، وأسلوب رقصنا وركوب عرباتنا، ثم نعلمهم أسلوب الحياة الغربية، ثم نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذا إليها، كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجسا.
ولكن منذ أن صنعنا المفكرين ثم أرسلناهم إلى بلادهم، كنا نصيح في لندن، وأمستردام، وننادي بالإخاء البشري وكانوا يرددون ما نقوله، كنا حين نصمت يصمتون، لأننا واثقون أنهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم) (70) .
وقد يقول قائل: ما علاقة هذا الكلام بالبث المباشر؟ فأقول: إذا كان هذا أسلوبهم قديما، فكيف بالأسلوب المعاصر؟ وبخاصة إذا نظرنا إلى تأثير الأفلام الأمريكية على الفرنسيين، والكنديين وغيرهم. ومما لفت نظري أن البث المباشر بدأ مع طرح موضوع النظام العالمي الجديد، وهذا النظام له أبعاد سياسية معروفة، فهل كان هذا التوافق عارضا؟ لا أظن ذلك.(36/485)
ومما تجدر الإشارة إليه في موضوع الأثر السياسي، أن لكل دولة سياسة إعلامية، تسير عليها، وتخطط في ضوئها، والبث المباشر سيؤثر تأثيرا بارزا على تلك السياسات، بل سيخترقها دون إذن أصحابها، ولذلك يقول د/ على النجعي (71) وهو يعدد مخاطر البث المباشر:
ومن وجهة نظري فإن تأثير البث المباشر لا يتوقف على إدخال عادات قبيحة على المجتمعات النامية، بل إن من أخطر ما يحمله هذا التوجه العالمي، هو تفتيت المجتمعات، والتقليل من أهمية ودور وسائل الإعلام المحلية، التي تسير في ضوء أطر محددة وسياسات مرسومة، حيث يصبح بإمكان كل مواطن أن يختار الوسيلة التي يرغب في مشاهدتها والبرنامج الذي يختاره (72).
ومما يؤكد هذه الحقيقة ما ذكره تقرير لليونسكو جاء فيه: (إننا نعتقد أن ما يعرف باسم التدفق الحر للإعلام، هو في حقيقة الأمر تدفق باتجاه واحد، وليس تبادلا حقيقيا للمعلومات) (73). ومن الأمثلة على ذلك أن إذاعة (NBC) وزعت في فترة واحدة (125) مسلسلا تلفزيونيا، أذيع في (300) محطة تلفزيونية في (83) بلدا في وقت متقارب (74).
رابعاً: الأثر الأمني :
إذا كان للأفلام تأثيرها السلبي على الأمن في بلد من البلدان، فكيف تكون الحال مع أفلام الغرب المنحل والشرق الملحد، عبر البث التلفزيوني المباشر؟! وإذا كانت الدول تعتبر أن سقوط الإذاعة يعني سقوط الدولة؛ ولذلك أول ما يحرص عليه الذين يقومون بالانقلابات السيطرة على الإذاعة والتلفزيون.
وتحارب الدول الإذاعات الموجهة ضدها حربا لا هوادة فيها، بكل الوسائل السياسية والمالية والفنية.
كل ذلك للأثر السلبي الذي ينشأ عند استخدام الإذاعة والتلفزيون ضد أمن بلد من البلدان.
ويتخذ الأثر الأمني عدة صور منها:
ا- الارتباط بالمخابرات الأجنبية:
فقد كشف تقرير للجنة المواصلات الفيدرالية الأمريكية، أن (60) إذاعة بعد الحرب العالمية الثانية كانت مرتبطة ارتباطا مباشرا بالمخابرات المركزية الأمريكية (75).
وقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكين وكان يعمل في سفارة بلاده في إحدى الدول العربية، أن السفارة قد سيطرت على القناة التي تبث باللغة الإنجليزية، حتى قال: إن القناة تدار من السفارة بدلا من إدارة التلفزيون في ذلك البلد.
2- الاضطرابات:
فقد ذكر تقرير صادر من اليونسكو ما يلي:
إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية، وغالبا ما يصاحب فوائد الاتصالات الحديثة سلبية يمكن أن تشيع الاضطرابات بدرجة كبيرة في النظم القائمة (76) .
3- الجريمة:
قال الطبيب النفسي (ستيفن بانا) الأستاذ بجامعة كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية للانحراف (77).
وتوضح دراسات العالم الفرنسي (جان خيرو) أن أسباب سوء التكيف بين المنحرفين ترجع إلى مشاهدة أفلام العنف.
وتدل الإحصائيات الأخيرة التي أجريت في أسبانيا أن 39% من الأحداث المنحرفين قد اقتبسوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانية (78).
وفي دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر الباحث أن 41% ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة، و 47 يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال (79).
وذكر د/ حمود البدر أنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم وجود (168) مشهد جريمة أو محاولة قتل. بل إنه وجد في (13) فيلما فقط (73) مشهدا للجريمة (80).
وقد قام د/ تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن 27.4% منها تتناول الجريمة (81).
ألا تكفي هذه الحقائق لبيان الخطورة الأمنية لهذا الغول القادم، ولكن: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46).
خامساً: الأثر الأخلاقي :
من أخطر ما يخشى أن يؤثر فيها البث المباشر أخلاق الأمة وسلوكها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت … …فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أبرز ما خلّفته الأفلام من شرور خلال السنوات الماضية ما أحدثته من خلل في أخلاق الرجال وأعراض النساء.
ويتخذ هذا الخلل عدة صور من أبرزها:
ا- شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها، حتى أصبحت أمرًا عاديا في بعض المجتمعات.
2- تفجير الغرائز والبحث عن سبل غير شرعية لتصريفها، وذلك لما يرد في الأفلام من عري فاضح، مع اختيار أجمل النساء للقيام بأدوار معينة في الأفلام، حتى إن بعضهن لا دور لها إلا عرض مفاتنها.
3- تعويد الناس على وسائل محرمة هي بريد للفتنة، وسبيل إليها، كالخلوة، و الاختلاط، و المغازلة.
4- الدعاية لأمور محرمة تؤدي إلى الانحراف، كدعايات شرب الخمر، والمسكرات بجميع أنواعها.
5- بث الأفلام الدعائية التي ترغب المشاهد في السفر للخارج، مع ما يحدث هناك بعد ذلك.(36/486)
6- بعض الأفلام التي تدعو إلى المخدرات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن الأدلة على ذلك فيلم "الباطنية" المشهور.
ومما يساعد على ذلك شيوع الأمية في العالم العربي، فضلا عن بقية العالم الإسلامي، حيث تصل إلى 70% في الدول العربية، و 90% في دول العالم الإسلامي.
ولعل التأمل في الأرقام التالية يوضح ما سبق بيانه:
يقول الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون) (82).
وذكر د. حمود البدر أنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها (83).
وتبين من خلال دراسة أجرتها هيئات أوروبية متخصصة أن متوسط مدة الإرسال التجاري اليومي 9 ساعات يتوزع كما يلي:
من 75% إلى 80% مواد وبرامج تسلية.
من 5% إلى. ا% برامج ثقافية ووثائقية.
5% تخصص للمعلومات.
من 2% إلى 10% برامج موجهة للشباب ورياضة (84).
وفي دراسة ذكرها د. محي الدين عبد الحليم عن (الدراما)- وهي من برامج الترفيه والتسلية- توصل فيها إلى ما يلي:
23% من الذكور يرون أنها مفيدة (85).
77% يرون أنها تؤدي إلى الانحراف وتدعو إلى الرذيلة، وتتنافى مع عادات المجتمع.
أما الإناث -وهنا الخطورة- فقد رأى قرابة 45% أنها مفيدة (86).
و 55% يرين أنها تؤدي إلى الشر والفساد والانحراف (87).
(ويلحظ الفرق بين النساء والرجال لسرعة التأثر).
وأوضحت دراسة مشتركة بين ندوة تامبير واليونسكو، أن هناك اتجاهين لا جدال حولهما في مجال تدفق المعلومات:
ا- أنه تدفق في اتجاه واحد من الدول الكبرى المصدرة إلى باقي دول العالم.
2- أن المادة الترفيهية هي السائدة في هذا التدفق (88)
ومن أجل توضيح المراد ببرامج التسلية والترفيه الواردة في هاتين الدراستين لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان (89).
(برامج الترفيه والتسلية ومعظمها -إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيرا من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها وعصرية إعدادها وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة.
ويواصل قائلا: ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية المترتبة على ذلك، وما فيها من الهدم وتدمير السلوك) (90).
وفي تحقيق أجرته جريدة عكاظ مع بعض مدمني مشاهدة الأفلام اعترف عدد منهم بخطورة هذه الأفلام (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) (يوسف: من الآية26). وكان مما قالوه:
ا- قال الشاب نايف الودعاني: إن هذه الأفلام عديمة الفائدة، والتي تعتبر مضيعة للوقت بالإضافة إلى كونها الطريق إلى اكتساب عادات وأفكار سيئة تؤدي إلى انحراف بعض الشباب، خاصة في مرحلة المراهقة.
2- أما الشاب عادل الخليوي فقد اعترف بأن بعض هذه الأفلام قد تتسبب في انحراف الشباب الذين ليس لديهم وعي كامل بخطورة ما تحتويه.
3- ويقول أيمن عبد العزيز: رغم أن لهذه الأفلام سلبيات، منها ضياع الوقت، واكتساب أفكار قد تكون سيئة (91).
ومما تجدر الإشارة إليه -بل الوقوف عنده- مما يشكل خطرا على الأخلاق، وبخاصة على النساء والأطفال، موضوع الدعايات التلفزيونية، مع العلم أن هناك قنوات غربية متخصصة في الدعاية التجارية فقط.
ولندع الأرقام تتحدث:
نوقشت رسالة ماجستير بعنوان:
(صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) وذلك في إحدى الدول العربية، اعتمد الباحث فيها على ما يلي:
1- تحليل مضمون (356) إعلانا تلفزيونيا، بلغ إجمالي تكرارها (3409) خلال 90 يوما فقط.
2- مسح شامل لإدارة الإعلانات بالتلفزيون.
3- مقابلات مع عدد من مديري وكالات الإعلان.
وقد توصل الباحث إلى عدد من النتائج من أهمها:
ا- استخدمت صورة المرأة وصوتها في (300) إعلان من (356)، كررت قرابة (3000) مرة في (90) يوما.
2- 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة.
3- سن النساء اللاتي خرجن في الدعاية من (15- 30) سنة فقط.
4- 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة كالجمال والجاذبية، و 51% على حركة جسد المرأة، و 12.5 % من هذه الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
5- إن الصورة التي تقدم للمرأة في الإعلان منتقاة وليست عشوائية (92).
وإذا كان هذا الأمر في تلفزيون عربي عليه بعض الرقابة، وأغلب شعب هذا البلد مسلمون، فكيف بإعلانات دول الانحلال و الرذيلة ؟
وقام د. سمير حسين (93) بإعداد دراسة حول (برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهد والمعلنون) توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة.
96% من الأطفال يتعرفون على المشروبات المعلن عنها بسهولة (94).
96% قالوا إن هناك إعلانات يحبونها، ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية، ويقلدون المعلن (95).(36/487)
ويقول د. محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية، لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها إلى الأوتار العقلية فتوقظها (96).
وقد قام الدكتور تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن:
29.6% تتناول موضوعات جنسية.
27.4% تتناول الجريمة.
15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف (97).
ومما يزيد الأمر حزنا أنه تبين من دراسة قامت بها اليونسكو كما ذكر الأستاذ مروان كجك في كتابه عن التلفزيون ص 196:
تبين أن الأطفال في البلاد العربية يقضون ما بين 12 ساعة إلى 24 ساعة أسبوعيا أمام التلفزيون (وسترتفع مع البث المباشر).
سادساً: الأثر الاجتماعي :
لا يستطيع أحد أن يكابر ويدعي أن الأفلام والتمثيليات والمسرحيات لم تؤثر على الأنماط الاجتماعية، وكثير من السلوكيات الحميدة، وقد اعترفت اليونسكو بهذه الحقيقة في دراستها التي سبقت الإشارة إليها، حيث جاء فيها:
(إن إدخال وسائل إعلام جديدة -وخاصة التلفزيون- في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن) (98).
ولا شك أن الانفتاح على القنوات العالمية سيزيد من هذا التأثير السلبي.
ويتمثل الأثر الاجتماعي الذي يتوقع أن يحدثه البث المباشر بعدة صور من أهمها:
ا- التأخر في الزواج، وتفشي الطلاق، ومحاربة تعدد الزوجات، ولقاءات الفتى والفتاة بعد الخطبة وقبل العقد برضى الأهل.
2- انصراف المرأة للأزياء العالمية وآخر صرعات الموضة، وتقليد المرأة الغربية في كثير من أسلوب حياتها، كالخروج من المنزل ومحادثة الرجال.
3- سيطرة المرأة على الرجل، وضعف القوامة بدعوى الحرية وتساوي الحقوق.
4- دخول كثير من العادات الغربية إلى بيوت المسلمين، والإعجاب بالنمط الغربي للحياة.
5- ضعف القيام بحقوق الوالدين (99) وقطع الأرحام، وتفكك الأسر، وإهمال حقوق الجيران.
6- الأنانية وحب الذات، وضعف الروح الجماعية، وعدم نصرة المظلوم.
7- إبراز أبطال لا حقيقة لهم على حساب أبطال الإسلام، وسعي الفرد لتقليد هؤلاء.
ومثال ذلك إبراز اللاعبين والممثلين والفنانين أبطالا، حتى أصبحوا هم المثل الأعلى لكثير من الشباب والفتيات.
ومما يذكر في هذا المجال للدلالة على إبراز أبطال لا حقيقة لهم، وتصديق المشاهدين بذلك ما ذكره (جين بلر) أن الدكتور (مركوس وبلين) وهو أحد الذين يظهرون على الشاشة في دور طبيب -وهو ممثل- حيث تلقى ما يزيد على (250) ألف رسالة يطلب فيها أصحابها معونته الطبية، من مشاهدين صدقوا فعلا أنه طبيب معالج (100).
بل أخطر من ذلك إبراز بعض الأفراد أبطالا عالميين للأدوار التي قاموا بها في التأثير على سلوك المجتمع المسلم واختراق حدود الدين والفضيلة، ومن أمثلة ذلك نجيب محفوظ الذي منح جائزة نوبل، وهو أول عربي ينال هذه الجائزة، وذلك لرواياته ومسرحياته الهابطة التي تدعو إلى تغيير كثير من أنماط السلوك السوي في المجتمع المسلم، وانظر إلى ما قاله مسؤول في الأكاديمية السويدية وهو يسلم ابنة نجيب جائزة نوبل، حيث قال: (إن الأكاديمية لا تنسى تلك الرواية العالمية التي كتبها نجيب، والتي أعلن في نهايتها موت الإله) (101) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
سابعا: آثار أخرى :
وهناك آثار أخرى للبث المباشر أوجزها بما يلي:
1- الأثر الاقتصادي: ويتمثل ذلك بما يلي:
(أ) شراء الأجهزة من شاشات للعرض وأجهزة للاستقبال، مع صيانة تلك الأجهزة، وقد تم في الشهور الأخيرة من عام 1978 م بيع عشرة ملاين جهاز فيديو (102).
(ب) تأثير الدعايات في شراء بضائع لا حاجة لها، والإقبال على بضائع دون غيرها، مما قد يكون أجود منها.
(ج) إهمال المنتجات المحلية، التي يعود نفعها للمسلمين؛ لأن أغلب الدعايات ستكون لمنتجات غربية، بل قد تلجأ كثير من المؤسسات والشركات المحلية إلى الإعلان عن بضائعها في القنوات العالمية الأوسع انتشارا، مع ما يكلفه هذا من أموال طائلة ستكون على حساب المستهلك؛ حيث إن إعلانات التلفزيون باهظة التكاليف.
2- الأثر الصحي :
ويصعب حصر هذا الأثر، ولكن أشير إلى أنه في دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر 64% أن التلفزيون يؤدي إلى ضعف البصر، و 44% يرون أنه يقيد حركة الجسم ويحرمه من الرياضة.
وقد ذكر سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- في رسالته عن التلفزيون عدة أخطار صحية عن أطباء عالميين، والدراسات في هذا كثيرة ومتنوعة.
3- ومن الآثار: إهدار الوقت : ولنأخذ هذا المثل:
لو أن بلدا من البلدان عدد سكانه عشرة ملايين نسمة، وعدد الذين يشاهدون التلفزيون 25% فقط، ومعدل الجلوس ساعتان يوميا، فكم يهدر من الساعات سنويا إنها (000, 000, 750, 1)ساعة بل أكثر من ذلك وتعادل (000.000, 250) يوم عمل، تصوروا: مئتان وخمسون مليون يوم عمل.
كيف لو صرفت هذه الساعات في طلب العلم، والدعوة إلى الله، ومساعدة المحتاجين، و إقامة المصانع والمعامل، والاستغناء عن الأيدي الكافرة، والتدرب على الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الأمة وحماية المقدسات.(36/488)
ولا ما يقضونه من ساعات أمام التلفزيون والفيديو (103) فماذا سيحدث عند قدوم البث المباشر، والحساب هذه المرة أتركه لكم.
4- وأخيرا فإن هناك أثرا لا تجوز الغفلة عنه لعاقبته المخيفة وهو:
ارتكاب ما حرم الله، مما يكون سببا لغضب الله، وذهاب للحسنات، واكتساب للسيئات، ويتمثل ذلك في الآثام التالية:
(أ) النظر إلى ما حرم الله وبخاصة صور النساء الفاتنات المفتونات.
(ب) سماع الغناء والموسيقى ونحوهما.
(ج) تربية الأهل والأولاد على ما حرم الله.
(د) عدم إنكار المنكر مع القدرة على ذلك.
(هـ) إنفاق المال في المعاصي، وذلك كفر للنعمة وسبب لحلول النقمة.
(و) إهدار الوقت في غير طاعة الله، بل في معاصيه.
إلى غير ذلك من المعاصي والآثام التي يصعب حصرها، ويتحمل المرء وزرها يوم القيامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88، 89).
ولو لم يكن له من الآثار إلا هذا لكفى؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) (الصافات:24).
وقا صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ".
سابعاً: منافع البث المباشر
وبعد:
فقد يقول قائل: لقد فصلت في الآثار السلبية، وبيان خطورة البث المباشر، أليس له منافع ؟ ولماذا لم تذكرها؟
فأقول: إن هذا السؤال يذكرني بقصة ذكرها لنا والدي -حفظه الله- وهي أن رجلا كان يشرب الدخان، فسئل لماذا تشربه وهل فيه منافع، فقال: إن له عدة منافع ومنها:
ا- إن اللصوص لا يسرقون بيتي في الليل.
2- إن الحيات والعقارب لا تقدر عليّ.
فاستغرب السائل واشتاق للإجابة، فواصل المدخن قائلا:
أما إن اللصوص لا يقربون بيتي في الليل فلأنني دائم السعال -الكحة- فلذلك يتصور اللصوص أني مستيقظ، فلا يدخلون البيت.
وأما عدم قدرة الحيات عليّ فلأن الدخان أصابني بمرض أحوجني إلى العصا، فهي دائما معي، فإذا قربت مني قتلتها بالعصا.
ومنافع البث المباشر لا تعد شيئا في مقابل السلبيات والأخطار، ومن المعروف أنه ليس هناك شر محض، ولكن بعد التأمل في تلك المنافع، التي ضخمت أكثر من حقيقتها، وجدتها ينطبق عليها قوله -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219).
وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90).
ومن قواعد الشريعة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وكذلك من القواعد قاعدة: سد الذرائع.
وقد نهى الله عن سب الأصنام إذا كان سبها سيؤدي إلى سب الله -جل وعلا- (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية108).
ونهى الرسو صلى الله عليه وسلم النساء عن زيارة القبور مع ما فيها من مصالح، لأن ذلك سيؤدي إلى مفاسد عظيمة، حيث أن المرأة ضعيفة فقد ترتكب ما حرم الله " لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم زوارات القبور "
وترك رسول ا صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم -عليه السلام- خشية حدوث فتنة، لأن قريش حديثة عهد بالإسلام (104).
ومن هنا فإنني أقول لمن يتولى كبر التهوين من خطورة البث المباشر، ويعدد المزايا والإيجابيات اتقوا الله، وانظروا في هذه القواعد التي أشرت إليها، والله حسبنا ونعم الوكيل.
ثامناً: الوقاية
شاركت في عدد من الندوات، واستمعت إلى بعض المحاضرات والندوات، وقرأت كثيرا مما كتب حول البث المباشر، وفي هذه الندوات والمحاضرات والكتابات طرح المشاركون حلولا لمشكلة البث المباشر، وأنجح السبل لاتقاء شره، أو التخفيف من آثاره.
ولم أجد في شيء من تلك المحاولات حلا جذريا متكاملا لهذه المشكلة (105).
ولهذا فكرت طويلا في هذا الموضوع وتوصلت إلى ما أراه دواء لهذا الداء، مع مراعاة ما يلي:
ا- أن ما سأبينه، من علاج ليس من بنات أفكاري، بل هو خلاصة منتقاة لتلك الحلول التي ذكرها عدد ممن عني في هذا الموضوع، أضفت إليها ما توصلت إليه مما وفقني الله له.
2- أن هذه الحلول ثمرة بحث متواصل استمر قرابة سنتين ونصف، قرأت فيها كثيرا مما كتب، واستمعت إلى عدد مما ألقي، وشاركت في الحوار في بعض هذه الندوات، واتصلت ببعض طلاب العلم والمتخصصين في الإعلام، بل التقيت ببعض الفنيين في أجهزة الاتصالات والأقمار الصناعية، وتلقيت عددا من الرسائل، تتساءل وتطرح الحلول.
3- ومع ذلك فلا أدّعي أن ما سأذكره سيكون وافيا شافيا، وإنما هو أشمل طرح في رأي -حتى الآن- والمجال لا يزال مفتوحا أمام طلاب العلم والدعاة والمتخصصين، لمزيد من البيان وطرح سبل الوقاية (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: من الآية76).(36/489)
4- سأجيب فيما سأذكره على بعض التساؤلات، وسأرد -بطريق غير مباشر- على بعض الحلول التي طرحت، وسأذكر حلولا قابلة للنقاش، فآمل أن تتسع الصدور، وتسلم النوايا، ويحسن القصد.
وستتركز معالجتي لهذه القضية على النقاط التالية:
ا- لماذا نحن دائما مواقفنا دفاعية؟
2- موضوع التشويش على الأقمار.
3- منع الأجهزة.
4- تطوير البرامج.
5- الإرسال المضاد.
6- مواقف الدول.
7- العلاج الممكن.
وسأوجز أو أطنب في كل مسألة حسب ما تقتضيه من إيجاز أو إطناب، فأقول مستعينا بالله ومتوكلا عليه، فهو حسبي وكافيني:
أولاً: لماذا مواقفنا دفاعية ؟
من الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سمتها، ولا خاصية من خصائصها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
تأملت في هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها. ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
فإن يكن لهم في أصلهم شرف … …يفاخرون به فالطين والماء
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، وكالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8).
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا الحيلولة بيننا وبين تحقيق الخيرية التي منحنا الله إياها.
وبهذا ستتفجر مواهبنا، وتظهر عبقريتنا، وتعم العالم مبادراتنا، وهنا يحق لشاعرنا أن يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها … …ويسهر الخلق جراها ويختصموا
وأعود مرة أخرى فأقول:
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم بإذن الله، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا بنبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة …
…كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولا بد أن ننتشل أنفسنا من هذا الذل والهوان:
من يهن يسهل الهوان عليه … …ما لجرح بميت إيلام
وأن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح وإلا:
ومن يتهيب صعود الجبال … …يعش أبد الدهر بين الحفر
وأن نعلو بأهدافنا وغاياتنا:
وإذا كانت النفوس كبارا … …تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون المسلم هو المسلم الذي يصدق فيه:
يهتز (يلسن) (106) من خوفه فرقا … …على كرسيه وملوك الروم (107) تخشاه
بل يصدق فينا قول الحق -جل وعلا-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
وحتى يتحقق هذا الأمل -بإذن الله- تعالوا بنا نناقش موضوعنا في ظل واقعنا وإمكاناتنا، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
ثانياً: التشويش على الأقمار :
سئل أحد المسؤولين في وزارة من وزارات الإعلام العربية عن البث المباشر؟ وما أعد لمواجهته؟ فأجاب:
أستبعد حدوث البث المباشر قريبا، وإن حصل فأمره سهل، حيث يمكن التشويش عليه ومنع أجهزة الاستقبال.
تألمت عندما نقل إلي هذا الكلام، وحملت أوراقي وذهبت لمقابلة أحد كبار المتخصصين في الأقمار الصناعية، وهو الدكتور محمد عبد المنعم فطيم، خبير الأقمار الفضائية في الاتصالات السعودية، وطرحت المشكلة أمامه، ثم أبدى رأيه في موضوع التشويش، وكانت خلاصة البحث ما يلي:
أن التشويش ممكن من الناحية الفنية، وغير ممكن من الناحية الواقعية، وبيان ذلك: أن التشويش يمكن أن يتم بإحدى طريقتين:
1- التشويش على القمر: وذلك بأن يتم توجيه جهاز مضاد يعطل إرسال القمر، ولكن هذا غير ممكن من الناحية الواقعية لسببين:
(أ) من يستطع اليوم أن يقوم بتعطيل قمر أمريكي أو أوروبي، ومن يملك الجرأة على ذلك، وبخاصة دول العالم الثالث.
إن مجرد رفع العلم الأمريكي على باخرة في أعماق البحار يعطيها أمانا، فكيف بقمر كلف مئات الملايين من الدولارات وهو سابح في الفضاء؟! وهذه هي الحقيقة المرة. (ب) التكلفة المادية الهائلة لقيمة جهاز التشويش، مع عدم ضمان فاعليته، فقد ذكر المهندس فاروق عامر أن تركيب أجهزة التشويش صعب جدا؛ لأن كل قناة تليفزيونية تحتاج إلى محطة كاملة للتشويش، وذلك مكلف جدا (108) وبخاصة إذا علمنا أن كل قمر يحمل عشرات القنوات.(36/490)
2- الطريقة الثانية:
التشويش على منطقة الاستقبال، فمثلا: يمكن من الناحية الفنية التشويش على منطقة الرياض دون التعرض للقمر الذي يبث، حيث تكون منطقة الرياض غير صالحة لاستقبال البث.
وهذا أيضا غير ممكن من الناحية العملية والواقعية؛ لأن ذلك يعني قطع جميع الاتصالات الهوائية واللاسلكية في منطقة الرياض أو التشويش عليها، وهذا سيؤثر على استقبال الراديو والتلفزيون واتصالات الأمن والخدمات وغيرها (109).
وتقول د / انشراح الشال (110) وهي تتحدث عن إمكانية التشويش على الأقمار:
إن الدراسات التي أجريت في مواجهة الحرب الإذاعية من خلال الراديو أثبتت فشل عمليات التشويش، وفشل فرض العقوبات أو تجريم من يستمعون إلى هذه البرامج، وأيضا فشل الحد من دخول أجهزة الراديو التي تلتقط برامج معادية، وهذا يدفعنا إلى القول بأن عملية التشويش على بث يتم عبر الأقمار غير مجدية ومستحيلة عمليا (111).
وقد ذكر أحد المتخصصين أنه يمكن التشويش بالطريقة التالية:
إذا بث قمر صناعي قناة تلفزيونية على بلد من البلدان، فإنه يمكن التشويش بأن يقوم التلفزيون في البلد المعني ببث برامجه على القناة نفسها، وهنا سيكون الاستقبال في جهاز التلفزيون للأقوى، فإذا كان القمر يبث على موجة رقمها 11 مثلا، يقوم التلفزيون بالبث على الموجة نفسها لإلغاء البث المباشر، ولكن بشرط أن يكون بثه أقوى من بث القمر، مع بقاء التلفزيون يبث على موجته السابقة، فيصبح ييث على موجتين، فإذا أطلق قمر آخر قناة أخرى، قام التلفزيون بالبث على موجة ثالثة تزاحم هذه القناة، وهكذا.
وأختم هذا الموضوع بما قاله الأستاذ سعود الدهلوي مدير جهاز تلفزيون الخليج: "إن البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية حقيقة واقعة، والتشويش عليها كما ينادى به في بعض اللقاءات والندوات الصحفية أمر غير ممكن، والبث التلفزيوني سيصبح مثل البث الإذاعي" (112).
ثالثاً: منع الأجهزة :
ويطرح البعض قضية منع أجهزة الاستقبال الخاصة بالبث، ويعني ذلك منع بيعها واستيرادها، ومعاقبة من يمتلكها أو يهربها (113) .
وهذا جيد ومفيد لولا ما يلي:
ا- ذكر عبد المحسن عبد الله وهو أحد الفنيين في الكويت هذا الأمر ثم قال: وهذا الاقتراح جيد ولكن للأسف سوف يفقد فاعليته بعد عدة سنوات قد لا تتجاوز ثلاث سنوات، بعد تطوير أنظمة حديثة جدا صممت أخيرا، ومنها نظام (macsystem) لاستقبال بث الأقمار الصناعية، وغيرها من الأنظمة التي تطور في الشركات الكبرى الأمريكية واليابانية والأوروبية.
وتشمل عملية التطوير أيضا: تصغير الهوائي المستخدم للاستقبال، وجعله كهوائي استقبال التلفزيون العادي. وتصغير حجم مغذي الموجات، وجعله أكثر حساسية للموجات عالية التردد جدا (Ghz) لوضعه على هوائيات صغيرة الحجم (114).
2- أنه يمكن تصنيع أجهزة الاستقبال محليا، بعد الحصول على بعض القطع الإلكترونية المتوافرة في الأسواق. وقد قام أحد المهندسين الكويتيين بصنع هذا الجهاز والتقط به البث بنجاح (115).
3- إن وسائل التهريب ستقلل من فاعلية هذا الإجراء، ولن ينال مهربوا هذه الأجهزة ما يناله مهربوا المخدرات.
4- أن هذا الحل لو نجح بنسبة100% فسيبقى حلا جزئيا محدود الأثر، كيف وعوامل نجاحه محدودة، إن لم نقُلْ معدومة.
رابعاً: تطوير البرامج :
والذين ينادون بتطوير البرامج كحل من حلول مشكلة البث على صنفين:
الصنف الأول: وهم الذين يرون أن البرامج المقدمة حاليا لا تشد المشاهد ولا تغريه، نظرا لالتزامها بضوابط معينة، تجعل المشاهد ينصرف عنها إلى غيرها، كأفلام الفيديو حاليا أو البث مستقبلا.
وباختصار: هؤلاء ينادون بإباحية الأفلام والبرامج، وأن ننافس تلفزيونات أوروبا وأمريكا في فجورها وانحرافها، وإن لم يقولوا هذا صراحة. وتكمن المشكلة عند هؤلاء -إن كانت توجد عندهم مشكلة- في وطنية وقومية البرامج المبثوثة، فهم يريدونها عربية أو محلية بدل أن تكون غربية.
ويتباكون على اللغة أو ما يلحق بالاقتصاد بدل أن تكون القضية قضية حلال وحرام، أو صلاح وفساد، وكفر وإيمان، وولاء وبراء.
ولا نقاش لنا مع هؤلاء، فهم أخطر مما نخشاه مستقبلا، ولنا معهم تجربة مريرة عبر عنها عبد الله الجعيثن قائلا:
(بل إنني لا أكون مبالغا إذا قلت: إن ما يقدم في الأفلام العربية ويتلوى في فيديو كل بيت هو أبعد عن الأخلاق وأدنى إلى الانحطاط مما رأيت في تلك التلفزيونات العالمية (116)
ويعجبني ما قاله د/ عمر الخطيب (117) حول هؤلاء وهو يتحدث عن مشكلة البث المباشر إذ قال:
"إن بعض المسؤولين عن الإعلام في العالم العربي إذا سئلوا لماذا تقدمون هذه الأفلام الهابطة؟ قالوا: إن الجمهور يريد هذا، ثم قال: وهم الذين جعلوا الجمهور يريد كده (118) وعودوه على ذلك. فهم المسؤولون أولا وأخيرا (119).
الصنف الثاني وهم الذين ينادون بتطوير البرامج إلى الأحسن من حيث المادة والإخراج.
وممن طالب بذلك د- سعيد آل زعير (120) واعتبر هذا الأمر من أهم الحلول التي نواجه بها هذه المشكلة، وبين أن ضعف البرامج الإسلامية مادة وإخراجا من أهم أسباب انصراف الناس عنها (121).(36/491)
وكذلك د/ عبد الرحمن الشبيلي (122) حيث يقول وهو يتحدث عن الجوانب الوقائية من سلبيات البث المباشر:
إن أفضل وسيلة للوقاية بالإضافة إلى التربية هي تحسين البرامج الإعلامية، وجعلها تصل إلى مستوى منافس لما يستقبل عن طريق البث المباشر، ومرة أخرى فإنني لا أقصد بالمنافسة الهبوط، ولكن أقصد الارتقاء، ولو أننا تتبعنا -على سبيل المثال- حالة الإذاعات لوجدنا أن الإذاعة التي تنافس إذاعتنا السعودية ليست الإذاعات الهابطة في برامجها، ولكنها الإذاعات الراقية ذات المستوى الإعلامي الجيد، والمنافسة لا تكون دائما بوسائل الترفيه فقط، فالبرنامج الجيد المدروس يمكن أن تتوافر فيه عناصر المنافسة، حتى وإن كان برنامجا جادا، أو تثقيفيا، أو توجيها، أو حتى وثائقيا (123).
وقضية تطوير البرامج وتخليصها مما شابها مسألة لا أظن أنها محل خلاف بين من يزعجهم الواقع المر والمستقبل المخيف، ولكن أحب قبل أن أتجاوز هذه النقطة أن أبين ما يلي:
ا- أن هذا الحل لا جزئيا، فليس كل الناس يريدون الجيد والطيب، بل الأكثر يريدون الأسوأ (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة: من الآية100)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103) و (درهم وقاية خير من قنطار علاج).
2- أن هذه الدعوى تبقى في حدود الأماني والأحلام، فماذا فعلنا حتى يمكن أن ننافس الأفلام الهابطة في كثير من البيوت، بل ماذا فعلنا منذ ثلاثين سنة حتى ننافس ما يقدم في التلفزيونات العربية.
وإذا وجدت تلك البرامج والأفلام أيمكن أن ترى النور أم تراها النار؟
آمل ألا يكون تطوير البرامج من نوع ما يسمى بالمسرحيات الإسلامية التي تقدم في التلفزيونات العربية.
ومن أراد معرفة حقيقتها فليرجع إلى محاضرة د/ سفر الحوالي (124) بعنوان: المؤامرة على المرأة المسلمة، فقد كشف عن عوارها وبين آثارها.
4- للدكتور محمد سيد ساداتي (125) رأي جيد حول مفهوم تطوير البرامج، والرؤية الصحيحة في ذلك، فأنصح بالرجوع إلى ما ذكره (126).
5- عقدت ندوة حول تطوير البرامج الإسلامية في تلفزيونات الخليج، وذلك في خدمة الإمام عام 1407 هـ وقد خرجت بتوصيات جيدة، صاغها عدد من العلماء والمختصين آمل أن تكون انطلاقة لهذا الموضوع.
خامساً: البث المضاد :
والمراد بذلك أن نقوم بالبث الإسلامي إلى أوروبا وأمريكا وغيرها، وأن نسخر هذا الاكتشاف لخدمة الدعوة إلى الله، وإقامة الحجة على الناس، فالبشرية أشد ما تكون حاجة إلى الإسلام، والظالمون يحولون بينها وبين معرفة طريق الهداية، وهذه فرصة مواتية لا يجوز التفريط فيها أو إهمالها.
وممن ينادي بذلك د/ عبد القادر طاش (127) ود/ سعيد آل زعير، ود/ عبد المحسن الداود (128) حيث كتب مقالا جيدا في جريدة الرياض فصل فيه رؤيته للموضوع مما يغني عن الإعادة لمن أراد مزيد شرح لذلك (129).
وقد ذكر أن رابطة العالم الاسلامي تفكر في إنشاء قناة تلفزيونية عالمية تصل تكلفتها إلى ألف مليون دولار، تتولى بث البرامج التلفزيونية في مجالات الدعوة والثقافة الإسلامية.
وقد طلبت الرابطة تمويل هذه القناة من الدول الإسلامية (130).
ومرة أخرى أقول إن هذا الطرح جيد ومهم، ونتطلع إليه بشوق، ولا بد أن نعي هذه الحقائق قبل أن نغرق في التفاؤل:
ا- إن القضية تبدو ردود أفعال عاطفية، فكما أن الغرب سيبث لنا ما نكره، فلنبث إليه ما يكره، وإلا فإن الدعوة إلى الله غير مرتبطة بردود الأفعال، والمعاقبة بالمثل، وإن كان ليس كل الذين يطرحون هذا الأمر يقصدون هذا الجانب، وإنما جاء طرحهم نظرا لهذا الاكتشاف الجديد ووجوب استثماره.
2- إن أمامنا تجربة مرة، وهي قضية القمر الصناعي العربي الذي كلف قرابة مليار ريال بل أكثر من ذلك، حيث عانينا من مشكلات إطلاقه، فلما انطلق واستقر في مداره تورطنا به، حيث اختلفت الدول العربية حوله، وكيفية تشغيله واستثماره، بل إن كثيرا من الدول العربية -عدا الدول الخليجية- لم تف بالتزاماتها المادية، وتراكمت الديون على مؤسسة (عرب سات) و لم يستثمر منه سوى 30% من طاقته وبلغت الديون قرابة (70) مليون دولار (131) وذكرت إحدى الصحف أنه تم تأجير جزء منه للهند، تخفيفا من ديونه؟ إذًا القضية ليست قضية أقمار، ولكن كيف تستثمر هذه الإمكانات ومتى؟
3- في الوقت الذي لا أقلل فيه من الحاجة إلى قناة، بل إلى قنوات إسلامية للدعوة إلى الله في شتى بقاع المعمورة، فإن حاجة الأمة الإسلامية، والدول العربية بخاصة لا تقل عن حاجة أولئك (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) فمتى نرى قنوات خاصة تسلم من هذا البلاء، أسوة بإذاعات القرآن الكريم التي أثبتت نجاحها وإفادة الناس منها.
4- لماذا نعلق آمالنا دائما على الجهات الرسمية، ولا نتقدم بمبادرات خاصة لها صفة الاستقلال، نساهم فيها بإيجاد الحلول العملية، ولكننا نظريون، ونلقي باللوم على غيرنا.(36/492)
5- إن وجود البث المضاد -إن وجد- لا يلغي الأثر السيئ للبث المباشر في الداخل، لأننا لا نتصور أن " يتوقف الغرب والشرق عن بثه، إلا إذا كنا نتوقع أن يدخلوا في الإسلام جميعا، فيصبح بثهم بثا إسلاميا، وليس ذلك على الله بعزيز، ولكن سنن الله لا تتخلف، والواقعية سمة الرجال الصادقين، والخيال لا يلد إلا وهما.
سادساً: مواقف الدول :
قال الخليفة الراشد عثمان بن عفان t (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر (132) وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال (133) فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال:
" إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء" (134).
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة، وأتفق معه على ما ذكره بالجملة، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، لأن كثيرا من المسؤولين العرب قد رحب بالبث المباشر، بل بعض الدول وقعت الاتفاقيات لتقوم بدور الوسيط، ومع هذا فأقول لو صدقت النوايا لأمكن تحقيق ذلك لما يلي:
ا- أن بعض الدول العربية لها من الثقل السياسي والاقتصادى والاستراتيجي ما يجعل جميع دول العالم بحاجة إليها، وبخاصة دول الخليج العربي، وليس هناك صداقات دائمة وإنما مصالح دائمة كما قال تشرشل.
2- أن بعض الدول قد اتخذت مثل هذه المواقف لأسباب أقل خطرا من ذلك، وأثبتت هذه المواقف فعاليتها وتأثرها، وإمكان تطبيقها.
3- يقول د/ محمد سمرقندي: (135) إن جميع دول العالم تقريبا أعضاء في الاتحاد الدولي للاتصالات وعددها (160) دولة، فعندما تريد إحدى الدول إطلاق قمر بث برامج تلفزيونية، فإنه يجب عليها عرض الموضوع على الاتحاد الدولي للاتصالات لتحديد موقع القمر في المدار، وتحديد الترددات القمرية لها.
فإذا وجد بأن البرامج المرسلة من هذا القمر ستغطي المنطقة العربية، فإن بإمكان الدول العربية معارضة مشروع هذا القمر في هذه الحالة، فالدول المختلفة لا تستطيع إطلاق أقمارها ووضعها في المدار وتوجيه برامجها كما تشاء، فهناك ضوابط وقوانين دولية تخضع لها دول العالم دون استثناء (136).
سابعاً: العلاج الممكن :
بعد أن ذكرت فيما مضى بعض الحلول المطروحة، وبينت وجهة نظري في كل نقطة، أصل إلى ما أراه ممكنا وعمليا حول هذه المشكلة، وبخاصة بعد أن تبين أنه لم يتخذ أي إجراء ذي بال على مستوى الدول العربية أو الإسلامية. (137)
وأرى أن العلاج يتمثل فيما يلي:
1- إعادة النظر في مناهج التعليم في الدول الإسلامية، وذلك لصياغتها صياغة إسلامية، تربي النشء، وتقوم السلوك.
ومما يجدر ذكره أن سياسة التعليم في المملكة سياسة جيدة، وقد أعدت بعناية، والمطلوب هو الدقة في تنفيذ تلك السياسة، والمتابعة المستمرة للموائمة بينها وبين الواقع، وبخاصة في الجامعات، حيث خرجت بعض المناهج التي تحتاج إلى إعادة نظر، وأخص ما يتعلق منها بالأدب والاجتماع.
2- إزالة الفجوة بين قنوات التربية، فإن مصادر التلقي (138) عند النشء كثيرة أهمها:
(أ) المسجد.
(ب) التعليم.
(ج) البيت.
(د) وسائل الإعلام.
ومن المؤسف أننا نجد خللا وتناقضا بين تلك الوسائل، فضلا عما يتلقاه من الوسائل الأخرى، كالشارع والقرناء.
فيتعلم في المسجد آدابا يجد مايناقضها في بعض وسائل الإعلام.
ويدرس في المدرسة أحكاما يجد ما يضادها في البيت والتلفزيون، بل إنه يجد التعارض أحيانا في المدرسة ذاتها بين ما يقوله أستاذ التربية الإسلامية، وبين ما يقوله أستاذ الرسم أو العلوم.
بل إنه يحتار -أحيانا- بين ما يقوله مدرس (الدين) وما يفعله.
وهكذا تتعدد مصادر التربية وتتعارض، وليست المشكلة في تعددها، وإنما في تناقضها.
يقول د- هاشم عبده هاشم: (139)
لا بد من إعادة النظر في موضوع العملية الإعلامية، وضرورة توافقها مع العملية التعليمية، وإزالة التناقض بينهما (140).
وقد عقدت ندوة في جامعة الإمام عام (1407 هـ) وذلك حول موضوع تطوير البرامج الإسلامية في تلفزيونات الخليج، ومن أبرز ما لحظه المشاركون في الندوة التناقض بين ما يقدم في المدارس وبين ما يقدم في التلفاز.. بل مما أشارت إليه الندوة أن هناك تناقضا فيما يقدمه الجهاز الواحد، فنجد الموعظة ثم تتلوها أغنية، ونجد موضوعا تربويا فتتلوه تمثيلية تفتقر إلى أدنى مقومات الأخلاق والسلوك.
وقد خرجت الندوة بعدة توصيات جيدة لمعالجة هذا الأمر.
عقد مكتب التربية العربي لدول الخليج ندوة بعنوان (ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) عام 1402 هـ.(36/493)
وقد قدم في هذه الندوة عدد من البحوث الجيدة لمعالجة مشكلة التعارض التي أشرت إليها، وخرجت بتوصيات آمل أن ترى النور قرييا، أو بعيدا !!
إن موضوع التربية الشاملة المتكاملة من أهم وسائل العلاج لأمراضنا، ويحتاج هذا الأمر إلى وقفة صادقة جادة، نراجع فيها أوضاعنا، ونتأمل في واقعنا دون رهبة أو خوف.
3- بذل الجهود الجماعية من قبل الهيئات والمنظمات والجامعات لوقاية الأمة من شر هذا الأمر، وتوعيتها بخطورة ما يحاك لها.
وإنني أتساءل بمرارة: ماذا عملنا لمواجهة هذا الخطر؟ وقد علموا به قبل عشر سنوات؟. (141)
ومع ذلك فلا زالت الفرصة بأيدينا، وآمل أن تبادر أقسام الإعلام في جامعاتنا، بالتنسيق حول هذا الموضوع مع المنظمات والهيئات الاسلامية.
4- وما أشرت إليه في الفقرات الماضية قد يحتاج إلى شيء من الوقت للدراسة والتنفيذ، بل قد تعترضه عقبات تحول دون تحقيقه.
ومن هنا فإنه لا بد من اتخاذ وسائل أخرى تكون علاجا لهذا الداء، وتخفيفا من هذا البلاء ويتمثل ذلك بما يلي:
(أ) " احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك " (142).
لا بد أن نعي هذه الحقيقة، ونتعامل معها، فالله -جل وعلا- يقول: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: من الآية120).
ويتحقق ذلك بتقوى الله، وتقوية الشعور بمراقبة الله، وهنا لن ينظر المسلم إلى محرم، حتى لو خلا به، وسيتذكر قول الشاعر أو معناه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
فاستحِ من نظر الإله وقل لها …
…والنفس داعية إلى الطغيان
إن الذي خلق الظلام يراني
وقول الآخر:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
فلا تحسبن الله يغفل ساعة …
…خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وسيقول له وازعه:
يا مدمن الذنب أما تستحي
غرك من ربك إمهاله …
…والله في الخلوة ثانيكا
وستره طول مساويكا
وعندما يهم برؤية محرم، من مشهد أو فيلم أو سماع أغنية، ويقول له شيطانه: هذه صغيرة، وماذا يضرك إذا سمعت أو رأيت، فإن المشكلة في الكبائر لا في الصغائر، ستمنعه التقوى التي عبر عنها ابن المعتز:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى … …واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
إن الذين يتقون الله -جل وعلا- لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصدق الله العظيم: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).
(ب) الاهتمام بالأطفال منذ الصغر فـ " كل مولود يولد على الفطرة... " الحديث، وبخاصة أن برامج الأطفال من أخطر البرامج كما بينت سابقا.
ولذلك لا بد من تنشئتهم تنشئة إسلامية، وتوجيههم إلى حفظ كتاب الله، وملء فراغهم بما يفيد أو باللهو المباح مما هو متوافر والحمد لله.
مع المراقبة والمتابعة وبخاصة عدم التساهل مع قرنائهم حتى لو كانوا أبناء الجيران أو الأقارب، فإن ما تبنيه في سنة يهدمه القرين في ساعة.
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه … …فكل قرين بالمقارن يقتدي
إن بناء الرقابة الذاتية منذ الصغر أمر مهم، ويعين الوالدين على أبنائهم. بل إن العناية في تربية الولد الأول يساهم مساهمة فعالة في تربية بقية الأولاد.
وأهمس في آذان الوالدين ألا يتساهلا في موضوع تربية البنات، فإن الغالب على كثير من الآباء والأمهات العناية بالأولاد الذكور دون الإناث، وهن بيت الداء ومكمن الخطر، ولقد أدرك العرب في جاهليتهم هذا الأمر، ولكنهم أخطأوا في العلاج.
وأركز في هذا الجانب على موضوع القدوة، فقد تساهل فيه كثير من الآباء، فهم يقولون ما لا يفعلون، وينهون عما يأتون، والذي يقوم بزيارة لدور الأحداث يرى ما جناه كثير من الآباء على أبنائهم، فإن أول زاوية في الانحراف تبدأ من عند أحد الوالدين أو كليهما.
إن الطفل شديد الانتباه قوي الملاحظة سريع التأثر، وقد عقد مؤتمر حول برامج الأطفال في التلفزيون، وذلك في إحدى الدول العربية، وقد تركزت البحوث على مسألة: كيف يستطيع الواحد منا عندما يكتب للأطفال أن يتنازل عن مستواه العقلي ليحاكي عقلية الطفل، إلا بحثا واحدا لرجل من أوروبا الشرقية حيث تركز بحثه على: كيف نرفع من مستوانا العقلي عندما نكتب للأطفال، حتى نكتب ما يناسبهم، دون الوقوع في خلل أو خطأ يكتشفه الطفل دون الكبار، وفد فاز هذا البحث بالجائزة الأولى وأشاد به المشاركون.
إن أضعف نقطة في المجتمع ينفذ منها الأعداء هم الأطفال والنساء، فالحذر الحذر، والبدار البدار.
(ج) الاهتمام بالمرأة، فهي من أفتك الأسلحة التي استخدمت في حرب الفضيلة ونشر الرذيلة، وصلاحها صلاح للمجتمع، ومن سبق إليها فاز بقصب السبق، فهي مناخ من سبق.
وأحيل الإخوة الكرام إلى الرسالة التي كتبتها حول هذا الموضوع بعنوان: (بناتنا بين التغريب والعفاف)، فقد بينت فيها ما لا يدع حجة لمكابر، ولعل ما ذكرته عند الحديث عن الأثر الأخلاقي يصدق ما أقول.
الأم مدرسة إذا أعددتها … …أعددت شعبا طيب الأعراق
و:
البنت جامعة إذا أهملتها … …خرجت جيلا سيئ الأخلاق(36/494)
وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم " اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
(د) إعادة دور المسجد، فهو محضن من محاضن التربية، وملجأ -بعد الله- عند الملمات.
إن المسجد ليس مكانا للصلاة فقط، بل هو مكان الصلاة، وجامعة العلم، ومقر الاعتكاف، ومنطلق الدعوة، وميدان من ميادين التربية، بل قاعدة من قواعد الجهاد والدفاع عن الحرمات والأعراض.
ولقد أثبتت أحداث الكويت المواقف البطولية التي انطلقت من المساجد، بل إن إسرائيل تعلن حالة الطوارئ يوم الجمعة أثناء الانتفاضة، ومسجد الرسو صلى الله عليه وسلم خير مثال لذلك.
(هـ) إذكاء روح العزة لدى المسلم، وإزالة الهزيمة النفسية، وعقدة التفوق الغربي.
يقول حمدي قنديل: " المعروف أن القردة هي التي تقلد الإنسان، ولكن إنسان العالم الثالث قد اختار أن يقلد قردة أوروبا" (143).
إن الهزيمة النفسية من أبرز أسباب تخلفنا وتفوق أعدائنا، وقد عالج شكيب أرسلان هذه القضية في كتابه الرائع: (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟) تجد حقيقة الداء والدواء، وصدق الله العظيم: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8).
إن من أهم ما نواجه به هذا الغزو المدمر إيجاد المناعة وتأصيل الانتماء لهذا الدين.
يقول الأستاذ عبد الله الحصين (144) وهو يناقش وسائل معالجة هذا الداء:
(إن العلاج بإيجاد المناعة، وذلك بتأصيل الانتماء لهذا الدين، وتكامل جوانب التربية في البيت والمدرسة والمسجد، بل في جميع وسائل التلقي، وإزالة عقدة تفوق الإنسان الغربي، فقد تجاوزها الرجل الياباني -وهو وثني- منذ عدة سنوات) (145). (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:85).
(و) وتربية الأمة على الجهاد والاهتمام بمعالي الأمور، فإن الرسو صلى الله عليه وسلم أخبر أننا إذا تركنا الجهاد، وأخذنا بأذناب البقر سلط الله علينا ذلا، لا ينزعه عنا حتى نعود إليه.
إننا أمة مجاهدة، والأمة المجاهدة لا وقت لديها للنظر إلى سفاسف الأمور، والولوغ في الشهوات.
" ومن لم يغز غزي". وها نحن لما تركنا الجهاد ورضينا بالدنيا غزينا في عقر دارنا بالبث المباشر، بل بالغزو المباشر.
(ز) ترسيخ مبدأ الولاء والبراء، والحب والبغض في الله، فهذا من أوثق عرى الإيمان.
إن معرفتنا بحقيقة هؤلاء الأعداء، وما يمكن أن يبثوه لنا تجعلنا في مأمن من شرهم، وهي بداية الطريق لعدم التأثر بأساليبهم: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (آل عمران: من الآية28).
إن حقيقة اليهود والنصارى قد كشفها القرآن (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120).
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية51) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (الأعراف:196).
وأحيل القراء الكرام إلى الكتاب الرائع الذي ألفه د- محمد بن سعيد القحطاني (146) بعنوان " الولاء والبراء في الإسلام" فقد عالج هذا الموضوع معالجة شاملة ووافية، وأنصح كل قارئ ألا تخلو مكتبته من هذا الكتاب، فضلا عن قراءته.
(ح) القضاء على الفراغ الذي يعيشه المجتمع والأفراد " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ " حديث صحيح
ولنرب الأمة على التوجيه الرباني: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7، 8).
ولقد أجاد الشاعر عندما قال:
إن الشباب والفراغ والجدة … …مفسدة للمرء أي مفسدة
كيف تفرغ أمة لا تزال متخلفة في كثير من شؤون حياتها، وماذا عملت حتى تفرغ، بل لو عملت ما فرغت، ولكن:
من يهن يسهل الهوان عليه … …ما لجرح بميت إيلام
(ط) ضمان الأمن العقلي، فهو أجدر بالأمن من أمن الأجسام والأموال والأراضي.
يقول الأستاذ زين العابدين الركابي (147) وهو يناقش هذه القضية:
إن احتلال الأراضي مكلف وغير ناجح، وأسهل منه استعمار القلوب، وهو الأبقى والأمكن والأقوى.
إن الساعات البرامجية التي تصدرها أمريكا سنويا (150) ألف ساعة برامجية، وهذه بحساب التأثير أفضل من عشرات القواعد الأمريكية العسكرية التي تكلف المال والرجال.
إن التربية أحسن وسيلة سواء وجد صاحبه عند مصادر البث أو هجم عليه البث فلا يتأثر (148).
ويؤكد هذه الحقيقة د - سيد ساداتي ويبين أهمية امتلاك هذا القلب، ووجوب العناية به، لأنه مفتاح كل خير، وكل شر (149).
" ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " حديث صحيح(36/495)
(ي) التوسع في استخدام الوسائل الإعلامية البديلة كالكتاب والمجلة والشريط الإسلامي، وتعاون الدعاة فيما بينهم في هذا الشأن وغيره.
ولقد أثبت الشريط الإسلامي نجاحه بشكل أقلق الأعداء وأقض مضاجعهم، وأوحوا إلى أذنابهم بإلصاق التهم في هذا الشريط وأصحابه، و لكن:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8).
(ك) الاستمرار في عقد الندوات والمحاضرات وإجراء البحوث والدراسات حول هذا الموضوع، وذلك لبيان خطورته وآثاره وسبل العلاج والوقاية منه، وعدم اليأس أو الملل: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55).
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية:21، 22). (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (الأعلى:9- 11). (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة:78- 81).
(ل) أن يقوم كل واحد منا بدوره، وأن يخطو خطوة عملية لوقاية بيته وأهله من سبل الفساد، وأن يخرج ما لديه من وسائل الشر والتدمير، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6). " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " الحديث. حديث صحيح
(م) وأخيرا.. فإن اهتمامنا بالمتلقي، في ضوء ما ذكرت من منطلقات تربوية، وعدم الاقتصار على وسيلة التلقي، يعطينا أمانا وثقة بضعف تأثير هذا الغزو على أجيالنا، وصمودا أمام محاولات الشرق والغرب لهدم كياننا، فإن الرجل إذا أصبح ماهرا في السباحة لم يغرق في البحر، وصارع الأمواج العاتية، ووصل إلى شاطئ السلامة بأمان.
والطبيب يأخذ مصل المناعة ويذهب إلى البلاد الموبوءة، فيعالج المرضى ولا يصيبه الأذى بإذن الله، بل إن بعض الأمراض الوبائية تمر على بعض البلاد فتهلك أهلها، وتمر على بلاد أخرى فلا تصيب إلا الرجل أو الرجلين، لمناعة أهلها وصحة أجسامهم، وعنايتهم بذواتهم منذ صغرهم.
ولو تعاملنا مع البث المباشر كما نتعامل مع هذه الأمراض الوبائية كالكوليرا والجدري ونحوهما، وذلك بأخذ جرعات التطعيم منذ الصغر، وإعلان حالة الطوارئ إذا علمنا أنه قدم إلى بلد مجاور، فيلزم الناس بأخذ مصل الوقاية وتشدد القيود على القادمين والمغادرين، بل نذهب لنجدة من حولنا، وقاية لأنفسنا وحماية لبلادنا، ووالله إن هذا الوباء أشد فتكا وأمضى سلاحا.
تاسعاً: الخاتمة
وبعد:
فبعد هذه الرحلة المضنية بين ثنايا هذه الرسالة، والتي استمرت قرابة سنتين ونصف السنة، بذلت فيها ما استطعت من أجل جلاء هذا الموضوع والوصول إلى ما يساعد على تجاوز هذه الغمة، أقول لإخوتي من طلاب العلم والدعاة:
إن هذا الشر القادم بلاء وامتحان للأمة، واختبار لكل فرد منا، فالناس تجاهه ثلاثة أقسام:
ا- قسم رحبوا به وفرحوا بحلوله، وعلقوا عليه الآمال الكاذبة وما أشبههم إلا بمن سبقهم: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الأحقاف:24)
(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (الأحقاف:25).
وأذكر هؤلاء بقوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: من الآية59).
2- وقسم سلبيون، كأن الأمر لا يعنيهم، ويقولون ننجوا بأنفسنا، فأذكرهم بقوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: من الآية25)، وبحديث زينب " أنهلك وفينا الصالحون فقا صلى الله عليه وسلم نعم إذا كثر الخبث "، وأذكرهم بحديث السفينة المشهور (150).
3- أما القسم الثالث فهو لكم يا دعاة الإسلام ويا حماة البيضة والدار، فاصبروا وصابروا وجاهدوا وتحملوا وتذكروا قوله -تعالى-: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1، 2).
وقوله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) (البقرة: من الآية214).(36/496)
وقوله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا )(التوبة: من الآية16).
وغيرها من الآيات، وهنا فأبشروا بالنتيجة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117).
وقوله -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(آل عمران: من الآية120).
وأبشروا بالعاقبة الحسنة:
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: من الآية32).
وأخيرا:
ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد.
اللهم فاشهد.
اللهم فاشهد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثاني عشر ... 2
العصرانية ... 2(36/497)
العصرانيون
د.محمد العبدة
27/3/1428
فئة هجينة، فلا هم علمانيون نعرفهم ويعرفوننا، ونعلم طريقة تفكيرهم، خاصة وأنهم صريحون في مطالبهم مكشوفون في أهدافهم "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ" (الأنفال: من الآية42). ولا هم ممن ثبت على الثوابت والمبادئ، أو طالبوا باجتهاد يجعلنا نعيش واقعنا ضمن منهج قويم وصراط مستقيم وحق في الاختلاف والحوار ولكنهم يلتفون على النصوص ويشنون عليها الغارات تأويلا متعسفاً ليتناسب مع (العصر) المهزوم ثقافيا. أو يتناسب مع الضغوط القادمة من المنافقين الحاقدين على الإسلام وأهله.
إنهم لا يهاجمون النصوص (قرآنا وسنة) ولكن يهاجمون العلماء الذين جمدوا على النصوص - بزعمهم - وتحت ضغط الواقع وباسم التجديد يشوشون مفاهيم الإسلام بإدخال الزيف على الصحيح، يدندنون كثيرا حول آية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: من الآية256) أو حول حديث الردة، ومن البديهات أنه (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ولكنها ليست حرية مطلقة غير مقيدة بشيء، هذا لا يفهم من الآية، بل الأصل في المجتمع الإسلامي حفظ الدين وتحريم الإلحاد، وتحريم نشر الضلالة والفساد في الأرض. وقد نشرت إحدى الصحف اليومية الصادرة في لندن أن لجنة تألفت في تركيا لحذف كل حديث يومي بظاهرة الإساءة للمرأة.
والرد على هؤلاء هو: هل هناك أحاديث صحيحة تسيء للمرأة؟ ولكنهم يريدون حذف الأحاديث التي لا تعجب الغربيين والمنافقين، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بحق، فإذا ذكر المرأة بما يتعلق بالحلال أو الحرام أو بشيء من صفاتها فهو حق. وإن إباحة حرية التهجم على كل المقدسات هو من نتاج الحضارة المادية التي نشرت هذا الوباء الشديد الفتك، والتي ذهبت بأخلاق وآداب البحث والإنصاف وكف اللسان عن الأذى.
اضطرب العصرانيون واهتزت عندهم القيم التي لا تتبدل بسبب الانتقال من حالة المجتمع الذي يغلب عليه أحيانا بعض العادات والتقاليد إلى مرحلة أفضل تتلاءم مع زيادة الوعي والعلم، فهل هم مشردون ثقافياً لا يستقرون على قرار بسبب التحولات الكبيرة التي فاجأتهم فلم يستطيعوا إيجاد التوازن المطلوب بين المبادئ والثوابت وبين العيش في (العصر) وليس عندهم القدرة على تحمل الضغوط الجديدة وفهم النص على حقيقته؟ فقد العصراني ذاته وتولدت لديه الحيرة والتشوش الذهني والافتقاد إلى معرفة الخيار الصحيح؟ ومن ثمَّ بدأ في إنكار قيم المجتمع.
إن الرد على الأخطاء كالعصبيات المذمومة بأنواعها وأشكالها أو العادات والتقاليد المخالفة للدين أو الفقر في السلوك الاجتماعي لا يكون بالهدم والنقض وعند فقدان التوازن الاجتماعي لا يكون الرد بالإعجاب بكل ما هو (أجنبي) واحتقار كل ما هو داخلي ولو كان صحيحا.
إن هذا الفكر ربما يؤدي بالعصراني إلى حالة من الاغتراب النفسي حين يشعر أنه غريب في المجتمع ويظن أنه وحده الذي يملك الحقيقة. ولو كانت بعض آراء العصرانيين مبنية على أساس من المعرفة العلمية والنقد السليم لكانت جديرة بالبحث والدرس ولكنها مشكلة نفسية لأنهم أفطروا العصرانية على الريق كما يقال فرددوا شعارات وأقوالا ظاهرها براق فيها تجدد وخروج عن المألوف ونقد لشخصيات ونقد لعقليات، ولكن هل هذا يغير من الحقائق شيئا؟
إن بعض الناس يرى أن أي فرد يختلف رأيه عن الآراء التقليدية لا بد أن يكون على صواب وهذا وهم من الأوهام بل هذا هو التفرق لأن كل جماعة صغيرة تذهب في مذهب العصرنة مذهبا يخالف الأخرى، وقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى حتى لا نقع في هذه الأوهام ولا يأخذنا بريق الأفكار الخادعة فقال مخاطبا نبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم الأمة التي تقتدي به: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (الزخرف:43).
=================(36/498)
رسالة إلى العصرانيين
د. محمد العبدة
9/4/1427
لا تناقض بين الاحتفاظ بالمبادئ نقية وفاعلة والعض عليها بالنواجذ، مهما اختلفت الظروف وتقلبت بالمسلم الأحوال وبين اليسر الإسلامي ورفع الحرج وسماحة الشريعة وتغير الفتوى مكاناً وزماناً لأسباب يجتهد فيها العلماء الراسخون.
وما هذا اليسر إلا لحياطة تلك المبادئ وحتى تسير الحياة الإنسانية وفقاً للفطرة ووفقاً للشريعة التي من أهم صفاتها السماحة، ولكن بعض الناس يعدون التمسك بالمبادئ والثوابت من التشدد والتزمت، فهل حقاً هو كذلك؟ وهل يمكن أن يكون الحق نصف حق، والباطل نصف باطل؟ أسئلة يجب على المسلم أن يقف عندها طويلاً قبل أن يقع في أحابيل من يسمون أنفسهم بـ(الإسلام المتنور) إلى أسماء كثيرة ابتدعوها.
قد لا يفقد المسلم صلاته، فالرسول _ r_ يخبرنا أن آخر ما نفقد الصلاة، ولكن هذا المسلم يبدأ بالتنازلات في المبادئ والعقائد ليقال عنه: معتدل أو متنور، وقد لا يكون عند هذا المسلم من العلم والذكاء والخبرة ما يميز به بين الانفتاح الصحي والمناسب وبين تسليم القلعة للمهاجمين، أي ليس لديه فكرة عن دوافع الغير حين يردد أفكارهم، هؤلاء الذين يتحدثون باسم (التجديد الديني) بينما هو في الحقيقة تجريد للدين من مضمونه ورسالته.
لا تناقض بين الاحتفاظ بالمبادئ نقية وفاعلة والعض عليها بالنواجذ، وبين اليسر الإسلامي ورفع الحرج وسماحة الشريعة وتغير الفتوى مكاناً وزماناً لأسباب يجتهد فيها العلماء الراسخون
إن قتال أبي بكر _ رضي الله عنه _ لمانعي الزكاة يجب أن نستخلص منه دروساً كثيرة، كان _رضي الله عنه_ يتشبث بالمبادئ التي لا تنازل عنها (ولو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين) وإذا لم نقتدِ بأبي بكر في المحافظة على المبادئ فسوف لا نفقد (عقالاً) بل نفقد روح الإسلام.
إن الخطر كل الخطر هو في فقدان الثقة بالمعتقدات التي هي حياة الأمة، بل يمكن أن نقول: إن الأمة لا تنهض على قيم نسبية ليست ثابتة أو على أخلاق نسبية.
هناك فرق بين دين أنزله الله من السماء وبلغه محمد _ r_ للناس وبين (ساحة) اليونان والرومان التي تحدثوا فيها كثيراً واخترعوا فيها من الفلسفات والقوانين وسجلوها قيماً ومبادئ بعضها صحيح وأكثرها غير صحيح، إنه الفرق بين منطق اليونان ومنطق القرآن، قال _تعالى_: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الجاثية:18).
طريق الاندماج مع أفكار غريبة عنّا طريق مسدود، طريقنا هو الاستقلال العقدي والتشريعي والحضاري، وبعد ذلك نأخذ ما يناسب وندَع ما يخالف.
===============(36/499)
اعترافات دكتور " عصراني " بأهمية ( الولاء والبراء ) ..! ... 2
(36/500)
سألني سائل عن الدكتور عبدالله الحامد ...! ... 6(37/1)
(37/2)
التيار الترابي في البلاد العربية والمراجعات المفقودة ... 21(37/3)
(37/4)
العصرانيون ودعوى الوسطية واحترام الرأي الآخر مهما كان ... 33(37/5)
(37/6)
وصف العلماء ( للعصرانيين ) وتدينهم ... 53(37/7)
(37/8)
المدرسة العصرانية ... 58
في نزعتها المادية الجذور الفكرية والعقدية (1- 2 ) ... 58(37/9)
(37/10)
تهافت العصرانيين ... ... 71(37/11)
(37/12)
ماذا قال الدكتور عبد الرحمن بدوي عن شيخ العصرانية في مصر ؟! ... 72(37/13)
(37/14)
بيان حال طائفة العصرانيين الضالة عقيدة ومنهجاً وفقهاً ... 74(37/15)
(37/16)
العصرانيو ن و ضرورة الحجر عليهم ... 79(37/17)
(37/18)
تهافت العصرانيون ... 85(37/19)
(37/20)
مشروع محمد عبده "الإصلاحي" وزرع الشوك ... 86(37/21)
(37/22)
فتوى في حسن المالكي ... 94(37/23)
(37/24)
من هم الحرورية ؟! ... 95(37/25)
(37/26)
بيان في حسن بن فرحان المالكي ... 102(37/27)
(37/28)
منصور النقيدان من بيت الطين وتحريم الكهرباء ... 104
إلى الأستاذية في أحدية راشد المبارك ... 104(37/29)
(37/30)
ظاهِرةُ نقدِ الخِطابِ الدِّينيّ ... 124(37/31)
(37/32)
هزيمة العصرانيين !! ... 128(37/33)
(37/34)
نظرات في كتابات د . القرضاوي ... 130(37/35)
(37/36)
العصرانية قنطرة اللادينية ... 137(37/37)
(37/38)
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة ... 189
إلى شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الجهاد ... 189(37/39)
(37/40)
أهم معالم المدرسة العقلانية أو المدرسة العصرانية . ... 206(37/41)
(37/42)
فصول في العصرانية ... 209(37/43)
(37/44)
العصرانية قنطرة العلمانية ... 214(37/45)
(37/46)
حديث (إن الله يبعث لهذه الأمة.. من يجدد لها دينها) ... 251
رواية ودراية ... 252(37/47)
(37/48)
فهمي الهويدي كاتب اخوانجي يشرع صكوك الغفران فاحذروه ... 261(37/49)
(37/50)
نظرات شرعية في فكر منحرف 1 ... 262(37/51)
(37/52)
(( القرضاوي والمذهب العقلاني )) ... 268(37/53)
(37/54)
المدرسة العصرانية في نزعتها المادية الجذور الفرية والعقدية (2/1) ... 277(37/55)
(37/56)
الجذور الفكرية والعقدية للمدرسة العصرانية ذات النزعة المادية (2/2) ... 290(37/57)
(37/58)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير (3/1) ... 304(37/59)
(37/60)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير ... 315(37/61)
(37/62)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير ... 328(37/63)
(37/64)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير (4 5) ... 339(37/65)
(37/66)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير (5 5) ... 355(37/67)
(37/68)
العصرانية والتنوير ... 368(37/69)
(37/70)
فتنة مسايرة الواقع ... 376(37/71)
(37/72)
أوراق متساقطة من شجرة مجتثة ... 392(37/73)
(37/74)
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى ... 397(37/75)
(37/76)
مصطلح التنوير: ... 409
مفاهيمه واتجاهاته في العالم الإسلامي الحديث ... 409(37/77)
(37/78)
التغيير القادم ... 433(37/79)
(37/80)
من هم دعاة الإخوة الإنسانية ... 621
وما هي جذورهم الفكرية وشيخهم الأفغاني وتلميذه محمد عبده ... 621(37/81)
(37/82)
المعتزلة ... 631(37/83)
(37/84)
رؤية شرعية في الأخوة الإنسانية ... 644(37/85)
(37/86)
تيارات التغيير في العالم الإسلامي بين التوسط والتطرف ... 663(37/87)
(37/88)
فقه أولويات الدين … ... 693(37/89)
(37/90)
نظريات الحاكمية في الفكر الإسلامي ... 703(37/91)
(37/92)
رؤية إسلامية لقضية التعددية ... 732(37/93)
(37/94)
مراجعة لكتاب مستقبل الإسلام السياسي لجراهام فولر … ... 751(37/95)
(37/96)
تطوير الخطاب الديني ... 760(37/97)
(37/98)
ثقافة التلبيس ( 13 ) : ... 843
عدم تكفير اليهود والنصارى ..! ... 843(37/99)
(37/100)
ثقافة التلبيس ( 9 ) : ... 852
قولهم بـ ( نسبية الحقيقة ) ... 852(37/101)
(37/102)
فلسطين بين ثوابتنا وثوابتهم ... 864(37/103)
(37/104)
نظرات في كتاب " الحرية أو الطوفان " ... 878
د حاكم المطيري ومواجهة أخوية معه ... 878(37/105)
(37/106)
الحوار الإسلامي ... بين الدواعي والمعوقات ... 912(37/107)
(37/108)
البث المباشر حقائق وأرقام ... 949(37/109)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (13) القاديانية
الباب الثالث عشر
القاديانية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث عشر
القاديانية(38/1)
(38/2)
قاديان في القرآن
يصرّ بعض أتباع الميرزا القادياني اليوم على إنكار قدسيّة قاديان بالنسبة لهم و ذلك ليدفعوا عن أنفسهم تهمة تقديس ما لم يقدسه القرآن الكريم. و هم بهذا يتجاهلون كلّ الوحي الذي ادعاه الغلام في تقديس قاديان و ربط قدسيتها بقدسية مكة و المدينة و ادعاءه أن القرآن ذكر قاديان بالتقديس. و سأورد في هذه المشاركة بعض الوثائق القاديانية التي تبيّن منزلة قاديان في وحي الميرزا.
قاديان مثل مكة
يقول الميرزا غلام ((انحطت لي الملائكة من الخضراء إلى الغبراء و جُعلت قاديان كالقادسية و بلدها الأمين)) - كتاب سيرة الأبدال ص1. انتهى الإقتباس.
و المعروف أن القادسية و البلد الأمين هي أسماء لمكة المكرمة. جاء في كتاب "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" ص197 ما يلي : ((فاران اسم جبال مكة، وقيل اسم جبال الحجاز، ولها ذكر في التوراة يجئ في أعلام نبوة النبي . المقدسة والقادس والقادسة والقادسية: أسماء لها من القدس وهو الطهر نصيب لأنها تطهر من الذنوب)).
و جاء في الدراسة "أسماء مكة" ما يلي ((المقدسة، القادس، القادسة، القادسية : لقد ذكرت كتب اللغة أنَّ الاسماء الاربعة آنفة الذكر هي من أسماء مكة . وهذه الاسماء تشير على الارجح الى معنى واحد . والباعث للتسمية، هو قولهم: "القادس من التقديس، لأنها تقدس من الذنوب؛ أي تطهّر" تاج العروس 4: 214، شفاء الغرام : 80، الجامع : 158)) - أسماء مكّة دراسة تاريخية تحليلية في المعاني والدِلالات.
القرآن قدّس ثلاثة أماكن هي مكة و المدينة و قاديان
((ثلاثة أسماء مذكورة بالتقديس في القرآن: مكة و المدينة و قاديان)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص 103.
المسجد الأقصى المذكور في القرآن موجود في قاديان
يقول الميرزا غلام ((و أما قوله عزّ اسمه بعد هذا القول - أعني المسجد الأقصى الذي باركنا حوله - فيدل على زمان فيه يظهر بركات في الأرض من كل جهة كما ذكرناه آنفاً و هو زمان المسيح الموعود و المهدي المعهود، و المسجد الأقصى الذي بناه المسيح الموعود في القاديان)) - كتاب خطبة إلهامية ص 25.
سورة الروم تتحدث عن قاديان
(("غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون" قوله "في أدنى الأرض" يعني قاديان، و القرآن يحوي اسم قاديان)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص 904
الإله يلاش ينزل في قاديان
((الإله سينزل في قاديان مثلما وعد)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص 527
إنا أنزلناه قريباً من القاديان
((إنا أنزلناه قريباً من القاديان و بالحق أنزلناه و بالحق نزل)) - الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص101.
=============(38/3)
(38/4)
القاديانى الكذاب الذى يقول للشئ كن فيكون
بقلم / محمود القاعود
تأملوا جيداً فى هذا النص الذى يدعى فيه القاديانى الكذاب ، أن الله قال له " إنما أمرك إذا أردت شيئاً أن تقول له كن فيكون " !!!!
نرجو توضيح من عُبّاد يلاش :
(( عفا الله عنك لم أذنت لهم . إنما أمرك إذا أردت شيئاً أن تقول له كن فيكون ، أنت بنا ملحق . إنما أمرك إذا أردت شيئاً أن تقول له كن فيكون . آتيك غداً - جاءك ربك الأعلى . أنت بنا ملحق إنما أمرك إذا أردت شيئاً أن تقول له كن فيكون .انت من ماءنا )) ( تذكرة ) .
ونسأل إذا كان هذا الدجال الكذاب إذا أراد شيئاً قال كن فيكون ، فلماذا لم تتحقق نبوءاته الفاشلة ؟
والأخطر من ذلك ماهو معنى : أنت من ماءنا ؟؟ هل وصلت الجرأة على الله إلى هذا الحد الذى يسمح للأفّاك القاديانى أن يقول أنه من ماء الله والعياذ بالله ؟
الأمر جد خطير ويحتاج إلى توضيح من عباد يلاش
=============(38/5)
(38/6)
رداً على تفسير القاديانية للمسيخ الدجال
التفسير العبيط عند أتباع الغلام السليط
( قراءة نقدية حول حقيقة المسيح الدجال عند الجماعة الأحمدية )
بقلم / محمود القاعود
الجماعة الأحمدية المشهورة ب ( القاديانية ) حيرت الكثير من الناس ، فهم يدعون أنهم مسلمون مثل باقى المسلمين ، إلا أنهم يؤمنون بأن (( الميرزا غلام أحمد القاديانى ) هو رسول من عند الله !!!
وهذا الميرزا الذى يؤمن به الأحمديون اشتهر بسلاطة اللسان وبذاءة القول انظروا إليه وهو يهجو أحد مخالفيه :
((ومن اللئام أرى رجيلاً فاسقاً غولاً لعيناً نطفة السفهاء
شكس خبيث مفسد و مزور نحس يسمى السعد في الجهلا
آذيتني خبثاً فلستُ بصادق إن لم تمت بالخزي يا ابن بغاء))
روحاني خزائن ج22 ص734
وانظروا إليه وهو يرد على من انتقد إحدى قصائده :
((((ثم بعد ذلك نكتب جواب ما أشعت ، و ظلمت نفسك و الوقت أضعت، أما ما أنكرت في كتابك بلاغة قصيدتي، و ما أكلت عصيدتي، فلا أعلم سببه إلا جهلك و غباوتك و تعصبك و دنأتك، أيها الجهول قم و تصفح دواوين الشعراء ليظهر لك منهاج الأدب و الأدباء، أتغلط صحيحاً و تظن الحسن قبيحاً، و تأكل النجاسة، و تعاف النفاسة، ليس في جعبتك منزع، فظهر لك في التزري مطمع، و كذلك جرت عادة السفهاء، أنهم يخفون جهلهم بالإزدراء. و يلك ما نظرت إلى غزارة المعاني العالية، و استقريت القذر كالأذبّة. ما فكرت في حسن الكلام، و لا في المنطق و نظامه التام. أيها الغبي علمت من هذا أنك ما ذقت شيئاً من اللسان، و لا تعلم ما حسن البيان، و نزوت كالسرحان قبل الفهم و العرفان. أبهذا تبارينا في الميدان، و تبارزنا كالفتيان. أتتكيء على الأصغر الذي كتب معه الجعفر إليك و كنت قد فررت من هذه القرية مع لعن نزل عليك. فاعلم أنهم يكذبون و ليسوا رجال المصارعة و لا قبل لأحد في هذه المناضلة. دع تصلفك فإنك لست من الرجال، و لو كنت شيئاً لما فررت من الإحتيال. ثم اعلم أني ما رضت صعاب الأدب بالمشقة و التعب، بل هذه موهبة من ربي )))) ( مواهب الرحمن - ص 131 ) !!!!!
فهل هذا إنسان محترم ؟؟؟ الإجابة أنه إنسان سليط ، لذا فإنه استحق أن نطلق عليه (( الغلام السليط )) .
والمعلوم للجميع أنه لا نبى أو رسول بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن يقول بذلك يكون قد خرج عن النص وابتدع فى الأصل .
يدعى الأحمديون بأن هناك آيات قرآنية تؤيد ادعاء (( الغلام )) منها :
((وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... )) الصف 7
والواقع أن الإنسان يكاد يُجن من استشهاد الأحمدية بهذه الآية الكريمة والتى تدل على تخبطهم الشديد ، فالآية واضحة وتقول على لسان عيسى عليه السلام ، أنه يبشر برسول يأتى من (( بعده )) وليس من (( بعد بعدى ))
والسؤال هنا : من الذى أتى بعد عيسى بن مريم عليه السلام ؟! أهو المصطفى صلى الله عليه وسلم أم المتنبئ الكذاب ميرزا غلام ؟؟؟؟
1. وآية أخرى يستشهد بها أتباع الغلام : ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )) ( فصلت :30 )
هذه الآية فى نظرهم دليل على نزول الوحى على الغلام !!!!، ولو أنهم تعقلوا لكان خيراً لهم ؛ فالآية تتحدث عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، وأن الملائكة تتنزل عليهم لتبشرهم بالجنة التى (( كانوا يوعدون بها )) وقوله تعالى (( كنتم توعدون )) دليل قاطع على أن نزول الملائكة لا علاقة له بالدنيا من قريب أو بعيد ، وإنما هو نزول فى الآخرة لطمأنة هؤلاء الذين استقاموا ، وإذا افترضنا معهم أنهم ينزلون بوحى فأين هذا فى الآية الكريمة ؟؟!! إن الملائكة يقولون : (( ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون )) ولم يرد أنهم يقولون ابشر يا ميرزا هذا وحى من السماء !!!!!
ويستشهدون أيضاً بالآية الكريمة )) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )) ( الشورى 51 )
ويقولون لماذا لم يقل الله (( وما كان لنبى أن يكلمه الله )) ؟؟!!! أما قوله بشر فهذا دليل على نزول الوحى على أى إنسان والميرزا !!!!!!
وتناسى هؤلاء الأحمديون المضلون أن بشراً لا تعنى أنها (( وكالة بدون بواب )) بحيث إن أى إنسان يدعى أنه يوحى إليه ، ولكنه سبحانه أتى بالصفة التى تجمع هؤلاء الأنبياء والرسل وهى البشرية وقال أنه لا يكلم أحداً منهم إلا وحياً أو .... إلخ الآية الكريمة .
وقد قال الحق سبحانه : ((و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم )) فلماذا لم يقل جل شأنه وما أرسلنا من قبلك إلا أنبياء ؟؟؟؟!!!!!
هل كل الرجال الذين وجدوا قبل المصطفى كانوا يوحى إليهم ؟؟!!!! أم أن الحق يقصد أنبياءه ورسله ؟؟؟
ما هذا العبث يا أتباع الغلام ؟؟؟؟(38/7)
معظم الأحمديون يقولون أنهم لا يعتبرون الميرزا نبى ، لكنه نبى تابع وليس مشرع !!!! فما معنى تابع ؟؟؟ وإذا لم يكن نبياً فلماذا يطلقون عليه هذه الصفة الخطيرة وهى النبوة ؟؟؟
ولنتأمل قول كبار الأحمدية عن الميرزا غلام .
يقول (( هانى طاهر )) : (( ولا ريب لدينا أنه قد حاز - يقصد الغلام - مرتبة النبوة التابعة التى لا تشريع فيها )) !!!
والأحمدية تكفر جميع الفرق الإسلامية بما فيها السنة !!! ولنتأمل قول أحدهم ، يقول (( تميم أبو دقة )) :
(( نعم نحن الفرقة الناجية الوحيدة وباقى الجماعات الإسلامية على ضلال )) !!!
ويقول أيضاً : (( يكفى التذكر أننا الفرقة الوحيدة التى نشأت بدعوى وحى وبعثة إلهية منصوص عليها وينتظرها المسلمون ، بينما غيرنا من الفرق تشكلت على اساس الاجتهادات أو بسبب ظروف تاريخية مختلفة )) !!!!
ويقول أيضاً عن الغلام : (( إن تكذيبه هو تكذيب لنبى مبعوث مرسل من عند الله وهو من نواقص الإيمان حتماً ))
وبعد هذا الكلام الذى جاء بأقلام أتباع الأحمدية ، لا عذر لأى أحمدى فى التنكر أو التلبيس على عامة المسلمين ممن لم يعرفوا حقيقة الأحمدية وادعائها أن ميرزا نبى مرسل من عند الله وأن الكافر بهذا الغلام مصيره جهنم .
وللأحمدية تفسيرات عجيبة وغريبة ومضحكة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ومن هذه التفسيرات تفسيرهم لحقيقة ( المسيح الدجال ) .
وقد اعتمد أتباع الأحمدية على الفكاهة فى تفسير بعض الأحاديث المروية عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بخصوص المسيح الدجال ، كما أنهم قاموا بتفسير آيات القرآن الكريم تفسيراً لا يتمشى مع العق أو المنطق .
يقولون : (( ومن علاماتها - يقصدون الساعة - إنشاء حدائق للحيوانات فى بلاد شتى من أنحاء العالم مصداقا لقوله تعالى فى سورة التكوير : ( وإذا الوحوش حشرت ) أى جمعت فى حدائق خاصة بها !!!!!وقوله تعالى أيضاً : ( وإذا الصحف نشرت ) إشارة إلى انتشار الصحف والمجلات بكثرة فى أنحاء العالم كما نشاهده اليوم !!!وقوله تعالى أيضا: ( وإذا المؤودة سئلت بأى ذنب قتلت ) وهنا إشارة إلى الصيحات والنداءات التى سوف يُطلقها أصحاب الفكر وأصحاب الأقلام من أجل تحرير المرأة المكبلة والمقيدة بقيود الماضى الملئ بالجهل والتخلف لذلك قال الله تعالى : ( وإذا المؤودة سئلت ) لأن قتلها معنوى وليس حقيقياً ولو كان قتلها حقيقياً لكان الله سأل قاتلها لماذا قتلها ، لأن الأصل فى سؤال القاتل وليس سؤال المقتول إذ ا كان القتل حقيقياً مادياً )) !!!!!!!
أرايتم تفسيرات أتباع الغلام السليط ؟؟؟ أليست مضحكة ومبكية فى آن ؟؟؟
مضحكة بسبب تهافتها وسخفها ، ومبكية بسبب حال هؤلاء المخدوعين بالكذاب مدعى النبوة الغلام الهالك .
سورة التكوير تتحدث عن يوم القيامة ، وما يصاحب هذا اليوم من انقلاب كونى هائل ، لا علاقة له بحدائق الحيوان أو الصحف والمجلات أو تحرير المرأة !!!
والأحمدية يريدون بتفسيرهم هذا القول بأن علامات الساعة تحققت لذا فإن الميرزا غلام هو (( المسيح الموعود والمهدى المنتظر )) !!!!
لكن حقائق القرآن الكريم تصفعهم لتفضحهم وتفضح زيف قولهم وإفك فكرهم وضلال عقولهم .
فكل ما تحدثت عنه سورة التكوير بخصوص يوم القيامة لم يحدث شئ منه حتى الآن ، وهذا كفيل بإبطال زعم الميرزا الضال أنه رسول من عند الله رب العالمين .
يقول رب العزة : (( إذا الشمس كورت )) فهل حقاً كورت الشمس يا أتباع الغلام البائد ؟؟؟
ويقول أيضا جل شأنه : (( وإذا النجوم انكدرت )) أى تساقطت ، فهل حقاً تساقطت النجوم ؟؟؟
ويقول سبحانه : (( وإذا الجبال سيرت )) فهل تحركت الجبال من أماكنها ؟؟؟
ويقول عز وجل : (( وإذا العشار عطلت )) فهل ترك أحداً من الناس رعاية الجمال وقام بإهمالها ؟؟؟
ويقول الحق : (( وإذا الوحوش حشرت )) أى إذا جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلة من شدة الفزع ، فهل حدث هذا فى حدائق الحيوان ؟؟!!!
ويقول سبحانه : (( وإذا البحار سُجرت )) أى إذا تأججت ناراً حارقة ، فهل حدث هذا ؟؟؟
ويقول أيضاً رب العزة : (( وإذا النفوس زوجت )) أى إذا النفوس قرنت بأشباهها يقول الطبرى : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح فى الجنة ، وبين الرجل السوء مع الرجل السوء فى النار . فهل حدث هذا ؟؟؟
يقول الحق سبحانه وتعالى : (( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ )) والسؤال لأتباع الغلام هل قام رب العزة بسؤال المؤودة ؟؟؟ ومتى تم هذا الحدث ؟؟ ما هو الدليل إن كنتم من الصادقين ؟؟؟
فحديثكم عن الصيحات من أجل تحرير المرأة يستلزم سؤال هذه المرأة - على حد زعمكم - ، فمن الذى سألها ؟؟؟ ورب العزة لا يسأل المقتول دون إدراك والعياذ بالله ، وإنما توبيخاً لقاتلها ، وإشعاراً له بمدى الجرم الذى ارتكبه .
يقول الحق : (( وإذا الصحف نُشرت )) أى وإذا صحف الأعمال نشرت . أعمال الخير والشر التى اقترفها الإنسان فى الدنيا ، ولا علاقة بهذه الصحف التى تحدث عنها ربنا بالصحف والمجلات والتهريج الذى يتحدث عنه أتباع الغلام .(38/8)
ويقول جل شأنه : (( وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ )) أى إذا السماء أُزيلت ونزعت من مكانها كما يُنزع الجلد عن الشاه ، فهل كُشطت السماء ؟؟؟ ... إلخ الآيات التى تتحدث عن علامات يوم القيامة .
من خلال ما سبق يتبين لنا أن التفسير العبيط لأتباع الغلام السليط تفسير مجافى للحقائق الظاهرة والبراهين الساطعة .
ولنتأمل معاً تفسيرهم لأحد الأحاديث النبوية الخاصة بالدجال :
(( عن حذيفة بن أسيد الغفارى رضى الله عنه قال : اطلّع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة ، قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : فذكر الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم . )) ( رواه مسلم وأبوداود والترمذى وابن ماجة ) .
ونحن نؤمن أنه لم يحدث أى شئ من هذه العلامات على الإطلاق ، ولكن أتباع الغلام يعتقدون بحدوث بعض هذه الآيات ، فيقولون :
(( الحقيقة أن هذه الآيات العشر علامات على قرب موعد الساعة ، واقتراب وقوعها منها ما ظهر وشاهدناه عياناً كالدخان ، والدجال والدابة ، ويأجوج ومأجوج ومنها ما يزال فى عالم الغيب لا يعلم وقت ظهوره سوى الله جل شأنه .
فالدخان إشارة إلى ظهور صناعات جديدة ومعامل كبيرة ينطلق من أبراجها الدخان بكثرة ، وكذلك ظهور اختراعات حديثة تعتمد أساساً فى تشغيلها على مواد قابلة للاشتعال كالبترول والفحم الحجرى . ينتج عن احتراقها الدخان أيضا ويشير إلى تطوير القديمة واختراع أسلحة جديدة ينتج الدخان عن استعمالها ، وآخر هذه الأسلحة الفتاكة القنابل الذرية فالدخان هو ميزة هذا العصر ، فلذلك يمكن تسمية عصرنا هذا بعصر الدخان )) !!!!!!!!!
والسؤال لأصحاب العقول من الأحمدية من قال لكم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قصد هذا التفسير المخجل ؟؟؟؟؟
لقد اتفقت أغلبية اقوال العلماء على أن الدخان هو دخان كثيف يأخذ بأنفاس الكفار ويُصاب المؤمن منه ما يُشبه الزكام ، ويمكث فى الأرض أربعين يوماً ، ولا علاقة له بالقنابل الذرية أو الفحم أو البترول ، فمن أين للأحمدية بهذه التفسيرات الخرافية ؟؟؟
وعن الدخان يقول رب العزة : ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ )) ( الدخان : 10 )
فما هو رأى أتباع الغلام فى هذه الاية الكريمة ؟؟ أهو دخان القنابل الذرية أيضاً ؟؟ !!!
ويُتابع أتباع الغلام تفسيراتهم المضحكة :
(( الدجال هو ما يُسمى بالاستعمار أو الرجل الأبيض )) !!!!
ونقول للأحمدية قولا مختصراً لأنهم عادوا وزادوا حول صفات الدجال وحاولوا قدر جهدهم إثبات أن أوصاف الدجال تنطبق على الشعوب الأوروبية وأنهم يستخرجون البترول من الدول التى يستعمرونها كما يقول الرسول ( يمر بالخربة فيقول لها : أخرجى كنوزك ) !!!!
نقول : هل وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم أقواماً ودولاً أم وصف شخص مفرد يُدعى الجال ؟؟؟؟
ثم إن تفسير الأحمدية المضحك يجعلنا نقلب حقيقة الأشياء مهما كانت ، وكثير من صفات الدجال لا تنطبق على الاستعمار ، فما معنى أن يكون الاستعمار (( أعور )) ؟؟؟!!! ما معنى أن يكون الاستعمار شعره (( مجعد )) ؟؟؟؟!!! ... إلخ الصفات التى لا تنطبق على شعوب أو دول وإنما على شخص .
يقولون عن الدابة : (( هى وسائل النقل الحديثة كالطائرات والقطارات والسيارات والبواخر والتى حلت بدلا عن وسائل النقل القديمة القديمة مصداقا لقوله تعالى فى سورة التكوير : (( وإذا العشار عطلت )) أى استغناء الناس عن الاعتماد على الجمال وغيرها من الحيوانات فى ركوبهم وسفرهم وتنقلاتهم واستبدالها بمخترعات حديثة أقوى وأسرع ، كما يقول تعالى : " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " )) !!!!!!!
إن أتباع الغلام يُشبهون إلى حد كبير أتباع رشاد خليفة ، فأتباع رشاد خليفة الصليبى الهالك يدعون أن الدابة هى (( الكمبيوتر )) ، وأتباع الغلام السليط يدعون بأن الدابة هى الطائرات !!!!!
يقول رب العزة : ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ )) ( النمل : 82 )
فهل الطائرات تتكلم مع الناس يا أتباع الغلام ؟؟!!!
ثم إن الآية القرآنية التى استشهدوا بها : (( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون )) لا تعنى الطائرات والسيارات ، ذلك أن ما قبلها يُبطل تفسير أتباع الغلام :
((وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) ( يس : 41-42 )
والمقصود أن الله خلق لهم من مثل الفلك ما يركبون وهو الأنعام على أرجح الأقوال ، والدليل هو قول الحق سبحانه : ((و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون» (الزخرف: 12 ).
فما رأى أتباع الغلام ؟؟؟(38/9)
يقولون عن الدجال : (( بشكل عام هو شعوب أوروبا الغربية وبشكل خاص سكان الجزر البريطانية الذين خرجوا من بلادهم بعد عصر الاكتشافات الجغرافية الذى بدأه الأمير هنرى ابن ملك البرتغال وساحوا فى الأرض ليكتشفوها ويبحثون عن خيراتها وليستعمرونها )) !!!!!!
ويستشهدون بآية تُدينهم من حيث لا يتوقعون : (( يومئذ يُنفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا )) ( طه : 102 ) ويقولون كلمة زرقا تُشير إلى أنهم اصحاب العيون الزرق وهم أهل أوربا وأمريكا )) !!!
والسؤال لأتباع الغلام السليط : هل نُفخ فى الصور أم لا ؟؟؟؟؟
وإذا كان قد نُفخ فى الصور فمتى حدث هذا ؟؟؟؟ أم أن الهالك الكذاب الميرزا هو الذى قام بالنفخ فى الصور ونحن لا ندرى ؟؟؟؟!!!!
ثم إن زرقا صفة لأصحاب الوجوه الزرقاء بسبب شدة السواد الذى أصابها من غضب الله وسخطه على أصحابها ولا علاقة لها بالعيون الزرقاء .
والآيات الواردة بعد هذه الآية الكريمة تنفى نفياً قاطعاً التفسير العبيط لأتباع الغلام السليط .
إذ يقول رب العزة : (( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا )) ( طه : 103- 104 )
والسؤال لأتباع الغلام : هل شعوب أوروبا وأميركا يتخافتون فيما بينهم الآن ويقولون : (( إن لبثتم إلا عشرا )) ؟؟؟!!! شئ من العقل يا أتباع الغلام السليط .
ثم إن القول بظهور الدجال يجعل من جميع الناس الذين آمنوا بالإسلام بعد ظهوره إيماناً غير مجدى على الإطلاق مصداقاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :
(( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً . طلوع الشمس من مغربها . الدجال . دابة الأرض ) ( رواه الترمذى )
ويُتابع أتباع الغلام تفسيراتهم المضحكة لحديث يقول فيه المصطفى : (( إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويكثر الجهل ويفشو الزنا ويُشرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) ( رواه البخارى )
فيقولون : (( وعبارة أن يقل العلم : يُقصد به العلم الدينى الحقيقى وعبارة : يقل الرجال ، ويكثر النساء : من جراء الحروب العالمية التى حدثت بين أقوام يأجوج ومأجوج فى أوربا وآسيا منذ خمسين عاماً ، حيث قضت على الملايين من الرجال )) !!!!!!
اللهم ثبت عقولنا فى رؤوسنا ، ألا يشعر أتباع الغلام بالخزى جراء هذه التفسيرات التعسفية المضحكة ؟؟؟ إننا نطالب أتباع الغلام باحصائية تُثبت أن كل رجل يُقابله خمسون إمرأة ، وإلا فليلتزموا الصمت ولا يتحدثون فيما لا يعلمون ، ونحن لا نشكك فى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونؤمن بأن ما قاله سيتحقق بإذن رب العالمين لكنه لم يحدث بعد أن أصبح الرجل يُقابله خمسون إمرأة .
ويأجوج ومأجوج لا علاقة لهم بأوربا وآسيا ، لأن ظهورهم يكون قُبيل يوم القيامة ، إذ يقول تعالى : ((وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا )) ( الكهف : 99 )
أى أن ظهورهم مقترن بالنفخ فى الصور ، وقيام الساعة ؛ فهل تم ما تحدث عنه رب العزة يا أتباع الغلام ؟؟؟ أم أنه ما زال فى علمه جل شأنه ؟؟
إن تفسيرات اتباع الغلام السليط لا تخدم سوى فئة منحرفة تُؤيد العبث بعقول الناس ، والارتزاق من وراء تفسيرات كاذبة .
إن أتباع الغلام يستقتلون فى إظهار علامات الساعة من أجل إثبات أن الغلام هو المهدى المنتظر والمسيح الموعود !!!!!
والحق أن هذه أول مرة فى التاريخ نسمع عن مهدى منتظر بذئ الأقوال والأفعال ، يوالى الإنجليز ويُعطل فريضة الجهاد ، ويدعى بأن هناك وحياً يأتيه من السماء .
أولى بأتباع الأحمدية ( القاديانية ) أن يعودوا إلى الحق ، فيوم القيامة لن ينفعهم الميرزا النصاب ، لأنه سيقودهم إلى جهنم وبئس المصير ، بما فعله فى دنياه وإدعائه الباطل النبوة والوحى ، وإدخال المعتقدات الباطلة على دين المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والذى قال ربنا تبارك وتعالى عنه أنه كامل وليس بحاجة إلى إضافات مثل الميرزا أو غيره يقول الحق سبحانه :
((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا )) ( المائدة : 3 )
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارك على أشرف خلق الله أجمعين سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى أصحابه الأطهار وآله وسلم تسليماً كثيراً .
============(38/10)
(38/11)
آية قرآنية تصعق النحلة القاديانية .
بقلم / محمود القاعود
عندما يفقد الإنسان عقله ، ستجده يُحاورك بمنتهى البلادة والنطاعة والتبجح والرعونة ، من أجل ذلك فعندما يُحاور الإنسان معتقد الجماعة الإلحادية الشركية الضالة اليلاشية ، التى تُعرف باسم " الأحمدية القاديادنية " عليه أن يُهيئ نفسه لمحاورة مجموعة من البلهاء الأغبياء معدومى العقول .
والقاديانية عقيدة " شعوبية " أثيمة ، صنعها الإنجليز لبث الفرقة بين المسلمين والقضاء عليهم ، وجعلهم يحوّلون ولاءهم للنبى الهندى الكذاب " ميرزا غلام أحمد " الدجال ، بدلا من المصطفى الصادق الأمين محمداً صلى الله عليه وسلم
لقد أُنشئت تلك العقيدة الشركية الآثمة لمناهضة العقيدة الإسلامية ولنزع القداسة عن مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وإضفائها على " قاديان " الهندية ..
يقول أحد أتباع القاديانى الكذّاب فى وقاحة منقطعة النظير ، كاشفاً عن الوجه الشعوبى الدنيئ للقاديانية :
(( إن الذى يزور قبة المسيح الموعود البيضاء فى " القاديان " له نصيب من البركات التى تختص بقبة النبى الخضراء بالمدينة ، فما أشقى الرجل الذى يحرم نفسه من هذه البركات خلال الحج الأكبر إلى قاديان " ( ما هى القاديانية : أبى الأعلى المودودى ، ص 52،51) .
ويقول " بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثانى الهالك للقاديانى الكذاب : " أن الحج إلى قاديان حج تمثيلى لحج بيت الله الحرام " ( ماهى القاديانية ص :52 ).
ويقول أحد السفهاء من القاديانيين : " والحج إلى مكة بغير الحج إلى قاديان حج جاف خشيب ، لأن الحج اليوم إلى مكة لا يؤدى رسالته ، ولا يفى بغرضه " ( المصدر السابق ) .
ومن أجل تلك الغاية الخبيثة الضالة أوّلوا القرآن الكريم وفق الإلهامات الشيطانية الباطلة لأنفسهم المريضة ، يقول القاديانى الكذاب خليفة مسيلمة الكذاب :
ان الآية " ومن دخله كان آمناً " تعنى المسجد الذى أُسس فى " قاديان " ..
ويُضيف : ان المراد بالمسجد الأقصى فى قوله تعالى " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ " هو المسجد المؤسس فى قاديان ( براهين أحمدية ) .
وأراد هذا الدجال الشعوبى الضال المدعى أن يجعل من نفسه بديلاً ل صلى الله عليه وسلم ، لذا فإننا نرى السفهاء من أتباعه يُطلقون عليه نفس العبارات التى تُستخدم فى حق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فيقولون عن القاديانى الكذاب " عليه السلام " ، ويتحدثون عن أى زوجة له ب " أم المؤمنين " ويقولون عن بطانته " رضى الله عنهم "
يتضح لنا أن تلك الدعوة الشعوبية الأثيمة البغيضة تهدف لخلق نبى يجعل المسلمين يأتمروا بأوامر الإنجليز ، ويُسقطوا عقيدة الجهاد ، ويتحدثوا الأوردية بدلاً من العربية ، ويتركوا القرآن الكريم ، ويقرأوا وحى القاديانى الكذاب ، ويحجوا لقاديان فى الهند بدلاً من مكة المكرمة والمدينة المنورة .
ومنذ نشأة تلك الحركة الضالة المضلة ، وأعداء الإسلام يُقدمون لها العون والمدد ، فلم تكن بريطانيا وحدها التى رحبت بنشوء تلك الحركة الضالة ، بل امتد الترحيب ليشمل الهندوس بزعامة " جواهر لال نهرو " ، يقول شاعر الإسلام الكبير " محمد إقبال " كاشفاً عن الوجه القبيح للقاديانية :
" إن جواهر لال نهرو ومن معه من القوميين مضطربون من انتعاش المسلمين ونهضتهم كما أن " القاديانية " مضطربة أيضاً لنفس السبب :
وهم يعرفون أن هذا الانتعاش وهذه الحركة سوف تقضى على خطتهم ، خطة تمزيق أمة الرسول العربى - فداه أبى وأمى - وتكوين أمة جديدة لمتنبئ هندى ، ولأجل هذا يؤيدهم جواهر لال نهرو ، وإلا فأى علاقة له بهم ؟ " ( القاديانية : احسان إلهى ظهير ص 5- 6 ) .
إذاً فنحن أمام حركة ضالة تسعى لإثارة القلاقل والنعرات الطائفية البغيضة ، والانتصار لمدعى النبوة الهندى الكذّاب على حساب النبى العربى الصادق الأمين .
ويدعى السفهاء من أتباع القاديانى الكذاب أنه هو المهدى المنتظر والمسيح الموعود .. إلخ هلوساتهم ، وإنى أُطالب هؤلاء السفهاء أن يدلونى على حديث واحد للرسو صلى الله عليه وسلم يقول فيه أن المهدى المنتظر سيتلقى وحياً من الله .. وبالقطع لا يوجد مثل هذا الحديث ، فمن أين إذا أتى هذا الوحى المزعوم للقاديانى الكذاب ؟؟
ثم إنه من المعروف أن الوحى ينزل بلغة صاحب الرسالة ، فإن كان يونانياً سيأته الوحى بلغته ، وإن كان صينيياً سيأتيه الوحى بلغته ، وإن كان عربياً سيأته الوحى بالعربية ، أما أن يكون هندياً ويأتيه وحى بالأوردية والإنجليزية والعربية ، فهذا ما يبعث على الضحك ، ويجعله عرضة للاستهزاء .
يقول الحق سبحانه وتعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) ( إبراهيم : 4 ).(38/12)
وهذه الآية القرآنية الكريمة وحدها تصعق النحلة القاديانية الكافرة ، ولن يجدوا منها فرارا أو تأويلاً آخر ، آية قرآنية كريمة تقطع بأن الله عز وجل لا يُرسل أى رسول إلا بلسان قومه ، وليس بكلية " ألسن " أو ب " الويبستر " و " المورد " و " القاموس المحيط " و " لسان العرب " !
يقول القاديانى الكذاب فى وحيه المزعوم : (( بريشن عمر براطوس يا بلاطوس . كتاب تذكرة (ص 119 )
ويردف : لا أدري هو بلاطوس صحيح أم براطوس لأن الإلهام نزل علي بسرعة !!
ونسأل : ماهو معنى هذا الكلام الذى يفتريه القاديانى الكذّاب على رب العالمين ؟ وهل هناك وحى ينزل بسرعة وآخر ينزل " ببطئ " ؟! ولماذا يُنزل الله وحياً سريعاً لا يفهمه رسوله - المفترض أنه رسول ؟!
هل كانت تلك نبوءة لعصر السرعة والوجبات السريعة ، فجاء الوحى سريعاً ؟!
ولنتأمل معاً فى هذا الوحى الشيطانى للقاديانى الكذاب : (( إن العذاب مربع و مدور )) كتاب ( تذكرة : ص 790 ) !
ماهو معنى العذاب مربع ومدوّر ؟ وهل هناك عذاب مستطيل ومثلث ؟! ما هذا السخف والاستخفاف بعقول الناس ؟
وهل يحترم أتباع هذا الدجال أنفسهم حينما يقرأون تلك الهذيانات والهلوسات السمجة ؟؟
ويبقى القرآن الكريم يتحدى كل أفّاك أثيم تتنزل عليه الشياطين لتوحى إليه بسرعة ، ولتخبره أن العذاب مربع ومدوّر ، وندعو عبّاد " يلاش " - الاسم الحركى لإله القاديانيين - أن يجدوا مخرجاً من هذا المأزق الكبير : لماذا أتى القاديانى الكذاب بلسان العرب وهو الهندى ؟ ولماذا أتى بلسان الإنجليز وهو الهندى ؟ ولماذا أتى بلسان الفرس وهو الهندى ؟ هل لأنه كان يُمثل فيلم هندى ؟ ربما !
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
أخي الحبيب محمود القاعود
إنها لمفاجأة سارة أن أرى اسمك في منتدى التوحيد، و إن كنت أظن أن غالي - و هو عضو قادياني في هذا المنتدى - لن يصدق بأن التقاءنا هنا كان من غير ميعاد. لقد جئت أنا إلى هنا عن طريق اصطياد مشاركات القاديانيين عبر الإنترنت لإعادتهم إلى جحورهم و لا أدري كيف وصلت أنت إلى هنا.
أذكر بأنني أخبرتك خلال لقائنا قبل شهر في القاهرة عن مشاركتي في منتدى إسلامي عربي لأنك عاتبتني سابقاً على كثرة مواضيعي الإنجليزية. لكنني - على ما أذكر - لم أسمّ المنتدى. على أي حال أهلاً بك في منتدى التوحيد الذي أدعو الله سبحانه أن يبقيه شوكة في حلوق الملاحدة و الدجاجلة.
أخي محمود القاعود، أظنك قد لاحظت من كلام أخينا الفاضل د. فخر الدين المناظر أن أعضاء منتدى التوحيد يعرفون عن صداقتنا، لذلك فلا يقبل منك مقال الإطراء الشديد الذي وضعته أنت في مشاركتك الثانية و هو نفس المقال الذي هيّج العتاب بيننا في الماضي. فلا تقصم ظهري يا صديقي بمديحك و لا تعن الشيطان و غالي عليّ من حيث لا تدري، فالشيطان يدخل من باب المديح غير المستحق و غالي مسكون بنظرية المؤامرة و نظرية الجماعات التي يحشدها المسلمون لوقف المد القادياني المليوني!!
و الآن سأترك المجال للعضو غالي ليجيب عن سؤالك أعلاه: لماذا أتى الميرزا القاديانى بلسان العرب وهو الهندى؟ ولماذا أتى بلسان الإنجليز وهو الهندى؟ ولماذا أتى بلسان الفرس وهو الهندى؟
قال تعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) سورة إبراهيم : 4
و لنبدأ بالوحي القادياني التالي الذي ذكرته أنت في مشاركتك: (( بريشن عمر براطوس يا بلاطوس)). ليقل لنا غالي بأي لسان أرسل يلاش هذا الكلام و إن كان ذاك اللسان هو لسان قوم الميرزا القادياني؟ و ليقل لنا كيف بيّن الميرزا كلام يلاش لقومه؟
أخى الكريم وصديقى الأثير / فؤاد العطار
شرفت وسعدت بمرورك الكريم ، إذ أين نحنا منك ومن ردودك على عُبّاد يلاش ، فما نحن إلا تلاميذ فى مدرستك العريقة التى عرّت وفضحت زيف المتنبئ الهندى الكذاب ، فعذراً أخى الحبيب لا تقل انى أمدحك بما لا تستحق ، فما قلته جزء يسير من الحقيقة .
أخى الحبيب أبا بلال لم أجد أى جواب من العضو المشار إليه " غالى " ، ولعل ظروفه تمنعه من الإجابة التى ننتظرها بفارغ الصبر رداً على سؤال : لماذا أتى القاديانى الدجال بلسان العرب وهو الهندى ؟ ولماذا أتى بلسان الإنجليز وهو الهندى ؟ ولماذا أتى بلسان الفرس وهو الهندى ؟
فى انتظار إجابة العضو " غالى " الذى نتمنى أن يكون غالياً عند نفسه ، ولا يُرخصّها فى اتباع دجال كذاب سيورده مهالك الجحيم بمشئية الله إذا لم يعلن توبته ورجوعه إلى الإسلام
محمود القاعود محمود القاعود غير متواجد حالياً
عضو
… …
تاريخ التسجيل: Jul 2007
: مسلم
المشاركات: 19
افتراضي
اقتباس:(38/13)
ورداً على كلام القاعود بخصوص الآية التي يريد أن يصعقنا بها "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه".. فمن الواضح بأن القاعود ومن خلفه العطار جاهلان أو يتجاهلان بأن العربية والفارسية والأوردية والإنجليزية كانت لغات متداولة في الهند على مستويات مختلفة. فالعربية كانت لغة العلوم الدينية، وكان علماء الهند يكتبون بالعربية ويتقنونها بشكل جيد وكانت الهند مركزا هاما للدراسات الدينية يتخرج فيها العلماء، فكان واجبا أن يكتب حضرته بالعربية، خاصة أن العلماء هناك تحدوه في بداية دعوته وقالوا أنه لا يتقن العربية كما يتقنونها.. أما الفارسية فهي أحد أهم المصادر الأساسية للغة الأردية، حيث إن "أوردو" تعني بالفارسية الجيش، وهي كانت اللغة الرسمية للدولة المغولية التي حكمت الهند لقرون طويلة. وأما الإنجليزية فكانت لغة المعاملات الرسمية في زمن الاحتلال البريطاني للهند.
والأوردية هي لغة خليطة بين الفارسية والعربية والإنجليزية، وهي اللغة الأوسع انتشارا بين المسلمين في الهند.
وهكذا فقد انطبقت هذه الآية انطباقا كاملا أيها الجاهلان وفقا للجانب المحدود الذي فهمتماه... حيث جاء الإمام المهدي بكل اللغات التي كانت متداولة في البلاد التي جاء فيها.. وهناك جوانب عظيمة أخرى من تفسير الآية لا أظن أنكما ستفهماه أو يهمكما أن تفهماهسلام
ها قد انتظرت أن يُخرج الصديق غالى جميع ما عنده
وها قد رأيت رده المفحم الذى يُخرس الجميع!!
الصديق غالى يُريد أن يُخبرنا أن نبيه الهالك فى المرحاض كان عبارة عن كلية " ألسن " - لا أعلم جامعة عين شمس أم ماذا ؟- ورغم أن الآية الكريمة واضحة وضوح الشمس ، لكن الصديق غالى يتمادى فى ضلاله ، فإن قالوا له القاديانى تحدث الصينية ، سيحاول أن يجد أصلاً للصينية فى القرآن الكريم !!
الحق سبحانه وتعالى يقول " بلسان قومه " وليس ب " ألسنة قومه " اللهم إلا غذا اعتبرنا أن اللسان العربى يشمل فى طريقه الفرنسية والألمانية والآرامية .
الصديق غالى يُذكرنا بقوله عن تعدد لغات القاديانى بمشروب النسكافيه " ثرى إن ون " ثلاثة فى واحد " أى أن به السكر والنسكافيه واللبن ، كذلك فالقاديانى الهندى جاء بوحى نسكافيهى ( عربى + إنجليزى + فارسى ) !!
ثم هل الله يوحى بناءً على اللغة التى تطرأ على المكان فى زمن الرسول ؟
لنفرض أن غزواً تعرضت له مكة من قبل الفرس أثناء يعثة صلى الله عليه وسلم ، هل سيحول الله وحيه من العربية إلى الفارسية لأن الفرس كانوا يقطنون مكة فى تلك الفترة ؟!
شئ من العقل يا عُبّاد يلاش
إنمحمدا صلى الله عليه وسلم الذى أرسله رب العالمين للناس كافة ، لم يرسله إلا بلسان عربى مبين ، فما بال نبيكم الهالك فى المرحاض أتى بعدة لغات ؟؟ هل كان يستعد أن يصعد للمريخ ويدعو سكانه من أمثال الصديق غالى ؟!
وهل كان جميع سكان الهند يتقنون الأربع لغات ؟ للصديق غالى أن يُبت ذلك وسنسلم له !!وإذا لم يكن كذلك فمعنى ذلك أن تلك اللغات ليست بلسان الهنود ، بل بلسان المدعى الدجال الأفاق ميرزا غلام .
ثم إن الصديق غالى لم يُجب على مسألة نزول الوحى بسرعة : هل هناك وحى ينزل بسرعة ؟ وما معناه ؟
نرجو من الصديق غالى احترام العقول .
==============(38/14)
(38/15)
رداً على أُكذوبة ( خدمات القاديانية ) للإسلام .
بقلم / محمود القاعود
القاديانية نحلة عجيبة وغريبة ، ويستلزم على من يُحاور أتباعها أن يتحلى بالصبر والنفس الطويل ، أو كما يقول المثل " خليك مع الكذاب لحد باب الدار " .
وكذب القاديانية لا ينتهى ، وإن شئت فهو كذب بلا حدود ، ولنناقش إحدى الرسائل التى وصلتنى من قاديانى يتحدث فيها عن إنجازات جماعته الكافرة " القادياينة " التى أدت خدمات جليلة للعالم الإسلامى !!
يقول القاديانى : ((فالمسلمون الأحمديون اليوم يقيمون في أكثر من 182 دولة حول العالم ))
قلت : لنفرض أنهم يُقيمون فى 500 دولة ، هل يعنى ذلك أنهم على صواب ؟
يقول القاديانى : ((لقد كان لهذه الجماعة السبق بين كل جماعات المسلمين في العالم الإسلامي بتخصيص قناة فضائية للشؤون الدينية منذ عام 1994 ومن قبل أن تبدأ قنوات a r t فهلا ضربت لنا مثلاً في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ ))
قلت : ومن قال أن تلك القناة إسلامية حتى تُقارنها بقنوات الجماعات الإسلامية ؟! إن قنوات الكفر والإلحاد والجنس جميعها أُنشئت قبل قنوات a r t ، وما تلك القناة إلا رسول إفك وتضليل لإثارة الشكوك والشُبهات حول الإسلام ، وتحويل ولاء المسلمين إلى المتنبئ الهندى ( القاديانى الكذاب ) بدلاً من ولائهم إلىمحمدا صلى الله عليه وسلم ، فلا قيمة لتلك القناة على الإطلاق .
يقول القاديانى : ((هذه الجماعة كانت أول من أنشأ مسجدا في بريطانيا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وكانت أول من أنشأ مسجدا في برلين قبل الحرب العالمية الثانية، وأول من أنشأ مسجدا في فرانكفورت وهامبورج بعد الحرب، وأول من أنشأ مسجدا في هولندا، وأول من أنشأ مسجدا في كوبنهاجن عاصمة الدانمرك، وأول من أنشأ مسجدا في جوتنبرج بالسويد، وأول من أنشأ مسجدا في أسلو العاصمة النرويجية، وأول من أنشأ مسجدا في ضواحي قرطبة بأسبانيا بعد 500 سنة من خروج المسلمين منها. فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة هي التي تصدّت للتبشير المسيحي في أفريقيا، وأقامت المدارس والمستشفيات في العديد من الدول الأفريقية، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ ))
قلت : وما علاقة تلك الهياكل التى يتعبد فيها أتباع القاديانى الكذّاب بالمسلمين ؟؟ إن تلك المعابد تندرج ضمن " مسجد الضرار " الذى بُنى من أجل الكفر والتفريق بين المسلمين .
يقول ميرزا بشير بن غلام أحمد الخليفة الهالك للقاديانى الكذاب : (( أكد المسيح الموعود النهى عن صلاة الأحمديين خلف رجل من غير الأحمديين ) ( أنوار خلافت ص 89 ).
ومن كلام خليفتهم الهالك نراه يأمر أتباعه بحسب ما قاله نبيهم الدجال من النهى عن الصلاة خلف الكافرين به وبدعواه الأثيمة .
إذاً فتلك المعابد التى يدعون أنها مساجد لا تمت للإسلام من قريب ولا من بعيد ، وإن أطالوا فيها الركوع أو السجود ، ولعل هذا يُفسر لنا سماح السلطات الأوربية والأمريكية لأتباع القاديانى الكذاب ببناء المساجد دون أى تعطيل أو عرقلة ، ذلك لأنهم يعلمون علم اليقين أن تلك الطائفة هى أشد ما تكون بعداً عن الإسلام وتعاليمه ، واخترعها الإنجليز خصيصاً من أجل محاربة الإسلام وتفريق المسلمين على غرار مبدأ " فرق تسد ".
أما القول بالتصدى للتبشير المسيحى ، فما تلك إلا محاولة لتسويق المتنبئ الكذّاب ، وذلك عن طريق دس السم فى العسل ، بحيث يظهر القاديانيون بمظهر المدافع عن الإسلام ، وهم فى حقيقة الأمر يجرون أرجل الناس إلى مستنقع القاديانية ونبيها الدجال .
يقول القاديانى : ((هذه الجماعة كانت أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، حتى بلغ عدد ما تم نشره من هذه الترجمات هذا العام 62 ترجمة كاملة، وما تم نشره من مختارات من القرآن الكريم ومختارات من الحديث الشريف حوالي 100 ترجمة، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى ))
قلت : إذا اعتبرنا ترجمة القاديانيين للقرآن الكريم عمل مشرف ويستحق التقدير ، فلنا أن نعتبر ما تُسمى " دائرة المعارف الإسلامية " التى وضعها النصارى عمل مشرف ويستحق التقدير ، إذ أنه لافرق بين عمل قام به النصارى من أجل الكيد للإسلام ، وبين عمل قام به القاديانيون من أجل نشر التفسيرات السخيفة العقيمة التى تُشوّه صورة الإسلام وتخرجه عن مضمونه وتحمّله مالا يحتمل ، وتفترى على الله كذباً بأن تنسب إليه أنه ذكر ( القاديانى الكذاب ) فى القرآن الكريم والعياذ بالله .
وقد قام الكثير من المسلمين بترجمة معانى القرآن الكريم إلى معظم اللغات ، ولم يسمح لهم ذلك أن يدعوا النبوة !!(38/16)
يقول القاديانى : ((لقد ضاعت الخلافة من المسلمين، ورغم أنها من أعز المطامح لدى المسلمين إلا أن الله تعالى نزعها من أيديهم وأنعم بها على الجماعة الإسلامية الأحمدية، وبعد عام واحد فقط، أي في عام 2008، سوف تحتفل الجماعة بمرور قرن من الزمان على إعادة تأسيس الخلافة على منهاج النبوة، بعد أن رفعها الله تعالى بعد مقتل الخليفة الثالث والرابع (عثمان وعليّ رضي الله عنهما) بأيدي المسلمين، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟؟؟؟ ))
قلت : ما أتعس عُبّاد يلاش الموهومين بنصاب يقبع فى لندن يدعونه " أمير المؤمنين " يركب الرولز رويس ويجمع ملايين الجنيهات الإسترلينية ، ويتبعه بعض المصابين بالفصام فى الشخصية والمعقدين نفسيا والآيسين من رحمة الله ، فبالله قولوا أى خلافة على منهاج النبوة تلك ؟ وأين أمير المؤمنين المزعوم هذا من مآسى المسلمين فى العراق وفلسطين المحتلة والصومال والشيشان وكشمير وكوسوفا وأفغانستان ؟
الحق أقول : إنه أمير المغفلين المجانين .
يقول القاديانى : ((هناك الكثير والكثير من ثمار هذه الجماعة.. ولكن ماذا عن ثماركم أنتم يا من تدعون انتمائكم لأهل السنة والجماعة؟؟ ))
قلت : بئس تلك الثمار العطبة ، التى تصلح إنجازات فى عرف المساطيل من عُبّاد يلاش ، أما عن ثمار أهل السنة والجماعة ، فيكفيهم أنهم يتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيه ولا يكفرون بمحمداً r ، ولا يخترعون نبياً دجالاً أفّاكاً .
هذه هى الانجازات العقيمة التى يطن بها أتباع القاديانى الكذاب ، ونحسبها كرماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف ، فهلا احترم عُبّاد يلاش عقولهم ؟
هلا تابوا وآمنوا وعملوا صالحا ورجعوا إلى الإسلام ؟
استغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم ، ونتوب إليه ونسأله التوبة والمغفرة والنجاة من النار ، تُبنا إلى الله ورجعنا إلى الله وندمنا على ما فعلنا وعزمنا على أننا لا نعود إلى المعاصى أبداً وبرئنا من كل دين يُخالف دين الإسلام
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله
=============(38/17)
(38/18)
القاديانيون وفؤاد العطار
ملحوظة : أرسل لى أحد الأصدقاء يُنبهنى إلى أن صديقى الأثير الباحث المرموق فؤاد العطار ، وصف مقالى عنه بأن به مبالغة شديدة زائدة عن الحد حيث أطريته بطريقة مبالغ فيها . ( هذا على حد وصف صديقى لكلام العطار ). وإن كان صديقى الأثير ابا بلال قد قال ذلك ، فإنى أقول له : عفواً .. بل أنت الذى تتواضع بشكل مبالغ فيه ، ولا أقبل يا أبا بلال منك هذا التواضع ، ولتقرأوا معى المقال لتروا إلى أى مدى يتواضع فؤاد العطار ويتهمنا بالمبالغة !
القاديانيون وفؤاد العطار
بقلم / محمود القاعود
دائماً ما يُسخر الله فى كل زمان من يكون حجة زمانه فى دحض الأكاذيب والأراجيف التى تطعن فى الإسلام ، ليظل الإسلام بفضل الله عز وجل شامخاً على مر الزمان لا يتأثر بلغو باطل ، أو طعن فارغ .
وفى زماننا الذى نحياه ابتلانا الله - ليُمحص قلوبنا - بمجادلة أتباع الغلام القاديانى الكذاب ( مسيلمة الهند ) ( 1839 - 1908م )، ذلك الذى ادعى النبوة كذبا وزورا وتضليللا وافتراءًاً واجتراءًا على الله عز وجل .
هذا القاديانى الكذاب ادعى الكثير من الأمور التى تدل على أنه مختل عقلياً وكاذب ومحتال ، واستطاع بمعاونة الإنجليز ( إبان الاحتلال الإنجليزى للهند ) أن يُكوّن أتباعاً له يُصفقون له إن رقص ويهرولون خلفه إن مشى ، ويجرون وراءه إن انتقل إلى مكان آخر .
وظلت عقائد القاديانيين يشوبها شئ من الغموض وعدم الفهم الصريح الصحيح لمعتقداتهم الغبية ، حتى أن كل من كان يتحدث عن القاديانيين ينقل من أحد الكتب المشهورة التى تناولت عقائد القاديانيين ، والجميع لا يعلمون الكثير عن تلك الفرقة الضالة التى ابتدعت نبى هندى !
وهنا كانت مشيئة رب العالمين ، أن يُساند أحد عباده المخلصين - ولا نزكيه على الله - الباحث المرموق الكريم " فؤاد العطار " ذلك الذى أرّق القاديانيين وطيّر النوم من عيونهم ، وجعلهم أمثولة بين الناس ، فراح يُظهر عوار معتقدهم وفساد إيمانهم ، ويُخرج لهم من وحى نبيهم المزعوم مالم يكونوا هم على علم به !
بات اسم " فؤاد العطار " يُشكل صداعاً مزمنا لا شفاء منه لأى قاديانى ، حتى وصل الأمر بالعلامة فؤاد العطار أن تحدى الخلافة القاديانية نفسها ممثلة فى زعيمها الذى ينعتونه ب " أمير المؤمنين " ولكن لا إجابة لتحدى العطار .
والغريب أن القاديانيين حينما يعجزون فى الرد على فؤاد العطار ينحرفون إلى كلام باطل ويسبون شخصه وينعتونه بالكذاب والمضلل !!
وليت شعرى هل هناك كذاب ومضلل يأتى لأتباع ديانة بما يقوله زعيمهم ويقولون بأنه كذاب ومضلل ؟؟
لقد كان لفؤاد العطار دور بارز فى فضح الوحى القاديانى المزعوم ، وجعل الكثير من الناس ينقلبون على ظهورهم من كثرة الضحك على هذا الوحى المزعوم ، لتتأملوا مثلاً هذا الوحى المزعوم الذى ورد فى كتاب الغلام القاديانى " تذكرة " و لم يجد القاديانيون له جواباً حتى الآن ، ولم يقدروا أن يفسروا معناه :
((كتاب تذكرة (ص 525 : موتا موتا لك رهي هين
- كتاب تذكرة (ص 325: غثم غثم له دفع إليه من ماله دفعة
- كتاب تذكرة (ص 411: يريدون أن يروا طمثك
- كتاب تذكرة (ص 523: الفارق و ما أدراك ما الفارق
- كتاب تذكرة (ص 727: يا مريم أسكن أنت و زوجك الجنة
- كتاب تذكرة (ص 615: بشير الدولة عالم كباب
- كتاب تذكرة (ص 787: ذهب السعال
- كتاب تذكرة (ص 776: كل العقل في لبس النظيف و أكل اللطيف
- كتاب تذكرة (ص 748: لا تقتلوا زينب
- كتاب تذكرة (ص 744: و الله و الله سدها هويا أولا
- كتاب تذكرة (ص 731: تعلقت بالأهداب
- كتاب تذكرة (ص 700: و يل لك و لإفكك
- كتاب تذكرة (ص 184)
قال الميرزا عن ابنه المصلح الموعود: مظهر الحق و العلاء كأن الله نزل من السماء
- كتاب تذكرة (ص 790: إن العذاب مربع و مدور
- كتاب تذكرة (ص 672: إن المنايا قد تطيش سهامها
- كتاب تذكرة (ص 671: علم الدرمان 223
- كتاب تذكرة (ص 666: انفجر بطن
قال الميرزا : لا أدري بحق من نزل الإلهام
- كتاب تذكرة (ص 604: لولاك لما خلقت الأفلاك
- كتاب تذكرة (ص 589: Cu r rency Note )
بالإنجليزية (يعني و رقة مالية)
- كتاب تذكرة (ص 581: يا قمر يا شمس أنت مني و أنا منك
- كتاب تذكرة (ص 549: مضر للصحة
و لم يقل الميرزا ما هو هذا الشيء المضر للصحة لكنه اكتفى بالقول أنه منذ يومين أو ثلاثة أيام جاءني هذا الإلهام.
- كتاب تذكرة (ص 546: أريد ما تريدون
- كتاب تذكرة (ص 542: أنت معي و أنا معك' إني بايعتك. بايعني ربي
- كتاب تذكرة (ص 525)
يقول الميرزا: أثناء مرضي بالسكري كنت أتبول مائة مرة في اليوم و بعد أن دعوت جاءني هذا الإلهام:
و الموت إذا عسعس
- كتاب تذكرة (ص 348) قيصرة هند كي طرف سي شكرية
بالأوردو يعني (قيصرة الهند تهديك السلام) . و المراد بقيصرة الهند إمبراطورة بريطانيا الملكة فكتوريا - رئيسة الكنيسة الأنجليكانية.
- كتاب تذكرة (ص 346) : نزلت أسرة كثيرة من السماء و لكن سريرك رفع فوق كل سرير
- كتاب تذكرة (ص 120) هوشعنا نعسا
يقول الميرزا : لا أدري بأية لغة نزل هذا الإلهام!!(38/19)
- كتاب تذكرة (ص 119: بريشن عمر براطوس يا بلاطوس
يقول الميرزا : لا أدري هو بلاطوس صحيح أم براطوس لأن الإلهام نزل علي بسرعة
- كتاب تذكرة (ص 636): يقول الميرزا بأن الله خاطبه بالوحي قائلاً: أنت مني بمنزلة ولدي ))
ماذا بعد هذا الوحى المضحك المزعوم ؟؟
ولا نستغرب إن وجدنا قاديانى يقول أن تلك المواضيع قد رُد عليها ! تماماً مثلما يفعل النصارى فى الوحى الذى ينسب الزنى للوط والقتل لداود والقوادة لإبراهيم وغيرها من التشنيعات غير المقبولة على الإطلاق .
ولم يقف دور فؤاد العطار عند تعرية الديانة القاديانية المفتراة ، بل أخذ يحاور أتباع مسيلمة الهند ، ويُشارك فى منتدياتهم ، فما كان منهم إلا أن أغلقوا المنتديات حتى يمنعوا أتباعهم من التأثر بفكره الراجح وحججه الباهرة المعجزة .
وآخرون آثروا أن يتركوا بعض منتدياتهم ، ولكن بعد عمل " مونتاج " لأقوال العطار حتى يبدو وكأنه ضعيف الحجة ولا حول له ولا قوة !
الحق أقول : إن فؤاد العطار يستحق منا - أفراد الأمة الإسلامية - كل التحية والتقدير لما يقوم به - رغم أن القاديانية ليست شغله الشاغل ويصفها دائماً بالديانة المنقرضة - من دحض لمزاعم القاديانية وخرافاتها وافترائها على الله عز وجل .
دائماً ما يحضرنى حديث شريف كلما تذكرت العزيز فؤاد العطار :
(( عن أبي مالك الأشعري أنه قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاته أقبل علينا بوجهه. فقال: "ياأيها الناس اسمعوا واعقلوا. إن لله عزوجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء, يغبطهم الأنبياء والشهداء على منازلهم وقربهم من الله". فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس, وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال: يا رسول الله, ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء, يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم. انعتهم لنا, حلهم لنا-يعني صفهم لنا, شكلهم لنا-فسر وجه رسول ا صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي, فقال: "هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل, لم تصل بينهم أرحام متقاربة, تحابوا في الله وتصافوا. يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها, فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا, يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون, وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ( رواه كله الإمام أحمد والطبراني بنحوه وزاد "على منابر من نور من لؤلؤ قدام الرحمان" ورجاله وثقوا )
وإننا لنحسب فؤاد العطار - ولا نزكيه على الله - من هؤلاء العباد الذين يتحابون فى الله ، وسيجزيهم الله أجراً عظيما بإذنه ومشيئته .
أخى فؤاد : نشد على يديك ، ولتستمر فى كفاحك ومواجهتك للمنحرفين ، وليحميك الله رب العالمين .
===============(38/20)
(38/21)
إضحك مع بني قاديان - أمير الحشاشين المحترم
في كتابه حمامة البشرى نقل الميرزا غلام أحمد القادياني رسالة قال أنه تلقاها من أحد أنصاره في مكة اسمه "محمد بن أحمد"، و قد قال مرسل الرسالة بأنه نقل دعوى القادياني إلى رجل غنيّ اسمه "علي طايع"، و أن علي طايع هذا فرح بدعوى الغلام.
يقول مرسل الرسالة ((مررت يوماً على واحد من أصحابنا اسمه "علي طايع"، فجلست عنده فسألني عن الهند و عن السفر و أحواله، فأخبرته بالذي حصل و أخبرته عن دعواكم و فهمته على أحسن ما يكون ففرح بذلك)) - كتاب حمامة البشرى تأليف الميرزا القادياني ص 173
ترى من هو "علي طايع" هذا و لماذا فرح بدعوى الغلام يا ترى؟ لنقرأ بقية الرسالة فإذا عرف السبب بطل العجب.
يتابع مرسل الرسالة قائلاً ((و هذا الرجل المذكور الذي اسمه علي طايع ساكن في شعب عامر، و هو رجل طيب من الأغنياء و صاحب بيوت و أملاك و تاجر عظيم، و أنتم أرسلوا الكتب باسمه و بهذا العنوان يصل إن شاء الله: إلى مكة المشرفة و يسلم بيد علي طايع تاجر الحشيش)) - - كتاب حمامة البشرى تأليف الميرزا القادياني ص 174
ترى ماذا كان رد الميرزا غلام على تلك الرسالة؟ لقد كتب الميرزا رداً على تلك الرسالة و في ذلك الرد امتدح تاجر الحشيش مدحاً عظيما، و من ضمن ما قاله في حق ذلك الحشاش ما يلي:
((و أما ما ذكرت طرفاً من حسن أخلاق السيد الجليل الكريم "علي طايع" و سيرته الحميدة و آثاره الجميلة، و مودته و حسن توجهه عند سماع حالاتي و من أنه سرّ بذلك فأنا أشكرك و أشكر ذلك الشريف السعيد، و أسأل الله لك و له خيراً و بركة و فضلاً و رحمة إلى يوم الدين. و قد ألقي في قلبي أنه رجل طيب صالح، و عسى أن ينفعنا و يكمل الله لنا بعض شأننا بتوجهه و حسن إرادته و على يده. و الله يدبر أمور دينه كيف يشاء و يجعل من يشاء و سيلة لتكميل مهمات الإسلام و يجعل من يشاء لدينه من الخادمين. و فطنت بفراستي أن ذلك السعيد الذي ذكرت محامده في مكتوبك رجل شجاع في سبيل الله لا يخاف لومة لائم عند إظهار الحق و إشاعته و تأييده و تشييده و قد جمع الله فيه سيراً محمودة و أخلاق فاضلة مع الفتوة و الشجاعة و انشراح الصدر و جود النفس و الورع و التقوى و منّ عليه بتوفيق الإخلاص و الإجتهاد في سبيل الله كما منّ عليه بإعطاء الثروة و الغناء و جعله في الدنيا و الآخرة من المنعمين)) - - كتاب حمامة البشرى تأليف الميرزا القادياني ص 175 و ص176.
==============(38/22)
(38/23)
يا عبيد يلاش إيمانكم فيه شك
يقول الميرزا غلام أحمد القادياني : ((أي شخص لم يقرأ جميع كتبي ثلاث مرات على الأقل فإن في إيمانه شك)) - سيرة المهدي، الجزء الثاني، رواية رقم 407 ص 78.
علماً أن الميرزا القادياني كتب 82 كتاباً معظمها بلغة الأوردو و بعضها بالعربية أو الفارسية، و قد جمعها القاديانيون في مجموعة "الخزائن الروحانية". و مع أنه قد مضى على هلاك الميرزا ما يقارب المائة عام إلا أن القاديانيين لم يترجموا معظم كتابات مجددهم الموعود إلى أية لغة أخرى. و من السهل ملاحظة جهل القاديانيين بكتابات زعيمهم الملهم في أي حوار يدور معهم.
و جهل القاديانيين بكتابات الميرزا لا ينحصر فقط بالكتابات التي لم تترجم إلى لغات أخرى بل إن معظم القاديانيين يجهلون كتابات الميرزا المتوفرة بلغاتهم الأم، و ذلك يرجع في الغالب إلى أسلوب الميرزا الممل في حشو الألفاظ العجيبة و عدم ترابط عباراته - ما عدا تلك التي يسرقها من كتابات غيره - و تكرار الفكرة الواحدة في كل صفحة من صفحات الكتاب أحياناً أو غياب الأفكار عن معظم فصول الكتاب في أحيان أخرى.
و لو طبقنا كلام الميرزا المذكور أعلاه بخصوص قراءة كتبه ثلاث مرات على الأقل لوجدنا أن معظم القاديانيين - إن لم يكن كلهم - ينطبق عليهم اتهام الميرزا لهم بأن في إيمانهم شك.
و الأمثلة على جهل القاديانيين بكتابات زعيمهم الملهم و وحيه المدعى كثيرة جداً، و سأضرب هنا مثالاً قريباً و هو كلام زميلنا الغالي "غالي" الذي قال في إحدى مشاركاته ما يلي:
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
بعض أقوال صلحاء الأمة والسلف في تفسيرهم لخاتم النبيين مع المصادر:
•
• عبد الكريم الجيلي
•
فها هو غالي يعتبر "عبد الكريم الجيلي" واحداً من علماء الأمة و صلحائها، و الزميل غالي ينقل طبعاً الكلام المذكور في موقع جماعته الرسمي. و الآن لنرى ما كتبه الميرزا القادياني في أحد كتبه العربية عن "عبد الكريم الجيلي":
إذاً فالميرزا القادياني اعتبر الجيلي مشركاً و مؤيداً لعقيدة التثليث. لذلك نقول للزميل غالي و للقائمين على موقع جماعته: يا عبيد يلاش، لا تلوموا المسلمين عندما يشككوا في إيمانكم، فزعيمكم الملهم نفسه يتهم إيمانكم أجمعين بأن فيه شك.
و مع أن كلام الميرزا و ثقته في كتبه العقيمة يثير الضحك إلا أن كلامه هنا فيه جانب من الصحة، فالقادياني الذي لا يقرأ كتابات الميرزا سيبقى إيمانه بالميرزا في شك، لكنه عندما يقرأها فإن إيمانه بالميرزا سينعدم تماماً.
بسم الله الرحمن الرحيم
**يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الأخرة عذاب عظيم**[سورة المائدة]
__________________
**قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى** {طه : 135}
هذا المنتدي للبحث الجاد والفكر الناضج ولامكان فيه للمهرجين والمتعنتين ـ باطلا ـ كما أنه لايشمل حيزا لزبالات الأفكار إلا بقدرما يوضح عورها ليس غير فأهلا بكل صادق ليعرف الحق ويستجلي الحقيقة إن شاء الله وله الإخوة بإذن الله حاضرين جاهزين هنا وهنا فقط.
رد باقتباس
محمد أحمد محمود
الأمثلة على جهل عبيد يلاش بدينهم كثيرة جداً، و سأضرب هنا مثالاً آخر هو جهل معظم القاديانيين لادعاء الميرزا أن يلاش هو اسم الإله. و قد اتهمني كثير من القاديانيين - عربهم و عجمهم - بأنني افتريت على غلامهم الملهم عندما كتبت هذه المعلومة عن يلاش قبل سنوات. و مع أنني قمت بإرسال الوثائق إلى القادياني هاني طاهر منذ فترة طويلة إلا أن هذا الأخير اختار التمويه و الإتهام بالإفتراء عند إجابته على سؤال حول "يلاش" في الموقع الرسمي للطائفة القاديانية.
هذا الكلام صدر عن هاني طاهر مع أنه قرأ مسبقاً الوحي القادياني التالي الذي ادعى الميرزا اسقباله من إلهه (( يلاش هو اسم الإله و كلمة إلهامية جديدة ما وجدت على شاكلتها في القرآن و لا في الحديث و لا في كتاب من المعاجم و قد كشف لي عن معناها أي "يا لا شريك". و الغرض من إلهام هذا الإسم هو أنه ما خص إنسان بخصلة حميدة أو سمة أو فعل دون أن يختص غيره بهذه الخصلة أو هذه السمة أو هذا الفعل. و هذا هو السر أن صفات كل نبي و معجزاته تنعكس في أخيار أمته الذين تطبعوا بطابعه لكي لا ينخدع جهلاء الأمة بخصوصيته و يتخذوه "لا شريك". و هذا كفر عظيم أن يسمى نبي باسم "يلاش" و لا معجزة أو كرامة خارقة لنبي إلا يشاركه فيها آلاف من الناس)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص 455(38/24)
عزيزي غالي، الميرزا ادعى بأن يلاش هو وحي جديد لاسم من الأسماء الحسنى و هو اسم غير موجود في القرآن و لا في الحديث و لا في كتب المعاجم على حد قول الميرزا نفسه. علماً أن الأسماء الحسنى هي من أصول العقائد الإسلامية، فكيف ارتضى القاديانيون هذه العقيدة مع أنها غير موجودة لا في القرآن و لا في السنة. أليس هذا بشرع جديد أم أن كل القواعد تهون لأجل عيون الميرزا؟
و ادعى الميرزا أنه لا توجد معجزة أو كرامة خارقة لنبي إلا و يشاركه فيها آلاف من الناس! فما هي الحكمة يا ترى من إعطاء معجزات الأنبياء لمن هم ليسوا بأنبياء؟ علماً أن معجزة رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم هي القرآن فهل أعطيت هذه المعجزة لأحد غيره؟ أفتونا بعلم إن كنتم صادقين. و الميرزا ادعى بأن إلهه أيده بمليون معجزة فأرجو أن تعدد لي هذه المعجزات المليون! و إن كنت كقادياني تجهل هذه المعجزات فمن الذي يعرفها يا ترى؟ كما و أرجو منك أن تعدد لي أسماء آلاف القاديانيين الذين ظهرت على أيديهم نفس معجزات الميرزا المليون.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
================(38/25)
(38/26)
القاديانية و قتل المتقوّل على الله سبحانه
يصرّ القاديانيون على أن أيّ متقوّل على الله سبحانه فإن مصيره القتل حتماً، و يقول القاديانيون بأن الآيات الكريمة التي وردت في سورة الحاقة تشمل كل من يدعي استقبال الوحي من الله سبحانه.
((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) - سورة الحاقة 44 إلى 46
قلت: و هل قتلت سجاح شر قتلة أو قطع الله وتينها عندما قالت بأن شعرها هو وحي من رب العالمين ؟!! واضح من الآيات الكريمة بأن الكلام هو عن رسول حقيقي من الله بدليل أن المشار إليه هنا هو محمد صلى الله عليه و سلم و بأن القتل فوري و يكون بقطع الوتين.
أما الكذابون المفترون فقد يمهل الله بعضهم في الدنيا و يمدّهم بالمال و البنين استدراجاً لهم، فهذه هي سنة الله تعالى في خلقه. فقد يعيش المفتري شهراً أو سنة أو مائة سنة؛ ألم يستمر ابن طريف بادعائه النبوة 47 سنة؟ و قد يُقتل بعض المفترين عن طريق المؤمنين أو عن طريق غيرهم بطرق شتى من غير قطع الوتين. أما النبي الحقيقي إن افترى فستكون آية مقتله أن يقطع الله وتينه فوراً دون أن يستطيع أحد منع ذلك. و بهذا لا يصلُ للناسَ عن طريق ذلك النبي إلا ما رضيه الله سبحانه من كلام عنه. و حاشا لنبي أن يفتري إنما هذا طمأنة للسامعين بأن كلام الأنبياء عن الله سبحانه لا يدخل فيه أي زيادة من عندهم.
و يلزم من قال بأن الله تعالى قد يقتل النبي الحقيقي المفتري عليه بيد الناس بعد أشهر أو سنوات - يلزمه اتهام الأنبياء الذين قتلهم بنو إسرائيل بأنهم مفترون و العياذ بالله. و يلزمه تأييد بني إسرائيل في محاولتهم قتل الأنبياء؛ فالنبي الصادق - على حد زعم القاديانيين - هو فقط من لا يمكن للناس قتله بأية طريقة!!
* سنّة الله سبحانه في المفترين عليه كذباً
أما بالنسبة للمفترين على الله الكذب فقد أخبرنا الله سبحانه بأنه سيمتع المفترين خلال الحياة الدنيا و بأنه سيعذبهم عندما يرجعون إليه يوم القيامة. قال تعالى ((قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ)) - سورة يونس 69-70.
و المفترون على الله الكذب يتساوون مع من كذب بآيات الله في كونهم لا يفلحون و لا فرق بينهم في ذلك. قال تعالى ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)) - سورة يونس 17.
إذاً فإن عدم فلاح النبي الكاذب هو من جنس عدم فلاح المكذبين الكافرين بمختلف مللهم و طرقهم. فلا فرق بين عدم فلاح البهائية و عدم فلاح القاديانية و عدم فلاح المجوسية و عدم فلاح الشيوعية و غيرها من سبل المجرمين.
* عناد القاديانيين
لكن القاديانيين يصرّون على تفسيرهم للآية متجاهلين حقيقة أن كثيراً ممن افتروا على الله سبحانه و تقوّلوا عليه عاشوا حياة طويلة و ماتوا دون قتل. و قد بلغ بالقاديانيين عنادهم أن نفوا حقيقة أن بهاء الله - مؤسس البهائية - كان قد تقوّل على الله سبحانه، هذا مع أن "بهاء الله" ادعى استقبال وحي إلهي هو "الكتاب الأقدس" يمتليء بالإفتراء و التقوّل على الله سبحانه!
و هذه و ثيقة من "الكتاب الأقدس" الذي ادعى "بهاء الله" استقباله عن طريق الوحي من الله سبحانه.
((قل تالله إني لمحبوبه و الآن يسمع ما ينزل من سماء الوحي)) - الكتاب الأقدس ص 83.
و الأمثلة على تقوّل "بهاء الله" كثيرة جداً لكن لا عجب أن يعاند هؤلاء القاديانيون الواقع المحسوس ألم يصدقوا خليفتهم الرابع الهالك عندما ادعى بأن عددهم في العالم بلغ 200 مليون و بأن 81 مليون قادياني جديد بايعوه خلال سنة واحدة!
* الميرزا القادياني نفسه يضرب مثالاً على متقوّل لم يُقتل
لكنني أقول للقاديانيين المعاندين بأن زعيمهم الملهم نفسه كان قد ضرب مثالاً على من تقوّل على الله سبحانه، و خلال ضربه للمثال قال بأن ذاك المتقوّل مات بالمرض و لم يقتله أحد. ففي كتاب الإستفتاء "ضميمة حقيقة الوحي" يقول الميرزا غلام أحمد القادياني بأن الآية ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ)) تحققت في المدعو "دوئي" حيث ادعى دوئي هذا النبوة و الرسالة. لكن الميرزا قال بأن دوئي مات بالمرض دون أن يقتله الناس. و استناداً إلى كلام الميرزا فإن تفسيرات القاديانيين ما هي إلا أوهام و أعمدة في الهواء.
هذه وثيقة من كلام الميرزا يصرّح فيها بأن دوئي ادعى النبوة و الرسالة.
يقول الميرزا : ((ان رجلاً مسمى بدوئي كان في أمريكا من النصارى المتمولين و القسيسين المتكبرين)) ((و كان يدعي الرسالة و النبوة)) - كتاب ضميمة حقيقة الوحي ص 685.
و هذه وثيقة أخرى من كلام الميرزا يقول فيها الميرزا بأن دوئي مفتر على الله سبحانه و بأنه يستحق مصير المتقولين على الله كذباً.(38/27)
يقول الميرزا مشيراً إلى المدعو دوئي : ((و ادعى الرسالة و النبوة من إغواء الشيطان و ما تحامى من الإفتراء و الكذب و البهتان و ظنّ أنه أمر لا يسأل عنه و يزجى حياته في التنعيم و الرفاهة و يزيد في العظمة و النباهة، بل سلك معه طريق الكبر و النخوة، و ما خاف عذاب حضرة العزةـ و لا شك أن المفتري يؤخذ في مآل أمره، و يمنع من الصعود و تفترسه غيرة الله و يرى يوم الهلاك و الدمار الموعود في كتاب الله العزيز الودود ن الذين يفترون على الله و يتقولون لا يعيشون إلا قليلاً ثم يؤخذون)) - كتاب ضميمة حقيقة الوحي ص 687.
و هذه وثيقة من كلام الميرزا تبيّن بأن دوئي مات بمرض الفالج و لم يُقتل.
يقول الميرزا مشيراً إلى المدعو دوئي : ((ثمّ بعد كل خزي و ذلة فُلج من الرأس إلى القدم ليرحله الفالج من الحياة الخبيث إلى العدم، و كان ينقل من مكان إلى مكان فوق ركاب الناس، و كان إذا أراد التبرز يحتاج إلى الحقنة من أيدي الناس، ثم لحق به الجنون فغلب عليه الهذيان في الكلمات و الإضطراب في الحركات و السكنات و كان ذلك آخر المخزيات، ثم أدركه الموت بأنواع الحسرات)) - كتاب ضميمة حقيقة الوحي ص 700.
قلت: إن كان دوئي قد مات بالفالج فإن الميرزا القادياني مات بالكوليرا، فما الفرق أيها القاديانيون بين ميتة المتقول دوئي و المتقول القادياني؟ و إن كان دوئي قد احتاج إلى معونة الناس ليتبرّز في آخر حياته فإن الميرزا القادياني كان يتبرّز في غرفة موته قبل مماته و ذلك بشهادة زوجته و ابنه.
* قادياني جديد يتقوّل على الله سبحانه
و الأمثلة على المتقوّلين الذين لم يقتلوا كثيرة، بل إن أحد القاديانيين الحاليين ادعى استقبال الوحي الإلهي لكن معظم القاديانيين لا يصدقونه، و قد أسس ذلك القادياني المدعو "منير أحمد عظيم" جماعة جديدة سماها "جماعة الأحمدية المسلمين" سنة 2002م.
و هذه صورة للمدعو "منير أحمد عظيم" الذي تقوّل على الله سبحانه و ادعى استقبال الوحي و لم يقتل حتى الآن و له بعض الأتباع من القاديانيين أنفسهم، فلماذا لا يتبعه القاديانيون الباقون يا ترى؟
و هذا صورة الموقع الرسمي للجماعة المسماة "الأحمدية المسلمين"، و في الصورة تصرّح الجماعة بأن مؤسسها "منير أحمد عظيم" يستقبل الوحي الإلهي:
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أخي الفاضل أحمد المنصور أشكرك على المتابعة و أرجو أن يكون العضو غالي و إخوته القاديانيين متابعين أيضاً فأنا هنا لمناقشتهم و ليس لتسويد صفحات هذا المنتدى بالوثائق القاديانية. و لولا أن هؤلاء منعوني من المشاركة في منتدياتهم لما أزعجتكم بنقل ترهات الميرزا القادياني إلى هنا.
يتمسك هؤلاء القاديانيون بمقولة أن مدعي النبوة كذباً لا يمكن أن يموت إلا مقتولاً و ذلك لإثبات نبوة الميرزا القادياني، و هم بهذا يعاندون الواقع المحسوس و يتجاهلون كلام نبيهم المزعوم نفسه الذي أعطى مثالاً على مدّع للنبوة مات بدون أن يقتله الناس. أنظر على سبيل المثال ما كتبه كلّ من القادياني "هاني طاهر" و القادياني "تميم أبو دقة" عند إجابتهما على سؤال حول قصة مقتل النبيّ يحيى (ع) في الموقع العربي الرسمي للطائفة القاديانية.
حيث يقول هاني طاهر ((الذي نعتقده جازمين هو أن من تقول على الله الكذب لا بدّ أن يُقتل قتلا)) و يقول تميم أبو دقة ((لأن الله سيقتله حتما بيد غيرهم إن كان كاذبا)). و كما تلاحظ فإن كلاً من هاني و تميم الذين يتصديان للفتوى القاديانية يجهلان أو يتجاهلان ما كتبه إمامهم المزعوم الميرزا القادياني نفسه، حيث كتب الميرزا بأن المدعو دوئي ادعى النبوة ثمّ مات بالمرض دون أن يقتله الناس.
و الأطرف من ذلك هو حديث هاني و تميم عن قصة مقتل النبي يحيى (ع) حيث أكدا في إجابتهما العبقرية بأن الآيات القرآنية تخبرنا أن يحيى (ع) مات ميتة عادية و بأنه لم يمت مقتولاً. فقد جهل هؤلاء المسكينان أن نبيهما المزعوم الميرزا القادياني كان قد كتب أن يحيى (ع) مات مقتولاً بقطع الرأس. يقول الميرزا غلام أحمد القادياني ((يجب أن تتذكروا بأن الخليفة الثاني عشر في الإسلام - و الذي يظهر في بداية القرن الثالث عشر الهجري - يمكن مقارنته بنبي الله يحيى الذي تمّ قطع رأسه من أجل أناس فاسدين)) - الخزائن الروحانية، الجزء 17، كتاب تحفة غولروية ص 193. أنظر الوثيقة في الأسفل.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير المرسلين سيدنا محمد
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
وبعد،
القرآن الكريم يحكم بالقتل على المتقول على الله؛ أي الذي يدعي أنه يتلقى وحيا حرفيا من الله تعالى، بينما من يدعي أو يظن أنه يتلقى الوحي من خلال خواطر تمر بقلبه (وهي حالة البهاء وغيره) أو الذي يدعي بأنه محمول بالروح القدس فهو لا يدخل تحت هذه الفئة.
دوئي ادعى الرسالة والنبوة للمسيح وليس لله ومن قبله كان بولس... ولم يدع دوئي الوحي الحرفي أيضا، لأن الوحي الحرفي غير معروف عند المسيحية وإنما يؤمنون هم بحمل الروح القدوس وسياقته، ولذلك لا تنطبق عليه الشروط...(38/28)
http://www.islamahmadiyya.net/show_p...&a r ticle_id=76
المتنبئون الكاذبون إذا لم يدعوا بتلقيهم وحيا حرفيا وكل المكذبين للأنبياء الصادقين وكل المفترين على الله الكذب هم في خانة واحدة، وهم محكوم عليهم أيضا بعدم الفلاح وقد يقتلون وقد لا يقتلون، ولكنهم سيفشلون حتما وسيهلكون هلاكا مريعا وستفشل الغاية التي أعلنوها من دعوتهم. فقد جاء البهاء مثلا ليعلن أن الإسلام قد انقضى وقته، فهل تحققت غايته أم فشل؟؟؟
أما بالنسبة لمسألة ما ذكره المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حول يحيى عليه السلام بأنه قد قتل فهو ليس وحيا وإنما كان وفقا للشائع في ذلك الوقت وقبل بعثته عليه السلام... فقد كان حضرته أيضاً يقول بحياة عيسى في السماء إلى أن أوحى له الله تعالى ببطلان هذه العقيدة. إن وجود بعض النقاط التي يتبين بطلانها لاحقا هو أمر يجب أن يلام عليه الفكر التقليدي وليس من يصححه أو يعيد النظر فيه هو الملام...
إن أبا بلال يستغل جهلكم بسيرة المسيح الموعود عليه السلام قبل وبعد البعثة.. فقد كان المسيح الموعود يؤمن بكل ما قاله السلف قبل بعثته مهدياً من الله تعالى... ولو لم يكن المسيح الموعود صادقاً فيما جاء به لما بارك الله فيه وفي جماعته من بعده... فإنه لا يفلح الكاذبون.. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) الأنعام
فإذا كنت جاهلاً يا أبا بلال بسيرة المهدي قبل وبعد البعثة فتلك مصيبة.. أما إذا لم تكن جاهلاً فالمصيبة أكبر
وأخيراً أطلب من أبا بلال أن يخبرنا عن المذهب الذي يتبعه... وفيما إذا كان قد قرأ كل الكتب التي تتحدث عن المذهب الذي يؤمن به...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عنزة و لو طارت!
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
من يدعي أو يظن أنه يتلقى الوحي من خلال خواطر تمر بقلبه (وهي حالة البهاء وغيره) أو الذي يدعي بأنه محمول بالروح القدس فهو لا يدخل تحت هذه الفئة
أية خواطر يا عزيزي؟؟ البهاء ادعى استقبال كتاب مقدّس و أمر أتباعه أن يتبعوه حرفياً. بل إن وحيه أمر الناس بعدم تأويل الكتاب الأقدس و أن يعملوا بظاهره. و ليت شعري إن كانت كلمات مثل ((قل تالله إني لمحبوبه و الآن يسمع ما ينزل من سماء الوحي)) لا تصرح بادعاء بهاء الله تلقيه للوحي الرباني فكيف يكون التقوّل على الله سبحانه إذاً. إن عناد القاديانيين المضحك ينطبق عليه المثل في بلاد الشام و الذي يقول "عنزة و لو طارت". فلا يمكن للقاديانيين أن يقروا بأنها حمامة حتى لو طارت.
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
دوئي ادعى الرسالة والنبوة للمسيح وليس الله ومن قبله كان بولس... ولم يدع دوئي الوحي الحرفي أيضا، لأن الوحي الحرفي غير معروف عند المسيحية وإنما يؤمنون هم بحمل الروح القدوس وسياقته، ولذلك لا تنطبق عليه الشروط
يبدوا أنك تفهم أكثر من نبيك المزعوم!! فنبيك المزعوم قال بأن ادعاء دوئي للنبوة و الرسالة هو افتراء على الله سبحانه و لم يقل بأنه افتراء على المسيح (ع) . كما و ادعى بأن دوئي متقول و بأنه يستحق مصير المتقولين المذكور في كتاب الله العزيز.
راجع الوثيقة أعلاه حيث يقول الميرزا مشيراً إلى المدعو دوئي : ((لا شك أن المفتري يؤخذ في مآل أمره، و يمنع من الصعود و تفترسه غيرة الله و يرى يوم الهلاك و الدمار الموعود في كتاب الله العزيز الودود إن الذين يفترون على الله و يتقولون لا يعيشون إلا قليلاً ثم يؤخذون)) - كتاب ضميمة حقيقة الوحي ص 687.
و في نفس الوثيقة قال الميرزا مخاطباً دوئي : ((إنك تفتري على الله في دعوى النبوة)) - كتاب ضميمة حقيقة الوحي ص 688.
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
أما بالنسبة لمسألة ما ذكره المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حول يحيى عليه السلام بأنه قد قتل فهو ليس وحيا وإنما كان وفقا للشائع في ذلك الوقت وقبل بعثته عليه السلام
في عام 1901م ادعى الميرزا بأنه كان نبياً منذ العام 1879م و بهذا فإن كل الإقتباسات أعلاه هي بعد نبوته المزعومة. على أي حال أرجو منك أن تبيّن المكان الذي صحح فيه الميرزا معلومة موت يحيى (ع) دون قتل.
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
أطلب من أبا بلال أن يخبرنا عن المذهب الذي يتبعه... وفيما إذا كان قد قرأ كل الكتب التي تتحدث عن المذهب الذي يؤمن به
عن أي مذهب تتحدث يا غالي؟ هل تريد أن توهم الأخوة هنا بأنني أرتضي مذهباً غير الإسلام و بأنني لا أتبع أهل السنة و الجماعة؟ دعك يا عزيزي من شخصي فهذا لن يقدم و لن يؤخر في حقيقة فساد ملتك القاديانية، ما أنا إلا مسلم بسيط اطلع على فساد نحلتكم فهلا أجبت عن أسئلتي بدلاً من الطعن في نواياي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير المرسلين سيدنا محمد
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
وبعد،
عزيزي فؤاد(38/29)
أعجبني استشهادك بالمثل (عنزة ولو طارت)... إلا أن ما جاء به المسيح الموعود عليه السلام ينافي هذه المقولة جملة وتفصيلاً.. وإذا أردت الدقة فإنها تنطبق على أصحاب الفكر التقليدي الذين يؤمنون بهبوط الكبش من السماء وبصعود البشر إليها...إذاً فمن الأولى أن نقول (كبش ولو طار)....
وعلى العموم نعود للموضوع المطروح...
يقول تعالى:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) الحاقة
إن المقصود بهذه الآية الكريمة هو الوحي الحرفي... أي الوحي المنقول على لسان الله تعالى.. فهو ما ينقله المتنبئ بقوله: قال الله كذا وكذا... وهو يعني لو أنه نقل كلاماً عن الله لم يخبره به...
وبالنسبة لدعوة بهاء الله فيبدو أنك لا تفهمها جيداً.. فقد قام بهاء الله بإلغاء الشريعة القرآنية تماماً كما فعل بولس بإلغائه لشريعة التوراة... وبهذا فقد أعلن البهاء نفسه محرراً للبشرية من ربقة القرآن... إلا أن بهاء الله لم يقلد المنهج البولسي تقليداً كاملاً.. فبولس لم يدع لنفسه الألوهية بل نسبها إلى المسيح عيسى عليه السلام وأعتبر بأن الوحي الذي يتلقاه هو من الإله المسيح ابن مريم... إلا أن بهاء الله قد ادعى أن الله قد تجسد فيه فأصبح مظهر الله... البهاء ادعى أنه مظهر إلهي وأن كلامه هو كلام الله، ومفهومه للنبوة هو ظهور الله في شخص ما... فبالنسبة له يصبح كلام هذا الشخص هو كلام الله بحد ذاته، وهذا هو وحي السماء بالنسبة له...
فإذا قام المتنبئ بكتابة كتاب يدعي فيه بأنه الله قد حل فيه أو أيده الله فيه أو أنه كتبه مسوقاً بالروح القدس فهذا لا يسمى بالتقول بل هو التوهم والافتراء...
ولقد سبق لي قبل سنوات أن قرأت كتاب البهائية المقدس ولا أذكر أنني قرأت فيه جملة يقول فيها البهاء ( قال الله كذا وكذا)... وعليه فأرجو منك أن تستشهد لي بجملة من الكتاب الأقدس يقول فيها البهاء بأن الله قال لي كذا وكذا.. وكما قلنا سابقاً فإن فكرة البهاء هي فكرة معدلة عن الفكرة البولسية التي جعلت من المسيح عليه السلام إلهاً متجسداً.. ففي مسيحية بولس الروح القدس قد حل على التلاميذ وعلى بولس وأن كل ما كتبوه كانوا مسوقين فيه بالروح القدس.. وكوني قد قرأت العهد الجديد كاملاً فإني أطلب منك أن تأتيني بجملة واحدة من العهد الجديد تفيد بأنها تنقل كلاماً عن الله تعالى للمسيح أو لبولس أو لغيره من الكتبة...
وبالنسبة لدوئي فهو كغيره من المسيحيين يؤمن أن الله هو المسيح وأن المسيح هو الذي أرسله باعتباره - المسيح - الله... وحين يقول حضرة المسيح الموعود عليه السلام بأن دوئي يفتري على الله الكذب فالقصد هو أنه يفتري على الله بإيمانه أن الله هو المسيح ابن مريم عليه السلام ومن ثم فإن دوئي يعتبر نفسه رسولاً للمسيح عليه السلام...
إنه لمن غير المناسب يا أبا بلال أن تقوم بإلباس الأمر على الأخوة القراء معتبراً أننا نجهل ما قاله المسيح الموعود عليه السلام في كتبه...
وبالنسبة لمسألة يحيى عليه السلام فقد جاء ذكرها عرضا في الحديث عن المصلحين والمجددين.. ولم يكتب عليه السلام كتاباً أو جزء من كتاب ليشرح فيه حقيقة ما حدث مع يحيى عليه السلام وفيما إذا كان قد مات مقتولاً...
وهنا لا بد لنا من التأكيد على أننا في الجماعة الإسلامية الأحمدية لا نعتبر كتب المسيح الموعود قرآناً كما يحلو للبعض أن يتهمنا... بل هي كتب عظيمة تحتوي الكثير من المعارف وتصحح العقائد وتعالج الأغراض التي كتبت من أجلها بشكل شامل وكامل. أما ما يذكر فيها عرضا مما يتوافق مع الفكر التقليدي الذي قد يتضح لاحقا عدم دقته فهذا لا يلام عليه حضرته بل الأولى أن يلام الفكر التقليدي عليه. ونحن عندما نبحث في قضايا من هذا النوع ندرك أننا نسير على مسيرة التجديد التي اختطها حضرته بنفسه. وسواءً قتل يحيى عليه السلام أم لم يقتل فهذا لا علاقة له بهذه المسألة.. فالنبي الصادق يمكن أن يقتل وهذا لا يشكل دليلاً على كذبه...
وأخيراً لا بد لي من توضيح نقطة كنت قد طرحتها في إدراجي السابق وهي سؤالي للأخ فؤاد العطار عن مذهبه وهل قرأ كل ما كتب عن هذا المذهب الذي يتبعه... فالأخ فؤاد أجاب عن السؤال الأول إلا أنه تجاهل الرد على السؤال الثاني..
اقتباس:
عن أي مذهب تتحدث يا غالي؟ هل تريد أن توهم الأخوة هنا بأنني أرتضي مذهباً غير الإسلام و بأنني لا أتبع أهل السنة و الجماعة؟ دعك يا عزيزي من شخصي فهذا لن يقدم و لن يؤخر في حقيقة فساد ملتك القاديانية، ما أنا إلا مسلم بسيط اطلع على فساد نحلتكم فهلا أجبت عن أسئلتي بدلاً من الطعن في نواياي؟
وأنا هنا لا أطعن في نوايا فؤاد.. فهناك القاضي الأعظم الذي يحاسب الناس بحسب النوايا... حيث لا يستيطع إنسان أن يتحاشى المثول أمامه...(38/30)
لقد وددت أن أسأل أبا بلال بما أنه يتهم أتباع الجماعة الإسلامية الأحمدية بأنهم لا يقرأون الكتب التي جاء بها المسيح الموعود.. فهل قرأت أنت كل ما جاء في الكتب التي تحدثت عن أهل السنة والجماعة على اختلافهم وتعددهم.. والإجابة هي بالتأكيد لا... وإذا سألنا الأخ فؤاد.. أين هي مقومات الجماعة التي أنت من متبعيها؟؟؟ أنتم يا أخي فؤاد أهل إجماع ولستم أهل جماعة... والفرق كبير جداً فالكل يغني على ليلاه...
إن ما أراه يا أخ فؤاد هو أنك تتسلى بمعارضة الجماعة الإسلامية الأحمدية... فلا يوجد هناك منهج أو طريق واضح المعالم يؤدي بنا إلى نتيجة.. فما معنى أن تقول لي بأنك من أهل السنة والجماعة في حين أنه هناك مئات من الأمور التي يُختلف عليها فيما بين (أهل السنة والجماعة)!!!
بحثت في الشبكة فلم أجد لك إلا مقالات تهاجم فيها الجماعة الإسلامية الأحمدية.. ولو أنني وجدت لك مقالاً واحداً تدافع فيه عن أمة الإسلام أو عن الفكر الإسلامي لأهل السنة والجماعة أو عن أي أمر آخر غير الهجوم على الجماعة الأحمدية لما كونت عنك هذا الرأي...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
يا عزيزي أنت المقصود هنا بهذا المثل و ليس مسيحك المزعوم. فالميرزا أكد بشكل واضح و صريح بأن دوئي يستحق مصير المتقولين على الله سبحانه بينما لا زلت أنت تجادل بأن دوئي لم يكن متقولاً على الله تعالى.
عزيزي فؤاد
أعود وأكرر بأن دوئي يؤمن بأن الله هو المسيح ابن مريم... وبأن المسيح ابن مريم باعتباره الله فقد أرسل رسولاً هو دوئي... والمسيح الموعود اتهم دوئي بالافتراء على الله لإيمانه أن الله هو المسيح ابن مريم عليه السلام ومن ثم فإن دوئي يعتبر نفسه رسولاً للمسيح عليه السلام...
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
كيف لنا أن لا نؤمن بصعود البشر إلى السماء و نحن نراهم يصعدون إليها بمركباتهم الفضائية!؟ هنيئاً لك فكرك "الغير تقليدي" الذي ينفي الحقائق المشاهدة بالنظر.
من الجميل أنك تعلق فقط على ما يروق لك.. بل لديك المقدرة أيضاً على المراوغة فيما كتبته من معاني.. أنا بالتأكيد لم أقصد صعود البشر بالصواريخ للسماء في القرن العشرين... ففي القرن العشرين يمكن للعنزة أن تطير.. ولكن لا يمكن للكبش أن يهبط من السماء...
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
أظنك تقصد أن تقول "الوحي المنقول عن الله تعالى مباشرة" فالله سبحانه ليس كمثله شيء و لا يقتضي كلامه لساناً و شفتين كالبشر و لا يسهر و لا ينام و ذلك بخلاف ما أشار إليه الوحي القادياني، سبحان الله و تعالى عما يصفون.
ها أنت تعود للمراوغة وتقلب مقاصد الكلام:
يقول تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) الأنفال
وطبقاً لفهمك فإن معنى هذه الآية هي أن لله يد يرمي بها... وأن لله أذناً يسمع بها... مع أن المعنى واضح طبعاً... فأنا لم أقصد بأن لله لسان وأعتقد بأنك تفهم تماماً مقصدي من تلك الجملة فلا تستخدم هذه الأساليب الملتوية..
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
أما حصرك للتقوّل في الآية الكريمة بألفاظ معينة فهو حرفية عجيبة! فالتقوّل في لسان العرب هو الإختلاق أو الإفتراء أو الإبتداع كذباً و هذا ينطبق على أي كذب على الله سبحانه باي لفظ. و ليت شعري لو كان التقوّل هو فقط ما تقول لما أمنا أن يكون معظم الشرع افتراءاً - و العياذ بالله - لأن معظم ألفاظ الشرع لا تحتوي "قال الله كذا و كذا"!!
و هذا ما ادعاه نبيك المزعوم أيضاً. فقد ادعى الميرزا أن إلهه قد أوحى إليه ما يلي:
((أنت مني بمنزلة بروزي)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة ص 602. و قد مرت بنا الوثيقة على الرابط التالي:
كما و ادعى الميرزا بأن ابنه الموعود هو مظهر الله سبحانه.
((مظهر الحق و العلى كأن الله نزل من السماء)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص 783.
راجع القرآن لتجد أن كل سورة فيه تبدأ (بسم الله الرحمن الرحيم) وبالنسبة للبهاء فقد قلنا لك بأنه يدعي بأنه هو الله متجسداً وأن الكتاب الأقدس ليس موحى به من الله بل هو كلام البهاء نفسه باعتباره الله.. البهاء ادعى الألوهية وليس النبوة.. وإلا فعليك أن تأتي بجملة واحد من الكتاب الأقدس يذكر بوضوح بان البهاء قد قال (قال لي الله كيت وكيت) ولا أظن أنك ستجد لأنه لا يمكن لمدعي الألوهية أن يقول بأن هناك إله آخر أوحى له... فهل وصلت الفكرة؟؟(38/31)
وبالنسبة لاستشهادك بمقولة المسيح عليه السلام (أنت مني بمنزلة بروزي) فهي لا تعني مطلقاً بأن المسيح الموعود ادعى بأن الله قد حل فيه والعياذ بالله.. فلو قلت بأن فؤاد العطار بمنزلة أخي فهذا لا يعني بأن فؤاد العطار هو أخي من أمي وأبي.. ونفس الشيء ينطبق على المقولة الأخرى التي استشهدت بها (مظهر الحق و العلى كأن الله نزل من السماء)... إن ما تفعله يا أبا بلال ليس إساءة للمسيح الموعود فقط بل هو إساءة لعقلك أنت الذي يبدو أنه لا يملك القدرة على الفهم والتفريق بين التشابيه البلاغية والكلام الحرفي...
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
كان الأولى بك قراءة كتاب الوحي القادياني "المقدس" فمن الواضح أنك تجهل كثيراً مما جاء فيه.
طبعاً لا يوجد كتاب اسمه الوحي القادياني المقدس... فهو من اختراع الأخ فؤاد العطار
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
لقد قال نبيك المزعوم بأن دوئي مدعٍ للنبوة و الرسالة كذباً، و أنت تقول هنا بأن ادعاء النبوة و الرسالة كان بإيمانه أن المسيح (ع) هو الله سبحانه!!!! و حسب ليّك المضحك لكلام نبيك المزعوم فإن جميع النصارى اليوم يدعون النبوة و الرسالة، و حسب كلام نبيك المزعوم فإنهم كلهم مستحقون لعقاب المتقولين على الله سبحانه..
عنزة ولو طارت
دوئي ادعى بأنه رسول الله
دوئي يؤمن بأن الله هو المسيح ابن مريم عليه السلام
المسيح عليه السلام ليس الله
المسيحيون يؤمنون بألوهية المسيح ولم أقل بأن كل المسيحيين ادعوا النبوة.. فمن أين أتيت بهذا الكلام؟؟؟
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
و القول بأن أتباع أعور قاديان متفقون فيه نظر فقد انقسموا إلى أكثر من فرقة فمنهم القاديانيون و منهم اللاهوريون و منهم جماعة "الأحمدية المسلمين".
كلام لا قيمة له.. ففي تاريخ البشرية ما أرسل الله من نبي إلا وانقسم الناس بعد رحيله.. فهذا ليس دليلاً على كذب الرسول وإلا فإن نفس هذا المنطق الأعوج ينطبق على أشرف المرسلين عليه الصلاة والسلام...
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
أنا بالتأكيد لم أقصد صعود البشر بالصواريخ للسماء في القرن العشرين
لكن نبيك المزعوم ادعى بأن صعود البشر إلى السماء ممتنع. فهلا قرأت كتاباته قبل التندر، فسخافات الميرزا أحرى بالتندر و الضحك.
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
وأن الكتاب الأقدس ليس موحى به من الله بل هو كلام البهاء نفسه باعتباره الله
العنزة طارت مرة أخرى! إقرأ ما ذكره الكتاب الأقدس:
((قل تالله إني لمحبوبه و الآن يسمع ما ينزل من سماء الوحي)) - الكتاب الأقدس ص 83.
بهاء الله ادعى أنّ مظاهر الله بشر و هم مرايا أسماء الله وصفاته، و هذا يطابق ادعاءات الميرزا، راجع موضوع "إعجاز أحمقي" للتفاصيل.
و البهاء لم يقل أنه هو نفسه الله أو أنه ليس مرسلاً من الله بل تبنى قصة مظاهر الله و تبعه الميرزا القادياني في ذلك. إقرأ ما كتبه البهاء في رسالته الموجهة إلى شاه إيران: ((يَا سُلْطَانُ إِنِّي کُنْتُ کَأَحَدٍ مِنَ العِبَادِ وَرَاقِداً عَلَي المِهَادِ مَرَّتْ عَلَيَّ نَسَائِمُ السُّبْحَانِ وَعَلَّمَنِي عِلْمَ مَا کَانَ لَيسَ هَذا مِنْ عِنْدِي بَلْ مِنْ لَدُنْ عَزِيزٍ عَلِيمٍ * وَأَمَرَنِي بِالنِّداءِ بَينَ الأَرضِ وَالسَّمآءِ بِذَلِكَ وَرَدَ عَلَيَّ مَا تَذَرَّفَتْ بِهِ عُيُونُ العَارِفِينَ * مَا قَرَأْتُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ العُلُومِ وَمَا دَخَلْتُ المَدَارِسَ فَاسْأَلِ المَدِينَةََ الَّتِي کُنتُ فِيهَا لِتُوقِنَ بِأَنِّي لَسْتُ مِنَ الکَاذِبِينَ * هَذِهِ وَرَقَةٌ حَرَّکَتْهَا أَرْيَاحُ مَشِيَّةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الحَمِيدِ هَلْ لَهَا اسْتِقْرَارٌ عِنْدَ هُبُوبِ أَرْيَاحٍ عَاصِفَاتٍ لَا وَمَالِكِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بَلْ تُحَرِّکُهَا کَيفَ تُرِيدُ * لَيسَ لِلْعَدَمِ وُجُودٌ تِلْقَاءَ القِدَمِ قَدْْ جَاءَ أَمْرُهُ المُبْرمُ وَأَنْطَقَنِي بِذِکْرِهِ بَينَ العَالَمِينَ * إِنِّي لَمْ أَکُنْ إِلَّا کَالمَيِّتِ تِلْقَاءَ أَمْرِهِ قَلَّبَتْنِي يَدُ إِرَادَةِ رَبِّكَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)).
و تبريرات البهائيين لموضوع مظاهر الله - سبحانه - تشابه تبريريات القاديانيين بل تطابقها في بعض التفاصيل.
يقول البهائيون ((وأكّد حضرة بهاء الله على "توحيد مواقع التّجريد" في العالم الرّوحانيّ- اي الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- فكلّهم يحكون عن جمال الله، ويظهرون أسماءه وصفاته، ويتغنّون بنغمات أزليّته، وتفضّل في ذلك بقوله: "... وإذا سُمع من المظاهر الجامعة 'إنّي أنا الله'، فإنّ ذلك حقّ ولا ريب فيه، إذ ثبت مراراً أنّ بظهورهم، وبصفاتهم، وبأسمائهم، يظهر في الأرض ظهور الله، واسم الله، وصفة الله)).(38/32)
و يقول البهائيون أيضاً ((فقد نبّه حضرة وليّ أمر الله شوقي افندي ربّاني بأنّه لا يجوز أبداً مساوات تلك النفوس الصافية بالذّات الإلهيّة والغيب المنيع. أمّا بخصوص مقام حضرة بهاء الله نفسه، فقد كتب حضرة وليّ أمر الله أنّ ذلك "الهيكل البشريّ الّذي بواسطته تجلّى ظهورٌ على هذا القدر من العظمة والهيمنة، لا يجوز أبداً مساواته بالحقيقة الإلهيّة.")).
عزيزي غالي، أراك لم تعلق على قول نبيك المزعوم ((أي شخص لم يقرأ جميع كتبي ثلاث مرات على الأقل فإن في إيمانه شك)) - سيرة المهدي، الجزء الثاني، رواية رقم 407 ص 78.
هل تقر بأن في إيمانك شك؟
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالي مشاهدة المشاركة
طبعاً لا يوجد كتاب اسمه الوحي القادياني المقدس... فهو من اختراع الأخ فؤاد العطار
إن للجهالة حدوداً، لكن هذا لا ينطبق على عبيد يلاش. هذا هو كتاب وحيكم المقدس.
لمشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
بالطبع لم أقرأ كل ما كتبه الناس عن الإسلام، و لماذا أقرأه كله؟! إن نبينا الكريم لم يقل بأن من لم يقرأ ما كتبه الناس عن الإسلام فإن في إيمانه شك. لكن نبيك المزعوم قال : ((أي شخص لم يقرأ جميع كتبي ثلاث مرات على الأقل فإن في إيمانه شك)) - سيرة المهدي، الجزء الثاني، رواية رقم 407 ص 78..
و معظمكم لم يقرأ كتاباته و لو مرة واحدة، و هذا يعني أن إيمانكم فيه شك حسب رأي نبيكم المزعوم نفسه.
عزيزي فؤاد
إن هذه الوصية للمسيح الموعود عليه الصلاة السلام والتي استشهدت بها لا ينبغي أن تفهم حرفياً... فالله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.. لقد أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم نفسه.. فهل يعقل أن المسلم الذي لا يعرف العربية أو القراءة يكون إيمانه ناقصاً بسبب أنه لا يتيسر له قراءة القرآن كاملاً؟؟؟!! إن ما يجب أن يُفهم من هذه الوصية هو أنه على كل أحمدي أن يحرص على قراءة كتب المسيح الموعود المتوفرة له والتي يستطيع قراءتها مراراً وألا يتكاسل في هذا الأمر، فكتب حضرته تحتوي على معارف عظيمة كما أنها تقوّم عقائد المسلم الأحمدي وترشده إلى منهج الإمام المهدي ورؤيته وأسلوبه في تناول أي قضية فكرية أو شرعية...
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
معظم تلك "المقالات" كانت عبارة عن مشاركات لي في منتديات أو نقاشات عبر الإيميل رأى بعض الاخوة نشرها على شكل مقالات قاموا هم بوضع عناوين لها. و قد تم نشرمعظمها دون علمي و ذلك لعلم إخواني أنني لا أمانع نشرها. لكنني لا أحبذ كتابة المقالات و أفضّل مناقشة الأفراد لأعرف ردودهم على الأفكار سواءاً كان موضوع النقاش هو القاديانية أو غيره. و لقلة البحوث حول القاديانية - شبه المنقرضة - فإن البعض أخذ على عاتقه نشر تلك المشاركات حول القاديانية بالذات في الإنترنت.
طبعاً لابد لفؤاد أن يستخدم بعض المصطلحات الإعلامية المضللة كقوله "شبه المنقرضة" وقوله هذا محاولة هزيلة بائسة لحجب الشمس بغربال... فالمسلمون الأحمديون اليوم يقيمون في أكثر من 182 دولة حول العالم... لقد كان لهذه الجماعة السبق بين كل جماعات المسلمين في العالم الإسلامي بتخصيص قناة فضائية للشؤون الدينية منذ عام 1994 ومن قبل أن تبدأ قنوات a r t فهلا ضربت لنا مثلاً في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة كانت أول من أنشأ مسجدا في بريطانيا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وكانت أول من أنشأ مسجدا في برلين قبل الحرب العالمية الثانية، وأول من أنشأ مسجدا في فرانكفورت وهامبورج بعد الحرب، وأول من أنشأ مسجدا في هولندا، وأول من أنشأ مسجدا في كوبنهاجن عاصمة الدانمرك، وأول من أنشأ مسجدا في جوتنبرج بالسويد، وأول من أنشأ مسجدا في أسلو العاصمة النرويجية، وأول من أنشأ مسجدا في ضواحي قرطبة بأسبانيا بعد 500 سنة من خروج المسلمين منها. فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة هي التي تصدّت للتبشير المسيحي في أفريقيا، وأقامت المدارس والمستشفيات في العديد من الدول الأفريقية، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة كانت أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، حتى بلغ عدد ما تم نشره من هذه الترجمات هذا العام 62 ترجمة كاملة، وما تم نشره من مختارات من القرآن الكريم ومختارات من الحديث الشريف حوالي 100 ترجمة، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ لقد ضاعت الخلافة من المسلمين، ورغم أنها من أعز المطامح لدى المسلمين إلا أن الله تعالى نزعها من أيديهم وأنعم بها على الجماعة الإسلامية الأحمدية، وبعد عام واحد فقط، أي في عام 2008، سوف تحتفل الجماعة بمرور قرن من الزمان على إعادة تأسيس الخلافة على منهاج النبوة، بعد أن رفعها الله تعالى بعد مقتل الخليفة الثالث والرابع (عثمان وعليّ رضي الله عنهما) بأيدي المسلمين، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟؟؟؟(38/33)
هناك الكثير والكثير من ثمار هذه الجماعة.. ولكن ماذا عن ثماركم أنتم يا من تدعون انتمائكم لأهل السنة والجماعة؟؟
وإذا كانت الجماعة الإسلامية الأحمدية "شبه منقرضة" كما تدعي فلماذا إذن أنت منشغل بها؟؟؟ إن واقع الحال يدل على أنك منهمك بها أشد لانهماك أنت ومن خلفك بمتابعة الجماعة والنظر في كل صغيرة وكبيرة تصدر عنها، ومحاولة نزع الأمور من سياقها وتشويهها بالكذب والدجل والتمويه. هذا الحال لا يدل إلا على أنها جماعة تنمو بشكل سريع يصيبك بالذعر أنت ومن هم خلفك... لو كنت مؤمنا حقيقة بأنها منقرضة لما لزمك إلا أن تنظر إليها وهي تنقرض بكل سكينة واطمئنان... عليك أن تتذكر أن نموذج المؤمن الحقيقي الذي خلده الله تعالى في سورة غافر:(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)
ينبغي أن يكون موقف المسلم حيال أي دعوة من شخص يقول ربي الله ويأتي بالبينات أنه "وإن يك كاذبا فعليه كذبه".. لأن الكاذب لا بد أن ينقرض وتنتهي دعوته بيد الله تعالى..
فلتذكر لنا يا فؤاد مثالا واحدا لأمثالك من الصالحين أو العلماء أو الأولياء الذين كانوا يتصدون "للمتنبئين الكاذبين" والذين خلدهم القرآن الكريم وأثنى على فعلهم هذا.. إنك لن تجد في القرآن الكريم إلا قصصا تتحدث عن أنبياء صادقين ومعارضين لهم امتهنوا التكذيب والصد عن سبيل الله، فنجح الأنبياء وأفلحوا وباء هؤلاء المكذبون بالفشل والخيبة والخسران أخيرا..
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) غافر
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
أما بالنسبة لبحثك في الإنترنت عن اسمي فيبدو بأنك بحثت باللغة العربية فقط، و لو بحثت بالإنجليزية أو الألمانية لوجد مواضيع غير القاديانية و غير المواضيع الدينية، و مع أن معظم كتاباتي عن القاديانية كانت باللغة الإنجليزية إلا أنني أستعملت اسمين مستعارين في كتاباتي الإنجليزية يعرفهما كثير من إخوانك القاديانيين في باكستان و بريطانيا و كندا و أمريكا و غيرها. و قد قام الأخ "شيخ أحمد كريم" من كندا بتحدي الخلافة القاديانية و القاديانيين عموما للرد على مواضيعي باللغة الإنجليزية،
و إن كنت تجهل فإن "شيخ أحمد كريم" هو حفيد أحد أوائل الذين بايعوا الميرزا غلام من سكان قاديان، و قد اعتنق هذا الأخ الإسلام قبل حوالي عشر سنوات - مع إقراره بأنه لا يزال مبتدئاً في تعلم المفاهيم الإسلامية الصحيحة و يواجه صعوبة في ذلك لكبر سنه و معاناته الصحية - فأمرت الجماعة القاديانية زوجته و أبناءه بتركه وحيداً و مقاطعته مع أنه في الستين من عمره. و الأخ "شيخ أحمد كريم" ناشط في مجال مناهضة القاديانية و قد أخبرني بأنه يحاول أن يمسح عار مبايعة الغلام عن عائلته. و هو يعمل في هذا المجال مع كثير من الأخوة الذين تركوا القاديانية و اعتنقوا الإسلام و من ضمنهم أحد مؤسسي القناة الفضائية الأحمدية و الذي التقيته في لندن قبل فترة.
أنا لا أتحدث عن مقالاتك الغير دينية... بل أتحدث عن المقالات التي كتبتها دفاعاً عن معتقداتك التي تؤمن بها والتي تتعرض وبشكل مستمر للهجوم من أعداء الدين... فهل ذكرت لي مثالاً واحداً؟؟؟ فقد بحثت وبحثت ولم أجد شيئاً... إنه لمن الغريب أن تعتبر الجماعة الإسلامية الأحمدية عدوك الأول وهي تدعو لعبادة الله الواحد وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر...(38/34)
وبالنسبة للأخ "شيخ أحمد كريم" والذي تتغنى طرباً لخروجه عن الجماعة الإسلامية الأحمدية فهو ليس بالأمر المثير كما تحاول أن تظهر.. فكم هناك من ناس خرجوا عن دينهم وارتدوا أو أشركوا أو بدلوا بدينهم ديناً آخر... وبالنسبة لقولك بأن الجماعة الإسلامية الأحمدية قد أمرت زوجته وأبناءه بتركه وحيداً فأنا لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر.. لكني أعرف شيئاً واحداً.. وهو أنه لو كان "شيخ أحمد كريم" منتمياً لأهل السنة والجماعة وخرج عنها لأبيح دمه واتُهم بالكفر والخروج عن ملة الإسلام... وشتان بين الأمرين... وأما بالنسبة لقوله بأنه يحاول أن يمسح عار مبايعة المسيح الموعود عليه السلام لعائلته فنقول له بأنه لو عاش ألف سنة لبقي الأمر على ما هو عليه وما تغير منه شيء... (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء
ما هي إلا محاولات بائسة يحاول البعض تضخيمها إعلامياً لمحاربة الجماعة...
سلام
منتجوا أفلام هوليود مهووسون بفكرة وجود بشر على كوكب المريخ. و لو عرف هؤلاء بوجود القاديانيين لفرحوا كثيراً لأنهم سيظنونكم من سكان المريخ قطعاً. يا غالي عش واقعك و انظر من حولك. لقد زرت عشرات من البلدان التي تقولون أن لكم الكثير من الأتباع فيها لكنني لم أقابل هناك من سمع أصلاً بالأحمدية أو القاديانية. إن تصديقك لخرافة ال 200 مليون قادياني تدعو للشفقة حقاً.
أما إنجازات خلافتك القاديانية من بناء معابد شبه خاوية لا يصلي فيها المسلمون و ترجمة باطنية لمعاني القرآن الكريم فدليل على ضلال نحلتكم الهدامة و ليس العكس.
و أما اعترافك الضمني بأنك لم تقرأ كتب نبيك المزعوم ثلاث مرات فيشير إلى أن إيمانك به يشوبه الشك. فقد عمم نبيك المزعوم و قال ((أي شخص)) و حدد الحد الأدنى ب ((ثلاث مرات)) فهو أدرى بما يقول. و قد لاحظت أن القاديانيين لا يقرؤون كتابات زعيمهم الملهم حتى تلك التي هي متوفرة بلغتهم الأم. و كفى بهذا دليلاً على خلو تلك الكتب من أية قيمة.
==================(38/35)
(38/36)
النبوءات القاديانية - تكتيكات دجال
كثيرة هي حيل المشعوذين الذين يتنبؤون بالغيب. هم يرمون سهامهم في الظلام فإن صدقت توقعاتهم ملؤوا الدنيا ضجيجاً بفرحهم و إن هي فشلت - كما هو الحال في أغلب الأحيان - فإنهم يحاولون تغطية فشلهم بطريقة أو بأخرى. و المتتبع لنبوءات الميرزا القادياني يجد أنه استعمل تكتيكات مختلفة لتغطية فشل كل نبوءة من نبوءاته.
في هذه المشاركة سأضرب مثالاً على تكتيك استعمله الميرزا غلام أحمد القادياني عندما فشلت نبوءته بخصوص شفاء ابنه الصغير مبارك من الحمى. فبعد أن نشر نبوءة مفادها أن الله سبحانه بشره بشفاء ابنه مبارك خلال تسعة أيام لم تتحقق النبوءة و استمرت الحمى إلى أن مات الصغير مبارك في 16 سبتمبر 1907م أي بعد 16 يوماً من نشر الميرزا لنبوءة البشارة بشفائه.
و ليغطي الميرزا الفشل الذريع لنبوءته ادعى بعد ثلاثة أيام من موت ابنه أنه كان قد رأى رؤيا قبل شهر كان يشرف فيها على حفر قبر في مقبرة الجنة القاديانية. و بهذا يكون الميرزا قد تنبأ بموت ابنه مسبقاً مع أنه لم ينشر هذه النبوءة إلا بعد وفاة ابنه بثلاثة أيام. و تفاصيل النبوءة و محاولة تغطية فشلها كالتالي:
في 31 أغسطس 1907م نشر الميرزا النبوءة التالية في مجلة الحكم القاديانية:
((ابني مبارك أحمد مريض بالحمى الشديدة و يفقد وعيه أحياناً. اليوم استقبلت الوحي التالي بخصوصه: "لقد تم القبول، الحمى ذات التسعة أيام اختفت". لا أذكر بالضبط اليوم الذي بدأت فيه الحمى لكن الله بفضله بشرني مقدماً بشفائه. لا أدري أيّ يوم سيكون اليوم التاسع للحمى. أظن أن اليوم الأول للحمى كان ذلك اليوم الذي كانت حرارته فيه عالية و الله أعلم بالصواب)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص868.
في 19 سبتمبر1907م - أي بعد 3 أيام من وفاة الصبي مبارك بالحمى - نشرت صحيفة بدر القاديانية الخبر التالي: ((في شهر أغسطس رأى المسيح الموعود في منامه أنه يشرف على حفر قبر في مقبرة الجنة)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص869.
و في 24 سبتمبر 1907م كتب الميرزا في مجلة الحكم القاديانية ما يلي: ((أحياناً عندما يرى والد رؤيا بخصوص نفسه فإنها تكون في الواقع بخصوص ابنه، و كذلك قد يحدث العكس عندما يرى الإبن رؤيا بخصوص والده. في مناسبة معينة رأيت في المنام أنني في مقبرة الجنة و أنني خاطبت حافر القبر قائلاً: "قبري يجب أن يكون بعيداً عن القبور الأخرى". و ما قلته عن نفسي في هذا المنام تحقق في ابني)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص869.
===============(38/37)
(38/38)
القاديانية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
القاديانية حركة (*) نشأت سنة 1900م بتخطيط من الاستعمار(*) الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد(*) بشكل خاص، حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام، وكان لسان حال هذه الحركة هو مجلة الأديان التي تصدر باللغة الإنجليزية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• كان مرزا غلام أحمد القادياني 1839ـ 1908م أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية. وقد ولد في قرية قاديان من بنجاب في الهند عام 1839م، وكان ينتمي إلى أسرة اشتهرت بخيانة الدين (*) والوطن، وهكذا نشأ غلام أحمد وفياً للاستعمار مطيعاً له في كل حال، فاختير لدور المتنبئ حتى يلتف حوله المسلمون وينشغلوا به عن جهادهم للاستعمار الإنجليزي. وكان للحكومة البريطانية إحسانات كثيرة عليهم، فأظهروا الولاء لها، وكان غلام أحمد معروفاً عند أتباعه باختلال المزاج وكثرة الأمراض وإدمان المخدرات.
ـ وممن تصدى له ولدعوته الخبيثة، الشيخ أبو الوفاء ثناء الله الأمرتستري أمير جمعية أهل الحديث في عموم الهند، حيث ناظره وأفحم حجته، وكشف خبث طويته، وكفره ، وانحراف نحلته. ولما لم يرجع غلام أحمد إلى رشده باهله الشيخ أبو الوفا على أن يموت الكاذب منهما في حياة الصادق، ولم تمر سوى أيام قلائل حتى هلك المرزا غلام أحمد القادياني في عام 1908م مخلفاً أكثر من خمسين كتاباً ونشرة ومقالاً، ومن أهم كتبه: إزالة الأوهام، إعجاز أحمدي، براهين أحمدية، أنوار الإسلام، إعجاز المسيح، التبليغ، تجليات إلهية.
• نور الدين: الخليفة الأول للقاديانية، وضع الإنجليز تاج الخلافة على رأسه فتبعه المريدون. من مؤلفاته: فصل الخطاب.
• محمد علي وخوجه كمال الدين: أمير القاديانية اللاهورية، وهما مُنَظّرا القاديانية وقد قدّم الأول ترجمة محرفة للقرآن الكريم إلى الإنجليزية ومن مؤلفاته: حقيقة الاختلاف، النبوة في الإسلام، والدين الإسلامي. أما الخوجة كمال الدين فله كتاب المثل الأعلى في الأنبياء وغيره من الكتب، وجماعة لاهور هذه تنظر إلى غلام أحمد ميرزا على أنه مجدد فحسب، ولكنهما يعتبران حركة (*) واحدة تستوعب الأولى ما ضاقت به الثانية وبالعكس.
• محمد علي: أمير القاديانية اللاهورية، وهو مُنَظِّر القاديانية وجاسوس الاستعمار (*) والقائم على المجلة الناطقة باسم القاديانية، قدم ترجمة محرفة للقرآن الكريم إلى الإنجليزية. من مؤلفاته: حقيقة الاختلاف، النبوة (*) في الإسلام على ما تقدم.
• محمد صادق: مفتي القاديانية، من مؤلفاته: خاتم النبيين.
• بشير أحمد بن الغلام: من مؤلفاته سيرة المهدي، كلمة الفصل.
• محمود أحمد بن الغلام وخليفته الثاني: من مؤلفاته أنوار الخلافة، تحفة الملوك، حقيقة النبوة.
• كان لتعيين ظفر الله خان القادياني كأول وزير للخارجية الباكستانية أثر كبير في دعم هذه الفرقة الضالة حيث خصص لها بقعة كبيرة في إقليم بنجاب لتكون مركزاً عالمياً لهذه الطائفة وسموها ربوة استعارة من نص الآية القرآنية (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين).[سورة المؤمنون، الآية: 50].
الأفكار والمعتقدات:
• بدأ غلام أحمد نشاطه كداعية إسلامي حتى يلتف حوله الأنصار ثم ادعى أنه مجدد وملهم من الله ثم تدرج خطوة أخرى فادعى أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود ثم ادعى النبوة وزعم أن نبوته أعلى وأرقى من نبوة سيدنامحمد صلى الله عليه وسلم .
• يعتقد القاديانيون أن الله يصوم ويصلي وينام ويصحو ويكتب ويخطئ ويجامع ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ.
• يعتقد القادياني بأن إلهه (*) إنجليزي لأنه يخاطبه بالإنجليزية !!!.
• تعتقد القاديانية بأن النبوة (*) لم تختم ب صلى الله عليه وسلم بل هي جارية، والله يرسل الرسول حسب الضرورة، وأن غلام أحمد هو أفضل الأنبياء جميعاً.
• يعتقدون أن جبريل عليه السلام كان ينزل على غلام أحمد وأنه كان يوحى إليه، وأن إلهاماته كالقرآن.
• يقولون لا قرآن إلا الذي قدمه المسيح الموعود (الغلام)، ولا حديث إلا ما يكون في ضوء تعليماته، ولا نبي إلا تحت سيادة غلام أحمد.
• يعتقدون أن كتابهم منزل واسمه الكتاب المبين وهو غير القرآن الكريم.
• يعتقدون أنهم أصحاب دين (*) جديد مستقل وشريعة مستقلة وأن رفاق الغلام كالصحابة.
• يعتقدون أن قاديان كالمدينة المنورة ومكة المكرمة بل وأفضل منهما وأرضها حرم وهي قبلتهم وإليها حجهم.
• نادوا بإلغاء عقيدة الجهاد (*) كما طالبوا بالطاعة العمياء للحكومة الإنجليزية لأنها حسب زعمهم ولي الأمر بنص القرآن !!!.
• كل مسلم عندهم كافر حتى يدخل القاديانية: كما أن من تزوج أو زوج من غير القاديانيين فهو كافر.
• يبيحون الخمر والأفيون والمخدرات والمسكرات.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• كانت حركة (*) سير سيد أحمد خان التغريبية قد مهدت لظهور القاديانية بما بثته من الأفكار المنحرفة.
• استغل الإنجليز هذه الظروف فصنعوا الحركة القاديانية واختاروا لها رجلاً من أسرة عريقة في العمالة.(38/39)
• في عام 1953م قامت ثورة (*) شعبية في باكستان طالبت بإقالة ظفر الله خان وزير الخارجية حينئذ واعتبار الطائفة القاديانية أقلية غير مسلمة، وقد استشهد فيها حوالي العشرة آلاف من المسلمين ونجحوا في إقالة الوزير القادياني.
• وفي شهر ربيع الأول 1394هالموافق إبريل 1974م انعقد مؤتمر كبير برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وحضره ممثلون للمنظمات الإسلامية العالمية من جميع أنحاء العالم، وأعلن المؤتمر كفر هذه الطائفة وخروجها عن الإسلام، وطالب المسلمون بمقاومة خطرها وعدم التعامل مع القاديانيين وعدم دفن موتاهم في قبور المسلمين.
• قام مجلس الأمة في باكستان (البرلمان المركزي) بمناقشة زعيم الطائفة مرزا ناصر أحمد والرد عليه من قبل الشيخ مفتي محمود رحمه الله. وقد استمرت هذه المناقشة قرابة الثلاثين ساعة عجز فيها ناصر أحمد عن الأجوبة وانكشف النقاب عن كفر هذه الطائفة، فأصدر المجلس قراراً باعتبار القاديانية أقلية غير مسلمة.
• من موجبات كفر (*) الميرزا غلام أحمد الآتي:
ـ ادعاؤه النبوة (*).
ـ نسخه فريضة الجهاد (*) خدمة للاستعمار.
ـ إلغاؤه الحج إلى مكة وتحويله إلى قاديان.
ـ تشبيهه الله تعالى بالبشر.
ـ إيمانه بعقيدة التناسخ (*) والحلول (*).
ـ نسبته الولد إلى الله تعالى وادعاؤه أنه ابن الإله.
ـ إنكاره ختم النبوة ب صلى الله عليه وسلم وفتح بابها لكل من هبَّ ودبَّ.
• للقاديانية علاقات وطيدة مع إسرائيل وقد فتحت لهم إسرائيل المراكز والمدارس ومكنتهم من إصدار مجلة تنطق باسمهم وطبع الكتب والنشرات لتوزيعها في العالم.
• تأثرهم بالمسيحية (*) واليهودية والحركات الباطنية (*) واضح في عقائدهم وسلوكهم رغم ادعائهم الإسلام ظاهرياً.
الانتشار ومواقع النفوذ:
• معظم القاديانيين يعيشون الآن في الهند وباكستان وقليل منهم في إسرائيل والعالم العربي ويسعون بمساعدة الاستعمار (*) للحصول على المراكز الحساسة في كل بلد يستقرون فيه.
• وللقاديانيين نشاط كبير في أفريقيا، وفي بعض الدول الغربية، ولهم في أفريقيا وحدها ما يزيد عن خمسة آلاف مرشد وداعية متفرغين لدعوة الناس إلى القاديانية، ونشاطهم الواسع يؤكد دعم الجهات الاستعمارية لهم.
• هذا وتحتضن الحكومة الإنجليزية هذا المذهب (*) وتسهل لأتباعه التوظف بالدوائر الحكومية العالمية في إدارة الشركات والمفوضيات وتتخذ منهم ضباطاً من رتب عالية في مخابراتها السرية.
• نشط القاديانيون في الدعوة إلى مذهبهم بكافة الوسائل، وخصوصاً الثقافية منها حيث أنهم مثقفون ولديهم كثير من العلماء والمهندسين والأطباء. ويوجد في بريطانيا قناة فضائية باسم التلفزيون الإسلامي يديرها القاديانية.
ويتضح مما سبق:
أن القاديانية دعوة ضالة، ليست من الإسلام في شيء، وعقيدتها تخالف الإسلام في كل شيء، وينبغي تحذير المسلمين من نشاطهم، بعد أن أفتى علماء الإسلام بكفرهم.
--------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع:
ـ القاديانية، إحسان إلهي ظهير.
ـ القاديانية، أبو الحسن علي الحسني الندوي، أبو الأعلى المودودي، محمد الخضر حسين.
ـ تاريخ القاديانية، ثناء الله تسري.
ـ سوداء القاديانية، محمد علي الأمر تسري.
ـ فتنة القاديانية، عتيق الرحمن عتيق (قادياني ـ سابقًا).
ـ المذهب القادياني، إلياس برني.
==============(38/40)
(38/41)
لماذا عصى الميرزا القادياني إلهه؟
بتاريخ 8 يناير 1886م كتب الميرزا ما يلي ((لقد استقبلت الآن وحياً يأمرني أن أتزوج مرة أخرى حالاً، و قد أخبرني الوحي أن الإرادة الإلهية قد قدرت لي أنني سوف أتزوج من امرأة تقية و صالحة و سوف تحمل تلك المرأة مني أطفالاً)) - كتاب الوحي القادياني تذكرة بالترجمة الإنجليزية ص 182.
و الآن قل لنا يا عزيزي غالي لماذا عصى الميرزا إلهه يلاش؟ لماذا لم يتزوج الميرزا بعد ذلك التاريخ إلى أن مات مع أن وحيه المزعوم أمره بالزواج من جديد؟ لقد طرحت هذا السؤال على القاديانيين منذ حوالي ثلاث سنوات و لكن لا حياة لمن تنادي! أنت تقول بأنكم قد رددتم عليّ فأرجو منك أن تتحفنا بذلك الرد و تضعه هنا.
لو أنك قرأت كتاب الوحي القادياني لعرفت سبب عصيان الميرزا لإلهه بخصوص الزواج من جديد. هل تعرف الإجابة أم تحتاج إلى مساعدة؟
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فؤاد العطار مشاهدة المشاركة
أين أنت يا غالي؟ قل لنا لماذا عصى الميرزا إلهه. و قل لنا كيفت قدرت الإرادة الإلهية للميرزا أن يتزوج من جديد و مع ذلك لم يتزوج بعد ذلك الوحي المدعى إلى أن مات.
الزميل غالي لن يجيب على شيء - وكما هو واضح - فمعلوماته عن القديانية لا تزيد إلا على معلومات جدتي - رحمها الله - في برمجة الحواسيب! لو أنها - رحمها الله - أخذت الإبتدائية. ها قد بلغت مشاركاته 125 ولم نعرف له رأسا من ذيل.
من ناحية ثانية .. القديانيون ليس لهم دور بين المسلمين .. فحتى أطفالنا يعرفون دجلهم. دورهم يقتصر على إصطياد الأجانب الذين يستهويهم الإسلام بعظمته .. فيتلقفونهم في شباكهم التي نصبوها (يعني نصب وإحتيال) ... وسواء دخلوا بينهم أو نفروا منهم .. فقد نجحوا في إبعادهم عن الإسلام. وهذا هو الهدف الحقيقي لهم.
============(38/42)
(38/43)
الاستعمار في العصر الحديث ودوافعه الدينية
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبياء الله أجمعين، عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبعد:
فقد تعرض العالم الإسلامي لهجمات وحشية على مدى تاريخه البعيد، فقتل الصليبيون تسعين الفاً في حملتهم على بيت المقدس، لكنهم على كل حال لم يبلغوا ما بلغه التتار الذين قتلوا في بغداد وحدها زهاء مليوني مسلم.
وفي العصور الحديثة ظهر المستعمرون الجدد، وحطوا مراسيهم في موانئ العالم الإسلامي، لكن حتى لا نسيء الظن بهم والتقدير؛ فإنهم إنما قدموا لعمارة بلادنا وانتشالها من وهدة الجهل والفقر، لقد تركوا بلادهم وضحوا بملاذهم لغاية نبيلة وهي انتشالنا من واقعنا المرير.
وبعد سنوات مريرة ممزوجة بمئات الألوف بل الملايين من التضحيات غادر المستعمرون بلادنا وقد ازددنا فقراً ومرضاً، غادروها بعد أن أصبحنا رهناً لحضارتهم وثقافتهم، ويبقى السؤال يتجلجل في أذهاننا: لم قدم هؤلاء؟ هل أتوا لتحقيق مصالحهم الاستعمارية فحسب؟ أم اجتمعت إليها أهداف دينية، حملت المستعمر إلينا من جديد.
واليوم في القرن الواحد والعشرين يعود حاملو رايات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة من جديد، ليبذلوا المزيد من دمائهم وميزانياتهم في سبيل انتشالنا من سطوة الدكتاتورية، إنهم لا يطيقون رؤيتنا بغير ديمقراطية!
لكن بذلهم زتضحيتهم لن يمنعنا من التساؤل: هل خلف هذه الأستار خلفية دينية تدفعهم للعودة إلينا من جديد؟ هل هي حملة صليبية جديدة كما قال بعضهم؟
إذا كنا لا نستطيع فهم حاضرنا اليوم، أو لا نجرؤ على البوح بما فهمناه؛ فإننا ولاريب يمكننا استخلاص العبر من تاريخنا القريب، حتى لا تتكرر مآسينا، فالتاريخ كثيراً ما يعيد نفسه.
في هذه الدراسة أقدم دراسة تاريخية للاستعمار الحديث خلال القرنين الماضيين ودوافعه الدينية، وما خلفه من دمار ومآس يشيب لذكرها الولدان.
وتأتي هذه الدراسة في ثلاثة مباحث، الأول منها أتحدث فيه عن الاستعمار وتاريخه القريب ودوافعه الدينية وما خلفه من مآسي في عالمنا.
وأما الثاني منها فخصصته للحديث عن التبشير، واستعرضت اهدافه وبعض المحطات المهمة في تاريخه في العالم الإسلامي.
وفي الأخير منها درست العلاقة بين التبشير والاستعمار خلال القرنين الماضيين.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجنبني موارد الزلل، إنه جواد كريم.
د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة - محرم - 1427هـ
mongiz@maktoob.com
المبحث الأول : الاستعمار
مصطلح الاستعمار
الاستعمار لفظة محدثة مشتقة من عَمَر، واستعمره في المكان أي جعله يعمره، ومنه قوله تعالى: } هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها { (هود: 61).
فالأصل اللغوي يفيد معنى طلب التعمير والسعي لتحقيق العمران، لكن الواقع لا علاقة له بالمعنى اللغوي.
ويعرف الشهابي وحبنكة الاستعمار موافقين لما جاء في المعجم الوسيط بأنه استيلاء دولة أو شعب على دولة أخرى وشعب آخر لنهب ثرواته وتسخير طاقات أفراده والعمل على استثمار مرافقه المختلفة. (1)
وهذا التعريف يشمل أنواع مختلفة من الاستعمار لاتختلف عن بعضها إلا بالأسماء وبعض الأشكال، فمن أشكال الاستعمار أن تضع دولة ما أخرى تحت حمايتها وإشرافها وتسلبها من حريتها بقدر ما يتناسب مع قوة هذه الدولة وضعف تلك، وفي الأغلب يكون للدولة المحمية شبه سيادة داخلية يمارسها حكام وطنيون تديرهم الدولة المستعمرة من خلف ستار.
ومن أمثلة هذا الشكل للاستعمار ما فعلته فرنسا في تونس حيث وقعتا معا معاهدة حماية في 12/5/1881م، ثم جددت في 8/6/1883م، وبموجب بنود هذه الحماية فقدت تونس سيادتها الخارجية وحقها في التمثيل الدبلوماسي المستقل، كما سلبت حق إبرام المعاهدات الخارجية، وعينت فرنسا آلاف الموظفين يرعون مصالحها يرأسهم المقيم العام.
وما حصل في تونس كررته فرنسا في مراكش بموجب معاهدة 30/3/1912م وفعله الإنجليز في مصر خلال احتلالهم لها بين عام 1914 - 1922م. (2)
وبعد الحرب العالمية الأولى ظهر شكل جديد من أشكال الاستعمار أقرته عصبة الأمم المتحدة التي تكونت حينذاك كمنظمة أممية لنشر السلام ومنع الحروب، فقد كرست عصبة الأمم نوعاً جديداً من الاستعمار وهو الانتداب، حيث ورد إجازته في المادة 22 لميثاق عصبة الأمم التي اعتبرته طريقة للنهوض بالشعوب القاصرة والأخذ بيد هذه الأمم لتكون قادرة على تسيير أمورها، لكنه في الحقيقة كان مظهراً للاستعمار ووسيلة لامتصاص خيرات الشعوب. (3)
وفيما عدا هذين الوجهين أسفر الاستعمار عن وجهه الكالح، فأعلن عن ضمه لبعض الدول إلى مستعمراته كما فعلت فرنسا بالجزائر.
رؤية تاريخية للاستعمار
وقد بدأ الاستعمار الغربي للعالم مع بداية عصور النهضة في أوربا حيث استفاقت أوربا على وقع طبول الإصلاح الديني والسياسي في القرن الخامس و السادس عشر.(38/44)
ومنذ أفاقت أوربا بدأت تحركها للإطباق على العالم الإسلامي، فانتشرت المراكب الاستكشافية تجوب البحار بحثاً عن تحقيق أهداف الاستعمار المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية.
وفي عام 1499م توصل فاسكودي جاما إلى طريق رأس الرجاء الصالح، فوصل البرتغاليون إلى الشواطئ الهندية بعيداً عن المرور في الأراضي الواقعة في سلطة الخلافة العثمانية.
وشرع البرتغاليون يؤسسون مستعمرات ومراكز تجارية في أماكن مختلفة من السواحل التي وصلوا إليها، ولم يكد النصف الأول من القرن السادس عشر ينقضي حتى كان البرتغاليون قد أحكموا السيطرة على شواطئ شرق أفريقيا وغربها إضافة إلى شواطئ الخليج وفارس والهند. (4)
وفي عام 1600م أنشئت بريطانيا أول جهاز استعماري لها تحت مسمى شركة الهند الشرقية البريطانية، ومثله صنعت فرنسا عام 1664م فأنشئت ما أسمته بشركة الهند الشرقية الفرنسية، وبدأ الصراع والتنافس بين الدولتين، وانتهى بانتصار الإنجليز عام 1775م ( 1171هـ ) وخروج فرنسا من الهند والصين.
وفي عام 1798م ( 1213هـ ) وصل نابليون يقود الحملة الفرنسية على مصر ثم حاول السيطرة على بلاد الشام، فغادر وهو يحمل أدراج الخيبة لكثر من قتل من جنوده هناك، ثم ما لبث أن عاد إلى فرنسا ولحقته جيوشه عام 1801م.
وفي عام 1827م أعلن الملك شارل العاشر اعتزام فرنسا إنشاء مستعمرة ذات شأن في شمال أفريقيا، وزحفت الجيوش الفرنسية لاحتلال الجزائر عام 1830م، واستتب الوضع لهم عام 1857م وهو نفس العام الذي قضت فيه بريطانيا على الإمارة الإسلامية المنغولية في الهند، وقد ألحقت فرنسا الجزائر بها عام 1881م، وهي نفس السنة التي أعلنت فرنسا وضعها تونس تحت الحماية الفرنسية بموجب ميثاق باردو، ثم السنغال ومدغشقر عام 1882م، في عام 1887م (1295هـ ) وقع مؤتمر برلين لاقتسام مواقع النفوذ في الوطن العربي. وتوالى بعد ذلك سقوط البلاد العربية والاسلامية في قبضة الاستعمار.
فسيطر الفرنسيون على المغرب سنة 1912م، وعلى سورية سنة 1920م.
وأما الإيطاليون فاحتلوا الصومال وأريتريا عام 1887م، وزحفت إيطاليا لاحتلال الساحل الليبي عام 1914م، وأكملت الاحتلال عام 1914م.
فيما احتلت انجلترا مصر ووضعتها تحت الحماية عام 1882م، وكانت قد احتلت بلاد البنغال عام 1757م، والبنجاب عام 1849م، ثم احتلت نيجيريا عام 1851م. وفي عام 1898م احتلت بريطانيا السودان ثم العراق 1919م، ثم الأردن عام 1920م.
وفي المشرق الإسلامي انقض الروس الأرثوذوكس على بلاد المسلمين فأخذوا ما يحاذيهم منها، وضموه إلى بلادهم، ففي 1670م دخل الروس بلاد الأورال، وأحكموا السيطرة على مسلميها، وفي عام 1859م ضمت روسيا طشقند، ثم القوقاز عام 1864م، ثم بخارى عام 1882م، فيما دخلت بلاد التركستان تحت سيطرة الروس عام 1884م. (5)
وقد استمرت السيطرة الروسية على بعض هذه البلاد إلى يومنا هذا فيما نجت بلاد أخرى، وشكلت حكومات مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990م.
فيما تحررت البلاد الإسلامية جملة من الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإيطالي ( العسكري ) في أواسط القرن العشرين.
دوافع الاستعمار الأوربي
نستطيع القول بأن ميل النفس إلى الصراع والطموح إلى الأفضل جِبلّة بشرية جاءت النبوات لتهذيبها وجعلها عبادة يراد منها إقامة دين الله وإزالة الطغيان.
وعليه فالسيطرة من القوي على الضعيف ليس بجديد، ولم يكن الأوربيون أول من مارسه، وإن كان للتوقيت والمكان الذي انطلقوا إليه مرامي ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا كما لاينبغي أن يفوتنا بعض أسباب القسوة والهمجية التي تميز بها الاستعمار الأوربي.
فقسوة الأوربي في المستعمرات التي بسط سلطانه عليها - كما يرى الغزالي - منسجم مع قسوة الغربيين وجلافتهم وقرب عهدهم بالهمجية والتخلف.
وتزيد هذه الوحشية ضراوة عند النصارى عن غيرهم بسبب ما تحدثه عقيدة الفداء من آثار سلبية إذ هي تمنح النصراني اعتقاداً بنجاته على الرغم مما يحدثه من ذنوب وفظائع، إذ يكفيه الإيمان بالمسيح لينجوا، أو يكفيه أن يحصل على صك غفران من أحد آباء الكنيسة ليدخل في ملكوت الله، وعليه فهو لايبالي بالوحشية والقسوة التي يتعامل بها مع الشعوب المستضعفة.
وينبه الغزالي إلى أن ثمة أمراً مهماً يحتم على النصارى الاتجاه إلى الاستعمار وهو فقد النصرانية لوسائل الإقناع وعجز رجال الكنيسة عن شرح العقائد النصرانية في ضوء المعطيات العقلية.
فإذا أراد النصارى بعد ذلك نشر النصرانية لم يجدوا سوى السيف بديلاً يستجيب الناس من خلاله لمنطق القوة الغالبة، فكان الاستعمار حلاً ناجعاً لقصور العقائد والعبادات النصرانية. (6)
وبدراسة الحملة الفرنسية وتحليل تاريخها يتوصل محمود شاكر إلى أمر هام مفاده أن الاستعمار يتحرك باتجاه البلاد الإسلامية ليس طمعاً في ثرواتها فحسب، وليس بهدف تبشيرها فقط، بل إنه يقرأ مسيرة الأمة الإسلامية من خلال الدراسات الاستشراقية الغربية، فإذا ما وجد محاولة جادة للنهوض بهذه الأمة من كبوتها تحرك لوأد هذا المولود قبل أن يكبر ويعيد ما كان قبل قرون.(38/45)
وحملة نابليون على مصر أحد الأحداث الهامة التي يرى بعض المستغربين من أبناء المسلمين أنها كانت انطلاقة نحو النهضة، ولذا رأينا قبل شهور احتفالات هؤلاء بذكرى مرور مائتي سنة على دخول نابليون مصر.
وفي بيان حقيقة ما صنعه نابليون - وهو نموذج استعماري تكرر بشكل أو بآخر - يذكر محمود شاكر أن نهضة مصر إسلامية بدأت تعم عدداً من الأقطار الإسلامية وذلك في مطلع القرن الحادي عشر، ومن رواد هذه النهضة عبد القادر البغدادي ( ت1093هـ ) صاحب " خزانة الأدب " وحسن الجبرتي (الجبرتي الكبير) ( ت 1188هـ ) وكلاهما كان في مصر، ومحمد بن عبد الوهاب ( ت 1206هـ ) في الجزيرة العربية، والمرتضى الزبيدي ( ت 1205هـ ) صاحب " تاج العروس " في الهند ومصر، ومحمد على الشوكاني ( ت 1250هـ ) في اليمن.
فقد كان كل واحد من هؤلاء في موطنه معلماً من معالم النهضة الجديدة، فالجبرتي يقول ابنه الجبرتي ( الصغير ) في تاريخه وحضر إليه طلاب من الإفرنج، وقرأوا عليه علم الهندسة.... وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم، ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت.... ".
وهذه النهضة وإن كانت متباعدة الديار فإنها كما يصف محمود شاكر " قريبة التواصل وشيكة الالتئام".
وأرسلت نذر الاستشراق في بلاد المسلمين إلى أوربا مطالبة إياها بالتحرك قبل فوات الوقت، وكان من هذه الدعوات دعوة الكونت سان بريست سفير فرنسا في الأستانة 1768 - 1778م، والبارون دي توت الذي عاد من تركيا سنة 1776م ناصحاً باحتلال مصر، ومنهم التاجر مجالون الذي أقام في مصر ثلاثين سنة، ثم عاد إلى فرنسا عام 1797م، ثم سرعان ما عاد في ركاب حملة نابليون بعد أن قدم تقريراً ينصح فيه بغزو مصر، لكن هذه الدعوى المتكررة والملحة التي صدرت عن القناصل والتجار المبشرين لم تجد - في بادئ الأمر - صدىً عند ساسة أوربا، وحين قامت الثورة الفرنسية أصاخ نابليون إلى نذر الاستشراق الذين دعوه للقدوم إلى مصر بحجة قمع المماليك الذين أشاعوا مظالم استوجبت غضب العلماء والعامة، وكان بعض علماء الأزهر قد أطفئوا فتنة على المماليك أثارها العامة، فاستتابهم بعض علماء الأزهر من ذلك، لكنهم سرعان ما عادوا إلى ظلمهم وفسادهم. فحضر ومعه المستشرق الذي قضي في بلاد المسلمين أربعين سنة (كليبر) إلى مصر عام 1798م فعاث في مصر الفساد، وتصدى له العلماء وتلاميذهم فأحدث فيهم القتل، وحكى الجبرتي في تاريخه أنه في كل يوم كان يقتل خمسة أو ستة من الثائرين على فرنسا، ويطاف برؤسهم في شوارع القاهرة. وهؤلاء كما يؤكد محمود شاكر هم ورثة حركة النهضة من تلاميذ الجبرتي والزبيدي.
وقد أصاخ الفرنسيون مرة أخرى إلى جيش الاستشراق الذي رافقهم، فادعى قائد الحملة - بعد رحيل نابليون ومقتل كليبر - القائد مينو الإسلام في عام 1800م ( 1215هـ ) وتزوج ابنة أحد أعيان رشيد.
وسرعان ما اضطرت فرنسا تحت الضغط الشعبي للثورة العارمة التي يقودها علماء الأزهر، أن يخرجوا في عام 1801م وهم يحملون أنفس كتب المسلمين، يقول الجبرتي بعد أن عدد أسماء لكتب تاريخ كانت في القاهرة : " هذه أسماء من غير مسميات، فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة بقيت في خزائن الأوقاف بالمدارس مع تداولته أيدي الصحافين، وباعها القومة والمباشرون، ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيون ما وجدوه إلى بلادهم.
وأسلم العلماء المنتصرون قيادة مصر إلى ضابط تركي هو محمد علي ششمة، فغدر بالعلماء ونفى بعضهم وتقرب إليه قناصل الاستعمار، وأصبحوا بطانته وخاصته، فأكملوا بسيفه وخيانته ما عجزت عنه حملة فرنسا، فأغروه بالبعثات العلمية إلى فرنسا، فكان رفاعة الطهطاوي أحد أفراد أول بعثه مصرية استقبلها المستشرق جومار في فرنسا عام 1826م، وصاغها هو وأعوانه من المستشرقين وفق خطتهم لتدمير النهضة الإسلامية.
ثم وقعت الحرب بينه وبين الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربي ولمدة ثمانية أعوام (1226 - 1235هـ ) ( 1811 - 1819م )، وشغل ذلك النهضة الإسلامية عن التكامل والتواصل، وشغلها أيضاً عن مواصلة حركتها العلمية بحمل السلاح والدفاع عن الحرمات والأوطان، وهكذا اتسع الفارق بين الغرب والمسلمين من جديد. (7)
فمن هذه الدراسة الواعية لمحمود شاكر نرى بوضوح تجربة من تجارب الاستعمار، وأنموذجاً من الكيد الاستعماري الذي استمر طوال قرنين من الزمان.
أعمال الاستعمار
وخلال تاريخ الحركة الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي وبقية المستعمرات أظهر المستعمر الغربي صوراً قاتمة كالحة ملؤها الظلم والقهر والاستغلال.
فعلى الصعيد الإنساني ارتكب المستعمرون مجازر بحق الشعوب التي قامت تدافع عن دينها وخيراتها، فقد بلغت أعداد قتلى المسلمين في الهند حتى عام 1880م مليون مسلم سقطوا على يد الإنجليز، ومثله كانت الجزائر بلد المليون شهيد.(38/46)
وكان البرتغاليون قد أحدثوا مجازر عند سيطرتهم على الشواطئ الهندية، ويسجل القائد البرتغالي البوكيرك بفخر بعضاً منه وهو يخاطب ملك البرتغال مهنئاً إياه بالسيطرة على مقاطعة جوا الهندية فيقول : " وبعد ذلك أحرقت المدينة، وأعملت السيف في كل الرقاب، وأخذت دماء الناس تراق أياماً عدة.... وحيثما وجدنا المسلمين لم نوقر معهم نفساً، فكنا نملأ بهم مساجدهم، ونشعل فيها النار، حتى أحصينا ستة آلاف روح هلكت، وقد كان ذلك يا سيدي عملاً عظيماً رائعاً أجدنا بدايته وأحسنا نهايته ".
وفي مدغشقر قتلت القوات الفرنسية ثمانين ألف في ضربة واحدة للثائرين من سكان الجزيرة، فيما أعمل الإنجليز القتل في قبائل ماو ماو الأفريقية، ثم ادعوا أن وحوشاً مفترسة ظهرت في المنطقة وتخطفت الآلاف إلى مصارعهم.
وفي الجزائر يقول الجنرال الفرنسي شان : " إن رجاله وجدوا التسلية في جز رقاب المواطنين من رجال القبائل الثائرة في بلدتي الحواش وبورقيبه ".
ويخط الماريشال سانت أرنو إلى زوجته بعض ما صنعه وجنوده في الجزائر فيقول : " إن بلاد بني منصر بديعة، وهي من أجمل ما رأيت في أفريقيا، فقُراها متقاربة، وأهلها متحابون، لقد أحرقنا فيها كل شيء، ودمرنا كل شيء... أكتب إليك يحيط بي أفق من النيران والدخان، لقد تركتني عند قبيلة البزار فأحرقتهم جميعاً، ونشرت حولهم الخراب، وأنا الآن عند السنجاد أعيد فيهم الشيء نفسه ولكن على نطاق أوسع ".
ويقول مونتياك في كتابه " رسائل جندي " وهو يصف إحدى المذابح التي حضرها : "لقد كانت مذبحة شنيعة حقاً، كانت المساكن والخيام في الميادين والشوارع والأفنية التي انتشرت عليها الجثث في كل مكان، وقد أحصينا في جو هادئ بعد الاستيلاء على المدينة عدد القتلى من النساء والأطفال فألفيناهم ألفين وثلاثمائة، وأما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب هو أننا لم نترك جرحاهم على قيد الحياة ".
وقد بلغ عدد القتلى في مدينة سطيف في مايو 1945م ما يقرب الأربعين ألفاً.
ويشنع الكونت هيريسيون على هذه القبائح التي لا مبرر لها فيقول : " فظائع لا مثيل لها، أوامر الشنق تصدر من نفوس كالصخر يقوم بتنفيذها جلادون قلوبهم كالحجر... في أناس مساكين جُلُّ ذنبهم أنهم لايستطيعون إرشادنا إلى ما نطلب إليهم أن يرشدونا إليه ".
وقد تفنن المستعمرون في طرق إبادة هذه الشعوب، ومما أبدعوه في هذا الباب طريقة يسمونها "جهنم" حيث يتبع الجنود الهاربين من النساء والأطفال والرجال إلى الكهوف فيشعلون عند باب الكهف ناراً عظيمة، فيموت من بداخله حرقاً أو خنقاً ". (8)
وفي جنوب أفريقيا سيطر الاستعمار ففرض القوانين الجائرة والضرائب، ومنح البيض في عام 1913م 88% من أراضي جنوب أفريقيا وفرض على السود دون البيض مصروفات الدراسة، وأمر بأن يدفع كل أسود بين سنة 12 - 65 سنة ضريبة عن نفسه وأخرى عن كوخه.
وقد أضر المستعمرون بمصالح المزارعين حين أمروهم بزراعة بعض المحاصيل دون بعض، ثم شروها منهم بأبخس الأثمان.
ففي عام 1951م باع فلاحو الجزائر قنطار الزيتون بـ 2000 فرنك في حين كانوا يبيعونه قبل دخول فرنسا بـ 5000 فرنك فرنسي.
وأجبر الفرنسيون السكان في أفريقيا الاستوائية على زراعة القطن عام 1955م، ثم باعوه لأربع شركات استعمارية بما ثمنه 72 -60 فرنكاً للكيلو، فيما باعه المستعمرون بسعر 245-285 فرنكاً في مرفأ التصدير.
وقد كان كيلو القطن المستورد في فرنسا يماثل - في مراكش - أربعة مرات كيلو القطن المصدر، وذلك في عام 1938م، ثم ارتفع إلى ست مرات في عام 1949م ومثله يقال في القطن التونسي.
وفي نيجيريا يباع الخشب أكثر من سعره بـ 30 - 40 %، وباعت بلجيكا كيلو زيت النخل في مستعمراتها بـ 110 فرنكاً بدلاً من 75 فرنكا. (9)
وتعترف إحدى مجلات الاستعمار بهذا الاستغلال فتقول : " المستهلكون في البلاد المستعمرة كانوا يتلقون عام 1953م ما يبلغ 80% من مستورداتهم بأسعار أكثر أرتفاعاً بـ 20 - 50% وأحياناً أكثر أيضاً من الأسعار التي كانوا يحصلون عليها لو أتيح لهم أن يستوردوا بضائهم من بلد آخر غير فرنسا. (10)
وفي مظهر آخر للاستعمار وظف المستعمر أبناء جلدته في مؤسسات الدول المستعمرَة، وأبعد أهل البلاد الأصليين، ومن ذلك أن فرنسا وظفت في الجزائر في الدوائر العقارية 200 موظف منهم ثمانية فقط من الجزائريين، فيما لم يبلغ عدد المغاربة في وزارة الشئون الإجتماعية في المغرب سوى أربعة من الحُجَّاب فيما قارب الفرنسيون المائتين والخمسين. (11)
وأجبر السكان الأصليون تحت مظلة المستعمر على العمل بأبخس الأجور، ففي حين كانت الأسعار في الجزائر مقاربة للأسعار في فرنسا كان العامل الجزائري يحصل على 40 - 70 فرنكاً لقاء عمله اليومي، في حين أن العامل الفرنسي يحصل على أكثر من ضعف المبلغ في فرنسا، وقد كان سعر كيلو الخبز يومذاك في الجزائر 48 فرنكاً وكيلو السكر 94، واللبن 25 فرنكاً فيما كان اللحم الردئ يباع الكيلو منه بـ 400 - 500 فرنك فرنسي.(38/47)
وكتب النائب الأسقفي في داكار عاصمة السنغال يشكو الظلم الذي يقع على العمال الذين يسميهم بالمؤقتين والذين يحصلون على أجر شهري يتراوح بين 800 - 1200 فرنكاً في حين أن أحقر كوخ كان يؤجر بـ 3500 فرنك شهرياً إضافة إلى ما يدفعه من ضرائب تصل إلى 1800 فرنك سنوياً. (12)
وقد كان العمال في صفاقص من عمال شركة الفوسفات الفرنسية يسكنون بمعدل 10 عمال في كل كوخ، فيما تحدثت الصحف الفرنسية عن مدينة التنك ( مراكش ) حيث يسكن 200000 من العمال وعوائلهم في بيوت أو أكواخ من التنك أو الخشب الذي يلتقطونه من مخلفات الشحن، وقد تحدثت إحدى الصحف الفرنسية عن القسوة البالغة التي يعيشها العمال المغاربة وعائلاتهم في هذه البيوت من غير توفر أي إجراءات تضمن صحتهم وسلامتهم. (13)
ونتيجة لضعف رواتب العمال في مراكش وانتشار الفقر بأبشع صوره كتب أحد أطباء وادي الداد في جنوب مراكش: " إن الأطفال في هذه البلاد يأكلون التراب. لماذا ؟ أذلك من الفقر أو الجوع أم أنها عادة مجهولة المنشأ ؟ لا أستطيع أن أقول شيئاً، ولكن هذا الواقع ماثل هنا. إن الأطفال يأكلون التراب ويصابون بالأمراض الخطيرة : فقر الدم وتضخم الطحال.... ". (14)
وقد اقتصر غذاء الأسرة المراكشية في الغالب على عدة أقراص من الشوفان، فيما ذكرت إحصائيات فرنسية في عام 1945م أنه " من أصل المليون والثلاثمائة عائلة جزائرية تعيش من الزراعة وتربية المواشي ثمة 800 ألف إلى مليون يجب أن تعتبر عائلات محتاجة ومعوزة ". (15)
وأما المشاريع التي أقامها الاستعمار في البلاد المستعمرة فإنما أقامها لحماية مصالحه " فالجهود المبذولة لكهربة المراكز الثانوية والريفية يجب أن يكون مفهوماً أن التجهيزات المنتظرة إنما يجب أن تقتصر فقط على المشروعات ذات الدخل المضمون.
أما برنامج النقليات فعليه أن يقتصر في الدرجة الأولى على إنشاء وسائل النقل وطرق المواصلات المرتبطة مباشرة بأهداف الانتاج المعينة في المشروع والتي تؤلف على كل حال أحد العوامل الجوهرية لنجاحه ".(16)
ورغم الاستغلال الواسع للموارد الطبيعية والقوى البشرية فإن المستعمر لم يقدم أبسط الخدمات الإنسانية وهي الصحة والتعليم ففي الجزائر التي اعتبرتها فرنسا جزءً منها لم يستطع سوى 12% من أطفال الجزائر ممارسة عملية التعلم، وانخفضت النسبة في مراكش إلى 10%، وفي أفريقيا الغربية إلى 7.6 %، وفي تشاد إلى 4.7%، فيما ارتفعت في أفريقيا السوداء إلى 18% من أطفال تلك البلاد.
ويخلص هنري كلود إلى أن نسبة التعليم في المستعمرات الفرنسية جملة لا يتجاوز 9 % من أطفال المستعمرات الفرنسية. (17)
وأما الخدمات الصحية فجرى تأمينها في المناطق التي ينتشر فيها الفرنسيون فيما كان لكل 10000 جزائري طبيب واحد، وتصل هذه النسبة في الأقاليم الجنوبية للجزائر إلى 30000/1، وفي مراكش 45000/1 فيما لكل 50000 شخص في غينيا طبيب واحد.
ونتيجة لذلك ارتفعت نسبة الوفيات بين الأطفال في المستعمرات عنها في البلاد المستعمِرة أو بين المستعمِرين، ففي حين يموت من أطفال الأوربيين في الجزائر ما نسبته 5.4 % يموت من أطفال الجزائر 18%، وفي تونس يموت للأوربيين من أطفالهم ما نسبته 5.9% فيما يموت للتونسيين ما نسبته 19.3% فيما تصل النسبة في بعض مناطق أفريقيا الريفية إلى 60%، وكتب الدكتور بريسو مقرر ميزانية الصحة عام 1954م في الجزائر أن من بين 120 مريضاً يراجعون عيادة السل في مستشفى مدينة الجزائر لا يلقى العناية منهم سوى 30. أما الباقون فأسلموا إلى الموت. (18)
وننبه أخيراً إلى أن كل ما سمعناه عن الاستعمار الفرنسي مما سطره لنا هنري كلود ورفاقه ينطبق تماماً على الاستعمار البريطاني والإيطالي والبرتغالي وسوى ذلك من جنسيات الاستعمار الأخرى.
المبحث الثاني : التبشير
التبشير لفظة مشتقة من بشر بمعنى فرح وتهلل، ومنه البِشَارة، وهي الخبر السار الذي لايعلمه المخبَر، والبُشرى هي ما يبشَّر به أو ما يعطاه المبشَّر.
والتبشير بالمعنى الاصطلاحي يطلق على دعوة النصارى الآخرين إلى النصرانية. (19)
ويزعم النصارى أن هذا الأمر صدر لهم من المسيح حين قال : " فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " ( متى 28/20 ) فيزعم النصارى أنه بموجب هذا الأمر كان لابد لهم أن يسيروا لتبليغ النصرانية إلى الأمم. وهكذا خرج دعاة النصرانية يكرزون الأمم، وانتشرت النصرانية في ربوع أوربا، كما انتشرت في بعض مناطق أفريقيا كالحبشة ومصر.
ولما ظهر الإسلام دخلت الأمم في دين الله أفواجاً، ودخل الإسلام إلى مهد النصرانية في بلاد الشام ثم مصر ثم آسيا الصغرى، ثم بعد حين توقف عند أبواب فرنسا.
وطوال قرون عديدة تواصلت الحروب الصليبية تروم العودة إلى البلاد المباركة، ولكن من غير فائدة أو جدوى.(38/48)
وقد اتجه المبشرون إلى العالم الإسلامي خلال سنين طويلة متباعدة، وكان أرخبيل أندنوسيا هو باكورة النشاط لهم حيث وصل المبشر المشهور فرنسيسكوس اكسافيريوس في 1546م، ثم تتابع المبشرون مع وقوع البلاد تحت الاستعمار البرتغالي ثم الهولندي ثم الإنجليزي.
وقد كان الجهد المبذول في تبشير أندنوسيا عظيماً، فقد وصل عدد الكهنة الكاثوليك عام 1973م إلى130 كاهناً، ويضاف إلى ذلك 22 أبرشية، 9 هيئات للرهبان والراهبات، و33 مطرانية، فيما وصل عدد الكاثوليك إلى مليون وربع كاثوليكي. (20)
وفي القرن الثامن عشر توافدت البعثات التبشيرية على أراضي الخلافة العثمانية مستغلة ضعف الدولة العثمانية واقتسام ممتلكاتها، حيث وضعت بلاد المسلمين تحت الاستعمار بأنواعه المختلفة.
وقد تجمعت فلولهم في مالطة عام 1815م ( 1213هـ ) ووضعوا برامج للتبشير في الدول العربية استجابة لبرنامج إنجليزي اسمه " مشروع تنصير بلاد البحر الأبيض المتوسط " وأرادوا من خلال انتشارهم في الشرق الإسلامي تعويض الخسارة التي لحقت بالكنيسة في أوربا أمام موجة الحضارة الجديدة الناشئة في الغرب. (21)
ففي عام 1830 غزت فرنسا الجزائر، وقد صحب الجنرال الفرنسي بورمنت ستة عشر قسيساً، وقال لهم بعد سقوط مدينة الجزائر : " إنكم أعدتم معنا فتح الباب للنصرانية في أفريقيا، ونأمل أن تنبع قريباً الحضارة التي انطفأت في هذه الربوع.
فيما وصل أول المنصرين إلى السودان عام 1265هـ ( 1848م ) بأمر من البابا جريجوري السادس، وكان قد أمر عام 1263هـ بإنشاء نيابة أفريقيا الوسطى الرسولية. وكانت الإرساليات التبشيرية قد زعمت أنها أتت لمحاربة تجارة الرقيق التي استشرت في أوربا، ورأت أن الوسيلة المثلى للقضاء عليها هي تتبعه في أماكن تصديره كما نص على ذلك مذكرة بوكستن المقدمة للحكومة البريطانية عام 1254هـ.
وقد مني التبشير والاستعمار بنكسة كبيرة بسبب ثورة المهدي 1302هـ فقتل الجنرال غوردون، وعلقت لجنة إدارة الإرساليات نشاطها في السودان، ثم عادت مع عودة الجيش البريطاني بقيادة كتشنر.
وقد عمل المستعمر البريطاني على تقسيم السودان أمام الإرساليات التبشيرية إلى قسمين: أولهما: القسم الشمالي وهو منطقة شبه محرمة يمنع العمل التبشيري فيها إلا في حدود ضيقة، وقد سمح للمبشرين بالاهتمام بتحرير العبيد ودعوة الوثنيين. ثم سمح لهم بإقامة مراكز طبية في الخرطوم، والذي دفع المستعمر البريطاني لهذا التضييق هو خشيتهم من ثورة مشابهة لثورة المهدي في القسم الشمالي المسلم.
وأما القسم الثاني فهو جنوب السودان، وقد فتحت أبواب التبشير فيه على أكمل وجه، وتقاسمته الإرسالية البريطانية والأمريكية، وكان العمل في جنوب السودان على مرحلتين : أولاهما: التخلص من الوجود الإسلامي بمحاربة العرب ولغتهم وإبعادهم بواسطة أوامر إدارية (من المستعمر) تنقل الموظفين المسلمين إلى الشمال المسلم، كما منعوا وصول التجار المسلمين إلى الجنوب، وشجعوا اللغة الإنجليزية على حساب العربية.
وتنفيذاً لهذا كله قامت الكنيسة بفصل أسقفية الجنوب عن مصر وشمال السودان في عام 1345هـ، وألحقت بهذه الأسقفية الجديدة ( أسقفية أعالي النيل ) كنيسة أوغندا، ورسم أول أسقف سوداني في الجنوب عام 1955م، وهو الأسقف دانيال ينج. (22)
وفي مصر تحولت الإرساليات التبشرية عن العمل في كثلكة الأرثوذكس إلى تنصير المسلمين بعد وصول القوات البريطانية عام 1300هـ، وفي عام 1320هـ ( 1902م ) أجاز المؤتمر العام للكنيسة المسيحية بمصر مشروع تنصير المسلمين، وقد أكد مؤتمر القاهرة 1324هـ على " أن الهدف الأساسي للإرسالية في مصر هو إقامة كنيسة وطنية من المسلمين المتنصرين " وقد أصبحت هذه السياسة أكثر وقاحة بعد القضاء على الثورة 1339هـ، ويؤكد المبشر مارسون التابع للكنيسة البريطانية ( 1346هـ ) هذا الاتجاه ويبين أن سببه فشو الإسلام بين الأقباط، فيقول : " تؤكد الاحصائيات حتى في هذه السنين بأن الذين يتحولون من الكنيسة القبطية للإسلام لايقلون عن خمسمائة قبطي سنوياً ". (23)
وفي سوريا بدأ التبشير خارج إطار النصارى بعد دخول الاحتلال الفرنسي، حيث دخل الفرنسيون إلى جبال العلويين ، واستكتبوا رجلاً يدعى محمد تامر زعم أن قبائل العلويين من أحفاد الصليبيين، وقد تنصرت اثنتان وعشرون أسرة ( قرابة 80 شخصاً )، وعمدوا في جنينة ( حديقة ) رسلان في أغسطس عام 1930م.
ثم ذهب الأب شانتور رئيس الجامعة الأمريكية بعد ذلك بشهرين مع خمسة من المبشرين، وأسسوا ثلاث مراكز للتبشير في المنطقة. وكانت فرنسا والولايات المتحدة قد وقعتا في عام 1924م اتفاقاً يسهل عمل المؤسسات التبشيرية ويمنع تقييد عملها في المناطق المحتلة من قبل فرنسا. (24)
المبحث الثالث : العلاقة بين التبشير والاستعمار
ويطرح السؤال نفسه هل ثمة علاقة بين العلاقة الاستعمارية والحركة التبشيرية ؟ وهل من الممكن أن يلتقي الجنود القساة الذين يقتلون الأبرياء ويسرقون قوت الشعوب هل من الممكن أن يلتقي هؤلاء مع الذين أمروا بمحبة أعدائهم ومباركة لاعنيهم (انظر متى 5/44)؟(38/49)
وما الذي يجمع المبشر وهو يحمل رسالة دينية مع المستعمر الذي يحمل رسالة دنيوية ؟ وهل اللقاء بين الجانبين مجرد لقاء عابر فرضته ظروف وحدة المنشأ بين التبشير والاستعمار (أوربا) أمر أن هناك علاقة حقيقية تجمع هاتين الحركتين ؟
وفي الإجابة عن هذا كله نقول بأن التبشير والاستعمار وجهان لعملة واحدة، فالمبشرون هم الواجهة الدينية للمستعمر، والاستعمار هو الحقيقة الاقتصادية والسياسية للمبشرين.
وهذا الأمر يتضح عند دراسة العلاقة الحميمة بين الحركتين اللتين تزامنتا طوال التاريخ المسيحي، بل إن الحروب الصليبية التي شنت على العالم الإسلامي طوال قرون طويلة هي حلقة من سلسلة الترابط والوحدة بين التبشير والاستعمار، فلقد قام ملوك أوربا بتلك الحروب بمباركة الكنيسة، ولبى الأوربيون نداء الملوك لهذه الحروب طمعاً في الملكوت الذي وعدهم به بابوات الكنيسة.
وقد بدأت خطوات الاستعمار تدب من جديد مع بداية حركة الكشوف الجغرافية التي قادها الأسبان والبرتغال، وانطلقت سفنهم تمخر البحار وهي ترسم على أشرعتها شعار الصليب.
وقد أصدر البابا نيقولا الخامس مرسوماً في عام 1454م يعطي البرتغاليين حقاً في أراضي حقاً في أراضي الكفرة على الساحل الغربي لإفريقيا، وأكد ذلك البابا كالكستس الثالث عام 1456م، ثم أصدر البابا اسكندر الثالث في عام 1493م مرسوماً يمنح التاج الأسباني الحق المطلق في المتاجرة مع البلاد التي اكتشفت، ووضع قيداً، وهو أن تجلب تلك الشعوب إلى المسيحية. (25)
ومن جانب آخر فإن الحركة التبشيرية وليدة أطماع استعمارية صليبية، وقد وضع أسسها الملك لويس التاسع حينما كان في سجن المنصورة فكتب داعياً إلى " تحويل الحملات العسكرية الصليبية إلى حملات صليبية سلمية تستهدف الغرض نفسه، لا فرق بين النوعين إلا من حيث نوع السلاح المستخدم في المعركة.... تجنيد المبشرين الغربيين في هذه المعركة السلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنوياً، واعتبار هؤلاء المبشرين في تلك المعارك جنوداً للغرب.
وقد أجاب المبشرون إلى هذه الحرب الصليبية الجديدة فيقول القس مييز : " إن الحرب الصليبية الهادئة التي بدأها مبشرونا في القرن السابع عشر لا تزال مستمرة إلى أيامنا هذه ".
ويقول اليسوعيون " ألم نكن نحن ورثة الصليبين... أولم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرب التبشيري والتحدي المسيحي... وهكذا تستطيع الكنيسة المسيحية بلا حرب أن تسترد تلك المناطق التي خسرتها منذ أزمان طوال ". (26)
وقد عمل الكثيرون من رجال الكنسية تحت مظلة الاستعمار، وداروا في فلكه، فقد تولى الراهب دولا فورست طلب الامتيازات للفرنسيين من الباب العالي، وكان أول سفير لفرنسا في الأستانة عام 1583م، كما عين الأمريكيون المنصر ناثان قنصلاً للولايات الأمريكية بالإنابة في طنجة، وعين المنصر تاهنسال قنصلاً للنمسا في الخرطوم سنة 1293هـ، وكان المنصر لا فيجري الفرنسي رئيساً للبعثة المرافقة للجيش الفرنسي المحارب في القرم، وتولى المنصر جون فان أيس خلال الحرب العالمية الأولى أمر القنصلية الأمريكية في البصرة. (27)
وقد أكد المستعمرون على أهمية عمل المبشرين، وصرحوا بالمهمات المنوطة بهؤلاء الرهبان فقال نابليون الأول في جلسة مجلس الدولة عام 1804م : " إن في نيتي إنشاء مؤسسة الارساليات الأجنبية، فهؤلاء الرجال المتدينون سيكونون عوناً كبيراً لي في آسيا وأفريقيا وأمريكا، سأرسلهم لجمع المعلومات عن الأقطار. إن ملابسهم تحميهم وتخفي أية نوايا اقتصادية أو سياسية ".
ولما عقد مؤتمر الكنائس المسيحية في سالونيك باليونان (1959م) أكد المؤتمر على مساهمة الكنائس للجاسوسية لحساب المستعمر، فطالب "الكنائس في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أن تراقب خطة التنمية، فتميز بين ما يتفق وإرادة الله وبين عمل الشيطان ".
وفي مؤتمر دلهي (1961م) قالوا "الكنيسة يجب أن تكون متأهبة للصراع مع الدولة في أي وطن،وتحت أي نظام سياسي".(28)
وينقل المبشر جاك مندلسون قول ملك فرنسا " الدين ضروري لكل الناس، لكنه أكثر ضرورة في المستعمرات الآهلة بالعبيد التي لايمكن أن تحوي أملاً في حياة أفضل إلا بعد الموت" فالدين يستعمله هؤلاء الساسة في تخدير الشعوب، وليكون مطية يحكمون من خلالها الخناق على الشعوب.
وينقل القس المبشر مندلسون ثانية شعور المستضعفين الذي سرقت بلادهم وثرواتهم من قبل تحالف الاستعمار والتبشير فيقول: " إن المبشرين جاءوا إلينا وقالوا : إننا نريد أن نعلمكم العبادة، وقلنا: حسناً. إننا نريد أن نتعلم العبادة. وطلب المبشرون منا أن نغلق أعيننا، وفعلنا ذلك، وتعلمنا التعبد، وحينما فتحنا أعيننا وجدنا الإنجيل في يدنا، ووجدنا أراضينا قد اغتصبت".
ثم يواصل مندلسون فيقول " لقد تمت محاولات نشيطة لاستعمال المبشرين، لا لمصلحة المسيحية، وإنما لخدمة الاستعمار والعبودية "(38/50)
يقول رئيس الأساقفة لونز ماركس في عام 1960م عن نشاط الإرساليات الذي يديره في موزمبيق : " إن النشاط الإرسالي يمنح البرتغال فخراً في المنظمات العالمية السامية، ويكون سنداً قوياً للسيادة البرتغالية ". (29)
ومن المهمات التي أداها التبشير للاستعمار تجميل صورته القبيحة التي رسمها بظلمه وجبروته عند الناس يقول رينيه بوتيه في كتابه " الكاردينال لا فيجيري " : " إن العمل الوطني الذي قام به لافيجيري بدأ مع عمله التبشيري، بدأ بنشره على السوريين تلك العطايا التي تمنحها الكنيسة الكاثوليكية، إنه جعل فرنسا محبوبة ( لدى السوريين )، وأضاف إلى الحقوق القديمة التي كنا نملكها نحن الفرنسيون على تلك المنطقة حقوقاً جديدة.... في الجزائر استطاع أن يهب كل ما في استطاعته لإظهار حبه لفرنسا.... أراد لافيجري أن يحبب فرنسا إلى الناس باسم المسيح ". (30)
ويقول القس سيمون في مؤتمر لكنو في الهند ( 1911م ) : " إن العامل الذي جمع هذه الشعوب ( الإسلامية ) وربطها برابطة الجامعة الإسلامية هو الحقد الذي يضمره سكان البلاد للفاتحين الأوربيين، ولكن المحبة التي تبثها إرساليات التبشير النصرانية ستضعف هذه الرابطة، وتوجد روابط جديدة تحت ظل الفاتح الأجنبي ". (31)
وقد كان إغراء الساسة ببلاد المسلمين واستعمارها أحد أعمال المبشرين، يقول المبشر إشعيا بولمان في مجلة " العالم الإسلامي " بأن الخوف من الإسلام ينبغي أن لا ينساه الغربيون، ذلك أن الإسلام كما يقول إشعيا بومان يتسع دائماً متسلحاً بالجهاد، وما من أمة حاولت قهره إلا وخسرت أضعاف ما خسر، ولذا فهو يقترح اتفاق فرنسا وبريطانيا على سياسة السيطرة على الشواطئ الإسلامية حتى تصل بسهولة الإمدادت العسكرية.
وهذا ما صنعه الإيطاليون حين جاءوا إلى ليبيا، وغيرهم فعل مثله عند احتلالهم بلاد المسلمين.(32)
والذي دفع حركة التبشير إلى التفاني في خدمة الاستعمار والتمكين لهم إيمانهم بأن نجاح التنصير متوقف على نجاح الاستعمار وبقائه، وهو ما عبر عنه المنصر لورانس براون حين قال " لم يحدث انتقال واسع من الإسلام إلى النصرانية في قطر ما إلا بعد أن يخضع ذلك القطر لحكومة غربية مسيحية ". (33)
ولما وقع التنافس بين المستعمرين وتضاربت مصالهحم؛ انعكس ذلك على الآباء المبشرين الذين كانوا في الحقيقة جنوداً مدنيين للاستعمار، فوقع بين المبشرين الفرقة، ودب بينهم ما بين الساسة من تخالف وتنافس، كما حصل بين الإرساليات التبشيرية في لبنان والتي كان كل منها يتبع دولة استعمارية معينة، ولذا أيضاً استأصلت انجلترا وفرنسا جميع المبشرين الألمان من مناطق نفوذهما، ولم تسمح انجلترا في وقت لاحق لغير مبشريها بالعمل في مناطق نفوذها إلا حين الحصول على إذن مسبق.
يقول المبشر هنري جب : " إن المبشرين استغلوا جهودهم لخدمة دولهم. (34)
وفي المقابل فإن المستعمرين ردوا الجميل للمبشرين بأن فتحوا لهم البلاد على مصاريعها فيقول بوجو سكرتير الحاكم الفرنسي في الجزائر مخاطباً القس سوشيه الوكيل العام لأسقف الجزائر: " إن آخر أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عاماً لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا الشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشك على أية حال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد.
أما العرب فلن يكونوا ملكاً لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعاً ". (35)
ولم يكتف المستعمرون بالكلام ودغدغة العواطف، بل شرعوا يصدورن المراسيم والقوانين التي تسهل عمل المبشرين، ففي عام 1900م أمر الاستعمار البريطاني لكينيا أن يكون التعليم في العاصمة ممباسا إجبارياً، وتولت البعثات التبشيرية تعليم الطلاب في ممباسا حيث افتتحوا أربعة مدارس ابتدائية، ثم أسندت السلطات لهؤلاء المتعلمين في مدارس التبشير وظائف رسمية حكومية بحجة أنهم متعلمون.
وفي عام 1930م أقيم مؤتمر كنائس في قرطاجة بمناسبة مرور 1600 سنة على موت القديس أوغسطينوس، وأجبرت تونس على قبول ذلك المؤتمر على أراضيها المستعمرة من قبل فرنسا حينذاك، دفع التونسيون من خزينتهم على مليوني فرنك فرنسي، وحين ثار المسلمون على عقد هذا المؤتمر في بلد إسلامي تولت الجيوش الاستعمارية الفتك بالشباب الثائرين، وزجت بهم في السجون.
وفي عام 1931م أصدر شوفلر مسئول فرنسا في بلاد العلويين قراراً يسهل الانتقال إلى النصرانية، فسهل الإجراءات أمام المتنصرين، وجعل ذلك يتم في جلسة لمحكمة عادية، وألغى الإجراءات المعقدة التي كانت قائمة حينذاك. (36)
وفي الجزائر دفع القائد الفرنسي روفيجو بأجمل مساجد الجزائر ليحوله إلى كادرائية الجزائر ويتحدث القس سوشيه الوكيل العام لأسقف الجزائر في كتابه " رسائل مفيدة ومشوقة عن الجزائر" فيقول واصفاً الجنرال الفرنسي فاليه : " إنه يرغب أن يستتب الدين المسيحي، وأن يحترمه الجميع إنه يريد أن يضاعف من عدد الصلبان والكنائس في الجزائر. إن مولاي - الملك - يستطيع أن يفعل ما يشاء مع رجل مثل المسيو فاليه الذي اختار أجمل مسجد في قسطنطينة ليجعل منه أجمل كنيسة في المستعمرة ". (37)(38/51)
ولم تتوقف العلاقة بين حركتي التبشير والاستعمار عند نقطة المصالح المشتركة بل إنا نجد أن الأخلاقيات السيئة للاستعمار من قتل وبطش قد حصلت بمباركة وأحياناً بمشاركة رجال الكنيسة.
ويقول المسيو أوجين يونج وكيل حكومة التونكين الفرنسية في كتابه " استعباد الإسلام - الحرب الصليبية الجديدة " بأن بابا الفاتيكان يخطط دون ملل وكلل لحروب صليبية جديدة.
كما أن النظرة الاستعمارية الفوقية للشعوب المستعمرة هو أمر آخر تأثرت به حركة التبشير، وفي ذلك يقول ستيفن نيل : " في القرن التاسع عشر خضع المبشرون إلى العقد الاستعمارية التي تقول بأن الرجل الغربي فقط هو الإنسان بكل ما تعنية هذه الكلمة ... فحتى عام 1914م لم يكن لدى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أي أسقف من أصل غير أوربي - سوى أربعة -.... طالما كان الجنس الأبيض في استطاعته أن يقدم مورداً لا ينضب من الأساقفة فإنه لا يمكن أن يوجد رجل واحد من الأجناس الصفراء والحمراء والبنية والسوداء يستطيع حمل ثقل الأسقفية ". (38)
وقد كان محاربة الإسلام هدفاً أصيلاً للمستعمر، ومن صوره ما ذكره الكاتبان الفرنسيان كوليت وفرانسيس جانسون فقالا : " لعل العبث بالدين الإسلامي كان هو المجال المفضل لدى القائد الفرنسي في (الجزائر) روفيجو، فقد وقف هذا القائد الفاجر، ونادى في قومه : إنه يلزمه أجمل مسجد في المدينة ليجعل منه معبداً لإله المسيحيين، وطلب إلى أعوانه إعداد ذلك في أقصر وقت ممكن " ثم أشار إلى جامع القشاوة، فحولوه إلى كنيسة بعد شلالات من الدم، وسمي "كادرائية الجزائر ". (39)
ومن أعمال المستعمر أيضاً إيجاده للفرق الإسلامية الضالة ورعايته لها، فالقاديانية والبهائية نشأتا في ظل الاستعمار ولتحقيق أهدافه، فقد نشأت القاديانية في الهند إبان الاستعمار الإنجليزي 1901م، وكان من أهم دعاوى غلام القادياني المتنبئ الكذاب أن زعم بوجوب موالاة الإنجليز وتحريم قتالهم وإبطال الجهاد بعد أن كانت حركة ابن عرفان الشهيد قد أقضت مضاجعهم عام 1842م، فكتب غلام قاديان في مقدمة كتابه " ترياق القلوب " يقول : " لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الإنجليز من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة ".
ولما أراد أحمد خان بهادر ( من الهند ) أن يتقرب إلى المستعمرين الإنجليز كتب في عام 1862م كتاباً تحدث فيه عن أصالة الكتب المقدسة عند النصارى وعدم تحريفها، ثم نادى بالإلحاد، وكتب تفسيراً للقرآن ملأه بالتحريف والتخريف، ثم بنى مدرسة سماها مدرسة المحمديين تغريراً بالمسلمين.
وظهرت البهائية في حين سيطرة الروس على شمال إيران، ولما قتل الباب عام 1266هـ، ظهرت البهائية على يد تلميذ الباب،وما تزال إلى هذا اليوم برعاية دولة إسرائيل،ولها مركز في مدينة حيفا المحتلة. (40)
وعلى هذا المنوال نسج المستعمرون في كل بلد نزلوا فيه، فاثاروا الفتن الداخلية والدعوات الشعوبية أو القبلية أو المذهبية بغية تمزيق الأمة وإضعاف وحدة الشعوب المغلوبة لتحقيق أكبر المكاسب الممكنة. (41)
ولدى خروج المستعمر من بلاد المسلمين سلم مقاليد الأمور إلى أصحاب الولاءات المختلفة، ففي الهند التي حكمها المسلمون عشرة قرون، وعملوا سنين طويلة على طرد المستعمر وبذلوا في ذلك الغالي، ولما تحقق الاستقلال عام 1947م أسلم الإنجليز مقاليد السياسة والجيش والتعليم إلى الهندوس ليبدأ هؤلاء في إذلال وتجهيل المسلمين.
وفي عام 1948م أعطى الإنجليز أرض فلسطين للعصابات اليهودية لتؤسس ما يسمى اليوم بدولة إسرائيل، فيما ألحقت جزيرة زنجبار المسلمة بدولة تنزانيا النصرانية.
كما قد حرص المستعمرون على إفساد الحياة الدينية والاجتماعية للمسلمين وهو ما عبر عنه نابليون في رسالته إلى نائبه في مصر كليبر حيث يقول :" كنت قد طلبت مراراً جوقة تمثيلية، وسأهتم اهتماماً خاصاً بإرسالها لك، لأنها ضرورية للجيش، وللبدء في تغيير تقاليد البلاد "، كما طلب إليه في نفس الرسالة أن يجمع 500 أو 600 شخص من المماليك أو العمد أو المشايخ وأن يرسلهم إلى فرنسا " يحجزون لمدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر يكون لنا فيهم حزب يضم إليه غيرهم ". (42)
ولما دخل الفرنسيون لبنان فتحوا خمسين حانة لشرب الخمر وعدداً كبيراً من بيوت الدعارة، ففشى السكر والدعارة إلى حد لم يكن معهوداً من قبل. (43)
كما عمل المستعمرون في البلاد التي احتلوها على القضاء على اللغات الوطنية، وخصوا العربية بمزيد من حربهم، فقد فرضت فرنسا اللغة الفرنسية في مستعمراتها خاصة الجزائر، فيما شجعت إنجلترا اللغة الإنجليزية في جنوب السودان على حساب العربية.(38/52)
وفي مصر فرض نابليون وجلادوه الضرائب في مصر، وينقل الجبرتي في تاريخه صوراً لما صنعه الفرنسيون فيقول : " دخل الافرنج ( الفرنسيون ) المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع لايجدون لهم ممانع، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس... ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفوقوا ( أي قاءوا ) بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهّارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها.
وأحدثوا فيه وتغوطوا، وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه ". (44)
وفرض نابليون الضرائب على المصريين فكان لكل شيء ضريبة، فعلى المولود ضريبة، وعلى الميت ضريبة، وكل ما كان بينهما من معاملات رسمية عليها ضرائب.
كما تحدث الجبرتي عن سرقة أموال المماليك ونهب قصورهم وبيع الأمان لمن بقى من نسائهم بأعلى الأثمان، وكان منهن من اشترت الأمان مرات ومرات، ولما كثر سطو الفرنسيين على المتاع والدواب اشترى بعضهم الأمان لدوابهم وثيرانهم، وقد طلب نابليون من أعضاء الديوان الذي شكله من المصريين ليحكم من ورائه طلب منهم أن يجمعوا له سلفة من التجار تبلغ 500 ألف ريال، دفعها التجار بالقوة، ثم ما لبث بعد يومين فقط أن طلب مبالغ أخرى يعجز عنها هؤلاء المساكين ففعلوا الأفاعيل وسرقوا ما في الدكاكين والبيوت....... (45)
وهكذا نصل إلى نهاية مطافنا، وأجدني مضطراً للاعتذار للقارئ الكريم عما سببته له من كآبة وألم وضجر، لكنها جميعاً لا تعدل دمعة واحدة من أنهار الدموع، بل والدماء التي سببها الاستعمار البغيض لبلادنا، والله نسأل أن يكشف كروبنا، وأن يزيح الهمَّ عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قائمة أهم المصادر والمراجع
* أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها. ط1. دار القلم. بيروت. دمشق، 1395هـ.
* الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي. هنري كلود و اندريه برينان و ايف لاكوست. ترجمة : محمد عيتاني مكتبة المعارف. بيروت.
* الاستعمار. أحقاد وأطماع. محمد الغزالي. ط2. الدار السعودية للنشر. جدة، 1389هـ.
* الإسلام والتحدي التنصيري. عمر بابكور. معهد البحث العلمي. جامعة أم القرى، 1407هـ.
* التبشير والاستشراق، محمد عزت الطهطاوي، ط1، الزهراء للإعلام العربي، 1411هـ.
* التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مصطفى خالدي وعمر فروخ، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، 1983م.
* حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر. أحمد عبد الوهاب. ط1. مكتبة وهبة، 1401هـ.
* رسالة الطريق إلى ثقافتنا، محمود شاكر، دار المدني، جدة، مكتبة الخانجي، مصر، 1407هـ.
* العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والإجتماعي والثقافي، أنور الجندي ط1، دار المعرفة، 1970م.
* غارة تبشيرية جديدة على أندنوسيا، أبو هلال الأندنوسي، ط3، دار الشروق، جدة، 1399هـ.
* الغارة على العالم الإسلامي. أ. ل. شاتليه. تاخيص وتعريب : محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ط4. الدار السعودية للنشر والتوزيع. جدة، 1405هـ.
* الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، محمد البهي، ط4، مكتبة وهبة، القاهرة، 1384هـ.
* المسيحية، أحمد شلبي، ط10، مكتبة النهضة المصرية، 1993م.
* المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، ط2، دار الفكر.
* ملامح عن النشاط التنصيري في الوطن العربي، إبراهيم عكاشة، إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1407ه
================(38/53)
(38/54)
التوضيح لإفك الأحمدية القاديانية في زعمهم وفاة المسيح
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد ابتليت بالاطلاع على رسالة صغيرة الحجم عظيمة الضرر عنوانها : ( وفاة المسيح بن مريم والمراد من نزوله ) ، وعلى غلافها صورة مزعومة لقبر عيسى عليه السلام في سري نغر بكشمير الهند ، من نشر الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية ( القاديانية ) .
والحق أنه لم يكن بي حاجة إلى الرد على شيء من مؤلفات هذه الفرقة المارقة لانكشاف أمرها، وسقوط شبهها ؛ لولا أن كتبها ورسائلها تنتشر في بعض البلاد، ويخشى أن يتأثر بها أحدٌ ممن ضعفت صلتهم بالعلم الشرعي.
وقد رغب بعض الأحبة في إجراء القلم ببيان ضلالهم وإفكهم في هذه الرسالة .
فاستعنت بالله تعالى على ذلك، وهو المسئول أن يرفع منار الحق وينصر أهله وأن ينكس أعلام أهل الضلال ويخمد نيرانهم ويقي المسلمين شرهم .
وقبل افتتاح الرد يجدر التنبيه على أن هذه الفرقة الأحمدية ( القاديانية ) فرقة ضالة كافرة بإجماع علماء المسلمين، وقد صدرت بذلك فتاوى متعددة من عدد من المجامع والهيئات الشرعية في العالم الإسلامي، ومنها : المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، هذا عدا ما صدر من فتاوى علماء مصر والشام والمغرب والهند وغيرها .
وإذا كان الأمر كذلك فإن من الواجب عدم الالتفات إلى شيء من مؤلفاتهم أو الاشتغال بها، بل الواجب إتلافها والتحذير منها ومن أهلها؛ حماية لحياض الدين ، وقياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تمهيد :
إن مما يسعى إليه الأحمدية جهدهم إثبات أن النبي الكريم عيسى عليه الصلاة والسلام قد مات، ولهم في ذلك غرض سيء؛ وهو أنه إذا تم إيهام ذلك فإنه سيسهل عليهم ادعاء أن الأحاديث التي وردت بنزوله عليه السلام المقصود بها بعثة المتنبىء القادياني الكذاب، كما أن المهدي المنتظر إنما هو عيسى بن مريم، فيتحصل من هذا وذاك أن القادياني هو عيسى بن مريم والمهدي المنتظر أيضاً .
وقد صرحت الرسالة المشار إليها بذلك إذ جاء فيها ص6: ( فالمراد من نزول عيسى بن مريم بعثة رجل آخر من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم يشبه عيسى بن مريم في صفاته وأعماله وحالاته، وقد ظهر هذا الموعود في قاديان الهند باسم: ميرزا غلام أحمد ... إماماً مهدياً وجعله الله مثيل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، فكان هو المسيح الموعود والإمام المهدي للأمة المحمدية الذي وعد رسول ا صلى الله عليه وسلم ببعثته قائلا: ( لا المهدي [كذا، والصواب : مهدي] إلا عيسى ) ابن ماجه، كتاب الفتن ) اهـ .
قلت: إن من الضلال البيِّن والخطأ الواضح اعتقاد أن عيسى عليه السلام هو المهدي المنتظر، والحديث المذكور لا يصح، بل هو حديث منكر، حكم بنكارته جمع من الأئمة، منهم النسائي والذهبي والألباني، وضعفه الحاكم والبيهقي والقرطبي وابن تيمية، بل حكم بوضعه الصغاني. انظر: منهاج السنة 8/256، والصواعق المحرقة للهيتمي 2/476، والسلسلة الضعيفة (77)
ويحسن قبل مناقشة القاديانية في هذا الموضوع التقديم بذكر شيء من عقيدة المسلمين قاطبة فيما يتعلق برفع عيسى عليه السلام ونزوله .
فأقول : يعتقد المسلمون بما تضمنته الآيات والأحاديث المتواترة بأن المسيح عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إلى السماء، وأنه باقٍ حياً فيها إلى قرب قيام الساعة، إذ سينزل إلى الأرض فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويحكم بالشريعة المحمدية، ثم يموت - عليه السلام - كسائر البشر .
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن عطية رحمه الله (ت542هـ) إذ قال في تفسيره المحرر الوجيز3/143: ( أجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى في السماء حي، وأنه سينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل وتظهر به الملة - ملة صلى الله عليه وسلم - ويحج البيت ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة وقيل أربعين سنة ).
ويقول السفاريني (ت 1188هـ) في كتابه لوامع الأنوار 2/94-95 : ( فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس ينزل بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء ).
ويقول العظيم أبادي في كتابه عون المعبود 11/457 : ( تواترت الأخبار عن صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى بن مريم r من السماء بجسده العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ) .
وكلام أهل العلم في هذا مستفيض، ولولا خشية الإطالة ورغبتي أن تكون هذه الرسالة وجيزة المحتوى لحشدت من تلك النقولات الشيء الكثير .(38/55)
ويراجع للأهمية كتابا: التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح للشوكاني، و: التصريح بما تواتر في نزول المسيح، لمحمد أنور شاه الكشميري .
أما عن إفك القاديانية في هذه الرسالة؛ فإن خلاصتها: مقدمتان ونتيجة.
أما المقدمة الأولى: فهي أن عيسى عليه السلام قد مات، وأن رفعه بجسده حياً خرافةً لا حقيقة لها.
وأما المقدمة الثانية: فهي أن الأحاديث الواردة في نزوله عليه السلام ليست على ظاهرها، بل هي مؤولة.
أما النتيجة: فهي أن المراد من نزوله: خروج مثيله وشبيهه، وذلك هو ميرزا غلام أحمد القادياني.
وقد حشدوا لكلا المقدمتين جملة من الشبه التي يكفي أدنى تأمل فيها في كشف زيفها وبطلانها.
وسوف أعرض - بحول الله - بإيجاز شديد لما تضمنته تلك الرسالة من ضلال وتلبيس، وعلى الله التكلان .
الرد التفصيلي
جاء في الرسالة ص1: ( إن سنة الله العامة الشاملة لجميع بني آدم أن يعيشوا في الأرض، فكيف خرج عيسى بن مريم من هذه السنة المستمرة كما يزعم البعض ).
والجواب: إن الذي شاء هذه السنة وأوجدها قادرٌ على أن يستثنى منها من شاء، ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
وهل بقاء عيسى عليه السلام حيا في السماء بأعجب من ولادته من أم بلا أب؟ أليس في هذا مخالفة للسنة الكونية كما تزعمون؟ وكل جواب تجيبون به على هذا الإيراد هو جوابنا عليكم في قولكم .
جاء في الرسالة ص1-2 : الاستدلال بقوله تعالى :( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) على أن جميع الأنبياء قد توفوا؛ باعتبار أن معنى (خلا): مات، وأن أبا بكر رضي الله عنه استدل بهذه الآية على موت نبينا صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء قبله قد ماتوا , وأجمع الصحابة على موته وعلى موت جميع الأنبياء قبله .
والجواب: لو سُلِّم بأن معنى (خلا) في الآية : مات، فقد دلت الأدلة على تخصيص عيسى عليه السلام من هذا الحكم، بمعنى أنهم قد ماتوا إلا عيسى عليه السلام، والتخصيص بدليل منفصل مقبول عند أهل العلم، خاصة وأن كلمة الرسل في هذا السياق ليست نصاً في العموم، هذا إن كانوا يفهمون معنى العموم أو التخصيص.
ثم من نقل إجماع الصحابة على موت جميع الأنبياء بمن فيهم عيسى عليه السلام؟ وهل هذا إلا محض الافتراء والكذب؟
جاء في الرسالة ص1: ( وأما القول بأن عيسى بن مريم عليه السلام رُفع إلى السماء حياً، وجلس عن يمين الله، وسينزل من السماء بجسده المادي في آخر الزمان مع الملائكة بكل قوة ويغلب الناس فهو في الحقيقة تصور باطل مأخوذ من عقيدة النصارى وليس بثابت من القرآن الكريم ) .
والجواب: إن القول برفع عيسى عليه السلام حيا ونزوله من السماء بجسده في آخر الزمان حقٌ نطق به القرآن والسنة، وسيأتي بيان ذلك فيما يأتي إن شاء الله .
وأما قولهم: وجلس عن يمين الله ... إلخ فهذا ليس من قول المسلمين، فلا يلزمون به .
جاء في الرسالة ص1 : ( ولقد أبطل الله هذه العقيدة في قوله عز وجل: ( ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ) أي الموتى لا يرجعون إلى هذه الدنيا أبدا، فكيف يرجع عيسى بن مريم خلافا لما قال الله؟).
والجواب: أولا: إن هذه الآية تخاطب الكفار بالاتعاظ بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كيف لم يكن لهم إلى الدنيا كرة ولا رجعة، هذا معنى الآية.
ثانيا: الآية تتحدث عن الموتى، والمسلمون يقولون إن عيسى عليه السلام حي لم يمت، فالدليل ليس في محل النزاع؛ فسقط الاستدلال.
ثالثا: أن الله تعالى إذا شاء إرجاع من مات إلى الحياة مرة أخرى فإنه يكون، ولا يعجزه شيء سبحانه.
ألم يسمع هؤلاء ما أخبر الله به في كتابه من إحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله ( وأحيي الموتى بإذن الله ) ؟ بل أعظم من ذلك أنه كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟ أو أنهم لا يؤمنون بذلك؟
وفي قصة البقرة في سورة البقرة: ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون )، وقصة إبراهيم عليه السلام: ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) الآيات، وغير ذلك كثير .
وهذا الجواب على سبيل التنزل في الجدال، وإلا فعيسى عليه السلام لم يمت كما تقرر آنفا .
جاء في الرسالة ص1 : ( لو كان من الممكن رجوع نبي من الأنبياء إلى هذه الدنيا لكان نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أولى وأجدر بأن يرسل مرة ثانية؛ لكماله وفضائله وتفوقه على سائر الأنبياء عليهم السلام ).
والجواب: أولا: هذه الشبهة مغالطة مكشوفة؛ لأن الكلام ليس في رجوع نبي بعد موته، وإنما في نزوله وهو حي إلى الأرض؛ فسقطت الشبهة من أصلها.(38/56)
ثانيا: لا يلزم من أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء أن يثبت له جميع ما يقع لإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدلائل والبراهين - التي تسمى: المعجزات - وإلا فطرد كلامهم يلزم منه عدم صحة ما جاء في القرآن من أن عيسى عليه السلام كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله؛ لأن ذلك لم يقع لنبينا عليه الصلاة والسلام، ومثل ذلك يقال عن عصا موسى عليه السلام وغيرها من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكل جواب لهم على هذا الإيراد هو جوابنا عليهم في شبهتهم .
ثالثا: أن فيما قدره الله سبحانه من رفع عيسى حيا ثم نزوله في آخر الزمان حكما عظيمة، منها: الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه عليه الصلاة والسلام، وأنه هو الذي يقتلهم ويقتل الدجال معهم .
جاء في الرسالة ص2 إيراد شبهة لإنكار رفع عيسى عليه السلام، وهي قولهم: ( لقد رُفع عيسى بنفس الطريقة التي رُفع بها الأنبياء الآخرون، فقد قال الله عز وجل في شأن إدريس عليه السلام : ( ورفعناه مكانا عليا )، ونفس المعنى لرفع عيسى عليه السلام في الآية الكريمة: ( إني متوفيك ورافعك إلي )، فليس هنالك ذكر للفظ السماء، وكلما تدل عليه هذه العبارة أن الله سوف يفشل خطة اليهود بقتل عيسى عليه السلام على الصليب ليثبتوا أنه - والعياذ بالله - ملعون من الله، وسوف يرفع درجته ويجعله من المقربين، ورفعت روحه كما رفعت أرواح الأنبياء الآخرين ) .
والجواب: أولا : أن لأهل العلم بالتفسير أقوالا عدة في تفسير قوله تعالى عن إدريس: ( ورفعناه مكانا عليا )، فمن أهل العلم من قال: إن الله عز وجل رفعه حيا إلى السماء ومات بها، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من السلف، فعلى هذا تكون الآية دليلا عليهم لا لهم.
وقيل: المقصود رفعه في الجنة، والجنة - ولا شك - سيدخلها بجسده وروحه، وذكر الفعل الماضي لا يشكل على هذا؛ إذ هو من باب تأكيد الوقوع، كقوله تعالى: ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً )، وقوله: ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ).
وعلى هذا فلا يستقيم الاستدلال .
ثانيا: لو سُلِّم بأن المراد من الآية رفع الدرجات والمنزلة في حق إدريس عليه السلام فلا يلزم أن يكون ذلك مدلول الآيات الواردة في عيسى عليه السلام؛ لأنها صريحة في رفع الجسد والروح معا، لما يأتي:
أ- أن الله تعالى قيد هذا الرفع بأنه إليه حيث قال: ( ورافعك إلي )، وقال: ( بل رفعه الله إليه )، ومن المتقرر في الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أن الله تعالى في العلو، فيكون رفعه عليه السلام إلى السماء، بخلاف الرفع في حق إدريس عليه السلام فإنه مطلق: ( ورفعناه مكانا عليا )، ويدرك الفرق بين الأسلوبين كل من شم للغة العربية رائحة.
ب- أنه لو سُلِّم بأن الآية تحتمل معنى رفع المنزلة والمكانة؛ فإن الأحاديث الواردة في هذا الموضوع صريحة المعنى وقاطعة الدلالة على أن الرفع كان للروح والجسد معا، وكذا النزول آخر الزمان.
ففي الصحيحين أن صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير) البخاري 4/134 ومسلم 1/135 .
وفي صحيح مسلم 4/2253 أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( ... إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين [ أي ثوبين مصبوغين ] واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونَفَسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه [ أي يطلب الدجال ] حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومٌ قد عصمهم الله منه فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ).
والأحاديث في هذا بالعشرات، فهل يُقال بعد ذلك إن هذا الرفع كان للروح فقط؟
ولو كان المقصود برفع عيسى رفع روحه كما جاء في الرسالة فما هي الميزة لعيسى عليه السلام؟ إذ سائر المؤمنين إذا قُبضت أرواحهم عُرج بها إلا السماء !
ج- أن قوله تعالى: ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ) دليل واضح كالشمس على ما تقرر آنفا مما يؤمن به المؤمنون قاطبة؛ فقوله تعالى: ( بل رفعه الله إليه ) يدل على أن رفعه كان للبدن والروح ؛ إذ لو أريد موته لقيل: وما قتلوه وما صلبوه بل مات، وهذا واضح تمام الوضوح لمن تأمل، وكان ذا بصيرة وحسن قصد .
جاء في الرسالة ص2: ( كما أن صلى الله عليه وسلم رآه ليلة المعراج في الموتى مع يحي عليه السلام ).
والجواب: كون صلى الله عليه وسلم رآه في السماء مع يحي على أي شيء يدل؟
وما المانع أن يكون حيا بجسده وروحه في السماء وسائر الأنبياء بأرواحهم؟ وهل تقاس هذه الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة؟
إن على المؤمن الذي آمن بالله ربا وب صلى الله عليه وسلم نبيا وبالإسلام دينا أن يؤمن ويُسلِّم بكل ما جاء في الوحي الشريف دون الدخول بعقله فيما لا يدرك.(38/57)
وإلا فيلزم القاديانيين أن يكذبوا بالمعراج من أصله؛ إذ كيف عُرج ب صلى الله عليه وسلم إلى السماء وسلّم على الأنبياء وخاطبهم وهو حي وهم أموات؟ فكما يقولون في هذا فليقولوا في ذاك .
جاء في الرسالة ص2: ذكر ما حصل في واقعة الصلب، وخلاصة ماذُكر: أن عيسى عليه السلام لم يُرفع حيا، ولم يُلق شبهه على أحد، وإنما عُلق على الصليب بضع ساعات، ولما أُنزل كان في حالة إغماء شديد حتى خُيل إليهم أنه قد مات، ثم بعد واقعة الصلب هاجر من فلسطين إلى البلاد الشرقية: العراق وإيران وأفغانستان وكشمير والهند، وعاش عشرين ومائة سنة.
هكذا ذكرت الرسالة ! وكأن كاتب هذه القصة قد حضرها، أو بُعث إليه من قبره من حضرها ففصَّل له خبرها !
ولا يخفى على العقلاء أن الدعاوى أمرها سهل، وأن كلا يستطيع أن يدعي ما يشاء، لكن الشأن في ثبوت هذه الدعوى بدليل مقنع، وإلا فإنه لا قيمة لها عند من يحترم عقله.
وهذه القصة المزعومة، وتلك التفاصيل التي أوردوها ليس من طريق للعلم بها إلا الوحي .
وإنني أدعوا القاديانيين جميعا أن يبحثوا في كتب السنة جميعها عشر سنين، وإن شاؤوا معها أخرى وثالثة ورابعة حتى يأتوا بنص صحيح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه يسرد القصة مثل سردهم.
وإن كان خيرا لهم وأقوم أن يعودوا إلى جادة الحق والرشد، ويعلموا أنه لن ينجيهم من عذاب الله إلا صدق الإيمان وصحة الاتباع، والبراءة من هذا الدين المعوج الساقط، الذي تمجه العقول وتأباه الفِطر، والله الهادي.
جاء في الرسالة ص3-4: ( واعلموا أن القرآن المجيد لا يسمح لأحد أن يصعد إلى السماء بجسده ثم ينزل منها، ألا تعلمون أن الكفار طالبوا صلى الله عليه وسلم أن يرقى في السماء وينزل عليهم كتابا يقرؤنه دليلا على أنه صعد إلى السماء، فرد الله عليهم: ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا )، فلو كان الصعود إلى السماء بالجسد ممكنا لبشر لكان صلى الله عليه وسلم أولى وأجدر أن يصعد إلى السماء أمام أعين الكفار ليؤمنوا به، فالأمر الذي لم يجز لأفضل الرسل صلى الله عليه وسلم كيف جاز لعيسى بن مريم عليه السلام ...).
والجواب: أقول وبالله التوفيق: إن هذه الفئة المارقة لا تفتأ تتشبث بأي شبهة استدلال حتى ولو كانت في الوهن كبيت العنكبوت، لكنها في الواقع شاهدة على ضلالهم وانحرافهم، ومن ذلك هذا الاستدلال الساقط الذي يظهر ضعفه ووهاؤه لكل ذي عينين، وسوف أذكر شيئا من ذلك فيما يأتي:
أولا: لقد ادعوا أن القرآن لا يسمح لأحد أن يصعد إلى السماء بجسده ثم ينزل منها؛ فيقال لهم:
ماذا تقولون في معراج النبي صلى الله عليه وسلم ، أليس صعودا إلى السماء ثم نزولا منه؟ وجماهير المسلمين على أن ذلك كان بجسده وروحه. هل سيسلمون بذلك كحال المسلمين فتنقطع حجتهم؟ أم سيبادرون بالإنكار والتأويل - كعادتهم - فينكشف أمرهم للمسلمين أكثر؟!
ثانيا: أن الدعوى أعم من الدليل فلا يستقيم الاستدلال؛ بمعنى أنه إذا سُلم أن الآية تدل على الامتناع فإنها واردة في شأن أمرين: صعود إلى السماء مع تنزيل كتاب يُقرأ، والبحث ههنا في قضية واحدة، وهي الصعود، فلا يلزم أن يكون ذلك ممتنعا.
ثالثا: هل عدم الاستجابة يدل على امتناع تحقق المطلوب؟ لا شك أن كل مسلم سيجيب بالنفي؛ فإن الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.
يوضح ذلك أن النبي قال: ( سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا )، ولم يقل: وهل يمكن أن يقع ذلك؟ أو نحوه، بل إن قوله ذلك يدل على أن المطلوب أمر لا يمتنع وقوعه، وإنما الأمر لله سبحانه الفعال لما يريد، إن شاء أجاب إلى ما سألوا، وإن شاء لم يجب، وما هو إلا رسول يبلغ رسالات الله وينصح لهم.
رابعا: إن كان يمتنع - كما يزعمون - الصعود إلى السماء فليمتنع أيضا ما ورد في السياق نفسه: ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) إلى أن قال: ( أو ترقى في السماء ) الآيات، فليقولوا باستحالة تفجير الينابيع من الأرض، وأن القرآن يمنع من ذلك، وليكونوا ضحكة العقلاء.
أولا يعلمون أن موسى عليه السلام ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأعظم من ذلك أن صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، فإذا أمكن ذلك فلماذا لا يمكن الصعود إلى السماء؟!
جاء في الرسالة ص4: أن عقيدة وفاة عيسى تمسك بها صلحاء الأمة وكبراء علمائها.
وعددوا منهم أربعة عشر اسما فقط، ولا أدري عن بقية علماء الأمة، ما موقفهم من هذه القضية في نظر القاديانيين؟ وما موقفهم من العلماء الكثر الذين نقلوا إجماع العلماء على رفع عيسى ونزوله من السماء؟
وهؤلاء المذكورون سأورد ما يتعلق بهم فيما يأتي:
أولا: لقد نسبوا هذه العقيدة لابن عباس رضي الله عنهما؛ استنادا لتفسيره قوله تعالى: ( متوفيك ) أي: مميتك .(38/58)
والجواب عن هذه الشبهة باختصار: أن مراده رضي الله عنه: وفاته آخر الزمان بعد نزوله، يؤكد هذا ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في هذه الآية : ( رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان )، انظر: الدر المنثور 2/36.
وابن عباس رضي الله عنهما هو الذي يفسر كلامه، وليس بحاجة إلى القاديانيين ليحملوا كلامه حسب أهوائهم .
وعلى هذا فإن في الآية تقديما وتأخيرا؛ أي: رافعك إلي ومتوفيك بعد ذلك.
وتقديم التوفي على الرفع في الذكر لا يقتضي التقدم في الزمن؛ لأن الصحيح أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب.
وتتميما للفائدة أذكر أن لأهل العلم في تفسير الآية أقوالا أخرى، منها:
أن التوفي بمعنى القبض، وليس الوفاة المعروفة.
ومنها أن الوفاة هنا بمعنى النوم، أي رفعه الله وهو في حالة النوم، والنوم يسمى وفاة، كما قال تعالى: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها )، وقال: ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) .
ثانيا: جاء في الرسالة ص4 أن الإمام مالكا رحمه الله قال: ( مات عيسى )، وأحالوا إلى الشيخ علامة طاهر، بحار الأنوار . هكذا! وهذا من أسمج الكذب وأقبحه، ينقلون عن هذا الإمام الجليل هذه الكلمة في هذا الموضوع الخطير من كتاب لا يعرف لدى المالكية ولا غيرهم، فأين كلامه في الموطأ والمدونة؟ وأين كلامه في مصنفات تلاميذه وأتباع مذهبه؟
ثم إنني قلت: لعلهم يقصدون كتاب: مجمع بحار الأنوار لمحمد بن طاهر الفتني، وبعد بحث في مظان الموضوع فيه تبين أنه ليس فيه نقل عن الإمام مالك بن أنس في هذا الموضوع، وإنما فيه تقرير مؤلفه عقيدة المسلمين في رفع عيسى ونزوله، وإجابة عما يُتوهم من معارضة ذلك لقوله تعالى: ( إني متوفيك ورافعك إلي )، انظر 5/91 من الكتاب المشار إليه .
ثالثا: زعمت الرسالة ص4 أن الفخر الرازي يرى هذا الرأي أيضا، ونقلوا عنه ما يأتي: ( قال الإمام الرازي في تفسير الآية: ( يا عيسى إني متوفيك: أي إني مُنهٍ أجلك، ورافعك أي رافع مرتبتك ورافع روحك إلي ... ثم يقول: ( واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله تعالى: ( ورافعك إلي ) هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة ) تفسير الفخر الرازي ) .
والجواب عن ذلك ما يأتي:
أ- أن العبارة الأولى المنقولة هي من جملة كذبهم الكثير؛ إذ لا وجود لها البتة ! والتفسير موجود ونسخه منتشرة.
وإذا كان كثير من المشركين والكفار يأنفون من الكذب لأنه في معيار القيم والأخلاق غايةُ السفول؛ فإن القاديانيين لا يزالون يرتكسون في حمأته المرة تلو الأخرى، والحمد لله الذي فضحهم بأقلامهم، وسيأتي ما يفضحهم أكثر .
ب- أن الرازي أورد في تفسير الآية أوجها عديدة فيها التصريح بأن عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء بجسده، وأنه حي فيها حتى ينزل إلى الأرض.
بل إنه في أحد تلك الأوجه نقل الآتي: ( ولما علم أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه السلام رُفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ) فماذا سيقول القاديانيون بعد هذا الكلام؟!
أما العبارة الثانية التي نقلوها فإنها موجودة في آخر ذاك الموضع، وهذه عادة أهل الانحراف والهوى يأخذون من الكلام ما يوافق أهواءهم ويغطون ما سواه.
إن الناظر في كلام الرازي يلحظ أنه قرر عقيدة المسلمين المعروفة بكلام طويل، ثم عقب بهذه العبارة، وتوجيه ذلك عندي أن له محملين:
الأول: أن كلامه هنا عن علو الله تعالى، إذ الرازي ينفي علو الله تعالى على طريقة الجهمية، فيكون تعليقه على كلمة ( إلي ) في الآية، وليس مقصوده ما يتعلق بعيسى عليه السلام لأنه قد مضى الحديث عنه، وقد قرر عقيدته في ذلك بكل وضوح، ومن ذلك قوله: ( وقد ثبت الدليل أنه حي، وورد الخبرعن صلى الله عليه وسلم أنه سينزل ويقتل الدجال، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك ) 8/60 .
الثاني: أن يقال: إنه لا يرى أن هذه الآية تدل على رفع عيسى إلى السماء - فرارا من الإلزام بإثبات علو الله سبحانه - وإن كان يرى أن أدلة أخرى تدل على ذلك، وعدم الدليل المعين لا يعني عدم المدلول، إذ قد يثبت بدليل آخر، ويشهد لصحة هذا التوجيه كلامه المنقول آنفا. والنتيجة أن الرازي يعتقد رفع عيسى ونزوله، فليس في كلامه للقاديانيين مستمسك .
رابعا: جاء في ص4-5 نسبة هذه العقيدة لابن حزم يرحمه الله، وأنه يرى أن عيسى قد مات، وأحالوا إلى كتابه الفِصَل عند كلامه عن المسيحية.
ولا أدري هل هؤلاء يكتبون لأناس لا عقول لهم ولا أبصار، أو أنهم لا يفهمون ما يقرؤن؟ فالكتاب مشهور، ولم يذكر فيه مؤلفه كلمة واحدة مما نسبوه إليه، بل على العكس من ذلك فإنه يقرر رفع عيسى عليه السلام شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين، انظر: الفصل 2/206-228.
ألا فليتفضلوا ببيان هذا الكلام المزعوم عنه نصا، مع الإحالة إلى الجزء والصفحة، وإلا فليشهدوا على أنفسهم - وليشهد المسلمون أيضا - أنهم من الكاذبين، ولعنة الله على الكاذبين.(38/59)
خامسا: أحالوا في ص5 هذا الهراء إلى الألوسي رحمه الله، وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )، وإن العجب لا ينقضي من تمادي هؤلاء الضالين في الكذب دون حياء، فالألوسي رحمه الله يقرر عقيدة المسلمين في هذه القضية، واسمع كلامه في تفسيره روح المعاني3/179: ( والصحيح كما قاله القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس ).
هذا وقد أحالوا إلى آخرين من مفكري العصر الحديث، أشك في نسبة ما ذكروا إليهم، وقد جُرب على القاديانيين الكذب الكثير، ولا حاجة إلى بذل الجهد في تتبع ذلك؛ لأنه لو ثبتت صحة ما نسبوا إليهم فإنهم ليسوا من الأئمة الذين يُرجع إليهم في مثل هذه القضايا، وهكذا طريقة أهل الأهواء إذا أعيتهم الحيل ذهبوا يبحثون في ركام الزلات وعند خاملي الذِّكر لعلهم يجدون عندهم ما يسند بناءهم المتهدم.
وإني سائل سؤالا أدع إجابته للقاديانيين وحدهم: إن بعض من سميتم وزعمتم أنهم قائلون بموت المسيح عليه السلام قد أدركوا زمن القادياني المتنبئ الكذاب، فماذا كان رأيهم فيه؟ هل كانوا يرونه المسيح والمهدي كما تزعمون؟ أم كانوا يرونه كذابا ضالا كافرا؟ وليتذكروا أنهم وصفوهم بأنهم من علماء الأمة ! أجزم أنهم يعلمون الجواب علم اليقين.
جاء في الرسالة ص6 : ( واعلموا أن أكثر الأحاديث الواردة في شأن الدجال ونزول المسيح ابن مريم وعلامات ظهوره إنما هي كشوف ورؤى للنبي r، ولا يمكن أن تحمل على ظاهرها، وأكثرها تتطلب التأويل، ولفظ ( ابن مريم ) الوارد في الحديث إنما هو اسم وصفي أُطلق على رجل تقي مؤمن، كما استعمل اسم ( امرأة فرعون ) و( مريم بنت عمران ) وصفا لكل مؤمن في القرآن المجيد ) .
أقول: إنني لا أرى أن اجتراء هؤلاء على افتراء الكذب على الله أمرا غريبا؛ فالشيء من معدنه لا يُستغرب، وإنما العجب من عقول القطعان الجاهلة التي أسلست قيادها لهؤلاء الضالين، وتلقت هذا الإفك بالقبول، وصدق الله: ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ) .
إن مجرد نقل هذا الكلام كاف في إفساده.
لو سُلم جدلا أن أكثر الأحاديث الواردة في هذا الموضوع إنما هي كشوف ورؤى؛ أليست رؤى الأنبياء وحي؟ أو أنهم لا يؤمنون بذلك؟! وماذا عن القليل - الذي هو سوى الأكثر - ما حاله عندهم؟
وإذا كان أكثر الأحاديث يتطلب التأويل، فكيف سيصنعون بأقلها؟
لقد اتضح لأهل الإيمان أن النصوص الشرعية أصبحت نهبا عند هؤلاء النوكى؛ فيحورون ويؤولون، ويصرفون ويبدلون كما يشاؤون؛ فابن مريم في الحديث ليس النبي المعروف، وامرأة فرعون ومريم بنت عمران وصف لكل مؤمن !
وعلى هذه القاعدة التي يُصرف بها عن معناه كل ما لا يوافق الأهواء يمكن أن يقال: إن النصوص الواردة في الصلاة ليس المقصود بها الصلاة المعروفة وإنما شيء آخر، وكذا نصوص الزكاة والصوم، أما الحج فليس على ظاهره، ونصوص المعاد لا يراد بها حقيقتها، بل النبي صلى الله عليه وسلم لا يُراد بكل النصوص التي ورد فيها ذكر اسمه ذاته الشريفة، وإنما يراد ببعضها رجل صالح من أمته ! .. وهكذا أصبح الإسلام وأدلته ألعوبة بأيدي القاديانية الأحمدية، فقاتلهم الله أنى يؤفكون .
ثم جاء في خلاصة تلك الرسالة المتهافتة ص6: ) فالمراد من نزول عيسى بن مريم بعثة رجل آخر من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم يشبه عيسى بن مريم في صفاته وأعماله وحالاته، وقد ظهر هذا الموعود في قاديان الهند باسم ميرزا غلام أحمد إماما مهديا، وجعله الله مثيل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فكان هو المسيح الموعود والإمام المهدي للأمة المحمدية ... ) إلى آخر ذاك الهراء .
ولا أظن أني بحاجة إلى رد هذا الكلام الساقط، وقد بين كثير من العلماء كذب هذا الأفاك الأثيم في دعواه، وكذب أتباعه من بعده، ومن تلك المؤلفات الحسنة كتاب: القاديانية للشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله .
لكني سأذكر باختصار لمن هو مرتاب في أمره: لقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله علي وسلم بأوصاف عيسى عليه السلام عند نزوله، فهل انطبق منها حرف واحد على كذاب قاديان؟ هل نزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين ملَكين؟ هل مات كل كافر وَجد ريح نَفَسه؟ هل قتل الدجال؟ هل كسر الصليب؟ هل كان حاكما عادلا؟ هل قتل الخنزير؟ هل جمع الناس على دين واحد هو دين الإسلام؟ هل كثر المال في عهده؟ هل وقعت الأمنة في الأرض؟ هل حج بعد نزوله؟ هل هل ... أسئلة كثيرة أطرحها لمن كان فيه أدنى مسكة من عقل أو جذوة من إيمان.
وإلى هنا انتهى ما أردت التعليق عليه باختصار، وإن كان التتبع التام لما في الرسالة يحتاج إلى بسط أكثر، ولعل في هذه العجالة ما تحصل به الكفاية.
اللهم إنا نسألك الهداية والسداد، والثبات في الأمر، وأن تنور بصائرنا وتشرح صدورنا، كما نسألك أن تعجل بهلاك أعداء الدين، الضالين المضلين، وتريح المسلمين من شرهم، وأن تجعل دائرة السوء عليهم، إنك على كل شيء قدير، وإني ربي على صراط المستقيم.
والحمد لله رب العالمين .
وكتبه(38/60)