فالأحاديث الموضوعة - ولله الحمد - مبيَّنه ، ونحذر الدعاة من أن يذكروا للناس حديثاً موضوعاُ ، ولو قالوا إنه في مصلحة الدعوة إلى الله ، فالمصلحة كل المصلحة فيما ورد عن رسول ا صلى الله عليه وسلم صحيحاً ، لا في الأحاديث الباطلة كحديث علقمة وما واجه مع أمه ، وحديث ثعلبة والزكاة ، وكأحاديث أُخر بواطل ، وأثرها على الأمة سقيم ، لكن يجوز للداعية أن يبين للناس في محاضرة أو درس أو خطبة الأحاديث الموضوعة حتى يتعرف الناس عليها .
أما الأحاديث الضعيفة فلها شروط ثلاثة للاستدلال بها :
• الشرط الأول : ألا يكون ضعيفاً شديد الضعف .
• الشرط الثاني : أن تكون القواعد الكلية في الشريعة تسانده وتؤيده .
• الشرط الثالث : ألا يكون في الأحكام بل يكون في فضائل الأعمال .
وقد ذكر شيخ الأسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الإمام أحمد أنه قال : (( إذا أتى الحلال والحرام تشددنا ، وإذا أتت الفضائل تساهلنا )) مجمع الفتاوى 18/65 ... وهذا كلام جيد ، ولو أنه غير مجمع عليه .
12 - عدم القدح في الهيئات والمؤسسات والجمعيات والجماعات بأسمائها :
ومما يجب على الداعية ألا يقدح في الهيئات ولا المؤسسات بذكر أسمائها ، وكذلك الجمعيات والجماعات وغيرها .. ولكن عليه أن يُبيّن المنهج الحق ، ويبين الباطل ، فيعرف صاحب الحق أنه محق ، ويعرف صاحب الباطل أنه مُخطئ ، لأنه إذا تعرض للشعوب جملة ، أو للقبائل بأسمائها أو للجمعيات ، أو للمؤسسات ، أو للشركات ، أتى الآلاف من هؤلاء فنفروا منه ، وما استجابوا له .. وتركوا دعوته ، وهذا خطأ .
وفي الأدب المفرد مما يُروى عن صلى الله عليه وسلم : (( أن من أفرى الفِرَى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها )) أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم 126 وهو صحيح ، أنظر الصحيحة للألباني 2/402 . وهذا خطأ ، فإن من يقول قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقة مخطئ ! لأنه ما صدق في ذلك فالتعميم عرضة للخطأ .
• ولا بد للداعي أن يكون لبقاً في اختيار عباراته حتى يكسب القلوب ، ولا يُثير عليه الشعب ، فإن الناس يغضبون لقبائلهم ، ويغضبون لشعوبهم ، ويغضبون لشركاتهم ، ويغضبون لمؤسساتهم ، ويغضبون لجمعياتهم .. فلينتبه لهذا ، وعليه ألا يظهر بهالة المستعلي على جمهوره ، وعلى أصحابه وعلى أحبابه ، وعلى إخوانه ، وعلى المدعوين ، وكأن يقول - مثلاً - : أنا قلتُ ، وفعلتُ ، وكتبتُ ، وأرسلتُ ، وغضبتُ ، وألفت !
فإن (( أنا )) من الكلمات التي استخدمها إبليس .
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (( وليحذر من طغيان كلمات : أنا ، ولي ، وعندي ، فان هذه الألفاظ الثلاثة ابتلى بها إبليس وفرعون وقارون ، وقال إبليس : (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )) الأعراف .. وقال فرعون : (( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ )) الزخرف .. وقال قارون : ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) القصص ..))
فاجتنب أنا ، واجتنب لي ، واجتنب عندي .. ولكن تصلح (( أنا )) في مثل : أنا مقصر ، كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله - :
أنا الفقير إلى ربّ البريات *** أنا المسكين في مجموع حالاتي
مدح أحد الناس ابن تيميه فقال :
أنا المكدي وابن المكدي *** وهكذا كان أبي وجدي !
فقال : أنا مذنب وأبي مذنب ! وجدي مذنب ! إلى آدم عليه السلام .
• فواجب على الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع ، وأن يلتمس الستر من إخوانه ، وأن يبادلهم الشعور ، وأن يطلب منهم المشورة والاقتراح ، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه ، وأفصح منه ، وأصلح منه .
قال بعض السلف : (( الساكت ينتظر الأجر من الله ، والمتكلم ينتظر المقت ، فإن المتكلم خطيء ))
13 - أن يجعل الداعية لكل شيء قدراً :
لا ينبغي للداعية أن يعطي المسألة أكبر من حجمها ، فالدّين مؤسس ، والدينّ مفروغ منه : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً )) المائدة
فلا يعطى الداعية المسائل أكبر من حجمها ، وكذلك لا يصغر المسائل الكبرى أو يهوّنها عند الناس .. ومن الأمثلة على ذلك :
• أن بعض الدعاة يعطي مسألة إعفاء اللحية أكبر من حجمها حتى كأنها التوحيد الذي يخلد به الناس أو يدخل الناس به الجنه ، ويدخل الناس بحلقها النار ويخلدون فيها ! مع العلم أنها من السنن الواجبات ، ومن حلقها فقد ارتكب محرماً ، لكن لا تأخذ حجماً أكبر من حجمها ، وكذلك مسألة إسبال الثياب ، والأكل باليسرى ، وغيرها من المسائل . لا يتركها الداعيه أو يقول إنها قشور فيخطئ ، ولا يعطيها أكبر من حجمها ، فقد جعل الله لكل شئ قدراً .
والحر ميزان ، فعليه أن يفعل كما فعل صلى الله عليه وسلم ، فقد تكلم عن التوحيد في جّل أحاديثه ومجالسه ، وأعطى المسائل حجمها حتى لا يُصاب الناس بإحباط .
• فإن التربيه الموجهة أن تصف له المسألة السهلة فتكبرها عنده ، وتصغر له المسألة الكبرى(34/238)
أحياناً يصغر بعض الناس من مسألة السَّحر ، واستخدام السحر ، ويقول هو مذنب ، مع العلم أنه عند الكثير من أهل العلم مخرج من الملة ، وحّد السحر ضربه بالسّيف ، ومع ذلك تجد بعض الدعاة يصغر من مسألة السحر !
وأحياناً يصغر بعض الدعاة كذلك من شأن الحداثة ، والهجوم على الإسلام في بعض الصحف والمجلات والجرائد ، ويقول : هذا ممكن ، هذا أمر محتمل ، المسألة سهلة ويسيرة !! إلى غير ذلك من الأمور .
14 - اللين في الخطاب والشفقة في النصح :
على الداعية أن يكون ليَّنا في الخطاب ، فقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم لين الكلام بشوش الوجه ، وكان r متواضعاً محبباً إلى الكبير والصغير ، يقف مع العجوز ويقضي غرضه ، ويأخذ الطفل ويحمله ، ويذهب إلى المريض ويعوده ، ويقف مع الفقير ، ويتحمل جفاء الأعرابي ، ويرحب بالضيف ، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون الذي يصافحه هو الذي يخلع ، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهر حتى ينتهي من حديثه ، وكان دائم البسمة في وجوه أصحاب صلى الله عليه وسلم لا يقابل أحداً بسوء ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) آل عمران .. فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة !
ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون أطغى الطواغيت ، ويأمرهما باللين معه فيقول : (( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) طه.
فالقول ألين سحر حلال ، قيل لبعض أهل العلم : ما هو السحر الحلال ؟ قال : (( تبسمك في وجوه الرجال )) . وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار من أمة صلى الله عليه وسلم : (( حنينون ، لينون ، أيسار بني يسر ، تقول لقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري ))!
• فأدعو الدعاة إلى لين الخطاب ، وألا يُظهروا للناس التَّزمُت ولا الغضب ، ولا الفظاظة في الأقوال والأفعال ، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة ، فإنهم حكماء معلمون أتوا رحمة للناس ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )) الأنبياء .
فالرسو صلى الله عليه وسلم رحمة ، وأتباعه رحمة ، وتلاميذه رحمة ، والدعاة إلى منهج الله رحمة ، وعلى الداعية كذلك أن يُثني على أهل الخير ، وأن يُشاور إخوانه ولا يستبد برأيه . والله - سبحانه وتعالى - يقول : ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) آل عمران .. وقوا : (( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) الشورى
فيشاور طلابه في الفصل ، ويشاورا إخوانه ، ويُشاور أهل الخير ممن هم أكبر منه سناً ، ويشاور أهل الدين ، ولا بأس أن يعرض عليهم حتى المسأل الخاصة كي يثقوا به ، ويخلصوا له النصح ، ويكونوا على قرب منه ، ويشاور أهل الحي ، وأهل الحارة ، فإن الرسو صلى الله عليه وسلم جلب حب الناس بالمشاورة ، فكان يشاورهم حتى في المسائل العظيمة التي تلمّ بالأمة ، كنزوله في يوم بدر ، ومشاورته لأصحابه في الأسرى ( أنظر فتح الباري 13/399باب رقم 28 ) ونحو ذلك من الغنائم وأمثالها من القضايا الكبرى .
• فعلى الداعية أن يشاور المجتمع ولا بأس أن يكتب لهم بطاقات ، وأن يطلب آراءهم ، وإذا وجد منهم مجموعه يقول : ما رأيكم يا إخوة في كذا ، وكذا .. فإن رأي الاثنين أفضل من رأي الواحد ، ورأي الثلاثة أفضل من رأي الاثنين ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) آل عمران .
15 - حسن التعامل مع الناس وحفظ قدرهم :
فعلى الداعية أ ن يُثني على أهل الخير ، ويشكر من قدم له معروفاً ، فإن الداعية إذا أثنى على أهل الخير عرفوا أنه يعرف قدرهم ، وأنه يعرف الجميل ، أما أن تترك صاحب الجميل بلا شكر و المخطئ بلا إدانة وبلا تنبيه ، فكأنك ما فعلت شيئاً !
لا بدّ أن تقول للمحسن أحسنت ، وللمسيء أسأت ، لكن بأدب ، فكبار السن يحبون منك أن تحتفل بهم ، وأن تعرف أن لهم حق سن الشيخوخة ، وأنهم سبقوك في الطاعة ، وأنهم أسلموا قبلك بسنوات ، فتعرف لهم قدرهم .
• وكذلك العلماء والقضاة ،وأعيان الناس وشيوخ القبائل .. ونحو ذلك من أهل العلم والفضل ، وأهل المواهب كالشعراء الإسلاميين ، والكتاب الإسلاميين ، ومن لهم بلاء حسن ، والتجار الذين ينفقون في سبيل الله .. فتُظهر لهم المنزلة وتشكرهم على ما قدّموا حتى تحيي في قلوبهم هذا الفعل الخيَّر / كما كان صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : (( غفر الله لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر )) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة 1/456 رقم 736 وإسناده ضعيف .. ، (( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )) أخرجه الترمذي 3701 وحسنه الألباني في التعليق على المشكاة 3/1713 .. وكان يقول : (( دعوا لي أصحابي )) أخرجه أحمد في مسنده 3/266وصححه الألباني ...يعني أبا بكر الصديق ، وكان r يشكر عمر ، ويخبر ما رأى عمر ، وكان يثني على هذا ، ويمدح هذا ، ويشكر هذا ، فإن هذه من أساليب التربية ، وليست من التملك في شيء .
16 - أن يعلن الدعوة للمصلحة ، ويسرَّ بها للمصلحة :(34/239)
فعلى الداعية أن يعلن الدعوة للمصلحة ، يعلن بها حيث يكون الإعلان طيباً كالمحاظرة العامة ، والموعظة العامة في قرية أو بلدة أو في مدينة ، ولكنه إذا أتى ينصح شخصاً بعينه فعليه أن يسر الدعوة ، فيأخذة على حدة ، ويتلطف له في العبارة ، وينصحه بينه وبينه ، قال الشافعي - رحمه الله :
تغمدني بنصحك في انفرادِ *** وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تُعط طاعه
• فيقصد أنه إذا خالفتني ونصحت الإنسان أمام الناس فلا تجزع فسوف يجابهك هذا ، وينتقم لنفسه ، وقد تأخذه العزة بالإثم وكم شكى لي بعض الشباب - حفظهم الله - أن بعض الناس قد جابهم في مجتمع من الناس أو انتقدهم فأصابهم من تذمر وانقباض واشمئزاز ! وهذا ليس من المصلحة في شيء .
17 - الإلمام بالقضايا المعاصرة والثقافة الواردة :
على الداعية أن يكون ملماً ومطلعاً على الأطروحات المعاصرة والقضايا الحالية ، ويتعرف على الأفكار الواردة ، فيقرأ الكتابات الواردة ، وليس بصحيح ما قاله بعض الناس حتى من الفضلاء بعدم قراءة كتب الثقافات الواردة ! فإن هذا ليس بصحيح ، فلو لم نقراء هذه الكتب ونطلع على هذه الثقافات ما عرفنا كيف نعيش ؟ وأين نعيش ؟ ولما عرفنا كيف نتعامل مع هؤلاء الناس ؟!.
• بل أرى أن على الدعاة أن يقرءوا الصحف والمجلات ، لكن بحيطة وحذر ، حتى لا يصل قليلو الثقافة إلى بعض المجلات الخليعة فتفسد عليهم قلوبهم ، لكن إن أرادوا أن يطلعوا فليطلعوا بانفراد وتأمل ، ليعرفوا أهدافهم ويعالجوا ذلك .
عرفت الشر لا للشرَّ لكن لتلافيه *** ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
وقال عمر - رضي الله عنه وأرضاه - : (( إنما تنتقض عُرى الإسلام عروة عروة من أناس ولوا في الإسلام ما عرفوا الجاهلية )).
فالذي لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام !
• فحق على الدعاة أن يطلعوا على هذه الثقافات - ما قلت - ومن يجد كتاباً فيه شبهة أو فيه نظر فليعرضه على من هم أعلى منه حتى يكون على بصيرة ، ونخرج بحلُّ إما بتنبيه أو بنصيحة عامة .
18 - مخاطبة الناس على قدر عقولهم :
على الداعية أن يكون حاذقاً ، يخاطب الناس على قدر عقولهم ، فإذا أتى إلى المجتمع القروي تحث بما يهم أهل القريه من مسائلهم التي يعيشونها ،وإذا أتى إلى طلبة العلم في الجامعة حدثهم على قدر عقولهم من الثقافة والوعي . وإذا أتى إلى مستوى تعليمي أدنى تنزل إليهم في مسائلهم وتباطأ ، فإن لكل مسائل .
فمسائل البادية - مثلاُ - : الشرك أو السحر أو الكهانة أو الإخلال بالصلاة أو نحو ذلك .
ومسائل أهل الجامعة - مثلاُ - : الأفكار الواردة من علمنة وإلحاد وحداثة ، وشبهات وشهوات .
ومن مستوى الأدنى من ذلك : الجليس ، بر الوالدين ، حقوق الكبار ، حفظ الوقت ، قراءة القرآن .. ونحو ذلك .
• فلا بدّ من مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، وعلى قدر مواهبهم ، وعلى قدر استعدادهم ، انظر إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل بخطاب لا يخاطب به غيره من الأعراب ، فيخاطبه عن العلم ، وعن أثر العلم ، وعن حفظ الله ، وعن حدود الله ، ويخاطب الأعراب عن التوحيد وأنه يقودهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض .. ونحو ذلك .
19 - ألا يسقط عيوبه على الآخرين :
مما ينبغي على الداعية أن يَحذَرَ منه ألاّ ينتقد الآخرين ليرفع من قدر نفسه . (( وهو أسلوب الإسقاط )) كما يُسمّى هذا في التربية .. أن تسقط غيرك لتظهر أنت ، ويفعله بعض الناس من أهل الظهور وحبّ الشهرة - والعياذ بالله من ذلك - وأهل الرياء والسمعة ، فإنه إذا ذكر له عالم قال فيه كذا وكذا !! وإذا ذُكر له داعية ، قال : ما أرضى مسيره في الدعوة !! وإذا ذكر له كاتب انتقده ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه : - سقاه الله من سبيل الجنة - : (( بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح )).
فالذباب يترك البقعة البيضاء في جسمك ، فإذا كنت لابساً ثوباً أبيض وكنت متطيباً ، لا يقع الذباب عليه ! لكن إذا رأى جرح في إصبعك وقع عليه !
• وتجد أسلوب الإسقاط هذا عند بعض الناس يقول : شكر الله للداعية فلان كذا وكذا !! لا يترك الاستنقاد ولا يترك الانتقاد ، ولا يترك الاستثناء ، ولا يترك الاستدراك ، حتى يظهر هو كأنه هو الذي لا عيب فيه قط !
وتجد من الأساليب ( المدبلجة ) التي دبلها الشيطان على بعض الدعاة فإنه يأتي - مثلاً - ويدعو في قالب النصح للداعي ، ويريد أن ينتقصه ، فإذا ذكر له داع قال : هداه الله أسأل الله أن يهديه ، فتقول له : لماذا ؟ يقول : أسأل الله أن يهديه ( وكفى ) !
فتعرف أن وراء هذه الدعوة شيء ، وأنه يريد بها شيئاً آخر ، وهذا دعاء لا يؤجر عليه !
قال ابن المبارك : (( رُبَّ مستغفر أذنب في استغفاره ، قالوا : كيف ؟ قال : يُذكر له بعض الصالحين فيقول : أستغفر الله ، ومعناها أنه ينتقد عليه ، فلا يكتب له أجر هذا الاستغفار بل يسجل عليه خطيئة !
20 - أن يتمثل القدوة في نفسه :(34/240)
على الداعية أن يتمثل القدوة في نفسه ، وأن يسدد ويقارب ، وأن يعلن أن خطأه يتضخَّم ! فالخطأ منه كبير ، وأن الناس ينظرون إليه .
قد هيأوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فإنه أصبح أمامهم كالمرآة كلما وقعت فيها نقطة سوداء صغيرة كبرت وتضخمت ، فليتق الله في هذه الأمة حتى لا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس ، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى ، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء ربما أوجروا عليها .. أخطئوا خطأ واحداً ، ولكن وقع بسببهم عالَم !!
• قال بعض الفضلاء : زلة العالمِ زلَّة عالَم !
فعليه أن يدرس القرار قبل أن يتخذه ، وعليه أن يدرس الخطوة التي يُريد أن يخطوها حتى لا يكون عرضة لتوريط كثير من الناس ! وكم جُوبه الإنسان بفتاوى من عامة الناس يستدلون بها بفعل بعض الفضلاء والأخيار ، وهذا خطأ عظيم !
21 - التآلف مع الناس :
ينبغي للداعية أن يتآلف مع الناس بالنفع ، فيقدم لهم نفعاً ، فليست مهمة الداعية فقط أن يلاحقهم بالكلام ! أو يلقي عليهم الخطب والمواعظ ! لكن يفعل كما فعل رسولنا r ، يتآلفهم مرة بالهداية ومرة بالزيارة ، ولا بأس بالدعوة ، فإن رسول ا صلى الله عليه وسلم دعا الناس وآلفهم وأعطاهم وأهدى لهم ، بل كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة ، وكان يأخذ الثياب الجديدة ، وكان يعانق الإنسان ويجلسه مكانه ، فهذا من التآلف .
• وليست هناك صعوبة لتأليف كثير من الناس ، وردهم إلى الله - عز وجل - مثل تأليف كثير من الشباب العصاة .. إذا رأيت شاباً عاصياً وعلمته ، أو وجدت شاباً لا يستطيع الزواج ودفعت له المهر أو شيئاً من المهر ، وقلت له أن يصحبك لصلاة الجماعة ، وأن يعود إلى الله وأن يتوب .
أن تتآلف إنساناً تراه - مثلاً - مدمناً للمخدرات بشيء من المال بشرط أن يتركها ويجتنبها وهكذا .
22 - أن يكون عند الداعية ولاء و براء نسبي :
ينبغي على الداعية أن يكون عنده ولاء وبراء نسبي ، حُبّ وبغض ، على حسب طاعة الناس ، وعلى حسب معصيتهم ، ولا تحب حباً مطلقاً لمن فيه طاعة ، ولا تبغض بغضاً مطلقاً لمن فيه معصية ، ولكن تحب الإنسان على قدر طاعته وحبه لله ، وتبغضه على قدر معصيته ومخالفته لله ، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض ، تحبه لأنه يحافظ على صلاة الجماعة ، وتبغضه لأنه يغتاب الناس !
تحب شخصاً آخر لأنه يعفي لحيته ، وتبغضه لأنه يسبل ثوبه ، فيجتمع في الشخص الواحد حب وطاعة !
23 - أن يكون الداعية اجتماعياً :
على الداعية أن يشارك الناس أحزانهم ، ويحل مشكلاتهم ، ويزور مرضاهم ، فالانقطاع عن الناس ليس بصحيح ، فإن الناس إذا شعروا أنك معهم تشاركهم أحزانهم وأتراحهم تعيش مشكلاتهم ، أحبوك ، ولذلك أقترح على الدعاة أن يحضروا حفلات الزواج ، وقد يتعذر أحياناً عن عدم حضور حفلات الزواج لما عنده من إرهاق ، فلا يعني ذلك أنه لا يحب المشاركة ، لكن يحضر الزواج ، فيبارك للعريس ، ويبارك لأهل البيت ، ويفرح معهم ، ويقدم الخدمات ، ويرونه متكلماً في صدر المجلس ، يرحب بضيوفهم معهم ، فيحبونه كثيراً .
• وأقترح أن يقدم الدعاة أطروحات لمن أراد أن يتزوج ويقولون له : نريد أن نساعدك وأن نعينك ، فماذا ترى وماذا تقترح علينا لنقدم لك ما يُساعدك على ذلك ؟ وكذلك إذا سمع بموت ميت ، أن يذهب إلى أهله ويواسيهم ويسليهم ، ويلقي عليهم الموعظة .
كيف يراك الناس تدعوهم يوم الجمعة ، ثم لا يرونك في أفراحهم أو في أحزانهم ؟!
• وكذلك تساهم في حل مشكلاتهم ، فالداعية مصلح ، وحينئذٍ يكسب ود الناس ، كما فعل صلى الله عليه وسلم فإنه تأخر عن صلاة الظهر مرة كما ورد في البخاري لأنه ذهب إلى بني عمر ابن عوف يحل مشكلاتهم ، ويصلح فيما بينهم .
وكان r إذا سمع عن مريض ، حتى من الأعراب البدو في طرف المدينة ، ذهب بأصحابه يزوره !
وهذا من أعظم ما يمكن أن يحبب الداعية في نفوس الناس .
24 - مراعاة التدرج في الدعوة :
كذلك ينبغي للداعية أن يتدرج في دعوته ، فيبداء بكبار المسائل قبل صغارها ، فلا يُقحم المسائل إقحاماً ، فبعض الدعاة يذهبون إلى أماكن البادية في بعض القرى فيريد أن يصب لهم الإسلام في خطبة جمعة واحدة !
وما هكذا تعرض المسائل !!
عليك أن تأخذ مسألة واحدة تعرضها عليهم ، وتدرسها معهم كمسألة التوحيد ، أو مسألة المحافظة على الصلوات ، أو مسألة الحجاب ، أما أن تذكر لهم في خطبة واحدة أو في درس واحد مسائل التوحيد ، والشرك ، والسحر ، والحجاب ، والمحافظة على الصلاة ، وحق الجار ، فإنهم لا يمكن أن يحفظوا شيئاً .
أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا تورد يا سعد الإبل
يرسل الرسو صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن ، يقول له : (( أوّل ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوك فأخبرهم أن الله فرض عليم خمس صلوات في اليوم والليلة )).
• هكذا يعرض الداعية ، لا تأتي إلى ناس لا يصلون وتطالبهم بتربية اللحى !! فماذا ينفع في الإسلام أن يربي الناس لحاهم ، وهم لا يصلون ؟!(34/241)
وكذلك لا تطالبهم بصغار المسائل حتى تخرج أنت وإياهم على مسائل كبرى ، تتفقون على قدر مشترك ، وتحاول بأساليب مختلفة .. مرة بالموعظة ، ومرة بالخطبة ، ومرة بالرسالة ، ومرة بالندوة ، ومرة بالأمسية ، حتى تسلك السبل كافة
• فإن بعض الناس قد يتأثر بخطبة الجمعة ولا يتأثر بالدرس ، وبعضهم على العكس من ذلك ، وأحياناً يكتب لهم رسالة ، وأحياناً يتصل بهم بالهاتف ، وأحياناً يرسل لهم بعض الدعاة . فأرى أن تجديد الأسلوب مطلوب في عصر جُدّدت فيه أساليب الباطل !
والله يُخبر عن أهل الباطل أنهم أكثر مالاً ، وأكثر أنفاقاً ، وأكثر وسائل ، قال : (( فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )) الأنفال .
لذلك لا ييأس الإنسان من قلة وسائله ، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب - إمبراطورية كسرى وإمبراطورية قيصر - يملكون كل الإمكانيات الضخمة ، ومع ذلك كان هو في بيته المبني من الطين وبوسائله البسيطة ، ولكن مع الإخلاص والصدق بلغه الله ما تمنى ، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها !
25 - أن يُنزل الناس منازلهم :
كذلك ينبغي على الداعية أن ينزل الناس منازلهم ، فلا يجعل الناس سواسيه ، فالعالم له منزلة ، والمعلم له منزلة ، والقاضي له منزلة ، وهكذا : (( قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ )) البقرة .. فليس الناس عنده في منزلة واحدة .
وهذا ليس نوعاً من التفريق أو التمييز العنصري ، بل هذا من أدب الإسلام . يختلف لقاء هذا عن ذاك ، وتختلف نزلة هذا عن ذاك ، وبعضهم لا يرضى إلا بصدر المجلس ، وبعضهم لو عانقته يكون له عناق مختلف ، وبعضهم له عناق آخر !
• فإنزال الناس منازلهم من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى الداعية في تعامله مع الناس ، كما فعل صلى الله عليه وسلم حيث كان ينزل الناس منازلهم ، كما جاء في صحيح مسلم ورواه مسنداً أبو داود ، وهو صحيح من كلام عائشة .
26 - أن يُحاسب نفسه وأن يبتهل إلى الله :
على الداعية - أيضاً - أن يُحاسب نفسه محكّماً في ذلك قوله ، فيسمع لقوله إذا قال ، ويُحاسب نفسه على عمله ! هل هو ينفذ ما يقول أم لا ؟ وهل يطبق ما أمر به أم لا ؟ . ثم يسأل ربه العون والسداد ، وعليه أن يبتهل إلى الله في أول كل كلمة ، وأول كل درس ، ويسأل الله - عز وجل - أن يُسدده ، وأن يفتح عليه ، وأن يهديه .
ومما يؤثر في ذلك ، ما ورد في الحديث (( اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أحاول )).
وكان من العلماء إذا أرادوا أن يدرسوا الناس سألو الله بهذا الدعاء ، وبعضهم كان يقول : (( اللهم افتح علي من فتوحاتك )) وبعضهم يقول : (( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك )) .
فإن الإنسان لو اعتمد على قدراته وإمكاناته وذاكرته وصوته تقطعت به السُبل ، فليس لنا معين إلا الله .
• فعلى الداعية إذا أراد أن يصعد المنبر يوم الجمعة أن يبتهل إلى الله أن يسدد كلماته وعباراته ، وأن يهديه سواء السبيل ، وأن ينفع بكلامه ، وأن يلهمه رشده ، فإنه لو شاء الله - عز وجل - ما استطاع أن يواصل ، ولو شاء الله - سبحانه وتعالى - خانته العبارة ، أو أتى بعبارة ربما تورطه ، وتورط الناس معه ! أو أتى بعبارة خاطئة تخالف الدين ! فعليه أن يسأل الله السداد والثبات ، فإن من يسدده الله - سبحانه وتعالى - فهو المسدد ، ومن خذله الله فهو المخذول .
27 - أن يكون متميزاً في عباداته :
فيجب أن يكون للداعية نوافل من العبادات ، وأوراد من الأذكار والأدعية ، فلا يكون عادياً مثل سائر الناس ، بل يكون له تميز خاص ، يحافظ على الدعاء بعد الفجر ، والدعاء بعد الغروب ، حتى يحفظه الله - سبحانه وتعالى - ويكون له وقت إشراق مع نفسه ، يحاسب نفسه بدعاء وبكلمات مباركة بعد الفجر ، ويكون له ورداً يومي بعيداً عن أعين الناس ، يقرأ فيه كثير من القرآن ، ويتدبر أموره ، ويكون له مطالعة في تراجم السلف ، لأن كثرة الخلطة مع الناس تُعمي القلب ، وتجعل الإنسان مشوش الذهن ، وقد يقسو قلبه بسبب ذلك ، فلا بد من العزلة ، أو ساعه من الساعات أو بعض الأوقات في اليوم والليلة ، يعتزل وحده فلا يجلس مع زائر ، ولا يلتقي بأحد ، ولا يتصل بهاتف ، ولا يقرأ إلا ما ينفعه ، ثم يحاسب نفسه على ذلك .
28 - أن يتقلل من الدنيا ويستعد للموت :
على الداعية أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا ، ويدرك أنه قريب سوف يرتحل ، وأن الأجل محتوم ! سوف يوافيه ، فلا يغتر بكثرة الجموع ، ولا بكثرة إقبال الناس ، فإن الله يقول : (( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)) مريم .
ويعلم أنه سوف يموت وحده ! ويُحشر وحده ! ويُقبر وحده ! وأن الله سوف سأله عن كل كلمة قالها ، فيتأمل : لماذا يدعو ؟ ولماذا يتكلم ؟ وبماذا يقول ؟ ولماذا ينطق ؟ حتى يكون على بصيرة .(34/242)
• كذلك على الداعية أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه ، فخير الأمور أوسطها ، يسكن كما يسكن أواسط الناس ، ويلبس كما يلبس أواسط الناس ، مع العلم أن هناك حيثيات قد تخفى على كثر من الناس .
29 - أن يكون حسن المظهر :
بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء ! أو يلبس لباساً من أوضع اللباس ! وهذا ليس بصحيح ، فإن الله - عز وجل - قد أحل الطيبات ، ورسول ا صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل بقوله : (( تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس ))
وقال : (( إن الله جميل يحب الجمال )) أخرجه أبو داود 4089
وقد يكون من المطلوب أن يكون الداعية متجملاً ، متطيباً ، ويكون مجلسه وسيعاً ، يستقبل فيه الأخيار البررة ، وأن يكون له مركب طيب ، فإن هذا لا يعارض سنة الله - عز وجل - ولا سنة رسول صلى الله عليه وسلم ، بل عليه كذلك أن يكون له في كل حالة بما يُناسبها .
إن الرسو صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك ، في صلاة الاستسقاء خرج في لباس متبذل قديم يظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله - عز وجل - ولكنه في الأعياد لبس بُردة تساوي ألف دينار ، خرج بها أمام الناس ، أهديت له قيمتها مائة ناقة !
• فيجب أن يلبس لكل حالة لبوساً ، إما نعيمها ، وإما بؤسها .. ف'نه من الإجحاف أن يُطالب الدعاة أن يعيشوا في بيوت طين في هذا العصر الذي ما تبنى فيه البيوت إلا الفلل !! وإنه لمن الإجحاف كذلك أن نُطالب الدعاة أن يجلسوا على الخصف ، ويجلس الناس على الكنب الوثير ! أو أن نُطالب الداعية أن يلبس لباساً ممزقاً قديماً ! أو يكتفي بثوب واحد طوال السنة ! مع العلم أن الله واسع عليم ، وأن الله يحب أثر نعمته على عبده .
• ولكن على الداعية ألا يتشاغل بالدنيا تشاغلاً يعميه عن طريقه ، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة ، أو بعض المشايخ ، أو بعض طلبة العلم غارقاً في الدنيا إلى أذنيه ، له من المؤسسات وله من الشركات ، وله من الدور ، ما يشغله عن الدعوة !
لا نعارض أن يكون لطلبة العلم تجارة ، وأن يكون لهم مشاريع في الارض ، وأن يكون لهم دخل ، فهذا مطلوب ، كما فعل عثمان وابن عوف ، وغيرهم من الصحابة ، لكن أن يستغرق طالب العلم والداعية وقتاً في هذه الأمور .. فتجده دائماً في مكاتب العقارات في البيع والشراء ، في السندات ، مع الشيكات ، ويترك الأمة للمهلكات ! هذا ليس بصحيح ، وهذا مخجل ، فإن الله - عز وجل - استخدمك في أحسن طاعة .
• وكذلك يجب على الداعية أن يهتم بمظهره الشخصي ، وأن تكون حليته إيمانية ، وأن يظهر عليه الوقار والسكينة ، وأن يلبس لباس أهل الخير ، وأهل العلم ، فإن لكل قوم لباساً ، ويمشي مشية أهل العلم ، ويكون مظهره جميلاً ، ويعتني بخصال الفطرة ، كالسواك وتقليم الأظافر ، وأن يكون متطيباً ، محافظاً على الغسل ، يحافظ على مظهره .. حتى يمثل الدعوة تمثيلاً طيباً أمام الناس .
• أن يكون للدعاية شخصيته المستقلة :
إن على الداعية ألا يتقمص شخصية غيره ، وألا يذوب ذوباناً في بعض الشخصيات ، فتجد بعض الدعاة إذا أحب داعية آخر ، أو عالماً آخر قلده في كل شيء حتى في صوته ! وحتى في مشيته ! وحتى في حركاته ! فذاب في شخصية ذاك !
ويُروى عن الرسو صلى الله عليه وسلم قوله : (( لا يكن أحدكم إمعة ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت )) أخرجه الترمذي 2007 من حديث حذيفه وإسناده ضعيف .
ولكن إن أحسن الناس فأحسن وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم ، فذوبان الشخصية ليس مطلوباً للداعية .
فإن عليك أن تستقل بشخصيتك ، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك ، وأن الأرض ما تستطيع - بإذن الله عز وجل - أن تخرج واحداً مثلك ، فأنت من بين الملاين التي خلقها الله منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك ، صوتك لا يشابهك فيه أحد ، وملامح جسمك واستعدادك ، وما عندك من مواهب ، كل هذه تختلف فيها عن غيرك ، وقد كانت العرب تكره أن يتقمص الإنسان شخصية غيره .
قالوا عن الطاووس : إنه أراد أن يقلد الغراب في مشيته فنسي مشيته ، وما ستطاع أن يقلد مشيت الغراب !!
وهذا ينطبق على القراء .. فإن القارئ يريد أن يقلد قارئً آخر فيتعب فلا أحسن صوت ذاك ولا أسمع صوته المعهود الذي منحه الله - عز وجل - إلا إذا كان يستطيع أن ينطق مثل صوت ذاك بدون كلفه ، وصوته جميل مثل صوت ذاك ، فلا بأس إنشاء الله .
فينبغي أن تكون للداعية شخصيته المستقلة ، وقد مدح صلى الله عليه وسلم أصحابه ، كلاٌ على حسب شخصيته ، فأثنى على قوة عمر فقال : (( مثلك يا عمر كمثل نوح وكمثل موسى )) وأثنى على أبي بكر في رقته ، فقال : (( ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وكمثل عيسى عليهم السلام )). فالقوي يبقى على قوته لكن فيما ينصر به الدين .(34/243)
• والإسلام بحاجة إلى من هو قوي في رأيه وإرادته ، وفي حاجة لمن هو رقيق رحيم ، فإن هذا له باب ، وهذا لهُ باب ، كما نحتاج إلى طاقات الناس قد سلف معنا كثيراً أن الرسو صلى الله عليه وسلم نوع اختصاصات الناس وجعلهم على جبهات بسبب مواهبهم ، فسيد القراء أبي بن كعب ، وحسان شاعر صلى الله عليه وسلم ، وزيد بن ثابت أفرض الناس ، وأبو بكر له مهمة الإدارة ، وعمر لهُ مهمة القوة والصرامة والحزم ، وقس على ذلك .
30 - أن يهتم بأمور النساء :
كذلك على الداعية أن يهتم بجانب النساء ، بعالم النساء ، فلا يغفل هذا الجانب بكلامه ، ولا في محاضراته ، لأنهن نصف المجتمع ، وكل ما في هذا الكتيب إنما هو موجه إلى المرأة المسلمة أيضاً .
نسأل الله سبحانه وتعالى- أن يرضى عنا ، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال ، وأن يتولانا فيماً تولى ،وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
==============(34/244)
(34/245)
الحداثة في ميزان الإسلام
تأليف :
د. عوض بن محمد القرني
تقديم :
سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى
تقريظ لكتاب الحداثة في ميزان الإسلام
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد .
فإن سلاح الكلمة والبيان من الأسلحة الماضية التي اتخذها الرسو صلى الله عليه وسلم لمنازلة أعداء الإسلام بها جنباً إلى جنب مع سلاح السيف والسّنان, وقد اصطفى r بعض شعراء الصحابة، ودعا لهم، وشحذ قرائحهم، وأذكى عزائمهم بما كان يستحثهم به من العبارات المؤثرة التي كانت تؤجج فيهم الحماس وتبعث فيهم النخوة والحمية لدين الله . فمن ذلك قول صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه: (اهجهم وروح القدس معك) وقوله لحسان أيضاً : (اهجهم والذي نفسي بيده إنه لأشد عليهم من وقع النبل) . وهذا العمل من رسول ا صلى الله عليه وسلم دليل قوي على ما للشعر من أثر عظيم في تحريك النفوس واستنهاض الهمم ورص الصفوف والتخذيل على المسلمين والذب عن الإسلام وحرماته. وقد صح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إنّ من الشعر لحكمة) . وهكذا كان الشعر ولا يزال، وهو سجية طبع عليها العرب، لن يدعوه حتى تدع الإبل الحنين.
وقد مر الشعر خلال عمره الطويل ببعض محاولات التجديد والتغيير، وهي محاولات يسيرة لم تمس جوهره وسرّ قوته وتأثيره وجرسه وهو الوزن والقافية. وشهد عصرنا هذا محاولات أكثر للتغيير باسم التطوير والتحديث والتجديد فظهر ما يسمى بالشعر الحر المنفلت من القافية، ثم بالغ القوم في التغيير فانفلتوا من الوزن والقافية في إطار ما يسمى بقصيدة النثر التي عُرف أصحابها بأهل الحداثة.
وكنا إلى حين اطلاعنا على هذا الكتاب القيم الذي قام بتأليفه فضيلة الشيخ عوض بن محمد القرني، والذي نقدم له بهذه النبذة المختصرة ـ بسبب عدم الاطلاع ـ نظن أن قصيدة النثر المتسمة بالغموض الملقب بالحداثة المحاط بهذه الهالة الإعلامية، نظن ذلك كله أنماط من التغيير في الشكل، ولا علاقة له بمضمون الشعر، ولا بمعانيه ولا بمحتواه الفكري، لكن الكتاب كشف لنا أن الشكل لم يكن في ذاته هو هدف هذا التغيير وإنما جعل الشكل الجديد الملفوف بالغموض ستاراً لقوالب فكرية شحنت في كثير من نماذجها بالمعاني الهزيلة، والأفكار الهابطة والسهام المسمومة الموجهة للقضاء على الفضيلة والخلق والدين، وقد حوى الكتاب نماذج لا يختلف اثنان في تفسيرها وفهم مضمونها وإدراك مراميها وأهدافها السيئة، وتأكد أن استهداف الغموض من كثير من هؤلاء الشعراء في هذه القوالب الفكرية المسماة شعراً وليس فيها من الشعر شيء إنما هو أمر مقصود ليحققوا به أهدافا ثلاثة :
الأول : التنصل من مسئولية الكلمة، وتبعتها، حينما تُلف بهذا الغموض الذي قد لا يدرك معناه بسهولة .
الثاني : إماتة الشعر وسلب روحه وتأثيره وحرمان المسلمين من سلاح ماضٍ من أفتك أسلحتهم ضد أعدائهم .
والثالث : وهو أخطرها، محاولة نبذ الشريعة والقيم والمعتقدات والقضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجديد وتجاوز جميع ما هو قديم وقطع صلتها به.
أخيراً أحمد الله الذي قيض لهؤلاء الحداثيين من كشف أستارهم وبين مقاصدهم وأغراضهم الخبيثة وأهدافهم الخطيرة بهذا الكتاب الذي يقدمه مؤلفه فضيلة الشيخ عوض للقراء، فقد كشف لنا القناع عن عدو سافر يتربص بنا ويعيش بين ظهرانينا ينفث سمومه باسم الحداثة، وهو بهذا الكشف والبيان يلقي مسئولية عظيمة وجسيمة على علماء هذا البلد وقادته ورجاله وشبابه وغيرهم للتصدي لهذا الخطر, وإيقاظ الهمم، وتنبيه الغافل عنه، ونصح وتوجيه الواقع فيه، جزى الله الشيخ عوض خيراً على ما قدم وأوضح وبين وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم يلقاه، وبارك الله في جهوده وأعماله، وجعلنا وإياه وسائر المسلمين من المتعاونين على البر والتقوى ، كما نسأله أن يحمي بلادنا وجميع بلاد المسلمين بالإسلام وأن يدفع عنها كيد الكائدين وحقد الحاقدين في الداخل والخارج ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بين يدي الموضوع
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ................ وبعد(34/246)
فإن الله شرف هذه الأمة حين بعث فيها نبيه، وأنزل كتابه، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، متبعة لا مبتدعة، في جادة واضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكلما أجلب الشيطان بخيله ورجله لحرب هذا الدين وتفنن في المكر لعباد الله المؤمنين وسلط عليهم جنده، سواء كانوا من الأعداء الظاهرين أو من أبناء المسلمين المخدوعين، فإن أهل الحق يفيئون إلى كتاب وسنة، ويتوكلون على الله وهو خير الحاكمين، وإننا نؤمن بأن موجات التشكيك والتشويه والتحريف لهذا الدين ستنتهي إلى العدم، وسيبقى دين الله كما هو بعيداً عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين {إنا نحنُ نزّلنا الذّكر وإنا لهُ لَحافظُون} .
وكان مما كرم الله به هذه البلاد، أن كانت منطلق الرسالة ومهبط الوحي ومهوى الأفئدة، لوجود الحرمين فيها، ثم كان منها منطلق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, فقامت فيها دولة تعلن أن الإسلام منهاجها، وعقيدته شعارها، وقرآنه دستورها، في زمن أعرض فيه العالم عن الدين لهيمنة الحضارة الغربية المادية.
فأضيف للشرف الطارف شرف تليد، وأصبح لهذه البلاد خصوصية تتميز بها على العالمين، وهذه الخصوصية هي في نظر كل مؤمن سبب سعادتنا وعزنا في الدنيا، ونجاتنا في الآخرة، والحفاظ عليها والتمسك بها أول واجباتنا وآكدها، لن نفرط فيها أبداً، ما دمنا نقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه الخصوصية تستدعي منا أن لا نقبل بفكر يناقض ديننا ويحاربه ويسعى لإبعاده عن التأثير في الحياة، بل نسكته في مهده قبل أن يستشري خطره ويتفاقم بلاؤه، ونبين بالحجج والبراهين خطأ ذلك الفكر وضلاله، حتى نكون أوفياء لديننا وتاريخنا وأمتنا، وقبل ذلك وبعده مطيعين لربنا سبحانه وتعالى .
ومن هذه الأفكار التي ابتليت بها الأمة وبدأ خطرها يظهر في ساحتنا مذهب فكري جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات، وهذا المذهب أطلق عليه كهانه وسدنة أصنامه اسم (الحداثة) وأنا لن أستبق الأحداث، وأحاول أن أعرف بالحداثة، فما هذا الكتيب إلا تعريف بها في الجملة، وبيان لحكم الإسلام فيها، والذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع أمور كثيرة من أهمها:
1- أن الله أخذ العهد على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس ولذلك لا يمكن أن يطالب المسلم بالحيادية ودينه يحارَب، وقيمه تدمر، وعقيدته تنتقص، بل إن الولاء والبراء من أظهر فرائض الإسلام، في سبيله تلغى جميع الروابط الأرضية الأخرى، ويصبح الساكت عن البيان في هذه الحالة شيطاناً أخرس، وخاصة حين نعلم أن الله ربط بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الإيمان، وأن صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عمن فرط في هذا الفريضة، وعلى الأخص حين يصبح المنكر ظاهرا، ينشر في الصحف، ويلقى في المنتديات، لم يعد أهله يستترون به، فإن الأمة ما لم ينبرِ منها من يرد المنكر ويقيم المعروف، يوشك أن يعمها الله بعقاب من عنده، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
2- ولأن كثيراً ممن كان المفترض فيهم من العلماء الأفاضل والمفكرين النابهين، أن يكونوا أول المتصدين لهذه الموجة الفكرية العارمة، وقفوا منها موقف المتفرج غير المبالي، أو ردوا عليها في مقالات محدودة في بعض الصحف، ثم نسي الأمر، وأنا أستثني هنا الكاتب الفاضل محمد عبد الله مليباري، وسهيلة زين العابدين، ومحمد المفرجي، فجزاهم الله خيرا، لجهدهم وجهادهم، وإنني حين تقدمت للمساهمة في هذا الموضوع لا أدعي أنني أول من يتصدى له، لكنني أرجو أن أكون بعملي هذا أيقظت الهمم ونبهت الغافلين، ممن هم أولى مني بهذا.
3- لأن كثيراً من العلماء والأدباء الغيورين يظنون أن الخلاف مع الحداثة خلاف بين جديد الأدب وقديمه، وأن المسألة لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهذا ما يحاول الحداثيون أيضاً أن يرفعوه في وجه كل متصد لهم، لكنني أؤكد أن الصراع مع الحداثة ـ أولاً وأخيراً ـ صراع عقائدي بحت، إذ إنني لا أنطلق في كتابي هذا في الحوار مع الحداثة منطلقاً أدبياً يتحدث فيه المتحاورون عن عمود الشعر ووزنه وقافيته وأسلوب القصة. إننا نختلف معهم في المنطلقات الفكرية العقائدية، ونعترض عليهم في مضامينهم ومعانيهم التي يدعون إليها، وينافحون عنها، وعن هذه فقط سيكون حديثنا، إن كل من يصدّق أن الحداثة مدرسة أدبية في الكتابة والشعر والقصة واهم أو جاهل بواقع الحال، أطالبه بأن يقرأ هذا الكتاب، ثم يحتكم إلى كتاب ربه وما عليه إيمانه فقط.
4- ولأن الحداثيين سيطروا على كثير من الأقسام الثقافية في الصحافة المحلية وتغلغلوا في غيرها من النوادي الأدبية والأندية الرياضية وفروع جمعيات الثقافة والفنون، واتخذوا حيال أي فكر غير فكرهم سياسة قمعية دنيئة كما يقول أحد التائبين منهم، كما سترى في الكتاب، فكان لا بد من الرد عليهم بواسطة النشر في الكتب، بعد أن سدوا جميع المنافذ أمام غيرهم، وكان نصيب أي مقالة رد عليهم أو حتى عتاب لهم هو سلة المهملات .(34/247)
5- ولعل هذا البيان والإيضاح يكون فيه موعظة لمن خدع بالحداثة من أبنائنا, فينيب إلى ربه ويعود إلى أصالته ويستغفر من ذنبه، والله غفور رحيم، بل إني أوجه الدعوة إلى من حمل لواء الحداثة عن قناعة أن يراجع حساباته ويتذكر يوم اليقين, يوم الرحيل عن هذه الحياة وبماذا سيواجه ربه, وليعلم أن التاريخ لا يرحم أحداً، وأنه لا يفرق بين أهل العمالة الفكرية والعمالة الأمنية أو السياسية، بل قد تكون الأولى هي الأخطر.
وإنني أخيراً أحب أن أنبه على أمرين :
الأول منهما: أننا تعودنا من الحداثيين أن يرفعوا عقيرتهم بالصياح عندما نريد أن نحاكمهم إلى دين الله ويقولون ما علاقة هذا بالأدب والفكر، بل يقولون إن التستر وراء الدين والالتجاء له في الخصومة الفكرية علامة الضعف والهزيمة، بل وصل الأمر بهم أن يدافع أحدهم عن أحد الشيوعيين الذين نالوا من الله بألفاظ فجة قبيحة ـ كما سترى عند الحديث عن البياتي ـ واعتبر أن الدفاع عن الدين علامة على فقد التقوى، ومع ذلك فإننا نؤكد مرة أخرى أننا سنحاسبهم إلى الدين وإلى الدين فقط، فهو مرجعنا وميزاننا ومعيارنا، فإن كان لهم من اعتراض فليثبتوا لنا أن ما نناقشهم به لا يستقيم إسلامياً، ونحن مستعدون للتراجع عند ذلك عن كل ما نقول هنا، أما غير ذلك فإننا لن نأبه بنقيق الضفادع ولا نعيق البوم والغربان {والله غالب على أمرِه ولكنّ أكثَر النّاسِ لا يعلَمُونَ} .
ثانيهما : إنني أناقش بالدرجة الأولى الحداثة المحلية، ولا أذكر شيئاً من خارج هذه البلاد إلا بما يحقق منه الهدف ويؤدي إلى بيانه وإيضاحه، وإنني حين أحكم على القضايا فذلك بعد استقراء كلي بعيداً عن الأحكام الجزئية .
وفي الختام فإنني ـ وحتى لا أطيل على القارئ ـ اكتفيت بأمثلة تشير إلى المقصود، واستبقيت عندي الكثير، فإن رأيت له حاجةً بعد ذلك فلن نبخل به بإذن الله ، وإن رأيت أن هذا كفى وأدى الغرض فلن أثقل على غيري به، وما كان من صواب فبتوفيق الله ، وما كان من خطأ فمن الشيطان والهوى وأستغفر الله منه والله المستعان.
د. عوض القرني
الجذور التاريخية للحداثة
إن الحداثة ـ في أصلها ونشأتها ـ مذهب فكري غربي، ولد ونشأ في الغرب، ثم انتقل منه إلى بلاد المسلمين، وحتى يكون القارئ على بينة من الظروف التاريخية التي نشأت الحداثة فيها في الغرب قبل انتقالها إلينا، وحتى نعرف من هم رموز نشأتها من الغربيين قبل معرفة من هم ببغاواتها لدى المسلمين، نضع هذا البحث.
ولا شك أن الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل أن يجدوا لحداثتهم جذوراً في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم إلا من كان على شاكلتهم من كل ملحد أو فاسق أو ماجن مثل : الحلاج، وابن عربي، وبشار، وأبي نواس، وابن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج، لكن الواقع أن كل ما يقوله الحداثيون هنا، ليس إلا تكراراً لما قاله حداثيو أوربا وأمريكا، ورغم صياحهم وجعجعتهم بالإبداع والتجاوز للسائد والنمطي ـ كما يسمونه ـ إلا أنه لا يطبق إلا على الإسلام وتراثه، أمّا وثنية اليونان وأساطير الرومان وأفكار ملاحدة الغرب، حتى قبل مئات السنين، فهي قمة الحداثة وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الحداثة في الغرب مثل: أليوت، وباوند، وريلكة ولوركا، ونيرودا، وبارت، وماركيز، وغيرهم إلى آخر القائمة الخبيثة التي اضطرنا حداثيونا إلى قراءة سير أهلها الفاسدة، وإنتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر.
لقد نمت الحداثة كما قلنا في البيئة الغربية، وكانت إحدى مراحل تطور الفكر الغربي، ثم نقلت إلى بلاد العرب صورة طبق الأصل لما حصل في الغرب، ولم يبق منها عربي إلا الحروف العربية، أما الكلمات والتراكيب والنحو فقد فجرها الحداثيون كما يدعون وفرغوها من مضمونها.
يقول غالي شكري الشيوعي المصري وأحد منظري ورموز الحداثة العربية في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين" صفحة 116 : "إن المفاضلة بين الشعر التقليدي والشعر الحديث، تصبح غير ذات موضوع ، لأنهما لا يملكان في حقيقة الأمر من عناصر الأرض المشتركة سوى اللغة، كما أن محاولة تبرير الشعر الحديث بميراثنا التاريخي، من حركات التجديد في الشعر العربي، هي محاولة غير مجدية ، بل أصبحت ضارة إلى حد ما، فالنقد الحديث الذي يود أن يرافق شعراءنا الجدد، عليه أن يلتفت إلى جوهر القصيدة الغربية الحداثية إذا أراد أن يكتشف جوهر القصيدة العربية الحديثة" .
ونقل صالح جواد في مجلة فصول المجلد الرابع ، العدد الرابع ، صفحة 17 ، عن جبرا إبراهيم جبرا من كتابه "الرحلة الثامنة" قوله : "حركة الشعر الجديد متصلة بحركة الفن الحديث في أوروبا، أو قل في العالم كله أكثر من أي شيء آخر بغير مواربة ، ………… ومن العبث أن نستشهد بالقدامى، ونستند في أحكامنا إلى سوابق لن تجدها في كتب الأدب التي وضعت قبل بضعة قرون على الأقل" .(34/248)
وتتوالى الاعترافات من منظري الحداثة، فهذا محمد برادة يكتب مقالا في مجلة فصول، المجلد الرابع، العدد 3 صفحة 11 بعنوان "اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة" يؤكد فيه بأن الحداثة مفهوم مرتبط أساسا بالحضارة الغربية وبسياقاتها التاريخية وما أفرزته تجاربها في مجالات مختلفة، ويصل في النهاية إلى أن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين.
والواقع أعظم شاهد على أن الحداثة العربية ابن غير شرعي للمفكرين الغربيين، منذ بودلير, وإدجار ألن بو، حتى يومنا هذا ويكفيك للتأكد من ذلك أن تتصفح أي منشور حداثي : شعر أو رواية أو مسرحية أو قصة أو دراسة نقدية، لتجدها تصرخ بقوة وتعلن أنها من نبات مزابل الحي اللاتيني في باريس، أو أزقة سوهو في لندن ، عليها شعار الشاذين من أدباء الغرب الذين لا يكتبون أفكارهم إلا في أحضان المومسات أو أمام تمثال ماركس .
يقول غالي شكري : "وعندما أقول الشعراء الجدد، وأذكر مفهوم الحداثة عندهم …. أتمثل كبار شعراء الحركة الحديثة من أمثال : أدونيس، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي …. عند هؤلاء سوف نعثر على إليوت، وإزرا باوند، وربما على رواسب من رامبو، وفاليري، وربما على ملامح من أحدث شعراء العصر في أوربا وأمريكا ، ولكنا لن نعثر على التراث العربي" .
وما دام أن الأمر كذلك، وأن الحداثة العربية فرع لأصل هو الحداثة الغربية، فإننا نحتاج قبل معرفة تاريخ الحداثة العربية أن نلم بإيجاز بتاريخ الحداثة الغربية.
لمحة موجزة عن تاريخ الحداثة في الغرب
على الرغم من الاختلاف بين الكثير ممن أرخوا للحداثة الأوربية حول بدايتها الحقيقية وعلى يد من كانت, فإن الغالبية منهم يتفقون على أن تاريخها يبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي بودلير، وهذا لا يعني أن الحداثة قد ظهرت من فراغ ، فإن من الثابت أن الحداثة رغم تمردها وثورتها على كل شيء، حتى في الغرب، فإنها تظل إفرازاً طبيعياً من إفرازات الفكر الغربي، والمدنية الغربية التي قطعت صلتها بالدين على ما كان في تلك الصلة من انحراف، وذلك منذ بداية ما يسمى بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين انفصلت المجتمعات الأوربية عن الكنيسة، وثارت على سلطتها الروحية التي كانت بالفعل كابوساً مقيتاً محارباً لكل دعوة للعلم الصحيح، والاحترام لعقل الإنسان، وحينها انطلق المجتمع هناك من عقاله بدون ضابط أو مرجعية دينية، وبدأ يحاول أن يبني ثقافته من منطلق علماني بحت فظهرت كثير من الفلسفات والنظريات في شتى مناحي الحياة. وطبيعي ما دام لا قاعدة لهم ينطلقون منها لتصور الكون والحياة والإنسان، ولا ثابت لديهم يكون محوراً لتقدمهم المادي، ورقيهم الفكري والحضاري، أن يظهر لديهم كثير من التناقض والتضاد، وأن يهدموا اليوم ما بنوه بالأمس ولا جامع بين هذه الأفكار إلا أنها مادية ملحدة، ترفض أن ترجع لسلطان الكنيسة الذي تحررت من نيره قبل ذلك .
فكان من أول المذاهب الأدبية الفكرية ظهوراً في الغرب: "الكلاسيكية" الذي كان امتداداً لنظرية المحاكاة التي أطلقها أرسطو الأب الروحي للحضارة الغربية، وكما قال إحسان عباس في كتابه "فن الشعر" صفحة 40: "فإن الكلاسيكية تؤمن أن الإنسان محدود في طاقته، وأن التقاليد يمكن أن تكون ذات جوانب حسنة جميلة، فهي تميل دائماً إلى التحفظ واللياقة ومراعاة المقام والخيال الكلاسيكي خيال مركزي، مجند في خدمة الواقع" .
ثم جاءت الرومانسية فكانت ثورة وتمرداً على الكلاسيكية، فقدست الذات والبدائية والسذاجة ورفضت الواقع، ادعت أن الشرائع والتقاليد والعادات هي التي أفسدت المجتمع، ويجب أن يجاهد في تحطيمها، ومع كل هذا الرفض والثورة وعدم وجود البديل لدى هذا المذهب، فشل الرومانسيون في تغيير الواقع، فأوغلوا في الخيال المجنح والتحليق نحو المجهول. يقول أحد رموزهم ويدعى (وايتمان) كما في كتاب (ثلاثة قرون من الأدب) ج1 صفحة143: "لو سرت مع الله في الجنة وزعم أنه جوهريا أعظم مني، فإن ذلك ليؤذيني وسأنسحب بالتأكيد من الجنة". وقد كان من أساطين هذا المذهب في الغرب : بايرون، وشيلي، وكيتس، ووردزورث، وكولريدج، وشيلر . وأخذ هذا المذهب الأدبي الفكري في بلاد العرب: شعراء المهجر، ومدرسة الديوان، وجماعة أبولو، على اختلاف بينهم في مقدار التأثر به.(34/249)
ثم كان هناك التطور إلى المذهب البرناسي، ثم المدرسة الواقعية التي تطورت إلى الرمزية التي كانت الخطوة الأخيرة قبل الحداثة. وكان من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في الجانب الأدبي على الأقل، الأمريكي إدغار ألن بو، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل: مالارميه، وفاليرى وموباسان، وكان المؤثر الأول في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان. وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق، وبالفعل كانت حياته لا علاقة لها بالحق ولا الأخلاق ولا الجمال أيضاً وكذلك شعره وأدبه؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار بالأفيون، حتى قيل عنه عند موته في إحدى الصحف الأمريكية كما في (ثلاثة قرون من الأدب) ج1 صفحة 190 "ومما يبعث الأسى لموته، هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بأن الفن الأدبي قد فقد نجماً من أسطع نجومه ولكن من أمعنهم في الضلال". وعلى خطى إدغار سار تلميذه بودلير أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيداً عن الحق والأخلاق . وكان يعتبر عميد الرمزية والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل، وإلا فهناك روافد أخرى ساهمت في تشكيل الحداثة. وقد نادى بودلير بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس في فن الشعر صفحة 64، ويقول عبد الحميد جيدة في الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر صفحة 121: "لقد قام المذهب الرمزي الذي أراده بودلير على تغيير وظيفة اللغة الوضعية، بإيجاد علاقات لغوية جديدة، تشير إلى مواضيع لم تعهدها من قبل … ويطمح أيضاً إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، ولذا لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي". وهذا هو بالضبط ما نقرأه ونسمعه من أدباء الحداثة المحليين عندنا اليوم، بعد ما يقارب مئة عام على ظهور رمية بودلير وعبثيته وذاتيته. أليس هذا غريباً مع دعواهم التجاوز للسائد والنمطي والاجترار من النماذج السابقة كما يسمونها ؟؟!
ويقول محمد برادة في مجلة فصول المجلد الرابع العدد الثالث صفحة 13،14: "الخيبة التي انتهى إليها بودلير من مراهنته على حداثته، ليس فقط أن الشاعر بودلير يعاني موت الجمال ويبكيه .. إنه يعاني كذلك غياباً، لا غياب الله أو موته؛ بل أكثر من ذلك. الحداثة تغلف وتقنع غياب البراكسيس وإخفاقه بمعناه الماركسي، والبراكسيسي الثوري الشامل، وإنها تكشف هذا الغياب، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازي، هي ظل الثورة الممكنة".
ويقول غالي شكري في (شعرنا الحديث إلى أين) صفحة 16 "وقديماً كان بودلير نبيا للشعر الحديث حين تبلور إحساسه المفاجئ العليل، بحياة فردية لا تنسجم مع المثل التي ينادي بها العصر الذي يعيش فيه".
ولتعرف من هو نبي الحداثة هذا الذي يقدسونه وينعتونه بكل جميل، أذكر لك بعض ما ذكره عنه مصطفى السحرتي في مقدمة ترجمة لديوانه (أزهار الشر): "لقد كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجاً للضياع والشذوذ، ثم بعد نيل الثانوية قضى فترة في الحي اللاتيني حيث عاش عيشة فسوق وانحلال، وهناك أصيب بداء الزهري، عاش في شبابه عيشة تبذل وعلاقات شاذة مع مومسات باريس، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدرات والشراب". ويقول إبراهيم ناجي مترجم ديوان (أزهار الشر) لبودلير: "إن بودلير كان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به، وكان يعيش مصاباً بمرض انفصام الشخصية". ويكفي للدلالة على خسته أن فرنسا على ما فيها من انحلال وميوعة ومجون وفساد، منعت نشر بعض قصائده عند طُبع ديوانه في باريس سنة 1957 م . ويقول عنه كاتب أوروبي: "إن بودلير شيطان من طراز خاص"، ويقول عنه آخر: "إنك لا تشم في شعره الأدب والفن، وإنما تشم منها رائحة الأفيون". هذا هو بودلير أبو الحداثة الذي تسود صفحات صحفنا بالحديث عنه والاستشهاد بأقواله وأشعاره .
وكان من رواد الحداثة الغربيين بعد بودلير (رامبو)، وهو كما يقول عبد الحميد جيدة في صفحة 148: "دعا إلى هدم عقلاني لكل الحواس وأشكال الحب والعذاب والجنون، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع، وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث وعلى الماضي, ويقطع أية صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية …. وتميز شعره فنيا بغموضه، وتغييره لبنية التركيب والصياغة اللغوية عما وضعت له، وتميز أيضاً بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة".(34/250)
وعلى آثاره كان (مالارميه) و (بول فاليري)، ووصلت الحداثة في الغرب شكلها النهائي على يدي الأمريكي اليهودي عزرا باوند، والإنجليزي توماس إليوت، وقد تأثرت بهم الموجات الأولى من الحداثيين العرب مثل : السياب، ونازك، والبياتي، وحاوي، وأدونيس وغيرهم تأثراً كبيراً، كما ذكر إحسان عباس في فن الشعر صفحة 72، وتعتبر قصيدة الأرض الخراب لإليوت هي معلقة الحداثيين العرب بما حوته من غموض ورمزية، حولت الأدب إلى كيان مغلق، تتبدى في ثناياه الرموز والأساطير، واللغة الركيكة العامية، إلى آخر ما نراه اليوم من مظاهر لأدب الحداثيين اليومي . ثم واصلت الحداثة رحلتها حين قادها مجموعة من الشيوعيين مثل : نيرودا، وأراجون، وناظم حكمت، ويفتشنكو؛ أو من الوجوديين مثل: سارتر, وعشيقته البغي: سيمون دى بوفوار، والبيركامو .
هذا هو بتعميم وإيجاز شديد تاريخ الحداثة الغربية، وقد حدد الحداثي الشيوعي العربي غالي شكري في كتابه (الشعر الحديث إلى أين) صفحة 9، الروافد التي غذت بذرة الحداثة الخبيثة فقال: "كانت هذه المجموعة من الكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي، لتفسر الحاضر وتتنبأ بالمستقبل، فالمنهج الجدلي والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع، ثم يفسران أزمة العصر أو النظام الرأسمالي، ثم يتنبآن بالمجتمع الاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي. أما الدارونية فتتعرف على أصل الإنسان العضوي ثم تفسر كيانه الراهن وتتنبأ بالسوبرمان. وهكذا الميثولوجية تتعرف على أصل التكوين العقائدي للبشرية، ثم تفسر القلق العقائدي المعاصر، وتتنبأ بما سيكون عليه حال الإنسانية القادمة، ومعنى ذلك أن رؤيا القرن التاسع عشر هي في جوهرها رؤيا علمية عقلانية تاريخية تستهدف الإنارة الكاملة للإنسان".
وهكذا انتهت الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى دارونية تقول : "بأن أصل الإنسان قرد"، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في الأديان التوحيد، وأن الإنسان الأول ما لجأ إلى التدين إلا لجهله بالطبيعة وخوفه منها، حين لم يستطع أن يواجهها بالتفسير العلمي الصحيح ـ كما يقولون ـ .
ولتأكيد أخذ الحداثيين حتى عندنا بأفكار غالي شكري هذه، كتب علي الغامدي في عدد اليمامة 906 صفحة 62 تحت عنوان (الشعر الحديث كمصطلح) موضوعاً في صفحة ونصف، سأنقل منه بعض العبارات لنرى موقف أهل الحداثة من النظريات الغربية، والتي يحاول أساطينهم إدخالها إلينا تحت ستار حوار الحضارات، وإنكار دعوى الغزو الفكري . يقول الغامدي : "ومهما يقال إن تلك المصطلحات منقولة من الغرب، حيث كانت صدى لما كان عليه القرن التاسع عشر، إلا أن لها شمولها الإنساني وصياغتها العالمية التي تناسب كل لغة، ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال : الدارونية، والتي تعتبر كشفا لتطور بعض جوانب الكائن الإنساني، وكذلك العلوم الميثلوجية تعد كشفا لأصول العقائد، وهذه المصطلحات في جملتها تفصح عن منهج جديد واضح ومحدد، يستلهم العقل والتجربة في ربط المقدمات بالنتائج، والعلة بالمعلول".
وعند ذلك لم يجدوا من يتفق مع فكرهم في تاريخنا إلا الزنادقة والفساق وغلاة الصوفية من دعاة وحدة الوجود وشعراء الإلحاد ودعاة الفلسفة اليونانية، يتخذونهم معبّرا يتم بتجاوزه بعد ذلك إلى الحداثيين الحقيقيين الغربيين الذين مجرد ادعاء وجود الحداثة قبلهم هراء، يعلم الحداثيون قبل غيرهم أنه مجرد تضليل وافتراء، وكان القاسم المشترك بين جميع هؤلاء التمرد والانحراف عن دين الله والرفض لشريعته، لأن الحداثيين يعلمون أنه لا يمكن لهم أن ينشروا فكرهم ما دام الدين في الساحة مرجعاً وموئلاً .
يقول أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول) ج3 صفحة 9ـ11: "ومبدأ الحداثة هو الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام، وقد تأسس هذا الصراع في أثناء العهدين الأموي والعباسي، حيث نرى تيارين للحداثة : الأول سياسي فكري، يتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام القائم، بدءاً من الخوارج وانتهاءً بثورة الزنج مروراً بالقرامطة، والحركات الثورية المتطرفة، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانية الإلحادية في الصوفية على الأخص . أما التيار الثاني ففني، وهو يهدف إلى الارتباط بالحياة اليومية كما عند أبي نواس، وإلى الخلق لا على مثال خارج التقليد وكل موروث عند أبي تمام، أبطل التيار الفني قياس الشعر والأدب على الذي أبطل ـ بتعبير آخر ـ القديم من حيث إنه أصل للمحاكاة أو نموذج .
أخذ الإنسان يمارس هو نفسه عملية خلق العالم . هكذا تولدت الحداثة في تاريخنا من التفاعل والتصادم بين موقفين أو عقليتين في مناخ من تغير الحياة ونشأة ظروف وأوضاع جديدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسي الحداثة الشعرية بالخروج" .(34/251)
وهكذا في نظر الغامدي صارت الدارونية فتحاً علميا، وهي التي تقول إن أصل الإنسان الذي كرمه الله قرد، والتي سقطت في الغرب نفسه ورد عليها كبار علمائه، انظر مثلا كتاب (خلق لا تطور) لمجموعة من كبار العلماء الغربيين، تعريب إحسان حقي، أما علوم الميثلوجيا التي تقول إن الأديان من صنع البشر وإن أصل الإنسان كان يعبد مظاهر الطبيعة، ثم تطورت الأديان مع رقي البشرية إلى التوحيد، هذه المقولة التي تناقض كل ما في الكتاب والسنة عن دين أبي البشر آدم، أصبحت عند الغامدي علوماً تفصح عن منهج جديد، يستلهم العقل والتجربة في ربط المقدمات بالنتائج ، في بعد ذي شمول إنساني، يا للهراء ويا للسخافة والسذاجة، أي مقدمات ونتائج تلك . ثم يواصل الغامدي فيقول : "كما أن الدارونية مفهوم جديد يتعرف بها الإنسان على أصله العضوي، ثم يفسر على ضوئها كيانه الراهن، وكذلك الميثلوجية التي تحاول أن تفسر القلق العقائدي المعاصر تفسيراً جديداً، لذا فإن هذه المصطلحات في مجموعها تكوّن رؤية علمية عقلانية تستهدف الإثارة الكاملة للإنسان، وانتزاعه من براثن التقاليد الماضية" وأي تقاليد ماضية غير الإسلام التي يحاول الغامدي أن ينتشلنا منها ويبدلنا عوضا عنها نظريات دارون اليهودي ربيب المحافل الماسونية وابن الصهيونية، والمثلوجيا المنكرة للوحي وكل ما يترتب عليه من أديان وشرائع .
موجز تاريخ الحداثة العربية
بعد أن انتقل وباء الحداثة إلى ديار العرب على أيدي المنهزمين فكريا، ولقيت الرفض من المجتمع الإسلامي في بلاد العرب، أخذوا ينقبون عن أي أصول لها في التاريخ العربي لعلها تكتسب بذلك الشرعية، وتحصل على جواز مرور إلى عقول أبناء المسلمين إذ لا يعقل أن يواجهوا جماهير المثقفين المسلمين في البداية بفكرة غربية ولباسها غربي، فليبحثوا عن ثوب عربي يلبسونه الفكرة الغربية حتى يمكنها أن تتسلل إلى العقول في غيبة يقظة الإيمان والأصالة.
وأدونيس هذا الذي نقلنا عنه محاولة إيجاد جذور لهم في التاريخ الإسلامي، يعتبر المنظر الفكري للحداثيين العرب، وكتابه (الثابت والمتحول) هو إنجيل الحداثيين كما يقول محمد المليباري، ومهما حاول الحداثيون أن ينفوا ذلك فإن جميع إنتاجهم يشهد بأنهم أبناؤه الأوفياء لفكره، بل إن الملحق الثقافي بمجلة (اقرأ) احتج على عدم ترشيح أدونيس لجائزة نوبل في الأدب، وإن أراد القارئ زيادة دليل فليقرأ ما كتبه الزيد في اليمامة العدد 940 صفحة 154 حين اعتبر أدونيس زعيم الحداثة العربية . ومن تلاميذه رجال الخط الثاني الحداثي المقالح اليمني، والغذامي السعودي، وغيرهم . يقول الزيد موجهاً الخطاب للغذامي : "إني أرشحك أن تكون جبيننا المرفوع أمام المبدعين الآخرين، ووجهنا المضيء في كل احتفال مبهج بالكلمة والإيقاع , تماماً كما عبد العزيز المقالح في اليمن، وعز الدين إسماعيل في مصر، وماجد السامرائي في العراق، وكما أدونيس في الوطن العربي كله …. أجدني أبتهج بك" .
وهذا الاستطراد كان لا بد منه لإسقاط مرافعة بعض الحداثيين التي ينفون فيها انتسابهم لأدونيس، وهم وإن كانوا يتهمون غيرهم بالإنشائية فإنهم يطبقون المثل الذي يقول : ( رمتني بدائها وانسلت ) .
وهكذا ابتدأ المنظر الفكري للحداثة العربية ينبش كتب التراث, ويستخرج كل شاذ ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكرين، مثل : بشار بن برد، وأبي نواس، لأن في شعرهم الكثير من المروق على الإسلام، والتشكيك في العقائد والسخرية منها، والدعوة للانحلال الجنسي . وحين يتحدث أدونيس عن أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة، وعن سبب إعجاب الحداثيين بشعرهما، يقول : "إن الانتهاك ـ أي تدنيس المقدسات ـ هو ما يجذبنا في شعرهما، والعلة في هذا الجذب أننا لا شعوريّاً نحارب كل ما يحول دون تفتح الإنسان، فالإنسان من هذه الزاوية ثوري بالفطرة، الإنسان حيوان ثوري". انظر الثابت المتحول ج1 صفحة 216 . بل إنهم يعتبرون رموز الإلحاد والزندقة، أهل الإبداع والتجاوز، وأهل المعاناة في سبيل حرية الفكر والتجاوز للسائد، وألفوا في مدحهم القصائد والمسرحيات والمؤلفات، كما فعل صلاح عبد الصبور مع الحلاج ، الذي اعتبره شهيد الحرية، وضحية الظلم والطغيان والرجعية.
يقول عبد الحميد جيدة في (الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر) صفحة 98 ـ99 : "الرافد الصوفي صُبّ في دائرة الشعر العربي المعاصر، ولونه بلونه الخاص، إن النفري والحلاج وذا النون وابن العربي، وغيرهم ، أثروا في أدونيس والسياب والبياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر، لذلك فإن القيم التي يضيفها الشعر الجديد إنما يستمدها من التراث الصوفي" .
وهكذا بعد أن حاول الحداثيون العرب أن يوجدوا لهم جذوراً تاريخية عند فساق وزنادقة وملاحدة العرب في الجاهلية والإسلام، انطلقت سفينتهم غير الموفقة في العصر الحديث، تنتقل من طور إلى آخر، متجاوزة كل سيئ إلى ما هو أسوأ منه، فكان أول ملامح انطلاقتهم الحديثة هو استبعاد الدين تماماً من معاييرهم وموازينهم، بل مصادرهم، إلا أن يكون ضمن ما يسمونه بالخرافة والأسطورة .(34/252)
تقول الكاتبة الحداثية خالدة سعيد في مجلة فصول المجلد الرابع العدد الثالث صفحة 27 في مقال لها بعنوان: (الملامح الفكرية للحداثة) : "إن التوجهات الأساسية لمفكري العشرينات، تقدم خطوطا عريضة تسمح بالقول : إن البداية الحقيقية للحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة، قد انطلقت يومذاك، فقد مثل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، وأقام مرجعين بديلين، العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني، ومن ثمّ تطوري، فالحقيقة عند رائد كجبران أو طه حسين لا تُلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين" .
هذه هي المرحلة الأولى في الحداثة العربية المعاصرة، بدأت بالنيل من بعض مفاهيم الدين، والتشكيك في مصادره، وهز قناعات الناس به، وجعل الدين في مرتبة الإنتاج العقلي البشري، يناقش ويعرض على مناهج النظر والاستدلال والبحث الغربية، فما أقرته قُبل لا باعتباره وحياً بل باعتباره وافق ما عندهم، وما رفضته تلك المناهج من الدين رفضوه . يقول غالي شكري : "لعل ثورة عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وطه حسين في أوائل هذه القرن، هي البادرة الأولى في حياتنا الشعرية لأن نلقي عن كاهلنا عوائق الوجه السالب في التراث، ونتجه إلى حضارتنا في تكاملها الحي العميق، نستخلص منها وسيلة اللقاء المشروع بيننا وبين ذروة الحضارة الإنسانية المعاصرة في أوربا … وقد اهتزت أيامها فكرة التراث اهتزازاً شديداً" .
ولا شك أن التراث السلبي في نظر شياطين الإنس من الماركسيين هو الإسلام، أما الاهتزاز الذي تحدث عنه شكري فلو قال إنه في المسلمين لا في الإسلام لأصاب كبد الحقيقة، إذ إنهم بعد عصور الضعف والانحطاط والجمود تعرضوا لغزو فكري وعسكري رهيب، كان من نتائجه أن خلّف الغربيون في بلاد المسلمين أبناء لهم يخدمون فكرهم ويحققون أهدافهم، فهم لهم منابر دعاية وأبواق تضليل، أمثال طه حسين، وسلامة موسى ولطفي السيد، وعلي عبد الرزاق، ولطفي الخولي، وساطع الحصري، وشلبي شميل وجورجي زيدان، وقسطنيطين زريق، وأمثالهم كثير، كل هؤلاء وجد فيهم الحداثيون إرهاصات وبدايات مهدت لظهور الحداثة المعاصرة، بل إنها البداية الحقيقية لها، وبداية حلقات سلسلتها التي ربط عراها الشيطانُ الحداثي الأكبر أدونيس .
تقول خالدة سعيد في مجلة فصول المجلد الرابع ج3 صفحة 26 "عندما كان طه حسين وعلي عبد الرزاق يخوضان معركة زعزعة النموذج (الإسلام)، بإسقاط صفة الأصلية فيه، ورده إلى حدود الموروث التاريخي، فيؤكدان أن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة، وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة".
تلي هذه المرحلة ما سمي بالأدب الواقعي الاشتراكي أو الشيوعي، ولا زالت هذه المرحلة التي ابتدأت في الخمسينات الميلادية من هذا القرن مهيمنة على أدب الحداثة، وكان من رموزها : سلامة موسى، ولويس عوض، وأنور المعداوي، ومحمود أمين العالم، وحسين مروة، وغائب طعمة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وأدونيس وغيرهم .
ورافق هذا التيار الاشتراكي، بل كان رديفا له، تيار يأخذ بالفكر الوجودي، يمثله : يوسف الخال، وخليل حاوي ، وأمثالهم . وهناك الكثير من الأسماء التي كانت تجري في أحد مضماري حلبة الحداثة، مثل : سعيد عقل، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمد عفيفي مطر، وأحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور.
وانتشر التلاميذ لهؤلاء وأولئك، بل إن بعض التلاميذ جمع القسمين من المدرسة الواحدة، في كتابته وفكره، في جميع أرجاء البلاد العربية، حتى وصل صحافتنا الوباءُ الفكري، أو التلوث الفكري - كما يسميه الدكتور راشد المبارك ـ في السنوات الأخيرة، ولمعرفة كيف وصلنا وانتشر عندنا أنصح بقراءة مقالة عبد الله سلمان، الذي أعلن توبته من الحداثة في مقال في ملحق صحيفة المدينة الأسبوعي الأربعاء في تاريخ 17 /8/1407هـ وكان عنوان مقاله (سيرة الحداثة من الداخل)، كشف فيه كثيراً من أوراقهم مما اضطرهم للسكوت عن الرد عليه على غير عادتهم في مثل هذه المواقف. وكان من أهم منابرهم الإعلامية في الوطن العربي مجلات : الأديب، وشعر، والثقافة الوطنية، ومواقف، في لبنان. وفي مصر ظهرت مجلات: الشعر، وإبداع، وفصول. وفي العراق: الأقلام. أما الآن فحدث ولا حرج عما يدور في فلكهم من مطبوعات ومنشورات ومنابر أدبية وفكرية.
تقول الكاتبة الفاضلة سهيلة زين العابدين في الندوة 8424 الصفحة 7 : "الحداثة في شعرنا العربي المعاصر نجدها ـ للأسف الشديد ـ قد حققت ما هدفت إليه الماسونية وبروتوكولات صهيون، إذ نجدها في مراحلها المختلفة حققت بالتدريج هذه الأهداف، إلى أن حققتها جميعها في مرحلتها الحالية الأدونيسية، فالحداثة مرت بالمراحل التالية :(34/253)
1- المرحلة الأولى : وبدأت سنة 1932م، نشأت جماعة أبولو التي دعا إلى تكوينها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، ورأينا من خلال حديثنا عن هذه الجماعة كيف أنها تبنت مذهب الفن للفن، وهو مذهب علماني، يهدف إلى إقصاء الدين وإبعاده عن كل جوانب الحياة، تمهيداً لتقويضه والقضاء عليه، واعتناق جماعة أبولو لهذا المذهب جعل السريالية والرمزية والواقعية تتسرب إلى شعرهم .
2- المرحلة الثانية : وهي المرحلة اللاأخلاقية، والتي ظهرت في شعر نزار قباني, وفيه تمرد على التاريخ، ودعوة إلى الأدب المكشوف .
3- المرحلة الثالثة : التي بدأت سنة 1947م عندما نشرت أول قصيدة كتبت بالشعر الحر لنازك ملائكة، ويمثل هذه المرحلة البياتي، وصلاح عبد الصبور، والسياب.
4- المرحلة الرابعة : ويحتلها أدونيس، وهذه المرحلة من أخطر مراحل الحداثة، ودعا فيها أدونيس إلى نبذ التراث، وكل ما له صلة بالماضي ودعا إلى الثورة على كل شيء وهو في هذا يدعي أنه من دعاة الإبداع والابتكار مع أن ما يردده ليس بجديد, فهذه دعوة الماركسية والصهيونية ألبسها لباس ثورته التجديدية لتحقيق الإبداع الذي يدعيه" .
أيها القارئ :
هذه هي جذور الحداثة التاريخية, والمياه العفنة التي سقت بذرتها الخبيثة فخرجت ثمرتها مُرَّة لا تساغ ولا تستساغ .
الغموض في أدب الحداثة والغاية منه
بعد أن عرفنا ما هي الحداثة في أصولها وجذورها التاريخية عند أهلها الغربيين في منشئها وعند تلاميذها الوالهين في بلاد المسلمين وبين أبناء الضاد، نحب أن نتحدث عن سمة هامة من سمات أدب الحداثة تميز بها واتخذها له شعاراً وناضل عنها أساطينهم، ثم نرى بعد ذلك لماذا يصرون على إظهار أدبهم بهذا المظهر وتلك السمة ألا وهي الغموض .
إن أول ما يصدم القارئ لأدب الحداثة هو تلفعه بعباءة الغموض، وتدثره بشعار التعتيم والضباب، حتى إن القارئ يفقد الرؤية ولا يعلم أين هو متجه، وماذا يقرأ : أهو جد أم هزل، حق أم باطل، بل يقطع أحياناً بأن ما يقرأه ليس له صلة بلغة العرب : إمّا في الجمل والتراكيب وإن كانت المفردات عربية، أو حتى في المفردات الجديدة التي تدخل الاستعمال لتوها ولأول مرة.
إن من يقرأ أدب الحداثة يقع في حيرة من أمره لمن يكتب هؤلاء ، وماذا يريدون ؟ !
لقد عرضت إنتاج بعض هؤلاء الحداثيين على أساتذة الأدب في كلية اللغة العربية، لعلي أجد عندهم ما لم أجده في كتب اللغة والأدب حين وقفت عاجزة عن السماح لهذا الأدب بالدخول في دائرة الفكر المعقول، فضلاً عن الأدب الراقي الجميل المؤثر في النفوس، والمؤجج للعواطف، فوجدت أولئك الأساتذة أكثر حيرة.
فعدت أنقب في كتابات الحداثيين أنفسهم، حتى وجدت ما يشير بالتأكيد إلى غايتهم من هذا الغموض .
إن الغموض طغى حتى على عناوين قصائدهم وكتاباتهم، وها أنا ذا أورد نماذج من إنتاجهم، وأعقب بنقول تؤكد إصرارهم على الغموض، باعتباره علامة مميزة لفكرهم، ثم أبين غايتهم من هذا الغموض .
يقول رمزهم المبدع ـ كما يسمونه ـ عبد الله الصيخان في قصيدة حداثية نشرت في مجلة اليمامة عدد 896 :
( قفوا نترجل
أو قفوا نتهيأ للموت شاهدة القبر ما بيننا يا غبار ويا فرس
يا سيوف ويا ساح يا دم يا خيانات
خاصرة الحرب يشملها ثوبها
كان متسخا مثل حديث الذي يتدثر بالخوص
كي لا يرى الناس سوأته
كنت أحدثكم
للحديث تفاصيله فاسمعوني
فقد جئت أسألكم عن رمال وبحر وغيم وسلسلة زبرجد )
إنني أرجو من القراء أن يجهدوا تفكيرهم معي قليلاً لعلهم أن يحضوا بما لم ينكشف لي من كنوز أدب الإبداع , الأدب الجديد والوعي الجديد كما يسمونه، والذي يظن السامع لكلامهم عندما يسمع طنطناتهم ورغاءهم وثغاءهم أنهم حققوا للأمة ما نهض بها إلى الفرقد، وجاوز بها السماكين .
وفي اليمامة أيضاً في العدد 901 يقول زاهر الجيزاني :
( وحدي بهذا القبو
أعثر في حطام الضوء في كسر المرايا
ويداي مطفأتان
ويداي موحشتان
ويداي ترسم بالرماد فراشة
ويداي تأخذني
وأسأل من أكون سبعاً بهذا القبو
أورثناه حكمتنا وأورثنا الجنون )
ما هو يا ترى القبو الذي يشكون الجيزاني من العيش فيه ويتضجر منه ويشعر بأنه أورثنا الجنون ؟! وما هو حطام الضوء ؟ وما هما اليدان المطفأتان ؟ وما علاقة ذلك برسم فراشة في الرماد ؟ !
طلاسم تنتظر من يفك رموزها، وإننا لمنتظرون لأهل الحداثة.
وفي عكاظ العدد 7531 الصفحة 8 كتبت هدى الدغفق تحت عنوان (اشتعالات فرح مثقل) ... وانظر التناقض ، فرح له اشتعالات، وأيضاً مثقل !! قالت هدى هذه من ضمن قصيدة حداثية طويلة، لا أريد أن أثقل عليكم بها كلها، ولكن أسمعكم منها قولها :
( لأني نفيت من الحلم بالأمس
سامرت قيظا
وجعا منح الوقت وقتاً
واحترى أن يمر به الوسم
لأني عاصرت حالة دفني
تجذرت بالرمل
مارست توق الخروج عن الخارطة
ولأن الخريف طوى قامتي )
أهذا كلام العقلاء فضلا عن أن يكون كلام الأدباء أو كما يسمونهم : المبدعين والمتميزين ؟؟!(34/254)
ولنقدم لك نموذجا آخر من هذا الإبداع المصدع للرؤوس, إليك بعض ما قاله هاشم الجحدلي في عكاظ العدد 7524 الصفحة 7 تحت عنوان (مريم وذاكرة البحر والآخرون) . هذا هو عنوان القصيدة الفذة، فلندخل إلى داخلها، ونستمتع بإبداعها الذي تصر عكاظ على حشو العقول به، وإفساد الأذواق بقراءته ... يقول الجحدلي :
( أرتق وجه السماء المغطاة بالعشب
أدون ما يشدو البحر به
هو الليل يأتي لنا حاملاً شمسه
هو الموت يبدأ من أحرف الجر حتى السواد
وينسل طيف الأرانب بين المفاصل والأمكنة
يضيء الغدير المعبأ بالخيل والليل والكائنات الكئيبة
وللنهر بيض يفقس بعد المساء الأخير
وللخوف وجه الذي يشتهيه الشجر )
هل دارت بك رأسك أيها القارئ الكريم ؟؟!
إن هذه الأمثلة التي سقتها لك غيض من فيض مما تزخر به الملاحق الأدبية في صحفنا ومجلاتنا، وما يلقى في أمسياتنا ونوادينا الأدبية وينشر في مطبوعاتنا .
ولا تظنن أيها القارئ أني أبالغ، فهم والله يقدمونه على اعتبار أنه شعر وأدب، ويقدمون له الدراسات النقدية والأدبية، ولولا خوف الإطالة لأوردت أمثلة أكثر، ويكفيك أن تتجه إلى أي عمل أدبي حداثي وتنظر فيه، لترى أنه من نفس النوعية لا فرق بينها إلا التفاوت في الغموض .
هل يا ترى هذا الغموض يأتي اتفاقاً، أم هو أمر مقصود لازم في أدب الحداثة ؟؟ لنرَ ذلك من خلال أقوال الحداثيين أنفسهم .
يقول أحمد كمال زكي في كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) صفحة 18 "لو أننا وقفنا عند ظاهرة واحدة من ظواهر الشعر الجديد، وهي الغموض، وقد أصله سعيد عقل وأدونيس أحد شيوخ المجددين، لرأينا العجب العجاب" . وهكذا ما دام سعيد عقل وأدونيس يرون أن الغموض ضرورة للأدب، فلا بد أن يسلك على نهجهم تلاميذهم لدينا .
يقول عبد الله نور في ملف نادي الطائف الأدبي العدد السادس صفحة 55 : " الشعر يفهم ليس بشعر " !!
ومادام من شروط الشعر عندهم ألا يفهم، فما الغاية منه إذاً ؟ هل هو طلاسم سحر، أم أحاجي ألغاز، أم رموز شعوذة ؟؟!
وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في مساء الأربعاء 16/11/ 1406هـ وشارك فيها من أعمدة الحداثة محمد العلي، وعلي الدميني، وعثمان الصيني، وعبد المحسن يوسف؛ ونشرت في مجلة الشرق الأوسط في عدد 369 يقول سعيد السريحي أثناء تعليقه على الأمسية : "إن هذه الأبواب الإبداعية ذات طبيعة تجعل من الغموض ضربة لازب" .
ويقول السريحي في كتابه (الكتابة خارج الأقواس) صفحة 17: "إن ظاهرة الغموض التي من شأنها أن تعد السمة الأولى للقصيدة الجديدة، نتيجة حتمية أفضت إليها سلسلة من التطورات التي طرأت على العلاقة المتوترة بين الشاعر المبدع والقارئ المتلقي" . ويقول في صفحة 31 من الكتاب : "ومن هنا أصبح من الصعب علينا أن نتفهم القصيدة الجديدة، بعد أن تخلت عن أن يكون لها غرض ما، وأصبحت اللغة فيها لا تشير أو تحيل إلى معنى محدد، وإنما هي توحي بالمعنى إيحاءً بحيث لا تنتهي القصيدة عند انتهاء الشاعر من كتابتها، وإنما تظل تنمو في نفس كل قارئ من قرائها، حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لها من القراء" .
ونحن على فرض التسليم لهم في أن كتاباتهم الغامضة لا معاني لها، فهل تحولت الأمة إلى مجموعة من المجانين يكتبون ما لا يعقلون، ويقرؤون ما لا يفهمون ؟؟
هل هانت أمتنا إلى هذا الحد حتى يصبح أدبها وفكرها عبثاً بأيدي فئة من الممسوخين فكرياً، الذي باعوا أنفسهم للشياطين من الشرق إلى الغرب، يفكرون بعقولهم، وينطقون بأسمائهم، ويصرون على أن يقنعونا بأن الليل نهار والأسود أبيض، كمثل قول محمد الثبيتي : "من الشيب حتى هديل الأباريق تنسكب اللغة الحجرية بيضاء كالقار نافرة كعروق الزجاجة" .
وسنرى فيما يأتي من صفحات هل تعمدهم الغموض فيما يكتبون له أهداف محددة، وهل هي شريفة أم أهداف تناقض ديننا وواقعنا، ولكنهم لعدم قدرتهم على التصريح بها الآن يتعمدون الغموض لتحقيق بعضها على الأقل، والتمهيد لتحقيق البعض الآخر، إني أرجو من القارئ ألا يستعجل في الحكم، لأن الصورة لن ترى كاملة إلا بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتيب .
وحين يحاول بعض السذج أن يقنعونا بأن الحداثة ما هي إلا قوالبُ أدبية وأشكال تعبيرية جديدة، لا ضير فيها من الناحية الفكرية، ننقل لهم ما قاله بعض أهل الحداثة، لتتضح الرؤية ويزول اللبس .
يقول السريحي في صفحة 15 من كتابه، متحدثاً عن إحدى محاضراته التي ألقاها في نادي جدة الأدبي : "وآمل كذلك أن تكون خطوة نحو الخروج من الدوائر المغلقة والزوايا الضيقة التي سئمنا وأسأمنا من حولنا بدوراتنا فيها" .
إذا فهم يريدون الانطلاق بلا ضوابط وبلا معايير في كل شيء، في الفكر والأدب، وبالتالي في الحياة عموماً .
تقول رجاء العالم الكاتبة الحداثية في عكاظ العدد 7580 الصفحة 7 : "لا يهمني إن لم يفهمني أحد" . لمن إذا تكتب ما دام لا يهمها أن يفهمها الناس، ولماذا لا تحتفظ بكتابتها لنفسها بعيداً عن النشر، وما هي يا ترى طريقتهم، وهل نستطيع أن نعرف بعض أهدافهم ؟؟!(34/255)
استمع إلى السريحي وهو يحدد موقفهم من اللغة العربية, يقول في صفحة 27 من كتابه "حيث أصبح من خصائص القصيدة ذلك التركيب غير العادي للعبارة، من حيث التقديم والتأخير والذكر والحذف والفصل والوصل، وأصبحنا نجد الألفاظ تتناثر تناثراً عجيباً لا تربطها رابطة، إذ اختفت كثير من الأدوات النحوية التي اعتدنا وصل الجمل بها، وكذلك استعملت حروف كثيرة في غير معانيها التي وضعت لها، وتوالت الضمائر من غير أن يكون هناك ذكر لمن تعود إليه، ومن شأن ذلك أن يزيد من غموض القصيدة الجديدة، وانفصالها عن القارئ, وقد حرص الشاعر المحدث على كسر الإطار العام للتركيب اللغوي، خلال ثورته العارمة على الاتجاه العقلي ، الذي هيمن على اللغة" .
إذا فمن أهداف الغموض وغاياته كسر الإطار العام للغة العربية، وتحويلها مع مرور الزمن والأيام، ومن خلال استبدال مفرداتها وتراكيبها ومعانيها، إلى لغة جديدة لا صلة لها باللغة العربية الفصحى المعروفة والمأثورة عن العرب - تماما كما حصل للغة اللاتينية - التي تحولت مع مرور الزمن بهذه الطريقة إلى لغات كثيرة .
ولك أن تتصور - لو حصل هذا لا قدر الله ـ موقف الأجيال القادمة من كتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، وكتب التراث بصفة عامة، وأي كارثة يسعى الحداثيون إلى جر الأمة إليها.
وهذا أيضاً ما سيتحقق من نتائج لو تم الاستجابة لدعاة العامية، الذين ينادون بإحلالها مكان الفصحى، ونحن لا نستغرب ذلك فمنشأ الدعوتين من أعداء الإسلام الغرببيين؛ بل صرح حامل لواء الدعوة العامية لدينا في اليمامة عدد879 في صفحة81 بأن "من ينادون بدراسة الأدب الشعبي مثلهم مثل شعراء الحداثة والفنانين التشكيليين". وهم كذلك بالإضافة لمحاولة تحطيم اللغة العربية - من أجل إبعاد الأمة عما نزل بهذه اللغة من وحي وما كتب بها من علم وتراث - يسعون لإعطاء العقول إجازة, ومحاولة إقناع الناس بأن من أراد أن يفهم الأدب ويتذوقه فعليه أن يلغي عقله في كل شيء، ولاحظ كلام السريحي قبل قليل الذي تبنى فيه الدعوة العارمة للثورة على الاتجاه العقلي في اللغة. أما ما هي البدائل التي يطرحها السريحي وأمثاله، فهي الخرافة والأساطير والتبرير الأسطوري المجنون !! يقول السريحي في صفحة 20 من كتابه : "كان الشاعر يستلهم الدور الأزلي الذي أناطته به البشرية حينما كان يتصدر مجلس الجماعة, وعن يمينه جلس الكاهن وعن يساره الساحر، في ذلك الوقت حينما كانت الأرض لا تزال غضة بماء الطوفان وكانت البشرية تبحث لها عن موطئ قدم في أدغال الحياة، كان هؤلاء الثلاثة هم أرباب الكلمة، يتخذها الكاهن معبراً يستشف به الأسرار، ويتخذها الساحر أداة يقلب بها الأوضاع، ويتخذها الشاعر وسيلة يكتشف بها الأشياء، واكتشاف الشيء يبدأ من تسميته. وقد كانت مهمة الشاعر في ذلك الوقت تسمية الأشياء، ولم تكن المهمة بالأمر السهل والهين، ولكي نفهم ذلك فإن علينا أن نلم إلماماً جيداً بنظرية المعرفة كما تجلت في ثورة (كانت) الكوبرينكية على الميتافيزيقيا القديمة والعقل الخالص" .
بهذه السفسطات والتمويهات يريد السريحي وطابور الحداثة من ورائه أن يقنعونا بمغالطات كثيرة، منها على سبيل المثال : أن الشعر والشاعر أزليان، أي لا أول لهما، بل هما قبل كل شيء, وهذه ـ كما نعلم ـ مما اختص به رب العالمين . ومنها أن البشرية كان يقود ركبها في البداية كاهن وساحر وشاعر، ونحن نعلم أن البشرية في بدايتها قادها وحي رب العالمين، بل ذلك من المقطوع به في القرآن والسنة.
ثم يؤكد من طرف خفي أن الشاعر هو الذي كان يسمي الأشياء، أي أنه هو واضع اللغة، ولذلك فإن من حقه أن يستمر في وضع اللغة، وكل كلمة يقولها الشاعر فهي وضع لغوي جديد بدون النظر لسابق هذا اللفظ في اللغة من عدمها .
ومستنده في كل هذه الأحكام الجزافية التي يريد فيها أن يعيدنا إلى عصر السحر والكهانة، هو أستاذه في المعرفة (كانت) الذي ثار على الغيبيات القديمة وعلى العقل وكل ما يمت له بصلة، وتصل صراحة السريحي مداها في المطالبة بإلغاء اللغة حين يقول في صفحة 29 من الكتاب : "ومن هنا فإن علينا أن ندرك أن أول خطوة نخطوها نحو العلم المغلق للقصيدة الجديدة، هو أن نبرأ من هذا التصور اللغوي القديم، بحيث يكون وقوفنا أمام الشعر وقوفاً أمام لغة الشعر نفسها" .
إذاً فهم يسعون من خلال الغموض إلى إنشاء وإيجاد واقع فكري جديد، منفصل ومقطوع عن واقع الأمة الفكري وماضيها العلمي والعقلي والأدبي، في الشكل والمضمون، بالإضافة إلى أن غموضهم فيه من الرموز الوثنية والإشارات الإلحادية ما يفك طلاسم تلك الرموز أمام الباحث, ويحدد له وجهة أهلها وغايتهم في الحياة .(34/256)
وإليك مثالا على رموزهم الإلحادية، ما كتبه الحربي في اليمامة العدد 923 في زاوية للريح والمطر، حين حشر في سطور قليلة أسماء كثير من ملاحدة العالم من العرب وغيرهم، يقول : "من الذي علمك أن تتبع لوركا في انحناءات الجنوب وأوجاعه، وفتح لك نافذة على حقول بابلو، حيث الأيادي المشبعة بالتربة، وقادك ظهراً إلى الأناضول، لترى الجثث والعلامات الحارقة على الجسد مع ناظم، من ناولك ريتسوس في عشية غائمة، ومد أعناق الأسئلة ... من أخرج الرمل من أوراق المنيف، وغطى به حجرتك الصغيرة، حيث العالم مختزل في مستطيل ضوئي، من علمك الاستطالة مع سعدي، وسحر الألوان والعالم يشكو السواد مع درويش وزرعك في غابة المفارقات والتضاد مع أمل" .
وهكذا في نص غامض واحد يجمع لنا الحربي كثيراً من رموز الإلحاد في العالم كله، الذي لا يجمعهم إلا الولاء لليسار والشيوعية العالمية، فمن لوركا الأسباني، إلى بابلو التشيلي، إلى ناظم التركي، إلى عبد الرحمن المنيف وسعدي يوسف ومحمود درويش وأمل دنقل العرب، الذين لا يخفى اتجاههم على متابع للساحة الفكرية في البلاد العربية .
أما التأثر بالرموز الوثنية فما أكثرها في شعر الحداثيين . وغالب شعر أساطينهم من خارج هذه البلاد مملوء بالأساطير، انظر لذلك مثلا فصل التفسير الأسطوري للشعر الحديث من كتاب (شعراء السعودية المعاصرون).
ومن الأمثلة التي أوردها مؤلف الكتاب في صفحة 117 قول سعد الحميدين : "قلبي يدق يدق لكن الجدار يمتد قدامي كشمشون الأزل"، وتقول خيرية السقاف في كتابها (أن تبحر نحو الأبعاد) صفحة 65 : "وتكشر عن حاجبيها بلقيس .... ما الذي دفعك أن ترتدي ثوب شهرزاد .... أوه حدثينا ولكن غير أحاديث شهريار .... شهريار رمز الدم .... شهرزاد رمز الألعوبة الدنيوية" .
وهكذا بين رموز الإلحاد المعاصر والوثنية القديمة، تستطيع أن تتلمس غموض الحداثة المعاصرة، وبعدها عن المعقول والمألوف، ولعل في المباحث القادمة ما يلقي الضوء أكثر على هذه الظاهرة الخطيرة .
وإليك أمثلة أخرى لتأكيد ما قلناه :
تقول خديجة العمري في قصيدة حداثية نشرتها مجلة المجلة العدد 344 الصفحة 39 :
( أنهض من لوثة الوجع العائلي
وأدخلنا كلما احتفل الجرح بالدم
والقاتلين أهزالي بذاكرة اللحظات التي قسمتنا
تساقط في همتي سادتي الحاضرين
وما اختلفوا من يعلق نص الوراثة مرحى )
ومن عناوين قصائدهم قصيدة محمد الثبيتي في صفحة 87 من ديوانه (تهجيت حلماً تهجيت وهماً) عنوان هذه القصيدة (أقول الرمال ورأس النعامة) وفي نفس الديوان في صفحة 83 مقطع من قصيدة حداثية أوله :
" وهبطت زنجية شقراء في ثوب من الرعب بديع " . هل رأيت أيها القارئ زنجية شقراء قبل اليوم، وثوبا من الرعب وبديعاً في نفس الوقت ؟!
ويقول السريحي في كتابه صفحة 49: "بوسعنا أن نقول إن للشعر خاصة وللإبداع عامة نحوه الخاص، ولنجرؤ قليلا فنقول إنه ضد النحو, تتحرك فيه اللغة وفق منطق شعري خاص، لم يعد لمقولات المطابقة في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وحركات الإعراب ما يقتضي وجودها من خارج النص، وإنما تظل كل تلك الأسس النحوية احتمالات من شأن الرؤيا أن تحرك النص بعيداً عنها, إن كان لذلك التحريك ما يقتضيه".
وهكذا يريد أدعياء الإبداع ورواد الحداثة أن يكون أول هجومهم عل اللغة العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها، تحت ستار الحرية في الإبداع ، لعلمهم أن هذه اللغة هي وعاء الشرع خاصة والتراث عامة، وهي وسيلة فهم هذا الدين ومعرفته، لأن الهجوم على الدين مباشرة أمر غير مقبول في بداية المعركة، وإن كانت مرحلة منازلته قد بدأت لدينا، أما في البلدان العربية الأخرى فقد وصلت الضربات إلى القلب على أيدي من يشيد به الحداثيون عندنا صراحة، لكنني أذكر الجميع بقول الشاعر :
كناطح صخرة يوماً ليُوهَنها **** فلم يَضِرها وأوهى قرنَه الوَعِلُ
وليكن ختام الحديث عن الغموض، مطلع قصة غامضة لكاتبة سعودية اسمها رجاء عالم أشاد بها وبأسلوبها وقصتها السريحي في صفحة 60 من كتابه، وقال عنها : "هذه الخاصية ترتكز عليها الكاتبة، مستفيدة بما يبثه الضمير من جو ضبابي، لا تتحدد من خلال معالم ولا تتضح، فهو أشبه ما يكون بالهيولي أو المادة الهلامية" .
والنص الذي أشاد به السريحي هو قولها : "أنا كنت قد خرجت تلك الليلة، حين بدأ الشرخ لمحته يتحرك صاعداً أصابع قدمي، وهم قبل أن يبدأوا الركب خيل إلي أنهم طيبون تماماً لا يعقل أن يغرس أحدهم هذه النقطة على قدمي لتبتلعني" .
وفي جريدة عكاظ العدد 7566 كتب السريحي تحت عنوان (3 خطوات في حضرة البياتي) فكان مما قال : "يأخذك حديثه، يرسم لك مدنا من ثلج أسود، وزمن تركض شمسه مذعورة في الشوارع" .
هل رأيتم ثلجاً أسود في حياتكم، أو سمعتم بشمس تركض في الشوارع ؟ أم أنها تجليات الأستاذ على مريده حين جلس في حضرته، وأحب أن ينقل تلك التجليات وذلك الفناء للناس ليستمتعوا كما استمتع بحضرة أستاذه .
وأخيراً إليك بعض الأمثلة مما يسمونه أدباً وأسميه جنوناً وأنت عليك أن ترجح إحدى التسميتين .(34/257)
ففي اليمامة عدد 940 صفحة 55 قصيدة حداثية عنوانها (الهبوط للأعلى), هل رأيتم هبوطاً للأعلى عند العقلاء ؟؟!
وفي صفحة 75 قصيدة بعنوان (شطحات غير صوفية) منها قوله :
( وهج النحول لم يكن غير انسلاخ الروح من ظل البراءة والتقى
ها أنت من دون العيون براءة
الناس تسلخ بعضها
الماء ينشر سره
النار تأكل بعضها
وأنا أكتم في دمي نار التوغل في مسارات الفجيعة والضحى )
وفي صفحة 76 قصيدة بعنوان (قيلولة) جاء فيها :
( ظهيرة مكسورة الشمس حزينة
غيم تعانقه حمامة
وخيول عشق غادرها الصهيل
اتكأت في نعاس المكان على طرف الحلم
شقية لمت من بقايا العيون السهر
هذا انتظار العشق أسطورة ملأى بنزف حلم )
يفسدون الذوق، ويحطمون الأخلاق، ويحاربون اللغة، لغاية أبعد من اللغة، ويدمرون الأدب، وكل ذلك باسم الإبداع والحداثة .
الحداثة منهج فكري يسعى لتغيير الحياة
إن الوسائل في الإسلام لها أحكام الغايات، ولا يمكن أن يتوصل لغاية شريفة بوسيلة دنيئة . ولذلك لا يمكن في الإسلام أن تنظر للنص الأدبي من الناحية الفنية الجمالية فقط بعيدا عن مضامينه وأفكاره، ولا يغتفر للإنسان من ذلك إلا ما كان خطأ غير مقصود، أو نسياناً، أو كان صادراً من نائم أو مجنون، وما عدا ذلك فإن الإنسان مؤاخذ بما يفعل ويقول على الأقل في الدنيا، وأمره في الآخرة إلى الله ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، إلا من مات على الكفر فهو خالد في عذاب جهنم .
قدمت بهذه الكلمات لكي يُعلم ما هو المعيار الذي نقتبس به أفعال وأقوال الناس, وعلى هذا الأساس سيكون حديثنا عن المنهج الفكري للحداثيين لدينا، حتى وإن أبوا أن يكون الإسلام الحكم بيننا، أو فسروه بما يروق لهم مما يتفق مع أفكار أساتذتهم . وسأعرض في هذا المبحث لأمرين :
الأمر الأول : دعوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحية الشكلية والفنية فقط، بغض النظر عما يدعو إليه ذلك الأدب من أفكار، وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق، فما دام النص الأدبي عندهم جميلاً من الناحية الفنية فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمر أو غير ذلك، وسنرى بعون الله أن هذه المقولة مرفوضة شرعاً وعقلاً، وأنها وسيلة لحرب الدين والأخلاق، يتستر وراءها من لا خلاق له, وسنرى أن أذواقهم الأدبية فاسدة مفسدة، حتى لو سلمنا بمقولتهم تلك وأنهم يرفضون من النصوص ما كان جميلاً ويشيدون بما كان غامضاً سقيماً .
أما الأمر الثاني : فهو أن هذه الدعوى السابقة التي يدعيها الحداثيون، وهي عدم اهتمامهم بمضمون الأدب ليست صحيحة؛ بل إنهم أصحاب فكر تغييري، يسعى لتغيير الحياة وفق أسس محددة ومناهج منضبطة، وموقفها من الإسلام محدد سلفا .
فأما الأمر الأول : وهو ما يسمونه الأدب للأدب والفن للفن، فيقول عبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير) صفحة 10 : "وهذا كله فعالية لغوية، تركز كل التركيز على اللغة وما فيها من طاقة لفظية، ولا شأن للمعنى هنا لأن المعنى هو قطب الدلالة النفعية وهذا شيء انحرفت عنه الرسالة، وعزفت عنه، ولذلك فإنه لا بد من عزل المعنى وإبعاده عن تلقي النص الأدبي، أو مناقشة حركة الإبداع الأدبي" .
وهكذا بكل بساطة يقرر الغذامي أن المسلم عند مناقشته وتقويمه للنصوص الأدبية من نثر أو شعر، يجب أن يطرح جانباً النظر في المعاني، أي أن ينسلخ من عقيدته ودينه وفكره، ولا يكون لها أي دور فيما يعرض أمامه من أدب، ولولا أن خُدع شبابنا بهذه المقولات الغافلة المتغافلة، لما أصبح الشيوعيون أئمة للفكر والأدب يشاد بهم في صحافتنا .
ويقول أيضا في صفحة 56 مؤكداً مذهبه : "ومن هنا جاءت التشريحية لتؤكد على قيمة النص وأهميته، وعلى أنه هو محور النظر، حتى قال (ديريدا) : "ولا وجود لشيء خارج النص ولأن لا شيء خارج النص فإن التشريحية تعمل ــ كما يقول (ليتش) ـ من داخل النص لتبحث عن الأثر، وتستخرج من جوف النص بناه السيميولوجية المختفية فيه، والتي تتحرك داخله كالسراب"" .
أيها القارئ الكريم : ما دام (دريدا) يقرر، و (ليش) يقول : "إننا يجب أن نحاكم النص إلى ذاته ونفسه، وننظر في أدواته الفنية فقط بعيداً عن أي مؤثر خارجي" .... فيجب أن نمتثل قوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند الغذامي أو عند السريحي الذي يقول في عكاظ العدد 7517 الصفحة 5: "من شأن قيام المنهج أن يؤدي إلى سقوط تحكم الأيديولوجيات المختلفة في إجازة دراسة ما أو عدم إجازتها، ذلك أن براءة وحيادية العلم لها من السلطان ما يحمي الدراسة من أن نتعاطف معها، لأنها تخدم توجها نسعى إليه، أو نرفضها لأنها تخالف ذلك التوجه" .(34/258)
هذه هي موازينهم التي يدعون الناس إلى الاحتكام إليها، أما قول الحق سبحانه وتعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ، فلا قيمة له في موازين الحداثيين النقدية ولا في مناهجهم الأدبية، وأما قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله ) , وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ) وغيرها من الأحاديث الكثيرة والآيات البينة الواضحة التي تدل على أن حساب الناس في الإسلام على معاني قولهم ومضامينه قبل لفظه ومبناه، فيجب أن تزاح عن مسرح الحياة، حتى يأخذ الأدب حقه ويؤدي دوره في نظر الحداثيين .
يقول عبد المحسن هلال في عكاظ العدد 7538 الصفحة الخامسة في معرض رده على ملحق الندوة الأدبي حين تصدى ذلك الملحق لدعاة التغريب : "نسي الملحق المذكور أو تناسى قضيته الأساسية في وجوب التفريق بين من يدعون للخروج عن التعاليم والقيم الإسلامية، وبين من يعتنقون الحداثة كمذهب أدبي فني بحت، فاختلط عليه الأمر، فأصبح يتهم كل معتقد بالحداثة بالخروج على هذه القيم والتراث الإسلامي" .
إن هذه دعوى يدعيها كثير من الحداثيين، وهي وإن كانت مرفوضة ديناً وعقيدة، فإن واقعهم يؤكد أن ذلك مجرد تنويم لمن بقيت في قلوبهم غيرة، وأنهم سيتجاوزون ذلك إلى مراحل أخرى .
ويقول عبد الله الغذامي في مقابلة أجرتها معه صحيفة الشرق الأوسط في 10/3/1987 م الصفحة 13 : "يجيب أن نفصل الآن بين الأيديولوجية والممارسة النقدية" .
وهكذا يرى الغذامي أنه يجب ألا تدخل العقائد والمذاهب الفكرية عند نقدنا للنصوص، لكنه يؤكد أن ذلك مطلوب الآن فقط . وهذا ما يشير إلى أنه مجرد مرحلة يسعون لتجاوزها، بعد أن يخدروا بمقولاتها من سيكون عقله قابلاً للتخدير، بل ذلك هو ما كشف عنه الغذامي وباح به في نفس المقابلة حين قال : "الذي نعرفه نحن أن من طبيعة الإبداع التمرد على كل ما هو سابق من قبل، فكيف بي أفرض سائداً سابقاً على نص متمرد، هذا السابق يشمل الأيديولوجية، ويشمل الفلسفة ويشمل المبدأ المقرر سلفا" .
وبسرعة فائقة انقلب الغذامي الذي كان ينادي بمحاكمة النص إلى الوسائل الفنية اللغوية، التي رأينا بعض حملتهم القذرة عليها قبل قليل ... أقول : هكذا انقلب داعياً إلى أن يكون الأدب تمرداً على كل عقيدة ومبدأ وفلسفة مما هو سائد سابق على النص . وهل لدينا من مبدأ أو عقيدة سائدة قبل النص غير الإسلام ؟!
أما ما هي المعايير الفنية واللفظية النصية التي ينادون بمحاكمة النصوص إليها بعيداً عن العقائد والمبادئ فلا أعلم أي معايير يقصدون، بعد أن نادَوا بتحطيم اللغة، وجعلوا تحطيم دلالاتها وتغيير قواعدها والقضاء على معانيها شرطاً أساسياً لكل عمل إبداعي لديهم .
يقول السريحي في صفحة 87 من كتابه (الكتابة في خارج الأقواس) : "ولهذا فإن استخدام الشاعر للكلمة يبدأ بتحطيم الدلالة الوضعية لها لكي يتمكن من أن يطلق ما يكمن فيها من طاقات شعرية ….. وذلك هو ما يجب أن يأخذه الناقد في عين الاعتبار عند تعامله مع لغة المتن الشعري، لأن عمله يبدأ بتحرير المعاني التي غرسها الشاعر في اللغة عندما استحالت على يديه إلى رموز" .
يلغون العقائد والمبادئ من موازين ومعايير النقد للأدب، وينادون بتحطيم اللغة وإهمال قواعدها ودلالاتها تماما. فما هو يا ترى المعيار الذي يريد الحداثيون أن نتخذه نبراساً لنا عند نقد الأدب ؟
يقول السريحي في صفحة 39 من كتابه : "وما ينبغي علينا إزاء هذه التقابل بين الرؤيا الفردية والرؤيا الجماعية هو أن نتحرر من الاحتكام إلى معيارية الخطأ والصواب" .
وهكذا ينادون بإلغاء كل شيء حتى تصبح الأمة ذات عقلية فارغة لا مبدأ لها حتى يمكنهم بعد ذلك تحديد اتجاهها، وإنشاء مبادئ جديدة لها ؛ ألا ترى أنهم يتفقون جميعاً على استبعاد القديم والسائد والنمطي - كما يسمونه - وإنني أرجو منهم أن يثبتوا لنا شيئاً ، ينصب عليه كلامهم غير ديننا.
أما الأمر الثاني : وهو إثبات أن الحداثة منهج فكري، ذو نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، وعلاقتها ببعضها وبدايتها وغايتها ونهايتها، وأنه يتخفى تحت مسميات الأدب الجديد والحداثة في الأدب ، فهذا ما سنتحدث عنه في هذه السطور .
نشرت صحيفة اليوم في العدد 4762 تحقيقاً عن ندوة الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج، والذي يهمنا في الموضوع ثلاثة أمور :
الأول : أنه وإن كانت الندوة في الكويت, ولكن صحيفة سعودية نشرت ما دار فيها وأثنت عليه .
الثاني : أنه مثل السعودية فيها ـ مع الأسف ـ فوزية أبو خالد، وأسفي هنا لأنها نشرت صورتها في الصحف الكويتية، ثم في صحيفة اليوم السعودية متبرجة ناشرة لشعرها، بل في بعض الصور وهي تلقي الشعر على الجماهير الكويتية ، ويجب ألا ننسى أنها محاضرة لبناتنا في إحدى الكليات .(34/259)
الثالث : وهو المهم ؛ لنستمع لما قال بعض المشاركين في الندوة .... يقول إبراهيم غلوم أحد المتحدثين في الندوة : "إن الحديث لا يمكن أن يتم إلا في حوار حضاري ديمقراطي، كالمجتمعات الأوربية التي استقرت فيها الحركة الديمقراطية، وإن أطروحة التغيير هنا لا بد وأن تصطدم بالمؤسسات والقوانين والعادات والآداب العامة، وأرى أن الشاعر في الخليج في الوقت الراهن قد عبر عن التفتح الجديد بقصيدة جديدة، واستطاعت أن تؤدي هذا دون أن تصطدم مباشرة بالرموز المباشرة، وأؤكد أن القصيدة الجديدة ظلت في معزل عن الصدام المباشر مع رموز التخلف، لأنها تصطنع دائماً رموزا بديلة" .
إذا فهم أصحاب طرح تغييري ولا يمكن أن يكون ذلك إلا لأصحاب مذهب فكري محدد. ولذلك فهو يؤكد أن الصدام بينهم وبين كل شيء في هذه الأرض من قوانين وعادات وآداب بل ومؤسسات، لا بد منه. وأرى أنه عبر بصدق وصراحة عما يعبر عنه كثير من الحداثيين بلف وغموض ومداورة، وهو هنا يتحدث عن لازمة من لوازم المنهج الشيوعي في التغيير، إنه الصدام أو ـ كما يسمونه ـ العنف الثوري . لا يرضون بالتغيير السلمي ولا يقرونه وسيلة من وسائلهم، لكنهم لا يقدمون على ذلك إلا بعد أن يشتد عودهم ويقوى ساعدهم، أما قبل ذلك فهم يتسترون وراء كثير من الرموز قد يكون منها الوطنية، وقد يكون منها الديمقراطية، ولكنهم في النهاية لا بد وأن يقضوا على رموز التخلف كما سماها غلوم، والذي يظهر- والله أعلم ـ أنهم يستعدون منذ الآن لهذا الصدام القادم الذي يدفعون الدنيا له دفعا . استمع إلى من اعتبروها ممثلة سعودية في الندوة حين تقول : "إن القصيدة الحديثة التي تحاول أن تؤسس تجربتها، قد خلعت كل ملابسهاالمهيبة والمنيشنة، والصدام القادم هو صدام على حرية القصيدة" .
وهكذا ما دام أن فوزية أبو خالد قد خلعت لباس الحشمة والوقار ووقفت على المنابر بين الرجال، بلا ساتر ولا حجاب وجلست بينهم في الصفوف، فهي تستعجل أيضاً أن تخلع أفكارها وأفكار رفاقها ملابسها ونياشينها، لتكون الدعوة إليها مكشوفة معراة بلا غموض ولا شعارات مرحلية بل تستعجل الدخول في الصدام القادم كما تسميه .
وفي مجلة اليمامة العدد 901 صفحة 62 يقول أحد الكتاب الحداثيين : "ينبغي أن نخلع جبة الأصول وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة التجربة ونقض الماضي وتجاوزه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة، ليس هذا من حق الشاعر فحسب ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا".
تحت دعوة إتاحة الحرية يسعى الحداثيون لتدمير حياة الأمة الفكرية وثوابتها العقدية، إذ كل شيء عندهم يجب أن نترك للشاعر الحرية أن ينقضه لا أن ينقده فقط، وأن يتجاوزه لا أن يقف عنده فقط، لأن الماضي عندهم ليس أكثر من تجربة، يجب أن تزاح ويحل مكانها تجربة جديدة، وعندما نلتزم بنصيحة الحداثي المبدع ونخلع جبة الأصول ونحطم اللغة ونبتعد عن قلنسوة الوعظ، نصبح أمة لا جذور لها ولا ثابت في فكرها ولا حياتها، بل كل شيء قابل لأن يتغير ويتبدل، العقائد والأخلاق والسلوك، وعند ذلك تكون الحداثة وأهلها قد أدوا دورهم كاملاً، الذي لن يتحقق بإذن الله ما دام في أرض الإسلام من يعي أساليبهم ويرد كيدهم في نحورهم .
وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في 16/11/1406هـ وشارك فيها من أعمدة الحداثة محمد العلي, وعثمان الصيني، وسعيد السريحي، وعلي الدميني، وعبد المحسن يوسف، ونشرت الأمسية في مجلة الشرق العدد 369، تبدي كثيرا مما كان يخفيه الحداثيون ... فمثلاً يقول السريحي في تلك الأمسية : "للحداثة مفهوم شمولي، هو أوسع مما منح لنا ومما ارتضينا لأنفسنا، ذلك أن الحداثة نظرة للعالم أوسع من أن تؤطر بقالب للشعر، وآخر للقصة وثالث للنقد، إنها النظرة التي تمسك الحياة من كتفيها، تهزها هزاً، وتمنحها هذا البعد الجديد" .
الله أكبر، لقد استبان الصبح لذي عينين، فلم تعد الحداثة مجرد قوالب أدبية وأشكال تعبيرية للشعر والنثر والنقد كما يصرون ويريدون أن يقنعونا كلما أراد أحد أن يعترض عليهم، بل هي منهج شمولي أتوا به لكي يمنح الحياة بعداً جديداً، وينشيء فيها واقعاً جديداً، وهذه لم تكن فلتة لسان من السريحي، بل هناك من أقواله وكتاباته ما يؤكد ذلك . وهم ـ الله أعلم ـ لا يقولون ذلك إلا ليروا مدى رد فعل الناس، حتى يقرروا خطواتهم القادمة، أو أنهم اطمأنوا إلى أن الناس معهم، أو أنهم مغفلون لا يعلمون ما يقولون .
ومثل قول السريحي يقول أحمد عائل فقيه في عكاظ العدد 7371 الصفحة 10 : "إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع، وذلك هو المأزق الثقافي الشائك الذي لا تدري كيف يمكن بالكاد تجاوزه وتخطيه، أنت في كل هذا تصطدم مرة أخرى بجملة حقائق ومسلمات اجتماعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي في أذهان الناس . ألا بديل لما هو سائد ومكرس أيضاً ؟ إذا كيف يمكنك تمرير ما تحلم به، وما نود أن تقوله علناً" .(34/260)
إنها حقائق خطيرة تتجلى لنا في كتابة الحداثي أحمد عائل، لا بد أن يعيها كل مسلم غيور على دينه وبلاده رافضاً لما يخطط الأعداء لها من محاولات إفساد وتدمير، ومن هذه الحقائق :
1- أن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومغاير ومناقض لما في مجتمعنا من مثل إسلامية وقيم إيمانية .
2- أنهم في حيرة من أمرهم، كيف يمكنهم تغيير هذه القيم الأساسية في المجتمع وتجاوزها وتخطيها إلى ما يريدونه من قيم أخرى .
3- أنهم لا يسعون لتجاوز بعض الأمور الهامشية، بل إنها حقائق ومسلمات لدى المجتمع المسلم راسخة عنده رسوخ الرواسي، ولا يرضى بها بديلاً.
4- وأخيراً فإن للحداثيين أحلاماً وتطلعات، إلى أن يأتي اليوم الذي ينادون فيه بكل أفكارهم علناً وصراحة، بعيداً عن الغموض الذي يتلفعون به الآن في الجملة .
أخي القارئ قارن بين هذا الكلام، وكلام فوزية أبو خالد وإبراهيم غلوم الذي ورد قبل قليل لترى بوضوح أن الأهداف واحدة, والغاية في النهاية هي تغيير المجتمع وتبديل مسلماته وقيمه . ولكي تتحدد لك بعض ملامح هذا التغيير ننقل لك ما قاله السريحي في صفحة 37 من كتابه ... يقول : "وهذا التوتر هو السمة الأساسية التي لو لم تتحقق لحق لنا أن نشك طويلاً في قيمة ما يقدمه هذا الفنان أو ذاك، وهو محصلة طبيعية لما يشكله الفن من مروق على عرف الجماعة، وخروج عن معياريتها السائدة في الرؤيا أولاً، وفي التغيير أخيراً" .
هل رأيت أيها القارئ أن طنطنتهم بأن اختلافهم مع غيرهم إنما هو في أشكال التعبير, إنها مجرد كلام فارغ ومخدر مؤقت، وأن السريحي يؤكد أن هذا الاختلاف لا يأتي إلا في الأخير، أما الاختلاف الأول مع المجتمع والمروق على أعرافه فيجب أن يكون في الرؤيا، بل إن السريحي يؤكد أن الفنان المبدع لا يستحق ذلك الاسم حتى يخرج عل المألوف ويحارب المعروف، ويعلن أن المجتمع ـ أياً كان هذا المجتمع ـ يجب أن يتبعه أينما سار .
يقول السريحي : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة له عنه، وإن آمن في ظاهر الأمر أو باطنه بكل أعرافها، وخضع لكل تقاليدها في حياته العامة" .
ولا يكتفي السريحي بالتأكيد على أن الأدب يجب ـ حتى يستحق منه شهادة بأنه أدب - أن يخرج عن إطار المجتمع العام وأعرافه وقيمه، بل يؤكد ـ وهو الناقد الكبير كما يسمونه ـ في صفحة 78 من كتابه, أن الوعي الجيد يجب أن يتجرد من المقومات العقلية، وذلك في قوله : "وهذا يعني ثناء إزاء وعي جديد يتجرد من المقومات العقلية للوعي" .
وهذا يعني أنه لا يكفي أن تُغطى قيمنا وديننا وأخلاقنا وأصولنا إجازة، بل لا بد أيضاً أن نلغي عقولنا ونمنحها إجازة، وربما كان ذلك عطفا ورأفة من السريحي علينا حتى لا تصاب رؤوسنا بالصداع والدوار من بلائهم وغثائهم، وحتى يستطيع أن يدخل فلسفة هيجل في عقول أجيالنا والتي استشهد بها في صفحة 39, حين قال : "إن الرؤيا الإبداعية هي تحرر الروح من أسار الضرورة، وانطلاقها وراء حدود الإمكان، وتشوقها نحو المثالي، وسعيها باتجاه المطلق، وذلك هو جوهر الفن كما يراه رائد الجدلية المثالية هيجل" .
هل رأيت الغرام والاستشهاد بما يراه هيجل الفيلسوف المادي الملحد ؟ بل إن التأثر به في كتابات السريحي واضح كل الوضوح . فمثلاً استمع إليه حين يقول في صفحة 38 من كتابه : "هذه الرؤيا الإبداعية تنبثق من خلال العلاقة الجدلية التي تربط الذات بالعالم الذي يحيط بها" .
هذا هو البعد الشمولي لمفهوم الحداثة الذي يريد السريحي أن يهز به الدنيا هزاً من كتفيها !!
وفي صحيفة الرياض العدد 6714 الصفحة 7 كتب فهد العتيق تحت عنوان (حول الخصوصية في الإبداع والكتابة خارج الزمن) - وهم هكذا دائما يكتبون خارج الزمن وخارج الأقواس وخارج المألوف، بل وخارج المعقول أيضاً، وما أظن هذه الرموز والرمزية أصبحت خافية على القارئ بعدما تقدم - المهم أن مما كتبه العتيق في تلك الزاوية (اقرأ) مفهومها للخصوصية الإبداعية : "إنها باختصار تحقق لإمكانية النص باعتبارهما منتوجاً ثقافياً لا معدى له عن الانصياع لجبروت الزمن التاريخي، وهو اجتماعي في جوهره ، لأن حركية الصراع الاجتماعي تختلف اختلافاً ملحوظاً من بقعة إلى بقعة أخرى في المساحات الطبوغرافية الضيقة " .
أرأيت أيها القارئ أن الحديث عن الحتمية التاريخية والصراع الطبقي، وما أظنك تحتاج لإيضاح أكثر من هذا في تحديد الملامح الفكرية لهذه الحداثة . ولتأكيد ذلك يقول أحمد عائل فقيه في صحيفة المدينة العدد 7147 الصفحة الأولى من المدينة الثقافية : "كان حضور هذه القصيدة قد حسمته ظروف اجتماعية وتاريخية، فكان ميلاد هذه القصيدة، لقد كان حضورها هو نتاج الظرف التاريخي، ونتاج قطيعة معرفية، وهي محاولة كتابة واقع جديد، وكذلك إلغاء الآخر" .(34/261)
هل تريد أيها القارئ أن تعرف ما هو الواقع الجديد الذي يسعون لكتابته في الحياة ؟ انظر لما قاله على الدميني في نفس الصفحة، وكان مما قال : "إن الشعر المستقبلي سيصبح شعراً خالصاً صافياً من شوائب المديح والهجاء والغزل الفج ، وبعيداً في اهتماماته عن الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنني أرى أن ذلك الطيف الذي لا بد أن يتحقق في المستقبل المتخيل أو المنشود يحتاج إلى عمل شعري يتعانق مع حركة المجتمع وسعيه إلى بلوغ وضع اجتماعي جديد لا تعود فيه الهموم السياسية والاقتصادية هموماً ملحة وإنما تغدو منتفية بأن ضروراتها الحياتية تكون حينذاك قد أنجزت وبلغ الإنسان فيها مشارف المدينة الفاضلة والعلم الأرضي الجميل" .
وهكذا في وضوح لا غبش فيه يبشر الدميني بالمستقبل المنشود والحلم الذي يرى أنه لا بد أن يتحقق في هذه الحياة، وإنني أتساءل : ما هو الفرق بين هذا الحلم وبين جنة الشيوعية الأرضية التي تعد بها البشرية على الأرض حين تعم دولتهم العالمية ـ كما يزعمون ـ وعندها ينتهي الصراع ومبرراته، وبالتالي تنتهي الهموم وتكون المدينة الفاضلة ؛ لكن الناس يعلمون أن الشيوعية حولت أي أرض نكبت بها إلى جهنم الحمراء .
وفي مقابلة أجرتها جريدة الرياض العدد 6794 الصفحة 12 مع عبد العزيز المقالح ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الحداثة منهج فكري شامل يسعى للتغيير، يقول المقالح عند حديثه عن الأدباء الشباب : "وما يلفت الانتباه في تجربة هؤلاء الشبان أنهم لا يخضعون للثوابت ولا يجترون التعابير الشائعة والمبتذلة والسطحية ، مع حرصهم العميق على الربط بين الإبداع وضرورة التغيير" .
إن ما قلناه عن أهل الحداثة قبل قليل يؤكده المقالح هنا ، وهو تحطيم الثابت وضرورة التغيير .
وفي المدينة المنورة العدد 7210 ، لقاء مع شاعر تونسي حداثي اسمه المنصف المزغني، تحدث عن بعض زملائه الحداثيين عندنا، وبين أن رؤيتهم واحدة وإن اختلفت عباراتهم, وذكر أنهم يتجاوزون الحدود العربية في هذه الرؤية، يقول المزغني : "محمد الحربي، خديجة العمري، وعبد الله الصيخان، أصوات ثلاثة تُغمس أقلامها في محبرة الحداثة، وتكتب متجاوزة حدودنا العربية ... أصوات ثلاثة ائتلفت في الرؤية والرؤيا، واختلفت في العبارة" .
وهذه الشهادة وإن اعتز بها الحداثيون، لكنها في نظرنا شهادة إدانة لهم, وكشف عن هويتهم الفكرية التي لا تمت لأمتنا بصلة، ولا لواقعنا بعلاقة بل هو خلاف كل ذلك . ويقول الغذامي في عكاظ العدد 7566 الصفحة 7 : "من شرط الإبداع أن يكون فوق السائد والمألوف، وهو يرتقي بمقدار تجاوزه لظروفه، مثلما أنه يتناقض بمقدار تماثله مع تلك الظروف" .
ولكي تدرك ما هي الفوقية التي يطالب بها الغذامي المبدع ـ كما يسميه ـ انظر إلى مقالة في نفس الصفحة لم يذكر اسم كاتبها، وعنوانها (في اليوم المحاميد والثابت المعنوي) والمقالة تناقش ما كتبه خالد المحاميد الكاتب الحداثي في صحيفة اليوم قبل ذلك، وكانت الأسماء التي وردت في المقالة للاستشهاد بأقوالهم هم : تايلور، وشتراوس، ومالينوفسكي، وراد كليف براون، وهربرت ماركوس، ومما ورد في المقالة قول الكاتب : "ثم لماذا هذا الفصل غير المنهجي بين الثقافة والحضارة، هل هو نتاج من نتاجات المرحلة البرجوازية، كما قد ذهب هربرت ماركوس من قبل في تحليله لإشكالية هاتين الكلمتين في الحضارة الغربية قائلا ما معناه : إن الفصل بين الثقافة والحضارة هو نتاج المرحلة البرجوازية" .
وهكذا تنقل المصطلحات الغربية إلى واقعنا مهما كان يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه تلك المصطلحات، وذلك أن الحداثيين جعلوا من شروط الإبداع أن نكون فوق السائد والمألوف؛ ولا أعلم في أي المراحل يصنف قسم من الحداثيين مجتمعنا ـ حسب فلسفتهم ـ إقطاع ثم برجوازية ثم بروليتاريا، وهذا المنهج القائم على فلسفة النقيض لكل ما هو موجود، والذي يستمد جذوره الفكرية من مناهج فلسفية مادية عانت منها البشرية الويلات، وهذا الكلام الذي أقوله له ما يؤكده في كلام كثير من الحداثيين . ومن ذلك قول الغذامي في عكاظ العدد 7517 في دراسة عن شعر الثبيتي قال فيها : "وفي المقابلة الأولى ـ مقابلة أجريت مع الثبيتي ـ كانت الخلفية الشعرية واضحة المعالم، وكانت تنم عن مشاعر مجرب يعرف ما هي القصيدة، ويعلم أنها عالم معقد, عالم واسع مشروع غامض، وأنها دخول في الزمن، وأنها مسافة شاسعة بين الواقع وبين غامض، وأنها دخول في الزمن، وأنها مسافة شاسعة بين الواقع وبين الحلم، وهي لذلك لا علاقة لها بالواقع لأنها واقع نقيض هو الحلم في النهاية" .(34/262)
ونحن حين نؤكد بأن الحداثة والحداثيين ظاهرة مناقضة لعقيدتنا وأمتنا، فإننا لا نتهمهم بل نقرر ما خطته أقلامهم ونشرته ملاحقهم الأدبية في الصحف السيارة، وإن كان بعضهم يستعجل نتائج التغيير، ويستبطئ مسيرة التطور، ويرفض المرحلة، فإنما يعبر عن صدق في التعامل من المنهج الحداثي، ومن ذلك قول عبدالرؤوف الغزال في عكاظ العدد 7461 : "هناك قناعات خاصة بي، بدأت تتبلور في وعيي، وهي عن جدوى النقد المطروح في الساحة، معظمه نقد اللحظة الآنية، هو مجرد تعليق على قصيدة نشرت في صحيفة، أو قصة ألقيت في أمسية عابرة، وذلك غير مجد بتاتاً، قد يقول البعض : إن ذلك ضرورة مرحلية، لكنها مرحلية أن يتأسس عبرها فكر نظري أو نقد تطبيقي، يجب أن يتهيأ نقاد وباحثون يشتغلون على مشاريع متكاملة، يؤسسون عبرها المتغيرات الاجتماعية في المستقبل" .
إن هذا الكلام الذي قاله الغزال يعبر بكل وضوح عن فهم الحداثيين للأدب والنقد، وأنه يجب أن يقوم بدور تغييري في المجتمع، وأن يتجاوز المرحلة التي يعيشها، لكنه بعد ذلك يؤكد أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال تراكمات تاريخية حادة - كما يقول - وهذا الكلام يتطابق تماما مع المنهج الماركسي في التغيير، ويستخدم مصطلحاته مثل: المرحلة ـ المرحلية ـ التغيير الاجتماعي ـ التراكم التاريخي الحاد ـ . ويأتي أحمد عائل فقيه في صحيفة عكاظ العدد 7468 الصفحة 5 ليسخر من أولئك الذي لا زالوا يظنون أن الحداثة منهج أدبي لا منهج فكري، ويقول : "إن الحداثة ليست كتابة نص إبداعي فقط، وإنما هي موقف صارم وحاد إزاء الكثير مما هو راكد ومؤسي ... لقد صنعت أهميتها وحضورها المضيء، وأشعلت السؤال الكبير في أذهان الذين هم يقفون خارج المرحلة، لأنها تجاوزت الرؤيا التي يمتلكونها والهم الاجتماعي الذي يحملونه أيضاً … إن مصطلح الحداثة أخذ شكلاً مطاطيّاً جعل أنصاف المثقفين، وجعل هؤلاء الذين يقفون ضد حركية الزمن يتحدثون دون وعي عن هذا المصطلح، فهو عندهم لا يتجاوز القصيدة فقط، فهو يرى أن الحداثة ـ فقط ـ مرتبطة بالقصيدة، وبوعي مثقوب وممخور أيضاً، إنهم لا يدركون أنها رؤية شمولية للعالم، للحياة، لأشياء تُرى، لأشياء لا تُرى ألبتة" .
هذه الشهادة التي أدلى بها رمز حداثي، لا تحتاج إلى بيان وإيضاح، بل هي توضح نفسها، وتحدد ما هي الحداثة التي لا زال البعض يظنها أسلوباً للكتابة فقط . وتأتي الشهادة مرة أخرى في نفس العدد من عكاظ الصفحة 7 حين كتب ماجد يوسف يقول : "وأؤكد للكاتب أن إدراك ما فاته يحتاج بالفعل إلى درجة عالية من الصبر وكبح جماح النفس، لسبر غور التجربة أو الحركة الجديدة، المغايرة والهادمة للسائد والمألوف، المستتب والمعروف" .
وتستمر صحيفة عكاظ في إيضاح ملامح المنهج الحداثي وتحديد أبعاده الفكرية، ففي العدد 7490 الصفحة السادسة, مقابلة مع شاعرة لبنانية حداثية اسمها : نهاد الحائك . صدرت المقابلة بصورة الشاعرة، وفي جانب الصورة تقديم للشاعرة وتعريف بها، ابتدأته الصحفية بقولها : "صوت شعري يأتي ليخترق العادي، ويكسر كل ما هو مألوف" , وهذا هو المهم والمبرر لتقديم الشاعرة، والإشادة بها أن تكسر المألوف، ثم كان من الأسئلة التي طرحت على الشاعرة السؤال التالي :
"ماذا تعني الحداثة لك ؟ هل هي موقف فني وفكري شامل من الحياة والمجتمع ، أم موقف فني جمالي فقط ؟ "
وكانت الإجابة من شاعرتهم الحداثية قولها : "الحداثة طبعاً هي موقف تحرري" .
وحين تقدم الصفحة الأدبية من العدد 7524 من عكاظ خبراً عن ديوان الشاعر الكويتية الحداثية سعاد الصباح، توجه لها عتاباً لأن قصائدها كما تقول عكاظ : "تظل تحمل في تضاعيفها تقليدية النظرة إلى الحياة والعالم" . وهذا تأكيد على أن للحداثة نظرة جديدة للحياة والعالم تخالف ما قرره الإسلام سلفاً .
وفي العدد 7489 من جريدة عكاظ الصفحة 5 يكتب أحمد عائل فقيه عن روايات اليساري عبد الرحمن المنيف ويؤكد أنها تعبر عن الإبداع بصدق, يقول: "المعوقات التي تأتي في صميم الواقع الاجتماعي، وكل التناقضات الماضوية" ، وطبعا ما دام هناك تناقضات ماضوية ـ كما يقول ـ فسيكون نتيجة الصراع بين التناقضات ظهور نقيض النقيض، وهو هنا الإبداع الحداثي، الذي يطمعون أن يؤدي إلى ما تمناه الدميني في الحديث السابق الذي نقلناه عنه، وهذا المنهج والمصطلحات لا تخفى أصولها الفكرية على أحد، ونحن حين نؤكد أن الحداثة منهج فكري شامل له نظرة خاصة في الحياة وأنهم حين يضطرون للتعمية والغموض حتى لا تنكشف لعبتهم قبل أوان كشفها، فإنهم يقولون : إن الحداثة منهج أدبي وأسلوب للكتابة لا علاقة له بالأفكار المطروحة، وأن هذا المنهج يمكن أن يكتب به المسلم والملحد .(34/263)
لكن يأبى الله إلا أن يكشف زيفهم وتظهر رائحة أفكارهم تزكم الأنوف المؤمنة، وبين الغموض والمناورة والتطلع إلى الدعوة لأفكارهم صراحة يظهر المخبوء، فتقيم صحيفة عكاظ في العدد 7412 الصفحة 9 ندوة بعنوان (نحو مفهوم شمولي للحداثة) وتجمع لهذه الندوة من يمكن أن يقال إنهم أعمدة الحداثة ورواد فكرها في البلاد والمنافحين عنها وهم: محمد العلي، وعبد الله الغذامي، وسعد البازعي، وعالي القرشي، وعثمان الصيني، وعبد الله الصيخان، وإليك بعض المقتطفات مما قيل في الندوة لتدرك بعد ذلك ما معنى الحداثة عند الحداثيين .
يقول العلي : "لا شك أن الشروط الاجتماعية التي أفرزت الحداثة الغربية ليست متوفرة لدينا، ولا يمكن توفرها إلا بعد عقود عديدة, فالحداثة هي ذلك الإفراز الجدلي الذي يتم بين السياقات، ووفق صراع لا يدرك بالعين المجردة, ذلك الإفراز الجدلي المتقدم إلى الأجمل والأعمق في رؤية الإنسان والحياة هو ما أسميه وأعتقد بأنه الحداثة" .
إذاً فهو ـ أولاً ـ يعترف بأن الحداثة نبات غريب على أرضنا وحياتنا، ولذلك فإن الواقع الاجتماعي عندنا يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه الحداثة، لكنه يتوقع أن يصبح واقعنا مثل ذلك الواقع بعد سنين، وبالتالي فإن الحداثة عندهم هي الإفراز الجدلي الناتج عن الصراع الخفي في المجتمع، والتي ستؤدي بالمجتمع إلى رؤية جديدة للإنسان والحياة، وأرجو من أحد فصحاء الحداثة أو غامضيها أن يسعفنا بتفسير لهذا الكلام، نستطيع أن نفرق به بين كلام العلي، وما يقوله الديالكتيك الماركسي في تطور المجتمعات .
أما قضية أن الحداثة رؤية جديدة للإنسان والحياة، فهذه لا تحتاج إلى أي استنباط من كلام العلي، والعلي ـ هنا - يتفق تماماً مع ما سبق وأن طرحه الدميني وأحمد عائل .
أما الغذامي فقد أعلن نفسه في تلك الندوة حكما يحدد من المثقف ومن الذي يجب أن يحرم من لقب الثقافة فقال بالخط العريض : "إمّا أن يكون المثقف حداثياً أو لا يكون مثقفا" .
وهكذا بكل بساطة ألغى الغذامي كل ما في هذه البلاد من علماء ومفكرين وأساتذة وجامعات ما داموا لا يجرون خلف عربة الحداثة، ويحرقون البخور حولها ولا يشيدون بالملاحدة والفجار الشاذين . وإننا نسأل الغذامي متى أصبحت أفكار بلزاك، وبارت، وبيرس، وشتراوس، وأمثالهم من أساتذته معياراً وميزاناً لتصنيف المثقفين من غيرهم في بلادنا وتحديد مواصفات ومقاييس الثقافة ؟؟! لقد حضرنا كثيراً من أمسيات الحداثيين المثقفين عند الغذامي، ووجدنا بعضهم لا يفرقون بين الفاعل والمفعول، والاسم والحرف، بل رأينا وسمعنا بعضهم يسبقون الفعل المضارع بحروف الجر .
أما سعد البازعي فيؤكد ما تصدينا هنا لإثباته، وهو أن الحداثة نظرة شمولية جديدة للحياة كلها بمختلف جوانبها، وذلك في قوله : "الشيء الذي لا نزال نفتقده أو يفتقده منا في تصوره للحداثة، هو أساسها الفلسفي الذي يمنحها إطاراً شموليا، لا تمثل فيه التغيرات الأدبية والفنية سوى جانب واحد … إن التصورات الأدبية المعاصرة، شكل القصيدة أو اللوحة ليست إلا جزءاً من كل ، الحداثة رؤية شمولية للحياة" .
ويأتي القرشي ليؤكد هذا الكلام الذي قاله البازعي فيقول : "الحداثة فعل شمولي بحياة الإنسان" .
وكذلك الصيخان يقول : "إنها (أي الحداثة) موقف شمولي من العالم ونظرية تطوره، ولا يمكن أن نفصل هنا بين تطور الفن وتطور الحياة" .
ويأتي عثمان الصيني فيكون أكثرهم صراحة - ربما لأنه أقلهم إدراكاً لخطورة ما يقول في مثل مجتمعنا - حين قال : "إن الشمولية التي تميز الحداثة وتجعلها تتغلغل في جميع مناحي الإنسان والحياة، هي التي تجعل منها ضرورة ملحة للوجود، فهي تعيد تركيب علاقة الإنسان مع نفسه ومع العالم الخارجي، إمّا بالتعرف على الأشياء بصورة جديدة، أو إعادة خلقها من جديد، أو بابتكار مغاير للسابق، وذلك نتيجة لما تقوم به من تعميق للوعي بمخاطر الثبات وسلبيات السكون، وبالتالي الكشف عن الضرورة الملحة لمستويات التحرر المستمر من ربقة الإلف والعادة، وجنائزية تصنيف المدركات، والتكييف الأبدي لمعطيات الإنسان والحياة، وتتصف بشغف يصل إلى حد الهاجس بالحالية المتغيرة، والدخول في تجربة التغيير المستمرة، فهي عملية تحرر مستمرة، وثورة دائمة للوصول إلى الفاعلية الحرة، والنشاط المطلق، وبهذا التصور لا تصبح الحداثة استلابا أو إسقاطاً يعيشه الفرد والمجموع ، إنما كينونة لا محيد عنها ووجود لا يتم إلا به" .(34/264)
إن كلام عثمان الصيني هنا لا يحتاج إلى تعليق، بل إنه قال فيه كل ما أردنا أن نقوله هنا، من أن الحداثة منهج حياة جديد يسعى دعاتها لإحلالها مكان الإسلام عقيدة وسلوكاً ونظاماً للحياة في هذه البلاد، ولولا أن يظن القارئ أن هذه رؤية فردية خاصة لما حشدت جميع النقول السابقة، والتي ما هي في الحقيقة إلا غيض من فيض وقليل من كثير وأنت عندما تقلب أي عدد من أي صحيفة وصل إليها داء الحداثة، ستسمع نفس النغمة وتقرأ نفس الأفكار . فمثلاُ استمع إلى فايز أبا في عدد 7594 من عكاظ صفحة 8 وهو يقول : "الإبداع ليس غيبوبة تامة، فلا بد من موقف واع ، ورؤية مستقبلية تجاه الكون والحياة والحركة الاجتماعية، التي أفرزته ليفرز وعياً يفرزها" .
وأرجو ألا يكون في القراء من يستبعد ما أردنا بهذه النقول الكثيرة أن نثبته، من أن الحداثيين أصحاب فكر له نظرة خاصة للحياة والكون والإنسان، وأنهم يسعون لكي يفرز هذا الفكر حركة اجتماعية خاصة، ولا شك أن ذلك سيؤدي إلى تغيير كل شيء في الحياة، وقد مثل فايز أبا لرموز هذه الحركة الإبداعية التي يتحدث عنها بمحمد العلي، وعلي الدميني، ومحمد الثبيتي، والدكتور أحمد الشويخات .
بعض مواقف الحداثيين لدينا من الإسلام وقيمه
بعد أن تأكد لدينا من خلال ما تقدم، أن الحداثة منهج فكري متميز يسعى لتغيير واقع الحياة ليتفق مع ما يطرحه ذلك الفكر من مفاهيم وأساليب للحياة، ومن نظرات خاصة لصياغة الإنسان وفق معطيات ذلك الفكر، فإن ما يهمنا ـ نحن المسلمين ـ هو معرفة موقف هؤلاء الحداثيين من الإسلام، باعتباره ديننا ونظام حياتنا، ومنهجنا الذي نعتز به في هذا الوجود، ولا نرى الحق في شيء سواه في شتى مناحي الحياة الفردية والجماعية والعامة والخاصة، ونرى ألا سعادة للبشرية ولا نجاة لها في الدنيا والآخرة إلا في اعتناق هذا الدين وأخذه تاما غير ناقص، كما بلّغه محمد صلى الله عليه وسلم وإنني أحب لفت الانتباه إلى أن موقفهم المعلن - ولا أقول موقفهم فقط ـ من الإسلام يختلف من بلد إلى آخر حسب ظروف ذلك البلد، ومقدار قوة التدين فيه وضعفه، ولو أردنا أن نتحدث عن مواقفهم جميعاً من الإسلام لاحتاج ذلك إلى أسفار ضخمة، لكنني في هذا المبحث أعرضُ عن مواقف الحداثيين من خارج هذه البلاد، وأذكر بعض مواقف الحداثيين عندنا من الدين، وهم وإن كانوا ـ ولله الحمد ـ لا يستطيعون أن يجاهروا هنا بما يجاهر به إخوانهم في الغي هناك، إلاّ أن الإسلام لم يسلم من أذاهم، ولو لم يكن من حربهم له إلا إعلانهم عن مبدأ جديد اسمه الظاهر الحداثة، وحقيقته الباطنة يعلم الله بها، وتصريحهم بأن هذا المبدأ له رؤية خاصة للكون والحياة والإنسان، وأنه يمنح الحياة بعداً جديداً يهزها هزا؛ أقول لو لم يكن إلا هذا لكفى به حرباً للإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ونظام حياة، ومع هذا ففي أقوالهم وكتاباتهم من الحرب لدين الله الكثير غير هذا مما يمكننا أن نستعرض بعضه هنا . وهذه الحرب لها مظاهر شتى منها : الاستهزاء بالإسلام كدين، ومنها النيل من رسول صلى الله عليه وسلم ، أو كتابه الكريم، أو الحط من التاريخ الإسلامي، أو نشر الرذيلة وسوء الأخلاق مما يتنافى مع ديننا، أو الترويج لبعض الأفكار التي الأخذ بها يؤدي إلى ضياع أمتنا، وإهدار تميزها وتفردها الذي كرمها الله به .
ولذلك أمثلة كثيرة منها قصيدة حداثية من الشعر الحر لمحمد جبر الحربي الشاعر الحداثي المبدع كما يسمونه، وهذه القصيدة ألقيت في مهرجان المربد بالعراق بعنوان (المفردات), ثم نشرت في اليمامة في العدد 887 صفحة 60ـ61 ثم نشرت في الشرق الأوسط، الصفحة 13 وهذه القصيدة مليئة بالثورة والتبرم من كل شيء، وفيها غمز ولمز في حق صلى الله عليه وسلم وفي القرآن، فمن غموض هذه القصيدة قوله :
( قلت لا ليل في الليل ولا صبح في الصبح
منهمر من سفوح الجحيم
وقعت صريع جحيم الذرى
سألك جسد الوقت معتمر بالنبوءة والمفردات المياه
أيها الغضب المستتب اشتعل
شاغل خطاك البال منحرف للسؤال
أقول كما قال جدي الذي ما انتهى
رأيت المدينة قانية
أحمر كان وقت النبوءة
منسكبا أحمر كان أشعلتها)
من هو يا ترى جده الذي انتهى والذي كان أحمر وقت النبوءة، وما هي المدينة القانية، وما هو الأحمر المنسكب الذي أشعله الحربي أو جده .
أما مواطن الغمز واللمز في هذه القصيدة فمنها قوله :
( أرضنا البيد غارقة
طوف الليل أرجاءها
وكساها بعسجده الهاشمي
فدانت لعاداته معبدا )
أسئلة نوجهها للحربي ليجيب عليها وليجلب بخيله ورجله، ويستعين بالمبدعين والنجوم المتجاوزين للسائد والنمطي كما يسميهم : لماذا أرضنا بيد قاحلة لا نبات فيه ولا ماء ؟ وما الذي أغرقها ؟ وفي أي شيء هي غارقة ؟ وما هو الليل والظلام الذي عم أرجاءها ولم يترك منها زاوية ؟ ومن هو الهاشمي الذي كساها بعسجده فدانت لعادته معبدا وحولها إلى أرض قاحلة غارقة في الظلام .(34/265)
أيقال هذا الكلام في حق صلى الله عليه وسلم الذي شرفت به هذه البلاد بل كرمت به البشرية، وهل كان r مبلغاً عن ربه سبحانه وتعالى، أم أنها عاداته ألزم الناس بها حتى تحولت البلاد إلى معبد لعاداته فأصبحت بيداً غارقة ؟!
إنني أتحدى الحربي أن يخرج لنا هاشميا يمكن أن يقال إن عاداته أصبحت عبادة للناس غير محمد صلى الله عليه وسلم
ثم يقول داعياً إلى الثورة والتمرد على كل شيء ومستهزئاً بالقرآن وتعاليمه :
( بعض طفل نبي على شفتي ويدي
بعض طفل من حدود القبيلة
حتى حدود الدخيلة
حتى حدود القتيلة
حتى الفضاء المشاع من رجال الجوازات
حتى رجال الجمارك
حتى النخاع يهجم الخوف أنى ارتحلنا
وأنى حللنا
وأنى رسمنا منازلنا في الهواء البديل
وفي فجوات النزاع باسمنا
باسم رمح الخلافة
باسم الدروع المتاع
اخرجوا فالشوارع غارقة والملوحة في لقمة العيش
في الماء
في شفة الطفل في نظرة المرأة السلعة
الأفق متسع والنساء سواسية منذ تبّت وحتى ظهور القناع
تشتري لتباع وتباع وثانية تشترى لتباع )
وما يهمني أن أقوله هنا هو التنبيه إلى إفكه الذي افتراه بأن النساء كلهن أصبحن سلعاً تشترى وتباع منذ تَبَّت, وهذا لا شك إشارة إلى نزول القرآن، وخاصة سورة المسد التي تحدثت عن امرأة أبي لهب المشركة التي يرى الشاعر الحداثي أن حديث هذه السورة الكريمة عن تلك المرأة، امتهان لكرامة المرأة وتحويل لها إلى سلعة تشترى وتباع .
أما السبب الثاني الذي حول المرأة في نظرة إلى سلعة فهو ظهور القناع ، وهذا إشارة واضحة للحجاب الذي أمر الله به المؤمنات :
( منذ تبت وحتى ظهور القناع
تشترى لتباع وتباع وثانية تشترى لتباع )
إنني آمل من علماء البلاد أن يقولوا كلمة الحق في هذه القضية، وأن يؤدوا كلمة البلاغ والبيان التي كلفهم الله بها، وأن يتذكروا يوماً يقفون فيه بين يدي الواحد القهار .
إن الحربي يريد من بناتنا ونسائنا أن يخرجن متبرجات ملقيات للحجاب الذي فرضه الله، يختلطن بالأجانب من الفساق ويجلسن بينهم في الصفوف، وبجانبهم على المقاعد، كما حصل في مهرجان الشعر الخليجي الذي أقيم في جامعة الكويت، والذي نشرت صور المشاركين والمشاركات فيه في جريدة الوطن اليسارية الكويتية في العدد 4041 الصفحة 25، والذي يعلم الحربي قبل غيره ماذا كان فيه حين كانت تجلس خديجة العمري بجوار أحمد الربعي الشيوعي الكويتي، ثم اعتلت المنبر هي وفوزية أبو خالد يلقين ما يسمى بشعر الحداثة مكشوفات الرؤوس ، فضلا عن الوجوه بين الرجال .
ومن صور الاستهزاء بهذا الدين ما كتبه محمد العلي في مجلة الشرق عدد 362 الصفحة 38 عن المغني معبد، وعن أزمة الفن كما يقول في بلادنا، والتي أورد فيها فكرته بأسلوب ساخر بطريقة المسلمين في حفظ السنة النبوية الكريمة حين قال :
( حدثنا الشيخ إمام
عن صالح بن عبد الحي
عن سيد ابن درويش
عن أبيه، عن جده قال :
"يأتي على هذه البلاد زمان
إذا رأيتم فيه أن الفن أصبح جثة هامدة فلا تلوموه
ولا تعذلوا أهله
بل لوموا أنفسكم
قالها وهو ينتحب
فتغمده الله برحمته
وغفر له ذنوبه )
هذا الحديث الذي نسجه خيال العلي ، ألم يجد طريقة يتحدث بها عن الغناء والمغنين ، إلا أن يقلد سند حديث صلى الله عليه وسلم ، بل يقلد الحديث الشريف ذاته في ألفاظه .
ويأتي دور اليمامة في العدد 879 الصفحة 81 فيكتب سعد الصويان قائلاً : "من ينادون بدراسة الأدب الشعبي مثلهم مثل شعراء الحداثة والفنانين التشكيليين وغيرهم من الفقراء والمساكين، الذي تحوم حولهم الشبهات، وتوجه إليهم الطعنات، ليسوا في الحقيقة إلا أناس آلمتهم أعناقهم من النظر إلى الخلف، ومن الطأطأة أمام سلطان التاريخ، وتجرحت معاصمهم من قيود العادة والتقليد، فحاولوا كسر الأغلال، وتجرحت معاصمهم من قيود العادة والتقليد، فحاولوا كسر الأغلال ، وتجرأوا على رفع الرؤوس والتطلع إلى المستقبل . إنهم أناس سئموا الركض في الطرقات المسدودة، وملوا الرقص على الأسطوانة المسحولة . وإنه لمن دلائل العقم الفكري والقحط الثقافي، أن نبذر الوقت ونهدر الجهد في بحث شرعية هذه الاتجاهات واستصدار فتاوى بحق من يتعاطاها …. أيها الأوصياء والأولياء اتركونا نقفز ونلعب ولا تخافون علينا من السقوط، دعونا نأكل التفاحة، ولا تسارعوا بوضع أيديكم على أعيننا واتشاح مآزركم فلقد كبرنا وأصبحنا نعرف ما تخفيه المآزر" .(34/266)
أي شيء يا ترى يجمع بين أهل الحداثة والصويان داعية الأدب الشعبي الذي حضر رسالة الدكتوراه في أمريكا في الفلكور الشعبي وينادي بإحلال العامي محل الفصيح ؟! أليس الأدب الشعبي من التاريخ والعادي والتقليدي الذي ورث من الأقدمين ؟ وكيف تبناه الصويان وحارب ما عداه الذي هو الإسلام واللغة العربية، وما هو الخلف والتاريخ الذي يشكو الصويان من ألم الأعناق وطأطأة الرؤوس بسبب النظر إليه، وهل هناك تاريخ يستحق أن ننظر خلفنا له غير هذا الدين الكريم، وهل في حياتنا المعاصرة ما نفخر به غير تاريخنا المجيد الذي يأتي الصويان طالباً منا أن نهدره ونتحرر منه، وما هي الطرقات المسدودة والقيود والأغلال التي يشكو منها ويطالب بتحطيمها، وهل هناك شيء غير أعرافنا وعاداتنا المحكومة بديننا وشريعتنا التي يرفض الصويان أن نحتكم إليها لمعرفة اتجاهاته التي وفد بها إلينا حتى يكون في مأمن من المحاسبة والرد والنقض لباطله، وما هو يا ترى الذي أصبح الصويان يعرفه مما تخفيه المآزر، من هم الأولياء والأوصياء الذي يطالب بإبعاد وصايتهم عن أصحاب الاتجاهات الحداثية، لعل الصويان أن يسعفنا ببيان شافٍ لهذه التساؤلات .
وفي مجلة اليمامة أيضا العدد 906 صفحة 79 كتب عبد الله الزيد يستهزئ ويتضجر من أصحاب الثقافة التراثية، وذلك حين قال : "أدركنا من الجانب الآخر مدى المعاناة والاكتئاب والامتعاض من نوعيتين في ساحتنا الثقافية . الأولى : من المتقدمين بالليالي والأيام والأجداد الذين يعيشون بيننا" .
ولا غرو أن يقول الزيد هذا فهم يسمون أصحاب العلم التراثي "المحنطين"، ويُسمون في بعض البلاد الأخرى الرجعيين، والسبب هو ما يحملونه من أفكار ودين وعقيدة، أما المنسلخون من دينهم، فإن الحداثيين يهللون لهم ويشدون بهم كما فعل الزيد نفسه في اليمامة العدد 907 صفحة 63 حين أشاد برسالة وصلته من أحمد الغامدي من الطائف، وقال : "أبتهج بهذه الرسالة وأحتفل بها بجانبين, الأول: أني أنقلها كاملة دون حذف لوجه الأمانة والصدق . والثاني : أني أقدم أنموذجا مفرحا للمتلقي الفنان الذي نبحث عنه ونفتخر به". وحتى تعرف أي نوع من الكتاب هذا الذي يبتهج به الزيد، أنقل لك مقتطفات من رسالته لترى موقفهم من دين الله يقول الغامدي:
"ولكني محاصر بوسط لا تفهم لغته، ولا تستطيع تعلمها، ومحاصر بأصدقاء يربضون في داخلي كالمورثات اللعينة التي لا تفارق عمق كل رجل شرقي . أسألك بكل حبيب لديك، كيف يكون لي ما أريده أنا لا ما يريده الآخرون، لأنهم عاشوا كذلك، وماتوا كذلك، كيف أخرج من شرنقة الموروثات في حاضر يرضعني إياها منذ ولدت" .
هذه الرسالة التي ابتهج بها الزيد، والتي تتبرم من الموروثات التي لا تفارق عمق كل رجل شرقي والتي يصفها الغامدي بأنها لعينة، ونحن نعلم أن الرجل الشرقي لا يتميز عن الغربي إلا بالإسلام الذي هو الموروث لنا من سلفنا الصالح، والذي يستوي فيه جميع الشرقيين، فهل وصل العداء لديننا أن يلعن عل صفحات صحفنا جهاراً نهاراً ؟؟!! لا حول ولا قوة إلا بالله .
وتأتي صحيفة اليوم في العدد 4776 بمحاضرة ألقيت في إحدى مدن المملكة، لمز المحاضر في أكثر من موضع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأحاديث الصحيحة، وحشره مع غيرها باعتبارها من أسباب تخلفنا فكان مما قال : "ينسلخ عن الجوهر فما فيه من المثل والقيم والمبادئ ليغرق في هامشيات، وأقول يغرق لأنه للأسف ما زال غريقاً حتى اليوم، يغرق في ماذا ؟! في تحريم أو استكراه لبس الجلباب وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، وضرورة الأكل باليمين، وكراهية استعمال الملعقة والشوكة والسكين، واستحباب لعق الأصابع، وكراهية أو تحريم الأكل على منضدة إضافة إلى مسائل أخرى منها الاحتفال بمولد النبي، والتوسل بالأولياء والصالحين" .
وهكذا يحشر المحاضر العظيم، وتنشر الصحيفة الحداثية هذه التشكيلة العجيبة التي حوت من التناقضات مما لا يستطيع أن يجمع بينها إلا من حمل راية العداء للإسلام، أو الجهل به, أو جمع بين الأمرين، وإلا فمتى حارب الإسلام الأكل بالشوكة والملعقة أو على المنضدة ؟؟! ومتى أصبحت سنة صلى الله عليه وسلم هامشية، يتهم من ينادي بها بالغرق في الهامشية سواء كانت الأكل باليمين أو تقصير لباس الرجل فوق الكعبين أو لعق الأصابع أو كراهية الشرب واقفا لغير حاجة ؟! ومتى أصبح الحديث عن بعض قضايا العقيدة، كالمولد والتوسل بالأنبياء والصالحين من الهامشيات ؟؟!
ثم يواصل المحاضر استهزاءه بالعلماء الذين ينافحون عن الدين فيقول : "لا أنسى طبعاً أن أجلاء العلماء كانوا عبر عصور وما زالوا حتى اليوم يبذلون جهوداً متواصلة للتذكار بحرمانية لعب الشطرنج والنرد وحلق اللحى والغناء والرسم والموسيقى، مما نعلم أنه معلوم وراسخ في أذهان الفتيات والفتيان في المجتمعات العربية والإسلامية وبدليل ما نرى ونشاهد في الفيديو والتلفزيون منذ سنين".(34/267)
وهكذا ما دام المحاضر قد نصب نفسه حكما بين ما هو الصالح وما هو الهامشي في الإسلام، فالواجب على العلماء ألا يجرحوا مشاعره ويرفعوا أصواتهم ضد ما يحبذ ويحبه، وليطوع الإسلام رهن مراده وإشارته . وإن تعجب أيها القارئ مما تقدم، فليزدد عجبك حين تعلم انه في المحاضرة نفسها طالب أن تدرس جامعاتنا أفكار رانجيسكوا، وبولتن، وبسيو، وكارل ماركس, وسارتر، واكسن, وقال إنه لا ضير من ذلك بل يجب كما قال : "أن تفتح النوافذ ونتنفس الهواء الطلق" .
ويا لحقارة هؤلاء، سنة صلى الله عليه وسلم عندهم هامشيات، وأفكار ملاحدة الغرب هواء طلق. قال تعالى {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} .
وأنت أينما اتجهت للبحث والقراءة في أدب الحداثة ، ترى التجرؤ على الله ورسوله ودينه .
يقول السريحي في كتابه (الكتابة خارج الأقواس) ص 37 : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة عنه بحيث يصبح الفنان مصدر حيرة، لا يحلها إلا مثل ذلك الحل الذي يرى أن للفنان شيطاناً يلقي على لسانه ما يقول، وهو حل مع سذاجته إلا أنه واضح الدلالة على حيرة الجماعة وعجزها, حيرة وعجزا يبلغ بهما حد الخروج عن المنطق، كون الفنان يعيش بين الناس ويأكل في الأسواق" .
إننا نعلم أن الذي استغرب الناس أكله الطعام ومشيه في الأسواق هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل أصبح الأنبياء في نظر السريحي مجرد فنانين أتوا بما يخالفون به السائد ـ كما يقول ـ ؟؟!! وهل يريد السريحي أن يقول : إنه ما دام النبي فنانا، فإنه يجوز للفنان الذي يجيء بعده أن ينقض ما أبرمه النبي ويلغي ما بلّغه ؟؟!
أسئلة أبحث عن الإجابة عنها في كلام السريحي فقط، أو لعلنا نجد الإجابة فيما نشرته مجلة اقرأ العدد 604 صفحة 64 حين نشرت صورة جنين مشوهة وكتب تحتها تقول : "ما الذي يجعل الطبيعة تخطئ أحيانا، وهل حقا سيصبح بإمكان الإنسان التصحيح" ؟؟!
إذا فهي الطبيعة تتصرف وتخطئ أحيانا فقط، أما قدرة الله وتصرفه في الكون فأمر آخر لا علاقة له بالموضوع {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} .
أما الاستهزاء بالتاريخ الإسلامي وقيمه ومجده فحدث ولا حرج، فمثلاً نشرت اليمامة العدد 900 صفحة 81 قصيدة للشيوعي العراقي عبد الوهاب البياتي بخط يده، تحت عنوان (الولادة في مدن لم تولد) وكان مما قال فيها :
( أدفن في غرناطة حبي
وأقول لا غالب إلا الحب )
غرناطة التي كانت آخر معاقل المسلمين في الأندلس والتي كتب على جميع جدران قصر الحمراء فيها عبارة (لا غالب إلا الله)، فيأتي البياتي وفي مجلة سعودية فيعارض ذلك بقوله (لا غالب إلا الحب) .
وفي صحيفة الرياض أيضا العدد 6777 الصفحة 7 نشرت قصيدة فيها كثير من الغموض بل كلها غموض، لكن ما يثير التساؤل فيها هو تكرار الشاعر مرتين قوله : ( الله الله أنا آه ) .
وحقيقة إنني وقفت أمام هذا حائراً، ماذا يريد بقوله، وماذا يقصد به ؟
أما الرموز الوثنية فما أكثرها في شعرهم كما سبق أن تحدثنا عن ذلك .
فمثلاً في قصيدة محمد الثبيتي (تغريبة القوافل والمطر) والتي قدمت مع الأسف في فرع جمعية الثقافة والفنون بالقصيم مسرحيا, واجتمع لها نقادهم ومبدعوهم - كما يسمونهم - من مختلف المناطق، وشغلوا الصحف بذلك أياماً كثيرة، وقدموا عنه الدراسات الأدبية، أقول في هذه القصيدة ردد الثبيتي عبارة : ( يا كاهن الحي ) ست مرات وكان مما قاله فيها :
( أيا كاهن الحي
إنا سلكنا الغمام وسالت بنا الأرض
وإنا طرقنا النوى ووقفنا بسابع أبوابها خاشعين
فرتل علينا هزيعا من الليل والوطن المنتظر
شدنا في ساعديك واحفظ العمر لديك
هب لنا نور الضحى وأعرنا مقلتيك
واطو أحلام الثرى تحت أقدام السليك
نارك الملقاة في صحوننا حنت إليك
ودمانا مُذ جرت كوثراً من كاحليك
لم تهن يوما وما قبلت إلا يديك
سلام عليك )
إن مما تعلمناه من أبجديات الإسلام في طفولتنا هو أن الدعاء مخ العبادة، وأن دعوة غير الله شرك لا يجوز، فمن هو هذا الكاهن الذي يناجيه ويتضرع إليه الثبيتي ويطلبه أن يهب له نورا، ويشده في ساعديه ويحفظ العمر ويعيره مقلتيه، ثم يستمر الثبيتي في التقرب إلى كاهنه والشكوى إليه حين يقول :
( يا كاهن الحي
طال النوى
كلما هل نجم ثنينا رقاب المطي
لتقرأ يا كاهن الحي
فرتل علينا هزيعاً من الليل
والوطن المنتظر )
أي وطن هذا الذي يرجو الثبيتي من كاهنه أن يرتله عليه ؟!
وإن أردت الاستزادة من الوله بالكاهن والكهانة فانظر القصيدة في مجلة اقرأ العدد 600 صفحة 32 .(34/268)
أما في جريدة عكاظ العدد 7482 في زاوية منهم وإليهم فقد اجتمع مع الكهانة الفساد الخلقي، حين وجه الحداثي أحمد سماحة سؤال للحداثية فوزية أبو خالد يسألها فيه لماذا غاب صوتها الشعري رغم أنها - كما يقول - صوت مثقف واع . فأجابته إجابة طويلة مليئة بالدس الرخيص والانحطاط الخلقي وكان مما قالت : "من البدء سأختلف معك، سؤالك ليس سؤالا تقليديا، ولكنه سؤال طبيعي في مناخ يخاف مواجهة الطبيعة، ويحتمي منها بالقرابين، ونذر الصبايا، وتعاويذ الكهنة".
ترى أي مجتمع هذا الذي تتهمه فوزية بأنه يخاف من مواجهة الطبيعة ويلجأ للقرابين والنذور والكهنة, وهل نحن في مجتمع وثني بدائي أو نحن في معقل العقيدة الصافية النقية، ومنطلق الدعوة الإسلامية ؟؟
لكن هذا الكلام لا يستغرب ممن بلغ إسفافها الخلقي أن تقول في نفس الإجابة واصفة السؤال الذي وجه إليها بالجمال : "سؤال جميل كتجريب الأطفال تحت بيت الدرج أو على السطوح لاكتشاف سر همهمة الليلة السابقة، والود المفاجئ بين الكبار بعد كل سباب النهار" .
هذا هو الجمال عند فوزية أبو خالد الحداثية المبدعة، المجتمع قرابين ونذور وتعاويذ كهان, والأطفال إباحية جنسية تحت بيت الدرج وفوق السطوح ، أما الصفاء العقيدي والتربية القويمة فلا وجود لها في مجتمعنا في نظر فوزية .
ومَنَ يكُ ذا فَمٍ مُرّ مريضٍ 0000000 يجد مّرا بهِ الماءَ الزُّلالا
ونحن لا نستغرب من الحداثيين أن تكون هذه مواقفهم من الإسلام، خاصة حين نعلم أنهم يعتبرون من رموزهم الفكرية صاحبة الإبداع : ابن عربي الملحد (انظر عكاظ العدد 7461 الصفحة 5) والحلاج (كما ورد في مجلة الشرق العدد 364) وسنرى في الصفحات القادمة أساتذتهم المعاصرين، ومن كان له الشيطان قرينا فبئس القرين . وحين صدر العدد الأول من ملف نادي أبها الأدبي بعنوان (بيادر) - وهو عنوان ديوان شعر للشاعر اللبناني خليل حاوي صاحب الفكر الوجودي الذي مات منتحرا - أقول حين صدر هذا الديوان كانت أغلب محتوياته بأقلام الحداثيين، مما حدا بيحيى المعلمي أن يكتب ناقداً له في بعض الصحف ومبينا ما فيه من غثاء وبلاء .
وبعد ذلك كتب عضو نادي أبها الأدبي حسين الأشول في الندوة العدد 8418 الصفحة 7 معترفا بأخطائهم، وكان عنوان مقالة الأشول (نعترف بأن ملاحظات المعلمي في محلها، وهي موضع النقاش في النادي، ففي بيادر أبها تعريض صريح بالقرآن الكريم وتهكم بالدين) وهذا الملف الإبداعي ـ كما سموه ـ هللت له الصحف الحداثية وكتبت عنه المطولات وأشادت به، والحديث عنه له موضع آخر سيأتي إن شاء الله .
يقول الكاتب عبدالرحمن الأنصاري في الندوة عدد 8521 الصفحة 10 : "يبدو أن الحداثة ستأخذ جزءاً غير يسير من وقتي ووقت غيري ممن يرون فيها سما زعافا، وداء يستشري، مهمته محاربة الدين الحنيف الإسلامي من وراء أسوار, بمحاربة لغته وآدابها ومقوماتها، وما وصى به هذا الدين من جميل مبتكراته ومفرداته: كالبر والإحسان والصلاة والزكاة والتقى وغيرها، مما نرى بدائله عبارات وكلمات كنيسة، مثل الطقوس والآلهة والصلب ومعبودتي وغيرها، مما لا يرضى اليهود والنصارى وأتباعهم على المرء وأدبه حتى يتبعهم فيه، وقد سلكوا لبلوغ غايتهم طرقا بالغة في المكر مبالغ لا حدود لها، إذ عمدوا إلى أبناء المسلمين فجندوهم إلى غاياتهم وأهدافهم الشريرة وأنابوهم عنهم في هدم اللغة العربية وآدابها، وهو أمر لو قام به إنسان غير متستر بالانتساب إلى الإسلام لاكتشف من أول يوم ولما استطاع المضي في مبادئه الهدامة" .
وهذا الكلام الذي نقلته عن الأنصاري حق لا مراء فيه، ولكن أضيف له أنهم بالإضافة لغرامهم بالألفاظ الوثنية والنصرانية واليهودية، فإنه يرد في كلام كثير منهم المصطلحات الماركسية، وحين تصبح الصورة غراما باليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية، وسخرية بالإسلام، فأي خير يرجى بعد ذلك ؟؟ بل وصل الأمر ببعضهم أن اعتبر ما ورد في القرآن من أخبار : أساطير تصنف ضمن الخرافات فقط !! يقول أحمد كمال زكي في كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) صفحة 130: "وإذ يقع في تلك القصيدة ذكر سور يقبع خلفه الخائفون يصبرهم، حتى تبدو الموازاة ضرورة لبعث خرافة يأجوج ومأجوج" . إذاً فلم يعد القرآن عندهم حتى كتاب تاريخ يوثق بما فيه، بل هو كتاب خرافة وأساطير . { كُبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } .
ورغم هذه الهجمة الشرسة القذرة من الحداثيين على الدين واللغة, فإنهم يرفعون في وجه كل من يحاول أن يحاورهم أو يرد على أخطائهم تهمة : (لماذا سوء النية بالناس واتهامهم ؟) . بل إنهم يريدون أن يفرغوا الإسلام من مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ليصبح مثل النصرانية .(34/269)
يقول السريحي في عكاظ العدد 7566 في 16/7/1407هـ مدافعا عن أستاذه البياتي - الذي سنرى بعد قليل من هو - ومتهماً من يشككون فيه : "يأخذك الحزن على أولئك الذين لا يستحون حينما يستسهلون تكفير من شاءوا, يحزنك أن يمارس القتل غيابياً ضد رموز الثقافة المعاصرة، تقول في نفسك : إن أول باب من أبواب التقوى ألا نسمح لأنفسنا بالوقوف بين الرجل وربه وأن نترك مسألة الخلق للخالق" .
أما علم السريحي يقول الحق سبحانه وتعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } وقوله سبحانه : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } . وقول صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) .
إن كلام السريحي سيكون له شيء من الوجاهة لو كان من يسميهم برموز الثقافة المعاصرة أخفوا ضلالهم وأسروا باطلهم، أما أن يتربوا على أفكار الشيوعية والوجودية وغيرها من الضلالات، ثم يعودوا إلى بلاد المسلمين ممسوخين فكريا، وقد تعهدوا وأخذوا على عواتقهم مهمة إضلال شباب المسلمين سواء كان ذلك بالصحافة أو الكتاب أو التعليم أو غير ذلك، فإن السكوت عنهم خيانة وكشف زيفهم واجب، حتى يعودوا بإذن الله إلى جحورهم العفنة التي خرجوا منها .
إن حرب الحداثيين لدين الله لم تقتصر على هذه المواقف، بل إنهم ـ حتى يمكنهم التسلل إلى عقول الأمة وهي مخدرة لا تحس ولا تعي فلا تبدي مقاومة أو حركة ـ أخذوا ينشرون ويؤكدون أن دعوى الغزو الفكري الذي تتعرض له الأمة الإسلامية دعوى لا دليل عليها، بل الدليل على خلافها، وأن هذه الدعوة هي من أهم أسباب تأخر الأمة - كما يزعمون - هذا في الوقت الذي لم يعد فيه موضوع الغزو الفكري من الموضوعات الغامضة، والذي كان في الحقيقة آخر حلقة من حلقات الصراع بين المسلمين وأعدائهم ، بل كان هو الغاية من غزو ديار المسلمين ليتمكن العدو من تحويلهم عن دينهم، ومع ذلك يخرج علينا عباقرة الحداثة بصرعة فكرية جديدة تسمي الغزو الفكري: (حوار الحضارات)، ولا عجب في ذلك فإن الحداثيين أنفسهم من أدوات الغزو الفكري، بل وجودهم في ديارنا دليل أكيد على وجود الغزو . وهذا الموضوع كتب فيه كثير من علماء المسلمين، مثل عبد الرحمن الميداني، وعبد الستار السعيد وغيرهم .
ومن هذا المنطلق الحداثي قال السريحي في اليمامة عدد 906 صفحة 79 : "أنا أتحفظ كثيراً على كلمة الغزو الفكري، فكثيراً ما يتخذ هذا المصطلح ذريعة لقفل باب حوار الحضارات، الفكر لا يكون فيه غزو، الفكر عطاء إنساني, لا أقول غزو . ولكن بطبيعة قوة أمة من الأمم أن يصبح لها مد يؤثر في هوءة الأمم، إذاً ليست هناك فكرة غزو فهذا مصطلح عسكري يجب ألا يدخل في الفكر، وإنما هو تيار يسري بين الأمم يقوم فيه حوار الحضارات يكون الصوت الأقوى والصوت الكاسح ، هو صوت الأمة القوية المؤثرة" .
وما دام أنه حوار الحضارات في نظر السريحي، فلا بد لنا من أن نقتفي آثار الأمم القوية، دون أن يكون هناك فرق بين تقدمها المادي وانحطاطها الخلقي، وبهيميتها في عالم المثل والقيم والفكر، بل يؤكد أن اتباعنا لها أمر طبيعي حتمي .
ويأتي الحداثي عبد العزيز مشري في عدد اليمامة 911 صفحة 83 ليتحدث في نفس الموضوع ، ويصر على أن مقولة : إن الصراع بيننا وبين الغربيين صراع عقائدي ؛ مقولة استعمارية يريد الاستعمار بها أن ننعزل عن الحضارة، وأن دعوة الاستقلال الثقافي دعوة استعمارية مشبوهة .
استمع إليه وهو يقول : "إننا لو حددنا الخطط الغربية الاستعمارية من زاوية العقيدة، لوقعنا في تحديد مغلوط، وهذا التحديد يهم الغرب أن نظل نتخبط في عشوائية ... عندما رأى الغربي انهزامه، دخل من بوابات أخرى لم نقدر على تحديد منافذها إلينا، وظل يوهمنا بأن العقيدة عدوة العقيدة، وأن الشرق شرق والغرب غرب، وهذا بالطبع بعيد عن العقيدة الموضوعية، إذ إن الفكر الغربي يسعى نحو التركيز على أن الإنسان العربي لن يبني ذاته إلا من خلال استقلاليته الثقافية والفكرية إلى آخره ، وهو يعني الدعوة إلى الانعزال" .
إن هذا الكلام أقل من أن يناقش، وإنني أتساءل هل هذا الكاتب كتب كلامه هذا وهو في كامل إدراكه وعقله ؟!
إن كل مسلم حاز على قدر بسيط من العلم يعلم هل الغرب يسعى لكي يكون صراعنا معهم عقائدياً أم يسعى لإخراج العقيدة من ميدان الصراع ، وهل الغرب ينادي باستقلالنا الثقافي أم يبث ثقافته بإعلامه ومدارسه وجامعاته في بعض ديار المسلمين ومن خلال أبنائه الفكريين بيننا، لكن ما دام أن هذا من أحابيل الاستعمار في نظر الحداثيين فالحل ألا يكون للعقيدة أي دور في صراعنا مع عدونا، بل حتى نكون نداً له فلا بد أن نلقي باستقلالنا الثقافي جانباً .(34/270)
ومما يؤكد لنا حرب الحداثة للإسلام والأصالة وعدم وجود أي رابط بينها وبين ماضينا ومجدنا وتاريخنا ، خلو جميع إنتاجها الأدبي والفكري من أي إشارة إلى القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح ، إلا ما كان من باب الطعن والغمز واللمز ، مع اكتفائها برموز الوثنية والإلحاد القديمة والمعاصرة .
بعض رموز الحداثة العربية وارتباط الحداثة المحلية بهم
إن الولاء والبراء من أهم المؤشرات على اتجاه الشخص، وإن الأفكار والأقوال تبقى مجرد نظريات حتى يصدقها أو يكذبها الواقع العملي .
ونحن في هذا المبحث سنرى من هم الرموز والقدوة والأسوة لدى الحداثيين، ونحاول أن نذكر بعض جوانب اهتمام الحداثيين لدينا بتلك الرموز، ونشير إلى التوجهات الفكرية لتلك الرموز، لنرى إلى أي اتجاه يريد أهل الحداثة أن يبحروا بسفينة هذه البلاد، وغالبية هذه الرموز من أصحاب الفكر الشيوعي، وكلهم من أصحاب التوجه اليساري الملحد . ومرة أخرى أوضح أنني لن أحصر كل ما كتبته صحافتنا عنهم حتى ولو في شهر لكنني أشير إشارة تدل على ما وراءها , وسأورد هنا بعض الأمثلة التي تؤكد ما أقول، وقد اتخذت هذه الإشارة والثناء والتبجيل صوراً شتى، فمن استكتابهم، إلى نشر أخبار إنتاجهم، إلى نشر الدراسات عنهم، وفرضهم على القارئ ، وإليك الأمثلة :
المثال الأول : عبد العزيز المقالح
في عدد اليمامة رقم 897 صفحة 56، يقول عبد الله الزيد "إلى رمزنا الثقافي الجميل د/ عبد العزيز المقالح" .
عبد العزيز المقالح هذا الذي يعتبره الزيد رمزاً ثقافياً لشباب أمة الإسلام ، هو صاحب الفكر اليساري الذي يقول في ديوانه صفحة 139 ، طبع دار العودة ببيروت ، تحت عنوان (قبلة إلى بكين) :
( متى أمر تحت قوس النصر في ساحتك الحمراء
أرسم قبلة على الجبين
جبينك الأخضر يا بكين
أطلق باسم اليمن الخضراء حمامة بيضاء
متى أسير لو أمتار في الدرب حيث سارت رحلة النهار
رحلة ماو والرجال الأنصار
ورحلة كل الطيبين
متى متى ؟ )
المقالح اليساري العربي المغرم بماو الشيوعي الصيني، أصبح عند الزيد رمزاً ثقافياً جميلاً . بل وصل حد الهيام به إلى أن يقول الزيد : "ائذن لي أستاذنا أن أعبر لك عن إيقاع الثقافة بين جوانحنا، وعما نكنه لك هنا من إكبار وابتهاج ، وبتكوينك النادر جداً، كانت معرفتنا ولاهتمامك وإدراكنا للخارطة الثقافية التي تديرها كان ذلك في ذاته، ما أشعل إعجابنا بك، وتقديرنا واحتفاءنا" .
وحين يصدم المؤمن بهذا الإكبار والابتهاج واشتعال الإعجاب بهذا الملحد صاحب القصيدة الشهيرة التي نشرت في مجلة العربي والتي أشارت إليها المجلة العربية في عدد شعبان 1405هـ الصفحة التاسعة والتي يقول فيها - وبئس ما قال - :
( صار الله رمادا
صمتا
رعبا في كف الجلادين
حقلا ينبت سبحات وعمائم بين الرب الأغنية الثروة والرب القادم من هوليود
كان الله قديماً حبا
كان سحابة
كان نهاراً في الليل
أغنية تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض )
أقول حين يصدم المؤمن من هذا البلاء يأبى الزيد ومجلة اليمامة إلا أن يتحدى كل ما في هذا البلد من نظام، وحكم، ومبادئ، ومثل وقيم، وقبل ذلك وبعده دين سماوي ؛ حين يؤكد على صفحات اليمامة أنهم أبناء للمقالح، وأن بينهم صلات خاصة بواسطة الشباب كما قال الذين ينقلون له كل شيء، وذلك حين يقول : "غير أن ما عرفنا بعد ذلك من متابعتك لأبنائك الشباب في جزيرتنا العربية ومعرفتك الجادة لأسمائهم ونوعيات أعمالهم كان إضافة خرافية إلى حجم الإعجاب والإكبار والاغتباط . هذا الشيء قد يكون وصل إليك, لأني أثق تماماً من أن الشباب لم يكونوا ليصبروا عن التعبير لك عما نحمله لك من إعزاز وإجلال" .
وبعد هذا الاعتراف الصريح بصلة بينهم وبين أستاذهم، يكرر الزيد اسطوانتهم المكررة الباكية من أوضاعنا حين يقول : "غير أن الشيء الذي قد لا يكون في دائرة شعورك الحضاري هو أنك أصبحت عاملاً مؤرقاً بالرواء من عوامل زوال حزننا الكتابي وكآبتنا الثقافية" .
ثم يؤكد الزيد بأن هذا الكلام يعبر عن حقيقة جوهرية، وليس مجرد كلام عاطفي حتى لا يبقى لأي متردد الشك في البحث له عن عذر فيقول : "قد لا يهضم بعضنا هذه اللغة، وقد تثير لدى بعضنا الآخر شيئاً من سقم التكوين وداء المرحلة، وقد يلوي بعض ثالث شفاههم مكتفين بتجاهل عريض محصلته أن ذلك كلام عاطفي ومسألة إنشائية ... قد يحصل هذا، غير أني أطلب إليك أنت بذاتك أن تثق من أن كل كلمة كتبتها هنا أو سأكتبها أو قلتها أو سأقولها .. أن تثق من أنها تعني حقيقة جوهرية في ضمائرنا معا" .
ولقد أتعبت نفسي وأنا أبحث عن مخرج لصاحب هذا الكلام غير الإعجاب والمحبة حتى الهيام بملحد خبيث كانت اليمامة قبل ذلك تستكتبه مع الأسف الشديد .(34/271)
وكذلك في جريدة عكاظ العدد 7378، يقول أحمد عائل فقيه في زاوية صباح الرمل تحت عنوان (المقالح يضيء البدايات الجنوبية) ، وضمن كلام طويل يقول : "ومؤلف هذا الكتاب الدكتور عبد العزيز المقالح حامل صخرة الثقافة هما وموقفاً وإبداعاً، والذي يملك قامة مضيئة على ساحة الحرف عربيا … إن المقالح وهو يقدم هذا الكتاب يؤكد مرة أخرى عمق التنازل النقدي وعمق الطرح الثقافي والإبداعي عبر هذا التناول من خلال أصوات شعرية شابة تحاول أن تضيء بحرفها حلكة هذا الليل الطويل … تحية للمقالح شاعراً أو ناقداً" .
وهكذا في صحف الحرمين يشاد بصاحب الشعر الملحد، وتوجه له تحيات الإجلال والإكبار باسم أحفاد الصديق والفاروق . ونحن لو أردنا أن نذكر مجرد أماكن اهتمامهم بالمقالح في الصحافة لطال ذلك وخرج عن ما وعدنا به من إيجاز، حيث إن في الصحف متابعة لمؤلفاته ولما كتب عنه، وتقديم دراسات عن حياته، وإجراء مقابلات معه، كل ذلك موجود في الصحافة المحلية .
وحين دعا عبد العزيز المقالح مدير جامعة صنعاء عدداً من أهل الفكر الحديث لعقد مؤتمر في جامعة صنعاء كان المدعو من السعودية هو منظر الحداثيين الفكري عبد الله الغذامي، وبعد عودته شغلنا في الصحافة زمناً بنشر ما ألقي في المؤتمر من أبحاث، بل حتى الأحاديث الجانبية بينه وبين محمد برادة أراد ألا تفوتنا فائدة سماعها، وكان مما نشر عن ذلك المؤتمر في عكاظ العدد 7503 قوله تحت عنوان (سؤال الأسئلة في صنعاء) : "تولت صنعاء بجامعتها الفتية مسئولية هذا الهم, فجمعت نخبة من أهل الفكر الحديث، ممن صنع تجربته وخاض غمارها، جمعتهم جامعة صنعاء لكي يواجهوا أنفسهم بأسئلة المرحلة"
والله أعلم هل قرر أهل الفكر الحديث الانتقال لمرحلة أخرى ، أم ما زالوا ينتظرون ؟
المثال الثاني : عبد الوهاب البياتي
في أكثر من جريدة ومجلة تلقى الإطراء والإعجاب بالشاعر العراقي الماركسي عبد الوهاب البياتي الذي عاش في روسيا سنوات، كما ذكر أحمد فرح عقيلان في كتابه القيم (جناية الشعر الحر) صفحة 45 . وهذا الإعجاب والإطراء والمتابعة له ولأخباره وصلت إلى حد أن ينشر شعره في اليمامة في صفحة 81 العدد 900 بخط يده مصوراً لم يمر على المطبعة، وهو في صفحة 76 من نفس العدد إعلان عن كتاب صدر عن حياة عبد الوهاب البياتي رائد التجديد في العشر العربي .
أما في العدد 879 من اليمامة أيضاً وفي صفحة 53 فقد أُعلن عن ديوان شعر له بما نصه : "حب تحت المطر ... ديوان شعر صدر مؤخراً للمبدع الكبير الأستاذ عبد الوهاب … والديوان حركة بياتية خارجة عن المألوف شكلاً، ومحتوى، فلقد جاء بلا مقدمة وبلا إهداء وبلا فهرس . أما المحتوى فماذا نقول الآن وقد قيل في البياتي أشياء كثيرة تدعو إلى الاعتزاز بموهبته وعطائه، كما إنها تستحث الغيرة والحسد في نفوس أقرانه ومنافسيه وهذا ما يظل يعاني منه البياتي .. الديوان جاءنا هدية من مدريد، حيث طبع وحيث يقيم الشاعر ) .
وهكذا مرة أخرى تخرج علينا اليمامة في صفحة 60 العدد 896 في قصيدة من الشعر بعنوان (جذاذات) وتحت عنوان جانبي كتب (عبد الوهاب البياتي) :
( سيدي الشاعر
يا جوع المنافي والفيافي والوطن
كيف في عينيك يغفو الموت مقتولاً ويستلقي الزمن )
وفي صفحة 82 من العدد 911 من اليمامة تقدم لنا تحليلاً على صفحتين عن كتاب صدر عن حياة البياتي، والتحليل كله إطراء ومدح له, أكتفي بإيراد مقطعين في بداية المقال . تقول اليمامة : "رحلة ممتعة تلك التي تضمنها كتاب من الحجم الصغير بعنوان (سارق النار) ، صدر مؤخراً في بغداد ، يتابع فيه مؤلفه الكاتب محمد شمس السيرة الذاتية للشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي" . ثم تختم المقالة في آخرها بما نصه : "وما زالت سيرته مستمرة، وعطاؤه الإبداعي متميزاً ومؤثراً، إنها الرحلة الممتعة مع شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي".
وهو الذي نقل أحمد كمال زكي عنه مشيداً به في صفحة 158 من كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) قوله : ( في الأصقاع الوثنية حيث الموسيقى والثورة والحب وحيث الله
فسيبقى صوتي قنديلاً في باب الله )
والبياتي هذا الذي يمدحونه ويبجلونه هو الذي يقول عند وصفه لمدينة نيسابور :
( كل الغزاة بصقوا في وجهها المجدور
وضاجعوها وهي في المخاض من ألف ألف
وهي في أسمالها تضاجع الملوك تفتح للطغاة ساقيها )
دناءة في الألفاظ تعبر عن خسة في الأخلاق، ومرض في القلب؛ وتقدمه اليمامة على أنه المبدع الكبير الذي يجب أن يحتذي شبابنا طريقه ويسلكوا سبيله .
ويقول متهكماً باللغة العربية وشانا عليها حربه القذرة :
( اللغة الصلعاء كانت تصنع البيان والبديع فوق رأسها باروكة
وترتدي الجناس والطباق في أروقة الملوك
وشعراء الكدية والخصيان في عواصم الشرق على البطون في الأقفاص يزحفون
لينمو القمل والطحلب في أشعارهم )(34/272)
ويصل الهيام بالبياتي مداه حين يستدعيه نادي جدة الأدبي ليحاضر فيه فتشتعل الصحافة الحداثية لدينا وتجري معه المقابلات، وتقدم عنه الدراسات، ويمدح مدحا لم نر صحافة الحداثيين تذكر بعضه لمحمد صلى الله عليه وسلم بل إن جريدة عكاظ العدد 7468 الصفحة 5 تنشر له قصيدة بخط يده، وتفتخر بذلك فتقول : "هذه القصيدة خص بها الشاعر الكبير البياتي أصداء الكلمة تنشر بخطه ولأول مرة " .
ويأتي تلميذه الواله بحبه سعيد السريحي فيكتب في عكاظ العدد 7566 الصفحة 7 كلمة بعنوان (3 خطوات في حضرة البياتي) . ويالها من منزلة رفيعة بلغها السريحي حين خطرت له الخواطر وهو في حضرة سيده .
أما صحيفة الشرق الأوسط في 8/3/1987م فقد كتبت عن محاضرته في نادي جدة بعنوان صارخ كبير تقول فيه : "الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي يشعل قناديل الشعر في ليل جدة"
والحمد الله الذي هيأ لنا البياتي حتى ينير ظلام جدة بأنوار قناديله أيها الحداثيون .
وتصل عبقرية أستاذ الحداثيين لدينا حد الكفر الصريح، والإلحاد المكشوف في قصيدته التي بعنوان (ميدان ماركس إنجلز) في الصفحة 477 من الجزء الأول من مجموعته الشعرية التي يقول فيها :
( وفي أقوال لينين وهي تلهم الأجيال
وتصنع الرجال
ألمحها في وطني تزلزل الجبال
يا أخواتي العمال )
وهل من كفر أعظم من أن تعتبر أقوال زعيم الشيوعية ملهمة للأجيال وصانعة للرجال .
بل إن عناوين قصائده تنضح بالإلحاد، وتحدد ولاءه واتجاهه تحديداً لا غبش فيه . وإليك بعض عناوين قصائده من مجموعته الشعرية .
فمن الجزء الأول صفحة 310 (نفاق الشمس) وصفحة 340 (ثلاث أغنيات إلى أطفال وارسوا) وصفحة 404 (الآلهة والمنفي) وصفحة 448 (إلى ماوتس تنغ الشاعر) وصفحة 586 (موسكو في الشتاء) وفي الجزء الثاني صفحة 273 (أشعلت ناراً عندما تخلت عني زرقة السماء) وصفحة 362 (عن الموت والثورة صلاة إلى جيفارا) وفي الجزء الثالث صفحة 75 (قصائد على بوابات العالم السبع) و (قراءة في كتاب الطواسين للحلاج)
هذا هو الرائد العبقري والذي لم يأت في الزمان مثله، والذي تلح صحافتنا على أنه القدوة والمثل والمبدع الكبير الذي يجب أن يحتذى ويسلك طريقه . فهل نحن مستيقظون ؟ .
وأخيراً أقدم للحداثيين قصيدة من شعر أستاذهم البياتي لعل أن يكون في ذكرها حجر يسكت المتعالمين منهم ، وينطق الساكتين من أهل الحق . يقول في ديوانه (كلمات لا تموت) صفحة 526 - ونعوذ بالله مما قال - :
( الله في مدينتي يبيعه اليهود
الله في مدينتي مشرد طريد
أراده الغزاة أن يكون لهم أجيراً شاعراً قواد
يخدع في قيثاره المذهّب العباد
لكنه أصيب بالجنون
لأنه أراد أن يصون زنابق الحقول من جرادهم أراد أن يكون )
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .
المثال الثالث : محمود درويش
الإشادة المستمرة والمقابلات التلاميذية في أكثر من مجلة وصحفية لمحمود درويش عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني، والذي حمل علم حزب راكاح الشيوعي الإسرائيلي في مؤتمر في فينا، ليثبت للعالم وحده القوى التقدمية ـ كما يسمونها ـ العربية والإسرائيلية .
ففي جريدة اليوم العدد 4762 الصفحة 12 كتب أحد كتاب الصفحة الثقافية تحت عنوان : (الرؤية وسيطرة الوجدان المثالي) يقول : "لم يكن أحد حتى بداية السبعينات يستطيع أن يفسر فحوى هذه الغنائية الجارحة التي أبدعها محمود درويش والذي خرج من رحمها عدد كبير من الشعراء العرب، وقد كان درويش وما زال واحداً من أعظم الشعراء العرب، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق ولذلك ليس غريباً أن يمتد تأثيره إلى أغلب الشعراء العرب الشباب، وتكاد لا تخلو التجارب الأولية للشعراء العرب في جيلنا هذا من أثر لمحمود درويش"
وهكذا في صحافة الجزيرة مهبط الوحي ومعقل دعوة الإسلام، يقدم الشيوعي الملحد لشبابنا على أنه أعظم الشعراء العرب قاطبة، دون أن ينبه على ما فيه من داء عضال .
وفي عدد اليمامة 897 الصفحة 62-63 في زاوية ثقافة, تقديم ومدح وصور لديوان محمود درويش (حصار لمدائح البحر) على صفحتين كاملتين من المجلة، ومحمود درويش هذا هو الذي يقول في صفحة 32 من ديوانه (المحاولة رقم 7) :
( كل قاض كان جزاراً تدرج في النبوءة والخطيئة
واختلفنا حين صار الكل في جزء
ومدينة البترول تحجز مقعداً في جنة الرحمن
فدعوا دمي حبر التفاهم بين أشياء الطبيعة والإله
ودعوا دمي لغة التخاطب بين أسوار المدينة والغزاة
دمي بريد الأنبياء )
هكذا هم دائماً عباقرة الحداثة وشعراء اليمامة، حرباً على الله ورسوله، واستهزاء بجنته، واستخفافاً بكل ما يمت للإيمان بصلة، وقبل هذا يقول الخبيث مستهزئاً بالقرآن في صفحة 29 : "فسبحان التي أسرت بأوردتي إلى يدها" .(34/273)
أما في العدد 884 من اليمامة وفي آخر صفحة فتكتب فوزية أبو خالد - المشاركة في أكثر من مهرجان شعري - وصاحبة ديوان (إلى متى يختطفونك في ليلة العرس) ، تكتب حواراً بين سليمان خاطر، وسرحان بشارة سرحان، فتمثل هي سليمان وتحاور عنه بشعرها المنثور، وتجعل ردود سرحان من شعر محمود درويش ومن قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتريا) .
وفي جريدة عكاظ العدد 7468 الصفحة 5 كتبت أيضاً تحت عنوان (قصيدة النثر إلى أين) فاستشهدت في مقالها بأقوال الدكتور فؤاد زكريا فيلسوف العلمانية في مصر، ومحمد عابد الجابري الشيوعي المغربي، وقاسم حداد الكاتب اليساري الحداثي البحريني، وبالطبع لم تنس محمود درويش فنقلت سطوراً من كلامه .
وحق لمثل فوزية أبو خالد التي تقف أمام الجماهير والجموع تلقي الشعر الثوري في شكله ومضمونه وهي منتشرة الشعر على الأكتاف وعلى الوجه بادية المفاتن، أقول حق لها أن لا تجد في المكتبة العربية من تستشهد بقوله، ليمثل معاناة الأمة تجاه أعدائها إلا محمود درويش الذي يقول في صفحة 19 من الديوان السابق :
( وها نحن بين الطهارة والإثم
شيئان يلتحمان وينفصلان
كأن الأحبة دائرة من طباشير قابلة للفناء وقابلة للبقاء
وها نحن نحمل ميلادنا مثلما تحمل المرأة العاقر الحلما
وها أنت مئذنة الله حينا وقبعة لجنود المظلات حينا
كانت صنوبرة تجعل الله أقرب
وكانت صنوبرة تجعل الجرح كوكب
وكانت صنوبرة تنجب الأنبياء )
وينقل عنه رجاء النقاش في كتابه (أدباء معاصرون) الصفحة 258 قوله عن أخته :
( أبي من أجلها صلى وصام
وجاب أرض الهند والإغريق إلاهاً راكعاً لغبار رجليها
وجاع لأجلها في البيد أجيالاً يشد النوق
أقسم تحت عينيها يمين قناعة الخالق بالمخلوق
تنام فتحلم اليقظة في عيني مع السهر فدائي الربيع أنا
وعبد نعاس عينيها وصوفي الحصى والرمل والحجر
فاعبدهم لتلعب كالملاك
وظل رجليها على الدنيا صلاة الأرض للمطر )
ومحمود درويش هو الذي يقول عنه أحمد كمال زكي في كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) صفحة 67 : "ومن هؤلاء كالبياتي وجعفر الشيخ ومحمود درويش من يسترفد الفكر الماركسي سياسياً ليشكل التزامه القومي" .
ويقول رجاء النقاش في كتابه (محمود درويش شاعر الأرض المحتلة) - وهو طبعاً من المعجبين بدرويش - فلا يمكن أن يتهم بأنه يتجنى عليه، يقول في صفحة 113 من الكتاب : "وقد عمل محمود درويش في جريدة الاتحاد، ومجلة الجديد، وهما من صحف الحزب الشيوعي في إسرائيل" .
ولذلك لا نستغرب أن يصدر عن تلميذ الشيوعيين اليهود، وربيب صحفهم، وأستاذ الحداثيين عندنا، لا نستغرب أن يصدر عنه مثل قوله : "نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير"، وهو لا يؤمن طبعاً بوجود الله لكنه يستهزئ ويسخر .
ولمن ينكر كلامنا عن ارتباط محمود درويش بالحزب الشيوعي الإسرائيلي فكراً وتنظيماً، نقول راجع كتاب رجاء النقاش السابق ذكره، وخاصة الصفحات من 220 - 234، والتي خصصت للحديث عن هذه العلاقة ومحاولة تبريرها .
ولتحديد بعض الوالهين لدينا بمحمود درويش استمع إلى الناقد الحداثي خالد المحاميد في جريدة عكاظ العدد 7489 الصفحة 5 وهو يقول عن عبد الله الصيخان : "ثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، ألا وهي حضور صوت محمود درويش في بعض قصائد الصيخان" .
وفي هذا كفاية لمن أراد معرفة محمود دوريش من هو وما وجهته في الحياة .
أما من أرد أن يعرف أكثر، فإليه قول محمود درويش الذي نقله عنه حسين مروة في كتابه (دارسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي) صفحة 360 يقول درويش : "وصرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي أشعلتنا حماساً وأملاً، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعاً عن الحقوق القومية، ودفاعاً عن حقوق العمال الاجتماعية، وحين شعرت أني أملك القدرة عل أن أكون عضواً في الحزب دخلت إليه في عام 1961م فتحددت معالم طريقي، وازدادت رؤيتي وضوحاً، وصرت أنظر إلى المستقبل بثقة، وترك هذا الانتماء آثاراً حاسمة على سلوكي وعلى شعوري" .
أيكفيكم هذا يا من تحسنون الظن بالحداثيين؟
وفي عدد 7517 من عكاظ الصفحة 5 يتباكى الغذامي على الإبداع لدينا، وينذر تلاميذه بأنهم ما لم يتجاوبوا معه فسيضطر لتكريس دراساته النقدية لمحمود درويش فيقول : "سيكون من الأجدى لنا أن ندرس العواد، أو ننصرف لمحمود درويش وغيره من الشعراء الذي نجد فيهم حسن التجاوز والابتكار وكسر المألوف والمغامرة في المجهول" .
المثال الرابع : أدونيس
من الشعراء الذين تثني عليهم مجلاتنا وصحفنا وتقدمهم على أنهم من كبار المبدعين . (أدونيس) وهو شاعر نصيري كان اسمه علي أحمد سعيد، ثم ترك النصيرية واعتنق الشيوعية، وتسمي باسم أحد أصنام الفينيقيين (أدونيس) ، وهذا الملحد يُقدم في صحافتنا على أنه من كبار الأدباء والشعراء، لم نسمع ولم نقرأ حرفاً واحداً يحذر من فكره وكفره، بل تنشر صوره وغليونه في فمه وتحته عبارات الإطراء والمدح .(34/274)
ففي عدد اليمامة 911 وفي صفحة 81 من مقالة (للأنهار منابعها ولها أيضاً مصبات) وردت العبارة التالية : "نقرأ لأدونيس بعض أعماله فنشعر بنشوة ما بعدها نشوة، ونكاد نقول شكراً أدونيس، رسالتك وصلت" .
أما صحيفة اليوم العدد 4762 الصفحة 12، فتقول عند الحديث عن محمود درويش زميل أدونيس : "هذه الغنائية التي أوقعت ناقداً كبيراً كأدونيس في حيرة شديدة" .
وفي مجلة اليمامة العدد 893 الصفحة 101، كتب محمد الحربي تحت عنوان (ضد من) يقول الحربي : "ألا ترى معي أننا الأمة الوحيدة التي تتنكر لمبدعيها ومفكريها، لقادتها ولنجومها، وللمتميزين عبر تجاوزاتهم للسائد والنمطي" .
نعم الإبداع والفكر والقيادة والنجومية والتميز لا يستحقها عند الحربي إلا المتجاوز للسائد والنمطي، وما هو يا ترى السائد والنمطي عندنا ؟ أليس هو الإسلام عقيدة وشريعة وخلقاً وسلوكاً ؟؟!
لنرى من هم الذين يستحقون هذه الأوصاف لدى الحربي حين يقول : "ألا ترى معي هذه الحملة ضد درويش ؟ ولعلك تراجع ما يقال عن الحاضرين : البياتي, يوسف الصائغ، محمود درويش، مظفر النواب، أدونيس، إلى آخر القائمة؛ ولعلك تراجع ما يقال عن الراحلين : السياب، عبد الصبور، دنقل" .
وهذه المجموعة التي اعتبرها الحربي هي المبدعة المفكرة المتميزة لا يجمعها جامع إلا حرب الإسلام والارتماء في أحضان الفكر اليساري الملحد .
ثم يواصل الحربي تقديمه للمبدعين لدينا في نظره الذي تتنكر لهم الأمة واصفاً الذين يخالفون بأهل الساحة الصفراء - وهو رمز يطلقونه على حملة السلف وأهل الأصالة - فيقول : "ولعلك تراجع أوراق الساحة الصفراء، فترى شيئا مما هو ضد الغذامي والصيخان والسريحي والزيد … و … و … "
وفي مجلة الشرق العدد 362 الصفحة 32 تحت عنوان (عسكرة الشعر) كتبت المجلة الكلام نفسه الوارد في اليمامة مع اختلاف الألفاظ فقط ، تقول الشرق : "غمس السياب صوته في تربة الخليج، وهجرناه على الموج غريب، صاغ درويش حزنه بحجم حزن أعراس الجليل وعدونا عن سماع مزاميره، أفرد أدونيس توقعاته وترانيمه في مقدماته الطللية وقذفناه بحجارة الغموض والخطيئة … سجل السعدي يوسف والبياتي اعترافاتهم على ورق البردي وأصدرنا قانوناً يمنع تداولها، حرر العلي والصيخان والدميني والحربي والتضاريس إبداعاتهم في فوران المرحلة، وعركناهم عرك الرحى بثفالها ماذا يعني" .
وأقول للكاتب الحداثي : إن هذا المعنى ـ ولله الحمد ـ أنه لا مكان لكم في بلاد المسلمين .
وهكذا في مجلتين مختلفتين، ومن كاتبين، ترد نفس المعاني والأسماء نفسها لأن المدرسة واحدة، والأساتذة والقدوة هم إياهم . وأدونيس الذي اعتبر هنا من كبار العباقرة والنقاد والمفكرين المتجاوزين للسائد والنمطي، سأورد بعض مقتطفات من كتبه تنضح بالكفر والإلحاد والتي تباع مع الأسف في المكتبات السعودية .
يقول في كتابه (زمن الشعر) الصفحة 76 : "إن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي، ليست تلك التي تسليه أو تقدم له مادة استهلاكية، ليس تلك التي تسايره في حياته الجارية، وإنما هي التي تعارض هذه الحياة، أي تصدمه، تخرجه من سباته، تفرغه من موروثه، وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم كلها بجيمع مظاهرها ومؤسساتها، وذلك من أجل تهديمها كلها، أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد، هكذا يلزمنا ثورياً مسرح ضد مسرح، وشعر ضد الشعر، وقصة ضد القصة، يلزمنا تحطيم الموروث الثابت، فهنا يكمن العدو الأول للثورة" .
ويقول في صفحة 156 من الكتاب نفسه : "الأدب الحق هو الذي يعبر عن الحياة … ومن أعقد مشكلات الحياة العربية وأكثرها حضوراً وإلحاحاً، مشكلة الجنس، لكن حين يعالجها كاتب شاب بأقل ما يمكن من الصراحة والجرأة تهب في وجهه رياح التأفف والشتيمة …. ومن أعقد مشكلاتنا مشكلة الله ، وما يتصل بها مباشرة في الطبيعة وفيما بعدها، ونعرف جميعاً ماذا يهيئ للذين يعالجونها بأقل ما يمكن من الصراحة والجرأة . ومن أعقد مشكلاتنا أيضاً وأكثرها إلحاحاً وحضوراً ، مشكلة القيم والتراث" .
هذا هو أستاذ عباقرة الحداثيين وأساتذة الأدب والثقافة في مجلاتنا، إلحاد في العقائد، وإسفاف في الخلق، ورذيلة في الفكر، والكتاب كله على هذه الوتيرة .(34/275)
أما في كتابه (مقدمة للشعر العربي) الذي حاول فيه أن يثبت جذوراً لفكره المنحل في شيء من التاريخ ، يقول في صفحة 131 ، حين يتحدث عن قيمة الشعر الجديد، مبينا صلتها بالفكر الصوفي القائل بوحدة الوجود ما نصه : "تجاوز الواقع أو ما يمكن أن نسميه اللاعقلانية، واللاعقلانية تعني الثورة على قوانين المعرفة العقلية، وعلى المنطق، وعلى الشريعة من حيث هي أحكام تقليدية تعنى بالظاهر …. هذه الثورة تعنى ـ بالمقابل ـ بالتوكيد على الباطن ، أي على الحقيقة مقابل الشريعة, وتعنى الخلاص عن المقدس والمحرم، وإباحة كل شيء للحرية . الله في التصور الإسلامي التقليدي نقطة ثابتة متعالية منفصلة عن الإنسان، التصوف ذوب ثبات الألوهية، جعله حركة في النفس، في أغوارها، أزال الحاجز بينه وبين الإنسان، وبهذا المعنى قتله، أي الله، وأعطى للإنسان طاقاته، المتصوف يحيا في سكر يسكر بدوره العالم، وهذا السكر نابع من قدرته الكامنة على أن يكون هو الله واحداً ، صارت المعجزة تتحرك بين يديه" .
أقول هل وصل بنا الحد أن يشاد بصاحب هذا الكلام في صحفنا ومجلاتنا، ويقدم على أنه من قمم الفكر والأدب ؟!
إنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن نماذج شعره ما نقله أحمد كمال زكي في كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) الصفحة 144 قوله :
( كاهنة الأجيال قولي لنا شيئا عن الله الذي يولد
قولي أفي عينيه ما يعبد )
ثم ينقل عنه قوله :
( مات إله كان من هناك
يهبط من جمجمة السماء )
وليت أحمد زكي أستاذ الأدب في جامعة الملك سعود حين نقل هذا الكفر رد عليه، ولكنه مع الأسف اعتذر لصاحبه ودافع عنه ، بل تبنى المؤلف ذاته الضلال حين يقول في الصفحة 150 من كتابه هذا : "إننا في هذا المقام لا نستطيع أن نهمل التأثيرات الفولكورية، لا فيما تقدر عليه قراءة الورد، وإنما فيما تمثله النبوءة التي تبدو عند الباحثين من أهم روافد الأسطورة، فضلاً عن علوقها بالشعر على اختلاف درجاته" .
وقد أثبت أحمد كمال زكي أستاذ الأدب في جامعة الملك سعود ـ وهو حجة عند الحداثيين ـ في كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) صفحة 16، أن لأدونيس هذا تلاميذ لدينا في السعودية، وطبع كتابه في الرياض، ولم ينف أحد منهم ذلك .
قال أحمد كمال زكي : "وهذا الجيل الذي ذكرت منه القصيبي، ومعه محمد العلي ومسافر، وسعد الحميدي، لم يستطع كله أن يتخلص من تأثير أدونيس، فمنهم من تأثروا بموضوعاته تارة, ومنهم من قلدوا صياغته أو أسلوبه تارة أخرى, ومنهم من ظن أن سيرياليته في الغوص إلى الباطن حيث منطقة الإبداع الحقيقي اللافت فاستمدوا منه عمليات الكشف الغامض على غير أساس وبدون فهم لمعنى الحضورالشعري الذي يقول شيئا ما"
المثال الخامس : صلاح عبد الصبور
دأبت صحفنا ومجلاتنا على تقديم صلاح عبد الصبور على أنه من أهل الريادة وعباقرة الفكر والأدب، والذين ارتفعوا بالفكر والأدب العربي عالمياً، وسنرى بعد قليل مظاهر هذه الإشادة، ونرى من هو صلاح عبد الصبور الذي يشيدون به .
ففي مجلة الشرق العدد 364 كتب في أربع صفحات عن صلاح عبد الصبور وأدبه ومسرحياته، وكانت هذه الكتابة حلقة يتبعها حلقات، لكني لم أطلع على ما بعدها، والأربع صفحات مدح وإطراء وثناء عليه وعلى أعماله، أقله قولها : "وكان صلاح عبد الصبور أحد فرسان المرحلة" !! أي والله أحد الفرسان الذين خدروا الأمة وحاربوا دينها وحطموا قيمها، لكن لا يستغرب أن يصدر هذه الكلام عمن أثنى على الحلاج أثناء مدحه لعبد الصبور, وكان مما قاله : "فعندما يخلع الحلاج خرقة الصوفية وينزل إلى الناس شاهراً الكلمة في وجه الظلم، تظل الصوفية قيداً يثقل خطواته ليظل بدوره متأرجحاً بينها وبين الواقع، وبين الكلمة والسيف، إلى أن يدهمه الواقع بالشرطة والمحاكمة الشكلية التي تصل به إلى الصلب على نحو دموي" .
ونحن لا نستغرب من أحفاد الحلاج إشادتهم به، لكننا نستغرب أن يكون ذلك في صحافة المسلمين ومجلاتهم التي عليها يتربى ناشئهم وتتغذى عقولهم، وتتكون أفكارهم وعقائدهم .
وصلاح عبد الصبور هذا هو الذي يقول في مسرحيته التي بعنوان (مأساة الحلاج) في الصفحة رقم 503 من ديوانه عل لسان الحلاج :
( أظن الله كيف ونوره المصباح
وظني كوة المشكاة
وكوني بضعة منه تعود إليه
فالهيكل المهدوم بعض منه إن طهرت
وجل جلاله متفرق في الخلق أنواراً )
ويقدم صلاح عبد الصبور الحلاج على أنه شهيد الحرية وقتيل الظلم والطغيان، وعلى إثره تشيد مجلة الشرق السعودية بالحلاج بل تجعل عنوان مقالها (الحلاج الذي ينتظر السيف) وتحت العنوان صورة تأملية لصلاح عبد الصبور .
ولكي يتعرى صلاح عبد الصبور هذا أمام كل ذي عينين ، ننقل إليك مقطعاً من ديوانه الذي تزخر به المكتبات وتشيد به الصحف على الصفحات .
يقول في ديوانه في صفحة 29 تحت عنوان (الناس في بلادي) :
( الناس في بلادي جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر
ويقتلون يسرقون، يشربون
وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
مؤمنون بالقدر في لجة الرعب العميق والفراغ والسكون
مجتلاك
والملاك مفرق الجبين
وهذه الجبال الراسيات عرشك المكين(34/276)
وأنت نافذ القضاء أيها الإله
وفي الجحيم دحرجت روح فلان
يا أيها الإله كم أنت قاس موحش يا أيها الإله
بالأمس قد زرت قريتي
قد مات عمي مصطفى ووسدوه في التراب
لم يبتن القلاع كان كوخه من اللبن
وسار خلف نعشه القديم من يملكون مثله جلباب كتان قديم
لم يذكروا الإله أو عزرائيل أو حروف كان فالعام عام جوع
وعند باب القبر قام صاحبي خليل حفيد عمي مصطفى
حين مد للسماء زنده المفتول ماجت على عينيه نظرة احتقار فالعام عام جوع )
هل يكفي هذا عند أهل الحداثة مبرراً لنشر فكر صلاح عبد الصبور واعتباره من الرواد والمبدعين، أم لا بد من زيادة ؟ إنني أرفق بنفوس المؤمنين الذي سيقرؤون هذه الكلام ، وإلا فديوان صلاح عبد الصبور ينضح كله بالكفر والفسق والدعوة للإباحية وإشاعة الجنس والحب كما يسميه .
وفي جريدة الرياض العدد 6652 ، كتب صفحة كاملة عن (الرؤية الإبداعية في شعر صلاح عبد الصبور) ، لن أنقل مما ورد فيها من الغثاء والبلاء إلا مطلعها لنعلم أي نظرة تنظرها صحفنا إلى صلاح عبد الصبور وأمثاله، تقول الرياض : "صلاح عبد الصبور يمثل الريادة الحقيقية لثورة التجديد في الشعر العربي المعاصر، وهي ريادة لم تنشأ من فراغ ، وإنما كانت معطيات حياة وثقافة . وفكر صلاح عبد الصبور يؤهله للقيام بهذا الدور الذي لا يقتصر على مصر، وإنما يمتد فيشمل الساحة الشعرية في الوطن العربي . خلّف صلاح عبد الصبور ثروة إبداعية ونقدية أثرى بها أدبنا العربي، وخلف مدرسة ينتظم في أعطافها شعراء المدرسة المجددة في العالم العربي" .
ولمعرفة بعض آثار صلاح عبد الصبور هذا على ساحتنا, ننقل لك بعض ما قاله الناقد الحداثي شاكر النابلسي في جريدة عكاظ العدد 7489 الصفحة 6، عند تعليقه على العرض المسرحي الذي أقامته جمعية الثقافة والفنون في القصيم لقصيدة الثبيتي (تغريبة القوافل والمطر) يقول النابلسي : "أود أن أشير إلى أن هذه القصيدة قد لخصت كثيراً من قصائد صلاح عبد الصبور" .
ثم يقول عن قصيدة أخرى للثبيتي : "هذه القصيدة نفس درامي يرد الثبيتي من جديد إلى بيادر صلاح عبد الصبور الشعرية المسرحية الفنية" .
هل تريد أن تعرف أكثر عن صلاح عبد الصبور ؟
صلاح عبد الصبور زعيم الحداثيين العرب ورائد المبدعين عندهم، إنه هو الذي يقول في ديوانه صفحة 38:
( والشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم )
وعنوان قصيدته في الصفحة 47 : (الإله الصغير)
ويقول الخبيث في صفحة 151 :
(( ملاحنا ينتف شعر الذقن في جنون
يدعو إله النقمة المجنون
أن يلين قلبه ، ولا يلين
ينشده أبناؤه وأهله الأدنون
والوسادة التي لوى عليها فخذ زوجه
أو ولدها محمداً وأحمدا وسيدا
وخضرة البكر التي لم يفترع حجابها إنس ولا شيطان
يدعو إله النعمة الأمين أن يرعاه حتى يقضي الصلاة
حتى يؤتي الزكاة
حتى ينحر القربان
حتى يبني بحُر ماله كنيسة ومسجداً وخان )
ومن أراد أن يعرف صلاح عبد الصبور أكثر فليطالع ديوانه وشعره وكتبه ليعرف أي فكر وأي حياة يحب أهل الحداثة أن نعيشها .
هذه المتابعات التي تحدثنا عنها لا تحتاج إلى أي جهد لكي يقف عليها القارئ للصحافة، بل إن ما أوردته عن رموز الحداثة ليس إلا قليلاً من كثير مما يكتب عنهم، ولكي تكتمل الصورة أورد لك نماذج من اهتمامات الحداثيين في صحافتنا لأناس غير مشهورين، ولكن بالبحث عن هوياتهم تبين أنهم ماركسيون حتى النخاع كما يقال، وهذه النماذج لم يكن اختيارها مقصوداً، وإنما أخذت اتفاقا لمعرفة اهتمامات الحداثيين، وإلا فالأسماء التي يهتم بها أهل الفكر الجديد كثيرة جداً .
النموذج الأول : حسين مروة شيوعي لبناني
يعتبر المنظر الفكري للحزب الشيوعي اللبناني ومن أكثر الحاقدين نقداً للإسلام وتاريخه وكتابه ونبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ناقشت مجلة المجتمع الكويتية الإسلامية افتراءات مروة على الإسلام وتفسيره للتاريخ الإسلامي تفسيراً طبقياً شيوعياً في الصفحة الأخيرة من الأعداد 772 و7774و776و777و779 وحتى لا أطيل في النقل عن المجتمع أحيل القارئ إليها .لكن ما هو يا ترى موقع حسين مروة لدى حداثيينا هنا ؟
في عكاظ العدد 7489 الصفحة 8 زاوية اسمها أحدث الإصدارات، فيها تعريف بخمسة كتب، ثلاثة منها لماركسين معروفين, منهم حسين مروة الذي ورد تعريفه ودعاية لكتابه الموسوم (دراسات في الإسلام) ، وماذا تتوقع من شيوعي ماركسي أن يقول عن الإسلام ؟!
حسين مروة هذا قُتِل في بيروت وعند ذلك انكشف الغطاء وظهر الرثاء في صحافتنا له وكأنه أحد القادة الفاتحين، بل إن شيوخ أفغانستان وأطفال فلسطين لا مكان لهم في قاموس الحداثيين، أمّا حسين مروة فاستمع إلى الرثاء الحار الحزين من أبنائه الوالهين .(34/277)
كتب سعد الدوسري القاص الحداثي في اليمامة العدد 950 الصفحة 126 يقول : (أرض أولى بلا مروة) هذا العنوان أما الرثاء فكان مما قال : "في إحدى البيوت يدخلون يطلقون رصاصهم إلى رأس لا ذنب لها سوى أنها تنقش الحبر على قامة النهار، رأس شيخ كان للتو يتلو أناشيده لمن بقي من العائلة، رأس كانت تنطق حمى هذا الزمن الواقف، هذا الزمن المتهلهل، هذا الزمن المؤامرة، من فوهات بنادقهم التي جعلوا صوتها مكتوما لعارهم وذلهم أطلقوا النار على الرأس، فتهاوى جسد الدكتور العالم حسين مروة وهو ينزف آخر الحقيقة، وآخر شهادات هذا العبث ، وهذا الخواء" .
إنني هنا أسأل الدوسري وأضرابه، أين كانت رحمتهم وحرقتهم وعطفهم يوم كان الحزب الشيوعي اللبناني الذي يعتبر حسين مروة أبوه الروحي، والحزب القومي السوري الاجتماعي الذي يعتبر أدونيس لسانه الناطق، تضرب المسلمين في طرابلس من البر والقوات الإسرائيلية من الجو والبحر، فتهدم المساجد على المتكدسين فيها، وتهلكهم قبل أن يهلك الجوع والظمأ وانتهاك الأعراض من بقي منهم، أم أنهم يستحقون ذلك لأنهم قالوا كلمة لا لكل فكر دخيل .
وفي نفس العدد من اليمامة صفحة 74، كتب أحدهم رثاءً حارًا لمروة، وكان مما قال فيه : "أي قلب كف عن الخفقان، أي مشعل للنور قد انطفأ … إن المفكر والأديب الكوني والباحث الإنساني الدكتور حسين مروة هبط نعيه يحمل مرارة الألم والحسرة على كل إنسان عشق الأرض وتناسجه ضياء الشمس وتبللت ذوائبه بزخات المطر … إيه أي جواد خاسر هذا الذي راهن على إطفاء شعلة مروة، كأن شعلة الفكر يطفئها رصاص الغدر، ويجتاحها طوفان الحقد المشبوه، أو كأن أمل الخاسرين يحمل بصيصاً من الأمل في مصادرة ما أعطاه حسين مروة في الأدب والفكر والتاريخ والفلسفة، فأغنى المكتبة العربية وأعاد إليها ما فقدته من هيبة وعلم ومعرفة … إية مروة، أي قلب كف عن الخفقان أي مشعل للنور قد أنطفأ" .
وحتى لا يبقى كلامنا في اتهام حسين مروة بالشيوعية إحالة إلى غائب (مجلة المجتمع) فإني أنقل ما قاله في إهدائه لكتابه (دراسات نقدية على ضوء المنهج الواقعي) الصفحة 5 قال : "الإهداء إلى زوجتي التي أعانتني أن أكون شجاعاً في قول الحقيقة، وأن أكون شيوعياً نقياً" .
هل تريدون أدلة أكثر ؟ تصفحوا الكتاب لتروا، اللهم إن أمثال هذا الملحد قد كثروا في بلاد المسلمين، يفسدون العباد، ويهلكون الحرث والنسل، اللهم احصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا، اللهم خذ لعبادك منهم، وسلط عليهم جندك، وأرنا فيهم يوماً أسودا .
النموذج الثاني : المفكر الشيوعي المغربي عبد الله العروي
تنوع اهتمام الحداثيين هنا به وبفكره، ففي عكاظ العدد 7468 في الصفحة 8، زاوية (أحدث الإصدارات) فيها تعريف بخمسة كتب، ثلاثة منها لشيوعيين معروفين، ومن الثلاثة تعريف بكتاب (ثقافتنا في ضوء التاريخ لعبدالله العروي) .
وفي عدد المدينة 7140 الصفحة الثالثة من صفحات الثقافة يقدم أحمد عائل فقيه دراسة وافية مادحة للكتاب ومؤلفه مليئة بمصطلحات الشيوعية .
وفي صحيفة الرياض ، العدد 6659 الصفحة 7، موضوع في خمسة أعمدة بعنوان (التعريب والانبعاث الحضاري عند العروي) ، وفي هذه المقالة تعريف بالعروي وإشادة بكتابه أكثر من سابقاتها .
وفي مجلة اقرأ العدد 604 الصفحة 40 قُدم العروي رمزاً للثقافة في المغرب، ونشرت صورته مع ذلك .
أمّا لمعرفة ماركسية وشيوعية العروي فارجع إلى الصفحة الأخيرة من مجلة المجتمع، الأعداد 749، و753 و754، ولزيادة معرفتك بشيوعية العروي أنقل لك بعض النقول من كتبه .
يقول في كتابه (مفهوم الحرية) الصفحة 77: "إن الممارسة السياسية في العالم العربي تلح على أن تحرير الفرد يمر حتما عن طريق تحرير المجتمع، وأن حرية الفكر مرتبطة بالحرية السياسية، وهذه بالحرية الاجتماعية والاقتصادية، وكلما توسعت الممارسة وعمت التجربة انتشرت سياسية، ثم كنظرية فلسفية بعد أن يعاد ربط تلك المقولة بجذورها" .
ويقول في كتابه (العرب والفكر التاريخي) صفحة 22: "لعل الإنتاج الفكري العربي الوحيد الذي يتغلب فيه المنطق الحديث، هو حقل الاقتصاد الليبرالي السياسي، ونرى فيه بكل وضوح كيف يتجاوز الاتجاه الماركسي الاتجاه الليبرالي" .
ويقول في صفحة 46 : "يظن كثير من الناس أن الماركسية يرمونها بالضيق والتقوقع وعدم المرونة والانفصال عن الواقع، ولا ينتبه إلا القليلون إلى أن المحيط الذي نعيش فيه يلون أيضاً ماركسية كل فرد إذا كان هناك تحوير في علاقات الماركسية والواقع، فهو تحوير متبادل" .
ويقول في صفحة 65 : "إنني ما أزال أطرح السؤال التالي : إذا لم نحدد الماركسية كنظام فكري شامل يوحد النخبة الثورية، ويصلح كمعيار للتحليل وكمنارة للعمل، أي فائدة للماركسية في ظروف الأمة العربية والتاريخية" .
أظن هذا يكفي لتزداد معرفة بشيخ الحداثيين .
النموذج الثالث : محمد عابد الجابري(34/278)
ممن شغف الحداثيون بذكرهم والاهتمام بهم المفكر الشيوعي محمد عابد الجابري، وهو إن كان ليس له أي اهتمام بالأدب، مثله مثل العروي، وأهل الحداثة كما يدعون لا يهتمون إلا بالإبداع كما يسمونه، لكن ما دام أنه عدو للإسلام فيجب أن يشاد به ويقدم للناس حتى تروج أفكاره بينهم، ومن اهتمام الحداثيين بالجابري ما يلي :
في مجلة اليمامة العدد 910 صفحة 58, إشادة بأفكار الجابري نحو التراث، والذي طالب فيها أن نعتقل التراث ولا ندعه يعتقلنا .
وفي العدد 925 صفحة 76، نشرت اليمامة عموداً للجابري بعنوان (أول الكلام) .
وتقدم اقرأ في العدد 592 صفحة 33 ، تعريفاً لكتاب الجابري (بنية العقل العربي) والتعريف تحت عنوان (الجابري يمعن في نقد العقل العربي) .
وأيضاً تعرض عكاظ بنفس الكتاب مادحة له ولمؤلفه في العدد 7468 الصفحة 8
وفي صحيفة اليوم قامت الصحيفة باستطلاع وجهت فيه سؤال لبعض الكتاب والمفكرين والأدباء، ونص السؤال : "ما هو أهم كتاب قرأته العام الفائت ؟ " .
وكانت إجابة أحد الحداثيين، إنه كتاب الجابري، وقدم تعريفاً به في جزء كبير من الصفحة 12 من العدد 4951 .
وكذلك في العدد 604 من مجلة اقرأ الصفحة 40 ، مقالة عن الثقافة في المغرب، قدم فيها الجابري والعروي ضمن من قدموا، على اعتبار أنهم رموز الثقافة الحقيقية في المغرب، وزخرفت المقالة بصورهم .
وأخيراً في مجلة اقرأ العدد 601 الصادر في 1/5/ 1407هـ الصفحة 36 خبر وحديث عن مهرجان ثقافي شيوعي يقام في المغرب من أجل ذكرى مفكر شيوعي، والمشاركون فيه من الشعراء والمحاضرين من أصحاب الفكر الشيوعي، وإليك نص الخبر (ذكرى عمر بن جلون شعرياً وفكرياً) : "وفي المغرب تتخذ كافة الاستعدادات والترتيبات لإقامة مهرجان ثقافي رفيع المستوى في ذكرى المناضل عمر بن جلون، وسيشارك في فعاليات المهرجان شعراء ومفكرون بارزون من أمثال محمود درويش، وأدونيس، وغيرهم، على حين تستضيف الندوات المقامة مفكرين من وزن محمد عابد الجابري وعلي أومليل ولطفي الخولي والحبيب المالكي . يبقى أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالمغرب هو الجهة المسئولة عن تنظيم المؤتمر" .
هذا هو الخبر ، ويمكننا أن نجمل التعليق عليه في النقاط التالية :
أولاً ـ ورد في الخبر سبعة أسماء ، خمسة منهم معلومة شيوعيتهم وهم :
محمود درويش ، وأدونيس ، والجابري ، ولطفي الخولي ، والذي أقيم المهرجان لذكراه عمر بن جلون .
ثانياً ـ ما هو النضال الذي قام به ابن جلون حتى يستحق أن يوصف في صحافتنا بأنه المناضل ؟ هل هو حربه لله ورسوله بشعره وقلمه .
ثالثاً ـ متى أصبح للشيوعيين وزن بارز في صحافة المسلمين حتى يوصفوا بذلك
رابعاً ـ إن كون المنظم للمهرجان هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يحدد بلا غموض هوية المشاركين فيه والغاية من إقامته، فهل الإشادة بهذا المهرجان يحدد أيضاً هوية الناعقين له ؟ .
بقي أن أقول لك أيضاً للتأكيد من شيوعية الجابري، أنظر الصفحة الأخيرة من مجلة المجتمع في الأعداد 749 ، 753 ، 754، 771 .
وإليك بعض النقول من كتاب (الخطاب العربي المعاصر) للجابري لعلها أن يكون فيها ما يلقي الضوء على فكره أكثر .
يقول في صفحة 45 : "لعل أبرز مسألة فلسفية أو أيديولوجية مطروحة أمام الفكر العربي الاشتراكي، ليس اليوم فحسب، بل ومنذ منتصف الخمسينات إذا شئنا الدقة التاريخية هي المسألة التالية :
الاشتراكية الضرورية والواجبة للوطن العربي جزءاً وكلاً ، أهي الأفكار المتولدة من الاشتراكية العلمية، أم هي الأفكار المتولدة من تغيرات المجتمع العربي" .
ويقول في صفحة 47 : "يمكنك القول أن فلسفة الحركة الوطنية التحررية، هي الاشتراكية العلمية مأخوذة على ظروف تطور مجتمعات عربية، وفي العالم الثالث دون حاجة إلى أن نجعلها علما لأنها كانت علما منذ أن وجدت . وإذا كانت اللينينية ماركسية عهد الاستعمار في الطريق نحو الاشتراكية فإن فلسفة الحركة الوطنية التحررية هي ماركسية لينينية عصر الانفصال عن شبكة الرأسمالية العالمية في الطريق نحو الاشتراكية" .
ويقول في صفحة 150 مبيناً ضرورة إبراز النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية كما يزعم : "وهذه النزعات بالذات هي التي يريد الماركسي العربي الكشف عنها وإبرازها, أما سلاحه فمعروف أنه المنهج المادي التاريخي" .
هذه هي بعض النماذج ممن يشيد بهم الحداثيون، على الرغم من أنهم لا صلة لهم بالأدب وأهله، لكن مادام لهم صلة بالشيوعية وحرب الإسلام وقيمه فيجب أن ينشر فكرهم ويشاد بهم في نظر الحداثيين .
وأنا لم أورد إلا أمثلة قليلة، وإلا فالصحافة مليئة بالثناء والمدح والدعاية لأفكار مئات الحداثيين . فمثلاً في عكاظ العدد 7498 الصفحة 6 مقابلة مع الشاعر الحداثي السوداني محي الدين فارس، أثنى فيها على تولستوي وديستوفيسكي الروسيين، وأدونيس، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وجيلي عبد الرحمن، وتاج السر الحسن، ومحمود درويش، وسعد البازعي، وعبد الله الغذامي، وسعيد السريحي، وعبد الله الصيخان، والبردوني، ونزار قباني، من الشعراء العرب .(34/279)
وفي مقابلة في عكاظ العدد 7490 الصفحة 6 مع الشاعرة اللبنانية الحداثية نهاد الحايك فكان ممن أشادت بهم : طاغور الهندي، ونيتشه الألماني، وبودلير الفرنسي، وجبران، وخليل حاوي، وأنسي الحاج، ونادية تويني، و أدونيس، ومحمود درويش، والسياب، والبياتي من العرب .
وفي العدد 7474 من عكاظ في الصفحة 15 موضوع بعنوان (من صدق المعاناة إلى رحاب العالمية) وقد عدد فيه كثيراً من أسماء من يعتبرونهم مبدعين، فذكر منهم : صنع الله إبراهيم، وعبدالرحمن المنيف، عبدالرحمن الربيعي، ويوسف القعيد، وجمال الغيطاني، ومحمد الثبيتي، وعبدالله السالمي، وحنامينا، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي، ومحمد الماغوط ومحمد العلي، ورقية الشبيب، وعلي الحسون، وعبدالعزيز المشري، وغسان كنفاني، وغادة السمان .
وفي العدد 7448 من عكاظ الصفحة 6، حوار مع شاعر يمني حداثي أسمه عبد اللطيف ربيع، وقد أشاد في الحوار وبين إعجابه بعبدالعزيز المقالح، وعبد الكريم الرازحي، وعبد الودود سيف، وعبد الله قاضي، وأحمد قاسم دماج، وزيد مطيع، وعبدالفتاح عبدالولي، وعبد الله الصيخان، ومحمد الحربي، ومحمد الثبيتي .
هذه أمثلة بسيطة لبعض ما يجري في صحافتنا من إشادة بالحداثيين على اختلاف بلدانهم وألوانهم، وغيرهم الكثير ممن لم نشر إلى كثرة الكتابة عنهم، كالسياب، وسميح القاسم، وأمل دنقل، ومعين بسيسو، وغالي شكري وغيرهم الكثير من شياطين الحداثة والإلحاد .
أساليب الحداثيين في نشر أفكارهم
إن هذا الوباء الذي انتشر وعم وطم وأصبح يهدد كل ما عداه، لم يأت مصادفة أو اتفاقاً، بل كان نتيجة خطط معدة، وأساليب متبعة، ودراسات مستفيضة، حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه . والحق يقال إن الحداثيين قد بذلوا من الجهد والتضحية والصبر والمعاناة ما يجعل ما حصلوا عليه من ثمار موازياً لما بذلوه . لقد سبحوا ضد التيار وقاوموا بشدة وجراءة عجيبة، حتى أوجدوا لهم تياراً خاصاً، علا هديره على أصوات الآخرين، لكنه مع ذلك يبقى بإذن الله زبداً يذهب جفاءً، ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس .
ولقد استطعت أن أحصر وسائل وأساليب الحداثيين في تسع وسائل، وكان ذلك بالتتبع والاستقراء لنشاطهم . وعندما أعلن أحدهم توبته وهو عبد الله سلمان، وكتب في ملحق المدينة الأسبوعي (الأربعاء) العدد 205 مقالة ضد الحداثيين رفاقه بالأمس، وكان عنوانها (سيرة الحداثة من الداخل) أخذت أربع صفحات من الصحيفة، تبين لي صحة ما وصلت إليه بالاستقراء عن هذه الوسائل، وأنا سأختصر هنا جداً، وأكتفي بالإشارة للواقع المشاهد وهذه الوسائل في نظري هي :
1- السيطرة على الملاحق الأدبية والثقافية في أغلب الصحف وتوجيهها لخدمة فكرهم ومناوأة ومحاربة غيرهم، ويختلف مدى تغلغلهم في الصحف والمجلات من واحدة إلى أخرى، ولم يقف منهم موقف الرفض الواضح وعدم السماح لهم بالتسلل إلى الكتابة إلا صحيفة الندوة مشكورة، بل إنها عملت في الميدان وحدها ونافحت وكشفت وبينت في وقت كان فيه الكثير في غفلة عن هذه الموجة العارمة، وقد تميز في الندوة في هذا المجال الكتّاب الأفاضل : محمد عبد الله مليباري، ومحمد موسم المفرجي، وسهيلة زين العابدين . أمّا الذي حمل كبر إثم نشر الحداثة والدفاع عنها فهي الأقسام الثقافية في صحيفتي عكاظ، واليوم، ومجلتي اليمامة واقرأ، يقول عبد الله سلمان التائب من الحداثة والكاشف لسوأتها ضمن كلام له طويل، كيف بدأ تغلغلهم في الصحف :
"هذا ما كان عليه الأمر داخل الصحف، فمثلاً كان عبد الله عبد الرحمن الزيد في (اقرأ) أو في (اليمامة) وكانت جريدة اليوم تدفع بمعطيات شابة مثل : علي الدميني ومحمد ومعهما محمد العلي، أمّا عكاظ ـ وقد كنت أعمل بها ـ فلم يكن توجهاً ثابتاً نظراً لعدم استقرار تحريرها على حال . فلقد عملت بها في فترة إشراف عبدالله إدريس على القسم الثقافي، ثم حامد عباس، ثم أمجاد محمود رضا، مصطفى إدريس ثم سباعي عثمان ثم أخيراً سعيد السريحي، وسنورد كيف جاء لعكاظ لاحقاً على اعتبار أنه يشكل مرحلة استقرار وتوجه ثابتين للصفحة .
وهكذا توحدت معطيات الحداثة داخل الصحف، وتعزز صوتها، وأعلنوا عن الحداثة وجهاً وملامح وتوجهاً" .
هذه الشهادة المقتطفة مما كتبه أحد العائدين من التيه تُبين لنا تخطيطهم وإعدادهم من أجل اقتحام هذه الصحف، وإغلاق أبوابها أمام الآخرين كما سنرى بعد قليل . ويقول في نهاية حديثه عن هذه النقطة : "ومن هنا عادت الحداثة لمساحتها في عكاظ، بل عادة أكثر فاعلية وأثراً، الأمر الذي جعلها متفقة ومنسجمة مع معطيات الملاحق والصفحات الأدبية في كل من (اقرأ ) و (اليمامة) و (الرياض) و (الجزيرة) وبعد هذا تمكنت الحداثة من الصحافة حتى أصبحت مهيمنة تماماً" .(34/280)
وهذا الكلام الذي ذكره عبد الله سلمان الحداثي التائب هو ما أكده الغذامي في عدد 7489 من عكاظ الصفحة الخامسة تحت عنوان (موقف الصحافة) وهو وإن كان ينطلق غير منطلقات عبدالله، إلا أنه أكد نفس المعلومات حين أثنى عل بعض الصحف، وهاجم الندوة لوقوفها في وجه الحداثيين، وأكد أن الحداثة تحتل ستة ملحقات أدبية ـ كما قال ـ في مطبوعاتنا الصحفية .
2- التغلغل في الأندية الأدبية من أجل توجيه نشاطها لخدمة الحداثة وأهدافها، والحق يقال إنه لم يسلم من أذاهم إلا نادي مكة الأدبي، وحَسبَ علمي أيضاً أن نادي الطائف تطهر من أدرانهم بعد أن كادوا أن يلوثوه، أمّا أعظم وجود لهم فهو في نادي جدة، يليه نادي أبها، وبصورة أقل في الرياض وجيزان، أمّا المدينة والقصيم فهي وإن كانت لم تحدد موقفها بوضوح إلا أن الذي يسيّرون أمورها مبرؤون من الحداثة إن شاء الله .
يقول عبد الله سلمان بعد أن تحدث عن كيفية سيطرتهم على الصحف، ثم توجههم للسيطرة على الأندية الأدبية :
"وبدأ المحور الآخر يستهدف وهي الأندية الأدبية" .
ثم يتحدث عن ذلك بتفصيل أكثر فيقول : ماذا عن الأندية الأدبية ؟ لقد هوى الصوت قويا على فرح عقيلان الرئيس للأندية الأدبية وصاحب كتاب (جناية الشعر الحر)، كما هوى الصوت أقوى على عبدالله بن إدريس رئيس النادي الأدبي بالرياض، والأستاذ محمد بن عبد الله بن حميد رئيس نادي أبها، وعبدالفتاح أبو مدين رئيس نادي جدة . قلنا إنهم يغلقون المنافذ أمام مشاركات الشباب، وإن الأندية مقابر للأدب، وإن إصداراتها بطاقات مجاملة، وإن محاضراتها ذات نعرات تراثية.
هكذا كان الاتهام ساخناً يتوالد ويقسو، حتى قبلت هذه الأندية بالاعتراف بالحداثة، وهذا ما جعل من خصومها يتقبلونها ترضية لصوت الصحافة ليسكتوه حتى اعتلت الحداثة المنبر وتحدثت ولم يفهموا، ودونت فلم يقرأوا، وهم بالأندية الأدبية يتقبلون؛ حتى إن النادي الأدبي بجدة ـ بعد انضمام الدكتور عبدالله الغذامي لعضويته - أقام مزاوجة بين التراث والحداثة حتى يتوغل صوت الحداثة بالداخل ثم يمنح التراث استقالته الأبدية بدون مرتب . أمّا في نادي أبها الأدبي، فإن الفاعلين هم الشباب، الأمر الذي جعل من مناشط النادي وحتى الآن تحاول قدر الإمكان أن تراعي جانب التراث وجانب الحداثة، كذلك الأمر في نادي الرياض الأدبي، الذي بدأ الحوار مع الحداثة بعقد ندوات ثقافية للشباب تلبية لرأي الصحافة المؤثر والقوي .
وهذا توالى الاعتراف بالحداثة في أنديتنا الأدبية، حتى أصبح لها في كل ناد أمسية، حتى تمكنت الحداثة من جميع مداخلات وأمسيات وندوات الأندية ثم الجمعيات الخيرية أو الثقافية" .
هذا الكلام من عبد الله سلمان لا يحتاج إلى تعليق، لكن أضيف أنهم أيضاً امتدوا إلى بعض فروع جمعية الثقافة والفنون، كما حصل في مسرحية (التغريبية) في القصيم، وأيضاً إلى بعض الأندية الرياضية في لجانها الثقافية، كما في نادي الوحدة الرياضي بمكة الذي أقام أمسية لمحمد جبر الحربي، ومحمد زايد الألمعي، وفائز أبا, وعندما غاب ناب عنه أحد الحداثيين الآخرين .
ومن خلال استحواذهم على بعض النوادي الأدبية تمكنوا من نشر فكرهم من خلال مطبوعات النوادي، سواء أكانت كتباً أو مجلات، وكمثال على الكتب : كتاب سعيد السريحي (الكتابة خارج الأقواس) المطبوع في نادي جيزان، والذي نقلنا منه كثيراً في هذا الإصدار، وكمثال على المجلات : العدد الأول من مجلة (بيادر) التي أصدرها النادي الأدبي في أبها، والتي حشد فيها من كتَّاب الحداثة ما لم يحشد في غيرها على الإطلاق .
3- إفراد صفحات لكتابة القراء وخاصة الشباب ومن خلالها يتم اكتشاف أصحاب الميول الحداثية وتسلط عليهم الأضواء، وتدغدغ شهوة حب الظهور والشهرة في نفوسهم, وتقام الندوات والحلقات الدراسية لأدبهم، وبهذه الطريقة ظهر كثير من الأسماء الحداثية. ومن الأمثلة على ذلك (رسالة الغامدي) التي سبق الحديث عنها, وإشادة الزيد بها وبصاحبها. وفي اليمامة ملف شهري اسمه (أصوات) مخصص لهذه النوعية من الشباب، وفي كل عدد منه يقوم أحد الحداثيين بدراسة نقدية للعدد السابق، ومن هنا يتم التعرف على كتّابه ويتم تصنيفهم حداثياً . وكمثال على ذلك في اليمامة العدد 940 كان بداخله ملحق أصوات، وفي دراسة نقدية من الحداثي فائز أبّا للعدد السابق من أصوات، كان مما قال فيها : "أطالب بإعطاء هذا الملف المدى الذي نستشرفه له, وهو رعاية حركة الأدب الشابة وتخصيصه ليكون مساحة للركض الجميل لهذه الأصوات التي تملك وحدها أن ترينا مدى تجذر الحركة الإبداعية الجديدة في الأجيال التالية، والآفاق التي يتطلعون إلى اقتحامها" ، ثم بدأ في استعراض كتابات الشباب القراء فأسقط بعضها وأشاد بالآخر، وطلب من المبدعين كما يسميهم احتضان هذه التجارب .(34/281)
4- نشر الإرهاب الفكري ضد مخالفيهم واتهامهم بشتى التهم والنعوت، والتأكيد على أنهم لا يعقلون ولا يعلمون ، وأنهم مجرد دمى محنطة يجب أن تبعد من الطريق ولا تستحق أن يكون لها مكان في عالم الفكر والثقافة والأدب، في مقابل الإشادة بفكرهم بصورة مثيرة تجعل الفرد ينقاد لهم، ويقول هم أهل الساحة، ولا مناص من الدخول في ركابهم . يقول عبد الله سلمان : "أعترف أننا مارسنا سياسة قمعية غريبة جداً حيال أمور عديدة من واقع الإشراف والتحرير، متفق عليه في صحف هذا التوجه .
الأول : رفض معطيات كل الذين تلبسوا التراث، فنرفض مثلاً نشر قصيدة موزونة مقفاة، وكنا نسميها السلم التراثي، مما جعل هذا القرار الحداثي ينفذ على عبد المحسن حليت وعبد الرحمن العشماوي .
الثاني : رفض أي صوت يناهض الحداثة، فكانت سلة المهملات المكان الطبيعي لهذه المناهضة، أيّاً كان مصدرها أو كاتبها، حتى كنا بهذا نقول وبصوت متفاوت ، لنخرس الصوت القادم من بيت العنكبوت .
الثالث : إبراز معطيات الشباب جيدة أو رديئة، وتحتاج لصياغة أو إعادة الكتابة مرة أخرى - حتى الأسماء النسائية - ولتطبيق هذه الخطة تفننت الصحافة الحداثية في محاربة الآخرين, حتى اعتبروا كل من لم يكن حداثياً فليس له من نصيب في الثقافة، يقول الغذامي في عكاظ العدد 7412 "إمّا أن يكون المثقف حداثياً أو لا يكون مثقفاً" .
وهكذا ما دام أن الملاحق بأيديهم ويستطيعون أن يحجروا على فكر من يريدون الحجر عليه ويمنحوا شهادة الثقافة لمن يرون أنه يستحقها، فإن الشرط الوحيد للحصول عليها هو أن تكون حداثياً بغض النظر عن أي شيء آخر . يقول عبد الله الزيد في عدد 942 في اليمامة الصفحة 84 متهكماً بالذين يردون على الحداثة : "إذا أردنا أن نختصر المسافة وأن نقدم المحصلة المبهجة، فينبغي أن ندرك تماماً أن ما يحدث وما يكتب وما يقال عن مثل تلك الموضوعات ـ أقصد موضوعات التشكيك والتسطيح - ما هو إلا غوغائية لا تستحق أي نسبة من الاهتمام، ولا تستأهل أكثر من ابتسامة سخرية وشفقة ورثاء لمن يطرحون ذواتهم يومياً بين مزابل القضايا وعلب النقاشات الفارغة" .
والأمثلة على مثل هذه الكتابة الحداثية كثيرة جداً لمن أراد الرجوع إليها، وقد أشار لذلك عبدالرحمن الأنصاري في عدد 883 من اليمامة، وعدد 105 من المجلة العربية، بل إن الغذامي اعتبر غير الحداثيين عابثين لاهين لا قيمة لهم حين قال في عكاظ العدد 7531 في الصفحة 7 : "إن النص الحداثي إلى نقد حداثي لكي ينتج قراءة حداثية، ولقد وجد النص الحداثي منذ القدم، ولكن عدد القراء الحداثيين ظل محدوداً كحال كل الجادين في كل زمان ومكان" .
5- إقامة الندوات والأمسيات الشعرية والقصصية والنقدية والمسرحية في طول البلاد وعرضها، بنشاط وافر ودأب متصل حتى أصبحنا لا يمر أسبوع إلا ونقرأ الأخبار عن نشاط حداثي في إحدى المناطق، بل وصل نشاطهم إلى جزيرة فرسان في جنوب البحر الأحمر أكثر من مرة . يقول عبد الله سلمان : "لقد حدثني السريحي، قال : إنني في السنين الأخيرة أركض من جدة إلى جيزان إلى القصيم إلى الداخل إلى الخارج حتى أقدم قراءات نقدية لأدب الشباب" .
وهذا الحال ليس قاصراً على السريحي وحده، بل أغلب الحداثيين هكذا والحق يقال، نشاط منقطع النظير لنشر فكرهم ومبدئهم، وعندما يتصدى للرد عليهم بعض الناس في منتدياتهم من المتابعين لفكرهم، إما ألاّ يعطى فرصة للرد، أو يستخدم ضده القمع الفكري, أو في أحسن الحالات يحاور بعيداً عن القضايا الحساسة، وبإجابات دبلوماسية، وأنا لا أريد ضرب أمثلة في هذه الجزئية بالذات لأن الواقع هو أكبر شاهد لما أقول .
6- الدفع برموزهم للمشاركة في المهرجانات الدولية، مثل : مهرجان جرش بالأردن، والمربد بالعراق، وأصيلة بالمغرب، ومهرجان الشعر الخليجي في الكويت .. يقول عبد الله السلمان : "لكن الواقع كان يتجه إلى الأمام بعيد جداً فالذي يمثلنا على المستوى الخارجي في أصيلة وجرش والمربد لا بد أن يكون الأدب الجديد الذي يصوغ للعالم العربي, على الأقل مقولة تقول : إن لدينا حداثة، وبالفعل نجحت الصحافة في أن يكون الشباب هو أكثر نسبة في المشاركات الخارجية، مثل : محمد الثبيتي، ومحمد الحربي، وعبدالله الصيخان، إلى آخر الأسماء، وبهذا تمكنت الحركة الجديدة في استئصال الأسماء المسكونة بالتراث، أو معظمها، وأصبحت أكثر تفاعلاً مع الحركة الجديدة في الوطن العربي" .
وهذا الكلام الذي يقول عبدالله, الأمثلة عليه من الواقع كثيرة، ولكنني سأكتفي هنا بمثالين عن المهرجانات :(34/282)
الأول : مهرجان المربد الذي أقيم في العراق، مثل المملكة فيه بالإضافة للأمير عبدالله الفيصل، كل من : عبدالله الصيخان، ومحمد الثبيتي، ومحمد جبر الحربي، وخديجة العمري، وعبدالله الزيد، والجميع ـ عدا الأمير عبدالله الفيصل ـ من أهل الحداثة الذين لا يعرفون إلا أدونيس ومحمود درويش وعبد العزيز المقالح . ثم هل انتهى رجال الأدب عندنا حتى تقف خديجة العمري ناشرة لشعرها، تلقي الشعر أمام ألف شاعر وأديب من مختلف بقاع العالم، وهي التي افتخرت اليمامة بأنها المرأة الوحيدة التي ألقت الشعر في مهرجان جرش .
انظر ما كتبت اليمامة عن المربد في العدد 884 الصفحات 58، 59، 60، 97، وقد ذكرت المجلة في بداية الحديث أسماء المشاركين من المملكة، ثم أغفلت بعد ذلك اسم الأمير عبدالله الفيصل وركزت على شلة الحداثة، ونقلت إعجاب أصحابهم بشعرهم من مختلف البلدان العربية الذين يجمعهم نفس التوجه .
وكان مما قالته اليمامة أثناء حديثها عن إعجاب الشعراء بشلة الحداثة هذه أن قالت : "عبد الوهاب البياتي كان حريصاً عل الاجتماع والجلوس مع الشباب، حيث حدثهم عن انطباعاته وعن تجربته الشعرية وأبدى إعجابه بهذا التشكل السريع" .
أما المثال الثاني : فهو مهرجان الشعر الخليجي والذي أقيم في جامعة الكويت بدعوة من نادي أعضاء هيئة التدريس، ومرة أخرى لم يجدوا في السعودية من الأدباء والشعراء إلا نفس الشلة التي شاركت من قبل في مهرجان الشعراء العرب في بغداد، وفي مهرجان جرش، ثم في المربد، الحربي والصيخان وخديجة العمري وفوزية أبو خالد، ومع الأسف أن بنات الجزيرة يقمن سافرات متبرجات يلقين الشعر الذي ينضج بكل ما يناقض ديننا، في مهرجان انتقى له أهل اليسار من شعراء الخليج فقط، وشرفه النائب أحمد الربعي عضو مجلس الأمة الكويتي، والذي كتبت المجتمع المجلة الإسلامية الكويتية أكثر من مرة عن شيوعيته . انظر ما كتبته في العدد 772 تحت عنوان (الشيوعيون يجاهرون بعدائهم للإسلام) والمقصود هنا أحمد الربعي الذي أقيم مهرجان الشعر على شرفه، ونشرت جريدة الوطن اليسارية الكويتية في العدد 4041 صفحة 25 تحقيقاً عن المهرجان وفيه صورة فوزية أبو خالد، وخديجة العمري، وهن يلقين على الحفل، وصورة الصف الأول وقد جلس فيه بجوار أحمد الربعي خديجة العمري .
وقد شاركت مجلة الشرق السعودية في العدد 359 في التطبيل للأمسية الشعرية نفسها، ثم ختمت كلامها بقولها:
"هذا، وتعتبر مبادرة جامعة الكويت في تنظيم تلك الليلة الشعرية مبادرة رائعة حقاً، حيث تألق الشعر وتألقت الكلمة الصادقة، وتبقى الكرة في شباك جامعاتنا السبع التي ما زالت غائبة عن المجتمع والثقافة الحقيقية، فهل تحرك الكرات المتعددة التي ترقد في شباكها" .
نعم ما دامت جامعاتنا لا تفتح قاعاتها وتهيء منابرها لفوزية أبو خالد وخديجة العمري والصيخان والحربي من تلاميذ المقالح ومحمود درويش، فهي غائبة عن المجتمع وعن الثقافة في نظر مجلة الشرق وجميع أهل الحداثة .
وبعد الأمسية الشعرية تعقد ندوة في الكويت عن الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج، مثّل الوفد السعودي فيها فوزية أبو خالد التي اشتكت شكوى مريرة عن عدم وجود الحرية للحداثيين حتى يعبّروا عن أنفسهم كما تقول، وقد نقلت جريدة (اليوم) السعودية الندوة كاملة، في عددها 4762 في الصفحة 12 ومعها صورة فوزية أبو خالد حاسرة متبرجة ناشرة لشعرها على أكتافها، وكذلك تحدثت مجلة الشرق عن الندوة في الصفحة 32، 33 من العدد 362 ، وأشادت بها وقدمت ملخصاً عنها .
7- استكتاب رموزهم الفكرية من خارج البلاد، واستقدامهم للمشاركة في الأمسيات، وإلقاء المحاضرات وإجراء المقابلات معهم .
فقد أجريت المقابلات مثلاً مع عبد العزيز المقالح أكثر من مرة، وكذلك مع بلند الحيدري، ونشر شعر عبد الوهاب البياتي، واستكتب قاسم حداد من البحرين وأحمد الربعي من الكويت وغيرهم الكثير، مع تجاهل أهل الأدب الحقيقي المعبر عن آمال الأمة وآلامها . بل إن الناظر في الصحافة لدينا يظن أن الأمة فقدت ساحتها من أهل الإيمان، ولم يعد فيها إلا الحداثة وأهلها، رغم ان الحداثيين ـ والحمد الله ـ إذا أقاموا أمسية أو ندوة لا يحضرها إلا المنظمون لها، بعكس الأمسيات والمحاضرات الإسلامية التي إذا أقيمت في أي مكان تضيق الصالات عن استيعاب الحاضرين، وهذا من فضل الله أولاً وأخيراً، ودليل على أصالة أمتنا .(34/283)
وبالإضافة لذلك فهم يشغلون القارئ والمتابع بأخبار رموزهم الفكرية الملحدة وأخبار ندواتهم ومؤلفاتهم وحتى حياتهم الخاصة، وحتى لا أطيل على القارئ كثيراً لتوثيق الكلام السابق أحيله للنماذج والأمثلة التي تقدم الحديث عنها عند الحديث عن رموز الحداثة, وأكتفي هنا بمثالين لتتعرف على الاهتمامات الأدبية لدى صحفنا. ففي جريدة (اليوم) العدد 4762، اليوم الثقافي، في أول الصفحة صورتان للسياب وأمل دنقل، الأول شيوعي عراقي يقال إنه ترك شيوعيته في آخر حياته، والثاني يساري مصري عندما مات أفردت له الصفحات الكاملة في رثائه وتمجيده في صحفنا، وقد مر معنا سابقاً تمجيد اليمامة والشرق له، على اعتبار أنه من الرواد والعباقرة .
وحتى يعرف الرجل على حقيقته، إليك نموذجاً من شعره يرثي مدينة السويس حين ضربها الإسرائيليون، ويصف ذكرياته فيها فيقول :
( عرفت هذه المدينة
سكرت في حاناتها
وزرت أوكار البغاء واللصوص
جرحت في مشاحناتها
صاحبت موسيقارها العجوز في تواشيح الغناء
رهنت فيها خاتمي لقاء وجبة عشاء
وابتعت من هيلانة السجائر المهربة )
هذه أخلاق الرواد والعباقرة المتحررين من الأوراق الصفراء كما يقول الحربي .
وفي نفس الصفحة خبر وتلخيص عن عدد جديد من مجلة إبداع - وهي مجلة أدبية مصرية - تصب في نفس المجرى وتستمد من المنابع إياها، ثم خبر عن مؤتمر الكتاب السوفيات، ثم خبر عن مجلة الثقافة العالمية التي أول موضوعاتها مقالة عن موقف الشاعر الروسي آيستين من المجتمع والفن والثورة، ثم تتوالى التحقيقات والموضوعات على نفس الوتيرة، فنقل كامل لندوة الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج والتي سبق الحديث عنها، ثم حديث عن ديوان الشاعر الحداثي راشد العيسى، وأثناء الحديث إشادة تلاميذية ولهى بمحمود درويش وأدونيس . وهكذا تمضي الصفحة في هذا العدد فقط فكيف بباقي الأعداد ؟
وفي جريدة الرياض الصادرة في الأربعاء 14 شعبان 1406هـ ، كتبت عالية ممدوح في زاوية (حروف وأفكار) ولا أعلم أعالية ممدوح هذه سعودية أم لا ، لكني أعلم أن مقالها الذي يحث على الرذيلة ويجاهر بالمعصية ويعظم الملاحدة نشر في جريدة سعودية, والمقال كله يطفح بالمرض ولكنه صفحة كاملة في الجريدة ولذلك سأكتفي منه ببعض المقاطع .. تقول :
"أدونيس أيضاً يفترس الآخر وهو يلقي قصائده . لما سمعت شاعر الاتحاد السوفياتي يفتشنكو المدلل جدا وهو يلقي قصائده في موسكو، تذكرت أدونيس فوراً، ورغم أنني لم أفهم ماذا يقول لكن الطقسية التي كان يلقي بها الشاعر السوفياتي قصائده كانت تقلب طريقة إلقاء النصوص الشعرية رأسا على عقب، يفتشنكو كان يتحرك أمامنا بلا ورقة، يدور على الطاولة ويصير خارجها، لا كرسي وراءه لا مذياع أمامه، صوته وهو يطلقه وكأنه يتحدث مع شخص يراه أول مرة، لا ينظر إلى الأمام ولا إلى جنب، كان يلتفت إلى نفسه فقط، يهمهم يدمدم يعرق يرتطم أخيراً بوجوهنا . ينزل إلينا ويحول الآخر أمامه إلى مصباح يشتعل بالنفط ، يلهث وكأننا نراه وهو يصعد درابزين بيته ليرى غرفة السطح التي تحوي البعثرة والأسرار والألغام، وأدري أن في الاتحاد السوفياتي لا توجد سطوح للنوم ولا غرف زائدة، لكنه كان يحكم إغلاق كل الأبواب عليّ، لا أفهم لم أفهم لكنه ينهال عليّ رعباً ويلتقط رعبي ويعيده بكل اجتياح الكلمات، وأنها صفيقة الوجه دائماً، أمّا بشائر الفعل فقد كانت تزن نفسها كسخط شامل، لما سمعت قصائد أدونيس أولاً في بيته وهو يلقيها أخبرته عن شاعر السوفيات ذاك وأنفرط الحديث فهو صديقه يعرفه ويعجب به" .
وهكذا وبدون خجل ولا حياء ينشر في الصحف السعودية من فتاة عربية الإشادة بملاحدة الروس والعرب وخبر الاجتماع بهم في بيوتهم والحديث المستفيض عنهم .
8- لقد انتهج الحداثيون أسلوباً غاية في الخبث للتغرير بالشباب الواقع تحت ضغط الهجوم الضاري من أعداء الأمة في شتى الميادين، فامتصوا نقمة الشباب تلك حين قدحوا في أذهان الشباب أن أدبهم وفكرهم هو المنقذ من تلك المآسي، والآخذ بأيدي الشباب إلى بر الأمان، أمّا أصحاب الفكر التقليدي كما يسمونهم فإنهم ليسوا أكثر في نظرهم من رموز للتخلف وتكريس للواقع الذي يسعى الحداثيون لتغييره بكل ما يملكون من قوة .
يقول عبد الله الزيد في اليمامة العدد 953 الصفحة 63 ، مادحاً الكاتب الحداثي ماجد يوسف ومتنقصاً من شأن الآخرين : "الفنان ماجد يوسف سعدت بشكل متوال عندما عرفت أنه بيننا، وتكونت في داخلي رغبة حقيقية في معرفة تفصيلات خارطته الإبداعية، كنت في حاجة إلى أن أطلع على إبداعه وكتاباته وتفرده الذاتي، فمعرفتي أنه أحد الشباب المتوهج الجميل ذي النكهة الإبداعية الحادة في مصر، وأنه يقف إلى جانب أمجد ريان وحلمي سالم وبقية الرائعين في دائرة الخلق والإضافات الثقافية النوعية …..
إن جيلنا الطالع أستاذي جيل حي ذو حس وفكر ورؤية وروح نقدية ونقاء إبداعي وانتقاء ثقافي غير مسالم .. أمّا الدجالون ، والأدعياء والماديون والتافهون والساقطون فكريا وإفصاحاً فهولاء أقسم أنهم لا يخفون علينا وأننا ندركهم ونعرفهم" .(34/284)
وهكذا يمدح الزيد الحداثيين ويصفهم بكل محمدة ويذم غيرهم ويصفهم بكل منقصة .
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما كتب في اليمامة في العدد 896 صفحة 59 تحت عنوان (شاعرية الحديث) وكان مما فيه إشادة بالحداثيين في (اقرأ) قولهم : "تحقق الزميلة (اقرأ) في حياتها الثقافية قفزة نوعية وكمية يقف خلفهما جهد الزميلين عبد الله باهيثم وفائز أبّا، حيث يكتب أدونيس حول شعرية الحديث، ويفتح الأستاذ سعيد السريحي الحياة بوعي الثقافة ومسئوليتها" .
وفي جريدة عكاظ العدد 7594 الصفحة 8 يقول فائز أبّا مادحاً أحمد عبد المعطي حجازي ومرحباً به : "نحن هنا للاحتفاء بك شاعراً موقفاً, شاعراً خاض الطريق الصعب في أول بدايات السبيل التي لم تك سالكة موقفاً يتلألأ في ليل مصائبنا، نحييك رائداً وموقفاً سامقاً وسط الكآبات وتوالي تساقط الرموز في هذا الزمن … نحن لدينا حركة إبداعية جديدة يتجلى من رموزها محمد العلي، علي الدميني، محمد الثبيتي، د. أحمد الشويخات) .
وهكذا على هذا المنوال تنسج الصحافة الحداثية باستمرار فيكتب عبد الله الزيد مشيداً بالغذامي في عدد 940 من اليمامة الصفحة 54 وكان مما قال :
"أستاذنا المبدع الأثير المحبوب عبد الله محمد الغذامي .. تماماً كما عبدالعزيز المقالح في اليمن وعزالدين إسماعيل في مصر وماجد السامرائي في العراق وكما أدونيس في الوطن العربي كله أجدني أبتهج بك .. من المعروف أن تصفق الأكف لعادية التشكيل ولتعبير المسكونين بقردية الفعل وببغاوية الإفصاح .. تعودت المجاميع يا سيدي على السرعة الخفة وعلى الشائع والعادي والقصير والدميم والمنتهي وما يحمل عوامل موته معه .. وثق أيها المتفجر إبداعاً وعطاء بأن اللحظات التي يتفاعل معك فيها جمع غفير تشير إلى خلل ما في عطائك .. أمّا كهوف التردي أو الملاحق الميتة فإنها يا أيها السيد النبيل لا تثير شيئاً مثل ما تثير الشفقة والسخرية والتندر في زمن لا يعترف بها .. ولك الود والإكبار من قبل ومن بعد وإليك تنتمي أيها المبهج بكل جميل" .
أيها القارئ، إن كلام الزيد هذا يحمل في طياته مضامين خطيرة جداً، منها تصنيفه للغذامي ضمن تركيبة المقالح والسامرائي وعزالدين إسماعيل، والتسليم لأدونيس بالأستاذية للجميع في الوطن العربي كله، ثم أكد بعد المدح والتبجيل والإشادة بأنهم ينتمون إلى الغذامي، واتهم كل من عداهم بأنهم أهل كهوف التردي المتصفين بصفات القرود والببغاوات التي تقلد فقط ، وهو يقصد بذلك أهل الأصالة الملتزمين بعلم السلف طبعاً .
9 - المرحلية في الإعلان عن أفكارهم، فهم يبدأون بما لا يثير الناس عليهم، فمثلاً بدأوا فقالوا : إن أوزان الشعر العربي ليست وحياً منزلاً، بل هي من إبداع البشر ويجوز لنا أن نخالفها، ثم تجاوزوا ذلك وقالوا : إن النحو والأساليب العربية القديمة ليس لها قدسية تعاليم الدين حتى لا نغير فيها ولا نبدل, ثم خرجوا فقالوا : إننا أصحاب فكر جديد، والمرحلة القادمة هي الإعلان عن ملامح ذلك الفكر والله أعلم .
وهم يبتعدون عن الصدام مع المشهورين لكنهم يعزلونهم عن الساحة وقد يستغلونهم أحياناً .
ومن خططهم أن ينشروا أفكارهم بعيداً عن مسمياتهم الحقيقية حتى لا ينفر الناس منها، يقول عبد الله السلمان : "لقد سعينا إلى أن لا نثير الأسماء الكبيرة الفاعلة في الحركة حتى لا نخسر القضية وهي في بدايتها، الأمر الذي جعل من الأستاذ أحمد السباعي وعبدالله بن خميس وحمد الجاسر وطاهر زمخشري ومحمد بن علي السنوسي ومحمد حسين زيدان وعزيز ضياء ومحمد حسن فقي، إلى آخر هذه الأسماء التي حاولنا قدر الإمكان أن نأخذ صوتها قريباً منا، المهم ألاّ يتنافر الرأي من حولنا، إننا نطوقهم، إننا نحاصرهم حول القضية الجديدة في ذات الوقت الذي تسعى فيه هذه الحركة الأدبية الجديدة إلى إحالتهم للتقاعد, حتى في الرأي نعمم ولا نخصص ، لا نذكر الاسم أو نتناول العمل الذي يقدمه أحدهم، نأخذ من أحاديثهم ما يتفق مع القضية ونبرزه، أمّا ما يرفض الأدب الجديد فهو ممنوع من النشر" .
ولتأكيد هذه المرحلية لديهم في العمل والتي كشفها التائب الآيب إن شاء الله عبدالله سلمان، كتب الغذامي في عدد 7524 الصفحة 5 ، من عكاظ يقول : "في جلسة جانبية في صنعاء كان الدكتور محمد برادة يكلمني في هموم الفكر ومعضلته المعاصرة، وكان يطرح علي اقتراحا يراه يتناسب مع ظروف المرحلة، وهو أن يعمد الناقد الأدبي في عالمنا العربي إلى التعامل مباشرة مع النصوص الإبداعية، ويدخل إلى جمهرة القراء من خلال هذه العملية، من دون أن يطرح نظرياته أو مصطلحاته .. إذا المسألة باختصار هي مسألة فهم وتفكير، ونحن مواجهون بجيش لا يريد أن يفهم، وجيش آخر لا يريد أن يفكر، وليس لنا من طريق إليه سوى أن تقدم المعرفة الجديدة في ثوب قديم، أي خلو من النظرية والصطلح, هذا باب للقبول يجعل فكرة الدكتور برادة صالحة ولو مرحليا" .
وهذه المرحلة التي يتحدث عنها الغذامي ترد في حديثهم كثيراً ويطبقونها في واقعهم أيضاً ويتحدثون عن مقتضيات المرحلة وضرورة المرحلة وغير ذلك .
مما قيل في الحداثة(34/285)
لقد اكتفيت في المباحث السابقة عن الحداثة بكتابات الحداثيين أنفسهم وفي الداخل فقط لا أتجاوزهم إلا للضرورة عند الحديث عن شخص كان له دور في ما ينشر عندنا من فكر الحداثة، وكان استشهادي بكلام غيري ممن وقفوا في وجه الحداثة قليل جداً، لذلك رأيت أن أجمع هنا بعض تلك الأقوال بدون تعليق عليها، وسأحاول أن أختصر قدر الإمكان .
فمثلاً كتب محمد المفرجي في صحيفة المسائية العدد 1537 الصفحة 12، يقول : "يعتقد البعض واهماً أننا في جريدة الندوة وعبر ملحقها الأدبي نقف في وجه التحديث وضد التطور، ونعترض طريق التجديد في الأدب بألوانه نثراً وشعراً وقصة من خلال موقفنا من الحداثة فما أتيت معتذراً، ولا كتبت متخاذلاً، أو جئت لأقدم تنازلات ترضي الطرف الآخر، بل أتيت موضحاً وكاشفاً عن موقف نعتز به ومبدأ نلتزم به، ولو علمنا أن دونه خرط القتاد .
فهذه الحداثة حينما بدأ يدب دبيبها على بعض الصحف وبين السطور، وهي تواري كثيراً من ملامحها وتخفي جزءاً من تقاسيمها لئلا تظهر بغير وضاءة وتبدو بغير ملاحة، سعينا مبكرين وقبل كثيرين وأخذنا نتأملها ونمعن النظر ونتفحصها حتى أدركنا خلفياتها وأشبعناها بحثاً ودراسة لئلا نوصم بالتسرع في مجابهتها والتصدي لها، فعرفنا الشيء الكثير عن أبعادها وما تخبيء بين سطورها من أيديولوجيات وهدم لموروثنا وعزل لماضينا عن حاضرنا، فلو علمنا أنها حداثة صادقة في توجهاتها سامية في أهدافها لكنا على رأس المستقبلين وفي مقدمة المحتفين بها، وكان لها الصدر دون المدارس الأدبية الأخرى، لكننا وجدنا القبر لها أجدر، فشققنا لها نفقاً وحفرنا لها خندقاً وأقمنا عليها نصباً وكتبنا عليه مقبرة الحداثة، وأضفنا عبارة (للتذكير هنا يدفن كل فكر دخيل) " .
وكتب صالح العوض في الجزيرة العدد 5184 الصفحة 11 بعنوان (أمية الحداثة) فكان مما قال : "ونجدهم الآن تصدروا وسائل الإعلام المقروءة في أغلبية أنحاء العالم العربي واتخذوها منبراً صارخاً ينفثون منها جهالاتهم وضلالاتهم، ويهتفون لكل من يطرق الباب عليهم ويفتحون صفحاتهم العمياء ليسودوا بالتطبيل له ولأمثاله ما تبقى من بياض في اتجاهاته، وليقوموا بإزالة العوالق التراثية الأصيلة وليفتحوا له صفحة جديدة في عالم الأدب في حياتهم الضالة، ولكن هيهات أن تدوم هذه الأمية فكفاحها قائم على أشده ، ولن يصح في النهاية إلاّ الصحيح" .
وفي مقابلة أجرتها المسائية مع الشاعر شاكر شكوري في العدد 1491 الصفحة 9 سئل عن رأيه في أدب الحداثة فكان مما أجاب به : "قضية الصراع الدائر الآن بين الأصالة والحداثة لا يجب أن ينظر إليها بمنظار متساهل، بل يجب أن يتصدى لها الجميع، النقاد المبدعون، أهل الرأي، بل وكل حريص على عقيدته وجلدته ولغته … مدّعو الحداثة في زمننا غفاة يتحلون بالكوابيس، وأقول غفاة حتى أعفيهم من مسئولية اليقظة، وأقول هذا لأنهم لا يقولون حقيقة واحدة مجردة ناهيك عن قشابة الثوب، وأقول كوابيس لأن نتاجهم لا مدلول له ولا طائل من ورائه، والعاقل إن ألمت به يخجل بالقطع أن يذيعها ، وخطرهم لا ينتهي عند إفساد الذوق العام، ومن الإخلال المسرف في استعمال ادوات التعبير واختلاس مساحاته، بل إن استمراء الساحة لهذه الألوان من الطرح طريق نهايته العدم للأسف ليس للاعبين بالنار فحسب، بل للمجتمعات الفاغرة الفاه إليهم فتحت باب الحداثة يهاجم التراث رمزاً، وتحت باب الحداثة تنتهك حرمة الأصالة، بل وحرمة العقل الإنساني ذاته" .
وفي المجلة العربية العدد 115 الصفحة 71 ، نشرت مقابلة مع الكاتب عبد الله الجفري، وعندما سئل عن الحداثة كان مما أجاب به أن قال : "لقد جاء التعبير من قبل كوماندوز دخلوا إلى الساحة العربية برشاشات كلامية وأطلقوا النار بعنف وبحقد وفي كل اتجاه ليصيبوا التراث والكلاسيكية وكل ما هو قديم أو تقليدي حسب تعبيرهم .. الثورة على كل قديم وتراثي أو تقليدي، ومحاولة نسف القواعد .. كما قلت لك، فالجميع ليس ضد التجديد ولكننا ضد الانسلاخ ، ولسنا ضد الإبداع ولكننا ضد التهويم والقشور، وضد التجني على التراث وعلى الدين، ولعلها المشكلة الأخرى والأهم هذه التي لا يظهرها الحداثيون علناً ، ولكن يروجون لها بالرمز وبطرح غير مباشر للنيل من القاعدة الدينية الراسخة … إذن فإن هذا المصطلح أكثر من دعوة مبطنة إلى تخريب اللغة والعبث بالتراث والاعتداء على الدين والقيم باسم التحديث والتجديد ".
وفي ملحق الندوة الأدبي الصادر في 21/8/1407 هـ الصفحة 7 تعليق للمفرجي على عودة عبدالله سلمان وتوبته من ضلالة الحداثة وعنوان هذا التعليق (اعترافات العائد من مرحلة الشك) كان مما جاء فيه قوله : "إن الحداثة مولود غير طبيعي وإنه ولد مشوهاً، وإنها موجة فاسدة امتطاها البعض لسهولة ركوب هذه الموجة بلا ضوابط ولا روابط وتحلل من القيم والمبادئ واتجاه خطير وأيديولوجيات يرفضها كل غيور على دينه وأمته" .(34/286)
وفي الندوة العدد 8484 الصفحة 7 كتب بكر إبراهيم بعنوان (مواجهة مع الحداثة) فكان مما قال : "وأخذت الحداثة تنمو وتتوسع على أيدي الكثيرين من الشعراء العراقيين والشاميين والمصريين، فظهر لويس عوض ويوسف الخال وخليل حاوي وكمال أبو ديب وصلاح عبد الصبور والبياتي وأدونيس، كما ظهر أيضاً محمود درويش وسميح القاسم إلى آخر القائمة المعروفة، وعندما يدقق الناظر في منطلقات هؤلاء الشعراء الفكرية من خلال إنتاجهم وتاريخهم وما كتب عنهم يجد أنهم يتراوحون بين العلمانية والوجودية واليسارية والنصرانية، ويجمع الكل قاسم مشترك لا يحيد عنه أحدهم ذلك هو الرفض للواقع القائم والرفض للتراث الفكري الإسلام والتراث الأدبي : اللغة والوزن والقافية وأساليب التصوير والأخيلة" .
وفي الندوة أيضاً العدد 8472 الصفحة 6 كتبت الكاتبة الفاضلة سهيلة زين العابدين كتابة رائعة نقتطف منها قولها : "إن من أهم ما ينبغي أن يدركه الدكتور الغذامي وتلامذته الحداثيون أن الشكل العام للقصيدة الحداثية ليس هو جوهر اعتراضنا على الحداثة، إذ ينصب اعتراضنا عليها لاعتناقها المذاهب المادية الملحدة ومحاولاتها للعودة بالفكر العربي إلى الجاهلية الوثنية وإشاعة الشعوبية والدعوات الصوفية المنحرفة لتخلخل العقيدة الإسلامية" .
وعندما سئل الأديب عبدالله بن خميس عن الحداثة في الندوة العدد 8491 الصفحة 6 قال : "الحديث عن الحداثة ذو شجون، والحداثة كما يسميها أهلها ليست من الأدب عموماً والشعر خصوصاً في قبيل ولا دبير، بل هي بدعة أتى بها المبتدعون ليزجوا بها في ساحة الأدب ومحيطه ويبلبلوا الأفكار بها" .
وفي مقابلة مع الأمير عبدالله الفيصل في ملحق الأربعاء الأسبوعي قال :
"إن نشاطي سينصب على الوجهة الأدبية، وفي هذا الصدد سوف أركز على ثلاثة نقاط رئيسية هي :
أولاً : المجال الشعري، وهنا سأحاول مكافحة ما يسمى بالشعر الحديث أو الحر الذي أعتبره سرطانا ينخر اللغة العربية والأدب العربي" .
وفي مقابلة معه في مجلة اليمامة العدد 851 كان من إجاباته عندما سئل عن أدب الشباب كما يسمونه أن قال : "ما هي الحركة التجديدية السخف الذي نسمعه .. أقول لك الذي أعتقده ، أنا لا أقره ولا أومن به كشعر، هذه هلوسة مجانين، هذه مثل رقصة الهيلاهوب ليس لها جذور ولا يمكن أن يكون لها جذور" .
وفي عدد الندوة 8424 الصفحة 7 قالت سهيلة زين العابدين : "الحداثة من أخطر قضايا الشعر العربي المعاصر لأنها أعلنت الثورة والتمرد على كل ما هو ديني وإسلامي وأخلاقي فهي ثورة على الدين، على التاريخ، على الماضي، على التراث, على اللغة، على الأخلاق، واتخذت من الثورة على الشكل التقليدي للقصيدة الشعرية العربية بروازاً تبروز به هذه الصورة الثورية الملحدة" .
وفي الندوة العدد 7574 الصفحة 3 كتب عيسى خليل بعنوان (أيها الحداثيون تعقلوا) فكان مما قال : "إنني لا أتردد في إبداء الإعجاب والتقدير لثقافة الغذامي، ولكن هذا لا يمنع من القول أنه ربما ضل الطريق وهو مدعو إلى تلمس السبيل القويم الذي ينفع قومه ووطنه عبر حداثة حقيقية من صفاتها الإبداع والابتكار، ولكن في إطار المفهوم والمعقول، مع دعوة كل من يلوذون بطرفه ويأتمون بتنظيراته إلى العقلانية وإعطاء الريادة حقها مما يفيد الناس ويدعوهم للقراءة الجادة بدلاً من الطلاسم، فهل هم فاعلون ؟
إنهم مدعوون إلى طرح ما ذهبوا إليه لعدة أسباب :
أولها : أن ركوب موجة الحداثة وصولاً إلى أغراض أخرى أمر مكشوف ومرفوض، والشجاعة أن تؤتى البيوت من أبوابها، هكذا فعل كل القادرين الذي يتحملون المسئولية ونحتوا في الصخر حتى فرضوا أنفسهم ولم يركبوا بضاعة عفنة مستوردة عافها أهلها" .
وقال الدكتور يوسف عزالدين في مقدمة (التجديد في الشعر الحديث) : "آليت نفسي الابتعاد عن النقد، ولكن الوباء الأدبي الذي يسميه صديقنا الدكتور راشد المبارك التلوث الفكري الذي ران على حياة الأدب العربي غلبني على نفسي، فرأيت الوقوف أمام هذا التلوث" .(34/287)
ويقول حجاب بن يحي الحازمي في كتابه : (أبجديات في النقد والأدب) مبيناً خطورة الحداثيين وكاشفاً كثيراً من أساليبهم : "يقولون في تبرير هذه الجريرة التي ترتكب في حق العربية وتراثها الكثير من الكلام، ويؤلفون لتحقيق غاياتهم الكتب يملأونها من تلك الشناشن والترهات، كما يملأون أعمدة الصحف والمجلات التي تستغرب كيف وصل غالبيتهم إلى كراسيها من أثمان المثقفين وهم يتحدثون عنه في مناسبة وفي غير مناسبة. فإذا فتحت مجلة أو صحيفة فلن تجد إلا ذلك الغثيان … إنه ليس نثراً ولا شعرا … ربما اقترب من سجع الكهان وعب في معينهم وارتوى من أفكار الغربيين ومذاهبهم، يعيش في متاهاتهم، كيف لا وهو يتسنم معارج أستاذهم الكبير توماس إليوت ويستنشق عبير مستنقعات وردزورث … فكفى عقوقاً للغة القرآن وكفى هراء وكفى تمادياً والله حسبنا ونعم الوكيل … ولكن أما لهذا الليل من آخر، التجديد يا سادة لا يتم بواسطة الصراخ بصوت مرتفع ، ولا يكون بالتعمية والألغاز، ولا بواسطة النواح الصاخب، ولا يكون بطمس فن النثر الأدبي باسم الحداثة … برغم الضجيج الذي ملأوا به أجواز الفضاء، وبرغم الهالات التي صنعوها لبعضهم، وبرغم الإكبار والانبهار الذي رسموه لأساتذتهم أمثال أدونيس أو يوسف الخال أو أمل دنقل أو صلاح عبد الصبور … أو …. ولعل أسباب تخبطهم في فهم وظيفة الأدب ترجع إلى بعدهم عن مصادر الثقافة الحقيقية المستمدة من تراثنا الإسلامي والعربي الخالد، وارتوائهم من ثقافات تحارب كل ما هو صدق وحق وتدعو إلى الشك والحيرة في كل شيء، وتقف منا سلوكاً وفكراً على طرفي نقيض، ومن منا لا تتكرر على سمعه وفكره في ثنايا كتبهم أسماء ديكارت وبودلير وهيجل وإدجار آلان بو الذي (استشهد) من كثرة إسرافه في شرب الخمر فمات كما يموت العير منبوذاً على الرصيف، وسواهم من أصحاب الفكر الهدام ومن أصحاب المدارس الأدبية في أوربا وسواها من بقية بلدان الكفر السائرة على دروب الهدم لكل القيم .. والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يقف في طريقهم أو يفند بعض أباطيلهم، إنه المتخلف الذي لم يدرك روح العصر ولم يتجاوز مرحلته، إنه التقليدي ........ "
وقال أنور الجندي ، كما نقل عنه الحازمي في كتابه السابق في صفحة 32 : "ونحن نرى اليوم أن معظم ما يكتب تحت اسم أدب وشعر وقصة وهو شيء مليء بالغثاثة والتفاهة والقذارة حقاً، ونرى معها تلك الأسماء اللامعة التي ما زال يسوقها الاستشراق شرقاً وغرقاً" .
وكتب الدكتور عمر الطيب الساسي يرد على عبد الفتاح أبو مدين عندما طالب بمحاكمة المليباري بسبب تكفيره لبعض الحداثيين وكان ذلك في الندوة العدد 8578 ، وكان مما قال في رده : "عبدالفتاح أبو مدين يدافع عن تيار الحداثة، ويطالب بمحاكمة من يدافع عن القيم الرفيعة المتوارثة، وبعنفوان، إنه خبر عجيب لم أصدقه لولا تأكدي من مصادره وأمانتها التامة، وهو عجيب لأنني عرفت الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين كاتباً صحفياً شجاعا، وأديباً عربيا مسلما، يحرص على الدفاع عن العقيدة الصحيحة، ويرفع عنها عبث العابثين, وذلك منذ عهد الصبا واليفاع ، فما الذي غير من مواقف الرجل ؟ هل هو لا يقرأ ولا يعرف حقيقة الحداثة كتيار مشبوه, وليس كدعوة إلى التحديث في شكل الشعر أو النثر ؟ فذلك أهون ما في الأمر . ثم كيف سيطر هذا الاتجاه على النادي الأدبي برئاسة أبي مدين ؟ فإذا كان أبو مدين رئيس النادي الأدبي بجدة لم يعرف حتى الآن شيئا عن تيار الحداثة ورموزها المشبوهين وعلى رأسهم أدونيس المرتد … ويا للأسف على هذا التخاذل، وليعد الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين إلى عدد عكاظ الأسبوعي عدد 7594 فسوف يقرأ أبو مدين على صفحة 5 عموداً كتبه عضو بارز من الأعضاء الذين اختارهم ورشحهم أبو مدين شخصياً لمجلس إدارة النادي الأدبي برئاسته وهو يدعو الأدباء علانية بقوله : "أيها الأدباء كونوا غامضين" .
وليتذكر أبو مدين أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم : { خلق الإنسان علمه البيان } , وفي سورة البقرة يقول الله الحق عز وجل { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } .
وليعد أبو مدين إلى العدد 7605 ، من جريدة عكاظ في يوم الجمعة، وليقرأ أبو مدين ما كتبه ذلك الحداثي الذي اختاره في مجلس إدارة النادي برئاسته، فقد كتب في عمود (5) صفحة 15 يدعو حملة الأقلام الشبان إلى التنكر لماضيهم بشطب كل الأسماء الغابرة في أدب أمتهم، فقد كتب قائلاً بالنص : "أيتها الأقلام اغمسي سنانك في الأوردة، واشطبي كل الوجوه الغابرة" .
وإن أراد أبو مدين أن يعرف المزيد فليقرأ في العدد الأسبوعي من جريدة عكاظ عدد 7601 عمود (1) صفحة 7 ، كيف استخدم كويتب حداثي غر جاهل أساليب رواية الحديث النبوي الشريف ليتهكم وهو يقول : "حدثنا محبط عن محبط عن جاهل" .
وكيف أخذ هذا الصبي المغرور يسخر من أدباء كبار بالتلميح البذيء، لأنهم رفضوا هذا التيار .(34/288)
وبعد، فإن كان قصد أبي مدين هو الإصلاح فقد حاولت أنا قبله، ولكن هذا التيار جرف من جرف، وليس أمامنا سوى التصدي دفاعاً عن عقيدتنا ومقدساتنا، حماية لعقول ناشئتنا من الشبان والفتيات من تلوث هذا التيار الذي لا يقل خطراً عن المخدرات، إن لم يكن أشد خطراً منها، وليتذكر أبومدين أن الحق أحق أن يتبع، وأن الرزق بيد الله الرزاق فلا داعي لمجاملة بعض أعضاء مجلس إدارة النادي الذي يتولى رئاسته، فلا مجاملة على حساب المبادئ العليا والعقيدة الخالصة وشرف الوطن" .
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام(34/289)
(34/290)
الحداثة ... 2(34/291)
(34/292)
أدونيس.. واصطناع الحداثة! ... 9(34/293)
(34/294)
نذير العظمة ... المرجعية الحداثية ... 12(34/295)
(34/296)
التقدّم لاستيعاب التحوّلات الجذريّة القائمة ... 14(34/297)
(34/298)
الصلابة الداخلية ... 20(34/299)
(34/300)
الثقافة الوافدة ومعرض الكتاب بالرياض ... 23(34/301)
(34/302)
الوهم الممتدُّ ..والشعارات المتساقطة! ... 29(34/303)
(34/304)
الانفتاح الثقافي: ابن تيمية نموذجًا. . ... 43(34/305)
(34/306)
فشل آمال الغرب في دمج مسلميهم ... 47(34/307)
(34/308)
أزمة الهدر الفقهي ... 48(34/309)
(34/310)
شعر عصابة المجّان ... 56
حداثة أم غثاثة؟! ... 56(34/311)
(34/312)
الخبرة التركية في العمل الإسلامي ... 58(34/313)
(34/314)
"الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية ... 61(34/315)
(34/316)
الاجتهاد والتجديد .. هل من مزيد؟! ... 70(34/317)
(34/318)
أجواء الحروب الصليبيّة ... 73(34/319)
(34/320)
الكاتب المغلوث ... 76(34/321)
(34/322)
متزمتون في قلب الحداثة ... 83(34/323)
(34/324)
مصداقيّة المثقّف ... 89(34/325)
(34/326)
الحداثة تحرك المياه المصرية التركية ... 93(34/327)
(34/328)
من سرق النور ؟! ... 98(34/329)
(34/330)
منطلقات شرعية في نصرة خير البرية ... 100(34/331)
(34/332)
هل توجد حداثة إسلامية؟!* ... 110(34/333)
(34/334)
أدعياء التنوير والعيش في الظلام ... 117(34/335)
(34/336)
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا ... 121(34/337)
(34/338)
روعة التّهافت؟! ... 124(34/339)
(34/340)
محاولة في المنهجية الإسلامية ... 126(34/341)
(34/342)
قراءة في كتاب الغذامي الجديد : ( حكاية الحداثة في المملكة ) ... 152(34/343)
(34/344)
قصّة الفلسفة ... 158(34/345)
(34/346)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2 ... 160(34/347)
(34/348)
الغزو الفكري وآثاره 2 / 2 ... 168(34/349)
(34/350)
انعكاسات لأِزمة الفهم ... 171(34/351)
(34/352)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي! ... 175(34/353)
(34/354)
إدارة الثقافة ... 186(34/355)
(34/356)
الحرية الغربية.. الجذور والمنطلقات ... 190(34/357)
(34/358)
محمد عبده وعودة لمشروع الإصلاح الديني ... 198(34/359)
(34/360)
المسيري.. ونقد التفسيرات الحرفية للقرآن ... 201(34/361)
(34/362)
عن "الدين والتراث والحداثة" ... 208(34/363)
(34/364)
الحركة النسويّة الغربيّة ومحاولات العولمة (1/2) ... 210(34/365)
(34/366)
السلفية في طريق النهضة.. مشكل أم حل؟ ... 224(34/367)
(34/368)
مالك بن نبي.. وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة ... 234(34/369)
(34/370)
"محمد بن عبد الوهاب" والعودة إلى جوهر التوحيد ... 245(34/371)
(34/372)
بعث وتجديد السلفية فلسفيا ... 249(34/373)
(34/374)
التجديد ... 257(34/375)
(34/376)
فلسفة "الجابري" بين الثقافي والسياسي ... 260(34/377)
(34/378)
النقيضان ... 268(34/379)
(34/380)
اعترافات محمد أركون ! ... 270(34/381)
(34/382)
الزندقة ... 273(34/383)
(34/384)
سياقات الحداثة المشروطة بالنهضة ... 276(34/385)
(34/386)
الإسلاميون والحداثة ... 282(34/387)
(34/388)
هل ستسير باكستان إلى الحداثة أو العلمانية ... 285(34/389)
(34/390)
الردة مفهومها وأسبابها في العقيدة والشريعة ... 291(34/391)
(34/392)
: …يجيدون الكذب ... 300(34/393)
(34/394)
الشعر والشعراء في الميزان الشرعي ... 302(34/395)
(34/396)
الإبداع الأدبي ... 320(34/397)
(34/398)
الإسلام .... ... 321
وميزة القيم في زمن العولمة ... 321(34/399)
(34/400)
الدعوة إلى العامية ... 328(34/401)
(34/402)
السلفية المفهوم والتحديات ... 334(34/403)
(34/404)
تزايد النزعة الدينية لدى البشر ... 347(34/405)
(34/406)
الرمزية ... 356(34/407)
(34/408)
الحداثة .... معول الهدم ... 360(34/409)
(34/410)
عَرف قصّابي (1) ... 361(34/411)
(34/412)
لقاء مجلة اليمامة السعودية ... 382(34/413)
(34/414)
فُضُوح نزار قباني ... 389(34/415)
(34/416)
اعترافات .. محمد عابد الجابري ..! ... 395(34/417)
(34/418)
فُضُوح بدر شاكر السياب ... 398(34/419)
(34/420)
مؤلفٌ جديدٌ أنصحك بشرائهِ ... ادخل وتعرَّف عليه ... 402(34/421)
(34/422)
كتاب في جريدة ... 408(34/423)
(34/424)
الحركة النسوية الغربية ومحاولات العولمة ... 410(34/425)
(34/426)
اعتراف آخر ... لمحمد أركون ! ... 425(34/427)
(34/428)
أدونيس وقشة الغريق ... ... 429(34/429)
(34/430)
اللغة العربية التحديات والمواجهة ... 431(34/431)
(34/432)
رسالة المسلم في حقبة العولمة ... 464(34/433)
(34/434)
الراعي والشعر ... 512(34/435)
(34/436)
أمة تذوب إنهزاما ..؟ ... 517(34/437)
(34/438)
أي حرية رأي؟ ... 520(34/439)
(34/440)
قراءة في “الثقافة العربية في عصر العولمة” ... 523(34/441)
(34/442)
في مرآة الشعر الإسلامي المعاصر ... 538(34/443)
(34/444)
إفحام النصارى ... 575(34/445)
(34/446)
كفريات ( محمد أركون ) !! - تعليقًا على عادل الطريفي - ... 599(34/447)
(34/448)
محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا ... 613(34/449)
(34/450)
نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي ... 617(34/451)
(34/452)
باحثٌ مسلم .. يرصد الدعم الغربي للصوفية ... 636(34/453)
(34/454)
الصارم المسلول على الزنادقة شاتمي الرسول صلى الله عليه وسلم .. 655(34/455)
(34/456)
الاستهزاء بالدين وأهله ... 667(34/457)
(34/458)
الإسلامية في الأدب ... 706(34/459)
(34/460)
أسلمة المعرفة ... 719(34/461)
(34/462)
نقد الفكر الاعتزاليّ " الليبرالي" السعودي ) ... 787(34/463)
(34/464)
كاتب " خمس نجوم " ! ... 849(34/465)
(34/466)
إلى أين تتجه الشخصية المسلمة ... 852(34/467)
(34/468)
حتى لا يتحول الحوار عن المسار!! ... 854(34/469)
(34/470)
أوَ يُهزم دينُ المليارِ ؟! ... 861(34/471)
(34/472)
مخيمات أم مهرجانات ... 862(34/473)
(34/474)
من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب ... 863(34/475)
(34/476)
جئتم متأخرين ! ... 888(34/477)
(34/478)
مع ( الشيوعي ) ( الليبرالي ) ( الإصلاحي ) ! ... 891
الدميني .. في كتابه الأخير ... 891(34/479)
(34/480)
اعترافات ( الشيخ جاسم مهلهل الياسين ) ... 897
بأن الحكم الملكي خير من الجمهوري ... 897(34/481)
(34/482)
أسماء القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها (من غير النجديين) ! وفوائد أخرى ... 901(34/483)
(34/484)
لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ... 923(34/485)
(34/486)
مملكة الروح ... 926(34/487)
(34/488)
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة ... 929(34/489)
(34/490)
لو أن العقلاء من تكلموا ؟! ... 933(34/491)
(34/492)
السريالية ... 938(34/493)
(34/494)
لماذا تُمنعُ كُتبُ القصيبي والحمد وغيرهما ؟! ... ... 942
سِرٌ بل أسْرارٌ تكشف ... 942(34/495)
(34/496)
إدارة الثقافة ... 948(34/497)
(34/498)
الرومانسية ... 951(34/499)
(34/500)
مقالات في الصحوة ... 956(35/1)
(35/2)
{ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } ... 964(35/3)
(35/4)
( 47 ) طريقة لمواجهة دعاة التحرر ... 968(35/5)
(35/6)
الغرب من الداخل ... 975(35/7)
(35/8)
بدايات السفور في العالم الإسلامي ( 7 ) : .. ... 1055
المرأة التونسية ... 1055(35/9)
(35/10)
جوانيات الرموز المستعارة لكبار " أولاد حارتنا " ... 1060(35/11)
(35/12)
الفتنة الدانمركية.. رب ضارة نافعة! ... 1066(35/13)
(35/14)
( اليونسكو ) .. ودورها المشبوه ..! - حقائق - ... 1078(35/15)
(35/16)
أمواج الردة وصخرة الإيمان ... 1086(35/17)
(35/18)
العدوان الثنائي.....وسلاح المصطلحات ... 1095(35/19)
(35/20)
تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة ... 1104
المقدمة ... 1104
نقد كتاب (الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ) ... 1107(35/21)
(35/22)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي! ... 1268(35/23)
(35/24)
38 ـ أوقفوا ثورة الجنس الفضائية ! ... 1279(35/25)
(35/26)
قتل المرتد إذا لم يتب ... 1301(35/27)
(35/28)
30 وقفة في فن الدعوة ... 1338(35/29)
(35/30)
الحداثة في ميزان الإسلام ... 1363(35/31)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (12) العصرانية
الباب الثاني عشر
العصرانية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاني عشر
العصرانية(36/1)
(36/2)
اعترافات دكتور " عصراني " بأهمية ( الولاء والبراء ) ..!
سليمان بن صالح الخراشي
يُعد الدكتور طه جابر العلواني - هداه الله - أحد المنظرين لعصرنة الإسلام في هذا الزمان ؛ من خلال معهده المسمى " المعهد العالمي للفكر الإسلامي " الذي تبنى منذ نشأته ( 1401هـ ) التأصيل والترويج لأطروحات أهل العصرنة ؛ كما لايخفى على المتابع .
ومن المعلوم أن من أهم القضايا التي حاول العصريون تمييعها أو تحريفها أو حتى إلغاءها ؛ قضية " الولاء والبراء " التي أصّلها الإسلام في نفوس أبنائه عبر آيات وأحاديث صريحة ؛ لحكمة إبعادهم عن الذوبان أو الامتزاج الضار بأهل الكفر والضلال ؛ مما يؤثر على دينهم وأخلاقهم وعزتهم ، وهذا ما لم يفهمه أهل العصرنة .
وقد أجاد كلٌ من : الشيخ محماس الجلعود في رسالته " الموالاة والمعاداة " ، والدكتور محمد سعيد القحطاني في رسالته " الولاء والبراء " ، والشيخ ناصر العقل في كتابه " الاتجاهات العقلانية الحديثة " ، والشيخ محمد حامد الناصر في كتابه " العصرانيون " ، وغيرهم من علماء ودعاة الإسلام في الرد على أهل العصرنة في قضية الولاء والبراء ، وفي غيرها من القضايا التي حاولوا التلبيس فيها .
ومما يُفرح المؤمن أن يجد لأحد هؤلاء العصريين اعترافًا بخطأ مسلك أصحابه في محاولتهم هدم هذا الأصل الذي حمى الله به الأمة من مخاطر عديدة ، وأهمية المحافظة عليه ، وتغذية نفوس المسلمين به ؛ لكي لاتقع في شِراك الأعداء .
يقول الدكتور طه في مقدمته لكتاب " النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار " بلغة تُذكرنا بلغة أئمة الدعوة السلفية ! الذين ربما سخر منهم أصحاب طه ؛ فلعل في هذا الاعتراف ماينبئ كل جاهل أو حاقد بقدرهم وأنهم لم تخدعهم ألاعيب الأعداء كما خدعت غيرهم :
( أما "الحاجز النفسي" فإن الإسلام قد حققه بعدة أمور منها:
- الإحساس بالاستعلاء والشعور بالعزة بـ( ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) وفي الحديث : "..الإسلام يعلو ولا يعلى".
- الإحساس بكراهية الكفر وأهله، وازدراء ما هم عليه والاستهانة به : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) ( إن شر الدوآب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون . ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) . وإذا خيف من تأثر البعض بمظاهر علم لديهم أو تقدم حسي عندهم فذلك لأنهم
( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) .
- المنع من محبة الكافرين : ومن تلك الأمور التي تحقق "الحاجز النفسي" بين المسلمين وأعدائهم: منع المسلمين من موادة الكافرين أو توليهم.
قال تعالى: ( لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .
- النهي عن موالاة الكافرين : ومنها النهي عن موالاتهم ؛ قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يُخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) .
إلى أن يقول :
( وإن أول الوهن الذي أصيب به المسلمون هو وقوعهم في أزمة التردد في هذا الأمر، هذا التردد الذي جرهم بدوره إلى الخلط بين التسامح الذي أمروا به مع أهل ذمتهم الذين هم تحت سلطانهم، والذين هم في فقر إلى رعايتهم، والوفاء بالعهود لمن عاهدوا منهم، وبين التساهل مع أعداء الله وأعدائهم من المحاربين لله ولرسوله فكثيراً ما وضعوا التساهل والتهاون موضع الحزم والصلابة، وهل أضاعهم اليوم غير هذا ؟
إن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى العمل على إعادة بناء هذا "الحاجز النفسي" بينهم وبين أعدائهم ليبقوا على ما قد يكون بقي لهم من عرى الإسلام، ويَرِمُّوا ما قد رث منها وبلي ؛ فإن الكفار ما استطاعوا النيل من هذه الأمة إلا بعد أن تمكنوا من هدم "الحاجز النفسي" بينهم وبين المسلمين بوسائل متعددة، وخطط مختلفة، وجهود متصلة بدأت منذ أن انتصر الإسلام وقامت دولته، ويئس الكفار من تدميرها، أو النيل منها ) .
إلى أن يقول بعد أن بين الضعف الذي حلّ بالدولة العثمانية في نهاية عهدها بسبب إضعاف أصل الولاء والبراء واستبداله بشعارات مضللة ؛ كالتسامح والحوار مع الآخر .. الخ ! :(36/3)
( لقد كان المقصود بشعار "التسامح" هدم حاجز الحذر من الاتصال بالأجنبي، والتحفظ منه، تمهيداً للانفتاح عليه، والتعاون معه، ولم تكن تهمة التعصب تنتفي عن مسلم، وما كان أحد -من المسلمين- ينال شرف الاتصاف "بالتسامح" إلا إذا تهاون في أمور دينه، وفترت علاقته بإخوانه المسلمين، وقويت مع أعداء الله، وارتضى الانضمام إلى تلك الجمعيات العميلة، والأحزاب الدخيلة، أو تعاون معها، أو سهل للقائمين عليها -من الدخلاء- مهماتهم، أو سكت عن جرائمهم، وأهدافهم الخبيثة، وإلا فهو رجعي متعصب، وسلفي متزمت، ولم يسلم من الاتصاف "بالتزمت" و"الرجعية والانغلاق" مسلم يعتبر التعاون مع الأجنبي ضد مصلحة الأمة الإسلامية "خيانة عظمى" لله ولرسوله وللمؤمنين يستحق فاعلها الخزي والعار في الدنيا، والعذاب والنار في الآخرة، فنشأ نتيجة لذلك شعور بالرهبة والخوف لدى الكثيرين من التصدي لهذه المؤامرات والمحاولات التخريبية، وبذلك انفتحت الأبواب أمام إنشاء الجمعيات العميلة المخربة وتأسيسها ) .
إلى أن يقول بعد أن تحدث عن نشوء الجمعيات القومية التي هدمت هذا الأصل :
( إن سقوط "الحاجز النفسي" بين المسلمين وأعداء الإسلام هو الذي حول فلسطين من أرض إسلامية، وقبلة أولى للمسلمين إلى وطن قومي لليهود ، وجعل من جبال لبنان الأشم "وطنا قومياً" للنصارى ، وجعل عاصمتي الخلافتين الأموية والعباسية أهم قاعدتين للنفوذ النصراني في المنطقة، منهما ينتشر الفكر الإلحادي، والكفر البواح بكل أشكاله ، وبجهود حكامهما يكسب الكفر ما يريد.
إن سقوط الحاجز النفسي بين المسلمين وأعدائهم هو الذي سهل على مجموعة من أولئك الذين تربوا في مواخير المخابرات الأمريكية والفرنسية والبريطانية تسلم زمام قيادة الشباب العربي المسلم لفترة جيلين متصلين، ولا يزال تلامذة هؤلاء في مراكز القيادة في أقطار عربية وإسلامية عديدة ) .
ثم يُلمح إلى " المملكة العربية السعودية " ويوجه لها نصيحة ثمينة :
( إن هناك أقاليم مسلمة عافاها الله تعالى في ماضيها من كثير من الأمراض التي ابتليت بها جاراتها - ونسأله تعالى أن يعافيها فيما يستقبل من الأيام - ولكنها ابتليت أخيراً بمن يعملون ليل نهار على إسقاط "الحاجز النفسي الإسلامي" ذلك الحاجز الذي حماها في الماضي من أن تسقط في براثن الكافر المستعمر، وأمام تلك المحاولات الكثيرة التي خطط لها أعداؤها، شرع المخدوعون والمضللون من أبنائها في تنفيذها قد خطت خطوات واسعة في سبيل إسقاط "الحاجز النفسي الإسلامي" بينها وبين أعدائها : فهناك آلاف المبتعثين الذين يعودون بعقول وقلوب غير التي ذهبوا بها. وهناك آلاف الخبراء والمستشارين وزوجاتهم، وكذلك العمال وغيرهم من الذين لابد أن يتركوا بصمات واضحة في أخلاق أبناء المجتمع وسلوكهم، وسائر شئونهم . وهناك السياحة إلى بلاد الكفار وغيرها، وما تحدثه من تعاطف مع الكفار، وميل إليهم وإعجاب بما لديهم وتخلق بأخلاقهم، وهناك التجارة المشتركة وآثارها والإسراف باستيراد اليد العاملة، وما لذلك من نتائج سلبية، في مقدمتها دفع الحواجز النفسية بين المسلمين وأعدائهم، وتهيئة عقولهم وقلوبهم للانفعال والتأثر بما عليه الآخرون، ومن فتح قلبه وعقله لقوم فتحت أرضه لا محالة لهم، فلعل هؤلاء ينتهون قبل فوات الأوان ويعيدون النظر في هذه السياسات ويرممون بناء الحاجز النفسي الإسلامي في قلوب أبنائهم لحماية ما قد يكون بقي لهم من مقومات الشخصية الإسلامية ) . انتهى ( ص 58،55،47،19،9 ) .
تعليق
قلتُ : صدق العلواني ، واعترف بالحق ؛ الذي ما فتئ العلماء الربانيون يدعون له ، ويُحذرون من التساهل فيه . فهل يتعظ " البعض " ممن بهرتهم الأفكار العصرية ، فأخذوا على عاتقهم هدم هذا الأصل في مقالاتهم وكلماتهم ؛ فيعتبروا باعترافه بحقيقة هذه الأفكار التي هي مجرد " هدم " للإسلام بأيدي من ينتسب إليه ؛ ممن قال الله عن أشباههم ( يُخربون بيوتهم بأيديهم ) ؟! أرجو ذلك . وأسأله تعالى أن يوفق الدكتور طه ومن سار مسيره إلى الرجوع للحق ، والاجتهاد فيما ينفع الأمة ، ويُحقق لها عزها . وأن يجنبنا وإياهم مسالك الزيغ والضلال ، والله الهادي
============(36/4)
(36/5)
سألني سائل عن الدكتور عبدالله الحامد ...!
سليمان بن صالح الخراشي
كنت قد كتبتُ مقالاً ضمن سلسلة "ثقافة التلبيس" بعنوان "مصطلح الإصلاح" بينت فيه أن هذا الوصف أطلق في القرآن على صنفين من الناس:
1- على المصلحين الحقيقيين من أتباع الأنبياء -عليهم السلام-.
2- وعلى مدعي الإصلاح من المنحرفين عن الكتاب والسنة، الذين يُغلفون إفسادهم وباطلهم بهذا الوصف الجميل بغية تضليل الناس وحرفهم إلى مضمونه الفاسد.
وللأسف فإن بعض المخادعين لا زالوا يُطلقون هذا الوصف الجميل على النوع الثاني ، كذباً وزوراً.
وقد رأينا جميعًا في قضية "الدميني والفالح والحامد" كيف صورهم البعض بتلك الصورة الإصلاحية الجميلة، ولكن من علم أفكارهم وأهدافهم علم أنهم خلاف ذلك .
ويتضاعف الأسف عندما ينساق بعض الطيبين - من الأشخاص أو المواقع! - خلف هؤلاء مروجين لهم ولقضيتهم ومصورينهم بصورة المظلوم، نكاية بالدولة . وقد بين أخي طالوت المعافري -وفقه الله- في مقال له بُعد هؤلاء عن الإصلاح الشرعي المأمول؛ وأنهم ما بين حداثي ، و قومي ، و عصراني .
وفي ظني أن الذي جمع الثلاثة وألف بين قلوبهم ! أمران:
1- معارضة الدولة السعودية -وفقها الله للخير-.
2- الافتتان بما يسمى "المجتمع المدني" الذي جعلوا منه "المدينة الفاضلة" التي يحلمون بها ويعيشون رغم اختلافهم متعاونين في سبيل إقامتها! (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى).
وقد اختاروا - للأسف - ظرفًا عصيبًا تمر به الدولة ليقيموا تجمعاتهم وينادوا بأفكارهم .. غافلين عن العدو المتربص الذي يطرب لمثل هذه الأصوات متخذًا منها ذريعة للتدخل في شؤون المسلمين الداخلية وفرض مايراه من " إصلاح " ! عليها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأولهم هو أحد المشرفين على مجلة الحداثيين في هذه البلاد : " النص الجديد " التي خصصت عددًا كاملا للحديث عن " مجتمعهم المدني " المراد تحقيقه بدلا من المجتمع الإسلامي الذي قامت عليه هذه البلاد .
وثانيهم له كتاب بعنوان " المجتمع المدني والديمقراطية .." نشر مركز دراسات الوحدة ، الذي لازال يعيش أوهام القومية العربية البائدة .
وثالثهم تحول من الاهتمام بالأدب والكتابة فيه إلى الترويج لهذا المجتمع المدني الذي فُتن به بعد أزمة الكويت ، وجعله همه الأكبر .
وقد سبق لي أن بينتُ حقيقة هذا المجتمع ، وأنه عبارة عن مجتمع علماني دنيوي - باعتراف دعاته - لا تحكمه شريعة الله -عز وجل- ؛ مهما حاول المرقعون أن يُجروا له من عمليات تجميل تغير من شكله القبيح ، مجتمع يعيش فيه الموحدون والزنادقة والكفار جنبًا إلى جنب دون فوارق بينهم ، همهم أن يأكلوا ويشربوا ويتمتعوا ؛ ليعمروا دنياهم -زعموا- بخراب دينهم ، ومناقضة أحكامه .
ومثل هذا المجتمع - ولو بلغ ما بلغ - ( وما هو ببالغ ! ) لا عبرة له في دين الله ، فكم أهلك الله قبله من مجتمعات عمرت دنياها بتدمير توحيدها وعبوديتها لله وتمايزها عن أعدائه ؛ قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}، وقال سبحانه : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .. وغيرها من الآيات التي تبين للمؤمنين أن العمران والإنتاج الدنيوي دون إقامة لدين الله وشرعه بلا تحريف أوتلبيس أومداهنة .. ستكون عاقبته الهلاك وعدم الفلاح ؛ وسيشابه أصحابه الكافرين الذين قال الله عنهم : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} .
انظر الرابط التالي : http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/m/38.htm
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومشكلة هؤلاء الثلاثة وأمثالهم أنهم أرادوا أن يفروا من ظلم الدولة -كما يزعمون- (سواء في توزيع الثروات أو الاستبداد بالقرارات ..) ولو كان الفرار إلى مجتمع كفري "وهمي" يحكمه دستور البشر، يظنون أنهم من خلاله سيحققون العدالة المنشودة.
فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا .
ومشكلة هؤلاء أيضاً أنهم في دعوتهم لمثل هذا المجتمع المدني الكفري يستعملون الألفاظ الموهمة المحتملة لكل تفسير! التي لا تدل على مشروع عملي واضح.
فلو قلت لهم: لنفترض أن الشعب انساق وراء أفكاركم وآمن بها، فأخبرونا: ما الذي تريدون الوصول إليه؟
لقالوا لك: نريد أن نحقق المجتمع المدني العادل ،والمشاركة الشعبية، وضمان حقوق الإنسان و...الخ
شعارات وراء شعارات دون أي نتيجة عملية ملموسة.
حسناً: كل هذه مجرد شعارات ولا تعدو كونها وسائل ، ولكن: بماذا ستحكمون؟! وكيف ستحكمون؟! وما هي الحقوق التي ستحققونها للإنسان ؟! و و(36/6)
الجواب: لا جواب! وفي ظني أنهم سيختلفون لاختلاف مرجعية كل واحد منهم عن الآخر. فالأمر مجرد تأجيل للخلافات والصراعات إلى حين الخلاص من الدولة السعودية!
فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد يقول قائل : ولكن الدكتور الحامد من" الإسلاميين " ! ولانعلم عنه إلاخيرًا ، وقضيته الكبرى : أن ترتقي الأمة في المجال الدنيوي الذي فاقها فيه الأعداء ، وأن تواجه الظلم والاستبداد ... فلماذا التحامل عليه وحشره مع من سبق ؟!
فأقول :
أولا : أنا لم أحشره معهم ، بل هو من حشر نفسه ! و " المرء مع من أحب " .
ثانيًا : وصف " الإسلاميين " لم يعد وصف تزكية ؛ لأنه أصبح يُطلق على المبتدعة والمنحرفين والمخلطين ممن يخالفون حقيقة الإسلام ؛ فلا بد حينئذ من عرض أفكار كل إسلامي يتصدر الأمة على نصوص الكتاب والسنة حتى لا نُخدع .
ثالثًا : أنه لا يلزم من كونه من الإسلاميين أو حسَن النية والقصد أن نغض الطرف عن انحرافاته وتجاوزاته التي قد تجر على بلادنا وشبابنا ما تجر من مصائب وفتن نحن في غنىً عنها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما عن فكره ؛ فقد كان الرجل من المتخصصين في الأدب العرب بأطواره ، وتخرج في جامعة الإمام ، وألف في ذلك مؤلفات ، من أفضلها رسالته عن شعراء الدعوة الإسلامية .. ثم بعد أن حدثت أزمة الكويت استهوته قضية الإصلاح ، فأصبح من المطالبين به مع من طالب ذاك الحين ، ثم تطور فكره إلى الافتتان بالمجتمع المدني وألف في ذلك كتيبات - كما سيأتي - وحث الأمة على التقدم الدنيوي ، والاهتمام بـ" عالم الشهادة " كما تهتم بـ" عالم الغيب " - كما يقول - .
أما فكرة " المجتمع المدني " فقد تم بحثها - كما سبق - وبيان ما فيها من مخالفات .
انظر الرابط التالي : http://saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/m/16.htm
وأما حث الأمة على التقدم الدنيوي فحيّ هلا به لو لم يشوهه بالمعاني الباطلة ، والتحامل على أهل السنة ؛ بسبب ضعفه في العلم الشرعي ، ومجالسته لأهل البدع من أمثال حسن المالكي وغيره .
وتوضيح ذلك يكون بتسليط الضوء - في نقاط - على أقواله التي عبر بها عن مشروعه هذا ، والتي فاه بها في مقابلته مع الجزيرة أو خطها بنانه في آخر كتبه " البحث عن عيني الزرقاء " :
1- قال في المقابلة : (هناك شيء قد يفوت كثيراً من الناس وهو أن صياغة الفكر الإسلامي إنما تمت في العصر العباسي، وهذه الصياغة نظر إليها على أنها هي الإسلام) ! وردد مثل هذا كثيرًا في المقابلة وفي كتيبه المذكور . وأحيانًا يدعي أنهم ركنوا إلى العهد المماليكي إضافة إلى العباسي !! يقول في كتابه ( ص 15) : ( فالتيارات المحافظة الساكنة فكراً وسلوكاً، ماتت دماغياً أو هي تحتضر، مهما كانت أسماؤها لأنها ركنت إلى تقليد الفكر العباسي والمماليكي) !! ( ومثلها في ص 83،54،30،28).
ولم يوضح كيف صاغ السلفيون فكرهم وعقيدتهم من العصر العباسي والمملوكي ! ( وهما عصر الإمام أحمد وشيخ الإسلام !). إنما هو يردد دون وعي .
ولا أدري كيف يكون ذلك ؟ وهم إنما يقوم دينهم على اتّباع الكتاب والسنة بفهم السلف ، وبهذا عرفوا وتميزوا عن غيرهم ، واعترف لهم به أعداؤهم .
قد يقول : ولكنهم يُكثرون من النقل عن الإمام أحمد وابن تيمية . فأقول : فكان ماذا ؟!
إذا نصر الإمام أو شيخ الإسلام أو غيرهما مذهب الكتاب والسنة فماالذي يمنع من الاحتجاج أو الاستشهاد بأقوالهم ؟! وهو يعلم قبل غيره أن أتباع الكتاب والسنة يردون قولهما وغيرهما لو خالف الحق . وكم في هذا من أمثلة .
فإلقاء الكلام على عواهنه دون فهم أو عقل لمجرد التشبث بشيئ لرمي الخصوم وتشويه دعوتهم أمام الآخرين يدل على رقة في الديانة وفقدان للأمانة .
فالحامد أو غيره يلزمه أحد أمرين في هذا المقام :
الأول : أن يقول : قال الإمام أحمد كذا أو قال ابن تيمية كذا ،وقد تبعهما السلفيون على هذا ونسبوه للسلف ، وهو أمر مخالف للكتاب والسنة ، ثم يبين ذلك . أو :
الثاني : أن يقول : الحقيقة أنني استشكلت أمورًا وردت في العقيدة السلفية لها أدلتها ، أظن أنها لاتناسب هذا العصر ؛ ولهذا فأنا لا أملك التصريح بهذا ؛ ولكني وغيري سنتخلص من هذا الأمر بادعاء أنه مُقحم على العقيدة من بقايا العصر العباسي أو المملوكي !!
قد يقال : ولكن بعض القضايا التي طُرحت في عهد أحمد أو ابن تيمية قد كان لها ظرفها المناسب لتضخيمها آنذاك ، وقد تغيرت الظروف اليوم ؛ كقضية " خلق القرآن " وتفريعاتها مثلا .
فأقول : هذا لايعني أن ندعي إقحامها على عقيدة السلف بحجة أنها ضُخمت وأشغلت الأمة ولم نعد نحتاج لها ؛ بل هي من صلب عقيدة المسلم لثبوتها بالنصوص . أما تضخيمها والانشغال بها من عدمه فهذا يخضع لظروف العصر . أي أن المبتدعة لولم يخوضوا فيها ويشغلوا الأمة بها بل يمتحنوهم عليها ! لما أعاد السلف فيها وكرروا ، بل اكتفوا بالتنبيه المجمل لها . وقل مثل ذلك في مسائل أخرى اضطر السلف إلى تفصيل القول فيها اضطرارًا .(36/7)
فاللوم في الحقيقة يقع على أهل البدع الذين أشغلوا أهل الأمة عن نشر الإسلام بين الناس ، والسعي في منافسة الآخرين في مجال الدنيا .
قلت : ولظهور ارتباط الدعوة السلفية بالنصوص الشرعية ، مما يريد الحامد نفيه ! فقد استشكل مقدم اللقاء - وهو من هو - قول الحامد ؛ ورد عليه قائلا : (كيف تتهمهم بأنهم لا يعتمدون على الكتاب والسنة، وجوهر منهجهم قائم على اتباع الكتاب والسنة؟ ) . فتخبط في الجواب ! حيث ادعى أنهم نعم يعودون للكتاب والسنة !! ولكنهم لا يُقدمون حلولا منهما !!
مرة يرى أنهم يعودون للعصر العباسي أو المملوكي ، ومرة يعودون للنصوص !
ثم سأله المقدم سؤالا محرجًا ينقض عليه زعمه جمود السلفيين أتباع الكتاب والسنة قائلا : (طيب كيف تفسر إذن هذا الانتشار؟ إذا كان هذا الفكر بهذه التقليدية بهذا البعد عن الإبداع، بهذا البعد عن روح العصر، كيف تفسر انتشاره علماً بأننا نعيش على الأقل في الخمسين سنة الماضية فترة حيوية جداً مليئة بالتغيرات، مليئة بالتحديات، كيف ينتشر فكر جامد بهذه الطريقة محافظ كما أسميته ونحن نعيش هذه الفترة المليئة بالتغيرات؟ ) .
فماذا كان جوابه ؟
استمع إلى التشويش واللف والدوران ! يقول : ( سبب الانتشار أن الزمن الذي أوجد تراكماً ثقافياً في الأمة صار من الصعب على المفكرين والمثقفين إصلاح الفكر الديني، لأن الناس في هذا المضمار نوعان، إما مثقف ديني لا يكاد يعرف من الأمور الحديثة شيئاً مذكوراً، وإما مثقف غير ديني يعرف الأمور الحديثة لكن لا يعرف كيف يؤسس مثلاً حقوق الناس على الدين، كيف يؤسس مثلاً فكرة المجتمع المدني على الدين، فبالتالي تظل الفجوة حتى توجد ومن أسبابه، أيضاً أن خطاب النهضة الذي صاغه المفكرون الأوائل كمحمد عبده والأفغاني، لم يكد يتجاوز تقديم النهضة أو تقديم الإسلام، قدمه كخطاب، لم يتوسعوا في بناء النظريات، خذ مثلاً نظرية الحرية، نظرية حقوق الإنسان، نظرية.. نظريات المجتمع المدني، لم يكتب فيها الإسلاميون شيئاً كثيراً، لو كتب الإسلاميون في المجتمع المدني وحقوق الإنسان مثلما كتبوا في السواك أو في الوتر أو تقليم الأظافر، لاستطعنا أن نجد تأسسياً دينياً لنهضتنا، فبالتالي عبر الزمن حصل حصر للدين، ممكن أن تسميه رهبنة أو دروشة، هذا هو الذي يبدو ) .
قلت : السؤال كان واضحًا وصريحًا ، ولكن الدكتور - كحال إخوانه التنويريين - يُحسن الحيدة والمراوغة !
ومادام أنه يعد المنحرفَين ( الأفغاني وعبده ) من رجال النهضة ، فعلى فكره العفاء !
أي نهضة حصلتها الأمة من هذين ، وهذه نتائج دعوتهما المتميعة أمامك حاضرة في بلدهما بعد أكثر من نصف قرن من رحيلهما ؟ إن العقلاء لا يرون سوى الضعف الديني والتخلف الدنيوي ، وسقوط البلاد بيد المستعمر الأجنبي ثم العلماني .. فلماذا تريد تكرار التجربة المرة ؟!
ثم ختم الحامد حلقته بقوله : (الشيء اللي أطالب فيه أنا هو الرجوع إلى منهج السلف الصالح، لا إلى متون السلف الصالح، يعني إلى كتب الحديث، إلى القرآن الكريم ) !! وهذه لا تحتاج لتعليق ! لأنها تنقض كل مابناه ؛ ولأنها مطلب أهل السنة . ولكن المهم التطبيق لا مجرد الدعاوى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- من شدة افتتان الدكتور وهوسه بالمجتمع المدني فقد وصل إلى مرحلة جعلته يرى أن كل سوء يحدث في هذا العالم هو بسبب تضييع هذا المجتمع ! وكل فضيلة يفوز بها الناس تعود إلى تعظيمهم وحرصهم على تحقيق هذا المجتمع .
( انظر : ص 67،29،24،21من كتابه ) ، وقد أعلن عن تأليفه لكتابين في هذا المجتمع " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " ، " نظرية المجتمع المدني في الإسلام ! " .
ومن طريف ما وقع فيه ( ص 71 ) أنه عزى سقوط الأندلس إلى تفريط أهلها بالمجتمع المدني !! دون تفريطهم في دين الله وأوامره ، وتفرقهم وتنازعهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- يحمل الحامد على الأمة حملة عنيفة ؛ لاهتمامها - كما يدعي - بعالم الغيب وتحقيرها لعالم الشهادة " الدنيا " ، وأن ثقافتها وأدبياتها تدعم هذا الأمر ؛ مما أدى بنا إلى التأخر عن ركب الحضارة .
ولو اكتفى الرجل بنقد القيم السلبية التي أحدثتها الصوفية بين الناس في كثير من المجتمعات الإسلامية من خلال نشر الخرافة والجهل والقذارة، والخلط بين التوكل والتواكل، والتهوين من شأن الأسباب الدنيوية .(36/8)
أو أنه حث الأمة وحكامها على الاهتمام بالتقدم الدنيوي والمسارعة فيه بنقل التقنية من عدة مصادر ، وتشجيع العلماء والباحثين والنابغين ، وتسهيل أمور البحث والاختراع ، والحرص على التخلص من السيطرة الغربية ، واستغلال الثروات فيما ينفع الأمة ، وتوحيد صفوف دولها في رابطة متكاملة ...الخ الأفكار النافعة ؛ لوفعل هذا لكنا أول المؤازرين والمعاضدين له ، ولكنه - هداه الله - لفرط حماسه لمجتمعه المدني ولتضخم أمر الدنيا في عقله لجأ للتهويل ، وتجرأ بالنقد أو التحريف لبعض المعاني الواردة في الكتاب والسنة! وشكك أو كذب بعض الأحاديث الصحيحة ؛ لأنه لم يفهمها حق فهمها أو رأى أنها تعارض ما هو مفتون به ، وتطاول على العلماء ، وهون من شأن الاهتمام بالكتاب والسنة . وخذ هذه الشواهد من كتابه :
يقول : (نحن بين أمرين: إما أن نقدم الإسلام مشروعاً تنويرياً تجديدياً، كي نبقى. أو أن نُلقى في آخر قاطرة من قطار الحضارة، ولن ينفعنا آنذاك أن يُنقش القرآن في صدرونا أو في مصاحفنا، لأن دوره لن يتجاوز دور أي نقش في متحف الآثار ) .
ويقول : ( التعليم الديني الشائع، يكرّس القطيعة المعرفية، بين التقدم الروحي والتقدم المدني، وهذه القطيعة المعرفية الثقافية، تفرز قطيعة تربوية اجتماعية، أي أن ثقافة القطيعة بين الدنيا والآخرة، تفضي إلى ترسيخ قيم القطيعة، بين الروحي المدني، ولابد من إعادة ربط الحبل المقطوع، بين العبادتين، العبادة الروحية والعبادة المدنية ) .
فهل صحيحٌ أن تعليمنا الديني يفعل ذلك ؟! أم أنه يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا كما يعرف هذا كل دارس ، حتى أصبحنا نخشى أن تتقلص الأولى على حساب الثانية ! ، أم أن الدكتور يردد مايردده الآخرون لكي يظهروا بصورة " المصلحين " " المنقذين " الذين يُعيدون الحق إلى نصابه ؟! كما فعل أخويه من قبل ؛ صاحبا بحث المناهج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- من أخطر أقوال الدكتور في كتابه : قوله : (ومن ما ينتج عن الروح الحوارية المتسامحة، أن يدرك الإسلاميون، أنهم يقدمون وجهات نظر، قابلة للأخذ والرد، ولا يلزم من دعواهم صدق زعمهم، فقد يقدمون تقاليد المكان مطلية بدهان الإيمان، وقد يقدمون أعراف القبيلة البدوية، في عباءة السنة المهدية، وقد يقدمون المفاهيم التراثية الكديرة، على أنها وحي الشريعة الصافية، وقد يقدمون أحد مذاهب أهل القبلة، على أنه المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا الهالكون ) !!!
نعوذ بالله من الشك والريب في دين الله ؟! فالحق - في نظر الدكتور - قد يكون مع اليهود أو النصارى أو البوذيين ، أو غيرهم من أهل الكفر والضلال ؛ فلا يحق لأهل الإسلام أن يجزموا بصحة دينهم وأنه الحق الذي لا يقبل الله غيره ، إنما هو " وجهة نظر " من وجهات أخرى !!
هذا ما يُفهمه كلامه الخطير هذا . فهل يعي الدكتور خطورة ما يقول ؟! ومعلومٌ حكم من شك في كفر الكفار عند العلماء .
كما أن الحق عنده داخل نطاق الإسلام قد يكون في مذهب الرافضة أو الصوفية أو الباطنية أو غيرها من الفرق المنحرفة عن السنة !
ظلمات بعضها فوق بعض .
وحيرة ما بعدها حيرة .
وسقوط في شراك أهل " الحقيقة النسبية " وشكوكهم .
فعقل الدكتور مشوش جدا ؛ مما جعله يخلط بين المسائل الاجتهادية داخل نطاق أهل السنة ؛ وبين الخلاف بينهم وغيرهم من المبتدعة ، بل بين أهل الإسلام والكفار ! فلم يعد يُفرق بين الحق والباطل . وهذه إحدى نتائج العكوف على كتب من يُسمون المفكرين وأهل " التنوير " المزعوم ممن اتخذوا دينهم الحق هزوًا ، وفرطوا فيه وفي أحكامه مقدمين أهواءهم عليه . فمابال الدكتور وهو خريج جامعة شرعية يتابعهم في ضلالهم الذي يدركه صبيان أهل التوحيد ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5- يدعو الدكتور في كتابه إلى : ( دين بمعنى الجنسية الحضارية العامة للجميع، أي أنه يحتضن التعددية، في إطار المواطنة، وإن كان ديناً خاصاً بالمسلمين) !
فهو - هداه الله - يتابع شيوخ العصرنة في تقديمهم " المواطنة وحقوقها " على دين الله وأحكامه الفارقة بين المسلمين والكافرين ؛ فيساوي بين الطائفتين اللتين أمر الله بالتفريق بينهما في أحكام كثيرة يرونها تتعارض مع " وطنيتهم " المزعومة .
6- لتضخم أمر الدنيا والمجتمع المدني في ذهن الدكتور فقد أتى بفهم غريب عجيب لمبدأ الولاء والبراء في الإسلام ؛ حيث قسمه ثلاثة أقسام ! فصلها بقوله :
( إن لمفهوم الموالاة صوراً عديدة:
1- الموالاة النموذجية : هي موالاة من صلح دنيا وأخرى ؛ أي في نيته وعمله معاً، أي في شطر الإسلام الروحي والمدني معاً.(36/9)
2- وهناك موالاة (ناقصة) عملية في الدين، (تراعي الناحية العملية)، حين يوالي المسلم الأشخاص لا لصلاحهم الذاتي ولا الروحي، بل بسبب عملهم المدني الصالح للمجتمع، فهي موالاة دينية للصواب المدني، مبنية على إدراك أن الولاء للإسلام يوجب الولاء للنفع العام، فالولاء للصالحات المدنية يوجب الولاء للصالحين مدنياً في عمارة الأرض، فهو ولاء للعبادة المدنية، فالقدرة على تمثيل مبادئ الدين الإدارية والاجتماعية، أساس الموالاة المدنية في الدين.
فهذا الناجح هو أحد أفراد الأمة الإسلامية بالمفهوم الحضاري، سواء أكان فاسقاً أم كتابياً.
هذه عمادها المصلحة العامة المدنية للمسلمين، فهي موالاة أصحاب العمل المدني الصالح.
3- ثم هناك ثالثاً الموالاة الدينية الروحية الأخروية، وعمادها الأخوة الإسلامية، فهي موالاة أصحاب العمل الروحي والأخلاقي الصالح، ولكنها عندما يكون النجاح المدني هو الهدف، لا تقدم عليه، لأن الولاء للأشخاص، يتأخر عن رتبة الولاء للجماعة ) !!!!
فالكافر الناجح في أمور دنياه ينبغي أن " يوالى " من المؤمنين ، وتقدم موالاته على موالاة المؤمن غير المنتج " دنيويًا " !!
تقسيم غريب عجيب مخترع قاده إليه تعظيم أمر الدنيا على حساب الدين ؛ مما جعله يهدم ركنًا من أركان العقيدة رأى أنه يصادم قوله المخترع .
ماكان أسهلها على الدكتور لو صان نفسه عن التورط في هذا الباطل وقال : الموالاة لاتكون إلا لأهل الإيمان كما أوجب الله ، ولكن لا مانع أن نستفيد من الكافر في أمور " الدنيا " . كما يقوله علماء الإسلام إلى اليوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- وكما حرف الدكتور مبدأ الولاء والبراء ، واخترع له مفهومًا جديدًا من عنده فقد تجرأ ثانية - جرأة تُذكرنا بصاحبه خالص جلبي ! - باختراع معنى جديد لمصطلح " السلف الصالح " يتماشى مع غلوه في الحياة الدنيا .
يقول الدكتور :
( إذا عرفنا أن الصلاح المدني في العقيدة الإسلامية، هو الشطر الثاني، وهو مهر النجاح الدنيوي، عرفنا من هم السلف الصالح، من خلال العودة بمفهوم الصلاح إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة والتطبيق النبوي ثم الراشدي، فأدركنا أن هناك "سلفاً صالحاً" من أهل الشطر الروحي في مجال الصلوات والتنسك والورع الفردي، ورواية الأحاديث والتفسير والمغازي والأخبار.
وأن هناك "سلفاً صالحاً" من أهل الشطر المدني، حاولوا التجديد والكلام على تأصيل العلوم والثقافة، بعد استيعاب الثقافات الأجنبية، وحاولوا توصيف العقيدة وأصول الفقه والتاريخ واللغة والأدب عليها، فَجُلَّ المنهجية العلمية بعد الشافعي، من إنجاز أهل الكلام الذين تمتلئ ثقافتنا الدينية بثلبهم وغمرهم.
وأدركنا أن هناك "سلفاً صالحاً في مجال العمران"، أدرك كيف تبنى المصانع والمزارع والجوامع معاً، وكيف تكون الإدارة والسياسة والحضارة.
وأدركنا ما هو أبعد من ذلك وهو أن هناك أيضاً "سلفاً صالحاً" في إنجازه المدني التطبيقي، قد لا يكون ملتزماً في جانب صحة العقيدة الغيبية أو الشعائر الخاصة، بل قد لا يكون قرأ شيئاً من كتب سلفنا الصالح الروحية، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون فاجراً، بل قد يكون كافراً، ولكن الحكمة المؤمن، لـ"أن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاسق" أو "الكافر" فلنا صلاح عمله المدني الاجتماعي والتقني، وعليه فساد خلقه الشخصي وعقيدته الروحية..الخ ) .
ثم يؤكد هذا الغلو بقوله : ( بمراعاة الصلاح المدني، ندرك أن "أديسون" الذي اخترع المصباح الكهربائي، له فضل على كل من استنارت عيناه بضوء شمعة في أي مكان، وأن عمله أجدى للأمة من المسلم الذي اخترع نعشاً تقنياً، لتقليب الأموات أثناء التغسيل.. ) الخ سخريته !
فعند الدكتور : أي إنسان بارع في أمر الدنيا - مهما كان دينه ومذهبه - هو في المحل الأرفع ، وهو الذي يستحق " الموالاة " ويستحق أن يكون من " السلف الصالح " ... حتى أخشى لفرط حماس الدكتور الدنيوي أن يجعله من المسلمين الموحدين الذين يدخلون الجنة من أي أبوابها الثمانية دون حساب أو عقاب !!
ولا تعجب ! فالتدرج في هذا المسلك المعوج يقود - حتمًا إلى ذلك - إن لم يعصم الله ؛ وقد قاد شيوخ الدكتور من قبل ؛ فرأى بعضهم أن الكفار إخوان لنا ، ورأى آخر منهم عدم كفر اليهود والنصارى ، وقال ثالث قولته الشنيعة المشابهة لما يدندن الدكتور حوله ! : ( أنه شهد مجلسًا لبعض المشايخ وجرى الحديث فيه عمن سيدخلون الجنة ومن سيُحرمون منها . فسألهم : ماقولكم في أديسون مخترع النور الكهربائي ؟ فقالوا : إنه سيدخل النار . فقال لهم : بعد أن أضاء العالم كله حتى مساجدكم وبيوتكم باختراعه ؟ ... ) الخ دفاعه عن الكفار وانتصاره لعدم تكفيرهم ! ( والقائل هو الهالك أبورية الذي ألف كتابًا بعنوان " دين الله واحد " يزعم فيه أن اليهود والنصارى ناجون يوم القيامة ولو لم يُسلموا ! وقد رد عليه الدكتور الفاضل محمد بن سعد الشويعر في كتابه " وقفات مع كتاب دين الله واحد " وانظر " العصريون معتزلة اليوم ، ص 112ومنه نقلت ما سبق ) .(36/10)
فيادكتور .. احذر أن يتدرج بك الأمر كما تدرج بهؤلاء . وقف عند حدود الله لاتتجاوزها بتأويل أو تحريف . ولاتجاوز بمن أخبر الله عنهم بأنهم أضل من الأنعام قدرهم ومكانهم الذي أراده الله لهم . فالكافر يبقى كافرًا تشمله أحكام الكفار وأوصافهم مهما بلغ في تقدمه وعلمه الدنيوي ، ومهما انتفع البشر بأفكاره ومخترعاته . فالعبرة عند الله بالتزام دينه الذي ارتضاه خاتمًا للأديان .
ولايمنعنا هذا من أن نستفيد من الكافر المبدع في أمور الدنيا - كما سبق - وكما هو مقرر عند العقلاء .
أما عن مدحه " لأهل الكلام " فهو دليل على قلة فهمه ؛ لأن أهل الكلام صرفوا الأمة عن صفاء الكتاب والسنة الذي يدعو له الدكتور ! بما شققوه من التفريعات والحواشي الكلامية المتكلفة ، وبما ابتدعوا من البدع التي استنزفت طاقات الأمة ؛ وصرفتا عن ركب الحضارة .
فكانوا أحرى بذم الدكتور من غيرهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8- هون الدكتور من أمر إقامة الحدود الشرعية قائلا : ( ومن النماذج التي يلتبس فيها الحق النظري بالعلمي: إذا طبق الحاكم حداً من حدود الله، ثم أنتج تطبيق هذا الحد منكرات أكبر وأعظم، فإن تطبيق ذلك خطأ شرعي، كما ذكر العلامة علال الفاسي رحمنا الله وإياه: إذا كان تطبيق جزئي من الشريعة، يؤدي إلى خلل في التطبيق الكلي؛ فليس ذلك التطبيق من العلم بالشريعة ) !
ولم يوضح لنا متى يكون تطبيق الحد الشرعي يؤدي إلى مفسدة أو منكر أعظم منه ! فإطلاق الكلام هكذا يُفهم الاستهانة بإقامة الحدود الشرعية التي " تملص " منها المنهزمون أمام الغرب بدعاوى كثيرة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
9- لم يستعمل الدكتور في كتابه المسميات الشرعية المتعارف عليها : ( المسلم ) ، ( الكافر ) ، ( المبتدع ) .. إنما استعمل مسميات عصرية : ( الصلاح المدني ) ، ( العقيدة الروحية ) ! .. الخ .
والسبب أن الأولى محددة مقيدة ؛ بخلاف الثانية التي تقبل " التمطيط " والتوسع في إدراج المعاني الباطلة تحتها .
____________________________
تنبيهات مهمة :
1- ذكرتُ سابقًا أن للدكتور علاقة بالمبتدع الزيدي حسن المالكي . وقد أكد هذا المالكي نفسه في كتابه عن " الصحبة والصحابة " ( ص 20 ) وشكر صاحبه الدكتور !
2- من قرأ كتاب الدكتور السابق ، وقدر له قراءة كتاب الملحد القصيمي " هذه هي الأغلال " سيجد التشابه الكبير بين الكتابين من حيث تعظيم أمر الدنيا على حساب الدين ، وتحريف كل مايقف أمام هذا التعظيم والغلو من آيات وأحاديث ، حتى لو أدى الأمر إلى ردها ، والخلط بينها وبين المعاني الباطلة عند الصوفية ، بل سيجد تشابهًا في العبارات والشواهد .
ومن حنكة العلماء الربانيين الذين ردوا على كتاب القصيمي وفطنتهم أنهم لمحوا في كتابه ثورة غير منضبطة ستقوده لزامًا إن مشى معها إلى الثورة على الدين نفسه . وهذا ما ألمحه في كتاب الدكتور ! فليتبصر الدكتور أمره قبل أن يندفع في هذا الطريق الشائك الذي سقط فيه من هم أعظم منه علمًا وعقلا .
3- أتمنى أن لا يفهم أحدُ من مقالي هذا أنني أؤيد ما قد يحصل ظلم ، أو أني أقف ضد الإصلاح الحقيقي الذي نتمناه من بلادنا - حرسها الله - .
لا .... ولكني أرى أن يكون ذلك بالطريقة الشرعية القائمة على النصيحة ، وتقديم المشورة والاقتراحات النافعة . فإن أخذ بها فالحمد لله ، وإلا فقد أعذرنا أمام الله وأمام خلقه .
أما الطريق الأخرى فقد يكتشف صاحبها أنه أراد أن يفر من " الظلم " فوقع في " الكفر " ولم يتخلص من " الظلم " !
أسأل الله أن يهدي الحامد ورفيقيه إلى الحق ، وأن يوفق بلادنا إلى الأخذ بالإصلاح الحقيقي الذي يجمع لها بين التمكين لدين الله وحراسة الفضيلة مع التطور الدنيوي النافع ، وأن يباعد بينها وبين كل من يريد صرفها عن دينها وأخلاقها ، وأن يجعلها رحيمة برعاياها ، آخذة بيدهم إلى كل خير .
===============(36/11)
(36/12)
التيار الترابي في البلاد العربية والمراجعات المفقودة
لمحة عن النموذج الترابي التونسي
بقلم نوفل بن إبراهيم ـ باحث تونسي مقيم في النرويج
محمد جلال القصاص
أثارت تصريحات الترابي الأخيرة زوبعة في السودان وصلت إلى حد مطالبة علماء السودان في "الرابطة الشرعية لعلماء ودعاة السودان" باستتابته, بعد أن وثقوا تصريحاته في إباحة الخمر مدة معينة, وإنكار الحجاب الشرعي وأن شعر المرأة ليس بعورة, وأن اليهود والنصارى مؤمنين وليسوا كفارا, وأن للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة, وأن شهادتها ليست نصف شهادة الرجل وإنكار نزول المسيح, وأن من يقول بذلك جاهل! إلى غير ذلك من الشطحات التي عرف بها.. والتي لا يستغربها من عرف الترابي في مجالسه الخاصة ومن عرف متطرفي الترابيين.
وقد وصلت أصداء زوبعة تصريحات الترابي القديمة المتجددة إلى الأوساط الدعوية والإعلامية خارج السودان, ربما بحثا عن أضواء افتقدها, أو انتقاما من العلماء والدعاة الذين قاوموه في السودان وخارجها وفرحوا بإبعاده عن الحكم في السودان, إلا أن المشكلة هي أن الردود تحصر الأمر في شخص الترابي, الذي لم تعد له قيمة في حد ذاته بعد أن فقد نفوذه وأهميته في السودان, وانفض من حوله أغلب أتباعه, غافلة أو متغافلة عن التيار الترابي في البلاد العربية, الذي يظل بعيدا عن المراجعات مطالبا غيره بها، وهو الأحوج إليها، خاصة وهو بصدد التحول, إن لم يتدارك عقلاء الإخوان المسلمين وعلماءهم الأمر, إلى طابور خامس داخل الحركة الإسلامية, ينظر إلى التدخل الأمريكي في البلاد العربية, كأمر مفروض لا مفر منه باسم الواقعية واستيعاب المرحلة.
ففي حين تشن حملات إعلامية ممنهجة وإرهاب فكري منذ سنوات على بعض التيارات الإسلامية مطالبة إياها بالمراجعات, وهي مراجعات مطلوبة من الجميع بلا شك، وخاصة ممن تورطوا في مسارات ومناهج خاطئة خالفت مقاصد الشريعة وأضرت بمصالح المسلمين.. فمتى يؤوب الترابيون أيضا إلى المراجعات, بعد أن وصلت الأمور إلى افتئات واضح على بعض أحكام الشريعة، وملامح بدايات تنظير للاستقواء بالأمريكان "لتغيير" الأوضاع الراكدة في البلاد العربية؟!
* الترابي والترابيون:
التيار الترابي أو الترابيون، كما يسميهم الشيخ الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس, أحد قيادات الإخوان المسلمين في الأردن، الذي هاله ما أحدثه الترابي وأتباعه في إخوان الأردن, فكتب عن الظاهرة يقول: "الترابي والترابيون: هم جماعة فتنوا بأفكار حسن أحمد عبد الله الترابي, وهو سوداني النشأة والحياة, درس القانون وتخرج من الجامعة الفرنسية "السربون" حاصلا منها على درجة الدكتوراه. والترابيون هم الذين فتنوا به وأعجبوا به من السودان ومن غير السودان, فله معجبون في الأردن وفي اليمن و في الجزائر وفي سوريا وفي لبنان وفي تونس .. ومن أكثر البلاد تأثرا به, نفر من الاخوان المسلمين الأردنيين ...".
* توطئة:
لقد أحدث الترابي شرخا كبيرا وفادحا في الحركة الإسلامية في البلاد العربية لا يزال قائما إلى اليوم, وخاصة في جماعات الإخوان المسلمين والتيارات القريبة منها, والبلد الذي حقق فيه التيار الترابي أكبر اختراق بعد السودان طبعا, هو تونس، حيث استحوذ التيار الترابي منذ 1981 على زمام "حركة الاتجاه الإسلامي" التي تحولت فيما بعد إلى حركة النهضة, فقد تبنت قيادة الحركة وعلى رأسها قائدها ومنظرها راشد الغنوشي, فكر ومنهج الترابي تبنيا كاملا منذ وقت مبكر, ولكنها حافظت في نفس الوقت بخلاف الترابي, على ارتباطها بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين, مجتهدة في تسويق منهج الترابي وفكره داخل صفوف تنظيمات الإخوان المسلمين, فهاهو الغنوشي يسافر برفقة عزام التميمي إلى الأردن في الثمانينات للدعوة لمبايعة إخوان الأردن للترابي زعيما للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين!
وإذا كان هناك حديث كبير في الكتابات الإسلامية عن ما يسمى بالتيار العصراني أو ما يسميه البعض بالتيار التغريبي داخل الحركة الإسلامية, واختراقه للفكر الإسلامي وللإخوان المسلمين والجماعات المشابهة لهم, والجذور العلمانية للكثير من رموزه الذين قدموا من تجارب يسارية قومية, لينقلبوا بعد تدينهم بين عشية وضحاها إلى منظرين للفكر الإسلامي ودعاة للتنوير والتجديد الإسلامي!, يعني ليفصلوا لنا إسلاما على مقاسهم!...فإن هنالك غفلة عن أن الاختراق الترابي للإخوان المسلمين كما أحسب, هو الذي مهد الأرضية لتقبل هؤلاء المفتئتين على الشريعة القادمين من تجارب علمانية ويسارية مثل محمد عمارة وغيره.
ولذلك كان من الخطأ اعتبار الترابي مجرد عصراني من العصرانيين وعدم التأكيد على أنه صاحب مدرسة هي الأخطر في هذا المجال, مدرسة تجمع بين العمل الفكري المخالف في عدد من جوانبه لمنهج التلقي والاستنباط والعمل الحزبي والكفاح السياسي, بل والعسكري إن لزم الأمر...(36/13)
وهكذا انتشر الترابيون منذ الثمانينات كالنار في الهشيم في تنظيمات الاخوان المسلمين والجماعات القريبة منها, أو المشابهة لها, في الأردن واليمن, حيث تمكنوا من محاصرة الشيخ عبد المجيد الزنداني, وفي الجزائر والمغرب وموريتانيا وغيرها من البلاد... واختلط المؤثر الترابي بالمؤثر الإيراني الشيعي في تنظيمات إسلامية نظرا للعلاقات الوطيدة بينهما, كما هو الشأن في حركة النهضة التونسية, وتنظيم "حركة الاختيار الإسلامي" في المغرب سابقا, الذي انقسم منذ سنوات, لينضم الشق الأكثر "راديكالية في ترابيته وإيرانيته" إلى التحالف مع اليسار الماركسي المتطرف في المغرب اليوم ضد إخوانه المسلمين, وهو ما يعرف باسم حزب "حركة البديل الحضاري". وبما أن التفصيل في تجليات وامتدادات التيار الترابي في البلاد العربية يطول، سأكتفي في هذا المقال, بتناول التيار الترابي في تونس, حيث حقق حتى بداية التسعينات ـ قبل انهياره الشامل هناك ـ أكبر اختراق للحركة الإسلامية بعد السودان ... حتى صار اسم الغنوشي يقرن بالترابي في العقل الجمعي للنخبة الإسلامية, وخاصة أن الغنوشي لا يكف عن وصفه بالعلامة والإمام المجدد الترابي!
وقد سبق أن نشرا كتابا مشتركا بينهما حمل عنوان "الحركة الإسلامية والتحديث"، كما أن الغنوشي أهدى أهم كتبه وهو "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" إلى شيخه حسن الترابي, واصفا إياه بالإمام المجدد, إضافة إلى إهداءه إلى الإمام المجدد الخميني!
ونموذج حركة النهضة التونسية هو أكثر النماذج تعبيرا عن التوجه الترابي في غير السودان, ولذلك ظل العديد من الباحثين الغربيين مثل فرنسوا بورغا, الباحث الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية وبعض الأتباع من الباحثين العرب أيضا, يؤكدون على تميز فكر حركة نهضة الغنوشي عن بقية التيارات والحركات الإسلامية في البلاد العربية، وهو ما يعتز رموز الحركة به ويستشهدون به باستمرار, حتى إن بعض الباحثين الغربيين يصف الغنوشي بـ"الليبيرو إسلامي".
ومما تميزت به الحركة في نظري هو الانشقاق الذي شهدته في وقت مبكر من نشأتها في أواسط السبعينات، وهي لا تزال تخطو خطواتها الأولى بحثا عن موطئ قدم لها في الساحة, ذلك الانشقاق الذي سوف يلعب دورا رئيسا في توجهاتها اللاحقة, إذ إنه رغم محاصرة المنشقين تنظيميا, بعد أن عزلوا أنفسهم برفضهم تكوين تنظيم لحركة الصحوة, فقد تمكنوا من اختراق الحركة بفكرهم ومنهجهم, عبر بعض عناصرهم التي بقيت مع تيار الأغلبية مثل بن عيسى الدمني، الذي تولى عضوية أول مكتب سياسي للحركة بعد إعلان تأسيسها في حزيران ـ جوان 1981, عبر ضغطهم على الحركة بحواراتهم مع مثقفيها وتكثيفهم للنشر عبر "مكتبة الجديد" التي كان يملكها أحدهم, والتي تحولت فيما بعد إلى "دار البراق"، وكانت تنشر كتبهم وتبيع ما يخدم فكرهم, عبر مجلتهم التي سموها مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي, التي كانت تنشر لمنظريهم مثل صلاح الدين الجورشي وحميدة النيفر، إضافة إلى كتابات أركون وحسن حنفي وأنطونيو غرامشي, وعلي شريعتي وحتى بعض كتابات "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية" الذي كانوا معجبين به!....
ومما ميز ذلك الانشقاق كما يرى بعض الدارسين، هو أن المنشقين على الحركات الإسلامية عادة ما يجنحون إلى ما يسمونه باليمين, فيعيبون على الحركة التميع والتساهل ويدعونها إلى التمسك بالأصول, إلا أن الانشقاق المبكر الذي قام به دعاة ما يسمى باليسار الإسلامي الذين سرعان ما اختاروا تسمية "الإسلاميون التقدميون"، كان يدعو إلى عكس ذلك، فقد كان انشقاقا إلى اليسار مشبعا بالتحامل على منهج أهل السنة، الذي كرس الانبطاح للحاكم، حسب زعمهم، والحرفية والماضوية...وكان همهم منصبا على نقد حركة الإخوان المسلمين، التي كانت تمثل في ذلك الوقت حسب اطلاعهم التعبير السياسي الحركي عن منهج أهل السنة, وينقمون عليها تمسكها به كما يرون, و"أخلاقويتها"، وهو مصطلح طلعوا به على الساحة، ويعنون به استغراقها في نقد المسائل الأخلاقية والاهتمام بها, على حساب الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإسلام, ويدعون إلى الانفتاح الواسع على اليسار وإعادة الاعتبار إلى الفرق التي همشتها القراءة السنية الرسمية حسب قولهم.
وتجدر الإشارة إلى أن المنظرين الأساسيين، كانا حميدة النيفر الذي درس في الأزهر إلى مستوى الماجستير, وحمل عداء شخصيا لسيد قطب..., وصلاح الدين الجورشي، الذي انضم إلى شباب الصحوة شابا عصاميا بعد أن انقطع عن الدراسة قبل السنة الأخيرة في الثانوية! وهو اليوم من ألمع الصحفيين في تونس.(36/14)
وقد تميز هؤلاء اليساريون بدعوتهم إلى إعادة النظر في موقع ودور المرأة في العمل الإسلامي والمجتمع وإعادة قراءة النصوص في ضوء ما سموه بمقاصد الشريعة وحركة التاريخ، وهنا أدخلوا القراءة الماركسية أي المادية التاريخية وقراءتها لأنماط الإنتاج عبر التاريخ, واستفادوا في ذلك من المنظر الإيراني الشهير علي شريعتي، الذي يدخل الصراع بين أنماط الإنتاج حتى في الخلاف بين ابني آدم، باعتبار أحدهما يعبر عن نمط الإنتاج الرعوي والآخر يعبر عن نمط الإنتاج الزراعي...!
وهكذا وصل منظرو التيار إلى القول بإلغاء الحدود والمساواة بين الجنسين في الميراث، إن لم يطالب بعضهم بإلغائه. ويوجد اليوم ثلة من هؤلاء في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة أحمد نجيب الشابي, وهو تجمع يساري يضم يساريين من مشارب شتى قومية وماركسية و"إسلامية تقدمية"، وينسق مع حركة النهضة.
لقد أثارت في حينها أطروحات هذا التيار زوبعة كبيرة في صفوف الصحوة الإسلامية اليانعة, وكان الغنوشي على رأس محاربيهم متهما إياهم بالمروق عن الدين, بل إنه كان يطالبهم بمراجعة إيمانهم, ومن ذلك ما حدثني به الأخ الحبيب, لطفي السنوسي, وهو سجين اليوم ومحكوم بالمؤبد ـ وقد كان من رافضي المنهج الترابي ـ أنه عندما كان حميدة النيفر يطالب بإنكار حد الردة, كان الغنوشي يقول له: "راجع إيمانك".
ومضت الأمور على هذا المنوال بسبب تمسك الجماعة بالخط التقليدي لجماعة الإخوان المسلمين الموافق في عمومه لمنهج أهل السنة والجماعة...إلى أن عاد الغنوشي من زيارته للسودان سنة 1981، حيث مكث هناك فترة في ضيافة الترابي, وبعد عودته ألقى محاضرة بين قيادات الصحوة انقلب فيها كما يروي الشيخ خميس الماجري مقاله" قصة الإعلان"، 180 درجة على منهجه السابق, حتى قال حميدة النيفر: "لو كنت أحسن الزغردة لزغردت". ومن وقتها والحركة تشهد تحولات عميقة في منهجها الفكري والعقدي والتربوي، بعد أن اعتنق منظرها وقائدها المنهج الترابي, فهمشت التربية والدراسات الشرعية وعظمت الفلسفة والكتب الفكرية, وصار العمل الإسلامي هو العمل السياسي.
ومن المفارقات التي بانت لي بعد مغادرتي للحركة، هي أننا كنا ننتمي إلى تنظيم ينتمي دون علمنا إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين, في حين أننا نُشئنا في الحركة على السخرية من منهج الإخوان "الأخلاقوي"، وأقبلنا بنهم على كتابات المفكرين الشيعة الإيرانيين والعراقيين وغيرهم, بعد أن اقتنعنا بأن الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف تاريخي مصطنع, كما كان يكتب الغنوشي في مجلة "المعرفة"، فأبهرتنا تلك الكتابات بمصطلحاتها الجديدة علينا, مثل المستكبرين والمستضعفين والاستكبار العالمي, ومناقشاتها المعمقة للماركسية والفلسفات السياسات الغربية, حيث لم نعرف من أهل السنة من تناول هذه المسائل بالعمق الذي وجدناه عندهم والاطلاع, وهذا تقصير لدى الكثير من سادتنا علماء أهل السنة المعاصرين، لا أعلم من عمل على تجاوزه غير الشيخ سفر الحوالي في كتابه "العلمانية", في حين رد أبو حامد الغزالي على فلاسفة عصره رد المتمكن العالم بمذاهبهم, وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من بعده.
وكانت الحركة هي التي تروج بيننا هذه الكتابات وتشجعنا على قراءتها، خاصة أن الغنوشي قد وضع الخميني في مصاف مجددي القرن الثلاثة إلى جانب المودودي والبنا، ثم كان للسفارة الإيرانية دورها الكبير في مدنا بالنشريات والكتب, كما كان هناك دور لمجلة "المسلم المعاصر"، التي كانت تحسب على "اليسار الإسلامي" ويحذرنا الإخوة منها, قبل أن تدور الأيام وإذا بها قريبة من فكر حركة النهضة!
وكان هناك دور كبير لمكتبة الجديد, التي كان يملكها أحد عناصر" اليسار الإسلامي"، الذي يعد هو أول تيار روج لكتب "اليسار الإسلامي" في تونس وأساسا كتب حسن حنفي, وكذلك للكتابات الشيعية القريبة من فكرهم وخاصة لعلي شريعتي، الذي كانوا هم أول من انبهر به وروج له, وحتى أكون أمينا فقد حذرنا الغنوشي في أحد دروسه المسجدية من كتاب "الشهادة" لعلي شريعتي, الذي طعن فيه في أبي هريرة وافترى عليه, إلا أن ذلك التحذير لم يكن شيئا يذكر أمام تزكيته لكتب الشيعة وترويجه لها, فهل الخميني الذي لا يزال يصر على تسميته بالامام المجدد أفضل من شريعتي، فشريعتي على الأقل قد رفض ما كان يسميه بالتشيع الصفوي، وهو صاحب مصطلح "التشيع الصفوي"، ورفض الكثير من خزعبلات الشيعة الأمامية، التي اعتبرها تحريفات صفويةـ مثل كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي, وهو الكتاب الذي طالما أثنى عليه الخميني, بل إن علي شريعتي كان متهما بالوهابية، بسبب رفضه للكثير من خزعبلات التشيع الصفوي.
* التيار الترابي في تونس ودخول العمل السياسي:(36/15)
ثم كان الإعلان عن ميلاد حركة الاتجاه الإسلامي ودخول العمل السياسي في 6 حزيران ـ جوان 1981، وهو الإعلان الذي تحفظ عليه العديد من رموز الصحوة مثل الشيخ محمد الصالح النيفر رحمه الله، فالصحوة كانت يانعة لم تقف على رجليها بعد, وقياداتها ينقصها الكثير من العلم والتمرس, فكيف تقتحم بالجموع زخم العمل للسياسي مرة واحدة؟, وقد دأبت الحركة منذ إعلانها عن نفسها بإبراز تميزها عما كانت تسميه بالحركات الإسلامية المشرقية, وهو توجه ترابي بحت, لتبرير مخالفاته.
ثم جاءت محنة بداية الثمانينات، حيث سجنت قيادات الحركة من 1981 إلى 1984، لتخرج بعفو رئاسي بعد أن توجه أحد قادتها برسالة طلب عفو من رئيس الدولة, واستمر مسلسل" الاجتهادات الترابية" الجديدة وبدأ الترويج لكتب مالك بن نبي, بعد أن كان مهمشا بسبب غلبة التوجه الإخواني الذي كان يتحفظ عليه آنذاك.
* المكونات العقدية والفكرية لأتباع حركة النهضة:
ولفهم أعمق للتكوين العقدي و الفكري لحركة النهضة, لابد لنا من الرجوع إلى بحث كتبه الأستاذ الغنوشي ونشره "مركز دراسات الوحدة العربية" مع بحوث أخرى ألقيت في مؤتمر عقده المركز عن" الصحوة الإسلامية في الوطن العربي", ففي هذا البحث الذي حمل عنوان "حول مكونات الظاهرة الإسلامية في تونس"، يقول الغنوشي بأن هذه المكونات هي ثلاثة, وقد أسهمت مع بعضها في تكوين ذهنية أتباع الحركة, بعد أن تفاعلت:
1ـ التدين التقليدي التونسي: وهو المتمثل في عقيدة الأشعري وطريقة الجنيد السالك والمذهب المالكي.
2 ـ التدين السلفي الإخواني: موضحا أنه يعني الاهتمام بشمولية الإسلام, وبمسالة الحاكمية, ورفض القبورية والدعوة إلى الاجتهاد ورفض التعصب المذهبي.
3ـ التدين العقلاني: ويقول إنه المهيمن على الجناح الطالبي للحركة: ومن ميزات هذا التيار كما يرى، الإعلاء من شأن العقل, ونقد المنهج الاخواني وتجربته, والتفاعل الايجابي الكبير مع الثورة الإيرانية، والدعوة إلى التفاعل مع التجارب اليسارية في العالم ومع الفكر اليساري, وإلى إعادة الاعتبار للفرق التي أهملتها القراءة الرسمية السنية للتاريخ..
وأضيف بأن هذا المكون هو الذي هيمن على قيادة الحركة بعد تخرج الطلبة من الجامعة، باعتبار أن المثقفين هم من يقودونها في النهاية وليس التيار الشعبي الذي ظل في عمومه أقرب إلى المنهج الإخواني العام, أو ما يسميه الغنوشي بالتدين السلفي الإخواني, وهو ما نلمسه في أغلب العناصر غير المثقفة من أتباع النهضة في المهجر, أما في تونس اليوم فقد اختفت الحركة من الساحة الشعبية.... وعندما تقرأ لغالب النهضويين اليوم وإخوانهم من أنصار المدرسة الترابية الذين اختلفوا مع الغنوشي, وتركوا التنظيم, ولكن لم يتخلوا عن المنهج الترابي, تخال نفسك تقرأ لعلماني من العلمانيين, فلا تقرأ إلا عن الوطن وأوجاع الوطن والمجتمع المدني, بل لا أستغرب أن نقرأ لهم قريبا عن "أزمة الأغنية والموسيقى التونسية وسبل النهوض بها"!, "لأنه لا بد من الالتصاق بالجماهير وهموم الوطن والتخلي عن المثالية..."، ولم لا, فقد كنا معشر مناضلي ومناضلات الاتجاه الإسلامي نذهب أفواجا إلى مهرجان السينما في تونس لنشاهد الأفلام المشاركة في المسابقة، فنتفرج في اليوم الواحد على ثلاثة أفلام على الأقل, وكنا كالمجانين من قاعة سينمائية إلى أخرى, والكثير من تلك الأفلام كانت تحوي مشاهد مخلة بالآداب, ورغم أنني كنت أتساءل أحيانا بيني وبين نفسي عن شرعية ذلك, إلا أنني لم أكن قادرا على الإنكار, فهو التوجه العام للحركة التي أثق فيها ثقة عمياء, وأقول لنفسي إن الضرورة تبيح ذلك, وذلك حتى نتعلم النقد السينمائي, وتصبح لنا قدرة على إنتاج سينما إسلامية!
* الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي، والنزعة الاعتزالية الواضحة:
وخوفا من تفلت أكثر للحركة بسبب ضعفها العلمي وجرأتها على النصوص, ولتميزا عن اليسار الإسلامي الذي مضى أسرع من الحركة في التحلل من مصدر التلقي, وظل يستقطب من حين لآخر بعض شباب الحركة المتفوقين فكريا وسياسيا, كما حصل مع زياد كريشان وكمال بن يونس وعبد العزيز التميمي، الذين كانوا من ألمع قيادات "الاتجاه الإسلامي" في الجامعة, فقد رأت الحركة وضع ما سمته بـ"الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي", فكان أن كلفت د. عبد المجيد النجار, وهو المفكر الأزهري, بوضع تلك الرؤية، فصاغها على المنهج الترابي الذي اختاره تعزيزا لإعلاء منزلة العقل أمام النص، وتوسعا لما سماه بمنطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية، التي اعترفت الحركة في نص وزعته لشرح تسميتها باسم "حركة الاتجاه الإسلامي"، بأنه مصطلح مستعار من محمد الباقر الصدر.(36/16)
وقد عمل النجار على أخذ موقف وسط بين أهل السنة وبين دعاة ما يسمى باليسار الإسلامي, فيما يتعلق بما سماه بالفهم المقاصدي للنصوص, الذي أهدر فيه اليساريون النصوص إهدارا تاما مقابل ما يرونه من مقاصد وضعوها للشريعة, فصارت المقاصد والمصالح عندهم تنسخ الأحكام الشرعية القطعية، مثل أحكام الميراث والحدود وغير ذلك, مستدلين بالطوفي الذي قال بالعمل بالمصلحة حتى ولو خالفت النص, ومقتدين بمعلمهم, حسن حنفي القائل بأن "الوحي علماني في جوهره"، مستدلا بالنسخ في القرآن الذي هو تغيير للأحكام بتغير الوقائع كما يرى, ويرى أن النسخ يستمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , مع تغير الوقائع والمستجدات.
وهكذا لم يعد هناك ضابط أمام الاجتهادات، وصار يكفي أن تكون طلق اللسان وقارئا لفلان وعلان من دعاة "الفكر الإسلامي المستنير"، والأفضل أيضا للجابري وأركون ولميشيل فوكو وجاك ديريدا, لتكتب ما تشاء وتقول ما تشاء ولا أحد يعترض عليك.
* الحركة ومرحلة المهجر:
بعد المواجهة الكبيرة مع النظام في تونس في صيف 1991م, منيت الحركة بهزيمة قاسية, لم تدفع ثمنها لوحدها, و لكن كل العاملين للإسلام في تونس, على اختلاف مشاربهم ومناهجهم,وفي المهجر الأوروبي استقرت بقايا قياداتها التي لم تنسحب من الحركة أو أفلتت من السجن، وكذلك أغلب بقايا أتباعها, وهناك خضعت الحركة إلى تأثير التيارات السلفية على العديد من أتباعها ـ في الواقع لقد بدأ التأثير السلفي لدى الكثيرين, منذ مرحلة الهجرة إلى السودان بالنسبة لمن أقام في السودان قبل الهجرة إلى أوروبا, بعد خيبة الأمل في النموذج الترابي في السودان الذي انكشف لهم على حقيقته ـ مما جعلها تخسر العديد من أتباعها, وتضطر إلى شن حملة تحصين لضمان ولاءهم.
وفي نفس الوقت، ومع مرور الزمن واستعصاء عفو النظام عن الحركة, كان التواصل مع شق هام من اليسار الماركسي الراديكالي المتطرف في عداوته للإسلام وللشريعة الإسلامية والعلمانيين, يتوطد حتى كادت تختفي الحواجز..
وكان من نتيجة هذا الفكر الترابي المتألق، محاربته للسلفية وتواصله مع اليساريين. بل بدأت القيادات المتألقة تتساقط صرعى اليسار، فهذا القيادي المناضل العتيد نور الدين الختروشي، الذي طالما نسق ولا يزال مع اليسار التونسي في باريس يعلن انسحابه من حركة النهضة وتخليه عن "الإسلام السياسي"! كما قال، ورغم ذلك فلم يتوان هادي بريك أحد قيادات حركة النهضة في ألمانيا من كتابة مقال كامل لمدحه، وذلك لأن الختروشي قد رفض عرض أحد مبعوثي النظام له بالعودة إلى تونس، فأخذوا ينفخون في موقفه النضالي البطولي, لأن ذلك هو الأهم, أما قضايا التدين، فلا تحظى بالقدر نفسه من الاهتمام.
وفي الوقت الذي لا نجد فيه مراجعة واحدة أو اعتذارا من الحركة للسلفيين الذين تشتمهم باستمرار وتشهر بهم في المجالس العامة, فإنها سباقة إلى الاعتذار من الإخوة المناضلين في اليسار كما يصفهم حسين الجزيري ومحمد بن سالم عضوي المكتب السياسي لحركة النهضة في حوار مع الصحفية اليسارية سهام بن سدرين, نشرته في مجلتها الالكترونية "كلمة"، وقد تضمن الحوار إضافة إلى هجمة شرسة على تيار الدعوة السلفية في تونس، اعتذارا من اليسار لخطأ فادح وقع فيه الغنوشي عندما استعمل عبارتي, كفر وإيمان, إذ يقول محمد بن سالم: "ووردت عبارة كفر وإيمان, وهي عبارة نأسف لها", مضيفا: "إن المعركة ليست بين كفر وإيمان, فراضية مازالت كيسارية محترمة, تدافع عن حقوق الإنسان, ونحترمها من أجل ذلك ونتضامن معها".
وراضية هذه هي راضية النصراوي, المحامية الشيوعية المتطرفة في عداوتها للإسلام وتشنيعها بأحكامه, زوجة حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي الماركسي الستاليني المتطرف، الذي يستلهم من فكر رأس التطرف الماركسي أنور خوجة, الذي لا يتردد في إعلان إلحاده، ولا ينافق مثل الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت مرتبطة بموسكو, التي ينعتها بالتحريفية, وقد تسبب هذا الحزب في ردة الآلاف من الشباب عن الإسلام في تونس, وقد عرف الحزب بدمويته وإرهابه, لكن الغنوشي وجماعته يدافعون عنه ويستميتون في التحالف معه لمجرد أنه مختلف مع السلطة في تونس. ونجد الغنوشي يدخل في إضراب جوع في مكتبه في لندن منذ سنوات قليلة تضامنا مع راضية النصراوي القيادية الشيوعية المضربة عن الطعام في بيتها حتى يطلق سراح زوجها "المناضل العتيد".
* موقف الترابيين التونسيين من تصريحات الترابي الأخيرة:(36/17)
لئن لزم الغنوشي الصمت كعادته في مثل هذه الأمور, حتى لا يثير عليه العلماء وهو بحاجة إلى إرضاء الجميع , وتزويق خطاب مناسب لكل تيار كما هي عادته, فإن بعض تلامذته لم يتحمل الصمت, فهاهو أحد رموز حركة النهضة التونسية في ألمانيا, أبو وليد حبيب المكني, يدبج مقالا طويلا تحت عنوان "تصريحات الترابي واختبار جديد لمبدأ حرية الرأي"، ينشره على موقع نهضوي هو موقع الحوار, يقول فيه في مقدمته إنه لا يحب التكلم في المسائل الشرعية، ويتركها إلى أهل الاختصاص, ثم يناقض نفسه في كامل المقال في رده على أهل العلم والاختصاص، بتهجمه عليهم على إدانتهم للترابي ومطالبتهم باستتابته, مطالبا بما يسميه حرية الفكر, ورفض الوصاية على الناس، مدينا الحكم الذي سبق أن صدر في عهد نميري بردة زعيم الإخوان الجمهوريين الباطني, علي محمود طه، وهكذا على العلماء أن يخرسوا ليتركوا لرويبضات الترابي المجال أن يجتهدوا في الدين على هواهم, وما يقوله المكني يتفق مع ما سبق أن صرح به الغنوشي للصحفي الأردني قصي صالح درويش في كتابه "حوارات مع الغنوشي"، إذ عندما سأله درويش عن رأيه في سلمان رشدي ورواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ, كان جواب الغنوشي: "أنا ضد تدخل الفتوى في قضايا الفكر"!
كانت الأسطر السابقة مختصرا لفكر وممارسات التيار الترابي التونسي, للدلالة على أن الأمر يتعلق بظاهرة كرسها الترابي وتلامذته في البلاد العربية, ولا تتعلق بشخص الترابي نفسه, وهي في الواقع غيض من فيض, والسؤال الآن هو: إلى أين المسير، وإلى متى يستمر مسلسل الانهيار دون ضوابط، وإلى متى يستمر خلو حركة النهضة التونسية من العلماء وتهميشها للعلم الشرعي, وإلى متى يستمر المتعاطفون من غير التونسيين في الدفاع عنهم والتعصب لهم؟
==============(36/18)
(36/19)
العصرانيون ودعوى الوسطية واحترام الرأي الآخر مهما كان
مقدمة:
في هذه الأيام استجدت فتنة خطيرة...
نتيجتها تحطيم أصول الدين وتغيير أحكامه...
هي فتنة قديمة في تاريخ الإسلام...
بدأت على يد فرقة مبتدعة هي المعتزلة...
واليوم تبدأ من جديد على يد من ينتسب إلى أهل السنة والجماعة..
وهذا محل الخطر....
تلك الفتنة هدفها الأول إلغاء فقه السلف وأقوالهم في تفسير النصوص الشرعية، والاستقلال بفهمها، ومن ثم تعطيل أحكام أصلية وأخبار ثابتة بدعوى مواكبة أحكام العصر، والوسطية في الأمور، واحترام الرأي الآخر وقبوله، مهما كان!.
وفي هذه الكلمات نريد أن نفصل ونبين حقيقة هذه الفتنة كيف بدأت في القديم.. هذا أولا.
ثم كيف استجدت اليوم، وذلك ثانيا.
وبعده نبين القول الحق في هذه القضية، والمخرج من هذه الفتنة..
ذلك من أهم ما ينبغي الاعتناء به.
(كيف بدأت فتنة تبديل معاني الشريعة؟)
عندما نتكلم عن هذا الدين فإنما نتحدث عن دين ارتضاه الله - عز وجل - للناس ولم يرتض لهم غيره، قال - تعالى -:{ورضيت لكم الإسلام دينا}..
وزيادة على ذلك فنحن نتحدث عن جملة أمور تناسب فطر البشر ولا تعارضها، فالبشرية محتاجة إلى هذا الدين حاجة ماسة، لكونه منزل من رب العالمين، والله - تعالى -لا ينزل إلا ما فيه صلاح البشر، ولكونه يتفق مع الفطرة، واطمئنان النفوس لا يكون إلا بمباشرة ما يتفق مع الفطرة ولا يناقضها..
وباتفاق الدين والفطرة تكون عمارة الأرض بالحق والعدل.. والله - تعالى - أنزل هذا الدين وضمنه:
أولا: جوابا عن كل مسألة تحتاج إلى جواب، فبه نطلع على ما يمكن أن نطلع عليه من عالم الغيب.
ثانيا: وأحكاما نحتكم إليها في عالم الشهادة.
وكل ذلك متسق مع الفطرة، ومع هذا الكون الذي نعيش فيه، فالله - تعالى -خلق الكون حيا متحركا، وكذا الإنسان، فهنا مجموعة حركات متجددة تحتاج إلى توجيه وضوابط، وقد قدر الله - سبحانه - أن يذعن الكون كله فلا يخرج عن تلك الضوابط، أما بنو آدم فقد خيرهم بين الهدى أو الانحراف، فمنهم من ثبت على فطرته، ومنهم من تحول عنها، قال - تعالى -:{ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم}..
ولقد حققت الأجيال الأولى من البشرية الثبات على الفطرة والإذعان لله - تعالى - على مدى عشرة قرون كما قال ابن عباس في تفسير قوله - تعالى -:{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}..
ثم طرأ على البشرية حالة غير سوية لما أعرضت عن هدي الله - تعالى -وخرجت عن الضوابط التي سنها، فاجتالتها الشياطين وأفسدت فطرها، كما جاء تقرير ذلك في حديث مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال:
(كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا).
وبدأ الصراع بين فريقين:
الأول: الأنبياء والرسل وأتباعهم من المصلحين، ومهمتهم المحافظة على الفطرة السوية، وتنقيتها من الشرك، وتربية الناس على أحكامها.
الثاني: الشيطان وأتباعه، ومهمتهم إفساد الفطرة بتشريعات غريبة عن طبيعة الفطرة يضعونها بأنفسهم، ويطلقون الإنسان مع رغباته وأهوائه بلا ضابط، ويمدونه بأحكام متبدلة متغيرة لا تعرف الثبات.
وبيان ذلك:
أن أعداء الإنسانية ودعوات الرسل الكرام تربصوا بمن آمن، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله، يبغونها عوجا، استعملوا القهر والكبت والترهيب والتعذيب لإطفاء نور الله - تعالى -، لكن جهودهم باءت بالفشل الذريع، حيث زاد تمسك المؤمنين بدينهم وكثر عددهم، فنظروا فإذا السبب:
هو صفاء عقيدة المؤمنين وسلامة دينهم، بحيث كان المرجع للتصحيح من كل انحراف وخطأ..
فعرف الأعداء أنه لا يمكن النجاح في الاستحواذ على المؤمنين ما دامت عقيدتهم صافية نقية تمدهم بالإيمان والتثبيت، فلا بد إذن من الهجوم على الدين ذاته، وإفساد المعين الذي يتلقى منه المؤمنون دينهم وعقيدتهم وثباتهم وتوبتهم، حتى إذا ما أراد المؤمن أن يعود ليتعلم التوبة والإيمان ويصحح ما يعتريه من زلل لم يجد إلا دينا محرفا يأمره بالمنكر وينهاه عن المعروف، ويدعوه إلى الشرك ويحذره من التوحيد..
كل ذلك باسم الإيمان والدين!!!..
فيضمنوا بذلك أبدا تدمير القاعدة والمرجع الأصلي للمؤمن، فغيروا خطتهم من الحرب المعلن إلى الحرب الخفي، ومن قتل المؤمنين إلى قتل معاني الدين..
سعوا في تحريف الكتب المنزلة، فحرفوا التوراة والإنجيل، حتى لم تعد مصدر هداية، وهلك اليهود والنصارى، صاروا متدينين بلا دين صحيح، يقرؤون التوراة والإنجيل على أنهما من عند الله، ومع التحريف لم يعودا كما أنزل من عند الله، لكنهم يتعبدون بهما، ويحسبونهم أنهم على شيء..
وهكذا نجح أعداء الملة في أن يزينوا لأتباع الديانتين أنهم على دين ارتضاه الله - تعالى -، فضمنوا بذلك التدمير الأبدي للديانتين..(36/20)
فمهما أراد النصراني أو اليهودي أن يتوب أو يصحح فليس أمامه إلا الدين المحرف، فيبقى كما هو، ينتقل من خطأ إلى خطأ، فليس أمامه طريق مستقيم، ولا مصدر يهديه إلى الحق.
ثم أرسل الله - تعالى -محمدا صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة إلى البشرية كلها، يخالف أهواء الذين لا يعلمون، ويقيم الحق والعدل في الأرض، فتحرك الشيطان وجنده ليمارسوا ذات الطرق في حرب هذا الدين القويم..
فجربوا القوة والقتل والقهر والأذى، فلم يفد شيئا.. فأرادوا تحريف الدين فامتنع عليهم..
فأما القرآن فقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو أن يزيدوا فيه أو ينقصوا، فاتجهوا إلى السنة، فوجدوا طريقا ظنوا في بداية الأمر أنه الطريق لتحطيمه وتحريفه، فوضعوا الأحاديث المكذوبة، وأكثروا منها، حتى إن أحد الزنادقة الوضاعين وضع ما يقارب أربعين ألف حديث..
هنا تصدى علماء السنة لهذا الهجوم على الشرعة المحمدية فوضعوا القواعد المتينة للتمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، فنخلوا المتون والأسانيد، وتميز الحق من الباطل، فسد الباب أمام المحرفين، فتحقق وعد الله - تعالى - بحفظ الذكر الذي أنزله:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ولما امتنع عليهم تحريف القرآن والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى إليهم الشيطان بحيلة أخرى، هو التبديل، فعادوا على الوحي يحاولون تبديله، حتى لا يجد المصلحون مرجعا يصححون عليه الفساد الطارئ على البشرية..
لجؤوا إلى تبديل المعاني الشرعية والقيم، فجعلوا السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا، والتوحيد تخلفا، والشرك تقدما، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة، وهكذا..
ونجحوا إلى حد كبير فصار المسلمون يقرأون كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير مراد الله إلا من رحم الله، وتواصى أعداء البشرية على هذا التبديل، وكانت الأداة الكبرى لهذا التبديل: المنهج العقلي.
المنهج العقلي وأثره في الأصول والفروع
لقد أثر المنهج العقلي الذي دخل على الأمة الإسلامية بعد ترجمة كتب اليونان بأمر المأمون أثرا بالغ السوء في أصول الإسلام وفروعه، ما يزال المصلحون يعانون منه، وكان فحوى المنهج العقلي:
"أن العقل له حق تعطيل النص بجميع أفراده بحكم المصلحة"..
وكان من آثار تحكيم العقل على النص تعطيل دلالة النصوص الشرعية، وإطلاق القول بأنها لا تفيد العلم، أو أنها ظنية، وبذلك قدم العقل وعطل النقل.
وهذا هو التغيير والتبديل..
فمن الآثار السيئة التي ترتبت على هذه الأفكار الخطيرة:
أن تزحزح مفهوم ثبات الشريعة عند كثير من المسلمين وبعض الدارسين للفقه الإسلامي، وانتشر هذا الأثر السيء، فأصبح النظر في المسائل الدينية مشاعا لكل أحد، علم أو جهل، ولو كان يفتقر لآلات العلم الشرعي التي لا بد منها للنظر والحكم، فضعف سلطان الشريعة على كثير من النفوس..
وليس ذلك بعجيب، لأنه إذا ضعف سلطانها على قلوب بعض المنتسبين للعلم فأعطوا العقل حق الحكم على النص بإلغاء مقتضياته، فإنه لا بد من أن يترك هذا المسلك الفاسد أثره داخل الأمة الإسلامية..
ومن هنا كان من المهم التعرف على منهج السلف في الاستدلال والتفريق بينه وبين المناهج المبتدعة قديما وحديثا، ومن المهم أيضا معرفة منزلة الشريعة، وبيان أن الشارع هو الله - تعالى -، وأن النسخ والتبديل ليس لغيره:
{يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}..
{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}..
كما أن الحكم وإرسال الرسل ليس لسواه - سبحانه -.
بدأت فتنة المنهج العقلي على يد أهل الكلام، خاصة المعتزلة، الذين عاصروا فترة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية في عهد المأمون ت 218هـ، وأخذوا عنها..
فهذا أبو الهذيل العلاف ت232هـ أول معتزلي استفاد من كتب الفلاسفة، وقد شهد له تلميذه النظام بذلك (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 261)، وذكر عنه الشهرستاني اقتباسه من الفلاسفة(الملل والنحل 1/50)..
وأما النظام تلميذه فقد حفظ كتاب أرسطا طاليس في الفلسفة والمنطق، وقد قال تلميذه الجاحظ: "ما رأيت أعلم بالكلام من النظام"، وقد شهد النظام على نفسه بذلك (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 264)، وقال الشهرستاني: "طالع كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة" (الملل والنحل 1/53)
لقد بدأ هذا المنهج على يد واصل بن عطاء ت 151هـ الذي زعم أن الخبر لا يكون حجة إلا إذا سلم من التواطؤ..
ثم تبلور على يد العلاف حيث جعل الرواية للأخبار ريبة، وأن الحق في المقاييس العقلية..
ثم أعلن النظام أن الحجة العقلية قادرة على نسخ الأخبار..
فاستقر الأمر عند المعتزلة على أن الحجة تعرف بالنظر العقلي، وأن الشريعة قرآنا وسنة لا يصح الاحتجاج بها على إفادة العلم.
فالقول بظنية الأدلة النقلية دين أحدثه أئمة المعتزلة ولم يعرف من قبل، وبدعة منكرة وشجرة خبيثة سقاها الفكر الفلسفي، واستظل بها أهل الأهواء وخدعوا بها كثيرا من الناس، وظنوا أنها من الدين، وما هي من الدين.(36/21)
لقد بليت الأمة بمن يعبث بدينها قديما وحديثا، ففي القديم انتشرت الفرق الضالة داخل جسد الأمة كالخوارج والمرجئة وأهل الكلام والشيعة والصوفية فسعت في التحريف والتبديل مع إبقاء انتسابها إلى الكتاب والسنة..
وفي العصر الحديث تعرض الدين الإسلامي لهجمة شرسة من قبل أئمة الغزو الفكري الكامنين في بلدان الغرب..باسم الاستشراق تارة، وباسم الاستعمار تارة أخرى.
وقد استفادوا من تجربة الفرق الضالة التي انتشرت في بلاد الإسلام، فاجتمع جهدهم على حرب العقيدة الصحيحة النقية المنزلة من رب العالمين..
وبيان ذلك:
أن الغرب كفوا عن محاربة الدين صراحة، إلى حد ما، وأخذوا في طرق أخرى ملتوية، وقام مفكروهم بدراسة الكتاب والسنة وتاريخ الإسلام بغية التشويه، وجعلوا العقل والبحث العلمي رائدا لهم في استجازة الطعن في الدين بدعوى مناقضته للعقل والعلم..
وقد نشطوا في نشر المذاهب الفكرية الإلحادية التي تنادي بفصل الدين عن الحياة، وقد ساعد على تقبل المنهج الغربي القائم على تعبيد العقل والعلم وتقديمه على الدين، وتقبل كل ما يروج باسم العقل والبحث العلمي المجرد، ولو كان مناقضا للدين والفطرة، انتشار المنهج العقلي في الأمة على يد أهل الكلام، حيث كانوا من دعاة هذا المنهج وحملته، ذلك المنهج الموروث عن الفلسفة اليونانية.
ولم يكن هؤلاء لينفذوا بكيدهم لولا تفريط المسلمين في دينهم:
{وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}..
فحقت عليهم سنة الله الجارية:
{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}..
ولم تسلم القرون المفضلة الأولى إلا لثباتها على الدين والعقيدة كما أنزلت دون تبديل، أما الأجيال المتأخرة فقد سقطت في الفتنة لما كثر فيها الخبث وفرط كثير من علمائها في إقامة الحق، فكانت الخاتمة سقوط الخلافة وإحلال أهواء البشر محل شريعة الله.
لكن هل توقف الكيد بهذا الدين عند هذا الحد؟.
الجواب: في المقال التالي…
------------------
في المرة الماضية تحدثنا عن الهجوم التي تعرضت لها الشريعة، إرادة تعطيل أصولها وتغيير أحكامها، على يد المعتزلة الذين قدموا العقل على الشرع، ثم ألمحنا إلى طريقة المستعمر في حرب الشريعة باسم المنهج والبحث العلمي، وتوقفنا عند سؤال طرحناه فقلنا:
لكن هل توقف الكيد بهذا الدين عند هذا الحد؟.
واليوم نتابع حديثنا، لنبين الطريقة المستحدثة التي استخدمت لتعطيل أصول الشريعة وتغيير أحكامها، وهي وإن كانت مستحدثة إلا أنها في حقيقتها إحياء لطريقة المعتزلة قديما في تقديم العقل، وتعطيل النص الشرعي، فنقول جواب عن السؤال الآنف:
لم يتوقف توقف الكيد عند هذا الحد..
فقد كان الغرب يعلم أنه مهما كاد للإسلام فلن يكون كيده بالقدر الذي يبتغيه، فالأجنبي ليس مأمونا، والمسلم لا يرجو من الكافر خيرا، فطبعه الحذر من أفكاره، والأصل فيه عدم قبول ما يأتي منه، خاصة إذا كان شيئا يتعلق بدينه، فهل يقبل مسلم من كافر أن يحدد له قيمه الدينية، أو أن يصحح له شيئا في دينه، أو يطعن في دينه صراحة أو تلميحا؟.
هنا كان لا بد من صنيعة يصنعها من أبناء المسلمين يحملون فكر الغرب وتراثه وأمجاده، يعيش بدنه في الشرق وروحه وعقله في الغرب..
فابتدأت البعثات الدراسية، وذهب أبناء المسلمين إلى الغرب لتلقي العلم والفكر معا..
وهناك أعاد الغرب تشكيل عقول هؤلاء الشباب، لقد كانت الظروف مواتية، فالغرب يعيش قمة حضارة مادية وعلمية واقتصادية حقيقية، وتنظيم رائع لا مثيل له في بلاد المسلمين، المتخلفة في كل ذلك، وهذا بحد ذاته سبب لهذه الفئة انبهارا كبيرا بالغرب، مما سهل عليهم احتواء هذه العقول وتوجيهها التوجيه اللازم المأمول..
فالعقل عقل ناشيء غر لم يلم بعد بحقيقة الأمور، وثقافته بالعلوم الشرعية ضئيلة إن لم تكن منعدمة، وذلك الأستاذ الغربي المجند لفتنة هؤلاء الفتية يتعامل بأحسن الأساليب والأخلاق والكرم..
وانطلت الحيلة، وصنع هؤلاء الفتية على أيديهم، صنعا يحقق لهم أهدافا كثيرا عجزوا عن تحقيقها بالوسائل السابقة، فغرسوا فيهم حب الغرب وتعظيم حضارة الغرب وفكره، وأنه لا يتعارض مع الإسلام، وإنما هو من باب تنوع الحضارات والثقافات..
فرجعت هذه الفئة إلى بلدانها وهي متشربة ومتشبعة بتلك الأفكار، وأساسها:
أن الغرب عظيم، وأن تقليده هو الطريق للتقدم، تقليده في كل شيء..
وأنه يجب أن ينظر إليه نظرة مختلفة، تختلف عن النظرة السابقة، نظرة المسلم إلى الكافر، نظرة العداوة بين المؤمنين والكافرين، فلا بد من إلغاء مبدأ الولاء والبراء، فلا مكان لمثل هذه المقولة في هذا العصر، ونادوا بالحوار بين الأديان: اليهودية والنصرانية والإسلام، والتسالم معها، والتعايش معها، وقبولها على أنها أديان حقة صحيحة، لا فضل لبعضها على الآخر..
وبدأ هذا الفريق المصنوع بأيدي الغرب يدعو إلى مذاهب الغرب، لكن محاولاته باءت بالفشل..(36/22)
حيث تنبه المسلمون إلى حقيقة هذه الدعوة، ورأوا أن الغرب نفسه جاء للترويج عن مبادئه لكن بألسنة أبناء المسلمين، وهم وإن كانوا قد خدعوا حينا بتلك الأفكار، إلا أنه مع مرور الزمن ظهروا على حقيقة الأمر، وأن هذه الفئة ما هي إلا مروجة لمباديء الكفر والتبعية الغربية..
فنبذوهم ونظروا إليهم بعين الريبة والحذر، كما نظروا من قبل إلى الغرب نفسه في دسائسه وأفكاره، وبدأت بضاعتهم تبور وسوقهم يكسد، وبدأت الجماهير المسلمة تقبل على الإسلام وتلوذ به..
وفي هذه الفترة بدأت الصحوة الإسلامية، وكثر الدعاة إليها، وانتشروا في كل بلاد المسلمين، وأقبل الناس عليهم حين لمسوا صدقهم، وتحققوا من سلامتهم من التبعية للغرب الذي صار مكروها منبوذا ليس لضلال أفكاره ومبادئه فحسب، بل لجبروته وطغيانه، فقد شاهد المسلمون تدميره لبلادهم، وتسلطه على خيراتها، ومنعها من التقدم والازدهار.
ازدهرت الصحوة وكثر أتباعها، ومن لم، فلا أقل من التعاطف معها، وبدأت الخسارة تحيق بالفئة المستغربة المصنوعة بأيدي الغرب، وبدأ الناس ينفضون عنهم ويقبلون على من يقول:
قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، قال السلف والأئمة..
وأعرضوا عن الذي يقول:
قال جان جاك رسو، قال بول سارتر، قال فرويد، قال دوركايم، دارون..
حيث لم يجدوا عندهم إلا الانهزامية وسوق الأمة إلى العبودية المقيتة لأعدائها.
وبعد أن سحب البساط من تحت أقدام الفئة المستغربة المصنوعة بأيدي الغرب، وصارت في أيدي دعاة الإسلام والدين الصحيح، وجد المستغربون أنفسهم بلا مأوى، مشردين، منبوذين، فجنحوا إلى خطوة ماكرة..
فأغرقوا الأمة في الشهوات، وبثوا في القنوات كل رذيلة، استخدموا سلاح الجنس لجر الناس إلى مبادئهم التي لا تكره الرذيلة وتمقت الفضيلة، فانتشرت الفضائيات وزادت الموضوعات التي تخاطب الغرائز بقوة..
لكن ومع ذلك ساءهم تنامي الشعور الإسلامي وتصاعد التمسك بالقيم الإسلامية، هنا بدأوا يراجعون خططهم، ويضعوا أيديهم على أسباب هذا الانحسار والتراجع والخسارة التي حاقت بهم، فنظروا وإذا بالجماهير المسلمة تحب الإسلام، مهما بعدت عن تعاليمه إلا أنها لا تتردد في التوبة والإقبال من جديد متى ما خوطبت بخطاب الموعظة والآية والحديث وأقوال سلف الأمة..
لقد ثبت لهم أن التدين كامن في قلوب الجماهير المسلمة، وأن غبار المعاصي والخطايا لا يمكن أن يمحو تدينهم وإيمانهم وحبهم لدينهم، فوضعوا أيديهم على الخيط الذي يمكرون به من جديد..
فإذا كان الخطاب الديني هو الرائج والمقبول عند جماهير المسلمين فلم لا يكون خطابهم ديني كذلك؟،
لم لا ينادون إلى مبادئهم من خلال نصوص الإسلام، ويحتجون عليها بالكتاب والسنة؟.
ساعدهم على هذه الخطوة الخبيثة وجود طوائف وفرق إسلامية ومنتسبة للإسلام استخدمت نفس الأسلوب من قديم، كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة.
لقد تركزت الخطة الجديد لحرب الدين الإسلامي على نقطتين:
الأولى: الترويج من جديد لأفكار الفرق المبتدعة القديمة في الإسلام، والتي عملت على تبديل معاني الشريعة، مع إبقاء الانتساب إليها، كالقول بوجوب تقديم العقل على النقل إذا تعارضا.
الثانية: هدم فقه السلف وإلغاءه بالكلية، والدعوة إلى الاستقلالية في فهم نصوص الكتاب والسنة، بل وإلغاء أقوال العلماء كافة، والزعم بأن البحث والفتيا في مسائل الدين حق مشروع للجميع، بغض النظر عن المؤهلات!.
ومن هاتين النقطتين بدأت هذه الفئة ممارسة دورها في فتنة الجماهير المسلمة من جديد، فالآية والنص النبوي صار يفسر تفسيرا آخر، غير التفسير الذي جاء عن السلف: من صحابة وتابعين ومن تبعهم، بدعوى مواكبة روح العصر..
وفي هذا أخذوا يعتمدون إما على أقوال سابقة شاذة موافقة لأهوائهم، فإن لم يجدوا اجتهدوا بعقولهم في تفسير النصوص وفق مرادهم وأهدافهم، بما يتلاءم مع الأهداف التغريبية، وهكذا فعلوا مع كل نص يصطدم مع أهدافهم في تغريب المجتمع وإفساده، بدأ بنصوص وجوب الحكم بما أنزل الله إلى وجوب الحجاب ومنع الاختلاط ووجوب الولاء والبراء، وهكذا.
وفي سبيل ذلك طعنوا وذموا كل من يرجع إلى فقه السلف في تفسير النصوص الشرعية بوصفه أنه:
ظلامي، جامد على النص، رجعي، متخلف.. إلخ..
ومدح الأسلوب الجديد في تفسير النصوص بأنه تقدمي، حضاري، تنويري، متسامح، معتدل، وأن العصر يتطلب تفسير النصوص تفسيرا خاصا جديدا يتلاءم مع الظروف الحادثة.
ونبشوا في معتقدات الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة من رافضة وجهمية ومعتزلة، وأخرجوها للناس في صورة العقيدة الصحيحة النقية المتسامحة، وصوروا العقيدة السلفية بالمتشددة المتنطعة المتطرفة..
وأحيوا رموز البدع وطعنوا في رموز السنة، ابتداء بالإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -، مرورا بابن تيمية وابن القيم، وانتهاء بالإمام محمد بن عبد الوهاب وسائر علماء المنتمين إلى المنهج السلفي، لعلمهم أن مجرد إسقاط تلك الرموز والأعلام إسقاط للمذهب من أصله.(36/23)
كذلك فتشوا في الكتب بغية الوصول إلى آثار تدعم هدفهم في تبديل معاني الشريعة، ولم يعجزهم أن يجدوا شيئا من ذلك، بل أشياء، ومع أنها لم تكن دليلا يصلح الاحتجاج به، إلا أنهم رأوا فيها الحجة، مما دل على جهلهم المطبق بالشرع، مع كونهم قد جعلوا من أنفسهم مفسرين شارحين له.
فمن ذلك أنهم استدلوا بفعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في منعه إقامة حد قطع يد السارق عام الرمادة على جواز تعطيل العمل بالنص حين الحاجة.. هكذا زعموا، ولا ريب أن هذا منتهى الجهل.
فعمر - رضي الله عنه - لم يعطل العمل بالنص، بل منع إقامة حد من الحدود، لفترة معينة، لضرورة..
وفرق بين تعطيل النص، وتعطيل الحد الذي هو حكم، فالنص أعم من الحكم، فالنص يشمل الأخبار، وهي لا تعطل أبدا، إذ تعطيلها تكذيب لله - تعالى -، وهو كفر..
والنص يشمل كذلك الأحكام الظاهرة والباطنة..
والأحكام الباطنة، وهي التي تتعلق بالقلوب، كالولاء والبراء، لا تعطل أبدا، إذ لا سبيل للبشر في التسلط عليها..
والأحكام الظاهرة والتي تتعلق بالجوارح هي التي قد تعطل، لكن بشرط أن يكون التعطيل لحاجة شرعية، كتعطيل عمر لحد القطع بسبب جوع الناس، فما سرق في ذلك الوقت إلا من خاف الموت جوعا، وتلك ضرورة شرعية..
ثم كذلك بشرط ألا يكون التعطيل مستديما، بل بقدر الحاجة، وهكذا لما انتهت المجاعة رجع الحكم كما كان (1)
فهل الذين يستدلون بفعل عمر في تعطيل الحد يقصدون هذا؟.
الجواب: لا، إنهم يقصدون بمثل هذا الاستدلال، تعطيل النص حقيقة بشكل دائم أبدي، إذا كان يناقض مبادئهم وأهدافهم، سواء كان خبرا أو حكما باطنا أو ظاهرا.
فالخبر الذي يقول: إن المؤمنين في الجنة واليهود والنصارى في النار، هذا معطل عندهم، ولا يمكن أن يعملوا به، ولا أن يعتقدوه، لأنه ينافي مبدأهم في المساواة بين جميع الأديان.
ومع أن الخبر لا يعطل أبدا، وتعطيله تكذيب لله - تعالى -، إلا أنهم يعطلونه، ومع ذلك يستدلون بفعل عمر - رضي الله عنه - بالرغم من بعد ما بينهم وبينه!!.
والحكم الذي يقول:
بوجوب الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين..
هذا أيضا عندهم نص معطل، مع أن هذه من النصوص المأمور تطبيقها في كل زمان ومكان، ولا تخضع لتغير الحال، إذ هي من الأمور القلبية التي لا سلطة لأحد عليها، لكنها مع ذلك فهي من النصوص التي يجوز تعطيلها عند هؤلاء القوم، والدليل فعل عمر رضي الله عنه!!..
فهذه طريقتهم في لي أعناق النصوص والمواقف والآثار، كل ذلك اجتهادا منهم ومحاولة يائسة للظهور أمام الناس بأنهم على الإسلام، وأن تفسيراتهم للنصوص الشرعية تفسيرات صحيحة قائمة على الاستدلال بفعل الصحابة وسلف الأمة، مع أنهم في ذات الوقت يشنعون على من احتج بفقه السلف.
لكنهم يحتجون بهم حينما يظنون أن لهم الحق في أقوالهم، فهم كما قال الله - تعالى -:
{وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين}.
لقد استعملوا هذين الطريقين:
- ترويج أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة.
- وإلغاء تفسير السلف للنصوص الشرعية.
وسيلة لهدم الفكر السلفي، الذي يمثل أهل السنة والجماعة، وهو الفكر الذي يقف بقوة ووضوح أمام كل محاولة للعبث بهذا الدين وتبديله، والسبب:
أن هذا الفكر والعقيدة قائم على:
1ـ تعظيم أقوال السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، وعدم مخالفتهم فيما أجمعوا عليه، واتباع الجمهور منهم..
2ـ وقائم على محاربة الفرق المخالفة لهذا المنهج..
فهدم هذين الأصلين هدم لمنهج أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية المنصورة التي على الحق، وذلك يعني محوها وتلاشيها، لكن فاتهم أن الله - تعالى - قد تكفل ببقاء هذه الفرقة إلى يوم القيامة، كما قال - عليه الصلاة والسلام -:
(لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
وكي يكون الأمر ظاهرا بينا، فإن الدين هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، أتباع السلف الصالح، وما عداه، فهو إما بدعة وأما كفر، فمن أراد أن يعرف الدين الصحيح الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فليتبع منهج أهل السنة والجماعة..
-------
تتمة:
في المرة السابقة تابعنا الحديث عن الهجوم الذي تتعرض لها الشريعة، وفصلنا في الطريقة التي اتبعت في ذلك، وقد تركزت على أمرين:
الأول: الترويج لأقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة...
الثاني: والدعوة إلى إلغاء فقه السلف وتفسيرهم للنصوص الشرعية.
لقد ذكرنا أن الذي تولى كبر ذلك الهجوم هم المستغربون، وتوقفنا عند مسألة وجوب اتباع السلف ومنهج أهل السنة والجماعة، وأن ذلك هو الدين الصحيح، وما عداه فبدعة ضلالة في النار..
جناية بعض المنتسبين إلى الفقه على الشريعة(36/24)
وقبل أن نشرع في بيانها، نود التطرق إلى ذكر فئة أخرى منتسبة إلى الفقه ساهمت مساهمة فعالة وخطيرة في تحقيق أهداف المستغربين في هجومهم على الشريعة، ربما كانت فتنة هذه الفئة المنتسبة للفقه أعظم من فتنة المستغربين، حيث إنهم منتسبون إلى الدين، ويتكلمون بلسان الشريعة، ولذا قد جاء التحذير من زلة العالم، فالناس تحب الدين، ومن يتكلم بلسان الشريعة، وتقبل عليه، ومن هنا كان على الفقيه أن يتقي الله - تعالى -، وأن يجتهد في إصابة الحق، ويحذر من تطويع الدين لأهواء الذين لا يعلمون، قال - تعالى -:
{ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}...
لكن بعض هؤلاء أصيب بانهزامية غير مبررة أمام ما يراه من تطور الأمم الكافرة، وساءه أن يرى تراجع المسلمين وتدهور أحوالهم، فصار همه محاولة تحسين صورة الإسلام أمام من يعاديه، وانتشاله من كبوته، ولو كان ذلك على حساب أصول وقواعد شرعية لا يحل لأحد أن يعبث بها، مهما كان:
فطوع كثيرا من الأحكام الشرعية..
وأباح كثيرا مما يعلم تحريمه بالضرورة..
باسم مسايرة العصر، وعدم التشدد، ومطالبة الناس بالحد الأدنى، كما يتصوره هو، لا كما يجب أن يكون..
فالحقيقة أن جهد هؤلاء مشابه إلى حد بعيد جهد الفئة المستغربة، وإن كانت الأهداف مختلفة، فهؤلاء هدفهم نصرة الإسلام، لكن.. كم من مريد للخير لم يبلغه؛ وهدف أولئك المستغربين تدمير الإسلام.
وكم فرح المستغربون بأمثال هؤلاء من المنتسبين إلى العلم، وأفسحوا لهم وسائل الإعلام التي يمتلكونها، وعظموهم وفخموا حالهم، وصارت لهم المنابر الإعلامية..
وافتتن الناس بهم، حتى ظنوا أنهم لو لم يكونوا على جادة وعلم كثير وإصابة للحق لما أتيحت لهم فرصة التربع على عرش الفتوى في تلك المجالات الإعلامية، ناسين حقيقة مذهب من يقوم على تلك الأدوات الإعلامية، وأهدافهم من تقديم هذا النوع من المنتسبين للفقه والدين، وكيف أنه لو كان يضاد أهدافهم جملة وتفصيلا لم يكونوا ليقدموه للجمهور ولا يرفعوا به رأسا..
على كل حال، وقعت الفتنة، فتنة محاولة تبديل الدين، ولم يكن وقوعها بدعة، بل وقعت كما وقعت من قبل، وكل فتنة فلا بد لها من مخرج، والله - تعالى - قد شرع لنا دينا، وحفظه من أيدي التحريف والتبديل، فكيف لنا أن نسلم من هذه الفتن المحيطة بنا اليوم؟.
ثالثا: المخرج من هذه الفتنة.
قال - تعالى -: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}..
هذه الآية تخبر أن الخلاف بين البشر أمر قدره الله - تعالى -، لكن هناك من - رحمهم الله -، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذا الخلاف، وحذر منه، وبين المخرج، ولم يترك الناس في حيرة، فدلهم على المنهج والمذهب الصحيح، فعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، وإنه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله).
ففي هذا الأثر أن الفرقة الناجية هي الجماعة، حيث قال: (واحدة في الجنة، هي الجماعة).
لكن نحن بحاجة إلى معرفة وصف الجماعة، الفرقة الناجية، كي نستدل عليها؛ لم يتركنا النبي صلى الله عليه وسلم بلا جواب، بل جاء ذلك موضحا في رواية أخرى للحديث، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟، قال: ما أنا عليه وأصحابي).
وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
فالخلاف واقع بأمر الله - تعالى -الكوني، لكن سبيل النجاة واضح وذلك باتباع الجماعة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، كما تبين في النصوص السابقة، وإن المعقول لينطق ويحكم بوجوب اتباع الصحابة وتقليدهم في مسائل الدين، والأخذ بتفسيرهم وشرحهم للكتاب والسنة، فهم أولى الناس بذلك، لكونهم شهدوا التنزيل وعاصروا الوحي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم، ولأن الله - تعالى -قد رضي عنهم، كما قال:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - رضي الله عنهم - ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار.. }.(36/25)
وقال - تعالى -: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}.
فلا يكفي اتباع الكتاب والسنة، بل لا بد من اتباع فهم الصحابة للكتاب والسنة، والعض على فقههم عض على الدين بالنواجذ، ومخالفتهم هو البدعة والضلالة، وكلها في النار.
والمقصود باتباعهم هنا، أي فيما أجمعوا عليه، فلا تجوز مخالفتهم فيه، فهم لا يجمعون إلا على دين صحيح وعمل متقبل، أما ما اختلفوا فيه، فيؤخذ بقول جمهورهم، وكبارهم كالخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم للتنصيص على فضلهم، وللأمر باتباعهم خاصة، كما مر في قوله:
(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
وقوله - عليه السلام - فيما يرويه حذيفة - رضي الله عنه -: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر).
ثم يأتي بعد الصحابة في وجوب الاتباع التابعون، وهم الذين لقوا الصحابة، ثم تابعوهم، أهل القرون الثلاثة المفضلة، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عمران بن حصين - رضي الله عنه -:
(خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالشهادة لهم بالخيرية دال على فضلهم في الإيمان والعمل، ودليل على أنهم أفقه الناس في الدين، وفقههم وفهمهم للشرع مقدم على من بعدهم، وهذا كما قلت آنفا فيما أجمعوا عليه، ويأتي بعده في المرتبة ما كان عليه جمهورهم.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن قول الصحابي في تفسير نصوص الشرع بمنزلة الحديث المسند، وحكمه حكم المرفوع، فإن كان يقصد مجموع الصحابة فلا ريب أنه لم يتعد الصواب، قال ابن القيم:
"قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك: [ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند]، وقال في موضع آخر من كتابه: [هو عندنا في حكم المرفوع].
وهذا، وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله - عز وجل - من كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل".. إغاثة اللهفان 1/240
ها قد وضعنا أيدينا على المنهج الصحيح والطريق الأمثل، واستطعنا أن تخرج من كل الإشكالات والمآزق التي احتفت بالطريق، وكادت أن تمنع من الوصول إلى الهدف، لولا أن الله - تعالى -حفظ هذا الدين ومنع عنه تحريف المبطلين، وأوضح صراطه المستقيم، كما روى العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(قد تركتكتم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).
فهذا هو الميزان: اتباع الكتاب والسنة بفقه السلف الصالح، فهذا القيد مهم في المسألة، وبذلك نكون قد اهتدينا إلى الدين الحق المنزل من رب العالمين، مجتنبين الأهواء والبدع، كما اجتنبنا ملل الكفر من قبل، ولا يستتم الاعتقاد الصحيح من دون الأخذ عن السلف والاكتفاء بما كانوا عليه، وآفة كل الفرق المخالفة أنهم خالفوا السلف، واستقلوا بفهم الكتاب والسنة، وذلك سبب ضلالهم.
وبعد هذا نقول لمن زعم من هؤلاء المستغربين أنهم على الكتاب والسنة، وأنهم يؤمنون بما ورد فيهما:
هل تقرون بوجوب الرجوع إلى الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن تبعهم في معرفة معاني وأحكام الكتاب والسنة؟..
فإن قالوا: نعم، نقر بذلك؛
نقضوا مذهبهم القائم على عصرنة الإسلام وتحويره بما يتلاءم مع الغرب، لأنهم مهما أرادوا أن يفسروا النصوص بمثل ذلك اصطدموا بالسلف:
فإن أرادوا تعطيل الحكم بما أنزل الله اصطدموا بالسلف الذين يكفرون من عطل وبدل شرع الله - تعالى -.
وإن أرادوا تعطيل الحجاب وبث الاختلاط، اصطدموا بالسلف الذين يخالفونهم في ذلك.
وإن أرادوا إلغاء الولاء والبراء، كذلك لم يجدوا لهم من السلف سلفا.
وإن قالوا: لا، لا نقر بذلك، بل هم رجال ونحن رجال، ولسنا ملزمين بالرجوع إليهم، بل لنا عقول كما لهم عقول، وعصرنا يختلف عن عصرهم، ولسنا ملزمين بفقههم.
قلنا لهم: نقضتم التزامكم بالكتاب والسنة.
فإن الكتاب والسنة يأمران بالرجوع إلى فقه السلف في فهم نصوص الكتاب والسنة، وأنتم بمثل هذا تؤكدون عدم إيمانكم بالكتاب والسنة، وأن دعواكم الإيمان بهما إنما هو ادعاء كاذب، وتلبيس مخادع، لا يقف أمام الحقيقة، بل ينهار في أول امتحان..
إذ كيف تزعمون ذلك، وإذا قلنا لكم الكتاب والسنة يأمران بالرجوع إليهم في فهم نصوص الشرع؛ أعرضتم وامتنعتم من القبول؟!!!..
فما هذا بفعل من يعظم الكتاب والسنة، وأنتم إنما زعمتم الإيمان بهما لحاجة في نفوسكم، لكن الله - تعالى -أبى إلا أن يبين حالكم.
فأنتم بين أمرين:
إما أن تنصاعوا للكتاب والسنة بفقه السلف، وذلك يعني أن تكفروا بما أنتم عليه من مباديء ضالة تغريبية، وتتبرؤوا وتتوبوا منها، لكونها معارضة تامة للشرع.
وإما أن لا تنصاعوا لهما، وتعلنوا أنكم لا تؤمنون بالكتاب ولا بالسنة، وأنكم تعتقدون أن الخير في الإعراض عن الدين، واعتناق مذاهب التغريب.(36/26)
إذا فعلتم ذلك كنتم واضحين غير متناقضين من حيث الدعوى، لا من حيث الاعتقاد.
أما أن تزعموا أنكم على الكتاب والسنة، ثم لا تلتزمون نصوصه باتباع فقه السلف، فذلك عين التلبيس والخداع والكذب، ولن تستقيم لكم كلمة بمثل هذا التردد والريب.
-------------
الهوامش:
(1) هذه النقطة تحتاج إلى توضيح:
فعمر - رضي الله عنه - لم يعطل هذا الحد، إلا لعدم تحقق شروط القطع، فالحد له شروط متى تحققت وجب، وإلا فلا، وعمر - رضي الله عنه - إنما أوقف الحد في حق من سرق لعدم تحقق الشروط، فإن الذين سرقوا إنما سرقوا لسد جوعتهم، ولذا قال:
" لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم"..
وعليه فإن هذه الحادثة مختلفة، فاقدة للشرط، ولأجل ذا اختلف الحكم.. أما الحكم في ذاته لم يتبدل ولم يتغير، بحيث لو استوفى شروطه وجب وقوعه..
http://www.saaid.net المصدر:
=============(36/27)
(36/28)
وصف العلماء ( للعصرانيين ) وتدينهم
سليمان بن صالح الخراشي
حدثني أحد طلبة العلم أنه اجتمع ببعض العصرانيين في أمسية حوارية استضافوه فيها، وكان من ضمن الملاحظات التي وجهها لهم: استغرابه ضعف تدين وتعبد الإنسان بعد أن يسلك مسلكهم؛ وهو أمر لا يخفى على أحد؛ فبعد أن كان يصلي في المسجد أصبح يصلي في البيت، وبعد أن كان يتطوع بالعبادات المتنوعة أصبح بالكاد يفعل الواجبات، وبعد أن كان يقرأ القرآن ويهتم به أصبح هاجرًا له.... هذا خلاف الأمور الظاهرة من تهذيب اللحية شيئا فشيئا حتى أصبحت عند بعضهم مجرد " سكسوكه "!
قال: فضجوا من هذه الملاحظة التي أثارت كوامنهم، ولمست جرحًا غائرًا في نفوسهم.. فحاولوا دفعها والتبرؤ منها... ولكن هيهات:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
قلت: لا عجب من هذا
فضعف التدين والتعبد سمة أسلافهم القدماء من أهل الكلام أو تيار المدرسة العقلية.. فهم على آثارهم يهرعون
ولهذا أسباب كثيرة ليس هذا مقام سردها، ولكن من أهمها في نظري:
1 - انشغالهم " بالكلاميات " و " الفلسفات " و" الهذر " التي لا تدفع للعمل الصالح.
2 - انصرافهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى كلام البشر.
3- جرأتهم على المقدسات؛ وتحطيمها في نفوسهم واحدا بعد آخر.. مما يؤدي إلى ضعف تعظيم أوامر الله والانتهاء عن نواهيه.
4 - كثرة تعرضهم لفتن الشهوات والشبهات - بدعوى الاطلاع والحرية! - إلى أن تتشرب قلوبهم بالشهوات المضعفة؛ التي لا تقابل بما يدفعها من اعتصام بالله وعبادة، والإنسان خلق ضعيفا، والله يقول عن المنافقين ومرضى القلوب (ولكنكم فتنتم أنفسكم).
وأسباب أخرى..
ومثل هؤلاء - في نظري - كمثل من يسير على رجل واحدة.. إما أن يتعثر فيسقط.. وإما أن يستقيم في سيره على رجليه
أما البقاء على حاله فمن المحال.
فهم إما أن يتداركهم الله برحمته كما تدارك بعض أسلافهم؛ فيعودوا إلى الحق والتدين الصحيح..
وإما أن يزداد انحرافهم تدريجيًا.. حتى يلحقوا بالملحدين والإباحيين - والعياذ بالله - كما حدث لغيرهم.
وقد أحببت - هنا - التعليق على ما قاله صاحبي عنهم؛ بذكر ما يؤيده من كلام العلماء الأولين في وصف شيوخ العصرانيين.
قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني في كتابه: (الحجة في بيان المحجة، 1/121-122):
(وهل رأى أحد متكلماً أداه نظره وكلامه إلى تقوى في الدين، أو ورع في المعاملات، أو سداد في الطريقة، أو زهد في الدنيا، أو إمساك عن حرام وشبهه، أو خشوع في عبادة، أو ازدياد من طاعة إلا الشاذ النادر. قل: لو قلبت القصة كنت صادقاً: تراهم أبداً منهمكين في كل فاحشة ملتبسين بكل قاذورة، لا يرعوون عن قبيح، ولا يرتدعون من باطل إلا من عصمه الله، فلئن دلّهم النظر اليقين وحقيقة التوحيد، فليس ثمرة اليقين هذا، وتعساً لتوحيد أداهم إلى مثل هذه الأشياء، وأوردهم هذه المتالف في الدين، ومن الله التوفيق وحسن المعونة).
وقال - رحمه الله - مبينًا سبب سلوكهم طريق الضلال: (1/372-373):
(فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله، فلا تنكر ما تشاهده منه، وسل الله العافية من البلاء، واحمده على ما وهب لك من السلامة، ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسوّل لكل من أحسّ من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعُدّ واحداً من الجمهور والكافة، فحرّكهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا في حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله - تعالى - ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسننه المأثورة عنه، وردّوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عند ما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزاً عنه ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة.(36/29)
وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينةٍ من أمرهم، وعلى بصيرةٍ من دينهم لما هداهم الله به، من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أُزيحت بمكانهما).
وقال أحد العلماء في وصف الأفغاني وعبده وتلاميذهما:
شياطين بين المسلمين تفرقوا *** باغوائهم كم أفسدوا جاهلاً غُمرا
قد اختصروا بالجهل دين محمد *** وما تركوا من عشر أحكامهِ العشرا
لقد زعموا إصلاحه بفسادهم *** وكم حمّلوه من ضلالاتهم إصرا
كفيران قصر أفسدت فيه جهدها *** ترى نفسها قد أصلحت ذلك القصرا
فما بالهم لا يصلحون نفوسهم *** أما هي بالإصلاح من غيرها أحرى
وقد جاء في القرآن ذكر فسادهم *** وزعمهم الإصلاح في السورة الزهرا
بفعل البرستنت اقتدوا باجتهادهم *** لقول رسول الله لو دخلوا جُحرا
أولئك قد ألغوا زوائد دينهم *** وقد ضللوا في ذلك القس والحبرا
قد اجتهدوا في دينهم حينما رأوا *** مجامعهم زادتهُ في نكره نكرا
فلله در المصطفى سيد الورى *** فقد طابقت أخباره كلها الخُبرا
أمن بعد قول الله أكلمت دينكم *** يريدون في الإسلام أن يحدثوا أمرا
قد اجتهدوا في خذل دين محمد *** وإن زعموا بالاجتهاد له نصرا
قد اجتهدوا أن لا تكاليف عندهم *** فصاروا إباحيين لا نهي لا أمرا
تراهم إباحيين أو هم نظيرهم *** إذاكنت عن أسرارهم تكشف السترا
وكل امرئ لا يستحي في جداله *** من الكذب والتلفيق مهما أتى نكرا
فمن قال صلوا قال قائلهم له *** يجوز لنا في البيت نجمعها قصرا
وإن قيل لا تشرب يقول شربتها *** بقصد الشفا أو قال ليس اسمها خمرا
فيجهر كلٌ بالمعاصي مجادلا *** بما نفث الشيطان في قلبه سرا
فلا صام لا صلى ولا حج لاحبا *** فقيراً وإن أودى به فقره برا
وفي الألف منهم واحد ربما أتى *** مساجدنا لكن إذا كان مضطرا
وأخبرني من لا أشك بصدقه *** بأن قد رأى من بال منهم بلا استبرا
ولازمه حتى أتى بعدُ مسجدا *** فصلى ولم يحدث من الحدث الطهرا
وآخر منهم قد أقام صلاته *** بدون اغتسال مع جنابته الكبرى
عداة لكل المؤمنين قلوبهم *** لهم ملئت حقداً وإن أظهروا البشرا
ذئاب على الإسلام صالوا وما اكتفوا *** بأنيابهم حتى به أنشبوا الظفرا
مقاريض أعراض بألسنة لهم *** حداد بها قد أشبهوا الجرذ والفأرا
لهم أوجه كالصخر مثل قلوبهم *** ولكن بها ماء الحيا ما له مجرى
ففي وجه كل قد بدا من ظلامه *** دخان يرينا أن في قلبه جمرا
أشد من الكفار فينا نكاية *** وأعظم منهم في ديانتنا ضرا
من الكفر ذو الإسلام يأخذ حذره *** ومن هؤلاء القوم لا يأخذ الحذرا
مُعاشرهم يسري له من ضلالهم *** مفاسد ترديه ويحسبها خيرا
على ديننا ساقوا كتائب كتبهم *** وفي حربه جاءت جرائدهم تترى
بها فتحوا للناس باب ضلالهم *** بها رفعوا الدنيا بها خفضوا الأخرى
بها خلطوا بالحق باطل غيهم *** بها مزجوا الإسلام بالملل الأخرى
محمد عبده:
يعاشر نسوان النصارى ولا يرى *** بذلك من بأس وإن كشف السترا
ويأكل معهم كل ما يأكلونه *** ويشربها حمراء إن شاء أو صفرا
ويفتي بحل المسكرات جميعها *** إذا هي بالأسماء خالفت الخمرا
ويأكل مخنوقا ويفتي بحله *** لئلا يقولوا إنه ارتكب الوزرا
وتحليله لبس البرانيط والربا *** به بعض أهل العلم قد ألحق الكفرا
وكم زار باريسا ولُنْدُرَةً ولم *** يزر مكة يوماً ولا طيبة الغرا
وقد كنت في لبنان يوما صحبته *** لقرب غروب الشمس من ضحوة كبرى
وصليت فرض الظهر والعصر بعده *** لديه وما صلى هو الظهر والعصرا
وكان صحيح الجسم لا عذر عنده *** بلى إن ضعف الدين كان له عذرا
ومع كل هذا فهو أستاذ عصره *** فأفّ له شيخا وأف له عصرا
وقبل غروب الشمس صاحبت شيخه *** لقرب العشا أيام جاورت في مصرا
ولم أره أدّى فريضة مغرب *** فقاطعت شيخ السوء من أجلها الدهرا
فويل له ويل لمن يتبعونه *** ومن كان من أعدائهم فله البشرى
وقد دخلوا حزب المسون بهمة *** بها حل كلٌ من محافله الصدرا
ومذهبهم حكم الديانات واحد *** تساوى به الإسلام والملل الأخرى
فيا رب أصلحهم وإن لم ترد لهم *** صلاحا فلا تنجح إلهي لهم أمرا
آمين
أسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يرزقنا الإخلاص، ويجمع لنا بين العلم النافع والعمل الصالح.
http://saaid.net المصدر:
=============(36/30)
(36/31)
المدرسة العصرانية في نزعتها المادية الجذور الفكرية والعقدية (1- 2 )
محمد حامد الناصر
العصرانية هي أي وجهة نظر في الدين، مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة(1).
فالعصرانيون اعتمدوا منهج التفكير الفلسفي العقلي، وكانت القيمة الأساسية فيه للعقل كمصدر للمعرفة.
ويعتمد المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل... ويتعامل أصحاب هذا المنهج مع النصوص الشرعية عن طريق التأويل وفقاً لمعطيات العقول، مع تقديم العقل على النقل.
أما المدرسة العصرانية ذات النزعة المادية:
فقد أضاف روادها إلى الانحرافات السابقة انحرافات جديدة، إذ اعتمدوا منهج التفكير المادي (الوضعي)، الذي ينظر إلى العالم الخارجي، باعتباره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة الموضوعية، ذات وجود مستقل عن الإنسان.
وفي المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها، والحصول على المعرفة من مصادر وضعية، مثل: التاريخ والسير في الأرض، لمعرفة: كيف بدأ الخلق؟! والاعتماد على سنن الأنفس والآفاق، وقوانين الطبيعة والاجتماع، وقد تبنى أصحاب هذه المدرسة آراء المعتزلة والقدرية في القول بالمشيئة، وتبنوا نظرية داروين والمذهب الوضعي للفيلسوف (كانت)، كما أنهم أظهروا إعجابهم بالنتائج التي توصلت إليها الماركسية.
يقول الشيخ جودت سعيد: "الوجود الخارجي - أي المادي - هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف والصور الذهنية قابلة للنقصان"(2).
ويقول الطبيب خالص جلبي: "الواقع الخارجي والسير في الأرض هو الأساس، وليس السير في الكتاب والسنة؟! وإن الاستغناء بالكتاب عن الواقع هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة مروعة"(3).
بينما يقول - سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز: فلا وربك لا يؤمنون حتى" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) {النساء: 65}.
ويعتبر (جودت سعيد) من أبرز دعاة المذهب المادي المعاصر، فهو يدعو إليه منذ أكثر من ثلاثين سنة، من خلال الخطاب الإسلامي، في كتبه ومقالاته وندواته.
وسار على هذا الطريق الطبيب (خالص جلبي) تلميذه وزوج أخته، وتكاد تكون آراؤه رجع الصدى، لآراء شيخه جودت.
وسوف نتحدث عن أبرز منطلقات هذا التيار في هذه المقالة وما يتبعها إن شاء الله - تعالى -، في حلقة ثانية.
إيمانهم بنظرية داروين:
وهي نظرية خطيرة، تناقض العلم الصحيح، وتتنكر للأديان السماوية، فهي تعتمد على "أن أصل الحياة خلية، كانت في مستنقع أو بحر، قبل ملايين السنين، ثم تطورت هذه الخلية، ومرت بمراحل عديدة منها: مرحلة القرد، الذي تطور ليكون منه هذا الإنسان".
وهذه العملية كلها من فعل الطبيعة "وأن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق".
"وقد وجدت اليهودية في داروين فرصة سانحة؛ لتقويض عقائد (الأمميين)، وإزالة ما بقي من أثر للدين في حياة الناس". "فحين يكون الإنسان حيواناً، أو امتداداً لسلسلة التطور الحيواني، فأين مكان العقيدة في تركيبه؟ وأين مكان الأخلاق؟ وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والاجتماعية؟! "(4).
وقد رفض العالم الإسلامي هذه النظرية؛ لأن داروين وضع تصوراً غريباً لنشوء الحياة، وقد رد عليها عدد من العلماء الغربيين، وعلماء الدارونية الحديثة "كما أن العلم تبرأ من هذه النظرية، وأبطل الأساس الذي تقوم عليه، وقد جرى تعديل أفكار (داروين) مرات عديدة، تحت اسم (الدارونية الحديثة"(5).
لكن المنهزمين والمبتدعة، يرفضون إلا التبعية الذليلة ومجانبة حقائق الشرع والعلم الصحيح.
وقد بذل (جودت سعيد وخالص جلبي) جهوداً مضنية في كتاباتهم لتقريب نظرية التطور هذه إلى المسلمين، تحت شعار العلمية الزائفة(6).
يقول الدكتور (خالص جلبي): "لقد فتح داروين الطريق لمعرفة سر الحياة، وأصل الإنسان بشكل عام، وهذا بدوره شق الطريق إلى مجموعات جديدة من فضاءات المعرفة.. لقد تركت الدارونية بصماتها على الفكر الإنساني من خلال علم الاجتماع، على الشكل الذي طوره البريطاني (سبنسر)"(7).
وعندما سئل (جلبي) عن مدى قناعته بنظرية داروين قال: "أتعجب منكم، وأنا أتحدث لكم في علم (الأنثروبولوجيا) فمثلي ومثلكم كالأخرس الذي يريد أن ينقل عن آخر مهمة الكلام... ومثل طالب الحضانة الذي تقرأ على رأسه فيزياء الكم"(8).
فجلبي يزعم أن المسلمين إلى اليوم، ليسوا في مستوى مناقشة مقولة داروين، مع نزعة الاستعلاء والتجهيل للآخرين.
وكان جودت سعيد - وما يزال - من أكبر المبشرين بنظرية دارون هذه.
فهو يستغرب من العالم الإسلامي رفضة لنظرية داروين ويعنف المسلمين الذين ترسخت في أذهانهم فكرة معينة لنشوء الخلق "من خلال الوقوف عند حرفية النصوص المقدسة - كتاباً وسنة - وليس من خلال السير في الأرض، فأهملوا فكرة نشوء الخلق، ولم يلتفتوا إلى الآية الواضحة التي تحدد مصدر المعرفة: كيف بدأ الخلق من السير في الأرض"(9).(36/32)
قال - تعالى -: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق 20 {العنكبوت: 20}.
أصل الحياة البشرية: بين نصوص الشرع والنظرة المادية:
لمعرفة أصل الحياة البشرية يرى الشيخ جودت سعيد سؤال التاريخ والسير في الأرض، والتنقيب خلال الآثار والحفريات ويمثل هذا المنهج خروجاً على النصوص الشرعية، وتعطيلاً لآيات القرآن الكريم، التي تتحدث عن بدء الخلق، خلق الإنسان وخلق السموات والأرض.
ويخالف أصول التفسير لآيات القرآن لدى علمائنا الثقات، كما يخالف حقائق العلم الموضوعية بعيداً عن الهوى والتبعية.
فمن الحقائق المهمة أن آدم - عليه السلام - هو أول البشر وأن الله خلقه من طين. يقول جل من قائل: خلق الإنسان من صلصال كالفخار 14 وخلق الجان من مارج من نار 15 {الرحمن: 14، 15}.
وقال - سبحانه -: إن مثل عيسى" عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 59 {آل عمران: 59}.
وآدم - عليه السلام - كان نبياً يوحى إليه، فهل يعقل أن أبا البشر، أو أحد أبنائه وأحفاده المؤمنين بالله، كان يمشي عرياناً، كما يدعي أصحاب نظرية التطور؟!
يقول جودت سعيد: "إن الكون قبل عشرة آلاف سنة، كان الإنسان يعيش في الكهف، كان يمشي على قدميه فقط، وقد بدأ خلقه ضعيفاً، تطارده الحيوانات ليتغذوا به، وهو يطاردها ليتغذى بها، وأن هذا الإنسان كان عرياناً... وأن آخر المخلوقات كان أرقاها، والآن استطاع أن يفهم، وصار مصيره في يده"(10).
ويقول أيضاً: "إن الآثار العظيمة التي كشفها الناس في أثيوبيا، تدل على الهيكل العظمي (لوسا) منذ ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين سنة، لأن الحجر يتكلم بهذا، وبعلم لا ينكره أحد، فإذا بهذا العالم بدأ يأخذ معلوماته من واقعه، وكان الناس قبل ذلك يأخذون المعلومات بطريقة الوحي من السماء"(11).
فالمصدر الذي تستقى منه المعلومات عن الإنسان الأول هو القرآن الكريم، فهو المصدر الحق الذي لا مرية فيه.
فآدم - عليه السلام -: "نبي مكلم من الله - سبحانه وتعالى-"(12) فكيف بهذا النبي يمشي عرياناً، وكذلك أبناؤه المؤمنون قال - تعالى -: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى" ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون 26 {الأعراف: 26}.
وكيف يعتمد أتباع المذهب المادي على الحفريات والتقاط الآثار، لمعرفة بداية خلق الإنسان ونشأة الحياة؟
وقد خالف أتباع النزعة المادية علماء المسلمين في تفسير الآية الكريمة: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على" كل شيء قدير 20 {العنكبوت: 20}.
قال القرطبي - رحمه الله -: "أولم يروا كيف يبديء الله الثمار فتحيا ثم تفنى، ثم يعيدها أبداً، وكذلك سائر الحيوان، أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد، فهو القادر على الأعادة" ثم يقول: "قل لهم يا محمد، سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، انظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم، كيف أهلكهم لتعلموا بذلك كمال قدرته"(13).
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري - رحمه الله - تعالى -: "يقول الله - تعالى - ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: (سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله الأشياء، وكيف أنشأها وأحدثها، وكما أوجدها وأحدثها ابتداء فلم يتعذر عليه إحداثها مبدئاً فكذلك لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً...)"(14).
فمن خلال أقوال العلماء السابقة يتبين لنا الملاحظات التالية:
1- أن المخاطبين بهذه الآيات هم الملحدون بآيات الله والمنكرون للبعث بعد الموت، والخطاب دعوة للتفكير بمخلوقات الله الدالة على قدرته والاعتبار بالعاقبة كقوله - تعالى -: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين 69 {النمل: 69}. والآيات في لفت النظر إلى هلاك الأمم الكافرة والمكذبين بآيات الله كثيرة. قال - تعالى -: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 137 {آل عمران: 137}.
وقال - تعالى -: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين 42 {الروم: 42}.
فالآيات الكريمة توجه أنظار الخلق ليعتبروا بما آلت إليه الأمم الكافرة بعد قوة ومنعة، ثم دمر الله عليهم ديارهم فما ترى إلا آثارهم. قال - تعالى -: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى" عنهم ما كانوا يكسبون 82 {غافر: 82}.(36/33)
2- إن المخاطبين بالآية التي استشهد بها جودت سعيد من سورة العنكبوت، هم المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم ، هذا ولم يصلنا أن النبي ترك المدينة وصار يبحث في الوديان أو البحار منقباً عن الآثار، ولم يقم بذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يعلمهم كل جزء من أمور دينهم مهما كان صغيراً، كما أننا لم نسمع أن أحداً من علماء المسلمين، فسر هذه الآية بالمعنى الذي ابتدعه جودت سعيد، فهل نأخذ بقوله، أم بقول هؤلاء؟! "(15).
وجودت سعيد قد لا يقف على الكتاب والسنة، انظر إلى قوله: "إن دلالة الكتاب أي القرآن يمكن أن تلغى إلغاء تاماً وكأنها غير موجودة، والذي سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر، وحوادث التاريخ، أي أن الذي سيعلمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ، فهي التي ستعلمنا، والمثل على ذلك: قل سيروا في الأرض 69 {النمل: 69}"(16).
تبني نظريات علم الاجتماع الوضعي:
وهي من مصادر المعرفة، التي استلهمها الشيخ جودت سعيد وتلاميذه، وقد ظهر هذا المصطلح خلال كتابات (أوجست كانت)، الذي ينسب إليه إنشاء علم الاجتماع الوضعي - المادي - في أوربا.
وهو عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي، عاش ما بين (1798 و 1857)، ويعتبر مؤسس الفلسفة الوضعية.
وسوف نلاحظ مدى التطابق بين أفكار جودت سعيد، وأفكار (كانت).
(فكانت) يؤكد على فكرة (مراحل التاريخ)، أو مفهوم التغيير الاجتماعي.
ويقسم الحياة البشرية إلى مراحل محددة، وأطلق على المرحلة التي عاش فيها الأنبياء، مرحلة الطفولة، تشبيهاً لها بأوصاف الأطفال الذين لم يبلغوا مرحلة الشباب والرشد(17).
وقد تبنى جودت سعيد معظم هذه الآراء، واعتمد على فكرة مراحل التاريخ، في تقرير أفكاره، كما جاء في مقدمة كتابه: (حتى يغيروا ما بأنفسهم)(18).
فهو يدعو إلى الاحتكام إلى التاريخ، باعتباره يمثل مصدر (العلم والمعرفة).
ولم ينسب جودت هذه الأفكار لأصحابها من علماء الاجتماع الوضعيين في الغرب، وإنما طرحها وكأنها من اخترعه وابتداعه، بينما هو يستمدها من هؤلاء جاهزة مرتبة، لا يعنيه من ذلك إلا إضفاء الصبغة الإسلامية عليها، بإضافة بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وقد يختار أحياناً كلمات من التوراة والإنجيل، وأحياناً يعرض أفكار (زرادشت)، ويظهر أنه لا فرق عنده!!
وقد تأثر الشيخ (جودت) بهذه الأفكار تأثراً شديداً ولم يعد يعنيه إلا بث هذه الأفكار، بأي أسلوب كان(19).
يقول جودت سعيد: "إن العقل يمكن أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشاكل، إما أن يفرض فيها، أنها تخضع لقوانين، وإما أنها لا تخضع لقوانين، أولا يمكن كشف قوانينها"(20).
وقد طرح (كانت) أفكاره الوضعية، بنفس الأسلوب الذي صار يعتمده (جودت سعيد)، وذلك في قوله: "الطريقة الوضعية تقوم على الإيمان بأن الظواهر خاضعة لقوانين، والطريقة الدينية تقوم على الاعتقاد بأنها غير خاضعة لقوانين".
ويختار جودت هذه الأفكار المنحرفة، وينقلها بأسلوب غامض، لتكون ملائمة لأوضاع التخلف العلمي في ديار المسلمين - كما يزعم -، ويدعي أن المسلمين لا يأخذون بالأسباب ولا البحث عن العلل التي تسير من خلالها الأشياء، وهذا الأمر إن وجد بين المسلمين، فهو يقوم عند بعض الطوائف التي لا تتبنى المنهج الإسلامي... "(21).
وجودت سعيد، يعتبر أن المرحلة المادية الحالية، هي مرحلة الرشد والنضج، وكذلك تلميذه خالص جلبي، الذي يردد أقوال شيخه (جودت سعيد)، ويتابع أقوال قدوتهم (أوغست كانت).
يقول الجلبي: (بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش، والوحوش تطارده، يأكلها وتفترسه، يعيش على الصيد وجمع الثمار... ثم كانت الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان، تحرر الإنسان دفعة واحدة من الموت جوعاً، فسيطر على إنتاج غذائه، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة، وإلى انبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه، على ما أشار إليه عالم الاجتماع (دركايم) في كتابه: (تقسيم العمل)(22).
فالتطور بهذا الشكل، ينبع من نظريات علماء الاجتماع الغربيين ومن وحي نظرية دارون التي تناقض الأديان السماوية، وقد كفرت الكنيسة دارون ابتداء، وقالت عنه: إنه زنديق مارق من الدين، لأنه ينفي الخلق المباشر من الله للإنسان)(23).
ومن الملاحظ أن تقسيمات التاريخ عند أصحاب المدرسة الوضعية، هي تقسيمات جاهلية ظنية، تهمل تاريخ النبوات وأثرها على حياة البشرية، لأن النظر الشرعي، يقتضي تقسيم تاريخ البشرية بحسب موقفها من الرسل إلى قسمين:
1- المؤمنون: الذين استجابوا للرسل، وأفردوا الله بالعبادة وأخلصوا له التوحيد، وأقاموا حضارتهم على هذا المنهج. ولهؤلاء ولتاريخهم سمات وخصائص، يجب ملاحظتها، وأخذها بعين الاعتبار عند تقسيم العصور التاريخية.
2- الكفار: الذين كذبوا الرسل، وأشركوا مع الله غيره فهؤلاء أقاموا تاريخهم وحضارتهم على هذا المنهج الكفري، ويشترك تاريخهم في سمات وخصائص نابعة من منهجهم ونظرتهم للكون والحياة(24).(36/34)
فالتاريخ الإسلامي يقول: "إن توحيد الله هو الأصل في حياة البشر، والشرك طارئ عليهم، وتعرفنا على تاريخ آدم - عليه السلام - وذريته إلى عهد نوح - عليه السلام -، يبين لنا أن البشرية كانت على التوحيد، ولا تعرف الشرك أبداً، وأول ما ظهر الشرك كان في القوم الذين بعث إليهم نوح - عليه السلام -"(25).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"(26).
فمصادر المعرفة عند أتباع المدرسة المادية، تضاد مصادر المعرفة عند أهل السنة والجماعة، وتعتمد على فلاسفة وعلماء عرف عنهم الإلحاد حتى في ديارهم، كداروين وأوغست كانت، وماركس، ولينين وكذا الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين، كما سيأتي بيانه.
الإعجاب بما توصلت إليه الماركسية من نتائج:
يكاد المسلم لا تنقضي دهشته من موقف الشيخ جودت سعيد وأتباعه، من حيث الإعجاب بالماركسية، وما توصلت إليه، مع أن الإنسان العادي بات يعرف ما تدعو إليه الماركسية من كفر وإلحاد.
وها هي الماركسية قد تمزقت في ديارها وظهر عوارها في جميع الميادين السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
فجودت سعيد وخالص جلبي، لا يخفيان الإعجاب بالمنهج المادي وخصائصه حتى اليوم.
يقول الشيخ جودت سعيد، عندما تعرض لتفسير آية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم 11 {الرعد: 11}، "والفكر الماركسي، لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مائة عام إنما كان في تبنيهم لهذه الفكرة وإدراكهم لها"(26).
فالشيخ جودت يشهد هنا للكفر الماركسي بالأصالة، ويصفه بالقدرة والتماسك، وكأنه يشعر الناس بأن مصدر الفكر الماركسي، ينهل من كتاب الله - تعالى -.
والأغرب من كل ذلك أن جودت سعيد، ما زال يدعو الشباب المسلم إلى هذا الفكر، ليقوم بعملية التغيير انطلاقاً من المبدأ الماركسي، حيث يقول: "وكذلك إذا تذكرنا أنه علينا أن لا نبخس الناس أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب الصواب في النظرية الماركسية، لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفضنا جانب الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم، لا نكون مصيبين"(27).
فالشيخ جودت يقرر هنا، أن النظرية الماركسية، تحوي صواباً يجب على المسلمين أن يأخذوا به!!
وماذا في هذا المنهج المناقض للفطرة البشرية، وقد سقط غير مأسوف عليه؟!!
ومن الملاحظ أن أصحاب هذه المدرسة المادية يسايرون النظريات الشيوعية في أهم مبادئها المادية وهي: الديالكتيكية، والمادية التاريخية.
يقول ستالين في كتابه: (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية): "تقوم المادية الفلسفية على مبدأ آخر، هو أن المادة والطبيعة والكائن الحي، هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك، أو الشعور، بصورة مستقلة عنه، وأن الفكر هو نتاج المادة".
وها هو جودت سعيد يقرر هذا المفهوم المادي، كما أخذ به الماركسيون بالضبط، فهو يقول: "الوجود الخارجي - أي المادي - هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للنقصان"(28).
وقد مر معنا قول خالص جلبي مؤكداً هذا المعنى عندما يقول: "إن فكرة: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق 20 {العنكبوت: 20}. تعني أن الأمر هنا هو السير في الأرض، حيث تتحول الأرض والواقع إلى شواهد كتاب ينطق بحقائق لا توجد إلا فيه، فالأمر هنا هو السير في الأرض، وليس السير في الكتاب (أي القرآن) أي قراءة الواقع وليس قراءة النصوص، والظن بأن الاستغناء بالكتاب عن الواقع، هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة مروعة"(29).
فالواقع الخارجي هو الأساس لدى أصحاب هذه المدرسة، وليس النصوص الشرعية من قرآن كريم أو سنة نبوية.
ويساير أصحاب النظرة المادية الماركسيين في المادية التاريخية، فقد تابعهم جودت سعيد خلال دراسة لتاريخ المجتمعات، ومن ثم فقد اهتم بالتاريخ وجعله مصدراً من مصادر المعرفة الأساسية، وأصبح يقدمه على دلالة آيات الكتاب، كما جاء في قوله: ".... إن الذي سيعلمنا ليس القرآن وإنما حوادث التاريخ، والكون، فهي التي ستعلمنا"(30).
قوانين سير المجتمع: (31)
هنا يحاول جودت سعيد إبراز جوانب أخرى من النظرية الماركسية، باكتشافهم لقوانين سير المجتمع فيقول: "وكذلك الأمر الآن في النظرية الماركسية، من إثبات سنن الاجتماع، فإذا اهتدوا إلى سنن وآيات في سير المجتمعات، فإن ذلك لا علاقة له بنفي الإيمان... فعلينا أن نتأمل السنن التي يستخدمونها في تسخير المجتمع لهدفهم الذي اتخذوه ونكون في هذه الحالة قد حصل لنا المناعة التي نحن في حاجة إليها"(32).(36/35)
وعموماً فإن الشيخ جودت سعيد، لا يخفي رأيه في موضوع علم الاجتماع الغربي، حيث يجعل مؤلفاته كلها مرتعاً خصباً لتلك الأفكار، وينطلق في ذلك من قدرة الإنسان على إحداث التغيير، ومعرفة سنن التغيير، وهو يعترف صراحة أن هذه السنن هي من اكتشاف الماركسيين والعالم الغربي بشكل عام، حيث يقول: "أما الكشف العلمي بأن هذه السنن تخضع لسلطان الإنسان، بشكل من الأشكال، فقد تنبه إليه في العصر الحديث إنسان محور (واشنطن - موسكو)، قبل غيره"(33).
لقد تناسى جودت سعيد مآسي الشيوعية في البلاد التي خضعت لمظالمها، ولعل الشيخ قد سمع من آبائه وأجداده ما عانوه من الماركسيين قبل هربهم من سطوة الإرهاب الشيوعي الأحمر.
وعموماً فقد حذر علماء المسلمين من اتباع مناهج أهل الضلال وطرقهم المظلة "ذلك أن النظر في كتب الإلحاد والكفر، والفسق والفجور، مخالف لطريق أهل الاستقامة، حيث كانوا ينهون أشد النهي عن النظر فيها للقراءة المجردة، لما تحتويه من الشبهات والكفريات، والاستهزاء بالدين وأهله، فكل هذا لا يجوز النظر فيه إلا لعالم متمكن، بقصد الرد على باطلها، والتحذير منها"(34).
فما بالك بمن تبنى تلك الآراء الضالة، مشيداً بأصحابها، ويسعى جاهداً لنقل ذلك الغثاء إلى ديار المسلمين؟! فللمنهج أهمية كبيرة في مجالات التربية وميادين التغيير، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشدد مع أصحابه في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية.
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواعظ من التوراة، وقال: هذه كنت أصبتها مع رجل من أهل الكتاب. قال: "فاعرضها علي، فعرضتها فتغير وجهه تغيراً شديداً، ثم قال: "لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم"(35).
ذلك أن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية... كما تحمل الشك في كفاية نهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء.. كما أن أهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها... "(35).
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- ينظر تفصيل ذلك: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ص: (5-6)، الطبعة الثانية.
2- كتاب (اقرأ وربك الأكرم) للشيخ جودت سعيد، ص: (55).
3- جريدة الرياض العدد (10188) في 16-5-1996م.
4- مذاهب فكرية معاصرة: الأستاذ محمد قطب، ص: (96-98).
5-6- ينظر النزعة المادية في العالم الإسلامي: الأستاذ عادل التل، ص: (185، 219).
7- جريدة الرياض العدد: (10405) في 9-8-1417ه.
8- ملحق الرسالة في جريدة المدينة في مقابلة مع جلبي ابتداء في 28-8-1423ه.
9- كتاب اقرأ وربك الأكرم ص: (153-154) دار الفكر المعاصر-بيروت.
10- ندوة تلفزيونية في دمشق؛ بالاشتراك مع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
11- ندوة السويداء في شريط مسجل، بصوت جودت سعيد خلال الندوة، نقلاً عن الأستاذ عادل التل في كتابه: (النزعة المادية)، ص: (214-215).
12- مشكاة المصابيح، حديث (5737)، رواه الإمام أحمد، وصححه الشيخ الألباني.
13- تفسير القرطبي، ج(13-336).
14- تفسير القرطبي، ج(20-138).
15- النزعة المادية في العالم الإسلامي-عادل التل، ص: (192-193) بتصرف يسير.
16-رسالة انظروا، رقم (40)، ص(8)، جودت سعيد.
17- ينظر: النزعة المادية في العالم الإسلامي: للأستاذ عادل التل، ص: (78-83).
18- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، دار الفكر المعاصر، بيروت- 1414ه.
19- النزعة المادية لعادل التل، ص: (81).
20- حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص: (31).
21- النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (82)، عادل التل.
22- جدلية القوة والفكر والتاريخ: خالص جلبي، ص: (161)، بيروت ودمشق، 1420ه، ودركايم عالم اجتماع يهودي معروف.
23- مذاهب فكرية معاصرة، الأستاذ محمد قطب، ص: (95).
24- 25- المدخل إلى علم التاريخ: د. محمد بن صامل السلمي، ص: (45-46)، وص: (26).
26- اقرأ وربك الأكرم: جودت سعيد، ص: (219).
27- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، ص: (107)، طبعة 1993م.
28- اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص: (55).
29- جريدة الرياض، العدد (10188) في 16-5-1996م.
30- رسالة انظروا رقم (40) اللغة والواقع، ص: (8).
31- ينظر النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (94).
32- حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص: (109).
33- المرجع السابق، ص: (52).
34- فاستقم كما أمرت: الشيخ عبدالعزيز الجليل، ص: (335).
35- أخرجه أحمد في المسند، ج(3-471)، والدارمي والبيهقي في الشعب ومجمع الزاوئد: (1-173)، وقال الشيخ الألباني بعد أن استقصى طرق الحديث: هو على أقل تقدير حديث حسن، انظر: إرواء الغليل: ج(6)، ص: (34-37).
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
=============(36/36)
(36/37)
تهافت العصرانيين ...
الشيخ محمد العبدة
إذا كان الإسلام ـ وهو دين محفوظ ـ يتسم بالسماحة والاعتدال والوسطية (والوسطية هنا مثل رأس المثلث، أي هو الأعلى)، فهل هو واسع إلى درجة أن يخوض فيه كل خائض، ليهدم أصوله ولكن عن طريق قطع فروعه؟ أليس للإسلام ثوابت وقواعد، وله أركان وواجبات، فهل تتغيَّر هذه بتغير الزمان أو المكان؟
إنَّ كلمة (عصرانية) تعبير دقيقة عن اتجاه يوجد في كل زمان، فهكذا النفوس البشرية، وهكذا الأهواء، اتجاه لا يريد التنصل من الدين كلية، ولكن يحرِّف الدين ويلتف حول النصوص ليكون متلائماً مع العصر حسب زعمه.
فإذا كان العصر لا يقبل ذكر المعجزات المادية التي وقعت للأنبياء أو للصالحين في هذه الأمة؛ فلا مانع عند العصرانيين من إنكارها أو تأويلها تأويلاً غير مستساغ. وإذا كان العصر يدندن حول مساواة المرأة للرجل في كل شيء (وهو شيء يخالف أصل الخلقة)؛ فلا مانع عند هؤلاء من تحريف النصوص أو إنكارها، وإذا كانت إقامة الحدود لا تعجب أعداء الإسلام، فالعصرانيون يرددون نعم، الحدود كانت مناسبة لبيئة معينة في القديم، والآن غير مناسبة لهذا العصر.. لماذا لا يتسم العصرانيون بالشجاعة الكافية ويعلنون عن نواياهم التي هي إنقاص الإسلام من أطرافه، فتراهم يحومون مثلاً حول الصحابة بشيء من الغمز واللمز ولا يصرحون أو حول العقيدة لتتسع لكل ضال منحرف؟
فهم ـ كما قال ابن تيمية عن المعتزلة ـ يقولون بقول الخوارج في تكفير أهل الذنوب والكبائر من المسلمين، ولكنهم لم يصرحوا بهذا، وقالوا: إنهم في منزلة بين المنزلتين، ولكنهم مخلَّدون في النار، فوصلوا إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها الخوارج، ونعوذ بالله من الضلال.
إنَّ أعداء الإسلام يستغلون هذه الانهزامية عند العصرانيين، فتراهم في هجوم دائم على الإسلام واتهامه بشتى التهم في التشدد والتزمت والأصولية و.... الخ، ويكون الرد عند العصرانيين هو الانسحاب في كل مرة والتنصل عن بعض ثوابت الإسلام.
إنَّ الإنسان في أصل فطرته ودوافعه وحاجاته لا يتغيَّر، وقد ذكر القرآن صفات متأصلة في الإنسان:
( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى).
( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ).
( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا).
(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
والذي خلق الإنسان هو الذي شرع له هذه الأحكام ليصلح له دنياه وآخرته، والاستجابة لضغوط أعداء الإسلام والمستهترين بالرسالات السماوية هو من أسباب البلاء، وهو داء قديم تعرضت له الأديان السابقة، ولكن الله - سبحانه وتعالى- حفظ هذا الدين قرآناً وسنة، فلم يستطع التحريف النيل منهما، ولا أبالغ إذا قلت أنه ليس أضرَّ على الدين بعد الشرك والوثنية من هذه البدعة.
19-05-2004
http://www. r assid.com المصدر:
===============(36/38)
(36/39)
ماذا قال الدكتور عبد الرحمن بدوي عن شيخ العصرانية في مصر ؟!
سليمان بن صالح الخراشي
يتميز الدكتور والمفكر الراحل عبد الرحمن بدوي - رغم التحفظات على فكره - بميزة لا تجده عند كثير إن لم يكن كل المفكرين المعاصرين؛ وهي صراحته ووضوحه وجهره برأيه الحقيقي في شخصيات عصره، دون مجاملة لأحد منهم. ومن يطالع مذكراته التي نشرها بعنوان (سيرة حياتي) يتيقن هذا.
وهذه الميزة قد لا تكون من صالح الدكتور بدوي؛ لأنها أفقدته كثيرا من أهل عصره، الذين نفروا منه لأجلها، وتجانبوه. ولكنها مفيدة ونافعة لمن أراد معرفة الأمور على حقيقتها أو رؤية الجانب الآخر فيها دون تزويق أو تلميع.
ومن ذلك ما ذكره الدكتور بدوي في سيرته عن شيخ العصرنة المسمى زورًا بالإمام!! محمد عبده، وهو من الشخصيات التي صنعت على عين الاستعمار الإنجليزي، ثم نفخ فيها العلمانيون المستغربون لحاجة في نفوسهم،وقد بين هذا بالحقائق كثير من الشرفاء الذين ينفذون إلى حقائق الأمور، ولا يكتفون بقشورها الزائفة.
وقد أحببت أن يطلع القارئ على هذا الرأي:
يقول الدكتور بدوي (1/ 51) بعد أن ذكر شيئا من خبث اللورد كرومر الحاكم الإنجليزي لمصر أثناء الاحتلال: (فهل يجوز بعد هذا لأي مصري - مهما كان حظه من الوطنية ضئيلاً - أن يصادق مثل هذا الرجل؟ لكن هذا هو ما فعله الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية، و"المصلح الديني" المزعوم! فقد انعقدت بينه وبين لورد كرومر علاقة حميمة - إن صحَّ أن توصف بالحميمة - علاقة التابع بالمتبوع، والذليل بالجبار، والمطيع الخاضع بالآمر المستكبر. بل كان محمد عبده هو نفسه يتفاخر ويتباهى بهذه العلاقة الوثيقة بينهما، وبينه وبين سلطة الاحتلال، كما ورد في رسالة منه إلى رشيد رضا لما أن خاف هذا الأخير من أن يعتقله الإنجليز (راجع رسائل محمد عبده إلى رشيد رضا في "تاريخ الإمام محمد عبده" للشيخ رشيد رضا).
وقد استغلَّ كرومر علاقته هذه بمحمد عبده فجعله يكتب مقالات ضد محمد علي، رأس الأسرة العلوية، بمناسبة مرور مائة عام على توليه حكم مصر، وذلك في سنة 1905، وكان ذلك قبيل وفاة محمد عبده بقليل (راجعها في الكتاب المذكور).
ومع ذلك كان -وظل حتى اليوم - لمحمد عبده أنصار ومعجبون وممجّدون مغالون!! وإذا سألتهم: ماذا يعجبكم فيه: أهذا التواطؤ على طاغية الاستعمار البريطاني في مصر؟ لم يجدوا جواباً؛ لأن الوقائع تدفعهم، بل لاذوا بدعوى "الإصلاح الديني" وزعموا أنه كان "مصلحاً دينياً". فنسألهم: أي إصلاح ديني قام به؟ لم يستطيعوا أن يذكروا إلا تفاهات شكلية، مثل تحليل لبس القبعة - وكأن هذا أمرٌ خطير جداً به يكون المرء "مصلحاً دينياً" كبيراً!
وهكذا الأمر في كثير من أمر الشهرة في مصر والبلاد العربية والإسلامية! لقب يطلقه مخدوع أو خادع، فيتردد بين الناس في عصره، وينتقل من جيل إلى جيل، ولا أحد يتحقق من صواب إطلاق هذا اللقب وخلع هذه الشهرة!
ولو كان لمحمد عبده من الإنتاج الفكري ما يشفع له في نيل هذا اللقب، لا تسع وجه العُذر. ولكنه كان ضئيل الإنتاج جداً، إذ ليس له إلا كتاب صغير هو "رسالة التوحيد" - وهي دروس ألقاها في بيروت بعد خروجه من مصر، وهي متن في علم التوحيد واضح العبارة، حسن الأسلوب، لكنه من حيث المادة خجل بسيط لا يفيد إلا المبتدئين في هذا العلم. وما عدا هذه "الرسالة"، ليس له إلا تعليقات لغوية بسيطة على "مقامات" البديع الهمذاني و"البصائر النصيرية للساوي" و"نهج البلاغة" المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب"). انتهى كلام بدوي.
قلت: ومن يطالع رسالة التوحيد لمحمد عبده التي اغتر بها عبد الرحمن بدوي يعلم أنها - أيضا - ليست إصلاحا حقيقيا! لأنها قائمة على تقرير توحيد الربوبية الذي لم ينكره المشركون!! وقائمة على المذهب الماتريدي والأشعري في قضية الصفات وغيرها، وجهل بمذهب السلف حيث ظنه التفويض، إضافة إلى تعظيم العقل على حساب الوحي؛ مما جعل بعض علماء الشيعة يثنون عليها! (انظر الصفحات: 33، 62، 66، 72، 202، 246، 248 من طبعة بسام الجابي).
http://saaid. net المصدر:
============(36/40)
(36/41)
بيان حال طائفة العصرانيين الضالة عقيدة ومنهجاً وفقهاً
علي بن خضير الخضير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد ظهر في الآونة الأخيرة تيار ونابتة جديدة يسموَن بالعصرانيين، وهؤلاء في باب التوحيد من غلاة المرجئة، لأن التوحيد عندهم الكلمة، من قال: لا إله إلا الله بلسانه فهذا يكفي، فهم كرامية هذا العصر ولا كرامة لهم.
ولهم عقائد ومناهج و أصول في العقيدة والفقه هي:
1 ـ ففي باب التوحيد والإيمان من غلاة المرجئة (كرامية ) ويضاف إلى ذلك التميّع والانهزامية فيهما.
2ـ السعي إلى إلغاء باب الكفر بالطاغوت وباب المرتد من كتب الفقه، وإلغاء باب التكفير بحق وتسمية ذلك تطرف وغلو، وخارجية وحرورية وتيار تكفيري.
3ـ إلغاء باب الجهاد وتسميته تطرف وغلو، واستبداله بالجهاد السياسي الهش على الطريقة العلمانية.
4ـ في باب المصدر والتلقي، فهم معتزلة يقدمون العقل على النقل، وزادوا على المعتزلة القدماء بالسير على ما يسمى بالمنهج التجريبي وهو أن الأصل الشك في كل شيء حتى المسلمات العقدية إلى أن تثبت، وزادوا على المعتزلة تقديم الهوى ومتطلبات العصر الحديث على النص.
5ـ وفي باب الفقه تتبع الرخص، والأخذ بأسهل ما قيل وأنسب وأخف ما قيل بحيث يركبون من ذلك فقهاً جديداً ويميلون فقهياً إلى أن يوافق الأطروحات العلمانية وما يوافق النظام العالمي الجديد، وما يوافق الأهواء، وتسمية ذلك فقه تيسير؛ خصوصاً قضايا المرأة والحكم والسياسة وما يُسمونه بالفن والغناء والتمثيل وما يتعلق بالحرية، والتصوير، والأزياء واللباس، وطريقتهم في ذلك استعراض خلاف العلماء، وكل قول قيل، وكل شاردة وواردة وكل هفوة وزلة، فما وافق الوقت والعصر فهو الراجح فهذه أسباب الترجيح عندهم، وهذا أصل مبتدع في هذا الباب، ومن باب المكر والحيلة فبدل أن يقولوا هذا يوافق العصر والهوى يجعلون لافتة لهم للوقاية من الشناعة والذم فيقولون: قال به العالم الفلاني.
6 ـ موقفهم من الإجماع التشكيك والرد، لأنه عائق في بعض القضايا المهمة عندهم.
7ـ موقفهم من الاجتهاد فتحه على مصراعيه لكل من هب ودب، واتخاذه ذريعة رسمية لكي يقولوا ما يناسبهم باسم الاجتهاد.
8ـ موقفهم من الصحابة والسلف عموماً التحقير والازدراء.
9ـ موقفهم من التاريخ الإسلامي تناوله بحقد وتشويه ودس، والاهتمام بما شجر بين الصحابة واستغلال ذلك للتشويه بهم، باسم التصحيح والتبيين والحوار.
10ـ موقفهم من أي دولة إسلامية ترفع شعار الإسلام الصحيح وتطبق الشريعة تطبيقا صادقاً، موقفهم موقف العداء كموقف العلمانيين وكموقف الغرب التشويه والتشنيع والاتهام بالغلو والتطرف والاستعجال.
11ـ من أصولهم محاولة تعويد الناس على الخلاف وإطلاع العامة على ذلك لكي لا ينبذهم الناس ويرفضونهم وإنما يتسترون خلف لافتة أن المسألة فيها خلاف فلماذا التشدد والمعارضة؟.
12ـ موقفهم من العلماء وطلبة العلم مختلف حسب مصالحهم، فالعلماء وطلبة العلم عندهم ثلاثة أقسام:
أ ـ قسم يحاولون إسقاطهم وتشويه سمعتهم وذلك عبر ثلاث مراحل المرحلة الأولى محاولة إلصاق تهمة أنهم يكفرون الحكام، فإذا لم تنجح هذه المرحلة انتقلوا إلى المرحلة الثانية وهو اتهامهم بأنهم يكفرون العلماء وقد تقتضي المرحلة أن يُعيّنوا علماء مشهورين لإتمام قوة الإسقاط، فإذا لم تنجح هذه المرحلة انتقلوا إلى مرحلة اتهامهم بأنهم يكفرون المجتمعات وعموم الناس وهذا آخر سهم في هذا الباب، وبالطبع يحاولون اصطياد كلمات من المتشابه والكلام العام لهؤلاء العلماء المراد إسقاطهم أو حمّال الأوجه للتدليل على صدق الاتهام.
ب ـ القسم الثاني علماء لهم اجتهادات واختيارات لكن لم يُراعوا فيها السياسة الشرعية، فهؤلاء يحاول العصرانيون اجتذابهم وتبنيهم لأن هذه الاختيارات تخدم مذهبهم.
ج ـ القسم الثالث يعتبرونهم حياديين بالنسبة لهم، لا لهم ولا عليهم فهؤلاء إن كانوا من المشهورين اهتموا بحيادهم وفرحوا به، لأن المرحلة تقتضي تقليل الجبهات، وإن كانوا ليسوا من المشهورين فيتركونهم.
13ـ موقفهم من الصحوة محاولة تمييعها وتشتيتها وتهيئتها لتقبل الواقع والتنازلات.
14ـ موقفهم من المرتدين و أهل البدع مهزوز، فيميلون إلى التعاطف معهم والدفاع عنهم وعن رموزهم، والتعاطف مع الأقليات المنحرفة.
15ـ رفع شعار الحرية والحوار لكن بغير الضوابط الشرعية.
16ـ موقفهم من الشعائر الدينية والأركان الخمسة أما بالنسبة للتوحيد فقد سبق.
أ ـ أما الصلاة فيميلون إلى التسهيل فيها حسب الإمكان والمتاح من الأقوال التيسيرية، فصلاة الجماعة في المسجد سنة ويجوز إمامة المرأة للرجال، ويجوز الجمع مطلقاً، وتارك الصلاة مطلقاً ولو مدى الحياة لا يكفر.
ب ـ الزكاة وهى الشعيرة الوحيدة التي يميلون إلى التشدد فيها على خلاف بينهم أيضاً، لأن الذي يناسب المعنيين والمتنفذين اليوم مع التدهور الاقتصادي الإكثار في جبي الأموال، وتوسيع الأموال الزكوية لهم ، مع أن بعضهم أكثر تعاطفاً مع الناس فيميل إلى التقليل من ذلك.(36/42)
ج ـ الحج ولهم منسك عجيب فيه قائم على تقصد الترخص، فالوقوف في عرفة ومزدلفة يكفي فيه لحظات ودقائق وحط الرحل، ويجوز تقديم الهدي قبل عرفة ويجوز الذبح بغير بهيمة الأنعام، والرمي للجمرات على مدار أربع وعشرين ساعة, وليس بواجب لأنه من الشعائر الخاصة بإبراهيم - عليه السلام -، ويجوز تقديم طواف الإفاضة قبل عرفة قياساً على تقديم المفرد والقارن للسعي، والرمي صباح يوم الثاني عشر ثم التوكيل في بقية الحج، وهذا المنسك قابل للتطوير نحو تيسير أكثر إذا تم اكتشاف قول شاذ في المستقبل.
د ـ في الصيام أيضاً تقصد للترخصات.
17 ـ أما في المعاملات المالية فيميلون إلى تحديث وتطوير كتاب البيوع والمعاملات المالية الأخرى إلى الإباحية فيها بما يوافق النظم المالية المعاصرة وبما يوافق مصالح البنوك المعاصرة، والنظم العالمية الجديدة.
18ـ أما ما يُسمى بالأحوال الشخصية من النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك فنحو مزيد من التيسير والترخص، إلا في الطلاق فإنهم يميلون إلى التضييق على الزوج في استخدام هذا الحق ومحاولة نزعه منه أو بعضه وجعله في يد الزوجة أو القاضي موافقة لأسيادهم الغربيين، أما الإرث فلازالوا حتى الآن لم يجرؤ على ما يقوله العلمانيون من المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث وإنهم منه قرب قوسين أو أدنى.
والخلاصة أنهم اتخذوا دينهم لعباً.
هذه هي أُصولهم وقد يستحدثون أُصولاً أُخرى لأنهم لازالوا في طور التكوين وعمرهم الزمني لا يتجاوز سنوات وقد ساهمت بعض الصحف والمنتديات الصريحة أو المنتديات التي تدعي الصدق ورفع شعار الإسلام والفضائيات في نشر مذهبهم، ولهم قيادات عالمية وإقليمية ومحلية في كل مكان فيه صحوة قوية وقد كثّر سوادهم في السنوات الأخيرة المنهزمون والمتميعون من الإسلاميين.
طريقتهم في الدعوة إلى مذهبهم مع المبتديين:
1 ـ ويبدؤون مع المبتدئ بتعويده على الخلاف وتشكيكه في كل قول فقهي وأن المسألة فيها خلاف.
2 ـ وتعويده على الانهزامية والنقاش في المسلمات كخطوة أُولى لتعويده على ما يسمى بالمنهج التجريبي.
3 ـ ودفع صغارهم ( وكلهم صغار ) ومتوسطيهم إلى الكتابة في الصحف أو المنتديات التي ترحب بهم بجرأة في الموضوعات الخطرة وتوريطهم بها حتى يصعب عليه الرجوع فيما بعد ويصبح هو طرفاً وحلقة من التيار وهو خياره الوحيد.
4 ـ الاهتمام بالمناطق والأماكن التي فيها انفتاح أكثر لأنها هي البيئة التي يصطادون فيها، وينبت فيها غرسهم القبيح ـ قبحهم الله وأخزاهم ـ.
5 ـ الاهتمام بأنصاف طلبة العلم والدعاة أو الذين كان لهم تاريخ إسلامي مشرق ثم انحرفوا عنه إما هوى وشهوة أو بدعوى الاجتهاد، فيهتمون بهؤلاء لأنهم هم الذين يمكن إقناعهم والبداءة بهم، ولكي يجعلوهم رأس حربة لهم ولآفته يمكن خداع الناس بهم.
ذكرنا ذلك وقلناه تحذيراً للناس منهم وبراءة للذمة ومجاهدة لهم بقدر الاستطاعة نسأل الله الإعانة والتوفيق .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
http://www.alkhode صلى الله عليه وسلم com المصدر :
=============(36/43)
(36/44)
العصرانيو ن و ضرورة الحجر عليهم
بقلم/ أبي عبدالعزيز النجدي-بريدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول رب العالمين ..
أما بعد ..
ففي ظل إلحاح أبله وتعد مستغرب على التخصص من قبل من يدعي التعقل والفهم وإنزال الأمور منازلها على فصول لا يعقلها .. إنها لمصائب تترى .. وانه لفضول ممجوج .. إن احترام الذات ووضعها على الوجهة المطلوبة شرعا وعقلا لأمر يحمد عليه صاحبه ..
والرسالة الموجهة إلى هؤلاء لا تعني طرح راجح في خلاف محسوم شرعا .. بقدر ما تعني في لبها ذلك التعدي الأهوج على تخصص الآخرين .. إذ ليس من المعقول أن يسمح لكل أحد أن يبحث في أمور هي ليست لكل أحد .. وليس من الحق أن يُساق استفسار في قضايا حساسة يخُاض غمارها عن جهل واضح ..
ما كان لهؤلاء إلا أن يذعنوا لرأي الموقعين عن رب العالمين ..
أسفي على أولئك ونحن نعرفهم بأساليبهم وفكرهم المتحرر عن ثوابت الدين تحت ضغط الواقع أو الشهرة أو الهوى أو الجهل ، أن ينتهوا حيث انتهى سلفهم .. إذ ليسو هم اعلم ولا افقه ولا أدرى ببواطن الأمور و ظواهرها من سلفنا .
وأسفي أن يتولى أحدهم قضية يصوغها بأسلوب عار تماما عن أساليب البحث العلمي .. والذي كان من السهل عليه أن يدعها إلى من هو افقه واعلم منه ، بادعاءات مضللة وحجج واهية تحت راية الأخذ بالدليل وحرية الرأي والفكر ..
إن المشروع الإسلامي في نقد الضلالات وتمييز الخبيث من الطيب يحتم علينا جميعا أن نكون على قدر من المسؤلية من جهة التبيين والإيضاح ، ومن جهة الوقوف أمام زحف الجهلة .. و إلزام النفس ما ليس لها بلازم من قبل هؤلاء جدير أن يسقط جميع المشاريع الإسلامية .
والمطلوب من قبل فئة متطفلة على العلم و أهله أن تكون على قدر حسن من المتابعة لأوامر الدين وخوف من رب العالمين و إحسان التصرف مع النصوص الشرعية وسؤال العلماء عن المشكلات والرجوع إلى بيان أهل العلم الموثوقين من المتقدمين والمتأخرين .
إذ ليس من المعقول ولا من المنقول أن يصادر عقل المسلم بأساليب ناشزة هي عبارة عن تهويشات
وتلميحات عن طريق الحشد الخاطئ لبعض المصطلحات غير المرعية شرعا ولا عقلا ..
إنها ظلمة نتجرع غصص أزمتها حينا بعد حين ..
إن الرزية كل الرزية يا أحبتي أن اعنيَ بحديثي هذا فئة محسوبة على الدين و أهله ..
والواقع المشهود يلاحظ ظهور نبتة سيئة رديئة تصوغ الفساد على أنه الدين .. بسلوكها طريق أهوج من خلال مواقع إعلامية تافهة مشبوهة . إنها لهزيمة مشهودة ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) .
والمواجهة ضد طغمة إنزال الفساد بقالب الدين ضرورة قصوى ..وإن تترك فلسوف تتخبط في أصول الدين وفروعه ..
كنا منذ سنوات قريبة وما زلنا نشكوا من نشوء جهات مشبوهة .. تحاول جاهدة القضاء على الصحوة الإسلامية بطرق شتى تحت مظلة مقنعة بأقنعة شتى ، هذه النبتة الجديدة الفاشلة تسير بسير بعض تلك الجهات شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وان كانت تتغير الوجهات والطرائق ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم ) .. إلا أن الغاية واحدة ، وهي القضاء على الدين من خلال القضاء على علمائه والتشكيك في ثوابته ..
وهذه النبتة الرديئة الجديدة تفترق عنها بتقربها لبعض دعاة الإسلام حيلة منها لسحبهم إليها ، وتعزيزا لمنهجهم الفاسد ..
إن الصحوة الإسلامية والتي فرضت نفسها .. جعلت من لا يرضى عنها أن يرضى بها رغما عنه .. وجعلت من الواقع المشهود مواقع إسقاط وتساقط من يحاول أن يقف في طريق هذه الصحوة المباركة
وليعلم أن أفكار هؤلاء نتيجة إفرازات فكر المستشرقين الغربيين ..ونتيجة لتتلمذ هؤلاء على كتب أهل الفلسفة والاعتزال .. ونتيجة لرسم أهل الحداثة لهم شعروا أم لم يشعروا وهم يحاولون كسر طوق قواعد أهل السنة في محاربة البدعة .. مع استصحاب الجهل والتعالي على الآخرين .. ونتيجة تطبيل جهلة هم كالذي ينعق بما لا يفقه .. ونتيجة انتكاسات دينية مصورة بصورة الفقه الميسر .
إنها يا أحبتي سلسلة القضاء على الدين عن طريق خلخلة مناهج أهل السنة بالحكم على الأشخاص وإسقاطهم باسم علم الجرح والتعديل ..وباسم إعادة النظر في كتب العقائد .. و باسم إعادة النظر في كتابة التأريخ الإسلامي .. وباسم حرية الرأي والفكر وإظهار الخلافات الفقهية للناس ..و باسم تنقية كتب السنة عن ما داخلها من الإسرائيليات والكذب .. و باسم نبذ التمذهب ..
وهلم جرا .
إنها شعارات ظالمة متجنية متنحية عن الحق والعدل والصدق في القول ..
اللهم انصر دينك ..
والمطلوب من هذه الطغمة الفاشلة أن تعي الواقع ، وان تعي كيف تعايش هذا الواقع .. وأن تعلم أن هذه الزعزعة لا تنطلي على عوام المسلمين فضلا عن خواصهم ، مهما زُين لها .
ومن جملة من أتحدث عنهم من أمثال تلك الفئات الفاشلة من تسعى إلى رسم نفسها عن طريق الرقي على أكتاف بعض أهل العلم إما بتصنيفهم بأنهم ينتمون إلى بعض الجماعات وقد رأينا ما تقوم به هذه الزمرة من إلصاق التهم والتجني واختلاق الأكاذيب عليهم .. و باتهام بعضهم بنصر فكر الخوارج من خلال قراءة مذهب الإرجاء ..(36/45)
والإشكال أن هذه الفئة لا يقطعها عن مخاصمة الناس قاطع ولا رادع ، فسبحان من ركب هذه العقليات بتلك الصور .
والرسالة الموجهة إليهم أيضا أن يعوا انهم في مستنقع مليء بالجراثيم .. وانهم أصحاب فشل ذريع و نبتة سيئة رديئة .. لا تكاد ترقى بنفسها ولا أن تغير من مجريات حياتها ..
نعم .. أقولها و أنا اعلم جيدا من هو هذا الجيل الفاشل ..
و المرارة التي يكابدها الشخص .. انك تجد من يريد أن يقحم نفسه بعقبات لا يحتملها .. علما أن جزءا ليس بالقليل من هؤلاء يحتاج إلى إعادة نظر في تكوين عقليته وتركيب تفكيره .. ومنطقه العام .. وجزئيات حياته ..
و النوازع الغريبة التي تتسنم عقلية فئة من الناس لم تتجاوز القنطرة كتلك الفئة .. تحيلك أحيانا إذا لم تكن على إدراك لواقعها .. ولم تكن صارفا لنفسك عنها .. تحيلك إلى هوس فكري متجن ، ذي صبغة مكتئبة
وان كان الأولى أن تعيش تلك الفئة في محاورها البيئية الذاتية فلا تتعداها .. إلا أن الدفع لها تحت ضغط الحاجة أو التعالي أو الهوى أو الجهل أو التعالم أو التعقل أو التحرر أو مجاراة العصر أو غير ذلك جدير بأن يجعل من أمثال هذه الفئات دراسات وبحوث ساخرة من قبل أعداء الإسلام ..
ولذلك فإن من الواجب علينا أخي الحبيب أن نكون على قدر من التوقي لأنفسنا من أن تجتذبنا الزخارف القولية أو العناوين البراقة .. والتي قد تخدع من لا يعي مدى هشاشة فكر من ينتحلها .
فهل هؤلاء مطالبون بأن يكونوا من أهل التمكين الهش المغشوش المجترئ على الحق .. على حساب دعاة الإسلام و مجاهديه .. ولا أقصد بكلامي هذا من هؤلاء الدعاة من هو في طريق نسف ضرورات الإسلام أو ثوابته .
هل تظن تلك الفئة أن التمكين لا يتم إلا بهذا الأسلوب الأخرق أسلوب القضاء على أهل الإسلام وثوابته وأصوله وفروعه .. وهل تتصور تلك الفئة أن الاعتلاء الديني لا يكون إلا بتصفية لغيرها بأسلوب أو بآخر .
إن التصور الأرعن الذي يجعل عقل تلك الفئة خربا بالأسلوب المجتزئ للحق ما هو إلا دعم من مستفيد .. يريد الإفساد .. يفرض هذا الدعم ما تفرضه الحاجة بالحاحات ساقطة أو بحب الذات.
وحتى يتبين لك أمري .. فإن تلك الفئة تشذ بتصوراتها و تظهر مكنوناتها وتتجنى على غيرها عن طريق مخطط مرسوم لحساب جهات تريد هدم الدين ..
ومنصور النقيدان من أقرب الأمثلة ..
إذ لا يزال على وتيرة خلخلة شعائر الدين باسم حرية الرأي والفكر المزعوم .. والأخذ بالدليل عن جهل .. حتى ترى في كتاباته الدعوة إلى الرذيلة ..
فهل الأخذ بالدليل وحرية الرأي والفكر تأمرك :
بالكذب على رسول ا صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته ..
أو بالتعرض لسلف الأمة وعلمائها ..
أو بمدح المبتدعة والضلال ..
أو بخلخلة شعائر الدين ..
أو بتشتيت عقائد العامة ..
أو بسب طلبة العلم ..
أو بنشر الرذيلة ..
أو بأمثال هذه الأمور ؟
والمستغرب من هذا المتعالم انه ينزل إلى مواضع هي اكبر منه بكثير .. والمشكلة انه يتصور انه أهل لأن يبحث في مثل بعض الفصول ، والتي كان عليه أن ينتظر عشرين سنة حتى يصل فيها إلى راجح يحل فيه إشكاله ..إذا لم يأخذ العلم من أهله .
و الإشكال الذي يكابده هذا المذكور . أنه يملك بعض المعلومات العامة .. وبعض الخلافات
الفقهية .. فتراه يتخبط بمواضيعه ومعلوماته فيطرحها وقد تراكمت في عقليته على تلك المعلومات المنسية أكوام من أفكار الكتب الفكرية الاعتزالية الفلسفية المحلول أشكالها من قبل علماء الأمة رحمة الله على الجميع ..
وأيضا تراه يقحم نفسه عن طريق طرح ومناقشة مسائل عظيمة التي لو وقعت في عهد عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر وهو في الحقيقة يعيش خيالا غير متناسق ، في صورة من أصابه نخر عقلي فكري غير قادر هو على اكتشافه .. ويظن انه من خلال ذلك الخيال في تكامل فكري منهجي يواكب شخصية فذة تركت خلفها سنين من التيه والتخلف والجهل ، عاشت فيها بين أوساط ما زالت في تحجر ديني مذهبي عقلي غير مواكبة للعصر الذي لا بد له من أن يجاريه .
والدوران في فلك الاعتداد بالنفس وتصويرها أنها علت شاهقا لم يعلوه غيرها ، وأنها وصلت إلى درجة طرح الواقع بأسلوب المنظّر الموجّه ، أو عن طريق إسقاط غيره بأوصاف متجنية ، قد يتفق فيها مع جملة من الببغاوات ، تجعل هذا المتعالم يكمل بناية عقله الخرب على نسق يجمع العقلاء على انه لا بد من أن يحجر عليه وعلى عقله كالحجر على المجنون ..لأنه فشل في أن يعايش انسجاما مع نفسه ..
والتغيرات التي طرأت عليه لا تتواكب مع فكر مضطرب غير ثابت على وجهة معينة .. حتى إن بعض طلبة العلم أحصى عليه ثلاثة عشر منهجا انتحله .. ولهذا كان كما ذكرنا لا بد من الحجر عليه نسأل الله الثبات ..
وهو أيضا يتخبط في تحرير رأيه الأعوج حينما يريد أن يطرح ما عنده بجهله المدقع بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبالتعالم الذي غلب عليه ، والذي يجعله في كثير من احيانه يبحث عن غرائب الفقه والمعتقد حتى يترأس على من هو أقل منه ، ولذلك ما أسرعه أن يسقط ويكون بذلك كبش فداء لمن هم مستخدمون مثله .
فهل يعي أنه في طريق إهلاك نفسه ..؟(36/46)
وهل هو على استعداد للرجوع إلى الحق .. ؟
وهل يتغلب على الشيطان ؟ أم يتغلب الشيطان عليه ..؟
وهل هو على وعي بالواقع الذي يعيشه ..؟
أسئلة كثيرة تبحث عن إجابة ..؟
اللهم رده إلى رشده .. واهده سبل السلام
اللهم ثبتنا على دينك وصراطك المستقيم ..
الحمد لله على إحسانه ، اللهم صلى على نبينا محمد ..
المصدر: http://www.alsalafyoon.com
-============(36/47)
(36/48)
تهافت العصرانيون
الشيخ محمَّد العبدة
إذا كان الإسلام ـ وهو دين محفوظ ـ يتسم بالسماحة والاعتدال والوسطية (والوسطية هنا مثل رأس المثلث، أي هو الأعلى)، فهل هو واسع إلى درجة أن يخوض فيه كل خائض، ليهدم أصوله ولكن عن طريق قطع فروعه؟ أليس للإسلام ثوابت وقواعد، وله أركان وواجبات، فهل تتغيَّر هذه بتغير الزمان أو المكان؟
إنَّ كلمة (عصرانية) تعبير دقيقة عن اتجاه يوجد في كل زمان، فهكذا النفوس البشرية، وهكذا الأهواء، اتجاه لا يريد التنصل من الدين كلية، ولكن يحرِّف الدين ويلتف حول النصوص ليكون متلائماً مع العصر حسب زعمه.
فإذا كان العصر لا يقبل ذكر المعجزات المادية التي وقعت للأنبياء أو للصالحين في هذه الأمة؛ فلا مانع عند العصرانيين من إنكارها أو تأويلها تأويلاً غير مستساغ. وإذا كان العصر يدندن حول مساواة المرأة للرجل في كل شيء (وهو شيء يخالف أصل الخلقة)؛ فلا مانع عند هؤلاء من تحريف النصوص أو إنكارها، وإذا كانت إقامة الحدود لا تعجب أعداء الإسلام، فالعصرانيون يرددون نعم، الحدود كانت مناسبة لبيئة معينة في القديم، والآن غير مناسبة لهذا العصر.. لماذا لا يتسم العصرانيون بالشجاعة الكافية ويعلنون عن نواياهم التي هي إنقاص الإسلام من أطرافه، فتراهم يحومون مثلاً حول الصحابة بشيء من الغمز واللمز ولا يصرحون أو حول العقيدة لتتسع لكل ضال منحرف؟
فهم ـ كما قال ابن تيمية عن المعتزلة ـ يقولون بقول الخوارج في تكفير أهل الذنوب والكبائر من المسلمين، ولكنهم لم يصرحوا بهذا، وقالوا: إنهم في منزلة بين المنزلتين، ولكنهم مخلَّدون في النار، فوصلوا إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها الخوارج، ونعوذ بالله من الضلال.
إنَّ أعداء الإسلام يستغلون هذه الانهزامية عند العصرانيين، فتراهم في هجوم دائم على الإسلام واتهامه بشتى التهم في التشدد والتزمت والأصولية و....الخ، ويكون الرد عند العصرانيين هو الانسحاب في كل مرة والتنصل عن بعض ثوابت الإسلام.
إنَّ الإنسان في أصل فطرته ودوافعه وحاجاته لا يتغيَّر، وقد ذكر القرآن صفات متأصلة في الإنسان:
) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى(.
) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(.
) وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(.
( وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ).
والذي خلق الإنسان هو الذي شرع له هذه الأحكام ليصلح له دنياه وآخرته، والاستجابة لضغوط أعداء الإسلام والمستهترين بالرسالات السماوية هو من أسباب البلاء، وهو داء قديم تعرضت له الأديان السابقة، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين قرآناً وسنة، فلم يستطع التحريف النيل منهما، ولا أبالغ إذا قلت أنه ليس أضرَّ على الدين بعد الشرك والوثنية من هذه البدعة.
المصدر http://www.lahaonline.com
===============(36/49)
(36/50)
مشروع محمد عبده "الإصلاحي" وزرع الشوك
لا زالت شريحة كبيرة من المثقفين تتكلم عن محمد عبده على أنه إمام ورائد للنهضة الحديثة، ويدعوا نفر من المحسوبين على التيار الإسلامي إلى إعادة نموذج محمد عبده الإصلاحي ثانية؛ للنهوض بالأمة الإسلامية من جديد... لذا رأيت أنه من الضروري إلقاء الضوء على نموذج محمد عبده الإصلاحي، وبيان كيف أنه كان البذرة التي أثمرت الشوك فيما بعد.
من هو محمد عبده [1849 - 1905م]؟!
بعد فشل الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية، وأسر "لويس التاسع" في دار بن لقمان بالمنصورة وفِديته، كان هذا الرجل فطنا، عاد يحدث قومه: "لن تستطيعوا التغلب على هذه الشعوب وأنتم تحملون الصليب، هذه الشعوب تهب حين تُأْتَى من قبل دينها".
فتعلم الصليبيون الدرس، وعادوا إلينا يدَّعون أنها أهداف اقتصادية، وأنهم علمانيون لا دينيون، والحقيقة أنهم يحملون ذات الثارات القديمة، والفارق بينهم وبين أجدادهم أنهم لا يجملون الصليب.
وكان الاحتلال البريطاني لمصر جزء من هذه الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي، فمنذ قدومهم عملوا على نزع الهوية الإسلامية عن شعب مصر، وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يتفق مع مطالبهم، وقد عملوا على إيجاد جيل كامل من أصحاب الشذوذ الفكري والطموح السياسي - كما يقول الدكتور محمد محمد حسين - ليتولى هو مخاطبة الشعب وتغيير هويته.
وقد وجد القوم بغيتهم في "الشيخ" محمد عبده...
لماذا؟
يرجع هذا إلى نشأة "الشيخ" وطبيعة أفكاره، فقد "كان الشيخ اعتزالياً متتطرفاً، هذا أقرب ما يمكن أن يوصف به الشيخ من الانتماءات المذهبية وإن كان في الواقع له اتجاه مستقل أحياناً، وتظهر إعتزاليته في تفسيره للملائكة والجن والطير الأبابيل وخلق آدم، وربما كانت هذه التأويلات هي التي دفعت كرومر إلى قوله؛ أشك أن صديقي عبده كان في الحقيقة لا إدرياً - نقلها عنه جب [دراسات في حضارة الإسلام: ص399]" [1].
تأثر "الشيخ" محمد عبده بجمال الدين الأسد أبادي "الأفغاني"، والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة، إذ أنه كان منبهراً - هو الآخر - بالغرب وقوانينهم، فنادي بأن الأمة هي مصدر الحكم، ونادى بوحدة الأديان، والسلام العالمي، وأن الاشتراكية من الإسلام، ورحل إلى أمريكا مستنصرا [2].
وحمل محمد عبده ذات الأفكار، وأفسح الإنجليز له المجال ليتكلم إلى الشعب من أعلى المنابر في مصر وأكثرها قبولا لدى العامة، وهو منبر الإفتاء، وليكون لسانه لسان الشرع.
أما كونه حمل ذات الأفكار ودعى إليها؛ فقد جاء في مقدمة "رسالة التوحيد" لمحمد أبو ريّة - وهو من أحباء الشيخ - نقلا عن "مستر بلنت" في كتابه "التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر" [ص: 76]، وهو يتحدث عن الشيخ جمال الدين الأفغاني ورسالته في الشرق وإصلاحه، يقول: (أما عباءة المصلح نفسه - يعني جمال الدين - فقد ألقيت على عاتق أقوى من عاتق صاحبها الأصيل "الشيخ" محمد عبده، وقد خلف جمال الدين في زعامة "حزب الإصلاح الحر" في الأزهر).
أما كون الإنجليز أفسحوا له المجال؛ فهذه حقيقة لا يماري فيها من له أدنى دراية بـ "الشيخ"، والذي يتضح لي؛ أن شخصية محمد عبده اتفقت مع هوى الإنجليز، فحدث بينهما التقاء وتعاون، وثقة متبادلة، يصفها البعض بالعمالة، ويشتد البعض في اللفظ فيصفها بالخيانة، والمحصلة واحدة، وما يعنيني؛ هو أن الشيخ كان على علاقة قوية بالإنجليز.
لم ينكر هذا أحبابه، فهذا يوسف الغزال في تقديمه لـ "رسالة التوحيد" يفسر سوء العلاقة بين الشيخ والخديوي عباس بقوة علاقة الشيخ بالإنجليز وكثرة تردده عليهم [3] وعلانية امتدحه الإنجليز، ورضوا عن أقواله وأفعاله، ووقفوا ورائه يغدقون عليه الألقاب، ويرسلون فتواه في كل مكان.
واقرأ هذا النص، وهو من قول مستشار القضاء الإنجليزي بمصر في تقريره عن المحاكم لسنة 1905م، وهو العام الذي توفى فيه الشيخ، يقول: (ولا يسعني ختم ملاحظتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليو الفائت، وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة الفادحة التي أصابت هذه النظارة بفقده...)، إلى أن يقول: (وفوق ذلك، فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيراً من القوانين المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية...) [4].
معذرةً أرجو قراءة النص مرة أخرى!
ومعروف أن المندوب السامي البريطاني "اللورد كرومر"؛ كان صديقا للشيخ محمد عبده، وأنشأ سويا كلية لتخريج قضاة الشرع المسلمين، يدرس فيها مجموعة من العلماء ذوي الطابع التحرري.
والتي يقول عنها: (أنها كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه).(36/51)
ويتحدث عن ذلك في تقريره لحكومته عام 1905م، فيقول: (وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق محمد عبده، بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، وقد أتمت اللجنة في شهر يونيو السابق ـ والشيخ توفى في الشهر الذي بعده، وهذا له دلالته ـ ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة... وهذه النظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة) [5].
ولم يكن الشيخ مقرباً عند الإنكليز الكفرة وفقط، بل "كان بين الطوائف الراقية من المصريين والأجانب محبوباً معظماً معترفاً له بمقام الإمام" [6].
وأيضاً نال الشيخ احترام الكاثوليك العرب؛ فهذا بشر الخوري صاحب "معجم الموارد"، يقول بعد سلسلة من المدائح: "... والخلاصة أنك آية من آيات الله" [7].
بهذا تعلم أن محمد عبده نشأ في بيت مشبوه، ورباه شيخ مشبوه - هو جمال الدين "الأفغاني" - وقام الإنجليز بزرعه في أعلى منصب في مصر، وأخلوا بينه وبين الشعوب ليتكلم إليها كيف شاء.
أسس محمد عبده أثناء فترة تواجده في لبنان جمعية سرية مع أحد دعاة التنصير تدعوا إلى الحوار بين الأديان [8].
دعوة الشيخ محمد عبده:
اشتهر الشيخ محمد عبده بدعوته إلى الإصلاح، والإصلاح الذي كان يهدف إليه الشيخ ثلاثة أنواع؛ إصلاح الدين، وإصلاح اللغة والأدب، وإصلاح السياسة [9].
"وكل الذين قاموا بالإصلاح في الميادين الثلاثة كانوا من تلاميذه وأصدقائه ممن صاروا على خطاه وتأثروا بطريقته، منهم سعد زغلول، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين وغيرهم" [10].
والشيخ "أعظم من تجرأ على مفهوم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام من المنتسبين للعلماء، بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة، ودعوته إلى التعامل مع الإنجليز وغيرهم، بحجة أن التعامل مع الكافر ليس محرماً من كل وجه" [11].
والشيخ هو صاحب الفتوى "الترنسفالية"، التي أباح فيها التشبه بالخواجات في لبس القبعة [12].
والشيخ أول من أفتى بإباحة الربا في شكل صناديق التوفير معتمداً ـ كما يرى العقاد ـ على مفهوم الآية من أنه لم يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة فقط [13].
والشيخ كان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة"، فعندما أصدر قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة"؛ شك كثيرون في كونه كاتبه، لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة للأقوال الفقهية والأدلة الشرعية، التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها، ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة هو أحد رجلين، إما محمد عبده وإما "كرومر".
ويحل لطفي السيد الإشكال في كتابه "قصة حياتي"، إذ يقول: (إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب "تحرير المرأة" في جنيف عام 1897م، قبل أن ينشره على الناس) [14].
وقال ذلك نصا الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله في محاضرة له بعنوان "المؤامرة على المرأة المسلمة"، وعلل ذلك؛ بان الكتاب مليء بالمسائل الفقهية التي لا علم لقاسم أمين بها.
والشيخ نادى بتحريم تعدد الزوجات، عملاً بحديث: (لا ضرر ولا ضرار)! [15].
"وجملةً، يمكن أن يقال؛ أن ما من عملٍ من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق، وبدأ فعلاً بالاستعداد لتنفيذها، ومنها الجامعة المصرية التي كان يعني بها أن تقوم بتعليم العلوم وفقاً للمناهج الحديثة، وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة" [16].
ومن المعلوم؛ أن هذه الجامعة كانت مختلطة، وأنشأت فيها معاهد للرقص والفنون الجميلة، وهذه هي الأخرى كانت من بنات أفكار الإمام محمد عبده - كما يخبر العقاد في فصل "الفنون الجميلة" -
وتدبر؛التعامل مع الكفار - قبول الآخر - التشبه بهم، إباحة الربا، تحرير المرأة، تحريم تعدد الزوجات، أليست هي ذات المطالب القائمة اليوم؟!
لمن كانت ثمار دعوته؟
بعد هذا العرض لأفكار الشيخ ودعوته، يمكننا القول؛ أن الذي جنى ثمار دعوة الشيخ هم الإنجليز، وذلك على مستويين.
الأول: على مستوى عوام الناس، حيث اتخذت الشعوب أفكار الشيخ وفتاويه مبرراً نفسياً لتقبلها للتغير العلماني المتدرج في الدول العربية.
وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع حديث "عيسى بن هشام" شيئا من ذلك على لسان أبطال الرواية، إذ يسأل أحدهم متعجبا: (كيف صاغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة الإسلامية؟)، فيجيب الآخر: (بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة).
الثاني: كانت أفكار الشيخ محمد عبده ـ كما يقول سفر الحوالي ـ حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي، ومن ثم باركها المخطط الصهيوني الصليبي العالمي واتخذها جسراً عبر عليها إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة الإسلامية والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستوراد النظريات الاجتماعية الغربية وهو ما تم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً [17].(36/52)
نعم كان محمد عبده مخلصا وجادا فيما يفعل، وأراد محمد عبده الوقوف في وجهة الجمود العقلي الموجود في هذه الأيام، وأن يجاري العقل الأوروبي - صاحب الاختراعات والاكتشافات العلمية يومها - فبالغ في إعمال العقل، وصار تحت ردود الأفعال، فأحدث انحرافا جديدا [18].
ونعم، أراد محمد عبده أن يقيم سدا في وجه الاستعمار الغربي والغزو الفكري يومها، فأقام قنطرة عبر عليها العدو إلى ثوابتنا الإسلامية، فكان ما كان - كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم -
ومن يقرأ عن حياة محمد عبده ويأخذ شخصيته من كل جوانبها، يجد أن الشيخ كان شغله الشاغل؛ هو تحسين صورة الإسلام في أعين الغربيين، والنهوض بالأمة، نهضة مادية كالتي كانت في أوروبا يومها، وربما هذا هو القاسم المشترك بينه وبين من يحاولون إحياء دعوته اليوم.
من المهم جدا؛ تحديد المنطلق، ومن المهم جدا؛ وضوح الهدف بدقة.
وثلة غير قليلة من مثقفي اليوم، تريد تحسين صورة الإسلام أمام الغرب، وتريد الرقي المادي بالأمة الإسلامية، وتجد أقلامهم تأن من كل فعل "يشوه" صورة الإسلام أمام الغرب، وهم يصرحون بهذا في أكثر من مقام.
هذا هو هدفهم الذي يظهر لي، وهذا هو منطلقهم الذي يخرجون منهم.
والذي أفهمه؛ هو أن رسالتنا هي تعبيد الناس لله، وليس الرقي المادي بحياتهم، وأن الخطاب الأخروي لا ينبغي أن يغيب عن البال، فالشرع جاء أساسا لإنقاذ الناس من نار جهنم، {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، وإصلاح الدنيا يأتي تبعا، لا أصلا؛ {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}.
والذي أفهمه أنه مر مائة عام على وفاة محمد عبده، ولم نجن من مشروعه الإصلاحي إلا الشوك - حرية المرأة، والجامعات المختلطة، والسخرية من التيارات السلفية الملتزمة بالهدي النبوي... الخ -
نعم لم نجن من مشروع محمد عبده إلا الشوك، والعجب كل العجب أن يأتينا آخر يريد منا اليوم بذر الشوك ثانية للأجيال القادمة!
محمد جلال القصاص
18 /5 /1426 هـ
[1] راجع إن شئت العلمانية للدكتور سفر الحوالي: ص575.
[2] ومن أراد المزيد فليقرأ "خاطرات جمال الدين الأفغاني"، اختيار عبد العزيز سيد الأهل: ص: 14، والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية، علي الحوافظة: 102، 181 - 182، وكان للأفغاني نشاط ماسوني، وكان يشرب "الكونياك" - وهو نوع من الخمر - كما ذكر ذلك محمد رشيد رضا في "تاريخ الأستاذ": ج1/ص49.
[3] رسالة التوحيد، للشيخ محمد عبده، تقديم حسين يوسف الغزال، ص: 15، 20.
[4] نقلا عن العلمانية، للشيخ الدكتور سفر الحوالي، ص: 575.
[5] المصدر السابق، ص: 576 - 577.
[6] رسالة التوحيد، محمد عبده، تقديم محمد أبو رية: ص8.
[7] المصدر السابق: ص10.
[8] ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير"، الدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، ص124 - 169.
[9] رسالة التوحيد، تقديم حسين الغزال: ص18، قلت: وهذا يشي بانفصال الدين عن السياسة في رأس الرجل.
[10] سلسلة أعلام العرب: ص20.
[11] العلمانية: ص578.
[12] أعلام العرب: ص176.
[13] أعلام العرب: ص176.
[14] أحمد لطفي السيد: ص132، وجاء مثل هذا في كتاب قاسم أمين: ص158 - 159.
[15] أورد هذا الكلام خالد محمد خالد في كتابه "الديمقراطية أبداً": ص164 - 165.
[16] العقاد، أعلام العرب: ص176.
[17] العلمانية: ص579.
[18] راجع - إن شئت - مقدمة كتاب مقومات التصور القرآني، للأستاذ سيد قطب.
==============(36/53)
(36/54)
فتوى في حسن المالكي
[الكاتب: عبد الله بن عبد الرحمن السعد]
فضيلة الشيخ عبد الله بن عبدالرحمن السعد؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا يخفى عليكم ما يقوم به المدعو "حسن بن فرحان المالكي" من نشر لضلالاته بين الحين والآخر؛ ومن ذلك تهجمه على صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وعلى عقيدة السلف الصالح ومحاربتها، بما ينشره من مذكرات خبيثة؛ كمذكرته التي طبعها بعنوان "قراءة في كتب العقائد"، وقد شحنها بلمز كثير من علماء السنة الذين ألفوا في العقيدة، بلهجة حانقة لا تصدر إلا عن مبغض شانئ لهم.
وكان من آخر مخازي هذا الرجل نشره لمذكرة بعنوان "نقض كشف الشبهات"!! يحمل فيها هذا المعتوه حملة شعواء على شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ويلصق به مذهب تكفير المسلمين! ويدافع عن القبوريين.
وقد تواترت لدينا الأخبار - فضيلة الشيخ - أن هذا المبتدع يتبجح في كثير من مجالسه بأنه كثير المدارسة لكم في علم الحديث والأخذ منكم، بما يوهم السامعين أنكم راضون عن مسلكه الذميم - والعياذ بالله - تلبيساً منه على بعض طلبة العلم ممن يحسنون الظن بكم.
ونحن نتمنى من فضيلتكم بما عرفناه عنكم من صدع بالحق - نحسبكم كذلك ولا نزكي على الله أحداً - بيان حقيقة هذا الرجل، حتى لا يغتر به أحد ويصدق دعواه، جعلكم الله من أنصار دينه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم؛ سليمان بن صالح الخراشي
* * *
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ المكرم الشيخ سليمان بن صالح الخراشي وفقه الله تعالى... آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
جواباً عن سؤالك، أقول وبالله التوفيق:
إن حسن بن فرحان المالكي إنسان ضال متبع لهواه، منحرف عما جاء في كتاب الله تعالى، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، مخالف لما عليه المسلمون.
وقد رددت عليه في مقدمة كتاب "الإبانة لما للصحابة من المنزلة والمكانة"، فيما يتعلق بطعنه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذلك قبل أن يظهر طعنه بالعقيدة الأثرية التي جاءت في الكتاب والسنة.
وقد حضر فيما سبق بعض دروسي وجرى عدة لقاءات بيني وبينه، وذلك قبل أن يٌظهر كثيراً من ضلالاته وإنحرافاته.
وكنت أترفق به وأحاول معه؛ حتى يتبع الحق، وقد نصحته ولكن الرجل استمر على إنحرافه، بل وزاد في الضلال والغي.
نسأل الله السلامة والعافية، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وكتب؛ عبد الله بن عبد الرحمن السعد
16 / 5 / 1422هـ
…==============(36/55)
(36/56)
من هم الحرورية ؟!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
إن أهل البدعة والضلال على مر تاريخ الإسلام لهم بحق من أكثر العوامل المشوهة للإسلام والمضلة لأهله ، لأن كثيراً من أبناء المسلمين يخدعهم زخرف القول لا سيما العامة منهم ، فهم لا ينظرون بعين البصير المدقق لكل دعوة وفرقة ناشئة ، بل يقتصر نظرهم وحكمهم على ما زخرفته الفرق من أقوال ، وكما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ( نحن قوم إذا انخدعنا بالله خدعنا ) ، فكل طائفة تلبس دعوتها نوع من الألبسة الإسلامية أو العلمية فإنها تروج على عموم المسلمين ، حتى يقيض الله لها من يكشف سترها ، ويعري حقيقتها ، ويبين للناس عن وجهها الكالح ، ليشموا نتن معتقدها ويلمسوا إلى أي مدى انحطت في دركات الضلال ، هذا ينطبق على أغلب الفرق الضالة التي تتخذ من الشبة منطلقاً لها ، أما الفرق التي ترتكز على الشهوات في إضلال الناس فهذه لا يحتاج الناس إلى من يكشف لهم عن هويتها فضلالها ظاهر لكل ذي عينين .
وبما أن مشكلتنا على مر التاريخ ولا زالت هي مشكلة أرباب الشبهات ، لذا لا بد من العمل الدائم لكشف شبههم وتفنيد آراءهم ، والقيام بذلك خير قيام كما قام به الأئمة الأعلام من قبل ، الذين تصدوا لكل نابتة خبيثة فاقتلعوها من جذورها ليرموا بها في مزبلة التاريخ .
ولقد ظهر في هذا العصر ثلة من المتعالمين ، الذين تلقوا أصولهم من أسلافهم المعتزلة والخوارج فبثوا ضلالاتهم على الناس ، وجادلوا منافحين عن باطلهم ، وهذا ليس غريباً فكل صاحب بدعة جلد لنشر بدعته ، ولكن الغريب فيهم أنهم رموا من تصدى لهم بما هم أحق به وأهله ، فكل من رد عليهم وألقمهم الحجر تلو الحجر تفنيداً لباطلهم ، لم يصنعوا لرد تكل الحجارة عن أفواههم إلا أن يرموا أهل الهدى بألقاب ومسميات لا يعلمون أصلها ولا حقيقتها ، فحينما أعيتهم الحجة فزعوا إلى غيرها وأطلقوا الألقاب على خصومهم ظناً منهم أن هذا سيجدي في رد الحق وإظهاره ، ولو تمعنوا في تاريخ أسلافهم المبتدعة لتيقنوا أن وصفهم لأهل السنة ( بالمشبهة و الحشوية و المجسمة ) وغيرها لم يرد الهدى والحق الذي عند أهل السنة ، لكن خلفهم لا زالوا يرددون ما ردده أسلافهم برمي أهل السنة بألقاب لم يعقلوا بعد معانيها .
ومن أهم تلك الألقاب التي طاروا بها كل مطير في هذه الأيام كلمة ( الحرورية ) ولا شك أنهم يعرفون ( الحرورية ) الأول ، ولكني على يقين أنهم لا يعرفون منهج ( الحرورية ) الأول ولا سبب ضلالهم ، وبياناً مني بأن اسم ( الحرورية ) هم أحق به وأهله أقول :
إن ( الحرورية ) فرقة ظهر أولها في عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وقويت شوكتها في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فخرجوا عليه ، فقتلهم شر قتلة وكان قتله لهم كرامة له بأن انطبق عليه حديث الرسو صلى الله عليه وسلم بأنه أولى الطائفتين بالحق ، وقد سموا ( الحرورية ) نسبة إلى حروراء بلدة على بعد ميلين من الكوفة كانت مركز خروجهم ، على علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وسبب ضلالهم بأنهم ( قدموا العقل على النقل ) نعم هذا أصل ضلالهم ، والمتتبع لأحوالهم يعلم ذلك يقيناً ، فهم بذلك ردوا السنة الصحيحة لما قاسوها بعقولهم ، لذلك عرفهم ابن حجر وغيره بأنهم لا يعترفون بالسنة ، ومنشأ عدم اعترافهم بالسنة عقولهم ، فكفروا بالمعاصي بسبب عقولهم ، وكفروا علياً رضي الله عنه بعقولهم ، وقتلوا المسلمين ومستندهم عقولهم ، وكانت كل رزية يعملوا بها أو قول شنيع يأتوا به كان مرده عقولهم ، لذا عرفوا بهذه الصفة - أي عبادة الله بعقولهم - منذ خروجهم ، وقد فسر علي رضي الله عنه قوله تعالى ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) قال أنتم يا أهل حروراء .
روى البخاري في صحيحه عن قتادة قال حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت فقالت أحرورية أنت ( كنا نحيض مع صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به أو قالت فلا نفعله ) .
وفي رواية مسلم أن معاذة هي التي سألت فقالت سألت عائشة .. الححديث وفيه .. ( فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) .
فانظر كيف قالت عائشة لمعاذة أحرورية أنت ؟ بسبب سؤال واحد فهمت منه أنها قدمت على النص عقلها فوصمتها بأنها حرورية ، ففهمت منها أنها تقصد أن قضاء الصلاة أهم من قضاء الصيام ، فبما أن الحائض أمرت بقضاء الصيام فمن باب أولى أن تؤمر بقضاء الصلاة لأنها فريضة أعظم من الصيام ، هذا ما يهدي العقل إليه حينما يقدم على النص ، فلما بدى الأمر وكأن معاذة تجاوزت النص إلى العقل ، قالت لها عائشة أحرورية أنت ؟ لأن التحكم بالنصوص أو ردها من منطلق عقلي هو من دأب الحرورية .(36/57)
فكان مشتهراً في الزمن الأول أن كل من قدم عقله على النص فهو حروري ، لذا لما ردت عليها عائشة لم تبطل عقلها ولكن قيدته بقيود النص فقالت فكنا ( نؤمر ، ولا نؤمر أو فلا يأمرنا ) فهذه ألفاظ شرعية ينبغي إلغاء الاعتراضات العقلية عندها لأنها تفيد الوجوب والتحريم ، إن ما أمر به النص يقدم حتى ولو كان العقل لا يدرك الحكمة من ذلك ، وهذا قول علي رضي الله عنه حينما قال ( لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه ، ولكني رأيت رسول ا صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخف ) هذا هو هدي المهتدين حينما يوقفون إعمال عقولهم مع وجود النص ، فإذا وجد النص الثابت فلا مجال للعقل في قبوله ورده أو تحريفه أو تمييعه ، فعلي يثبت هنا أن العقل يقول بخلاف النص ولكن لا عبرة بخلاف العقل إذا وجد النص .
والحرورية أيضاً لما خرجوا على علي رضي الله عنه أرسل لهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يناظرهم ، فكانت حججهم مرتكزة على أقيسة عقلية فاسدة ، هي التي جرتهم إلى البدعة والخروج ، فأول حججهم في تكفير علي رضي الله عنه والخروج عليه أنه حكم الرجال وترك تحكيم كتاب الله !! ، فكان رد ابن عباس عليهم من القرآن فقط أي أرجعهم للنص الذي يحكم العقل فقال لهم ، الله حكم الرجال في خصام الزوجين بقوله (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) وصير حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب في جزاء الصيد بقوله ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ) فهذه بالنسبة لهم حجة دامغة وكأنما إفاقة من سبات ، رغم أنهم قوم يحقر الصحابة صومهم وصلاتهم وتلاوتهم عند صومهم وصلاتهم وتلاوتهم إلا أنهم قوم لا يفقهون ، فكم مرة تلوا هذه الآيات وكم مرة أبصروها في مصاحفهم ولكن بسبب إعمال عقولهم على النصوص لم تكن مثل هذه الآيات تردهم عن غيهم ، فلما استحلفهم ابن عباس هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل ، أم في أرنب وبضع امرأة ؟ قالوا بل هذه ، فقال هل خرجت من هذه قالوا نعم ، أي اقتنعوا لما أرجعهم ابن عباس إلى النص وأبطل مفعول عقولهم الذي طغى على النص ، فبالنص جعل العقل يشهد للنص .
وحجتهم العقلية الثانية التي خرجوا بها على المسلمين واستباحوا دمائهم :
قولهم إن أمير المؤمنين قاتل وقتل ولم يسب ولم يغنم فإن كانوا مؤمنين فلم حل لنا قتالهم وقتلهم ولم يحل لنا سبيهم ؟ وهذا مجرد قياس عقلي فاسد لأنهم ظنوا بعقولهم تلازم القتال مع التكفير فكل من يقاتله الإمام فهو كافر ، فما كان من حبر الأمة إلا أن يردهم إلى النص كعادته ، فقال وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها ؟ فوالله لئن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام ، ووالله لئن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها لقد خرجتم من الإسلام ، فأنتم بين ضلالتين لأن الله عز وجل قال ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) ، فكان إلزام ابن عباس لهم بالنص أمراً محيراً حقاً ليس لهم معه إلا أن يعلنوا عن بطلان مفعول عقولهم ، فلما قال لهم أخرجت من هذه - أي في رد الشبهة واقتنعتم - قالوا نعم .
أما الشبة العقلية الثالثة :
فقولهم عن علي رضي الله عنه أنه محا عن نفسه أمير المؤمنين فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فإنه لأمير الكافرين ، وعجباً لهذا القياس السقيم عندهم فعقولهم تفرض أمرين لا ثالث لهما ، بتفسير قضية فرعية واحدة جعلتها عقولهم من الأصول التي لا يجوز الخلاف فيها ، فهذه العقول تستعظم ما كان دقيقاً وفي نفس الوقت تستحقر ما كان عظيماً ، فهذه العقول التي استعظمت محو علي رضي الله عنه لكلمة أمير المؤمنين ، هي نفس العقول التي استباحت دماء المسلمين وبقرت بطون الحوامل في الطرقات ، فما أعظم الضلال حينما تصبح العقول هي مدار التكليف ، ولكن حينما أوردوا على ابن عباس ترجمان القرآن هذه الحجة بأن علياً محا نفسه .. ماذا رد عليهم ؟ لا شك أنه سيعيدهم إلى النص مرة أخرى ، ولكن هذه المرة نص مختلف ليس نصاً قرآنياً بل إنه نص نبوي صحيح تعبدنا الله به ، وهو لا يقل أهمية عن نصوص القرآن من حيث التكليف ، وقال عنه الرسو صلى الله عليه وسلم ( أوتيت القرآن ومثله معه ) فهو المصدر الثاني للتشريع ، ومن أنكره فقد كفر ، ولا يلزم أن يكون الإنكار صريحاً بل يكفي بأن يلمح لعدم فائدة الحديث في التشريع فيكفر ، وهذا النص النبوي رد به ابن عباس على هؤلاء الحرورية ليبطل شبهتهم العقلية الفاسدة فقال لهم إن النبي لما صالح قريشاً قال لعلي اكتب ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال المشركون لو نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم ( اللهم إنك تعلم أني رسول الله امح يا علي واكتب هذا ماصطلح عليه محمد بن عبد الله ) ، فقال ابن عباس لهم : فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه .(36/58)
وبهذه النصوص الواضحة الصريحة يكون ابن عباس رضي الله عنه عالج أمراضهم التي كان سببها أنهم قدموا عقولهم على النصوص فضلوا ، ولما أعادهم وذكرهم بالنصوص ثابوا إلى رشدهم فرجع منهم بعد المناظرة ألفان ، وخرج الباقي فقتلهم علي رضي الله عنه .
وكذلك لما كفروا المسلمين بالكبائر قاسوا بعقولهم أن كل عقوبة من الله تقتضي النار يلزم منها أن كل محكوم له بالنار فهو كافر ، أنظر لهذا التوجيه العقلي للمسائل ، فعقولهم الفاسدة لا تعرف إلا التلازم ، فكما حكموا على علي بالكفر بلازم الأفعال ، كذلك حكموا بكفر مرتكب الكبيرة المتوعد بالنار أنه كافر مخلد لأن النار لا يدخلها إلا كافر ، فالصحابة ومن بعدهم من أهل السنة لم يكونوا يوجهون المسائل أو يصدرون الأحكام وخاصة ما يتعلق بحكم الآخرة إلا بمستند شرعي قطعي الثبوت والدلالة ، أما الحرورية فعقولهم قطعية الثبوت والدلالة وهي كافية عندهم لفهم الشريعة بغير نصوص ، وكافية أيضاً لإصدار الأحكام وعبادة الله من منطلق عقلي مجرد وهذا والله إنه لعين الضلال .
ولما أوردوا هذه الشبهة - أي خلود العصاة في النار - على جابر رضي الله عنه ، رد عليهم كما رد عليه ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين ، أي رد عليهم بالنص فقط ، قد روى مسلم عن يزيد الفقير قال كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال فإذا هو قد ذكر الجهنميين - أي بأنهم يخرجون من النار إلى الجنة إذا نالوا جزاءهم - فأنكر عليه يزيد هذا القول ، وزعم أنهم يخلدون فيها ، ولكن جابرا رد عليه بنص سمعه من الرسو صلى الله عليه وسلم أذهب الله بهذا النص حيرة هؤلاء الخوارج فقال ( ... أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها قال يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس ) فرجعنا - أي الخوارج - قلنا ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول ا صلى الله عليه وسلم فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال أبو نعيم .
وبهذا يتضح جلياً من أحق الناس باسم ( الحرورية ) في هذا العصر ، أهم علماء السنة الذين لم يخرجوا عن النصوص قيد أنملة ؟ ولم يعتدوا بعقولهم ليتخذوها أدلة وهادية ؟ إن كان علماء العقيدة ( حرورية ) لأنهم كفروا من نص الله ورسول صلى الله عليه وسلم على كفره ، فإذن مذهب أهل السنة وسلفهم من الصحابة ( حروري )!! وهذا وربي هو البهتان العظيم ، إن هؤلاء الذين اتخذوا عقولهم مدار التكليف والهدى فقبلوا من النصوص ما وافقهم وردوا وأولوا ما لم تقبله عقولهم أو تدركه ، إن هؤلاء هم أحق الناس باسم ( الحرورية ) لوجود قاسم مشترك بينهم وبين الفرقة الأولى ، وهو اتخاذ العقل دليلاً فوق النص ، ومن أوضح القياس قياس الشبه ، وكيف يقاس شيء بآخر لا يشبهه لا في علة ولا حكم ولا حكمة ، إنما الحق أن يقاس الشيء بما يشبهه فعندما نقول ( الحرورية ) هم الذين حاكموا النصوص إلى عقولهم الفاسدة ، نقول كذلك كل من حاكم النص إلى عقله فرد النصوص أو حرفها إلى معنى بعيد ساقط ، فهو من ( الحرورية حقاً ) .
فقلي بربك من توقف في حديث ( أبي وأباك في النار ) وهو عند مسلم ، ومن رد حكم الردة عن المرتد الذي لا يدعو إلى الردة بسبب عقلي فاسد ، أهو إلى الحرورية أقرب أم إلى أهل السنة إذا كان هذا منهجه ؟ ومن قال إن أبا هريرة يروي أحاديث يأبها الذوق السليم لما فيها من قذارة ويقصد حديث الذبابة ، فهل هذا منهجه سني أم حروري عندما حكم ذوقه في النص ؟ من قال إن أدسون ( مخترع المصباح ) يستحق الجنة عقلاً حتى لو لم يستحقها شرعاً لأنه نور العالم ، هل نقول له إنه من أهل السنة والحروري من يخطئه ، أم أنه اتفق مع الحرورية في رد النص وقبول حكم العقل القاصر ؟ أليست هذه نزعات حرورية واضحة ؟ ولو أردت أن أستطرد في ذكر نماذج منهم لأطلت ، ولكن بالمثال يتضح المقال .
وبعد ذلك كله هل فهمت أخي الكريم معنى ( الحرورية ) ومن الذي ينطبق عليهم القول ( رمتني بدائها وانسلت ) ، لم يكن غريباً أن يرموا أهل السنة بالحرورية لأنهم عندما أحسوا أنهم أول المعنيين بهذا الاسم أرادوا تسجيل السبق ( التنابزي ) في الألقاب ليطلقوه على أهل السنة ليقطعوا الطريق على من أراد أن يصفهم به ظناً منهم أن هذا سينطلي على أهل السنة ، لأنهم ظنوا أن أهل السنة لا يعقلون وهم وحدهم الذين يعقلون !! .
ولكن ليعلموا أن إبليس هو أول من أراد أن يعبد الله بالعقل وليس بالنص ، فلعنه الله وأبعده من جنته ، فمن سلك درب إبليس فله ما له ، ومن سلك درب الذين قالوا ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فلهم قول الله قد فعلت قد فعلت نسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى .
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
[أبو عبدالله البريدي]
===============(36/59)
(36/60)
بيان في حسن بن فرحان المالكي
[الكاتب: علي بن خضير الخضير]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على إمام الموحدين وقامع أهل الزيغ والضلال والمبتدعين والملحدين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد اطلعت على كتابي المدعو حسن فرحان المالكي وهما كتاب " قراءة في كتب العقائد "، وكتاب " نقض كشف الشبهات "، فوجدت الرجل من أئمة الضلال والزيغ وعتاتهم المعاصرين.
وهو رقم جديد في سلسلة أئمة الضلال السابقين له، جاء بخلط عجيب من العقائد الضالة فاجتمع فيه من شرور الزائغين من الطوائف الثلاثة: من عباد القبور، وغلاة المرجئة من الجهمية والكرامية، والرافضة، قبحهم الله جميعا.
والعقائد والطوام التي بثها في كتابيه السابقين هي:
أولا:
1) فقد تابع أئمة عباد القبور في عدم التفريق بين أصل توحيد الربوبية وبين أصل توحيد الألوهية، كما في نقضه المزعوم في الصفحات التالية: [5، 8، 12].
2) وفيه تسمية عباد القبور ومن يذبح لغير الله ومن يستغيث وينذر لغير الله بالمسلمين، كما في نقضه المزعوم في الصفحات التالية: [6، 7، 11، 14، 17].
3) التهجم ونبز وتخطئة من يكفر عباد القبور، كما في نقضه المزعوم في الصفحات التالية: [6، 7، 8، 10، 11].
4) يرى أن من جوّز الاستغاثة وعبادة غير الله متأولا، أن له وجهة حق كما في نقضه المزعوم في الصفحات التالية: [12، 25، 26].
وحاله ليست بعيدة من حال البكري الذي رد عليه ابن تيمية رحمه الله في كتابه الاستغاثة (1).
ثانيا:
تابع غلاة المرجئة من الجهمية والكرامية في:
1) فالإيمان عنده هو الكلمة فقط (قول لا إله إلا الله) كما في كتابه قراءة في كتب العقائد، و كما في نقضه المزعوم في صفحة [9].
2) لا يكفر بالأعمال التي هي كفر بالكتاب أو السنة كما في نقضه المزعوم في صفحة [26].
3) الكفر عنده فقط هو الخروج من الإسلام جملة، كما في نقضه المزعوم في الصفحات التالية: [8، 19، 20، 21، 22]، وهذا أمر لم يسبق إليه.
4) الثناء على الجهمية الذين أجمع السلف على تكفيرهم.
ثالثا:
تابع الرافضة، وهذا في معظم كتابه، قراءة في كتب العقائد، حيث تهجم على الصحابة وطعن في خلافة أبي بكر وعمر رضى الله عنهما، ونسب بعض ما حدث بين الصحابة أنه صراع قبلي، وتناول بعض الصحابة بالازدراء والتحقير والاتهام، أمثال: معاوية وأبي سفيان وعمرو بن العاص، رضي الله عنهم أجمعين.
وتتبع يشتم السلف الصالح ويسبهم باسم إنقاذ التاريخ، هذا ما تبين لي من حاله والعياذ بالله.
وأقول: إن من كان هذا مسلكه، وهذه أقواله لابد أن يقدم للمحاكمة الشرعية وأن يحكم عليه بما تستحقه أقوله، جزاء له وردعا لأمثاله.
نسأل الله أن يقيض لأهل البدع والزيغ والضلال من يأطرهم على الحق أطرا، ويفعل بهم ما فعل السلف الصالح بأمثالهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[كتبه: فضيلة الشيخ علي بن خضير الخضير | 24/5/1422هـ | القصيم: بريدة]
(1) ولمزيد من الإيضاح ومعرفة مشابهة هذا الضال التائه للائمة عباد القبور راجع: كتاب دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تأليف الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، الصفحات التالية: [163وما بعدها]، [195وما بعدها]، [241 وما بعدها]، [278 وما بعدها]، [329 وما بعدها]، [349 وما بعدها].
================(36/61)
(36/62)
منصور النقيدان من بيت الطين وتحريم الكهرباء إلى الأستاذية في أحدية راشد المبارك
كتبه الشيخ: عبد العزيز الجربوع
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info…
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا اله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.
أما بعد:
فكثير أولئك المرتزقة الذين يزاولون حرفاً شتى بغض النظر عن رفعتها أو دناءتها بغية الكسب المادي والارتزاق، وهذا التوجه لهذه المهن، والحرف من إفرازات الفشل الذريع في الحياة وعدم القدرة على التكيف معها، ومعرفة طبيعتها، وعلى رأس هؤلاء مرتزقة الأقلام والصحف ومتجري الفكر وللأسف الشديد أن يتقدمهم (منصور النقيدان) وأرجو أن لا ينزعج من الصراحة لأنه هو الذي هاجم الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام بن تيمية، والسلف قاطبة مدعياً الصراحة وقول كلمة الحق وخلط بين الصراحة والوقاحة، وبين قول الحق وقلة الأدب مع سلف الأمة ولا غرو في ذلك لأنه لم يتأدب مع الله، ومع رسوله إذ جعل شرع الله ألعوبة لعقله واطروحاته المهترية، وفي مقابل الحط من قدر الأئمة الكرام، وصالح المؤمنين، الثناء العطر على ابن أبى دؤاد المعتزلي.
فلا زلت أذكر مقالاته المختمرة في الإمام احمد، وابن تيمية وكان من آخرها مقالة المعوج في الشيخ الفاضل عبد الكريم الحميد عندما وصفه بأنه {فشل في التكيف مع الحياة الحديثة فلم يجد مخلصاً سوى اعتزالها} ونسى العلاّمة منصور أنه كان يوماً من الأيام ممن راق له هذا المسلك فسلكه ردحاً من الزمن، ولكن حب الشهرة، والظهور لا يتفق مع الزهد، والإقبال على الله، فأطلق العنان لنفسه متقلباً بين الطرق والمناهج لا يدري أيها أهدى سبيلاً حاله حال أهل الأهواء والطرق الكلامية حيث قالوا عن أنفسهم:
نهاية إقدام العقول عقال …… وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
إن منصور أحد أولئك الذين يكتبون لكي يأكلوا، ويتقلبون من فكرة إلى ما يضادها ومن منهج إلى ما يخالفه، ومن ومبدأ إلى ما يعاكسه، فمن رمي الشيخ عبد العزيز بن باز لإرجاء ( ) إلى الارتماء قلباً وقالباً في أحضان المرجئة، والمعتزلة وتبني آراءهم والدفاع عنهم والحط من قدر خصومهم من سلف الأمة، والزعم أن ما عند السلف، ومن سار على نهجهم موروث من الموروثات، يجب أن يغربل وأنهم من البسطاء الذين ينظرون للأشياء نظرة أحادية وبعينٍ عوراء، ويد شلاء ولابد من الثورة على المألوف والموروث، ومن الزهد وبيت الطين والتورع عن استعمال الكهرباء إلى الأستاذية في أحدية راشد المبارك والانهماك في الدنيا وزخارفها.
تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
يقول أحد الكفرة:
كل يوم أذهب إلى الصيد وأخرج السنارة وأضع فيها الديدان، وأكره ذلك ولكن السمكة تحبها فلا يعقل أن أضع لها الكريما لأن السمك لن تقترب من السنارة، بل أضع لها الديدان وأقول، ألا ترغبين في الحصول على هذا. اهـ
إذاً سياسة منصور في الطرح، هي أن يطرح ما عنده على حسب رغبة الناس وما يريدون (حتى وإن كان ديداناً) ويُسِعُونَ لهم في دين الله توسعة لم يأذن بها الله، ولا رسوله لكي يحصلوا على قبول الناس، ويصدرون في المجالس، لعل الناس تنقاد إليهم مثل البهم
قال أحدهم ممن هو على شاكلته:
إذا لم ترغب أن يدخن ولدك، لا تعظه، وتتحدث عما تريده، لكن أوضح له أن الدخان يمكن أن يؤخره عن لعب البايسبول، أو الجري.
ولكن الإسلام أخي القاري يتحدث عما يريد هو ويأمر الناس به وإن لم ينصاعوا إليه فليسوا هم من الإسلام في شيء وأمر الأنبياء بذلك {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ولم يأمرهم أن يحدثوا ويأمروهم بما يرغبون.
منصور وكيف يكون مجدداً ( ) أو تلميذاً باراً لمجدد نحرير
كنا نسمع باستمرار سؤالٌ يطرح مفاده، كيف أكون مفكراً إسلامياً مرموقاً صاحب قلم لا يجارى وإن عجزت فكيف أكون تلميذاً باراً؟
فكانت الإجابات عدة لا كنها لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، وعبر الممارسات التي نراها ممن يزعم أنه مفكر إسلامي عظيم كمحمد عمارة، و فهمي هويدي، وخالص جلبي والقرضاوي، وراشد الغنوش، وعبد العزيز كامل ( )، وعبد اللطيف غزال، وغيرهم ممن أعمى الله بصائرهم...(36/63)
تبين أنه يمكنك ذلك إذا عبثت بالنصوص الشرعية وأخضعتها لعقلك وهواك، ودعوت إلى الاختلاط من طرف خفي، وأبحت الربا إن كان بنسب ضئيلة وأبحت المطعومات والمشروبات المحرمة ( ) إذا كانت بنسبة (01/0) ودعوت إلى وحدة الأديان، وأمرت بدخول البرلمانات، وعلى رأس الداخلين المرأة وأوجبت احترام دساتير الغرب والعمل بها وناديت بالحرية، والمساواة بين أفراد المجتمع مسلمهم وكافرهم، ومنعت من تكفير اليهود والنصارى، وأشدت بما عند الغرب من معتقدات وأخلاق، وقلت إن الإسلام لا يرفض عقائدهم، بل يرفض عاداتهم فحسب وزعمت أن العداوة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى إنما هي اقتصادية لا عقدية وقلت أنمحمدا صلى الله عليه وسلم لا يؤخذ عنه إلا في العبادات، وأما أمور السياسة والحرب فلا يؤخذ بما قرر وإنما نجتهد مثلما اجتهد، وحرمت الجهاد وقلت لا يحل إشكالاً في الحقيقة وإنما يقهر ويقود إلى الأزمات ويسد منافذ العقل ويدفع الأمم إلى الانحدار والانحطاط، ووصفت عصر السلف بأنه من العصور المظلمة ( )، وحرصت على تجريد الناس من دينهم ومعتقدهم ووصفت الدين بالرجعية والتخلف وقمت بالتصدي لسلف الأمة العظام بالنقد والتنقص وأثنيت على العلمانيين وجعلتهم من أصحاب الفكر المستنير، عند ذلك قل ما شئت فأنت المفكر الإسلامي الشهير.
وأما كيف تكون تلميذاً باراً مثل العلاّمة منصور؟
فما عليك إلا أن تتلصص على كتب السالف ذكرهم وتسرق منها ومن اطروحاتهم، وتضيف إليها بعضاً من هرطقتك وسفسطتك وجزءً من تلاعب الشيطان بك أثناء منامك ويقظتك، مغلفاً ذلك بدفاعك عن المارقين من الإسلام وأنهم من أخيار الأمة ثم توج ذلك بأن سلف الأمة أصحاب عيون عوراء وجموديون ألقموا ولقنوا ما يقولون ويكتبون عن شيوخهم، عند ذلك تصبح الابن البار للعصرانيين والعلمانيين، بل ربما فقتهم دناءة وخسة.
لماذا قسوة الألفاظ:
قد يعيب علّي البعض شدة الألفاظ وقسوتها التي مضت والتي ستأتي، وأن هذا ليس من الإسلام في شيء فأقول مستعيناً بالله:
أ - لقد أمر الرسو صلى الله عليه وسلم أن نسف باللفظ إسفافاً ما بعده إسفاف لمن تعزى بعزاء الجاهلية وأن نقول عظ على فرج أبيك وأن لا نستعمل الكناية في ذلك بل اللهجة الدارجة ( )، وهذا فيمن أخطأ خطاءً ميسوراً في نظر كثير من الناس، فما بالك بأخطاء الاعتقاد والكفر والزندقة.
ومن ذلك ما روي عن أبي بكر قوله لعورة بن مسعود الثقفي (امصص بظر اللات) وذلك في الحديبية وما روى لنا مسلم رحمه الله قول كعب بن عجرة عندما رأى عبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً قال: (انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً..) هذا في مسألة الخطبة.
وروى لنا مسلمٌ أيضاً قول عمارة بن رويبة لما رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول ا صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة.
وفي البخاري مقاطعة عبد الله بن مغفل لابن أخيه عندما لم ينتهي عن الخذف قال: والله لا كلمتك بعدها أبداً.
وعبد الله بن الزبير عندما قال لحبر الأمة ابن عباس إيماءً وهو تحت أعواد منبره قال: إن أقواماً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم، لا يزالون يفتون بالمتعة، فرد عليه ابن عباس قائلاً إنك لجلف جاهل لقد فُعِلَت في عهد من هو خير منك عهد إمام المتقين.
هذا بالنسبة للصحابة رضى الله عنهم، وأما من بعدهم فإليك، أقوالهم:
فالإمام أحمد عندما نُقِلَ له قولٌ عن أبي ثور لا يتفق مع الدليل قال: أبو ثور كاسمه ونحواً من ذلك قال عن أبي حنيفة ما قوله عندي والبعرة إلا سواء، وقال عن الكرابيسي كذب هتكه الله الخبيث وذلك في مسألة لفظي بالقرآن مخلوق، وفي كتاب المجروحين لابن حبان كلام سفيان رحمه الله على أبي حنيفة ولا يخفى علينا قول أبي إسماعيل الهروي عن الاشاعرة وأنهم مخانيث المعتزلة وغير ذلك كثير مما يطول المقام بذكره.
فهل نحن أفضل من الرسو صلى الله عليه وسلم والصحابة، والسلف، وأعلم منهم وأحكم أم أن العلامة منصور أشرف قدراً ممن مضى ذكرهم، هيهات هيهات إلا أن نساوي الثرى بالثريا.
والسؤال ما هو الحكم الذي يفهم من هذه النصوص المتقدمة، سوى جواز إطلاقها، أو أفضليته، أو تحريمه.
فإن كان الجواب بالأول والثاني، أمكن حمل النصوص الواردة على ذلك، وإن كان الجواب بالتحريم، فهنا اعتراض، حيث يلزم تأثيم الرسو صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من الصحابة وغيرهم وإن قال قائل خلاف الأولى، قلنا إذاً من صدرت عنهم ومنهم صلى الله عليه وسلم وأئمة الزهد والورع فعلوا خلاف الأولى، فإن قيل هي مسألة اجتهادية لا تثريب فيها على المخالف، عند ذلك لي أن أقول هذا المطلوب.(36/64)
ب - لقد مللنا التمييع إلى درجة أن الصحوة الإسلامية لا تجد غضاضة في أن ترافق الزنديق وأن يصبح العلماني صديقاً باراً لها وأن ترتمي في أحظان المرتدين، وتغشى مجالسهم دون اكتراث بحرمة ذلك، ولا مانع لديها من مشاركة، ومناصفة الرافضة في كل شيء كما دأب بعض رموز الصحوة المشهورين، وهي مستعدة أن تعقد صفقات الحب، والود لليهود والنصارى!! أي صحوة هذه وأي موجهين يوجهونها نحو الهاوية فإلى متى عد المحاسن التي تخفي حقيقة الرجل وخبثه.
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه ……فمن ذا الذي منه الهدى يُتعلمُ
ج - هذه الألفاظ يتضح من خلالها الولاء للمؤمنين، والبراء من هؤلاء المجرمين الناكبين عن الصراط المستقيم، فلقد كان سب آلهة المشركين، وشتمها والحط من قدرها مطلب شرعي ولا زال إلى أن حصلت مفسدة سب الله عدواً بغير علم، فنُهيَ الصحابة عن ذلك فبقي أمر السب مشروعاً مالم تحصل مفسدة أعظم من مصلحة السب.
د - إن تغليف النقد بتلك العبارات المائية، وبتلك الكلمات الهادية يخرج موضوع النقد عن صلبه المراد خصوصاً إن كان المراد التحذير من الشخص ومسلكه، ويورث الود لهذا الشخص خصوصاً عند العامة، وبالتالي قبول كل ما يطرحه من زيغ وضلال، وهنا الطامة العظمى والمصيبة الكبرى ومن تأمل نصوص الشريعة، وأقوال أهل العلم المبنية على الأدلة الشرعية يجد أن الإسلام في النقد والتقريع، والتثريب إما أن يثرب على الفكرة دون الشخص، وإما أن يثرب على الشخص والفكرة معاً، وإما أن يثرب على الشخص دون الفكرة خصوصاً إذا كانت فكرةً كفريةً الحاديةً، قد تعلق في قلوب العامة إذا طرحت على مسامعهم وكان الناقد لها بضاعته، العلمية مزجاة.
ولهذا نهي المسلم أن يغشى المجالس التي يخاض فيها بالكفر والإلحاد بآيات الله والاستهزاء بدينه إلا أن يكون منكراً عليهم ذلك، وإن لم يستطع، لضعفٍ علمي أو خوف جبلي فلا يجلس معهم وما ذاك، إلا خشية أن يفهم من جلوسه الإقرار، أو أن تطرح شبة تعلق في قلبه فيصبح مثلهم نسأل الله السلامة من الزيغ، قال تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} وقال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آيتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} وهل منصور إلا ممن أنساه الشيطان فعكف على كتب الظالمين وأخذ يطرح بين أبنا امتنا الإسلامية خزعبلات وترّا هات تمجها الفطر السليمة.
هـ - الأصل أن تكون غيرتنا وتمعر وجوهنا لكتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ونغضب على هؤلاء الذين حاكموا القرآن والسنة إلى عقولهم العفنة، ولكن للأسف الشديد أن نغضب لهؤلاء النابتة المهلكة لجسد الأمة وندافع عنهم وعن ضلالتهم، وإذا رأينا خطاءً لا نفكر حتى بالرد، ونزعم أن هذا منهج الرسو صلى الله عليه وسلم وإذا أُحرجنا بالأدلة، ووجوب الدفاع عن الدين وأهله قلنا لابد من ذكر محاسن أولئك المخطئين لأن الرسو صلى الله عليه وسلم قال في الشيطان صدقك وهو كذوب وننسى أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال ذلك في الشيطان، حيث كلمة صدقك لن تغير من حقيقة الشيطان شيئاً ولن تلبس على المؤمنين أمر دينهم بينما قولها لهؤلاء المرتزقة ستغير من صورتهم الكالحة في أذهان الناس وبالتالي خدعنا امتنا الإسلامية ويا سبحان الله حيث لم يكن الرسو صلى الله عليه وسلم يغضب لشيء إلا إذا انتهكت حرمات الشرع ونحن نغضب إذا تكلم على الرجال المبتدعة والمنحرفين بما فيهم، أي دين هذا وأي إيمان في قلوبنا هل غاب عنا حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم الذي بوب عليه النووي باباً فقال [باب وجوب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع]وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا! فما رأيت رسول ا صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: (أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه وفي رواية قال أفتانٌ يا معاذ!؟(36/65)
وهنا نقول هل عدّ رسول ا صلى الله عليه وسلم محاسن معاذ قبل أن يصفه بالتنفير والفتنة، وهذا وصف ليس باليسير فيمن حاول أن يطبق السنة وهي مسألة لا تقارن بحال من الأحوال مسائل النقيدان الأرجائية والمروقية وغيرها الذي فتح باباً على مصراعيه للزندقة والمروق من تعاليم الإسلام، أجيبوا يا أصحاب المحاسن والأيجابيات أيها الإحتوائيون، حيث ما بقي أحد من أهل الزيغ والفساد إلا وأحطتموه بسياج عظيم من الدفاع وذكر المحاسن إلا أن يكون من أهل الورع والزهد وممن يحاول أن يقتفي أثر السلف فالسهام الفتاكة والقذائف المحرقة فهذا على سبيل المثال لا الحصر الشيخ عبد الكريم الحميد وصفتموه بالتنطع تارة وأخرى بالشذوذ وثالثة بالخلل العقدي ورابعة وخامسة دون ذكر محاسنه وسلم منكم في المقابل العلمانيين والمارقين عن الإسلام بل دافعتم عنهم محتجين لهم بحديث الرسو صلى الله عليه وسلم (صدقك وهو كذوب) حقاً وإن تعجب فعجب قولهم.
وفي ختام هذه النقطة تسمحون لي أن أقول عن منصور النقيدان صدقكم وهو كذوب وعن القرضاوي كذلك وعن أي زائغ يلبس مسوح العلم والعبادة صدقكم وهو كذوب؟
و هل تريدون أن أقول إلى فضيلة الشيخ الرباني كما هي خطابات الزائغ محمد عبده لجمال الدين الأفغاني ( )، وأقول أخطأ الشيخ ولم يقصد، وأثابه الله على ما قدم من خطأ للأمة ولا حرمنا الله من علمه وفضله وأظنه غفل وفقه الله، ونور بصيرته و... و... من لم يرضى بهذه الألفاظ وقسوتها ورأى أنها ليست من الحق، فما عليه إلا أن يشطب عليها ولكن هذا لا يرده عن الحق الذي بين هذه الأوراق.
منصور من بيت الطين إلى الأستاذية و (المفكرية) في أحدية راشد المبارك ( ) :
قلت فيما سبق أن منصور ممن أنساه الشيطان فأقبل على كتب هؤلاء الضالين المضلين وكرع في موردها الآسن، ليصبح مفكراً إسلامياً مرموقاً، ولو وجد قبل إقباله على هذه الكتب العفنة تلك الألفاظ المحذرة، والسيل الجارف من العبارات الحارة والشهب الكلامية المحرقة، التي ينبغي أن يرجم بها هؤلاء المرتزقة، متوجتاً بعُصيات عمر رضى الله عنه التي جلد بها صبيغ لوجدناه مستمراً على منهجه الأول بيت الطين والورع والزهد وعدم الشرب إلا من الزير حيث كان فيما مضى شاباً يافعاً يقطن مدينة بريدة وممن تحرك في قلبه وازع الإيمان و أشر مؤشره، فلم يستطع أن يتكيف مع هذه الحياة الصاخبة التي تتنافا مع الزهد و الإقبال على الله، فهرع إلى منهج العارفين بالله المريدين لما عنده، فرفض جميع متع الحياة، رفضاً لا يتصوره متصور ولا يصبر عليه أحد إلا أن يشاء الله، (ويا ليته واصل، وكم يتمنى الإنسان أن يرزق مثل هذا المنهج) ولكن:
خلق الله للحروب رجالا ……ورجالاً لقصعة وثريد
حتى نهى عن الكهرباء واستعمالها ليس تورعاً بل تحريماً، ولا يستمع إلى هذه الأشرطة الإسلامية لأن تسجيل المواد الإسلامية فيها إهانة لها، وكان يرى وجوب تغيير المنكر باليد والقوة بل غير كثيراً من المنكرات بيده وبكل عنف دون النظر إلى عاقبة ذلك وهذا ناتج عن حبه للخير والصلاح، وغير ذلك مما هو مقتنع به آنذاك، وكان مقبلاً على فضيلة الشيخ فهد العبيد يتعلم مما عنده من الزهد والورع، وكان مكباً على العالم الرباني عبد الكريم الحميد وكذا أقبل على العلاّمة عبد الله الدويش رحمه الله، وغيرهم من أهل الزهد، والورع، لا حرمنا الله منهم ومن سيرهم العطرة، وجمعنا الله بهم في جنان النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وكان يُلحظ على منصور في تلك الفترة حبه للظهور والانتقام ممن نال منه، فعندما يعاتب بكلمة رقيقة هادئة يقصد منه الخير وما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، يكابر ويؤذن بالحرب هياجاً وصياحاً ويخرج الموضوع من نصابه وهو جدٌ كان موقفاً هادئاً باسماً رقيقاً، لا لشيء إلا أنه يرى نفسه فوق النصيحة والمعاتبة، وكثيراً ما يلبس الحق بالباطل، للتورية على من يستمع إليه أو يقرؤه لإخراج أي موضوع عن مساره الحقيقي، ومسكين من أوقعه حظه العاثر بين يديه، لأنه في أكثر من موقف يلجا إلى الافتراء وإلى المبالغة والتهويل لأمر من الأمور القائمة بينه وبين غيره ممن يريد افتراسه سبيله في ذلك التحريف والتبديل وقلب الحقائق وصولاً بحجته إلى دليل يقبله السامع أو القاري غير آبه بحرمة ذلك ولا مبال ومن ثم يلجا إلى المراوغات للتهرب من هذا الموقف مثلاً، أو للمكر والخديعة من موقع آخر بقصد الانتصار والانتقام، وهذا ينافي الزهد، ومؤشر إلى أمر خطير وكان بعضا من رفاقه ومشائخه يحذر من أن يُناقش أو يثار في مسألة ما، وذلك لا ستعداده أن يلقي بمنهجه وراءه ظهرياً ليثبت صحة ما توجه إليه دون أي مبالاة أو اكتراث بما يحصل فيما بعد وهذه كانت من علامات الانحراف إضافة على توغله في أدران تلك الكتب المتسخة وفعلاً يفاجأ الأخوة والرفاق أن منصور تحول من بيت الطين وتحريم الكهرباء إلى الأستاذية في أحدية راشد المبارك فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ابن تيمية ومنصور... (ساقية لاطمة بحراً) :(36/66)
الذي دعاني لهذا العنوان هو انبهاري بتفتق علمية منصور وفرط ذكائه فأحببت أن لا أبخسه حقه من ذكر صفاته ومن يشبه من الجهابذة العلماء، ولا أقرب له من ابن تيمية، فإن:
منصور مُعَلَمٌ فطن وكذا ابن تيمية، منصور حافظة حجة وكذا ابن تيمية، ومنصور تقي وورع وكذا ابن تيمية، ومنصور مناضل ومكافح عن الإسلام وكذا ابن تيمية، ومنصور الجميع مفتقد لعلمه ومحتاج إليه وكذا ابن تيمية، ومنصور بحر لا ساحل له في كل علم وكذا ابن تيمية، منصور نبغ صغيراً، وأفتى مبكراً، وكذا ابن تيمة.
إذاً ما الفرق الجوهري بينهما؟
ابن تيمية خرج في وقت والناس بعيدون عن شرع الله منهمكون في الدنيا وشهواتها، فسعى جاهداً أن يردهم إلى الحق.
أما منصور فيظهر له أن الناس أصابهم الغلو، والتنطع من كثرة الدين، والإقبال عليه ورأى أنهم معرضون عن الدنيا زاهدون فيها، فرأى من واجبه أن يخلعهم من دينهم ويصدهم عنه ويشككهم في عقيدتهم، ويسلخهم من أخلاقهم، وعاداتهم الحسنة لكي يحصل التوازن في المجتمع ويصبح الخزان الداخلي موازٍ للخزان الخارجي، فشتان بين مشرق ومغرب.
وثمة فرقٌ آخر وهو غيرة منصور من شيخ الإسلام وانعدام هذه الغيرة من شيخ الإسلام، فهل نستطيع هنا أن نقول كلام الأقران يطوى ولا يروى!! أي أقران (بين عالم تقي، وجاهل شقي) أو نقول عن منصور بأنه البحر وابن تيمية الساقية فيقال ساقية لاطمة بحراً
قارنت هذه المقارنة لكثرة تعرض منصور لشيخ الإسلام بن تيمية.
هذه مقدمة مختصرة جدا تبين جزءً من واقع العلاّمة منصور، سقتها لتكون ممهدة بين يدي ما سوف أطرحه من ملاحظات على ما كتبه أخيراً وأرسله إلى صاحب مجلة المجلة.
وما كنت لأكتب لولاء معرفتي باعوجاج منهج الرجل وعوره فلقد ناصحته في مقاله الأول وتوصلت إلى أنه صاحب فكر عقيم وذلك عندما سألته أثناء النقاش الدائر ما تقول فيمن يقول بخلق القرآن هل يكفر كما هو منهج أهل السنة والجماعة أم لا يكفر؟
فكانت الإجابة بأنه لا يكفر.
وبعد ذلك تركته أملاً أن لا يكتب مرة أخرى في هذه الصحف وكنت محسناً الظن به فيما ذهب إليه من عدم تكفير القائل بخلق القرآن لعله ورع منه، فصعقت لما رأيت مقالاته تترى في النيل من الإسلام وأهله فبعد مقاله أفكار نصارعها وتصارعنا، أتبعه بمقاله حتى لا نستدرك على الشرع ثم أتبعهما بمقاله عن الشيخ عبد الكريم الحميد مستهزئاً به، وأتبع ذلك بمقاله، كثيراً ما ألصقت تهمة المروق لبواعث سياسية، ثم هذا المقال الذي أنا بصدده (نواقض الإيمان بين الشريعة المنزلة وتشقيقات الفقهاء).
والآن أخي الكريم إليك بعض الملاحظات في هذا المقال التي تدل على إفراطه في الجهل وافترائه على سلف الأمة.
أولاً: قال في النسخة المرسلة للمجلة (السيد رئيس رئس التحرير...)
والتعليق: لقد نهى الإسلام عن تسويد هؤلاء ولعله خفي على العلاّمة حديث أبي داود الذي فيه النهي عن ذلك.
ثانياً: العنوان أضخم من محتوى المقال وهذه سياسة الإعلاميين سياسة الدجل وتغيير الحقائق والعنونة بعنوان يخالف المحتوى لكي تكون إعلامياً مرموقاً، حيث عنون منصور لمقاله بنواقض الإيمان، ولم يورد سوى الطائفة الممتنعة عن التزام شيء من شعائر الإسلام ومن ثم ترك الصلاة ولم يوردها استقلالاً وإنما استشهاداً ومن ثم الممتنع عن تحكيم شرع الله.
فهل هذه هي نواقض الإيمان أم أنها من نواقضه، لا شك أن هذه جعجعة منه ليبين لنا غزارة علمه.
ثالثاً: ما قرره الآن في مقاله المتردي، نطرح سؤلاً، ونقول هل نعدك بهذا الطرح، وما وصلت إليه {اجتهاد فقيه، أوفهم عالم، وتشقيق آخر، وخبطه كيفما اتفق} أم أنه يوحى إليك، وصدق الله إذ يقول {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} نعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشركه.
وإن لم تكن كذلك فلعلك من حزب المجددينات ( )، ورحم الله أبا إسماعيل الهروي عندما قال عن الأشاعرة أنهم مخانيث المعتزلة، حيث ألمح أن فكر منصور عبارة عن عصارة فكر العصرانيين والعلمانيين.
رابعاً: قال في مقاله (وحينما توضع قاعدة ويؤصل أصل أو يؤلف كتاب في كفر من أتى بعض المخالفات وأطلق بعض العبارات ليلقن أجيال الأمة وتحشى به عقولهم وتربى عليه ناشئتهم ثم تثور الفتن وتسفك الدماء جراء ذلك وحين التحقيق عن مستند لها في الشريعة لا تجد إلا أثراً ضعيفاً أو حديثاً محتملاً أو آية مؤلة ورأياً مهجوراً لعالم خالفه من هو في مرتبته أو أعلم منه..)
ثم في نفس المقال يقرر مسألة مستدلاً بأية من كتاب الله، وببعض الأحاديث وأراء العلماء فأصبحت الآية محكمة غير مؤلة، والأحاديث صحيحة غير محتملة وأراء العلماء حجة قاطعة فيا سبحان الله هؤلاء هم أهل الأهواء والزندقة يأخذون ما يروق لهم من دين الله وما لايروق يحرفونه عن مواضعه وهذا جلي في مقال منصور في مسألة تارك الصلاة حيث ذهب إلى رأي مهجور لبعض العلماء في أن تارك الصلاة كفره كفر دون كفر فما هذا الجهل والتناقض.(36/67)
خامساً: دوماً يدندن حول قطعية ثبوت النصوص وقطعيته دلالتها، قال: (ونحن نعلم أنه لو جاء شيء من ذلك لتكفلت النصوص الصحيحة القطعية بشرحه وتفسيره)
وأقول هذه مقدمة الزندقة التي تبناها المعتزلة العقلانيين وعلى ذلك ردوا أخبار الآحاد بحجة أنها لا تفيد إلا الظن ،كما هو رأي النظام من المعتزلة والآمدي والرازي وغيرهم والعلاّمة منصور.
سادساً: يقول العلامة منصور (ولقد اختلفت مذاهب المسلمين الفكرية ومدارسهم الفقهية في جل مسائل الإيمان...)
ولا أظن هذا إلا صفاقة وجه وقلة حياء وتزكية للنفس بما ليس فيها فما هذا العلم والإحاطة العجيبة التي لم تتسن للأئمة الثلاثة، ثم من الذين اختلفوا غير المرجئة، والمعتزلة والقدرية والأشاعرة وغيرهم من فرق الضلال، ولم يثبت غير سلف الأمة رضوان الله عليهم وهم العبرة حيث كانوا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
سابعاً: دندن حول كلام شيخ الإسلام في الطائفة الممتنعة عن التزام شعيرة من شعائر الإسلام ونسب إليه نقل الإجماع بكفرها، واتهم الشيخ بأنه يهول ويرهب الناس بذلك وإليك نص قوله: (وما يثير الرعب لدى كثير من الدارسين ويصيبهم بالشلل، هو ما يحكى من إجماع الأمة واتفاق الأئمة على القول بمسألة ليست عند التحقيق، والتنقيب سوى مذهب لعالم وتوجه لدى تيار، ولم تكن حكاية الإجماع إلا تهويلاً وإرهاباً ولكنها في المحصلة بيت من زجاج، وكوخ من قش وسراب لا حقيقة له، ومسألة القول بكفر من امتنع عن التزام شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة ليست سوى مثال لما ذكرناه)
وهنا أقول هذا محض كذب على شيخ الإسلام وجهل بكلامه، حيث الثابت عنه كما في الفتاوى 28/356و469و476و503و545و556 أنه قال (وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين) ثم ساق النصوص في وجوب قتال الخوارج، وفي موضع آخر قال: (وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها..) ولما سئل عن قوم ذوي شوكة وممتنعين عن أداء الصلاة وقال: (قال يجوز قتالهم بإجماع المسلمين) وغير ذلك من المواضع التي يطول المقام بذكرها فأين الإجماع بكفر هذه الطائفة ( ) الذي يزعم منصور أن شيخ الإسلام ذكره وتبناه تهويلاً وإرهاباً للمسلمين، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم إذاً شيخ الإسلام نقل الاتفاق في وجوب قتالهم ولم ينقل الإجماع على كفرهم؟
ثامناً: قال: (لا أبالغ إن قلت أن هذه المسألة ضالعة في دفع كثير إلى تكفير مجتمعاتهم المسلمة ومصادمة حكوماتهم لما رأوه من مظاهر النقص والخلل في التزام بعض أحكام الدين وشعائره) فأقول مصادمة حكوماتهم كمصادمتك قبل زمن وإحراقك بعض المحلات!!! أم ماذا يا شيخ منصور؟ هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنت جاهل ولا تعي ما تقول وفي فهمك عيٌ إذ أن واقع الأنظمة التي تتحدث عنها ليس واقع طائفة امتنعت عن التزام شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، وإنما واقعها واقع من يُشَرّعُ من دون الله ويبدل أحكامه، ومولاة للكفار، ومحاربة للإسلام وأهله، ونبذ للدين بكامله وراءهم ظهرياً، إلا من رحم الله، فما هذا القياس الفاسد لديك وما هذه الموازين المختلة التي تنبئ عن خلل، ولوث في عقل صاحبها، ثم هم لم يتكلموا في مجتمعاتهم ولم يكفروها وإنما تحدثوا عن الأنظمة، والقوانين فحسب، والذي كفر المجتمعات هو واقعك الذي مضى قبل أن تسلك هذا المسلك.
تاسعاً: نسب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما تولى الخلافة رد أموال وممتلكات الذين قاتلهم أبو بكر حيث قال: (وهذه الفئة هي التي وقع الخلاف بين أبي بكر وعمر في وجوب قتالهم ثم قاتلهم أبو بكر، وقد رد إليهم عمر أموالهم وممتلكاتهم عند توليه الخلافة)
والتعليق أن أقول: عجيب أمر منصور فإن الذي في كتب أهل العلم من المحققين والفقها وغيرهم مثل كتاب الأحكام لابن حزم، والمغني لابن قدامة، ونصب الراية للزيلعي ونيل الأوطار للشوكاني أنه رد السبي الذي كان في حروب المرتدين من بني حنيفة، إلا من أولدها سيدها ولم يرد الأموال.
ثم إن أهل العلم متفقين على أن عمر خالف أبا بكر في قتال مانعي الزكاة أول الأمر ومن ثم رجع إلى رأي أبي بكر، وقال: (فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق)
عاشراً: زعم العلامة أن الثابت من سير الرسو صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة أن تؤخذ منه وشطر ماله، قولاً واحداً لا خلاف فيه.
وأقول هذا من جعبة العلامة، بل الثابت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية وأصحابهم أن لا يؤخذ على الزكاة زيادة بل قال ابن قدامة في المغني (ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضى الله عنه عقب موت الرسو صلى الله عليه وسلم ، مع توفر الصحابة رضى الله عنهم فلم ينقل عنهم أخذ زيادة ولا قول بذلك. اهـ
وإنما إسحاق بن راهوية، وأبو بكر بن عبد العزيز ذهبا إلى القول بأخذها وشطر ماله لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.(36/68)
والحديث الوارد بهذا الصدد (فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا..) عند أحمد وأبي داود، والنسائي، والدارمي، قد اختلف أهل العلم فيه من بين مصحح ومضعف و الذين جنحوا إلى تصحيحه قالوا إنه منسوخ، وأن المقصود شطر ماله، أي خيار ماله في القيمة مما يساوي الشطر.
وعلى كل حال لماذا العلامة يخالف تأصيله ومنهجه و يأخذ هنا بالحديث الضعيف الظني والرأي المهجور وأقوال الرجال فأين منهجه الذي يدندن حوله ويحاول أن يؤصله، وإن زعم أنه لم يأخذ بأقوالهم بل هو محض فكره وعلمه واجتهاده، وهذا الذي يظهر من حال المغترين والمتعالمين، نقول له من أنت؟ وأيهما خير تشدقك و تشقيقاتك المنشقة، أم تشقيقات الفقها المفعمة بالأدلة.
إن مما يعرفه البلداء قبل الفطناء، أن من دلالة وضوح المبدأ والمنهج عدم التناقض بين التنظير والفعل والحرص على الاطراد.
حادي عشر: قال: (ومن كان له أدنى إلمام بعلوم الشريعة، يعلم قطعاً أنه ليس في الإسلام ما هو معصية في حق الفرد وكفر في حق الجماعة). أهـ
لا أملك إلا أن أقول ما قاله أبن القيم:
وتزعم مع هذا بأنك عارف وما أنت إلا جاهل كذبت يقيناً بالذي تزعم وأنك بين الجاهلين مقدم
ثم ظالم وفي مثل هذا الحال قد قال من مضى …… وأحسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت تدري فتلك مصيبة.…… وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم
إن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله لم يفرق بين الفرد والجماعة في مسائل الكفر ولكن الهوى يصم ويعمي، وإليك الآن كلام شيخ الإسلام رحمه الله:
قال رحمه الله: (الوجه الثالث أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحداً أو معانداً ولهذا قالوا من عصى مستكبراً كإبليس، بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي والمستكبر وان كان مصدقاً بالله رباً فان معاندته له ومحادته تنفي هذا التصديق... الى أن قال: وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسو صلى الله عليه وسلم إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المُحَرِم فهذا اشد كفراً من قبله وقد يكون هذا مع علمه بأن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ثم إن هذا الامتناع والإباء إما في خلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته) أهـ.
فهل وجدتم كذباً على شيخ الإسلام اشد من هذا الكذب الذي لفقه عليه الكبش النطاح فريد عصره منصور النقيدان ،فسبحان من ألهمه إلى اكتشاف ما غفل عنه جهابذة العلماء.
ثاني عشر: زعم زعماً فاضحاً بأن السلف رحمهم الله قصروا الامتناع بالقتال دون غيره من مظاهر الرد والرفض، لأنهم لم يجدوا في كتب من قلدوهم سوى هذه الصورة فجمدوا عليها.
ولا أقول هنا إلا كما قال الشاعر:
قال حمار الحكيم توما لو ……أنصف الدهر كنت أركب
فإني جاهل بسيط …… وصاحبي جهله مركب
فكيف يقول هذا من له أدنى إلمام بأحكام الشريعة، أين أحاديث الخوارج التي اخبر الرسو صلى الله عليه وسلم أنه إن وجدهم ليقتلنهم قتل عاد، وفيها أنهم شر قتلة تحت أديم السماء، وفيها أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وفيها أنهم كلاب النار، ولم يشرط الرسول في امتناعهم أن يظهروا القتال للمسلمين، بل حث على قتالهم حتى وإن لم يقاتلوا، فإن رجعوا إلى الإسلام كف عنهم، وأين قسمك الثالث الذي ذكرت فيه الطائفة الثالثة الذين قاتلهم أبو بكر لمجرد امتناعهم عن أداء الزكاة ووقع هنا الخلاف بين وبين عمر رضى الله عنهما، وأين قسم أبو بكر عندما قال والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم لحاربتهم عليه ولم يشترط أن يقاتلوه على هذا العقال، بل معارضة عمر له تدل أن أبا بكر قاتلهم وبدأهم القتال ولم يبدؤه حيث قال كيف تقاتلهم وهم يشهدون ألا إله إلا الله والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وفي رواية إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله فقال أبو بكر: وهذا والله من حقها والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها..
هل رأيت أخي القاري الجهل المطبق ليس في كلام السلف فحسب بل حتى في نصوص الشرع المطهر
ثالث عشر: قال: (ذهب ابن تيمية إلى أن تارك الصلاة إن لم يكن كافراً بتركها فهو كافر بامتناعه إذا قتل ممتنعاً).
أقول؛
أولاً: لدي نسخة من مسودة المقال بخط يد منصور بعد انتقد وقرر ما قرر قال: (ويجعلون امتناعه و صبره على القتل دليلاً على كفره في الباطن وعدم إيمانه بوجوبها) والسؤال لماذا حذف هذا النص من المقال؟(36/69)
ثانياً: هذا القول لم يقله شيخ الإسلام وإنما من كذب منصور وتدليسه وتغييره للحقائق وإليك ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى ج22ص:48 (فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن معتقداً لوجوبها يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل وهو لا يصلي هذا لا يعرف من بني آدم وعاداتهم ولهذا لم يقع هذا في الإسلام قط ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها ويقال له إن لم تصلي وإلا قتلناك وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب هذا لم يقع قط في الإسلام، ومتى امتنع الرجل عن الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ودلت عليه النصوص الصحيحة كقول صلى الله عليه وسلم ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة رواه مسلم وقوله العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وقول عبد الله بن شقيق كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون مسلماً مقراً بوجوبها..).
إذاً شيخ الإسلام يكفره بالنصوص الواردة عن الرسو صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وليس لأنه امتنع حتى يقتل وإنما يجعل هذا الامتناع حتى القتل دليلاً على الدخن الذي في قلبه، وأنه لوكان هناك ذرة إيمان في قلبه لما صبر حتى القتل، وأراد ابن تيمة إسقاط هذا الافتراض الذي لم يكن ولا يكون البتة.
والآن هل عرفتم ماذا يريد الجهبذ منصور؟
رابع عشر: قرر أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكون كافراً إلا أن يقاتل.
التعليق، لا أدري من قال بهذا ومن أين أتى به، وأي من المعاصرين يقصد؟ والعجيب أنه في مسودة المقال الذي معي لم يذكر المعاصرين وإنما المح إلى أنه من قول المتقدمين.
خامس عشر: قال في أحد تشقيقاته (وطردُ هذا أن يكفر قاطع الطريق الممتنع عن كف عدوانه حتى يقتل، وأن يكفروا الممتنع عن ترك شرب المسكر، ومرتكب الفاحشة إذا امتنعا حتى يقتلا وهذا هو اعتقاد الخوارج الذين يكفرون بالكبائر...).
أقول: على فساد القياس وأنه من الأدلة المختلف فيها إلا أن هذا الغر لا يعرف القياس ولا شروطه وأركانه، حيث إن هذا قياس فاسد حيث قاس فعل المعصية على الامتناع عن الطاعة، ونحن نعرف أن تارك جنس الأعمال يكفر بينما فاعل جنس المعاصي مالم تكن مكفرة لا يكفر، قال ابن عيينة، المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة المحارم وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر كفر وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث إلى بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه. اهـ معارج القبول (ج:2ص:636).
فيا سبحان الله على غزارة العلم وتفجره الله الله في حني الركب في مجالسه العلمية فهو فرصة لا تعوض.
سادس عشر: قال (وهذا الخلط وجدته لدى كثير من المعروفين باعتدالهم غافلين أن هذه الآراء التي ألقموها...).
نعم قد غفلوا وفطنة لها أيها الفطن الحاذق، ولكن قبل ذلك ماذا كنت؟
ليتك أسميت مقالك " فطنتي الفطنة " كم يسف الرجل بنفسه عندما يثنى عليها بما ليست أهلاً له وهذا أسلوب القرضاوي عندما سئل هل أنت مشهور في العالم ومعروف، قال: أتيت دولاً كثيرة فيها علماء يسمونهم القرضاوي الصغير، وصدق اله إذ يقول {ألم ترى إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} وقال {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}.
سابع عشر: قال: (ولقنوها تلاميذهم هي بذرة التطرف ومكمن الداء).
أي تطرف تقصد أهو الحرق والنسف والتفجير الذي كنت تعيشه؟ فإننا لا نعلم من سوف يروج عليه ما راج عليك، أم تقصد التزام السنة واحرص على الدين؟!
ثامن عشر: قال: (مسائل الفكر التي لأجلها يتصارع بنو الإنسان ويقتل بعضهم بعضاً).
أولاً: لماذا قلت بني الإنسان ولم تقل المسلمين؟ لعلك ممن يشن حرباً شعواء على من يكفر اليهود والنصارى ويرى وجوب قتالهم.
ثانياً: لعل هذا المقال توطئة لمقال آخر تحرم فيه الجهاد، وربما قلت، إن أول ما أنزل الله إقراء ولم ينزل اضرب اقتل، ولربما جنحت إلى أن القتال يظل منعطفاً يُكره إليه المسلمون أو نوعاً من الهبوط الاضطراري الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامية ويظل القتال عنصراً معطلاً لأداء هذا التكليف الإلهي ( ).
تاسع عشر: قال: (وإذا كنت اعتقد أن امتنا المسلمة بعلمائها ومذاهبها الفكرية ومدارسها الفقهية لم تجمع يوماً على مسألة، وأن ما يذكر من إجماع ويحكى من اتفاق ليس إلا رأياً يمثل تياراً أو توجهاً لمدرسة، ليبكي كل على ليلاه).
حسبنا الله ونعم الوكيل، على هذا التقليد الأعمى وعلى هذا الجهل المظلم، وأي خلب هذا أيعقل أن الأمة المسلمة كما قال هذا الأرعن الرغديد، وهل هذا إلا استخفاف بمن سيقرأ مقال هذا الأخرق التائه إن مما يعلمه أطفال الأمة المسلمة قبل رجالها ويعلمه العامة قبل العلماء كذب هذه الدعوى العريضة، ولبيان هذا الكذب ولنفيد هذا الجاهل الحائر أقول: ألم تجمع الأمة وجوب الوضوء لمن أحدث وأراد الصلاة وتوفر عنده الماء وقدر على استعماله؟!(36/70)
فما رأيك أيها النحرير حيث يطول المقام بذكر مسائل الإجماع حيث ذكرت هذه المسألة لنقض بنيانك الذي على شفى جرف هار، وإن كنت تعتد بخلاف الجهمية والقدرية والمرجئة والرافضة والصوفية المغرقين بالتصوف الاشاعرة المنظرين المقعدين لمذهبهم وغيرهم كثير لمن تفرع منهم حيث ما أنت إلا فرخ من أفراخهم فالله المستعان على صرير الباب وطنين الذباب، وقديماً قيل إذا لم تغلب فاخلب.
وقبل الختام.. منصور ومنتجوا المواد الغذائية :
عندما يشيع بين الناس منتجٌ ما لأحد المنتجين التجاريين، وتألفه العامة، وتعتاد عليه وعلى شكله، تدب الغيرة في قلب أحد المُنْتِجِينَ فيهرع إلى منتج آخر على هيئة ونمط المنتج المألوف اللهم بعض التغيير اليسير، الذي يتمشى مع أنظمة التجارة وينطلي على بعض المستهلكين السذج، ولكن قد يعتذر لهؤلاء التجار، بأنهم يسعون في الأرض يبتغون من فضل الله، ولا محذور في ذلك، إن لم يكن فيه غش للمسلمين، ولكن الاتجار بالأفكار العقلانية الكفرية، وترويجها بين المؤمنين، وسرقتها من الملحدين والمارقين من الإسلام، وتقديمها على أنها دين من الله، كفر، وإلحاد نسأل الله السلامة من ذلك ونعوذ بالله من الزيغ.
أخيراً لا آخرا :
لا يزال في الأمة الخير ولا تزال، تلد أولئك الغُيُر الذين يدافعون عن الدين وأهله، ولقد رفضت الأمة من هم أشد عتواً من هذا الغر اليافع وركلتهم بأقدامها وأبعدتهم عن الطريق وواصلت سيرها إلى الله سيراً حثيثاً، وهذا المنهزم لا شك أنها ستلفظه وتطأه بأرجلها لتمهد به الطريق إلى المولى جل وعلا، وذلك للقزمة الفكرية التي يعيشاها والمنظومة الدنيئة التي بدأ بالإنظمام إليها.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
===================(36/71)
(36/72)
ظاهِرةُ نقدِ الخِطابِ الدِّينيّ
عبدالله بن محمد المالكي 10/6/1425
27/07/2004
إنّ ظاهرة النقد والمراجعة من الظواهر السليمة والصحيّة في المجتمعات المتقدّمة، وعلامة بارزة على فلاح الأمم واستمرار نجاحها، وعامل أساسي للتطوّر والتقدّم.
وهو - قبل ذلك - أمرٌ قد ندبت إليه الشريعة ودعت إليه الأخلاق الإسلاميّة، ففي القرآن : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد...ٍ)[الحشر: 18].
وهذه إشارة إلى المراجعة ونقد الذات قبل المثول أمام الله يوم القيامة .
وهاهي نظريّة عمر الفاروق - رضي الله عنه - تصدح في كل زمان عبر التاريخ "رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي"، وهو هنا يتكلم على مستوى الدولة، أما على مستوى الأفراد فيقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسبوا ،وزِنوا أعمالكم قبل أنْ توزنوا ؛ فإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل".
فالنقد والمراجعة ظاهرةٌ إسلاميّة قبل أنْ تكون ظاهرةً مستوردة، وخلقٌ إسلاميّ عاشه صالحو هذه الأمّة من القادة والعلماء والمفكرين قبل أنْ يكون ممارسةً لدى دول الغرب (المتحضر!) ، فلا خلاف ولا إشكال إذاً في مشروعيّة وأهميّة النقد والمراجعة وتصحيح المسار، هذا من حيث المبدأ .
ولكن في الآونة الأخيرة ظهر ما يسمّى في أدبيات الفكر العصراني بـ (نقد الخطاب الديني)، أو ما يسمّيه البعض بـ (تجديد الخطاب الديني) [وهما في النتيجة سواء؛ فالمجدّد ينظر في الخطاب الديني نظرة الناقد، والناقد ينقد الخطاب الديني بغية التجديد.
وقد وقع الجدال العريض، وتباينت المواقف حول هذه الظاهرة من مؤيّدٍ ورافض ،فالمؤيّد يرى أنّ هذا أمر مشروع وهو من طبيعة المنهج الإسلاميّ، والرافض يرى أنّ ذلك هدم لأصول الإسلام، وبوابة للزندقة والإلحاد، ولذا كَثُرَ الالتباسُ، واختلطت الأوراق لدى المتابعين للشأن الإسلاميّ حول هذه الظاهرة.
والسبب في ذلك - من وجهة نظري - هو عدم وضوح المصطلح وتحديد مضامينه؛ فإنّ تحديد المصطلحات وإبراز مضامينها من أهمّ عوامل إنجاح الحوار، ويساعد في تحديد المواقف بدقّة في أيّ قضيّة فكريّة ، وإلا لأصبح كلُّ طرفٍ يجادل عن مصطلح يختلف مضمونه عن المضمون الذي يجادل عنه الطّرف الآخر.
فأقول : مصطلح (الخطاب الديني) : إما أن يُراد به حقيقة الدّين ، المتمثل في الوحي المقدس الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما نطق به القرآن أو استفاضت به السنة الصّحيحة، أو انعقد عليه إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ؛ وهذا النوع ليس له إلا تفسير واحد ، وتفسيره قراءته كما أُنزل بلا تأويل ؛ ولذا لم يختلف في فهمه الصّحابة والتابعون وأئمّة الدين عبر التاريخ إلى زمننا هذا .
وبناءً على هذا المفهوم ؛ تبرزُ ثلاث حقائق هامّة:
الأولى : إنّ (الخطاب الديني) - بهذا المفهوم - هو حقيقة الدين وصورته الكبرى وهو حينئذ لا ينسب إلا إلى الله تعالى ، ولذا فهو خارج دائرة العقل البشريّ ، فلا يخضع للنّقد والمراجعة كما تخضع له أنواع الخطابات الفكريّة الأخرى ؛ لسبب بسيطٍ جداً؛ وهو أنّ مصدره من عند الله الملك الحكيم، والخبير بصلاح الإنسان ونفعه، والعليم بدقائق الأمور وعواقبها، وأما الخطابات الفكريّة الأخرى فإنّها بشريّة المصدر، والبشر ليسوا مقدّسين عن الخطأ، وهم متفاوتون في عقولهم، و أفهامهم.
الثانية : إنّ (الخطاب الدينيّ) بهذا المضمون ليس بحاجة إلى نقد وتصحيح أو إصلاح وتجديد من جهة البشر حتى يكتمل، ويكون صالحًا لكل زمان ومكان ! وإنّما هو رسالة بيّنة وكاملة ومحدّدة من الله إلى خلقه يكون الموقف منها إمّا التسليم والانقياد، وهو موقف المسلم المؤمن بربه، أو الرّفض والإعراض ، وهو موقف الكافر المعاند لربّه.
الثالثة: إنّ نسبة التخلّف إلى الخطاب الدينيّ - على وفق هذا المضمون - هو - في الحقيقة - قدحٌ في الوحي وتكذيب لله ولرسوله ، وردٌّ لوصف الله له بأنّه : ? هدًى ورحمة ? ? هدًى وذكرى ? ? هدًى وبشرى? .
بل إنّ التردّد والتوقّف في قبول هذا (الخطاب) نقض لحقيقة الإيمان ، قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...)[الأحزاب: من الآية36]ونحن عندما نقرّر هذه القضيّة لا بدَّ في المقابل أنْ نفرّق بين الخطاب الدينيّ القائم على دلائل الكتاب والسنة،وإجماع السلف الصالح ، والخطاب البشريّ الذي يمارسه العلماء والدعاة وكل من يتكلم باسم (الدّين) .
فالخطاب الأوّل كما - قلنا - وحيٌ مقدّس خارج دائرة النقد ، وأما الخطاب الثاني فهو اجتهاديّ نظريّ غير معصوم ،داخل في دائرة النقد والمراجعة ، وقبوله وردّه مرهون بموافقة (الكتاب والسّنة) .(36/73)
وحينئذٍ لا يصحُّ أن يُنسبَ (خطابٌ) إلى (الدّين) إلا بمقتضى آيةٍ مُحكمةٍ أو سنةٍ ثابتةٍ أو إجماعٍ منعقد ، وليس لأهواء الناس ومتاهات العقول مجال في هذا الباب ، وأما آراء العلماء في المسائل الاجتهاديّة فلا تنسب إلى الدّين وإنّما تنسب إلى أشخاصهم ، فلا يصحّ - عند أهل العلم - أنْ يُقال مذهب أبي حنيفة وجوب الصلاة والزكاة ، أو مذهب الشافعي تحريم الزنا والسرقة، ونحو ذلك من قطعيّات الشريعة المتفّق عليها ، وإنما يُنسب إلى هؤلاء الأئمّة اختياراتهم في المسائل الاجتهاديّة.
وبناءً على هذه : فإنّنا نستطيع أنْ نميِّزَ بين النقد الموجّه إلى الخطاب الديني من قبل العلمانيّين والحداثيّين ، وبين النقد الموجّه من قبل أبناء الأمّة الصادقين والأمناء على واقعها .
فالنّقد الأول رفض للخطاب الدينيّ المقدَّس من أصله ، وأنّه سبب للضعف والتخلف الذي تعيشه الأمّة ، وأنّ الغرب لم يتقدَّم وتظهر (حضارته الإنسانيّة !!) إلا بعد أنْ أُبعد الدين عن واقع الحياة .
ويتّبع هؤلاء فئةٌ لم تصل إلى هذه الدرجة من التطرّف ، وإنّما كان نقدها من أجل المطالبة بخطاب دينيٍّ معاصر يناسب جميع الأذواق والتوجّهات ، ويكون مقبولاً إلى -حدٍّ ما- لدى الغرب (المتحضر !!) ، فتجدها تطالب بمراجعات في بعض أصول الدين .
وقطعيّاته الثابتة ، كقضيّة (الولاء و البراء) و (كفر أهل الكتاب) و(الجهاد في سبيل الله) و(فرضيّة الحجاب) و(تحريم الرّبا) و (حدّ الزّنا والسرقة) ونحو ذلك من نقدٍ للقطعيّاتِ الثابتة ، أو نقد لكلام الفقهاء العالمين بدين الله بدون منهج علميّ، ولا نظر في دلائل النصوص سوى أنّها لا تناسب حضارة العصر (العولمة) .
أما النقد الثاني والذي يصدر من قبل أبناء الأمّة الصادقين والحريصين على أمر الإسلام ؛ فهو في الحقيقة نقد تجاه بعض الممارسات البشريّة والآراء الاجتهاديّة الصادرة مِنْ بعض مَنْ يُنسب إلى العلم، ولا تستند إلى دليلٍ شرعيّ ، غايته
تنقية الدين من بعض الأفكار الخاطئة والترسّبات التاريخيّة التي علقت به ، وهو منها براء .
ولكن قبل الخوض في هذا النقد ، لابدَّ من التنبّه إلى الأمور التالية :
1- إنّ الميزان الذي تُعرض عليه أقوال الناس وأعمالهم هو "الكتاب والسنة"، وما أجمع عليه سلف هذه الأمّة ، فما وافقها قُبِل ، وما عارضها رُدّ .
2- إنّه لا ينبغي أنْ يخوض في هذا المضار الخطير إلا أهل العلم والفقه في الدين ، فهم أعلم الناس بكلام الله ورسوله ، ولابدَّ أنْ يُحجَر - في المقابل - على الجاهل وغير المتخصّص في الشريعة ، وليس في ذلك (كهنوت) أو (سلطة لرجال الدين) كما يزعم العصرانيّون ، إنّما هو حق مشروع في كل علم وفنّ ألا يتكلّم فيه غير أهله . ألا ترى - مثلا - أنّه لا يقبل - عقلاً وعُرفًا - أنْ ينتقد الصحفيّ أهل الطبّ في تجاربهم العلميّة ، أو أنْ ينتقد المهندس المعماريّ خبراء الاقتصاد في نظريّاتهم ، إلا إذا كان عالمًا بذلك الفنّ معدودًا من أهله .
3- إنّه لابدّ للناقد أنْ يلتزم بالمنهج العلميّ في نقد كلام العلماء ، من إحاطة بنصوص الكتاب والسّنة ، ودِارية بأدوات فهم الخطاب ، وطرائق الاستنباط والترجيح ، وإحاطة بقواعد الإسناد والرّوِاية وغير ذلك من شروط الاجتهاد المذكورة في أبواب أصول الفقه .
أقول هذا : حتى لا ينفلت الحبل، ويتسع الخَرْق، ويدخل في الدار من ليس من أهلها !!
==============(36/74)
(36/75)
هزيمة العصرانيين !!
نبتت نابتة من تُجار المبادئ, وباعة المواقف، وسماسرة القيم فارتفعت أصواتهم وبُحَّت حناجُرهم، وتوالت كتاباتهم، وتتابعت أطروحاتهم في تمييع الدين ، وتطويع الشريعة ؛ بهدف إقامة الجسور مع زنادقة العصر من علمانيين وحداثيين ومنافقين، وحصل تزاوج غير شرعي ، ومن ثمَ تلاقح منهجي مشبوه ؛ تمخض عنه نسلٌ فكري مشوه؛ أسموه (مراجعةُ التراث!) و(تقريب وجهات النظر!) و(التسامح الديني!) و(ضرورة الإصغاء للرأي الآخر!) و(قبول الجديد وأسلمته!) و(الرضا بالأمر الواقع!)
وإنّك لتشعر بضعف الحُجَّة وتفاهة الفكرة لدى هؤلاء المتعالمين ، من خلال سطورهم على صفحات الجرائد أو عبر مواقع الإنترنت "!! وتلمسُ الهزيمة ظاهرة على مُحياهم, أوحين دلوفهم الى (الأستديوهات) حيث يبدؤون في بث عفنهم الفكري ، ونتاجهم العقلي المهين !
ويظل المسلم الغيور على دينه غضبان أسفاً من جرأة هؤلاء الشرذمة المهزومة التي باعت دينها ومبادئها وقناعاتها ، واشترت به عَرَضاً زائلاً ، ومجداً موهوماً، ورضيت ببضعة أسطر تُنشر لها على صفحات الجرائد, أو ببضع دقائق خلف الشاشات!
وليت الأمر توقف عند ذلك، لكنّه تعداه إلى محاولة خلخلة ثوابت الدين, ومعالم العقيدة , وقواعد الملة , ومكارم الأخلاق !
بل إنّهم ليفغرون أفواههم ، ويرفعون أصواتهم باسم الإسلام وباسم أهل العلم والدعوة ، وكأنهم وكلاء شرعيون ؛ فيحللون ويحرمون ، ويستحبون ويكرهون، ويأمرون وينهون بكل صفاقة وجه ، وعدم مبالاة بمشاعر الأخيار والمخلصين الأبرار !!
وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم : ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) .
وإن المرء ليتساءل في أسى ما بال أقوام قد فتحوا صفحات مجلاتهم ليحاوروا زمرة من العلمانيين المفضوحين ,والليبراليين المحترقين باسم مدّ الجسور ، وتقريب وجهات النظر !
وما بال أقوام يتبجحون بزيارة رؤوس الرافضة بحضرة جمع غير قليل من مٌكفرة الصحابة , في لقاءات مُصورة ولقطات تذكارية منشورة!
ومابال أقوام يجالسون نساء ماجنات ممَن احترفن العمل (الفني!) لإضفاء (الشرعية!) المطلوبة على منجزاتهن الفنية ؛ مُعَرِّجين على ذكر بعض آرائهم (النفيسة!) في قضايا ساخنة كالحجاب وقيادة المرأة للسيارة!
وما بال أقوام يدافعون عن " أبطال طاش ما طاش! " مُشيدين ببراعة معالجتهم لقضايا المجتمع وحقهم في نقد المتدينيين !
وما بال أقوام يلتون ويعجنون , ويزايدون ويشغبون على المراكز الصيفية وحلق التحفيظ ويلصقون بها تهماً لا زمام لها ولا خطام!
لقد لفظت الجماهير الواعية هذه النوعيات من المتاجرين بقضاياها والعابثين بمسلمات الدين والعقيدة وسئمت طرحهم السقيم وجرأتهم البالغة ولم تعد تثق بسلامة عقولهم فضلا عن نزاهة أرائهم وموضوعية أفكارهم!
فرويداً أيها المفتونون, وراجعوا أنفسكم وضعوا أيديكم في أيدي إخوانكم الصادقين فهي أيد أطهر وأشرف من أيد طالما كتبت ضد دين الأمة وأخلاق المجتمع, واعلموا أنكم عمّا قليل ستقفون أمام علّام الغيوب وستحاسبون على النقير والقطمير فأعدوا للسؤال جواباً!!
============(36/76)
(36/77)
نظرات في كتابات د . القرضاوي
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فقد روى الإمام مسلم أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: (( الدينُ النصيحة, قُلنا: لِمَنْ، قال صلى الله عليه وسلم لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمةِ المسلمينَ, وعامَّتهم )).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( وكذلك بيانُ من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية، فهذا إذا تكلَّم فيه الإنسانُ بعلمٍ وعدلٍ, وقصدَ النصيحة فالله تعالى يُثيبه على ذلك, لا سيِّما إذا كان المتكلَّمُ فيه داعياً إلى بدعة فهذا يجبُ بيان أمره للناس, فإنَّ دفع شرّه عنهم أعظم من دفع شرِّ قاطع الطريق ) منهاج السنة ج5/146
وفي هذه الرسالة أذكرُ بعضَ ما خالفَ فيه الشيخ الدكتور / يوسف بن عبد الله القرضاوي كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم , وذلك عبر خلاصة ما كتبته عنه في النقاط التالية مع عدم التعليق عليها إلاَّ نادراً لمعرفة بطلانها من الدين .
* سوء الأدب مع الله تعالى: قال: ( أُحبُّ أن أقول كلمة عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية: العرب كانوا مُعلِّقين كل آمالهم على نجاح بيريز, وقد سقط بيريز, وهذا مما نَحمد لإسرائيل , نتمنَّى أن تكون بلادنا مثل هذه البلاد ؟ من أجل مجموعة قليلة يسقط واحد, والشعب هو الذي يحكم, ليس هناك التسعات الأربع, أو التسعات الخمس النسب التي نعرفها في بلادنا 99. 99% ما هذا: إنها الكذب والغش والخداع, لو أنَّ الله عرض نفسه على الناس ما أخذ هذه النسبة ؟! نُحيِّي إسرائيل على ما فعلت ) جزء من خطبة الجمعة التي ألقاها بعد فوز نتنياهو بالانتخابات في دولة يهود, وكانت الخطبة بعنوان: تحريم التدخين وقتل الرهبان بجامع عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بدولة قطر, من إصدار تسجيلات الأمة للصوتيات والمرئيات.
* الترحُّم على الكفار: حيث جاء في كلمته عن بابا النصارى يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية: ( ومن حقنا أو من واجبنا أن نُقدِّم العزاء إلى الأمة المسيحية وإلى أحبار المسيحية في الفاتيكان وغير الفاتيكان من أنحاء العالم, وبعضهم أصدقاءٌ لنا.. نُقدِّم لهؤلاء العزاء في وفاة هذا الحبر الأعظم.. نُقدِّم عزاءنا في هذا البابا الذي كان له مواقف تُذكر وتُشكر له.. وإخلاصه في نشر دينه ونشاطه حتى رغم شيخوخته وكبر سنه.. فكان مُخلصاً لدينه, وناشطاً من أعظم النشطاء في نشر دعوته, والإيمان برسالته, وكان له مواقف سياسية يعني تُسجَّل له في حسناته.. لا نستطيع إلاَّ أن ندعو الله تعالى أن يرحمه ويُثيبه بقدر ما قدَّم من خير للإنسانية, وما خلَّف من عمل صالح, أو أثر طيِّب, ونُقدِّم عزاءنا للمسيحيين في أنحاء العالم، ولأصدقائنا في روما وأصدقائنا في جمعية سانت تيديو في روما, ونسأل الله أن يعوِّض الأمة المسيحية فيه خيراً ) بُثَّت هذه الكلمة بصوت القرضاوي في أكثر مواقع الانترنت, وهي مسجَّلة عندي .
* القول بعدم حرمة موالاة كل مشرك : قال عن قول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء )) (المائدة:51).
( هذه الآيات ليست على إطلاقها, ولا تشمل كل يهودي, أو نصراني, أو كافر ) الحلال والحرام ص307.
وقال: ( إنَّ مودَّة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها ) غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ص68.
* إماتة عقيدة الولاء والبراء: قال: ( أنا أقول عنهم إخواننا المسيحيين، البعض يُنكر عليَّ هذا كيف أقول إخواننا المسيحيين (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )) (الحجرات:10) .
نعم نحن مؤمنون, وهم مؤمنون بوجه آخر) برنامج الشريعة والحياة حلقة بعنوان غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية بتاريخ 10/6/1418هـ.
وقال: ( إنَّ العداوة بيننا وبين اليهود من أجل الأرض فقط لا من أجل الدين ) الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم. ص70.
وقال: ( المعركة بيننا وبين اليهود ليست معركة من أجل العقيدة بل من أجل الأرض ) الشريعة والحياة: في ذكرى الإسراء والمعراج بتاريخ 23/7/1418هـ.
وقال: ( لا نُقاتل الكفار لأنهم كفار, وإنما نُقاتلهم لأنهم اغتصبوا أرضنا وديارنا وأخذوها بغير حقٍّ ) مجلة الراية عدد 4696 تاريخ 24/8/1415هـ.
وقال: ( أُريد أن أقول لبعض الناس كيف يفهموا الآية: (( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ )) (المائدة:82) .
أنَّ هذا بالنسبة للوضع الذي كان أيام الرسو صلى الله عليه وسلم ) الشريعة والحياة: الصراع بين المسلمين واليهود 7/8/1418هـ.
* الدعوة للسلام العالمي : قال: ( بعض الناس يقولون: تريدون أن تُحاوروا المسيحيين وغيرهم وصولاً إلى ما تُسمُّونه السلام العالمي ؟ نقول لهم: نعم, لماذا لا، يقولون: إنَّ الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الجهاد والحرب وليس السلام, وهذا رأي موجود ولكن لا نلتزمه ) الإسلام والغرب ص16 .(36/78)
* الدعوة للتقارب بين الأديان: قال:( من جهتنا نحن المسلمين مستعدون للتقارب, المهم أيضاً أن يكون عند الآخرين مثل هذه الروح فيعاملوننا بمثل ما نعاملهم به, ويقتربون منا بقدر ما نقترب منهم ) الإسلام والغرب ص16 .
* الثناء على الديمقراطية والتي هي حكم الشعب بالشعب: قال: ( الديمقراطية فيها ضمانات للحرية، وأساليب لقمع الحكَّام المستبدِّين, وهي سياسة شرعية بابها واسعٌ في الفقه الإسلامي, فالشورى والديمقراطية وجهان لعملة واحدة ) جريدة الشرق عدد 2719 تاريخ 19/3/1416هـ
* تحريف معنى الإسلام إلى إسلام عقيدة وإسلام حضارة وثقافة : قال: ( أهل الذمة من أهل الكتاب لهم وضع خاص, والعرب منهم لهم وضع أخص لاستعرابهم وذوبانهم في أمة العرب, وتكلمهم بلغة القرآن, وتشربهم للثقافة الإسلامية, واشتراكهم في المواريث الثقافية والحضارية للمسلمين بصورة أكبر من غيرهم , فهم مسلمون بالحضارة والثقافة, وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس ) فتاوى معاصرة ج2/671 .
* القول بأنَّ الجهاد إنما هو للدفاع عن كلِّ الأديان: قال: ( القتال للدفاع عن كلِّ الأديان، فالمساجد للمسلمين، والبيَع والصلوات لغير المسلمين ) الشريعة والحياة حلقة بعنوان العلاقات الدولية بتاريخ 10/11/1418هـ.
* مُخالفة الكتاب والسنة والإجماع في زعمه أنَّ الجهاد للدفاع فقط: قال: ( إنَّ الجهاد في الإسلام للدفاع عن الدين والدولة والحرمات والأرض والعرض.. وليس لغزو العالم كما يُصوِّره بعض الناس ) الإسلام والغرب ص19 .
* مخالفة ما اتفق عليه الفقهاء من تحريم تهنئة الكفار بشعائر دينهم : حيث سُئل الدكتور عن: ( المشاركة في حفلات الأقسام المختلفة في المستشفى بأعياد الميلاد ورأس السنة ؟ ما حكم حضور هذه الحفلات ؟ أو إرسال بطاقات معايدة للرؤساء والزملاء, أو حتَّى ردّ التحية على سنة سعيدة, أو عيد ميلاد جديد ) فأجاب: ( يكفي المجاملة بالبطاقة ونحو ذلك, ولا داعي للحضور إلاَّ إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين) فتاوى معاصرة ج2/617 .
* القول بأنَّ الجزية تسقط بالخدمة العسكرية: قال : ( المطلوب هو أن يشاركوا في دفع شيء للدولة، كان المسلمون واليهود وأهل الذمة في الماضي مسرورين بالجزية لأنها كانت مزية لهم لأنهم يُعفون بالمقابل من الخدمة العسكرية ) برنامج الشريعة والحياة : حلقة بعنوان غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية بتاريخ 10/6/1418هـ .
* تسمية من قُتل دون وطنه من المشركين شهيد ؟ : قال: ( وقد كان الأقباطُ مضطهدين قروناً قدَّموا فيها آلاف الشهداء لاختلاف المذاهب فقط ) الشريعة والحياة: غير المسلمين في ظل الشريعة الإسلامية بتاريخ 10/6/1418هـ.
* تسوية الرافضة بأهل السنة : قال: ( الشيعة يا أخي مسلمون حتى وإن كان لهم بعض البدع والأشياء التي نُنكرها عليهم، ولكنهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويُؤمنون بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, ويُقيمون الصلاة، ويُؤتون الزكاة, ويصومون رمضان, ويحجون البيت, وإن كانت لهم بعض الاعتقادات والأفكار نُنكرها عليهم، كما يُوجد في أهل السنة أُناس لهم بدع وأشياء ) حلقة مفتوحة لأسئلة المشاهدين في قناة الجزيرة في 15/12/1418هـ .
* الدفاع عن الرافضة في إجماع علمائهم بتحريف القرآن: قال: ( ولهذا لا يوجد عند الشيعة مصحف غير مصحف المسلمين, فهو الذي يطبعونه.. ويُفسِّرونه في كتبهم, ويحتجُّون به في كتبهم العقائدية والفقهية, وهم مجمعون على أنَّ ما بين دفتي المصحف كلام الله بيقين ) المرجعية العليا في الإسلام ص14 .
* مخالفة هدي السلف في التحذير من المبتدعة والرد عليهم: قال : ( ليست معركتنا مع الذين يقولون عن الله تعالى: ليس له مكان... ليست معركتنا مع الذين يُؤوِّلون صفات الله بل الذين يجحدون الله بالكلية, وأي تحويل للمعركة عن هذا الخط يُعتبر توهيناً للصف, وفراراً من الزحف, وإعانة للعدو ) وجود الله ص7-8 .
* القول بعقيدة الأشاعرة في الأسماء والصفات : قال: ( إنَّ مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن يُمِرُّوها على ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها ) مجلة المجتمع عدد 1370 تاريخ 25/5/1420هـ .
قال الإمام الحافظ الذهبي: ( المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالةً مُولَّدةً ما علمتُ أحداً سبقهم بها, قالوا: هذه الصفات تُمَرُّ كما جاءت ولا تُأوَّل مع اعتقاد أنَّ ظاهرها غير مراد ) العلو للذهبي ص183.
* التزكية المطلقة لمذهب الإخوان المسلمين: قال: ( بريئين من الشرك كلِّه أكبره وأصغره, جلِيِّه وخفيِّه ) مجلة المجتمع عدد 1370 تاريخ 25/5/1420هـ
* الاحتفال ببعض الأعياد البدعية: قال: ( أنا أُحبُّ كل ما له علاقة بزوجتي, وأحتفل بعيد زواجنا سنوياً... لا يمنع من أن يأتي الزوج في ميلاد زوجته ويقولها: كل سنة وأنت طيِّبة ) جريدة الراية عدد 5969 تاريخ 20/5/1419هـ.(36/79)
* حضور احتفال ذكرى رحيل الخميني: قال: ( شهد الحفل عدد من الضيوف تقدَّمهم فضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، وتضمن الحفل بعض الخطب الدينية والقصائد في رثاء الإمام الخميني.. ) الشرق الأوسط 17/1/1417هـ .
* ردُّ وتأويل بعض الأحاديث الصحيحة: ومن ذلك قوله فيما رواه مسلم من قوله- صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ أبي وأباك في النار )).
قال القرضاوي: ( قلتُ: ما ذنب عبد الله بن عبد المطلب حتى يكون في النار وهو من أهل الفترة , والصحيح أنهم ناجون ) كيف نتعامل مع السنة النبوية ص97 .
وقال عن قوله- صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري: (( يُؤتى بالموت كهيئة كبش أملح )).
قال: ( من المعلوم المتيقَّن الذي اتفق عليه العقل والنقل أنَّ الموت ليس كبشاً, ولا ثوراً, ولا حيواناً من الحيوانات ) كيف نتعامل مع السنة النبوية ص 162.
وقال عن قوله- صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري: (( لن يُفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة )).
قال القرضاوي : ( هذا مُقيَّدٌ بزمان الرسو صلى الله عليه وسلم الذي كان الحكم فيه للرجال استبدادياً ، أمَّا الآن فلا ) برنامج في قناة a r t بتاريخ 4/7/1418هـ .
وقال الشيخ عن قوله- صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم: (( ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكنَّ)).
قال القرضاوي-: ( إنَّ ذلك كان من الرسول على وجه المزاح ) برنامج في قناةa r t بتاريخ 4/7/1418هـ .
وقال الشيخ عن قوله- صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري: (( لا يُقتل مسلمٌ بكافر )).
قال القرضاوي: بعد أن قرَّر أنَّ المسلم يُقتل بالكافر خلافاً للحديث: ( إنَّ هذا الرأي هو الذي لا يليق بزماننا غيره.. ونحن بترجيح هذا الرأي نُبطل الأعذار ونُعلي راية الشريعة الغراء ) الشيخ الغزالي كما عرفته ص168 .
* تقليد العصرانيين في تقسيمهم للسنة النبوية إلى سنة تشريعية وغير تشريعية : ومن ذلك ردُّه للطب النبوي فقال: ( لم يُبعث عليه الصلاة والسلام ليقوم بطبِّ الأجسام , فذلك له أهله, وإنما بُعث بطب القلوب, والعقول, والأنفس, ومهما يكن اعتزازنا بما سمَّاه العلماء: الطب النبوي, فمن المتفق عليه أنَّ النبيَّ r لم يدَّع العلم بالطب, ولا بُعث لذلك ) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ص66-67
* تنقُّص دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : قال : ( وربما يعترض معترض بالحركة الوهابية, فهي حركة سلفية, تستمد من تراث المدرسة التيمية, ولكنها لم تُعرف بالتجديد والاجتهاد.. ولعلَّها هي التي أثَّرت في كثير ممن ينتمون إلى السلفية في عصرنا من المعادين للتجديد, وقد يكون عذر هذه الحركة أنها نشأت في مجتمع بسيط بعيد عن معترك الحضارة تغلب عليه حياة البداوة ) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي ص46-47 .
* حثُّ الشباب الملتزم بالعمل في البنوك الربوية: قال: ( أُفتي الشباب الملتزم ألاَّ يدع عمله في البنوك وشركات التأمين ونحوها ) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ص32 .
* الدعوة للاختلاط بين الرجال والنساء: قال: ( في الثمانيات حضرتُ عدداً من المؤتمرات في أمريكا وأوروبا فوجدت فصلاً تاماً بين الجنسين... وقد أنكرتُ هذا... وقلتُ: إنَّ الأصل في العبادة ودروس العلم هو الاشتراك ) أولويات الحركة الإسلامية ص65.
وقال: ( مع أنَّ مثل هذه المؤتمرات تُعتبر فرصة لرؤية شاب فتاة فيُعجب بها، ويسأل عنها ويفتح الله قلبيهما ) حلقة تحديات المرأة المسلمة في الغرب من برنامج الشريعة والحياة 26/5/1418هـ .
* تحليل الأغاني والسينما, والدعوة لاشتراك المرأة في التمثيليات والمسلسلات, والإنكار على التائبين من الفنَّانين: قال: ( وأستمعُ بحبٍّ وأتأثر بشدَّة بصوت فائزة أحمد وهي تُغنِّي الأغنيات الخاصة بالأسرة: ستِّ الحبايب, ويا حبيبي يا خُويا ويا بوعيالي, وبيت العزِّ يابتنا على بابك عنبتنا, وهذه أغنيات لطيفة جداً.. ) مجلة الراية عدد 5969 تاريخ 19/5/1419هـ.
وقال: ( اشتراك المرأة في التمثيل أمرٌ ضروري لا بُدَّ منه ) مجلة المجتمع عدد 1319 ص44, وقال: ( وأنا قد أنكرتُ على كثير من الفنانين أنهم اعتزلوا ) أسئلة المشاهدين بتاريخ 15/12/1418هـ .
* مصافحته للمرأة الأجنبية: قال: ( .. قد نكون جالسين عند مدير الجامعة وتأتي بعض الدكتورات وتُسلِّم على الموجودين، فأُسلِّم عليها وانتهينا ) أسئلة المشاهدين في قناة الجزيرة في 15/12/1418هـ .
* القول بأنَّ رجم الزاني الْمُحصن راجعٌ لرأي ولي الأمر: ( حاشية القرضاوي على فتاوى الشيخ مصطفى الزرقا ص394 ) .
* القول بعدم قتل المرتد عن الإسلام: إلاَّ إذا صاحب ردَّته عنفٌ ضد المجتمع ( الخصائص العامة للإسلام ص240).
أسأل الله تعالى أن يُلهمنا والدكتور القرضاوي رشدنا, وأن يُعيذنا من شرِّ أنفسنا, وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد.
================(36/80)
(36/81)
العصرانية قنطرة اللادينية
بحث مختصر يبين خطر انتشار الأفكار العصرانية على المجتمع المسلم
صيحة نذير إلى ولاة الأمور ودعاة الإسلام
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
1423هـ
ترتيب وتنسيق:واس
مكتبة قصيمي نت لروائع الكتب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد :
فاعلم -علمني الله وإياك ما ينفعنا- أني تأملت حال المجتمعات الإسلامية خلال القرن الأخير وكيف غزاها الانحراف والتغريب بواسطة أعداء الإسلام، فوجدتها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى : حال المجتمعات التي يكون الغزو فيها مباشراً؛ وهي المجتمعات الإسلامية التي لم تكن لها مرجعية علمية، أو هيئة شرعية تذكر، تقف سدًا منيعاً أمام ذلك الغزو. فهذه سهل اقتحامها واستباحتها من العدو وعملائه اللادينيين .
الحال الثانية: حال المجتمعات التي يكون فيها الغزو من خلال (وسيط) أو (ناقل) يلبس لباس الإسلام. وهي المجتمعات الإسلامية التي تأوي إلى مرجعية علمية أو هيئة شرعية في معظم أمورها أو في النوازل التي تحل بها، مع ارتباط (شرعي) بولاة أمرها. فمثل هذه المجتمعات لم يستطع العدو اقتحامها واستباحتها وخلخلة وحدتها القائمة بين الأمراء والعلماء إلا من خلال ذلكم الوسيط؛ نظراً لطبيعتها الدينية الشرعية.
وخير مثال لهذه الحال: مجتمع مصر في القرنين الأخيرين، حيث سلط عليه الأعداء الغزو العسكري(1) والغزو الفكري في سبيل صرفه عن دينه، لكنهم باؤا بالفشل ولم يحققوا نجاحاً يذكر يوازي ما قاموا به من الجهود؛ نظراً لارتباط الشعب المصري بعلمائه الشرعيين الممثلين في الأزهر؛ حيث كانوا حصناً منيعاً أمام جهود الأعداء التغريبية(2) .
__________
(1) …كحملة نابليون (الفرنسي)، وحملة فريزر (الإنجليزي)، ثم الاحتلال الإنجليزي الأخير.
(2) …انظر لذلك: "الأزهر في 1000 عام" لمحمد عبد المنعم خفاجي، و"كيف دخلت الخيل الأزهر" لمحمد جلال كشك.
…تنبيه: رغم جهود الأزهر الواضحة في التصدي لأعداء الإسلام ومخططاتهم؛ إلا أن هذا لا يمنعنا أن نعتب عليهم في تبنيهم للمذهب (الأشعري) المبتدع، وفي ميل كثير من رجالهم -وعلى رأسهم بعض شيوخ الأزهر- إلى (التصوف) المنحرف. (انظر: السياسة والأزهر، وهي مذكرات لشيخ الأزهر الظواهري، وفيها عجائب وغرائب! ص108 وما بعدها، وص 236 وما بعدها. وانظر أيضاً: صوفيات شيخ الأزهر -عبد الحليم محمود- لعبد الله السبت).
…وكما انتقل الأزهر من المذهب الرافضي إلى المذهب الأشعري، فنأمل أن يوفق الله القائمين عليه للانتقال به من المذهب الأشعري (المبتدع) إلى المذهب السلفي القائم على الكتاب والسنة، مذهب الصحابة والتابعين، وما ذلك على الله بعزيز.
لكن الأعداء لم ييأسوا أو يملوا وهم يرون ضياع جهودهم وفشلهم، وإنما لجؤا إلى خطة أكثر مكراً، وأشد ضررًا، وهي تكرار محاولة الغزو للمجتمع المصري بواجهة إسلامية (مخدوعة) يتقبل الشعب المسلم اطروحاتها وأفكارها التغريبية دون نفرة أو استيحاش؛ يخلخلون بها وحدة المجتمع المصري المسلم؛ بتهييجه على ولاة أمره، إضافة إلى صرفه عن العلماء الكبار الراسخين الذين يصعب تطويعهم. وقد تم لهم ذلك من خلال ما يسمى (بالعصرانيين) أتباع مدرسة الأفغاني ومحمد عبده الذين ظنوا بجهلهم أنهم يخدمون الإسلام والدعوة بصنيعهم هذا، ويوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر -زعموا !- ولكنهم أصبحوا فيما بعد كما قال ألبرت حوراني: "قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر"(1). ثم كان مصير أفراد هذه الطائفة العصرانية الخاسرة مصير أي وسيلة استخدمت فاستنفذت أغراضها، حيث (تمندل) (2) بهم الأعداء قليلاً ثم رموا بهم. فمنهم من مات بحسرته جراء ما جناه على مجتمعه، ومنهم من انحاز إلى الصف العلماني وكشف عن حقيقته، وقلة منهم أحست بخطورة دورها الذي قامت به فأرادت أن تُكَفّر عن سيئاتها بانحيازها رويدًا رويدًا إلى أهل الإسلام. ولكن بقيت تجربتهم جميعاً عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين .
وبلاد الحرمين -حماها الله وصرف كيد الفجار عنها- تتشابه في طبيعتها مع طبيعة المجتمع المصري خلال القرنين السابقين، قبل هبوب رياح التغريب عليه؛ فهي تأوي إلى ركن شديد من علمائها الكبار، وارتباط (شرعي) وثيق بولاة أمرها، وتنهل من معين دعوة سلفية شرعية قامت عليها ولأجلها . فلهذا لم يستطع العدو ولله الحمد اقتحامها أو تغريبها مباشرة أو من خلال أذنابه العلمانيين الأقحاح الذين نبذهم المسلمون وباؤا بفشل ذريع، رغم تكرر محاولاتهم(3).
ومثلما لم ييأس أعداء الإسلام من اقتحام هذا المجتمع المسلم وتغريبه فإنهم -لا شك- سيعاودون الكرة عليه، ولكن بواجهة إسلامية (عصرانية) تضفي الشرعية على أفكارهم ومطالبهم، وتحدث شرخاً في وحدته، وتحاول نزع ثقة الناس بعلمائه الكبار، وهي تُستدرج إلى ذلك بمكر وخفاء.(36/82)
وقد بدأت بوادر تنذر بشيء من ذلك -للأسف!-؛ فتسللت الأفكار العصرانية إلى عقول بعض الإسلاميين الصالحين عندنا، فأخذوا يرددونها في مقالاتهم وكلماتهم، جهلاً منهم بخطورتها ومآلها على البلاد، وانخداعاً ببهرجها، وظناً منهم بأنها ستُبَلِّغهم أهدافهم. وفاتهم -هداهم الله- أن هذه الأفكار ما هي بجديدة في عالم المسلمين، وأن مجتمعاً إسلامياً آخر غير مجتمعنا هو مجتمع مصر قد خبرها وجُرِّبت عليه؛ فلم تنتج سوى النتاج المر الفاسد الذي لا زال يعاني منه إلى اليوم.
وقد اكتشف النبهاء من أهله -كما سيأتي- ولكن بعد
فوات الأوان، أن هذه الأفكار البراقة لم تكن سوى أحبولة صنعتها يد المكر لاستباحة ديار المسلمين وعقولهم واقتصادهم، وأنها لم تحقق للمسلمين إلا مزيداً من الذل والصغار والخضوع للأعداء، فضلاً عن التفريط بمهمات الدين وشرائعه.
وقد كان من حق التجربة (العصرانية) المصرية أن تكون عبرة للمعتبرين، وموعظة للآخرين، وأن لا يُلدغ المؤمنون بعدها من جحر مرتين.
ومن مظاهر تسلل هذه الأفكار بين أهل الإسلام في بلادنا هذه الأمثلة التي وقفت عليها، ولعل غيري قد وقف على مثيلاتها:
1-أحد الدعاة الأفاضل ممن لهم جهود لا تنكر في نشر الخير ينشئ موقعاً على شبكة الأنترنت لا تجد فيه حساً ولا خبرًا لأحدٍ من كبار العلماء لدينا ! فلماذا هذا ؟! ومعلوم خطورة عزل جيل الشباب عن علمائه الكبار، حيث ينصرف بعدها إلى أناس لا علم عندهم ولا ورع، إنما هي المصالح والتحزبات التي تقود البلاد إلى فرقة وضعف.
2-أحد الأفاضل من حاملي الدعوة لدينا يقول: بأنه لا مانع من وصف اليهود والنصارى بأنهم (إخوان لنا) !! ويعني بذلك الأخوة الإنسانية !(4)
3-داعية آخر يدعو إلى (المجتمع المدني) ! القائم على الانتخابات والبرلمانات.. الخ. وفاته أن المجتمع المدني في اصطلاح القوم هو المجتمع العلماني الذي لا يرجع إلى شريعة تحكم أفعاله(5). وأن في دعوته هذه (تهييجاً) لعامة الناس على ولاة أمرهم بطريقة تفسد ولا تصلح. متغافلاً -هداه الله- عن الطرق الشرعية.
__________
(1) …سيأتي نقله وتوثيقه إن شاء الله.
(2) …أي اتخذوهم منديلاً.
(3) … سواء كانوا شيوعيين أم حداثيين أم غيرهم. اختلفت المسميات والهدف واحد.
(4) …هذا القول يردده شيخ العصرانية في زماننا : القرضاوي، ويتابعه المتأثرون به. (انظر: القرضاوي في الميزان).
(5) … ولهذا تجد العلمانيين في بلادنا يسعون إلى تحقيقه! لأنه يُعجل بآمالهم، فانظر ما كتبوا حول هذا "المجتمع المدني" في مجلتهم "النص الجديد" (العدد 9 و 10)، حيث أفردوا للحديث عنه ملفاً كاملاً.ولعل هذا الداعية اغتر بالعصراني الغنوشي الذي طالب بهذا المجتمع في كتابه (مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني)ولكن بعد إلباسه اللباس الإسلامي ! كصنيعهم مع كل فكرة غربية وافدة ( الإشتركية ثم الديمقراطية ثم .. !!) .
4-داعية آخر يكتب مقالاً بعنوان "المرأة إنسان"، يصوغه بلغة حداثية غريبة! يطالب فيه بإعادة النظر في قضايا المرأة!! ويحيل قارئه للفائدة على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للعصراني عبدالحليم أبو شقة! (1)
5-كاتب إسلامي آخر يزعم -بجهل لا شك- أن "الحق المطلق لا يملكه أحد" !!وهذا مصطلح (كفري) يؤدي بصاحبه إلى الشك والحيرة والتذبذب(2).
6-كاتبة إسلامية مرموقة تكتب عدة مقالات عن المرأة، تردد فيها أفكار العصرانيين والعلمانيين. حتى ليخال للقارئ بأنه يقرأ لإحدى داعيات تحرير المرأة في بلادنا ! فكيف حدث هذا ؟!
7-جريدة أسبوعية إسلامية تفتح صفحاتها لكتبة العصرانية من كل مريض وفاشل وطالب شهرة؛ ليلمز ويهمز من خلالها في دعوة الكتاب والسنة ويصفها بأبشع الصفات، ويبث شبهاته وانحرافاته تحت بصر وسمع الفضلاء أصحاب الجريدة ممن لهم تاريخ مشرف في مجال الدعوة والإعلام الإسلامي.
لأجل هذا كله ودرءً للخطر قبل وقوعه؛ فقد أحببت أن أنصح لإخواني دعاة الإسلام وحملته في هذه البلاد ببيان : كيف أصبحت العصرانية في مصر قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى مجتمعهم كما سبق؟ ليأخذوا حذرهم ويتبصروا أمرهم وما يكيده الأعداء لهم، فلا ينساقوا وراء الأفكار العصرانية مهما تزخرفت وتزينت كما انساق غيرهم، فيكون حالهم مع مجتمعهم كحال من :
رام نفعاً فضرَّ من غير قصدٍ ومن البر ما يكون عقوقًا
وتضيع جهودهم السابقة المشكورة في التصدي لأهل العلمنة بهذه النهاية الموجعة -لا قدر الله- التي يخدمون بها أولئك المفسدين عن غير قصد، فيحق فيهم قول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً). عندها نقول لهم :
وإخوانٍ تخذتهمو دروعاً فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد سعينا كل سعي فقلت نعم ، ولكن في (فسادي)
أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام لأن (يأخذوا حذرهم) فلا يكونوا مطية لغيرهم، وأن يحسن لنا ولهم الخاتمة، ويستعملنا إلى أن نلقاه في طاعته.
مقدمة:(36/83)
لقد كتب كثير من العلماء والباحثين عن المدرسة العصرانية الحديثة التي نشأت في ديار المسلمين نتيجة التقائهم بالغرب المتقدم مادياً، وأجادوا في بيان انحرافها عن الإسلام بلا مزيد عليه(3)، ولهذا فإنني لن آتي بجديد في هذا الموضوع، ولكني أردت من خلال هذا البحث المختصر التركيز على انحرافٍ واحدٍ من انحرافات تلك المدرسة -كما سبق- لعله يكون أخطرها، وتوسعت فيه بعض التوسع، ونقلت كلمات مهمة تتعلق به.
نشأة المدرسة العصرانية الحديثة: الأفغاني ومحمد عبده :
تعود نشأة المدرسة العصرانية الحديثة في البلاد العربية إلى جهود رجلين اجتمعا زمناً بمصر؛ هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده(4) .
جمال الدين الافغاني :
__________
(1) …وقد رددت عليه، وكتبت نقدًا لكتاب (أبو شقة) تجده في موقع صيد الفوائد على شبكة الأنترنت. ولم أسمِّ هذا الفاضل في ردي؛ لعله يعيد النظر فيما كتب. وفقه الله وسدد خطاه.
(2) … ثم رأيت إحدى العلمانيات لدينا تردده في مقالة لها بإحدى الصحف ! وسيأتيك -إن شاء الله- توافق الطائفتين: (العصرانية) و(العلمانية).
(3) …انظر على سبيل المثال: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" و "الإسلام والحضارة الغربية" كلاهما للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، وهما من أجود ما كتب في نقد هذه الطائفة. "دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام" لمصطفى غزال. "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" للدكتور فهد الرومي. "الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم" للأستاذ غازي التوبة. "دراسات في السيرة" لمحمد سرور. "اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر" للدكتور حمد بن صادق الجمال. "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي سعيد.
(4) …ترجمتهما مشهورة منشورة. أما الأفغاني فإن ترجمة محمد عبده له المنشورة في مقدمة رسالته "الرد على الدهريين" ثم نشرها رشيد رضا في تاريخ أستاذه كانت مرجعاً لمن بعده من الباحثين، وأصبحت -كما يقول الدكتور علي شلش- : "عمدة السير" (الأفغاني بين دارسيه، ص28). وأما محمد عبده، فإن لتلميذه رشيد رضا تاريخاً شاملاً عن حياته يقع في ثلاثة مجلدات بعنوان "تاريخ الأستاذ الإمام" كان عمدة لمن بعده، مع ملاحظة ما فيه من غلو في المديح ودفاع عن شيخه بالباطل.
أما الأفغاني فقد كان غامض الأمر محيرًا للباحثين في حياته وبعد مماته، مما جعلهم يضطربون في مكان نشأته ومذهبه وأهدافه(1). إلا أنه بعد نشر كثير من الوثائق والدراسات حوله لم يعد هناك مجالٌ للشك في كونه شيعياً إيرانياً(2) أخفى ذلك ترويجاً لأفكاره بين أهل السنة الذين لن يجد منهم أي احتفاء لو كشف تلك الحقيقة بينهم .
ولكن الخلاف بعد تقرير أمر شيعيته وإيرانيته سيكون حول حقيقة أفكاره، وماذا كان يريد؟
هناك وجهتا نظر للباحثين كلاهما تمتاز بالقوة(3):
1- وجهة النظر الأولى: أن الأفغاني كان يريد إعادة الدولة الشيعية إلى بلاد مصر، ولهذا اختار المقام فيها على غيرها من البلاد الأخرى. وأنه لأجل هذا كان يخفي شيعيته ويدعي الانتساب لآل البيت؛ ليتمكن من تكوين عصبة حوله تعينه على هذا الأمر إذا ما حانت ساعة الصفر -كما يقال-. وأنه كان لا يفضي بهذا الأمر إلا لخاصته؛ كمحمد عبده. وهذه ليست بغريبة على الشيعة الذين لا زالت قلوبهم تهفو إلى هذه البلاد منذ أن طردوا منها، فقد قاموا بعدة تجارب لأجل هذا الأمر؛ من أهمها تجربة السيد ! البدوي الذي أرسله أساطين الرفض في العراق إلى بلاد مصر، فكانت غايته -كما يقول الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف- : "أن يجمع عصبية في الديار المصرية للعلويين(4)، كتلك العصبيات التي كان يجمعها غيره من الصوفية في أقطار العالم الإسلامي حتى تكون عوناً لهم إذا ما تهيأت الفرصة، ونهضوا لطلب الملك"(5)
ومما يشهد لهذا : الغموض الذي أحاط الأفغاني به نفسه، حيث لم يوضح (بصراحة) حقيقة أفكاره؛ إنما هي أمور عامة يشترك معه فيها غيره.
ومما يشهد لهذا -أيضاً- أن تلميذه محمد عبده كان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات(6):
ذرني وأشياء في نفسي مخبأة ... لألبسن لها درعاً وجلبابا
والله لو ظفرت نفسي بطلبتها ... ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبا
حتى أطهرهذاالكون من دنس ... وأوجب الحق للسادات إيجابا
وأملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ... ظلماً وأفتح للخيرات أبوابا
فما هي هذه "الحاجات المخبأة في نفسه" ؟! ومن هم "السادات" الذين سيوجب لهم الحق، ويضرب لأجلهم أعناق الناس؟!
وجهة النظر الثانية: تقول بأن الأفغاني ما كان يحفل بالمذاهب كلها، سنيها وشيعيها، بل ما كان يحفل بالأديان نفسها! فالجميع -عنده- شيء واحد، فكانت دعوته موجهة نحو إيقاظ (الشرق) المتخلف -دون نظر إلى أديانه- لمواجهة أطماع (الغرب) المتحضر مادياً، والتحرر من سلطانه وضغوطه، والتخلص كذلك من حكم المستبدين .
فما كان الإسلام عنده إلا ديناً من ضمن الأديان الكثيرة التي يدين بها أبناء الشرق. ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم بعدة أدلة:
__________
(1) …لمعرفة ما قيل حوله: انظر : "جمال الدين الأفغاني بين دارسيه" للدكتور علي شلش. وهو من أفضل من كتب عن الأفغاني.(36/84)
(2) …ولهذا: لم يستطع أنصار الأفغاني من بعده أن ينكروا هذه الحقيقة الثابتة بالأدلة القاطعة. ولكنهم لجؤا إلى التهوين من شأنها! وأن شيعيته -كما يقولون- لا تضره !. انظر : "جمال الدين الأفغاني المفترى عليه"(ص145) لمحمد عمارة، و"حقيقة جمال الدين الأفغاني" (ص10) للدكتور عبد المنعم حسنين. وانظر ما قاله باحثو الشيعة عن الأفغاني وإثباتهم لشيعيته: مجلة "التوحيد" الشيعية! (العدد 81)، دراسة بعنوان: "جمال الدين الأسد بادي الأفغاني، حكيم الشرق وباعث نهضته" لحسن السعيد، ص 129-142.
(3) …وهناك وجهة نظر ثالثة تبناها تلاميذه والمستفيدون منه وضخموها حتى انخدع بها من بعدهم وطاروا بها في الآفاق، فلم يعد يُذكر غيرها، وهي أنه كان "مصلحاً إسلامياً" !! وأنى له ذلك، وهو المطعون في دينه وعقيدته وأهدافه؟!
…انظر هذه الوجهة في الكتب التالية للمادحين له: "جمال الدين الأفغاني: ذكريات وأحاديث" لعبد القادر المغربي. "جمال الدين الأفغاني: حكيم الشرق" لقدري قلعجي. "جمال الدين الأفغاني" لعلي عبد الحليم محمود. "جمال الدين الأفغاني: باعث نهضة الشرق" لعبد الرحمن الرافعي. "جمال الدين الأفغاني: المصلح المفترى عليه" لمحسن عبد الحميد. "جمال الدين الأفغاني: المفترى عليه" لمحمد عمارة. "جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث" لعبد الباسط محمد حسن. "مصلحون ثائرون" لمحمد رجب الزائدي. "رواد الإصلاح" لأحمد أمين. "أعلام النهضة الحديثة: جمال الدين الأفغاني" لعثمان أمين. وغيرها.
(4) … أي الشيعة الرافضة. وهم يخدعون العامة بانتسابهم زورًا إلى العلويين.
(5) …السيد ! البدوي ودولة الدراويش بمصر، لمحمد فهمي عبد اللطيف، ص 75.
(6) …قطرة من مداد لأعلام المتعاصرين والأنداد، لمحمد لطفي جمعة، ص 311-312.
أولها: أنه في كثير من مقالاته يصرح بأن دعوته (شرقية) لا إسلامية. فمن ذلك مثلاً: ما جاء في منهج العروة الوثقى وأهدافها بأنها "ستأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان"(1) وقوله عنها : "إنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين"(2) ويقول أيضاً مبيناً منهاج جريدته : "الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم. وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجنبيون وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجميع خيراتها"(3) فسبب تركيز الأفغاني على المسلمين كونهم الأغلب في الشرق، ولو كان غيرهم يغلب عليهم لركز عليهم !
أما قضية دعوته إلى الجامعة الإسلامية فيقول عنها الأستاذ عثمان أمين:"إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين، وإنما هي في صميمها: الجامعة الشرقية"(4)
وقال الدكتور فهد الرومي : "أرى في مقالاته ومقالات تلميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق: مسلمها وغير مسلمها ضد الاستعمار"(5) .
ويقول محمود أبو رية: "العروة الوثقى كانت تعمل للشرقيين عامة"(6) ويقول الأستاذ: مصطفى غزال: "لو رجعنا إلى كتابات جمال الدين لوجدنا أن دعوته إلى الجامعة الإسلامية في حقيقتها دعوة إلى جامعة شرقية تضم العالم الإسلامي بما فيه من أديان مختلفة وجنسيات متنوعة"(7)
2-ومما يشهد لما سبق -أيضاً- : دخول الأفغاني في الماسونية التي لا تفرق بين الأديان(8).
3-ومما يشهد لذلك -أيضاً-: ما يصدر من الأفغاني بين الحين والآخر من كلمات في حق الإسلام، تدل على أنه لا ينظر إليه كخاتم للأديان أو أنه الحق دون ما عداه من الأديان الباطلة، وإنما تدل كلماته على أنه ينظر للإسلام كنظرته لأي دين آخر ظهر في الشرق، لا مانع من مجاملته إذا اقتضى الحال ذلك! ولا مانع -أيضاً- من نقده!! فمن ذلك مثلاً: أنه في رده على رينان الذين اتهم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين أيده على هذا! وقال :"في الحقيقة: إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم، وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية"(9) وقال: "إن دين المسلمين يعوق من تطور العلم.. إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً"(10) وقال : "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر، ما هو معروف، نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته. وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه"(11)! ويقول: "إن هذا الدين -أي الإسلام- حيثما حل حاول خنق العلوم"!(12) .(36/85)
مثال ذلك أيضاً: قوله للمصريين: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين… تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين(13)، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه"(14) فالمسلمون -عند الأفغاني- لم يكن فتحهم لمصر في سبيل نشر للإسلام ودعوة العباد إليه، إنما هم مجرد عرب ظالمين كغيرهم من الفاتحين.
__________
(1) …الأعمال الكاملة للأفغاني (2/344).
(2) …السابق (2/347).
(3) …السابق (2/349). وانظر أيضا: "الأفغاني" لأبي رية، ص 112-118
(4) …مجلة العربي الكويتية، عدد 42، ص 73.
(5) …منهج المدرسة العقلية، ص 91. وقد سار تلاميذ مدرسته على هذا الأمر؛ وهو الدعوة إلى نهضة (الشرق). يقول عبدالعزيز جاويش: "إن الشرق برمته كتلة واحدة لا يسلم منه جزء إلا بتماسكه هو وغيره.." (عبد العزيز جاويش، لأنور الجندي، ص7).
(6) …الأفغاني، لأبي رية ، ص 47.
(7) …دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام ، ص 238.
(8) …انظر لإثبات هذا الأمر بالأدلة: "دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام" (ص 161 وما بعدها).
(9) …مقال: "صلات أرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني" للأستاذ محمد حميد الله، نشر في مجلة الفكر الإسلامي، السنة الثانية، العدد الثاني، ذوا الحجة 1390هـ .
(10) …السابق.
(11) …السابق .
(12) …السابق. والغريب أن الأستاذ محمد حميد الله بعد نقله هذه الأقوال بنصها من المجلة الفرنسية، ادعى أن رينان كذبها على الأفغاني لتشويه صورته !!!. وفاته أن محمد عبده تلميذ الأفغاني قد حرص في خطاب له إلى شيخه على عدم ترجمة رده على رينان بسبب هذه الأقوال الشنيعة التي تدين الأفغاني، بل توقعه في الردة عن الإسلام -والعياذ بالله- . انظر صورة رسالة محمد عبده لشيخه في كتاب الدكتور فهد الرومي، ص162-164.
(13) …أي أسرة محمد علي باشا .
(14) …تاريخ الأستاذ الإمام، لرشيد رضا، (1/46-47).
4-ومما يشهد لذلك أيضاً -كما يقول الدكتور فهد الرومي- :"هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ما سوني، … وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية … وكان من المحيطين به من النصارى : جورج كوتجي، وطبيبه الخاص هارون يهودي. ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي، وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود"(1)
5-ومما يشهد لذلك أيضاً: إنشاء تلميذه محمد عبده في بيروت "جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية"(2) وقد اشترك معه في ذلك خليط من المسلمين وغير المسلمين.
كل هذه الأدلة تشهد على أن الأفغاني كان من الداعين إلى "الفكرة الشرقية" في مواجهة "الاستعمار الغربي"، وأما أمر الأديان فلم يكن يلقي له بالاً إلا ما يفيده في فكرته هذه .
فملخص دعوته كما يقول أنور الجندي: "الحرية، والدعوة إلى الحكم النيابي والدستور، والتخلص من النفوذ الأجنبي المتمثل في سلطان الدولة الأجنبية المقنع وراء الامتيازات الأجنبية والسيطرة على الاقتصاد والارساليات، والتحرر من الاستبداد السياسي المتمثل في حكم الفرد ونفوذ الخديو وحاشيته"(3).
أما حكم الإسلام لديار المسلمين والتزامهم بشريعته، فهذا لا يأتي في اهتمامات الرجل، بل إنه كما سبق يرى أن الإسلام من الأديان المستبدة الخانقة للحرية!! ويعني بها حرية الكفر التي يسميها: الفلسفة .
هاتان وجهتا نظر في حقيقة الأفغاني وأهدافه، ولعل الثانية منهما أصوب من الأولى نظراً لقوة أدلتها لمن تأمل .
ماذا فعل الأفغاني بأهل مصر ؟ !
عندما قدم الأفغاني مصر زمن الخديو إسماعيل (1871م) كانت البلاد تعيش في انسجام وألفة بين الرعية وولاة أمورهم، ولا يمنع ذلك من وجود الانحراف(4) الذي كان يعالج من خلال النصيحة الشرعية التي يقوم علماء البلاد المتمثلين في شيوخ الأزهر. وكان للبلاد مجلس شورى يتم من خلاله التشاور حول ما يتعلق بالشئون الداخلية والخارجية(5).
ولكن هذا الوضع (الشرعي) للبلاد لم يُرض الأفغاني (العصراني) (الثوري) الذي رأى فيه ذلاً واستكانةً للحاكم المنحرف، ورأى أن حل مشاكل البلاد لا يكون بما يقوم به شيوخ الأزهر ومناصحاتهم. إنما يكون من خلال الثورة (وتهييج) الناس على ولاة أمرهم. وقد سعى إلى ذلك من خلال دروسه التي كان يلقيها على مريديه(6)، ومن خلال الصحف والمجلات التي سعى كثيراً إلى إصدارها عبر تلاميذه، وحثهم على نشر أفكاره فيها، وكلها تدور حول الثورة وما يسميه زورًا بالحرية! (7)(36/86)
أحس ولاة الأمر(8) وعلماء البلاد بخطورة ما يقوم به هذا القادم الغريب، مما لمسوه من انتشار أفكاره الثورية بين بعض الأفراد مما يشكل خطراً على أمن البلاد ووحدتها؛ فقرر الحاكم (الخديو توفيق) بمشورة من العلماء نفي الأفغاني وطرده من البلاد لئلا يزداد شره، وذلك عام (1879م). أي بعد سبع سنوات من قدومه.
يقول تلميذه محمد عبده متحسراً بأن الخديو "أظهر سروره مما فعل، وتحدث به في محضر جماعة من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان"(9)
__________
(1) …منهج المدرسة العقلية الحديثة ، ص 112-113.
(2) …السابق، ص 137. وإنشاء محمد عبده لهذه الجمعية يعد تنفيذًا عملياً لأفكار شيخه الأفغاني الذي يقول عنه الدكتور أحمد القاضي بأنه "أول من جهر بالدعوة إلى التقريب بين الأديان من الإسلاميين في العصر الحديث" (دعوة التقريب بين الأديان: دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، 1/398) ثم نقل الدكتور شيئاً من أقوال الأفغاني الشنيعة في هذا الموضوع. وانظر أيضاً: "الأفغاني" لأبي رية، ص 72-77.
(3) …عبد العزيز جاويش ، ص 12.
(4) … كان أهم انحراف تعيشه البلاد هو قضية الديون المتراكمة عليها للأجانب بسبب إسراف وفساد الخديوي إسماعيل .
(5) …الأعمال الكاملة لمحمد عبده (1/479).
(6) …كقوله لهم -كما سبق- : "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون مذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور…. الخ" (تاريخ الأستاذ الإمام 1/46).
(7) …يقول الدكتور محمد الحداد: "عند إقامته في مصر شجع جمال الدين الأفغاني أصحابه على نشر الصحف، وكان هو الساعي لاستصدار تراخيصها (الامتياز)، والموجه لسياستها التحريرية…" (الأفغاني: صفحات مجهولة من حياته، ص75). وانظر أثر الأفغاني في إنشاء كثير من الصحف المصرية عن طريق مريديه: كتاب "الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي" للدكتور سامي عزيز. ومن تلك الصحف: (التجارة)، (مصر)، (أبو نظارة)، (مرآة الشرق)، وغيرها، مع العلم أن أكثر القائمين عليها نصارى ويهود !!.
(8) … المنحرفون! -كما سبق-، ولكن هذا الانحراف يعالج بالنصيحة والصبر، لا بالتهييج والثورة التي تُفسد أكثر مما تُصلح كما سيأتي.
(9) …الأعمال الكاملة (1/493).
لقد طُرد الأفغاني ولكن بعد أن بذر بذرة الفساد في أرض مصر، وبعد أن تلقفت عقول بعض السُذج والحمقى أفكاره معتقده أن فيها صلاح البلاد، ولكنها -كما سيأتي- قادتهم إلى الهلاك والخسار بسقوطهم محتلين في يد أعداء الإسلام من الإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة في شق صف البلد المسلم؛ حتى يسهل عليهم احتلاله .
رحل الأفغاني عن مصر ولكن أفكاره المفسدة بقيت تعمل في العقول إلى أن بلغت نهايتها بقيام الثورة العرابية على الحاكم المسلم بقيادة أحد المتأثرين بالأفغاني (وهو أحمد عرابي) ومعاونة من بقية تلاميذ الأفغاني، وعلى رأسهم محمد عبده وعبد الله النديم (خطيب الثورة!) وغيرهم(1)، فاستغلت بريطانيا الوضع وتدخلت تحت دعوى حماية الأجانب والدفاع عن الحاكم الشرعي!، واحتلت البلاد وقضت على الثورة، ولم تخرج إلا بعد سبعين عاماً تقريباً !!
فانظر -رعاك الله- واعتبر بمآل الأفكار الثورية العاطفية.
يقول محمد عبده : "كان السيد ! جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، شديد الميل إلى الحرية، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل.." (2)!
قلت: بل نقلهم من ذل المسلمين إلى ذل الكافرين !
وقال سليم العنحوري النصراني تلميذ الأفغاني ! في ترجمته لشيخه بعد أن ذكر شيئاً من خطبه الثورية : "وأخذ القوم يشكون من حكومتهم، متململين، ويتطاولون بأعناقهم إلى ما يقول مشرأبين، ومذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية"(3) .
وقال -أيضاً-: "كان روح الثورة قد امتد في القطر، بحيث لم يكن إجلاء الأفغاني إلا ليزيده سرياناً وانتشارًا"(4) .
ويقول أبو رية عن الثورة العرابية : "إن هذه الثورة قد شبت من تعاليم جمال الدين"(5) .
ويقول الدكتور عثمان أمين: "ليس هناك شك في أن لجمال الدين يدًا في الحركة العرابية"(6)
ويقول الدكتور مجدي عبد الحافظ -وهو معجب بصنيع الأفغاني!-: "إن الثورة العرابية لم تكن إلا غرسًا طيبًا من تعاليم الأفغاني"(7)
محمد عبده :
أما محمد عبده، فهو أبرز تلميذ للأفغاني، تعرف عليه وهو في عمر صغير يبلغ الثانية والعشرين، فصادفت أفكار الأفغاني قلباً خالياً فتمكنت منه. فأصبح عبده يرددها ويبشر بها من حوله .
يقول الدكتور فهد الرومي: "لئن كان السيد ! جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة، فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها، ونشرها بين الناس، فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وإمامها الأول، فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه"(8) .
وقد فاق عبده شيخه في مسألة تطويع الإسلام وتشكيله بما يوافق حضارة الغرب وثقافته، نظراً لخلفية عبده الدينية التي افتقدها الأفغاني .
محمد عبده (الثوري) :(36/87)
لقد تشرب محمد عبده الأفكار (الثورية) (التهييجية) من شيخه الأفغاني -كما سبق- وآمن بها، ولم يكن يعارضه فيها، وهذا من المآخذ العظيمة عليه، حيث كان يعلم -وهو الشيخ الأزهري- عدم شرعية هذه الطريقة(9)؛ وهي تأليب الشعب والعامة على ولاة أمورهم، وتجرئتهم عليه بنشر معايبه، وكان الأولى به أن يقف في وجه انتشار هذه الأفكار الثورية، وأن يسلك الطريق الشرعي الذي سنه الله ورسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ وهو مناصحة الحاكم فيما أخطأ فيه وانحرف، وتقديم المقترحات النافعة للبلاد لتتخلص من
مشاكلها، والصبر على جور الحاكم وأثرته، كما قا صلى الله عليه وسلم : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عملهم ولا تنزعوا يدًا من طاعة"(10) وقا صلى الله عليه وسلم : "عليك السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرةٍ عليك"(11) .
__________
(1) …انظر أسماءهم في :"تاريخ الأستاذ الإمام" (1/46).
(2) …تاريخ الأستاذ الإمام (1/40).
(3) …السابق (1/47).
(4) …الأفغاني، صفحات مجهولة من حياته، للدكتور محمد الحداد، ص 98. وقد نقل في كتابه ترجمة عنحوري للأفغاني كاملة.
(5) …جمال الدين الأفغاني ، ص 27.
(6) … رائد الفكر المصري: الإمام محمد عبده، ص 22.
(7) … جمال الدين الأفغاني وإشكاليات العصر، ص 67.
(8) …منهج المدرسة العقلية الحديثة ، ص 124.
(9) …يقول محمد عبده : "إننا سلفيون أشعريون أو ماتريديون" (الأعمال الكاملة،1/614) (وانظر: الماتريدية، للشمس الأفغاني 1/335). ومن المعلوم أن الأشاعرة والماتريدية يوافقون أهل السنة في مسألة الخروج على السلطان. وتنبه إلى أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة -كما يزعم محمد عبده- إلا فيما وافقوا فيه أهل السنة، فيقال: وافقوا أهل السنة في كذا.
(10) …أخرجه مسلم (3/1481).
(11) …أخرجه مسلم (3/1467).
فكان الواجب على محمد عبده الشيخ الأزهري أن لا تأخذه العاطفة فينساق مع تلكم الأفكار الضارة التي لا تزيد الأمر إلا شدة وسوءً وضررًا. كما هي سنة الله الثابتة في هذه القضية على مدار التاريخ الإسلامي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"(1)
وقال : "إن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد.." (2)
المهم: أن محمد عبده سكت عن هذه الأفكار الثورية ولم يساهم في وأدها، بل غض الطرف عنها، وتعاطف معها، إلى أن نمت وتعاظمت، حتى كانت نهايتها قيام جهلة العسكريين بقيادة أحمد عرابي بثورتهم ثم (خروجهم) على ولي أمرهم(3)، الأمر الذي دعاه -وهو ضعيف الدين والعقل- أن يستعين بعدوه وعدوهم (إنجلترا النصرانية) في سبيل إخماد هذه الثورة والحفاظ على ملكه وكرسيه، فما كان من (إنجلترا) -المستعدة لمثل هذا الأمر!- إلا أن لبت النداء ونزلت بجيشها إلى أرض مصر، وقضت على (الثوريين) بقيادة عرابي، ثم طاب لها المقام هناك! فلم تخرج من أرض مصر إلا بعد أكثر من سبعين عاماً !!! فانطبق على محمد عبده وعرابي ومن معهم المثل القائل : (أراد أن يبني قصرا فهدم مصرا)!، فهم أرادوا إنكار ظلم وجور الحاكم بطريقتهم الثورية الخرقاء التي ورطهم بها الأفغاني؛ فتسببوا في ضياع بلادهم وتسليمها لقمة سائغة للنصارى، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. نسأل الله العافية، وأن يجعل من هذه الحادثة عبرة لأبناء الإسلام لكي لا يندفعوا خلف الأفكار الثورية التي تدغدغ العواطف في بداية أمرها، ولكنها سرعان ما تسيل الدماء بدل الدموع في نهايته. (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) (4) .
نهاية ثورته :
قبض على محمد عبده بعد إخماد ثورة عرابي نظراً لتعاطفه معه ومؤازرته له، فكان نصيبه من الأحكام السجن، ثم النفي خارج البلاد المصرية. وقد نال غيره نصيبهم من الأذى والانتقام.
محمد عبده والانقلاب من (الثورية) إلى (العصرانية) :
__________
(1) …منهاج السنة (4/527-528).
(2) …السابق (4/531).(36/88)
(3) … ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية أمرًاً خطيرًا، وهو أن قنصل فرنسا "أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم في عزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل فيهم، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهددون به …"!! (انظر: الأعمال الكاملة لمحمد عبده 1/528 و 531). وفي هذا دليل على أن الغرب النصراني يسره ويسعده ظهور الأفكار (الثورية) في المجتمع المسلم؛ لأنها تضعفه، وتخالف بين كلمة أهله، وتعطي الغرب مجالاً للتدخل في شئونه. وقارن هذا -وفقك الله- بدعم الغرب للثوريين والمنشقين الإسلاميين في زماننا هذا؛ لتعلم أن الخطة الصليبية لم تتغير، وأن قومي يُلدغون من الجحر الواحد مرات ومرات !
…تنبيه: ذكر بعض الباحثين أن "رياض باشا" كان يهودياً ثم أسلم، ومعلوم أن هذا الرياض هو الذي استضاف الأفغاني في مصر. فهل كان أمر قدومه قد دُبِّر بليل، لنشر الأفكار الثورية تمهيدًا للاحتلال ؟! العلم عند الله. وأنا لا أستبعد هذا؛ لأن مكر القوم تكاد تزول منه الجبال. انظر هذا بتوسع في بحثي القادم -إن شاء الله- (كيف احتل الإنجليز مصر؟).
…وانظر لبيان يهودية رياض باشا: "تطور الصحافة" لأنور الجندي، ص34، نقلاً عن أديب إسحاق تلميذ الأفغاني. و"دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام"، ص157.
تنبيه آخر : نشرت رابطة أهل السنة في إيران وثيقة مهمة عن الخطة الجديدة للروافض لنشر مذهبهم ، جاء فيها مما يتعلق بموضوعنا ؛ قول الخطة : "يجب بطريقه سريه وغير مباشره استثارة علماء السنة والوهابية ضد الفساد الاجتماعي والأعمال المخالفة للإسلام الموجودة بكثرة في تلك البلاد وذلك عبر توزيع منشورات انتقادية..الخ " انظر : (موقع البرهان على شبكة الأنترنت).
فعلم بهذا من المستفيد الحقيقي من دعوات ( التهييج ) . ألاليت قومي يعلمون .
(4) …انظر تفاصيل ذلك كله في الكتب التي تتحدث عن الثورة العرابية؛ كـ"الثورة العرابية" لصلاح عيسى، و"الثورة العرابية في ضوء الوثائق المصرية" للدكتور عبد المنعم الجميعي، و"مذكرات الزعيم أحمد عرابي" لمحمد فريد السيد حجاج، و"أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه"! لمحمود الخفيف. والكتب التي تتحدث عن تاريخ مصر في العصر الحديث.
لقد أصيب محمد عبده بذهول وصدمة شديدة بعد فشل حركة عرابي وقمعها وتمزيقها، مما جعله -وقد توحد وتفرد في السجن- يعيد النظر في هذا المسلك (الثوري) الخاطئ الذي سار فيه فكانت نهايته موجعة عليه وعلى بلاده. ولكن عبده بدلاً من أن ينتقل من (الثورية) إلى الاعتدال والطريق الوسط القائم على العلم الشرعي ونشره بين الناس وتربيتهم عليه، مع الصبر على جور الحاكم ومناصحته إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر، بدلاً من هذا ارتد إلى الطرف الآخر المقابل للفكر (الثوري) وهو الاستسلام للواقع والتبشير بالفكر (العصراني) الذي يُطَوع الإسلام وأحكامه بما يوافق العصر، ويجعل ما يسمى "بالتعايش السلمي"(1) مع الكفار هدفاً له، ورأى أن علاج مشاكل المسلمين وضعفهم سيكون في تبني مثل هذا الفكر، إضافة إلى تضخيمه لدور العقل على حساب النصوص الشرعية(2)؛ فانتقل من النقيض إلى النقيض، ومن مفسدة إلى أخرى أشد منها -كما سيأتي-.
ولهذا: فقد أصبحت مهمة محمد عبده بعد أن عاد من المنفى -كما يقول الدكتور محمد محمد حسين- : "التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالاً مختلفة؛ فظهر أحياناً في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر. وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه السلف في تفسيرها، ليقرب بها أقصى ما تحتمله، بل إلى أكثر مما تحتمله في بعض الأحيان من قُرب لقيم الغرب وتفكيره؛ لكي يصل آخر الأمر إلى أن الإسلام يساير حضارة الغرب، ويتفق مع أساليب تفكيره ومذاهبه"(3)
جهود الكفار في نشأة العصرانية وصناعتها :
لقد أذن الإنجليز بعودة محمد عبده من منفاه إلى مصر بعد أن تأكدوا من هجره لأفكاره الثورية السابقة، وتبنيه (الفكر العصراني) المتعاون مع الإنجليز والمهادن لهم. يقول الأستاذ غازي التوبة: "كان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر، وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: "إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني.."(4)
لقد كان الإنجليز رغم احتلالهم لمصر يعلمون أن المجتمع المصري لن يقبل بهم وبأفكارهم بسهولة، بل سيظل يجاهدهم ويعمل على الخلاص منهم؛ لأنهم في نظره (كفار) نصارى محتلون لبلاده. فقد كانت الصفوف وقت احتلال الإنجليز لمصر متمايزة: الشعب المصري المسلم ومن خلفه شيوخ الأزهر من جهة، والمحتل الكافر من جهة أخرى.
وهذا التمايز كان يضيق به الإنجليز، ويعلمون أنه يحول بينهم وبين تنفيذ خططهم في (تغريب) البلاد و(علمنتها) وجعلها تتقبل فكرة أن تكون مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية البريطانية(5) .(36/89)
والإنجليز -أيضاً- يعلمون أن الشعب المصري المسلم لم يكن ليتقبل الأفكار العلمانية الصريحة التي ينادي بها المحتل وأعوانه من أقباط مصر أو النصارى العرب القادمين من الشام.
إذاً فالحل هو صنع طائفة جديدة ترتدي المسوح الإسلامية وتقوم بمهمة (تمرير) الأفكار التغريبية العلمانية بين أفراد المجتمع، وخير من سيقوم بهذه المهمة: الشيخ! محمد عبده الذي كان محبطاً من جدوى العمل (الثوري) -كما سبق-، ومن معه من النبهاء أصحاب الطموح السياسي أو أصحاب الشذوذ الفكري(6). يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله بأن المستعمر الإنجليزي قام لأجل ذلك بـ"تربية جيل من المصريين العصريين الذين يُنَشؤن تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير…"(7)
__________
(1) …وهذا مصطلح كفري خطير لمن عرف مدلولاته، يلغي كثيراً من الثوابت. فالعجب كيف يستخدمه بعض من لا زلنا نظن به الخير متغافلاً عن ما تحته من شرور ؟!
(2) …يقول الأستاذ الفيلسوف! سليمان دنيا في كتابه (الشيخ! محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين، ص26): "إن الذي لا شك فيه عندي أن الشيخ محمد عبده قد تحيف من حق النصوص، وبالغ في تقدير قيمة العقل". ولبيان انحرافه في هذا الشأن ارجع إلى دراسة الدكتور فهد الرومي: "منهج المدرسة العقلية الحديثة..".
(3) …الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/337) .
(4) …الفكر الإسلامي المعاصر، ص 33. وانظر: تاريخ الأستاذ الإمام 1/895.
(5) …يقول الدكتور محمد محمد حسين: "كان للإنجليز في كل سياستهم هدفٌ واحد، وهو الارتباط مع المصريين بمعاهدة، وإنشاء علاقة مستقرة أساسها الود والتفاهم بين السادة والعبيد" (الاتجاهات الوطنية، 2/426).
(6) …لا يعدو أصحابه هذين الوصفين: فهم إما (طامح) وإما (شاذ). وتأمل حال العصرانيين الجدد تعرف صدق مقولتي!
(7) …الإسلام والحضارة الغربية ، ص 45.
وقال الدكتور مبيناً خطورة المهمة التي قام بها محمد عبده ومدرسته العصرانية: "وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يُشوّش قيمه ومفاهيمه الأصيلة بإدخال الزيف على الصحيح، ويثبت الغريب الدخيل ويؤكده. فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أن هذا الذي غُلبوا على أمرهم فيه ليس من الإسلام، والأمل قائم في أن تجيئ من بعدُ نهضة صحيحة ترد الأمور إلى نصابها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءهم من بعدُ من يريد أن يردهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتهموه بالجمود والتمسك بظاهر النصوص دون روحها"(1).
-كانت عملية صناعة الطائفة (العصرانية) تتم من خلال الصالونات التي انتشرت بعد الاحتلال الإنجليزي، لا سيما صالون الأميرة (نازلي فاضل) (2) التي كانت -كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- المرأة "الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تُبث منه الدعوة إلى التغريب.." (3) فكان صالونها شبكة صيد لكل طامح نابه مؤهل لتأدية الدور "العصراني" الذي سيقوم به ! وكانت هذه الصناعة تتم تحت نظر المندوب الإنجليزي في مصر (اللورد كرومر) الذي كان من خلال هذا الصالون كما يقول الدكتور رفعت السعيد "يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية"(4)، وقد وجد بغيته وصيده في الشيخ! محمد عبده وتلاميذه المتأثرين به.
يقول الدكتور فهمي الشناوي عن الثعلب كرومر: "ابتداء من 1905م بدأ أخطر وأخبث حيلة؛ حيث ابتدأ في اصطياده نبهاء الأمة الإسلامية في شبابهم، ليلتقطهم ويسند إليهم مناصب كبيرة تخدم خط تكوين قومي على حساب الأمة: التقط سعد زغلول(5) وأسند إليه وزارة المعارف 1906م أهم الوزارات. والتقط الشيخ محمد عبده وجعله مفتي للديار، وبذلك ضمن أولاً تفريغ صفوف الأمة الإسلامية من رجالها ونقلهم إلى صف التفاهم مع الغرب، والتفاوض مع الغرب، واتخاذ الغرب نموذجاً ولو جزئياً ولو ثقافياً.
وأنشأ لنفسه مكاتب وصالونات تروج لفكرة اصطياد نبهاء الأمة -مثل صالون الأميرة ناظلي فاضل، وتم اصطياد لطفي السيد الذي اندفع اندفاعا أعمى ضد الأمة بمقولة "مصر للمصريين" أي ليست للإسلاميين حتى لو صارت للقبط ما داموا مصريين! وأسموه فيلسوفاً دون أن تكون له أدنى علاقة بالفلسفة.
واصطاد عبد العزيز فهمي حتى أصبح قاضي قضاة مصر، ولكن بالقانون النابليوني لا بالشريعة !
واصطاد قاسم أمين الذي روج بدعوى مساواة المرأة إلى خلخلة تقاليد وأعراف المجتمع الإسلامي(6).
واصطاد عبد الرحيم باشا الدمرداش ليجعل للصوفية على الوعي السياسي الإسلامي قدحا معلى.
واصطاد خلفاؤه من بعد نبهاء؛ أمثال عبد الخالق ثروت وطه حسين، وعناصر قبطية؛ مثل البروتستانتي مكرم عبيد سكرتير المستشار القضائي، الذي وصل لقمة الحركة الوطنية، واليهودي رينيه قطاوي الذي وصلوا به إلى وزير مالية لسعد زغلول وزوجته وصيفة للسراي، ومئات غير هؤلاء. وهذا كله لصياغة مجتمع جديد من عجينة جديد"(7) .(36/90)
ويقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز"(8) لعلمه بأن المجتمع المسلم قد يتقبل من هذه الطائفة المتدثرة باللباس الإسلامي ما لا يتقبله من الاحتلال أو من العلمانية.
__________
(1) …السابق، ص 52.
(2) …هي الأميرة نازلي فاضل ابنة الأمير مصطفى فاضل باشا ابن إبراهيم باشا، الذي كان يرى بأنه الأحق بعرش مصر من أخيه الخديو إسماعيل ابن إبراهيم باشا الذي سعى لدى السلطان العثماني لجعل ملك مصر فيه وفي ذريته، فحرم أخاه مصطفى من العرش. ولهذا كانت نازلي تحقد على هذه الأسرة وتتعاون ضد الإنجليز ضدها بواسطة صالونها الذي افتتحته بعد عودتها من الخارج وتحت رعاية الإنجليز وتوجيههم. وهي -كما هو معلوم- التي شجعت المرأة المصرية على "التحرر". هلكت عام 1914م. انظر عنها: "مذكرات سعد زغلول" (1/64 وما بعدها)، و" الحركة النسائية الحديثة" د. إجلال خليفة (ص27)، و"الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار" (ص72)، و"عودة الحجاب" (1/37 وما بعدها). و"حجاب المسلمة .." للبرازي.
(3) … عودة الحجاب (1/36).
(4) … سعد زغلول بين اليمين واليسار، ص 23
(5) … يقول الدكتور حسين النجار عنه: "وفي صالون الأميرة نازلي كان أول لقاء له مع لورد كرومر" (سعد زغلول: الزعامة والزعيم، ص16).
(6) …بل أحكام الشريعة؛ لأن الأمور التي أراد قاسم ومن معه التنصل منها هي أحكام شرعية وليست تقاليد أو أعرافاً. وإلا لهان الأمر.
(7) … بحث بعنوان "تطور الفكر الإسلامي في مصر، ودور اللورد كرومر" منشور ضمن أبحاث: الندوة العالمية عن فكر المسلمين السياسي خلال الحقبة الاستعمارية، بالمعهد الإسلامي، لندن، 1986م ، ص 11.
(8) …عقبات في طريق النهضة ، ص 59.
أما عن الأفكار التي كان الاحتلال يريد ترويجها بين المسلمين عن طريق الطائفة (العصرانية) بقيادة الشيخ ! محمد عبده فهي:
1-التقريب بين المسلمين والكفار، وقد ابتدأت جهود محمد عبده في هذا الأمر عندما كان منفياً في بيروت حيث أسس جمعية للتقريب بين الأديان -كما سبق- ومن أقواله: "نستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما على الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين"(1) !
ويقول لتلميذه رشيد رضا: "إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي"(2) .
2-إماتة روح الجهاد في الأمة الإسلامية، وهو أمر مترتب على السابق، يقول الدكتور فهد الرومي: "لعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان: القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام. فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق، وليس بينها من فرق، فليس هناك من داعٍ لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً"(3) .
قلت: ولهذا كان محمد عبده يرى بأن الجهاد في الإسلام هو للدفاع فقط! ويقول: "القتال فيه -أي الإسلام- لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله"(4). وهكذا كان رأي تلاميذه من بعده(5).
بل لم تقتصر محاولة إماتة الجهاد عند محمد عبده على بلاد مصر فقط بل كان يرسل النصائح بذلك إلى علماء الجزائر المحتلة حينذاك من فرنسا!
ومن ذلك قوله للشيخ الجزائري عبد الحميد سمايا سنة 1903م بعد أن نصحه: "الناس محتاجون إلى نور العلم، والصدق في العمل، والجد في السعي؛ حتى يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم من أهل الأمم الأخرى"(6) !! فالمهم عند عبده ومن سيتبعه من العصرانيين! "أن يعيش في سلام وراحة" وإن كانت بلاده محتلة مستعبدة من عبّاد الصليب !
والعجب لا ينقضي من حال محمد عبده، الذي انعكست الأمور عنده، فجعل جهده وجهاده -كما سبق- في تهييج المسلمين على ولي أمرهم، والمساهمة في الخروج عليه. وهو أمر لا يقره الشرع. ثم تجده هنا عندما احتاج المسلمون إلى جهاد الكافر المحتل، وهو أمر شرعي، يثبط عن ذلك ويرضى بالمسالمة ! فحُق أن يقال له ما قاله أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى!
3-الدعوة إلى الوطنية الإقليمية، وعزل مصر عن العالم الإسلامي. ولمحمد عبده في هذا المقام أقوال كثيرة تؤسس لمثل هذه الفكرة الجاهلية التي تطورت من بعد على يد تلاميذه؛ لاسيما أحمد لطفي السيد صاحب شعار "مصر للمصريين"!
ومن ذلك: قول محمد عبده: "يا أبناء الوطن: لئن فرق بينكم اختلاف الآراء، وتنوع المشارب، وتلون التصورات، فقد وجدتم في الجامعة الوطنية ما تأتلفون به وتجتمعون عليه.." (7)
ثم تبنت الثورة العرابية التي هي ثمرة أفكار العصرانيين هذه الوطنية الجاهلية. يقول الدكتور فهمي الشناوي: "الثورة العرابية هي مأساة إجهاض الأمة الإسلامية؛ حيث انتهت بانفصال مصر عن الخلافة، وبدأت تتكون مصر كوطن.." (8)(36/91)
4-الدعوة إلى "تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية"(9) من خلال: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حتى دخل منه القادر وغير القادر، وصاحب الورع وأصحاب الهوى؛ فظهرت الفتاوى الشاذة من جراء ذلك(10).
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "إن الاجتهاد في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطر غير مأمون العواقب؛ يخشى معه أن يتحول -من حيث لا يدري المجتهد إن وجد ومن حيث لا يدري- إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو معجب بها. فإذا لم يكن معجباً بها فالمجتمع الذي هو معجب بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهاله الذي يتصدون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون حتى يفقد ثقته في نفسه، ويعتبر به غيره، فيفتي حين يُستفتى وعينه على الذين يفتيهم يريد أن يرضيهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاء للخلق، ويذهل عما عند الله تعجلاً لما عند الناس"(11).
__________
(1) … الأعمال الكاملة (2/363-364).
(2) … السابق (3/533).
(3) … منهج المدرسة العقلية ، ص139.
(4) … الأعمال الكاملة (3/260).
(5) … انظر فتوى تلميذه رشيد رضا بذلك في فتاواه (3/892، 1155). وللشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله تعقب عليه نُشر في "المنار" (المجلد 34 الجزء 2 ص140-143) .
(6) … الشيخ محمد عبده في أخباره وآثاره، د. رحاب عكاوي ، ص 61-62.
(7) … الأعمال الكاملة (1/342).
(8) … تطور الفكر الإسلامي في مصر ..، بحث سابق، ص 10.
(9) … الإسلام والحضارة الغربية ، ص 49
(10) … وأكثرها -لمن تأمل- فتاوى "شهوانية" !
(11) … السابق، ص 51.
قلت: وللشيخ! محمد عبده نصيب كبير من هذه الفتاوى (العصرية) التي طوعت أحكام الإسلام لما يريده المحتل الأجنبي أو ما يريده أهل العصر؛ كفتواه بإباحة ربا صناديق التوفير، وإباحة ذبائح النصارى التي يضربونها بالبُلط ولا يذكرون عليها اسم الله! ولدى العصرانيين في كل زمان ومكان مزيد !(1).
يقول الدكتور محمد محمد حسين معلقاً على فتاوى عبده : "مثل هذه الآراء قد تبدو في ظاهرها لا بأس بها، ولا غبار عليها، بينما هي في حقيقة الأمر تدعو إلى مذهب التحرر (Libe r alism) الذي يذهب في التسامح الديني إلى درجة تكاد تنمحي معها الحدود الفاصلة بين المذاهب والنحل"(2). وهذا كلام نفيس يغيب عن السذج الذين ينظرون إلى مثل هذه الآراء على أنها مسائل فقهية مجردة.
5-الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، وهو هدف أساس لدى الكفار في كل حين وآن، وقد قام الشيخ ! محمد عبده ومدرسته بتحقيقه أيما تحقيق.
أما الشيخ! فقد صدرت مجلة (السفور) بإشارة منه(3). وقد شارك مشاركة فعالة في تأليف كتاب (تحرير المرأة) لتلميذه قاسم أمين كما أثبت ذلك بعض الباحثين(4). وأما تلاميذه فقد اشتطوا أكثر منه في هذه القضية؛ فتلميذه قاسم بعد ست سنوات من تأليفه (لتحرير المرأة) كشر عن أنيابه وأبان عن حقيقة فكرته التغريبية في كتابه الآخر (المرأة الجديدة) "الذي بدأ فيه أثر الحضارة الغربية واضحاً"(5) "وبينما كنت تراه هادئا في كتابه الأول، يحوم حول النصوص الإسلامية، ويمتص رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة، انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه، عبارات لا تقرها المرأة ذاتها. فهو لا يقبل بزعمه: حق ملكية الرجال للنساء!" (6)
وتلميذه الآخر سعد زغلول كان من المؤيدين بشدة لهذه الفكرة وكان -كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- : "المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين"(7) وذلك بواسطة زوجته صفية التي كانت من أوائل المتحررات.
وأما لطفي السيد، فقد قال الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر"(8) .
وقال -أيضا- : "ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة"(9) .
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حسن تفكيره"(10) .
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة،(11) وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجامعة المصرية) هو وأصحابه -وعلى رأسهم طه حسين!- بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهن في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها".
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.(36/92)
والخلاصة كما يقول الشيخ ناصر العقل -حفظه الله-: "تركيز الاتجاهات العقلية الحديثة على إفساد المرأة من الأمور التي أصبح يدركها ويدرك آثارها وخطرها جميع الناس على مختلف مستوياتهم، وقد فعلت وقطعت في ذلك خطوات واسعة، ولا أظنني مبالغاً حين أرى أن نجاح الاتجاهات العقلية في إفساد الأمة والعقيدة والناشئة الإسلامية عن طريق إفساد المرأة أكثر منه عن طريق غيره من الوسائل الأخرى الفكرية والعملية"(12)
كيف صُنعت العصرانية ؟ !
__________
(1) … وهذا يذكرنا بموقف أحد تلاميذ المدرسة العصرانية؛ وهو الشيخ! محمد مصطفى المراغي حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية فكان يقول لأعضاء لجنة تنظيم الأحوال الشخصية: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم" !!! (المجددون في الإسلام، لعبد المتعال الصعيدي، ص 548).
…وذكر الأستاذ محمد مصطفى رمضان في كتابه "الشعوبية الجديدة، ص 118 أن محمود شلتوت كان يفتي حسب رغبة جمال عبد الناصر!
(2) … الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/343).
(3) … انظر: "الإمام محمد عبده" لمجموعة من المحررين ضمن سلسلة: نوابغ العرب، ص106
(4) … انظر مقدمة الأعمال الكاملة لمحمد عبده، للدكتور محمد عمارة (1/245 وما بعدها)
(5) … عودة الحجاب ، ص 62.
(6) … السابق، ص 63.
(7) … السابق، ص 82. وانظر للتأكيد: "سعد زغلول" لمحمد الجزيري الذي كان سكرتيراً له، ص 203-209.
(8) … أحمد لطفي السيد، ص 243.
(9) … السابق، ص 248.
(10) … المنتخبات (1/11).
(11) … انظر: المنتخبات، (1/268 وما بعدها) .
(12) …الاتجاهات العقلانية الحديثة، ص 418.
لقد استخدم الإنجليز في مصر بقيادة الثعلب كرومر خطة ماكرة في سبيل صناعة الطائفة العصرانية وتقديمها لأبناء المجتمع المصري المسلم كممثل للصوت الإسلامي، وهي في حقيقتها مجرد وسيط ناقل للأفكار العلمانية التغريبية التي ترسخ الوجود الأجنبي والثقافة الغربية. ومن المهم جدًا معرفة نقاط هذه الخطة الماكرة؛ لأنها مما كرره ويكرره الغرب وأذنابه في مختلف بلاد المسلمين ؛ليحذرها أهل الإسلام - لا سيما الدعاة - . فإليك ما تبين لي منها:
1-الثناء والمديح من الغرب على الطائفة العصرانية:
وأنها تمثل (وسطية) الإسلام! واعتداله! فمن ذلك: قول اللورد كرومر عن محمد عبده ومدرسته: "لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883م كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق(1) فعين الشيخ بعد ذلك قاضياً في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة. وفي سنة 1899م رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع مابه من سعة العقل واستنارة الذهن. وأذكر مثالاً على نفع عمله: الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير، فقد وجد لهم باباً به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء(2).
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عاماً(3). والغاية العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني. فعملهم شاق وقضاؤه عسير: لأنهم يُسْتهدفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين.
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ولكنهم قليلون، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلالة والخروج عن الصراط المستقيم، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة. فهم وسط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غير أن معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين إذ هؤلاء لا يكاد يسمع لهم صوت.(36/93)
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية المصرية أولا، وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام، إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه. فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين"(4).
وقال أيضاً: "إن حزب الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر"(5)
وقال عنه أيضاً: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى"(6)
ويقول الأستاذ سيد يوسف في كتابه (الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد..، ص67): "أدرك كرومر منذ البداية دور التهدئة الذي يمكن أن يقوم به محمد عبده؛ فأثنى عليه، وتظاهر له بتشجيع مشاريعه وطموحاته..".
__________
(1) … كرومر يكذب ! بل الذي صفح عنه هم الإنجليز بضغوط على الخديوي -كما سبق-
(2) …!! بل خالفوه، وتحريم الربا مما لا يجهله مسلم، ولكنه اتباع الهوى.
(3) …هو سيد أحمد خان، المتوفى سنة 1315هـ-1898م. دعا إلى تقليد الحضارة الغربية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها. وفي سبيل ذلك اجتهد في إزالة الحواجز وتذويب الفوارق بين المسلمين والإنجليز؛ حيث دعا إلى مهادنتهم وترك جهادهم. انظر شيئاً من أفكاره مع الرد عليها في كتاب "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي سعيد (ص120 وما بعدها).
…قال عنه الشيخ ناصر العقل: "إن حركة السيد أحمد خان هي أول اتجاه علماني فكري حديث قام بشكل منظم في العالم الإسلامي" (الجاهلية الجديدة، ص40).
(4) … مجلة المنار (المجلد الحادي عشر، الجزء الثاني، ص 91).
(5) … السابق (ص 203).
(6) … تقريره السنوي عن عام 1905م، الفقرة (7). انظر : "الإسلام والحضارة الغربية"، ص 74.
ويقول أحد المستشرقين عن محمد عبده : "يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث….. إن كتابات الشيخ محمد عبده تمتاز بشيء من الجدة في روحها … إلخ المديح"(1)
ويقول الدكتور الإنجليزي ادوارد براون عنه : "ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله"(2) !!
يقول الدكتور محمد محمد حسين عن محمد عبده: "كثرة من النصوص في كتب ساسة الغرب ودارسيه تصور رأيهم فيه وفي مدرسته وتلاميذه ومكانه من الفكر الحديث، وهي جميعاً تتفق على تمجيده والإشادة به وبما أداه للاستعمار الغربي من خدمات؛ بإعانته على تخفيف حدة العداء بينه وبين المسلمين.." (3)
2-تسليط الأضواء عليهم وتلميعهم عبر وسائل الإعلام!
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في كلام خطير ينبغي تأمله: "والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال -أي العصرانيين- قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها، والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه. فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام -كما لاحظ جب في كتابه (Mode r n T r ends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاء الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن يُنسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائم ما اتصف به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهماً أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سو قصد، وليس مهماً أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنتهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأت بعيدة عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلها وعمل على ترويجها. المهم في الأمر هو أن المجد الذي ينسب لهؤلاء الأفراد ليس من صنعهم ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها، ولكنه من صنع القوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن تستغلهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار أو هي الصهيونية العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.
وخطة الاستعمار والصهيونية العالمية في ذلك كانت تقوم -ولا تزال- على السيطرة على أجهزة النشر التي نسيمها الآن (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَون ويُنَشَّؤن بالطريقة التي يُبْنى بها نجوم التمثيل والرقص والغناء، بالمداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرين الذين يصورون وجهات النظر المعارضة، أو تشوَّه آراؤهم وتُسفَّه، ويُشهَّر بهم. ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل"(4)
قلت: وهذا كلامٌ نفيس من رجل خبر القوم، يحق لأهل الإسلام أن يتأملوه ؛ فيتثبتوا من خطواتهم .(36/94)
ويقول رحمه الله متحدثاً عن رأسي العصرانية في هذا الزمان: الأفغاني وعبده، وهو حديث ينطبق على مدرستهما : "كان من وراء الأفغاني ومحمد عبده كليهما قوتان كبيرتان تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذكرهما، وهما: الماسونية -قمة الأجهزة الصهيونية السرية- والاستعمار. وقد نجحت هاتان القوتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كله، وفي إضعاف أثر أعدائهما الكثيري العدد من علماء الإسلام المعاصرين، وحجب ما كتبوه عن جمهور القراء، فلم يمض على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر -موطن المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني- عامراً بأنصارهما الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)" (5)
3-تشجيعهم ودعمهم في تولي المناصب المهمة:
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "وقد ظل أصدقاء محمد عبده وأنصار دعوته يكثرون بما يلقون من تشجيع الإنكليز، الذين كانوا يمكنون لهم في إدارات الحكومة وفي مناصب الدولة الكبرى"(6)
ويقول اللورد كرومر: "إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة، ولكنه عمل شاق، فضلاً عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين، كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء، لولا أن الإنكليز أيدوه بقوة"(7)
__________
(1) … وجهة الإسلام ، ص 49
(2) … مجلة المنار، المجلد 23، الجزء 8، ص 601 .
(3) … الاتجاهات الوطنية الحديثة في الأدب المعاصر (1/328).
(4) … الإسلام والحضارة الغربية ، ص 48.
(5) … السابق ، ص 80.
(6) … الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/353).
(7) … مجلة المنار، المجلد 11، الجزء 2، ص 95.
وأما سعد زغلول فقد اختاره اللورد كرومر -كما سبق- وزيراً للمعارف(1). وكان سعد يقول عن اللورد كرومر -كما في مذكراته- : "كان يجلس معي الساعة والساعتين، ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية"!(2)
وبعد وفاة محمد عبده استمر الدعم لتلاميذه وتياره الذي تمثل في حزب "الأمة". يقول أحد الباحثين الأجانب: "لقد تلقى حزب الأمة عونًا حقيقياً وأكيدًا من اللورد كرومر"(3)
العصرانية والعلمانية وجهان لعملة واحدة !
من تأمل جيدًا أهداف وأفكار (العصرانيين) وجدها نفسها أهداف وأفكار (العلمانيين)، وإنما الفارق شكلي: وهو أن (العصرانيين) قدموا أفكارهم بعد أن غلفوها وألبسوها اللباس (الشرعي)، وأما (العلمانيون) فلم يفعلوا هذا.
فالطائفتان تلتقيان في نهاية الأمر حول أهداف واحدة: كالتقارب بين الأديان، والدعوة للديمقراطية الغربية، والتهوين من شأن الحكم بما أنزل الله، والتحايل على إسقاط أحكام الشريعة؛ لاسيما الحدود، والدعوة إلى تحرير المرأة.. الخ.
لهذا: فإن عقلاء الباحثين ممن ينظرون إلى مآل الأفكار لا حاضرها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من غيرهم لم يخفَهم هذا الالتقاء بين الطائفتين، ورأوا أن الطائفة العصرانية إنما هي بوابة وقنطرة للعلمانية، وأنه لا مكان في جميع الأفكار التي طرحوها للون الرمادي الذي يزعمون أنهم يتبنونه، وأنه وسط بين الأبيض والأسود، فهذا اللون -في الحقيقة- لا يوجد إلا في الأذهان، أما في أرض الواقع فلا مجال إلا بالتزام أحكام الإسلام وهو اللون الأبيض، أو اللحاق بركب العلمانيين، وهو اللون الأسود. ومن ادعى أنه سيسير بينهما فهو واهم، وعن قريب هو صائر إلى أحدهما كما حدث لتلاميذ المدرسة العصرانية؛ حيث انضم أكثرهم إلى العلمانية (الخالصة)، وتراجع قلة منهم عندما عرفوا مصير السير وراء الأفكار التوفيقية الرمادية؛ كرشيد رضا(4).
1-يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري واصفاً وضع المدرسة العصرانية: "فالحاصل إن إدخال الأفكار الوافدة -بعد تشذيبها- ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فهي نظراً لكونها جزيئات من حضارة أخرى ذات محتوى اعتقادي مغاير، فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية الخاصة المعدية، والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك -بوعي أو دون وعي من التوفيقيين (أي العصرانيين) الذين قبلوها بشروطهم وضوابطهم- تتحرك حسب منطقها الذاتي وقوانينها الحركية الوافدة معها من كيانها الحضاري الأول، إلى أن تخلق دينامية مستقلة تؤثر على المركب الفكري التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية، أو تخل بالمعادلة كلها لتشق طريقها في تيار متميز خارج مجرى التوفيق. هذا إذا لم تنشطر التوفيقية إلى نقيضيها نتيجة لذلك.
وهذا ما يفسر خروج أشهر العلمانيين في الفكر العربي مثل لطفي السيد وطه حسين من تحت العباءة التوفيقية للشيخ محمد عبده"(5)(36/95)
2-ويقول ألبرت حوراني عن محمد عبده: "كان يريد أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى العلمانية"(6)
__________
(1) … يقول الدكتور رفعت السعيد عن كرومر: "صاحب القول الفصل والكلمة الحاسمة في اختيار سعد وزيرًا" (سعد زغلول بين اليمين واليسار، ص 30). ويقول الدكتور عبد الخالق لاشين: "تكاد تتفق المصادر على اختلاف نزعاتها على أن كرومر هو الذي كان وراء تعيين سعد زغلول" "سعد زغلول ودوره في السياسة المصرية"، ص47. وانظر: "سعد زغلول الزعامة والزعيم" للنجار، ص 16. ومقال "حرب الكلمة ومخططات كرومر ودنلوب وزويمر ضد الإسلام" لأنور الجندي رحمه الله، منشور في مجلة منار الإسلام، العدد 15، 1409هـ.
(2) … عن: عودة الحجاب، ص 85.
(3) … عن : "سعد زغلول بين اليمين واليسار" ، ص 40.
(4) …ومع هذا، بقيت فيه (لوثة) من لوثاتهم. وليس هذا مقام التفصيل.
(5) … الفكر العربي وصراع الأضداد ، ص 262.
(6) … عن : الإسلام والحضارة الغربية، لمحمد حسين، ص 78-79.
3-ويقول الدكتور محمد كامل ضاهر: "أعطى الشيخ محمد عبده تشجيعاً كبيراً للعلمانيين ومنطلقاتهم الفكرية، بل إنهم اعتمدوا على الكثير من آرائه لدعم اتجاهاتهم وحركتهم في مجتمع مشبع بالقيم والتقاليد الدينية الراسخة. فماذا يطلب العلمانيون أكثر من رأيه في السلطتين الزمنية والدينية؟! ونظرته إلى العقل، ودوره في تنظيم شؤون الحياة والمجتمع؟ ورأيه في المرأة وفي كثير من المسائل المالية والاجتماعية التي اجتهد فيها لمصلحة الأمة والوطن والفقراء من الناس، وليس للمصالح الفردية؟. وإذا صح أن معظم ما كتبه قاسم أمين عن المرأة هو من بنات أفكار عبده فذلك يعني أن الرجل أصبح في أخريات عمره مشبعاً بالأفكار العلمانية الغربية ومتحمساً لها، حتى أنه كان في طليعة الدعاة لإنشاء الجامعة الأهلية المصرية التي افتتحت عام 1908. لقد تركزت استراتيجيته الحقيقية على إحياء حقائق الإسلام على ضوء الفكر الحديث، وعلى جعل الأخلاق قاعدة الحياة الاجتماعية والفكرية الجديدة في مصر، دون أن يحاول استئصال الماضي أو إحيائه كلياً، بل اعتمد هذا الماضي كأساس لبناء مجتمع متطور توفره ثقافة الغرب العقلية وعلومه الحديثة.
وإذا كان عبده قد حاول أن يكون سدًا منيعاً أمام العلمانية المادية التي حملها المهاجرون الشوام المسيحيون إلى مصر، فإن ما طرحه من أفكار تنويرية جعل معظم العلمانيين المسلمين يتخذون من أفكاره سلاحاً يدافعون به عن معتقداتهم الهادفة إلى علمنة كاملة للمجتمع الإسلامي العربي، وفي طليعتهم قاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وزملاؤه في حزب الأمة"(1)
4-ويقول النصراني (جب) عن محمد عبده: "إن ما أثر على نفوس قرائه العلمانيين: تلك الروح التي عالج بها مسائل العقيدة والتطبيق؛ لاسيما القوة التي حارب بها التعليم التقليدي"(2)
5-ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه (تاريخ مصر السياسي) (3) عن محمد عبده وتلاميذه بأنهم: "كانوا أكثر فعالية من كل العلمانيين الصرف" !
6-ويقول الأستاذ نعيم عطيه : "ولا شك في أن محمد عبده لعب دوراً رئيسياً في محاولة التوفيق بين المبدأ الديني والعلم، وبذلك أعطى العقل سندًا قوياً منتصراً له على التقليد. وفتح في الخط الديني الملتزم ثغرة كبرى أتيح بفضلها للتيار العلمي أن يدخل حلبة الصراع الفكري ويثبت أقدامه قوة قائمة بذاتها. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحول التيار العلمي على صعيد العمل السياسي البحت إلى دعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة"(4) .
7-ويقول الشيخ سفر الحوالي(5): "لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوربية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي، وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية. وهو قائم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً. أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار (الشيخ) الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغيير العلماني"(6)
8-ويقول الشيخ ناصر العقل عن محمد عبده وتلاميذه: "لهم آراء ومناهج ليست علمانية (صريحة) لكنها في سبيل العلمنة"(7)
9-ويقول الدكتور سعيد الزهراني: "لقد تركت أفكار محمد عبده أثرها على تلاميذه، ومن جاء بعده، بل لقد عظمت حتى وصلت إلى الصراحة بموافقة الفكر الغربي العلماني"(8)(36/96)
10-ويقول الشيخ محمد بن إسماعيل : "لقد كان محمد عبده يريد أن يقيم سدًا في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية اللادينية:
رام نفعاً فضر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا"(9)
__________
(1) … الصراع بين التيارين الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث، ص 191-192.
(2) … الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص 71
(3) … ص 47
(4) … بحث "معالم الفكر التربوي في البلاد العربية" منشور ضمن بحوث مؤتمر هيئة الدراسات العربية المنعقد في تشرين الثاني 1966 في الجامعة الأمريكية ببيروت، بعنوان (الفكر العربي في مائة سنة)، ص 450.
(5) … أسأل الله أن يوفقه للتصدي لهذا التيار قبل تغلغله بين صفوف بعض الدعاة.
(6) …العلمانية، ص 579
(7) …الاتجاهات العقلانية الحديثة، ص 386.
(8) …الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين (رسالة دكتوراه لم تطبع بعد) (1/321) و(2/745 وما بعدها).
(9) … عودة الحجاب ، ص 31.
11-ويقول الأستاذ محمد حامد الناصر بعد دراسته لأفكار العصرانيين : "حقيقة العصرانية: دعوة إلى العلمانية"(1) ثم ذكر أقوالاً لبعض العصرانيين الأحياء؛ كحسن حنفي ومحمد عمارة يصرحون فيها بتبني العلمانية.
12-ويقول الدكتور عبد الرحمن الزنيدي: "لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية أن تقمص بعض أتباعها رداء الإسلام؛ ليتحركوا تحت رايته بعلمانيتهم بأسماء مختلفة؛ كالإسلام التقدمي، وفكر الإستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي…"(2)
العلمانيون يدعمون العصرانيين!!
لقد عرف العلمانيون حقيقة أفكار العصرانيين، وأنها نفس أفكارهم، ولكنها تجد القبول من سُذج المسلمين نظراً لواجهتها الإسلامية، وكونها تستتر خلف الشيخ!! فلان، والداعية!! علان، بخلاف أفكارهم العلمانية الصرفة، ولهذا فقد تترسوا بهم، ووجدوا فيهم خير مطية يمتطونها لاختراق المجتمعات الإسلامية التي لم تجد العلمانية فيها موطئ قدم، وجعلوهم طليعة لهم في غزو تلك المجتمعات وخلخلتها بطرح الأفكار المتنوعة المناسبة لهم، التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وكسر هيبة كبار العلماء، وشق وحدة الصف فيها؛ ليسهل عليهم بعد ذلك التمكن منها.
ولهذا كله: فلا تعجب إن سمعت أو قرأت بأن فلاناً (العصراني) يُكال له المديح من جماعة العلمانيين، ويُصدر مجالسهم وندواتهم، وتُفتح له وسائلهم، ويكتب في صحفهم؛ لأن الجميع قد التقوا على أهداف واحدة؛ فانطبق عليهم قوله تعالى (ربنا استمتع بعضنا ببعض… الآية) (3).
ودعم العلمانيين للعصرانيين يكون بالآتي:
1-إفساح المجال لهم ليبثوا أفكارهم عبر الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في مقابل تهميشهم لأهل الإسلام من دعاة الكتاب والسنة، الثابتين على الحق، غير المتلونين أو المتذبذبين.
2-المبالغة في مدحهم ووصفهم بصفات الاعتدال والوسطية وسعة الصدر للآخرين….الخ. مع لمز أهل الإسلام ودعاة الكتاب والسنة بضيق الأفق، والتحجر!، وعدم قبول الآخر!!..الخ
فعلى سبيل المثال: هذا (العلماني) الشهير الدكتور جابر عصفور في كتابه "هوامش على دفتر التنوير" يهاجم علماء ودعاة الكتاب والسنة من أمثال الشيخ ابن باز -رحمه الله-(4) والدكتور عوض القرني(5) وغيرهم. ثم في المقابل يكيل المديح لمحمد عبده وتلاميذه ويختم مديحه قائلاً: "إن كرامة هذه الأمة في التاريخ قد أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وحين لم نبدأ من حيث انتهى إليه أمثال طه حسين وأحمد زكي أبو شادي، وحين قمعنا العقل بالتقليد، والشك بالتصديق، وحين استبدلنا بأمثال الشيخ محمد عبده ومحمد فريد وجدي قوماً آخرين"(6) قلت: وهذا من قبيل "ليس حباً في علي وإنما بغضاً لمعاوية"!
ويقول في مقدمته لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق: "وبقي الكتاب نفسه وثيقة رائعة من وثائق التنوير، وثيقة تعلمنا أننا ننتمي إلى تراث عظيم، وأن لنا من المشايخ ما نفخر به: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وأمثالهم، هؤلاء هم الذين ننتهي إليهم، وهؤلاء هم الذين أسهموا في صنع وعينا الحديث وإيماننا الراسخ بالدولة المدنية وبالمجتمع المدني، وهؤلاء هم الذين علمونا أن لا تناقض ولا تعارض بين الدين والدولة المدنية التي تسعى إلى التقدم، أو بين رجل الدين والمجتمع المدني الذي يتسلح بالعلم، ويبني مستقبله بهذا العلم، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المشايخ العظام أقرانهم من الأفندية دعاة التنوير، أدركنا أن ما تقوم عليه نهضتنا وثقافتنا أقوى وأعظم من أن يتأثر بأية هبة من هبات الإظلام"!!(7)
3-عدم السماح لأحد بنقدهم أو النيل منهم، بل إحاطتهم بهالة من القداسة المصطنعة .
__________
(1) … العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ، ص 407.
(2) … السلفية وقضايا العصر، ص24.(36/97)
(3) …كما لا تعجب إذا سمعت بأن الداعية!! فلان يتعاطف مع العلمانيين، ويدافع عن كفرهم وزندقتهم أو (اجتهادهم!!) كما يزعم!، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
(4) …انظر: ص 90 من كتابه
(5) …انظر: ص 111 وما بعدها من كتابه.
(6) …ص 138.
(7) …انظر: "الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين" (2/752-753).
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "ومن شاء أن يعرف المكان الصحيح والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني أن ينظر في الصحف اليومية والمجلات الدورية وفي كتب الكتاب اللبراليين الذين لا يسمحون بأن يُمس أي منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كل من يمسهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكتاب لا يُعرفُ عنهم غيرة على الإسلام في غير هذا الموضع، بل إنهم لا يثورون حين يُمس رسول الإسلام r وأصحابه، ويرون أن ذلك مما تسعه حرية الفكر واختلاف الرأي، بل إنهم يلتزمون التزاماً دقيقاً أن لا يُذكر اسم محمد عبده إلا مقروناً بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسو صلى الله عليه وسلم مجرداً، ويستكثرون إذا ذُكر الرجل من أصحابه أن يقولوا "سيدنا فلان" أو يُتبعوه، كما تعود المسلمين أن يقولوا في الدعاء له: رضي الله عنه"(1)
4-التحسر عليهم وتكريمهم حتى بعد مماتهم !
وقد سبق تحسر العلماني جابر عصفور على أئمة العصرانية.
ويشهد لهذا ما قام به العلمانيون في مصر من تأبين لمحمد عبده بعد وفاته، وعمل حفلة خاصة به في الجامعة المصرية؛ لتعداد مآثره! (2)
نهاية العصرانية :
لقد قام العصرانيون بمهمتهم خير قيام، ثم اختفوا بعد أن عبَّدوا الطريق لطلائع العلمانيين الذين تولوا قيادة المجتمع المسلم بعد أن تمت خلخلته من قِبَل أفراد التيار العصراني؛ فقطفت الجماعة العلمانية بقيادة (جمال عبد الناصر وإخوانه) الثمرة بعد حين، عند سقوط الملكية في مصر(3)، فقاموا -أخزاهم الله- بتنفيذ مخططات الغرب في علمنة وتغريب المجتمع المسلم علانية ودون خفاء.
أما العصرانيون بعد ذلك فلا تُحس منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا ؟! لقد اختفوا من الساحة(4) يندبون حظهم ويجرون أذيال الخيبة والذل الذي أورثوه قومهم عندما جعلوا منهم لقمة هنيئة لبني علمان، فهل من معتبر ؟
نتائج مهمة :
أولاً: أن العداوة بين المسلمين والغرب (اليهودي النصراني) مستمرة إلى يوم القيامة؛ بنصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً).. إلى غير ذلك من الآيات.
ثانياً: أن الغرب الكافر استغل تأخر المسلمين واصطدامهم بحضارته المادية في صنع العصرانية ليتخذها وسيلة لمسخ بلاد المسلمين.
ثالثاً: أن لجوء بعض الإسلاميين للثورة والتهييج قادهم بعد فشل مشروعهم المخالف للكتاب والسنة إلى الارتداد للفكر العصراني؛ لأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومخالفة له في الوجهة. ولو لزم هؤلاء المسلك الشرعي منذ البداية لما تورطوا في تبني طرفي النقيض: التهييج ثم العصرنة(5).
رابعاً: قام بعض الإسلاميين -وقد يكون ذلك عن حسن نية منهم وبسبب تقصير بعض العلماء - بكسر هيبة كبار العلماء، وتنفير الشباب منهم؛ مما أدى بالشباب إلى الإنصراف عن علمائه ولجوئه -تعويضاً للمرجعية- إلى غيرهم من أهل الطموح السياسي، قليلي العلم والورع، ممن قد لا يرتضيهم ذلك البعض من الإسلاميين الذين يحق فيهم المثل العربي: (يداك أوكتا وفوك نفخ).
يقول الشيخ مصطفى صبري عن الشيخ العصراني محمد عبده: "لما أراد النهوض بالأزهر حارب علماءه القدماء، وفض المسلمين وخصيصًا الشباب المتعلمين من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى، فأصبح بفضل النهضة التي نادى بها الشيخ محمد عبده يقول رجل مثل الدكتور زكي مبارك "الرسالة" عدد 572: "نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة (يريد بهم علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين"(6) .
__________
(1) … الإسلام والحضارة الغربية ، ص 80.
(2) … انظر تفاصيل ذلك في : "تاريخ الأستاذ الإمام" (1/1052 وما بعدها).
(3) … بدعم من الغرب (اليهودي -النصراني) كما لا يخفى على المتابع! حيث أقنعوا الملك فاروق بالتنحي ورفضوا التدخل لمساعدته.
(4) … لكنهم يُعاد بعثهم كلما احتاج الأعداء إليهم، وذلك عندما يرون انتشار المد الإسلامي. فلا تتعجب من كثرة طباعة المؤلفات الجديدة عن أئمتهم هذه السنوات! فلأمرٍ ما جدع قصير أنفه!
(5) … الهدف الأول للمصلحين -وعلى رأسهم الرسل -عليهم السلام- هو تعبيد الناس لرب العالمين وحده. وهو هدف لا يفشل مهما تطاولت السنون -ولله الحمد-. أما إذا كانت أهداف المصلحين خلاف ذلك، فإنهم حال فشلهم في تحقيقها لا شك مرتدون إلى النقيض الآخر! فإذا كانت البداية خطأ فالنتيجة تبعٌ لها. "فكيف يستقيم الظل والعود أعوج" ؟!
(6) … موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين..، (1/57).(36/98)
خامساً: أن تقصير كبار العلماء -إما في مكافحة الانحراف أو التصدي لقضايا المسلمين أو للظلم ونحو ذلك- ليس مسوغًا لصرف الشباب المسلم عنهم؛ لأنهم -أي الشباب- كما سبق سيلجئون إلى غيرهم من أهل الزيغ الذين يفوق زيغهم وانحرافهم تقصير أولئك العلماء الكبار(1). إنما كان الواجب على دعاة الإسلام أن يوثقوا العلاقة بعلمائهم ويربطوا الشباب بهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويشدوا من أزرهم في الوقوف صفًا واحدًا أمام أعداء الإسلام ممن يريد خلخلة المجتمع المسلم ويستغل بخبث هذا الفصام بين الفئتين المؤمنتين. قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
سادساً: أن الطائفة العصرانية لابد لها من (شيخ) متزود بالعلم الشرعي -الذي يحجزه عن كثير من انحرافاتهم- تقف وتتترس وراءه! (2) أما بدون هذا (الشيخ) فإنها لن تفلح في مسعاها؛ لعدم قبول المسلمين لها؛ نظرًا لضحالتها الشرعية وزيغها الواضح.
وقد كان هذا (الشيخ) يتمثل في محمد عبده.
يقول الأستاذ بسطامي سعيد: "نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني؛ من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحياناً؛ بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورد للسنة الصحيحة أحياناً لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده، فتضخمت في مجموعة منهم، وصارت مضاعفة مكبرة"(3)
سابعاً: أن هذه الفئة المتترسة خلف (الشيخ) العصراني، لن تكتفي باجتهادات (شيخها)، أو تقف عند الحدود التي حدها لهم ويرى أن في تجاوزها خطرًا على دينهم؛ نظرًا لمعرفته بالنصوص الشرعية! بل ستتجاوزها وتتخطاها باجتهادات كثيرة لا خطام لها ولا زمام؛ لأنه لا ضابط لهم حينها؛ نظرًا لضحالتهم الشرعية. لاسيما وقد استفادوا من (شيخهم) العصراني روح التجديد! والاجتهاد! وتجاوز الأعراف والتقاليد!… الخ زخارف القوم.
ولقد تنبه أحد الأذكياء (وهو المنفلوطي) إلى خطورة هذا الأمر في دعوة شيخه العصراني محمد عبده فخص هذا بمقالة جميلة تخيل فيها أنه استمع إلى حوار بين شيخه محمد عبده وقاسم أمين في عرصات يوم القيامة ! فتأمل ماذا دار بينهما.
يقول المنفلوطي: "وبينما أنا أحدث نفسي بهذا الحديث، وأقلّب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر، إذ قال لي صاحبي: أتعرف هذين؟ وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان: أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسودّه، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين(!!) رجل الإسلام "محمد عبده" ورجل المرأة "قاسم أمين" فقلت لصاحبي: هل لك في أن ندنو منهما ونسترق(4) نجواهما من حيث لا يشعران؟ ففعلنا، فسمعنا الأول يقول للثاني: ليتك يا قاسم أخذت برأيي وأحللت نصحي لك محلاً من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدّته من الأدب والدين، فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذُّلها وإراقة تلك البقية الصالحة التي كانت في وجهها من ماء الحياء، فقال له صاحبه: إني أشرت عليها أن تتعلم قبل أن تسفر، وأن لا ترفع بُرقُعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياء، قال له: ولكن فاتك ما كنت تنبّأت به من أنها جاهلة لا تفهم هذه التفاصيل، وضعيفة لا تعبأ بهذا الاستثناء، فكنت كمن أعطى الجاهل سيفاً ليقتل به غيره، فقتل نفسه.
__________
(1) … وهذا الانفصال بين الشباب وكبار العلماء مما يُفرح أهل الفساد من العلمانيين المتربصين بالطائفتين الدوائر. فهل يعي العقلاء هذا وينتهوا عن (تهييج) الشباب على علمائه ؟! .
(2) … ومعنى هذا أن (الشيخ) راضٍ عن مسلك تلاميذه والمتترسين خلفه من العصرانيين، وعمل الجميع يتم وفق (تنسيق) محدد!. فمن الخطأ الواضح ما يظنه بعض الباحثين؛ كأنور الجندي في عدد من كتبه (انظر مثلاً: اليقظة الإسلامية، ص203) أو الدكتور أحمد عبد الرحمن في مقاله بمجلة المنار الجديد، عدد 19، من أن تلاميذ عبده العلمانيين قد خالفوا شيخهم الذي لا يرضيه مسلكهم !! وسبب هذا الخطأ أن من يطالع سيرة عبده لن تخفاه العلاقات (الحميمة) ! سواء في مصر أو في خارجها بينه وبين تلاميذه العلمانيين؛ وعلى رأسهم سعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم. انظر على سبيل المثال: رسائل تلميذه سعد زغلول إليه التي نشرها رشيد رضا في تاريخ الأستاذ الإمام (1/1069 وما بعدها)، وكذا ما ذكره أحمد لطفي السيد في مذكراته (ص37) عن اجتماعهم -عبده، قاسم، سعد، لطفي- في جنيف !
…وانظر رد الأستاذ مصطفى غزال على أنور الجندي -رحمه الله- حول هذه المسألة في: مجلة المجتمع (العدد 696-25/3/1405هـ).
(3) … مفهوم تجديد الدين، ص 143.
(4) … نسترق: نسمع خفيةً.(36/99)
فقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك قد وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ، وإنك نصحتني بما لم تنتصح به، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول. وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة(1) والمقاصد العالية الشريفة، فأرادوا غير ما أردت: وفهموا غير ما فهمت. فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين(2). أوَّلت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار! وبيّنت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفّهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها
جملة واحدة! وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق؛ فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له: ما زلت يا قاسم في أخراك، مثلك في دنياك، لا تضطرب في حجة، ولا تنام عن ثأر"(3)
ثامنًا : أن المستفيد من نشوء العصرانية هو الغرب وإذنابه من العلمانيين المنافقين ، وأهل البدع . والخاسر هو المجتمع المسلم، ودعاة الإسلام وولاة الأمور. وهذا واضح.
شبهة وجوابها :
قد يقول قائل : نحن معك في أن الفكر العصراني خطرٌ على الإسلام وأهله، وأن المستفيد الوحيد منه هم الأعداء (كفارًا وأهل بدع ومنافقين) كما رأينا في الحالة المصرية، ولكن: ألا ترى بأن انتشار هذا الفكر المتميع والمتمسح بالإسلام يخدم ولاة الأمور ؛ حيث يحققون من خلاله بعض ما يريدون من المشاريع والأفكار الاجتماعية (لا سيما المتعلقة بالمرأة!) التي لن يتقبلها المجتمع المسلم؛ لأنه يرى تعارضها مع أحكام الإسلام، ولكنه يقبلها إذا ما تحلت بالزي الشرعي الذي سيُلبسه إياها أولئك العصرانيون، فيستفيد ولاة الأمور تمرير هذه المشاريع والأفكار التي يرون في قبول المجتمع المسلم لها تخفيفًا من ضغوط أعداء الإسلام عليهم ؟! .
ولهذا كله سيقوم ولاة الأمور بدعم هذه الفئة العصرانية والتمكين لها، وتصديرها، وتهميش من يعارضها !
فأقول : الجواب عن هذه الشبهة يكون بفهم هذه الأمور:
أولاً: أن صاحب الشبهة جزم بأن ولاة الأمور يريدون تحقيق بعض المشاريع والأفكار الإجتماعية التي تخالف أحكام الشرع. وهذا سينازعه فيه آخرون يرون خلاف ذلك ومعهم من الأدلة أضعاف مامعه ، والأصل إحسان الظن .
ثانياً : أن صاحب هذه الشبهة لم يفهم العصرانية حق الفهم ! وظن أن طموح أصحابها هو مجرد تحقيق بعض المشاريع والأفكار في المجال (الاجتماعي) فقط، ناسيًا أو متغافلاً أن هذا الفكر لا يقتصر على هذا المجال وحده؛ بل يزامله أو يفوقه المجال السياسي(4) والاقتصادي(5)، وما تجربه عصرانيي مصر عنا ببعيد. حيث كانت معظم جهودهم منصبة على المجال السياسي، أما غيره فيأتي تبعاً له؛ مع ملاحظة أن تلك المجالات تأتي متكاملة في منظومة هذا الفكر الذي خلاصته "تطويع الإسلام في جميع المجالات بما يناسب العصر" .
ولهذا : فمن يريد قبول أفكار ومشاريع العصرانيين في المجال (الاجتماعي) دون غيره من المجالات فهو واهم؛ لأن هذا أمر لن يتحقق؛ لأن الفكر العصراني لا يمكن تحقيق بعضه دون بعض(6).
وولاة الأمور لدينا ليسوا سُذجًا أو غافلين عن حقيقة هذا الفكر ومنتهاه.
ثالثا : أن في تجربة العصرانية في مصر عبرة للمعتبرين؛ وعلى رأسهم ولاة الأمور في بلاد المسلمين، حيث تسبب انتشار هذا الفكر في المجتمع إلى تقويضه. وسقوط دولته بعد تنازع أهله واختلافهم، وجرأتهم على حكامهم وعلمائهم، ثم وقوعه تحت سيطرة الأعداء وتهاويه إلى أقصى درجات الذل والمهانة .
فهل يرضى عاقل بمثل هذه النهاية الموجعة لبلاده ؟! (وما ربك بظلام للعبيد).
رابعًا: أن (الفكر العصراني) و(فكر التهييج) وجهان لعملة واحدة ! حيث خرج الفكران عن دعوة الكتاب والسنة ، وجرا على المجتمع المسلم الإنقسامات والتحزبات ، وأضعفا قوته واجتماعه .
فكيف يظن أحد أن ولاة الأمور قد يثقون في أصحاب هذا الفكر (بشقيه ) ، وهذا تاريخهم، وتلك مواقفهم تشهد عليهم بأنهم أصحاب (تقلب) و(تلون) ؟! .
وقارن هؤلاء بالعلماء الكبار من أتباع الكتاب والسنة، من الذين يصدرون في مواقفهم وأفكارهم عن عقيدة سلفية واضحة ثابتة تجاه ولاة أمور المسلمين، حيث يرون ولايتهم ولاية شرعية، ويطيعونهم في غير معصية الله ديانة واتباعًا للنصوص، بخلاف غيرهم من أهل (التهييج) أو (العصرنة) أصحاب (التقلب) و(التلون)، ممن يصدرون في مواقفهم تجاه ولاة الأمر من خلال (المصالح) وما يسمى (التكتيك المرحلي)!
__________
(1) … بل المخالفة للنصوص الشرعية، ولكنها ليست كانحرافات المتترسين خلفه من تلاميذه -كما سبق-.
(2) … فكيف إذا كان الدين سلفياً نقياً ؟! هل يليق بمن يتابع شيخ العصرنة أن يصد عنه ؟!
(3) … النظرات (1/152-154).
(4) … بإنشاء الأحزاب، ومساءلة الحاكم، بل تدوير السلطة بين أصناف الطامحين ! ونحو ذلك.
(5) … بالمطالبة بتوزيع الثورة ونحو ذلك.
(6) … وهذا يذكرنا بمن يريد تطبيق (الديمقراطية) الكافرة في بلاد المسلمين، مدعيًا أنه سيتجنب ما فيها من مخالفات شرعية ! .(36/100)
فأي الفريقين أحق بثقة ولاة الأمور وتصديرهم والتمكين لهم ؟! .
يضاف إلى هذا أن كبار العلماء كانوا نعم النصير لولاة الأمور وقت الفتن والملمات، بخلاف غيرهم. فـ(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
خامسًا : أن ولاة الأمور -ولله الحمد- في غنية عن أفكار العصرانيين وطموحاتهم التي لا يخفى ضررها على عاقل، وذلك بما فضلهم الله به من قيام دولتهم على الكتاب والسنة، وبما أعانهم به من وجود علماء أجلاء ينيرون لهم الطريق وينبهونهم على ما يعترضهم من عقبات تخالف شرع الله. وما كان من تقصير فإنه يعالج بالنصيحة الشرعية المستمرة، دون (تهييج) أو (عصرنة).
سادساً: أن العاقل يعلم أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وتبديلها، فالأمور المحرمة والمخالفة لشرع الله لا يمكن أن تنقلب حلالاً وتصير موافقة للشريعة بمجرد تبني العصرانيين لها وادعائهم شرعيتها. فهذا كله ليس مسوغًا لأحد -وعلى رأسهم ولاة الأمور- أن يرتكب تلك الأمور المحرمة ويقرها. وهو ليس معذورًا عند الله تعالى بصنيعه هذا؛ لأن البينة قد جاءته، والحق قد ظهر له
بنصوص الكتاب والسنة وبفتاوى كبار العلماء الموثوق بعلمهم . فهل تظن -مثلاً- أن الربا سيكون حلالاً بمجرد التحايل عليه وتسميته (فائدة) ؟! وقل مثل ذلك في المحرمات الأخرى. لا شك بأن هذا أعظم جرمًا عند الله ممن يقع في هذه المحرمات دون تحايل أو مخادعة لله ولعباده المؤمنين، إنما عن تقصير وتساهل.
سابعاً : أن مواجهة الضغوط المتنوعة على بلاد التوحيد من قبل (اليهود والنصارى) لا تكون بالتساهل والتفريط في أحكام الشريعة؛ لأن عاقبة ذلك ستكون وبالاً على هذه البلاد؛ بسبب أن هذه الضغوط لن تنتهي بمجرد التساهل والتهاون في عدة أمور، بل ستزداد ضراوة وشدة؛ لأن العدو سيطمع في غيرها عندما يرى ذاك الانصياع لمطالبه. "ومن يهن يسهل الهوان عليه" .
فتلك المطالب ستكون نهايتها -والعياذ بالله- قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
أما الحل الشرعي لهذه الضغوط فيكون بالتالي:
1-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن الله قد أخبرنا عن عداوة اليهود والنصارى لكل من يرفع راية الإسلام، منذ نبينامحمد صلى الله عليه وسلم . وأنهم يتمنون أن يطاوعهم في كفرهم لكي لا يتميز عنهم. قال سبحانه (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)
2-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: بأن الله قد أخبر بأن كل مسلم محكم لشرع الله سيسمع الأذى ويلقى الضغوط من الكفار. قال تعالى (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا). ولكن هذا الأمر -ما لم يستجب له المسلم- سيبقى في دائرة الأذى الذي يصيب كل مسلم مستقيم على شرع الله يحتسب الأجر من الله في سماعه والتعرض له. قال تعالى (لن يضروكم إلا أذى).
3-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن عاقبة الثبات على الحق أمام مثل هذه الضغوط ستكون سعادة وتمكينًا وعزًا نصرًا، وزوالاً لهذه الشدة، وفرجًا لهذا العُسْر. قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) فالمطلوب هو: الصبر على الأذى، والتقوى بلزوم أمر الله، والانتهاء عن معاصيه.
وقال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا)، وقال (سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). وهذا الأمر شامل للأفراد وللدول.
4-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن الاستجابة لضغوط الأعداء ومداهنتهم -ولو في أمر يسير- هو مما يسبب سخط الله وتسليطه العذاب والذل على من يسارع في رضا عدوه على رضاه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه محذرًا من هذا الأمر الشنيع: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا . فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله".
وقال سبحانه: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين). وقال: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق).
وقا صلى الله عليه وسلم : "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(1).
5-أن يتأمل ولاة الأمور -وفقهم الله-: حال من تابع الأعداء من الدول الإسلامية طالبًا رضاهم، وخائفاً من سخطهم، كيف تسلطوا عليه، وأذلوه واستباحوا حرمته، وأفقدوه حريته.
فخسر آخرته بمسارعته في رضا الكفار على حساب دينه. وخسر العيش السعيد العزيز بتحكم العدو في بلاده وتسلطهم عليه وإن كان يتخيل له خلاف ذلك!! فهو كما قال تعالى (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين).
__________
(1) … صحيح الترغيب والترهيب للألباني (2250).(36/101)
أما من حكم شرع الله واستقام وثبت عليه، ولم يأبه بضغوط العدو وتخويفه فإن عاقبته حميدة في الدنيا والآخرة، على هذا جرت سنن الله تعالى "ومن يتصبر يصبره الله".
أسأل الله أن يثبت ولاة أمورنا على الحق، وأن يوفقهم للبطانة الصالحة، ويجنبهم البطانة الفاسدة.
نصيحة أخيرة لكلٍ من :
1-علماء الإسلام ودعاته: بأن يحذروا تسلل الأفكار العصرانية إلى عقولهم ولو لم يكن ذلك عن تقصد منهم، وأن يثبتوا على الحق دون تنازلات أو مداهنة لأحد، وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) قال ابن كثير: "استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه، كفعل المنافقين".
وأن تكون مواقفهم مشرفة وقت الملمات التي تمر بالأمة، مبرئة لذمتهم أمام الله؛ لكي لا يلجأ الشباب إلى غيرهم -كما سبق-.
وأن يحذر بعض الدعاة بتستره على أهل العصرنة، ومجاملته لهم، والشد من أزرهم، أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله من آوى محدثًا"(1) قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "والإحداث يشمل الإحداث في الدين؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة وغيرهم.. فمن آوى محدثًا فهو ملعون، وكذا من ناصرهم"(2)
2-شباب الإسلام: بأن يلزموا الراسخين في العلم ويلتفوا حولهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويَحْذروا ويُحَذّروا من المتلبسين بالفكر العصراني المفسد، مهما حاولوا التضليل عليهم أو مخادعتهم بترويجه بينهم.
3-ولاة الأمور: بأن يقضوا على هذا الفكر المتسلل إلى بلاد التوحيد قبل أن يستفحل، فيكون وبالاً على بلادهم؛ وذلك بالتمكين لأهل العلم ودعاة الكتاب والسنة، وتصديرهم، وتمكينهم من توجيه الشباب، والاستماع إلى نصحهم.
وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا تمكين، ولا أمن، إلا بالثبات على دعوة الكتاب والسنة، دون تفريط أو تتبع لأهواء العصرانيين وانحرافاتهم .
أسأل الله أن يحمي بلادنا من الفتن، وأن يرد الكيد عنها، ويثبتها على الحق، ويباعد بينها وبين معاصيه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
===============(36/102)
(36/103)
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الجهاد
بحث مختصر يبين سوء فهم دعاة العصرانية ومروجي قصر الجهاد الشرعي على "الدفاع" فقط لكلام ابن تيمية في الرسالة السابقة
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
1424هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد نُشر لقاء مع أحد الباحثين الفضلاء في إحدى الصحف أثبت فيه رسالة "قاعدة في قتال الكفار.." لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بدليل أن البعض قد نسخها ولم يُنكر نسبتها للشيخ، ثم استنبط منها -كما يقول-: "أن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- خلص بما تقدم في هذه الرسالة المهمة ووضحه فيها: أن قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته، وإنما هو الدفاع عن الدين. أي أن الإسلام في أصله دفاعي وليس هجومياً"!
ونحن لا ننازعه في صحة نسبة هذه الرسالة من عدمها لشيخ الإسلام؛ لأن هذا أمر يخضع للأدلة، مما تختلف فيه أنظار الباحثين. إنما ننازعه في هذا الفهم "الخاطئ" لكلام شيخ الإسلام بأنه لا يرى "جهاد الطلب" !! وهو في ظني ما حدا ببعض العلماء أن ينكروا نسبة تلك الرسالة إليه -بشدة- دفعاً لمثل هذا الفهم الذي روج له دعاة العصرانية في هذا الزمان، وألصقوه زورًا بشيخ الإسلام.
وقد استند من نفى هذه الرسالة إلى عدة أمور -تستحق التأمل-:
الأول: ما يلاحظه الباحثون من كثرة الكذب والتزوير على شيخ الإسلام -رحمه الله-، سواء في رسائله أو فتاواه، إما من خصومه -وما أكثرهم!-، أو ممن يريد الترويج لأفكاره مستغلاً اسم الشيخ العَلَم. فقد نُسب إليه على سبيل المثال: ديوان شعري، ودعاء لختم القرآن، وفتوى بحياة الخضر، وفتوى القول بالتجسيم التي افتراها ابن بطوطة.. وغير ذلك. مما يجعل المنصف لا يتعجل بنسبة شيء للشيخ -رحمه الله- ما لم يتوثق من ذلك، لا سيما وقد أنكر هذه الرسالة كبار العلماء في هذا الزمان؛ وعلى رأسهم الشيخ سليمان بن سحمان، ومفتيا الديار السعودية: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز -رحمهم الله جميعاً- كما سيأتي إن شاء الله.
فلابد لمن يريد إثبات الرسالة بعد هذا أن يتحقق من: وجود سند لها إلى شيخ الإسلام، أو وجودها مكتوبة بخطه، أو إثبات تلاميذه والمهتمين بكتبه لها. وهي أمور لم تتحقق -حسب علمي- إلى الآن.
الثاني : أن المتأمل في الرسالة يلمح فيها نوع تصرف أو اختصار، لما يجده من مثل هذه العبارات التي تتكرر بين صفحاتها، "ثم ذكر" "ثم تكلم" "إلى أن قال" (انظر: ص119، 125، 127، 128، 136، 137 من نسخة الفقي)
ولهذا علق الشيخ محمد بن مانع -رحمه الله- في هامش نسخته عند مروره بأحد هذه المواضع: "يستفاد منه أن في الكلام اختصاراً"(1)
__________
(1) … أخرجه مسلم (1567).
(2) … القول المفيد (1/223).
الثالث: أن لشيخ الإسلام -رحمه الله- كلاماً آخر في رسائله الثابتة عنه يخالف ما فهمه البعض من هذه الرسالة؛ وهو أنه ينكر جهاد "الطلب"، -سيأتي بعضه إن شاء الله-.
إذن: فبعض الذين أثبتوها وفرحوا بها! زعموا أن شيخ الإسلام لا يرى جهاد "الطلب" في هذه الرسالة.
والذين أنكروها أرادوا دفع هذا الزعم المغلوط الذي يعارض النصوص الشرعية، ويعارض كلام شيخ الإسلام الآخر.
والصواب -في ظني- أن يقال: بأنه حتى لو قيل بثبوت هذه الرسالة(2) فإنه ليس فيها ما ينفي جهاد "الطلب" كما تصور البعض ممن لم يفهموا مقصد شيخ الإسلام منها، فخلطوا بين أمرين.
فشيخ الإسلام قد أنشأ هذه الرسالة للرد على قول فقهي ضعيف يقول أصحابه بأن قتال الكفار هو لأجل "كفرهم"، ولهذا فهؤلاء يرون قتل "كل كافر" سواء كان قادرًا على القتال أو عاجزاً عنه، وسواء كان مسالماً أو محارباً، وسواء كان من الرهبان أو لم يكن، وسواء كان شيخاً كبيراً أو شاباً فتياً.
ولا يستثني هؤلاء من القتل إلا الصبيان لعدم بلوغهم، وكذا النساء؛ لأنهن يصبحن سبياً بنفس الاستيلاء عليهن؛ فهن كالمال.
ولهذا قال -رحمه الله- في أول هذه الرسالة مبيناً سبب كتابتها:
"فصل في قتال الكفار :
هل هو سبب المقاتلة أو مجرد الكفر؟
وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء :
الأول : قول الجمهور، كمالك، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة وغيرهم.
الثاني: قول الشافعي وربما علل به بعض أصحاب أحمد.
فمن قال بالثاني قال: مقتضى الدليل قتل كل كافر، سواء كان رجلاً أو امرأة، وسواء كان قادراً على القتال أو عاجزاً عنه، وسواء سالمنا أو حاربنا. لكن شرط العقوبة بالقتل أن يكون بالغاً، فالصبيان لا يقتلون لذلك. وأما النساء فمقتضى الدليل قتلهن، لكن لم يقتلن لأنهن يصرن سبياً بنفس الاستيلاء عليهن، فلم يقتلن لكونهن مالاً للمسلمين كما لا تهدم المساكن إذا ملكت.
وعلى هذا القول: يقتل الرهبان وغير الرهبان لوجود الكفر. وذلك أن الله علق القتل لكونه مشركاً بقوله (فاقتلوا المشركين) فيجب قتل كل مشرك، كما تحرم ذبيحته ومناكحته لمجرد الشرك. وكما يجب قتل كل من بَدَّلَ دينه لكونه بدله، وإن لم يكن من أهل القتال، كالرهبان. وهذا لا نزاع فيه. وإنما النزاع في المرأة المرتدة خاصة.(36/104)
وقول الجمهور: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار" انتهى كلام شيخ الإسلام، (ص 116، من طبعة الفقي) .
وقد رد -رحمه الله- على هذا القول الضعيف في رسائله الأخرى بما يوافق ما في هذه الرسالة لمن تأمله. فلا جديد فيها !
ومن أصرح ذلك وأوضحه ما ذكره في "السياسة الشرعية". يقول -رحمه الله-: "إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة؛ كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَمِن(3)، ونحوهم، فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يُقَاتِل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله…"(4) -إلى أن قال متعرضاً للرد على ذاك القول الضعيف- : "ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال؛ مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة؛ فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح؛ من قتله أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته بمال أو نفس، عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة"(5).
قلت: ففي هذا النص المهم ما يجلي حقيقة تلك الرسالة، ويبين أنها أنشئت للرد على هذا القول الفقهي الضعيف الذي يرى قتل الكفار لمجرد كفرهم دون استثناء إلا للنساء والصبيان فقط -كما سبق-، وهو ما رده شيخ الإسلام وبين مخالفته للكتاب والسنة سواء في تلك الرسالة أو في هذا الموضع من "السياسة الشرعية" أو في مواضع أخرى من "الفتاوى" -كما سيأتي إن شاء الله-.
ويبين هذا النص أيضاً أن شيخ الإسلام مع رده على ذاك القول الضعيف فإنه لا ينكر -كما يزعم البعض- شرعية جهاد "الطلب" ! وحاشاه من ذلك، وهو أمر مقرر بالنصوص ومجمع عليه بين العلماء(6)، ولهذا قال -كما سبق- "فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين". وهذا الجهاد إنما يكون "لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله".
ومن المواضع التي رد فيها الشيخ -رحمه الله- على هذا القول الفقهي الضعيف بما يوافق الرسالة المنسوبة إليه ما جاء في الفتاوى (28/659-661) عندما سئل عن الرهبان فأجاب بقوله: ".. إنما نهي عن قتل هؤلاء؛ لأنهم قوم منقطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يسمى أحدهم حبيسًا، لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلاً، ولا يخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به. فتنازع العلماء في قتلهم؛ كتنازعهم في قتل من لا يضر المسلمين لا بيده ولا لسانه؛ كالأعمى والزَمِن، والشيخ الكبير ونحوه؛ كالنساء والصبيان. فالجمهور يقولون: لا يُقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال في الجملة، وإلا كان كالنساء والصبيان، ومنهم من يقول: بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل، وإنما استثنى النساء والصبيان؛ لأنهم أموال .."
وانظر أيضاً: "الفتاوى" (20/101-103).
فلا جديد في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام! فقد تعرض له كثيرًا في رسائله الأخرى بتوضيح لو تأمله من طار فرحاً برسالته لعلم أنه في وادٍ والشيخ في وادٍ آخر.(36/105)
يقول الدكتور عبد الله القادري: "إذا كان الجهاد في سبيل الله شرع لرفع كلمة الله وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ورفع الظلم عنهم، فإنه لا داعي للخلاف فيه: هل شرع لقتال من قاتل من الكفار أو شرع لمجرد الكفر؟ لأن رفع كلمة الله يقتضي قتال كل من صدّ عنه والقضاء عليه، سواء كان صده بالقتال أو بالرأي، أو بأي نوع من الأنواع. وأما من لم يصدّ عنه بأن دخل في دين الله أو خضع لحكمه فأدى الجزية وهو صاغر فإنه لا يقاتَل ولا يُكره على الدخول في هذا الدين كما مضى. ولعل هذه الإشارة كافية إلى ما كتبه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان -رحمه الله- في الرد على رسالة نسبت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعنوان (قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم أو دفاعاً عن الإسلام؟) وقد أنكر المؤلف نسبة هذه الرسالة لابن تيمية. والذي يظهر من أسلوب الرسالة أنها له؛ لأن أسلوبه -رحمه الله- واضح فيها، ولكنه أنكر أن يكون القتال لمجرد الكفر وإنما لرفع كلمة الله وذلك بأن يكون الحكم الغالب هو حكم الله لا سلطان الكفار، وإذا كان الكفار مغلوبين وسلطانهم منتفياً، وهم يؤدون الجزية صاغرين، فإنهم حينئذ لا يقاتَلون لكفرهم؛ إذ قتالهم لكفرهم يقتضي إكراههم على الدخول في الإسلام، وهذا من الاعتداء الذي نهى الله عنه. ومعنى قتال المقاتلين عنده -رحمه الله- هو أن يقاتل من أعد نفسه لقتال المسلمين سواء باشروا القتال فعلاً أو لم يباشروا، والذين لا يقاتلون هم الذين لم يعدوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان والشيوخ، فأي غبار على هذه المعاني جعل المؤلف سليمان بن حمدان يرهق نفسه لإنكار نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية؟ وإذا كانت بعض الجمل في الرسالة منكرة وقد نقلها -رحمه الله- عن بعض العلماء ولم يقرها لأنه قد بين رأيه في أول الرسالة وفي أثنائها، فإنه لا يسوغ نفي نسبة الرسالة إليه، وقد بين -رحمه الله- خلاصة رأيه في رسالته السياسة الشرعية"(7).
ويقول الدكتور علي بن نفيع العلياني: "يعمد أهل الدفاع إلى تعليل بعض علماء الإسلام قتل الكفار بأنه لأجل المحاربة ويحورونه بشكل مثير للعجب حتى يخيل للقارئ بأن هناك من علماء الإسلام من يقول إن الكفار لا يجاهَدون حتى يعتدوا على المسلمين!.
والحق أن المسلمين قبل أن يدخل الاستعمار بلادهم ويتخذ له صنائع منهم ما كانوا يعرفون هذا القول المنكر، بل الإجماع منعقد على وجوب تطلب الكفار في عقر دارهم وتخييرهم بين خصال ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال -على خلاف في قبول الجزية من غير أهل الكتاب والمجوس-.
ولم يفهم أهل الدفاع تعليل بعض علماء الإسلام قتل الكفار بالمحاربة والمقاتلة أو تعمدوا كتمان ما فهموه. وذلك لأن العلماء الذين عللوا قتل الكفار بالمحاربة والمقاتلة نصوا على مرادهم، وهو تلمس الحكمة الشرعية في أمر الله سبحانه بقتال كل كافر باستثناء النساء والأطفال والرهبان والشيوخ العجزة، فقالوا: لو كان علة القتال الكفر لوجب قتل كل كافر، فإذًا العلة هي القدرة على المحاربة والمقاتلة، فإن من عنده الإطاقة على القتال فهو مصدر خطر على المسلمين، ولم يقل هؤلاء العلماء إن الكافر لا يقاتَل إلا إذا حارب بالفعل واعتدى، كما هو قول أهل الدفاع الذين يحرفون نصوص العلماء لكي يظهروا للناس بأنهم لم يخرقوا الإجماع، وأن هناك طائفة من العلماء تقول بقولهم"!! (8).
ويقول الأستاذ عبد الملك البراك رادًا على أحد من يتبنى الجهاد "الدفاعي"!: "إن الاختلاف الذي قد حصل بين الجمهور من جهة، والشافعي والظاهرية من جهة أخرى لم يكن أبداً في أصل تشريع الجهاد وحكمته وسببه أو علته.. وإنما كان الاختلاف في العلة الموجبة لاستباحة دماء الأعداء؛ فالجمهور على أنه لا يقتل إلا من كان قادراً على القتال، وأما من لم يكن كذلك كالنساء والأطفال والشيوخ وأصحاب الصوامع ونحوهم فلا يُقتلون؛ إلا في حالة واحدة وهي ثبوت حرابة هذه الأصناف، وحرابتهم تتخذ أشكالاً عدة؛ كالمساهمة الفعلية في القتال ضد المسلمين، والرأي والمشورة وإعداد الخطة لحرب الإسلام وأهله.. ونحوها.
أما الشافعي وابن حزم الظاهري -رحمة الله عليهم- فقد خالفوا الجمهور في هذه المسألة؛ فأجازوا قتل كل من عدا النساء والصبيان من أهل الحرب، ولو لم يشتركوا في القتال؛ سواء كانوا رجالاً بالغين أو شيوخاً مسنين.. ولهذا فإن كتب الفقه الأمهات لما تعرض لهذا الاختلاف لا تذكر إطلاقاً أن الأمة قد اختلفت فيما بينها في الجهاد: هل يقام أو لا يقام، أو أن هناك شروطاً لابد منها حتى يؤدي المسلمون فريضة الجهاد !! بل إن هذه الكتب في مبحث الجهاد تذكر اتفاق الأمة على هذه الفريضة وفضلها المتقدم.. وأنها فريضة دائمة قائمة إلى قيام الساعة.. ثم عندما يأتي الحديث عن أصناف الكفار الذين يُقتلون يقرر العلماء وجود أصناف قد نصّ الشرع على عدم قتلهم.. وأن هذه مسألة مختلف فيها.. كما مرّ آنفاً.. وهذا الاختلاف إنما كان تبعاً لاختلاف العلماء في العلة الموجبة لاستباحة دماء هؤلاء الأعداء.." (9).(36/106)
- قلت: ومما يؤكد تناقض من يدعي أن شيخ الإسلام ينفي جهاد "الطلب" أنه -رحمه الله- في هذه الرسالة المنسوبة إليه قد أشار إلى كتابه "الصارم المسلول" (كما في ص144) وأنت عندما تعود إلى "الصارم المسلول" تجد الشيخ يذكر جهاد "الطلب" ولا ينفيه! فقد قال -رحمه الله-: "لما نزلت سورة براءة أُمر صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال…"(10) .
الخلاصة: أن شيخ الإسلام سواء ثبتت له هذه الرسالة أم لم تثبت، فإنه لا ينفي جهاد "الطلب" لقتال من منع نشر الإسلام كما توهم البعض؛ إنما يُنكر على من يرى قتال جميع الكفار لمجرد "كفرهم"، فلا يستثني سوى النساء والصبيان وهذا ما قرره في هذه الرسالة وفي رسائله الأخرى كما سبق.
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام
لما رأيت أن عددًا من الإخوة الفضلاء لم يطلع على ما قاله العلماء في هذه الرسالة فقد أحببت أن أجمع ما تيسر لي من أقوالهم؛ لكي يحيط القارئ علماً بالرأي الآخر الذي يرى عدم صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام.
وقد سبق أن سبب نشاطهم لهذا الرأي هو ما فهمه الفريق الآخر من أن شيخ الإسلام يقرر فيها نفي "جهاد الطلب".
والصواب في ظني -كما أوضحت- أن شيخ الإسلام لا يقول بهذا القول المزعوم. إنما يرد على قول ضعيف -كما سبق-، يلتقي الجميع على رده والإنكار على أصحابه.
1-الشيخ سليمان بن سحمان -رحمه الله-:
لما أُشيعت هذه الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام كان أول من تصدى لنفي نسبتها: الشيخ سليمان بن سحمان -رحمه الله-، في رسالة مفقودة -كما سيأتي-(11)
2-الشيخ سليمان بن حمدان -رحمه الله-:
ألف الشيخ سليمان بن حمدان -رحمه الله- رسالته الشهيرة "دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع" لبيان تزوير هذه الرسالة على شيخ الإسلام -رحمه الله-، ومناقضة ما فهمه البعض منها لكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ولإجماع المسلمين، بل ولنصوص شيخ الإسلام نفسه في كتبه الأخرى.(36/107)
يقول الشيخ ابن حمدان في مقدمة رسالته: "أما بعد فقد وقفت على رسالة منسوبة لشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، مضمونها أن قتال الكفار سببه المقاتلة لا مجرد الكفر، وأنهم إذا لم يقاتلونا لم يجز لنا قتالهم وجهادهم على الكفر، وأن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، واستدل لما زعمه ببعض آيات شبه بها ولبس، وأولها على غير معناها المراد بها، مثل قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الآية، وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)، وقوله (لا إكراه في الدين) وحديثين حرفهما لفظاً ومعنى، وضرب صفحاً عن الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل التأويل، والأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ حد التواتر في الأمر بقتال الكفار والمشركين حتى يتوبوا من كفرهم ويقلعوا عن شركهم، وهذه طريقة أهل الزيغ والضلال يدعون المحكم ويتبعون المتشابه؛ كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ولما رآها بعض من ينتسب إلى العلم وليس من أهل الدراية والفهم صادفت هوىً في نفسه فطار بها فرحاً ظاناً أنها الضالة المنشودة، وراجت لديه بمجرد نسبتها لشيخ الإسلام، فسعى في طبعها ونشرها، على كذبها وفشرها، وما علم المسكين أنه قد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، وأنها محض افتراء وتزوير على الشيخ، وقد نزه الله شيخ الإسلام عن هذا الخطل الواضح والجهل الفاضح، والخوض في شرع الله بغير علم ولا دراية ولا فهم، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للحارث بن الأحوص لما قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارثة إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، فهذا الذي طبعها ونشرها ممن لا يعرف الحق إلا بالرجال، فهو ملبوس عليه كما قال أمير المؤمنين، لأنه لو عرف الحق في هذا الباب لما راجت عنده هذه الرسالة ولقابلها بالإنكار والرد، ونبذها نبذ النواة؛ لأنها تضمن إبطال فريضة دينية هي ذروة سنام الإسلام، ففي الحديث عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، وقد جاء في حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند حلول الشهوات"، فبالبصر النافذ تندفع الشبهة، وبالعقل الكامل تندفع الشهوة، وحيث إن ما جاء في هذه الرسالة مخالف لنصوص الكتاب والسنة ولما أجمعت عليه الأمة في الصدر الأول، ومخالف أيضاً لما نص عليه شيخ الإسلام نفسه في كتبه المشهورة المتداولة المعروفة لدى الخاص والعام؛ كالجواب الصحيح، والصارم المسلول، ومنهاج السنة، والسياسة الشرعية، وغيرها من كتبه التي سنذكر نصه فيها بالحرف، ونحيل على الكتاب ليسهل الوقوف عليه لمن أحب ذلك، وليعلم أن هذه الرسالة مزورة عليه ولا تصح نسبتها إليه بوجه من الوجوه، وأن من نسبها إليه فقد شارك المفتري في عمله وما يترتب عليه من إثم"(12).
قال الدكتور علي بن نفيع العلياني في رسالته "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" (ص346) بعد أن نقل إبطال ابن حمدان للرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام: "وقد اطلعت على الرسالة المذكورة فاتضح لي ما اتضح للشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله من أن الرسالة منحولة على الشيخ وفيها عبارات كثيرة مأخوذة من كتبه، ولقد حرص واضعها على عدم ذكر جهاد الابتداء والطلب، بينما الناظر في مؤلفات ابن تيمية المشهورة يجد أن قوله في الجهاد لا يخالف إجماع المسلمين بل يوافقهم، وقد نقل بنفسه الإجماع كما تقدم قريباً، ونص على وجوب جهاد الابتداء والطلب في مواضع من كتبه. فقال في كتابه القيم "الجواب الصحيح": (… فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعاً فلأن يجب علينا بيان الإسلام وأعلامه ابتداء ودفعاً لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى..)(13). وقال في كتابه "الصارم المسلول": (… لما نزلت براءة أُمر صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا أم لم يكفوا) (14).
وبهذا تظهر براءة ابن تيمية من تلك الرسالة المخالفة للإجماع ولأقواله هو بنفسه". قلت: الرسالة كما سبق منشأة للرد على قول فقهي ضعيف، ولا علاقة لها بجهاد الطلب.
3-الشيخ عبدالرحمن بن قاسم - رحمه الله- :
لم يدخل الرسالة في مجموع الفتاوى قائلاً : " وقد أعرضت عن نزر قليل نُسب إليه ؛ كمنظومة في عقائد ، ونقل محرف لترك البداءة بقتال الكفار "(8/5) .
4-سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- :
جاء في مجموع فتاواه (6/ 198-201): "س: الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام: في "قتال الكفار" لأجل دفع شرهم.
ج: هذه جرى فيها بحث في مصر، وبيَّنا لهم بياناً تاماً في الموضوع، وأنها عرضت على مشايخ الرياض وأنكروها.
وهذه الرسالة حقيقتها أن بعضها من كلامه، ومحذوف منها شيء، ومدخل فيها شيء آخر.(36/108)
وكلامه في "الصارم المسلول" و"الجواب الصحيح" وغيرهما يخالف هذا، وهو أنهم يقاتلون لأجل كفرهم، مع أن حاصلها يرجع إلى القول الأول بالنسبة إلى الواقع؛ فإن الكفار في هذه الأزمان الضرر حاصل منهم، أو متوقع. فهم يسعون في ضرر الإسلام وأهله: الدول، والطوائف".
5-سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- :
لما نمى إلى علم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- تبني بعض معاصريه للقول بقصر الجهاد على الدفاع اعتمادًا على ما فهمه من هذه الرسالة. ألقى -رحمه الله- محاضرة نافعة بعنوان "ليس الجهاد للدفاع فقط" ثم نُشرت في مجموع فتاواه (3/171-201) بيَّن فيها بالتفصيل: حكم الجهاد في الإسلام وحالاته، مع التعرض لأحكام الجزية، ثم نبَّه على بطلان القول السابق ورد على شبهات أصحابه، وأوضح بطلان نسبته لشيخ الإسلام -رحمه الله-. وأكتفي بنقل ما يهم هذا المبحث.
يقول الشيخ عبد العزيز : " أما قول من قال بأن القتال للدفاع فقط، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى ، أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط، وأن الكفار لا يُبدؤن بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط.
وقد كتب بعض إخواننا رسالة في الرد على هذا القول وفي الرد على رسالة افتراها بعض الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية ، زعم فيها أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط . وهذا الكاتب هو فضيلة العلامة : الشيخ سليمان بن حمدان رسالة ذكر فيها أن هذا القول منقول عن بعض أهل الكوفة ، وإنما اشتهر بين الكتاب مؤخرا .. وأما العلماء فلم يشتهر بينهم ، وإنما المعروف بين العلماء أن الرسو صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر أذن له في القتال مطلقا ، ثم فرض عليه الجهاد وأمر بأن يقاتل من قاتل ، ويكف عمن كف ، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه الآيات الآمرة بالجهاد مطلقا ، وعدم الكف عن أحد حتى يدخل في دين الله ، أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها كما تقدم ..."
"وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث :
الأولى: قوله جل وعلا : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا والجواب عن ذلك كما تقدم أن هذه الآية ليس معناها القتال للدفاع ، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال : كالرجل المكلف القوي ، وترك من ليس شأنه القتال : كالمرأة والصبي ونحو ذلك ، ولهذا قال بعدها : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
فاتضح بطلان هذا القول ، ثم لو صح ما قالوا ، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله .
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع: هي قوله تعالى : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وهذه لا حجة فيها؛ لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم ، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية ، هذا هو أحد القولين في معناها .
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من ألحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه ، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ، وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا . فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى .
والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط: قوله تعالى في سورة النساء : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً قالوا : من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله . وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها ، أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين فإذا قووا أمروا بالقتال كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ .
وبهذا يعلم بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ، وقد ألف بعض الناس رسالة افتراها على شيخ الإسلام ابن تيمية وزعم أنه لا يرى القتال إلا لمن قاتل فقط ، وهذه الرسالة لا شك أنها مفتراة وأنها كذب بلا ريب ، وقد انتدب لها الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمة الله عليه ورد عليها منذ أكثر من خمسين سنة وقد أخبرني بذلك بعض مشايخنا ، ورد عليها أيضا أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله القاضي سابقا في المدينة المنورة كما ذكرنا آنفا ورده موجود بحمد الله وهو رد حسن واف بالمقصود . فجزاه الله خيرا . وممن كتب في هذا أيضا أخونا الشيخ صالح بن أحمد المصوعي رحمه الله فقد كتب فيها رسالة صغيرة ، فند فيها هذه المزاعم وأبطل ما قاله هؤلاء الكتبة بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط .
وصنف أيضا أخونا العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله رسالة في الجهاد وبين فيها بطلان هذا القول وأنه قول لا أساس له من الصحة " اهـ كلام الشيخ ابن باز - رحمه الله - .
إضافات وفوائد :(36/109)
1-اضطراب كلام الصنعاني بسبب رسالة شيخ الإسلام !
لقد اطلع الصنعاني على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام -رحمه الله-، وقام بتلخيصها في بحث له طبع حديثًا ضمن رسائل "ذخائر علماء اليمن" جمع القاضي عبد الله الجرافي، تحت عنوان "بحث في قتال الكفار"، عرض فيه لحجج الفريقين في المسألة الفقهية السابقة؛ إلا أنه توهم أن شيخ الإسلام في رسالته السابقة يميل إلى أن الجهاد شُرع للدفاع فقط! وأنه أول من اشتُهر عنه هذا القول! وهو ما مال إلى ترجيحه الصنعاني في تلخيصه لمن تأمل.
ثم قال: "وقد أشار العلامة الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله في موضعين من شرحه ضوء النهار إلى اختيار أن هذا الأرجح من القولين؛ وهو أن سبب القتال ليس مجرد الكفر، بل الكفر مع الإضرار، ولم نعرف له سلفاً في ذلك حتى وقفنا على رسالة للعلامة المحقق أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله فيها تحرير القولين وذكر أدلة الفريقين .." (15)
إلا أن الصنعاني -بعد هذا- أعاد النظر في هذه المسألة في حاشيته على "ضوء النهار" وعرض لأدلة الفريقين من جديد، ثم مال إلى القول الآخر! خشية أن يُنكر جهاد "الطلب"، وهو أمر مجمع عليه بين العلماء -كما سبق-، ولو فهم رسالة شيخ الإسلام -رحمه الله- لعلم أنه ليس فيها تعرض لمسألة حكم الجهاد "سواء طلبيًا أو دفاعيًا" كما أوضحت سابقاً.
ومما يبين أنه فهم من رسالة شيخ الإسلام أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط، قوله رادًا على هذا: "لأنه لو كان غزو صلى الله عليه وسلم إلا لدفع شر الكفار لا لأجل الكفر؛ لم يخرج من المدينة في غزاة، ولا بعث سرية، بل يبقى في المدينة، فمن قصده دافعه فيها.." (16)
فالصنعاني توهم أن شيخ الإسلام ينصر القول بأن الجهاد للدفاع فقط فلهذا مال إليه أولاً، ثم تراجع عن ذلك خوفاً من مصادمة نصوص الشريعة والتفرد بقول يخرق إجماع المسلمين. ولو تأمل كلام شيخ الإسلام وقرنه بما يشابهه في فتاواه ورسائله الأخرى لعلم أنه قد أبعد النجعة في فهم كلامه -رحمه الله-.
2-الشوكاني يفهم الرسالة كفهم الصنعاني !
حيث تعرض لها في كتابه "نيل الأوطار" (5/250) عند حديثه عن "علامات البلوغ"، حيث قال محتجاً لمن قال بأن جهاد الكفار هو لأجل كفرهم: "ويؤيد هذا أن صلى الله عليه وسلم كان يغزو إلى البلاد البعيدة؛ كتبوك، ويأمر بغزو أهل الأقطار النائية مع كون الضرر ممن كان كذلك مأموناً".
ثم قال: "وذهبت طائفة أخرى إلى أن قتالهم لدفع الضرر.. ومن القائلين بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حفيد المصنف، وله في ذلك رسالة".
وفي ظني أن الشوكاني قد تابع الصنعاني في فهمه لرسالة شيخ الإسلام؛ لأنه كثيرًا ما يقتفي أثره. والله أعلم.
3-نقل مختصر مفيد عن الشيخ الألباني -رحمه الله- في بيان نوعي الجهاد:
قال -رحمه الله- في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص71-72): "اعلم أن الجهاد على قسمين: الأول فرض عين، وهو صد العدو المهاجم لبعض بلاد المسلمين، كاليهود الآن الذين احتلوا فلسطين: فالمسلمون جميعاً آثمون حتى يخرجوهم منها.
والآخر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهو الجهاد في سبيل نقل الدعوة الإسلامية إلى سائر البلاد حتى يحكمها الإسلام، فمن استسلم من أهلها فبها، ومن وقف في طريقها قوتل حتى تكون كلمة الله هي العليا، فهذا الجهاد ماض إلى يوم القيامة فضلاً عن الأول.
ومن المؤسف أن بعض الكتاب اليوم ينكره، وليس هذا فقط بل إنه يجعل ذلك من مزايا الإسلام! وما ذلك إلا أثر من آثار ضعفهم وعجزهم عن القيام بالجهاد العيني، وصدق رسول ا صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" "الصحيحة" (11)".
4-المدرسة العصرانية تنكر جهاد الطلب !
قصر الجهاد في الإسلام على جهاد "الدفع" فقط هو مما أثارته المدرسة العصرانية الحديثة منذ الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما؛ نتيجة صدمتهم وانهزامهم أمام الحضارة الغربية التي ألجأتهم إلى تبني بعض الأقوال الشاذة تحرجًا من أحكام الله التي لا يرضاها أعداء الإسلام؛ ومن ضمنها أحكام الجهاد.
ثم تعاقب تلاميذ هذه المدرسة والمتأثرون بها على نشر هذا القول الشاذ وإشاعته بين المسلمين .
انظر على سبيل المثال: "رسالة التوحيد" لمحمد عبده (ص 235)، و"فتاوى رشيد رضا" (ص 892، 1155)، و"القرآن والقتال" لمحمود شلتوت (ص126)، و"الدولة الإسلامية.." لمحمد عمارة (ص 136)، و"آثار الحرب في الفقه الإسلامي" لوهبة الزحيلي (ص110) و"الجهاد في الإسلام - كيف نفهمه؟" للبوطي (ص 94 وما بعدها)،… وغيرها من كتب العصرانيين.
وبعضهم قد اتكأ على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام وفرح بها؛ كالشيخ عبد الله المحمود في رسالته "الجهاد المشروع في الإسلام"، ومحمد أبو زهرة في كتابه عن "ابن تيمية"، وصاحب رسالة "الفريضة المفترى عليها" (ص 364-369).(36/110)
وانظر للرد عليهم بالتفصيل: رسالة الشيخ علي العلياني "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" (ص 318-349). و"ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد" لعبد الملك البراك، (ص 33-163). و"الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" للدكتور محمد خير هيكل (1/748 وما بعدها).
5-الخطأ لا يعالج بمثله :
إذا كنا نواجه سوء فهم لحقيقة "الجهاد" الشرعي في الإسلام من قبل فئات من الشباب "المتحمس" الذي يريد أن يقحم الأمة في معركة غير متكافئة لم تأخذ العدة اللازمة لها إلى الآن فيعرضها لتسلط الأعداء عليها وغزوها في عقر دارها.
إن مواجهة مثل هذا الفهم الخاطئ لا تكون من خلال إنكار ثوابت وضروريات دينية؛ كإنكار جهاد "الطلب" مثلاً، فنحن بهذه الطريقة لا نعالج الخطأ إنما نزيده تعقيدًا، ونلجئ الطرف الآخر إلى أن يتشبث بخطئه ويتعصب له؛ لما يرى من تلاعبنا بالأحكام الشرعية أو تميعنا تجاهها.
إنما العلاج الشرعي لهذا الفكر يكون من خلال إبراز وتوضيح مسائل "الجهاد" الشرعي، وتبيين مخالفة أصحاب ذاك الفكر لها. ويكون هذا بواسطة علماء ثقات لهم قبولهم بين شباب الأمة. فمن المسائل التي ينبغي إبرازها وإيصالها للشباب في هذه الفترة:
1. أن جهاد "الطلب" لا يكون إلا بإذن الإمام. يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر.. فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلا على سبيل الدفاع .. وإنما لم يجز ذلك؛ لأن الأمر منوط بالإمام، فالغزو بلا إذنه افتئات وتعد على حدوده، ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى"(17).
2. أنه يجوز عقد "المعاهدات" مع الكفار في حال ضعف المسلمين.
3. أنه في حال ضعف المسلمين يُشرع الأخذ بالآيات المكية التي فيها الكف عن القتال، والتركيز على الدعوة. يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله- متحدثاً عن واجب الإمام: "إن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية؛ لما في الآيات المكية من الدعوة، والبيان، والإرشاد، والكف عن القتال عند الضعف"(18).
4. مراعاة المصالح والمفاسد في مسائل "الجهاد" .
5. تحريم قتل المعاهدين، وما فيه من عقوبة شديدة جاءت بها النصوص الشرعية.
فهذه المسائل وغيرها -مما يعرفها من هم أقدر مني- لو تم إبرازها من خلال النشرات والمحاضرات والندوات لتم القضاء على كثير من أفكار "الغلو" -بإذن الله-.
مع التنبيه على أمور مهمة تُيسر هذا العلاج:
1. أن يكون جهد الأمة منصباً -في هذه الفترة- على جهاد "الدفع" وإخراج الكفار من ديار المسلمين التي استباحوها.
2. إعداد العدة، وأخذ الأسباب المقوية للأمة -بإذن الله-؛ كالتزود من الأسلحة الكافية، وتدريب الشباب على الحياة الجادة، وإبعادهم عن الملهيات والمنكرات، وعدم الركون إلى الحياة الدنيا.
3. التصدي للفكر المنهزم المقابل لفكر الغلو الذي يروج له دعاة "العلمنة" و"العصرنة" و"أصحاب العقائد المنحرفة" ممن يمثلون "الطابور الخامس" بوارثة أسلافهم المنافقين. وذلك بإبعادهم عن وسائل التأثير، ومناصحتهم، والحزم معهم؛ لأن هذا الفكر المنهزم في حال انتشاره -لا قدر الله- فإنه ينخر في جسد الأمة ويُضعفها، ويجعلها لقمة سائغة للأعداء، كما تبين ذلك في تجارب سابقة(19).
فلنكن صفاً واحدًا في هذه البلاد خلف ولاة أمرنا وعلمائنا في التصدي لهذين الفكرين الخبيثين: فكر "الغلو"، وفكر "الانهزام"، فإنهما وجهان لعملة واحدة؛ هي تسلط الأعداء علينا.
أسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء، وأن يكفينا شر الأشرار، ويقينا من الفتن الظاهرة والباطنة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه: سليمان بن صالح الخراشي
==============(36/111)
(36/112)
أهم معالم المدرسة العقلانية أو المدرسة العصرانية .
أولا: المقصود بالمدرسة العقلية، ما هي؟
• إن المدرسة العقلية اسم يطلق على ذلك التوجه الفكري الذي يسعى إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي العاصر، وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلا جديدا يتلاءم مع المفاهيم المستقرة لدى الغربيين، ومع انفجار المعلومات والاكتشافات الصناعية الهائلة في هذا العصر، وتتفاوت رموز تلك المدرسة تفاوتا كبيرا في موقفها من النص الشرعي، ولكنها تشترك في الإسراف في تأويل النصوص، سواء كانت نصوص العقيدة، أو نصوص الأحكام، أو الأخبار المحضة، وفي رد ما يستعصي من تلك النصوص على التأويل.
• أبرز معالم المدرسة العقلية المعاصرة:
1- رد السنة النبوية كليا أو جزئيا، فمنهم من يردها مطلقا، ومنهم من يقبل المتواتر العملي فقط ومنهم من يقبل المتواتر مطلقا عمليا كان أو قوليا.
أما حديث الآحاد- والمقصود بحديث الآحاد ما لم يبلغ حد التواتر كأن يروي من طريق واحد أو من طريقين فقط أو ما أشبه ذلك دون أن يصل إلى حد التواتر- فقد يقبلون منه ما يتوافق مع روح القرآن، وما يتفق مع العقل، أو التجربة البشرية، وقد يردها بعضهم مطلقا، فلا يقبل منها شيئا.
2- التوسع في تفسير القرآن الكريم على ضوء العلم الحديث بكافة جوانبه، ولو أدى ذلك إلى استحداث أقوال مجانبة لتركيب الآيات القرآنية من الناحية اللغوية، وغير موافقة للمنقول عن السلف رضي الله عنهم، ومن ذلك -مثلا- أن بعضهم يؤولون الملائكة، والشياطين، والجن، والسحر، وقصة آدم، والطير الأبابيل، وغيرها مما ورد في القرآن الكريم كما هو في تفسير الشيخ (محمد عبده)، وهو من أقطاب تلك المدرسة.
3- التهوين من شأن الإجماع، إما برفضه رفضا كليا كما نجد عند (أحمد خان الهندي) وهو من أكابر رجال المدرسة العقلية، بل إن له من الآراء ما يرفضه العقلانيون الآخرون، فهو يرفض الإجماع رفضا كليا، ومنهم من يقيد الإجماع، كما نجد عند (محمد عبده) وغيره، حيث يضيف لتعريف الإجماع المعروف في أصول الفقه قيودا جديدة لم تكن معروفة عند العلماء- وسوف أشير إلى ذلك تفصيلا بعد قليل-.
4- الحرية الواسعة في الاجتهاد مع غض النظر عن الشروط المطلوبة في المجتهد، ومع غض النظر أيضا عن الأطر العامة التي يجب أن تضبط هذا الاجتهاد، ولذلك نجد أن كثيرا منهم وقعوا نتيجة لنا يسمونه بـ(الاجتهاد) في آراء شاذة ومنكرة لم يقل بها أحد من قبلهم، وشجعهم على ذلك موقفهم من الإجماع.
5- الميل إلى تضيق نطاق الغيبيات ما أمكن، وذلك تأثرا بالتيار المادي الذي يسود الحضارة المعاصرة، ومن هنا جاء إقحام العقل في المسائل الغيبية، وتأويل الملائكة والجن والشياطين... وعند غلاة العقلانيين نجد تأويل الصلاة والزكاة والصوم والحج.
6- تناول الأحكام الشرعية العملية تناولا يستجيب لضغوط الواقع، ومتطلباته، وذلك كقضايا الربا، إضافة إلى قضايا (الوحدة الوطنية) التي تجمع المواطنين أيا كان دينهم، وكذلك قضايا (حرية الفكر) وغيرها.
ومعالجة هذه المسائل تبدو غالبا بصورة يمكن أن تكون مقبولة لدى مفكري الأمم الأخرى، ومتأثرة بالتيارات الفكرية السائدة.
وتبرز مثل هذه القضايا في كتابات عدد من المفكرين، كما نجد - مثلا - قضايا المرأة فكرة (قاسم أمين) الذي يقال إن (محمد عبده) كان وراء ما كتب حول تحرير المرأة.
• ولا يمكن تجاهل أن من بين المنتسبين لهذه المدرسة، أو المنسوبين إليها من لهم آراء سليمة في نبذ التقليد الأعمى، وفي الإصلاح الاجتماعي أو الاقتصادي، أو السياسي، أو التعليمي، أو غيرها.
إن من الطبيعي أن لا يكون هذا العرض لأصول أو معالم المدرسة العقلية مستوعبا مستوفيا وذلك خشية الإطالة، ويمكن مراجعة الكتب المتخصصة في هذا الموضوع وهي كثيرة أشير إلى أبرزها:
فمن الكتب التي تحدثت عن هذه المدرسة حديث المؤيد كتاب الشيخ (محمد البهي) الذي سماه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي).
• ومن الكتب التي نقدت هذه المدرسة : ( الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية) للشيخ "أبي الحسن الندوي" و ( الفكر الإسلامي المعاصر) لغازي التوبة، فقد تحدث عن المدرسة الإصلاحية ممثلة في "محمد عبده".
وكذلك " مفهوم تجديد الدين) للأخ الشيخ " بسطامي محمد سعيد" و(المدرسة العقلية في التفسير) للشيخ"فهد الرومي".
وكذلك كتابات الأديب المؤرخ العالم المصري "محمد محمد حسين"-رحمه الله- وبالأخص كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وكتاب (الإسلام والحضارة الغربية). وهذه المدرسة المسماة "بالمدرسة العقلانية" -وقد يسميها بعضهم "بالمدرسة العصرانية" نسبة إلى العصر الذي خضعت لظروفه وتأثرت به- تمد رواقها اليوم على عدد من المدارس، والجماعات، والأشخاص، والمعاهد، التي تهتم بالفكر الإسلامي في عدد من البلاد الإسلامية وفي بلاد أخرى، غربية في أمريكا وغيرها، ولذلك فإن من المهم استجلاء فكر هذه المدرسة ومعرفته.
باختصار من كتاب حوار هادئ مع الغزالي .
==============(36/113)
(36/114)
فصول في العصرانية
الحمد لله ، والصلاة والسلم على رسول الله ، وعلى آله ، وصحبه ، ومن ولاه ، وبعد :
فلن تفرح (أمريكا) بشيء يخص العالم الإسلامي بقدر فرحها بما يسمونه بـ(الإسلام الليبرالي) ، أو (العصرانية) ، أو (العقلانية) ، أو ما نسميه نحن وهو أقرب (أهل الأهواء) .
هذا التيار لم ينل حقه من الكشف والتعرية ، بل واجه حياداً واضحاً من كبار العلماء بدعوى الانشغال بـ(العدو اليهودي) ، ولا أدري أنسوا أم تناسوا أثر (النمل الأبيض) في تجويف جسد الأمة ، وهي منشغلة بالعدو الخارجي اليهودي !
إن الأمة ستهوي حتماً أمام العدو اليهودي إن هي تركت عصاها تأكل العصرانيةُ من سأته ، وعلى علماء الأمة أن يهبوا لوأد هذه المدرسة كما هبوا أيام الحداثة عندما كشف عوارها (عوض القرني) ، ورفع من شأن رسالته تقديم الشيخ ابن باز ، فخبت الحداثة بعدها ، ولم تصبح سوى (حكاية) تروى على أرفف المكتبات !
وقد قرر غير واحد من أهل العلم أن قتال الخوارج أولى ، وأهم من قتال الكفار الأصليين ، إذ كيف تقاتل الكافر الأصلي وأمنك الداخلي مهدد من ثلة خارجية ، وكذلك في مجال الفكر فإن تعرية الفكر الخارج على دين المجتمع وعقيدته ، وجهاده بالحجة والبيان أولى من الانشغال بعدو خارجي يفرح بتشاغل الأمة به عن ذلك الجنين اللقيط من سفاح الفكر ، ولئن استمر التغاضي عن هذا الفكر بدعوى عدم إعطائهم أكبر من حجمهم ، والانشغال بالعدو اليهودي ، فسيأتي ذلك اليوم الذي لن نستطيع فيه السيطرة على حجمه ، ويستمر بالتعاظم يقع الفأس بالرأس ، فلا ينفع صياح ، ولا عويل على تفريطنا .
إننا بحاجة في مواجهة هذه المدرسة إلى جهد كبير أوله لا يقل عن كتاب عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام) ، وآخره لا يقف حتى ندفن هذا الفكر في مزبلة التاريخ ، وإلا فإن أضراره ستكون خارج السيطرة ، خاصة والتيار العصراني ما زال في طور التشكل باجتماعاته في (الشقق) ، و(الاستراحات) ، و(الندوات الخاصة) ، ويجذب الكثير من شباب الصحوة إليه .
ومن هذا الباب سأسرد بعض الفصول حول المدرسة العصرانية شاملاً تعريفها ، ورموزها ، وأفكارها ، حسب ما يتوفر لي من المراجع ، على أن أعزو ما انقل إلى مصدره قدر المستطاع .
سائلاً المولى جلّ وعلا أن يوفقنا وجميع الدعاة والعلماء إلى نصرة دينه .
إنه ولي ذلك والقادر عليه .
فصل
تعريف العصرانية
قد كثرت عبارات التعريف بهذه المدرسة ، ولكن كلها لا تخرج - تصريحاً أو تلميحاً - عن أصالة العقل عندهم ، وتقديمه على النقل .
فقد قيل في تعريفها : اتجاه يقدم العقل على النقل ، ويجعل العقل مصدراً من مصادر الدين ، ومُحَكَماً في النصوص . (انظر : الاتجاهات العقلية الحديثة ، العقل ص17) .
وقيل : إنها وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي ، والثقافة المعاصرة تستلزم إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة . (أنظر : المدرسة العصرانية ص15 ، العصرانيون ص6 ، لمحمد بن حامد الناصر) .
وقيل : هي مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي ، أو التجربة البشرية ، وإخضاع كل شي في الوجود للعقل لإثباته ، ونفيه ، وتحديد خصائصه . (انظر : الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة ص2/796) .
وهذا التعريف الأخير تعريف للعصرانية التي ظهرت في أوربا بعد الثورة على الكنيسة في ذلك الحين حيث أن سرد الموسوعة للرموز والأفكار كلها متعلقة بتلك المرحلة .
إذن فالمدرسة العصرانية ، أو العقلانية - إن صحت العبارة - هي اتجاه يعمد إلى تطويع أحكام الدين ونصوصه إلى حاجات العصر ، وعمدتهم في ذلك ما تؤديه إليه عقولهم مما يعتبره مصلحة يوجب تقديمها بحجة روح الإسلام ، ومقاصد الدين ، وضرورياته .
فصل -ألقاب هذه المدرسة
كثرت الألقاب لهذه المدرسة ، لكن أهلها يهيمون حباً وعشقاً في تسمية أنفسهم بـ(التنوير) فتجد التنوير مضافة إلى أشياء كثر ، فهم (شباب التنوير) ، وشقتهم الكائنة في شارع ابن خليفة المؤمنين !! (شقة التنوير) مشاكلة لـ(شقة الحرية) !!
ويسميهم خصومهم بـ(العصرانيين) نسبة إلى تطويعهم الدين لموافقة العصر .
و(المعتزلة الجدد) وذلك بسبب مشابهتهم للمعتزلة في تقديم العقل ، واعتباره في وجه النصوص ، وأيضاً لأنه يندر أن تجد عقلانياً عصرانياً لا يمجد المعتزلة ، ولا يعلي من شأنهم ويرى أنهم دعاة الحرية ، وإعمال العقل !
ولكن وإن شابهوا المعتزلة في ذلك إلا أن المعتزلة أفضل منهم حالاً ، ففيهم تعظيم للشريعة ، وعبادة ظاهرة - وإن كانوا لا يخلون من زندقة في بعضهم - أما هؤلاء فهم بلا دين فتجد أحدهم كان يحافظ على الصلاة جماعة ، وما أن ينتهج هذا المنهج حتى لا تكاد تراه في المسجد ، وتبدأ الآراء الغريبة تبدوا في (اختياراته) !!! فهو يرى سنية صلاة الجماعة ، وسنية أخذ ما زاد عن القبضة - من فوقها لا من تحتها !! - وجواز إسبال الثياب لغير الخيلاء ، وجواز كشف وجه المرأة ، وغيرها من غرائب المسائل بدعوى التجديد ، والتنوير !(36/115)
ويسمون بـ(العقلانيين) ، وهو مصطلح غير سديد !
إذ أن التسمية هذه تفترض أن هناك تعارضاً بين العقل الصريح ، والنقل الصحيح ، خاصة وأن مطلقي هذا المصطلح هم من يؤمنون بتوافق العقل مع النقل ، ولأنه لم يرد في نصوص الشرع أن أحداً ضل بسبب عقله بل الذين ضلوا هم الذين لا يعقلون ، ولا يتدبرون ، ولا ينظرون ! والمهتدين هو أصحاب العقول (أولو الألباب) ! ولا يضل المرء إلا بسبب هواه ، ولهذا سما السلفُ المعتزلةَ بـ(أهل الأهواء) .
وكل أمر من أمور الدين يمكن الاستدلال بها عن طريق العقل ، وعلى ذلك فالعقلانيون حقاً هم (أهل السنة والجماعة) .
إضافة إلى أن تسميتهم بـ(العقلانيين) فيه فتنة لهم ، وإعلاء من شأنهم ، وانهم هم أصحاب العقل ، وغيرهم هم المقلدة ، الذين لا يفهمون ، ولا يعقلون . (أنظر : مقالة جعفر إدريس "ليسوا عقلانيين .. إنما هم أهل الأهواء" مجلة البيان ، العدد : 141) .
فصل -رموزهم في الماضي والحاضر
نستطيع أن نقول أن رموز المدرسة العصرانية في الماضي هم : رفاعة الطهطاوي ، ومحمد عبده ، ولذلك تجد أن رموز العصرانية في الحاضر يمجدون هذان الرجلان ، ويحيون تراثهم ، فهناك من أخرج المجموعة الكاملة لأعمالهم (محمد عمارة) .
فأما رفاعة الطهطاوي والذي تغنى به ، وبأبنائه أحد كتاب الصحف في بلاد الحرمين (انظر : أولاد رفاعة الطهطاوي ، عادل الطريفي ، جريدة الرياض 13680) . له من الجهود في تغريب الإسلام والمسلمين ما يشيب له الولدان ، وأول ما عرف كان إماماً لبعثة إلى فرنسا ، ومنها تغرّب الرجل ، فانبهر بالمدنية الفرنسية ، وقرأ بنهم في علومها ، وفلسفتها ، حتى أبتلعها ، ولم يستطع تقيئها !! وقد ذهب إلى هناك وعمره (25 سنة) ! هل تظن أن أحداً بهذا العمر يستطيع الوقوف شامخاً أمام تلك الحضارة وهو عري عن العلم والعقيدة الصحيحة ؟
في فرنسا اغتال فكره (الميسو جومار) الفرنسي ، لما رأى من حرصه على تعلم الفرنسية ، وإعجابه الشديد بأهلها ، ومدنيتها !! وقضى فيها ست سنوات كانت كفيلة بتغريبه عن نفسه التي صحبها خمساً وعشرين سنة !
أنشأ بعد عودته (مدرسة الألسن) التي هي بحق قاصمة للتعليم الديني ، والتي جعلها مدرسة تجتمع فيها علوم شتى ، ويدرس فيها مجموعة من المستشرقين الذين تولوا تغريب 150 طالباً اختارهم رفاعة بعناية فائقة ! وأحدث رفاعة بعدها صدعاً مبيناً في ثقافة الامة وقسمها إلى شطرين ، الأزهر من جهة ، ومدرسة الألسن من جهة أخرى ! في وقت كان سلطان مصر يدمر أجحة الأزهر بغباء فاضح ! (انظر : رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ، في كتاب "المتنبي" ، تأليف : محمود شاكر ، والرسالة قيّمة تحتاج لإحياء وإدمان نظر) وأيضاً (انظر : الاتجاهات العقلانية الحديثة ، ناصر العقل ، ص83 ، وأيضاً : العصرانيون ، محمد حامد الناصر ، ص127) .
وأما جمال الدين الأفغاني فقد طلب الانضمام للمحفل (الماسونية) عام 1292هـ ثم اختير بعد ثلاث سنوات رئيساً لمحفل كوكب الشرق في عام 1978م بأغلبية الآراء ! ثم اعتزله ، وأنشأ محفلاً وظنياً تابعاً للشرق الفرنسي ! ثم صدر أمر بنفيه من مصر عام 1296هـ .
ولم ينقطع نشاطه الماسوني أينما حلّ .
بل إنه تحالف مع الإنجليز ضد الخلافة الإسلامية ! (أنظر : العصرانيون ، لمحمد بن حامد الناصر ، ص35) .
وأما محمد عبده فحظوته لدى التيار أكبر وأشد ، وانبهارهم به أعظم .. !
ومحمد عبده على أنه أبغض السياسة ، ومقتها ، إلا أن السياسة لم تتركه ، بل أستغلته ، واتخذته مطية ، عن طريق المعتمد الإنجليزي كرومر الذي يرى أن دور محمد عبده له أهمية خاصة كونه يقوم بتقريب الهوّة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين ، وأنه ومدرسته خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع !! وقد اشترك مع شيخه في المحافل الماسونية (انظر : العصرانيون ص39) .
==============(36/116)
(36/117)
العصرانية قنطرة العلمانية
بحث مختصر يبين خطر انتشار الأفكار العصرانية على المجتمع المسلم
صيحة نذير إلى ولاة الأمور ودعاة الإسلام
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
1423هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد :
فاعلم -علمني الله وإياك ما ينفعنا- أني تأملت حال المجتمعات الإسلامية خلال القرن الأخير وكيف غزاها الانحراف والتغريب بواسطة أعداء الإسلام، فوجدتها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى : حال المجتمعات التي يكون الغزو فيها مباشراً؛ وهي المجتمعات الإسلامية التي لم تكن لها مرجعية علمية، أو هيئة شرعية تذكر، تقف سدًا منيعاً أمام ذلك الغزو. فهذه سهل اقتحامها واستباحتها من العدو وعملائه اللادينيين .
الحال الثانية: حال المجتمعات التي يكون فيها الغزو من خلال (وسيط) أو (ناقل) يلبس لباس الإسلام. وهي المجتمعات الإسلامية التي تأوي إلى مرجعية علمية أو هيئة شرعية في معظم أمورها أو في النوازل التي تحل بها، مع ارتباط (شرعي) بولاة أمرها. فمثل هذه المجتمعات لم يستطع العدو اقتحامها واستباحتها وخلخلة وحدتها القائمة بين الأمراء والعلماء إلا من خلال ذلكم الوسيط؛ نظراً لطبيعتها الدينية الشرعية.
وخير مثال لهذه الحال: مجتمع مصر في القرنين الأخيرين، حيث سلط عليه الأعداء الغزو العسكري(*) والغزو الفكري في سبيل صرفه عن دينه، لكنهم باؤا بالفشل ولم يحققوا نجاحاً يذكر يوازي ما قاموا به من الجهود؛ نظراً لارتباط الشعب المصري بعلمائه الشرعيين الممثلين في الأزهر؛ حيث كانوا حصناً منيعاً أمام جهود الأعداء التغريبية .
لكن الأعداء لم ييأسوا أو يملوا وهم يرون ضياع جهودهم وفشلهم، وإنما لجؤا إلى خطة أكثر مكراً، وأشد ضررًا، وهي تكرار محاولة الغزو للمجتمع المصري بواجهة إسلامية (مخدوعة) يتقبل الشعب المسلم اطروحاتها وأفكارها التغريبية دون نفرة أو استيحاش؛ يخلخلون بها وحدة المجتمع المصري المسلم؛ بتهييجه على ولاة أمره، إضافة إلى صرفه عن العلماء الكبار الراسخين الذين يصعب تطويعهم. وقد تم لهم ذلك من خلال ما يسمى (بالعصرانيين) أتباع مدرسة الأفغاني ومحمد عبده الذين ظنوا بجهلهم أنهم يخدمون الإسلام والدعوة بصنيعهم هذا، ويوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر -زعموا !- ولكنهم أصبحوا فيما بعد كما قال ألبرت حوراني: "قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر" . ثم كان مصير أفراد هذه الطائفة العصرانية الخاسرة مصير أي وسيلة استخدمت فاستنفذت أغراضها، حيث (تمندل) بهم الأعداء قليلاً ثم رموا بهم. فمنهم من مات بحسرته جراء ما جناه على مجتمعه، ومنهم من انحاز إلى الصف العلماني وكشف عن حقيقته، وقلة منهم أحست بخطورة دورها الذي قامت به فأرادت أن تُكَفّر عن سيئاتها بانحيازها رويدًا رويدًا إلى أهل الإسلام. ولكن بقيت تجربتهم جميعاً عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين .
وبلاد الحرمين -حماها الله وصرف كيد الفجار عنها- تتشابه في طبيعتها مع طبيعة المجتمع المصري خلال القرنين السابقين، قبل هبوب رياح التغريب عليه؛ فهي تأوي إلى ركن شديد من علمائها الكبار، وارتباط (شرعي) وثيق بولاة أمرها، وتنهل من معين دعوة سلفية شرعية قامت عليها ولأجلها . فلهذا لم يستطع العدو ولله الحمد اقتحامها أو تغريبها مباشرة أو من خلال أذنابه العلمانيين الأقحاح الذين نبذهم المسلمون وباؤا بفشل ذريع، رغم تكرر محاولاتهم .
ومثلما لم ييأس أعداء الإسلام من اقتحام هذا المجتمع المسلم وتغريبه فإنهم -لا شك- سيعاودون الكرة عليه، ولكن بواجهة إسلامية (عصرانية) تضفي الشرعية على أفكارهم ومطالبهم، وتحدث شرخاً في وحدته، وتحاول نزع ثقة الناس بعلمائه الكبار، وهي تُستدرج إلى ذلك بمكر وخفاء.
وقد بدأت بوادر تنذر بشيء من ذلك -للأسف!-؛ فتسللت الأفكار العصرانية إلى عقول بعض الإسلاميين الصالحين عندنا، فأخذوا يرددونها في مقالاتهم وكلماتهم، جهلاً منهم بخطورتها ومآلها على البلاد، وانخداعاً ببهرجها، وظناً منهم بأنها ستُبَلِّغهم أهدافهم. وفاتهم -هداهم الله- أن هذه الأفكار ما هي بجديدة في عالم المسلمين، وأن مجتمعاً إسلامياً آخر غير مجتمعنا هو مجتمع مصر قد خبرها وجُرِّبت عليه؛ فلم تنتج سوى النتاج المر الفاسد الذي لا زال يعاني منه إلى اليوم.
وقد اكتشف النبهاء من أهله -كما سيأتي- ولكن بعد فوات الأوان، أن هذه الأفكار البراقة لم تكن سوى أحبولة صنعتها يد المكر لاستباحة ديار المسلمين وعقولهم واقتصادهم، وأنها لم تحقق للمسلمين إلا مزيداً من الذل والصغار والخضوع للأعداء، فضلاً عن التفريط بمهمات الدين وشرائعه.
وقد كان من حق التجربة (العصرانية) المصرية أن تكون عبرة للمعتبرين، وموعظة للآخرين، وأن لا يُلدغ المؤمنون بعدها من جحر مرتين.
ومن مظاهر تسلل هذه الأفكار بين أهل الإسلام في بلادنا هذه الأمثلة التي وقفت عليها، ولعل غيري قد وقف على مثيلاتها:(36/118)
1- أحد الدعاة الأفاضل ممن لهم جهود لا تنكر في نشر الخير ينشئ موقعاً على شبكة الأنترنت لا تجد فيه حساً ولا خبرًا لأحدٍ من كبار العلماء لدينا ! فلماذا هذا ؟! ومعلوم خطورة عزل جيل الشباب عن علمائه الكبار، حيث ينصرف بعدها إلى أناس لا علم عندهم ولا ورع، إنما هي المصالح والتحزبات التي تقود البلاد إلى فرقة وضعف.
2-أحد الأفاضل من حاملي الدعوة لدينا يقول: بأنه لا مانع من وصف اليهود والنصارى بأنهم (إخوان لنا) !! ويعني بذلك الأخوة الإنسانية !
3- داعية آخر يدعو إلى (المجتمع المدني) ! القائم على الانتخابات والبرلمانات.. الخ. وفاته أن المجتمع المدني في اصطلاح القوم هو المجتمع العلماني الذي لا يرجع إلى شريعة تحكم أفعاله . وأن في دعوته هذه (تهييجاً) لعامة الناس على ولاة أمرهم بطريقة تفسد ولا تصلح. متغافلاً -هداه الله- عن الطرق الشرعية.
4- داعية آخر يكتب مقالاً بعنوان "المرأة إنسان"، يصوغه بلغة حداثية غريبة! يطالب فيه بإعادة النظر في قضايا المرأة!! ويحيل قارئه للفائدة على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للعصراني عبدالحليم أبو شقة!
5- كاتب إسلامي آخر يزعم -بجهل لا شك- أن "الحق المطلق لا يملكه أحد" !!وهذا مصطلح (كفري) يؤدي بصاحبه إلى الشك والحيرة والتذبذب .
6- كاتبة إسلامية مرموقة تكتب عدة مقالات عن المرأة، تردد فيها أفكار العصرانيين والعلمانيين. حتى ليخال للقارئ بأنه يقرأ لإحدى داعيات تحرير المرأة في بلادنا ! فكيف حدث هذا ؟!
7- جريدة أسبوعية إسلامية تفتح صفحاتها لكتبة العصرانية من كل مريض وفاشل وطالب شهرة؛ ليلمز ويهمز من خلالها في دعوة الكتاب والسنة ويصفها بأبشع الصفات، ويبث شبهاته وانحرافاته تحت بصر وسمع الفضلاء أصحاب الجريدة ممن لهم تاريخ مشرف في مجال الدعوة والإعلام الإسلامي.
لأجل هذا كله ودرءً للخطر قبل وقوعه؛ فقد أحببت أن أنصح لإخواني دعاة الإسلام وحملته في هذه البلاد ببيان : كيف أصبحت العصرانية في مصر قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى مجتمعهم كما سبق؟ ليأخذوا حذرهم ويتبصروا أمرهم وما يكيده الأعداء لهم، فلا ينساقوا وراء الأفكار العصرانية مهما تزخرفت وتزينت كما انساق غيرهم، فيكون حالهم مع مجتمعهم كحال من :
رام نفعاً فضرَّ من غير قصدٍ *** ومن البر ما يكون عقوقًا
وتضيع جهودهم السابقة المشكورة في التصدي لأهل العلمنة بهذه النهاية الموجعة -لا قدر الله- التي يخدمون بها أولئك المفسدين عن غير قصد، فيحق فيهم قول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً). عندها نقول لهم :
وإخوانٍ تخذتهمو دروعاً *** فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات *** فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد سعينا كل سعي *** فقلت نعم ، ولكن في (فسادي)
أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام لأن (يأخذوا حذرهم) فلا يكونوا مطية لغيرهم، وأن يحسن لنا ولهم الخاتمة، ويستعملنا إلى أن نلقاه في طاعته.
--------------------------------------------------------------------------------
مقدمة:
لقد كتب كثير من العلماء والباحثين عن المدرسة العصرانية الحديثة التي نشأت في ديار المسلمين نتيجة التقائهم بالغرب المتقدم مادياً، وأجادوا في بيان انحرافها عن الإسلام بلا مزيد عليه ، ولهذا فإنني لن آتي بجديد في هذا الموضوع، ولكني أردت من خلال هذا البحث المختصر التركيز على انحرافٍ واحدٍ من انحرافات تلك المدرسة -كما سبق- لعله يكون أخطرها، وتوسعت فيه بعض التوسع، ونقلت كلمات مهمة تتعلق به.
نشأة المدرسة العصرانية الحديثة: الأفغاني ومحمد عبده :
تعود نشأة المدرسة العصرانية الحديثة في البلاد العربية إلى جهود رجلين اجتمعا زمناً بمصر؛ هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده .
أما الأفغاني فقد كان غامض الأمر محيرًا للباحثين في حياته وبعد مماته، مما جعلهم يضطربون في مكان نشأته ومذهبه وأهدافه . إلا أنه بعد نشر كثير من الوثائق والدراسات حوله لم يعد هناك مجالٌ للشك في كونه شيعياً إيرانياً أخفى ذلك ترويجاً لأفكاره بين أهل السنة الذين لن يجد منهم أي احتفاء لو كشف تلك الحقيقة بينهم .
ولكن الخلاف بعد تقرير أمر شيعيته وإيرانيته سيكون حول حقيقة أفكاره، وماذا كان يريد؟
هناك وجهتا نظر للباحثين كلاهما تمتاز بالقوة :(36/119)
1- الأولى: أن الأفغاني كان يريد إعادة الدولة الشيعية إلى بلاد مصر، ولهذا اختار المقام فيها على غيرها من البلاد الأخرى. وأنه لأجل هذا كان يخفي شيعيته ويدعي الانتساب لآل البيت؛ ليتمكن من تكوين عصبة حوله تعينه على هذا الأمر إذا ما حانت ساعة الصفر -كما يقال-. وأنه كان لا يفضي بهذا الأمر إلا لخاصته؛ كمحمد عبده. وهذه ليست بغريبة على الشيعة الذين لا زالت قلوبهم تهفو إلى هذه البلاد منذ أن طردوا منها، فقد قاموا بعدة تجارب لأجل هذا الأمر؛ من أهمها تجربة السيد ! البدوي الذي أرسله أساطين الرفض في العراق إلى بلاد مصر، فكانت غايته -كما يقول الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف- : "أن يجمع عصبية في الديار المصرية للعلويين ، كتلك العصبيات التي كان يجمعها غيره من الصوفية في أقطار العالم الإسلامي حتى تكون عوناً لهم إذا ما تهيأت الفرصة، ونهضوا لطلب الملك"
ومما يشهد لهذا : الغموض الذي أحاط الأفغاني به نفسه، حيث لم يوضح (بصراحة) حقيقة أفكاره؛ إنما هي أمور عامة يشترك معه فيها غيره.
ومما يشهد لهذا -أيضاً- أن تلميذه محمد عبده كان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :
ذرني وأشياء في نفسي مخبأة *** لألبسن لها درعاً وجلبابا
والله لو ظفرت نفسي بطلبتها *** ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبا
حتى أطهرهذاالكون من دنس*** وأوجب الحق للسادات إيجابا
وأملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت*** ظلماً وأفتح للخيرات أبوابا
فما هي هذه "الحاجات المخبأة في نفسه" ؟! ومن هم "السادات" الذين سيوجب لهم الحق، ويضرب لأجلهم أعناق الناس؟!
وجهة النظر الثانية: تقول بأن الأفغاني ما كان يحفل بالمذاهب كلها، سنيها وشيعيها، بل ما كان يحفل بالأديان نفسها! فالجميع -عنده- شيء واحد، فكانت دعوته موجهة نحو إيقاظ (الشرق) المتخلف -دون نظر إلى أديانه- لمواجهة أطماع (الغرب) المتحضر مادياً، والتحرر من سلطانه وضغوطه، والتخلص كذلك من حكم المستبدين .
فما كان الإسلام عنده إلا ديناً من ضمن الأديان الكثيرة التي يدين بها أبناء الشرق. ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم بعدة أدلة:
أولها: أنه في كثير من مقالاته يصرح بأن دعوته (شرقية) لا إسلامية. فمن ذلك مثلاً: ما جاء في منهج العروة الوثقى وأهدافها بأنها "ستأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان" وقوله عنها : "إنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين" ويقول أيضاً مبيناً منهاج جريدته : "الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم. وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجنبيون وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجميع خيراتها" فسبب تركيز الأفغاني على المسلمين كونهم الأغلب في الشرق، ولو كان غيرهم يغلب عليهم لركز عليهم !
أما قضية دعوته إلى الجامعة الإسلامية فيقول عنها الأستاذ عثمان أمين:"إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين، وإنما هي في صميمها: الجامعة الشرقية"
وقال الدكتور فهد الرومي : "أرى في مقالاته ومقالات تلميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق: مسلمها وغير مسلمها ضد الاستعمار" .
ويقول محمود أبو رية: "العروة الوثقى كانت تعمل للشرقيين عامة" ويقول الأستاذ: مصطفى غزال: "لو رجعنا إلى كتابات جمال الدين لوجدنا أن دعوته إلى الجامعة الإسلامية في حقيقتها دعوة إلى جامعة شرقية تضم العالم الإسلامي بما فيه من أديان مختلفة وجنسيات متنوعة"
2- ومما يشهد لما سبق -أيضاً- : دخول الأفغاني في الماسونية التي لا تفرق بين الأديان .
3- ومما يشهد لذلك -أيضاً-: ما يصدر من الأفغاني بين الحين والآخر من كلمات في حق الإسلام، تدل على أنه لا ينظر إليه كخاتم للأديان أو أنه الحق دون ما عداه من الأديان الباطلة، وإنما تدل كلماته على أنه ينظر للإسلام كنظرته لأي دين آخر ظهر في الشرق، لا مانع من مجاملته إذا اقتضى الحال ذلك! ولا مانع -أيضاً- من نقده!! فمن ذلك مثلاً: أنه في رده على رينان الذين اتهم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين أيده على هذا! وقال :"في الحقيقة: إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم، وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية" وقال: "إن دين المسلمين يعوق من تطور العلم.. إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً" وقال : "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر، ما هو معروف، نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته. وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه" ! ويقول: "إن هذا الدين -أي الإسلام- حيثما حل حاول خنق العلوم"! .(36/120)
مثال ذلك أيضاً: قوله للمصريين: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين… تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين ، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه" فالمسلمون -عند الأفغاني- لم يكن فتحهم لمصر في سبيل نشر للإسلام ودعوة العباد إليه، إنما هم مجرد عرب ظالمين كغيرهم من الفاتحين.
4- ومما يشهد لذلك أيضاً -كما يقول الدكتور فهد الرومي- :"هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ما سوني، … وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية … وكان من المحيطين به من النصارى : جورج كوتجي، وطبيبه الخاص هارون يهودي. ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي، وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود"
5- ومما يشهد لذلك أيضاً: إنشاء تلميذه محمد عبده في بيروت "جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية" وقد اشترك معه في ذلك خليط من المسلمين وغير المسلمين.
كل هذه الأدلة تشهد على أن الأفغاني كان من الداعين إلى "الفكرة الشرقية" في مواجهة "الاستعمار الغربي"، وأما أمر الأديان فلم يكن يلقي له بالاً إلا ما يفيده في فكرته هذه .
فملخص دعوته كما يقول أنور الجندي: "الحرية، والدعوة إلى الحكم النيابي والدستور، والتخلص من النفوذ الأجنبي المتمثل في سلطان الدولة الأجنبية المقنع وراء الامتيازات الأجنبية والسيطرة على الاقتصاد والارساليات، والتحرر من الاستبداد السياسي المتمثل في حكم الفرد ونفوذ الخديو وحاشيته" .
أما حكم الإسلام لديار المسلمين والتزامهم بشريعته، فهذا لا يأتي في اهتمامات الرجل، بل إنه كما سبق يرى أن الإسلام من الأديان المستبدة الخانقة للحرية!! ويعني بها حرية الكفر التي يسميها: الفلسفة .
هاتان وجهتا نظر في حقيقة الأفغاني وأهدافه، ولعل الثانية منهما أصوب من الأولى نظراً لقوة أدلتها لمن تأمل .
ماذا فعل الأفغاني بأهل مصر ؟ !
عندما قدم الأفغاني مصر زمن الخديو إسماعيل (1871م) كانت البلاد تعيش في انسجام وألفة بين الرعية وولاة أمورهم، ولا يمنع ذلك من وجود الانحراف الذي كان يعالج من خلال النصيحة الشرعية التي يقوم علماء البلاد المتمثلين في شيوخ الأزهر. وكان للبلاد مجلس شورى يتم من خلاله التشاور حول ما يتعلق بالشئون الداخلية والخارجية .
ولكن هذا الوضع (الشرعي) للبلاد لم يُرض الأفغاني (العصراني) (الثوري) الذي رأى فيه ذلاً واستكانةً للحاكم المنحرف، ورأى أن حل مشاكل البلاد لا يكون بما يقوم به شيوخ الأزهر ومناصحاتهم. إنما يكون من خلال الثورة (وتهييج) الناس على ولاة أمرهم. وقد سعى إلى ذلك من خلال دروسه التي كان يلقيها على مريديه ، ومن خلال الصحف والمجلات التي سعى كثيراً إلى إصدارها عبر تلاميذه، وحثهم على نشر أفكاره فيها، وكلها تدور حول الثورة وما يسميه زورًا بالحرية!
أحس ولاة الأمر وعلماء البلاد بخطورة ما يقوم به هذا القادم الغريب، مما لمسوه من انتشار أفكاره الثورية بين بعض الأفراد مما يشكل خطراً على أمن البلاد ووحدتها؛ فقرر الحاكم (الخديو توفيق) بمشورة من العلماء نفي الأفغاني وطرده من البلاد لئلا يزداد شره، وذلك عام (1879م). أي بعد سبع سنوات من قدومه.
يقول تلميذه محمد عبده متحسراً بأن الخديو "أظهر سروره مما فعل، وتحدث به في محضر جماعة من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان"
لقد طُرد الأفغاني ولكن بعد أن بذر بذرة الفساد في أرض مصر، وبعد أن تلقفت عقول بعض السُذج والحمقى أفكاره معتقده أن فيها صلاح البلاد، ولكنها -كما سيأتي- قادتهم إلى الهلاك والخسار بسقوطهم محتلين في يد أعداء الإسلام من الإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة في شق صف البلد المسلم؛ حتى يسهل عليهم احتلاله .
رحل الأفغاني عن مصر ولكن أفكاره المفسدة بقيت تعمل في العقول إلى أن بلغت نهايتها بقيام الثورة العرابية على الحاكم المسلم بقيادة أحد المتأثرين بالأفغاني (وهو أحمد عرابي) ومعاونة من بقية تلاميذ الأفغاني، وعلى رأسهم محمد عبده وعبد الله النديم (خطيب الثورة!) وغيرهم ، فاستغلت بريطانيا الوضع وتدخلت تحت دعوى حماية الأجانب والدفاع عن الحاكم الشرعي!، واحتلت البلاد وقضت على الثورة، ولم تخرج إلا بعد سبعين عاماً تقريباً !!
فانظر -رعاك الله- واعتبر بمآل الأفكار الثورية العاطفية.
يقول محمد عبده : "كان السيد ! جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، شديد الميل إلى الحرية، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل.." !
قلت: بل نقلهم من ذل المسلمين إلى ذل الكافرين !(36/121)
وقال سليم العنحوري النصراني تلميذ الأفغاني ! في ترجمته لشيخه بعد أن ذكر شيئاً من خطبه الثورية : "وأخذ القوم يشكون من حكومتهم، متململين، ويتطاولون بأعناقهم إلى ما يقول مشرأبين، ومذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية" .
وقال -أيضاً-: "كان روح الثورة قد امتد في القطر، بحيث لم يكن إجلاء الأفغاني إلا ليزيده سرياناً وانتشارًا" .
ويقول أبو رية عن الثورة العرابية : "إن هذه الثورة قد شبت من تعاليم جمال الدين" .
ويقول الدكتور عثمان أمين: "ليس هناك شك في أن لجمال الدين يدًا في الحركة العرابية"
ويقول الدكتور مجدي عبد الحافظ -وهو معجب بصنيع الأفغاني!-: "إن الثورة العرابية لم تكن إلا غرسًا طيبًا من تعاليم الأفغاني"
محمد عبده :
أما محمد عبده، فهو أبرز تلميذ للأفغاني، تعرف عليه وهو في عمر صغير يبلغ الثانية والعشرين، فصادفت أفكار الأفغاني قلباً خالياً فتمكنت منه. فأصبح عبده يرددها ويبشر بها من حوله .
يقول الدكتور فهد الرومي: "لئن كان السيد ! جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة، فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها، ونشرها بين الناس، فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وإمامها الأول، فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه" .
وقد فاق عبده شيخه في مسألة تطويع الإسلام وتشكيله بما يوافق حضارة الغرب وثقافته، نظراً لخلفية عبده الدينية التي افتقدها الأفغاني .
محمد عبده (الثوري) :
لقد تشرب محمد عبده الأفكار (الثورية) (التهييجية) من شيخه الأفغاني -كما سبق- وآمن بها، ولم يكن يعارضه فيها، وهذا من المآخذ العظيمة عليه، حيث كان يعلم -وهو الشيخ الأزهري- عدم شرعية هذه الطريقة ؛ وهي تأليب الشعب والعامة على ولاة أمورهم، وتجرئتهم عليه بنشر معايبه، وكان الأولى به أن يقف في وجه انتشار هذه الأفكار الثورية، وأن يسلك الطريق الشرعي الذي سنه الله ورسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ وهو مناصحة الحاكم فيما أخطأ فيه وانحرف، وتقديم المقترحات النافعة للبلاد لتتخلص من
مشاكلها، والصبر على جور الحاكم وأثرته، كما قا صلى الله عليه وسلم : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عملهم ولا تنزعوا يدًا من طاعة" وقا صلى الله عليه وسلم : "عليك السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرةٍ عليك" .
فكان الواجب على محمد عبده الشيخ الأزهري أن لا تأخذه العاطفة فينساق مع تلكم الأفكار الضارة التي لا تزيد الأمر إلا شدة وسوءً وضررًا. كما هي سنة الله الثابتة في هذه القضية على مدار التاريخ الإسلامي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"
وقال : "إن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد.."
المهم: أن محمد عبده سكت عن هذه الأفكار الثورية ولم يساهم في وأدها، بل غض الطرف عنها، وتعاطف معها، إلى أن نمت وتعاظمت، حتى كانت نهايتها قيام جهلة العسكريين بقيادة أحمد عرابي بثورتهم ثم (خروجهم) على ولي أمرهم ، الأمر الذي دعاه -وهو ضعيف الدين والعقل- أن يستعين بعدوه وعدوهم (إنجلترا النصرانية) في سبيل إخماد هذه الثورة والحفاظ على ملكه وكرسيه، فما كان من (إنجلترا) -المستعدة لمثل هذا الأمر!- إلا أن لبت النداء ونزلت بجيشها إلى أرض مصر، وقضت على (الثوريين) بقيادة عرابي، ثم طاب لها المقام هناك! فلم تخرج من أرض مصر إلا بعد أكثر من سبعين عاماً !!! فانطبق على محمد عبده وعرابي ومن معهم المثل القائل : (أراد أن يبني قصرا فهدم مصرا)!، فهم أرادوا إنكار ظلم وجور الحاكم بطريقتهم الثورية الخرقاء التي ورطهم بها الأفغاني؛ فتسببوا في ضياع بلادهم وتسليمها لقمة سائغة للنصارى، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. نسأل الله العافية، وأن يجعل من هذه الحادثة عبرة لأبناء الإسلام لكي لا يندفعوا خلف الأفكار الثورية التي تدغدغ العواطف في بداية أمرها، ولكنها سرعان ما تسيل الدماء بدل الدموع في نهايته. (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) .
نهاية ثورته :
قبض على محمد عبده بعد إخماد ثورة عرابي نظراً لتعاطفه معه ومؤازرته له، فكان نصيبه من الأحكام السجن، ثم النفي خارج البلاد المصرية. وقد نال غيره نصيبهم من الأذى والانتقام.
محمد عبده والانقلاب من (الثورية) إلى (العصرانية) :(36/122)
لقد أصيب محمد عبده بذهول وصدمة شديدة بعد فشل حركة عرابي وقمعها وتمزيقها، مما جعله -وقد توحد وتفرد في السجن- يعيد النظر في هذا المسلك (الثوري) الخاطئ الذي سار فيه فكانت نهايته موجعة عليه وعلى بلاده. ولكن عبده بدلاً من أن ينتقل من (الثورية) إلى الاعتدال والطريق الوسط القائم على العلم الشرعي ونشره بين الناس وتربيتهم عليه، مع الصبر على جور الحاكم ومناصحته إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر، بدلاً من هذا ارتد إلى الطرف الآخر المقابل للفكر (الثوري) وهو الاستسلام للواقع والتبشير بالفكر (العصراني) الذي يُطَوع الإسلام وأحكامه بما يوافق العصر، ويجعل ما يسمى "بالتعايش السلمي" مع الكفار هدفاً له، ورأى أن علاج مشاكل المسلمين وضعفهم سيكون في تبني مثل هذا الفكر، إضافة إلى تضخيمه لدور العقل على حساب النصوص الشرعية ؛ فانتقل من النقيض إلى النقيض، ومن مفسدة إلى أخرى أشد منها -كما سيأتي-.
ولهذا: فقد أصبحت مهمة محمد عبده بعد أن عاد من المنفى -كما يقول الدكتور محمد محمد حسين- : "التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالاً مختلفة؛ فظهر أحياناً في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر. وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه السلف في تفسيرها، ليقرب بها أقصى ما تحتمله، بل إلى أكثر مما تحتمله في بعض الأحيان من قُرب لقيم الغرب وتفكيره؛ لكي يصل آخر الأمر إلى أن الإسلام يساير حضارة الغرب، ويتفق مع أساليب تفكيره ومذاهبه"
جهود الكفار في نشأة العصرانية وصناعتها :
لقد أذن الإنجليز بعودة محمد عبده من منفاه إلى مصر بعد أن تأكدوا من هجره لأفكاره الثورية السابقة، وتبنيه (الفكر العصراني) المتعاون مع الإنجليز والمهادن لهم. يقول الأستاذ غازي التوبة: "كان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر، وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: "إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني.."
لقد كان الإنجليز رغم احتلالهم لمصر يعلمون أن المجتمع المصري لن يقبل بهم وبأفكارهم بسهولة، بل سيظل يجاهدهم ويعمل على الخلاص منهم؛ لأنهم في نظره (كفار) نصارى محتلون لبلاده. فقد كانت الصفوف وقت احتلال الإنجليز لمصر متمايزة: الشعب المصري المسلم ومن خلفه شيوخ الأزهر من جهة، والمحتل الكافر من جهة أخرى.
وهذا التمايز كان يضيق به الإنجليز، ويعلمون أنه يحول بينهم وبين تنفيذ خططهم في (تغريب) البلاد و(علمنتها) وجعلها تتقبل فكرة أن تكون مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية البريطانية .
والإنجليز -أيضاً- يعلمون أن الشعب المصري المسلم لم يكن ليتقبل الأفكار العلمانية الصريحة التي ينادي بها المحتل وأعوانه من أقباط مصر أو النصارى العرب القادمين من الشام.
إذاً فالحل هو صنع طائفة جديدة ترتدي المسوح الإسلامية وتقوم بمهمة (تمرير) الأفكار التغريبية العلمانية بين أفراد المجتمع، وخير من سيقوم بهذه المهمة: الشيخ! محمد عبده الذي كان محبطاً من جدوى العمل (الثوري) -كما سبق-، ومن معه من النبهاء أصحاب الطموح السياسي أو أصحاب الشذوذ الفكري . يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله بأن المستعمر الإنجليزي قام لأجل ذلك بـ"تربية جيل من المصريين العصريين الذين يُنَشؤن تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير…"
وقال الدكتور مبيناً خطورة المهمة التي قام بها محمد عبده ومدرسته العصرانية: "وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يُشوّش قيمه ومفاهيمه الأصيلة بإدخال الزيف على الصحيح، ويثبت الغريب الدخيل ويؤكده. فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أن هذا الذي غُلبوا على أمرهم فيه ليس من الإسلام، والأمل قائم في أن تجيئ من بعدُ نهضة صحيحة ترد الأمور إلى نصابها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءهم من بعدُ من يريد أن يردهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتهموه بالجمود والتمسك بظاهر النصوص دون روحها" .
-كانت عملية صناعة الطائفة (العصرانية) تتم من خلال الصالونات التي انتشرت بعد الاحتلال الإنجليزي، لا سيما صالون الأميرة (نازلي فاضل) التي كانت -كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- المرأة "الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تُبث منه الدعوة إلى التغريب.." فكان صالونها شبكة صيد لكل طامح نابه مؤهل لتأدية الدور "العصراني" الذي سيقوم به ! وكانت هذه الصناعة تتم تحت نظر المندوب الإنجليزي في مصر (اللورد كرومر) الذي كان من خلال هذا الصالون كما يقول الدكتور رفعت السعيد "يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية" ، وقد وجد بغيته وصيده في الشيخ! محمد عبده وتلاميذه المتأثرين به.(36/123)
يقول الدكتور فهمي الشناوي عن الثعلب كرومر: "ابتداء من 1905م بدأ أخطر وأخبث حيلة؛ حيث ابتدأ في اصطياده نبهاء الأمة الإسلامية في شبابهم، ليلتقطهم ويسند إليهم مناصب كبيرة تخدم خط تكوين قومي على حساب الأمة: التقط سعد زغلول وأسند إليه وزارة المعارف 1906م أهم الوزارات. والتقط الشيخ محمد عبده وجعله مفتي للديار، وبذلك ضمن أولاً تفريغ صفوف الأمة الإسلامية من رجالها ونقلهم إلى صف التفاهم مع الغرب، والتفاوض مع الغرب، واتخاذ الغرب نموذجاً ولو جزئياً ولو ثقافياً.
وأنشأ لنفسه مكاتب وصالونات تروج لفكرة اصطياد نبهاء الأمة -مثل صالون الأميرة ناظلي فاضل، وتم اصطياد لطفي السيد الذي اندفع اندفاعا أعمى ضد الأمة بمقولة "مصر للمصريين" أي ليست للإسلاميين حتى لو صارت للقبط ما داموا مصريين! وأسموه فيلسوفاً دون أن تكون له أدنى علاقة بالفلسفة.
واصطاد عبد العزيز فهمي حتى أصبح قاضي قضاة مصر، ولكن بالقانون النابليوني لا بالشريعة !
واصطاد قاسم أمين الذي روج بدعوى مساواة المرأة إلى خلخلة تقاليد وأعراف المجتمع الإسلامي .
واصطاد عبد الرحيم باشا الدمرداش ليجعل للصوفية على الوعي السياسي الإسلامي قدحا معلى.
واصطاد خلفاؤه من بعد نبهاء؛ أمثال عبد الخالق ثروت وطه حسين، وعناصر قبطية؛ مثل البروتستانتي مكرم عبيد سكرتير المستشار القضائي، الذي وصل لقمة الحركة الوطنية، واليهودي رينيه قطاوي الذي وصلوا به إلى وزير مالية لسعد زغلول وزوجته وصيفة للسراي، ومئات غير هؤلاء. وهذا كله لصياغة مجتمع جديد من عجينة جديد" .
ويقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز" لعلمه بأن المجتمع المسلم قد يتقبل من هذه الطائفة المتدثرة باللباس الإسلامي ما لا يتقبله من الاحتلال أو من العلمانية.
أما عن الأفكار التي كان الاحتلال يريد ترويجها بين المسلمين عن طريق الطائفة (العصرانية) بقيادة الشيخ ! محمد عبده فهي:
1-التقريب بين المسلمين والكفار، وقد ابتدأت جهود محمد عبده في هذا الأمر عندما كان منفياً في بيروت حيث أسس جمعية للتقريب بين الأديان -كما سبق- ومن أقواله: "نستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما على الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" !
ويقول لتلميذه رشيد رضا: "إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي" .
2-إماتة روح الجهاد في الأمة الإسلامية، وهو أمر مترتب على السابق، يقول الدكتور فهد الرومي: "لعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان: القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام. فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق، وليس بينها من فرق، فليس هناك من داعٍ لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً" .
قلت: ولهذا كان محمد عبده يرى بأن الجهاد في الإسلام هو للدفاع فقط! ويقول: "القتال فيه -أي الإسلام- لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله" . وهكذا كان رأي تلاميذه من بعده .
بل لم تقتصر محاولة إماتة الجهاد عند محمد عبده على بلاد مصر فقط بل كان يرسل النصائح بذلك إلى علماء الجزائر المحتلة حينذاك من فرنسا!
ومن ذلك قوله للشيخ الجزائري عبد الحميد سمايا سنة 1903م بعد أن نصحه: "الناس محتاجون إلى نور العلم، والصدق في العمل، والجد في السعي؛ حتى يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم من أهل الأمم الأخرى" !! فالمهم عند عبده ومن سيتبعه من العصرانيين! "أن يعيش في سلام وراحة" وإن كانت بلاده محتلة مستعبدة من عبّاد الصليب !
والعجب لا ينقضي من حال محمد عبده، الذي انعكست الأمور عنده، فجعل جهده وجهاده -كما سبق- في تهييج المسلمين على ولي أمرهم، والمساهمة في الخروج عليه. وهو أمر لا يقره الشرع. ثم تجده هنا عندما احتاج المسلمون إلى جهاد الكافر المحتل، وهو أمر شرعي، يثبط عن ذلك ويرضى بالمسالمة ! فحُق أن يقال له ما قاله أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى*** مضر كوضع السيف في موضع الندى!
3-الدعوة إلى الوطنية الإقليمية، وعزل مصر عن العالم الإسلامي. ولمحمد عبده في هذا المقام أقوال كثيرة تؤسس لمثل هذه الفكرة الجاهلية التي تطورت من بعد على يد تلاميذه؛ لاسيما أحمد لطفي السيد صاحب شعار "مصر للمصريين"!
ومن ذلك: قول محمد عبده: "يا أبناء الوطن: لئن فرق بينكم اختلاف الآراء، وتنوع المشارب، وتلون التصورات، فقد وجدتم في الجامعة الوطنية ما تأتلفون به وتجتمعون عليه.."
ثم تبنت الثورة العرابية التي هي ثمرة أفكار العصرانيين هذه الوطنية الجاهلية. يقول الدكتور فهمي الشناوي: "الثورة العرابية هي مأساة إجهاض الأمة الإسلامية؛ حيث انتهت بانفصال مصر عن الخلافة، وبدأت تتكون مصر كوطن.."(36/124)
4-الدعوة إلى "تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية" من خلال: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حتى دخل منه القادر وغير القادر، وصاحب الورع وأصحاب الهوى؛ فظهرت الفتاوى الشاذة من جراء ذلك .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "إن الاجتهاد في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطر غير مأمون العواقب؛ يخشى معه أن يتحول -من حيث لا يدري المجتهد إن وجد ومن حيث لا يدري- إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو معجب بها. فإذا لم يكن معجباً بها فالمجتمع الذي هو معجب بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهاله الذي يتصدون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون حتى يفقد ثقته في نفسه، ويعتبر به غيره، فيفتي حين يُستفتى وعينه على الذين يفتيهم يريد أن يرضيهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاء للخلق، ويذهل عما عند الله تعجلاً لما عند الناس" .
قلت: وللشيخ! محمد عبده نصيب كبير من هذه الفتاوى (العصرية) التي طوعت أحكام الإسلام لما يريده المحتل الأجنبي أو ما يريده أهل العصر؛ كفتواه بإباحة ربا صناديق التوفير، وإباحة ذبائح النصارى التي يضربونها بالبُلط ولا يذكرون عليها اسم الله! ولدى العصرانيين في كل زمان ومكان مزيد ! .
يقول الدكتور محمد محمد حسين معلقاً على فتاوى عبده : "مثل هذه الآراء قد تبدو في ظاهرها لا بأس بها، ولا غبار عليها، بينما هي في حقيقة الأمر تدعو إلى مذهب التحرر (Libe r alism) الذي يذهب في التسامح الديني إلى درجة تكاد تنمحي معها الحدود الفاصلة بين المذاهب والنحل" . وهذا كلام نفيس يغيب عن السذج الذين ينظرون إلى مثل هذه الآراء على أنها مسائل فقهية مجردة.
5-الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، وهو هدف أساس لدى الكفار في كل حين وآن، وقد قام الشيخ ! محمد عبده ومدرسته بتحقيقه أيما تحقيق.
أما الشيخ! فقد صدرت مجلة (السفور) بإشارة منه . وقد شارك مشاركة فعالة في تأليف كتاب (تحرير المرأة) لتلميذه قاسم أمين كما أثبت ذلك بعض الباحثين . وأما تلاميذه فقد اشتطوا أكثر منه في هذه القضية؛ فتلميذه قاسم بعد ست سنوات من تأليفه (لتحرير المرأة) كشر عن أنيابه وأبان عن حقيقة فكرته التغريبية في كتابه الآخر (المرأة الجديدة) "الذي بدأ فيه أثر الحضارة
الغربية واضحاً" "وبينما كنت تراه هادئا في كتابه الأول، يحوم حول النصوص الإسلامية، ويمتص رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة، انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه، عبارات لا تقرها المرأة ذاتها. فهو لا يقبل بزعمه: حق ملكية الرجال للنساء!"
وتلميذه الآخر سعد زغلول كان من المؤيدين بشدة لهذه الفكرة وكان -كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- : "المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين" وذلك بواسطة زوجته صفية التي كانت من أوائل المتحررات.
وأما لطفي السيد، فقد قال الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" .
وقال -أيضا- : "ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" .
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حسن تفكيره" .
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجامعة المصرية) هو وأصحابه -وعلى رأسهم طه حسين!- بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهن في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها".
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
والخلاصة كما يقول الشيخ ناصر العقل -حفظه الله-: "تركيز الاتجاهات العقلية الحديثة على إفساد المرأة من الأمور التي أصبح يدركها ويدرك آثارها وخطرها جميع الناس على مختلف مستوياتهم، وقد فعلت وقطعت في ذلك خطوات واسعة، ولا أظنني مبالغاً حين أرى أن نجاح الاتجاهات العقلية في إفساد الأمة والعقيدة والناشئة الإسلامية عن طريق إفساد المرأة أكثر منه عن طريق غيره من الوسائل الأخرى الفكرية والعملية"
كيف صُنعت العصرانية ؟ !
لقد استخدم الإنجليز في مصر بقيادة الثعلب كرومر خطة ماكرة في سبيل صناعة الطائفة العصرانية وتقديمها لأبناء المجتمع المصري المسلم كممثل للصوت الإسلامي، وهي في حقيقتها مجرد وسيط ناقل للأفكار العلمانية التغريبية التي ترسخ الوجود الأجنبي والثقافة الغربية. ومن المهم جدًا معرفة نقاط هذه الخطة الماكرة؛ لأنها مما كرره ويكرره الغرب وأذنابه في مختلف بلاد المسلمين ؛ليحذرها أهل الإسلام - لا سيما الدعاة - . فإليك ما تبين لي منها:(36/125)
1-الثناء والمديح من الغرب على الطائفة العصرانية: وأنها تمثل (وسطية) الإسلام! واعتداله! فمن ذلك: قول اللورد كرومر عن محمد عبده ومدرسته: "لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883م كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق فعين الشيخ بعد ذلك قاضياً في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة. وفي سنة 1899م رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع مابه من سعة العقل واستنارة الذهن. وأذكر مثالاً على نفع عمله: الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير، فقد وجد لهم باباً به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عاماً . والغاية العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني. فعملهم شاق وقضاؤه عسير: لأنهم يُسْتهدفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين.
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ولكنهم قليلون، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلالة والخروج عن الصراط المستقيم، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة. فهم وسط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غير أن معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين إذ هؤلاء لا يكاد يسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية المصرية أولا، وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام، إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه. فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين" .
وقال أيضاً: "إن حزب الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر"
وقال عنه أيضاً: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى"
ويقول الأستاذ سيد يوسف في كتابه (الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد..، ص67): "أدرك كرومر منذ البداية دور التهدئة الذي يمكن أن يقوم به محمد عبده؛ فأثنى عليه، وتظاهر له بتشجيع مشاريعه وطموحاته..".
ويقول أحد المستشرقين عن محمد عبده : "يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث….. إن كتابات الشيخ محمد عبده تمتاز بشيء من الجدة في روحها … إلخ المديح"
ويقول الدكتور الإنجليزي ادوارد براون عنه : "ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله" !!
يقول الدكتور محمد محمد حسين عن محمد عبده: "كثرة من النصوص في كتب ساسة الغرب ودارسيه تصور رأيهم فيه وفي مدرسته وتلاميذه ومكانه من الفكر الحديث، وهي جميعاً تتفق على تمجيده والإشادة به وبما أداه للاستعمار الغربي من خدمات؛ بإعانته على تخفيف حدة العداء بينه وبين المسلمين.."
2- تسليط الأضواء عليهم وتلميعهم عبر وسائل الإعلام!(36/126)
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في كلام خطير ينبغي تأمله: "والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال -أي العصرانيين- قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها، والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه. فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام -كما لاحظ جب في كتابه (Mode r n T r ends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاء الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن يُنسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائم ما اتصف به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهماً أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سو قصد، وليس مهماً أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنتهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأت بعيدة عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلها وعمل على ترويجها. المهم في الأمر هو أن المجد الذي ينسب لهؤلاء الأفراد ليس من صنعهم ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها، ولكنه من صنع القوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن تستغلهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار أو هي الصهيونية العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.
وخطة الاستعمار والصهيونية العالمية في ذلك كانت تقوم -ولا تزال- على السيطرة على أجهزة النشر التي نسيمها الآن (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَون ويُنَشَّؤن بالطريقة التي يُبْنى بها نجوم التمثيل والرقص والغناء، بالمداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرين الذين يصورون وجهات النظر المعارضة، أو تشوَّه آراؤهم وتُسفَّه، ويُشهَّر بهم. ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل"
قلت: وهذا كلامٌ نفيس من رجل خبر القوم، يحق لأهل الإسلام أن يتأملوه ؛ فيتثبتوا من خطواتهم .
ويقول رحمه الله متحدثاً عن رأسي العصرانية في هذا الزمان: الأفغاني وعبده، وهو حديث ينطبق على مدرستهما : "كان من وراء الأفغاني ومحمد عبده كليهما قوتان كبيرتان تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذكرهما، وهما: الماسونية -قمة الأجهزة الصهيونية السرية- والاستعمار. وقد نجحت هاتان القوتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كله، وفي إضعاف أثر أعدائهما الكثيري العدد من علماء الإسلام المعاصرين، وحجب ما كتبوه عن جمهور القراء، فلم يمض على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر -موطن المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني- عامراً بأنصارهما الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)"
3- تشجيعهم ودعمهم في تولي المناصب المهمة:
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "وقد ظل أصدقاء محمد عبده وأنصار دعوته يكثرون بما يلقون من تشجيع الإنكليز، الذين كانوا يمكنون لهم في إدارات الحكومة وفي مناصب الدولة الكبرى"
ويقول اللورد كرومر: "إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة، ولكنه عمل شاق، فضلاً عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين، كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء، لولا أن الإنكليز أيدوه بقوة"
وأما سعد زغلول فقد اختاره اللورد كرومر -كما سبق- وزيراً للمعارف . وكان سعد يقول عن اللورد كرومر -كما في مذكراته- : "كان يجلس معي الساعة والساعتين، ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية"!
وبعد وفاة محمد عبده استمر الدعم لتلاميذه وتياره الذي تمثل في حزب "الأمة". يقول أحد الباحثين الأجانب: "لقد تلقى حزب الأمة عونًا حقيقياً وأكيدًا من اللورد كرومر"
--------------------------------------------------------------------------------
العصرانية والعلمانية وجهان لعملة واحدة !
من تأمل جيدًا أهداف وأفكار (العصرانيين) وجدها نفسها أهداف وأفكار (العلمانيين)، وإنما الفارق شكلي: وهو أن (العصرانيين) قدموا أفكارهم بعد أن غلفوها وألبسوها اللباس (الشرعي)، وأما (العلمانيون) فلم يفعلوا هذا.
فالطائفتان تلتقيان في نهاية الأمر حول أهداف واحدة: كالتقارب بين الأديان، والدعوة للديمقراطية الغربية، والتهوين من شأن الحكم بما أنزل الله، والتحايل على إسقاط أحكام الشريعة؛ لاسيما الحدود، والدعوة إلى تحرير المرأة.. الخ.(36/127)
لهذا: فإن عقلاء الباحثين ممن ينظرون إلى مآل الأفكار لا حاضرها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من غيرهم لم يخفَهم هذا الالتقاء بين الطائفتين، ورأوا أن الطائفة العصرانية إنما هي بوابة وقنطرة للعلمانية، وأنه لا مكان في جميع الأفكار التي طرحوها للون الرمادي الذي يزعمون أنهم يتبنونه، وأنه وسط بين الأبيض والأسود، فهذا اللون -في الحقيقة- لا يوجد إلا في الأذهان، أما في أرض الواقع فلا مجال إلا بالتزام أحكام الإسلام وهو اللون الأبيض، أو اللحاق بركب العلمانيين، وهو اللون الأسود. ومن ادعى أنه سيسير بينهما فهو واهم، وعن قريب هو صائر إلى أحدهما كما حدث لتلاميذ المدرسة العصرانية؛ حيث انضم أكثرهم إلى العلمانية (الخالصة)، وتراجع قلة منهم عندما عرفوا مصير السير وراء الأفكار التوفيقية الرمادية؛ كرشيد رضا .
1- يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري واصفاً وضع المدرسة العصرانية: "فالحاصل إن إدخال الأفكار الوافدة -بعد تشذيبها- ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فهي نظراً لكونها جزيئات من حضارة أخرى ذات محتوى اعتقادي مغاير، فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية الخاصة المعدية، والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك -بوعي أو دون وعي من التوفيقيين (أي العصرانيين) الذين قبلوها بشروطهم وضوابطهم- تتحرك حسب منطقها الذاتي وقوانينها الحركية الوافدة معها من كيانها الحضاري الأول، إلى أن تخلق دينامية مستقلة تؤثر على المركب الفكري التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية، أو تخل بالمعادلة كلها لتشق طريقها في تيار متميز خارج مجرى التوفيق. هذا إذا لم تنشطر التوفيقية إلى نقيضيها نتيجة لذلك.
وهذا ما يفسر خروج أشهر العلمانيين في الفكر العربي مثل لطفي السيد وطه حسين من تحت العباءة التوفيقية للشيخ محمد عبده"
2- ويقول ألبرت حوراني عن محمد عبده: "كان يريد أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى العلمانية"
3- ويقول الدكتور محمد كامل ضاهر: "أعطى الشيخ محمد عبده تشجيعاً كبيراً للعلمانيين ومنطلقاتهم الفكرية، بل إنهم اعتمدوا على الكثير من آرائه لدعم اتجاهاتهم وحركتهم في مجتمع مشبع بالقيم والتقاليد الدينية الراسخة. فماذا يطلب العلمانيون أكثر من رأيه في السلطتين الزمنية والدينية؟! ونظرته إلى العقل، ودوره في تنظيم شؤون الحياة والمجتمع؟ ورأيه في المرأة وفي كثير من المسائل المالية والاجتماعية التي اجتهد فيها لمصلحة الأمة والوطن والفقراء من الناس، وليس للمصالح الفردية؟. وإذا صح أن معظم ما كتبه قاسم أمين عن المرأة هو من بنات أفكار عبده فذلك يعني أن الرجل أصبح في أخريات عمره مشبعاً بالأفكار العلمانية الغربية ومتحمساً لها، حتى أنه كان في طليعة الدعاة لإنشاء الجامعة الأهلية المصرية التي افتتحت عام 1908. لقد تركزت استراتيجيته الحقيقية على إحياء حقائق الإسلام على ضوء الفكر الحديث، وعلى جعل الأخلاق قاعدة الحياة الاجتماعية والفكرية الجديدة في مصر، دون أن يحاول استئصال الماضي أو إحيائه كلياً، بل اعتمد هذا الماضي كأساس لبناء مجتمع متطور توفره ثقافة الغرب العقلية وعلومه الحديثة.
وإذا كان عبده قد حاول أن يكون سدًا منيعاً أمام العلمانية المادية التي حملها المهاجرون الشوام المسيحيون إلى مصر، فإن ما طرحه من أفكار تنويرية جعل معظم العلمانيين المسلمين يتخذون من أفكاره سلاحاً يدافعون به عن معتقداتهم الهادفة إلى علمنة كاملة للمجتمع الإسلامي العربي، وفي طليعتهم قاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وزملاؤه في حزب الأمة"
4- ويقول النصراني (جب) عن محمد عبده: "إن ما أثر على نفوس قرائه العلمانيين: تلك الروح التي عالج بها مسائل العقيدة والتطبيق؛ لاسيما القوة التي حارب بها التعليم التقليدي"
5- ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه (تاريخ مصر السياسي) عن محمد عبده وتلاميذه بأنهم: "كانوا أكثر فعالية من كل العلمانيين الصرف" !
6- ويقول الأستاذ نعيم عطيه : "ولا شك في أن محمد عبده لعب دوراً رئيسياً في محاولة التوفيق بين المبدأ الديني والعلم، وبذلك أعطى العقل سندًا قوياً منتصراً له على التقليد. وفتح في الخط الديني الملتزم ثغرة كبرى أتيح بفضلها للتيار العلمي أن يدخل حلبة الصراع الفكري ويثبت أقدامه قوة قائمة بذاتها. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحول التيار العلمي على صعيد العمل السياسي البحت إلى دعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة" .(36/128)
7- ويقول الشيخ سفر الحوالي : "لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوربية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي، وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية. وهو قائم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً. أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار (الشيخ) الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغيير العلماني"
8- ويقول الشيخ ناصر العقل عن محمد عبده وتلاميذه: "لهم آراء ومناهج ليست علمانية (صريحة) لكنها في سبيل العلمنة"
9- ويقول الدكتور سعيد الزهراني: "لقد تركت أفكار محمد عبده أثرها على تلاميذه، ومن جاء بعده، بل لقد عظمت حتى وصلت إلى الصراحة بموافقة الفكر الغربي العلماني"
10- ويقول الشيخ محمد بن إسماعيل : "لقد كان محمد عبده يريد أن يقيم سدًا في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية اللادينية:
رام نفعاً فضر من غير قصد ** ومن البر ما يكون عقوقا"
11- ويقول الأستاذ محمد حامد الناصر بعد دراسته لأفكار العصرانيين : "حقيقة العصرانية: دعوة إلى العلمانية" ثم ذكر أقوالاً لبعض العصرانيين الأحياء؛ كحسن حنفي ومحمد عمارة يصرحون فيها بتبني العلمانية.
12- ويقول الدكتور عبد الرحمن الزنيدي: "لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية أن تقمص بعض أتباعها رداء الإسلام؛ ليتحركوا تحت رايته بعلمانيتهم بأسماء مختلفة؛ كالإسلام التقدمي، وفكر الإستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي…"
العلمانيون يدعمون العصرانيين!!
لقد عرف العلمانيون حقيقة أفكار العصرانيين، وأنها نفس أفكارهم، ولكنها تجد القبول من سُذج المسلمين نظراً لواجهتها الإسلامية، وكونها تستتر خلف الشيخ!! فلان، والداعية!! علان، بخلاف أفكارهم العلمانية الصرفة، ولهذا فقد تترسوا بهم، ووجدوا فيهم خير مطية يمتطونها لاختراق المجتمعات الإسلامية التي لم تجد العلمانية فيها موطئ قدم، وجعلوهم طليعة لهم في غزو تلك المجتمعات وخلخلتها بطرح الأفكار المتنوعة المناسبة لهم، التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وكسر هيبة كبار العلماء، وشق وحدة الصف فيها؛ ليسهل عليهم بعد ذلك التمكن منها.
ولهذا كله: فلا تعجب إن سمعت أو قرأت بأن فلاناً (العصراني) يُكال له المديح من جماعة العلمانيين، ويُصدر مجالسهم وندواتهم، وتُفتح له وسائلهم، ويكتب في صحفهم؛ لأن الجميع قد التقوا على أهداف واحدة؛ فانطبق عليهم قوله تعالى (ربنا استمتع بعضنا ببعض… الآية) .
ودعم العلمانيين للعصرانيين يكون بالآتي:
1-إفساح المجال لهم ليبثوا أفكارهم عبر الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في مقابل تهميشهم لأهل الإسلام من دعاة الكتاب والسنة، الثابتين على الحق، غير المتلونين أو المتذبذبين.
2-المبالغة في مدحهم ووصفهم بصفات الاعتدال والوسطية وسعة الصدر للآخرين….الخ. مع لمز أهل الإسلام ودعاة الكتاب والسنة بضيق الأفق، والتحجر!، وعدم قبول الآخر!!..الخ
فعلى سبيل المثال: هذا (العلماني) الشهير الدكتور جابر عصفور في كتابه "هوامش على دفتر التنوير" يهاجم علماء ودعاة الكتاب والسنة من أمثال الشيخ ابن باز -رحمه الله- والدكتور عوض القرني وغيرهم. ثم في المقابل يكيل المديح لمحمد عبده وتلاميذه ويختم مديحه قائلاً: "إن كرامة هذه الأمة في التاريخ قد أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وحين لم نبدأ من حيث انتهى إليه أمثال طه حسين وأحمد زكي أبو شادي، وحين قمعنا العقل بالتقليد، والشك بالتصديق، وحين استبدلنا بأمثال الشيخ محمد عبده ومحمد فريد وجدي قوماً آخرين" قلت: وهذا من قبيل "ليس حباً في علي وإنما بغضاً لمعاوية"!
ويقول في مقدمته لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق: "وبقي الكتاب نفسه وثيقة رائعة من وثائق التنوير، وثيقة تعلمنا أننا ننتمي إلى تراث عظيم، وأن لنا من المشايخ ما نفخر به: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وأمثالهم، هؤلاء هم الذين ننتهي إليهم، وهؤلاء هم الذين أسهموا في صنع وعينا الحديث وإيماننا الراسخ بالدولة المدنية وبالمجتمع المدني، وهؤلاء هم الذين علمونا أن لا تناقض ولا تعارض بين الدين والدولة المدنية التي تسعى إلى التقدم، أو بين رجل الدين والمجتمع المدني الذي يتسلح بالعلم، ويبني مستقبله بهذا العلم، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المشايخ العظام أقرانهم من الأفندية دعاة التنوير، أدركنا أن ما تقوم عليه نهضتنا وثقافتنا أقوى وأعظم من أن يتأثر بأية هبة من هبات الإظلام"!!(36/129)
3-عدم السماح لأحد بنقدهم أو النيل منهم، بل إحاطتهم بهالة من القداسة المصطنعة .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "ومن شاء أن يعرف المكان الصحيح والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني أن ينظر في الصحف اليومية والمجلات الدورية وفي كتب الكتاب اللبراليين الذين لا يسمحون بأن يُمس أي منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كل من يمسهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكتاب لا يُعرفُ عنهم غيرة على الإسلام في غير هذا الموضع، بل إنهم لا يثورون حين يُمس رسول الإسلام r وأصحابه، ويرون أن ذلك مما تسعه حرية الفكر واختلاف الرأي، بل إنهم يلتزمون التزاماً دقيقاً أن لا يُذكر اسم محمد عبده إلا مقروناً بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسو صلى الله عليه وسلم مجرداً، ويستكثرون إذا ذُكر الرجل من أصحابه أن يقولوا "سيدنا فلان" أو يُتبعوه، كما تعود المسلمين أن يقولوا في الدعاء له: رضي الله عنه"
4-التحسر عليهم وتكريمهم حتى بعد مماتهم !
وقد سبق تحسر العلماني جابر عصفور على أئمة العصرانية.
ويشهد لهذا ما قام به العلمانيون في مصر من تأبين لمحمد عبده بعد وفاته، وعمل حفلة خاصة به في الجامعة المصرية؛ لتعداد مآثره!
نهاية العصرانية :
لقد قام العصرانيون بمهمتهم خير قيام، ثم اختفوا بعد أن عبَّدوا الطريق لطلائع العلمانيين الذين تولوا قيادة المجتمع المسلم بعد أن تمت خلخلته من قِبَل أفراد التيار العصراني؛ فقطفت الجماعة العلمانية بقيادة (جمال عبد الناصر وإخوانه) الثمرة بعد حين، عند سقوط الملكية في مصر ، فقاموا -أخزاهم الله- بتنفيذ مخططات الغرب في علمنة وتغريب المجتمع المسلم علانية ودون خفاء.
أما العصرانيون بعد ذلك فلا تُحس منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا ؟! لقد اختفوا من الساحة يندبون حظهم ويجرون أذيال الخيبة والذل الذي أورثوه قومهم عندما جعلوا منهم لقمة هنيئة لبني علمان، فهل من معتبر ؟
نتائج مهمة :
أولاً: أن العداوة بين المسلمين والغرب (اليهودي النصراني) مستمرة إلى يوم القيامة؛ بنصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً).. إلى غير ذلك من الآيات.
ثانياً: أن الغرب الكافر استغل تأخر المسلمين واصطدامهم بحضارته المادية في صنع العصرانية ليتخذها وسيلة لمسخ بلاد المسلمين.
ثالثاً: أن لجوء بعض الإسلاميين للثورة والتهييج قادهم بعد فشل مشروعهم المخالف للكتاب والسنة إلى الارتداد للفكر العصراني؛ لأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومخالفة له في الوجهة. ولو لزم هؤلاء المسلك الشرعي منذ البداية لما تورطوا في تبني طرفي النقيض: التهييج ثم العصرنة .
رابعاً: قام بعض الإسلاميين -وقد يكون ذلك عن حسن نية منهم وبسبب تقصير بعض العلماء - بكسر هيبة كبار العلماء، وتنفير الشباب منهم؛ مما أدى بالشباب إلى الإنصراف عن علمائه ولجوئه -تعويضاً للمرجعية- إلى غيرهم من أهل الطموح السياسي، قليلي العلم والورع، ممن قد لا يرتضيهم ذلك البعض من الإسلاميين الذين يحق فيهم المثل العربي: (يداك أوكتا وفوك نفخ).
يقول الشيخ مصطفى صبري عن الشيخ العصراني محمد عبده: "لما أراد النهوض بالأزهر حارب علماءه القدماء، وفض المسلمين وخصيصًا الشباب المتعلمين من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى، فأصبح بفضل النهضة التي نادى بها الشيخ محمد عبده يقول رجل مثل الدكتور زكي مبارك "الرسالة" عدد 572: "نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة (يريد بهم علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين" .
خامساً: أن تقصير كبار العلماء -إما في مكافحة الانحراف أو التصدي لقضايا المسلمين أو للظلم ونحو ذلك- ليس مسوغًا لصرف الشباب المسلم عنهم؛ لأنهم -أي الشباب- كما سبق سيلجئون إلى غيرهم من أهل الزيغ الذين يفوق زيغهم وانحرافهم تقصير أولئك العلماء الكبار . إنما كان الواجب على دعاة الإسلام أن يوثقوا العلاقة بعلمائهم ويربطوا الشباب بهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويشدوا من أزرهم في الوقوف صفًا واحدًا أمام أعداء الإسلام ممن يريد خلخلة المجتمع المسلم ويستغل بخبث هذا الفصام بين الفئتين المؤمنتين. قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
سادساً: أن الطائفة العصرانية لابد لها من (شيخ) متزود بالعلم الشرعي -الذي يحجزه عن كثير من انحرافاتهم- تقف وتتترس وراءه! أما بدون هذا (الشيخ) فإنها لن تفلح في مسعاها؛ لعدم قبول المسلمين لها؛ نظرًا لضحالتها الشرعية وزيغها الواضح.
وقد كان هذا (الشيخ) يتمثل في محمد عبده.(36/130)
يقول الأستاذ بسطامي سعيد: "نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني؛ من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحياناً؛ بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورد للسنة الصحيحة أحياناً لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده، فتضخمت في مجموعة منهم، وصارت مضاعفة مكبرة"
سابعاً: أن هذه الفئة المتترسة خلف (الشيخ) العصراني، لن تكتفي باجتهادات (شيخها)، أو تقف عند الحدود التي حدها لهم ويرى أن في تجاوزها خطرًا على دينهم؛ نظرًا لمعرفته بالنصوص الشرعية! بل ستتجاوزها وتتخطاها باجتهادات كثيرة لا خطام لها ولا زمام؛ لأنه لا ضابط لهم حينها؛ نظرًا لضحالتهم الشرعية. لاسيما وقد استفادوا من (شيخهم) العصراني روح التجديد! والاجتهاد! وتجاوز الأعراف والتقاليد!… الخ زخارف القوم.
ولقد تنبه أحد الأذكياء (وهو المنفلوطي) إلى خطورة هذا الأمر في دعوة شيخه العصراني محمد عبده فخص هذا بمقالة جميلة تخيل فيها أنه استمع إلى حوار بين شيخه محمد عبده وقاسم أمين في عرصات يوم القيامة ! فتأمل ماذا دار بينهما.
يقول المنفلوطي: "وبينما أنا أحدث نفسي بهذا الحديث، وأقلّب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر، إذ قال لي صاحبي: أتعرف هذين؟ وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان: أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسودّه، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين(!!) رجل الإسلام "محمد عبده" ورجل المرأة "قاسم أمين" فقلت لصاحبي: هل لك في أن ندنو منهما ونسترق نجواهما من حيث لا يشعران؟ ففعلنا، فسمعنا الأول يقول للثاني: ليتك يا قاسم أخذت برأيي وأحللت نصحي لك محلاً من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدّته من الأدب والدين، فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذُّلها وإراقة تلك البقية الصالحة التي كانت في وجهها من ماء الحياء، فقال له صاحبه: إني أشرت عليها أن تتعلم قبل أن تسفر، وأن لا ترفع بُرقُعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياء، قال له: ولكن فاتك ما كنت تنبّأت به من أنها جاهلة لا تفهم هذه التفاصيل، وضعيفة لا تعبأ بهذا الاستثناء، فكنت كمن أعطى الجاهل سيفاً ليقتل به غيره، فقتل نفسه.
فقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك قد وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ، وإنك نصحتني بما لم تنتصح به، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول. وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والمقاصد العالية الشريفة، فأرادوا غير ما أردت: وفهموا غير ما فهمت. فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين . أوَّلت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار! وبيّنت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفّهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها
جملة واحدة! وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق؛ فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له: ما زلت يا قاسم في أخراك، مثلك في دنياك، لا تضطرب في حجة، ولا تنام عن ثأر"
ثامنًا : أن المستفيد من نشوء العصرانية هو الغرب وإذنابه من العلمانيين المنافقين ، وأهل البدع . والخاسر هو المجتمع المسلم، ودعاة الإسلام وولاة الأمور. وهذا واضح.
شبهة وجوابها :
قد يقول قائل : نحن معك في أن الفكر العصراني خطرٌ على الإسلام وأهله، وأن المستفيد الوحيد منه هم الأعداء (كفارًا وأهل بدع ومنافقين) كما رأينا في الحالة المصرية، ولكن: ألا ترى بأن انتشار هذا الفكر المتميع والمتمسح بالإسلام يخدم ولاة الأمور ؛ حيث يحققون من خلاله بعض ما يريدون من المشاريع والأفكار الاجتماعية (لا سيما المتعلقة بالمرأة!) التي لن يتقبلها المجتمع المسلم؛ لأنه يرى تعارضها مع أحكام الإسلام، ولكنه يقبلها إذا ما تحلت بالزي الشرعي الذي سيُلبسه إياها أولئك العصرانيون، فيستفيد ولاة الأمور تمرير هذه المشاريع والأفكار التي يرون في قبول المجتمع المسلم لها تخفيفًا من ضغوط أعداء الإسلام عليهم ؟! .
ولهذا كله سيقوم ولاة الأمور بدعم هذه الفئة العصرانية والتمكين لها، وتصديرها، وتهميش من يعارضها !
فأقول : الجواب عن هذه الشبهة يكون بفهم هذه الأمور:
أولاً: أن صاحب الشبهة جزم بأن ولاة الأمور يريدون تحقيق بعض المشاريع والأفكار الإجتماعية التي تخالف أحكام الشرع. وهذا سينازعه فيه آخرون يرون خلاف ذلك ومعهم من الأدلة أضعاف مامعه ، والأصل إحسان الظن .(36/131)
ثانياً : أن صاحب هذه الشبهة لم يفهم العصرانية حق الفهم ! وظن أن طموح أصحابها هو مجرد تحقيق بعض المشاريع والأفكار في المجال (الاجتماعي) فقط، ناسيًا أو متغافلاً أن هذا الفكر لا يقتصر على هذا المجال وحده؛ بل يزامله أو يفوقه المجال السياسي والاقتصادي ، وما تجربه عصرانيي مصر عنا ببعيد. حيث كانت معظم جهودهم منصبة على المجال السياسي، أما غيره فيأتي تبعاً له؛ مع ملاحظة أن تلك المجالات تأتي متكاملة في منظومة هذا الفكر الذي خلاصته "تطويع الإسلام في جميع المجالات بما يناسب العصر" .
ولهذا : فمن يريد قبول أفكار ومشاريع العصرانيين في المجال (الاجتماعي) دون غيره من المجالات فهو واهم؛ لأن هذا أمر لن يتحقق؛ لأن الفكر العصراني لا يمكن تحقيق بعضه دون بعض .
وولاة الأمور لدينا ليسوا سُذجًا أو غافلين عن حقيقة هذا الفكر ومنتهاه.
ثالثا : أن في تجربة العصرانية في مصر عبرة للمعتبرين؛ وعلى رأسهم ولاة الأمور في بلاد المسلمين، حيث تسبب انتشار هذا الفكر في المجتمع إلى تقويضه. وسقوط دولته بعد تنازع أهله واختلافهم، وجرأتهم على حكامهم وعلمائهم، ثم وقوعه تحت سيطرة الأعداء وتهاويه إلى أقصى درجات الذل والمهانة .
فهل يرضى عاقل بمثل هذه النهاية الموجعة لبلاده ؟! (وما ربك بظلام للعبيد).
رابعًا: أن (الفكر العصراني) و(فكر التهييج) وجهان لعملة واحدة ! حيث خرج الفكران عن دعوة الكتاب والسنة ، وجرا على المجتمع المسلم الإنقسامات والتحزبات ، وأضعفا قوته واجتماعه .
فكيف يظن أحد أن ولاة الأمور قد يثقون في أصحاب هذا الفكر (بشقيه ) ، وهذا تاريخهم، وتلك مواقفهم تشهد عليهم بأنهم أصحاب (تقلب) و(تلون) ؟! .
وقارن هؤلاء بالعلماء الكبار من أتباع الكتاب والسنة، من الذين يصدرون في مواقفهم وأفكارهم عن عقيدة سلفية واضحة ثابتة تجاه ولاة أمور المسلمين، حيث يرون ولايتهم ولاية شرعية، ويطيعونهم في غير معصية الله ديانة واتباعًا للنصوص، بخلاف غيرهم من أهل (التهييج) أو (العصرنة) أصحاب (التقلب) و(التلون)، ممن يصدرون في مواقفهم تجاه ولاة الأمر من خلال (المصالح) وما يسمى (التكتيك المرحلي)!
فأي الفريقين أحق بثقة ولاة الأمور وتصديرهم والتمكين لهم ؟! .
يضاف إلى هذا أن كبار العلماء كانوا نعم النصير لولاة الأمور وقت الفتن والملمات، بخلاف غيرهم. فـ(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
خامسًا : أن ولاة الأمور -ولله الحمد- في غنية عن أفكار العصرانيين وطموحاتهم التي لا يخفى ضررها على عاقل، وذلك بما فضلهم الله به من قيام دولتهم على الكتاب والسنة، وبما أعانهم به من وجود علماء أجلاء ينيرون لهم الطريق وينبهونهم على ما يعترضهم من عقبات تخالف شرع الله. وما كان من تقصير فإنه يعالج بالنصيحة الشرعية المستمرة، دون (تهييج) أو (عصرنة).
سادساً: أن العاقل يعلم أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وتبديلها، فالأمور المحرمة والمخالفة لشرع الله لا يمكن أن تنقلب حلالاً وتصير موافقة للشريعة بمجرد تبني العصرانيين لها وادعائهم شرعيتها. فهذا كله ليس مسوغًا لأحد -وعلى رأسهم ولاة الأمور- أن يرتكب تلك الأمور المحرمة ويقرها. وهو ليس معذورًا عند الله تعالى بصنيعه هذا؛ لأن البينة قد جاءته، والحق قد ظهر له
بنصوص الكتاب والسنة وبفتاوى كبار العلماء الموثوق بعلمهم . فهل تظن -مثلاً- أن الربا سيكون حلالاً بمجرد التحايل عليه وتسميته (فائدة) ؟! وقل مثل ذلك في المحرمات الأخرى. لا شك بأن هذا أعظم جرمًا عند الله ممن يقع في هذه المحرمات دون تحايل أو مخادعة لله ولعباده المؤمنين، إنما عن تقصير وتساهل.
سابعاً : أن مواجهة الضغوط المتنوعة على بلاد التوحيد من قبل (اليهود والنصارى) لا تكون بالتساهل والتفريط في أحكام الشريعة؛ لأن عاقبة ذلك ستكون وبالاً على هذه البلاد؛ بسبب أن هذه الضغوط لن تنتهي بمجرد التساهل والتهاون في عدة أمور، بل ستزداد ضراوة وشدة؛ لأن العدو سيطمع في غيرها عندما يرى ذاك الانصياع لمطالبه. "ومن يهن يسهل الهوان عليه" .
فتلك المطالب ستكون نهايتها -والعياذ بالله- قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
أما الحل الشرعي لهذه الضغوط فيكون بالتالي:
1-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن الله قد أخبرنا عن عداوة اليهود والنصارى لكل من يرفع راية الإسلام، منذ نبينامحمد صلى الله عليه وسلم . وأنهم يتمنون أن يطاوعهم في كفرهم لكي لا يتميز عنهم. قال سبحانه (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)(36/132)
2-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: بأن الله قد أخبر بأن كل مسلم محكم لشرع الله سيسمع الأذى ويلقى الضغوط من الكفار. قال تعالى (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا). ولكن هذا الأمر -ما لم يستجب له المسلم- سيبقى في دائرة الأذى الذي يصيب كل مسلم مستقيم على شرع الله يحتسب الأجر من الله في سماعه والتعرض له. قال تعالى (لن يضروكم إلا أذى).
3-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن عاقبة الثبات على الحق أمام مثل هذه الضغوط ستكون سعادة وتمكينًا وعزًا نصرًا، وزوالاً لهذه الشدة، وفرجًا لهذا العُسْر. قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) فالمطلوب هو: الصبر على الأذى، والتقوى بلزوم أمر الله، والانتهاء عن معاصيه.
وقال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا)، وقال (سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). وهذا الأمر شامل للأفراد وللدول.
4-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن الاستجابة لضغوط الأعداء ومداهنتهم -ولو في أمر يسير- هو مما يسبب سخط الله وتسليطه العذاب والذل على من يسارع في رضا عدوه على رضاه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه محذرًا من هذا الأمر الشنيع: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا . فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله".
وقال سبحانه: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين). وقال: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق).
وقا صلى الله عليه وسلم : "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" .
5-أن يتأمل ولاة الأمور -وفقهم الله-: حال من تابع الأعداء من الدول الإسلامية طالبًا رضاهم، وخائفاً من سخطهم، كيف تسلطوا عليه، وأذلوه واستباحوا حرمته، وأفقدوه حريته.
فخسر آخرته بمسارعته في رضا الكفار على حساب دينه. وخسر العيش السعيد العزيز بتحكم العدو في بلاده وتسلطهم عليه وإن كان يتخيل له خلاف ذلك!! فهو كما قال تعالى (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين).
أما من حكم شرع الله واستقام وثبت عليه، ولم يأبه بضغوط العدو وتخويفه فإن عاقبته حميدة في الدنيا والآخرة، على هذا جرت سنن الله تعالى "ومن يتصبر يصبره الله".
أسأل الله أن يثبت ولاة أمورنا على الحق، وأن يوفقهم للبطانة الصالحة، ويجنبهم البطانة الفاسدة.
نصيحة أخيرة لكلٍ من :
1-علماء الإسلام ودعاته: بأن يحذروا تسلل الأفكار العصرانية إلى عقولهم ولو لم يكن ذلك عن تقصد منهم، وأن يثبتوا على الحق دون تنازلات أو مداهنة لأحد، وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) قال ابن كثير: "استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه، كفعل المنافقين".
وأن تكون مواقفهم مشرفة وقت الملمات التي تمر بالأمة، مبرئة لذمتهم أمام الله؛ لكي لا يلجأ الشباب إلى غيرهم -كما سبق-.
وأن يحذر بعض الدعاة بتستره على أهل العصرنة، ومجاملته لهم، والشد من أزرهم، أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله من آوى محدثًا" قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "والإحداث يشمل الإحداث في الدين؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة وغيرهم.. فمن آوى محدثًا فهو ملعون، وكذا من ناصرهم"
2- شباب الإسلام: بأن يلزموا الراسخين في العلم ويلتفوا حولهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويَحْذروا ويُحَذّروا من المتلبسين بالفكر العصراني المفسد، مهما حاولوا التضليل عليهم أو مخادعتهم بترويجه بينهم.
3- ولاة الأمور: بأن يقضوا على هذا الفكر المتسلل إلى بلاد التوحيد قبل أن يستفحل، فيكون وبالاً على بلادهم؛ وذلك بالتمكين لأهل العلم ودعاة الكتاب والسنة، وتصديرهم، وتمكينهم من توجيه الشباب، والاستماع إلى نصحهم.
وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا تمكين، ولا أمن، إلا بالثبات على دعوة الكتاب والسنة، دون تفريط أو تتبع لأهواء العصرانيين وانحرافاتهم .
أسأل الله أن يحمي بلادنا من الفتن، وأن يرد الكيد عنها، ويثبتها على الحق، ويباعد بينها وبين معاصيه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه سليمان بن صالح الخراشي
=============(36/133)
(36/134)
حديث (إن الله يبعث لهذه الأمة.. من يجدد لها دينها)
رواية ودراية
د. عبد العزيز مختار إبراهيم
مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية (العدد 68 صفر 1428 هـ ـ مارس 2007 م)
( اقتصرنا على القسم الخاص بالتجديد البدعي . الراصد )
التجديد البدعي:
ظهر بعض الكُتَّاب، ومن يسمون بالمفكرين الإسلاميين، وبعض رموز الحركات الإسلامية الحديثة، قد نحوا بالتجديد منحىً آخر لم يألفه السلف الصالح، تحت غطاء العصرانية والتقدمية، واليسار الإسلامي، والتوجه الحضاري، والفكر المستنير، وغيرها من الشعارات البراقة([1]).
مفهوم التحديد عند العصرانية:
العصرانية مصطلح حادث وهي: حركة تجديدية ظهرت في العصر الحديث في الغرب في الديانة اليهودية والنصرانية، وهي: حركة تدعو إلى تطويع مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية المعاصرة، وإخضاع الدين لاكتشافات العصر والحضارة الغربية([2]).
وقد تأثر بعض الكتاب الإسلاميين للأسف بتلك العصرانية الغربية، وجاءت كتاباتهم وطروحاتهم لمشاكل الأمة الإسلامية وإيجاد الحلول لها، وفق مناهج العصرانية الغربية.
أسباب ظهور العصرانية في الفكر الإسلامي الحديث:
عاشت أوربا عصر النهضة الحديثة في مطلع القرن التاسع الميلادي في كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية الاقتصادية، مقابل ما منيت به الدول العربية والإسلامية بكثير من التدهور والإنحلال والتفكك وأعقب ذلك إرسال البعثات العلمية خاصةً إلى البلاد الغربية، وإرسال خبراء وأساتذة للتدريس في الجامعات العربية، حيث تأثر كثير من المثقفين والمفكرين من أبناء المسلمين بما عند هؤلاء الأوربيين.
وكان من أشهر أولئك المتأثرين بما شاهدوا في الغرب: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي([3])، ثم تلى هذا الجيل، جيل كل من جمال الدين الأفغاني، والسيد خان، ومحمد عبده، وطه حسين، وغيرهم، ومروراً بعلي عبد الرازق، وقاسم أمين ومحمد إقبال، وإلى فتحي عثمان، ومحمد خلف الله، والدكتور محمد عمارة، والدكتور حسن الترابي، ومَنْ على شاكلتهم.
ولما كانت العصرانية الحديثة في الفكر الإسلامي المعاصر هي وليدة الفلسفة اليونانية، والفكر الاعتزالية سواء بسواء، إنما أُلبس لباس العصرانية كذباً وزوراً، وجه التشابه والتطابق بين العصرانية الحديثة والفلسفة الاعتزالية العقلانية القديمة.
1 ـ إذا كان المعتزلة تأثروا بالفلسفة اليونانية وبالمنطق اليوناني، وحاولوا تطويع العقيدة الإسلامية وتفسيرها بذلك المنطق والجدل، وكذلك فإن العصرانيين اليوم تأثروا بالحضارة الغربية المعاصرة وطوعوا الدين لإخضاع تلك الحضارة وفسروا نصوص الدين وفق نظريات وفلسفات تلك الحضارة.
2 ـ المعتزلة العقلانيون حكَّمُوا العقل، وجعلوه الأصل والفيصل، وقدموا العقل على الشرع والنصوص من الكتاب والسنة، كذلك العصرانيون اليوم، مثلاً بمثل، سواءً بسواء يداً بيد.
3 ـ كذلك المعتزلة أنكروا صحيح السنة النبوية، وأخضعوا نصوص السنة لعقولهم، وقسموا السنة إلى آحاد ومتواتر من حيث الحجية والاستدلال، كذلك عصرانية اليوم قسموا السنة إلى تشريعية وغير تشريعية.
4 ـ كذلك تطاول المعتزلة على حملة السنة من الصحابة الكرام والسلف الصالح من التابعين ومَنْ بعدهم، من نُقاد الحديث بالطعن، والسَّب، ورميهم بالسفه وقلة العقل، بل بالهوى والكذب، كما قال عمرو بن عبيد المعتزلي: (والله لو أن علياً وعثمان وطلحة والزبير شهدوا عندي على شِراك نعل ما أجزته)([4]) وقال في سَمُرة بن جندب رضي الله عنه: (ما تصنع بسَمُرة قبَّح الله سَمُرة)([5]). وكذلك العصرانيون تطاولوا على السلف من الصحابة وغيرهم([6]).
يقول محمود أبو رية: (إن القول بعدالة جميع الصحابة، وتقديس كتب الحديث يرجع إليها في كل ما أصاب الإسلام من طعنات أعدائه، وضيق صدور ذوي الفكر من أوليائه!)([7]).
5 ـ وإذا كان المعتزلة العقلانيون قد استخفوا بعلم السلف المبني على الكتاب والسنة، واستبدلوه بالفلسفة والمنطق، وأشادوا بالمنطق اليوناني، كذلك العصرانيون اليوم.
يقول الدكتور حسن الترابي: (القديم الديني، علم تقليدي جامد يقوم على عاطفة ساذجة)([8])، ويقول أيضاً مستخفاً بعلم أصول الفقه عند السلف: (لا بد أن نقف وقفة مع علم الأصول تصله بواقع الحياة، لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريداً، حتى غدت مقولات نظرية عقيمة لا تكاد تلد فقهاً ألبتة، بل تُوَلِّد جدلاً لا يتناهى)([9]).
بل إن العصرانيين ـ معتزلة اليوم ـ قد زادوا على معتزلة الأمس أشياء كثيرة مثل: الدعوة إلى الحرية، والديمقراطية الغربية، والخلط بينها وبين الشورى، والدعوة إلى الاشتراكية والقومية والحزبية، والدعوة إلى التقارب بين السنة والرافضة، بل بين الأديان كلها([10]).
مفهوم التجديد عند العصرانيين:
إذا كان مفهوم التجديد عند السلف الصالح هو العودة بالدين إلى ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإحياء لما اندرس من معالمه على وفق منهج السلف الصالح كما سبق.(36/135)
فإن مفهوم التجديد عند العصرانيين اليوم هو هدم لما كان عليه السلف، والقطيعة بين السلف والخلف، وتطويع الدين لإفرازات الحضارة الغربية المعاصرة، وتغيير الصورة التي ألفها المسلمون خلفاً عن سلف.
يقول الدكتور محمد البهي واصفاً لهم: (تلك المحاولات الفكرية التي يدعي القائمون بها إصلاحاً أو تجديداً في الإسلام، وهي في واقع أمرها اخضاع الإسلام للون معين من التفكير، أجنبي عنه، سواء في هدفه أو فيما يصدر عنه)([11]).
ويقول الدكتور القرضاوي: (تسمية هؤلاء بـ (المجددين) تسمية خاطئة، هؤلاء (مبددون) لا مجددون، لأنهم لا يمتون إلى التجديد الحقيقي بصلة... والذي سمى هؤلاء (مجددين) إنما هو الاستعمار وتلاميذه وعملاؤه من المشتسرقين والمنصِّرين وتسميتهم الحقيقية (عبيد الفكر الغربي) فهم لا يرقون ليكونوا تلاميذ الفكر الغربي، فإن التلميذ يناقش أستاذه، وقد يخالفه ويرد عليه، ولكن موقف هؤلاء من الفكر الغربي هو التبعية والعبودية...)([12])
ونجمل مفهوم التجديد عند العصرانيين في النقاط التالية:
1 ـ التجديد عندهم هو تغير لحقائق الدين ومبادئه القطعية الثابتة ليوافق مع مبادئ الحضارة الغربية المعاصرة.
2 ـ التجديد عندهم هو تحقيق المصلحة التي اقتضتها الضغوط الواقعية والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
3 ـ مفهوم التجديد عند العصرانية فتح باب الاجتهاد على مصرعيه يلج فيه كل الناس، ويتساوى فيه العالم المجتهد، والجاهل.
يقول الدكتور/ حسن الترابي: (والاجتهاد مثل الجهاد، ينبغي أن يكون فيه لكل مسلم نصيب... إلى أن قال: وكذلك الاجتهاد)([13])، ويقول أيضاً: (وتقدير أهلية الاجتهاد مسألة نسبية وإضافية، ولكن بعض الكُتَّاب المُتنطِّعين في الضبط يتوهمون أنها درجة معنية تميز طبقة المجتهدين من عامة الفقهاء)([14]).
وقول محمد عبده: (بأنه سهل المنال على الجمهور الأعظم من المتدينين، لا تختص به طبقة من طبقات...)([15]).
4 ـ مفهوم التجديد عندهم هو إنكار السنة ـ كلياً أو جزئياً ـ بدعوى تعارضها مع العقل، أو القرآن بزعمهم، أو تعارضها مع علوم العصر الحاضر.
5 ـ مفهوم التجديد عندهم الإزدراء بفقه السلف الصالح، وبمناهجهم وأصولهم واعتباره فقهاً لا يفي بضروريات العصر.
يقول الدكتور/ حسن الترابي: (فأفكار السلف الصالح ونظمهم قد يتجاوزها الزمن من جراء قضائها على الأمراض التي نشأت من أجلها، وانتصارها على التحديات التي كانت استجابة لها)([16]).
6 ـ التجديد عندهم: القطيعة التامة بين الماضي والحاضر والسلف والخلف، واعتبار علم السلف واجتهادات الأئمة الأربعة وغيرهم من التراث الماضي يستأنس به، يقول الدكتور/ حسن الترابي: (ومهما كان تأريخ السلف الصالح إمتداداً لأصول الشرع، فإنه لا ينبغي أن يُوقَّر بانفعال، يحجب تلك الأصول، فما وُجد في تراث الأمة بعد الرسول ابتداءً بأبي بكر فهو تأريخ يستأنس به، فما أفتى به الخلفاء الراشدون مثلاً، والمذاهب الأربعة هو تراث لا يلزم به، وإنما يستأنس به في فهم سليم لشريعة تنزلت في الماضي على واقع متحرك، وهي تنزل اليوم على واقع متحرك)([17]).
ويقول أيضاً: (وقد بان لها (أي الحركة الإسلامية التجديدية) أن الفقه الذي بين يديها مهما تفنَّن حملته بالاستنتاجات والاستخراجات، ومهما دققوا في الأنابيش([18]) والمراجعات، لن يكون كافياً لحاجات الدعوة...)([19]).
7 ـ مفهوم التجديد عند العصرانية تمجيد للفرق المبتدعة، من المعتزلة العقلانية والإشادة بمناهجهم، وجعلهم النموذج المثالي الذي يحتذى به.
يقول الدكتور/ محمد عمارة: (ويسلم الكثيرون بأن المعتزلة هم فرسان العقلانية في حضارتنا)([20]).
ويصف الخوارج بأنهم: (حزب العدالة والجمهورية)([21])، ويصف حركتهم (كانت التجسيد الحي لحرارة القيم الثورية التي جاء بها الإسلام)([22]).
8 ـ مفهوم التجديد عند العصرانية هي تمجيد العقل وتقديمه على نصوص الكتاب والسنة ولو خالفهما.
يقول الدكتور/ محمد عمارة ت(لقد أصبح الواقع الفكري للحياة العربية يتطلب فرساناً غير النصوصين، ويستدعي أسلحة غير النقول والمأثورات للدفاع عن الدين الإسلامي، وعن حضارة العرب والمسلمين)([23]).
ويقول ـ أيضاً ـ مادحاً طريقة المعتزلة العقلانية: (لقد أوجبوا عرض النصوص والمأثورات على العقل، فهو الحكم الذي يميز صحيحها من منحولها، ولا عبرة بالرواة ورجال السند مهما كانت هالات القداسة التي أحاطهم بها، المُحدِّثون، وإنما بحكم العقل في هذا المقام)([24]).
ويقول أيضاً: (وهكذا كانت حجج العقل وبراهينه قاضية وحاكمة على حجج السمع)([25]).
9 ـ إعجابهم المفرط بما عند الغرب من نظام الحكم والديمقراطية، والخلط بينها وبين الشورى في الإسلام، يقول خالد محمد خالد: إن نظام الحكم في الإسلام هو الشورى، وما الشورى؟ إنها الديمقراطية التي نراها اليوم في بلاد الديمقراطيات)([26]).
وقال غيره: (الديمقراطية أفضل صيغة للحكم عرفتها البشرية)([27]).
الفروق بين مفهوم التجديد عند السلف الصالح، ومفهوم التجديد عند العصرانيين:(36/136)
1 ـ المجددون من السلف الصالح: رجال معروفون مشهود لهم بالعلم والاجتهاد، والفضل والسابقة، كما قال السيوطي: (يشار بالعلم إلى مقامه)([28]) بخلاف أدعياء التجديد من العصرانية فلم يشهد لهم أحد من أهل العلم أنهم أهل لذلك فضلاً أن يكونوا مجتهدين.
2 ـ المجددون على طريقة السلف الصالح مشهود لهم بمناصرة السُّنة علماً وعملاً وبمناصرة أهلها، بخلاف العصرانية فلم يؤثر عنهم مناصرة للسُّنة البتة، ولا الدفاع عن أهلها، بل هم على نقيض ذلك كما سبق.
3 ـ المجددون من أهل السُّنة معروفون بإحياء السُّنة وإماتة البدعة، بخلاف أدعياء التجديد العصرانيين فهم مجانبون للسنة، مناصرون لأهل البدعة ومدافعون عنها كما سبق.
4 ـ المجددون من أهل السُّنة جهودهم في العلم والدعوة إليه وتأثيرهم في الأمة ظاهرة بيِّنة ملموسة ومشاهدة، بخلاف أدعياء التجديد، فهم على العكس من ذلك فإنهم كانوا معول هدم وتخريب، وتمزيق للأمة، وتشكيكٌ في ثوابتها.
5 ـ إن الدعوة إلى التجديد السُّني لقائم على وفق منهج السلف الصالح، هو موصول بالماضي العريق، وما كانوا عليه من الالتزام بالكتاب والسنة، كذلك التجديد العصراني موصول بسلفهم من المتكلمين والفلاسفة العقلانية، وأهل الأهواء ولكل قوم وارث، والمرء على دين خليله.
6 ـ التجديد عند أهل السُّنة ربط للأمة بتراثها الماضي، وإحياء لما اندرس من ذلك التراث، بخلاف التجديد اليوم عند العصرانيين، فهم هدم لما كان عليه السلف، ورفض لكل ما هو سلفي.
يقول الدكتور/ حسن الترابي: (وعلينا أن ننظر في أصول الفقه الإسلامي، وفي رأيي أن النظرة السليمة لأصول الفقه تبدأ بالقرآن الذي يبدو أننا محتاجون فيه إلى تفسير جديد، فإذا قرأتم التفاسير المتداولة بيننا تجدونها مرتبطة بالواقع الذي صيغت فيه، كل تفسيرا يعبر عن عقلية عصره... إلا هذا الزمان لا نكاد فيه تفسيراً عصرياً شافياً)([29]).
7 ـ إن تجديد السلف من السابقين كعمر بن عبد العزيز والإمام الشافعي وغيرهما كان تجديدهم تجديداً عملياً مؤصلاً، ولم يكن مجرد دعوى وإدعاء جوفاء لا حقيقة له في الواقع العملي، كالدعاء التجديد من العصرانيين اليوم، فعمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ كان إماماً عدلاً، قائماً به، حيث رد الحقوق التي اغتصبها بعض حكام بني أمية إلى أصحابها، فبدأ بنفسه ثم بزوجته، وأهله وأقاربه، حتى عمَّ العدل جميع مملكته، وانتشر الغنى في أرجائها، حتى لم يبق فقير يحتاج إلى صدقة غني، قد أغناهم عمر رضي الله عنه، كما نشر عمر السنة وأمر بتدوينها كما سبق.
وأما الإمام الشافعي فكان بحق مجد القرن الثاني، فنشر العلم وأحيا السُّنة وأمات البدعة، وكان أول من ألف في أصول الفقه، وهكذا بقية المجددين، حتى شهدت الأمة كلها بفضلهم وتأثيرهم في الأمة بخلاف أدعياء التجديد من العصرانيين اليوم، ممن تخرجوا من جامعات الغرب، فكان تجديدهم هدماً لأصول الدين وفروعه، ونقضاً لجهود السلف الصالح، دون الإتيان بالبديل المزعوم، فكان تجديدهم معول هدم للدين، وتفريقاً لكلمة المسلمين، وإضعافاً لقوتهم.
8 ـ إن المجددين الأوائل ساروا على وفق مَنْ سبقهم من السلف الصالح، حيث ذكروهم بالجميل الحسن، ولم يخرجوا عن أصولهم، بل كانوا حريصين على الاتباع، لا الابتداع، قال عمر بن عبد العزيز: (سَنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر بعده سُنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعته، وقوةٌ على دين الله، ليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سَنُّوا اهتدى، ومن استبصر بها تبصَّر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاَّهُ الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً)([30]).
انظر هذا الكلام الموفق من هذا الإمام المجدد الملهم، وقارنه مع اتهام أدعياء التجديد لعلماء الأمة بضيق الأفق وعدم فقه الواقع، والله المستعان.
9 ـ إن أحداً ممن رُشِحوا للتجديد من السلف لم يدّع أحدٌ منهم أنه المجدد للقرن الفلاني، حتى العلامة السيوطي رجا أن يكون هو مجدد القرن التاسع ـ كما سبق عنه ـ إنما كان العلماء يتوسمون في بعضهم الأهلية لذلك، ويرشحونه على أنه مجدد القرن الفلاني، لما لمسوا فيه من نشر للسنة وقمع البدعة، ونهوض بالمسلمين([31]) بخلاف أدعياء التجديد اليوم.
فقد ادعى بعضهم أنه المجدد لهذا القرن، وصنفوا الكتب والرسائل باسم التجديد، وانظر على سبيل المثال تجديد أصول الفقه الإسلامي، وتجديد الفكر الإسلامي للدكتور حسن الترابي، ومَنْ على شاكلته، والله المستعان([32]).
[1]) ) ـ انظر: غزو من الداخل لجمال سلطان، ص (68).
[2]) ) ـ انظر: مفهوم تجديد الدين ص (96) والعصرانيون بين مزاعم التجديد ص (5).
[3]) ) ـ انظر: الإسلام والحضارة الغريبة ص (16، 17)، وتاريخ الغزو الفكري والتغريب ص (47) وعودة الحجاب (1/25).
[4]) ) ـ انظر: تأريخ بغداد (12/ 175) وميزان الاعتدال (2/275).
[5]) ) ـ انظر: تأريخ بغداد (12/ 173) وميزان الاعتدال (2/74).(36/137)
[6]) ) ـ انظر: ما قاله محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية ص (339) وما نقله الأمين الحاج عن حسن الترابي في مناقشته الهادئة ص (53).
[7]) ) ـ انظر: أضواء على السنة المحمدية ص (339).
[8]) ) ـ انظر: مناقشة هادئة ص (48).
[9]) ) ـ انظر: تجديد أصول الفقه ص (7).
[10]) ) ـ انظر: مؤلفات د. محمد عمارة، ود. حسن حنفي، ود. حسن الترابي، وفهمي هويدي وآخرين على شاكلتهم.
[11]) ) ـ انظر: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمال الغربي ص (329).
[12]) ) ـ انظر: من أجل صحوة راشدة ص (48).
[13]) ) ـ انظر: تجديد الفكر الإسلامي ص (45، 46).
[14]) ) ـ انظر: تجديد أصول الفقه ص (32).
[15]) ) ـ انظر: رسالة التوحيد (135) وانظر أيضاً تجديد الدين د. محمد عمارة ص (31).
[16]) ) ـ تجديد الفكر الإسلامي ص (40، 56).
[17]) ) ـ انظر: المصدر السابق ص (105).
[18]) ) ـ كلمة (الأنابيش) يكثر استعمالها عند الدكتور الترابي، ويقصد بها: الاستنباطات والاستخراجات الفقهية عند علماء الفقه والأصول، وفيه سوء أدب معهم، ويصف ـ أيضاً ـ كتب الحديث والفقه، بالكتب الصفراء، والله المستعان.
[19]) ) ـ انظر: تجديد أصول الفقه ص (21).
[20]) ) ـ انظر: تيارات الكر الإسلامي ص (69).
[21]) ) ـ انظر فجر اليقظة القومية ص (144).
[22]) ) ـ انظر المصدر السابق ص (140).
[23]) ) ـ انظر: المصدر السابق ص (70، 71).
[24]) ) ـ انظر: تيارات الفكر الإسلامي ص (71).
[25]) ) ـ انظر: المصدر السابق ص (71).
[26]) ) ـ انظر: غزو من الداخل لجمال سلطان ص (21).
[27]) ) ـ انظر: كتاب مفاهيم معاصرة في ضوء الإسلام ص (71).
[28]) ) ـ انظر: التنبئة ص (74).
[29]) ) ـ انظر: تجديد الفكر الإسلامي ص (25، 26).
[30]) ) ـ انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/436).
[31]) ) ـ انظر: مفهوم التجديد للطحان ص (28).
[32]) ) ـ انظر: المصدر السابق ص (28).
==============(36/138)
(36/139)
فهمي الهويدي كاتب اخوانجي يشرع صكوك الغفران فاحذروه
عندما تقف الامة الاسلامية وعلماءها الذين قال الله عنهم في كتابه العزيز
انما يخشى الله من عباده العلماءْ " بضم الهمزة " و نصب لفظ الجلالة "موقف النزق من بعض كتابها الفجرة امثال فهمي الهويدي وممن هم على شاكلته فاننا كامة اسلامية نكون قد اصبنا بعنة الحقيقة المجردة وناينا بانفسنا الى مهالك وغضب الله في يوم نقف فيه بين يديه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم يوم لا ينفع فيه شفاعة الشافعين ولا اغراض المغرضين ولا تحوير ما ارست كلمات رب العالمين من نور اليقين
هؤلاء المستفكرون لا المفكرون المتاسلمون لا المسلمون من امثال هذا الفاجر الذي اشترى رغد الحياة بايات الله ثمنا قليلا فجعل منها تلفيق الاكاذيب والافتراء والتضليل لن يكون هو وهؤلاء الا عبء بمقدار القرب او البعد عن الواقع ونشر الحقائق المجردة وهنا وانا كغيري لا ارى في الافق ان الاخوان المتاسلمون سيهبوا عونا للحقيقة او التزاما بالشريعة او الاحتكام لما انزل الله بل انهم كرسوا جل كتاباتهم في طعن الامة والتشكيك في عروبتها التي كرمها الله بنبي امين لم ينطق عن الهوى التشكيك في جدوى رسالتها وانتصارها لنفسها ومن هنا برزت مسالة تغليف الاهداف النفعية والباطنية بنور الاسلام الذي يلفظ المتناقض ويوضح الموظب فيه من الحقائق القاطعة التي لا اجتهاد بنصوصها ويوطد اصول التسيير التعسيير فيما دون اعلاه وفق قاعدة الاصل الاباحة لا التحريم فكان التحصين والاستقواء بهذه التعاليم السمحاء في غبار الواقع والتحدي ولم يكن لديهم فكرة الاستقواء بالهروب كما هي اليوم لدى هؤلاء فكرة الاستقواء او الطرح الفضفاض في موضوعة الحل ليستطيعوا ان يتهربوا واوجدوا المبررات والمصوغات التي تعفيهم من الالتزامات المترتبة عليهم فيما لو اخذوا العقيدة من زاوية تعاليمها الخالصة ... هذه العقيدة السمحاء التي تكشف خداعهم وتضعهم اما م حقيقة مخافة الله التي جردوا انفسهم منها.
ان فهمي الهويدي وغيره من هذه الابواق مفلسة دينيا اكثر من افلاسها السياسي وعندما يصل الكاتب الى مثل هذا المستوى من الافلاس يبدا في نشر الاباطيل والكذب المهم ان يكتب .. المهم ان يبقى اسمه يلمع من على الصفحات يكتب ليخطف الاضواء وليقال ان فلان كاتب .
اننا في الزمن المازوم من الفكر العقدي بحيث بات هؤلاء يتخذون من الاسلام حجة على الناس ويقولبوه بالمشيئة التي هم يريدونها واخشى ما اخشاه اننا سنصطدم يوما بمصطلح جديد يدخل ليعشعش في عقل خلفنا بان الجنة لن يعبرها احد الا من خلال المرور عبر هؤلاء وتقديم لهم الهدايا والاستجداء طلبا الرحمة والصفح . وهو ما يوازي في ذلك صكوك الغفران في العهد المظلم من حكم الكنيسة في اوروبا .. فاحذروا ايها المسلمون قاتل الله هؤلاء انا يؤفكون
وحسبنا الله ونعم الوكيل
===============(36/140)
(36/141)
نظرات شرعية في فكر منحرف 1
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
المجموعة السادسة
(الطائفة العصرانية)
محمود شلتوت- محمد عمارة - فهمي هويدي - أحمد كمال أبو المجد - محمد سليم العوا - طارق البشري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد :
فهذه هي المجموعة السادسة من سلسلة "نظرات شرعية في فكر منحرف"، خصصتها لبيان انحرافات عدد من المفكرين الذين يروجون في كتاباتهم ونشاطهم
للفكر "العصراني" في زماننا، محاولين صرف الأمة إليه، وصدها عن دعوة الكتاب والسنة.
وقد كتب كثيرون من أهل السنة -ولله الحمد- عدة أبحاث في حقيقة العصرانية وتاريخها في بلاد المسلمين، والرد عليها، فبإمكان القارئ الكريم مراجعة ما كتبوه ليحيط علماً أوسع بهذه الِنحْلة( ). ولكني هنا كمقدمة لهذه الشخصيات أشير إلى أهم الأفكار التي يتفق عليها هؤلاء العصرانيون وتدور عليها معظم كتاباتهم ويسعون لتحقيقها على أرض الواقع؛ ليكون القارئ على بينة منها:
-تعود جذور الطائفة "العصرانية" قديماً إلى مدرسة "المعتزلة" التي بالغت في تعظيم "العقل" البشري على حساب النص الشرعي.
أما حديثاً فتعود جذورهم إلى مدرسة الأفغاني ومحمد عبده التي تابعت المعتزلة في تعظيمهم للعقل على حساب النص الشرعي، وفاقتهم -نتيجة للصدمة
الحضارية مع الغرب- في تأويل كثير من حقائق الإسلام لتتوافق مع العصر -زعموا!- فوقعوا لأجل هذا في انحرافات خطيرة، بل أمور لا يشك مسلم في كفرها -والعياذ بالله-.
( ) ينظر الرسائل التالية: "العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" لمحمد حامد الناصر، "العصريون معتزلة اليوم" ليوسف كمال، "موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية" للأمين الصادق الأمين، "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي سعيد، "المعتزلة بين القديم والحديث" لمحمد العبدة وطارق عبد الحليم، "مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين" لمحمود الطحان، "العصرانية في حياتنا الاجتماعية" لعبد الرحمن الزنيدي، "الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين" لسعيد الزهراني، "غزو من الداخل" لجمال سلطان، "دعوة التقريب بين الأديان" للدكتور أحمد القاضي (2/630-635)، "العصرانية قنطرة العلمانية" لكاتب هذا البحث، وغيرها من الرسائل التي ساهمت في كشف حقيقة هذه الطائفة.
-يكمن داء العصرانيين منذ نشأتهم في "الهزيمة النفسية" التي لازمتهم عند احتكاك المسلمين في هذا العصر بالغرب المتفوق دنيوياً. فهذه الصدمة التي هزتهم أدت بهم إلى التنازل عن كثير من الحقائق الإسلامية التي ظنوها -لقصور عقولهم- تنافر تلك الحضارة الدنيوية. جاهلين أو متجاهلين أن الإسلام الصحيح لا يعارض أبدًا الحضارة الدنيوية النافعة، ومن ظن خلاف هذا فإنما أتي إما من جهله بالإسلام الصحيح الذي أنزل علىمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو من ضعف عقله. وأيضاً من ظن هذا الظن السيئ بدين الله عز وجل فهو في الحقيقة -يطعن شاء أم أبى- في الإسلام وفي من ارتضاه ديناً خاتماً للأديان -سبحانه وتعالى-.
-وهذه "الهزيمة" أو "التنازل" ورط العصرانيين في أمر خطير جدًا؛ هو كراهية بعض ما أنزل الله عز وجل أو جاء على لسان رسول صلى الله عليه وسلم مما لم تقبله عقولهم السقيمة أو ظنوه محرجاً لهم أمام الغرب المتفوق دنيويًا؛ متابعة للكفرة من اليهود والنصارى.
وقد قال الله محذرًا من الوقوع في هذا المسلك المشين الذي يؤدي بصاحبه إلى الردة عن دين الإسلام: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم، ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم، فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).
-يلتقي أفرد هذه الطائفة في المسائل الآتية:
1- تقديسهم للعقل وتقديمه في كثير من الأحيان على نصوص الكتاب والسنة؛ التي يتكلفون ادعاء تناقضها مع عقولهم.
2- تأويلهم المتكلف لآيات القرآن الكريم، وحملها على أهوائهم.
3- تقسيمهم السنة النبوية إلى: تشريعية وغير تشريعية؛ ليتنصلوا من كثير من أوامره ونواهي صلى الله عليه وسلم .
4- عدم قبولهم لحديث الآحاد في العقيدة؛ ليتسنى لهم رد كثير من الأحاديث النبوية التي لا تناسب عقولهم السقيمة؛ لاسيما في مجال الغيبيات.
5- دعوتهم إلى "الاجتهاد" غير المنضبط بضوابط الشرع، وما بينه علماء الإسلام في هذا الأمر. لاسيما دعوتهم المتكررة إلى التجديد في أصول الفقه، ومحاولتهم نسف كثير من قضاياه وقواعده -كما سيأتي-.
6- تهوينهم من شأن الحكم الإسلامي ووجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين، والتقائهم مع العلمانيين دعاة فصل الدين عن الدولة.
7- ردهم -عن طريق التأويل أو ترجيح الشاذ- لكثير من الأحكام الشرعية المتعلقة بالحدود.
8- تهوينهم من أمر الربا المعاصر "ما يسمى الفائدة!". وبعضهم يبيحه صراحة.(36/142)
9- دعوتهم إلى "تحرير" المرأة المسلمة؛ من الحجاب الشرعي ومن كثير من الأحكام الشرعية المتعلقة بها.
10- إلغاؤهم أحكام أهل الذمة؛ لأنها -عندهم- تفرق بين أبناء البلد الواحد!!، واستبدالها بحقوق "المواطنة"! التي تساوي بين المواطنين! -كما يقولون- ساء ما يحكمون. مما يؤدي بهم إلى مودة الكفار، وتوليهم.
11- غلوهم في تمجيد الديمقراطية الغربية، والإدعاء بأنها ضرورة للعالم الإسلامي في مقابل ما يسمونه الحكومات الدكتاتورية. مع جهلهم أو تجاهلهم لطبيعة الدولة في الإسلام؛ والخلط بينها وبين ما يسمى "الحكومة الدينية" التي وجدت في أوربا.
12- تمجيدهم للفرق والشخصيات المنحرفة في التاريخ الإسلامي؛ وعلى رأسها "المعتزلة".
13- دعوة بعضهم إلى "توحيد الأديان" ! وتغييب التقسيمات الشرعية "المسلمين، الكفار" أو مفهوم الولاء والبراء ونحوها مما يعارض فكرتهم الخبيثة. مع تصريحهم بعدم كفر اليهود والنصارى!! ( )
والبعض الآخر منهم لا يدعو إلى ذلك صراحة وإنما يتستر خلف تسميتهم "أهل الكتاب" ! ولا يسميهم "كفارًا"( ) ! كل هذا إرضاء لإخوان القردة والخنازير وعُبَّاد الصليب ممن قال الله عنهم (أولئك هم شر البرية).
ألف الخبيث الهالك "محمود أبو رية" كتاباً سماه "دين الله واحد" صرح فيه بهذا؛ فأصبح مرجعاً لبعض العصرانيين في زماننا. وقد رد عليه الدكتور محمد بن سعد الشويعر بكتاب سماه "وقفات مع كتاب دين الله واحد"، طبع دار الفتح بالشارقة، 1417هـ.
( ) وعلى هذا: أحد رؤوس العصرانية في زماننا: الدكتور يوسف القرضاوي -هداه الله- في كتيبه "موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى". انظر: ص 60 وما بعدها. وهذا أمر خطير جدًا فيه ردٌ لحكم الله تعالى الذي صرح بكفرهم. قالت اللجنة الدائمة في جواب لها على من قال بأن اليهود والنصارى ليسوا
خنازير وعُبَّاد الصليب ممن قال الله عنهم (أولئك هم شر البرية).
14- إنكارهم بل محاربتهم لفريضة "الجهاد" لأنها تخالف أفكارهم السابقة من توحيد للأديان، أو عدم تكفير الكفار، أو الاندماج معهم وتغييب مبدأ الولاء والبراء.
وبعضهم يقصر مفهوم "الجهاد" على ما يسمى "جهاد الدفع" فقط؛ لأنه لا يتعارض مع أفكارهم السابقة، ثم يحاول جهده إثبات أن جهاد الرسو صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كان من هذا النوع!
15- دعوتهم إلى "الحرية الفكرية" أو ما يسمونه "التعددية" في المجتمع المسلم، ولو كانت تضم الكفار وأهل البدع! دون تمييز بين "حق" و"باطل"، مفترين على الله وعلى رسول صلى الله عليه وسلم بأنهما "يريدان" أو "يرضيان" بهذه التعددية. خالطين بين "الإرادة الكونية" و"الإرادة الشرعية". فعندهم كل ما أراده الله "كوناً" فقد أراده "شرعاً"! وما دام أن هذه الفرق البدعية قد وجدت في تاريخ المسلمين فإنها -عندهم- مما يُحمد ولا يذم! ولهذا تجدهم يمدحون ذلك ولا ينكرونه، بل هذه الفرق البدعية -في نظرهم- طريق موصل إلى الله! وليس هذا مقام التفصيل.
16- أخيراً: سخريتهم ولمزهم أتباع دعوة الكتاب والسنة والتنفير منهم بشتى الأساليب، ولو أداهم ذلك إلى الكذب عليهم واختلاق القصص الخيالية!( )
كفارًا إنما هم أهل كتاب: "من قال ذلك فهو كافر بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم…" (فتاوى اللجنة، 2/1.
( ) وأبرز من اشتهر بهذا الأمر منهم: محمد الغزالي، الذي لا يخلو كتاب من كتبه من المواقف والقصص المختلقة والتهويلية في التهجم على أهل الحق. وعلى منواله سار تلاميذه
-من تأمل أهداف هذه الفئة العصرانية وجدها تلتقي مع أهداف "العلمانية" في عالمنا الإسلامي، وإنما الاختلاف هو في الواجهة فقط، فهما وجهان لعملة واحدة، وقد بينت هذا في رسالة "العصرانية قنطرة العلمانية" فراجعها إن شئت( ).
-من المهم ملاحظة أن كثيرًا من العصرانيين أصحاب سوابق "ماركسية" و"يسارية". فهم قد نزحوا إلى هذا الفكر بعد أن فشلت مشروعاتهم السابقة. ولهذا بقيت معهم رواسب من فكرهم السابق أثرت على اختياراتهم وأقوالهم. وكان الأولى بهم أن تكون توبتهم (توبة نصوحاً) تخلعهم من كل ما يخالف نصوص الكتاب والسنة.
نظرة شرعية في فكر (محمود شلتوت)
ترجمته( ) :
هو: "محمود شلتوت: فقيه مفسر مصري. ولد في منية بني منصور (بالبحيرة) وتخرج بالأزهر (1918م)، وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة (1927م)، كان يقول بفتح باب الاجتهاد. وسعى إلى التغيير في الأزهر فعارضه بعض كبار الشيوخ وطرد هو ومناصروه، فعمل في المحاماة (1931-1935م) وأعيد إلى الأزهر، فعين وكيلاً لكلية الشريعة ثم كان من أعضاء كبار العلماء (1941م)، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية (1946م) ثم شيخاً للأزهر (195! إلى وفاته.
وكان خطيباً موهوباً جهير الصوت.
له 26 مؤلفاً مطبوعاً، منها: "التفسير" أجزاء منه في مجلد، ولم يتم، و"حكم الشريعة في استبدال النقد بالهدي" و" القرآن والمرأة" رسالة، و"القرآن
( ) وهي منشورة في موقع صيد الفوائد على شبكة الأنترنت. www. Saaid. Net .
( ) نقلاً عن الأعلام للزركلي (7/173) بتصرف.(36/143)
و"حكم الشريعة في استبدال النقد بالهدي" و" القرآن والمرأة" رسالة، و"القرآن والقتال" و"هذا هو الإسلام" و"عنصر الخلود في الإسلام" و"الإسلام والتكافل الاجتماعي" و"فقه السنة" الأول منه، و"أحاديث الصباح في المذياع" و"فصول شرعية اجتماعية" و"حكم الشريعة الإسلامية في تنظيم النسل" محاضرة، و"الدعوة المحمدية" رسالة، و"فقه القرآن والسنة" الجزء الأول، و"الفتاوى" و"توجيهات الإسلام" و"الإسلام عقيدة وشريعة" و"الإسلام والوجود الدولي".
-كانت لشلتوت جهود غير مشكورة في مداهنة الرافضة والسعي للتقارب معهم. حيث قاموا بخداعه عندما كان شيخاً للأزهر بأن يصدر أمرًا بتدريس مذهب الرافضة في الأزهر! فوضع مشروعاً لذلك؛ إلا أن وقوف بعض شيوخ الأزهر ضد هذا المشروع حال دون إتمامه -ولله الحمد-( ).
ولكنه أصدر فتوى بجواز التعبد بالمذهب الإمامي سنة 1368هـ فطار الروافض بهذه الفتوى فرحاً، ونشروها في الآفاق، وكالوا المديح لشلتوت( ).
تنبيهات :
الأول: أنني أدخلت شلتوت ضمن الطائفة العصرانية لأنه -كما يعلم الباحثون- أحد شيوخ هذه المدرسة ممن تأثروا بأفكار مؤسسيها، فكان له أثر كبير فيمن بعده من العصرانيين اللاحقين، حيث أصبحوا يرددون أفكاره وآراءه التي ذكرها في كتبه؛ لا سيما كتابه الشهير "الإسلام عقيدة وشريعة" -كما سيأتي إن شاء الله-.
( ) للتوسع: انظر رسالة الدكتور ناصر القفاري -وفقه الله- "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
( ) انظر على سبيل المثال : كتاب "مع رجال الفكر في القاهرة" للرافضي مرتضى الرضوي (ص24-63)، وكتاب "الوحدة العقائدية عند السنة والشيعة" للدكتور الرافضي عاطف سلام (ص36). وقد نشر نص فتوى شلتوت، وذكر أنها نشرت في مجلة "رسالة الإسلام" العدد الثالث، السنة الحادية عشرة.
وانظر أيضاً: "مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية" لمجموعة من الباحثين، تقديم عبد الله العلايلي. حيث ذكروا جهود دعاة التقريب -ومن ضمنهم شلتوت- في هذا المجال. ولكنهم جميعًا باؤا بالفشل -ولله الحمد-.
=================(36/144)
(36/145)
(( القرضاوي والمذهب العقلاني ))
لا ينقضي عجبي ممن كتب في جريدة ( المدينة ) بملحق الرسالة تعقيباً على الشيخ المحدث صالح اللحيدان في حكمه على الشيخ القرضاوي بأنه ليس من العلماء بل هو من ذوي الثقافة الإسلامية الكبار في هذه الأمة ، ومن الدعاة ، وأنه يورد في كتبه الضعيف والموضوع والحسن لغيره ، وأن الأولى به أن يبتعد عن مجال الفتاوى !
وأقول : لن نصرخ ونصخب على القراء ببيان الموقف الصحيح من القرضاوي ، بل سنترك أهل العلم الربانيين يحكمون على ذلك من خلال تتبع بعض فتاواه واجتهاداته الفقهية والمنهجية والعقدية!
في العقيدة :
1 - يرى الشيخ القرضاوي أن اليهود والنصارى هم إخواننا في الإنسانية ؛ وعليه فيمكننا أن نقول : أخونا اليهودي فلان ! وأخونا النصراني علان ! ( نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام ) ص81 بل وإخواننا المجوس والبوذيين باعتبار أنهم جميعاً عباد الله تعالى !
2- يرى الشيخ القرضاوي أن الجزية مصطلح ينبغي تغييره إذا كرهه ( إخواننا اليهود والنصارى ) 0 ( أولويات الحركة الإسلامية ) ص162
3- يرى الشيخ القرضاوي أن الله تعالى لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة ؛ ولهذا فهو يتفق مع ابن عربي الذي قال بأن الله قضى : أي شاء وقدر أن لا يعبد إلا هو سبحانه ! .
فعابد المسيح وعابد العزير وعابد الله تعالى كلهم قد حكم الله بمشيئته ألا يعبدوا إلا إياه ؛ فهذه إرادة الله تعالى فينبغي لنا أن نرضى بتعدد الديانات والمعبودات ؛ لأن هذه هي مشيئة الله تعالى عند الشيخ القرضاوي ! فهو سوى بين المشيئة القدرية الكونية ، وبين المشيئة الشرعية الدينية . ومن المعلوم عند علماء السلف الصالح أن الله تعالى وإن أراد أن يكون هذا الاختلاف والتعدد قدراً ؛ فإنه سبحانه لا يرضاه لهم شرعاً ، بل لا يرضى سبحانه للناس جميعاً إلا الإسلام ديناً 0
( فتاوى معاصرة ) 2 / 677 - 678
ومن المقطوع به عند أهل السنة من السلف الصالح أن قوله تعالى ( وقضى ربك ) أي أمر لا حكم ؛ وإلا لقلنا بقول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي وجلال الدين الرومي والصدر القونوي وغيرهم ممن يصحح الديانات كلها ؛ وأن الطرق إلى الله تعالى بعدد الأنفاس !!
- يرى الشيخ القرضاوي أن غرس العقيدة ليس من الضروري أن نظل ندعوا الناس إليه ثلاثة عشر عاماً ؛ لأننا بين أناس مسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فليسوا محتاجين أن نعلمهم العقيدة مثل هذه المدة !! ( أولويات الحركة الإسلامية ) ص128 ولا أدري ما هو رأي القرضاوي في دعاء الأموات والطواف حول القبور والضلالات والبدع التي تعج بها البلاد الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها و من أناس يقولون ليل نهار : لا إله إلا الله محمد رسول الله !!
- يرى الشيخ القرضاوي أن عقيدة الأشاعرة في تفويض معاني الصفات الإلهية هو المذهب الحق الواجب اتباعه ضارباً عرض الحائط مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم في أن الصواب هو أن هذه الصفات معروفة معانيها وإنما الواجب تفويض كيفياتها 0 ( المرجعية العليا في الإسلام ) ص 301 ، 302 0
- يرى الشيخ القرضاوي أن عداء المسلمين لليهود ليس من أجل عقيدتهم الكفرية ، بل من أجل قطعة الأرض التي اغتصبوها من الفلسطينيين ! ( مجلة البيان ) العدد 124
- يرى الشيخ القرضاوي أن أعداء الصحابة ومتهمي الصديقة عائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين والقائلين بتحريف القرآن الكريم لا يختلفون عن المسلمين في شيء كبير ؛ وإنما هي خلافات في الفروع والمسائل الفقهية ! ( الخصائص العامة للإسلام ) ص209 ، و( ملامح المجتمع المسلم ) ص41 ، و ( العبادة في الإسلام ) ص170 ، و ( الإسلام والعلمانية ) ص 178
وهناك أمور لا يتسع المقال لها جميعاً ، ولعلها لو جمعت لأتت في مجلد !
في الحديث والسنة النبوية :
- لم يخطئ المحدث صالح اللحيدان عندما وصف الشيخ القرضاوي بما وصفه به ؛ بل لعله قد لين حفظه الله تعالى القول فيه ؛ فلو تيسر له ولغيره من أهل العلم سبر كثير من كتب القرضاوي لوجد فيها الطامات من استدلال بالضعيف والواهي والمكذوب ، ومن تقديم العقل على النقل عند التعارض بزعمه ، ومن لي أعناق النصوص - ولو كانت غير صحيحة وغير صريحة - لتتوافق مع مذهبه الذي يدعو إليه في الأخوة الإنسانية المزعومة !
وهذا مثال من أمثلة كثيرة تقطع بجهل القرضاوي في علم الحديث والسنة عموماً :
))القرضاوي وجهله بالحديث : ما النتيجة ؟ ))
ذكر د. يوسف القرضاوي في كتابه ( ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده ) ص139 أن العباد كلهم إخوة في الإنسانية ؛ سواءً كانوا مسلمين أو نصارى أو ..... إلخ !!
واستدل لذلك بحديث رواه الإمام أحمد في ( المسند ) 4 / 396 من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ( كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دبر صلاته : اللهم ! ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك - مرتين - ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ، ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ... ) .(36/146)
وقد ذكر مثل هذا الضلال الآخر- الأجهل - المدعو فهمي هويدي في كتابه ( مواطنون لا ذميون ) ص85 .
وأقول : الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ففيه : داود بن رشاد الطفاوي قال ابن معين : ليس بشيء .
وذكره ابن حبان في ( الثقات ) على قاعدته المعروفة في توثيق الضعفاء والمجاهيل ! ولهذا جزم الحافظ بضعفه فقال : لين الحديث .
( التقريب ) 1793 .
وفيه علة أخرى وهي : جهالة عين أبي مسلم البجلي ؛ فإنه لم يرو عنه إلا الطفاوي ، وقد تقدم أنه لين الحديث ؛ وهو قريب في الجهالة أيضاً من البجلي !
فالحديث لا تجوز نسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فكيف بمن استدل به على إثبات الأخوة المزعومة بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى !!
وقد سود القرضاوي كتابه ( فقه الزكاة ) 2 / 1020 بهذا الحديث غير الصحيح غير الصريح في تأييد مذهبه في الأخوة الإنسانية !
وقد أورد الشيخ القرضاوي حديثاً منكراً لطالما نافح عنه العصرانيون ودعاة التقريب بين الأديان ، وذلك في كتابه ( الحلال والحرام ) ص329 ألا وهو : ( من آذى ذمياً فأنا خصمه ، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة ) فقد زعم أنه حديث حسن رواه الخطيب بإسناد حسن !!
وهذه وحدها تكفي لبيان مدى معرفة القرضاوي بالحديث ؛ فإنه مع كون سنده ضعيفاً جداً فيه متروك الحديث ، فقد استنكره الخطيب نفسه في ( تاريخ بغداد ) 8 / 370 فقال : ( وهذا حديث منكر بهذا الإسناد ، والحمل فيه عندي على المذكر ( العباس بن أحمد ) فإنه غير ثقة ) ! وقد أورده صاحب ( تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة ) في كتابه 2 / 181 - 182
وهذا مثال آخر يزيل الغشاوة عن أعين المغرورين بعلم الشيخ :
(( القرضاوي والطعن في الأحاديث الصحيحة ))
ظهر في الأسواق كتاب جديد للدكتور يو سف القرضاوي بعنوان : ( نحو موسوعة للحديث الصحيح مشروع منهج ٍ مقترح ) 0
والقرضاوي معروف بمنهجه العقلاني كبقية العقلانيين من أمثال الغزالي الذي ينكر صحة حيث : ( ما أفلح قوم ولو أمرهم امرأة ) مع علمه بأنه في ( صحيح البخاري ) !
فكيف استخدم القرضاوي عقله في هذا الكتاب لدعم منهجه العقلاني ؟
لقد ضرب القرضاوي مثالاً للحديث الذي يتوقف فيه العقل بزعمه ، فقال :
( وقد تبين لي من خلال البحث والممارسة : أن كل متن يتوقف فيه العقل المعاصر ( !! ) لا يخلو سنده من كلام فيه ، ومن ثغرة يمكن الناقد ( كذا) أن يدخل منها ، وخصوصاً إذا رجع إلى الأئمة النقاد القدامى ، مثل ابن المديني وابن معين وابن مهدي وأبي حاتم الرازي والبخاري وأمثالهم 0
ولنضرب مثالاً لذلك ، فالمثال ( كذا ) يتضح المقال حديث : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف 00000 ) 0
ثم أخذ القرضاوي بسرد تحقيقات بعض الأعلام المعاصرين للحديث من أمثال الشيخ أحمد شاكر ، والألباني 000
وأخيراً وصل إلى النتيجة التالية :
( وبهذا تبين لنا أن الحديث لم يأت من طريق واحدة صحيحة متصلة سالمة من النقد ، وإنما صححه من صححه بطرقه ، وكلها لا تسلم من مقال ، ولم تكثر إلى درجة يقال : يقوي بعضها بعضا ً ( ! ) 0
على أن التصحيح بكثرة الطرق - وإن لم يكن معروفاً عند المتقدمين من أئمة الحديث ( !! ) - إنما يُعمل به في القضايا اليسيرة ، والأمور الجزئية البسيطة ( ! ) لا في مثل هذا الحديث الذي يعبر عن عنوان الإسلام واتجاهه : هل بُعث الرسول بالرحمة أو بعث بالسيف ؟ ) 0
ثم عظم القرضاوي الشيخ شعيباً الأرناؤوط وتحقيقه الذي مال فيه إلى تضعيف السند ( عندما أصبح على حد قول القرضاوي : أكثر نضجاً واستقلالاً من ناحية ، وحيث غدا يشاركه خمسة آخرون من العلماء ، فهو عمل جماعي له قيمته 0000 ) 0
ويعني القرضاوي تحقيق شعيب لـ( مسند أحمد ) في الجزء السابع الذي اشترك فيه مع الشيخ شعيب : محمد نعيم العرقسوس وإبراهيم الزئبق !!
وسوف أختصر الرد على القرضاوي في نقاط مركزة :
1- قوله : كل متن يتوقف فيه العقل المعاصر 000 إلى آخر هذا الهراء هو نفسه الباب الذي أُتِيَ منه العقلانييون حديثاً ومن قبلهم أجدادهم المعتزلة قديماً 0
فما أنكر من أنكر أحاديث الصفات إلا من باب المعارضة للعقل العفن عند أولئك الضالين 0
وما أنكرت المعتزلة معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام الحسية وغيرها سوى القرآن الكريم إلا من هذا الباب ؛ لأنها لا تتماشى مع عقول أهل العصر !
أليس الغزالي هو الذي أنكر الأحاديث في ( الصحيحين ) المصرحة بالاستواء على العرش ؛لأنها تعارض العقل لما فيها من التجسيم بزعمه!؟
وعندي في هذا الموضوع عشرات الأمثلة التي تنادي بأعلى صوت بأن هؤلاء العقلانيين قد ألهوا العقل ، فأصبح معبودهم ، كما قال تعالى : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ) الفرقان آية 25 0
2 - زعمه التفريق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين من علماء الحديث في مسألة تقوية الحديث بالطرق والمتابعات مذهب فاسد ضال اتبع فيه القرضاوي بعض الضالين وعلى رأسهم المليباري والسعد وأذنابهما !(36/147)
3 - تعظيمه للأرناؤوط ومن معه من المحققين الذين لا يعرف لهم كبير شيء في هذا الفن الشريف يدل بوضوح على اعتبار أن الألباني وشاكر دون هؤلاء !
4 - الإسلام كما أنه دين الرحمة ونبيه نبي المرحمة ، فهو دين الملحمة ونبيه نبي الملاحم ( كما ثبت في شمائل الترمذي برقم 360 ، وعند البغوي في ( شرح السنة ) برقم ( 3631 ) 0
5 - ومن جهل القرضاوي بهذا الفن قوله : ( ولم تكثر - يعني طرقه - إلى درجة يقال : يقوي بعضها بعضاً ) !0
فالمعروف عند المبتدئين في هذا العلم أن طريقين ليسا بشديدي الضعف كافيان لإثبات كون الحديث حسناً ، فكيف ,
وأحد طرقه حسنة لذاتها ، فإذا انضمت إليها طريق فيها ضعف محتمل ارتقى الحديث لدرجة الصحة 0
وقد ذكر العلماء ومنهم الخطابي رحمه الله وجه كونه عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة وبين كونه نبي الملاحم ، فقد نقل البغوي عنه نقلاً طيباً يدل على بعثته عليه الصلاة والسلام كانت رحمة بالنسبة لبعثة غيره من الأنبياء الذين استأصلت أممهم بالعذاب بعد قيام حجج الله عليهم والمعجزات التي معهم ، لكن نبي الرحمة بحق هو الذي بعث بالسيف لردع الكفار ومجاهدة الذين يصدون عن سبيل الله مع عدم استئصالهم بالسيف بل للسيف بقية لمن بعدهم من الناس ؛ بخلاف العذاب العام الذي لا بقية معه 0
ثم أيد البغوي كلام الخطابي بأن ملك الجبال عندما أراد أن يطبق الأخشبين على أهل مكة إن شاء عليه الصلاة والسلام ؛ فما كان من نبي الرحمة بحق إلا أن قال : ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ) 0
5 - قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس 000 ) الآية 25 من سورة الحديد 00000( وجعل الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعاند بعد قيام الحجة عليه (( ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية ، وكلها جدال مع المشركين ، وتبيان وإيضاح للتوحيد ، وتبيان للدلائل ، فلما قامت الحجة على من خالف ، شرع الله الجهاد ، وأمرهم بالقتال بالسيوف ، وضرب الرقاب ،والهام ، لمن خالف القرآن وكذب به وعانده 0 ) 0 ( تفسير ابن كثير ) 8 /53 0
ثم أورد ابن كثير بهذه المناسبة حديث ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له ، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ))0
ومما تقدم يُدرك كل منصف أن القرضاوي جاهل بالحديث ، بل هو جاهل بمقاصد الشريعة التي يدندن في كلامه وكتاباته بأنه من أفقه الناس فيها !
هذا من ناحية الدراية والمتن والذب عن الحديث من تلك الجهة 0
وأما صحة الحديث بمجموع طرقه رواية : فهذا لا يكابر فيه إلا رجلان : جاهل أو متعصب لمذهب شيوخه العقلانيين إرضاءً لأهواء الغربيين والمستشرقين الذين قال الله عنهم : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم 000) البقرة آية 120 0
فائدة : جود شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث في ( الفتاوى ) 25 / 331 مختصراً ؛ بل صرح بذلك في كتابه القيم ( اقتضاء الصراط المستقيم ) 1 / 269 - بتحقيق العقل - فقال : ( هذا إسناد جيد ؛ فإن 000000 وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال ابن معين ، وأبو زرعة ، وأحمد بن عبد الله : ليس به بأس ) 0
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين 0
ومن الأمثلة على هذه العقلانية أو مذهب المعتزلة الجدد ما صرح به الشيخ القرضاوي من تقسيم للسنة إلى ( سنة تشريعية ) و ( سنة غير تشريعية ) !
فالأولى هي الواجبة على المسلم ، وأما الثانية فهي غير ملزمة للمسلم - عياذاً بالله من الهوى -
كأحاديث الطب النبوي جميعها ؛ بل ذهب إلى أبعد من هذا فقال بأن أحاديث نصاب البقر في الزكاة ، والعفو عن زكاة الخيل مما قاله النبي عليه الصلاة والسلام بوصفه إماماً ، فلا يلزمنا الأخذ بها !! ( السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ) ص48 ،60 ،65 ، 66 ، 79
ووالله ! إنها لإحدى الكبر : هذه البدعة التي ابتدعها العقلانيون والمعتزلة الجدد لضرب السنة ضربة لم يفلح فيها المستشرقون وأعداء الإسلام ؛ فقدمها هؤلاء العصرانيون العقلانيون لهم لقمة هنيئة مريئة !!
ولا أدري ما هو موقف هؤلاء القوم من حديث : ( اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق - يعني شفتيه - )
انظر تخريجه في ( السلسلة الصحيحة ) لشيخنا محدث العصر الألباني رحمه الله تعالى برقم ( 1532 ) 0
في الفقه والاجتهاد :
يرى الشيخ القرضاوي أن اللحية ليست واجبة على المسلم ! ( الحلال والحرام ) ص92
يرى الشيخ إباحة الأغاني ! ( الحلال والحرام ) ص273
يرى الشيخ إباحة أكل الحيوانات التي ماتت بطريق الصعق الكهربائي !
ولمزيد من البيان والفوائد راجع ( الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام ) للعلامة الفوزان حفظه الله 0
في المنهج والدعوة :
يتفق الشيخ القرضاوي مع القائلين بالقاعدة الباطلة ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ) !(36/148)
فهو في سبيل هذه القاعدة لا يرى بأساً من التعاون مع أصحاب البدع المكفرة من الفرق الضالة وأصحاب الخرافات والشركيات ، وما عدا فرقتي البهائية والقاديانية - فقط - فيجب علينا أن نطبق هذه القاعدة ( الذهبية ) على حد تعبيره معهم !
ولهذا فالشيخ مشغول بالأصول عن الفروع ، وبالكليات عن الجزئيات !! ( الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي ) ص185 ، و ( أولويات الحركة الإسلامية ) ص3
لكن ما هي الأصول عند الشيخ القرضاوي ؟ أهي العقيدة الصحيحة ودعوة الناس للتوحيد الخالص أم هي ملاحقة العلمانيين والماركسيين والصهاينة ولو كان ذلك على حساب التوحيد بحجة الجمع والتكتيل ، وأن أعداء الأمة يتربصون بها فلا داعي الآن لبيان التوحيد ونشر السنة ، فهي عند الشيخ من الفروع لا الأصول ، ومن الجزئيات لا الكليات !! ( الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف ) ص71
يقول الشيخ العلامة الفقيه ابن عثيمين رحمه الله تعالى في ( الصحوة الإسلامية : ضوابط وتوجيهات ) ص171 : ( رأينا في هذه الكلمة أن فيها إجمالاً :
أما أن نجتمع فيما اتفقنا فيه ؛ فهذا حق 0
وأما أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ؛ فهذه فيه تفصيل :
فما كان الاجتهاد فيه سائغاً ؛ فإنه يعذر بعضنا بعضاً فيه ، ولكن لا يجوز أن تختلف القلوب من أجل هذا الخلاف 0
وأما إن كان الاجتهاد غير سائغ ؛ فإننا لا نعذر من خالف فيه ، ويجب عليه أن يخضع للحق ، فأول العبارة صحيح ، وأما آخرها فيحتاج إلى تفصيل ) 0
فهل الخلاف مع أولئك المنحرفين عن الإسلام من أصحاب البدع المغلظة سائغ عند الشيخ القرضاوي ؟!
ونصيحتي لهذا الذي كتب هذه المقالة في الذب عن الشيخ القرضاوي أن يتقي الله تعالى في المنصب الذي يرأسه لمعهد باسم سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى الذي كان حرباً على المبتدعة وأهل الضلال والشرك ؛ فيتبعه رحمه الله في خطاه على المنهج والعقيدة السلفية 0
==============(36/149)
(36/150)
المدرسة العصرانية في نزعتها المادية الجذور الفرية والعقدية (2/1)
محمد حامد الناصر
العصرانية هي أي وجهة نظر في الدين، مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة(1).
فالعصرانيون اعتمدوا منهج التفكير الفلسفي العقلي، وكانت القيمة الأساسية فيه للعقل كمصدر للمعرفة.
ويعتمد المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل... ويتعامل أصحاب هذا المنهج مع النصوص الشرعية عن طريق التأويل وفقاً لمعطيات العقول، مع تقديم العقل على النقل.
أما المدرسة العصرانية ذات النزعة المادية:
فقد أضاف روادها إلى الانحرافات السابقة انحرافات جديدة، إذ اعتمدوا منهج التفكير المادي (الوضعي)، الذي ينظر إلى العالم الخارجي، باعتباره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة الموضوعية، ذات وجود مستقل عن الإنسان.
وفي المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها، والحصول على المعرفة من مصادر وضعية، مثل: التاريخ والسير في الأرض، لمعرفة: كيف بدأ الخلق؟! والاعتماد على سنن الأنفس والآفاق، وقوانين الطبيعة والاجتماع، وقد تبنى أصحاب هذه المدرسة آراء المعتزلة والقدرية في القول بالمشيئة، وتبنوا نظرية داروين والمذهب الوضعي للفيلسوف (كانت)، كما أنهم أظهروا إعجابهم بالنتائج التي توصلت إليها الماركسية.
يقول الشيخ جودت سعيد: "الوجود الخارجي - أي المادي - هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف والصور الذهنية قابلة للنقصان"(2).
ويقول الطبيب خالص جلبي: "الواقع الخارجي والسير في الأرض هو الأساس، وليس السير في الكتاب والسنة؟! وإن الاستغناء بالكتاب عن الواقع هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة مروعة"(3).
بينما يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: فلا وربك لا يؤمنون حتى" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( 65 ) {النساء: 65}.
ويعتبر (جودت سعيد) من أبرز دعاة المذهب المادي المعاصر، فهو يدعو إليه منذ أكثر من ثلاثين سنة، من خلال الخطاب الإسلامي، في كتبه ومقالاته وندواته.
وسار على هذا الطريق الطبيب (خالص جلبي) تلميذه وزوج أخته، وتكاد تكون آراؤه رجع الصدى، لآراء شيخه جودت.
وسوف نتحدث عن أبرز منطلقات هذا التيار في هذه المقالة وما يتبعها إن شاء الله تعالى، في حلقة ثانية.
إيمانهم بنظرية داروين:
وهي نظرية خطيرة، تناقض العلم الصحيح، وتتنكر للأديان السماوية، فهي تعتمد على "أن أصل الحياة خلية، كانت في مستنقع أو بحر، قبل ملايين السنين، ثم تطورت هذه الخلية، ومرت بمراحل عديدة منها: مرحلة القرد، الذي تطور ليكون منه هذا الإنسان".
وهذه العملية كلها من فعل الطبيعة "وأن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق".
"وقد وجدت اليهودية في داروين فرصة سانحة؛ لتقويض عقائد (الأمميين)، وإزالة ما بقي من أثر للدين في حياة الناس". "فحين يكون الإنسان حيواناً، أو امتداداً لسلسلة التطور الحيواني، فأين مكان العقيدة في تركيبه؟ وأين مكان الأخلاق؟ وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والاجتماعية؟!"(4).
وقد رفض العالم الإسلامي هذه النظرية؛ لأن داروين وضع تصوراً غريباً لنشوء الحياة، وقد رد عليها عدد من العلماء الغربيين، وعلماء الدارونية الحديثة "كما أن العلم تبرأ من هذه النظرية، وأبطل الأساس الذي تقوم عليه، وقد جرى تعديل أفكار (داروين) مرات عديدة، تحت اسم (الدارونية الحديثة"(5).
لكن المنهزمين والمبتدعة، يرفضون إلا التبعية الذليلة ومجانبة حقائق الشرع والعلم الصحيح.
وقد بذل (جودت سعيد وخالص جلبي) جهوداً مضنية في كتاباتهم لتقريب نظرية التطور هذه إلى المسلمين، تحت شعار العلمية الزائفة(6).
يقول الدكتور (خالص جلبي): "لقد فتح داروين الطريق لمعرفة سر الحياة، وأصل الإنسان بشكل عام، وهذا بدوره شق الطريق إلى مجموعات جديدة من فضاءات المعرفة.. لقد تركت الدارونية بصماتها على الفكر الإنساني من خلال علم الاجتماع، على الشكل الذي طوره البريطاني (سبنسر)"(7).
وعندما سئل (جلبي) عن مدى قناعته بنظرية داروين قال: "أتعجب منكم، وأنا أتحدث لكم في علم (الأنثروبولوجيا) فمثلي ومثلكم كالأخرس الذي يريد أن ينقل عن آخر مهمة الكلام... ومثل طالب الحضانة الذي تقرأ على رأسه فيزياء الكم"(8).
فجلبي يزعم أن المسلمين إلى اليوم، ليسوا في مستوى مناقشة مقولة داروين، مع نزعة الاستعلاء والتجهيل للآخرين.
وكان جودت سعيد - وما يزال - من أكبر المبشرين بنظرية دارون هذه.
فهو يستغرب من العالم الإسلامي رفضة لنظرية داروين ويعنف المسلمين الذين ترسخت في أذهانهم فكرة معينة لنشوء الخلق "من خلال الوقوف عند حرفية النصوص المقدسة - كتاباً وسنة - وليس من خلال السير في الأرض، فأهملوا فكرة نشوء الخلق، ولم يلتفتوا إلى الآية الواضحة التي تحدد مصدر المعرفة: كيف بدأ الخلق من السير في الأرض"(9).(36/151)
قال تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق 20 {العنكبوت: 20}.
أصل الحياة البشرية: بين نصوص الشرع والنظرة المادية:
لمعرفة أصل الحياة البشرية يرى الشيخ جودت سعيد سؤال التاريخ والسير في الأرض، والتنقيب خلال الآثار والحفريات ويمثل هذا المنهج خروجاً على النصوص الشرعية، وتعطيلاً لآيات القرآن الكريم، التي تتحدث عن بدء الخلق، خلق الإنسان وخلق السموات والأرض.
ويخالف أصول التفسير لآيات القرآن لدى علمائنا الثقات، كما يخالف حقائق العلم الموضوعية بعيداً عن الهوى والتبعية.
فمن الحقائق المهمة أن آدم عليه السلام هو أول البشر وأن الله خلقه من طين. يقول جل من قائل: خلق الإنسان من صلصال كالفخار 14 وخلق الجان من مارج من نار 15 {الرحمن: 14، 15} .
وقال سبحانه: إن مثل عيسى" عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 59 {آل عمران: 59} .
وآدم عليه السلام كان نبياً يوحى إليه، فهل يعقل أن أبا البشر، أو أحد أبنائه وأحفاده المؤمنين بالله، كان يمشي عرياناً، كما يدعي أصحاب نظرية التطور؟!
يقول جودت سعيد: "إن الكون قبل عشرة آلاف سنة، كان الإنسان يعيش في الكهف، كان يمشي على قدميه فقط، وقد بدأ خلقه ضعيفاً، تطارده الحيوانات ليتغذوا به، وهو يطاردها ليتغذى بها، وأن هذا الإنسان كان عرياناً... وأن آخر المخلوقات كان أرقاها، والآن استطاع أن يفهم، وصار مصيره في يده"(10).
ويقول أيضاً: "إن الآثار العظيمة التي كشفها الناس في أثيوبيا، تدل على الهيكل العظمي (لوسا) منذ ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين سنة، لأن الحجر يتكلم بهذا، وبعلم لا ينكره أحد، فإذا بهذا العالم بدأ يأخذ معلوماته من واقعه، وكان الناس قبل ذلك يأخذون المعلومات بطريقة الوحي من السماء"(11).
فالمصدر الذي تستقى منه المعلومات عن الإنسان الأول هو القرآن الكريم، فهو المصدر الحق الذي لا مرية فيه.
فآدم عليه السلام: "نبي مكلم من الله سبحانه وتعالى"(12) فكيف بهذا النبي يمشي عرياناً، وكذلك أبناؤه المؤمنون قال تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى" ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون 26 {الأعراف: 26}.
وكيف يعتمد أتباع المذهب المادي على الحفريات والتقاط الآثار، لمعرفة بداية خلق الإنسان ونشأة الحياة؟
وقد خالف أتباع النزعة المادية علماء المسلمين في تفسير الآية الكريمة: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على" كل شيء قدير 20 {العنكبوت: 20}.
قال القرطبي رحمه الله: "أولم يروا كيف يبديء الله الثمار فتحيا ثم تفنى، ثم يعيدها أبداً، وكذلك سائر الحيوان، أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد، فهو القادر على الأعادة" ثم يقول: "قل لهم يا محمد، سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، انظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم، كيف أهلكهم لتعلموا بذلك كمال قدرته"(13).
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "يقول الله تعالى ذكره ل صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: (سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله الأشياء، وكيف أنشأها وأحدثها، وكما أوجدها وأحدثها ابتداء فلم يتعذر عليه إحداثها مبدئاً فكذلك لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً...)"(14).
فمن خلال أقوال العلماء السابقة يتبين لنا الملاحظات التالية:
1- أن المخاطبين بهذه الآيات هم الملحدون بآيات الله والمنكرون للبعث بعد الموت، والخطاب دعوة للتفكير بمخلوقات الله الدالة على قدرته والاعتبار بالعاقبة كقوله تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين 69 {النمل: 69}. والآيات في لفت النظر إلى هلاك الأمم الكافرة والمكذبين بآيات الله كثيرة. قال تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 137 {آل عمران: 137} .
وقال تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين 42 {الروم: 42} .
فالآيات الكريمة توجه أنظار الخلق ليعتبروا بما آلت إليه الأمم الكافرة بعد قوة ومنعة، ثم دمر الله عليهم ديارهم فما ترى إلا آثارهم. قال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى" عنهم ما كانوا يكسبون 82 {غافر: 82}.
2- إن المخاطبين بالآية التي استشهد بها جودت سعيد من سورة العنكبوت، هم المعاصرون للنبي r، هذا ولم يصلنا أن النبي ترك المدينة وصار يبحث في الوديان أو البحار منقباً عن الآثار، ولم يقم بذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يعلمهم كل جزء من أمور دينهم مهما كان صغيراً، كما أننا لم نسمع أن أحداً من علماء المسلمين، فسر هذه الآية بالمعنى الذي ابتدعه جودت سعيد، فهل نأخذ بقوله، أم بقول هؤلاء؟!"(15).(36/152)
وجودت سعيد قد لا يقف على الكتاب والسنة، انظر إلى قوله: "إن دلالة الكتاب أي القرآن يمكن أن تلغى إلغاء تاماً وكأنها غير موجودة، والذي سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر، وحوادث التاريخ، أي أن الذي سيعلمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ، فهي التي ستعلمنا، والمثل على ذلك: قل سيروا في الأرض 69 {النمل: 69}"(16).
تبني نظريات علم الاجتماع الوضعي:
وهي من مصادر المعرفة، التي استلهمها الشيخ جودت سعيد وتلاميذه، وقد ظهر هذا المصطلح خلال كتابات (أوجست كانت)، الذي ينسب إليه إنشاء علم الاجتماع الوضعي - المادي - في أوربا.
وهو عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي، عاش ما بين (1798 و 1857)، ويعتبر مؤسس الفلسفة الوضعية.
وسوف نلاحظ مدى التطابق بين أفكار جودت سعيد، وأفكار (كانت).
(فكانت) يؤكد على فكرة (مراحل التاريخ)، أو مفهوم التغيير الاجتماعي.
ويقسم الحياة البشرية إلى مراحل محددة، وأطلق على المرحلة التي عاش فيها الأنبياء، مرحلة الطفولة، تشبيهاً لها بأوصاف الأطفال الذين لم يبلغوا مرحلة الشباب والرشد(17).
وقد تبنى جودت سعيد معظم هذه الآراء، واعتمد على فكرة مراحل التاريخ، في تقرير أفكاره، كما جاء في مقدمة كتابه: (حتى يغيروا ما بأنفسهم)(18).
فهو يدعو إلى الاحتكام إلى التاريخ، باعتباره يمثل مصدر (العلم والمعرفة).
ولم ينسب جودت هذه الأفكار لأصحابها من علماء الاجتماع الوضعيين في الغرب، وإنما طرحها وكأنها من اخترعه وابتداعه، بينما هو يستمدها من هؤلاء جاهزة مرتبة، لا يعنيه من ذلك إلا إضفاء الصبغة الإسلامية عليها، بإضافة بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وقد يختار أحياناً كلمات من التوراة والإنجيل، وأحياناً يعرض أفكار (زرادشت)، ويظهر أنه لا فرق عنده!!
وقد تأثر الشيخ (جودت) بهذه الأفكار تأثراً شديداً ولم يعد يعنيه إلا بث هذه الأفكار، بأي أسلوب كان(19).
يقول جودت سعيد: "إن العقل يمكن أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشاكل، إما أن يفرض فيها، أنها تخضع لقوانين، وإما أنها لا تخضع لقوانين، أولا يمكن كشف قوانينها"(20).
وقد طرح (كانت) أفكاره الوضعية، بنفس الأسلوب الذي صار يعتمده (جودت سعيد)، وذلك في قوله: "الطريقة الوضعية تقوم على الإيمان بأن الظواهر خاضعة لقوانين، والطريقة الدينية تقوم على الاعتقاد بأنها غير خاضعة لقوانين".
ويختار جودت هذه الأفكار المنحرفة، وينقلها بأسلوب غامض، لتكون ملائمة لأوضاع التخلف العلمي في ديار المسلمين - كما يزعم -، ويدعي أن المسلمين لا يأخذون بالأسباب ولا البحث عن العلل التي تسير من خلالها الأشياء، وهذا الأمر إن وجد بين المسلمين، فهو يقوم عند بعض الطوائف التي لا تتبنى المنهج الإسلامي..."(21).
وجودت سعيد، يعتبر أن المرحلة المادية الحالية، هي مرحلة الرشد والنضج، وكذلك تلميذه خالص جلبي، الذي يردد أقوال شيخه (جودت سعيد)، ويتابع أقوال قدوتهم (أوغست كانت).
يقول الجلبي: (بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش، والوحوش تطارده، يأكلها وتفترسه، يعيش على الصيد وجمع الثمار... ثم كانت الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان، تحرر الإنسان دفعة واحدة من الموت جوعاً، فسيطر على إنتاج غذائه، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة، وإلى انبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه، على ما أشار إليه عالم الاجتماع (دركايم) في كتابه: (تقسيم العمل)(22).
فالتطور بهذا الشكل، ينبع من نظريات علماء الاجتماع الغربيين ومن وحي نظرية دارون التي تناقض الأديان السماوية، وقد كفرت الكنيسة دارون ابتداء، وقالت عنه: إنه زنديق مارق من الدين، لأنه ينفي الخلق المباشر من الله للإنسان)(23).
ومن الملاحظ أن تقسيمات التاريخ عند أصحاب المدرسة الوضعية، هي تقسيمات جاهلية ظنية، تهمل تاريخ النبوات وأثرها على حياة البشرية، لأن النظر الشرعي، يقتضي تقسيم تاريخ البشرية بحسب موقفها من الرسل إلى قسمين:
1- المؤمنون: الذين استجابوا للرسل، وأفردوا الله بالعبادة وأخلصوا له التوحيد، وأقاموا حضارتهم على هذا المنهج. ولهؤلاء ولتاريخهم سمات وخصائص، يجب ملاحظتها، وأخذها بعين الاعتبار عند تقسيم العصور التاريخية.
2- الكفار: الذين كذبوا الرسل، وأشركوا مع الله غيره فهؤلاء أقاموا تاريخهم وحضارتهم على هذا المنهج الكفري، ويشترك تاريخهم في سمات وخصائص نابعة من منهجهم ونظرتهم للكون والحياة(24).
فالتاريخ الإسلامي يقول: "إن توحيد الله هو الأصل في حياة البشر، والشرك طارئ عليهم، وتعرفنا على تاريخ آدم عليه السلام وذريته إلى عهد نوح عليه السلام، يبين لنا أن البشرية كانت على التوحيد، ولا تعرف الشرك أبداً، وأول ما ظهر الشرك كان في القوم الذين بعث إليهم نوح عليه السلام"(25).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"(26).(36/153)
فمصادر المعرفة عند أتباع المدرسة المادية، تضاد مصادر المعرفة عند أهل السنة والجماعة، وتعتمد على فلاسفة وعلماء عرف عنهم الإلحاد حتى في ديارهم، كداروين وأوغست كانت، وماركس، ولينين وكذا الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين، كما سيأتي بيانه.
الإعجاب بما توصلت إليه الماركسية من نتائج:
يكاد المسلم لا تنقضي دهشته من موقف الشيخ جودت سعيد وأتباعه، من حيث الإعجاب بالماركسية، وما توصلت إليه، مع أن الإنسان العادي بات يعرف ما تدعو إليه الماركسية من كفر وإلحاد.
وها هي الماركسية قد تمزقت في ديارها وظهر عوارها في جميع الميادين السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
فجودت سعيد وخالص جلبي، لا يخفيان الإعجاب بالمنهج المادي وخصائصه حتى اليوم.
يقول الشيخ جودت سعيد، عندما تعرض لتفسير آية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم 11 {الرعد: 11}، "والفكر الماركسي، لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مائة عام إنما كان في تبنيهم لهذه الفكرة وإدراكهم لها"(26).
فالشيخ جودت يشهد هنا للكفر الماركسي بالأصالة، ويصفه بالقدرة والتماسك، وكأنه يشعر الناس بأن مصدر الفكر الماركسي، ينهل من كتاب الله تعالى..
والأغرب من كل ذلك أن جودت سعيد، ما زال يدعو الشباب المسلم إلى هذا الفكر، ليقوم بعملية التغيير انطلاقاً من المبدأ الماركسي، حيث يقول: "وكذلك إذا تذكرنا أنه علينا أن لا نبخس الناس أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب الصواب في النظرية الماركسية، لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفضنا جانب الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم، لا نكون مصيبين"(27).
فالشيخ جودت يقرر هنا، أن النظرية الماركسية، تحوي صواباً يجب على المسلمين أن يأخذوا به!!
وماذا في هذا المنهج المناقض للفطرة البشرية، وقد سقط غير مأسوف عليه؟!!
ومن الملاحظ أن أصحاب هذه المدرسة المادية يسايرون النظريات الشيوعية في أهم مبادئها المادية وهي: الديالكتيكية، والمادية التاريخية.
يقول ستالين في كتابه: (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية): "تقوم المادية الفلسفية على مبدأ آخر، هو أن المادة والطبيعة والكائن الحي، هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك، أو الشعور، بصورة مستقلة عنه، وأن الفكر هو نتاج المادة".
وها هو جودت سعيد يقرر هذا المفهوم المادي، كما أخذ به الماركسيون بالضبط، فهو يقول: "الوجود الخارجي - أي المادي - هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للنقصان"(28).
وقد مر معنا قول خالص جلبي مؤكداً هذا المعنى عندما يقول: "إن فكرة: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق 20 {العنكبوت: 20}. تعني أن الأمر هنا هو السير في الأرض، حيث تتحول الأرض والواقع إلى شواهد كتاب ينطق بحقائق لا توجد إلا فيه، فالأمر هنا هو السير في الأرض، وليس السير في الكتاب (أي القرآن) أي قراءة الواقع وليس قراءة النصوص، والظن بأن الاستغناء بالكتاب عن الواقع، هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة مروعة"(29).
فالواقع الخارجي هو الأساس لدى أصحاب هذه المدرسة، وليس النصوص الشرعية من قرآن كريم أو سنة نبوية.
ويساير أصحاب النظرة المادية الماركسيين في المادية التاريخية، فقد تابعهم جودت سعيد خلال دراسة لتاريخ المجتمعات، ومن ثم فقد اهتم بالتاريخ وجعله مصدراً من مصادر المعرفة الأساسية، وأصبح يقدمه على دلالة آيات الكتاب، كما جاء في قوله: "....إن الذي سيعلمنا ليس القرآن وإنما حوادث التاريخ، والكون، فهي التي ستعلمنا"(30).
قوانين سير المجتمع: (31)
هنا يحاول جودت سعيد إبراز جوانب أخرى من النظرية الماركسية، باكتشافهم لقوانين سير المجتمع فيقول: "وكذلك الأمر الآن في النظرية الماركسية، من إثبات سنن الاجتماع، فإذا اهتدوا إلى سنن وآيات في سير المجتمعات، فإن ذلك لا علاقة له بنفي الإيمان...فعلينا أن نتأمل السنن التي يستخدمونها في تسخير المجتمع لهدفهم الذي اتخذوه ونكون في هذه الحالة قد حصل لنا المناعة التي نحن في حاجة إليها"(32).
وعموماً فإن الشيخ جودت سعيد، لا يخفي رأيه في موضوع علم الاجتماع الغربي، حيث يجعل مؤلفاته كلها مرتعاً خصباً لتلك الأفكار، وينطلق في ذلك من قدرة الإنسان على إحداث التغيير، ومعرفة سنن التغيير، وهو يعترف صراحة أن هذه السنن هي من اكتشاف الماركسيين والعالم الغربي بشكل عام، حيث يقول: "أما الكشف العلمي بأن هذه السنن تخضع لسلطان الإنسان، بشكل من الأشكال، فقد تنبه إليه في العصر الحديث إنسان محور (واشنطن - موسكو)، قبل غيره"(33).
لقد تناسى جودت سعيد مآسي الشيوعية في البلاد التي خضعت لمظالمها، ولعل الشيخ قد سمع من آبائه وأجداده ما عانوه من الماركسيين قبل هربهم من سطوة الإرهاب الشيوعي الأحمر.(36/154)
وعموماً فقد حذر علماء المسلمين من اتباع مناهج أهل الضلال وطرقهم المظلة "ذلك أن النظر في كتب الإلحاد والكفر، والفسق والفجور، مخالف لطريق أهل الاستقامة، حيث كانوا ينهون أشد النهي عن النظر فيها للقراءة المجردة، لما تحتويه من الشبهات والكفريات، والاستهزاء بالدين وأهله، فكل هذا لا يجوز النظر فيه إلا لعالم متمكن، بقصد الرد على باطلها، والتحذير منها"(34).
فما بالك بمن تبنى تلك الآراء الضالة، مشيداً بأصحابها، ويسعى جاهداً لنقل ذلك الغثاء إلى ديار المسلمين؟! فللمنهج أهمية كبيرة في مجالات التربية وميادين التغيير، ولذلك كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يتشدد مع أصحابه في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية.
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواعظ من التوراة، وقال: هذه كنت أصبتها مع رجل من أهل الكتاب. قال: "فاعرضها علي، فعرضتها فتغير وجهه تغيراً شديداً، ثم قال: "لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم"(35).
ذلك أن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية... كما تحمل الشك في كفاية نهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء.. كما أن أهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها..."(35).
الهوامش:
1- ينظر تفصيل ذلك: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ص: (5-6)، الطبعة الثانية.
2- كتاب (اقرأ وربك الأكرم) للشيخ جودت سعيد، ص: (55).
3- جريدة الرياض العدد (10188) في 16-5-1996م .
4- مذاهب فكرية معاصرة: الأستاذ محمد قطب، ص: (96-98).
5-6- ينظر النزعة المادية في العالم الإسلامي: الأستاذ عادل التل، ص: (185, 219).
7- جريدة الرياض العدد: (10405) في 9-8-1417ه.
8- ملحق الرسالة في جريدة المدينة في مقابلة مع جلبي ابتداء في 28-8-1423ه.
9- كتاب اقرأ وربك الأكرم ص: (153-154) دار الفكر المعاصر-بيروت.
10- ندوة تلفزيونية في دمشق؛ بالاشتراك مع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
11- ندوة السويداء في شريط مسجل، بصوت جودت سعيد خلال الندوة، نقلاً عن الأستاذ عادل التل في كتابه: (النزعة المادية)، ص: (214-215).
12- مشكاة المصابيح، حديث (5737)، رواه الإمام أحمد، وصححه الشيخ الألباني.
13- تفسير القرطبي، ج(13-336).
14- تفسير القرطبي، ج(20-138).
15- النزعة المادية في العالم الإسلامي-عادل التل، ص:(192-193) بتصرف يسير.
16-رسالة انظروا، رقم (40)، ص(8)، جودت سعيد.
17- ينظر: النزعة المادية في العالم الإسلامي: للأستاذ عادل التل، ص:(78-83).
18- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، دار الفكر المعاصر، بيروت- 1414ه.
19- النزعة المادية لعادل التل، ص: (81).
20- حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص: (31).
21- النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (82)، عادل التل.
22- جدلية القوة والفكر والتاريخ: خالص جلبي، ص: (161)، بيروت ودمشق، 1420ه، ودركايم عالم اجتماع يهودي معروف.
23- مذاهب فكرية معاصرة، الأستاذ محمد قطب، ص: (95).
24- 25- المدخل إلى علم التاريخ: د. محمد بن صامل السلمي، ص: (45-46)، وص: (26).
26- اقرأ وربك الأكرم: جودت سعيد، ص: (219).
27- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، ص: (107)، طبعة 1993م.
28- اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص: (55).
29- جريدة الرياض، العدد (10188) في 16-5-1996م.
30- رسالة انظروا رقم (40) اللغة والواقع، ص: (8).
31- ينظر النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (94).
32- حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص: (109).
33- المرجع السابق، ص: (52).
34- فاستقم كما أمرت: الشيخ عبدالعزيز الجليل، ص: (335).
35- أخرجه أحمد في المسند، ج(3-471)، والدارمي والبيهقي في الشعب ومجمع الزاوئد: (1-173)، وقال الشيخ الألباني بعد أن استقصى طرق الحديث: هو على أقل تقدير حديث حسن، انظر: إرواء الغليل: ج(6)، ص: (34-37).
===============(36/155)
(36/156)
الجذور الفكرية والعقدية للمدرسة العصرانية ذات النزعة المادية (2/2)
محمد حامد الناصر
تحدثنا في الحلقة السابقة عن تبني أتباع هذه النزعة لآراء أوغست كانت الوضعية، ونظرية داروين، مع الإعجاب بالماركسية الجدلية.
وفي هذه الحلقة نكمل بقية الجذور العقدية عند هذه المدرسة.
فقد سلكوا طريقة المعتزلة في تضخيم العقل وتقديمه على نصوص الشرع الحنيف.
كما اتبعوا طريقة الفرقة القدرية، التي تعطي الإنسان القدرة على خلق أفعاله، وأنه فاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، وهو المجازى على فعله.
"وأن الله سيغير ما بالقوم حتماً، إن هم غيروا ما بأنفسهم، سنة الله"(1).
المدرسة العقلية الأولى "المعتزلة":
كانت تقدم العقل على الشرع، فكذب رجالها مالا يوافق العقل من الحديث الشريف، وأولوا مالا يوافق رأيهم من الآيات الكريمة، وفسروها تفسيراً يتفق مع مبادئهم(2).
وقد تأثر أصحاب النزعة المادية من العصرانيين، بهذا الفكر المنحرف، فاختاروا من الآيات ما يوافق رأيهم، وأبطلوا الأخذ بالتفاسير الموثوقة حينما لا توافق آراءهم، وكذبوا كثيراً من الأحاديث الشريفة وجرحوا رواتها.
وقد عرف عن المعتزلة سوء الأدب والتطاول على أصحاب رسول الله {.
"فهذا عمرو بن عبيد - أحد كبار المعتزلة - يقول: "والله لو أن علياً وعثمان وطلحة والزبير، شهدوا عندي على شراك نعل ما أجزته"(3)، رضي الله عن صحابة رسول الله جميعاً.
كما ولغ بعض ضالي المعتزلة في أعراض الصحابة، خلال فتنة وقعة الجمل ومعركة صفين، إذ زعم كل من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد: "أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة ولا تقبل شهادتهم"(4).
وقد سار الدكتور خالص جلبي على طريقة المعتزلة في مهاجمة أصحاب رسول الله {، كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهما. ومن أقواله: "وشخصيات هامشية في الثورة الإسلامية الأولى، من طراز عمرو بن العاص ومعاوية، حرفت مسيرة الخلافة الراشدة"(5).
ولا يمل من تكرار الغمز والتعريض بمعركة صفين، وبني أمية وفتوحاتهم، فيقول: "عندما يقلب معاوية الوضع الراشدي لبناء دولة بيزنطية، ونسخ الخلافة الراشدة بالتآمر الأموي"(6).
أتباع فرقة القدرية في القول بالمشيئة(7):
"من خلال أساليب التغيير".
اختار الشيخ جودت سعيد عنواناً بارزاً لأحد كتبه، وهو جزء من آية كريمة حتى" يغيروا ما بأنفسهم( 11 ) {الرعد: 11}.
وقال: لقد كان جهدي كله في هذا الكتاب، ينصب على بيان إحدى وظيفتي تغيير ما بالنفس، وهي وظيفة الإنسان وتفسير الآية التي هي عنوان الكتاب، كان يدور حول هذا الأساس(8).
والآية تمامها هي: سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار 10 له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال 11 {الرعد:10-11}.
وقد وضع جودت لهذا الجزء من الآية تفسيراً لا يستقيم مع القرآن ولا مع السنة النبوية، ولا مع مفاهيم اللغة العربية.
فهو يقرر هنا قاعدة للتغيير، تتلخص في إعطاء البشر القدرة على التغيير على طريقة القدرية النفاة، أي الذين ينفون القدر.
وقد جاء في تحديد منهج القدرية قول الشهر ستاني: "القول بالقدر، إنما هو مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي. يقولون: العبد فاعل للخير والشر، والإيمان والكفر.. وهو المجازى على فعله، والرب تعالى أقدره على ذلك كله".
ويقول أيضاً نقلاً عن القدرية: "إن الله قد فرض علينا، أن نقوم بهذه الأفعال، وأن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم"(9).
ويتابع الشيخ جودت القدرية في معتقدهم، فينسب التغيير للإنسان، وأنه هو الذي يصنع مصيره بنفسه وأنه يصنع التاريخ، وأن تغيير الله تابع لتغيير البشر، فيقول: "إن الله سيغير ما بالقوم حتماً، إن هم غيروا ما بأنفسهم، سنة الله"(10).
فهو يعتبر أن مشيئة الله لاحقة لمشيئة البشر، وهذا هو مذهب القدرية الفاسد. يقول أيضاً: "تغيير القوم وتغير الله لابد من توفرهما جميعاً، ليتحقق التغيير، كما أنه لابد من أسبقية التغيير الذي يحدثه القوم، إلا أن هنالك ترابطاً بين التغييرين، فإذا وقع التغيير الذي يخلقه الله، دل ذلك قطعاً على أن التغيير الذي يقوم به القوم، قد سبق أن حدث؛ لأن الله تعالى اشترط هذه الأسبقية.."(11).
ويكرر جودت سعيد هذه المعاني كثيراً في كتبه ومقالاته، فهنالك علاقة متينة بين أفكار هذه المدرسة، والأفكار التي روجتها القدرية المعطلة أو القدرية النفاة، وكان الجعد بن درهم من رؤوسها، وهو أول من قال بالقدر، وقد ضحى به خالد بن عبدالله القسري في البصرة، وكان الحسن البصري ينهى عن مجالسته، ويقول: "هو ضال مضل"(12).
وأخذ عنه معبد الجهني، الذي قتله الحجاج صبراً، وهو أول من أظهر القول بالقدر في البصرة، وقد نهى الحسن البصري عن مجالسته أيضاً، ثم تبنت المعتزلة هذه الآراء وأدخلتها في منهجها(13).
ويأتي أصحاب النزعة المادية في هذا الزمن، في محاولة لإحياء ذلك الفكر المنحرف.(36/157)
مفهوم الشيخ جودت سعيد للمشيئة يخالف آراء العلماء الثقات من سلف هذه الأمة:
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد أثبت الله المشيئتين، مشيئة الله ومشيئة العبد، وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب، ثم ذكر قوله تعالى: إن هذه تذكرة فمن شاء \تخذ إلى" ربه سبيلا 29 وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما 30 {الإنسان: 29 - 30}(14).
ويقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية وما تشاءون إلا أن يشاء الله: "لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يجد لنفسه نفعاً" "إلا أن يشاء الله..." "فالله أعلم. لمن يستحق الهداية، فييسرها له، ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة... فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له"(15).
إلا أن أتباع المدرسة المادية يصرون على أن تكون مشيئة الله تابعة لمشيئة البشر، وهو فهم معكوس يخالف منهج أهل السنة ويؤيد منهج القدرية والمعتزلة.
ولو رجعنا إلى أقوال علماء التفسير الثقات للآية الكريمة التي جعلها جودت سعيد محور كتابه: حتى" يغيروا ما بأنفسهم لوجدنا تفسيره بعيداً كل البعد عن التفسير السليم والفهم الصحيح.
يقول ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: "فتأويل الكلام: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، لظلم بعضهم بعضاً، واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره"(16).
يلاحظ هنا أنه لا يوجد دليل في الآية على أنها تبحث في المشيئة، أو في الهدى والضلال، وأن التغيير محصور في التحول من الطاعات إلى المعاصي، فتكون العقوبة بالتغيير من النعمة إلى النقمة.
مفهوم التغيير عند أصحاب المدرسة المادية:
يتلخص فيما يأتي:(17)
1- جعل الإنسان قادراً على تغيير ما في نفسه، وما في نفوس الآخرين.
2- الاعتقاد بقدرة الإنسان على أنه يملك مصيره بيده.
3- التغيير عندهم يشمل المسلم وغير المسلم.. ويشمل إلغاء الفوارق بين الأديان لصالح دين الإنسانية العالمية والتقارب بين الأديان.
4- استخلص الشيخ جودت قاعدة مطردة في سنن التغيير وهي أن الله أسند مهمة التغيير للبشر من خلال آية: حتى" يغيروا ما بأنفسهم، والحقيقة أن الأمر كله بيد الله.
وعموماً فإن قناعة الشيخ جودت سعيد، مخالفة للقدر الشرعي، نافية له على طريق معبد الجهني، وفرقة القدرية.
وها هو يشيد بالفضل لمحور (واشنطن - موسكو) في كشف قوانين التغيير عندما يقول: "وأما الكشف العلمي بأن هذه السنن تخضع لسلطان الإنسان بشكل من الأشكال، فقد تنبه إليه في العصر الحديث إنسان محور "واشنطن - موسكو" قبل غيره(18).
فهو يؤكد نظريته في التغيير الاجتماعي، حينما يشيد بالأفكار الغربية، ويبدي اهتمامه بتطويع الدين ليتلاءم مع نظريات علم النفس وعلم الاجتماع، وأنه لا سبيل إلى تغيير ما في النفوس البشرية، إلا باتباع هذه العلوم الإنسانية.
يقول جودت سعيد: "إن هذا العلم لا يزال في توحشه، ولم يستأنس بعد عند المسلمين، حتى يسخروه لتغيير ما بأنفسهم، ولكشف ما ينبغي أن يغيروا ما بأنفسهم"(19).
فأين كتاب الله وأين حديث رسول الله {؟!
هل أصبحا غير صالحين لأداء مهمة التغيير المنشودة؟!
يقول جودت سعيد: "إن آيات الكتاب قد تكف عن أدائها دور العلم في ظروف معينة"(20).
فالبديل عنده هو: آيات الأنفس والآفاق، وحوادث التاريخ والكون.
النزاع في مسألة القدر وموقف أهل السنة والجماعة:
يقودنا البحث في وسائل التغيير، التي وضعها الشيخ جودت في كتبه بدلاً من مفهوم التجديد عند أهل السنة، إلى إيضاح مفهوم القدر، والتأكيد على كونه ركناً من أركان الإيمان وهو جزء رئيس من عقيدة المسلم.
قال ابن حجر في تعريف القدر: "إن الله تعالى، علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا من المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين"(21).
والشواهد على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة.
قال تعالى: وأن الله قد أحاط بكل شيء علما 12 {الطلاق: 12}، ومن ذلك الإيمان بأن الله كتب الأشياء قبل خلقها، في كتاب عنده: إنا نحن نحيي الموتى" ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين 12 {يس: 12}. والمقصود هنا: هو إحصاء الأعمال في اللوح المحفوظ قبل أن يعملها العباد.
والأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع كثيرة، تؤكد مفهوم الإيمان بالقدر.
قال عليه الصلاة والسلام: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"(22).
فالمسلمون يجمعون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وخالفهم في ذلك القدرية، فجوزوا أن يكون في الوجود مالا يشاء الله، مثل أفعال الإنسان وحريته المطلقة في التصرف في هذا الكون.
وجاء في الحديث الشريف: "إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: أكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد"(23).(36/158)
وكتابة الله عز وجل لأعمال العباد لا تقتضي جبرهم عليها أصلاً، وإنما هي تسجيل لما علم الله أن العباد يفعلونه باختيارهم، فإن العلم الأزلي المحيط قد كشف الله عز وجل كل الأمور المستقبلية، التي من جملتها أعمال العباد، فكتبها الله على الوجه الذي يتعلق به العلم.
"وغاية ما في الأمر: أن ما تعلق به العلم لابد أن يقع.. ولا شك أن من جملة ما تعلق به العلم هو اختيار العباد لأفعالهم الصادرة عنهم بقدرهم وإرادتهم، فلا يصح لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب، فإن الله لا يشاء من العباد إلا ما علم أنهم يشاؤونه لأنفسهم، ولا يظلم ربك أحداً"(24).
وقد أنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها، ولم يتقدم علمه سبحانه بها، وإنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا بذلك على الله سبحانه، وجل عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً(25).
ويزعم أصحاب المدرسة المادية رغم كل النصوص الشرعية أن الإنسان خالق لأفعاله، وأن الإيمان بالقدر يعطل فعالية الإنسان، لذلك اتبعوا منهج القدرية النفاة. بينما كان الإيمان بالقضاء والقدر قوة دافعة في حياة الأمة المسلمة، قوة إيجابية سطر المسلمون خلالها حضارة متوازنة بشجاعة وإقدام، ونشروا العدل والخير في العالم.
قولهم بحتمية السنن في الأنفس والآفاق:
ونتحدث هنا عن:
- السنن في مفهوم أهل السنة والجماعة.
- المفهوم البدعي للسنن عن أتباع المدرسة المادية.
- فتنة أصحاب هذا التيار بعلوم الحضارة الغربية.
1- السنن في مفهوم أهل السنة والجماعة:
مصادر الأدلة عند المسلمين هي مصادر الشرع وأصول الدين، وهي قائمة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
ولا يجوز الخروج عليها، ولا ترك شيء منها، أو إلغاء مصدر منها، أو إهمالها لأي مسلم.
والسبيل إلى معرفة (سنة الله) هو الرجوع إلى كتاب الله العظيم، وسنة نبيه الكريم، فما فيهما هو القول الفصل، والقانون العام الذي تجري بموجبه أحداث ووقائع البشر، وذلك هو الحق المبين والقول الصدق ومن أصدق من الله قيلا 122 {النساء: 122}.
قال ابن تيمية - يرحمه الله -: "فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات"(26).
ويذكر الدكتور عبدالكريم زيدان في كتابه: (السنن الإلهية) أن البشر يخضعون لقوانين ثابتة يسميها القرآن بالسنن - في تصرفاتهم وأفعالهم وسكونهم في الحياة، كسنة الله في أمر الطغيان والطغاة، وسنة الله في بطر النعمة، وسنته في الذنوب والسيئات، وسنته في الترف والمترفين، وفي الظلم والظالمين، وسنته في الفتنة والابتلاء، وسنته في الأسباب والمسببات وهكذا(27).
فالله سبحانه وتعالى جعل في خلقه سنناً، وأرشدنا إليها، وطلب منا التعرف عليها، والتعامل معها.
اقرأ قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 137 {آل عمران: 137}.
وبالنظر في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، نجد أن السنن ثلاثة أنواع.
أ- سنن خارقة للعادة ومألوف الناس: مثل الآيات والبراهين التي يجريها الله على أيدي الأنبياء عليهم السلام، والكرامات الصحيحة لأولياء الله من عباده المؤمنين.
ب - سنن جارية طبيعية: كسنة الله في تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فهي تجري وفق ناموس محدد، قدره الله لها.
ج - سنن جارية شرعية: تتعلق بأمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، مثل نصر الله لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وابتلائه لبعض عباده المؤمنين.
وهذا النوع يدرك ويرى متحققاً في الواقع من خلال النظر في التاريخ، وملاحظة مصائر الأمم وقيام الحضارات وسقوطها وأسباب ذلك(28).
قال تعالى: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين 6 {الأنعام: 6}.
وفائدة معرفة السنن الشرعية هو التجاوب معها أمراً ونهياً، عملاً وامتناعاً، فإذا كانت السنة الربانية تطلب منا عملاً وتأمرنا بأمر، مثل سنة التمكين وسنة تحقق النصر وسنة رفع البلاء والمكروه، فلنقم بذلك الأمر حتى نستجلب خير السنة الإلهية.
وإذا كانت تنهانا عن شيء، وتطلب منا الإقلاع عنه، حتى لا تحيق بنا السنة الربانية، فلنتجاوب مع ذلك، ونتجاوز مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار والهلاك، والتي قص الله علينا خبرها، وبين سبب هلاكها، وأخذها في كتابه الكريم(29).
2- المفهوم البدعي للسنن عند أصحاب المدرسة المادية:
عندما تناول الشيخ جودت سعيد مصادر الأدلة، تعامل معها من خلال نظريات علم الاجتماع الوضعي، وأخضعها للمنهج المادي.
وقد فعل ذلك عند تفسير قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى" يتبين لهم أنه الحق 53 {فصلت: 53}.(36/159)
فالشيخ لا يخفي رأيه هنا، بأن هذه الآية قد نقلت مصدر الأدلة من القرآن الكريم إلى آيات الآفاق والأنفس فيقول: "هذه الآية تنقل أدلة موضوع الفكر الديني الذي تقرره آيات الكتاب، تنقل مصدر الأدلة من آيات الكتاب إلى آيات الآفاق والأنفس، وهذه النقلة بعيدة المدى لم تكن البشرية مهيأة لها من قبل، بل لا تزال غير مهيأة لها حتى الآن... وهذا ما جعل مصدر أدلة العلم والإيمان مختلفة في أذهان العالم المعاصر، فجعلوا الدين غير العلم، وأن مصدر العلم من الواقع، ومصدر الدين من الغيب، وهذه الآية تدمج الدين دمجاً كاملاً في العلم الواقعي في المحيط الإنساني ليكون موضوع تأمل الناس"(30).
فمن هم الذين جعلوا العلم غير الدين؟! أليسوا هم سادته في أوربا، والذين ينقل عنهم هذه الآراء؟! لقد كانت العلوم عند المسلمين منبثقة من الكتاب والسنة طوال عهود حضارتهم.
ويقرر الشيخ جودت أن الأدلة عن بدء الخلق ليست في الكتاب وإنما في السير في الأرض فيقول: "إن آية الآفاق والأنفس حددت مكان الدليل ومصدره؛ بأنه ليس الكتاب فلا نطلب كيف بدأ الخلق من الكتاب، وإنما نطلبه من السير في الأرض والنظر، كما أمر بذلك الكتاب، فالحكم في الكتاب أي القرآن - والدليل في الواقع والأرض، وآيات الآفاق والأنفس"(31).
إنها لجرأة عجيبة بحق كتاب الله، لم يتجرأ عليها حتى العلمانيون والمستشرقون في تعطيل آيات القرآن، وصرف النظر والدليل إلى حفريات الملاحدة ونظرياتهم المتناقضة.
قال تعالى: وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل فالشيخ يخالف كتاب الله وسنة نبيه وإجماع علماء المسلمين، بأن المرجع عند الاختلاف هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وبناء على هذا التوجه، فآيات الله تحتاج إلى الشهادة الدائمة والتزكية المستمرة من آيات الآفاق والأنفس كعلم النفس والاجتماع ونظريات داروين وكانت، وفي هذا تحكم في كتاب الله من مصدر آخر غير الوحي والأدلة الشرعية"(32).
ويزداد الشيخ صراحة، ويكشف عن خفايا انحرافه حينما يقول: "وللمجادل أن يصادر آيات الكتاب، ولكن لا يمكنه أن يصادر آيات الآفاق والأنفس، فمن هذا الجانب صار دليل الدين دليلاً عالمياً، وليس دليلاً لطائفة معينة من الناس"(33).
ويعتبر أن المعارف القديمة ظنية وتابعة للأهواء قبل أن تشهد لها العلوم المعاصرة. يقول: "فحينما بدأ علم النفس والاجتماع يأخذ أدلته من الآفاق والأنفس صار علماً.
وكذلك سيكون شأن الدين، حين يصير علماً في ظل آيات الآفاق - أي علوم الطبيعة - والأنفس"(34).
ويكرر جودت سعيد هذا الرأي فيقول: "إن منهج آيات الآفاق والأنفس هو الذي سيحدد معنى الكتاب، ومعنى السنة ومعنى فهم الناس لهما على مر التاريخ... وإن لهما - أي آيات الآفاق والأنفس - نوعاً من الوحي والأسلوب الذي يعلن به الله إرادته لخلقه... وهما طريقان لتحويل الدين إلى العلم والعالمية..."(35).
قد لا يتعجب المسلم حين يسمع أن علمانياً يطالب باستبعاد العمل بكتاب الله وعدم العودة إلى تطبيق الشريعة في الحياة، وأما أن يصدر هذا ممن يتشدقون بالعمل والتجديد في حقل الدعوة الإسلامية، فذلك أمر يدعو إلى مزيد من التأمل في هذه الظاهرة الغريبة ومتابعتها(36).
هذا وإن اعتماد جودت سعيد على مدلول الآية: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم... وتفسيرها تفسيراً منحرفاً يخالف ما قرره علماء التفسير الثقات.
قال القرطبي رحمه الله: سنريهم آياتنا في الآفاق أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا في الآفاق - في الآفاق: يعني خراب منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم أي: بالبلايا والأمراض.
وقال ابن كثير - رحمه الله -: "أي سنظهر لهم دلالتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلاً من عند الله على رسول ا صلى الله عليه وسلم ، بدلائل خارجية: (الآفاق) من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان".
ويقول سيد قطب رحمه الله: "إن كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة، بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي، كما أنها تنطوي على ثلاثة معاير، كلها لايليق بجلال القرآن الكريم:
الأولى: هي الهزيمة الداخلية، الذي يخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع.. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس..
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة، تعالج بناء الإنسان بناء يتفق مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي.
والثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن؛ كي
نلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد.
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات وحقائق عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن، بل نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق والأنفس من آيات الله..(37).
فتنة أتباع المدرسة المادية (المعاصرة) بعلوم الحضارة الغربية:(36/160)
هذا العلم الذي يقدمه جودت وأصحابه، على النصوص اليقينية هو ميراث الصراع بين الكنيسة ورجال العلم في أوربا، بينما لم يعرف المسلمون شيئاً من ذلك خلال تاريخهم الطويل، بل إن الإسلام شجع الحركة العلمية، فكانت حضارته حضارة رائدة منضبطة بالخلق والدين.
أما العلم الذي يريده هؤلاء فهو "العلم الذي تجنب البحث عن الغاية من الخلق، والنظر في الطبيعة بدلاً من النظر فيما وراء الطبيعة، أي في عالم الحس بدلاً من عالم الغيب"(38).
إن فتنة الشيخ جودت بالعلوم الوافدة، وفهمه لها فهماً لا يتناسب مع تراثنا وفهمنا لمعطيات الحضارة، هو الذي جعله يقدم تلك العلوم على النصوص الشرعية.
"فالعلاقة بين الإنسان، والكون تقوم على مبدأ التسخير من خلال مبدأ التسخير، وإدراك حقيقة أساسية، هي أن الله هو الذي سخر هذا الكون للإنسان، فقدره وخلقه بعد أن لم يكن، كما تفرد الخالق بالتشريع، فالله هو الذي ينظم هذه العلاقة بين الإنسان وهذا الكون، كما نظمها بين الإنسان والإنسان. يقول تعالى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون 12 {النحل: 12}(39).
إن إصرار جودت وزمرته، على إخضاع القرآن والسنة إلى العلوم الإنسانية والطبيعية فهماً وسلوكاً، هو نفسه مطلب العلمانيين، حيث يرون: أن أحكام الدين تعارض العلم، وتعارض المصلحة والواقع، فهي إنما جاءت لفترة زمنية، سابقة، ويريدون صبغ هذا الدين بصبغة غربية، باعتبار منشأ هذه العلوم..
ولكن كيف يكون لله الخلق والأمر، وأوامره خاضعة لرقابة خارجية، من العلوم الإنسانية الحديثة، وهي في معظمها ظنية ومتناقضة مع بعضها؟! إن هذا لشيء عجيب!!
فالتغيير عند المسلمين يبدأ من النفوس، حسب منهج الكتاب والسنة، وليس على منهج العلوم التي تتمرد على خالق السماوات والأرض، فإذا كانت الأمة على خير واستقامة وبذل وسعي جاد في إقامة العدل والحضارة، مكن الله لها، واستمر تمكينه مادامت محافظة على ذلك.
إما إذا قصرت أو تولت عما ذكرت به وتركت وظيفتها من الدعوة إلى دين الله، وعمارة الأرض بشرع الله، فسوف يزول عنها التمكين.
فلا بد من بذل الجهد، وتغيير واقع الأمة من التخلف والضعف، بامتلاك أسباب التقدم، حتى يبدأ التحول الاجتماعي والسياسي والثقافي نحو الحضارة المتكاملة، حضارة الإسلام الخالد كما أقامها الأسلاف(40)، لا كما يريد إقامتها الأخلاف على منهج كانت وفرويد وداروين!! وأمثالهم.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
1- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، ص: (86).
2- التفسير والمفسرون: الشيخ محمد حسين الذهبي، ج (1-372) وص:(373)، طبعة 1381ه.
3- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج (2-176-178)، المكتبة السلفية في المدينة المنورة.
4- الفرق بين الفرق للبغدادي، ص: (120).
5- جريدة الرياض العدد: (10481) في 1-3-1997م.
6- سيكولوجية العنف لخالص جلبي، ص: (157).
7- ينظر: النزعة المادية في العالم الإسلامي ص: (101-111) عادل التل.
8- حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص: (25).
9- الملل والنحل للشهرستاني، ج (1)، ص: (62).
10- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، ص: (86).
11- المرجع السابق، ص: (96).
12- سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ج (4)، ص: (185).
13- النزعة المادية: عادل التل، ص: (37).
14- الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ج (8)، ص: (238).
15- تفسير ابن كثير، ج(4-718)، طبعة دار الكتب العلمية.
16- تفسير الطبري، ج(13) ص: (121).
17- النزعة المادية: عادل التل، ص: (105-106)، بإيجاز.
18- حتى يغيروا ما بأنفسهم: جودت سعيد، ص: (25).
19- المرجع السابق، ص: (114).
20- اقرأ وربك الأكرم: جودت سعيد، ص: (229).
21- فتح الباري: ج(1)، ص: (118).
22- صحيح مسلم، ج(4-2044)، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
23- صحيح الجامع الصغير، ج (1-405)، وصحيح سنن الترمذي: ج (2-228)، حديث (1748).
24- فتاوى الدكتور محمد خليل هراس، ص: (82)، دار طيبة 1423ه.
25- شرح صحيح مسلم للنووي، ج (1)، ص: (154).
26- مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج(8)، ص: (70).
27- ينظر: السنن الإلهية في الشريعة الإسلامية: د. عبدالكريم زيدان ص: (15)، وبعدها مؤسسة الرسالة، بيروت 1419ه.
28- المدخل إلى علم التاريخ: د. محمد بن صامل السلمي ص: (10-11).
29- المرجع السابق ص: (12).
30- اقرأ وربك الأكرم: جودت سعيد ص: (218).
31- المرجع السابق، ص: (221).
32- النزعة المادية في العالم الإسلامي، ص: (123)، عادل التل.
33- 34- اقرأ وربك الأكرم ص: (222-223).
35- اقرأ وربك الأكرم ص: (224-225).
36- النزعة المادية: عادل التل، ص: (131).
37- في ظلال القرآن، ج(1)، ص: (182)؛ بإيجاز يسير.
38-39- مذاهب فكرية معاصرة: الأستاذ محمد قطب، ص: (263، 432، 435).
40- المدخل إلى علم التاريخ: د. محمد بن صامل السلمي، ص: (19).
=============(36/161)
(36/162)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير (3/1)
جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
لايخفى على أحد من أهل الإسلام شأن الفتيا وأهميتها، وعلو منزلتها وخطورتها، إذ هي توقيع عن الله عز وجل ورسوله .
ولقد كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يكفي الناس هذا الأمر؛ فما من نازلة تنزل دقيقة كانت أو جليلة، خاصة أو عامة إلا ويتوجه الصحابة إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم يبتغون الهدى والبيان؛ فيسألونه ويجيبهم، ويستفتونه فيفتيهم؛ فيصدرون عنه وقد شفى العليل، وأروى الغليل، ولم يترك لهم شاذة ولا فاذة إلا وقضى حاجتهم منها، وجاءهم الخبر آية من كتاب الله، أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وخذ مثلاً على ذلك ما جاء في قصة عقبة بن الحارث رضي الله عنه: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز؛ فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله بالمدينة فسأله فقال: "كيف وقد قيل؟" ففارقها عقبة، ونكحت زوجاً غيره(1).
وهكذا الحال على الدوام.. كلما جاؤوا بالمسائل جاءهم بالدلائل، فكان الأمر يقيناً كله.
الفتيا في عصر الصحابة:
ثم جاء عصر الصحابة رضي الله عنهم فكانوا أمنة حفاظاً، حماة للعقيدة، حراساً للشريعة، وهم رضي الله عنهم يتفاوتون في حمل العلم تفاوتاً بيناً، فمقل ومستكثر؛ ولهذا فقد تجد عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل وكلهم أهل فضل .
قال مسروق رحمه الله : لقد جالست أصحاب محمد ، فوجدتهم كالإخاذ جمع إخاذة وهي الغدير أو مجتمع الماء فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبدالله بن مسعود من ذلك الإخاذ(2).
وكانوا رضي الله عنهم محط أنظار الناس يومئذ، يهتدون بهديهم، ويقتفون أثرهم، ويتأدبون بسمتهم، وكل المسلمين يقصدونهم لأجل الفتيا والسؤال والتلقي عنهم، وأخذ العلم منهم، ولم يكن في زمنهم من يقوم مقامهم أويسد مسدهم، فالكل محتاج إلى ما عندهم من العلم.
زد على ذلك أن النبي قد هيأهم لهذا الأمر، وأخبرهم أن الناس تبع لهم، وأمرهم أن يستوصوا بطالب العلم خيراً، وأن يرحبوا به ويقبلوا عليه.
فعن أبي هارون العبدي قال:كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مرحباً بوصية رسول الله ، إن رسول الله قال لنا : "إن الناس لكم تبع، وإنهم سيأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيراً"(3).
فلم يكن بد من التصدي للناس، والنظر في قضاياهم، فبذلوا النفس والنفيس لنشر دين الله، غير ضانين بالعلم على أهله، واجتهدوا في تفقيه الخلق، وتحديث الناس، وقاموا بالوصية خير قيام رضي الله عنهم.
تورع الصحابة في الفتيا:
ومع ما حباهم الله به من الفضل والعلم إلا أنهم كانوا يتهيبون الفتيا، ويتحرزون منها، للعجز عن الإحاطة بالسنن والآثار كلها، فإن هذا ليس في مقدور أحد، ثم حتى مع العلم بها قد يعتري الإنسان شيء من الذهول والنسيان، أو أي عارض من العوارض التي تحول دون الإدراك الصحيح، والفهم المليح، فلولا حاجة الأمة، وخشية التأثم؛ لامتنعوا بالمرة، لأن الاجتهاد وبذل الرأي مزلة قدم، ومظنة سوء الفهم.
قال عبدالرحمن ابن أبي ليلى رحمه الله (ت82ه):"لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومئة من الأنصار، وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"(4).
الفتيا عقب عصر الصحابة:
ثم جاء من بعدهم من أهل القرون الأولى المباركة وقد ارتشفوا من فضائل الصدر الأول الميمون، وساروا على الأمر المستقيم، فكانوا على إدراك تام بأهمية مقام الفتيا ورفعته، فعظموه حق التعظيم، وقدروه قدره، فتحفظوا في الفتوى جهدهم، وصاروا يتدافعونها طلباً للسلامة، وقد تدور الفتوى دورتها بينهم حتى تعود إلى الأول، فإذا رأى أنه لا بد من الإجابة فلربما أجاب السائل وأفتاه وفرائصه ترتعد؛ كل هذا حذراً من القيل على الله بغير علم، ولا والله حاشاهم أن يقولوا على الله بغير علم،لكنه الورع التام، وهيبة المقام، وخشية الوقوف بين يدي رب الأنام.
قال سفيان الثوري رحمه الله: "أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بداً من أن يفتوا"(5).
وقال عطاء بن السائب رحمه الله : "أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء، فيتكلم وإنه لَيَرعدُ(6).
وعن عمير بن سعيد رحمه الله أنه قال: "سألت علقمة عن مسألة، فقال: إئت عبيدة فسله، فأتيت عبيدة فقال: إئت علقمة فقلت: علقمة أرسلني إليك، فقال: إئت مسروقاً فسله، فأتيت مسروقاً فسألته، فقال إئت علقمة فسله، فقلت: علقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك، قال: فأت عبدالرحمن بن أبي ليلى، فأتيت عبدالرحمن بن أبي ليلى فسألته، فكرهه، ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته"(7).(36/163)
وهذا الموقف النبيل من شرع الله الجليل انسحب على أمة الإسلام من عامتهم وخاصتهم تأثراً بعلمائهم، فإنهم بتعظيمهم للشرع قد أوجدوا سياجاً منيعاً في قلوب الخلق حول أحكام الملة؛ فاستقر في النفوس تعظيمها وتبجيلها وإكبارها، وأضفوا على النصوص هالة من الوقار والجلال، فلم يتجرأ أحد على العبث بالحرام والحلال، ولا تجاسر على الاستطالة عليها رقيق الحال، بل كل واحد منهم عرف مكانته ومكانه، حتى إذا انزلت بأحدهم نازلة يمم شطر هذا العالم أو ذاك؛ فسألوهم إذ لم يعلموا، إعمالاً لقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون(الإنبياء-7).
الاستهانة بالفتيا في العصور المتأخرة:
ثم تطاولت الأيام، ومضت السنون، ووقعت السنن، وحلت الأقدار بما مضى به القلم، وأصاب هذه الأمة ما أصاب سائر الأمم، وأصبح الحال كما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"(8).
ولا يزال أمر الأمة في انحدار وسفال حتى ظهر الرويبضة التافه يتكلم في أمور العامة واندثر عصر المفتين وجاء عصر المفتونين، وذهب زمن العلماء وجاء زمن المثقفين؛ بل وأنصاف المثقفين! وصار يفتي من ليس بفتي، وأصبحت مسائل الشرع وأحكام الملة كالكلأ ترتع فيه كل سائمة، وحتى مصنفات الأئمة ودواوين الإسلام لم تسلم من عبث الأقزام؛ بل من ذا الذي لم يعد يفهم الدين أصولاً وفروعاً في هذا الزمان؟! أليست المدارس قد انتشرت، والكتب الشرعية قد طبعت؟! إذن لماذا الكبت على حريات الناس، وتكميم الأفواه عن الكلام في الشريعة؟! لماذا التسلط على عقول الآخرين والحجر على أفكارهم؟! وهل هذه إلا رهبنة، ولا رهبانية في الإسلام!! "اللهم إنا نشكو إليك هذا الغثاء".
وما نراه اليوم في الفضائيات من فضائح على هيئة نصائح، ومواقف مخزية، وفتاوى مردية، وأقوال مخجلة، وآراء مجلجلة، "مبنية على التجري لا التحري، تعنت الخلق، وتشجي الحلق"، من قبل مفتي الجمهور، والعالم الهامور، الذي "يفتي في وقت أضيق من بياض الميم، أو من صدر اللئيم، بما يتوقف فيه شيوخ الإسلام، وأئمته الأعلام"(9)؛ لهو أكبر دليل على تسيب الفتوى، وانحلال عقد الأمور، والتعدي على حرم الشريعة.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويثلم(10).
ليس البلية في أيامنا عجب
بل السلامة فيها أعجب العجب!
وصرنا في زمان قل فيه العلماء وظهر أشباههم، وارتفع الأدعياء وكثر اتباعهم، وبرز المتعالم بل والعالم الماجن!، وبَدَا إبليس في صورة قديس، وجاؤوا يركضون وراء "العصرنة" ويلهثون خلف "التنوير"، وركبوا الصعب والذلول لإحياء المهجور، وتعلقوا بالرأي الشاذ المغمور، فكانت النتيجة: إذابة الفوارق، وتمييع العقيدة، وتحريف النصوص، وتعطيل الأدلة، وتبديل الفضائل، وتخريج الرذائل، والطعن في المسلمات، والتشبث بالغوامض والمبهمات، ...في غيرها من أخواتها النحسات النكدات، التي ملؤها التمويت والتمويه والتهوين، فاللهم غفراً.
ولقد حذرنا النبي من أناس يتشدقون بالعلم وليسوا أهله، يلوكون المسائل كما تلوك البقرة بلسانها، وأخبرنا أن من أشراط الساعة أن يطلب العلم المتين من هذا الصغير المهين، كما جاء في حديث أبي أمية الجمحي رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر"(11).
وليس المراد ب(الأصاغر) ههنا صغر السن.. كلا، بل المراد صغير القدر، ضحل العلم، ضائع التقوى، بائع الفتوى؛ لأن هذا الأمر مداره على الأهلية وليس على طول القامة، وكبر العمامة، فالعلم لا يقاس بالأشبار، ولا يعترف بالأحجام.
قال إبراهيم الحربي رحمه الله (ت285ه):"الصغير إذا أخذ بقول رسول الله والصحابة والتابعين فهو كبير، والشيخ الكبير إن ترك السنن فهو صغير". أه (12).
وذكر الإمام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) هذا الحديث وأحاديث أخر، وبوب على ذلك ب: بابٌ، حال العلم إذا كان عند الفساق والأرذال، ثم قال رحمه الله (ت463ه): "وقال بعض أهل العلم: إن الصغير المذكور في الحديث إنما يراد به الذي يستفتى ولا علم عنده، وإن الكبير هو العالم في أي شيء كان، وقالوا: الجاهل صغير وإن كان شيخاً، والعالم كبير وإن كان حدثاً... واستشهد بعضهم بأن عبدالله بن عباس رضي الله عنه كان يستفتى وهو صغير، وأن معاذ بن جبل وعتاب بن أسيد كانا يفتيان وهما صغيرا السن، وولاهما رسول الله الولايات مع صغر أسنانهما، ومثل هذا في العلماء كثير.(36/164)
إلى أن قال: ومما يدل على أن الأصاغر من لاعلم عنده ما ذكره عبدالرزاق وغيره، عن معمر، عن الزهري قال:"كان مجلس عمر مغتصاً من القراء شباباً وكهولاً، فربما استشارهم ويقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه؛ ولكن الله يضعه حيث يشاء. أه (13).
والآثار عن السلف مستفيضة في ذم الفتيا بغير علم، والنهي عن سؤال غير العلماء، والتنفير من الاستماع للجاهل الحقير، صيانة للإسلام وحماية لبيضته أن تستباح، ونصحاً لعباد الله المؤمنين، فكيف بمن جمع "حشفاً وسوء كيلة"! وصار ضره أقرب من نفعه! فالحذر الحذر أيها المسلمون كما قال هَرِم بن حيان رحمه الله: "إياكم والعالم الفاسق. أه (14).
وهؤلاء المتسلطون على ذخيرة الأمة، والساطون على ذخائر التراث، يتقحمون دار الفتيا بدعوى الاجتهاد، ويتخذونه مطية للتجني على النصوص الشرعية لا للجني منها، وفتحوا باب "المصلحة" على مصراعيه، فلا ضابط لها عندهم ولا قيد، وأصبح واسعاً فضفاضاً يلج منه كل من أراد الانتهاك أو التهوك.
زد على ذلك أنهم إذا تناولوا مسائل الشرع بالبحث والنظر؛ تناولوها بروح المنهزم المتراجع تحت ضغط الواقع؛ فينبهرون من وصول الغرب إلى المريخ، وينسون ما سطره أسلافنا في التاريخ، ويبهتهم التطور والتحضر والعمران ويجعلونه جزءاً من أصول فقههم، ومراعاة التكنولوجيا والتمدن مقصد من مقاصد شرعهم!
فهذه ثلاث عورات لهم : "اجتهاد" لا محدود، و "مصلحة" بلا حدود، وانهزام أمام الواقع المنكود.. فماذ بقي ياعباد الله!!
ولعل احتمال ظهور أمثال هؤلاء هو الذي حمل بعض من سبق من أهل العلم على القول باقفال باب الاجتهاد؛ خوفاً من أن يخوض في هذا الأمر من ليس أهلاً له فيعبث بالديانة، خاصة في آخر الزمان حين تقل الأمانة، فلله درهم ما أبعد نظرهم.
وإن كنا نقول: إن الاجتهاد أمر مطلوب لسد حاجات الأمة، ولا مفر من الإقرار والأخذ به؛ لكن لابد من ضبطه بالضوابط، وتقييده بالقيود، وإلا أصبح مطية ذلولاً لكل مارق ومعاند؛ فإن الاجتهاد "حركة عقلية في احكام الدين المشروعة لمصالح الأمة، وليس الاجتهاد مجرد حركة عقلية تتجه مباشرة إلى المصالح"(15)، والقول بغير ذلك يؤدي إلى تلاعب التافهين بكلام رب العالمين، وسنة سيد المرسلين، وحينئذ ليس ثمة اجتهاد وإنما هو اجتثاث واجهاض، ينتج عنه قزع من الفتاوى الممسوخة.. عياذاً بالله.
وأنا أذكر لك هنا مثالين اثنين لتستبين سبيل القوم:
المثال الأول:
ما قاله الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله (ت1363ه) في كتابه: (فتح المنعم) في بحثه عن تجويز حلق اللحية، قال: ولما عمت البلوى بحلقها في البلاد المشرقية حتى إن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره خوفاً من ضحك العامة منه، لاعتيادهم حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصل أخرِّج عليه جواز حلقها حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق، فأجريته على القاعدة الأصولية، وهي: أن صيغة (افعل) في قول الاكثرين للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: للقدر المشترك بين الندب والوجوب، وقيل بالتفصيل: فإن كانت من الله تعالى في القرآن فهي للوجوب، وإن كانت من النبي كما في الحديث هنا على الروايتين وهما رواية (وفروا)، ورواية (اعفوا) فهي للندب.أه.
"فهذا القول حكايته تغني عن التدليل على بطلانه، فالشيخ قد أقر باتفاق العلماء على حرمة حلقها، ثم سعى إلى تخريج فاسد ترتب عليه نسف جميع الأوامر النبوية حيث جوز مخالفتها، لأنها تدل على الندب لا الوجوب كما يدعي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"(16).
والمثال الثاني:
ما قاله الدكتور وهبة الزحيلي هداه الله وغفر له حين تكلم عن قبول شهادة النصراني، فقال بعد كلام له حول جواز التلفيق بين المذاهب: فإن الحكم بشهادته ينقض؛ لأن الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أشد منه فسوقاً وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس، فينقض الحكم لذلك؛ ولقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم(الطلاق-2)، وهو رأي المذاهب الأربعة، إلا الحنابلة فقد أجازوا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، عملا بقوله تعالى: أو آخران من غيركم(المائدة-106).
ثم يأتي بعد هذا التقرير الجيد والمشهور في كتب الفقهاء يستدرك على نفسه فيقول: لكني أرى أن الأسباب المعنوية والاجتماعية، والظروف الخاصة، والتعصب الذي كان موجوداً في التاريخ بين المسلمين وغيرهم هو الذي أدى إلى رفض قبول شهادة غير المسلمين، أما الآن وقد عاش المسلمون مع غيرهم في صعيد واحد، واتصلوا اتصالاً وثيقاً مع بعضهم، فلا مانع من قبول شهادتهم على المسلمين للضرورة، وقد جرى العمل على ذلك في البلاد الإسلامية!!(17).
هذا هو "الفقه الطائش" ، الذي يتخطى النصوص، ويخطيء الأسلاف، ولا ينظر إلا إلى المصلحة (الضرورة).. والمصلحة فقط وبلا قيود.(36/165)
ولا أريد الوقوف عند هذا القول الباطل للرد عليه، فإن من شم رائحة الفقه يعلم سقوطه بل وخطورته على الاعتقاد! ولو تأمل فضيلة الدكتور قليلاً لرأى أنه بكلامه هذا يهدم المسألة من أصلها؛ فإنه إن كان الكافر تقبل شهادته فالفاسق من المسلمين مهما كان فسقه وجرمه لأنه لن يبلغ درجة الكفر بارتكابه للمعاصي من باب أولى، وحينئذ لا ترد شهادة أحد أبداً! وهكذا يفعلون .. يبنون قصراً، ويهدمون مصراً.
ونحن في هذا الزمان قد ابتلينا بصنفين من المتفيقهة:
الأول: متعالم في الفقه لايدريه، فهذا غايته الجهل؛ لايعرف من العربية حرفاً، ولا من الفقه فرعاً، ولا في الاصطلاح نوعاً.
الثاني: تلميذ من (مدرسة الفقه العصرانية) موئل الإفراز للزيغ بصلابة جبين، وهذا والله أمرُّ الأمرين؛ لأنه دخل هذه المدرسة أناس شهروا، فنفخ في بوقهم الكافرون؛ حتى نفذوا عن طريقهم، بإنزال الشرع المبدل، والشرع المؤوَّل، محل الشرع المنزل، من عدة طرق رتبها القاسطون.
فترى فواقر الرخص، وبواقر الشذوذ يجتمع منها الكُثُر في الشخص الواحد، وأجواء العصر المادي على أهبة الاستعداد باحتضان عالم الشقاق، فتحمل له العلم الخفاق لنشر صيته في الآفاق، فيغتر بذلك أسير الحظ الزائل، وما زاد أن صار بوقاً ينفخ به العدو الصائل"(18).
@ الهوامش:
1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: الرحلة في المسألة النازلة رقم (88)، وتكرر الحديث في المواطن التالية الأرقام: (1947)، (2497)، (2516)، (2517)، (4816).
2 أخرجه: أبو خيثمة في كتاب (العلم) رقم 59، والبيهقي في (المدخل) رقم (150).
وصححه الألباني في تعليقه على كتاب (العلم) لأبي خيثمة زهير بن حرب(17).
3 أخرجه: الترمذي رقم (2650)، (2651)، وابن ماجة رقم (247)، (249)، وعبدالرزاق في (المصنف) رقم (20466)، والحاكم في (المستدرك) 1-88 وصححه وقال الذهبي: على شرط مسلم، ولا علة له. أه، وابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل)2-12، وابو نعيم في (الحلية) 9-253، وابن عدي في (الكامل)5-1733، وتمام الرازي في (الفوائد) رقم (23)، (142)، (151)، والرامهرمزي في(المحدث الفاصل) رقم (21)، (22)، (23)، والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) رقم (126)، و(شرف أصحاب الحديث) رقم (28)، (29)، (30)، (31)، و(الجامع لآداب الراوي) رقم (810)، (816)، وحسنه الألباني (الصحيحة) رقم (280).
4 أخرجه ابن المبارك في (الزهد) رقم (58)، وأبو خيثمة في كتاب (العلم)، رقم (21)، والدارمي في سننه رقم (137)، والبيهقي في (المدخل) رقم (800) ، وابن سعد في (الطبقات) 6-110، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) رقم (641) ، والفسوي في المعرفة والتاريخ 2-817، والآجري في أخلاق العلماء 2.1 وابن عبدالبر في جامع بيان العلم رقم (2199 2201) وإسناده صحيح.
5 أخرجه: الآجري في (أخلاق العلماء) 117، وعنه الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) رقم (649)، وإسناده صحيح، وانظر: (الآداب الشرعية) لابن مفلح 2-66.
6 أخرجه: الخطيب في (الفقيه والمتفقه) رقم (1085)، والفسوي في (المعرفة والتاريخ) 2-718، وسنده صحيح.
7 أخرجه: الخطيب في (الفقيه والمتفقه) رقم (642)، والآجري في (أخلاق العلماء) (103)، وسنده ضعيف، فيه: الحجاج بن أرطأة.
8 أخرجه: البخاري في كتاب العلم رقم (100)، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة رقم (6877)، ومسلم في العلم رقم (2673)، باب: رفع العلم وقبضه.
9 (التعالم) بكر أبو زيد (31).
10 أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها ، (80)، والدارمي في سننه برقم (194)، والطبراني في (الكبير) 9-105 رقم (8551)، والبيهقي في (المدخل) رقم (205)، وابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم(2007) (2010)، والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) رقم (483)، (484).
وفي إسناده : مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. (مجمع الزوائد) 10-180.
وفي لفظ بنحوه من قول ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، أخرجه: ابن أبي شيبة في (المصنف) رقم (19003)، وابن وضاح في (البدع والنهي عنها) 89، ومختصراً في 34، والدارمي في سننه برقم (191)، (192)، والحاكم في (المستدرك) 4-514 515 وسكت عنه، وصححه الذهبي على شرط الشيخين .
11 أخرجه: ابن المبارك في (الزهد) 1-2120، والطبراني في (الكبير) 22-361 رقم (908)، وفي (الأوسط) كما في (مجمع البحرين)1-145 رقم (276)، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 1-95 رقم (02) وأبو عمرو الداني في الفتن 2-62 والهروي في ذم الكلام 2-137 وابن عبدالبر في جامع بيان العلم رقم (1051) (1052)، وعزاه ابن الأثير إلى ابن منده، وأبي نعيم (أسد الغابة) 5-20 رقم (5694).
وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف (مجمع الزوائد) 1-135.
قلت: لكن راويه عنه هو : عبدالله بن المبارك، وهو ممن روى عنه قبل احتراق كتبه؛ ولهذا قال الحافظ عنه: صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما. أه (التقريب) رقم (3563).
وصححه الألباني في (الصحيحة) رقم (695)، و(صحيح الجامع) رقم (2207).(36/166)
12 انظر: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي 1-95.
13 (جامع بيان العلم) (617) (620) بتصرف، والأثر الذي ذكره عن عبدالرزاق موجود في (المصنف) 11-440 رقم (20946).
وفي صحيح البخاري من طريق الزهري أيضاً، قال: أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال.. ثم ذكر قصة جاء فيها، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاروته، كهولاً كانوا أو شباناً.
كتاب التفسير، باب: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" رقم (4366).
14 أخرجه الدارمي في سننه رقم (308) ،وابن سعد في (الطبقات)7-133، وسنده صحيح.
وانظر (السير) للذهبي 4-49.
15 (ومضات فكر) محمد الفاضل ابن عاشور 40 41.
16 (زجر السفهاء عن تتبع رخص العلماء) جاسم الفهيد الدوسري 1110، ومنه نقلت كلام الشيخ حبيب الله الشنقيطي، والكتاب على صغر حجمه مفيد جداً.
17 (الفقه الإسلامي وأدلته) لوهبة الزحيلي 9-64.
والجزء التاسع (المستدرك) صدره بمطلب وهو: الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب! 9-29 80، خرج فيه عن الجادة، وفاته حسن التقرير والاختيار، ورفض إجماع العلماء في النهي عن تتبع الرخص والسقطات، وأتى بغرائب من القول كاعتداده بمذاهب الشيعة الإمامية والزيدية والإباضية ضمن الثروات الفقهية للأمة 9-32، وكقوله: فالواجب أولاً طلب مافيه الحق والصواب أو المصلحة من الأقوال الفقهية . أه 9-33، وكقوله: وأما المعاملات، وأداء الأموال، والعقوبات المقررة في الشرع والقصاص لصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب ماهو الأقرب لمصلحة الناس وسعادتهم، ولو لزم منه التلفيق، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشرع!، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان والعرف وتطور الحضارة والعمران !! أه9-54، إلى غير ذلك من هنات القوم المعروفة، والله المستعان.
18 (التعالم) بكر أبو زيد 44، 54، 92.
-===============(36/167)
(36/168)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
عرض الكاتب وفقه الله في الحلقة السابقة لأهمية الفتيا، واستعرض أحوالها وأحوال المفتين في عصر الصحابة رضي الله عنهم، ثم الفتيا في عصر التابعين ومن بعدهم وما كان عليه السلف من الورع والتقوى وتدافع الافتاء. ثم ذكر حال الفتيا في العصور المتأخرة وما حصل من الاستهانة بهذا المنصب الخطير، وضرب الأمثلة على ذلك من واقع بعض المفتين الذين خالفوا النصوص الشرعية بدعوى عدم توافقها مع عقولهم أو بدعوى عدم مناسبتها للعصر. ويستكمل الكاتب في هذه الحلقة جوانب أخرى مهمة في الموضوع.
(2-3) الجندي المسلم
نظرة في طرائق العلم:
من المتقرر عند أهل العلم تنظيراً وتسييراً أن من أراد الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي في مسألة ما فإنه يصوِّب نظره تجاه الأدلة الشرعية؛ يتأمل فيها، ويستنبط منها، ويرجع إليها، ويصدر عنها، ولابد حينها أن يكون ضابطاً لأصول الاستنباط، ومتقناً لقواعد الاستنتاج، ومدركاً لرسوم الاستخراج، التي قررها أهل العلم وأصلوها وجعلوها أسساً لبيان الصحيح من المجروح، ومعرفة الراجح من المرجوح.
ثم أيضاً ينبغي عليه أثناء سيره في طريق الاستنباط وطلب الحق أن ينظر في كلام العلماء الأعلام من محدثين ومفسرين وفقهاء وغيرهم، ويستعين به لفتح مغاليق الفهم، ومضايق النظر، وعويصات المسائل، ويستلهم منه تقريب المعاني، وحل المعضلات، وبيان المشكلات، ثم تكون نهاية المطاف عند الخلاصة الخالصة لطالب الحق وهو الظفر فيما يغلب على ظنه بالحكم الشرعي الصحيح.
فاستنباط الحكم الشرعي من الدليل الشرعي بالطريقة الشرعية هو الجادة الأثرية، والطريقة السوية، التي تناقلها الآخرون عن الأولين، وسطروها في المصنفات، وتداولوها في محافل العلم والحلقات، وهي التي كانوا يربون عليها اليافع في العلم منذ نعومة أظفاره، ويلقنها المبتدئ في الطلب عند أول خطوة يضعها في مشواره؛ إذ لا ينال العلم من لايسلك سبيل العلماء.
وبنظرة فاحصة لما سبق يتبين لك تناسق هذه المنظومة تناسقاً تراكبياً يشد بعضه بعضاً ، ويظهر لك جلياً أصالة صرح التفقه وعراقته، وأنه ليس وليد عبث أو حدس، بل هو جادة لمن كان جاداً، وأنه يرتكز على ثلاثة محاور رئيسة: أصل، وآلة، ووسيلة.
فأما الأصل فهو الأدلة الشرعية التي عليها أمر الديانة، وأما الآلة فهي أصول الاستنباط وقواعده، وأما الوسيلة فهي كلام الأئمة الأثبات، وأهل العلم الثقات، فكل من طرق باب التفقه بهذه الطريقة فهو من أهل الطريقة، والعالم حقيقة.
تغير المنهج السوي بعد القرون المفضلة:
هذا ما كان سائداً في القرون الأولى المفضلة وما بعدها بيسير، ثم في منتصف القرن الرابع وأوائل الخامس فما بعده حصل تغير في طرائق العلم أدى إلى تغايرها،وخرج بها عن الجادة الأثرية، وذلك حين صار كلام الأئمة بل أربعة منهم فقط هو الأصل الذي يدور عليه التفقه، وتقوم حوله الدراسات والمؤلفات، وتعقد لأجله المدارس والحلقات: تدريساً واستذكاراً، قراءة واستظهاراً، تزييفاً وانتصاراً، شرحاً واختصاراً، نظماً ونثاراً.
واعتني بكلام الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد عناية فائقة، بل نزل كلامهم منزلة النصوص، وأخذ الأتباع يطبقون عليه ما يطبقونه على نصوص الوحي!
وليس هذا من المبالغة في شيء؛ لأن الواقع المر يحكي لنا ماهو أشد من ذلك؛ إذ قد وجد من الأتباع من لا يقبل عن إمام مذهبه قولاً حتى ينقل بالسند الصحيح كالشمس وضوحاً، بينما هو يروي عن النبي ما ينقل بالسند الضعيف والواهي!! فالمذهب لايكون مذهباً حتى يثبت عن الإمام، والأحاديث يحتجون بها ولو لم تثبت عن سيد الأنام .
حتى آل الأمر إلى إحداث تركيبة مخترعة في طرائق الاستنباط ومسالك التعلم لاتمتُّ إلى طريقة الأوائل بصلة؛ إذ بدل الأصل والآلة والوسيلة.
فبعد أن كان الأصل هو النظر في الأدلة الشرعية احتجاجاً وحجاجاً، أصبح الأصل هو النظر في كلام الأئمة الأربعة المتبوعين.
وبعد أن كانت الآلة هي أصول الفقه صارت آلة المتأخرين هي أصول المذهب.
وبعد أن كانت الوسيلة هي كلام الأئمة عامة أضحت الوسيلة قاصرة على كلام الأصحاب.
وهذه البدائل الثلاث أخذت مكانها من الحركة العلمية في الأزمنة اللاحقة، وتبلورت عن حدث غريب جديد يعرف ب "التمذهب"، الذي بلغ حمأته حين آل الأمر فيما بعد إلى "التعصب المذهبي"، وصارت نتائجه ماهو مسطر في كتب التاريخ، ومعروف في فروع الفقهاء!
وقبع المصنفون في تصانيفهم ينصرون هذا المذهب أو ذاك، ووظيفة العالم صارت لاتعدو أن تكون مجرد نقل لكلام الأئمة من الكتب المعتمدة حتى قال ابن الصلاح الشهرزوري (ت643ه):
منذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق، والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة.. إلى أن قال: فقد ذكر بعض الأصوليين منا أي من الشافعية أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل أ.ه(1).(36/169)
وأعلن ابن نجيم الحنفي (ت970ه) أن باب القياس مسدود منذ زمن، وأن ما يكون من فتوى المجتهدين ليس بفتوى، وإنما هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي!(2).
وجاء من أوجب على الناس اتباع المذاهب الأربعة فقط، وحرم عليهم أن يأخذوا بمذهب أحد غيرهم، بل حكي الاجماع على هذه المقالة! ودوَّنوها في كتب الأصول، كما قال الشيخ عبدالله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي (ت1233ه) في منظومته الأصولية(مراقي السعود):
والمجمع اليوم عليه الأربعه
أما عداها فالجميع متعه
حتى يجيء الفاطم المجدد
دين الهدى لأنه مجتهدُ!
أي أنه لا يوجد مجتهد مطلق كحال الأئمة الأربعة حتى يخرج الفاطمي وهو المهدي المنتظر آخر الزمان!!
وأبعد النجعة الشيخ إبراهيم اللقاني المالكي (ت1041ه) حين أدرج هذه المقالة ضمن منظومته العقائدية وجعلها من أمور الاعتقاد، حيث قال في (جوهرة التوحيد):
ومالك وسائر الأئمة
كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم
كذا حكى القوم بلفظ يفهم
فهو يقرر وجوب تقليد الأئمة الأربعة في المسائل الفقهية، ووجوب تقليد أبي القاسم الجنيد في الطريقة الصوفية!
قال البيجوري (ت1277ه) شارحاً كلام صاحب الجوهرة:
(فواجب تقليد حبر منهم) فلا يجوز تقليد غيرهم، ولو كان من أكابر الصحابة؛ لأن مذاهبهم لم تدون ولم تضبط.أ.ه(3).
وجاءت قاصمة الظهر، والفاجعة التي مازال المصلحون يحوقلون منها حين قال الصاوي (ت1241ه):
إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل، ولو وافق الصحابة والحديث الصحيح والآية، وربما أداه ذلك إلى الكفر؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر!!!(4).
فانظر أخي الموفق كيف ضيقوا واسعاً، وأحدثوا ياسقاً، والأمر كما قال الإمام العلامة أبو شامة المقدسي رحمه الله (ت665ه):
وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم ولياً مجتهداً، حتى آل بهم إلى أن أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب أو السنة الثابتة على خلافه يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويلات البعيدة، نصرة لمذهبه ولقوله...ثم تفاقم الأمر حتى صار الكثير منهم لايرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث، ويرون أن ماهم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه، فبدلوا بالطيب خبيثاً، وبالحق باطلاً، واشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين، يرون أن الأولى منه الاقتصار على نكت خلافيه وضعوها، وأشكال منطقية ألفوها... بل أفنوا زمانهم وعمرهم بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين، وتركوا النظر في نصوص نبيهم المعصوم من الخطأ، وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي، وعاينوا المصطفى ، وفهموا مراد النبي فيما خاطبهم بقرائن الأحوال؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة، فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين (5).
رمي الشريعة بالجمود بسبب سد باب الاجتهاد:
وفي ذيل الأزمنة المتأخرة كان لهذا التضييق والتحجير والتسلط آثاره السلبية على مجموع الأمة؛ حيث اتخذه أهل الزيغ والفساد، وأرباب الضلالة والإفساد ممن تولوا أزمة الأمور ومقاليد الحكم في ديار المسلمين: ذريعة إلى الطعن في الشريعة، ورميها بالجمود والتخلف، وقصورها عن مواكبة المستجدات؛ لأن المدنية الحديثة أفرزت لنا قضايا معقدة تحتاج إلى حلول مناسبة، وهذه الحلول قطعاً غير موجودة في كتب الفقهاء غالباً؛ لأنه من النادر والنادر جداً أن ينص الفقهاء على حكم معين لواقعة لم يروها ولم يعاصروا أحداثها، مهما كان خيالهم خصباً أو احتمالاتهم وافتراضاتهم بعيدة وواسعة، فمصنفات العلماء إنما ألفوها بما يناسب زمانهم، وهذا أمر لا يشك فيه أحد.
وأنا لا أقول ذلك استهانة بما خلفه لنا علماؤنا وأئمتنا أبداً والله بل فيه الخير والخير كله؛ لكن الذي ينبغي أن يعلم لكل طالب حق أن القضية الفقهية يتجاذبها أصلان لاثالث لهما:
الأصل الأول: معرفة حكم المسألة.
الأصل الثاني: تنزيل الحكم على الواقعة.
فأما الأصل الأول فقد وفاه العلماء حقه، وأتوا في مصنفاتهم بما لا مزيد عليه، ولم يتركوا شاذة ولا فاذة في كافة شؤون الحياة إلا بينوا الحكم فيها وتكلموا عنها، جزاهم الله خيراً.
وأما الأصل الثاني فهو الذي يحتاج إلى مجتهد بصير بالدين لينظر: هل الشروط اجتمعت، والموانع ارتفعت فينزل الحكم على الوقعة أولاً؟ ولأجل هذا الأصل كان السلف يتدافعون الفتيا، وهو المعروف عند الأصوليين "بتحقيق المناط".
فكلامنا هنا على هذا الأصل الثاني إذ أين المجتهد الذي يسد حاجة الأمة في هذا الباب وهم يوجبون التقليد ويحرمون الاجتهاد! وكيف يمكن لنفس أن تتوق لبلوغ رتبة الاجتهاد أو تتشوف لدرك تلك المعالي حيال هذا الزخم الهائل من التشديد والتضييق؟!!(36/170)
المهم أنه بسبب ذلك حصل اصطدام رهيب بين "المدنية الحديثة" والحلول الشرعية المناسبة، أدى إلى حدوث فجوة عميقة بين قضايا العصر وأحكام الشرع، تسلل من خلال هذه الفجوة أهل الزيغ والضلال إلى القدح في الشريعة الإسلامية، وأخذوا يناقشون مدى صلاحيتها وحيويتها، واستيعابها للمستجدات الحضارية، ثم عزموا في رِدَّة جريئة على اقصاء الشريعة، واستعاروا في سُعار محموم النتاج الغربي المشؤوم برمته، وقدموه مشروعاً حضارياً للأمة المحمدية، ولا حول ولاقوة إلا بالله.
خدمة مشائخ التنوير للمشروع التغريبي:
وفي رَدَّة فعل متوقعة انبرى مشائخ التنوير ودعاة العصرنة لرفع راية التجديد زعموا ، وتولوا كبر تمييع الدين لترقيع حال المسلمين، ودعوا إلى فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه من سبقهم، لكن هذه المرة لم يفتحوه كما كان بضوابطه المعروفة عن السلف؛ بل فتحوه فتحاً عظيماً لو أراد أهل الأرض أن يلجوا منه لوسعهم!!
ثم زادوا الطين بلة فأحدثوا أمرين خطيرين للغاية، أديا إلى ازهاق ما بقي من الروح في جسد "الجادة الأثرية"، وهما:
1 التأثر بالتمدن والحضارة والعمران، وليس المراد أي حضارة أو أي تمدن وعمران؛ بل المراد النمط الغربي خاصة لما يتمتع به من الهيمنة العالمية.
2 الانتقاء من المذاهب الفقهية ما يناسب الذوق، ويلائم العصر، ويكون الاختيار من الأقوال متمشياً مع المعطيات الحضارية، ولو كان في ذلك استدباراً للأدلة الشرعية بل لو استلزم الأمر اقصاء المذاهب الأربعة كلها لعدم وجود القول المرتضى فيها لم يكن ثم مانع من ذلك؛ وهذا ما حصل بالفعل حين تم الاعتراف بالمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، وادرجت هذه المذاهب ضمن ثروات الأمة الفقهية زوراً وبهتاناً وصارت تجتر في البحوث المعاصرة تحت الكلمة النكراء "الفقه المقارن" تلبيساً وطغياناً فإلى الله المشتكى.
فانظر أخي الكريم إلى الهوة السحيقة التي حدثت في طرائق العلم بين الأسلاف والأخلاف، وإلى التنافر الشديد بينهما في مناهج التعلم والطلب، الأمر الذي كان له أثر كبير في بروز نتاج من التناقضات بل والناقضات لما مضى، وإفراز أقوال غريبة بل شاذة بل ساقطة!
ولن أقف عند كل الملاحظات التي تدور حول تلك المناهج المنحرفة، فإن هذا باب واسع يصعب تتبعه، لكنني سأقف عند نقطة واحدة مهمة أرى أنها انقلاب في موازين الطلب، ونسف للمنهجية المقررة عند السلف الصالح في تحصيل العلم ومعرفة الصواب من الأقوال، هذه النقطة هي قولهم: للمرء أن يأخذ بأي قول يناسبه من أقوال العلماء، وأن ينتقي منها "أطايبها"!
تلك هي "جسارة الانتقاء"، ولها أخت في الرضاعة والوضاعة، ورديفتها في سوء البضاعة، ألا وهي أكذوبة التقليد": (من قلد عالماً، لقي الله سالماً).
أدلتهم على هذا المنهج الفاسد:
استدل القوم في هذا المقام بما ظنوا أنه يسوِّع لهم سلوكهم هذه المنهجية المنحرفة، واستندوا إلى شيء من الأحاديث النبوية، وأقوال السلف، والتعليل العقلي.
فأما الأحاديث النبوية فقد استدلوا بحديثين مشهورين على الألسنة وهما:
1 حديث: (اختلاف أمتي رحمة)(6).
2 حديث: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم)(7).
وأما أقوال السلف فمنها ما يلي:
1 عن عون بن عبدالله بن عتبة قال: قال لي عمر بن عبدالعزيز: "ما يسرني باختلاف أصحاب محمد حمر النعم؛ لأنا إن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا، وإن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا"(8).
2 وعن عمير قال: قلت لعمر ابن عبدالعزيز رحمه الله : لو جمعت الناس على شيء؟ فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا، قال حميد: ثم كتب إلى الآفاق وإلى الأمصار: ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم(9).
3 وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه(10).
4 وقال أيضاً: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد(11).
5 وقال إياس بن معاوية رحمه الله: إنه لتأتيني القضية أعرف لها وجهين، فأيهما أخذت به عرفت أني قد قضيت بالحق(12).
6 عن شريح القاضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه: إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن أتاك ماليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله ، فإن أتاك ماليس في كتاب الله ولم يسن فيه رسول الله فاقض بما اجتمع عليه الناس، وإن أتاك ماليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم فيه أحد فأي الأمرين شئت فخذ به(13).
7 وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رحمه الله: لقد نفع الله تعالى باختلاف أصحاب محمد في أعمالهم، لايعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمله (14).(36/171)
وأما التعليل العقلي فحاصله: أن ألفاظ النصوص محتملة لعدة معان، والشريعة واسعة، ومبناها على اليسر والسماحة، وقد أذن الشارع بالاجتهاد، وما من مسألة إلا والعلماء فيها طرفان: ما بين مشدد ومخفف، وهم منزهون عن الرأي المذموم في دين الله تعالى، وما دام الأمر كذلك فالكل دين الله وشرعه؛ لأنهم من إذن الشارع انطلقوا، وفي النصوص نظروا، فصارت مذاهبهم على اختلافها كشرائع متعددة، وصارت هذه الشريعة المحمدية كأنها عدة شرائع بعث النبي بجميعها!
فلا تثريب على أحد حينئذٍ أن يأخذ بأي قول؛ لأن جميع الأئمة على هدى من ربهم، واختلافهم رحمة الله واسعة للخلق.
زد على ذلك أن توسعة المذاهب ورخصها أقرب سهولة إلى إسلام من يريد اعتناق الإسلام، وذلك بإرشاده إلى رخص العلماء ترغيباً له في الدخول في الإسلام، وابتعاداً به عن ثقل التكاليف مباشرة خشية نفوره(15).
ثم إن هذه الانتقائية من المذاهب قد عمل بها جماعة من الأئمة الأعلام، فقد نقل الشعراني عن جماعة من العلماء ك: أبي محمد الجويني، وعز الدين ابن جماعة الكناني، وعبدالعزيز الديريني، وشهاب الدين بن الأقيطع، وغيرهم أنهم كانوا يفتون الناس على المذاهب الأربعة بما يناسب حال المستفتي، لاسيما إذا كان من العوام الذين لم يلتزموا مذهباً معيناً لعدم معرفتهم بنصوصه وقواعده!(16).
والخلاصة "أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيراً ما قال العلماء: من قلد عالماً فقد برئ مع الله، واختلاف العلماء رحمة، وربما قال بعضهم: حجرت واسعاً"(17).
وقبل الجواب عن هذه الآثار والأقوال لابد لنا من الوقوف عند أصول مهمة تضبط هذا الباب، وتقيم اعوجاج الفهم فيه، ثم نعود للجواب عما أوردوه من الشبهات، وذلك في مقالة قادمة إن شاء الله تعالى، والله الموفق.
الهوامش:
1 (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح29،31.
2 انظر (الرسائل الزينية) لابن نجيم 108،168.
3 شرح جوهرة التوحيد، للبيجوري 150، وذكر العلامة ابن بدران الدومي أن الشيخ اللقاني هو أول من أدخل هذه المسألة في علم الاعتقاد (العقود الياقوتية) 99، ثم جاء من بعد اللقاني العلامة السفاريني الحنبلي (ت1188ه) وأدرجها في منظومته العقدية أيضاً (لوامع الأنوار البهية) 2-457.
4 (حاشية الصاوي على الجلالين) 3-10، وانظر للرد عليه (أضواء البيان) للشنقيطي 7-438.
5 (المؤمل للرد إلى الأمر الأول) لأبي شامة، نقلته من كتاب الشيخ محمد سعيد الباني (عمدة التحقيق) 162 163.
والغريب أن ابن المنير (ت683ه) يقول: إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم!! وقد تعقبه في كلامه هذا الشوكاني بكلام جميل يحسن مراجعته (السيل الجرار)1-22.
ويالله العجب، كيف سلك هذا الزقاق الضيق بعض الأئمة الأعلام كالحافظ ابن رجب الحنبلي، وألف كتاباً سماه (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة)، وهو هو في سعة علمه، وجودة حفظه، وقوة عارضته، وتمام معرفته، وكمال آلته، فإذا لم يكن ابن رجب وأمثاله من المجتهدين فمن إذن؟!
6 هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له في كتب السنة، قال تقي الدين السبكي، هذا الحديث ليس معروفاً عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، ولا أظن أن له أصلاً. (قضاء الأرب في أسئلة حلب)264. وأقره على ذلك: الكازروفي في حاشيته على تفسير البيضاوي 2-35 36، والشيخ زكريا الأنصاري في حاشيته على تفسير البيضاوي أيضاً 1-100، وكذلك ابنه تاج الدين السبكي في (الإبهاج)3-18، وقال الألباني: لا أصل له. (الضعيفة) رقم 57.
والذي ورد مرفوعاً إنما هو من حديث ابن عباس بلفظ: (اختلاف أصحابي لأمتي رحمة).
أخرجه: البيهقي في (المدخل) رقم 152، والخطيب في (الكفاية)48، والديلمي في (مسند الفردوس) 4-447، وعزاه زين الدين العراقي إلى: آدم بن أبي إياس في كتاب (العلم والحلم) انظر (تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي)رقم 60.
واسناده ضعيف جداً، فيه: سليمان بن أبي كريمة، وجويبر بن سعيد الأزدي.
ثم إنه منقطع لأن: الضحاك بن مزاحم لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما مانقله السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر من قوله: زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطرداً، فأشعر أن له أصلاً عنده. (المقاصد) 50 رقم 39 وقد نقله عنه كل من جاء بعد فهو كلام غريب جداً؛ لأن التعويل في هذا الفن على الاسناد لا على مجرد إيراد الحديث في كتاب، وإلا فإن الكتب وخاصة عند المتأخرين مشحونة بمثل هذه الأحاديث التي لا خطام لها ولازمام، فهل يقال في مثلها إن فلاناً من العلماء ذكرها في كتابه فأشعر أن لها أصلاً عنده؟! هذا ظاهر الفساد؛ لأنه يفتح باب المخرقة.
وأغرب منه قول السيوطي: ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا (فيض القدير)1-210 قال الألباني تعقيباً عليه: وهذا بعيد عندي، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه ، وهذا مما لايليق بمسلم اعتقاده (الضعيفة) 1-141.(36/172)
وانظر: (المعتبر) للزركشي رقم 227، و(الأسرار المرفوعة) للقاري 108 109 رقم 17، و(كشف الخفاء) للعجلوني 1-66 رقم 153، و(المغير على أحاديث الجامع الصغير) للغماري16.
7 أخرجه: عبد بن حميد في (المنتخب) 2-28 رقم 782، والدارقطني في (المؤتلف والمختلف) 4-1778، والبيهقي في (المدخل) رقم 152، 153، والخطيب في (الكفاية) 48، وابن عدي في (الكامل)2-785 786 والديلمي في (مسند الفردوس) 4-447، والقضاعي في (مسند الشهاب) رقم 1346، وابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم 176، وابن حزم في (الإحكام)6-82 مسألة رقم 1057 وقال: حديث ساقط.
وقال البيهقي: هذا حديث متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة، لم يثبت في هذا إسناد. (المدخل) 1-149.
وقال ابن عبدالبر: إسناده لاتقوم به حجة. (جامع بيان العلم)2-925.
وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف جداً. (المطالب العالية) 4-146 في 4194.
وقال الألباني: موضوع. (الضعيفة) الأرقام: 58، 59، 60، 61، 62، 438.
وانظر (تلخيص الحبير) 4-191190، (المعتبر ) للزركشي 8580، و(العلل المتناهية) لابن الجوزي 1-282.
8 أخرجه ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم 1688، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) رقم 745، وعزاه الحافظ ابن حجر إلى مسدد، وصححه كما في (المطالب العالية) 3-105 رقم 3005، ونقل محققه الأعظمي عن البوصيري تصحيحه أيضاً للأثر.
9 أخرجه الدارمي في سننه برقم 652، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) برقم 743، وإسناده صحيح.
10 (حلية الأولياء) لأبي نعيم 6-368، و(التمهيد) لابن عبدالبر 9-229.
11 أخرجه ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم 1467، بسند حسن.
ومثله عن معمر، أخرجه ابن عبدالبر برقم 1468 بسند صحيح.
12 أخرجه: ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم 1519 بسند صحيح، وأخرجه عمر بن شبة في (أخبار المدينة).
ومن طريقه وكيع في (أخبار القضاة) 1-341 342، والمزي في (تهذيب الكمال) 3-434.
13 أخرجه النسائي في سننه 8-231 رقم 5399، والدارمي في سننه رقم 169، والبيهقي في (السنن الكبرى) 10-115، وابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم 1995، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) رقم 444، وابن حزم في (الإحكام) 6-29 30، واسناده صحيح.
14 أخرجه ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) برقم 1686، بسند صحيح.
15 انظر (عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق) محمد سعيد الباني 72، 96، 101، 109، 175.
16 (الميزان الكبرى) للشعراني 1-15و26.
17 (الفقه الإسلامي وأدلته) وهبة الزحيلي 9-43.
وهو قد اقتبس هذا الكلام من سؤال ورد من طلبة فاس المغربية سنة 884ه إلى العلامة أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914ه) يسألونه عن الاجتهاد والتقليد والتلفيق وتتبع الرخص، فأجاب بجواب طويل متين قوي، منع فيه التلفيق وتتبع الرخص. (المعيار المعرب)12-429.
الرجاء من الآتية اسماؤهم تزويدنا بعناوينهم
1 حسنية سلمان أبو ميالة.
2 عبدالله بن علي الشهري.
3 إيمان حسن محمد البناء.
4 حمدان بن علي النواصرة.
5 أنور بدر الدين.
6 مشبب القحطاني.
7 عبدالحميد أحمد أبو سليمان.
8 السيد محمد مسعد.
9 علي بن محمد الشهري.
10 صالح بن على الشمراني.
11 د. أحمد الخاني.
تنبيهات
يرجى من كتابنا الأكارم ملاحظة الآتي:
1 أن تكون المقالات والمشاركات متناسبة مع اهتمامات القراء، وتعالج قضايا من واقع مجتمعاتهم.
2 الحرص على التوثيق وذلك بترقيم الآيات وتخريج الأحاديث من مصادرها الأصلية مع ذكر الجزء والصفحة، وعزو النقول إلى مصادرها.
3 العمق والموضوعية في الطرح والبعد عن المبالغة والسطحية.
4 الحرص على موضوعات جديدة لم يسبق طرحها على صفحات المجلة.
5 نود من كل كاتب أن يذكر اسمه الثلاثي وعنوانه بشكل واضح حتى تتم مراسلته عليه. ولن يلتفت إلى أي مقال ليس لصاحبه عنوان عندنا.
6 نأمل من الكتاب أن يرسلوا تفويضاً للمجلة بطباعة ونشر وتوزيع مقالاتهم مفردة أو مع مقالات أخرى في كتيب أو مطوية عن طريق إحدى دور النشر. سواء في المقالات التي كتبوها من قبل أو الجديدة
===============(36/173)
(36/174)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
(/53) جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
ذكر الكاتب وفقه الله في الحلقتين السابقتين أهمية الفتيا، واستعرض أحوال المفتين من السلف الصالح، وقارن ذلك بحال الفتوى في العصور المتأخرة، وضرب الأمثلة على ذلك، ثم ذكر طرق العلم وكيفية استنباط الأحكام من النصوص، وكيف أن كثيراً من المتأخرين تركوا المنهج الصحيح في العلم والفتوى ومالوا إلى مناهج محدثة خاطئة، ثم ذكر أدلتهم على منهجهم الفاسد وفي هذه المقالة يمهد لنقض أدلتهم بذكر ثلاثة أصول جامعة فيما يتعلق بمسائل الخلاف؛ ولأن الدراسة استلزمت إسهاباً طويلاً فقد قسمت على خمس حلقات.
الجندي المسلم
الأصول الجامعة:
الأصل الأول:
إن الأصل في أمة الإسلام هو الاجتماع والاتفاق، أما الاختلاف فإنه حادث طارئ إذ الأصل عدمه.
فالأمة مطالبة باتحاد الكلمة، وتقارب الرأي، وتحري الحق، وطلب الصواب ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وفي نفس الوقت هي مطالبة بنبذ الخلاف، وأسباب الفرقة، وطرح الشقاق، والبعد عن وسائل الفتنة.
ومع أن الأمة تسعى إلى تحقيق تلك المطالب الشرعية، إلا أن الله عز وجل قدر أن تختلف أنظار العلماء، ومدارك الفقهاء؛ لتباين فهومهم، وتفاوت علومهم، فاختلافهم في المسائل الشرعية حاصل ولابد، ولله في ذلك حكمة؛ لكن وقوعه حينئذ ليس بحجة على أحد؛ لأنه خلاف الأصل، وكيف يكون الخلاف أصلاً والأمة مأمورة بسد بابه، واقتلاع آثاره؟!
قال تعالى: منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( 31 ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( 32 ) {الروم: 31، 32}. وقال سبحانه : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على" شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون 103 {آل عمران: 103} وقال أيضاً: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم 46 {الأنفال: 46} وقال: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه 13 {الشورى: 13} وقال: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم 105 {آل عمران: 105}.
والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة جداً، وهي مستفيضة ومشهورة،وكلها تقرر مبدأً واحداً وهو وجوب الاجتماع والاتفاق والائتلاف، ونبذ الشقاق والافتراق والخلاف، وهي نصوص عامة تشمل أصول الشريعة وفروعها، ولاسبيل إلى التفريق بينهما في ذلك، إذ ليس في النصوص ما يشير إليه أو يدل عليه، فالكل دين الله وشرعه، فلا يقال: إن المخالف في الفروع لايأثم... هكذا بإطلاق مهما كانت مخالفته، كلا... وألف كلا؛ فإن من جاءته النصوص الصحيحة الصريحة في مسألة فرعية ما، ثم هو يتركها لأجل قول فلان من الناس، فلا شك أنه ممن تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، زد على ذلك أن مسألة تقسيم الشريعة إلى أصول وفروع تحتاج إلى وقفة من حيث الأمور التي رتبت على هذا التقسيم، ومن حيث التمييز بين الأصول والفروع، فإن هذه المسألة على جلالة قدرها إلا أنك مهما بذلت من جهد لتقف على ضابط دقيق يكون فيصلاً في التفريق بين مايكون أصلاً ومايكون فرعاً لن تستطيع البتة، وهذا من المضايق الحرجة التي يكتنفها شيء من الغموض أكثر من غموض التفريق بين الصغائر والكبائر، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "أما التفريق بين نوع تسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم"(1).
وأما من حيث الأمور التي رتبت على هذا التقسيم فلا ينبغي أبداً أن يستفاد منه الاستهانة بالفروع، أو حط منزلتها، وتقليل شأنها؛ فإن هذا محادة لدين الله الكامل الشامل، ومطارحة لطريقة السلف الصالح رحمهم الله؛ لأن هذا التقسيم اصطلاحي متأخر، لم يقصد منه تقسيم الدين نفسه، وإنما أريد منه تقسيم المسائل الفقهية، وهذا من باب الضبط للأبواب والفصول أثناء التصنيف والتأليف، فيجب حينئذ الوقوف عند فائدة الاصطلاح ومايراد منه ولا يتعداه.
ومما يؤكد ماذكرناه أن أهل السنة والجماعة قد درجوا في مصنفاتهم على تدوين كل ما يميزهم عن أهل البدع والضلالة، ولو كان هذا المميز فرعاً فقهياً؛ لأنه فارق بين الفرقتين، ويسطرونه في كتب الاعتقاد على أنه عقيدة مستقرة يجب عقدها لله رب العالمين.
وخذ مثلاً على ذلك: مسح الخفين؛ فإن أئمة السنة يذكرون ثبوت ذلك في كتب الاعتقاد كعقيدة لأهل السنة والجماعة، مع أن مسألة المسح على الخفين من مسائل الفروع؛ بل هي من الرخص الشرعية وليست من العزائم عند جمهور العلماء؛ ولكن لما كان في اثباتها وتقريرها منابذة لأهل الضلالة من الشيعة والخوارج قيدوها في كتب الاعتقاد، حتى قال أبو الحسن الكرخي من أئمة الحنفية: "إني أخشى الكفر على من لايرى المسح على الخفين"(2).(36/175)
أعود فأقول: إن النصوص الشرعية لم تأت حاثة على إنشاء الخلاف وإحداث الاختلاف؛ بل على العكس تماماً؛ إذ لم يكن الاختلاف يوماً من الأيام مطلباً شرعياً، ولا غاية أو هدفاً حث الشارع العباد على تحقيقه، والسعي في إيجاده، إنما هو من باب الأمر القدري الكوني وليس من باب الأمر الشرعي، وفرق بين الأمرين عظيم.
والذي يزيد الأمر وضوحاً أن الشارع سبحانه أمر عند الاختلاف بالرجوع إلى الكتاب والسنة؛ حسماً لمادته، وحداً من آثاره، وطلباً للوفاق، فلو كان الاختلاف مطلباً شرعياً لما أمر سبحانه بالرجوع إلى الكتاب والسنة ولأقرهم على حالهم وامتدحهم لذلك؛ ولهذا قال الإمام المزني رحمه الله: "قال تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم 105 {آل عمران: 105}، وقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا 59 {النساء: 59}، فذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة... وقد اختلف أصحاب رسول الله ، فخطّأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم لما فعلوا ذلك"(3).
سبب الاختلاف:
من المهم أن ندرك أن حدوث الاختلاف سببه تنوع الاجتهاد لاتخالف الأدلة، والاجتهاد جهد بشري، والأدلة وحي منزل، وحينئذ لايمكن أن يتصور وجود التعارض بينها؛ لأنها خرجت من مشكاة واحدة، وكلها تصب في معين واحد، فما يتوهم من وجود التعارض بينها أحياناً إنما هو تعارض صوري قام في ذهن الناظر لها، أما حقيقة الأمر فلا تعارض بينها البتة.
ولأجل ذلك كان الصحيح من أقوال أهل العلم أن الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين وليست كلها صواباً، وهذا الواحد هو الذي يوفق لإصابة الحق الذي أراده الشارع، وإنما جعل للمخطئ أجر واحد لا مكافأة له على إحداث الخلاف؛ بل لامتثاله أمر الشارع بالاجتهاد والنظر في الأدلة. فإذا بذل جهده لطلب الحق ولم يوفق إليه فإنه يعذر في ذلك؛ لأنه قد يعتريه شيء من عوارض النفس البشرية يحول دون إصابته الحق، والإنسان لايحاسب على القصور، وإنما يحاسب على التقصير.
قال الإمام البيهقي رحمه الله : "وقد وعد رسول الله في حديث صحيح عنه لمن اجتهد فأصاب أجرين، ولمن اجتهد فأخطأ أجراً واحداً، ولايكون الأجر على الخطأ، وإنما يكون على ما تكلف من الاجتهاد، ويرفع عنه إثم الخطأ بأنه إنما كلف الاجتهاد في الحكم على الظاهر دون الباطن، ولايعلم الغيب إلا الله عز وجل"(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قول عامة السلف والفقهاء أن حكم الله واحد، وأن من خالفه باجتهاد سائغ مخطئ معذور ومأجور؛ لعفو الله عنه، فإنه لايكلف نفساً إلا وسعها، وهذا مما لانعلم بين الأمة فيه خلافاً، إلا شيئاً يحكى عن بعض معتزلة بغداد مثل: بشر المريسي وأضرابه، أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه"(5).
إذن فالاختلاف نتيجة طبيعية للجهد البشري الحاصل من التفقه في نصوص الكتاب والسنة، ومادام الأمر كذلك فلا يمكن أن يصير هذا الناتج البشري وهو الاختلاف غاية يسعى العلماء لتحقيقها، وينبذون وراءهم الأدلة الشرعية القطعية الآمرة بالاتفاق والائتلاف، الناهية عن الشقاق والخلاف؛ ولهذا لو قدر أن أهل العلم يستطيعون الاتفاق على حكم الواقعة لم يجز لهم أن يحدثوا خلافاً، ولم يجز لمن جاء بعدهم أن يخرق هذا الإجماع؛ لما فيه من شق عصا الأمة، وتشتيت كلمتها.
فالعالم والمجتهد لايؤمر بالاتجاه مباشرة لنصب الخلاف؛ بل يطلب منه النظر في المسائل، فإن كانت مما أجمع عليها لم يكن له خرق الإجماع ومخالفته، وإنما دوره حينئذ يقتصر على حكايته، والتدليل عليه لاغير، وإن كانت المسألة مما لم يجمع عليها فيلزمه التأمل في الأدلة الشرعية على ضوء القواعد المقررة طلباً للحق والصواب، وبعد ذلك يجب عليه التزام ماظهر له أنه الحق والصواب بغض النظر عمن قال به من الأئمة، ثم هو أحد اثنين: إما مخطئ فله أجر واحد، وإما مصيب فله أجران، وبهذا تنتهي منظومة الاجتهاد العملية المقررة عند أهل العلم، والتي يجب على طالب الحق سلوك جادتها.
وإنما كان لابد للعالم وطالب العلم من معرفة الخلاف وأقوال العلماء لتحصيل فائدتين:
الفائدة الأولى: أن يسلم من الشذوذ، فلا يتبنى قولاً يشذ به عن إجماع الأمة، وأيضاً لايحكي إجماعاً في المسألة مع أن الخلاف فيها قائم بين الأئمة.
والفائدة الثانية: الاستفادة من طرائق النظر والاستدلال التي سلكها الأئمة في تحصيل الفقه، والوقوف على مايسوغ وقوعهم في مثل هذا الاختلاف.
فهاتان الفائدتان النفيستان لاتتحصلان إلا بالوقوف على اختلاف الأئمة رحمهم الله ، وعلى هذا يحمل قول قتادة رحمه الله : "من لم يعرف الاختلاف لم يشم رائحة الفقه بأنفه"(6).
وقول سعيد بن أبي عروبة رحمه الله : "من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً"(7).(36/176)
والخلاصة: أن الخلاف ليس مطلباً شرعياً، ولا أمراً يقتضيه العقل، ولا شيئاً محموداً ترتضيه النفوس السوية؛ بل هو أمر قدري كوني حدث من غير قصد من العلماء إلى إنشائه وإحيائه، فهو من الشر الذي لابد منه؛ ولهذا أنكروا على من يتخذه قاعدة ينطلق منها، أو أصلاً يستدل به، حتى قال ابن عبدالبر رحمه الله : "الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله"(8).
ويؤكده أن العلماء أسقطوا التعليل بالخلاف، فلا يقال في شيء بالكراهية مثلاً لوجود الخلاف في المسألة؛ لأن التعليل بالخلاف عليل، وقد قال الونشريسي المالكي رحمه الله : "القول بمراعاة الخلاف قد عابه جماعة من الأشياخ المحققين، والأئمة المتفننين، منهم: أبوعمران، وأبو عمر ابن عبدالبر، والقاضي عياض"(9).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر؛ فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر؛ فإن ذلك وصف حادث بعد النبي ، ولكن يسلكه من لم يكن عالماً بالأدلة الشرعية"(10).
الأصل الثاني:
أن الخلاف نوعان:
النوع الأول: خلاف معتبر.
والنوع الثاني: خلاف غير معتبر.
فأما الخلاف المعتبر فهو الخلاف الذي تتجاذبه الأدلة وله حظ من النظر، فهذا هو الخلاف القوي الذي يصل أحياناً ببعض العلماء إلى الوقف عن الترجيح فيه.
وأما الخلاف غير المعتبر فهو الخلاف الضعيف الذي ليس له وجاهة أو وجه من الدليل، بل قد يكون الدليل على خلافه.
وهذا النوع من الخلاف له صور كثيرة معروفة، كالخلاف المبني على قول شاذ، أو مذهب مهجور، أو خالف فيه صاحبه الإجماع الثابت، أو كان من القياس فاسد الاعتبار وهو مايكون في مقابلة النص ، أو مصادماً لنصٍ صريح، أو نحو ذلك.
وهذا النوع من الخلاف الضعيف هو الذي عابه الأئمة واطرحوه، وردوا على صاحبه مشنعين عليه رأيه، وقد قال الإمام أبو الحسن ابن الحصار المالكي (ت611ه):
فليس كل خلافٍ جاءَ معتبراً
إلا خلافٌ له حظٌّ من النظرِ(11)
وبهذا يتبين أن إطلاق من أطلق الاعتداد بالخلاف خطأ ظاهر؛ لأن من الخلاف مالا يعتد به ولا يعول عليه، فوجوده وعدمه سواء حينئذٍ.
الأصل الثالث:
إن من عقيدة أهل السنة والجماعة عدم إثبات العصمة لأحد من البشر كائناً من كان، إلا الأنبياء والرسل فيما يبلغون عن الله تعالى؛ فإنهم معصومون من الخطأ والسهو في تبليغ الدين، أما من عداهم من العلماء والأئمة مهما كان فضلهم وعلمهم فإنهم غير معصومين من الخطأ والسهو والغفلة والنسيان ونحو ذلك من عوارض البشر.
وهذا هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" وأشار إلى الحجرة، يقصد النبي .
وما من إمام إلا وقد أخذت عليه أشياء من الغرائب أنكرها عليه غيره من العلماء، ولايكاد يسلم من ذلك أحد، بدءاً من الصحابة رضي الله عنهم فإنهم رأس هذه الأمة فضلاً وعلماً وعبادة وجهاداً وطاعة، ثم من دونهم، فمن دونهم، وهلم جرا.
فهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان يرى أن البَرَدَ لايفطر الصائم؛ لأنه بركة وليس طعاماً أو شراباً(12).
وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما يمنعان الناس من التمتع في الحج، ويعترض على ذلك: علي بن أبي طالب وعمران بن حصين رضي الله عنهما (13).
وأبو هريرة رضي الله عنه يتوضأ حتى يصل بالماء إلى إبطيه(14)،وقد قال الله عز وجل : وأيديكم إلى المرافق6 {المائدة: 6}.
وعبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان يرى التطبيق في الصلاة(15) (أي وضع اليدين بين الرجلين أثناء الركوع) مع أنه منسوخ.
وأبو ذر رضي الله عنه كان يرى وجوب إخراج مازاد على الحاجة من الذهب(16).
وغير ذلك من الأمثلة كثير، فإذا كان هذا الشأن في الصحابة رضي الله عنهم فكيف الحال بمن جاء بعدهم؟!، وما من أحد إلا وقد فاته شيء من الآثار كما قال الشافعي رحمه الله: "لانعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء".
وهنا أمر مهم للغاية يجب التنبه له والوقوف عنده وهو أن كثيراً من أتباع المذاهب يبتكرون أقوالاً من رؤوسهم ثم ينسبونها إلى مذاهب الأئمة؛ زعماً منهم أنها مخرجة على أصولهم، ماضية على قواعدهم، والأئمة من ذلك براء، ولو قدر لهم أن يطلعوا على تلك الأقوال لأنكروها؛ لوضوح مخالفتها للكتاب والسنة، وأضرب لذلك بمثالين:
المثال الأول:
ماذكره الحطاب الرعيني (ت954ه) في شرحه على (مختصر خليل) عن الشيخ زروق من كراهة صوم يوم المولد النبوي! والعلة في ذلك أنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه!!(17).(36/177)
وقد سبقه إلى تقرير ذلك شيخه ابن عباد القوري فقد قال في رسائله الكبرى: "وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشموع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلبس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب؛ أمر مباح لاينكر على أحد؛ قياساً على غيره من أوقات الفرح. والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم الشهود، وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان؛ أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة، وتدفعه الآراء المستقيمة... ثم حكى قصة له وقعت مع شيخه ابن عاشر، وأنه هو الذي دله على هذه الفائدة النفيسة(18).
فانظر كيف أدرجت هذه البدعة النكراء ضمن مذهب الإمام مالك رحمه الله ، وصار يتداولها علماء المالكية المتأخرون في مصنفاتهم، مع أن الإمام مالك رحمه الله لم يقل بها، لاتصريحاً ولا تلميحاً ولا إيماء، ولا هي مخرجة على أصول مذهبه أو قواعد فقهه، ولقد أجاد العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حين قال: "فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد، وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولاسنة رسوله ، ولا قول أحد من أصحابه، ولا من تابعيه، ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين، الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس، ولم يجر على أصول مذهبه"(19).
المثال الثاني:
ما اشتهر من أن مذهب الإمام الشافعي وجوب التلفظ بالنية في الصلاة، مع أن الإمام الشافعي رحمه الله لم يذكر ذلك في كتبه، ولا نقله عنه تلاميذه؛ حتى جاء أبو عبدالله الزبير ابن احمد الزبيري، أحد فقهاء الشافعية بالبصرة (ت317ه) وخرَّج وجهاً من كلام الإمام الشافعي زاعماً أنه يقول بوجوب التلفظ بالنية في الصلاة.
وهذا التخريج قد غلطه فيه كبار الأئمة من الشافعية وغيرهم، وسببه سوء فهم لعبارة الإمام الشافعي فإنه قال: "إذا نوى حجاً وعمرة أجزأ وإن لم يتلفظ، وليس كالصلاة لاتصح إلا بالنطق"(20) فالإمام الشافعي رحمه الله يقرر هنا أن من نوى الحج أو العمرة أجزأه ذلك ولو لم يتلفظ بالتلبية، بينما لاتجزئه النية وحدها في الصلاة إذا لم ينطق بتكبيرة الإحرام، فظن الزبيري رحمه الله أن مراد الشافعي وجوب النطق بالنية في الصلاة، وهذا غلط بين؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله : "قال أصحابنا: غلط هذا القائل، وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا؛ بل مراده التكبير"(21).
وهذا الذي ذكرناه ماهو إلا نماذج يسيرة، توقظ المتبصر الطالب للنجاة أن يستوثق من علمه الذي يأخذه، هل هو أصيل أو دخيل؟ فإن من المدخول على مذاهب الأئمة أمور خاطئة في أصل الاعتقاد، فتدبيس بعض الأقوال في مذاهب الأئمة الأعلام لم يعد قاصراً على المسائل الفقهية بل تعداه أيضاً إلى مسائل العقيدة، والله المستعان.
فما أرمي إليه هنا هو بيان أن الخطأ قد يصدر من الأئمة فعلاً، وقد ينسب إليهم زوراً وبهتاناً وهم منه ُبرَآء، فهذا الأخير نبهت عليه للتحذير منه، والبعد عنه خشية أن يغرر بقارئ كتب المذاهب؛ فتستهويه تلك المدخولات على أقوال الأئمة فيظنها أقوالاً لهم على الحقيقة، فيتخذها ديناً وقربة، والأمر على خلاف ذلك تماماً، وأما الأول وهو الخطأ الصادر عن الأئمة فعلاً فيما صح عنهم، فهذا هو الذي لأجله عقدت الأصل الثالث.
والسؤال: ما موقعنا من الأقوال التي تبين لنا خطأ الأئمة فيها؟ هذا جوابه سيكون في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
@ الهوامش:
1 مجموع الفتاوى (23-346) وقال أيضاً: "والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع؛ بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلاً" ومنهاج السنة: (5-87).
وذكر مثل هذا الكلام: ابن القيم في مختصر الصواعق: (2-613)، وعبدالرحمن ابن سعدي في طريق الوصول (7)، وغيرهم من العلماء.
2 انظر: المبسوط للسرخسي: (1-9897).
3 نقله عنه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله: (2-910 911).
4 معرفة السنن والآثار (1-140)، وانظر كلام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: (1-475).
5 رفع الملام: (44،45،72)، ومجموع الفتاوى: (19-122 123) وقد حكى الاتفاق على ذلك أيضاً جماعة من الأصوليين ك: الآمدي، والغزالي، وغيرهما. انظر: الإحكام:(4-244)، والمستصفى: (2-361) وما بعدها.
6 أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم رقم: (1520)، (1522) بسند ضعيف.
7 أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم رقم: (1521)، (1536) بسند صحيح.
8 جامع بيان العلم: (2-922)، وكذا قال الخطابي أيضاً في أعلام الحديث: (3-2092) .
9 المعيار المعرب: (12-36).
10 مجموع الفتاوى: (23-281)، ومن أجود ما ألف في موضوع مراعاة الخلاف كتاب: مراعاة الخلاف، بحث أصولي للشيخ: عبدالرحمن بن معمر السنوسي.(36/178)
11 نقله عنه السيوطي في الاتقان: (1-34).
12 أخرجه أحمد في المسند: (3-279) من حديث أنس رضي الله عنه ، وسنده صحيح.
13 أخرجه: البخاري رقم: (1559، 1569) ومسلم رقم: (1221،1223)، وانظر الفتح: (3-433).
14 أخرجه: مسلم رقم: (250).
15 أخرجه مسلم رقم: (534).
16 أخرجه البخاري رقم: (1407)، وانظر: الفتح: (3-273).
17 مواهب الجليل: (3-318).
18 انظر: مواهب الجليل للحطاب: (3-318 319) وقد ذكر الونشريسي فتوى ابن عباد بنصها كاملة في المعيار المعرب: (11-278). ومن الغرائب أن الحاج الرحَّال أبا عبدالله محمد بن أحمد بن مرزوق المالكي ألف كتاباً بعنوان: (جنا الجنتين في فضل الليلتين)، ذكر فيه واحداً وعشرين وجهاً لتفضيل ليلة المولد على ليلة القدر!!! انظرها بتمامها في المعيار المعرب: (11-280).
19 أضواء البيان: (7-578).
20 21 المجموع شرح المهذب للنووي (3-243).
والذي انفرد به أبو عبدالله الزبيري الشافعي إنما هو القول بوجوب التلفظ بالنية؛ فإنه لم يقل بوجوب ذلك أحد من الأئمة قبله ولا بعده، أما الاستحباب فقد حكاه جماعة من اتباع الأئمة المتأخرين؛ ولا دليل لهم على ذلك، وانظر كتاب مقاصد المكلفين للشيخ عمر الأشقر: (125 133).
=============(36/179)
(36/180)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير (4 5)
استعرض الكاتب وفقه الله تعالى في الحلقات الثلاث السابقة خطورة الفتيا وأهميتها، ثم بين أوجه اختلاف العلماء والموقف منها، وعرض لأدلة منهج المتساهلين في الفتيا بدعوى التيسير وحججهم النقلية والعقلية، وفي هذه المقالة ينقض هذه الحجج ويبين أنها لا تنهض.
الجندي المسلم
الموقف الصحيح من أخطاء العلماء وزلاتهم:
ليس مرادنا في هذا المقام بأخطاء العلماء تلك المتعلقة بحق الله سبحانه من ذنوب ومعاص، فإن العلماء وغيرهم من البشر في ذلك سواء، وباب التوبة مفتوح للجميع، وإنما مرادنا ههنا بأخطائهم العلمية.. تلك الأقوال والأفعال التي صدرت منهم على جهة الديانة لله تعالى، وسبيل التعبد له جل وعلا، وتلقفها الناس عنهم، ونسبوها إلى دين الله وشريعته؛ لحسن ظنهم بالعلماء.
"ولهذا تستعظم شرعاً زلة العالم، وتصير صغيرته كبيرة، من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء، فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلاً؛ لأنه موضوع مناراً يهتدى به، فإن علم كون زلته زلة؛ صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسياً به، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسيناً للظن به، وإن جهل كونها زلة؛ فأحرى أن تحمل محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه"(1).
وبادئ ذي بدءٍ لابد أن نعرف أن هذه الأخطاء العلمية على قسمين:
القسم الأول:
ما يسميه العلماء ب (الأقوال الضعيفة)؛ وذلك لضعف دليلها، أو لقوة المعارض، أو غير ذلك.
وليس المراد بها (الأقوال المرجوحة) التي تقابل (الراجحة)؛ لأن الراجح والمرجوح فرسا رهان في تجاذب المسألة، والدليل محتمل لكليهما؛ لكنه في جانب أحد القولين أقوى، فهذا النوع لايدخل ضمن الأخطاء العلمية.
وإنما مرادنا ب (الأقوال الضعيفة) تلك البين ضعفها، والتي لا ساق لها تقف عليه، ولا سوق ينهض بها؛ بل تقوم على أدلة واهية لا تثبت أمام الحجج، ولا تصمد في مواطن الحجاج، ويتضافر الأئمة على إنكارها، وتتعاقب جماعاتهم على استنكارها.
فهذا النوع من "الأخطاء العلمية" إذا تلبس به المستفتي بسبب فتوى أحد المفتين الموثوق بعلمهم ودينهم، فإنه لايلزمه متى تبين له خطؤها أن ينقض ما مضى من عمله الذي بناه على أساس تلك الفتوى؛ لكنه فيما يستقبل من عمله يطرحها ولا يلتفت إليها.
ولا يسع الناس غير هذا القول، وإلا وقعوا في حرج عظيم؛ لأن المستفتي إذا سأل من هو أهل للفتيا ثم عمل بتلك الفتوى، فإن ما بناه من تصرفاته على أساس تلك الفتوى صحيح، ولا يلزمه نقضه، فإن الله عز وجل أمر الجاهل أن يسأل أهل العلم كما في قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) {الأنبياء: 7} وهذا المستفتي قد امتثل أمر الشارع فسأل العلماء فيكون قد أتى بما عليه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ومطالبة الناس بشيء لم يطلبه الشارع منهم أمر زائد عن الحد، وقد قال سبحانه: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها286 {البقرة: 286} .
وخذ مثلاً على ذلك: مسألة إخراج زكاة الفطر نقداً، فإن المرء إذا أخرجها نقداً بناء على فتوى من يوثق بعلمه ودينه، وظل يخرجها كذلك سنين متطاولة، ثم تبين له عدم جواز إخراجها نقداً بالدليل والبرهان؛ فإنه لايلزمه حينئذٍ أن يعتبر ما مضى من عمله فاسداً، ولا يؤمر بقضاء السنين الفائتة، وإنما يصحح عمله فيما يستقبل من السنين.
والقسم الثاني:
الأقوال المنكرة، والآراء الباطلة، التي تخالف صريح الكتاب والسنة، وتصادم إجماع الأئمة، وتنقض المسلّمات الشرعية، وتتعارض مع مقاصد الشريعة.
فهذا النوع من "الأخطاء العلمية" مردود على صاحبه(2)، ولا يشك أحد في بطلان العمل به، ولايجوز للمستفتي ولا لغيره الإقدام عليه مطلقاً، وعليه نقض ما مضى من العمل المبني على تلك الفتوى؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، وكيف يقوم الفرع والأصل زائل!!
وبالجملة فإن العبد المسلم إذا تبين له خطأ العالم في مسألة ما فإنه يلزمه أن يتخذ اجراءين مهمين من هذه القضية:
الإجراء الأول: مع العالم نفسه.
والإجراء الثاني: مع خطئه وزلته.
الإجراء الأول:
فأما العالم نفسه فإننا نقف معه ثلاث وقفات شرعيات:
الوقفة الأولى: أن نلتمس له العذر فيما أخطأ فيه، وهو أحق من غيره بهذا الموقف؛ لأن العبد إذا كان مأموراً بالتماس الأعذار لإخوانه المؤمنين، فالعلماء من باب أولى.
قال الذهبي رحمه الله : "فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه"(3).
وقد صنف جماعة من الأئمة كتباً في أسباب اختلاف العلماء، وهي في الحقيقة أعذار لهم يتبين منها أنهم أرادوا الحق وسلكوا جادته، ورغبوا في إصابته؛ لكنهم أخطأوا.(36/181)
ولم يذكر أحد قط أن مخالفة هذا العالم أو ذاك كان بدافع الهوى، أو تغليب مصلحته الشخصية، أو رغبته، الجانحة... أبداً، وحاشاهم من ذلك؛ لأنهم كانوا أهل ورع وتقوى، ولا أدل على ذلك من أن بعضهم كان يجتنب التصريح بلفظ "الحلال" أو "الحرام" ما دامت أدلته ظنية، وهو غالب في عبارة المتقدمين؛ كراهة أن يتناولهم قوله تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام116 {النحل: 116} (4).
الوقفة الثانية: توقيره وإكرامه، ومعرفة قدره، وحفظ وافر الحرمة له، وعدم التنقص منه لأجل خطئه؛ لما له من سابق الفضل، وجزيل البذل، وحسن البلاء في الإسلام، ومحبة النصح للأمة، وظهور إخلاصه لشرع الله ودينه، فهذا الرصيد من الحسنات يرجى له به مغفرة السيئات، وأن تغمر زلاته في بحر إحسانه.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "ليس منا من لم يجلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"(5).
الوقفة الثالثة: نصيحته ودلالته على الصواب، والمكاتبة له في ذلك إن أمكن؛ فإنه من الأمانة التي حمّلها الله عز وجل أهل العلم، وأمرهم أن يتواصلوا فيه؛ فإن العلم رحم بين أهله.
وهذا هو الذي يفسر لك الكم الهائل من الردود التي دونها أهل العلم، قياماً بواجب النصيحة التي أمروا بها.
عن تميم الداري رضي الله عنه : أن النبي قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"(6).
الإجراء الثاني:
وأما خطأ العالم وزلته، فإن "الخطأ" يرد مهما كان قائله أو فاعله، فكيف بمن خطؤه ينسب إلى الشرع! فهذا أعظم خطراً، وأشد ضرراً، وحينئذ لابد أن يقوم أهل العلم ببيان الخطأ وتزييفه، وتحذير الناس من أخذه أو التلبس به؛ فإنه متى "عرف بأنها زلة لم يجز لأحد أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين"(7).
قال الشاطبي (ت790ه) رحمه الله : "إن زلة العالم لايصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع؛ ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها"(8).
ولاشك أن زلة العالم ليست كزلة غيره؛ لأنها مدعاة لتتابع الناس على الخطأ، والدينونة به، والديمومة عليه؛ اغتراراً بزلته، واجتراراً لحسن الظن به.
قال الغزالي رحمه الله : "فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه"(9).
"وشبه العلماء زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير"(10)، وقد قيل قديماً: إذا زل العالِم، زل العالَم(11).
وقد وردت آثار كثيرة تحذر من زلة العالم وتبين خطورتها، فمن ذلك ما يلي:
1 عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، أن النبي قال: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة، قالوا: وما هي يارسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"(12).
وفي لفظ: "اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيئته"(13).
2 عن زياد بن حدير ثقة عابد قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"(14).
3 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: وكيف ذاك؟ قال: يقول العالم برأيه، فيبلغه الشيء عن النبي خلافه؛ فيرجع ويمضي الأتباع بما سمعوا"(15).
فهذه الآثار وغيرها كثير تدل على خطورة زلة العالم، وتحذير الأتباع منها، فكيف بمن كان سبيل التفقه عنده التفتيش عنها، وحشد الشبه لتبريرها، واختلاق ما يسوغ العمل بها؛ فهذا والله لايفلح أبداً، كما قال الإمام عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله:"لايكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم"(16).
وأعظم من ذلك من كان دأبه التنقيب عن زلات العلماء ونوادرهم؛ لأجل التقرب والتعبد والعمل بها، فهذا يقال فيه ما قاله الإمام الأوزاعي رحمه الله : "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام"(17).
الجواب عما أوردوه من الاستدلال:
وأما عن الجواب عما استدلوا به على جواز الانتقائية فهو كما يلي:
أولاً: الجواب عن الأحاديث المرفوعة:
أما الأحاديث المرفوعة فيجاب عنها من جهتين:
من جهة السند، ومن جهة المتن.
فأما من جهة السند فقد مضى البيان بأنه لايصح منها شيء البتة، بل صرح بعض الأئمة أنها موضوعة، فلا نطيل في ذلك.
وهذا الجواب وإن كان كافياً؛ لأن الكلام لايكون إلا فيما ثبت، فأما مالم يثبت فوجوده وعدمه سواء؛ إلا أنه يمكن إظهار الخلل فيها من جهة المتن أيضاً.
فالحديث الأول: (اختلاف أمتي رحمة) يدخله الفساد من جهتين:
أ من جهة لفظه.
ب ومن جهة معناه.
فالجهة الأولى: جهة لفظه.
فأما جهة اللفظ فيرد عليه ما يلي:
1 أنه أطلق الاختلاف، فيشمل أي شيء مختلف فيه ولو كان في العقائد.
2 أنه عام في المختلفين؛ فإنه لم يستثن غير العلماء من هذا الاختلاف؛ لأنه قال (أمتي)، فيكون اختلاف أي أحد من أفراد الأمة داخلاً في حكم هذا الحديث.(36/182)
فمجرد تصور ما يدل عليه لفظ الحديث يكفي في رده؛ إذ أنه يشمل كل الأمة: أعياناً وأعمالاً، فجميع أفراد الأمة الإسلامية باختلاف مشاربهم، وشتى اتجاهاتهم، وتنوع أفكارهم، وأيضاً بكل تصرفاتهم وأقوالهم واعتقاداتهم، كل ذلك الخليط الممزوج يكون "رحمة"!! وهذا لايقوله عاقل.
ولأجل فساد هذا الفهم المتبادر من لفظ الحديث إن ثبت سعى بعض العلماء إلى تخريجه على وجه مناسب وملائم.
فزعم بعضهم كما نقل عن الحليمي وغيره أن المراد الاختلاف في الحرف والمهن والصنائع، وهذا بعيد؛ لأنه لو كان هذا هو المراد لكان الأولى أن يقال: (اختلاف الناس رحمة) إذ لافرق في هذا بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم، فإن كل الأمم مختلفون في الحرف والصنائع.
وزعم آخرون كما نقل عن الجويني والحليمي أيضاً وغيرهما أن المراد به الاختلاف في المناصب والدرجات والمراتب، واستبعده السبكي تقي الدين (ت756ه)(18)؛ لأن الذهن لايسبق إليه هذا المعنى من لفظ الحديث.
ودفعاً لأي وارد قد يرد، أطبق شراح الحديث على أن عمومه غير مراد، بل الاختلاف المحمود مقصور على اختلاف الأئمة المجتهدين دون غيرهم، ثم هو محصور في مسائل الفروع دون الأصول هذا على فرض صحة التقسيم إلى فروع وأصول .
والجهة الثانية: جهة المعنى.
وأما معناه فلا يستقيم؛ لأمرين:
1 أنه يصادم النصوص القطعية الثابتة والكثيرة التي تقضي بذم الاختلاف، وتنهى عنه.
وبالغ المناوي في دفع هذا الإيراد، وقال: هذه دسيسة ظهرت من بعض من في قلبه مرض(19).
وليس الأمر كما قال المناوي؛ بل هو إيراد في محله، والأمر كما قال تقي الدين السبكي: "فانظر القرآن
العزيز كيف دل على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، وأن الاختلاف نشأ عنه كفر بعضهم واقتتالهم، وانظر كلام النبوة كيف اقتضى أن الاختلاف سبب لاختلاف القلوب، والذي نقطع به ولاشك فيه أن الاتفاق خير من الاختلاف"(20).
2 ما ذكره ابن حزم وغيره أنه إن كان الاختلاف رحمة فإن الاتفاق عذاب وسخط، وهذا المفهوم من لفظ الحديث لازم لهم، مع أنه لا يقول به مسلم(21).
وقد شنع الخطابي (388ه) على من جعل هذا المفهوم مستفاداً من الحديث وألزم به، بل نسبه إلى بعض أهل الزندقة والمجون!!(22).
ثم حاول دفع ذلك بما لاينتهض، وتكلف الجواب عنه وقال: "قال تعالى ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه 73 {القصص: 73} فسمى الليل رحمة، فهل أوجب أن يكون النهار عذاباً؟(23).
وفي الحقيقة هذا ليس بجواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أمتن على الخلق بأن جعل الليل والنهار كليهما من رحمته، ولم يفرد الليل بالرحمة دون النهار، فكيف يُفصل الليل عن النهار ويخص الليل بالرحمة دون النهار مع أن السياق واحد؟!
وزيادة على ما تقدم فإن متن الحديث منكر؛ لأنه نص على أن الاختلاف رحمة، وقد ثبت في حديث آخر أن الجماعة رحمة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه : أن رسول الله قال: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب"(24).
وعند الوقوف ملياً مع هذا الحديث يظهر والله أعلم أنه تحرف من لفظ آخر وهو : (اختلاف أصحابي لأمتي رحمة)، بدليل أن لفظ : (اختلاف أمتي رحمة) مختزل منه كما هو ظاهر؛ ولأن كثيراً من الأئمة قد أنكروا أن يكون لهذا اللفظ أصل في كتب السنة، كما قال تقي الدين السبكي (756ه): "هذا الحديث ليس معروفاً عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولاموضوع ، ولا أظن أن له أصلاً؛ إلا أن يكون من كلام الناس.. إلى أن قال: وما زلت اعتقد أن هذا الحديث لا أصل له"(25).
وقال ابن الملقن (804ه): "هذا الحديث لم أر من خرجه مرفوعاً بعد البحث الشديد عنه"(26).
وهناك فرق عظيم بين اللفظين؛ فإن اللفظ الوارد: (اختلاف أصحابي...) يقصر الاختلاف على الصحابة فقط دون غيرهم، فتكون الرحمة محصورة في اختلافهم.
وهذا له محمل وجيه وصحيح؛ لأن كون اختلافهم رحمة أي رخصة، والرخصة تخفيف، والتخفيف رحمة، والمعنى: أننا استدللنا باختلافهم على جواز الاجتهاد في هاتيك المسائل أو ما شابهها، وهذا توسعة لمن جاء بعدهم؛ إذ لو لم يجتهدوا لما تجرأ أحد على خوض عباب النصوص الشرعية، ولوقف العلماء من بعدهم حيث وقفوا، فهذه التوسعة هي الرحمة المرادة.
وعلى هذا المعنى يحمل كلام السلف رحمهم الله ، كقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة: "وكان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس".
وكقول عمر بن عبدالعزيز : "ما يسرني أنهم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة".
وعن موسى بن عبدالله الجهني ثقة عابد أبو سلمة الكوفي قال: "كان إذا ذكر عند طلحة بن مصرف الاختلاف، قال: لا تقولوا الاختلاف؛ ولكن قولوا السعة"(27).
وصنف رجل كتاباً في "الاختلاف"، فقال له الإمام أحمد: "لا تسمه كتاب (الاختلاف) ولكن سمه كتاب السعة"(28).
ولا يعني كون ذلك سعة أن للمجتهد أو المفتي الانتقاء من أقوالهم أو مذاهبهم بدون نظر أو ترجيح، فإن هذا الانتقاء اللامنضبط ليس من لازم السعة ولا من ثمراتها، وعلى هذا يحمل كلام من نفى السعة في اختلاف الصحابة ومن بعدهم.(36/183)
قال ابن القاسم: "سمعت مالكاً، والليث بن سعد يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله : "ليس كما قال ناس فيه سعة، ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب"(29).
وسئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟! وما الحق والصواب إلا واحد(30).
قال ابن الصلاح الشهرزوري (643ه) تعقيباً على قول الإمام مالك: "قلت: لا توسعة فيه؛ بمعنى أنه يتخير بين أقوالهم من غير توقف على ظهور الراجح. وفيه توسعة؛ بمعنى أن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد مجالاً فيما بين أقوالهم، وأن ذلك ليس مما يقطع فيه بقول واحد متعين لا مجال للاجتهاد في خلافه، والله أعلم"(31).
وقد سبقه إلى تقرير هذا الأصل: الإمام إسماعيل القاضي رحمه الله حيث قال: "إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة لأن يقول الناس بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا؛ ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا" قال ابن عبدالبر عقبه: "كلام إسماعيل هذا حسن جداً"(32).
والمقصود أنه يجب فهم كلام السلف على وجهه؛ فإنهم أرادوا أمراً حسناً، ومعنى جميلاً من الاختلاف وقالوا: هو رخصة وسعة، ومن جاء بعدهم قال: إنه رحمة، وأراد نفس المعنى أيضاً، كما قال ابن بطة العكبري (387ه): "فاختلاف الفقهاء في فروع الأحكام، وفضائل السنن؛ رحمة من الله بعباده"(33).
وقال موفق الدين ابن قدامة(620ه): "الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة"(34).
ثم جاء من بعدهم من المتأخرين فضخموا أمر الاختلاف، وعظموه جداً حتى لكأنه مطلب رباني، أو مقصد شرعي؛ بل جعله السيوطي خصيصة من خصائص الأمة فقال: "اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون.. إلى أن قال: فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الأمة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة"(35).
وذهب الحصكفي الحنفي (1088ه) إلى أبعد من ذلك فقال: "واعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر"(36).
والأمر ليس كما قالا بل هو دون ذلك بكثير؛ فإن الاختلاف ليس محموداً في نفسه وإنما يعتبر بما آل إليه؛ فإن آل إلى هوى وعصبية وبغي وعدوان وتفرق الكلمة والصف فهو مذموم ولا شك، وإن آل إلى غير ذلك مما يحبه الله عز وجل فهو ممدوح. فالعبرة بالمآل لا بالحال، تماماً كما قيل في المعصية؛ فإن بعض أهل العلم قالوا: رب معصية خير من طاعة، فليس المراد ذات المعصية؛ لأنها مكروهة للشارع فلا تمدح لذاتها، وإنما المراد بما يؤول إليه حال التائب منها مما يورث الذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار، وتحمل صاحبها على خشوع القلب، والاجتهاد في الطاعات والعبادات.
وعندي نصان لاثنين من أعيان الصحابة وفقهائهم، هما : عبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم فأما ابن عباس رضي الله عنهما فندم وحزن على فوات ما كان يزمع كتابته رسول الله من أمور لايختلفون بعدها، وأما ابن مسعود رضي الله عنه فقد وصف "الخلاف" بما هو أهله، وإليك كلامهما بتمامه:
1 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي : "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده"، فقال عمر: إن رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله ، قال رسول الله : "قوموا".
قال عبيدالله بن عبدالله بن عتبة الراوي عن ابن عباس : فكان ابن عباس يقول: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"(37).
2 قال الأعمش: حدثني معاوية بن قرة، عن أشياخه، أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه صلى أربعاً أي بمنى ، فقيل له، عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟ فقال: "الخلاف شر"(38).(36/184)
وفي ختام الجواب عن الحديث أنقل لك كلاماً نفيساً للغاية للعلامة المحقق أبي إسحاق الشاطبي (790ه) حيث قال: "وأيضاً؛ فإن قول من قال: "إن اختلافهم رحمة" يوافق ما تقدم أي: من أن ذلك بسبب فتحهم باب الاجتهاد ؛ وذلك لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين، وقد ذمت المختلفين فيها وفي غيرها من متعلقات الدين، فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع، حسبما اقتضته الظواهر المتظافرة، والأدلة القاطعة. فلما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا مالم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: والراسخون في العلم يقولون آمنا به7 {آل عمران: 7}، ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال؛ لأن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة، فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي، والفطر والأنظار تختلف؛ فوقع الاختلاف من هنا لامن جهة أنه من مقصود الشارع، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية، ولم يتكلموا فيها ولهم القدرة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها ؛ لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف، وأن الشريعة لا اختلاف فيها، فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة، فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف؛ سهل على من بعدهم سلوك الطريق؛ فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبدالعزيز: "ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"، وقال: "ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا"(39).
@ الهوامش:
1 الموافقات للشاطبي (4-8988).
2 انظر: (الاحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) القرافي في 135 فما بعدها، و(إعلام الموقعين) لابن القيم (3-288).
3 (سير أعلام النبلاء) (14-376).
4 انظر: (إعلام الموقعين) (1-72)، و(البحر المحيط) للزركشي.
وهذا فيمن كان معذوراً في مخالفته للحق، أما "من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع"(مجموع الفتاوى) (24-172).
5 أخرجه: أحمد في المسند (5-323) رقم (22755)، والحاكم في (المستدرك) (1-122) رقم (429)، والبزار في (البحر الزخار) (7-157) رقم (2718)، والشاشي في (مسنده) رقم (1273)، والطحاوي في (شرح شكل الآثار) (3-365) رقم (1328)، والطبراني (الكبير) (11) رقم (12276). وحسنه الهيثمي في (المجمع) (1-127) و(8-14)، والألباني في (صحيح الترغيب) رقم (101)، وانظر السلسلة الصحيحة رقم(2196).
6 اخرجه مسلم في (صحيحه) (1-74) رقم (55)، كتاب الإيمان، باب: بيان الدين النصيحة.
7 (إعلام الموقعين)(2-183).
8 (الموافقات) (5-136).
9 (إحياء علوم الدين) للغزالي (4-33).
10 (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبدالبر (2-982).
11 عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: "قيل لعيسى ابن مريم: ياروح الله وكلمته، من أشد الناس فتنة؟ قال: زلة العالم، إذا زل العالم زل بزلته عالم كثير" أخرجه: ابن المبارك في (الزهد) (2-855) رقم(1136)، ومن طريقه الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) (2-26) رقم (645).
12 أخرجه : البزار (كشف الأستار) رقم (182)، والطبراني (الكبير) (17-17)رقم (14)، والبيهقي في (المدخل) رقم (830)، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم)رقم (1865).
وإسناده ضعيف جداً، فإن: كثير بن عبدالله المزني متروك. (مجمع الزوائد) (1-187) و (5-239).
لكن للحديث شواهد مرفوعة وموقوفة، فمن المرفوع:
1 ما رواه: البيهقي في (المدخل) رقم(832)، و(شعب الإيمان) (2-3) رقم (347)، والخطيب في (الفقيه المتفقه) (2-26) رقم 644)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وسنده ضعيف.
2 ومنها ما رواه أبو داود في (المراسيل) رقم (533)، من حديث محمد بن كعب القرظي مرسلاً. ثم في إسناده: إبراهيم بن طريف الشامي، وهو مجهول.
3 ومنها ما رواه: الطبراني (الكبير) (20-139138)، و (الأوسط) (7-297) رقم (6571)، و(الصغير) (2-186) رقم (1001)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه .
قال الهيثمي: وفيه عبدالحكيم بن منصور الواسطي وهو متروك الحديث (المجمع) (1-186).
ثم فيه انقطاعاً؛ لأن عبدالرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذاً.
ولحديث معاذ طريق أخرى أخرجها: الطبراني (الأوسط) (9-326) رقم (8710)، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) (1-131) رقم (183).
قال الهيثمي: وعمرو بن مرة لم يسمع من معاذ (المجمع) (1-187).
وأما الآثار الموقوفة فسوف يأتي ذكر بعضها إن شاء الله .
13 أخرجه: ابن عدي في (الكامل) (6-2081)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (10-211) رقم (20917)، وفي (المدخل) رقم (831). وضعفه المناوي في (فيض القدير) (1-187)، وقال العجلوني: وهو كما قال إن لم يكن موضوعاً (كشف الخفاء) رقم (78).(36/185)
14 أخرجه: ابن المبارك في (الزهد) رقم (1137)، والدارمي (السنن) رقم (220)، والآجري في (تحريم النرد والشطرنج) رقم (48)، والفريابي في (صفة النفاق) رقم (31)، وابن بطة في (الإبانة) رقم (641و643)، والبيهقي في (المدخل) رقم (833)، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) (1-234) رقم (607)، وابن عبدالبر (جامع بيان العلم) رقم (1867و1869و1870) وأبو نعيم في (الحلية) (4-196).
وعزاه المتقي الهندي في (كنز العمال) رقم (29405 29412) إلى: آدم بن أبي إياس في (العلم)، والعسكري في (المواعظ)، والبغوي والإسماعيلي، ونصر المقدسي في (الحجة).
وساق ابن كثير طرقه ثم قال: فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف، فهي صحيحة من قول عمر رضي الله عنه، وفي رفع الحديث نظر، والله أعلم(مسند الفاروق) (2-662).
وصححه الألباني في (المشكاة) رقم (269).
وقد ورد عن جماعة من الصحابة آثار قريبة من لفظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، منها:
1 أثر معاذ بن جبل رضي الله عنه، بإسناد حسن.
أخرجه: وكيع في (الزهد) (1-299) رقم (71)، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) (1-137) رقم (198)، وابن عبدالبر (جامع بيان العلم) رقم (1872)، وأبو نعيم في (الحلية) (5-97) وقال: كذا رواه شعبة موقوفاً، وهو الصحيح.
وقال الدارقطني: وقفه شعبة وغيره عن معاذ، والموقوف هو الصحيح (العلل) (6-81) رقم (992).
2 أثر أبي الدرداء رضي الله عنه ، وإسناده منقطع.
أخرجه أحمد في (الزهد) رقم (143)، وأبو نعيم في (الحلية) (1-219) ، وابن عبدالبر (جامع بيان العلم) رقم (1868).
3 أثر سلمان الفارسي رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.
أخرجه: ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) (2) رقم (1873).
4 أثر تميم الداري رضي الله عنه.
أخرجه: البيهقي في (المدخل) رقم (837)، والخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي) (1-145).
فمجموع طرق الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة ترتقي بالمرفوع إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم.
15 أخرجه: البيهقي في (المدخل) رقم (835و836)، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) رقم (647)، وابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم(1877)، وإسناده صحيح.
16 أخرجه: ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) رقم (1539)، وسنده صحيح.
17 أخرجه: البيهقي في (السنن الكبرى) (10-211) رقم (20918)، وانظر: (سير أعلام النبلاء)(7-125).
18 (قضاء الأرب في أسئلة حلب)(269)، ونقله عنه المناوي في (فيض القدير) (1-209) وغيره.
19 (فيض القدير) (1-210).
20 (قضاء الأرب في أسئلة حلب) (266).
21 (الإحكام في أصول الأحكام) (5-64)، وأيده الألباني (الضعيفة) (1-141).
22 (أعلام الحديث) (1-219)، وأيده على ذلك من جاء بعده ممن نقل كلامه، وانظر على سبيل المثال: (شرح صحيح مسلم) للنووي (11-92).
23 المرجع السابق (1-220).
24 أخرجه: أحمد(المسند) (4-278و275)، وابن أبي الدنيا في كتاب (الشكر) (64)، وابن أبي عاصم في (السنة) رقم (93)، والقضاعي في (مسند الشهاب) رقم (15)، والبيهقي في (شعب الإيمان) (2-1-123)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (117).
وعزاه الهيثمي إلى: البزار، والطبراني، وقال: رجالهم ثقات (المجمع) (5-217) وحسنه الألباني (الصحيحة) رقم (167)، و(صحيح الجامع)رقم (3109).
25 (قضاء الأرب في أسئلة حلب) (264263)، وكلامه هذا تناقله عنه الأئمة مقرين له.
26 (تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج) لابن الملقن (71) رقم (62)، ونقله عنه الزبيدي في شرحه على (إحياء علوم الدين) (1-205)، وعنه اللحجي في (منتهى السول على وسائل الوصول) (3-266).
27 أخرجه: ابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (707)، وأبو نعيم في (الحلية) (5-19).
28 انظر: (مجموع الفتاوى) (30-79).
29 انظر: (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر رقم (1695و1699).
30 نقله ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) (2-907).
31 (أدب المفتي) لابن الصلاح(64).
32 (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر (2-907906)، وانظر: (الموافقات) (5-75) و(الاعتصام) (2-676).
33 (الإبانة الكبرى) (2-566).
34 (لمعة الاعتقاد) (35).
35 (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) (21،22).
36 (شرح الدر المختار) (1-12).
37 متفق عليه، البخاري كتاب الجهاد والسير (3-1111)، ومسلم كتاب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (شرح النووي) (11-95).
38 أخرجه: ابن أبي شيبة في (المصنف) رقم (13982)، وأبو داود في (السنن) رقم (1960)، وأصل الحديث في الصحيحين وغيرهما.
39 (الموافقات) (5-7675).
===============(36/186)
(36/187)
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير (5 5)
استعرض الكاتب جزاه الله خيراً في الحلقات الأربع الماضية أهمية منصب الفتيا، ومنهج السلف الصالح فيها، ودعاوى المميعين لأحكام الشريعة، المصادمين للنصوص المحكمة بحجة التيسير ولو كان على حساب الدليل، ثم قام بنقض أدلتهم النقلية والعقلية، ويستكمل نقضها في هذه الحلقة مجيباً عن الآثار التي استدلوا بها على منهجهم الفاسد.
الجندي المسلم
الحديث الثاني: "أصحابي كالنجوم...".
هذا الحديث ليس فيه إلا الثناء على الصحابة بما هم أهله، وأنهم منارات هدى يقتدى بهم كحال النجوم التي يهتدى بها في حوالك الظُلَمْ، وأن كل فرد من أفراد الأمة متى أراد قدوة صالحة في أمر من أمور البر، والخير، والإحسان، فسيجد في الصحابة رضي الله عنهم أسوة حسنة، وقدوة صالحة؛ فمن أراد قدوة في العبادة ففيهم العابدون، ومن أراد قدوة في الجهاد ففيهم المجاهدون، ومن أراد قدوة في العلم ففيهم العالمون،.... وهكذا.
وليس في الحديث أي إشارة لامن قريب ولا من بعيد إلى الحث على الانتقاء من أقوالهم، أو الاختيار من آرائهم لمجرد كونهم صحابة فقط، وإلا فهل يجوز لأحد اليوم أن يقول بقول عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما؛ فيمنع الناس من التمتع بالعمرة إلى الحج!! هذا ما لايجوز البتة.
وهذا المقدار من تشبيه الصحابة بالنجوم ثابت من حديث آخر صحيح، وهو أعمق دلالة من حديث: "أصحابي كالنجوم" عند التأمل.
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي قال: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون"(1).
وذكر البيهقي رحمه الله أن هذا الحديث يؤدي بعض المعنى المراد من حديث: "أصحابي كالنجوم" (2)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعقيباً عليه: صدق البيهقي، هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى الأشعري؛ نعم، يمكن أن يتلمح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم، وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة، من طمس السنن، وظهور البدع، وفشو الفجور في أقطار الأرض، والله المستعان(3).
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالحديث إن صح نقل مارواه الصحابة عن النبي ، فإنه لا مطعن في أحد منهم، فكلهم ثقات عدول، فعن أيهم نقل الناقل فقد اهتدى الناقل.
قال الإمام المزني رحمه الله: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه، وشهدوا به عليه، فكلهم ثقة مؤتمن على ماجاء به، لايجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كانوا عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضاً، ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبر (4).
وثم جواب ثالث ذكره ابن حزم رحمه الله، حيث عدد أوجه الفساد في الاستدلال بهذا الحديث، ثم قال:
والثالث: أن النبي لايقول الباطل، بل قوله الحق، وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد، وكذب ظاهر؛ لأنه من أراد جهة مطلع "الجدي" فأم جهة مطلع "السرطان" لم يهتد، بل ضل ضلالاً بعيداً، وأخطأ خطأً فاحشاً، وخسر خسراناً مبيناً، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق (5).
ثانياً: الجواب عما استدلوا به من أقوال السلف:
وأما ما ذكروه من آثار السلف رحمهم الله، وأوردوه في هذا المقام، فعنه جوابان: جواب إجمالي، وآخر تفصيلي.
فأما الجواب الإجمالي فيقال فيه: إذا جمعت الآثار السلفية في صعيد واحد، وضممت النظير إلى نظيره، ثم قارنته بأفعالهم ومواقفهم المنقولة إلينا، ودققت التأمل في ذلك، تبين لك مرادهم على وجه التحقيق، وأنهم إنما قصدوا الأقوال التي يتجاذبها الأثر، ويسعفها النظر، والتي لا تخرج عن كونها إما راجحة أو مرجوحة، مما سبق بيانه ودخوله ضمن "الخلاف المعتبر".
والذي يؤكد ذلك ويدل عليه هو تعقب بعضهم لبعض، وتخطئة بعضهم بعضاً، وقيام المناظرات العلمية بينهم، وكتابة الردود، والأجوبة عنها، ثم يلي ذلك إعذارهم من خالفهم في الاجتهاد؛ لعلمهم بوجاهة ما تمسك به، واحتج له، ونافح عنه. ولو كان الذي صار إليه مما شذ فقهه، أو اندثر علمه، أو هُجر العمل به، أو صار إليه تشهياً، وانتقاء عشوائياً لامبرر له؛ لما عذروه وتحملوه، بل زجروه وهجروه، وحذروا الناس منه، ولعدوه من أهل البدع؛ لأن تلك هي طريقتهم، وذلك هو منهجهم.
ولقد كان من المشتهر في عصرهم، والمنتشر في أوساطهم أنه لا يصار في مسألة من المسائل إلى قول لأجل القائل به مالم تقم عليه بينة ظاهرة من الكتاب والسنة؛ لأن الحجة فيهما لاغير، ومن عارض نصوص الكتاب والسنة بأقوال الرجال مهما كان صاحب القول محترماً ينكرون عليه فعلته، ويردون عليه شطحته؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله، وقال فلان!(6).
وأما الجواب التفصيلي فهو كالآتي:(36/188)
1 قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشريح القاضي: "فأي الأمرين شئت فخذ به"، المراد منه الأخذ بالاجتهاد أو تركه، وليس المراد الانتقاء من الأحكام التي ظهرت له في الواقعة الواحدة فيتخير لها ما شاء من الأقوال.
ويدل على ذلك اللفظ الآخر للأثر، وفيه: "...فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيراً لك"(7).
2 قول سفيان الثوري رحمه الله: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه،أه. محمول على الاختلاف المعتبر، الذي يعذر فيه المخالف، لا أنه يسوغ أي خلاف؛ فإن سفيان الثوري رحمه الله معروف بشدته في الحق، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم فيه أيضاً بيان للموقف الصحيح من الخلاف المعتبر، وقد قال يحيى بن سعيد رحمه الله: ما برح المفتون يستفتون، فيحل هذا، ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه(8).
وكذا قال غير واحد من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه،(9) وهو ما عرف فيما بعد ب "الإنكار في مسائل الخلاف".
وهنا يجب أن نقف وقفة علمية مع هذا المصطلح؛ فإن مسائل الخلاف منها ما هو محل للاجتهاد، ومنها ماليس كذلك، وحينئذ يجب التفريق بينهما.
فمسائل الاجتهاد هي المسائل التي لا تظهر فيها الأدلة ظهوراً بيناً يوجب العمل بها ، وإنما أدلتها خفية أو متعارضة، فهذه محل للاجتهاد وإمعان النظر فيها.
بينما مسائل الخلاف هي كل مسألة اختلف فيها العلماء، سواء ظهر دليلها أو لا.
وعلى هذا فمسائل الخلاف أعم من مسائل الاجتهاد؛ إذ كل مسألة اجتهادية خلافية، لكن ليس كل مسائل الخلاف اجتهادية، وكل ما ذكره العلماء في عدم الإنكار في مسائل الخلاف إنما يعنون به "مسائل الاجتهاد"؛ ولهذا قالوا: ليس كل خلاف معتبر، كما سبق بيانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
قولهم: "ومسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل.
أما الأول: فإن كان القول يخالف سنة، أو إجماعاً قديماً، وجب إنكاره وفاقاً. وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع؛ وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار... وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما يعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد مالم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ له الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها.أه(10).
3 وأما قول سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة...، فليس مراده بالرخصة ههنا ما يؤثر عن العلماء من زلات وهفوات، أو ما يوجد في المذاهب من تيسيرات مخالفة للدليل،... أبداً، وإنما مراده بالرخصة ما يذكره الأئمة من تخريجات حسنة مبنية على أدلة الشرع ومراعاة أصوله، كحال "الحيل"، فإن منها حيلاً محرمة لما فيها من التلاعب بالشرع، ومنها حيل شرعية جاءت على وفق النصوص، وحينئذٍ يكون تسميته لها ب:"الرخصة" تجوز في العبارة، كتسمية الحيل الشرعية ب:"الحيل" مع أنها مخارج شرعية قام الدليل على اعتبارها تيسيراً للمكلف، وإبعاداً له عن جنف الإثم.
وتأمل قوله:"من ثقة"، فإن وصف "الثقة" عزيز، وهو قيد لمن تقبل منه تلك الرخص، والمتتبع لزلات العلماء، المتشرب بالشاذ من العلم، المتفقه على المهجور منه، الصائر إلى الأقوال بالتشهي، المنتقي من الآراء بالتلهي؛ لايعد عالماً بَلَه ثقة.
4 وأما قول إياس بن معاوية رحمه الله: "إنه لتأتيني القضية أعرف لها وجهين، فأيهما أخذت به عرفت أني قد قضيت بالحق"، فمقصوده أنه قد تبين له وجهان صحيحان من الحق، وكل وجه منهما يصلح حلاً للقضية.
ولايجوز أن يحمل مراده على أنه يعرف للقضية حكمين، ثم هو لايدري أيهما الحق، أو يدري أن الحق في أحدهما ثم لايبالي أن يحكم بغيره، فكلا الاحتمالين باطل؛ لأن الأول قضاء بالجهل، والثاني قضاء بالزور والبهتان، وحينئذٍ يكون القاضي إياس ابن معاوية بقولته هذه متبجحاً بالباطل، مظهراً للمنكر، شاهداً على نفسه بالإثم والعدوان، وهذا يخالف ما عرف من سيرته رحمه الله.
ومما يؤكد ذلك أن الوجه الخطأ المخالف للشرع لاعبرة به في حل القضية، فوجوده وعدمه سواء، وحينئذٍ يكون قوله: "أعرف لها وجهين" كذباً وافتراء؛ لسببين:
أ أن الوجه الباطل غير معتبر شرعاً، فلا يجوز عدُّه حلاً من حلول القضية.
ب أنه لو أراد الاعتداد بالوجه الباطل فإن الوجوه الباطلة لا تنحصر في عدد معين، بل هي كثيرة بكثرة الأهواء والإرادات، فضلاً عن حصرها في اثنين فقط، فلو أراد القاضي إياس أن يحكم في القضية بالباطل، أو بالجهل، أو بالتشهي، أو بغير ذلك، لكانت موارد الشر عنده كثيرة جداً وليست محصورة في "وجهين".(36/189)
5 وأما قول عمر بن عبدالعزيز، والقاسم بن محمد رحمهما الله، فقد سبق بيان المراد منه؛ ولكن نزيد الأمر بياناً، فنقول:
ما ورد عن بعض السلف من أن الله تعالى قد نفع باختلاف الصحابة، إنما مرادهم بذلك والله أعلم أنه لا يمكن أن تُعرف مسالك الخلاف، وآدابه، وطرق الخروج منه؛ إلا بوجود نماذج يحتذى بها من سلف هذه الأمة، ممن قد خلصوا من شوائب المذهبية، وتخلصوا من فساد الطوية، يرسمون للأمة طريقة التفقه، وطرق الاستنباط، ويبينون خطوط "المسيرة العلمية" من بدأة النظر في الأدلة إلى الموقف الرشيد من المخالف.
فكان الصحابة رضي الله عنهم أحق الناس بهذه الرتبة المنيفة؛ لأنهم خير الأمة، وأبرها، وأعمقها فقهاً، وعصرهم أبرك العصور، وقرنهم خير القرون، فحصل الخلاف العلمي بينهم لتتعلم الأمة بعدهم ما يتعلق به من قضايا، وتتبين حقيقته، وأبوابه، وطريقته؛ إذ لا يتصور وقوع الخلاف بين الصحابة والرسولل لأنهم لم يكونوا ليخالفوه، لعلمهم أنه لاتجوز مخالفته بحال، فبقيت القسمة فيما بينهم، ليحتمل بعضهم خلاف بعض، ثم ينظر ما ثمره ونتاجه.
ومن المعلوم أن كل العبادات قد أخذت من النبي جملة وتفصيلاً، وكان هو القدوة في ذلك، والاجتهاد عبادة من العبادات، لكن وقوع الاختلاف لم يكن ليظهر بشكله اللاحق على عهده ؛ إذ كلمة الفصل عنده، فلما وقع الاختلاف في عصر الصحابة رضي الله عنهم كثمرة من ثمرات تلك العبادة (الاجتهاد)، عرفنا كيف نتعامل معه، وما موقفنا منه، بسبب ما قيضه الله عز وجل لنا من اختلاف الصحابة ولم يكن ليتأتى ذلك بغير هذا ، فنفع الله به نفعاً عظيماً لمن جاء بعدهم، وكان رحمة للناس أنهم لم يوكلوا إلى أنفسهم بلاقدوات صالحة تكون لهم سلفاً يستضاء به.
ثالثاً: الجواب عما ذكروه من الدليل العقلي:
عند النظر والتأمل في استدلالهم العقلي على ما ذهبوا إليه، نجد أنه يتركب من عدة قضايا، وكل قضية منها تحتاج إلى براهين ومقدمات لإثباتها، ثم نجده أيضاً عبارة عن مزيج من الأوهام خلطت خلطاً لا منطقياً، فأفرز لنا هذا النتاج المعقد من الاستدلال.
لكن خلاصة هذا الاستدلال وفحواه تدور حول نقطة واحدة، هي مرتكزهم في هذا الإشكال، ألا وهي:
تقديس أقوال الأئمة، وإنزالها منزلة النصوص، وإضفاء الشرعية عليها، واتخاذ آراء العلماء ديناً مسلماً،ونصب المذاهب مكان الكتاب والسنة، فإليها الورود، وعنها الصدور.
ثم بنوا على ذلك أنه لايلزم المكلف حينئذ إلا الانتقاء منها، واختيار المناسب له؛ لأن جميعها في الميزان سواء، كحال السنن الواردة على هيئات متعددة، وصور متنوعة، بأيها أخذ المكلف أجزأه ذلك، فهذا هو زبدة استدلالهم.
وفي الحق، فإن هذه مغالطة مبطنة؛ لأن فيها تجاوزاً للحقيقة والواقع.
فأما الحقيقة؛ فلأن "الدين" محصور في الكتاب والسنة فقط، وأما أقوال العلماء فليست بدين، ولا شرطاً فيه، ولا جزءاً من ماهيته، وإنما هي مفاتيح لفهم النصوص الشرعية، ووسيلة لاستبيان المراد، وآلة لاستيضاح المقصود لاغير، فمن المجازفة البعيدة الرقي بهذه الأقوال إلى درجة الديانة، هي مهمة لكن أهمية وسائل لا أهمية مقاصد، والوسيلة إلى شيء ليست هي ذاته وكنهه.
قال عبدالله بن المبارك رحمه الله : ليكن الأمر الذي تعتمدون عليه هذا الأثر، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث(11).
وأما الواقع؛ فلأن الأئمة أنفسهم صرحوا في مواطن كثيرة، وخلال حقب متعاقبة، وأذاعوا ذلك للناس، ونشروه في مجامع العلم؛ حتى أصبح من الأمر البين الظاهر ظهور الشمس في رائعة النهار؛ أن أقوالهم ليست بدين يدان الله به، وليست بحجة على أحد من الخلق، وإنما هي آراء ظهرت لهم من خلال التفقه في النصوص الشرعية، فكلامهم من قبيل "الرأي" وفيه ما فيه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي سفيان؛ كله رأي، وهو عندي سواء، إنما الحجة في الآثار(12).
وقال الشاطبي رحمه الله: وفي تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال، وأن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لاغير(13).
ولأجل ذلك ذكروا أن الأصل عدم تدوين أقوال العلماء؛ لأننا غير متعبدين بها، وإنما الواجب تدوين كلام الله وكلام رسوله ، ولكن الأئمة دونوا كلام من سبقهم لما رأوا فيه من الفائدة، فإن أقوالهم شارحة للنصوص، مبينة لمعانيها، فتفتح الذهن، وتفتق العقل، وتكون عند الطالب ملكة فقهية، ودربة على كيفية معالجة المسائل الاجتهادية في النوازل والوقائع.
قال شرف الدين التلمساني رحمه الله: وفائدة تدوين المذاهب، ونقل الأقوال؛ معرفة طرق الإرشاد، وكيفية بناء الحوادث بعضها على بعض، ومعرفة المتفق عليه من المختلف فيه(14).
وما وقعوا فيه من سوء الفهم هذا أصله ناشئ من الغفلة عن الفرق بين نصوص الكتاب والسنة وبين كلام العلماء، فالنصوص أصل قائم بذاته لايحتاج إلى غيره، ولايفتقر إلى سواه، بل متى ثبت النص الشرعي، وبان وجه الدلالة منه؛ كان كافياً في العمل والتدين به، بينما كلام العلماء ليس أصلاً قائماً بذاته، بل هو مفتقر إلى نصوص الشرع لاعتباره واعتماده.(36/190)
زد على ذلك أن نصوص الكتاب والسنة وحي منزل لها خاصية العصمة، بخلاف كلام العلماء الموصوم بكل ما يليق ببشريتهم.
فلا يجوز لأحد من الخلق أن يقرر حكماً شرعياً ثم يستدل له بكلام أحد من الأئمة، فيجعله حجة بينه وبين الله من جهة، وبينه وبين العباد من جهة أخرى؛ لأن كلام هذا الإمام، أو ذاك يفتقر إلى دليل يعضده، ويستند إليه، وإلا لم يكن شيئاً يذكر.
فأقوال الأئمة مالم ترتكز على الدليل، وتنطلق منه لم يكن لها اعتبار في ميزان القبول والرد؛ ولهذا وجب على الجميع أن يتخذوا من النصوص الشرعية ملجأً وملاذاً؛ ليكون كلامهم مقبولاً، وقولهم مسموعاً، كما هو حال العلماء الربانيين.
وحين نؤكد على هذه المسألة فليس مرادنا من وجوب انطلاقهم من النصوص أن تكون أقوالهم حجة على النصوص، أو اتخاذها ديناً يلزم الناس به، أو أنه يمكن قبولها بمنأى عن عرضها على الكتاب والسنة كما ظن هؤلاء... حاشا، كيف وآثارهم طافحة بالنهي عن تقليدهم، والكراهة لنقل أقوالهم وتدوين آرائهم!
قال ابن بطة العكبري رحمه الله (387ه): وكذلك اختلف الفقهاء من التابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين في فروع الأحكام، وأجمعوا على أصولها، فكل احتج بآية من الكتاب تأول باطنها، واحتج من خالفه بظاهرها، أو بسنة عن رسول الله ، كان صواب المصيب منهم رحمة ورضواناً، وخطؤه عفواً وغفراناً؛ لأن الذي اختاره كل واحد منهم ليس بشريعة شرعها، ولا سنة سنها، وإنما هو فرع اتفق هو ومن خالفه فيه على الأصل، كإجماعهم على وجوب غسل أعضاء الوضوء في الطهارة كما سماها الله في القرآن، واختلافهم في المضمضة والاستنشاق، فبعضهم ألحقها بالفرائض، وألحقها آخرون بالسنة(15).
ولأجل ذلك قرر أهل العلم قاعدة مهمة في هذا الباب، وهي قولهم: "أقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولايحتج بها على الأدلة الشرعية".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة: النص، والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك، تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية"(16).
"وأما قولكم: والأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، فجوابه: أن ذلك في الرخص المعهودة العامة، كالقصر في السفر الطويل، والفطر فيه، والجمع في السفر وليلة المطر، والمسح على الخفين، وأشباه ذلك.
وأما تتبع أخف المذاهب، وأوفقها لطبع الصائر إليها والذاهب، فمما لايجوز فضلاً عن كونه محبوباً مطلوباً"(17).
وقفات أخيرة:
وفي نهاية المطاف، وبعد طول التطواف، أجد نفسي متوجهاً إلى أمة الإسلام لأهديها ثلاث نصائح غاليات، ومن الغش والغبن خالصات، عسى أن ينفع الله بها.
النصيحة الأولى:
لايجوز لنا بأي حال أن نتخذ "الاختلاف" ذريعة للتملص من أحكام الشريعة، أو لضرب أقوال العلماء بعضها ببعض، أو نجعله فرصة لتتبع الشاذ من الفتاوى، والساقط من الآراء التي قد لايخلو منها مذهب من المذاهب الفقهية المعتبرة؛ فإن ذلك دليل على خلو القلب من تعظيم الرب سبحانه، وعلى الغفلة عن لقائه وجزائه.
النصيحة الثانية:
حذار يا أمتي ممن يتشدقون بالفقه وليسوا بفقهاء، ويتطاولون على العلم وليسوا بعلماء، همُّ أحدهم أن يزين الكلمات، ويشقشق العبارات، ثم ليس تحت ذلك من طائل.
نخافهم... ونخوّف منهم، وحق لنا أن نخاف مما خافه النبي علينا، ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله قال: "أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن"(18).
يا أمتي، إياك أن ترفعي من لا قدر له، ولا علم عنده، ولا خشية لله فيه، واحذري من "المتفيقهين" أصحاب الدعاوى العريضة، ممن يشهرهم الإعلام على أنهم أعلام وليسوا إلا أهل كلام.. وأي كلام، والذين إذا تكلموا أتوا بالعجائب! فيذكرون الدليل بغير دلالة، ويجتهدون من دون آلة، بل ويجتهدون فيما لا اجتهاد فيه!! "فويل للمتفقهين، لغير العبادة، والمستحلين الحرمات بالشبهات"(19).
ورحم الله الإمام أبا حنيفة، فإنه جعل "المفتي الماجن" أحط منزلة من السفيه، فقد قال بوجوب الحجر على "المفتي الماجن" مع أن مذهبه عدم الحجر على السفيه إن كان حراً عاقلاً بالغاً، وإنما استثنى "المفتي الماجن" من ذلك لعموم الضرر به في الأديان، فإنه يفسد دين المسلمين(20).
ووالله ثم والله، إن في زماننا هذا من هم أحق بالسجن من السراق؛ لإفسادهم العلم، وتخريبهم الفقه، آذوا الصالحين، وأتعبوا المصلحين، ومل من صنيعهم الجادون من أهل البصيرة، أما هديهم وسمتهم فإلى الله المشتكى، آه... ليتهم أراحوا واستراحوا، والله المستعان.(36/191)
قال عباد بن عباد الخواص الشامي ثقة عابد من فضلاء الشام رحمه الله : "اتقوا الله، فإنكم في زمان رق فيه الورع، وقل فيه الخشوع، وحمل العلم مفسدوه، فأحبوا أن يعرفوا بحمله، وكرهوا أن يعرفوا بإضاعته، فنطقوا فيه بالهوى لما أدخلوا فيه من الخطأ، وحرفوا الكلم عما تركوا من الحق إلى ما عملوا به من باطل، كيف يهتدي المستدل المسترشد إذا كان الدليل حائراً؟!(21).
النصيحة الثالثة:
الواجب على كل مسلم إذا نزلت به نازلة أن ييمِّم شطر أهل العلم فيسألهم عن حكم نازلته؛ عملاً بقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) {الأنبياء: 7} .
ولا يجوز لأحد أن يخوض في النصوص الشرعية متقحماً باب الاستنباط ليستخرج لنفسه، أو لغيره حكماً من الأحكام وهو ليس أهلاً لذلك؛ لفقده آلة الاجتهاد، ومن فعل ذلك فهو آثم وإن أصاب الحق؛ لأنه أتى الأمر من غير بابه، ودين الله عزيز، وحرمه مصون.
وهذا ليس تحجيراً على الناس، ولا كبتاً لحرياتهم، بل هو صيانة لحرم الشريعة، وحماية لجنابها أن يطوله، المغرضون، أو يخوض فيه الخائضون.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن ذلك من مصلحة الجاني نفسه؛ لأننا إذا حجرنا على السفيه من العبث بماله حفاظاً على دنياه، فكذا إذا حجرنا على المتعالم الغمر فإنما هو حفاظاً على دينه وآخرته؛ خوفاً من وقوعه في إثم القول على الله بغير علم، وخشية تجنيه على نفسه، فإنه قد يهلكها بطيشه وخفة رأيه، بل الحجر على هذا وأمثاله أولى من الحجر على غيره؛ لأن السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله قصاراه أن تضيع دنياه، وأما المتعالم الغمر فمبتداه أن يخسر دينه عياذاً بالله.
ثم إن في ترك أمثال هؤلاء يسرحون ويمرحون، تجريء للغافل، واستعداء للجاهل على الخوض في دين الله بلا بصيرة، فلا بد من قيام أهل الولاية بوضع سياط الحسبة فوق هامات المتلاعبين بدين الله عز وجل.
وأخيراً، من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبرع، وإلى الله المشتكى وإليه المفزع."اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، واسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى الصراط المستقيم".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
@ الهوامش:
1 أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، رقم: (2531)، وانظر (شرح النووي): 16-83.
2 الاعتقاد للبيهقي: (439).
3 تلخيص الحبير: (4-191).
4 نقله عنه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم 2-923، وبمثله قال ابن حزم في الإحكام:(5-65).
5 الإحكام (5-65).
6 أخرجه الدارمي، رقم:(445)، والخطيب في الفقيه والمتفقه، رقم :(379 و380)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم، رقم: (2095 و 2097و 2099)، وإسناده صحيح.
7 أخرجه النسائي، برقم: (5399، 8-231)، والدارمي، برقم: (169)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، رقم: (444)، وابن عبدالبر برقم: (1596)، وسنده صحيح.
8 أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم، رقم: (1691)، قال محققه أبو الأشبال الزهيري: إسناده حسن، وعلقه المصنف، ولعله في إحدى مصنفات الحسن بن علي الحلواني( 2-903902).
9 انظر: مجموع الفتاوى: (30-80)، وعزاه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1-189188) إلى الإمام أحمد.
10 إقامة الدليل على إبطال التحليل (181 182)، وانظر: إعلام الموقعين (3-300).
11 أخرجه: أبو نعيم في الحلية: (8-165)، والبيهقي في المدخل، رقم: (240)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم، رقم: (1457 و2023)، والخطيب في الفقيه والمتفقه، رقم: (1073)، وسنده صحيح.
12 أخرجه: ابن عبدالبر في جامع بيان العلم، رقم: (2107) بسند صحيح.
13 الاعتصام: (2-355).
14 نقله عنه الونشريسي في المعيار المعرب:(12-19)، وانظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم: (1-16).
15 الإبانة الكبرى: (2-560).
16 مجموع الفتاوى: (26-203202).
17 المعيار المعرب الونشريسي: (12-29).
18 أخرجه أحمد في المسند: (1-22 و44) برقم:(143و310)، والبزار في البحر الزخار، رقم:(305)، وابن بطة في الإبانة رقم: (940و941)، وابن عبدالبر في جامع بيان: العلم رقم: (2360) مرسلاً، والفريابي في صفة النفاق، رقم: (24 و25 و26)، وعبد بن حميد في المنتخب، رقم:(11)، وابن عدي في الكامل:(3-970)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم :(1641)، وابن أبي الدنيا في الصمت، رقم :(1408)، قال الهيثمي: رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون المجمع: (1-187)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
وأخرجه: البزار كما في كشف الأستار، رقم: (170)، وابن حبان، برقم (80)، والطبراني في الكبير (18-237)، رقم (593)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (1639)، كلهم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
قال البزار: لا نحفظه إلا عن عمر، وإسناد عمر صالح، فأخرجناه عنه، وأعدناه عن عمران لحسن إسناد عمران.
وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح: المجمع: (1-187).
وصححه الألباني صحيح الجامع، رقم:(239)، وصحيح الترغيب رقم: (132).(36/192)
19 أخرجه: الدارمي، رقم: (193)، والآجري في أخلاق العلماء: (141)، والبيهقي في (الشعب)، رقم (1778)، وفي المدخل، رقم: (506)، والخطيب في اقتضاء العلم العمل، رقم :(119)، وفي الفقيه والمتفقه، رقم(812)، كلهم من قول الأوزاعي رحمه الله.
20 انظر: بدائع الصنائع، للكاساني: (6-172)، وتبيين الحقائق للزيلعي: (5-193)، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي: (2-96).
21 سنن الدارمي: (1-508)، وحلية الأولياء لأبي نعيم: (8-283)، وتهذيب الكمال للمزي: (14-135 136).
@ ماجستير في أصول الفقه من جامعة الإمام.
=======================(36/193)
(36/194)
العصرانية والتنوير
مقدمة
(ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )
قا صلى الله عليه وسلم : "ماضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا اوتوا الجدل" ؛ ثم تلا : (ماضربوه لك الا جدلا بل هم قوم خصمون)حديث حسن صحيح
ابن تيمية: (وائمة البدع من اهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الامة منهم واجب باتفاق المسلمين )
اقتباس من مقالة للاخ الفاضل (محمد ابو الهيثم) :
مع كثرة الأقلام واختلاط الأفهام تلتبس على كثير من الأنام العديد والعديد من الطوام ، والدواهي العظام
فنجد كثيراً من الناس تدخل عليهم هرطقات الكثير من دجاجلة التفلسف الهامشي ومدعي الثقافة ، الذين تسربلوا بعباءات مسميات متشابهة تحمل خلف ظهرها النفاق الجلي الواضح الذي لا يختلجه شك ، ويلتبس ظاهرها على عوام الناس ، من هذه المسميات مسمى العلمانية ،والشيوعية وما يدور في فلكها من وليداتها مثل الحداثة والديمقراطية والحرية المطلقة ...... إلخ
وسبب اللبس الحاصل من جراء هذه المسميات هو جهل كثير من عوام الناس بمعاني هذه المسميات وحقيقة مراميها ، ومغازيها ، بجانب الجهل المطبق لمقتضى اعتناق مثل هذه الاعتقادات وتأثيره في سلامة إيمان حامله .)
عدة مسميات في واحد :
العصرانية + الليبرالية +الماركسية + الانسانية +العقلانية + الحداثة + الديموقراطية + التنوير + الاصلاح + التحرير =جميعها تغرف من بحر العلمانية وتصب فيه
تعريف العصرانية والتنوير...الخ :
تطويع (مبادئ) الدين الى القيم الحضارة الغربية ومفاهيمها
انواع دعاة التغريب والتنوير (احقاقا للحق ليسوا سواء) :
1-صاحب فكرة وقناعة ونظرية دينية بحته (اي اجتهاد منه) وغالبا مايصدر ذلك منه عن حسن نية ، الا انه بقي مشدودا الى تصورات ونظريات الغرب خلال فترة دراسته او متأثرا بافكار المعتزلة.
2- صاحب هوى وشخصية انهزامية وانحراف سلوكي وذو مطامع سياسية يعمل من اجلها ، فيركب الموجه في اعلان حربه على اصحاب الصحوة.
3- شهواني وفوضوي وصاحب شهرة (من باب خالف تعرف) محاولة منه اثارة الارتباك في افكار الاسلاميين عن طريق شغلهم بقضايا ومصطلحات هامشيةومبدعة وقلب مواقف التراث بافكاره فيجعل المنحرفين اصحاب عدالة وثورة ، في حين يجعل علماء الاسلام ومتبعيهم اهل جمود ورجعية
ابرز مواصفات (العصرانية وبقية المسميات) وابرز سمات اطروحاتهم وكتاباتهم:
اتباع اراء المعتزلة العقلية
تبني دراسات المستشرقين المنحرفة
الايمان بنظرية داروين
الايمان بالمذهب الفلسفي
الاعجاب بالماركسية
الاعتماد على اساليب الجدل (علم الكلام)
المطالبة بالدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة
الدعوة الى وحدة الاديان والتقريب بين المذاهب
الاعجاب بالحضارة الغربية
تمجيد الفلاسفة والمفكرين في الغرب
(تمجيد الفلاسفة والمنحرفين) الى (تمجيد الملاحدة والمنحرفين)
تحرير المراة على الطريقة العلمانية البحته
المطالبة بتطوير الفن والموسيقى
الدعوة الى السلم (اللاعنف)والتسامح والانسانية والغاء الجهاد
ادخال العلوم الانسانية في العقائد الاسلامية
الاشتغال بالمصطلحات الغامضة وصعبة الضبط
تحكيم العقل وتقديسه على نصوص الشرع
الدعوة الى الاجتهاد وانكار التقليد
الفصل بين القران والسنة المطهرة
التطاول على رموز الامة والتشكيك فيهم
التشدق بالوطنية وحب الوطن والتشكيك بوطنية الاخرين
الهرطقة والتفلسف وادعاء الثقافة
اللف والدوران الغموض والترميز عند طرح فكرة ما
وعورة الافكار وتعقيد الاساليب
ممارسة العنف القولي والعنف التاليفي والصحفي
التكرار الممل : يقول احدهم (والفكرة الواحدة كي تستوي على قدميها تحتاج الى 1000 مقال)
التعالم وتسفيه الاخرين
المطالبة بالغاء القبيلة
==============
مهم جدا :
ومع كل هذا فانهم يشتكون قلة المريدين بسب بسيط :
لانهم يطرحون افكار تتنكر للنصوص الشرعية من الكتا والسنة وتصادم الفكرة ،ومخالفة الفطرة السليمة
=================
قائمة تاريخية باهم المفكرين ودعاة التغريب:
مؤسس المدرسة العصرانية وابرز رجالاتها
كانت حياته غامضة ومليئة بالاسرار
=========
الاب الروحي والفكري ، والمنظر الاكبر لما يسمى بالاصلاحيين
============
شيخ الازهر
===============
ويقال انه تاب من هذا الفكر في اخر حياته وعاد الى منهج السلف
=============
من اكبر المفتتنين بالحضارة الغربية ،المنكر حجية السنة
==============
من اتباع محمد عبدة
==============
من اتباع محمد عبدة
==============
صاحب الكتاب المنحرف (الاسلام واصول الحكم) والذي يدعو فيه الى فصل الدين عن الدولة
================
مدير الجامعة المصرية ؛ والداعي الى الاختلاط والى اللهجة العامية على حساب الفصحى
ويدعو الى الميل الى الحضارة الغربية دون ضوابط
=================
وهو الذي شكك بالصحابة وبعدالتهم وتحامل على الصحابي الجليل ابي هريرة رضي الله عنه
======================
صاحب الكتاب المنحرف (تحرير المرأة)
=========(36/195)
من المعجبين بالحضارة الغربية والداعين لها ، وكان قد عاش في فرنسا في ق19
===============
كان يدعو الى الاختلاط والى الرقص ، وكان قد سافر الى فرنسا وتاثر بالحضارة الاوربية في ق19
صاحب كتاب : (النثر الفني في ق4هـ) والذي يدعو فيه الى نقد القران وانكار اعجازه
=================
محمد احمد خلف الله (لايوجد له صورة)
صاحب كتاب (الفن القصصي في القران الكريم) والذي أوله تاويلا فاسدا وشكك فيه
=====================
شاعر مصري صاحب كتاب (ثورة الاسلام)
================
عميد حركة التغريب
===============
محمود أبو ريه (لايوجد صورة له)
وهو الذي طعن في السنة والحديث ،وجرح بالصحابة
ويقال انه انتهج المذهب الشيعي
==================
صاحب الفتاوي الغريبة والعجيبة
==============
وهو الذي يعشق المعتزلة وعقلانيتهم ويطالب بتجديد النصوص
============
صاحب كتاب (حياة محمد) وهي دراسة علمية على الطريق الغربية كم يزعم
علما ان هذا المدعو هو الذي يشكك بالدولة السعودية (تاجه وتاج راسه) حفظها الله منه ومن اشكاله
==================
من اكبر الرافضين للنصوص الشرعية ، والجريئين على نقدها
========
المتهم بالردة
والذي طالب القضاء بالتفريق بينه وبين زوجته
وهو كاتب منحرف جدا
=============
المنظر الاكبر للتيار العصراني (المادي)
وعمله الفكري يشوبه الغموض
يبالغ في الدعوة الى السلم واتباع اسلوب غاندي
=============
خالص جلبي (من اخطر المنظرين للعصرانية )وهو زوج بنت او اخت (جودت سعيد) وتلميذة النجيب
ويكتب في اغلب الصحف ؛ وكتاباته تتسم بالمكر والتكرار والتعالم واللف والدوران
يعمل في احدى مستشفيات منطقة القصيم
===================================
===============================
=======================
===============
=========
======
===
=
ابرز العصرانيون والتنويريون والعقلانيين في السعودية
==================
============
=======
محاربين الفضيلة من الفنانيين:
لاتعليق!!!!!!!!!!!
===================
=================
==========
ليبرالي اسلامي (ماتجي)
ليبرالي اسلامي (محاولة لتلميع الليبرالية)
==========
لاتعليق
================
================
===============
الموجودين بالاسفل (سالفتهم سالفة) تجتمع في (بعضهم ) وليس جميعهم هذه الصفات:
منتكسين(من اقصى اليمين الى اقصى اليسار)
ليس لهم اي نظريات او هوية فكرية
يحملون عقول الاطفال في كتاباتهم
التلاعب بالمصطلحات بدون وعي
ليس لديهم اي قبول بالمجتمع وصوتهم غير مسموع
يعيشون بالخارج
غير مؤثرين وليس لديهم فكرة
انحراف سلوكي مغلف بالفكر
مفجرين سابقين
شهوانيين
عاطلين عن الصنعة والعمل
مربين حمام
يقولو انه مربي حمام
==========
وختامها الشاعر الكبير (عبدالله ثابت) اللي يدعو الله انه يحوله الى قرد حتى يقوم بعمل (العادة السرية)
==================
================
============
العصرانيات والتنويريات والمطالبات بالتحرر :
وفاء الرشيد
نادين البدير
وجيهه الحويدر
ليلى الاحدب
سمر المقرن
هند الخثيلة
مها الحجيلان
ناهد باشطح
زينب حنفي
عزيزه المانع
مريم القحطاني
هيفاء المنصور
رجاء الصانع
=============(36/196)
(36/197)
فتنة مسايرة الواقع
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله ـ عز وجل ـ لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد ثبوتها، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه ـ عز وجل ـ في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله ـ عز وجل ـ وعصمه. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا منهم.
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ)) [إبراهيم: 27].
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن هذه الآية: "تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم"(1).
وإذا كان الرسو صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه ـ تبارك وتعالى ـ: (( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) [الإسراء: 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه ـ تعالى ـ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار ـ عياذاً بالله تعالى ـ؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم ـ عليهم السلام ـ عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك ـ بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم. وسجل الله ـ عز وجل ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ قولهم: ((مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)) [المؤمنون: 24].
وقال ـ تعالى ـ عن قوم هود: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [الأعراف: 70]، وقال ـ تبارك وتعالى ـ عن قوم صالح: ((قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [ هود: 62].
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ عن قوم فرعون: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)) [يونس: 78]، وقال عن مشركي قريش:
((وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...)) [البقرة: 170] والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسو صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأنمحمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟
نعوذ بالله ـ تعالى ـ من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه،(36/198)
وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله ـ تعالى ـ شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(2).
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فكذلك صاحب الهوى ـ إذا ضل قلبه وأُشرب حبه ـ لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه"(3).
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: "لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(4). قال الشارح في تحفة الأحوذي: "الإمعة هو الذي
يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان".
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله ـ عز وجل ـ وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"(5).
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "فإن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال:يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم"(6).
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله ـ تعالى ـ فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله ـ بادئ ذي بدء ـ حتى يكون لدعوته بعد ذلك
أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.(36/199)
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه ـ والله ـ هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس. إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله ـ تعالى ـ في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله ـ عز وجل ـ. وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله ـ عز وجل ـ وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: "وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا ـ بكل أسف ـ من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها.
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله ـ مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ـ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(7).
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه(8).
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ـ عز وجل ـ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر ـ وما أبرئ نفسي ـ.
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ـ ومن سنوات عديدة ـ كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع، ومن أبرز هذه العادات والممارسات:(36/200)
- ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخضع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين، وكل هذا ـ ويا للأسف ـ بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال: نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم!! .
- ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
- ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح
كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله ـ عز وجل ـ من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله ـ عز وجل ـ فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول ـ والعياذ بالله تعالى ـ إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: "هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها: أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!"(9).
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.(36/201)
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً"(10) ويقول أيضاً: "إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها"(11).
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: "يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن
له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك"(12).
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله ـ عز وجل ـ ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها ـ بزعمهم ـ مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله ـ عز وجل ـ نبي صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: ((وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)) [الإسراء: 73 - 75].
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسو صلى الله عليه وسلم وأولها:
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله، ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسو صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.(36/202)
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!(13).
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض الميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول(14)ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ـ ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله ـ عز وجل ـ باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: "هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري"(15).
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: "لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات ـ لو أخذ بها ـ لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها ـ بزعمهم ـ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: "إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية" والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
5 - أحكام أهل الذمة:
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!"(16).
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: "إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى".
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ـ ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ـ ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
ـ التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر(17).
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:(36/203)
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:
1 - الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله ـ عز وجل ـ الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله ـ عز وجل ـ يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله ـ عز وجل ـ لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ(18):"وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)) [النساء: 66 - 68] وقال ـ تعالى ـ: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) [العنكبوت: 69] وقال ـ تعالى ـ: ((والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)) [محمد: 4 - 6]، وقال ـ تعالى ـ: ((ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء)) [الروم: 10]، وقال ـ تعالى ـ: ((كِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) [المائدة: 15، 16]، وقال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ)) [الحديد: 28]، وقال ـ تعالى ـ: ((وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)) [الأعراف: 154].
وما أجمل ما قاله سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ في النقل السابق حيث قال: "ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ـ ولو يسيراً ـ لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء".
3- الآثار الدعوية:
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة:
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله ـ عز وجل ـ وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ((ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء: 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله ـ عز وجل ـ وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها:
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال ـ عز وجل ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) [النساء: 66] فذكر ـ سبحانه ـ في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: "فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق"(19).(36/204)
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله ـ عز وجل ـ لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله ـ تعالى ـ. وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.
الهوامش:
(1) بدائع التفسير، 3/17.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(3) الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
(4) تحفة الأحوذي، 6/145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
(5) رواه الترمذي، ح/ 2186.
(6) أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.
(7) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 ـ 43 (باختصار).
(9) في ظلال القرآن، 2/ 1219.
(10) الموافقات، 2/ 128.
(11) المصدر السابق، ص / 247.
(12) إعلام الموقعين، 4/ 229.
(13) في ظلال القرآن، 3/ 245.
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب)، للأستاذ محمد حامد الناصر.
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، ص 22.
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار).
(17) المصدر السابق، ص 353، 354.
(18)الفتاوى، 14/245.
(19) بدائع التفسير، 1/17.
مجلة البيان
==============(36/205)
(36/206)
أوراق متساقطة من شجرة مجتثة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فمن الملاحظ أنه في الآونة الأخيرة أحدثت قضايا وأمور جعلت الحليم يقف أمامها محتارا عاجزا ، لا يدري ماهيتها ، وما هدفها .. وما النتاج الذي تطمح إليه ..
فتجده إما أن ينساق مع التيار ، وإما أن يقف موقف المشاهد ذا الأيد المكتوفة .. أو أن يمارس مهنة التصفيق والتطبيل ، ويطبق قول القائل : وهل أنا إلا من غزية ...
ومن هذا المنطلق أردت التوضيح والبيان لقضية هامة جداً ، بدأت تظهر على الساحة بشكل علني في الآونة الأخيرة ، ستعرف حقيقتها - أخي الكريم - من خلال قراءتك المتأنية للأسطر القادمة .
فدونك - أخي طالب الحق - وريقات أعرضها عليك تساقطت من شجرة اجتثت من فوق الأرض مالها قرار ، أمدها ماء الانسلاخ من القيم والمبادئ والأسس والأخلاق .. فكان النتاج مصطلح مأفون يحمل السم الزعاف بهيئة براقة تدعى :
العصرانية
الورقة الأولى : وقفة مع المصطلح
إن لفظ ( العصرانية) ليس صحيحاً لغة ً ، وإنما النسبة الصحيحة ( العصرية) .. وهي نسبة إلى العصر .
بينما لم يرد في الكتاب او السنة مصطلح أو لفظ يدعى بـ( العصرانية ) أو ( العصرية) .. إنما الذي ورد لفظ( العصر ) .
وأصل المصطلح غربي ، فالعصرية في تاريخ الكنيسة النصرانية : حركة نشأت في القرن السابع عشر الميلادي ، على إثر انتشار مذهب(دارون) في النشوء والتطور ومحاولة تطبيقه على البشر مما يتعارض مع تعاليم الكنيسة .
وأساس العصرية : إنكار الوحي ؛ لأنه بحد زعمهم يتعارض مع قوانين الطبيعة ، وبالتالي رفضت هذه الحركة العصرية تعاليم الكنيسة وتمردت على نصوص كتابها المقدس .
ويقوم هذا المذهب على الإيمان بالعقل وقدراته وأنه يصل إلى تحصيل الحقائق من العالم دون مقدمات تجريبية ، ولا تستمد المعرفة عندهم من الخبرة الحسية .. وأهم فلاسفة هذا المذهب وأربابه : ديكارت ، وسيبنوزا ، ولايبنتس … وهم الذين رفعوا راية إعلاء العقل كنقيض للخرافة والإيمان .
ومن ثم انتقل مصطلح العصرانية إلى العالم الإسلامي وأصبح يطلق على كل من يدعو إلى إخضاع الدين لمفاهيم العصر ويحاول إيجاد مواءمة بين الإسلام والفلسفات الغربية المعاصرة .
وهي كذلك محاولة لإحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال ؛ نتيجة وجود تغير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن .
وقد يأتي أحياناً هذا المصطلح بمسميات أخرى كـ( التنوير ) أو ( الفكر المستنير) وهي تطلق غالبا على بعض الاتجاهات العقلانية التي تدعو إلى إخضاع النصوص الشرعية لما يقرره العقل ، أو بمعنى آخر : تقديم العقل على النقل .. ولنا في الورقات القادمة تبيان لترابط هذه المصطلحات مع مصطلح خطير وهدام
الورقة الثانية : الاستراتيجيات العصرانية
يعتمد العصرانيون بشكل أساسي على : الاشتباك والرشد
وهذان مصطلحان استخدمهما العصرانيون في منطقتنا العربية ، ويقصدون بهما على وجه التحديد ما يلي :
1- التعرض للأساس الذي يقوم عليه المجتمع المسلم( الكتاب والسنة) والتشريعات المنبثقة منهما ، وللتاريخ الإسلامي ، بالدراسة و التحليل و النقد وذلك بغرض إلغاء أو تعديل هذا الأساس إلى الصورة التي تحرك المجتمع المسلم في اتجاه تصوراتهم الفكرية .
2- الاستفادة من التصورات الفكرية والمنهجية القديمة والمعاصرة ( الغربية منها على وجه الخصوص) والتيارات النقدية في داخل البلاد وخارجها .. وذلك لتحقيق الهدف السابق .
3-الجرأة في النقد والتحليل ومناقشة الثوابت ، وإضافة لذلك جرأتهم في التحكم وحذف مالاينطبق مع توجهاتهم الفكرية
الورقة الثالثة : مصادر الاستراتيجيات العصرانية
لعلها تكمن في المحاولات التي قام بها من أسموهم بالمفكرين الأصلاء من الأئمة الدينين وأساتذة التاريخ والقانون والاقتصاد بالاشتباك مع أساس المجتمع المسلم وكيانه الثقافي الاجتماعي ( على غرار مافعله كبار فلاسفة التنوير في الغرب إبان القرن السابع عشر) ..
فخرجوا على الإسلام باسم ( كسر جموده ) ، وباسم ( التسهيل) و( التجديد) مستخدمين سلاح ( الرشد ) أو ( العقلانية ) بالمفهوم الغربي الذي يعني : الاحتكام إلى معيار العقل في الحكم على الأشياء وأسبقية العقل في فهم القضايا الجوهرية عن العالم عما سواه …
وقد نجحوا من خلال هذا المصدر في تحقيق ما يلي :
1- الجرأة على التغيير والتجديد في المسائل المرتبطة بالثوابت العقدية في الكتاب والسنة .
2- وضع جميع كتب الحديث والسيرة وجميع ما فيها من أحاديث تحت شبهة الكذب والضعف .
3- حققت ما سمي بالنهضة الإصلاحية ، التي زعزعت أكبر معقل ديني في العالم الإسلامي عن تمسكه بالدين ، وقربت الكثير من شيوخ هذا المعقل إلى (( اللادينين )) خطوات ، ولم تقرب (( اللادينين )) إلى الدين خطوة واحدة … وصار العديد من أولئك يمارسون الظهور العلني في المحطات والإذاعات فيكشفون ستر الله عليهم ، فضلاً عن تغلغل اليهودية والماسونية في ذلك المعقل .
4- شجعت على ترويج السفور بين بنات المسلمين .(36/207)
5- جعلت الزندقة مقابلة لحكم العقل ، وجعلت الإلحاد قرين الاجتهاد ، والإيمان قرين الجمود !!
6- صرفت الناس عن التفكير في الدين وشجعتهم على قراءة كتب الغرب لالتماس الحقيقة فيها ، لأن كتب السلف جافة ضحلة حشوية !!
الورقة الرابعة : بعضها من بعض
نعم ، وهذه حقيقة لا خلاف فيها أو شك .. فالتعاضد والتوافق بين التيار الحداثي والتيار العصراني العقلاني واضح ومصرح به من قبل منظريهم .. بل هذا ما يلمس من أصل نشأة العصرانية ومشابهتها للنشأة الحداثية .
وإن دل على شيء فإنما يدل على السعي الحثيث في الفترة الحالية لإحياء الطرح الحداثي من جديد لكن على هيئة مغايرة لما سبق ، وذلك بإعادة روح الألفة واحتواء أهل الأهواء( العصرانيون ) في المنابر الحداثية من صحف ومجلات وإذاعات .. وذلك من اجل إضفاء الصبغة الشرعية للطرح الحداثي المقولب وفق المنظار العقلاني الذي أطر - في وجهة نظر الحداثيين - بإطار شرعي ، فيحميه من السنة السلفيين الغلاة الحنابلة !!
لذلك .. فلاتعجب إن رأيت الثناء الحار ، والترحيب العاطر من حداثي لربيبه العصراني ، فإنما هم( ذرية بعضها من بعض ) .
الورقة الخامسة : ما هي أهدافهم ؟
وهذا هو السؤال المهم ، فالمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها العصرانيون العرب القدامى والجدد ، إن جردت من أغطيتها الفنية وطبقاته اللفظية التي تحتمي بها فلن تكون أكثر من مجموعة فارغة من الألفاظ الكاذبة ذات الرطانة الغامضة التي لاتخدم أي قضية ولاتفيد في أي تحليل ..
لذلك تراهم يمارسون نوعاً آخر من الرؤى التي تتشكل أهدافهم من خلالها .. وهي :
1- السعي في جهود ضرب الصحوة الإسلامية والعمل على حيلولة من أن تجد لها عمقاً في القرى والمدن البعيدة أو المركز التي يسيطرون عليها .
2- الاستمرار في الجهود التي تسمح لهم بوجود المناخ الذي يعطي لهم الحرية والشجاعة في التعرض للقرآن والسنة والتاريخ والتراث .. سواء كان من خلال منبر إعلامي أو لقاء صحفي أو هيئة أكاديمية .
3- محاولة احتواء بعض الرموز الجماهيرية المؤثرة في الناس ، وذلك ليشكلوا دعم لمسيرتهم الفكرية .
4- أن تكون لهم اليد العليا في توجيه الناس وحركة المجتمع وفق تصوراتهم الفكرية وان تكون عقولهم هي الحكم النهائي حتى في المسائل التي حسمها الشرع .
وقبل أن اختم القول ، أود أن أشير إلى أنني استخدمت التعريض في هذا المقال ، لأن اللبيب تكفيه إشارة مفهومة … وسواه يدعى بالنداء العالي .
مع العلم أن هناك تكملة لإطروحات مشابهة تناقش قضية نقد العقل العربي ، وارتباط المعتزلة بالعصرانية ، وفلسفة العقل الجمعي … إضافة إلى المزيد من الأوراق المتساقطة .. أسأل الله أن يعجل بها في القريب العاجل .
والله المستعان .
مراجع الدراسة :
1-الموسوعة العربية الميسرة .
2-إشكاليات الفكر العربي المعاصر : محمد عابد الجابري .
3-الموسوعة الفلسفية : أكاديمين سوفييت .
4-مؤلفات الدكتور عبدالكريم بكار .
وغيرها …
أبو عبدالعزيز الظفيري
=============(36/208)
(36/209)
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن من علامة توفيق الله لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه، خائفاً من أن يزيغ قلبه، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه في دعائه يسأله الثبات، والوفاة على الإسلام والسُّنَّة، غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر، والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع، وضغط الفساد، ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس، وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله كما قال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ...[27] }[سورة إبراهيم] . يقول ابن القيم رحمه الله: 'تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم'[ بدائع التفسير، 3/17].
وإذا كان الرسو صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه :{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء، وسؤال من بيده التثبيت وهو الله سبحانه.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما دعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم، ويحرض بعضهم بعضاً بذلك، ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم، وسجل الله عن قوم نوح عليه السلام قولهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ[24]}[سورة المؤمنون] . وقال عن قوم هود:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[70] }[سورة الأعراف] . وقال عن قوم صالح:{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[62]}[سورة هود] . وقال سبحانه عن قوم فرعون:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[78]}[سورة يونس] . وقال عن مشركي قريش:{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[170]}[سورة البقرة] . والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء، ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى، وشدة ضغط الواقع، وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل، وأن ما تركه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسو صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأنمحمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى، ومسايرة ما عليه الآباء، وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟! نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر، وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال، الذين زينوا للناس الشرك والخرافة، والبدع الكفرية؛ رأينا أن من أهم الأسباب: مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه.
وكذلك الحال في سائر المقلدين لهم لو بان لأحدهم الحق؛ فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده، الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم [مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ] رواه الترمذي .(36/210)
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس، بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله، فلا تنفعه المواعظ، ولا الزواجر كما قال الشاطبي رحمه الله: 'فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه، وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه'[ الموافقات للشاطبي، 2/ 268].
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة، وارتكاب الكبائر، أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب، وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال:[لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا] رواه الترمذي. و'الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق، ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان'[ تحفة الأحوذي].
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله، وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد، ومكر المفسدين، وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان؛ جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم [يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ] رواه الترمذي.
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة، والصبر العظيم: هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه، المستعصي على مسايرة الناس، وضغط الواقع، وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم [ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ] قَالَ-أي الراوي- يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ:[أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة، وأهل العلم، وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه، وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات؛ إرضاءًا للناس، أو اتقاءاً لسخطهم، أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل، أو بغير تأويل.وإن سقوط العالِم، أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان، فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع، والرضا بالأمر الواقع؛ فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟! هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها، ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس، وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس، وصعب عليه الصمود والصبر؛ فإن الخطر كبير على النفس، والأهل، والناس من حوله.
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم، ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس، واستسلم لضغوط الواقع، وأهواء الناس.(36/211)
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: 'وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة؛ ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع، والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله، ونداءات الكتاب الحكيم، ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، ولا بد لنا من وصف عاجل، وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها. وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها، فهذا تبذير للأموال، ووضعها في غير موضعها، والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام:[مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ الله عَلْيهَ وَأَسْخَطَ عَلْيهَ النَّاسَ] سبق تخريجه. ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم. وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة، ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه'[في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري- باختصار].
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته، ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم، ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم،
ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة، وما تعرضت له من التبعية والمسايرة؛ يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة، والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ، نسأل الله أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل، أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية مخالفة للشريعة والمروءة، كانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها،ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع، وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات، وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح، والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه، أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم، أو اتقاءاً لسخطهم.(36/212)
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات، وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل، وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة: حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة، وذلك حتى يساير الناس، ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع، وإرضاء الناس، ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة، وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة، أو رفع الحرج، أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس، ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي رحمه الله: 'المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً'[الموافقات، 2/ 128] ويقول أيضاً: 'إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها'[ الموافقات، 2/ 247].
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس، أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم، وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : 'يحرم عليه-أي على المفتي- إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم، أو مكر، أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ و أزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومنله أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك'[إعلام الموقعين، 4/ 229].
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد، وتشتد وطأته على الناس، ويبطؤ نصر الله ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة!!(36/213)
وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله نبي صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى:{وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَينا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [73] ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [74] إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً[75]}[سورة الإسراء] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسو صلى الله عليه وسلم وأولها: محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين،لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى:
منها:مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله.
ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسو صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا-ولو قليلاً- عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها، ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها-ولو ضئيلاً- لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول، ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة، ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد أركسوا في هذه الفتنة، وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية، ويتحللون من شرع الله باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي، وتقليد أعمى، وانبهار بإنجازاته المادية، بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد، ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب، ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!!
ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله:'هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري'. ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: 'لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ، يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة، والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد؛ قالوا: لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع، ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم، أو قتل، أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد، وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.(36/214)
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: 'إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج، واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية' . والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
4- أحكام أهل الذمة:كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!'.
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: 'إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية، وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى'. ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة، وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر.
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة، وأن أصلها مسايرة الواقع، والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
1- الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية، وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر شقاء بخلاف المستسلم لشرع الله، الرافض لما سواه، المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه، غير مبالٍ برضى الناس، أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس، المخالف لشرع الله يتحول بمضيِّ الوقت، واستمراء المعصية إلى أن يألفها، ويرضى بها، ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
والمسارعين فيها، والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم، أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين، والبصيرة في شرع الله: لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
=============(36/215)
(36/216)
مصطلح التنوير:مفاهيمه واتجاهاته في العالم الإسلامي الحديث
" نظرة تقويمية "
محاضرة أعدها وقدّمها
الدكتور عبد اللطيف الشيخ توفيق الشيرازي الصباغ
أستاذ الملل والنحل والمذاهب المعاصرة بقسم الدراسات الإسلامية
بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
جدة في يوم الأربعاء 7 محرّم الحرام 1426هـ
16 شباط (فبراير) 2005
P
مصطلح التنوير: مفاهيمه واتجاهاته في العالم الإسلامي الحديث
الحمدلله رب العالمين، (الحمدلله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)، الحمدلله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات)، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي أنزل الله إليه كتاباً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وعلى آله الطيبن الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين أعلام التنوير الحقيقي في هذه الأمة وفي الإنسانية جمعاء، وبعد:
فإنّ مصطلح التنوير أو الاستنارة هو من الألفاظ والشعارات والمصطلحات الوافدة التي انتشرت في العالمين العربي والإسلامي في العصر الحديث، وهي جملة من المصطلحات المجملة المشكِلة الملتبسة التي ظاهرها ومبناها الخير والعلم والمعرفة، ولكنها تحمل في طياتها كثيراً من المفاهيم والأفكار المقبولة أو المرذولة والصحيحة أو الفاسدة؛ ولذلك اقتضت ضرورة البحث العلمي الموضوعي التوضيح والبيان والشرح والتفصيل حتى يزول اللبس وتتضح معالم الصورة وتنزاح الشبهة، فيحيا من حيّ عن بينة ويهلِك من هلك عن بيّنة، (وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) الأنعام /55
مفهوم التنوير عند الغربيين:
وبداية نقول إن هذا المصطلح (التنوير أوالاستنارة)، بالمعنى الفكري والفلسفي الشائع، هو ترجمة للمصطلح الغربي الذي يذكر عادة تحت عنوان: حركة الأنوار أو فلسفة الأنوار أو عصر الأنوار أو فكر الأنوار:
بالفرنسية"philosophie des lumie r es" ، وبالإنكليزية "Enlightenment"، وبالألمانية "Aufkla r ung" وقد ترجمت إلى العربية بحركة التنوير أو حركة الاستنارة.
وحتى نفهم هذا المصطلح بالعربية يستحسن أن نتعرف على مفهومه وأبعاده في اللغات الأوروبية وفي تطور الفكر الغربي عموماً، والواقع أن حركة التنوير تشير إلى تلك الحركة الفلسفية التي بدأت في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، وجاءت بعد المذهب الإنساني وحركة النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد تميزت هذه الحركة بفكرة التقدم وعدم الثقة بالتقاليد، وبالتفاؤل والإيمان بالعقل، وبالدعوة إلى التفكير الذاتي المستقل، والحكم على أساس التجربة الشخصية (المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر) ويقابلها نزعة التعمية، وهي نزعة تتعارض مع نشر المعارف والأخذ بالمبادئ العقلية، وهو مصطلح قدحي ذمّي يعني النزعة الظلامية في مقابل التنوير أو حركة الأنوار (المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر).
وسنعرض فيما يلي شرحاً مكثفاً ومركزاً لفلسفة الأنوار في أوروبا نقتبسه من مرجع مهم من مراجع الفلسفة الغربية الحديثة، وهو معجم الفلسفات الكبرى Dictionnai r e Des G r andes Philosophies الذي أعد تحت إشراف الأستاذ (لوسيان جيرفانيون Lucien Je r phagnon) ,1973 , Toulouse P r IVAT. فقد جاء في هذا المعجم حول هذا المصطلح مايلي:
يشير هذا المصطلح إلى المذهب العقلاني في القرن الثامن عشر، والذي مهدت له بشكل واسع أعمال الفلاسفة السابقين من أمثال: سبينوزا، وريتشارد سيمون، وفونتنل، وبيير بايل وقبل كل ذلك نيوتن ولوك.
وليس من الممكن أن نحلل في صفحات قليلة، وبشكل متتابع،مذاهب الممثلين الرئيسيين لفلسفة الأنوار، أو أولئك الذين يمكن أن نلحقهم، رغم تنوعهم، بهذا التيار: في إنجلترا مثلاً: جون تولاند (1670- 1722)، دافيد هيوم (1711-1776)، وفي ألمانيا: كريستيان وولف (1679- 1754)، ليسينغ (1729- 1781)، وفي فرنسا: مونتسكيو (1689- 1755)، فولتير (1694- 1778)، ديدرو (1713- 1784)، دولامتري (1709- 1751)، دولباخ (1723- 1789)، وبصورة أقل يقيناً روسو والمركيز دوساد، هؤلاء هم الذين كانوا متأثرين بشكل واسع بهذه الفلسفة "فلسفة الأنوار" مع أنهم خالفوها في بعض النقاط الجوهرية.
ونريد هنا بالأحرى أن نحلل المقتضيات الأساسية لمفهوم فلسفة الأنوار:
إن فلسفة الأنوار هي فلسفة عقلانية متفائلة تريد الظهور علناً، وتريد إنارة كل العقول وتخليصها من النزعة الظلامية. وفي إطار هذا المقصد، مقصد التعميم الواسع ونشر الأنوار بشكل عام وفي جميع الأوساط، كتبت الموسوعة تحت إشراف "ديدرو"، تلك الموسوعة التي تشكل معجماً عاماً للعلوم والفنون والتقنيات (وقد صدرت بين عامي 1715 و 1772).(36/217)
ولنلاحظ مع ذلك أن حركة البنّائين الأحرار (الماسونية) (التي قدم لها "أندرسون" مؤسساتها و قوانينها منذ عام (1723) كانت تنمو بشكل سريع جداً وتساند الأفكار الجديدة وقد أدانتها رسالة بابوية أطلقها "البابا كلمنت الثاني عشر" عام 1738) وهي تقدم خليطاً غريباً من فكر الأنوار ومن الروح العرفانية الإشراقية "ILLUMINISME".
ويمكن أن نلخص معالم فلسفة الأنوار عند الأوروبيين بما يلي:
* الهجوم على الدين وعلى السلطات القائمة وتسفيهها وذمها.
* الإشادة بالعقل الطبيعي، وشعارهم في ذلك: "إن أنوار العقل الطبيعي وحدها هي القادرة على قيادة بني الإنسان إلى كمال العلم والحكمة". وهذا يلخص بألفاظ بسيطة جداً كل برنامج حركة التنوير الغربية.
* يمكن أن نعتبر حركة التنوير حركة عقلانية ديكارتية معممة، أي تمديداً واسعاً يغطي جميع الميادين لعقلانية بقيت محدودة وخجولة عند "ديكارت" نفسه.
* الدعوة إلى عقلانية تجريبية حسب النموذج النيوتوني.
* حلول التحليل محل الاستنتاج العقلي النظري.
* إعتبار النظم الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت سائدة في القرن السابع عشر أبنية خيالية.
* استبدال العقلانية التحليلية والنقدية ب"العقلانية الكبرى" التي كانت سائدة في القرن السابق.
* الإنسان معتبر ببساطة آلة أكثر تعقيداً من الحيوان.
* النظرة الحسية التجريبية الوضعية للأشياء تحل محل النظرة المتعالية التقديسية.
* الصراع الأساسي الذي تلتزم به حركة التنوير هو الصراع بين العقل التجريبي الوضعي النقدي وبين مضمون الإيمان الديني الغيبي.
* كانت حركة الإصلاح الديني قد طالبت بالعودة إلى مصادر الإيمان، أي إلى نصوص العهد القديم والعهد الجديد، لكن "سبينوزا" كان يطالب بأن يدرس النص الديني كأي نص عادي آخر، وكأي مجموعة من الوقائع بكل معطيات العقل النقدي ووسائله.
* نزعة الشك في النص المقدس في ثبوته وفي مصداقيته لكونه مثقلاً بالشروح والزيادات والتحريفات.
* الكتاب المقدس ليس سوى نسيج من الأساطير، والعقل المستنير يجب عليه أن يرفض هذه الخرافات التي هي من قبيل الطيرة،أو نزعة التطير.
* إذا كان معظم أبطال حركة التنوير قد بقوا مؤمنين بإله شخصي، "كفولتير" مثلاً، وبقوا يقبلون ديناً طبيعياً، أي يرون في فرضية إله خالق مطلباً طبيعياً من مطالب العقل فإنهم كانوا يرفضون أي دين موحى به.
هكذا كانت فلسفة التنوير (الأنوار) تؤكد إذن قيمة العقل الطبيعي و الأنوار الطبيعية، ولكنها ترفض كل وحي، ترفض كل ما كان علم اللاهوت التقليدي ينسبه إلى العناية الإلهية واللطف الإلهي. فالعقل الطبيعي يكفي لإيصالنا إلى المعرفة. وبنفس الطريقة فإن هناك أخلاقاً طبيعية تكفي لضمان سعادتنا، بصرف النظر عن المحرمات التعسفية والتوجيهات المصطنعة، كما يدّعون.
((أشار اللورد "بروجهام" إلى الفيلسوف " فولتير" وصوّره وهو يؤدي واجباته الدينية على قمة جبل سنة 1775 تحت إشعاع الشمس المشرقة وهو يقول متوجهاً إلى الكائن الأعظم:
إني أؤمن بك، إني أؤمن بك... ثمّ فجأة ينتصب واقفاً ويضع قبعته على رأسه وينفض الغبار عن ركبتيه ويستعيد قسمات وجهه المغضن ثم يقول: هذا بالنسبة لك، أما بالنسبة للسيد الابن وللسيدة أمه، فالمسألة لها عندي شأن آخر)).
هذه الثقة بالطبيعة تميز بشكل واضح حركة التنوير، فهي تتضمن وتقتضي رفض عقيدة الخطيئة الأصلية، وبهذا وحول هذه النقطة بشكل جوهري كانت حركة الأنوار معادية للنصرانية.
لقد تبنت موقف المذهب الإنساني المعارض الذي كان معروفاً في القرن السادس عشر وعمقته. فالإنسان عندها سيد مصيره المطلق وليس تابعاً لرحمة تعسفية. والطبيعة الإنسانية بقواها الذاتية وحدها قادرة على تحقيق التقدم، وليست فاسدة في منبعها بسبب الخطيئة الأصلية. لقد أكدت هذه الحركة أن فلسفة معقولة وعاقلة ينبغي أن ترفض هذه الأسطورة المعيبة التي تقرر الخطيئة الموروثة والتي تجعل منها بشكل ما أمراًً عضوياً بيولوجياً.
وقد كان رفض الخطيئة الأصلية يعني أيضاً رد طغيان الحكام المستبدين، الذين كانوا يسوغون سلطتهم المطلقة بفساد رعاياهم فساداً أصلياً، وهم كلهم أبناء آدم، أما إعادة الثقة بالإنسان فإنها تعني المناداة بضرورة التسامح والمطالبة بحرية التفكير والتعبير. لقد كانت فلسفة متفائلة، بل إن كلمة التفاؤل قد وضعت من قبلها في القرن الثامن عشر، فقد كان هناك ثقة كبيرة في العقل الإنساني والعلم الإنساني والتحولات العلمية الكبيرة والتحولات الاجتماعية والاقتصادية المتنامية لمواجهة حالات الخلل التي تحدث في الطبيعة وفي المجتمع،
فالتقدم العلمي والتقدم الاقتصادي المادي سيحل كل المشكلات وسيلبي كل الحاجات، وهكذا أعلن "كوندورسيه" سنة 1794:
((أن الإنسانية، وهي تزداد علماً ومعرفة كل يوم وبدون توقف، سوف ترى سلطتها على الطبيعة تزداد وتقوى كل يوم وكذلك الأمر بالنسبة لثرواتها وإمكانات سعادتها: فصلاحية الإنسان لبلوغ الكمال هي في الواقع بغير نهاية)).
وقد ورثت هذه الفلسفةَ بشكل مباشر ومثلتها في الأزمان اللاحقة كل من:(36/218)
* الفلسفة الوضعية والوضعيين على اختلافهم.
* الاشتراكية والاشتراكيين على تنوعهم.
* النزعة الإنسانية من كل شكل ولون.
واضح إذن أن الطابع المميز لحركة التنوير وفلسفتها في أوروبا هو طابع عقلاني طبيعي مادي إنساني تحليلي نقدي بعيد عن الدين إن لم يكن معادياً له، يؤمن بالتقدم الإنساني الواسع والمستمر على أساس التفاؤل والثقة بقدرة الإنسان الذاتية وإمكاناته الخاصّة، وأهليته الكاملة لبلوغ سعادته بنفسه، وجميع الحركات الفلسفية والأدبية الأوروبية التي مثّلت حركة التنوير وقادتها تتميّز بالتشكيك في القيم التقليدية والمعتقدات الدينية، وبالميل نحو الفردية المطلقة، وبإبراز فكرة التقدم البشري العام، وبالمناهج التجريبية الوضعية للعلوم، وبتحكيم العقل في كل شيء. (معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبه). هذا هو معنى التنوير ومبادئه في أوروبة، فلننظر إلى دلالة هذا المصطلح واستخداماته في الخطاب العربي الحديث.
معنى التنوير في اللغة العربية وفي التراث الإسلامي:
معنى التنوير في اللغة العربية: لا بد لنا قبل تحديد معنى التنوير كمصطلح ثقافي أو فلسفي في اللغة العربية الحديثة، أن نتعرف أولاً على معنى التنوير في اللغة وفي التراث الإسلامي.
التنوير في اللغة العربية مصدر الفعل المضعف (نوّر)، والفعل نوّر معناه أضاء، يقال نوّر الله قلبه: يعني هداه إلى الحق والخير، ونوّر الصبح أسفر، والتنوير هو وقت إسفار الصبح يقال: صلى الفجر في التنوير أي صلى الفجر في وقت الإسفار. واستنار بمعنى أضاء، ويقال: استنار الشعب، أي صار واعياً مثقفاً (المعجم الوسيط).
النّور في القرآن الكريم: يقول العلاّمة الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات ألفاظ القرآن ": [النّور: الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وذلك ضربان: دنيويّ وأخرويّ.
فالدنيويّ ضربان: ضرب معقول بعين البصيرة، وهو ماانتشر من الأمور الإلهية: كنور العقل و نور القرآن، ومحسوسٌ بعين البصر وهو ماانتشر من الأجسام النيّرة كالقمرين والنجوم والنيّرات.
فمن النور الإلهي قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نورُ وكتاب مبين) وقوله تعالى: (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها) وقوله تعالى: (ما كنت تدري مالكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) وقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) وقوله تعالى: (نورُ على نور يهدي الله لنوره من يشاء).
ومن المحسوس الذي بعين البصر قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورا)، وتخصيص الشمس بالضوء والقمر بالنور من حيث إن الضوء أخص من النور، قال تعالى: (وقمراً منيرا) أي ذا نورٍ. وممّا هو عامُّ فيهما قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنّور) وقوله تعالى: (ويجعل لكم نوراً تمشون به) وقوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها).
ومن النور الأخروي قوله تعالى: (يسعى نورهم بين أيديهم) وقوله تعالى: (والذين آمنوا معه نروهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون: ربّنا أتمم لنا نورنا) وقوله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم) وقوله تعالى: (فالتمسوا نورا).
ويُقال: أنار الله كذا ونوّره. وسمّى الله تعالى نفسه نورا من حيث إنّه هو المنوّر سبحانه، قال تعالى: (الله نور السموات والأرض)، وتسميته تعالى بذلك لمبالغة فعله ]. انتهى كلام الراغب في مفرداته.
معنى التنوير عند الصوفية: وتطلق عبارة فلسفة النور على فلسفة الإشراق عند السهروردي مثلاً، ومؤمن منور القلب: إذا دخل النور في قلبه انشرح وانفسح، وقد جاء في الحديث:
"من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة" قيل وما علامة ذلك يا رسول الله: فقال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله".
وسميت الصوفية بالنورية أخذاً من هذا الحديث، كما أن الصوفية يطلقون كلمة النور على الحق سبحانه وتعالى، ويسمونه أيضاً نور الأنوار، والنور المحيط والنور القيوم، والنور المقدس، والنور الأعظم الأعلى، ونور النهار، (د.عبدالمنعم الحفني: معجم مصطلحات الصوفية).
وفي معجم" ألفاظ الصوفية" للدكتور حسن الشرقاوي أن النور يقصد به اليقين بالحق، والهدى، واطمئنان القلب به، ويذكر النور بضده دائماً، وهي الظلمات التي يراد بها الشكوك والشبهات. كما يراد بالنور المعارف والحقائق التي تجلب اليقين في العقائد، كما يقصد بالنور الكتاب السماوي كما في قوله تعالى: [ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ] النساء " 174 ".
ويمكن أن يحمل معنى النور على النبي الذي يجيء بما ينير السبيل.
وعند الإمام الغزالي: النور هو العلم اللدني أو الوهبي أو العلم الإلهامي وهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن.
ولاننسى في هذا الإطار العنوان الموحي لكتاب الصوفيّ الشهير إبن عطاء الله الاسكندري، وهو "التنوير في إسقاط التدبير".(36/219)
معنى التنوير في الثقافة العربية الحديثة: يقترب معنى التنوير في الاستخدام الثقافي العربي الحديث من معنى الوعي بالحاجة إلى التقدم وإلى الإصلاح والتجديد واليقظة والنهضة. والاستنارة تفيد معنى الفهم والثقافة والاطلاع والاقتناع بضرورة التغيير والتقدم، ويقابلها التزمت والجمود والتمسك بالعادات والتقاليد القديمة بدون تمييز، والانغلاق على النفس ورفض الحوار والتفاعل مع الآخرين.
لكن للتنوير معنى اصطلاحياً فلسفياً خاصاً، فهو الاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا، وتبني شعار "لا سلطان على العقل إلا للعقل"، وهو شجاعة استخدام العقل ولو كان ذلك ضد الدين وضد النص، والدعوة إلى تجاوز العقائد الغيبية، والإيمان بقدرة الإنسان الذاتية على الفهم والتحليل والتشريع، والدعوة إلى الدولة العلمانية، وتجاوز النص الديني أو إهماله أو تفسيره تفسيرات بعيدة عن سياقه وعن قواعد التفسير الموضوعية، وهو الدعوة إلى المنهج التجريبي الحسي المادي واعتباره المنهج الوحيد الجدير بالثقة والاتباع.
والواقع أن هذا المصطلح قد اكتنفه في العصر الحديث كثير من الغموض والتعمية وكثير من الخلط والتلبيس حتى أصبح من الكلمات الفضفاضة التي تحشى بمعاني مختلفة، أو بتعبيرنا الأصولي أصبح من الألفاظ المجملة والمشتركة، وسواء أكان ذلك بقصد أم بدون قصد.
وقد أصبحت كلمة التنوير أو الاستنارة مؤخراً كلمة محورية في الخطاب السياسي والفلسفي العربي، لكن تعريفات التنوير والاستنارة في الأدبيات العربية تعريفات عامة مثل:
حق الاجتهاد والاختلاف، وشجاعة استخدام العقل، ولا سلطان على العقل إلا لسلطان العقل، والاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا.
ولذلك وجدنا كلمة التنوير تختلط أحياناً بكلمات الوعي والنهضة واليقظة والإصلاح والتجديد والتقدم والترقي والتمدن وغيرها من الكلمات والمصطلحات المقاربة، فكان لزاماً علينا أن نحدد المعنى الحقيقي لهذا المصطلح وأن نميزه عن غيره ونحدد اتجاهاته وألوانه وأطيافه، حتى لا تختلط الأمور ولا تلتبس المفاهيم، وحتى يكون الحكم مؤسساً على تصور سليم ومعرفة بينة.
يطلق مصطلح التنوير في الخطاب العربي الحديث بشكل عام على حركة التوعية والتثقيف والتحديث والتجديد التي حدثت في العالم الإسلامي منذ قرنين من الزمان واتسمت بتأثرها بالطريقة الغربية وبإعجابها بالغرب وعلومه وتقدمه الفكري والعلمي وبتيار النهضة والإحياء الذي عرف فيه في القرون الأخيرة، بل إن هناك من يقول بأن تيار التنوير في العالم العربي الحديث بدأ مع الحملة الفرنسية البونابارتية على مصر 1798م، وما أحدثته هذه الحملة من صدمة ثقافية وحضارية ووعي فكري وثقافي، وقد وجدنا من ينظر إلى هذه الحملة اليوم نظرة إيجابية استحسانية، ويطالب بإعادة تقويم هذه الحملة وإعادة تحليل أهميتها وآثارها والحكم عليها من وجهة النظر التنويرية التقدمية التاريخية!!.
ولكن لنا أن نتساءل: هل فهم رجال الإصلاح والتجديد المسلمون التنوير كما فهمه رواد حركة التنوير في أوروبا؟ وهل اقتفوا أثرهم حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذة؟ أم أنهم فهموه بمعنى الإصلاح والتجديد والتحديث من الداخل وفي إطار منظومة العقائد والقيم الإسلامية الأساسية مع اختلاف في الدرجة والمقدار؟ وهل يجوز أن نضع جميع دعاة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي الحديث في سلة واحدة وأن نضمهم في حُزمة واحدة؟ وهل هناك تنوير واحد أم "تنويرات" أي أنواع متعددة من التنوير قد تختلف قطبياً وجذرياً، وقد تتنوع في المسارات والطرائق؟ هل يمكن الحديث عن تنوير إسلامي وتنوير علماني وضعي؟
لقد ذكر أحد الباحثين في التنوير الحديث أن التنوير الغربي هو تنوير علماني يستبدل العقل بالدين ويقيم قطيعة مع التراث، وأن التنوير الإسلامي هو تنوير إلهي لأن الله والقرآن والرسولل أنوار تصنع للمسلم تنويراً إسلامياً متميزاً يرسم معالمه أعلام التجديد الإسلامي المعاصر: ولنلاحظ هنا التقارب بين مصطلحي التنوير والتجديد.
وقد ميّز كاتب آخر "محمد جلال كشك "بين رجال التنوير الحقيقيين وبين التنويريين المضللين الذين تدق لهم الطبول هنا وهناك (جهالات عصر التنوير: قراءة في فكر قاسم أمين وعلي عبد الرازق) ص 3-10.
وقد كتب الدكتور"محمد عمارة" كتاباً كاملاً عن "الإسلام بين التنوير والتزوير" دار الشروق، القاهرة 2002م، كما أصدر كتيباً حول فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين في سلسلة (نحو عقلية إسلامية واعية) رقم "17" - دار الصحوة للنشر 1995. وكأن التنوير عنده يعني تكوين عقلية إسلامية واعية تكون أساس نهضة إسلامية شاملة، وشتان بين هذا المفهوم للتنوير وبين مفهوم رواد التنوير الغربي العلماني، كما يتجلى ذلك في سلسلة من الرسائل القيمة عنوانها (في التنوير الإسلامي) تمييزاً له عن التنوير العلماني!(36/220)
والذي يلفت النظر أن هذا الاتجاه يذكر نماذج من رجال التنوير الحقيقيين من أمثال "الشيخ محمد الخضر حسين"، و "الشيخ عبدالحميد بن باديس" وكثير من رجال الإصلاح والتجديد الذين ظهروا في العالم الإسلامي في القرنين الأخيرين، لذلك فإننا نلاحظ أنّ هذا الاتجاه لا يفرق كثيراً بين رجال التنوير ورجال النهضة والإصلاح والتجديد.
(أنظر كتاب "ابن باديس، فارس الإصلاح والتنوير" لمؤلفه الدكتور محمد بهيّ الدين سالم، دار الشروق 1420 هـ).
بل إنّ كثيراً من الأسماء والرموز التي ينتحلها دعاة التنوير الغربي العلماني ويحاولون تصويرها على أنها من رواد حركة التنوير بمفهومهم العلماني الغربي للتنوير، هي عند التحقيق والبحث الرصين، بعيدة كل البعد عن مفهوم التنوير الغربي ومفرداته وأهدافه، وهذا ما يشير إلى أنّ التنويريين الغربيين الجدد يقومون بعملية خلط وتدليس وتلبيس أقلُّ ما توصف به هو أنها عملية غير دقيقة وغير أمينة وغير منهجية.
فهل نترك مصطلح التنوير لأولئك المفكرين والدعاة المتغربين المتنكرين لعقيدة الإسلام وقيمه المقتفين أثر حركة التنوير الغربية وخصائصها، ونحتفظ بمصطلح التجديد والإصلاح لمفكري الإسلام في العالم الإسلامي الحديث على اختلاف طرائق تفكيرهم وعملهم ماداموا لم يتنكروا للمرجعية الإسلامية في أصولها ومقاصدها الأساسية؟
الموضوع لم يحسم بعد، ونحن لا نرى بأساً في استخدام مصطلح التنوير بمعناه العام المجمل المشترك مع تحديد المراد منه وتقييده بالأوصاف التي تبين نوعه وتحدده.
فلقد كثرت دعاوى التنوير في العالم الإسلامي الحديث وأصبح لها منابر ودعاة كثيرون رغم اختلاف البواعث والخطط والأهداف، وقد سلكت هذه الدعاوى، منذ قرنين من الزمان، أي منذ بداية النهضة الإسلامية الحديثة، عدة مسالك، وكان لها عدة اتجاهات.
أنواع التنوير في العالم الاسلامي الحديث:
لعلني أجتهد في ذلك وأصنف هذه الاتجاهات والتيارات في صنفين رئيسيين:
* الصنف الأول: وأسميه التنوير التغريبي العلماني التحريفي.
* الصنف الثاني: وأسميه التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل.
التنويرالتغريبي العلماني التحريفي:
وينقسم إلى اتجاهين هما:
1. التنوير التغريبي العقلاني الوضعي الراديكالي.
2. التنوير التغريبي العصراني التحريفي.
التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل:
ونقسمه إلى اتجاهين اثنين هما:
1. التنوير الإسلامي التجديدي التحديثي.
2. التنوير الإسلامي التجديدي المحافظ.
أولاً: التنوير التغريبي العقلاني الوضعي الراديكالي:
وهذا الاتجاه يكاد أن يكون انعكاساً للتنوير الغربي في أوروبا في منطلقاته وأهدافه ومن حيث اتباع المنهج الوضعي المادي التجريبي وما أدى استخدامه إلى الإلحاد أو إنكار الوحي أو العلمانية الدنيوية أو الدعوة إلى تجاوز الإيمان بالغيبيات والأخلاق الدينية ومتابعة مقررات الحضارة الغربية المادية، وكان أكثر من تبع هذا الاتجاه ودعا إليه في المرحلة الأولى أناسٌ من غير المسلمين نذكر منهم على سبيل المثال طائفة من المثقفين والصحفيين الموارنة أو الأقباط:
(أمين شميل 1828- 1897) وهو أول دعاة استبدال العامية بالفصحى، و(شبلي شميل 1860 - 1917) المبشر بالإلحاد عن طريق الداروينية والفلسفة الوضعية والمادية. و(فرح أنطون 1874-1922) داعية العلمانية والمفسر لفلسفة ابن رشد تفسيراً مادياً، و(يعقوب صروف 1852-1927)، و(فارس نمر 1856 - 1951)، و(شاهين مكاريوس 1853 -1910) الذين أصدروا مجلة "المقتطف" لتدسّ الشك واللاأدرية والإلحاد بواسطة النظريات العلمية الغربية ذات الخلفية الفلسفية الوضعية والمادية، و(سلامة موسى 1888 - 1958)، و(لويس عوض) و(غالي شكري) وغيرهم...
ويمكن أن يدرج ضمن هذا الاتجاه بعض المسلمين عن وعي وقصد أو عن غير وعي وقصد، منهم على سبيل المثال: د.زكي نجيب محمود، د.فؤاد زكريا، د.جابر عصفور الكاتب المصري المعاصر الذي يقود اليوم حملة إحياء حركة التنوير بالمفهوم التغريبي حيث يأسى اليوم على مصيرها بعد مائة عام ويسمي ذلك "محنة التنوير"، ومنهم أيضاً الدكتور محمد أركون، والدكتور صادق جلال العظم، والدكتور الطيب التيزيني، والدكتور عاطف العراقي وغيرهم.
والحقيقة أن التنوير في محنة وأزمة ولكن ليس عندنا فقط بل عند الأوروبيين والغربيين عامة أيضاً، ولكنها محنة التنوير العقلاني المادي الوضعي وأزمته الناشئة عن تناقضاته الداخلية ونتائجه العبثية اللاإنسانية، وهناك كثير من المفكرين اليوم أصبحوا أكثر جرأة في انتقاد حركة الاستنارة العقلية المادية المتطرفة وما قادت اليه الغرب، والعالم وراءه، من ضياع وصراعات وانتكاس في الغايات والممارسات، وانسداد في أفق المعرفة والمصير الانساني الى درجة القول بأن منطق الاستنارة المضيئة والتنوير المشرق يقودنا بالضرورة الى الاستنارة المظلمة والتنويرالظلامي (انظر التحليل الرائع الذي كتبه المفكر الألمعي الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1 ص/181 ومابعدها، وكذلك ص/286 ومابعدها).(36/221)
والحقيقة أن قلة قليلة من المفكرين المسلمين تصرح بهذا النوع من التنوير بمفهومه المادي الوضعي الراديكالي لأن ذلك يعني إنكار الأصل الإلهي للدين وإنكار الوحي الإلهي والأخذ بمفهوم الإنسان الطبيعي والدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية، والنظر إلى الدين على أنه إنتاج إنساني اجتماعي تاريخي.
على أن هناك كثيراً من المتنورين الوضعيين الماديين يخفون مواقفهم الحقيقية ويتسترون وراء أنواع واتجاهات أخرى من التنوير خوفاً من التصريح والمواجهة وما يترتب عليهما، ولتعرفنَّهم في لحن القول!!
ثانياً: التنوير التغريبي العصراني التحريفي:
وهو اتجاه نشأ في العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، يسعى إلى محاولة إيجاد مواءمة بين الإسلام وبين الفكر الغربي المعاصر، عن طريق إعادة النظر في تعاليم الإسلام ونصوصه وتأويلها تأويلاً جديداً ينسجم مع المعارف والأوضاع العصرية السائدة. إنه اتجاه يسعى إلى محاولة التوفيق بين الدين والعصر الحديث بإعادة تأويل الدين وتفسير تعاليمه في ضوء المعارف العصرية السائدة. وقد تناول عدد من الباحثين هذه الظاهرة بالعرض والتحليل واستعمل بعضهم مصطلح "العصرانية""mode r nisme" لوصفها وإن كان عدد من الكتاب قد فضل استعمال لفظ "التجدد" أو "التطوير" أو " التحديث" أحياناً وأحياناً لفظ "التجديد".
والعصرانية لا تعني مجرد الانتماء إلى العصر، بل تعني وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة، ولو أدى ذلك إلى تطويع مبادئ الدين وأحكامه لقيم الحضارة الغربية ومفاهيمها وإخضاعها لتصوراتها ووجهة نظرها في شؤون الحياة.
أما في العالم الإسلامي فقد كان رائد العصرانية فيه هو (سيد أحمد خان" 1232- 1315"هـ - 1817-1898م)، فقد كان "سيد خان" أول رجل في الهند الحديثة ينادي بضرورة وجود تفسير جديد للإسلام: تفسير تحرري وحديث وتقدمي، وقد وصف الأستاذ العلاّمة السيد "أبو الحسن علي الحسني الندوي" مدرسته التي أنشأها بأنها قامت ((على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية، واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاّتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيراً يطابق ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في القرن التاسع عشر المسيحي، ويطابق هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة ولا تقرره علوم الطبيعة في بادئ النظر من الحقائق الغيبية)) "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" للأستاذ الندوي، صفحة 65 طبعة دار القلم بالكويت- طبعة 5 عام 1405هـ 1985م.
ولم يكن "سيد خان" أول ممثل للنزعة العصرانية فحسب، بل كان نموذجاً كاملاً لها، وكل الذين جاؤوا من بعده لم يضيفوا شيئاً جديداً بل كانوا يعيدون صياغة أفكاره بصورة أو بأخرى.
وقد حدث اضطراب واختلاف كبيران في تصنيف بعض رواد هذا الاتجاه وتحديدهم توسيعاً أو تضييقا ً، وتغليباً لجانب من جوانب آرائهم واجتهاداتهم أو لموقف معين في بعض مسائل الفقه أو الأصول، وقد وجدنا من يسلك ضمن هذا الاتجاه علماء وشخصيات متباينة في مقاصدها ومناهجها: منهم تلامذة "سيد أحمد خان" نفسه، وأشهرهم: شراغ علي، وسيد أمير علي، وخدا بخش الشاعر، وغلام أحمد برويز، وخليفة عبد الحكيم، ومولانا محمد علي أحد قادة حركة الأحمدية القاديانية، وهناك من يضع المفكر الإسلامي الكبير "محمد إقبال" ضمن هذا الاتجاه بسبب بعض الأخطاء والتناقضات والآراء الخاصة التي لا يخلو منها مفكر مجتهد، وإنما العبرة بمنهجه العام وخطته المتكاملة.
وهناك كثيرون يدرجون علماء وروداً آخرين مثل: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، والشيخ الإمام محمد عبده وبعض تلامذته كالأستاذ قاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول ومحمد حسين هيكل باشا، وفي الفترة المعاصرة: محمد أسد ومحمد فتحي عثمان ومحمود الشرقاوي والشيخ عبد الله العلايلي (لبناني) ومحمد أحمد خلف الله وأخيراً حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور وغيرهم، ضمن قائمة التنوير التغريبي العصراني التحريفي.
وقد حاول بعض دعاة الاتجاه الأول من اتجاهات التنوير وهو اتجاه التغريب العلماني الوضعي الراديكالي أن يسحبوا إلى معسكرهم شخصيات من هذا الاتجاه الثاني وأن يؤكدوا أنهم حملة التنوير ورموزه في العصر الحديث، وهم يقصدون التنوير التغريبي اللاديني أو المعادي للدين، وواضح أن هناك خلطاً وتلبيساً يقتربان من التزوير والانتحال الكاذب، وأن القضية أدق من ذلك وأعمق، وأن كلمة التنوير تستخدم بمعانٍ مختلفة ينبغي تحديدها والتمييز بينها والاحتراس عند استخدامها.
ثم إنّ الحكم على كل شخصية من هذه الشخصيات وعلى انتمائها أو اندراجها تحت هذا النوع أو ذاك، يتقرر طبقاً للقواعد الأربع التالية:
1. مدى التزامها بالإسلام وبالفكر الديني عموماً.
2. مدى التزامها بالمرجعية الإسلامية في أصول الإسلام وقواعده الأساسية.(36/222)
3. النظر إلى إنتاج هذه الشخصية بشكل كامل دون اجتزاء بعضها وإهمال البعض الآخر الذي قد يكون أصدق تعبيراً عن مقاصدها.
4. النظر إلى حياة كل شخصية على أنها حياة متطورة وليست جامدة، ولا يجوز الحكم عليها من خلال مرحلة من مراحلها دون نظر إلى بقية المراحل، والعبرة بما استقرت عليه هذه الشخصية في مراحل حياتها الأخيرة، والعبرة بالخواتيم كما نقول.
وعلى كل حال فقد يكون من المستحسن أن نقدم طائفة من ملامح هذا الاتجاه، نذكر منها:
* اعتبار القرآن الكريم وحده الأساس لفهم الإسلام، وعدم الاعتماد على الأحاديث.
* الاعتماد في فهم القرآن الكريم على نص القرآن وحده وعلى المعارف والتجارب الذاتية في كل عصر.
* الاعتماد على مفهوم المحكم والمتشابه في القرآن الكريم لتفسيره تفسيراً عصرياً موافقاً لقوانين الطبيعة وتجارب الشعوب.
* هناك في القرآن الكريم معانٍ ثانوية وفرعية ليست مقصودة من تنزيل القرآن الكريم وهي مأخوذة من بيئة العرب ومعارفهم وظروفهم التاريخية، وبالتالي فإنّ ذكر القرآن الكريم لها لا يعني أنها حقائق مسلّمة.
* لا يقبل من الأحاديث إلا ما يتفق مع نص القرآن وروحه وما يتفق مع العقل والتجربة البشرية وما لا يناقض حقائق التاريخ الثابتة.
* لا يعترف هذا الاتجاه بالإجماع مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، ويرفض الأخذ بإجماعات الصحابة.
* الدعوة إلى الاجتهاد في جميع المجالات وإطلاق العنان للعقل والتجربة والقوانين الاجتماعية والطبيعية في عملية تفسير القرآن الكريم واستنباط الأحكام، وعدم التحرج من أن يؤدي ذلك إلى فوضى فكرية بسبب كثرة الأخطاء، لأن تباين وجهات النظر والحرية الواسعة في الفهم والاجتهاد هي الوسيلة الوحيدة لتقدم الأمة كما يدّعون.
* عدم تقديس التراث، وإعادة النظر فيه من كل جوانبه وبدون أي تحفظ.
* اعتبار التجديد الديني تطوراً واعتبار التطور الديني قمة التجديد الحق.
* التطور يشمل الدين في جوانبه المختلفة: العقائد والعبادات والمعاملات، فليست فيه أحكام تبقى مع بقاء الزمن ولا ينالها أي تغيير.(أمين الخولي، المجددون "ص 58").
وتندرج تحت هذا الاتجاه جميع محاولات التفسير الحديثة والمعاصرة وجميع محاولات التطوير والتغيير التي لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية ابتداءً ولا تلتزم بذاتية الإسلام وتميزه، وتتبنّى، في فهم النص وتفسيره، أدوات وآليات غريبة عن طبيعة الوحي ومصدره الإلهي وبعيدة عن قواعد وأصول التفسير والاستنباط المعتمدة في اللغة العربية والتي تجعل من النص دليلاً هادياً ومرجعاً ضابطاً وموجهاً.
ونقصد بتلك المحاولات جميع المشروعات التي تنتهي تحت اسم تطوير الفهم والتفسير، وتثوير النص، ودراسته كمعطى مغفل، وتطبيق المناهج الدلالية الحديثة عليه، إلى الالتفاف على النص كمعطى إلهي متعال، وبالتالي إلى تطويعه أو تفريغه أو تعطيله أو تحييده، بحيث يصبح النص قطعة للزينة والتمويه ويستخدم أداة "شرعية" مخادعة لإسقاط جميع الآراء والأهواء والمصالح أو المفاسد عليه، تحت ذريعة أن القرآن حمّال أوجه، وهذا أخطر ملامح التنوير التغريبي التحريفي وأخبثها بامتياز.
إنّ هذا التنوير التحريفي سينتهي بنا بالضرورة إلى إسلام آخر، إسلام غريب الملامح والقسمات، بل إلى إسلام "كاريكاتوري"مضحك الشكل والصورة كالذي نراه من أشكالنا وصورنا في المرايا المحدّبة، فلا نكاد نعرف فيه طعم الإسلام ولا لونه ولا روحه أو رائحته وهذه قمة البهلوانية والتهريج باسم التثوير والتنوير، بل قد يكون ذلك شكلاً من أشكال الباطنية الحديثة.
ثالثاً: التنوير الإسلامي التجديدي التحديثي:
وهو اتجاه تجديدي إسلامي يهدف إلى إحياء الإسلام نقياً صافياً من البدع والانحرافات والالتزام بأصول الدين ومصادره الأصلية، وبخاصة القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة، ويتجلى بالدعوة إلى مقاومة الجمود والعصبية والتقليد، وإلى فتح باب الاجتهاد طبقاً لضوابطه وشروطه، لتحديث حياة المجتمع الإسلامي وحل المشكلات الحديثة التي تطرأ بسبب تطور الأوضاع وصلة العالم الإسلامي بالعوالم الأخرى، ولكن طبقاً لمنهجية الإسلام نفسه وآليات التفسير والاستنباط المعتمدة عند علماء الأمة الإسلامية ومجتهديها مع تنّوع واختلاف هنا وهناك.
والمهم أنّ هذا الاتجاه التنويري التجديدي يلتزم بالمرجعية الإسلامية في منطلقاته وأهدافه وأدواته، ويعتبر التحديث مختلفاً جداً عن التغريب، فالمرفوض هو التغريب، أما التحديث فهو مطلب إسلامي وفطري عميق، وهاهنا مروحة كبيرة واسعة تندرج تحتها حركات إسلامية شتى، وجماعات علمية دعوية متعددة، ومدارس وجامعات، ومؤسسات مالية واقتصادية واجتماعية وخيرية، وعلماء ومفكرون وكتّاب مسلمون في كل قطر إسلامي وخارج أقطار العالم الإسلامي في الغرب أو الشرق.(36/223)
وهذا الاتجاه هو بلا شك اتجاه تنويري: ولكنه اتجاه تنويري إسلامي بالدرجة الأولى، وهو اتجاه تجديدي، بمعنى أنه يسعى إلى تجديد الدين وإحيائه عقيدة وشريعة ومنهج حياة، وهو اتجاه تحديثي، بمعنى أنه يريد أن يعيش العصر الحديث في إطار أصوله الثابتة الراسخة، وهو لذلك يؤمن بالتغيير والتطوير، ولكنه التغيير والتطور في الأشكال والأساليب والأدوات في إطار علاقة تأثيرية متبادلة ومتفاعلة بين الثوابت والمتحولات وبين الخالد والمؤقّت وبين الفطري الدائم والاجتماعي العارض، بحيث لا يكون التطور تحريفاً ومسخاً وانفلاتاً، ولا يكون الثبات جموداً وتحنطاً على شكل واحد وأسلوب واحد، وهي إشكالية ليست سهلة كما يُظن، بل تحتاج إلى بصيرة وفقه ودين، وهي ِمَزَلّة أقدام وَمِضَلة أفهام.
ولذلك فإننا نفهم كيف حدثت بعض الأخطاء والشطحات عند بعض ممثلي هذا الاتجاه حتى طمع في تصنيفهم بعض "التنويريين" التغريبيين في خانة التنوير الوضعي العلماني اللاديني، ونزع إلى تصنيفهم بعض التنويريين الإسلاميين المحافظين في خانة التنوير التغريبي التحريفي: وأقصد بهؤلاء شخصيات كبيرة ورموزاً شهيرة كانت ولا تزال موضع جدل وتجاذب، أمثال:
رفاعة الطهطاوي، و جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن الكواكبي وسعد زغلول وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمد حسين هيكل باشا، وخير الدين التونسي، والشيخ الإمام محمدالطاهر بن عاشور صاحب "تفسير التحرير والتنوير" والكتاب العظيم الرائد "مقاصد الشريعة الإسلامية"، والأستاذ علاّل الفاسي في كتابه المشهور "مقاصد الشريعة ومكارمها".
ومن الفترة المعاصرة كتّاب ومؤلفون من أمثال: محمد أسد، ومحمد فتحي عثمان، ومحمود الشرقاوي، والشيخ عبد الله العلايلي، والشيخ أمين الخولي، وجمال الدين عطية وحسن الترابي ومحمد عمارة وفهمي هويدي وغيرهم من أمثال: د.عبد العزيز كامل، و د.أحمد كمال أبو المجد، و د.راشد الغنوشي، و د.محمد سليم العوّا وغيرهم.
ولست هنا بصدد تصنيف هؤلاء أو أولئك ووضعهم في هذا الاتجاه أو ذاك، كما أنني لست بصدد الدفاع عن بعض هؤلاء، وإيجاد التفسيرات والمسوّغات لموقف هذا أو ذاك.
ولكنني أريد أن أؤكد على عدة نقاط يمكن أن تصلح دليلاً لنا في هذا الاتجاه:
1. تجنب سوء الظن وتجنب الحكم على النوايا دون دواعٍ قوية.
2. القبول بالاختلاف والتنوع في إطار الوحدة.
3. التأكيد على الالتزام بالفكر الديني عموماً وبالإسلام كدين موحى به بشكلٍ خاص.
4. التأكيد على الالتزام بالمرجعية الإسلامية طبقاً لأصول الإسلام وقواعده الأساسية.
5. الحكم على الإنتاج الفكري لكل شخصية بشكل متكامل دون اجتزاء أو ابتسار.
6. النظر إلى حياة كل شخصية على أنها حياة متصلة ومتطورة، واعتبار ما استقرت عليه هذه الشخصية في مراحل حياتها الأخيرة هو الأساس.
وفي إطار هذه المعايير نجد مفكراً إسلامياً تنويرياً *يستعرض إنتاج عدد من رموز التنوير في العالم الإسلامي الحديث ويبين براءتهم من فكر التنوير الغربي والتحريفي، ويدافع عنهم بحسب النظرة الكلية الشاملة لحياتهم وإنتاجهم وهم: رفاعة الطهطاوي و جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده و الشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين والزعيم سعد زغلول، والدكتور محمد حسين هيكل باشا.
وأياً ما كان1*الأمر، فإنّ هذا الموضوع الشائك يستحق مزيداً من البحث والتأمّل والأناة ولا يجوز أن نتعامل معه بخفة وتسرّع وانفعال.
على أنّ هناك عشرات من رواد هذا الاتجاه التنويري الإسلامي على اتساع أقطار العالم الإسلامي، شهد لهم الجميع بالدين والعلم والإخلاص، وبأنهم فعلاً من رواد النهضة الإسلامية الحديثة والمعاصرة ومن رجال التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل، وإن لم يخل بعضهم من بعض الانتقادات والتصويبات، بل والاتهامات بأنهم وقعوا في مطب المجاملة أو المسايرة أو التنازل أو تأثّروا بشكل أو بآخر، وفي القليل أو في الكثير، بمعطيات الحياة الحديثة ومظاهر الحضارة الغربية فسلكوا نزعة تحديثية تجاوزت حدود المشروع والمقبول في الفروع أو في الأصول.
رابعاً: التنوير الإسلامي التجديدي المحافظ:
وهو اتجاه إسلامي تنويري تجديدي بأكثر معاني التنوير الإسلامي حيْطة وحذراً خشية الانزلاق إلى نزعة تحريفية أو تطويعية تحت اسم التطور أو التحديث. والحقيقة هي أنّ هذا الاتجاه يمثل اتجاه التجديد بمعناه المأثور في الحديث النبوي الشريف [ إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ] رواه أبو داوود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي، وهو حديث صحيح.(36/224)
وهنا يتطابق معنى التنوير ومعنى التجديد، ويتحدد التنوير الصحيح المقبول بتجديد الدين وإحيائه، أو بتعبير مجمل آخر: بإعادة الدين إلى ما كان عليه في عهد النبوة وفي عهد السلف الأول، لكن لهذا المعنى المجمل تفصيلاً يتضمن المحافظة على نصوص الدين الأصيلة من الضياع ومن الاختلاط بغيرها، وهذا يعني إيجاد طريقة علمية واضحة لتوثيق وتصحيح النصوص الأصلية للكتاب والسنة باعتبارها قوام الدين ومرجعيته الأساسية، ويتضمن أيضاً نقل المعاني الصحيحة للنصوص، وإحياء الفهم السليم لها كما بينها الرسو صلى الله عليه وسلم وكما فهمها الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، كما يتضمن العمل بمقتضى الكتاب والسنة وتطبيقهما في واقع حياة الفرد والجماعة، وهذا لا يعني استبعاد الاجتهاد من مفهوم التجديد، بل إنه لا يمكن ربط الحياة ومتغيراتها بالدين إلا بالاجتهاد الذي يقوم به العقل المسلم اليقظ في ظل أصول الدين ونصوصه الأصلية وفهم السلف الصالح، لكنّ الذي ينبغي أن يوضّح هنا أن التجديد لا يعني الابتداع في الدين.
ويمكن إجمال عناصر هذا التنوير التجديدي المحافظ على النحو التالي:
1. السعي لإحياء الدين وبعثه وإعادته إلى ما كان عليه في عهد السلف الأول.
2. حفظ النصوص الأصلية صحيحة نقية حسب الضوابط والمعايير السليمة.
3. سلوك المناهج السليمة لفهم نصوص الدين وتلقي معانيها عن الأجيال والقرون الخيّرة.
4. جعل أحكام الدين نافذة مهيمنة على أوجه الحياة المختلفة والمسارعة لرأب الصدع في العمل بها وإعادة ما ينقض من عراها.
5. وضع الحلول الإسلامية لكل طارئ واستنباط الأحكام لكل حادث، وتوسيع دائرة أحكام الدين لتشمل ما كان نافعاً متفقاً مع نصوص الدين ومقاصده وكلياته.
6. تمييز ما هو من الدين حقيقة وما يلتبس به، وتنقية الدين من الانحرافات والبدع سواء كانت ناتجة من عوامل داخلية في المجتمع الإسلامي أو بتأثيرات خارجية.
وقد جمعت الموسوعة الميسّرة هذه العناصر الستة في التعريف الجامع التالي للتجديد في الاصطلاح الإسلامي:
التجديد: "هو إحياء وبعث معالم الدين العلمية بحفظ النصوص الصحيحة نقية وتمييز ما هو من الدين مما هو ملتبس به وتنقيته من الانحرافات والبدع النظرية والسلوكية، وبعث مناهج النظر والاستدلال لفهم النصوص على ما كان عليه السلف الصالح، وبعث معالمه العملية بالسعي لتقريب واقع المجتمع المسلم في كل عصر إلى المجتمع النموذج الأول من خلال وضع الحلول الإسلامية لكل طارئ، وجعل أحكام الدين نافذة مهيمنة على أوجه الحياة، ووضع ضوابط لاقتباس النافع الصالح من كل حضارة على ما أبانته نصوص الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح"*2
ويمثل هذا الاتجاه في العصر الحديث رواد المدرسة الإصلاحية السلفية منذ دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ) وحتى عصرنا الحالي.
ويمثل هذا الاتجاه من العلماء والمفكرين والدعاة بعد الشيخ ابن عبد الوهاب، الإمام الشوكاني (1250هـ)، والأمير صديق حسن خان، والشيخ شهاب الدين الألوسي (1270هـ)، والشيخ محمد جمال الدين القاسمي (1332هـ)، والشيخ محمد رشيد رضا(1354هـ)، والسيد محب الدين الخطيب (1389هـ)، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور محمد رشاد سالم، والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد صالح بن العثيمين وغيرهم في شتى أقطار العالم الإسلامي سواء كانوا شخصيات علمية أو مؤسسات تعليمية ودعوية أو جماعات تربوية وخيرية.
ولسائل أن يسأل عن الفروق الدقيقة بين هذا الاتجاه التنويري التجديدي المحافظ والاتجاه السابق وهو التيار التنويري التجديدي التحديثي، ولا شك أن هناك بين الاتجاهين نقاط اشتراك جوهرية وبنيوية ولذلك جعلناهما ضمن صنف واحد هو التنوير الإسلامي التجديدي الأصيل.
ويبدو لنا أن نقاط الاختلاف يمكن رؤيتها فيما يلي:
1. الاتجاه التجديدي المحافظ اتجاه إحيائي أكثر منه تحديثياً.
2. التركيز على قضية الابتداع عند الاتجاه المحافظ والتشديد في محاربته وتوسيع مفهوم البدعة أكثر مما نجده عند الاتجاه الآخر.
3. توسيع مجال عمل العقل في الاتجاه التحديثي أكثر مما نجده في الاتجاه المحافظ.
4. إعتبار المصالح والمقاصد في الاتجاه التجديدي التحديثي أكثر مما نجده في الاتجاه المحافظ،الأمر الذي جعل الاتجاه التحديثي يبدو أكثر تلاؤماً مع مقتضيات التغير الاجتماعي والتطور العمراني.
5. إنفتاح الاتجاه التجديدي التحديثي على تجارب الشعوب والمجتمعات الأخرى والتفاعل معها أكثر مما يلاحظ في الاتجاه التجديدي المحافظ خشية الانحراف والتقليد والتبديل.(36/225)
ولقد جعلنا هذا الاتجاه أحد اتجاهي التنوير الإسلامي التجديدي باعتبار المعنى اللغوي لمصطلح التنوير والمعنى الاصطلاحي الإسلامي لمصطلح التجديد، ولايجوز أن نعبأ هنا بما يمكن أن يُبهت به هذا الاتجاه من أنه اتجاه ظلامي أو تيار رجعي تجهيلي، فمثل هذه الأوصاف لا تجد لها سوقاً رائجة إلا عند أصحاب الاتجاه التنويري التغريبي العلماني أو التحريفي، وهذا لا يجوز أن يدخل في حساب الباحث الناقد البصير.
وبعد،
فإذا كان التنوير في حقيقته دعوة عقلانية، فإن التنوير الإسلامي هو تنوير ديني عقلي معاً، أما التنوير التغريبي فهو تنوير عقلاني معاد للدين أو تنوير لاديني، أو تنوير عقلاني مرجعيته الأولى والأساسية إن لم تكن الوحيدة هي العقل، " فلا سلطان على العقل فيه إلا لسلطان العقل " كما يؤكدون.
أما التنوير الإسلامي فهو تنوير عقلي يعمل في إطار الدين ويهتدي بنوره، ذلك أنّ العقل هو بمثابة العين الباصرة والوحي بمثابة النور أو الضوء، ولا يستطيع أحد أن ينتفع بعينه إذا عاش في ظلمة، كما لايستطيع أن ينتفع بالنور إذا لم تكن له عين باصرة،ولذلك فإنّ عين العقل لا تبصر إلا في ضوء الوحي ونوره، وهذا هو التنوير الحق الذي يعني استخدام العقل في ظل نور الوحي(النص الديني) وهدايته، وهذا هو الخط الثابت للتنوير الإسلامي عبر العصور، إنه الاستنارة بالوحي ليستطيع العقل أن يقوم بمهمته ووظيفته من الإدراك والفهم والتمييز والاستنباط والاكتشاف: فالذين يغمضون عيونهم في النور ثم يحاولون الإبصار لا يبصرون:
[ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ] الأعراف "179 "
والذين يفتحون عيونهم في الظلمات ليبصروا، لا يبصرون:
[ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب* أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ] النور "39-40"
[يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ] التحريم "8"
والحمد لله الذي لا نور إلا نوره ولا هدي إلا هديه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
=============(36/226)
(36/227)
التغيير القادم التغيير .. مطلب أم مذهب؟
د. سعيد بن ناصر الغامدي
مصطلح «التغيير» من المصطلحات الشائعة والرائجة في كتب الإدارة، والسلوك، وعلم النفس والسياسة وغيرها، وهو من المصطلحات المثقلة بالدلالات المتنوعة والمختلفة بل والمتناقضة أحياناً، وذلك لأنه من جنس الألفاظ اللغوية ذات الدلالات المتعددة المستويات والأبعاد، وليس من جنس اللغة الأيقونية الحرفية واحدية المستوى والبعد.
ويصبح مصطلح التغيير هذا أكثر تشعباً عند تعلقه بالظواهر الإنسانية الفكرية والعملية التطبيقية، وتزداد تشعباته ومخاطره عند تعلقه بالإنسان بوصفه مخلوقاً مربوباً، متعدد الأبعاد، متجاوزاً النظام الطبيعي المادي المجرد؛ لأنه بهذا الوصف المتفرد ينطوي على مقومات لا يمكن ردها إلى النظام المادي البحت.
وإن من أخطر ما في القضايا الراهنة المتداولة ثقافياً وإعلامياً عدم تمحيص المصطلحات ودلالاتها ومضامينها وظلالها وأبعادها.
وخاصة تلك المصطلحات المحمَّلة بجملة من الأفكار والرؤى والأهداف والغايات؛ المتشابهة أحياناً والمتناقضة أحياناً أخرى، والمتسعة اتساعاً مشوّشاً، والمركبة تركيباً «مربكاً»؛ كما هو حال مصطلح «التغيير» الذي تحول إلى قضية تبدأ يسيرة بوصفها مطلباً من مطالب النهوض والتقدم والإصلاح، إلى أن تستحيل بعد طول إدمانها ـ عند البعض ـ إلى مذهب معتنق وأيديولوجيا متبعة، ومن المفارقات الغريبة أن تجد من (التغييريين) مَنْ يثبت على حال واحد سلوكياً وفكرياً وأخلاقياً، ويلتزم مسلكاً معيناً لا يبارحه، فلا يطبق مذهب التغيير الذي يطالب به الآخرين على نفسه!!
والإنسان بفطرته يبحث عن اليقين، أو عن قدر معقول منه إذا عجز عن الوصول إلى الحقيقة الخالصة، وأنّى له الوصول إلى الحقيقة النهائية؟ ولكنه يسعى إلى اليقين مبتعداً عن شراك العدم المطلق، أو أي درجة من درجات العدمية.
ومصطلح التغيير ـ بسبب الملابسات المذكورة آنفاً ـ استُعمل جسراً ووسيلة لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة، وتحيزات فكرية وعملية معروفة، بل استُعمل لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية، في بعض الأحيان.
ومن خلال دراسة التاريخ المعاصر؛ نجد أن مصطلح التغيير تواتر في الخطابات السياسية والثقافية منذ غزو نابليون لمصر، وإن بدأ ضعيفاً خافتاً لكنه ما لبث أن نما وتزايد ومُددت أطرافه وحواشيه في كل الاتجاهات، ويزداد حضوره كلما ألمت بالأمة ملمة، أو نزلت بها نازلة، وها هو اليوم يُطرح بالفم الأمريكي الملآن تحت ظلال البوارج والطائرات والدبابات، وعبر الآلة الإعلامية والسياسية الأمريكية الهادرة، وعبر وكلاء توزيع لهم قوة ونفوذ نوعي.
وبالطبع؛ كانت الاستجابة لهذا التحدي مختلفة باختلاف العقائد والأفكار والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم، وكل فرد أو طائفة يأخذ قضية التغيير مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية ـ للقبول أو للانتقاء أو للرفض ـ؛ بحسب المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه، والأفكار التي يؤمن بها.
ولعله من الممكن في هذه العجالة تصنيف مواقف الناس إزاء قضية التغيير التي تروج لها أمريكا بعد أحداث 11/9/2001م إلى أربعة مواقف:
ü الموقف الأول: موقف المتقبل لقضية التغيير بالطريقة الأمريكية (الغربية) (الليبرالية):
وهو الموقف العلماني بشقَّيه (العام الشمولي) أو (الجزئي الانتقالي)، ومن جميع التيارات العلمانية الفكرية منها والسياسية.
فهؤلاء وجدوا في الضغط الأمريكي فرصة كبيرة لا بد من اهتبالها لإيجاد التغيير، وفق المنظومة المعيارية والرؤية الفكرية والخصائص النفسية الغربية الحديثة، والتي تفترض وجود عقل مستقل تماماً، وإنسان حر هو إله نفسه، يضع لها النظم والقوانين المناسبة له، والمحقِّقة لحريته المنفكة من جميع الصلات الدينية والأخروية، سواء على مستوى النظم والعلاقات عند من يوصفون بالاعتدال من العلمانيين، أو على جميع المستويات عند غلاة العلمانيين، وأصحاب هذا الاتجاه يرون في الإنسان بوضعه وتركيبه المادي المرجعية النهائية الأولى والأخيرة.
ومن ثم من حقه وحده أن يرسم صورة (التغيير) الذي يريد؛ وفق عقد اجتماعي معين هو في حد ذاته مرجعية نهائية مستقلة عن الدين والوحي.
ولعل من أهم تبديات هذه النزعة الإصرار على قضية (الصيرورة الدائمة)، والتي تعني أن الحياة والأحياء والنظم والأخلاق في تغير مستمر، وفكرة الصيرورة هذه فكرة مرجعية ثابتة لدى التيار العلماني والحداثي، تظهر بشكل واضح في بعض الكتابات الأدبية والنقدية والفكرية المتطرفة، ولكنها كامنة بشكل دائم في معظم الأفكار والأطروحات العلمانية. وهي فكرة مبنية أصلاً على فرضية دارون المسماة بالانتخاب الطبيعي.(36/228)
والإيمان الحتمي بالصيرورة الدائمة صفة ملازمة للتيار العلماني، وهي تعني بالضرورة - من ضمن ما تعني ـ الخروج مما يسمونه (عبء الهوية)، والتخلص من (الخصوصية) الثقافية والمكانية والزمانية؛ في محاولة قوية وجادة لتنميط الواقع المحلي، وجعل مكوناته الثقافية والعلمية والعملية مكونات تشبه قطع الغيار، حيث تتصف قطع الغيار أنها لا هوية لها، ولذلك يمكن بكل سهولة ويسر إحلال قطعة غيار مكان أخرى، في الواقع الثقافي والأخلاقي والاجتماعي.
وينطلق فلاسفة هذا التيار من خلال محاولة تفسير العالم كله بتفسير مادي موحّد ـ رغم دعوى التنوع ـ، ويجعل لذلك إطاراً أصولياً كامناً، لديه القدرة على اختزال الإنسان ومناشطه وأعماله وطموحاته ونهضته في (الذرائعية) المصلحية، والنسبية المطلقة للأخلاق، والحتمية المطلقة للصيرورة.
وبالتالي؛ فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب، بل أصبحت (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية أو عربية؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها: استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي شكل من الأشكال؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم (الليبرالي)، أو جنة الخلد (الديمقراطية).. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر.
ü الموقف الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير) مع شيء من التحفظ:
وهو موقف العصرانيين من المسلمين، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة؛ (العقلانية الإسلامية)، (المسلم المعاصر)، (الوسطية العصرانية)، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك .
وإن صحت استعارة مصطلحات اليمين واليسار؛ فيمكن أن يعد هؤلاء من يسار الاتجاه الإسلامي، مع التحفظ على بعض دلالات هذا التصنيف.
وهم على درجات مختلفة؛ فبعضهم يعيش على تخوم الأفكار العلمانية، فهو متأثر بها بحكم (عدوى المجاورة)، وبعضهم يبتعد موطنه العصراني عن حدود العلمانية قليلاً أو كثيراً.
ومن سمات هؤلاء (السيولة العامة) في مقابل ما يسمونه (الصلابة) التي يُظهرون التذمر منها، ويوجهون إليها سهام نقدهم، وهم يعيشون مرحلة تحولات مربكة، فلديهم الانتماء للأمة ودينها وتاريخها على الجملة، فهم من هذه الجهة متصلون بها، ولديهم انفصال عن بعض مقومات الأمة، ونفور عما يسمونه الأصولية الحرفية، أو النصية، والتفسيرات التراثية للوحي، وقوانين النظر والاستدلال، واليقينية، والأبوية، والنقل، والمبدأ الواحد، والفرقة الناجية، والولاء والبراء.
ولديهم مشكلة كبيرة في (المعيارية) من أين تُستمد؟ أمن النص المعصوم، أم من العقل، أم من الأسلاف أم من المادة؟
كما أن جملة من أصحاب هذا الموقف تأثر ـ بحكم المخالطة الفكرية والثقافية ـ بفكرة (الصيرورة الدائمة) التي هي أصل من أصول التفكير العلماني والحداثي.
وبالجملة؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا ترى واحدية المنهج، أو تعتقد الصفاء، أو نجاة طائفة معينة، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات التحضر والنهضة.
هناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله، وهو شغفهم بالتغيير، وانفتاحهم نحوه، واستهدافهم جميعاً «المنهج»، غير أن الصنف الأول يستهدف (المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله، والصنف الثاني يستهدف (المنهج الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص.
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين، وهو أن الأول منهما شمولي كلي على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو كليات.
أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام، وكلي في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته.
ومن هنا يمكن معرفة موقف كلا الطائفتين من التغيير مصطلحاً وشعاراً ومنهج عمل، مع الإشارة إلى أن الأفكار والأشخاص والمواقف والفئات لا يمكن حصرها في حدية تصنيفية قاطعة، فهناك نتوءات وخروقات واستثناءات.
ü الموقف الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة:
خوفاً من تبعاته وآثاره، وحذراً من مخاطره وسلبياته، وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة، حريصة على عزتها ومكانتها، ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى، حتى لمجرد جدته أحياناً.
وتميل إلى التفسير الحرفي الظاهري للنصوص التي هي في حقيقتها حمَّالة أوجه.
كما أن لديها كماً من الحذر الشديد ـ مشفوعاً بالرفض أحياناً ـ أمام كل وافد وغريب، إضافة إلى انحصار المدلولات اللغوية والمعنوية للأمور الحادثة لديهم بين قطبي الخير والشر والصحة والفساد.(36/229)
بحثاً عن يقين مطلق أو حكم جاهز، وهذا ما يقتضي انحسار مساحة النسبية، وتقلص ميدان الأمور والقضايا ذات الطبيعة التركيبية، وهذا ما سيقود بدوره إلى وضع قواعد عامة حاسمة للقبول والرفض؛ حتى في الأمور التي تحتاج إلى تفصيل وتفسير وقسمة.
ü الموقف الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية ومصلحية:
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة، وخاصة علماء الصحوة، ورجالات الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية، وهو المبدأ القائم على قاعدة: (الإسلام عقيدة وعبادة، وأعمال وأخلاق، وشعيرة وشريعة، ودين ودولة، ومصحف وسيف، وأصالة وحضارة).
وهم بحكم علمهم الشرعي الأصيل وثقافتهم العصرية المتسعة لديهم رؤية في قضايا التغيير والتطوير والتحديث والمعاصرة تعتمد على مبدأ: (أخذ مقتضيات العصر، ونبذ أهوائه وأمراضه).
ولعل من الممكن في هذه العجالة ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
1- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11]، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي إلى دين فاسد، أو دنيا فاجرة؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة، وتغيير المشاعر والإرادات السلبية، وإحلال أخرى إيجابية مكانها، وتغيير المسالك والأعمال الخاطئة (دينياً أو دنيوياً)، وإيجاد البديل الصالح.
2- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي الانتماء للأمة، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع حملات الأعداء ووكلائهم.
3- التغيير عملية إصلاحية كبرى، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى مذهب معتنق وعقيدة متبعة؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً، في كل شيء، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات، وإبطال القواعد والأصول والكليات والثوابت، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم، أو العاملون لصالحهم، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه؛ لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن، ويستدعى في كل حين ولكل قضية.
4- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية والدينية والمسائل الشرعية؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة، فهي الجدار القصير الذي يمكن لكل أحد أن يتسلقه، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور الأكثر سخونة والأشد عمقاً، والأقوى تأثيراً، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح والمؤمن التقي، والفاسد الشقي، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته، ولكن المظالم العامة والانتهاكات للحقوق، والطبقية المناطقية، والعنصرية القبلية، والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة والاحتكار، والطبقية المالية المتباينة، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير؛ مع أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي والرعية، وبين الرعية نفسها، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى، وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول.
في حين أن المناهج (المستهدفة بالتغيير في بعض دول الخليج مثلاً)، وهي مناهج في جملتها مستندة إلى الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة؛ تعد من الضمانات الكبرى للاتحاد والائتلاف.
5 - إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب والسنة، والأخبار والحوادث التاريخية؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع للاحتلال والعدوان، فها هو العراق لم يكن لديه أسلحة دمار شامل، وها هي سوريا لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان، وعقيدة الولاء والبراء التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر. وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها شيء من هذا، وها هو المغرب كذلك.
بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة والتعليم من سيمائه الإسلامية ومعاقده الاعتقادية؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي، وأخرجت المرأة من عرشها المصون، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية؛ لتتشبه بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب، ومع ذلك احتُلت العراق، وسوريا تحت مطرقة التهديد، وفصلت تيمور عن إندونيسيا، والصحراء المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
6 - التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد ميرزا القادياني»، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد أبادي» المشهور باللندني، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها، وكان يقال له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران»، فجعلوه مفتياً بدل عالم السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي».(36/230)
وإيجاد أبي مازن محمود عباس ميرزا البهائي، والذي رضيت عنه كل القوى اليهودية والأمريكية والبريطانية ليكون المسؤول الأول في فلسطين ـ هو أحد الأدلة الصارخة على نوعية التغيير.
ويمكن النظر بعين البصيرة إلى موقف أمريكا من جامعة الإيمان في صنعاء، حيث الحرب الموجهة ضدها والتأليب المستمر، سواء من أمريكا مباشرة أو من خلال وكلائها في اليمن، ثم التأمل في الصور المعاكسة في الموقف من جامعة الأحقاف، ودار المصطفى في تريم، والتي تدرس عدداً كبيراً من الطلاب يفوق عدد طلاب جامعة الإيمان؛ فلماذا السكوت عن هذه، بل والتأييد لها والدعم، والمحاربة لتلك، والتهديد، وتسفير الطلاب، وإلغاء المنح؟!
إنها الخطة القديمة الحديثة: كل ما يخدر الأمة بحفلات وأعياد، وغناء ورقص، وينقض معاني النخوة فيها، ويجمد دماء الحمية الإيمانية في عروقها، ويمرغها في أتربة المقابر وعتبات الأولياء، ويعلقها في السبح والعمائم والخرق والتمائم، فهو مطلوب مرغوب محبوب؛ لأنه معتدل وعصري وسلمي ومتحضر وعولمي ومفكر وعميق ومنفتح ومتفاهم؛ لأنه باختصار غير خطير على الأمريكان والأنجليز!
أما من يقول لي حريتي وأصولي ومعتقداتي وشريعتي ونظام حياتي، ولي جذوري الممتدة إلى عصر النبوة، ولي نصوص الوحي المعصوم، ومنهجي الاتباع لا الابتداع، وطريقتي الدين بشموله وكماله وتمامه؛ فهو لا شك متطرف وأصولي، ومتعصب وخطر على السلم العالمي!
7 - التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع، ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون، ليس فيهم من يوثق بعلمه الشرعي، ولا حميته الإيمانية، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك المتكامل، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه حتى الشفاء من دائه، وإن شئت فراجع مقال «سليمان النقيدان» عن (وهم الخصوصية الثقافية والمكانية)، ومحاضرة «تركي الحمد» عن (خصوصيتنا والعولمة)، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموصة بالأهواء؛ مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً، وللغرب حقيقة ومضموناً.
8 - عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية، عملية خطيرة ذات أبعاد شمولية متكاملة ـ وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو وطنية ولا دينية ـ هذه العملية قد تتم ـ إلا أن يشاء الله ـ ربما بصورة متدرجة، وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية، ثم إن تواصلت ـ في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها - فستصل إلى التخوم الخطيرة، المستهدفة أصلاً، وسينتج عن ذلك من الصراع الاجتماعي والثقافي ـ وربما المادي ـ ما لا يعلم مداه إلا الله، فهذه طبيعة التغييرات العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين، وما زال الجميع يكتوي بنيرانها إلى اليوم، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية، في مقام المتهم والممنوع، ولا تخفى على الجميع قصة عمرو خالد في مصر، وحجاب مروة في تركيا، والمداومة على الصلاة في المسجد في تونس، وهي أمثلة معدودة من ديوان المأساة العلماني المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك ـ الذي أقل ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ـ ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها، وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة، وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف ـ حتى وإن خالفهم ـ أن يتفهم موقفهم هذا وأن يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً للأمة وفيهم علماء الشريعة، وأهل الفتوى، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح، وهم الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سوق المزايدة، وراجت بهم بضاعة المناكدة، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور.
9 - ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع؛ لأنهم يرون أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس، أو مستفيد من الأوضاع الفاسدة، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي، والمراد هنا الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها وموقوماتها، والمتجه نحو مصالحها الحقيقية حالاً ومآلاً، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة الأمريكية، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية المعبرة عنها؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر الدعوية، والمدرسين الدعاة، والأنشطة غير المنهجية في المدارس. والكارهون لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها.
10 - أختم هنا بذكر نموذج التغيير التي تطلبه أمريكا وترغب فيه، بل وربما تلزم به، وذلك ما جاء في تقرير لجنة أمريكية درست مناهج المدارس السعودية.
وفحصت 93 كتاباً، وكتبت عنه تقريراً مفصلاً للإدارة الأمريكية، ونشرت مجلة المجلة مقتطفات منه في 5/1/1424هـ.(36/231)
ومن هذه الفقرات (أن التعليم السعودي يقوم على الإسلام، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً رئيساً في هذه المقررات حتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام).
(السعوديون يقولون إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم والحياة اليومية).
(يصفون المسيحيين واليهود بأنهم كفار وأنهم أعداء الإسلام) .
وينتقد التقرير بعض نصوص المناهج منها:
(الله أرسل التوراة إلى موسى عليه السلام، والمسيح ابن مريم هو عيسى عليه السلام، ويُعرف بأمه؛ لأن الله خلقه ولا أب له).
(التلميذ حاتم يتمنى أن يعطيه الله الشجاعة والإيمان ليكون مجاهداً في سبيل الله؛ مثل سعد بن أبي وقاص).
(المناهج المدرسية السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض إسرائيل).
(المناهج المدرسية السعودية تقدم قضية فلسطين بأنها احتلها اليهود الأجانب).
(ترفض المناهج إلغاء الجهاد كما يدعو لذلك بعض المسلمين مثل الطريقة القادرية).
(المناهج التعليمية تعارض الديمقراطية الغربية).
(في المناهج السعودية تركيز على فصل النساء عن الرجال وحجاب المرأة)، (هناك آيات قرآنية كثيرة عن حجاب المرأة وأهمية الالتزام به، وما تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن لرجال غرباء هو ذنب كبير).
(حديث نبوي أثار كثيراً من النقاش عن اليهود، ويقول: لن يأتي يوم القيامة حتى يقاتل المسلمون اليهود ... حتى يختفي وراء شجرة أو حجر).
هذه بعض معالم التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي والاجتماعي الذي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً، ولن يكون هو نهاية المطالب، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك، فحتى لو أُعطوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن يقبلوا؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية، وصدق العليم الخبير: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 12.]، ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية لديها الاستعداد ـ خوفاً أو طمعاً ـ لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة، وهناك من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية قدوة، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52] .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها، ويقيناً بوعد الله لها، {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111].
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186].
إعادة صياغة الشرق الأوسط في المنظور الأمريكي
لواء أح ـ دكتور/ زكريا حسين(*)
طُرحت فكرة تأمين منابع النفط في الخليج العربي باستخدام القوات المسلحة الأمريكية؛ في أعقاب الاستخدام السياسي للنفط في حرب أكتوبر 1973م.. حيث كان من الطبيعي أن تُتخذ الإجراءات المضادة لمنع تكرار هذه الاستراتيجية، حتى أودى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة الأمريكية لغزو منابع النفط، وقد تبلور ذلك الاتجاه من خلال دراسة أعدتها لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي في 5/8/1975م، والتي بحثت ـ ولأول مرة ـ احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول منتجة للنفط عند محاولتها فرض حظر نفطي..
وقد طرحت هذه الدراسة، والتي أعدتها هذه اللجنة التي شُكّلت برئاسة (توماس مرجان)، العديد من الخيارات المتاحة أمام السياسة الأمريكية في حالة نشوب مثل هذه الأزمة.. وقد تمحور الهدف الاستراتيجي لاستخدام القوة المسلحة الأمريكية ـ بعد دراسة العديد من الاختيارات ـ ليكون (القيام بعملية عسكرية للاستيلاء على منطقة حقول النفط الرئيسية الواقعة بالمنطقة الشرقية الممتدة بمحاذاة الخليج الفارسي، وتأمين تدفق أهم حقول النفط في الخليج والتسهيلات المصاحبة لها، والاحتفاظ بها أو السيطرة غير المباشرة عليها).(36/232)
وعلى ضوء ذلك؛ فقد تمحورت المهام العسكرية التي يمكن أن تُكلف بها قوات الغزو لتأمين مصادر النفط بالاستيلاء على عدد كافٍ من الحقول والمنشئات النفطية في حالة سليمة تماماً، مع الاستعداد لتأمينها لفترة طويلة نسبيّاً، وأن تكون مجهزة بعناصر الإصلاح المتخصصة، والمعدات اللازمة لإصلاح الموجودات والممتلكات التي تكون قد تعرضت للدمار بسرعة كبيرة.. مع قيامها باتخاذ الإجراءات اللازمة لتشغيل المنشئات النفطية التي قد تتعرض للدمار دون مساعدة من «دول أوروبية»، مع قيامها بتنظيم المرور الآمن للإمدادات والمنتجات النفطية فيما وراء البحار.
وفي 23/1/1980م أعلن الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» في خطاب له أمام الكونجرس الأمريكي عن نظرية أمن صريحة لمنطقة الخليج، عُرفت «بمبدأ كارتر»، والذي انطوى على شقين:
أحدهما: شق سياسي، وقال فيه: (إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج؛ سوف تعتبر في نظر الولايات المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة).
أما الشق الثاني في نظرية الأمن الأمريكية في الخليج: فهي تكملة للإعلان السياسي، وقد تمثلت في إنشاء (قوة الانتشار السريع)؛ من خلال تقرير قدمته وزارة الدفاع الأمريكية عام 1988م إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، والذي على أساسه اُعْتُمِدت ميزانية هذه القوة لتلك السنة. وقد تضمن القرار الأمريكي بإنشاء قوة تدخل سريع أمريكية تتمركز في الولايات المتحدة، وتكون جاهزة لكي تُحْمَل جواً وبحراً إلى منطقة الخليج عند ذي طارئ، وقد أُطلق على هذه القوة «قيادة المنطقة المركزية»، وقد تم التخطيط الاستراتيجي لاستخدامها لتأمين منابع النفط في الخليج، كما تولى قيادتها الجنرال «شوارسكوف» الذي كُلف بقيادة قوات التحالف الأمريكي عند قيام العراق بغزو دولة الكويت، وهو الغزو الذي أعطى الدوافع والمسوِّغات اللازمة لتحرك هذه القوات، وتنفيذ مهامها المخططة في الخليج.
وهكذا استقرت القوات الأمريكية في منطقة الخليج تنفيذاً لمخططاتها التي كانت تحلم بتنفيذها منذ يناير 1975م، وجاءت إلى الخليج لمواجهة طموحات ونزوات الرئيس العراقي «صدام حسين»، وبمباركة ومساندة معظم دول العالم، وبدأت سلسلة التداعيات العربية كلها؛ من إهدار الثروات والقدرات اقتصادية منها وعسكرية، إلى حالة من التفكك والتمزق لم تشهد لها المنطقة العربية مثيلاً في تاريخها المعاصر.
* إدارة مجموعة «المحافظون الجدد» والتغيير القادم:
لقد قلبت مجموعة «المحافظون الجدد» من الحزب الجمهوري أو التي تسمى «مجموعة الصقور» منذ عام 1992م ما أطلق عليه «دليل التخطيط الاستراتيجي» للولايات المتحدة، والذي انتهى إلى صياغة مجموعة مبادئ:
أولها: ضمانات عدم قيام قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيها: أن تمتلك الولايات المتحدة الوسائل اللازمة لمنع أي دولة منافسة من التطلع إلى دور دولي أو إقليمي، مع اعتبار أن الصين وروسيا تمثلان الخطر المحتمل.
وثالثها: منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول مثل العراق، وكوريا الشمالية، وإيران؛ حتى لو أدى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة لمواجهة ذلك الخطر.
وقد نشرت مجلة «ليمبس» الإيطالية ربع السنوية المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية والسياسات الدولية عدة تقارير حول الحرب الأمريكية على العراق، والسيناريوهات والنتائج المحتملة التي ستعود على المنطقة العربية والقضية الفلسطينية فيما بعد نهاية هذه الحرب، وقد ألقى التقرير الضوء على المتغيرات التي حدثت في السياسة الأمريكية بعد أحداث 11/9/2001م؛ وفقاً لمذهب الأمن القومي الجديد الذي يؤكد «أن الولايات المتحدة تحتل موقعاً غير مسبوق للقوة العسكرية، وتتمتع بنفوذ اقتصادي وسياسي كبير.. ومن ثم فإن أمن الولايات المتحدة يكفله عالم أفضل مكوَّن من ولايات متحدة كثيرة، جميعها صغيرة وغير قوية، ولكنها مُشَكَّلة على الطراز الأمريكي أيضاً.. وهو ما يعني أنه من الممكن صنع «عالم جديد» من خلال الحرب العالمية المعلنة ضد الإرهاب، والتي ليست لها مدة محددة، وبدونها لن تنفع فكرة إقامة «إمبراطورية الخير» التي تقوم على تصدير القيم الأمريكية «الحرية، والديمقراطية، والسوق الحرة»، وتطبيقها على القارات الخمس.(36/233)
وعن التغيير القادم في الشرق الأوسط جاء في تقرير آخر: «إن الولايات المتحدة كانت توافق وتساير عدم النظام في منطقة الشرق الأوسط، وكان اهتمامها الأول والأخير ينصبُّ على النفط وأمن إسرائيل فقط.. على اعتبار أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يكن يهدد التوازنات الاستراتيجية، بل إن عدم الاستقرار كان يخدم الولايات المتحدة لتجعل الجميع تحت سطوتها؛ في منطقة من أجدب مناطق العالم التي يتعذر حكمها والسيطرة عليها، إلى أن فوجئت الولايات المتحدة بهجوم «تنظيم القاعدة»، وظهر تهديد المصالح الأمريكية الذي جسده «أسامة بن لادن» ومن معه من الذين شاركوا في عمليات مركز التجارة والبنتاجون؛ الأمر الذي جعل الولايات تقتنع بأنها لا يمكن أن تتساهل مع الشرق الأوسط الذي يتنامى في مشاعر شعوبه معاداة الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن التهديدات التي تحدق بإسرائيل ومنابع النفط، والذي ليس للولايات المتحدة فيه ـ باستثناء إسرائيل - أي حليف مؤتمن، بل ومن المحتمل أن ينطلق منه في المستقبل هجوم بأسلحة غير تقليدية ضد الولايات المتحدة».
هذا وقد قرر الرئيس الأمريكي «جورج دبليو بوش» أن تبدأ إعادة تشكيل الشرق الأوسط بغزو جمهورية العراق وإزاحة حكم الرئيس «صدام حسين»؛ باعتبار أن رحيله لن يمكّنه من الحصول على مزيد من أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها القنبلة النووية!! كما يضمن عدم تمكنه من السيطرة على منابع النفط، بل وأيضاً لكي يصبح نقطة الانطلاق للحملة التي تستهدف ما أُطلق عليه (إدخال الديمقراطية إلى الشرق الأوسط من البحر الأحمر حتى الخليج)؛ أي عملية ضم المسلمين إلى إمبراطورية الخير التي ستبدأ من العراق.
ولم تعنّ حتى الآن رؤية استراتيجية واضحة المعالم للخريطة القادمة؛ حيث ما زال المشروع الجيواستراتيجي قيد التطوير وخاصةً أن القوة العسكرية لن تكفي لإقامتها، وعلى الأرجح فإن الإدارة الأمريكية قد عزمت أمرها على تنفيذ مشروعها على مراحل، تكون مرحلته الأولى هي الإطاحة بنظام الرئيس (صدام حسين)، ثم نزع أسلحته وإقامة حكومة صديقة في بغداد، وهو ما تم وجاري تنفيذه في المنظور القريب، ثم يأتي بعد ذلك دور الأنظمة غير الموثوق بها والمارقة بعد ذلك واحداً تلو الآخر، ولعل ما نشهده من تهديدات ولغة تحذير حاسمة لكل من سوريا ولبنان من جهة والجمهورية الإيرانية في جهة أخرى؛ تشير إلى جدية تنفيذ المراحل التالية من المشروع الواسع للتغيير القادم في منطقة الشرق الأوسط.
ومن هنا، وطبقاً للتقديرات الأمريكية، فإن الغزو العسكري الأمريكي للعراق يتصدر أهدافه: خلخلة المنطقة وإعادة رسم خريطتها السياسية الإقليمية بما يخدم الهدف الإسرائيلي؛ بتسوية الأرض عسكريّاً وسياسيّاً ونفسيّاً للتهيئة لواقع عربي مخلخل يسهل تقبله للضغوط؛ من أجل حمل النزاع العربي الإسرائيلي وفقاً للرؤية الإسرائيلية، كما أن غزو العراق يُعد هدفاً سهلاً وهشاً سياسيّاً ينطلق منه باقي مراحل المشروع الأمريكي لهز المنطقة كلها بإقامة نظام حكم مختلف.
* اتجاهات التغيير القادم:
لعل قراءة الهدف الحقيقي «وغير المعلن» من عملية الغزو الأمريكي للعراق؛ تقودنا إلى اتجاهات التغيير القادم، والذي يعني «الأهمية المطلقة لإزاحة النظام العراقي باعتباره الخطوة الأولى على طريق إحداث تغيير شامل في الشرق الأوسط؛ مما يعني إسقاط حكومات، وتقسيم دول، وتغيير ملامح الخريطة السياسية في المنطقة لفرض نظام شرق أوسطي جديد خاضع للإدارة الأمريكية من جهة، وتؤدي فيه إسرائيل وتركيا دوراً محوريّاً من جهة أخرى».
هذا وتسير اتجاهات التغيير في إطار هذا الهدف في عدة اتجاهات:
لعل أولها: سرعة تحويل العراق إلى (مستعمرة أمريكية)، حيث إن السيطرة الأمريكية على إمدادات النفط وأسعاره، وإعادة نظام إدارته دوليّاً تعدُّ من أهم أبعاد استراتيجية (عراق ما بعد صدام حسين)؛ حيث إن ذلك يوفر للولايات المتحدة الأمريكية التحكم في تطلع الصين لأن تكون المنافس الاقتصادي لها؛ بعد أن قفزت معدلات التنمية فيها إلى معدلات التنمية الاقتصادية العالمية بالقدر الذي يرشحها لأن تكون إحدى القوى المنافسة فوق قمة العالم سياسيّاً.. وأن معدل استمرار التنمية في الصين بمعدلها الحالي قد يجعل منها القوة الاقتصادية الثانية على العالم بعد عشر سنوات قادمة، ومن ثم يكون لها القدرة على أن تكون منافساً للولايات المتحدة خاصة في المجال الحيوي الإقليمي لها في آسيا، وإحدى ضمانات ذلك التفوق المتنامي هو اعتمادها على نفط الخليج الذي يعطي 80 % من احتياجاتها، ومن ثم فإن سيطرة الولايات المتحدة عليه تعدُّ الضمان الوحيد لعدم استمرار التنمية بنفس معدلاتها.(36/234)
من هنا، ومن خلال تأييد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة المعلنة، والتي تضع على قمة أولوياتها عدم السماح لأي قوة دولية بأن تكون منافسة للولايات المتحدة.. ولما كانت الصين ـ التي طُرحت أكثر من مرة بوصفها عدواً محتملاً ـ تندفع بقوة اقتصادية إلى وضع منافس للولايات المتحدة معتمدة على طاقة انطلاقها على نفط الخليج؛ فإن إعادة تشكيل خريطة النظام النفطي يمكن أن يضع في يد الولايات المتحدة قوة ضغط على الصين لم تكن في يدها من قبل.. ومن منطلق أن المنطقة العربية بما تملكه من ثروات نفطية ميدان لتحريك تيار التقييد الإقليمي في العالم، وبصفة خاصة (خريطة النظام النفطي).
وقد طرحت الإدارة الأمريكية مخططاتها لإدارة النفط العراقي في مرحلة ما بعد (صدام حسين)؛ حيث أعد مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بالتعاون مع مؤسسة «جيمس بيكر» وزير الخارجية الأمريكي السابق في جامعة رايز؛ دراسة لحساب الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع النفط العراقي بعد الحرب، وتدعو هذه الدارسة التي تبنتها إدارة الرئيس بوش إلى إقامة حكومة محلية تحل محل الحكومة العراقية التي تمت إزاحتها بالقوة عن السلطة، وأن تقوم هذه الحكومة الجديدة بإلغاء جميع العقود النفطية السابق إبرامها مع كل من فرنسا والصين وروسيا، وأن تبدأ استثمارات جديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.. وقد قدرت الإدارة الأمريكية أن عراق ما بعد «صدام حسين» يلزم إعادة بنيته التحتية اقتصاديّاً واجتماعيّاً؛ وتسديد ديون بنحو «مائة مليار دولار» إلى جانب صرف تعويضات حرب كل من إيران والكويت؛ مما يعني بالضرورة زيادة كميات إنتاجه النفطي من 2.5 مليون برميل يوميّاً إلى ستة ملايين برميل يوميّاً، ومن ثم فإن الزيادة المتوقعة والناتجة عن الإدارة الأمريكية للنفط تعني تجاوز السقف الحالي الذي حددته «منظمة الأوبك»، كما تعني إغراق السوق العالمية للنفط؛ مما قد يهبط بسعره إلى مستويات لا سابق لها، وما ينتج عن ذلك من انفراط عقد (منظمة الأوبك)، وتراجع عائدات الدول المنتجة للنفط؛ إلى حد تعرضها للعجز المالي الشديد. كما ينتظر أن تتحول العراق إلى محطة وقود أمريكية، حيث تستهلك الولايات المتحدة 20 مليون برميل يوميّاً من النفط؛ لا تنتج فيه سوى ثمانية ملايين برميل فقط!!
ولعل قراءة مشروع القرار الأمريكي المقترح تقديمه لمجلس الأمن، والتي طالبت فيه برفع جميع العقوبات المفروضة ضد العراق بعد غزوه للكويت عام 1990م - باستثناء حظر توريد السلاح -، مع منح الأمم المتحدة دوراً رمزيّاً وإشرافيّاً في العراق استجابة لمطالب المجتمع الدولي - لعل قراءة مسودة هذا المشروع توضح سعي الولايات المتحدة إلى السيطرة على عائدات النفط العراقي لمدة 20 شهراً؛ تُمدد آليّاً (ما لم يقرر مجلس الأمن غير ذلك)، حيث تتولى الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما «سلطة الحكم» توزيع حصيلة مبيعات النفط العراقي على أوجه الاتفاق المقترحة بالتشاور مع الحكومة المؤقتة في العراق، وإلى أن يتم تشكيل حكومة عراقية!!
أما ثاني اتجاهات التغيير: فهو ينطلق من اعتبار أن العالم العربي هو الميدان الذي اختارته الولايات المتحدة لتحقيقها نصراً سريعاً فيه من خلال غزو سهل للعراق الذي أنهكته العقوبات الاقتصادية والعسكرية على مدى اثني عشر عاماً، ولوجود (صدام حسين) على رأس النظام به، وهو لا يحظى بقبول عالمي واسع النطاق خاصة على مستوى الرأي العام الأمريكي، إضافة إلى معاونة العديد من دول المنطقة العربية في العمليات العسكرية؛ الأمر الذي أدى إلى سرعة انهيار، ليس فقط النظام العراقي، ولكن جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والأمنية به؛ مما أدى إلى فوضى وتفش شامل لعمليات النهب والسرقة نتيجة الفراغ الذي حدث بصورة مفاجئة للسلطة!!
وتستهدف الولايات المتحدة من خلال غزوها الناجح للعراق؛ أن يقوم العراق الجديد بدورين أساسيين في وقت واحد:
أولهما: دور القوة المهيمنة التابعة للولايات المتحدة في الخليج لعزل القوة الإيرانية عن تفاعلات الشرق الأوسط..
وثانيهما: دور القوة الموحدة لإقليم «الهلال الخصيب» المُشَكَّلَة في العراق وسوريا ولبنان والأردن، وذلك لتأسيس مثلث تحالف استراتيجي يحكم الشرق الأوسط، يقوده العراق الجديد (قيادة الهلال الخصيب) وإسرائيل وتركيا.. وذلك بعد تصفية الوضع السوري واللبناني، وبذلك يمكن حسم مسألة الوحدة العربية، وعزل مصر عن الخليج والشرق العربي.
هذا، ويتجه التغيير الثالث إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التوافق التام بين حكومة «إرييل شارون» وإدارة الرئيس «جورج دبليو بوش» في مجال الحرب على الإرهاب من ناحية، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط من ناحية أخرى، وذلك من خلال قيام الولايات المتحدة ـ باعتبارها أحد أهم أعضاء اللجنة الأربعة، والتي تضم إلى جانبها روسيا والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية، بعد التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية ـ بوضع الأمة العربية أمام أحد خيارين:
إما خيار السلام.. وله ثلاثة متطلبات رئيسة:(36/235)
أولها: نبذ العنف وإيقاف الانتفاضة الفلسطينية، وإدانة العمليات الاستشهادية الموجهة ضد المدنيين بجميع أشكالها.
وثانيها: تغيير القيادات الفلسطينية، خاصة شخص «ياسر عرفات»، وانتخاب قيادة جديدة قادرة على صياغة السلام ومتطلباته من وجهة النظر الأمريكية.
وثالثها: القبول بقوة أمنية تحل محل الشرطة الفلسطينية التي أخفقت من وجهة النظر (الأمريكية - الإسرائيلية) في فرض الأمن، وإيقاف أعمال المقاومة للأجنحة العسكرية والنشطاء من المنظمات الفلسطينية خاصة «حماس، والجهاد».
وإما خيار المقاومة: وهذا يعني أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة العسكرية، واجتياح أراضي الضفة الغربية وغزة.. ولها الحق في مطاردة واعتقال المشتبه فيهم والنشطاء من أفراد الشعب الفلسطيني.. بل وأيضاً تأمين حدودها المشتركة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وكل من مصر والأردن.
هذا، ويسير طريق السلام ـ وفق المنظور الأمريكي الإسرائيلي ـ نحو إقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة؛ في مقابل التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، مع وجوب استضافة الدول العربية لهم، وأن تعمل على إدماجهم في مجتمعاتها، ومنحهم جواز سفر مزدوج «محلي وفلسطيني»، مع تيسير حصولهم على فرص عمل؛ حتى تكون للدول الناشئة عائدات كبيرة من مواطنيها المقيمين في الخارج.
تلك هي أبرز اتجاهات التغيير القادم في منطقة الشرق الأوسط، والتي قد تمتد لتشمل إعادة ترتيب منطقة القرن الإفريقي بفصل الجنوب عن الشمال السوداني، وتعميق الخلافات بين إثيوبيا والسودان، وبين إثيوبيا وإريتريا، وبين الفصائل المتصارعة الصومالية من جانب آخر، مع تكثيف الوجود العسكري الأمريكي الإسرائيلي في مدخل البحر الأحمر في إطار المخطط الشامل للتغيير المنتظر!!
وفي النهاية أقول: إنه إذا كان هذا العرض للتغيير القادم قد حمل الكثير من التشاؤم والرؤية المستقبلية القاتمة.. فإن ما دفعني لذلك هو تجسيم حقيقة الأخطار التي تُخطط للأمة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، سواء على المدى القريب أو البعيد، وكلها تُعَبِّر عن أحلام وأطماع لاستنزاف الثروات، وتحقيق الهيمنة، وفرض الإرادة على الأمة، وإعادة صياغتها بالصورة التي تحقق تلك الأوهام والمصالح.
ومهما كان ما يحمله ذلك التغيير من صدق في النيات، أو كان بهدف الردع والتخويف؛ فإن علينا أن نأخذ ذلك مأخذ الجد، وأن نعد أنفسنا للمواجهة، فقد ضاعت فلسطين عام 1948م، وضاعت جمهورية العراق عام 2003م، وأصبح التغيير القادم لغة يتداولها كبار المسؤولين والحكام، وتتناولها أجهزة البحث العلمي بالتحليل والدراسة والتفسير!!
إنَّ إدراكنا لهذه المخططات وهذه الأهداف؛ يؤكد الأهمية المطلقة لإعادة تقييم ما انتهى إليه حال الأمة العربية والإسلامية، وأن يكون الهدف المشترك هو: (كيف يمكن درء الأخطار، وحماية أمننا القومي مما يُخطط له؟)، والبداية الحقيقية هي البحث عن الأسباب التي أدت إلى إهدار مصادر قوتنا، والعمل على استنفار هذه المصادر الكثيرة والمتعددة، السياسية منها والاقتصادية والعقائدية، وحتى العسكرية، وتوجيهها توجيهاً مخططاً ومنسقاً في إطار استراتيجية مشتركة تنفذ على مراحل، تبدأ في إطار الممكن وليس المستحيل، وتُبنى على واقعنا المعاصر بكل ما فيه من نقاط ضعف، وتسعى إلى تعظيم نقاط القوة وكل عناصر القدرة المتاحة للإعداد لمواجهة حقيقية وفاعلة وعملية لكل ما يُخطط لنا.
ذلك هو الطريق الوحيد الذي يقف في وجه هذه الأحلام والأطماع!! وخاصة أن ما تتمتع به أمتنا من أوجه قوة وقدرة يرتعد منها هؤلاء الحالمون، وإدراكهم لعدم قدرتنا على حشد هذه القوى لمواجهتهم؛ هي التي دفعتهم إلى الإعلان عن تلك المخططات باسم «التغيير القادم»، والذي أخذ ويأخذ شعارات براقة باسم «الحرية، والديمقراطية»!!
إن الحقيقة المؤكدة تشير إلى أن هناك تهديداً وأخطاراً قادمة تستهدف أمننا القومي، وأن الوقت قد حان لاتخاذ كل الخطوات الفاعلة لمواجهتها قبل فوات الأوان.
------------
(*) المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا، مستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.
---------------
بعد أن ابتعلت أمريكا العراق، هل تستطيع هضمه؟
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
* أضف إلى معلوماتك:
\ دخول جيوش ـ وصفت مهمتها بأنها حملة صليبية ـ إلى كابل يعني: تحرير أفغانستان.
\ اقتحام قوات أجنبية لأرض العراق وتوغلها فيه ورفع العلم الأمريكي في سمائه، يعني: تحرير الشعب العراقي.(36/236)
ليست هذه هي المعلومات الوحيدة التي أضافتها لنا حملات الفرنجة المعاصرة على عالمنا الإسلامي؛ فقد اكتشفنا في غمرة الأحداث أن أمريكا التي كنا نظنها أكبر دولة أقيمت على البراجماتية (النفعية) وأكبر قوة إمبريالية في التاريخ المعاصر، تلك الدولة التي علمتنا دوماً أن العلاقات بين الدول ينبغي أن تقوم على المصالح لا المبادئ، اكتشفنا أن هذه (الأمريكا) تنطوي على طاقة هائلة من الشهامة والنبل والرقة، حتى إنها بدافع هذه المثل ودفع هذه الطاقة تضطر إلى إرسال نحو ربع مليون جندي من أبنائها إلى أرض تبعد عن وطنهم أكثر من عشرة آلاف كيلو متراً، وتعريضهم لمخاطر الحروب وويلاتها، وإنفاق ثمانين مليار دولار دفعة أولى لتكاليف الحرب.. كل ذلك بدافع (الجنتلة) والشهامة لتحرير الشعب العراقي العزيز على قلب كل أمريكي من طغيان نظام صدام الشمولي المتسلط وقهره، ولحفظ بترول العراق لصالح رخاء ورفاهية هذا الشعب الحبيب..
* يا لقَهري!!
رجل الشارع ـ بل رجل الحارة ـ يعلم أن نظام صدام لم يكن وحده النظام الشمولي القمعي في العالم ولا في المنطقة:
فعلى مرمى حجر من شواطئ أمريكا الجنوبية يقع في كوبا (نظام كاسترو) الذي لا ينافسه على كأس الشمولية والتسلط عالمياً إلا نظام (الرئيس المحبوب) ـ رغم أنف كل كوري شمالي ـ كيم جونغ إيل، ولم تحرك أمريكا ساكناً تجاه هذا النظام أو ذاك رغم الاستفزازات العلنية لأمريكا التي مارسها نظام بيونج يانج في الفترة الأخيرة.
نظام صدام حسين وصل إلى الحكم بطريقة (غير ديمقراطية)، ولكنه ليس وحده المنعوت بهذه الصفة في المنطقة؛ فمعظم أنظمة المنطقة وصلت إلى الحكم إما بانقلابات (عسكرية أو أسرية) وإما بانتخابات لا يضاهيها في هشاشتها والتشكك في نتائجها إلا الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ومعظم هذه الأنظمة مستمرة ومستقرة في الحكم بمعادلات الحديد والنار ونظريات العصا والجزرة... ولو ضلت بعض البوارج الحربية طريقها إلى رأس خليج البترول ورست عشوائياً في أحد موانئ ساحل الشمال الأفريقي المارة عليها لما كان هناك كبير فرق بين وجهتها وما رست عليه.
أضف إلى ذلك: أن صدام حسين لم يُعط الفرصة المناسبة حتى يحقق لشعبه الديمقراطية التي تطلبها أمريكا الآن من أنظمة المنطقة، فهو لم يمكث في السلطة إلا ما يزيد بقليل عن نقطتين زمنيتين (باعتبار أن الوحدة الزمنية التي ارتضتها أمريكا لمكوث زعماء هذه المنطقة تحتسب بالعقد وليس بالسنة) وهي مدة غير كافية لتهيئة مثل هذه الشعوب لتقبل مثل هذه (المخترعات الحديثة).
وإذا كان نظام صدام البعثي العشائري المتسلط.... سبق له أن قمع بعض شعبه الثائر ـ أو المتمرد ـ عليه بالكيماوي (الأمريكي)، فإن بجواره نظاماً بعثياً طائفياً متسلطاً آخر دك بعض شعبه بالطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة في حماة سنة 1982م، فقتل منهم ـ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ـ من عشرين ألف إلى أربعين ألف مسلم، ناهيك عن (مذبحة تل الزعتر) ـ بالتعاون مع المليشيات الصليبية اللبنانية ـ عام 1976م التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مسلم فلسطيني ولبناني، و (مذبحة حلب 1981م)؛ و (مذبحة طرابلس 1983م).. ومع ذلك فإن الرقة والشهامة الأمريكية في سبات عميق؛ لأنها لم تكن تريد سورية وقتها، ولعلها تستيقظ (وتتذكر) هذه المآسي عندما يحين وقت تأجج المشاعر الأمريكية الفياضة تجاه الشعب السوري الذي سوف يكون وقتها عزيزاً!
العراق لم يعتد على أي من طرفي التحالف، كما أنه لم يكن يمثل أي تهديد مباشر لأراضيهما؛ فمن المعلوم أن العراق بعد هزيمته في (أم المعارك) حظر عليه امتلاك أي صواريخ يتعدى مداها 150 كيلو متراً، وهذا يعني أن العراق إذا أراد أن يطلق أقوى صواريخه على أمريكا مثلاً فإن هذا الصاروخ بحاجة إلى التوقف (ترانزيت) في أكثر من ثلاثين محطة ليسقط في مياه الشواطئ الشرقية للمحيط الأطلنطي (بعيداً عن الجزيرة البريطانية)، وعند حدوث ذلك يمكن لأمريكا الصراخ بأن صدام عكَّر عليها المياه التي سوف تصل إلى سواحلها بعد مسيرة 4500 كيلو متراً.
وحتى إذا أخذنا في الاعتبار حرص أمريكا على ربيبتها المدللة (إسرائيل) فإن أقرب نقطة بين الحدود العراقية الغربية وحدود فلسطين الشرقية تعادل ضعف مدى أبعد صاروخ مسموح للعراق بامتلاكه، كما أنه من الثابت تاريخياً أن بوصلة هذا النظام كانت دائماً مصابة بانحراف حاد، جعلت طريقه إلى القدس يمر بطهران أو الكويت أو أي اتجاه آخر خلاف جهة الغرب!
أما ما قيل عن أسلحة دمار شامل، فإن هذه الأقاويل تبقى مزاعم نفتها تقارير لجنة التفتيش الدولية برئاسة (هانز بليكس) و (محمد البرادعي) مقابل إثباتها لتلفيق تقارير أمريكية مزورة تدعي سعي العراق لامتلاك أسلحة دمار شامل.. وحتى كتابة هذه السطور لم يستطع الحليفان تدبير أدلة أكثر حبكة ـ وغير مستبعد ولا مستصعب أن تلجأ إلى التدبير إذا لم تجد شيئاً ـ لإثبات هذه المزاعم وإضفاء بعض المصداقية على مزاعمها ومسوغاتها لشن الحرب.(36/237)
ومن جهة أخرى فإن أمريكا إذا كان يؤرق ضميرها ومشاعرها وجود أسلحة دمار في المنطقة فإنه معلوم للجميع أن (إسرائيل) تعد مباءة لأسلحة الدمار الشامل بجميع أنواعها الذرية والكيماوية والبيولوجية، وهي كيان عدواني من أصحاب السوابق؛ حيث اعتدى بالاحتلال أو الإغارة على خمس دول على الأقل، كما أنه ما يزال يحتل أراضي غيره باعتراف الأمم المتحدة، فضلاً عن ممارساته العدوانية اليومية الهمجية ضد شعب محتل أعزل..
فلماذا إذن لم تستثر نوازع الشهامة والنبل والرقة إلا تجاه الشعب العراقي لتخليصه وحده دون سائر الشعوب المقهورة من طغيان نظام صدام حسين الجائر؟!
* مخطط قديم:
إن أي متابع لتحركات أمريكا وأهدافها في المنطقة يدرك بوضوح أن التفكير في غزو أمريكي عسكري والتمركز في هذه المنطقة لم يكن وليد اللحظة التي نعيشها، وأنه لا علاقة له بتسلط صدام حسين ونظامه ولا حتى بوصول بوش الابن إلى سدة الرئاسة الأمريكية، صحيح أن وجودهما ساعدا على إخراج هذا السيناريو بهذه الصورة وفي هذا الظرف، ولكنهما لم يكونا السببين الحقيقيين في الرغبة الأمريكية في التمركز في المنطقة بهذا الشكل المباشر؛ فهناك مصالح أمريكية استراتيجية، واتجاه توسعي إمبريالي أنبت هذا المخطط في أركان البيت الأبيض بغض النظر عمن يجلس فيه وعن الصورة التي كان سينفذ بها هذا المخطط.
وإذا تحدثنا عن هذا المخطط من منظور الدوافع الاقتصادية ـ وخاصة النفطية ـ مع عدم تقليلنا من أهمية الدوافع الأخرى لهذا الاستهداف، فإنه يتضح أن هناك ثلاث محطات رئيسية في هذا المخطط قبل أن يصل إلى هذا المشهد الذي نعيشه:
المحطة الأولى، إبان حرب 1973م: وذلك حين اجتمع وزراء البترول العرب في دولة الكويت في 71/01/3791م بعد بداية الحرب مع (إسرائيل)، وتم الاتفاق بينهم على تخفيض الإنتاج الكلي للبترول العربي بنسبة 5% فوراً، مع زيادة التخفيض بنسبة 5% شهريّاً حتى تنسحب (إسرائيل) إلى خطوط ما قبل 4 يونيو 1967م.
هذا إضافة إلى قرار ست دول بترولية برفع سعرها بنسبة 70%، كما قررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى الدول التي يثبت تأييدها لإسرائيل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد كان هذا القرار بمثابة الإنذار الأول بأن في استطاعة العرب والمسلمين (خنق) أمريكا وأوروبا وهدم اقتصادها ونمط الحياة فيها متى أرادوا ذلك.. وعلى الفور انتبهت أمريكا إلى ذلك، ويذكر اللواء الدكتور زكريا حسين أستاذ الدراسات الاستراتيجية المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا(*)، أن دراسات ووثائق أعدتها مكتبة الكونجرس الأمريكي، إضافة إلى تقارير أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية عن المحاولات الأمريكية السابقة لغزو الخليج العربي، نشرها الدكتور «أنتوني كوردسمان» كاملة في كتابه «الخليج والغرب» الذي صدر في لندن مع مطلع الألفية الجديدة.. كان منها دراسة قام بها «توماس مورجان» ـ الذي عُيِّن على رأس لجنة فرعية ـ لدراسة احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول منتجة للنفط في حالة فرضها حظراً نفطيّاً، وتقييم الخيارات المتاحة أمام السياسة الأمريكية في حال نشوب مثل هذه الأزمة، وقد قدمت الدراسة إلى لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي في 5/8/5791م.
ومن أهم ما يثير الدهشة عند استقراء هذه الوثائق لمكتبة الكونجرس، أن رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية قد ساهموا بحماس شديد في وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ؛ فقد قام الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» بوضع نواة وهيكل بناء قوة الانتشار السريع الأمريكية اللازمة لوضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ، وساهم الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» بالجزء الأكبر من بنائها والتخطيط لاستخدامها، ثم قام الرئيس «جورج بوش» الأب بالاستخدام الاستراتيجي المخطط لها في عمليات الحشد العسكري في الخليج.
ولعل نشر التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن السنة المالية 1976م ـ والذي قدمه «جيمس شليزنجر» وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت ـ يُعَدُّ من أخطر الوثائق التي توضح تفصيلاً الاستراتيجية العسكرية الأمريكية لتأمين منابع النفط الخليجية.
وفى دراسة نشرتها مجلة «فورتشون» الأمريكية في مايو 1979م بعنوان (التدخل العسكري في منابع النفط) جاء فيها: «لقد أوضح كل من براون (وزير الدفاع) وبريجنسكي (مساعد الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي) مؤخراً أن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات بينها استخدام القوات العسكرية الأمريكية لحماية مصالحنا في (الخليج)».(36/238)
وذكرت مجلة «شؤون فلسطينية» العدد 112، مارس 1981م عن الدراسة نفسها أنه جاء فيها أنه من بداية السبعينيات وبخاصة بعد حرب رمضان «بدأت المصادر العسكرية الأمريكية تتحدث بوضوح عن أنه إذا تعاظم اعتمادنا على النفط الخارجي أو تدهورت سيطرتنا في السياسة الخارجية والنفوذ الدولي فإن البديل قد يكون إرسال حملة عسكرية إلى الشرق الأوسط تجعل فيتنام تبدو بالمقارنة كنزهة». ويقول الرئيس نيكسون في مذكراته التي كتبها سنة 1983م: «أصبحت الآن مسألة من يسيطر على ما في الخليج العربي والشرق الأوسط تشكل مفتاحاً للسيطرة على ما في العالم»، ويقول في موضع آخر: «.. وينبغي علينا أن نكون على استعداد وراغبين في اتخاذ أي إجراءات ـ بما في ذلك الوجود العسكري ـ من شأنها أن تحمي مصالحنا».
وفي هذا السياق يذكر أيضاً أنه عقب الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه زادت المخاوف الأمريكية من التهديد الإيراني (للخليج)، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر للإعلان في 32/1/0891م ـ في خطاب له أمام الكونجرس الأمريكي ـ عن نظرية أمن صريحة بالنسبة لمنطقة الخليج تضع كافة الدراسات والوثائق والمناقشات التي تمت ـ سواء في لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي، أو في جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية الخارجية التابعة للجنة الشؤون الخارجية بنفس المجلس ـ موضع التنفيذ؛ وهو ما عرف بمبدأ كارتر، الذي ينطوي على شقين:
أحدهما: شق سياسي، أعلنه الرئيس كارتر رسميّاً؛ فقال: «إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف تعتبر في نظر الولايات المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيه القوة المسلحة».
أما الشق الثاني: فهو تكملة عسكرية للإعلان السياسي، وقد تمثل في إنشاء ما يسمى «قوة الانتشار السريع» من خلال تقرير قدمته وزارة الدفاع عام 1988م إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، أعدت على أساسه ميزانية هذه القوات لتلك السنة؛ وقد وقف الجنرال كولن باول ـ رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية ـ (وزير الخارجية الحالي) يدافع عنها أمام لجنة العلاقات الخارجية في 1/3/0991م، حيث قال: «يجب أن ننظر إلى التاريخ وإلى الحوادث الجارية وعيوننا على المستقبل، ومهما كانت الظروف فإن هدفنا لا يمكن أن يصبح حلّ أو تفكيك القوة الأمريكية، إنني تولّيت منصبي كرئيس لهيئة الأركان في الحرب آملاً أن أساعد في تشكيل القوة الأمريكية لمواجهة تحديات المستقبل، وليس لأقوم بتسريح الجيش الأمريكي، وأُضعف موقف الولايات المتحدة في العالم».
وقد كان قرار إنشاء قوة «التدخل السريع» يقضي بأن تتمركز هذه القوة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، على أن تكون جاهزة لكي تحمل جوّاً وبحراً إلى منطقة الخليج عند أي طارئ، وبذلك تكون الولايات المتحدة مستعدة، وتكون قواتها مخصصة لحماية الخليج على أراضيها، وقد أطلق على قيادة هذه القوات قيادة المنطقة المركزية، وشكلت من 291.600 فرد.
وفي منحى استهداف العراق تحديداً يذكر الخبير الاستراتيجي أحمد السيد النجار أن وزير الطاقة الأمريكي الأسبق «جون هارنجتون» كان قد أعلن في عام 1987م أن العراق يعوم على بحيرة من النفط وأن احتياطياته ربما تفوق الاحتياطيات السعودية الضخمة التي تبلغ نحو ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط، ويواصل الخبير قوله: وفي هذه الحالة إذا استطاعت الولايات المتحدة السيطرة على العراق ونفطه من خلال الغزو ووضع حكومة عميلة هناك، فإنها يمكن أن تتحكم في حجم الإنتاج العالمي من النفط من خلال مضاعفة حجم الإنتاج العراقي، ويمكنها بذلك أن تعمل على خفض أسعاره بشكل كبير بما يحقق مصالحها كأكبر دولة مستهلكة ومستوردة للنفط في العالم، حتى لو أدى ذلك إلى تدهور اقتصادي يصل إلى حد الكارثة بالنسبة للدول المصدرة الرئيسية للنفط.
ولكن مع ذلك لم تجد أمريكا حتى تلك اللحظة الذريعة المناسبة التي تبدأ بها تنفيذ هذا المخطط حتى قدمها لها العراق نفسه، أو بالأحرى صدام حسين ونظامه.
المحطة الثانية، غزو الكويت سنة 1990م: في نهاية الثمانينيات حدثت أزمة نفطية عانت فيها شركات النفط الأمريكية من شبح الإفلاس، وفي شهر مارس 1990م ـ قبل غزو الكويت بأربعة أشهر وأيام ـ نشرت جريدة الحياة اللندنية جانباً من تقرير أمريكي بعنوان: (التقرير الأمني السنوي لمجلس الأمن القومي الأمريكي ) جاء فيه: «إن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الوسط المتمثلة أساساً في مصادر الطاقة والعلاقات الأمريكية القوية مع بعض دول المنطقة تستحق وجوداً أميركياً مستمراً وربما معززاً في المنطقة»، وجاء فيه كذلك: «.. وإن الولايات المتحدة ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر المتوسط وفي منطقة الخليج والمحيط الهندي... وستسعى إلى دعم أفضل للأسطول من الدول المحيطة وإلى خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة!».(36/239)
فرغم أن المشروع السابق ذكره وضع في أواخر السبعينيات، إلا أن أمريكا لم تجد الذريعة المناسبة لأن يكون لها موطئ قدم في الخليج، حتى كان لها ذلك في 2/8/1990م عندما غزا نظام صدام حسين الكويت، فأوجد المسوغ المطلوب لزرع القوات الأمريكية في المنطقة، ليس فقط لتأمين منابع النفط، بل لحماية المصالح الأمريكية بشكل عام في منطقة الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك: فإن صدام حين احتل الكويت زاد مخزونه النفطي تلقائياً زهاء 200مليار برميل، ثم رفض اقتراح «أوبك» بتسعير البرميل بـ 81 دولاراً وفرض عليها 32 دولاراً للبرميل الواحد، فأثبت أنه قادر على الضغط والتحكّم بسعر البترول، أي: التحكّم بالشركات الكبرى وبالاقتصاد العالمي المرتبط بالبترول، وبذلك أعطى للإدارة الأمريكية مزيداً من البراهين على المخاوف التي دعتها إلى وضع المخطط المشار إليه ودعاها أكثر إلى الجدية والإلحاح في تنفيذه.
وفي شهر سبتمبر 1990م ـ أي بعد احتلال العراق للكويت بقليل ـ نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز مقالة للسفير الأمريكي السابق في الرياض جيمس إكنز بعنوان: (الآن ومع وجود القوات الأمريكية حول حقول النفط هل ندع الفرصة تفوتنا؟)، جاء فيها: «إن الذين عملوا والذين يعملون حالياً في الحكومة الأمريكية ومن ضمنهم كيسنجر ـ الذي كان جادّاً في موضوع احتلال آبار النفط في عام 1975م ـ لا بد أنهم يرون الآن عدم ترك هذه المصادر غير العادية بعد أن أصبحت تحت سيطرتنا».
وبعد انتهاء الحرب قدم «بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الأمريكي الآن) عام 1993م إلى البنتاجون وثيقة تحت عنوان «الاستراتيجية الأمريكية الشاملة»، وقد تم تنقيح هذه الوثيقة وتعميقها فيما بعد، قبل نشرها عام 1997م بما عُرف في الصحافة العالمية بـ «وثيقة البنتاجون»، وهي وثيقة سرية للجناح اليميني من الحزب الجمهوري الأمريكي محتواها هو خطط الهيمنة على نفط الشرق الأوسط.
وقد أعادت هذه الوثيقة تعريف التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة وسبل مواجهتها لكي تبقى قوة عظمى منفردة لمدة قرن كامل من الزمن، و تضمنت ضوابط شديدة لمنع أي قوة إقليمية من أن تتحول إلى قوة كبرى، حتى على مستوى إقليمها، من ناحية أخرى: فقد طرحت الوثيقة ضرورة بناء خرائط جديدة للشرق الأوسط بمفهومه الواسع.
وفي شأن آخر ذي صلة بالموضوع قدم جون ماريا نائب رئيس مؤسسة يونوكل النفطية للعلاقات الدولية في 12/2/1998م شهادة إلى لجنة الكونجرس الأمريكي يبين فيها أهمية وجود حكم ملائم لأمريكا ومستقر في أفغانستان من أجل استثمار مشاريع النفط والغاز في المنطقة.
وانطلاقاً من «وثيقة البنتاجون» المشار إليها سابقاً أعد الجناح اليميني في الحزب الجمهوري خطّة لشن الحرب على العراق في سبتمبر 2000م ـ أي قبل استلام بوش الابن لمقاليد الرئاسة ـ وقد صاغ هذه الخطة «ديك تشيني» (نائب الرئيس الأمريكي الآن)، و«دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الآن)، و«بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الآن)، و «جيب بوش» (أخو الرئيس جورج بوش الحالي)، و «لويس ليبي» (رئيس هيئة الأركان على عهد «تشيني»)، وتكشف هذه الخطة هدف أمريكا الحقيقي من وراء احتلال العراق، حيث تشير إلى أن «الولايات المتحدة سعت على مدى عقود للعب دور دائم في حفظ الأمن الإقليمي في الخليج.
ورغم أن النزاع غير المحلول في الخليج يوفر المسوغ المباشر [لضرب العراق]، فإن الحاجة إلى وجود عسكري أمريكي مكثف في المنطقة تتجاوز قضية نظام صدام حسين»، وبمعنى آخر، إذا لم يكن «صدام» هناك، فإن على الولايات المتحدة إيجاد مسوِّغ آخر لاحتلال العراق لإحكام سيطرتها على ثرواته النفطية!
المحطة الثالثة، أحداث سبتمبر 2001م: يمكن القول إنه بعد أحداث سبتمبر التي أعلن فيها عن نجاح تنظيم القاعدة بهدم برجي التجارة العالميين في نيويورك والهجوم على مبنى البنتاجون في واشنطن ـ إن صح ذلك ـ اختلطت المطامع بالمخاوف وتأكدت الرغبة ووجد المسوغ الذي يمكن إعلانه في وجود دائم للقوات الأمريكية فيما يسمى منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن القدرة على ضرب أمريكا في عمق أراضيها وفي رموزها الحيوية يعني تلقائيّاً القدرة على تهديد مصالحها في مناطق أخرى لا تخضع لسيطرتها، وعزز ذلك ما أعلن من بيانات زعيم تنظيم القاعدة بعزمه على إخراج أمريكا من (جزيرة العرب) وتهديد مصالحها في تلك المنطقة (الخليج)..(36/240)
وهكذا أصبحت الفرصة مواتية لأمريكا لضرب سرب من العصافير بحجر واحد ـ كما تصورت تلك الإدارة ـ رغم أن معلومات كانت تسربت من قبل تلك الأحداث تؤكد أن واشنطن أعدت خطة عسكرية لغزو أفغانستان منذ سنوات طويلة للسيطرة على نفط المنطقة وخاصة بحر قزوين، وكانت تنتظر الذريعة المناسبة لهذا التدخل، فجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على طبق من ذهب لتسرع من عملية تنفيذ المخطط الأمريكي للسيطرة على نفط العالم مباشرة وليس بالوساطة.. فكان غزو أفغانستان بمثابة وضع أمريكا لمحور ارتكازها الأول في الطرف الشرقي من قوس النفط العظيم، ثم كان لا بد من إكمال المخطط وارتكازها في الطرف الغربي من هذا القوس، وهكذا وجدنا أن الإشارات تتكثف والتطورات تتسارع في هذا المنحى.
فلقد جاء ضمن نصوص استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المنشورة في 20/9/2002م (أي بعد غزو أفغانستان وقبل الحرب على العراق) ما يلي:
«لقد طورت الولايات المتحدة استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز التجارة الحرة:...
9 - تعزيز أمن الطاقة، سوف نقوي أمن طاقتنا والازدهار المتشارك للاقتصاد العالمي، وذلك من خلال العمل مع حلفائنا، وشركائنا التجاريين، ومنتجي الطاقة؛ لتوسيع مصادر وأنواع الطاقة العالمية المزودة، وبالأخص في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وإفريقيا، وآسيا الوسطى، ومنطقة بحر قزوين، سوف نستمر في العمل أيضاً مع شركائنا لتطوير تكنولوجيات لطاقة أكثر نظافة وفعالية»، وجاء فيها أيضاً:
«علينا أن نكون مستعدين لوضع حد للدول المارقة وعملائها من الإرهابيين قبل أن يتمكنوا من تهديدنا أو استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة وحلفائنا وأصدقائنا، وردنا يجب أن يستفيد كلياً من التحالفات المعززة، ومن إقامة شراكات جديدة مع أعداء سابقين، ومن ابتكار أساليب متجددة في استخدام القوة العسكرية والتكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك تطوير نظام دفاعي صاروخي فعال، وزيادة التركيز على جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها».
«لقد استغرقنا الأمر عقداً من الزمن تقريباً لاستيعاب الطبيعة الحقيقية لهذا التهديد الجديد. وانطلاقاً من أهداف الدول المارقة والإرهابيين، لن تستطيع الولايات المتحدة بعد الآن أن تعتمد فقط على سياسة رد الفعل كما فعلنا في الماضي؛ فعدم القدرة على ردع معتد محتمل، والطبيعة الملحّة للتهديدات اليوم، وحجم الضرر المحتمل الذي قد يتسبب به اختيار العدو للأسلحة، لا يسمح لنا بذلك الخيار، لا يمكننا السماح للأعداء بأن يضربوا أولاً».
ولا نستطيع أن نفصل تلك الإشارات في وثيقة استراتيجية الأمن القومي عام 2002م، عن إعلان أميركي آخر صدر في أوائل الثمانينيات يؤكد على أن حدود الأمن القومي هي آخر قطرة نفط في آبار منطقة الخليج العربي.
ثم توالت الإشارات في اتجاه استهداف العراق عسكريّاً، حيث أعلن المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية «ستيف مان» خلال مؤتمر في نيويورك عقد في شهر 11 / 2002م أن «احتياطيات النفط في بحر قزوين ليست بالقدر الكافي لتشكل منافساً لنفط دول الخليج».
وبعد ذلك صرح وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 22 يناير الماضي بأن احتلالاً عسكرياً سيتم للعراق وأن البترول هو أمانة للشعب العراقي وستتم حماية حقول النفط، وفي اليوم التالي لتصريحات باول نقلت صحيفة (الغارديان) البريطانية عن مصادر قولها: إن اجتماعاً مهماً عقد في أكتوبر الماضي بين مسؤولين كبار في مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني وشركات نفطية مهمة هي «إكسون موبايل» و«شيفرون تكساكو» و«كوكوفيليبس» و«هاليبورتون» لدرس آفاق الصناعة النفطية في العالم بما في ذلك الوضع العراقي.
ثم توالت بعد ذلك الخطوات والتصريحات والأحداث التي يعرفها جميع المتابعين عن خطوات أمريكا (لتحرير الشعب العراقي من نير نظام صدام).
وبعد سقوط بغداد جاء في الأخبار: «كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن خطط لعقد اتفاقات عسكرية أمريكية طويلة الأمد مع الحكومة الجديدة في العراق، وذلك وصولاً إلى إقامة قواعد عسكرية أمريكية في الأراضي العراقية، ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أن واشنطن تنوي الاحتفاظ بأربع قواعد عسكرية في العراق لاستخدامها في المستقبل: الأولى في مطار بغداد الدولي، والثانية في تليل قرب الناصرية، والثالثة في مكان معزول في صحراء غرب العراق تسمى H-1 بمحاذاة خط أنابيب النفط بين العراق والأردن، والرابعة في باشور شمال العراق، وأن القوات الأمريكية تستخدم بالفعل هذه القواعد حالياً، وتخطط للبقاء فيها لاستخدامها في أي أزمات قد تحدث في المستقبل.(36/241)
وكانت الولايات المتحدة قد كشفت للمرة الأولى عن خططها لوجود طويل الأمد في العراق، وقال بول وولفويتز، مساعد وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد والرجل الثاني في البنتاجون: إنه يرى إمكانية إنشاء قواعد عسكرية في العراق الذي سيصبح بلداً خليجياً صديقاً جديداً لأمريكا، وأوضح قائلاً: «الحقيقة الأساسية هي أن إزاحة هذا النظام ستمنح الولايات المتحدة حرية أكثر للحركة في الخليج»، وبالطبع لسنا بحاجة لمعرفة دوافع وزير الحرب رامسفيلد الذي نفى صحة الخبر فيما بعد؛ فالأمر قد أوضحوه سابقاً.
* ماذا يعني احتلال أمريكا للعراق؟
نذكر أولاً أن حديثنا الآتي عن الأبعاد والاحتمالات المتوقعة لا يعني حتمية وقوعها، كما لا يعني وقوعها كلها ـ لو وقعت ـ في الزمن القريب.. فماذا يكون إذا استقر الأمر لأمريكا وحققت ما ترنو إليه في المنطقة؟
هناك عدة أبعاد يمكن النظر إليها وأخذها في الاعتبار بهذا الخصوص، منها:
\ أن أي قوة إمبريالية توسعية يهمها السيطرة على طرق المواصلات ـ بما فيها الممرات والمضايق ـ التي تربط بين أماكن مصالحها الحيوية والوطن الأم، وهذا ما فعلته بريطانيا عندما كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وكانت مصالحها الحيوية تتركز في الهند ومصر وشرق البحر الأبيض المتوسط، فنجد أنها سيطرت على مضيق باب المندب ـ عبر احتلالها لعدن ـ، وقناة السويس في مصر باحتلال مصر، ومضيق جبل طارق عبر إقامتها قاعدة عسكرية في جبل طارق (6.5 كم2) بموجب معاهدة «أوتريشت» سنة 1713م ثم استعماره سنة 1830م، بينما لم تلتفت كثيراً لمضيق هرمز بالخليج العربي ـ مع عدم إهماله أيضاً ـ لأنه لم يكن له أهمية كبرى حينها؛ لأن البترول لم يكن له الأهمية نفسها الآن ولم يكتشف بكميات كبيرة في المنطقة حينها..
والأمر نفسه تقوم به أمريكا الآن بخصوص الممرات والمضايق وطرق المواصلات التي تهمها؛ فمع سيطرتها على مضيق هرمز (يمر به 15.5 مليون برميل يومياً، بحسب تقديرات عام 8991م) تسيطر أمريكا أيضاً على مضيق باب المندب (3.3 ملايين برميل يومياً) عبر قواعدها في جيبوتي وإريتريا، ولا يبتعد عن ذلك محاولتها التدخل في الصومال وجنوب السودان، وعلى قناة بنما التي سيطرت عليها سيطرة عسكرية مباشرة لمدة 85 عاماً (حتى 31/12/1999م)، وبسبب أهميتها الاستراتيجية أبقت فيها حوالي 60 ألف جندي خلال الحرب العالمية الثانية وعشرات الآلاف خلال فترة الحرب الباردة، وبعد تسليمها حرصت على وجود نظام موال لها دائماً فيها، كما أنها تحاصر قناة السويس (3.1 ملايين برميل يومياً) بدعوى مراقبة الحظر الذي كان مفروضاً على نظام العراق السابق إضافة إلى قرب وجود أقرب حلفائها في المنطقة (إسرائيل) منها، أما مضيق جبل طارق (يمر منه سدس التجارة البحرية العالمية وثلث التجارة النفطية) فهو يخضع للسيطرة البريطانية والإسبانية وكلاهما حليفان لواشنطن وعضوان في حلف الأطلسي، ولأمريكا قواعد في روتا ومورون الإسبانيتين على بعد 4 كيلو مترات من الجبل، إضافة إلى أنها تستخدم القاعدة البريطانية في صخرة الجبل، ولا يتبقى من المضايق والممرات المائية العالمية سوى خليج البوسفور في تركيا ومضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا وهما لا يمثلان أهمية حيوية لأمريكا ومع ذلك هما تحت حماية دول حليفة أو صديقة لأمريكا..
وإضافة إلى محاولات أمريكا للسيطرة على الممرات وطرق المواصلات العالمية عبر قوات (حراسة) لها تضمن عدم حدوث أي تقلبات أو اضطرابات تؤثر على أدائها، فإنها تحرص على تنصيب حكومات مرتبطة بها حول تلك الطرق والممرات.
وبخطوة احتلال العراق تكون أمريكا قد رسخت وجودها في منطقة استراتيجية تطل منها على عدة مناطق مهمة في القارات الثلاث، وتلتقي فيها أو تقترب منها طرق وممرات دولية بقدر التقاء مصالح أطراف دولية أيضاً؛ فالقوى التي ستسيطر على هذه المنطقة سيكون لها ضمان أمنها الاقتصادي الاستراتيجي إضافة إلى القدرة مستقبلاً على تسيير دفة الاقتصاد العالمي طبقاً لمصالحها الخاصة، ومن هنا نستطيع فهم تحركات أمريكا في آسيا الوسطى وأفغانستان وأخيراً الخليج والعراق؛ فموقع العراق الملاصق للخليج العربي والقريب من منطقة بحر قزوين، والطرق التي سيعبر منها النفط المستخرج منها، سواء شرقاً عبر باكستان وأفغانستان أو غرباً عبر تركيا، ووجود القوات البحرية والجوية التي ستتمركز في هذه المنطقة.. سيضمن السيطرة الأمريكية على كل ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، وإذا حدث ذلك فإن هذه السيطرة الأمريكية منفردة على تلك المنطقة الحيوية سوف يهدد مصالح أطراف دولية أخرى يهمها أن يكون لها أيضاً وجود فاعل ومؤثر في هذه المنطقة التي تلتقي فيها مصالح أطراف عدة.(36/242)
\ يضاف إلى ذلك البعد: الحديث عن أهمية ثروة العراق النفطية؛ فرغم أنه لا يمكن إنكار تزايد حاجة الولايات المتحدة نفسها للنفط، وضآلة الاحتياطي الأمريكي المؤكد ـ وهو ما سبق ذكره ـ إلا أنه من المعروف أيضاً أن اعتماد أوروبا وآسيا على نفط منطقة الخليج أكثر بكثير من الاعتماد الأمريكي عليه (يصل الاعتماد الياباني على منطقة الخليج إلى 85% من مجمل استهلاكها)، كما أن بعض القوى الأخرى ذات النمو السريع التي قد تكون مناوئة ـ مثل الصين ـ يتزايد اعتمادها أكثر فأكثر على استيراد النفط، خاصة مع تزايد معدلات نموها الصناعي التي تتجاوز 12% سنوياً.
ومن المعروف أن ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط تشمل المنطقة العربية التي تملك 60% من احتياطي النفط العالمي، مضافاً إليها احتياطي النفط الإيراني واحتياطي نفط منطقة بحر قزوين، وهذا يعني أنه باحتلال أمريكا للعراق وسيطرتها على نفطه إضافة إلى السيطرة الأمريكية المطلقة على كل حقول النفط من كازاخستان في الشمال وحتى الخليج ـ إذا تحقق لها ما تريد ـ.. تكون قد سيطرت على اكثر من 90% من احتياطي النفط العالمي، وعندما تسيطر أمريكا على هذا الاحتياطي فمعنى ذلك أنها تحكمت بمصادر الطاقة العالمية العصب الوحيد الآن للصناعة والتنمية، أي إنها وضعت يدها على أصل استراتيجي كبير في مواجهة منافسيها وخصومها المحتملين في العالم ـ وخاصة في أوروبا وآسيا ـ.
أما عن مكانة منظمة أوبك حينئذ، فحسب جريدة (الفاينانشال تايمز): «إنه بوصول الشركات الأمريكية واعتماداتها المالية الجبارة إلى العراق، سيتمكن البلد من مضاعفة قدراته الإنتاجية للنفط الخام لتصل إلى 7 ملايين برميل في اليوم، وهذا سوف يدق ناقوس الخطر حيال السقف الإنتاجي المتفق عليه في منظمة الأوبك ويؤذن بزوالها؛ فمن شأن مثل هذا الاحتلال بالقوة للنفط العراقي أن يغرق السوق النفطية العالمية بكميات هائلة من النفط بأسعار رخيصة مما سينسف سياسة الحصص التي تفرضها هذه المنظمة الدولية للمحافظة على استقرار الأسعار في السوق النفطية العالمية، وبالنتيجة ستستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من هذا التدفق الهائل للنفط العراقي الرخيص إلى الأسواق لانتشال الاقتصاد الأمريكي المنهار من السقوط، وهذا هدف تريد الولايات المتحدة الأمريكية تحقيقه بكافة السبل وبأي ثمن كان» ( د. جواد بشارة ـ الزمان اللندنية 2/10/2002م)، وهذا يعني عمليّاً تحطيم أوبك أو على الأقل تهميش دورها وشل قدرتها إلى أبعد حد.
وعندما تستطيع الولايات المتحدة فعل ذلك تستطيع الهيمنة على سوق النفط، ومن ثم امتلاك زمام المبادرة في تحديد سعره وكيفية توزيعه، وهذا ما يمكّنها من جعل الدول الأخرى المعتمدة على البترول تحت رحمتها في أي وقت، بل يمكن أن تقود أمريكا هذه الدول إلى الإفلاس متى شاءت، وقد أشارت مجلة «فورين ريبورت» في عدد أخير لها أن «الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة تريد أن تسيطر بصورة كاملة غير منقوصة على النفط وأنظمته بطريقة تسمح لها باستخدامه سلاحاً في صراعها السياسي ـ الاقتصادي مع القوى الرأسمالية المنافسة الأخرى...».
وذلك مما سيضع حداً للحلم الأوروبي في منافسة القوة الاقتصادية والسياسية الأمريكية؛ فالذي يسيطر على النفط يسيطر على الاقتصاد، وكل ذلك مما سيؤثر على اقتصاديات هذه الدول ويؤثر على الخريطة الاقتصادية الدولية.
\ وهناك أطراف دولية كان لها مصالحها الخاصة في عراق ما قبل الاحتلال وجدت نفسها ومصالحها في مهب الريح بعد احتلال أمريكا للعراق، وعلى رأس هذه الدول تقف روسيا وفرنسا؛ فمعظم تسليح الجيش العراقي كان من هاتين الدولتين وخاصة من روسيا، كما أن هاتين الدولتين استطاعتا الحصول في عهد صدام حسين على عقود نفطية كبيرة ومنافسة.
وإذا استعرضنا خسائر روسيا الاقتصادية ـ على سبيل المثال ـ جراء الاحتلال ثم السيطرة الأمريكية على العراق، فتكفي الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين موسكو وبغداد بلغ مليارين ونصف مليار دولار عام 2001م، معظمها صادرات روسية للعراق أتاحت تشغيل كثير من المصانع التي كانت متوقفة في روسيا، كما أن الديون العراقية لموسكو تبلغ نحو عشرة مليارات دولار، كان سدادها متوقفاً على إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على بغداد، وأيضاً فإن العقود المبدئية العراقية مع الشركات الروسية في مجال إعادة الإعمار والتنقيب عن النفط والغاز تبلغ قيمتها نحو أربعين مليار دولار، وهي عقود كان يتوقف تنفيذها على إنهاء العقوبات الاقتصادية كذلك، ويشير الخبراء إلى أن شركات النفط الروسية كانت تتوقع تحقيق أرباح تبلغ قيمتها نحو عشرين مليار دولار من تنفيذ عقود استثمار حقول النفط والغاز في منطقة غرب القرنة العراقية وحدها.(36/243)
وهكذا نجد أن رفع الحصار عن عراق العهد السابق كان سيؤمن فرصة رد الديون العراقية لروسيا، وأن احتفاظ أسعار النفط بمستواها السابق أو رفعها كان سيدعم الدخل القومي الروسي باعتبار روسيا من الدول المصدرة للنفط، أما الآن بعد الاحتلال الأمريكي وتغيير الأوضاع في العراق، فإن الديون الروسية على العراق مجهولة المصير، وإذا ما أعيد ضخ النفط العراقي بكثافة ـ بدعوى المساهمة في تكاليف إعادة الإعمار ـ بما يؤدي إلى خفض سعر البرميل عن حدود 22 ـ 52 دولار فان الاقتصاد الروسي سيشهد تراجعاً كبيراً، وهكذا نجد أنه إضافة إلى الضغط الأمريكي لتنازل الدول الدائنة للعراق ـ وعلى رأسها روسيا ـ عن ديونها، فإنه من شبه المؤكد ضياع جزء مهم آخر من دخل الميزانية الروسية الساعي إلى تدعيم الروبل العملة المحلية.
وكما يقول الدكتور جواد بشارة: فإنه بعد وضع فريق قيادي موال لأمريكا بدلاً من نظام صدام حسين في العراق فسوف يشكل ذلك «نعمة سماوية للشركات النفطية الأمريكية الغائبة نسبياً عن السوق النفطية العراقية التي تحتلها الشركات الروسية والأوروبية وخاصة الفرنسية منها.
والأوروبيون يدركون هذه الخطورة جيداً ويعلمون أن الانتصار العسكري الأمريكي سوف يفتح طريق بغداد أمام المجموعات الصناعية الأمريكية ومن بينها الشركات النفطية العملاقة لقطع الطريق على منافستها الأوروبية الموجودة في العراق؛ فالأولوية ستكون بالطبع للشركات الأمريكية، وقد أوضح جيمس ولسلي المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) لصحيفة (الواشنطن بوست) أن الأمر في غاية السهولة وبعيد عن التعقيد: (لدى روسيا وفرنسا شركات نفطية عاملة في العراق ولديهما مصالح مهمة في هذا البلد، وعليهما أن يعرفا منذ الآن أنه إذا ما جاء إلى السلطة في العراق نظام بديل لصدام حسين فإننا سوف نعمل ما في وسعنا لجعل هذه الحكومة الجديدة تعمل بصورة وثيقة ومتينة مع شركاتنا النفطية حصراً، وإذا تعاونت الدولتان معنا في إسقاط صدام حسين فسوف ننظر في مصالحهما وديونهما ونحث الفريق الحاكم الجديد في العراق على أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار وإلاّ فسوف لن نضمن لهما شيئاً).. [وقد كان ولم يتعاونا في ذلك].
وقد صرح رئيس المؤتمر الوطني العراقي المعارض لنظام صدام حسين والذي تسانده وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية بما معناه أنه: بعد تغيير النظام القائم علينا تشكيل اتحاد صناعي نفطي (كونسورتيوم) تقوده أمريكا ليأخذ بيده عمليات استغلال النفط في العراق، وستكون للولايات المتحدة الأمريكية الأولوية بالطبع (حسب ما نقلته الصحيفة الأمريكية، وهذا يعني تراجع مريع لبقية الشركات النفطية العالمية الكبرى العاملة في هذه السوق النفطية الاستراتيجية الآن، وكانت صحيفة (البايس) الإسبانية قد أشارت إلى أن «هناك شركات روسية هي لوك أويل وسلافينيفت، وشركات فرنسية هي توتال وفينا ألف، وشركات هندية وصينية وإيطالية وجزائرية وفيتنامية، قد وقّعت اتفاقيات وعقود استثمار واستغلال للنفط العراقي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ بمجرد رفع الحظر النفطي المفروض على العراق منذ عام 1990م)»، وغني عن الذكر أن الاحتلال الأمريكي للعراق يجعل كل هذه المصالح والاتفاقيات تحت الأنقاض!
بل إنه ظهر أيضاً على السطح ـ بعد السيطرة الأمريكية على الكعكة العراقية ـ تنافس بين الشركات الأمريكية والبريطانية حول اقتسام هذه الكعكة؛ فقد ذكر موقع الجزيرة نت (12/3/2003م) نقلاً عن مصادر صحفية: أن شركتي النفط البريطانيتين بريتش بتروليوم وشل أجرتا مناقشات مع الحكومة البريطانية بشأن نصيبهما من عقود النفط العراقية بعد أن بدأت نظيراتها الأمريكية في التخطيط لتقاسم المكاسب الضخمة المتوقع أن تظفر بها في عراق ما بعد الحرب...
ونسبت صحيفة فاينانشال تايمز إلى مسؤولين حكوميين لم تسمهم قولهم إن الشركتين العملاقتين ناقشتا القضية في اجتماع موسع مع جيفري نوريس كبير المستشارين السياسيين لرئيس الوزراء توني بلير، وحثت الحكومة خلاله على ضرورة ألا يسمح للشركات الأمريكية بالاستحواذ على المشاريع النفطية العراقية المغرية، وأضافت الصحيفة أن الحكومة أبدت تعاطفاً وتفهماً للقضية.
\ أما عن الأبعاد الإقليمية: فوجود قوات أمريكية في المنطقة يعني أن الضغوط ستكون شديدة على دول المنطقة؛ بل يمكن التهديد بالاستغناء عن بعض الأنظمة باستبدالها أو تقليص دورها إلى أبعد حد؛ لعدم الحاجة إلى (وكلاء) غير كاملي الطاعة والاستجابة في وجود الموكل نفسه في المنطقة، مما قد يدفع هؤلاء الوكلاء إلى التفاني والتسابق في تقديم أقصى ما يمكن من تنازلات ـ بالنظر إلى محافظتهم على معادلة التوازن الداخلي أيضاً ـ لإثبات أنهم قادرون على لعب دور مهم ولا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة، ولا شك أن ذلك سيكون له أثره الكبير على الحركات الإسلامية وعلى قضايا الأمة المصيرية.(36/244)
كما أن من المخاطر الفادحة المحتملة: تعويق مشاريع التنمية في الدول العربية المحيطة أو المرتبطة بالعراق بعد تخفيض أسعار النفط وإضعاف الاقتصاد فيها نتيجة الظروف الجديدة، ومن المخاطر أيضاً: ما يتهدد الدول النفطية في المنطقة من أن تلجأ الولايات المتحدة من خلال ضغوط سياسية أو عسكرية إلى فرض توجهات خصخصة شركات النفط الوطنية، وتصفية امتلاك الدول لها، ليتسنى للشركات الأمريكية الاستغلال المباشر لنفط تلك البلدان، كما كانت الأمور تسير في الماضي.
ومن الأبعاد الإقليمية: أن وجود أمريكا بقواتها في المنطقة يعني تلقائيّاً وقوع إيران وسوريا ـ مع لبنان ـ تحت الحصار الأمريكي الصهيوني: إيران يحاصرها الوجود العسكري الأمريكي من الشرق (في باكستان وأفغانستان) ومن الشمال (تركيا) ومن سواحلها الغربية (مياه الخليج) والجنوبية (بحر العرب والمحيط الهندي) والآن من العراق على حدودها البرية الغربية، أما سورية ولبنان فإن الوجود العسكري الأمريكي والصهيوني يحاصرهما من الشمال (تركيا) ومن الغرب (البحر المتوسط) ومن الجنوب (إسرائيل) والآن اكتملت الحلقة من الشرق (العراق).
وهذا الحصار لكلتا الدولتين له أبعاده المهمة، فإيران ترقد على 90 مليار برميل من النفط يمثل 8.5% من الاحتياطي العالمي (خامس أكبر احتياطي في العالم)، كما أنها الدولة التي تفصل بين المنطقة العربية ومنطقة آسيا الوسطى، أي إنها تمثل الحلقة الناقصة أمريكياً في استكمال الهيمنة على (قوس النفط الكبير)، أما سورية ولبنان فإنهما يمثلان الحلقة الناقصة ـ ولو رسميّاً ـ في تأمين المجال الحيوي لـ (إسرائيل) إضافة إلى أنهما يعدان قلب النجمة الثلاثية للحلف الأمريكي المرتقب (تركيا ـ إسرائيل ـ العراق)، مما يرشح تلك الدول ليكون الدور عليها في الاستهداف الأمريكي ومحاولة إخضاعها بكل السبل.
ومن الأبعاد الإقليمية أيضاً: بروز فرصة تاريخية نادرة لإنهاء القضية الفلسطينية وانتهاز الأوضاع الإقليمية الراهنة ـ وأهمها: الهزيمة النفسية والشعور بالعجز في الوعي الجمعي للعرب والفلسطينيين خاصة ـ لتركيع العرب والمسلمين بعد إقامة (نظام شرق أوسطي جديد) يقبل الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، ويمكن: القول إن هناك ثلاث مخاطر رئيسية تهدد القضية الفلسطينية يمكن لليهود التجاسر على ولوجها مجتمعة أو متفرقة:
الخطر الأول: إنجاز مشروع إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى بأي صورة وأي صيغة، وكان قائد لواء القدس المحتلة في شرطة الاحتلال الإسرائيلي اللواء ميكي ليفي صرح قبل الحرب بأنه سيكون بإمكان اليهود تأدية الصلاة في جبل الهيكل (المسجد الأقصى) بعد الحرب في العراق.
الخطر الثاني: القيام بعمليات ترحيل قسري (ترانسفير) للفلسطينيين لتفريغ فلسطين من أهلها وإعادة تشكيل التوازن الديموغرافي في البلا؛ وخاصة بعد ضعف أو توقف الهجرة اليهودية إليها؛ وفي هذا الصدد فإن العراق مرشح بقوة لاستقبال أعداد كثيرة من هؤلاء المرحلين بدعوى المساعدة على إعادة إعمار العراق، وفي الوقت ذاته سيعملون على إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين في الخارج بإلغاء حق عودتهم إلى فلسطين.
الخطر الثالث: افتعال أزمة مع إحدى دول الجوار ومحاولة التوسع باحتلال أراضي الغير.
وفي إطار هذه المخاطر يأتي العمل على إعادة (شحن) ودفع تيار الداعين للتطبيع مع (إسرائيل) من المثقفين والسياسيين بدعوى الواقعية والاعتراف بمحدودية إمكانات الأمة وقدراتها، وعلى رأس ذلك يجيء تعيين أبو مازن تحديداً رئيساً للوزراء ـ بضغوط أمريكية وإسرائيلية وأوروبية وعربية ـ وهو المعروف بعلاقاته الخاصة مع الأمريكان والإسرائيليين وبمعارضته لعسكرة الانتفاضة وجهوده الحثيثة للتوصل إلى سلام دائم مع (إسرائيل) ـ ليشير إلى أن حركات المقاومة في الداخل ستشهد مطاردة وضغطاً عنيفاً لتهيئة الساحة لقبول التنازلات والأحداث المأساوية المتوقعة في ظل هذه المخاطر، وليشير أيضاً إلى اتجاه التطورات والتنازلات المتوقعة في إطار ما يسمى بخريطة الطريق الأمريكية، وقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون صراحة: إن هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين «بشكل أسرع» بعد الحرب على العراق، مشيراً إلى أن تلك الحرب سببت «هزة في الشرق الأوسط».
ويدل على الشره الصهيوني للتوسع والهيمنة والعمل على فرض واقع جديد في المنطقة بعد احتلال العراق بقوات أمريكية:(36/245)
ما جاء في الأنباء من أن الحكم الأمريكي المرتقب في العراق سيتخذ قراراً بالاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة تمثيل دبلوماسي بين «تل أبيب» وبغداد، وأن شركات الكيان الصهيوني ستشارك في عمليات إعادة الإعمار، مما يعني التطبيع بكل ما يحمله من معان ومخاطر، وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية كشفت أن أحمد الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي الذي تضعه قوات الاحتلال الأمريكية على رأس مرشحيها لحكم العراق، زار الكيان الصهيوني سراً مؤخراً، والتقى شخصيات صهيونية رسمية وغير رسمية، وبحث معهم إقامة علاقات دبلوماسية بين العراق والكيان الصهيوني، كما أن هناك أنباء عن إعادة تشغيل أنبوب النفط بين الموصل وحيفا ـ عبر الأردن ـ الذي كان متوقفاً منذ إقامة الكيان الصهيوني عام 1948م، وقد أعلن وزير البنى التحتية «يوسف باريتسكي» أن تشغيل هذا الأنبوب قد يخفض أسعار الوقود في (إسرائيل) بنحو 25%، إضافة إلى توفيره فرص عمل لآلاف العاطلين عن العمل، إلى جانب مد خزانة الدولة بمداخيل إضافية، مؤكداً حصوله على معطيات تفيد بأن الحرب الأمريكية البريطانية في العراق ستؤثر بشكل حاسم على مجال الطاقة في (إسرائيل).
ومما له دلالة في هذا الخصوص: ما أعلنته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي أن ما يتراوح بين 1500 و2000 جندي يدينون باليهودية كانوا بين العسكريين الأمريكيين الذين قصفوا المدن العراقية، وأن بعضهم احتفل بعيد الفصح اليهودي (يوم 15 إبريل) في القصر الجمهوري في بغداد.. وما أعلن من أن عدداً من الحاخامات اليهود في (إسرائيل) قد نشروا مؤخراً فتوى دينية تنص على أن العراق هو جزء من أرض إسرائيل الكبرى، وطلبت هذه الفتوى من الجنود اليهود في القوات الأمريكية والبريطانية التي تقاتل في العراق أن يؤدوا الصلاة الخاصة عندما يقيمون كل خيمة أو بناء في أرض غربي نهر الفرات.
وعموماً فإن المنطقة بكاملها ستكون مقبلة على تحولات كبرى ستكون منعطفاً تاريخيّاً في مسيرة الأمة.. ولكن هل بالفعل ستسير الأمور كما هو مخطط ومرغوب؟ وهل سيستقر الوضع للأمريكان في المنطقة ليحققوا أهدافهم؟ أم أن الرياح قد تأتي بما لا يشتهيه القراصنة؟
إن الناظر إلى المعطيات السابقة وإلى اتجاهات المستقبل يرى أن الوضع شديد التعقيد والتشابك؛ حيث تتداخل الأوضاع الداخلية العراقية مع الأوضاع الإقليمية مع الأوضاع الدولية.
فالمقاومة الشرسة التي أبداها العراقيون في أم قصر والبصرة والناصرية ومناطق أخرى لا يستبعد تكرارها بشكل أو بآخر بعد الإفاقة من صدمة سقوط بغداد بهذه الصورة غير المتوقعة، ولا يعرف أحد كيف سيكون رد الشعب العراقي على الاحتلال الأجنبي وفرض حكومة عميلة، كما لا يستطيع أحد تقدير حجم التفاعل العربي والإسلامي مع الداخل العراقي ولا كيفيته، فهناك تيارات جهادية وقومية ووطنية محضة ـ بل هناك قطاعات لا تنتمي إلى شريحة فكرية أو عقائدية ـ من المتوقع أن تسعى إلى مقاومة المحتلين الغزاة بما يجعل العراق بعيداً عن الاستقرار، وإذا انخرطت شريحة واسعة من الشعب العراقي في حركة المقاومة، فإن هذا يمكن أن يؤثر على نشاطات (إعادة بناء العراق) ويشكل مصدر تهديد لمصالح أمريكا وتعويق لمخططاتها.
كما أن القوى والرموز التي تعول عليها أمريكا في تحقيق استقرار في العراق إما أنها ليس لها قبول شعبي في الداخل كالمؤتمر الوطني العراقي وأحمد الجلبي (صاحب سوابق ومحكوم عليه قضائياً بالسجن 22 عاماً والغرامة في قضايا اختلاس وإساءة الأمانة والاحتيال)، أو بينها تنافس وتناحر ـ لم يخمد إلا بالضغط الأمريكي ـ كالحزبين الكرديين في الشمال، أو بينها وبين فصائل المعارضة الأخرى، وإما أن لها منافساً أقوى منها كالرموز الشيعية العلمانية أو المعلمنة في الجنوب.
وإيران تعرف المخاطر التي تحيق بها، إضافة إلى أنها قد ترى في تطور الأحداث فرصة لإنجاز خطوة نحو تحقيق حلمها باتصال الهلال الشيعي الكبير الممتد من إيران عبر العراق والخليج حتى لبنان، وليس بمستبعد أن تسعى لزعزعة الأوضاع في العراق وتحقيق مكاسب لها على أرضه، وهي لا تعوزها القدرة على القيام بذلك، فهي تملك نفوذاً قوياً داخل فصائل المعارضة والقاعدة الشيعية في الجنوب، وتملك اتصالاً جغرافياً ومذهبياً بينها وبين جنوب العراق.(36/246)
وبالتأكيد فإن أمريكا وبريطانيا يعيان هذه المطامع ويعيان أيضاً حجم هذا النفوذ، وإذا كانت إيران مكنت لأمريكا في السابق وباعت دماء المسلمين من أهل السنة في أفغانستان بل وفي العراق، فإن هذا لن يشفع لها لتتساهل أمريكا معها في مطامعها ومخاطرها في المنطقة، فالمتوقع أن يؤدي تضارب المصالح والمطامع بينهما في النهاية إلى التصادم والمواجهة، ولكن قد يختلف أسلوب المواجهة وأدواته خاصة أن أمريكا لم تستنفد جهودها بعدُ في محاولة تغيير النظام الإيراني من الداخل. أما المواجهة داخل العراق فالمتوقع أن تعمل أمريكا مع معلمتها الاستعمارية (بريطانيا) على اتباع أسلوب (فرق تسد) ومن غير المستبعد في هذا الإطار إثارة التنافس بقوة على المرجعية الشيعية العالمية بين قم والنجف، واستعمال بعض المرجعيات الدينية ـ بوعي منهم أو بغير وعي ـ في ذلك.
وهناك أيضاً تركيا التي لها الأقلية التركمانية في شمال العراق وتريد أن يكون لها نصيب من الكعكة العراقية، كما أنها لن ترضى باقتراب الأكراد من تحقيق أحلامهم في الشمال قرب حدودها، ولا بد أنه سيكون لها دور في الداخل العراقي أيضاً.
وإزاء هذه المعطيات فإنه ليس أمام أمريكا إلا تطبيق نموذج كرزاي أفغانستان معدل في العراق، حيث ستفرض إدارة موالية لها بأسلوب ديمقراطي صوري، ولأنه يصعب أن يكون له قبول شعبي فلا مناص من تثبيت هذا الحكم بأسلوب صدام حسين وحزب البعث وحراسته بالقوة العسكرية.
وإذا أخذنا في الاعتبار هذه الأبعاد الداخلية والإقليمية، إضافة إلى تضارب المصالح والتنافس بين القوى الدولية ـ المشار إليه سابقاً ـ فإن هذه الأوضاع كلها تنبئ بأن منطقة (الشرق الأوسط الكبير) الممتدة من آسيا الوسطى وبحر قزوين حتى بحر العرب جنوباً، والأناضول والبحر المتوسط غرباً، والصين شرقاً، والاتحاد الروسي شمالاً ـ وفي قلبها العراق ـ سترتدي طابعاً دولياً في شكل مباشر، وستكون مجالاً للمنافسة ـ أو لنزاع دولي ـ شديد التعقيد، ولا يستبعد في مثل هذه الحالة نشوء نوع من الحرب الباردة بين أمريكا ومنافسيها الرئيسيين في العالم ـ وخاصة كتلة أصحاب المصالح من المعارضة الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وروسيا وألمانيا ـ بسبب ذلك، مع توقع وجود حالة من عدم الاستقرار والاضطراب في المنطقة.
وفي النهاية فإنه يحق لأي مراقب ومحلل أن يتساءل: بعد أن ابتلعت أمريكا العراق: هل تستطيع هضمه؟.. هذا ما ستوضحه الأيام القادمة..
-------
(*) المستشار العسكري والاستراتيجي، لقناة المجد الفضائية حالياً
000000000000000000
النظام العربي إلى أين؟!
رجب الباسل
أثار البعض مؤخراً اصطلاح (نهاية النظام العربي) تعقيباً على الفشل العربي في التعاطي إيجابياً مع الأزمة العراقية، واتخاذ موقف واضح ومحدد ورافض للعدوان الأمريكي البريطاني على العراق، ثم احتلاله أو حتى عقد قمة عربية طارئة تعلن رفض العدوان والوقوف بجانب العراق الذي تعرض لعدوان جائر دون أي سند شرعي دولي ترتب علىه فقدان العراق لاستقلاله، وليصبح أول دولة عربية يتم احتلالها في القرن الجديد؛ بل الأغرب أن هناك دولاً عربية وقفت مع العدوان صراحة، والبعض كما قال الامين العام للجامعة أيد في صمت، والبعض الآخر قدم تسهيلات علنية أو سرية للعدوان.
* نشأة ضعيفة:
تعد الجامعة العربية من أقدم المنظمات الإقليمية والعالمية نشأة؛ فقد أنشئت رسمياً قبل منظمة الأمم المتحدة بحوالي ستة أشهر، حيث تم توقيع ميثاق الجامعة في مارس 1945م، بينما تم توقيع ميثاق المنظمة في سبتمبر من نفس العام.
وهناك آراء كثيرة حول أسباب نشأة الجامعة العربية وأهدافها؛ فهناك من ربطها بالدور البريطاني حينئذ في تشجيع إنشاء الجامعة، سواء لمواجهة المد الإسلامي ونداءات عودة الخلافة الإسلامية، أو حتى لتعطيل الوحدة العربية ذاتها، بحصرها في كيان ضعيف لا ينص ميثاقه على الوحدة العربية التامة كهدف للإنشاء، إلا أنه بعيداً عن الاتهامات أو التأييدات التي وجهت للجامعة، إلا أن هناك العديد من المؤشرات التي تؤكد النشأة الضعيفة لها، والتي لم تكن يراد للجامعة أن تنشأ قوية تحقق طموحات الشعوب العربية، ومنها:
1 - إن أول أمين عام للجامعة العربية ـ رغم مكانته ـ كان بدرجة وزير مفوض للشؤون العربية بوزارة الخارجية المصرية، مما يعني عدم الاهتمام حينئذ باختيار شخصية ذات مكانة رسمية عالية لتولي هذا المنصب ـ رئيس وزراء سابق أو رئيس دولة مثلاً.(36/247)
2 - إن ميثاق الجامعة الذي وقعت علىه سبع دول عربية في البداية استجاب في تحديده لأهداف الجامعة، وطبيعة الدول الموقعة علىه لمطالب أضعف الدول، أو الحكومات العربية انتماء في ذلك الوقت للعروبة، وهي الحكومة اللبنانية المسيحية المارونية حينئذ، والتي تعارض الاندماج في العالم العربي؛ ففي حين طالبت العراق بأن تكون سلطات الجامعة أعلى من الدول المنظمة بحيث يكون من الممكن لها أن تتحول إلى مؤسسة إدارة الدولة العربية الموحدة في المستقبل، إلا أنه تم الأخذ بالاقتراح المصري - اللبناني الذي حافظ للدول الأعضاء على سيادتها، فجعل منها منظمة تقليدية ترتبط قراراتها بشكل كامل بإرادة الدول الأعضاء ذات السيادة، والتي لم تقبل بالتخلي عن أي جزء من سيادتها لهذه المنظمة الإقليمية.
وطبقاً لميثاق الجامعة فهي تتألف من الدولة العربية المستقلة (مادة 1)، والغرض من إنشائها توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون بينها، وصيانة استقلالها وسيادتها (مادة 2).
والمادة الوحيدة الوحدوية كانت اختيارية وليست على المستوي العربي الشامل، بل الثنائي أو التعددي؛ فالمادة التاسعة تنص على أنه لدول الجامعة العربية الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق، وروابط أقوى مما نص علىه الميثاق أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض (مادة 9).
3 - ضعف مؤسسات الجامعة وآلياتها: فمجلس الجامعة في البدء كان على مستوى وزراء الخارجية (التطور الأخير أصبح على مستوى الرؤساء والملوك والأمراء العرب)، والذي يجتمع مرتين في العام في دورتين عاديتين (مارس - سبتمبر)، وله عند الاقتضاء أن يجتمع في دورة غير عادية، وفق أحكام الميثاق، وقد يعقد على مستوى الرؤساء والملوك (قمة)، ولكن الآن أصبحت القمة دورية بقرار قمة القاهرة الطارئة أكتوبر 2000م، وعقدت أول قمة عادية في عمان مارس 2001م.
أي أن الجامعة تمتلك على المستوى الفعلي جهاز الجمعية العمومية فقط (على مستوى المندوبين أو وزراء الخارجية)، ولكل دولة صوت واحد.
بينما لا تمتلك الجامعة فعلىاً جهازاً أمنياً، ورغم توقيع معاهدة الدفاع المشترك بعد ذلك في 13/5/1950م، والذي نصت مادته السادسة على تأسيس مجلس للدفاع المشترك تحت إشراف مجلس الجامعة، ويختص بجميع الشؤون المتعلقة بالاعتداءات المسلحة التي تقع على أية دولة عربية، والتشاور في الأمور المتعلقة بأمن البلاد، ودعم الدول العربية لمقوماتها العسكرية، وتعزيزها، والمشاركة في تهيئة وسائلها الدفاعية الخاصة والجماعية لمقاومة أي اعتداء مسلح.
كما لم ينص الميثاق على إنشاء مجلس اقتصادي واجتماعي، ولكن تم إنشاؤه بناء على المادة الثامنة من معاهدة الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي.
وتفتقد الجامعة فعلىاً كذلك لمحكمة عدل عربية لفض المنازعات بين الدول الأعضاء بالطرق القانونية رغم أن الميثاق في مادته التاسعة عشرة قد نص على إنشائها، ولم يتم تنفيذها حتى الآن.
كما أن هناك 18 منظمة متخصصة تابعة للجامعة العربية كالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واتحاد إذاعات الدول العربية، وغيرها من المنظمات، إضافة للمجالس الوزارية المتخصصة، كمجلس وزراء الإعلام العرب، والداخلية، والنقل ... إلخ، لم تنجح هذه المنظمات، والمجالس حتى الآن في تفعيل التعاون العربي المشترك للوصول إلى التنسيق والتعاون الكامل بينها في المجالات المتعددة.
* أهداف غير واضحة:
ورغم أن أية منظمة إقليمية أو دولية تحدد الأسباب الدافعة لنشأتها، وأهدافها المرحلية والاستراتيجية إلا أن الجامعة لم تحدد في ميثاقها أهداف إنشائها صراحة، ولكن من خلال نصوص الميثاق يمكن استكشاف هذه الأهداف، وهي تدور في مجملها حول التعاون والتنسيق والتكامل في شتي المجالات ...
* إنجازات وإخفاقات:
وكما أن الأهداف لم تكن واضحة لم تحدد آليات وخطط لتنفيذها، إلا أن هناك مجالين أساسيين يمكن تحليل مدى إنجاز وإخفاق الجامعة فيهما وهما:
- المجال الأمني.
- المجال الاقتصادي.
أولاً: المجال الأمني:
فالجامعة حددت مفهوم الأمن القومي العربي في المقام الأول بمقومات الوجود العربي، وفي مقدمتها الأرض والهوية، وتطوير هذه المقومات، وصولاً إلى تحقيق الغايات القومية الكبرى، وذلك في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية القائمة والمحتملة.
وقد حددت دراسة أعدتها الأمانة العامة للجامعة في عام 1993م ثلاثة أنواع من التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي، وهي تحديات داخلية وإقليمية ودولية.
وأبرمت الدول العربية في هذا الشأن معاهدة الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي التي صادق علىها مجلس الجامعة في 13/4/1950م.
وكان للجامعة دور في عدد من التهديدات التي تعرض لها الأمن القومي العربي، كالعدوان الثلاثي 1956م (القمة العربية ببيروت 13 ـ 14/11/1956م)، ومخططات إسرائيل لتحويل مياه نهر الأردن (مؤتمر القمة العربي 1964م)، والذي اعتبر وجود إسرائيل خطراً يهدد الأمة، كما اعتبر قيامها بتحويل مياه نهر الأردن يضاعف من خطرها على الوجود العربي.(36/248)
وهزيمة يونيو 1967م (مؤتمر القمة بالخرطوم)، وحرب العاشر من رمضان أكتوبر 1973م؛ حيث قرر وزراء البترول العربي في 17/10/1973م، استخدام سلاح البترول لمساندة الحق العربي، وغيرها من مؤتمرات القمة التي عقدت لمواجهة أزمات تهدد الأمن القومي العربي، إلا أن هناك قضايا محددة أظهرت ضعف الجامعة في هذا المجال ومنها:
1 - قضية الغزو العراقي للكويت عام 1990م وحل الأزمة في إطار دولي، وبقيادة أمريكية غربية وليست عربية مما جعل أمريكا حينئذ تفرض اجندتها الخاصة بالمنطقة والتي تقوم بالأساس على حماية مصالحها في الشرق الأوسط وأهمها النفط، وحفظ أمن الكيان الصهيوني.
2 - قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي التي تأثرت كثيراً بالواقع الدولي والعربي؛ فالجامعة التي بدأت بإرسال المتطوعين إلى فلسطين في حرب 1948م، ثم إنشاء جيش فلسطين في الدول العربية، وقرارات القمة العربية في الخرطوم 1967م بعد هزيمة يونيو، والتي رفعت بالإجماع اللاءات الأربعة: لا تفاوض، لا صلح، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا تصرف بالقضية الفلسطينية بغير موافقة الشعب الفلسطيني.
سرعان ما تأثرت تلك القرارات الصادرة من الجامعة بدءاً من عام 1982م بالدعوة إلى الاعتراف بإسرائيل، وحل قضية فلسطين على أساس قراري 242 و 338، بدءاً من قمة فاس 1982م، ثم قرار مجلس الجامعة العربية في دورة انعقاده العادية السادسة والتسعين في سبتمبر 1991م (تمهيداً لمؤتمر مدريد أكتوبر 1991م)، وقرارها رقم 5092 الذي يرحب بالمساعي الرامية لإقامة سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط على أساس قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338، ومبادلة الأرض بالسلام.
ولم يكن للجامعة موقف ثابت مميز عن باقي أعضائها، ولكن وضح من هذه القرارات تأثرها بمواقف أعضائها، خاصة الأطراف القوية فيها؛ فقمة بغداد 1978م التي فرضت المقاطعة العربية على مصر بسبب توقيعها معاهدة كامب ديفيد (تأثراً بالأطراف المتشددة حينئذ خاصة العراق)، تبعها قمة فاس والدار البيضاء، واجتماعات مجلس الجامعة المؤيدة لمفاوضات السلام.
3 - مصادر التهديد المباشر للأمن القومي العربي: فرغم أن أخطرها على الإطلاق هو الكيان الصهيوني طبقاً لدراسات الجامعة والخبرة التاريخية، وآراء المتخصصين، إلا أن الواقع العربي يشهد نزوعاً، خاصة في عقد التسعينيات من القرن العشرين نحو التعاون مع الكيان الصهيوني؛ فهناك ثلاث دول عربية تقيم علاقات سياسية ودبلوماسية كاملة مع الكيان، وهي بالترتيب: (مصر ـ الأردن ـ موريتانيا)، إضافة للتعاون التجاري (مكاتب التمثيل التجاري المتبادلة مع تونس وقطر وعُمان)، والعلاقات التاريخية المغربية مع الكيان، إضافة لبوادر علاقات جزائرية ـ صهيونية، ولم يعطل تطور تلك العلاقات الصهيونية ـ العربية، إلا انتفاضة الأقصى، والضغوط الشعبية الداخلية الرافضة لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، إلا أنه رغم ذلك فهناك دلائل على التباطؤ الرسمي في مواجهة الكيان الصهيوني منها:
1 - التخاذل في دعم انتفاضة الأقصى حتى على المستوى المالي.
2 - إخفاق اجتماع لجان المقاطعة التابعة للجامعة العربية، وأول مرة يجتمع العدد اللازم لانعقادها على مستوى الخبراء في دمشق يوليو 2001م، وليس المندوبين الممثلين رسمياً لدولهم بحضور 13 دولة وغياب دول أخرى كلها ترتبط بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة بالكيان الصهيوني.
3 - توقيع 12 دولة عربية على معاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية، والتصديق علىها عدا: الأردن، الجزائر، البحرين، الكويت، موريتانيا، والمغرب، وعمان، وقطر، والسعودية، وتونس، والإمارات، واليمن، رغم عدم توقيع إسرائيل حتى الآن على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي وقعت علىها الدول العربية، وهو الأمر الذي يوضح الفجوة بين تعريف الجامعة للأمن العربي من ناحية، والاهتمامات الفعلىة للدول العربية من ناحية ثانية.
4 - حتى المناورات العسكرية العربية المشتركة تكون محدودة العدد والعتاد، وأكبرها دائماً تكون بمشاركة أجنبية خاصة الأمريكية، كمناورات النجم الساطع بمشاركة: (مصر، والإمارات، والكويت، والأردن)، إضافة للولايات المتحدة، ومناورات مرجان: (مصر، والسعودية)، وفيصل (مصر، والسعودية)، وكلها حديثة العهد ومحدودة الأسلحة.
ثانياً: المجال الاقتصادي:
رغم أن الجامعة العربية قد تكون أولى المنظمات الإقليمية التي وقعت على معاهدة للتعاون الاقتصادي (معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي 1950م)، إلا أن الواقع العربي الآن يؤكد أن أضعف الروابط الاقتصادية الإقليمية هي المنطقة العربية.
وقد تشكلت العديد من الهيئات التابعة للجامعة، وتم التوقيع على كثير من المعاهدات الخاصة بهذا الشأن، ومنها اتفاقية الوحدة الاقتصادية 3/6/1957م، والتي نصت في مادتها الأولى على أن «تقوم بين دول الجامعة العربية وحدة اقتصادية كاملة تضمن بصورة خاصة لتلك الدول ولرعاياها على قدم المساواة حرية انتقال الأموال والأشخاص، وتبادل البضائع والمنتجات، وحرية الإقامة، والعمل، والنقل، والتملك، والوصية، والميراث».(36/249)
وفي 13/8/1964م وافق مجلس الوحدة الاقتصادية على قيام السوق العربية المشتركة التي وقعت على اتفاقيتها 4 دول: الأردن، وسورية، والعراق، ومصر، ثم انضمت إلىها: ليبيا وموريتانيا واليمن بإجمالي 120 مليون نسمة في الدول السبع عام 1995، وتم وضع جدول أو خطة لتخفيض الرسوم الجمركية بين دول الاتفاقية، وبعد خمس سنوات تبدأ عام 1970م تنتهي بتوحيد الرسوم الجمركية تجاه الدول الأعضاء على خمس مراحل.
ومع عدم تنفيذ اتفاقية السوق ولمحدودية عدد الدول المنضمة إلىها، وقرارات عدد من القمم العربية وأهمها قمة عمان 1980 التي وضعت استراتيجية للعمل الاقتصادي العربي المشترك؛ إلا أنها تعثرت في التطبيق كذلك، وتم التوصل عام 1997 الاتفاق على إقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى على أن يبدأ تنفيذها من يناير 1998م لمواجهة تطورات التجارة العالمية في ظل اتفاقية الجات، إضافة لتزامن ذلك الإعلان مع تطبيق معظم الدول العربية لبرامج الإصلاح الاقتصادية والهيكلية باتجاه تحرير هياكل الأسعار، والعمل بآلية السوق، وفي ضوء ذلك أصدرت القمة العربية بالقاهرة 1996م تكليفاً للمجلس الاجتماعي والاقتصادي بالإسراع في إقامة منطقة التجارة الحرة العربية خلال عشر سنوات يتم خلالها خفض الجمارك البينية بنسبة 10% كل عام للوصول لمنطقة التجارة العربية الحرة الكبرى عام 2007م، إلا أنه ومع مرور 4 أعوام على بدء تنفيذ الإعلان، واجهتها معوقات بطء إجراءات التنفيذ والبيروقراطية، والسياسات الاقتصادية التي تحكمها النظرة المالية الجزئية، وسلسلة الحواجز الجمركية، وغير الجمركية التي ما زالت يحتمي خلفها عديد من القطاعات الاقتصادية، إضافة إلى انخفاض مستوى الخدمات المصاحبة للتجارة العربية البينية كالنقل البري، والجوي، والبحري، والخدمات المالية، والمصرفية، والاتصالات، والمعلومات، وتعقيدات الإجراءات الحدودية، والجمركية والترانزيت.
ومن ثم فلم يصل الخفض في الجمارك إلى 40% خلال عام 2000م، كما هو مفترض، وذلك بسبب القيود السابقة السالف ذكرها.
* هل يمكن التطوير ؟
تم طرح العديد من الأفكار في الماضي لتطوير عمل الجامعة العربية قد يكون أبرزها اتفاقية الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي الموقعة عام 1950م، والتي اعتبرها البعض بمثابة تعديل أو تطوير لميثاق الجامعة، إلا أن كل جهود الجامعة لتطوير وتفعيل دورها في العمل العربي المشترك سواء السياسي، أو الاقتصادي، أو الأمني يتوقف على عوامل ثلاثة:
العامل الأول: ميثاق الجامعة ذاته: حيث يقيد الميثاق قدرات الجامعة على التحرك، ويصر على استقلالية الدول المنضمة، واتخاذ القرارات بالإجماع قبل قمة القاهرة 2000م التي عدلت الميثاق لاتخاذ القرارات بالتوافق العام، وهي حد من قدرة الأمين العام على الحركة والتدخل دون طلب مسبق في الأزمات العربية - العربية المشتركة، والتي يقتصر دوره غالباً على الوساطة.
العامل الثاني: هو الواقع العربي ذاته: فكلما سيطرت الطبيعة التعاونية على الواقع والنظام العربي خاصة في ظل وجود تهديد خارجي قوي تكون قدرة الجامعة أكبر على التحرك، واتخاذ القرارات التي تنطق، وأهمها حرب 1973م، والتي نفذت معظم قرارات الجامعة بشأنها ومنها: استخدام سلاح البترول ضد الدول المؤيدة للكيان الصهيوني، كذلك في قمة بغداد 1977م بتجميد عضوية مصر لدخولها مفاوضات سلام، وتوقيع اتفاقية سلام مشتركة مع الكيان الصهيوني.
كما أنه عندما يغلب الطابع الصراعي على العمل العربي المشترك يتم شل حركة الجامعة، ومحاولة التأثير على قراراتها لصالح أحد أطراف النزاع أو مجموعة دول معينة.
وبدأ ذلك مع الغزو العراقي للكويت عام 1990م، ثم مؤتمر مدريد 1991م، والذي أنهى رسمياً فكرة الحرب في الصراع العربي - الصهيوني، وتم إجراء كل مفاوضات التسوية المتعددة أو الثنائية خارج إطار الجامعة.
إلا أنه مع اندلاع انتفاضة الأقصي، وتزايد الخطر الصهيوني مرة أخرى على الأمن العربي، خاصة مع قدوم أرييل شارون - رئيساً للحكومة الصهيونية في مارس 2001م بدأ التعافي يعود للجامعة مرة أخرى مع قرارات قمة القاهرة أكتوبر 2000، التي أقرت آلية انعقاد القمة العربية سنوياً، وقمة عمان مارس 2001م، التي فوضت الأمين العام في وضع خطة التطوير للجامعة ثم قمة بيروت مارس 2002م، ثم قمة شرم الشيخ مارس 2003م.(36/250)
العامل الثالث: طبيعة شخصية الأمين العام: والتي غالباً لا تخرج عن أحد طابعين: فإما أن يعمل في إطار الميثاق، أو يعمل في إطار أقل منه، ويغلب علىه الخمول في العمل، خاصة إذا كان المحيط العربي مثبطاً (أكبر مثال الفترة من 1991 - 2001م)، أما الطبيعة الثانية فهي الطبيعة الحركية، والتي تعمل على تفعيل الميثاق والحركة خارجه، ومحاولة تطويره ليزيد من قدرة الأمين العام، بل الحركة خاصة إذا كان المحيط العربي مشجعاً؛ وأبرز مثال على ذلك هما: الأمين العام الأول للجامعة العربية عبد الرحمن عزام (1945 ـ 1952م)، الذي كان على درجة وزير مفوض، إلا أن جهوده امتدت حتى الدول الإسلامية ذاتها؛ وذلك بقرار الجامعة الشهير حينئذ بتبني قضية حرية واستقلال إندونيسيا، ودعا إلى استقلالها، وطرح هذا الأمر أمام الجامعة التي كانت أول منظمة دولية تعترف باستقلال إندونيسيا، فضلاً عن تولي عزام لهذه القضية أمام الأمم المتحدة.
أما النموذج الثاني فهو الأمين العام الحالي السيد عمرو موسى الذي تولى الأمانة العامة في 16/5/2001م في ظل ظروف عربية مواتية لدور أكبر للجامعة، إضافة لطبيعته الحركية والدؤوبة، والذي وضع خطة للنهوض بالجامعة، وتفعيل دورها استناداً لتفويض قمة عمان له في ذلك.
* واقع جديد:
إلا أن التطورات العربية الأخيرة والتي تمثلت في الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني للعراق، وانتقاد بعض الدول العربية لأداء الجامعة العربية وأمينها العام أثناء الأزمة؛ حيث اتهمها البعض ممثلة في شخص أمينها العام بالانحياز للعراق (الموقف الكويتي خاصة) بينما اتهمها البعض الآخر بالشلل أمام الأزمات العربية الكبرى (بعض المراقبين إضافة لدول مثل ليبيا) طرحت مرة أخرى قضية تطوير الجامعة العربية على المستوى العربي مرة أخري، وهنا تم إثارة عدد من مشاريع التطوير منها مشروع الأمين العام عمرو موسي الذي طرحه منذ تولى الأمانة العامة للجامعة، ومشروع مصري في إطار البلورة، إضافة لأطروحات سعودية وسودانية وقطرية وليبية للتطوير لم تحدد معالمها بعد.
* رؤية مستقبلية:
التطورات المتلاحقة أخيراً في العراق والواقع العربي عامة طرحت بقوة مستقبل الجامعة العربية والنظام العربي بصفة عامة والتي تتمثل في عدد من الاحتمالات أهمها:
1 - بقاء الوضع على ما هو علىه باستمرار الجامعة على وضعها الحالي وطبقاً للميثاق الذي يحكم عملها ومرور (الزوبعة) الحالية عن مستقبل الجامعة مثل سابقاتها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991م.
2 - احتمال إيجابي بأن يتم الشروع في تنفيذ أي من مشاريع التطوير المطروحة سواء المصرية أو تلك التي طرحها موسى وشرع في تنفيذها منذ توليه الأمانة العامة منذ عامين، مع أهمية الإقرار بأن مشروعات التطوير نفسها تعمل في ظل أطر ومسلَّمات هي من صلب ميثاق الجامعة وتمثل في حد ذاتها عائقاً لا يمكن تجاوزه لتحقيق مستوى إيجابي من التعاون العربي، أضف إلى ذلك المعطيات الواقعية والتي لن تجعل لمشاريع التطوير أثراً حقيقياً.
3 - استمرار الوضع الحالي للجامعة مع نشأة بدائل إقليمية جديدة تحقق المطالب الامريكية على وجه الخصوص.
وهنا تبرز أزمة شرعية النظام العراقي الجديد ـ تحت الاحتلال ـ ومدى إمكانية تمثيله في الجامعة مما يضع الجامعة في مأزق إذا قبلت الحكومة الجديدة أو رفضتها؛ ففي حالة القبول سيتم تأصيل مبدأ عربي جديد بقبول الأنظمة غير الشرعية والمفروضة من قوى اجنبية، أما إذا تم الرفض فسيكون المأزق في مواجهة القوى الدولية الكبرى خاصة الولايات المتحدة، ويزيد الوضع سوءاً إذا اعترفت الأمم المتحدة بالنظام الجديد.
وهو الأمر الذي جعل موسى يؤكد في رده على سؤال أحد الصحفيين أثناء وجوده في الدوحة هذا الشهر حول مستقبل النظام العربي قائلاً: «النظام العربي مهدد بالفعل بشكل كبير، وعلىنا أن نفعل كل ما نستطيع لإنقاذه، وفي الوقت نفسه العمل على تطويره».
ويمكن أن يكون الوضع المتوقع بمحاولة أمريكية لتطبيق النموذج الأوروبي على المنطقة العربية؛ وذلك بالسماح للدول العربية بتطوير علاقاتها الاقتصادية؛ لأن ذلك يخدم المصالح الأمريكية؛ مع انفراد الولايات المتحدة بوضع الخريطة الأمنية للمنطقة بما يحقق مصالحها الأمنية في المنطقة وهي بالأساس:
- استمرار احتلالها للعراق - استمرار وجودها العسكري في الخليج قريباً من منابع النفط.
- حماية أمن الكيان الصهيوني وردع أي دولة تهدده بالوجود القوي والقريب للقوات الأمريكية في المنطقة العربية.
ويمكن تطوير ذلك بإنشاء حلف عسكري (أمريكي - صهيوني - تركي - عراقي) في المنطقة يتم فيه ضم الدول الصديقة، واستبعاد وتهديد الدول والمنظمات المعادية للوجود الامريكي - الصهيوني في المنطقة على غرار حلف بغداد في خمسينيات القرن العشرين الميلادي أو نموذج الاتحاد الأوروبي (اقتصادياً) وهيمنة أمريكية (عسكرية) على أوروبا في الوقت ذاته من خلال حلف شمال الأطلنطي.(36/251)
4 - الاحتمال الرابع والأكثر تشاؤماً وهو إلغاء الجامعة العربية مقابل مزيد من التفتيت للنظام العربي أو للدول العربية، وتطبيق خطة سايكس ـ بيكو أمريكية جديدة للمنطقة العربية تقوم على مزيد من التفتيت والإضعاف مقابل مزيد من الهيمنة والقوة والسيطرة الأمريكية ـ الصهيونية علىها؛ خاصة في ظل توقف وتهديد بعض الدول عن دفع حصتها المالية في ميزانية الجامعة، وتهديد البعض الآخر بالانسحاب من العضوية بين الفينة والأخرى (أهمها ليبيا)، وخلافات بعض الدول المتزايدة مع الجامعة بالخلط المقصود أو غير المقصود بين الخلاف مع أمين عام الجامعة ـ عمرو موسى ـ وبين الجامعة كمؤسسة أو منظمة كمسوغ للتهديد بالانسحاب أو تجميد العضوية أو وقف دفع الحصة المالية في ميزانية الجامعة إضافة لتزايد مشاكل عضوية بعض الدول لمشاكل واضطرابات داخلية (جزر القمر ـ الصومال) أو لفرض حكومات أو إدارات غير شرعية من قِبَل الاحتلال المباشر الأمريكي ـ في العراق ـ والصهيوني ـ في فلسطين -.
* دلالات هامة:
ما يتعرض له النظام العربي حالياً ـ الذي هو جزء من نظام إسلامي أكبر ـ من محاولات أمريكية دؤوبة مباشرة أو بالوكالة لتفتيته وإضعافه تثير عدداً من الدلالات الهامة منها:
1- أننا في إطار حديثنا عن النشأة الضعيفة والأهداف التاريخية التي وصفها البعض بالمشبوهة لإنشاء الجامعة العربية يجب التفرقة بين القومية كمبدأ علماني مرفوض والانتماء والتعاون العربي المنشود كجزء من انتماء وهدف منشود أكبر وهو الوحدة الإسلامية.
2 - إن هذا الفشل المتوالي والمتراكم ـ بإرادتنا أو بالضغط علىنا ـ للنظام العربي تؤكد إخفاق القومية كأساس للانتماء مقابل أهمية الإسلام كأساس للانتماء والتعاون والتعاضد؛ خاصة في مقابل حرب مفروضة علىنا تحت شعارات ورؤى دينية نصرانية أو يهودية، وهذا يؤكد على أن كل الأطروحات القائمة على منطلقات قومية علمانية لن تقدم للأمة سوى مزيد من الخذلان والتراجع، ويكفي أن التيار الغالب في الإدارة الأميركية الحالية يدفع بالمنطلقات الدينية إلى الواجهة، وبدون مواربة.
---------------
هل سبب الحرب اقتصادي؟
وما الآثار المترتبة على دول المنطقة؟
د. أحمد علي الغامدي
* مقدمة لا بد منها:
نقل عبد الوهاب بدرخان في عدد الحياة بتاريخ 24/4/2003م كاريكاتيراً عن جريدة «هيرالد تربيون» التي تصدر في شيكاغو بالولايات المتحدة، وفي هذا الكاريكاتير يظهر رجل أمريكي يحدّث نفسه قائلاً: العراق ثم سوريا نزولاً إلى الأردن ثم السعودية ومنها إلى إيران، وعودة إلى أفغانستان إحياءً للزمن السابق، فتنظيف باكستان والهند ثم الصين ومنها إلى كوريا الشمالية، عودة إلى روسيا ومنها مباشرة إلى أوروبا القديمة.
ويأتي سؤال من خارج الصورة: ماذا عن خريطة الطريق؟ ويأتي الجواب: هذا ما كنت أبحث عنه!!
الكاريكاتير يرمز إلى السياسة الخارجية الأمريكية، ويرسم صورة لمبادئها الاستراتيجية، ومعلوم أن فن الكاريكاتير يركز على عناصر محددة من رسالته ويضخمها، وعليه فقد يقول قائل: هذا ضرب من الخيال. وقد يكون كذلك، ولكنه بالتأكيد يعطي طرفاً من الصورة كما سوف يتضح لاحقاً.
هناك تطور آخر دقيق في السياسة الخارجية الأمريكية بدأ بالظهور في أواخر التسعينيات، وتبلور في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. ويتلخص هذا التبلور في عدم رضا المحافظين الجدد عن السياسة القائمة على بناء تحالفات مع قوى إقليمية مختلفة، والاستناد عليها في تحقيق المصالح والأهداف المختلفة، ورغبتهم في تجاوز ذلك إلى مباشرة تحقيق المصالح والأهداف بالآلة الأمريكية. وقد نشر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في نشرته رقم [1] يناير 2003م كلاماً صريحاً بهذا الخصوص لـ «بول ولففيتز، وكونداليزا رايس» وغيرهم من كبار المحافظين الجدد.
وليس غريباً أن يأتي في هذا السياق اختيار بول بريمر ليكون رئيساً للإدارة المدنية للعراق، وبريمر هو المنظِّر الرئيسي لفلسفة الضربات الاستباقية، وقد شغل وظائف عدة عالية في ميدان مواجهة الإرهاب، وخاصة من هذا المنظور؛ على الرغم مما يكتنفه مفهوم الإرهاب من عدم التحديد للمدلول.
ونقطة أخيرة في هذه الاستراتيجية الجديدة والتي تؤكدها الإدارة الأمريكية الحالية، وإن كانت قد بدأت أثناء الإدارة السابقة، وهي سعي الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى حماية المصالح الأمريكية على المستوى العالمي بالطرق المختلفة، ومن هذه الطرق:
- منع تطور أي أنظمة تستند إلى أسس عقائدية، وخاصة في الشرق عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً.
- ومن ذلك تصدي الولايات المتحدة لقيام تحالفات بين الصين وبعض الدول الإسلامية، وغير ذلك مما لا يخفى. (وقد كتب نعمان الرياني تقريراً مفصلاً في الأهرام الاقتصادي ـ الأسبوع الأخير من أبريل 2003م، فيمكن الرجوع إليه).
هذه مجرد لمحة عن بعض العناصر المهمة للسياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الحاضر؛ لا بد من استحضارها في الذهن عند الحديث عن الحرب على العراق.
* الأسباب:(36/252)
1 - مهما حاولت أن تتهرب من إدراك تأثير البعد الاستراتيجي والسعي إلى الهيمنة في ظل أحادية القوة في الحرب؛ فلن تفلح، فالتأثير أساسي وجوهري، ولكنه عامل مشترك في هذا الموضوع وفي موضوعات أخرى، ولعله يكفي ما ذكرنا في المقدمة عن هذا الشأن؛ رعايةً للمساحة المخصصة للموضوع، وأستثني من ذلك مقالة طريفة كتبها «نورمان ميللر» في جريدة الفاينانشال تايمز اللندنية المرموقة، وترجمتها جريدة البيان الإماراتية في عددها الصادر في 6/5/2003م، وتتلخص في أن القلاع الأمريكية الثلاث الكبيرة، وهي (قطاع الشركات، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، والكنيسة)؛ قد منيت بفضائح منفصلة كبيرة شوهت سمعتها، ولأن الإدارة الأمريكية لن تستطيع حل أي من هذه المشكلات؛ فكان لا بد من مغامرة كبيرة تعيد شيئاً من كبرياء «الذكر الأمريكي الأبيض (ضد الأنثى)» التي سقطت، ولذا كان المخْرَج هو الحرب، وحيث إن «الذكور البيض» يسيطرون على القوات المسلحة؛ فانتصارهم سيعيد هذا الكبرياء إلى «الذكر الأبيض» ويحقق هيمنة جديدة، ومن ثم فالسؤال عن «سبب الحرب» جوابه: لأننا بحاجة إلى ذلك؛ حيث إن الأسباب المعلنة كلها تسقط عند أي محاولة جادة لفحصها.
2 - مع الأخذ في الحسبان السبب السابق وعدِّه سبباً عاماً؛ فالسبب الخاص والمباشر هو (النفط).
والحديث عن النفط ذو شجون، ولكن يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
هناك تحليلان رئيسان للتأثير النفطي:
أ ـ الأول: مارست الأوبك دوراً فاعلاً في السوق النفطية في السنوات المتأخرة، فعند انهيار أسعار النفط في آخر التسعينيات واجهت الدول المنتجة للنفط مصاعب اقتصادية بالغة الصعوبة، وانعكس ذلك على برامجها التنموية، وما يصاحب ذلك من تداعيات اجتماعية وأمنية وربما حتى سياسية، وواجهت الدول المعتدلة، والتي كانت تتبع سياسة المحافظة على سعر معتدل، معضلة كبيرة؛ فإما أن تظل تساهم في الحفاظ على السعر المنخفض، وظروفها الاقتصادية لا تسمح لها بذلك. وإما أن تسعى إلى دعم السعر؛ مما قد يثير حفيظة الدول المستهلكة الرئيسة. ونجحت مساعي الأوبك في وضع مجال سعري معقول للدول المنتجة والمستهلكة، ونجحت أيضاً في دعم هذا المجال السعري والمحافظة عليه، سواء بخفض الإنتاج إذا انخفض السعر عن الحد الأدنى، أو بزيادة المعروض النفطي إذا زاد السعر عن الحد الأقصى. ولكن هذا النجاح لم يرق للمستهلك الرئيسي، وخاصة الأمريكي الذي راقه أن يكون السعر عند 13 ـ 14 دولاراً للبرميل، وبالتالي ساءه أن يكون السعر عند 25 ـ 26 دولاراً.
وفي ظل هذه الظروف، مروراً بالملابسات التاريخية والأحداث التي عاشها العراق خلال العقد الماضي، كان النفط العراقي يشكل بريقاً شديداً يثير شهوة المستهلك الأمريكي.
إن وقوع النفط العراقي تحت السيطرة الأمريكية قد يؤدي إلى خروج العراق من الأوبك؛ مما سيشكل شرخاً كبيراً في الأوبك ويضعف فاعليتها في التأثير في سعر النفط في السوق العالمية. وحتى لو لم تخرج العراق من الأوبك؛ فإنها ستضغط بكل الوسائل لزيادة إنتاجها حتى لو لم يرق ذلك لأعضاء الأوبك، وستزيد كمية النفط المعروض بشكل ملحوظ، وستنخفض الأسعار إلى مستويات تاريخية، ويتخلص المستهلكون الرئيسيون من إزعاج الأوبك السعري أو من جزء كبير منه.
ب ـ التحليل الثاني: أنه في فترة الحصار الطويل على العراق وعدم إقدام كثير من الدول الغربية على الاستثمار في مشاريع أساسية في العراق؛ فقد قام النظام العراقي بتقديم امتيازات وإغراءات نفطية كبيرة للشركات الفرنسية والصينية والروسية التي كانت تعمل في الاقتصاد العراقي، وقد كانت هذه الامتيازات جذابة، ولم تنل منها الشركات الأمريكية أو البريطانية شيئاً بحكم الحصار المفروض على العراق، وفي ظل جاذبية النفط العراقي ـ كما سيرد لاحقاً ـ وظل الشهوة المتفاقمة للسيطرة على مصادر الطاقة، وظل الملابسات التاريخية والاستراتيجية المذكورة أعلاه؛ تتضح أهمية موقع النفط في دائرة الحرب.
فالنفط العراقي جذاب لأن:
1 - المخزون الثابت للنفط العراقي يزيد عن 112 مليار برميل، وغير الثابت أكثر من ذلك بكثير، وقد ساهم الحصار في عدم زيادته، وعندما ينتهي الحصار وتستأنف أعمال البحث والتنقيب بجدية؛ فقد تزيد كمية الثابت بنسبة كبيرة.
2 - أن نفط العراق من أرخص نفط العالم؛ إذ تبلغ تكلفته بين (1 إلى 1) دولار للبرميل الواحد، وتبرز أهمية هذا العامل إذا عُلم أن انخفاض سعر البترول إلى قريب من عشرة دولارات؛ يُخرج كثيراً من المنتجين الأمريكيين وبعض الأوروبيين من السوق؛ لأن إنتاجهم حينئذ يكون غير مُجْد.
3 - أن كل دولار يتغير به سعر النفط ينعكس بما يعادل 4 مليارات دولار على الاقتصاد الأمريكي.
4 - أن أمريكا لم تعد في مقدمة الدول ذات المخزون النفطي المرتفع، وإنما أصبحت في ذيل القائمة.
5 - أن عدداً من الدول المصدرة والمؤثرة حالياً في سوق النفط ستتحول قريباً إلى دول مستهلكة للنفظ، ومنها بريطانيا، والنرويج، وفنزويلا، وليبيا.(36/253)
6 - تشير دراسات دقيقة إلى أنه بالإمكان أن يبلغ إنتاج العراق قرابة ثلاثة ملايين برميل يومياً بنهاية العام الحالي، كما تشير إلى أن الإمكانات الطبيعية للإنتاج تتراوح بين 10 ـ 15 مليون برميل يومياً، ولكن ذلك يحتاج إلى استثمارات ضخمة، وإلى عدة سنوات من العمل الدؤوب في التجهيز الميداني لذلك.
وأخيراً؛ فإذا تصورنا الموقع الجغرافي للنفط العراقي الذي يقع شمال بترول الخليج الذي تحتفظ أمريكا بعلاقات مميزة مع دوله، ويقع جنوب نفط بحر قزوين الذي ما زالت أمريكا تسعى لتحصل منه على حصة الأسد، وقد تحقق لها ذلك.. وما زال الجهد مستمراً، إذا تصورنا هذا الموقع الجغرافي؛ تبين لنا ازدياد أهمية النفط العراقي الذي يقع في قلب مركز الاحتياط النفطي الرئيس في العالم.
وإذا وضعنا في تقديرنا حجم الاستهلاك المتزايد للطاقة، وأهمية ذلك للاقتصاد العالمي والأمريكي بوجه خاص نظراً لضخامة الكميات المستهلكة، وما يستتبع ذلك من النمو والاستقرار في العالم، وإذا وضعنا في تقديرنا أن البدائل الأخرى للطاقة عوضاً عن النفط ما زالت تتدهور يوماً بعد يوم، فالطاقة النووية باهظة التكاليف، معقدة التقنية، وبالغة الخطورة، ويتضح ذلك جلياً في تراجع هذا الخيار بعد حادثتي «تشيرنوبل» و «ثري مايل أيلاند»، والطاقة المستخرجة من الفحم على الرغم من توفرها في أماكن من العالم لكن آثارها البيئية أفقدتها كثيراً من أهميتها؛ مما أدى إلى تراجع التقدم التقني في هذا الميدان، أما الطاقة الشمسية فما زالت في البدايات.
من كل هذه المتغيرات مجتمعة؛ تظهر أهمية النفط بصورة جلية، وأهمية النفط العراقي في دائرة الحرب.
* الآثار:
أي حرب لا بد أن تترك آثاراً في الأطراف المباشرة لها، وقد تترك آثاراً في الأطراف غير المباشرة، وفي إطار حديثنا السابق؛ فسوف نتطرق للآثار الاقتصادية فقط، والآثار الواقعة على الدول المجاورة من الناحية الجغرافية لمسرح الحرب؛ إذ إن الآثار الاقتصادية تنصب في مجملها على تلك البقعة الجغرافية التي تشمل العراق بطبيعة الحال باعتبارها مسرح الحرب، ودول الخليج باعتبارها ملاصقة لمسرح الحدث ولا بد أن تطولها الآثار، وكذلك كل من سوريا ولبنان والأردن وكذلك مصر، أما الدول العربية الأبعد عن مسرح الحرب؛ فآثار الحرب المباشرة عليها قد لا تكون جوهرية. وأما إيران فعلى الرغم من مجاورتها ولكن علاقاتها الاقتصادية مع العراق قبل الحرب كانت محدودة، ولذلك آثرنا عدم الخوض في الحديث عنها، ولشح المعلومات المتوفرة في هذا الشأن من جهة أخرى.
1 - العراق:
آثار الحرب الاقتصادية على العراق لا يكاد يخلو منها ميدان من ميادين الاقتصاد، فقد طالت مجال الصناعة والزراعة والتجارة والاستثمار والبطالة واستقرار العملة وغير ذلك، ولكن في إطار حديثنا المقتضب هنا بما يتناسب مع المطبوعة، فسنقصر الحديث على الجوانب العريضة جداً ذات العلاقة.
أ ـ مع الأسف فالعراق من الدول المرهقة جداً بالديون:
إذ يتجاوز حجم الدين العراقي مائتي مليار دولار، وهذه المبالغ ليست نتيجة الحرب، بل للوضع الاقتصادي الذي كانت تعيشه العراق قبل الحرب؛ مما سيفاقم الآثار المترتبة على الحرب كما سيظهر لاحقاً.
ب ـ الخسائر المباشرة:
وهي المترتبة على التجهيزات العسكرية، والبنى التحتية الاقتصادية من كهرباء واتصالات ومرافق وغيرها، ومئات الألوف الذين فقدوا عملهم الذي قد لا يعود إليهم. والخسائر في هذه المجالات لا يوجد لها أي إحصاءات، ولكنها بالتأكيد قد تتجاوز عشرات المليارات إلى مئاتها، وهنا يضيف عبئاً آخر ثقيلاً على عبء الدين الوارد في الفقرة السابقة.
ج ـ تكاليف الإعمار سوف تكون باهظة جداً لأنها:
1 - تغطي تكاليف إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وهذا بمفرده يحتاج إلى ميزانيات ضخمة.
2 - تغطي تكاليف إعادة إعمار البنى التحتية المهترئة التي أفنتها سنوات الحصار الطويلة.
3 - تغطي تكاليف البرامج التنموية الضرورية لانطلاق مستوى معقول من الحياة الإنسانية.
4 - تغطي تكاليف أو على الأقل بعض تكاليف الإدارة الأمريكية أو الدولية التي تدير شؤون العراق إلى أن تنتهي مهمة هذه الإدارة، وهذا البند بمفرده يحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات.
د ـ تجدر الإشارة هنا إلى أن الإدارة الأمريكية كانت واضحة وصريحة في حصرها حق العمل في إعادة الإعمار على الشركات الأمريكية فقط، وعلى الشركات البريطانية على استحياء:(36/254)
وقد حاولت فرنسا وألمانيا وروسيا الضغط على أن تكون مهمة الإعمار من شأن الأمم المتحدة، وباءت كل تلك المحاولات بالإخفاق؛ إذ ما زالت الإدارة الأمريكية في العراق تصر بشدة على أن دور الأمم المتحدة سوف يقتصر على الجانب الإنساني فقط، ولن تسمح لأولئك الذين عارضوها في مجلس الأمن بالمشاركة الاقتصادية، بل لقد سدت الباب عليهم وعلى غيرهم، وقد بدأت الإدارة الأمريكية في العراق في تنفيذ ذلك الموقف فقامت بترسية أول عقودها على شركة «بكتل» الأمريكية بمبلغ ستمائة وخمسين مليون دولار لأول أعمال إعادة الإعمار، وتدور أحاديث كثيرة عن حصول شركة «هالبيرتون» التي رأسها ديك تشيني خلال المدة 1995 ـ 2000م على عقد ضخم لإنتاج وتوزيع النفط العراقي محلياً، وكذلك إطفاء حرائق النفط وإعادة إعمار منشآته. وتشير التكهنات إلى أن قيمة هذا العقد قد تصل إلى سبعة مليارات دولار (انظر التفاصيل في جريدة الوطن السعودية عدد 951)، أما عقود الكهرباء والاتصالات وإعادة بناء المطارات وغيرها فما زالت في الطريق، والحريص على معرفة مصير هذه العقود فعليه متابعة الصحافة العالمية التي تتابع أخبارها أولاً بأول، والتي لا يتوقع أن تتاح لغير الشركات الأمريكية حسب التوجه الصريح المعلن بهذا الخصوص.
أما نفقات الحرب التي تكبدتها الخزانتان الأمريكية والبريطانية ـ وهي ليست بيسيرة ـ، فحتى إن تحملتها الدولتان فلا يعتقد أنها سوف تتحمل نفقات بقاء هذه القوات إلى أن تنتهي المهمة التي رسمتها لها حكومتها. وهذه النفقات يقدرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بمبلغ يتراوح بين 20 ـ 50 مليار دولار في السنة، وهذه التقديرات مبنية على تجارب سابقة للقوات الأمريكية في البوسنة والهرسك واليابان وكوريا، وعليه فيتوقع أن تكون تكاليف الإدارة الأمريكية للشأن العراقي في المدى القصير بين 100 ـ 150 مليار دولار، ترى هل يعقل أن يتم تحميل دافع الضرائب الأمريكي هذا المبلغ؟!
هـ ـ في ضوء هذه التكاليف المتنوعة لتغطية آثار الحرب؛ فمهما بلغ إنتاج النفط العراقي، ومهما بلغت عائداته وتم إنفاقها بأسلوب أمثل؛ فإن هذه التكاليف ستستهلك مدة تتراوح بين 10 ـ 15 سنة قادمة:
لذلك فإن الرخاء الاقتصادي ـ حتى الجزئي ـ ما زال بعيد المنال، ولكن مع ذلك يجب أن نشير إلى جزئية أخرى هنا، وهي أن أعمال إعادة الإعمار ورفع الحصار، وبالتالي فتح باب التبادل التجاري مع الخارج ستوجد ورشة عمل ضخمة في السوق العراقي، يتوقع أن ينعكس أثرها إيجاباً على فرص العمل للأفراد والمؤسسات في الاقتصاد العراقي، وكذلك الآثار المتوالية لذلك لزيادة الدخل وانعكاسها على الطلب المحلي والعالمي، وعليه فيتوقع أن يخرج وجه إيجابي جديد للاقتصاد العراقي، ولكن هذا الوجه لن يكون فاتناً كثيراً لشدة الإجهاد الذي يجب علاجه قبل أن تظهر تلك الفتنة، والتي لا يتوقع أن تظهر قبل مدة تقل عن عشر سنوات، هذا إن سارت الأمور على ما يرام.
و ـ نقطة أخيرة في هذا الباب، وهي أن العراق باعتباره دولة نفطية فلا يتوقع أن هناك مساعدات دولية لإعادة إعماره لا من الدول الغربية ولا من غيرها:
وإن وجدت تلك المساعدات فستكون محدودة، ولكن الإدارة الأمريكية دعت الدول الدائنة لإسقاط ديونها عن العراق، ودعت حلفاءها إلى الاستثمار في العراق، وقد عرضت اليابان المتخمة بالثروة المالية والتي تبحث عن قنوات استثمار؛ بعد أن سجلت أسعار الفائدة أرقاماً تاريخية في الانخفاض ـ تقديم استثمارات أو قروض في بعض مجالات الاقتصاد العراقي.
2 ـ دول الخليج:
إذا استثنينا الكويت فدول الخليج لم تشارك في هذه الحرب، ومن ثم فلم يترتب عليها تكاليف مباشرة للحرب باستثناء التكاليف الروتينية لجعل قواتها في حالة تأهب، أو لتغطية تكاليف قوات درع الجزيرة التي رابطت في الكويت، ولم تورد وسائل الإعلام أنها شاركت في الحرب مباشرة.
لكن اقتصاديات دول الخليج تأثرت تأثيراً كبيراً بسبب قربها من الناحية الجغرافية من مسرح الأحداث، وهذا التأثر طال مجالات كثيرة منها مجال النقل الجوي الذي تأثر بشكل واضح، وكذلك النقل البحري، والتأمين، والسياحة، وكذلك القطاع المصرفي، وجاذبية الاستثمار في وجه خاص، وقد تأثر أيضاً أداء القطاع التجاري بشكل خاص، وكان هناك هبوط حاد في المبيعات في قطاعات تجارة الجملة والتجزئة، ولا يكاد يستثنى من ذلك سوق قطاع المواد الغذائية الذي نشط نسبياً تخوفاً من المستهلكين من طول زمن الحرب وتأثر الأسعار بذلك، وهذا القطاع قد يتأثر سلباً بعد أن انتهت الحرب؛ لأن كثيراً من المستهلكين قد قاموا بتخزين كميات من المواد الاستهلاكية.(36/255)