ومثل هذا تماماً يقال عن تعليم الكبار أيضاً. إن الطفل يجد من والديه أو من المسؤول عنه من الرعاية ما يقيه من ارتكاب منكر يكرهه الإسلام ومن التعدي على حدود الشريعة. أما البالغ فهو خلو من هذه المتابعة. إنه غرض مستهدف من قِبَل الدعايات غير الإسلامية داخل الجامعة وخارجها. ففي قاعات الدرس وفي القراءات المقررة تعرض عليه باستمرار أفكار ومبادئ أجنبية باسم العلم والتقدمية. هذه الأفكار وأنماط السلوك غير الإسلامية يزعمون له أنها حقائق علمية وأنها مبينة على حقائق موضوعية. هذا الطالب المسلم قدم إليه الإسلام أيام حداثته من خلال صوت السلطة الوالدية. وقتها لم يكن عقله قد نضج بالقدر الكافي لفهم الدعاوى "الموضوعية" أو تقديرها قدرها. لهذا كان ارتباطه بالموقف الإسلامي ناشئاً عن العاطفة وليس عن اقتناع مدعم بالدليل. وواضح أن التزامه هذا بالإسلام لا يمكن أن يثبت أمام انقضاض الحقائق التي تلبس ثوب "العلمية" و "الموضوعية" و "الحداثة". ولهذا السبب فإن طالب الجامعة المسلم لا يلبث أن يستسلم لهذه الدعاوى العلمانية ويؤمن بها نتيجة لغياب أي عرض لقضايا الإسلام يناهض تلك الدعاوى، مدعوماً بنفس القوة من "الموضوعية" و "العلمية" وبنفس المستوى من "الحداثة". وعلى هذا النحو تبدأ عملية سلخ طلاب الجامعات المسلمين عن دينهم. فبعد أربع سنوات من هذا التأثير التغريبي داخل الجامعة ، والتأثير الآخر الذي يساويه وربما يفوقه، والذي يأتي من وسائل الإعلام أو من قرنائه ومجتمعه، يتم القضاء على الوعي الإسلامي لدى المسلم. ولا عجب بعد ذلك أن يصبح من الناحية الثقافية ماديا متشككا ، لا هو بالمسلم ولا هو بالغربي رغم أنه في وطنه، ويكون على استعداد للسير وراء كل من يلبي له شهواته الآنيّة.
(1) فرض تدريس الحضارة الإسلامية:
إن الترياق الوحيد الممكن القادر على مقاومة عملية السلخ تلك على مستوى الجامعة هو فرض تدريس الحضارة الإسلامية على مدى السنوات الأربع . فعلى كل طالب في الجامعة - بصرف النظر عن التخصص - أن يدرس هذه المادة المقررة. إن كونه مواطناً أو فرداً من هذه الأمة يفرض عليه أن يحصل قدراً حياً ونامياً من المعرفة بتراث الأمة ومن التشبع بروحها وألفة بحضارتها. وكيف يمكن أن يكون مواطناً من لا يمتلك هذه المعرفة؟! وحتى لو كان الطالب ينتمي إلى إحدى الأقليات غير المسلمة ، فإن ذلك لا يجعله في حلّ من تحصيل هذا المتطلب الأساسي. فما دام قد ارتضى هو أو والده أن يكونوا مواطنين في دولة إسلامية، فلابد من توفر المعرفة الضرورية بالحضارة التي ينتمي إليها موطنه وبالروح والآمال التي تزكيه هو ومواطنيه. لا يترك شخص ما دون أن يؤقلم "ثقافيا" و "اجتماعيا" مع الإسلام والمجتمع الذي يعيش فيه. مثل هذه الدراسة هي التي يمكن أن تحصنه ضد الغزو الفكري والعقائدي، إذ تمكنه من أن يقارع الحجة بالحجة والبرهان الموضوعي بمثله. ومثل هذه الدراسة هي وحدها التي يمكن أن تعده ليسهم بأصالة في حياة الأمة الثقافية وتقدمها؛ إذ من خلال هذا المنهج وحده سوف يعرف جوهر الحضارة الإسلامية و "قناعة" الإسلام والطريق التي سوق تسلكها - أو تود تسلكها - الأمة؛ وسوف يعرف أيضا كيف يميز أمته - ونفسه بالتالي - عن الآخرين وكيف يعتز بهذا التميز ويحرص على صيانته وعلى جذب الآخرين للاقتراب منه.(33/427)
إن دراسة الحضارة هي الطريق الوحيدة لتنمية معنى الشخصية في الفرد. وكيف يكون على وعي بذاته من لا يعرف أسلافه؟! أعني من لا يعرف الروح الذي بعثت فيهم الحياة ، وبعثت الحياة في كل ما أنجزوه في ميادين الفنون والعلوم ، وفي حياتهم السياسية والاقتصادية ونظامهم الاجتماعي وتجربتهم الجمالية ، وكيف يكون على وعي بذاته من لا تتحرك مشاعره لآلامهم ومآسيهم أو لأمجادهم وانتصاراتهم ولا تلهمه آمالهم؟! إن الوعي بالشخصية الذاتية لا يتأتى إلا حين يقارن المرء مثل هذه المعرفة بأصوله وتراثه بما يعرفه عن الشعوب والجماعات الأخرى وبحضارتهم. إن معرفة الذات فقط [هي الأساس ] لمعرفة الفرق بينه وبين الآخرين، ليس فقط في المطالب المنفعية ولكن في النظرة إلى الكون وفي الحكم الأخلاقي والروحي. هذا هو المجال الكامل للإسلام : مجال المدنية والحضارة اللتين بناهما الإسلام ونماهما على امتداد العصور، والوصول إلى ذلك لا يتم إلا بدراسة الإسلام وحضارته ثم بالدراسة المقارنة للديانات والحضارات الأخرى. ولكي يكون المرء "عصرياً" في زمننا هذا لابد أن يكون واعيا حضاريا ، أي واعيا بطبيعة تراثه الحضاري وبالروح الذي أوجد مظاهره المختلفة وبما يميزه عن بقية تيارات التاريخ الحضاري وبجاذبيته واتجاهه نحو المستقبل. وبدون هذه المعرفة لا يمكن للمرء أن يكون فعالا في تحديد مصيره، بل لا يمكن يقينا أن تمتد به الحياة في هذا العالم. فالقوى الحضارية المتنافسة في هذا القرن تستطيع - خلافا للماضي - أن تصل إلى أي فرد وتتجاوزه دونما حاجة إلى غزو أو احتلال عسكري لبلاده. يمكنها أن تفسد عقله وأن تحوله إلى وجهة نظر عوالمها ثم تحيده وتحتويه ليصير لعبة في يدها سواء أكان واعيا بهذا أم لا. ومن المؤكد أن هذه القوى تتنافس فيما بينها للسيطرة على العالم . وإحراز الإسلام الظفر غدا أمر يملك المسلمون اليوم البت فيه وفيما إذا كان المسلمون سيصبحون صناعا للتاريخ أو مجرد موضوعات يكتب عنها التاريخ. ومن المؤكد أن المعركة الحضارية الدائرة في العالم اليوم لن تترك أحدا بمنجاة من إصابتها. وكل إنسان لابد له من أن يتأثر بهذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتنافسة ما لم يقم هو نفسه بمعاجلة الحضارة الغازية فيصبح، لذلك، مؤثرا في الآخرين.
إنه لا يليق بالمسلمين أن يعتقدوا أن الحضارة الإسلامية ستبقى حية ما دامت تدرس في أقسام الدراسات الإسلامية ومعاهدها وفي كليات الشريعة أو جامعاتها. والواقع أن إنشاء المسلمين أقساما للدراسات الإسلامية في جامعاتهم لدليل على انحطاطهم ، وأن تلك الأقسام ليست دائما سوى نسخ من أقسام الدراسات الاستشراقية في الجامعات الغربية حيث تكون دراسة الإسلام مجال تخصص لقلة ممن يحتاج إليهم المجتمع لتدبير شؤون علاقاته بالعالم الإسلامي. إن الطريق إلى دراسة الشريعة يجب أن يفتح أمام كل أفراد الأمة، وذلك على الرغم من أن الحاجة إلى متخصصين في الشريعة يقومون بالفصل في الخلافات بين المسلمين ستظل تتطلب ذلك التدريب الرفيع الذي تقدمه كليات الشريعة. إن كل فرد يجب أن يكون لديه علم حيوي بعلوم الشريعة فذلك هو المنهاج المعياري أو منهج الوجود الإسلامي.
زد على هذا أن معرفة الإسلام وحضارته ليست أمراً يخص القلة وحدهم، إذ ليس المتخصصون وحدهم هم الذين يعنيهم التصور الإسلامي أو يحتاجون إليه. إنه لكل البشرية، وقد وضع ليرتفع بكل من أخذوا به إلى مستوى أعلى من الوجود. إن الإسلام ليبغض تفرقة الناس إلى رجال دين ورجال دنيا، ويصر على أن واجب كل الناس أن يعرفوا الحق ويعملوا به ويدعوا إليه. ولذا فالرؤية الإسلامية يحتاجها الجميع لتحميهم من المبادئ الأجنبية التي تغزو وعيهم. ومتى لم يصبح كل فرد محصناً ضد الأمراض، فالضحية هي الأمة ولا شك. أضف إلى هذا أن الإسلام هو الدين الشامل الذي تلائم رؤيته كل نشاط وكل جهد إنساني سواء أكان بدنيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو روحيا. إنه ليس - كالمسيحية أو البوذية - دينا أخرويا فقط يقنع بأمور اللاهوت تاركا ما وراء ذلك لقيصر. ليس هناك ما يمكن أن يقال أو يؤدى في أي متجر أو مصنع أو مكتب أو منزل أو مسرح أو حقل، ومن باب أولي في أي قاعة للدرس أو مختبر، دون أن يكون داخلاً في دائرة اختصاص الإسلام. ومن هنا فإن حصر هذا التصور الإسلامي الشامل في قسم واحد أو كلية واحدة إنما هو بترٌ له ، بل حكمٌ عليه بالموت. هذا التصور يجب أن يكون هو المبدأ الأول الموجه والمسيطر في كل فرع من فروع المعرفة وفي كل مهنة وكل عمل إنساني.(33/428)
إننا نحتاج - بناء على هذا - إلى منهج دراسي يمتد على مدى أربع سنوات ويكون جزءاً من البرنامج "الأساسي" الذي يدرسه جميع الطلاب بصرف النظر عن تخصصاتهم أو مهنهم. ويجب أن يهدف هذا المنهج إلى تعريف الطالب المسلم في السنة الأولي بمبادئ الإسلام كجوهر للحضارة الإسلامية ؛ وفي السنة الثانية إلى التعريف بالإنجازات التاريخية للحضارة الإسلامية كثمرات للمبادئ الأولى للإسلام شهدها الزمان والمكان ؛ وفي السنة الثالثة إلى التعريف بوجوه الاتفاق والافتراق بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى في الجواهر والمظهر ؛ وفي السنة الرابعة إلى التعريف بتفرد الحضارة الإسلامية كخيار حي وحيد لمعالجة المشكلات الأساسية للمسلمين وغير المسلمين في عالمنا المعاصر.
(2) "أسلمة" المعارف الحديثة:
إنها لخطوة عظيمة إلى الأمام إذا ما فرضت الجامعات والكليات في العالم الإسلامي مقررات دراسية إجبارية في الحضارة الإسلامية كجزء من برنامج الدراسات الأساسية لجميع الطلاب. إن ذلك سيمد الطلاب بالإيمان بدينهم وتراثهم وسيزرع في نفوس الثقة بأنفسهم لينهضوا ويواجهوا مشكلاتهم الحالي ، ويتغلبوا عليها ثم ينطلقوا نحو الغاية التي كلفهم بها الله تعالى. لكن هذا لا يكفي.
إن الانطلاق نحو الغاية الإسلامية والعمل على جعل كلمة الله هي العليا في الزمان والمكان لا غنى لهما عن معرفة العالم المحيط بنا. هذه المعرفة هي هدف العلوم المختلفة. وقد وجدنا المسلمين قبل أن يسقطوا في الضعف والنوم يطورون العلوم ويحددون بوضوح علاقة الإسلام بكل واحد منها من حيث القيم والأنظار المتعلقة بالحياة ، وقد نجحوا كذلك في جعلها جزءاً لا يتجزأ من بناء المعرفة الإسلامية . لهذا حققوا إنجازات رائعة في كل الميادين ، كما استخدموا هذه المعرفة بكفاءة ليرتفعوا بمثلهم الإسلامية. وحين ركدت ريح المسلمين قام غير المسلمين فأخذوا تراث العلماء والمثقفين المسلمين وكيفوه مع نظرتهم للحياة وأقاموا على ذلك مختلف العلوم ، وأضافوا إليه مساهمات ذات قيمة ثم استغلوا كل تلك المعارف الجديدة فيما يحقق مصالحهم. واليوم، هانحن نجد أن غير المسلمين أساتذة لكل العلوم بلا منازع. واليوم نجد مؤلفات غير المسلمين وإنجازاتهم ونظرتهم للعالم ومشاكلهم ومثلهم العليا هي التي تدرس للشباب المسلم في جامعات العالم الإسلامي. إن شباب المسلمين اليوم وفي جامعات المسلمين يتم صبغهم بالصبغة الغربية وعلى أيدي الأساتذة المسلمين.
إن هذا الوضع يجب أن يتغير. لاشك في أن على المتخصصين من علماء المسلمين أن يتقنوا كافة العلوم الحديثة وأن يفهموها حق الفهم وأن يصبح في حوزتهم وطوع أمرهم كل ما يمكن أن تقدمه من فوائد. هذا شرط ضروري وأولي... يلي ذلك أن عليهم أن يدمجوا هذه المعارف الجديدة في بناء التراث الإسلامي عن طريق الحذف والتعديل وإعادة التفسير والتكييف لكل مكوناته طبقاً لما تمليه قيم الإسلام ونظرته للعالم. ومن الواجب أن تحدد بوضوح جهة التلاقي و الملاءمة بين الإسلام وفلسفة كل علم ، أعني مناهجه وأهدافه العليا. كما يجب أن تهيأ المثل الإسلامية. وفي النهاية، عليهم كطلائع أن يعطوا من أنفسهم المثل وأن يعلموا الأجيال الجديدة من المسلمين وغير المسلمين كيف يقتفون خطواتهم ويوسعون من آفاق المعرفة الإنسانية ، وأن يكتشفوا المزيد من قوانين الله في الخلق ، ويؤسسوا طرقا جديدة لوضع إرادته وتكاليفه موضع التحقيق في واقع الحياة.
إن مهمة أسلمة المعرفة (أعنى بالتحديد أسلمة العلوم ، أو بمعنى أوضح ، إنتاج كتب دراسية جامعية في نحو عشرين علما طبقا للتصور الإسلامي) لهي من أصعب المهمات. ولا نعرف مسلما من قبل قد درسها بعمق يكفي لإدراك متطلباتها إدراكا واضحا وتحديد خطواتها ومقاييسها التنفيذية. كل ما فكر فيه مصلحونا السابقون هو العمل على اكتساب معرفة الغرب وقوته ، بل إنهم لم يكونوا مدركين لما بين معارف الغرب والرؤية الإسلامية من تناقض. إن جيلنا الحاضر فقط هو الذي أدرك هذا التناقض إذ عاشه في حياته الفكرية. وإن العذاب الروحي الذي صبه التناقض علينا قد جعلنا ننتبه في فزع مدركين تماما لما يحدث أمام أنظارنا من استلاب للروح الإسلامي في جامعات المسلمين ومن هنا نهضنا ننذر العالم الإسلامي ونحذره من الخطر ونضع لأول مرة في التاريخ خطة مفصلة لإيقافه ومقاومة آثاره ثم وضع التعليم الإسلامي من جديد في مساره الصحيح حتى يؤدي إلى غايته المقدرة.(33/429)
ومن المؤسف جداً أن العالم الإسلامي محروم حتى الآن من مركز علمي تتم فيه مناقشة مثل هذه القضايا العليا. إننا بحاجة إلى جامعة تكون بمثابة مركز رئيسي للفكر الإسلامي، فيها تتم عملية أسلمة العلوم ووضع النتائج موضع الاختبار في فصول دراسية وحلقات بحث تتناول مناهج كل من المرحلة الجامعية ومرحلة الدراسات العليا. وقبل أن تبدأ جامعة "إسلام أباد" التعاون مع "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، لم نجد أي معهد تعليمي في العالم الإسلامي قد حرك ساكنا نحو أسلمة المعرفة أو إعداد كتب إسلامية في المواد الدراسية تصلح للاستخدام في الكليات أو حتى إعداد الأدوات الضرورية للبحث من أجل تأليف هذه الكتب. ورغم ذلك، فإن المرء يسمع في كل مكان عن الحاجة إلى أسلمة التعليم: رجاله ومؤسساته، مناهجه وكتبه. وعلى المستوى الرسمي حيث تتوفر قوة اتخاذ القرار، لا يجد المرء أكثر من الكلام الذي يصدر عن الجهلاء أو يستهدف تضليل الجماهير.
إن هذه المهمة هي أنبل المهمات وأسمى تحقيق للإدارة الإلهية وأول الواجبات الأخلاقية وألزمها. إن ديانات العالم ونهضة الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي لم تبدأ نموها وتطورها ولم تنجز ما أنجزت بدون قضية كهذه تمد أتباعها بالحياة والحركة. وأضعف الإيمان أن يقال: إن المسلمين كذلك عليهم أن يعقدوا العزم الأكيد على التضحية بأرواحهم في سبيل قضية إن أرادوا لأنفسهم أن يصبحوا من صانعي التاريخ لا مجرد متأثرين به. ومع ذلك فإن الإسلام ليس واحدا من تلك النظريات يُنْظَم معها في سلك واحد، ولا هو بالذي يعرض دعواه على أنها عقيدة جاءت نتيجة التجربة الشخصية والاختيار الذاتي يجوز أن تتبنى ويجوز أن ترفض بطريقة اعتباطية. إن دعوى الإسلام دعوى عقلية وضرورية ونقدية. إنها ذات صلاحية عالمية ولها على البشرية شرعا حق الاعتراف بها والإذعان لها. فمن جانبها العقلي لا يمكن أن تقابل إلا بالدليل والبرهان وهو ما يجب أن يرحب به من يعتنقها من المسلمين ويرد عليها بالحجة. إن كل مكونات دعوى الإسلام، وكذلك علاقته بكل العلوم لا يمكن أن تقبل دون دليل مقنع. ومادامت الرؤية الإسلامية قد أقامت دعواها ورفعتها في وجه أعلى مستويات العلم وأبرزتها حقيقة واقعية في وجه أسمى درجات الوعي وأشدها حساسية ، فإنها - والحال هذه - لا يمكن أن ترفض أو تقاوم إلا بدافع من اللامنطقية أو الحقد. والأولى هي سمة الجهلاء ذوي الفقر العقلي، والأخرى هي سمة الأعداء الألداء. كلا الفريقين يشكل ما أسماه الإسلام "بالجاهلية".
هذه إذن هي المهمة التي تواجه رجال الفكر والقادة من المسلمين، أن يعيدوا صياغة التراث البشري كله من وجهة نظر الإسلام. ولن يوجد التصور الإسلامي ما لم يكن تصوراً للحياة والحقيقة والعالم ، وهذا المضمون هو هدف الدراسة في مختلف العلوم. إن إعادة صياغة المعرفة على أساس علاقة الإسلام بها ، بمعنى "أسلمتها" ، أي إعادة تعريف المعلومات وتنسيقها وإعادة التفكير في المقدمات والنتائج المتحصلة منها ، وأن يقوم من جديد ما انتهي إليه من استنتاجات وأن يعاد تحديد الأهداف.... على أن يتم كل ذلك بحيث يجعل تلك العلوم تثري التصور الإسلامي وتخدم قضية الإسلام - وأعني بها وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة ووحدة الإنسانية ووحدة الحياة والطبيعة الغائية للخلق وتسخير الكون للإنسان، وعبودية الإنسان منه - أن تحل هذه محل التصورات الغربية وأن يتحدد على أساسها إدراك الحقيقة وتنظيمها. كذلك لابد للقيم الإسلامية - وأعني بها أثر المعرفة في تحقيق السعادة للإنسان وتفتح ملكاته وإعادة النظر في المخلوقات بحيث تجسد السنن الإلهية وبناء الثقافة والحضارة، وإقامة معالم إنسانية بارزة في المعرفة والحكمة والبطولة والفضيلة والتقوى والورع - لابد لهذه القيم من أن تحل محل القيم الغربية وأن توجه نشاط التعليم في كل المجالات.
ورغبة في الدقة والوضوح سأتناول في الفصل التالي المبادئ السابقة بشيء من التفصيل.
الفصل الثالث
التصور المنهجي
(أولا) جوانب القصور في المنهجية التقليدية(33/430)
نتيجة للتدمير الرهيب الذي صبته القوى غير المسلمة على "الأمة" في القرنين السادس والسابع الهجريين - الهجوم التتري من الشرق والحملات الصليبية من الغرب - فََقََد قادة المسلمين أعصابهم وفقدوا الثقة في أنفسهم. ولما ظنوا أن عالمهم الإسلامي قد قضي عليه بالهلاك بالغوا في "المحافظة" وأرادوا أن يصونوا شخصيتهم وإسلامهم الذي هو أثمن ما يملكون وذلك بتحريم كل إبداع والدعوة إلى الاستمساك الحرفي بنصوص "الشريعة". وكانوا في تلك الفترة قد أعلنوا إغلاق باب "الاجتهاد" وهو المصدر الرئيسي للتجديد في القانون، ولما كانوا قد اعتبروا أن "الشريعة" قد بلغت حد الكمال فيما كتبه السلف فقد أعلنوا أن كل خروج على ما كتبوه بدعة ، والبدعة أمر غير مرغوب فيه بل مذموم. وهكذا انتهى الأمر بتجميد "الشريعة" على الصورة التي قدمتها مدارس الفقه ، ومن خلال ذلك (التجميد) فقد ساعدوا على بقاء الإسلام، ولكن بقاء الإسلام، وما تحقق للمسلمين من نصر وتوسع في روسيا وفي البلقان وفي جنوب شرق أوربا ووسطها فيما بين القرنين الثامن والثاني عشر الهجريين لم يحطم قيود الجمود. وإن كان تبني التصوف وطرقه على نطاق واسع قد ساعد المسلمين على مواجهة هذه الصعوبات في غياب "الاجتهاد" كمصدر للإبداع. ولهذا بقيت "الشريعة" نظاماً مغلقاً حتى العصور الحديثة التي أعطي العلم والتكنولوجيا فيها للغرب قوة واجهوا بها المسلمين وهزموهم.
في العصور الحديثة أوقف الغرب الفتوحات العثمانية في أوربا، ثم احتل كل العالم الإسلامي واستعمره وقسمه إلى فرق ، باستثناء تركيا - التي أخرج منها بالقوة - واليمن ووسط جزيرة العرب وغربها حيث لم يكن بها ما يغري بالاستعمار. وقد استغلت القوى الغربية ضعف المسلمين أبشع استغلال ، وساهمت بشكل رئيسي في مرض العالم الإسلامي الذي سبق وصفه في مطلع هذه الدراسة... وفي مواجهة هذه الهزائم والمآسي والأزمات التي أنزلها الغرب بالعالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين، حاول زعماء المسلمين في كل من تركيا ومصر والهند أن "يغرِّبوا" الأمة على أمل أن يمنحوها بذلك روح الحياة سياسيا واقتصاديا وعسكريا. ولكن التجربة أثبتت فشلها حيثما تم استخدامها . وكان الحرص على تطبيقها أشد ما يكون في المواقع التي كان فيها فشلها صارخا كما في تركيا ومصر. ففي تركيا فإن التغريب مهد الطريق أمام مصطفى كمال ليلغي كافة المؤسسات الإسلامية ويرفض كل مبدأ إسلامي موروث ذي علاقة بالحياة العامة. أي استبدل النظام الغربي بالنظام الإسلامي كله... واليوم، وبعد جيلين من "التغريب" (ستين سنة وقت صدور الكتاب)، نرى تركيا تشبه سائر البلاد الإسلامية الأخرى ضعفا وفقرا في كافة المجالات... لقد نجح "التغريب" إلى حد ما في تجريد إحدى طبقات المجتمع من إسلامها، ولكنه لم يفعل شيئاً سوى ذلك. أما في مصر حيث كان الإصرار على "التغريب" أقل، فقد تم زرع نظام غربي وتُرِك النظام الإسلامي التقليدي يحيا معه جنباً إلى جنب. وكان هناك تنافس بين النظامين ؛ ولكن لم يحرز أي منهما تفوقا يذكر على الرغم من المزايا الهائلة التي تمتع بها النظام الغربي من إنفاق الميزانيات العامة والدعم والمحاباة الحكوميين للنظام الغربي ... وكل ما نجحا فيه هو أن أضعف أحدهما الآخر.
(1) الفقه والفقهاء؛ الاجتهاد والمجتهدون:
يعني مصطلح "فقه" اليوم العلم بالشريعة على مذهب معين ، ومنها "الفقيه" الذي لديه هذا العلم. كما قد يطلق لفظ "الفقه" بالمعنى العام - وكذلك ما اشتق منه - على المعرفة بالشريعة على كل المذاهب الفقهية... وتتطلب هذه المعرفة تمكنًا من اللغة العربية ومن نصوص الأحكام في القرآن والسنة. ومن الواضح أن هذا معنى "اصطلاحي" محصور في حدود ضيقة إذا ما قورن بمعني الكلمة القرآنية "فقه" و"تفقه" (كفعلين)، وقد تكرر ذكرهما في آيات عدة، وهو معنى يشير إلى الإدراك والفهم، والوصول إلى اللب، والتفسير، وباختصار إلى معرفة الإسلام ككل... إن الانتقال من هذا المعنى العام للكلمة إلى ذلك المعنى التخصصي الضيق لهو في حد ذاته إشارة إلى حاجة الأمة الشديدة إلى معنى عام قادر على استيعاب اتجاهاتها الخلاقة وأنشطتها المتباينة. كما أن هذا التحول في معنى الكلمة، وفقدان الجانب الحيوي الذي كان الاستعمال المبكر لها يشير إليه، ليعتبران دليلاً على "المحافظة" وضيق الرؤية. لقد فهم فقهاء الإسلام العظام - الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل - معنى المصطلح "أصول الفقه" لا على معنى الأصول العامة للقانون الإسلامي، بل على أنه المبادئ الأولى للفهم الإسلامي للحياة والواقع.(33/431)
وأكثر من هذا فإننا نجد أن الأوائل من فقهاء الأمة - أعني: صحابة رسول الله وجيل التابعين ومؤسسي المذاهب (رضي الله عنهم) - كانوا مبرزين في العلم بكل الأمور التي تؤثر في حياة المسلمين. لقد كان فقهاء العصور الأول موسوعيين بحق ، وأساتذة فعلاً في كل التخصصات من الأدب والقانون إلى الفلك والطب، لقد كان هؤلاء رجالاً متخصصين عرفوا الإسلام لا على أنه قانون فقط، بل على أنه مثال ونظرية ونظام من الفكر وحياة يعيشها ويمارسها بالفعل ملايين من الناس... لقد كانوا يمتلكون أرقى المؤهلات الإسلامية على الإطلاق، وأعني بها "الذوق الشرعي" أو البديهة التي تدرك مقاصد القانون. وإذا كنا نعتبرهم مثلا لتناول مشاكل المسلمين تناولا خلاقا بسبب كفاءتهم المتميزة، فمن المؤكد أن ما لدى "فقيه" اليوم، خريج الجامعة، من علم وحكمة لا يؤهلانه للاضطلاع بالمسؤوليات التي نهض بها أولئك الأولون بنجاح باهر .
وفي داخل النظام التقليدي نفسه ، تمت عدة محاولات للإصلاح الذاتي ، كان أجرؤها ما طرحه محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني. ومع أن أهل الوعي من المسلمين في كل مكان قد باركوا دعوتها لفتح باب الاجتهاد فإن المحاولة قد فشلت لسببين: أولاً لأن المؤهلات التقليدية المطلوبة من "المجتهدين" ظلت كما هي، وبذلك انحصرت ممارسة "الاجتهاد" في خريجي "المدارس" التقليدية، أعني في أولئك الذين لا يرون حاجة إلى الاجتهاد ، إذ أن خريجي المدارس التقليدية هم بالتحديد من تلقوا تعليما أقنعهم بأن المنهج مناسب تماماً وأن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في عدم رغبة الناس في إدراك قيم الإسلام. وثانيا، لأن فهم "المجتهد" على أنه يعني بالضرورة "الفقيه" - أعني الشخص الذي تدرب حتى صار قادراً على أن يحول المشاكل إلى مصطلحات قانونية ويصدر عليها أحكاماً طبقاً للأنماط القانونية - هذا الفهم قد حصر أو أدرج مشاكل "التحديث" ضمن تلك الأنماط. وهذا قد زاد من تضييق مساحة "الاجتهاد" أكثر وأكثر عن طريق تركيز جهوده كلها في "الفتوى"، أو إصدار أحكام فقهية على أعمال معينة يفعلها - أو يفترض أن يفعلها - المسلمون في حياتهم اليومية. هذا "الفقيه" أو "المجتهد" التقليدي بهذا المفهوم قد أصبح عاجزا عن النظر إلى المشكلة ككل، وضاع على هذا النحو في عملية تحديد درجة التطابق بين الأعمال المعينة وبين المعايير والقواعد التي حددها مذهب أو أكثر. إن الموقف يستدعى منهجية جديدة لا قدرة للمجتهدين التقليديين على تصورها، يستدعى أن تنفتح من جديد طبيعة فهمنا للأصول، أو مصادر المعرفة الإسلامية.
(2) مصادمة "الوحي" "للعقل":
لعل أخطر تطور مأساوي في التاريخ الفكري للأمة كان هو القول بأن كلا من "الوحي" و "العقل" غريب عن الآخر. ولقد كان ظهور المنطق اليوناني وتأثيره على بعض المسلمين، الذين كانوا حريصين كل الحرص على استخدام أساليبه لإقناع غير المسلمين بحقائق الإسلام هو الذي وضعهم على بداية الطريق التي انتهت بهم إلى مثل هذا القول. إن النصارى واليهود الذين تأثروا بالثقافة الهللينية قد عاشوا قرونا تحت ظل هذه الثنائية؛ وكثيرون منهم نقلوها معهم إلى "الأمة" عندما أسلموا ، وكان الفارابي هو الذي أعطاها صيغتها التقليدية التي انتصر لها الفلاسفة ضد "المتكلمين". وقد قبلها بعض متأخري "المتكلمين" ممن كان يرضيهم أن يشرحوا العقيدة في تحديد ووضوح. ثم أصبحت سائدة في مجال المجادلات الفكرية في عصر الانحطاط، خاصة في ظل تأثير "التصوف" الذي دعا إلى منهجية قائمة على أساس حدسي خالص، أو خفي غالبا، ومن هنا لم تجد بأسا في القول بهذه الغربة بين العقل والوحي.(33/432)
إن الفصل بين "الوحي" و "العقل" أمر غير مقبول بالمرة... بل إنه لأمر مناف لروح الإسلام كله ومعارض لما في القرآن من دعوة أساسية للعقل والمنهج المتسم بالوسطية. إن دعوة الإسلام عقلية ونقدية مميِّزة ، خلافا لتلك الأديان التي تحاول أن تجرف عقل الإنسان وتسيطر على ضميره بغية أن يسلم راغما بما ليس بمعقول بل بما هو سخيف. إن الإسلام يهيب بالناس دائما أن يستخدموا ذكاءهم ، وأن يمحصوا بملكاتهم النقدية كل الدعاوى ، وأن يفكروا في البدائل وأن يكون فكرهم دائما مقنعا ومنسجما ، وألا يقول أحدهم سوى الحق الذي هو على يقين منه ، وأن لا ينعزلوا بحال عن الواقع. ولا تخلو صفحة من صفحات القرآن من مثل هذا الحث والإلزام. وبدون العقل لا يمكن أن تدرك حقائق الوحي إدراكاً كاملاً أو تنكشف طبيعتها السماوية أو يعترف بها. وبدونه تستوي دعاوى الوحي مع غيرها من الدعاوى الباطلة. وإذا قبل الوحي على غير أساس من العقل، فإنه يكون مقبولا شخصيا اعتباطيا قابلا للتبدل. وليس لأي أطروحة دينية قائمة على أساس المزاج الشخصي أن تزعم أنها مستحقة للقبول لدى البشر جميعا أو لدى نسبة معتبرة منهم لفترة طويلة. وحين بالغ المسلمون في التأكيد على الحدس على حساب العقل أدى ذلك إلى فتح الأبواب لفساد العقيدة. إن عدم فصلها عقلياً عن اللغو يعطي الفرصة للخرافات وحكايات العجائز أن تتزيا بزي الحقيقة وتتسرب إلى العقيدة ، ومثل ذلك تماما أن المبالغة في التأكيد على "العقل" على حساب العقيدة الحدسية قد أفسد "حياة العقل" حيث اختزلته إلى المادية والنفعية والآلية والخواء.
(3) الفصل بين الفكر والفعل:
في الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام كان المفكر هو القائد ، والقائد هو المفكر... كانت الرؤية الإسلامية هي المسيطرة ، وكانت الحماسة لتحويلها إلى واقع يعاش هي التي تحدد السلوك... كانت هي الشغل الشاغل للمجتمع الإسلامي كله. كان كل مسلم واع يعمل جاهداً لسبر أغوار الحقيقة كي تخضع الماديات والفرص لتشكيل جديد يصبها في القوالب الإسلامية... لقد كان الفقيه في الوقت ذاته "إماماً" و "مجتهداً" و "قارئاً" و "محدثاً" و "مدرساً" و "متكلماً" بالإضافة إلى كونه زعيماً سياسياً وقائداً عسكرياً وزراعياً أو تاجراً أو صاحب حرفة. وإذ أحس بضعف في أي من هذه الجوانب وجد كل فرد حوله على استعداد ليتقدم فيسد هذا النقص. كان كل فرد يعطي في سخاء كل ما لديه من أجل القضية، كما كان يشعر بأن قوة الآخرين قوة له.
كان المسلمون من التلاحم فيما بينهم إلى حد أن ضعف أي فرد منهم سرعان ما كان يزول نتيجة تضامن الجميع وتجربتهم الكلية. ونظراً إلى أن الفكر الإسلامي بطبيعته فكر متوجه نحو الحقيقة، فإن هذا الارتباط بالحياة والممارسة الفعلية كان بمثابة المختبر الذي امتحنت فيه كفاءة الأفكار الإسلامية. كذلك فإنه قد ربط الفكر بالحقيقة الواقعية واضطره إلى أن يجعل من الصالح العام للناس رجالاً ونساءً بؤرة اهتمامه. وإذا كانت تلك الفترة لم تشهد إلا قليلا من الفكر التأملي أو الميتافيزيقي فإن ذلك لم يكن ناشئاً عن عجز، بل لأن جمهور المفكرين المسلمين كانوا يعطون الأولوية لتمكين جماهير الأمة من أن تعيش حياة ملؤها العافية والعقل والفضيلة والازدهار.
ومن ناحية أخرى، فإن حياة الناس الواقعية قد استفادت من الأفكار القيادات المبدعة ، إذ كان ذلك الواقع الذي يعيشه الناس هو مجال تفكيرهم المستمر، فكان الفكر الملائم يوضع موضع التطبيق لحل مشاكل الأمة، وكانت الحلول تأتي مناسبة للمواقف. ولذلك ازدهرت الأمة في كافة مجالات الفكر والحياة؛ لأن مصلحة الأمة كانت دائماً هي موضع نظر العقول الممتازة، وكانت الحلول التي يقترحونها تنزل إلى ساحة الفعل وتنفذ لأن العقول المبدعة ذاتها كانت هي التي توجه القوى التي تقوم بالتنفيذ أو كانت على اتصال وثيق بمن يقومون بذلك.(33/433)
لكن فيما بعد انفصمت هذه الرابطة بين الفكر والفعل . وما إن تم الانفصال بينهما حتى بدأ كل منهما يتدهور. فأصبحت القيادة السياسية ومن بيدهم القوة التنفيذية ينتقلون من أزمة إلى أزمة محرومين من الانتفاع بفكر العلماء ومشورتهم وحكمتهم. وكانت النتيجة تخبطاً في العمل ينفر من الموضوعات الجيدة ويضع القادة السياسيين في مزيد من العزلة. وإذ وجد القادة أنفسهم في موقف الدفاع فقد أدى ذلك إلى ارتكابهم مزيدا من الأخطاء الفادحة. أما المفكرون فقد أصبحوا غرباء ومبعدين عن المشاركة الفعالة في شؤون الأمة، ولذلك لجأوا إلى المثاليات كمسوغ لسخطهم على السلطة السياسية. بدأ بعضهم يبالغ في رفع منزلة ماهو "معياري" في مقابل ماهو "واقعي"... وقد تعرض أولئك الذين كان لسخطهم آثار سياسة للاضطهاد من قبل السلطة الحاكمة ، أما من لم يكن لسخطهم تلك الآثار فقد شُجعوا على التحليق بعيداً عن الحقيقة الواقعية . وهناك فريق آخر من المفكرين بدأوا يتنازلون عن المعايير الصحيحة بسبب ارتباطهم بالقيادة السياسية. وقد نتج عم التوتر المتزايد بين الفريقين تعددية أدت إلى تدمير الفكر والفعل معاً. فحين أصبح الفعل استبدادياً وميالا إلى استخدام العنف هجر الفكر ميدان الواقع التجريبي، وهو الصالح العام للناس، وأقنع نفسه بالتعليق على أعمال السابقين أو بالتحليق في أجواز التأمل الصوفي. وسرعان ما أصبحت الأمة معزول عن قيادتها السياسية. لقد مر على الأمة زمن طويل توالى فيه حكم الطغاة والقادة الفاسدين ومغتصبو العرش والخلفاء الدمى ممن يحركهم أصحاب القوة من ذوي السلطان، مما أضعف معنويات الأمة وأبعدها عن ساحة السياسة. في هذا الجو تلقفتهم الجماعات الصوفية وهيأت لهم التربية الروحية الذاتية والتثقيف من خلال التجربة الصوفية وعوضتهم بذلك عما فقدوه على مسرح التاريخ. وأصبح الدين عندهم مهرباً من الطغيان الذي لا يحتمل.
وبينما كان السلطان يحكم ولا معارض له كانت أعظم الطاقات العقلية في الأمة تتخذ طريقها وبسرعة نحو القيم الروحانية والفردية والذاتية التي تمخض عنها التصوف. واختفت السمة التي ميزت الحقبة المبكرة، وهي التكافؤ بين الروحي والمادي الدنيوي وقابلية التحول بين أحدهما والآخر ؛ وحل محلها الجري وراء الروحاني على حساب الدنيوي ووراء الآخرة على حساب هذه الحياة. وإذ فقد الفكر الإسلامي صلته الوثيقة بالتجربة الواقعية في حياة الأمة، أصبح محافظاً وحرفياً في مجال التشريع وتخمينياً في مجال تفسير القرآن والنظرة إلى الحياة الدنيا ومزدريا للدنيا في مجالي الأخلاق والسياسة ومستغلقاً في العلوم الطبيعية. وأصبح كبار المفكرين وعلماء الشريعة والأولياء لا يبالون بالسلطة السياسية ولا بالفعل وينظرون إليها من عل على أنها شيء تافه لاقيمة له. وصارت مقاومة الدنيا أولاً ثم نبذها كلية بعد ذلك هي الشروط الأولية للفضيلة. وبدا أن الأمة قد فقدت ذلك التوازن بين القيم الفردية والجماعية التي مثلتها حياة الرسو صلى الله عليه وسلم تمثيلاً رفيعاً.
(4) الثنائية الدينية والثقافية:
لقد كان "الصراط المستقيم" الذي هو محط آمال الجميع والذي كان يمثل واقع حياة الصدر الأول من المسلمين ... كان طريقا واحدا متكاملا ينبثق من الرؤية الإسلامية الأصلية ويجمع كافة اتجاهات الإنسان ونشاطاته في حركة واحدة تتجه نحو تحقيق الذات الإسلامية في التاريخ. أما في فترات الانحطاط، وبسبب الجفوة الواقعة بين الفكر والفعل، فقد انقسم هذا الطريق الموحد إلى اثنين: طريق الدنيا ، وطريق الله والفضيلة. هذا الانشعاب في الحياة الإسلامية إلى منهجين متناقضين على طول الخط - أحدهما جدير بالتقدير ويضم كل القيم الدينية والخلقية، والآخر مذموم يضم العالم المادي وسائر قيمه - هذا الانشعاب قد أفسد كليهما وقضى عليهما. لقد تبدل كل منهما، فأصبح الطريق الأول روحانية فارغة تشبه الروحانية الخاوية في الرهبنة البوذية والنصرانية... فالروحانية التي لا تشغل نفسها بالمصلحة الواقعية للجماهير والتي لا تسعى إلى تحقيق العدالة في مواطن الاضطراب والقسوة في هذا العالم لهي روحانية ذاتية تهتم بالرغبة الدينية لمن يؤمنون بها وحدهم. إنها روحانية قائمة على الأًثَرة حتى ولو دعت إلى شيء من أفعال الإيثار. أليس همها الأول هو حالة الوعي عند السالك. وما الآخرون ومصالحهم عندها إلا وسائل وأدوات لابتلاء النفس وتطهيرها وتزكيتها. ولا عجب، والحال هذه، أن تسقط هذه الروحانية في تراث الغنوصية وفي التجارب الخفية، وأن تصبح فريسة الخرافات والاتجار بالخوارق. ولم يرد أبداً على أذهان المشايخ الذين أسسوا الطرق الصوفية، والعقول الكبيرة التي وضعت لها مبادئها ونظرياتها الأساسية، أن جماعاتهم سوف تزيغ على هذا النحو وتنتهي إلى أخلاق وآمال تتعارض مع الإسلام. لكن الحق أن معظم تلك الجماعات قد استهواها هذا الإغراء.(33/434)
أما طريق الدنيا، من الناحية الأخرى، فقد أقام له نظاماً لا أخلاقياً يخصه، متحللاً على هذا النحو من المتطلبات الأخلاقية التي أعلن من يمثلون الدين أنها تخص فئة أخرى من المسلمين. وبدون أن تكون القيم الخلقية هي قوام النظام الاجتماعي فلا مفر من أن يتدهور ويصبح هو في نفسه جائزة لكل طموح لا يتورع عن بذل جهده للفوز بالغنيمة . وعلى هذا النحو أصبحت الحكومة والقيادة أو المناصب السياسية وسيلة لتعظيم الذات والاستخدام الوحشي للقوة، أو لابتزاز المنافع الأدبية والمادية من الناس. ولذلك لم تبد الجماهير إلا مقاومة محدودة عندما هاجم العدو الاستعماري الأجنبي أرضها واحتلها. لقد أصبحت الجماهير مقتنعة بأن المعركة ليست معركتها. وفي النهاية، حين أقامت الإدارات الاستعمارية نظاماً تعليمياً جديداً وبدأت تؤثر نمطاً من الحياة والفكر والنشاط غريباً عما لدى الجماهير، نظرت إليه تلك الجماهير على أنه حلقة أخرى من مسلسل النظم التعسفية التي طالما عانوا منها في الماضي ، وأنه أهل لكل مقت وازدراء لكنه لا يستأهل أن تنتفض الأمة كلها لتجاهد ضده.
(ثانيا) المبادئ الأساسية للمنهجية الإسلامية
إن أسلمة المعرفة لهي مطلب حتمي لإزالة الثنائية الموجودة في النظام التعليمي، التي هي بدورها مطلب حتمي لإزالة الثنائية من حياة الأمة ولعلاج انحرافاتها ... إن "أسلمة المعرفة" فضلاً عن أنها تعالج ألوان القصور التي انزلقت إليها المنهجية التقليدية فإنها تأخذ في الاعتبار عدداً من المبادئ التي تمثل "جوهر" الإسلام ... ذلك أن عملية إعادة صياغة كافة فروع العلم في إطار الإسلام تعني إخضاع نظريات تلك العلوم ومناهج البحث فيها ومبادئها وغاياتها [لتلك المبادئ والمفاهيم الجوهرية ، والتي تتمثل] فيما يلي:
(1) وحدانية الله (سبحانه وتعالى):
إن وحدانية الله تعالى هي المبدأ الأول للإسلام ولكل ماهو إسلامي. وفحوى هذا المبدأ أن الإله الحق هو الله؛ وأنه لا إله غيره؛ وأنه تعالى هو الواحد الأحد، العلي الأعلى، وأنه مطلق الكمال بكل المقاييس. وكل موجود سواه مغاير له ومخلوق له. هو الخلاق، بأمره توجد كل الموجودات وتقع سائر الحادثات. هو مصدر كل خير ومصدر كل جمال، إرادته هي القانون الذي يحكم الكون ويقنن للأخلاق. وعبادته وحمده واجب كل الكائنات وعلى رأسها الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وزوده بالقدرات التي بها يعرف ربه ويقدر عظمة صنعه، كما منحه القدرة على أن يتصرف فيما خلق الله ليحقق من خلال ذلك المثل الإلهية من الأخلاق والمثل الإلهية في الجمال.
أن يفكر المرء وأن يعيش واعياً بوحدانية الله معناه أن يعيش في عالم ملؤه الجمال والحيوية ، لأن كل شيء في الوجود موجود بصنعته عز وجل، معتمد في بقائه على ربوبيته ومتجه دائماً بطبيعته نحو تحقيق الإرادة الإلهية... في مثل هذا العالم لا شيء موجود صدفة أو عبثاً أو فارغاً من المعنى. فكل شيء خلقه الله تعالى بقَدَر. وحين يكون الإنسان جزءاً من عالم تلك صفته فإنه يدرك من العلاقات بينه وبين كل الكائنات ما لا يحده العد ، وفوق ذلك كله يدرك أنه مخلوق لله وفقير إلى الله ومدين له ، وأن عليه أن يحبه وأن يعبده حق العبادة. ولكي يكون المسلم مسلماً فإن عليه أن يكون وعيه دائماً عامراً بذكر الله . وما دام الله هو الخالق وهو الديان فلن تكون مسلماً حتى تفعل كل شيء كما شرعه لك قاصداً به وجه الله وحده. وكما أن الحياة والطاقة منحة من الله فكذلك كل الخير والسعادة. هذا هو ما يجب أن تكون عليه الحياة الإسلامية.
أما في الفكر الإسلامي فالله هو مبدأ كل شيء وهو غاية كل شيء. فوجوده تعالى وأفعاله هي الأسس الأولى التي عليها يقوم بناء كل المعارف ونظامها. وسواء أكان موضوع المعرفة هو عالم الذرة الصغير أم عالم النجوم الكبير أم أعماق النفس أم سلوك المجتمع أم مسيرة التاريخ ، فإن المعرفة الإسلامية تنظر إلى موضوع المعرفة من الناحية المادية على أن وراءه عوامل وملابسات تقدمه ومنها انبثق هذا الشيء، أما التصريف الفعلي للأسباب والذي به يوجد شيء معين من بين ما لا يحصى من الأشياء الممكنة الأخرى والتي يمكن أن تؤدي إليها تلك العوامل ذاتها فذلك عمل الخالق سبحانه ويتم بأمره. كذلك، فإن المعرفة الإسلامية تعتبر أن كل شيء في نطاق المعرفة إنما يحقق غاية أرادها الله أو يخدم غاية أخرى مرادةٌ لله تعالى أيضا. وذلك حتى يصبح نظام الأسباب في هذا الكون نظاماً من الغايات على قمتها تقف الإرادة الإلهية لتحدد غاية كل موجود فرد ، وغاية كل سلسلة من الغايات، وغاية النظام العام كله. وتدرك المعرفة الإسلامية أنه ليس ثمة موجود أو حقيقة أو قيمة خارج النظام العام بسلاسله وتشابكاته، النظام الذي مصدره وغايته هو الله تعالى، وأن أي شيء يُتصور أو يُعرف أو يُقوّم خارج النظام الذي حدده الخالق فهو إما غير موجود ، وإما زائف ، وإما لا قيمة له ، وإما أنه فحسب تصور خطأ على أنه خارج ذلك النظام.
(2) وحدة الخلق:(33/435)
أ- النظام الكوني: إن وحدانية الله سبحانه وتعالى تستلزم بالضرورة العقلية وحدة الخليقة كلها. كما قال سبحانه في كتابه العزيز: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا( (الأنبياء: 22). فلو كان هناك أكثر من حقيقة مطلقة واحد لما بقيت هناك حقيقة مطلقة. زد على هذا أن الكون حينئذ كان سيتبع لنظامين مختلفين، ولو حدث هذا فلن يكون ذلك كوناً منتظماً كما نعرف. وكذلك فلن يكون من الممكن لنا نحن البشر أن نعرف كوناً يسوده أكثر من نظام. إن علينا أن نتذكر أن النظام الكوني هو الذي يمكننا من أن نتبين الأشياء في صورة مواد أو خصائص أو علاقات أو أحداث. فمن خلال الاتساق أو الوحدة في النظام الكوني نتمكن من إدراك استمرارية المواد كأشياء وتكرار الحوادث كعلاقات سببية. وبدون هذا النظام الكوني لا تكون الأشياء ولا الأسباب والنتائج هي هي.
إن الخليقة كلٌّ واحد متكامل لأنها ببساطة من صنعة خالق واحد سرى نظامه وتقديره في كل جزء منها. إن النظام الكوني يتكون من قوانين الطبيعة. وهذه القوانين تؤدي وظيفتها في هذا العام وتسرى إلى كل جزء وكل جانب منه، مادياً كان أو فضائياً، جسمانياً أو نفسياً، اجتماعياً أو أخلاقياً - كل ما هو واقع يخضع لتلك القوانين وينفذها. هذه القوانين هي "سنن" الله تعالى في خلقه. إن الله سبحانه وتعالى ليس مجرد مصدر لهذه القوانين، كما أنه لم يخلق الطبيعة ويضع لها النظام والقانون الذي تسير عليه ليتركها تسير نفسها دون أن يتحكم فيها. إنه لم يتخل عن تدبير خلقه، وإنما هو حي فعال إلى ما لا نهاية. وعليه فإن كل كائن يوجد وكل حدث يقع في الكون إنما يتم بأمره. حقاً إن لدى كل كائن في أي من مراحل وجوده، قوة ذاتية دافعة تمكنه من التغير، لكن الحق أيضاً أن هذه القوة الدافعة قد أوجدها الله وهو الذي يحفظها. وأكثر من هذا فإن هذه القوة المحركة لا تؤدي دائما بذاتها إلى النتائج المرتبطة بها بشكل ضروري لا يتخلف، وإنما بأمر الله تتولد النتائج المعينة عن الأسباب المرتبطة بها عادة فالله سبحانه وتعالى قد يجعل سبباً ما يؤدى إلى نتيجته مباشرة، لكنه قد يحدث سبباً ما عن طريق أسباب أخرى فيكون ما يظهر لنا على أنه سلسلة حتمية من الأسباب لا يعدو أن يكون سبباً إلهياً تماماً كالسبب المفرد. ومن جانبنا نحن البشر فإننا نثق بالله تعالى، أو بنظامه الكوني فنطمئن إلى أن سبباً معيناً سوف تتبعه نتيجة معينة. وإذن فكما اكتشف "الغزالي" و "هيوم"، على ما بينها من خلاف في المبادئ، فإن ارتباط السبب بالمسبب ليس أمراً حتمياً. فالواقع أن ما نسميه بالسببية ليس إلا عملية "تتابع" وتكرار تقودنا إلى الاعتقاد بأن سبباً ما تتبعه عادة نتيجة ما. وليس لهذه العقيدة من أساس تقوم عليه سوى كرم الكائن الأعلى، فالله سبحانه وتعالى لا يخدع أو يضلل. إنه خالق كريم نظم الكون ليجعله صالحاً لأن نحيا فيه ولأن نفهمه، وكذلك كي نتمكن من ممارسة الخيارات الخلقية أمامنا ونبرهن - من خلال الأعمال - على ما لنا من قيمة أخلاقية.
ب- الخليقة كمملكة من الغايات: الله سبحانه وتعالى (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: الآية2). هذا التقدير هو الذي يعطي كل شيء طبيعته وعلاقاته بالأشياء الأخرى، ومنهجه في الوجود. كذلك، فإن التقدير الإلهي يًخضع كل شيء ليس فقط لنظام الأسباب المشار إليها فيما سبق ، بل أيضا لنظام من الغايات. فكل شيء له غاية ومسوغ لوجوده يخدمه من خلال حياته. هذه الغاية ليست نهائية أبداً، وإنما هي دائما خاضعة لغايات أخرى تكوّن معها سلسلة تنتهي نهايتها عند الله الذي هو الغاية المطلقة والنهاية التي إليها يعود كل شيء. إن إرادته تعالى هي التي تجعل الخير خيراً.
وعليه، فإن لكل شيء موجود علاقة السبب أو النتيجة بكل شيء آخر، فضلاً عن كونها علاقة ذات نهاية، أو هي وسيلة لغاية معينة. أليست غاية كل الغايات على اختلاف ضروبها تنتهي إلى الله سبحانه؟! إن شبكة العلاقات غير منتهية. وهي - بالتأكيد مجال مفتوح أمام البشر للبحث والمعرفة والإعجاب. ولكن ما دامت العلاقات لانهائية فلن يستطيع البشر أن يعرفوا سوى القليل منها على قدر الضوء الضئيل الذي معهم في تلك الغابة المظلمة إن صح التعبير. لكن واجبهم دون غيرهم أن يجتهدوا دائماً في البحث عنها واكتشافها. واكتشاف تلك العلاقات وتقنينها يعني وضع الأسس لمعرفة السنن الثابتة التي وضعها الله سبحانه وتعالى ولتقدير تلك السنن حق قدرها.(33/436)
ولما كان لكل مخلوق غاية يعمل لخدمتها، ولما كانت كل الغايات مرتبطة ببعضها البعض برباط السبب والنتيجة فإن كل هذا يجعل من الكون نظاماً غائيا هادفاً نابضاً بالحياة مفعماً بالمعنى... فالطير في الفضاء والنجوم في السماء والأسماك في أعماق البحار والكواكب والعناصر - كل تلك أجزاء متفاعلة في النظام الواحد. لا شيء منها عاطل أو شرير، حيث إن كل كائن له وظيفته ودوره في حياة الكل. وهي معاً تكوّن بناء عضوياً تتفاعل أجزاؤه وأعضاؤه بطرق لا يزال البشر في بداية الطريق إلى اكتشافها بفضل العلم، لكن في أجزاء محدودة جداً من الطبيعة.
أما المسلمون فهم يعلمون جيداً أن الخليقة كيان عضوي، وأن كل جزء فيها يخدم غاية ما، حتى ولو كانوا لا يعرفونها. وهذا العلم هو ثمرة لإيمانهم. وحين تواجههم أمور مثل افتراس الذئب للحمل أو أكل الطائر للفراش أو تحول الجسد الإنساني إلى غذاء للديدان، فإنهم يفترضون أن كل ذلك خير، وأنه بنشاطه الطبيعي يحقق غرضاً إلهياً أو نظاماً من الأغراض التي تنتهي إلى الإرادة الإلهية. فالمسلمون لا يمكنهم أن ينسبوا شيئاً للصدفة أو للأقدار العمياء. فالزلازل والطواعين والجفاف والكوارث في نظر المسلمين إنما هي من تقدير الله. والمسلم يتقبل هذه الكوارث - مهما تكن فواجعها وآلامها - على أنها من فعل الله وأنها مرادةٌ لله تعالى من أجل هدف طيب قد لا يظهر للإنسان في الوقت الحاضر. وما دامت من فعل الله، فإن المسلم لا ينهار أمامها لأنه يعرف أن الله الذي قدرها وأوجدها هو في نفس الوقت الحافظ الرحيم بعباده. لهذا، فإنها في نظر المسلم ابتلاء من الله يختبر به عباده ليصل بهم من خلالها إلى مزيد من الثبات والإيمان والتفاؤل ، والمحصلة النهائية لهذا الجانب من العقيدة الإسلامية إنما هو على وجه التحديد ما تحتاجه البشرية في مواجهة المآسي والخطوب.
إن كون الله قد خلق العالم ككيان واحد ترتبط فيه النتائج بالأسباب، وحيث تغطي الأسباب كل شيء بصورة لانهائية ، وحيث تتباين الآثار في كل حادثة في مدى لا نهائي، وفيه توجد العلاقات المتبادلة اللانهائية لتربط الأشياء ببعضها في نظام من الغايات - هذا التقدير الإلهي نفسه مقصود به أن يهيئ المجال لحياة الإنسان وابتلائه الأخلاقي، فهذا المجال ليس غايته الكبرى ولا هو ملك له أو شغله الشاغل. فما دام الإنسان مخلوقاً لتكون حياته عبادة لخالقه، فإن العالم يكون منحة له من ربه. وواجب الإنسان على هذا هو أن يكتشف السنن الإلهية فيه، بل وأن يصونه من التدهور ويقوم بتعميره وتطويره باستمرار.
جـ- تسخير الخليقة للإنسان: منح الله تعالى العالم للإنسان كنعمة مؤقتة و ليكون مجالاً لنشاطه - وجعل كل شيء فيه مسخراً له ، بمعنى أنه تحت تصرف الإنسان يستخدمه لغذائه أو متعته أو راحته. هذا الاستخدام قد يكون مباشراً كما في حالة الغذاء والمتعة، وقد يكون غير مباشر كما يحدث حين تسخر قوى الطبيعة لتنتج ما يحتاج إليه الإنسان. وهناك تناسق ذاتي بين مفردات الخليقة والانتفاع الإنساني . فالحاجات الإنسانية جزء من بناء الخليقة، ومفردات الخليقة مصممة بقصد أن تخدم تلك الحاجات. وكل مكونات الطبيعة ذات استعداد لقبول تأثير الإنسان فيها، ولتحمل التغيير طبقاً لتصرفه والتحول إلى أي شكل يرغب فيه. يستطيع البشر أن يجففوا البحار ويستخدموا الشمس ويحركوا الجبال ويزرعوا الصحارى أو أن يتركوا الدنيا كلها خراباً. في إمكانهم أن يملأوا الدنيا بالجمال ويجعلوا كل شيء يزدهر، أو أن يملأوها بالقبح ويحطموا كل شيء. إن تسخير الكون للإنسان لا يقف عند حد... لقد شاء الله تعالى أن تكون العلاقات السببية والغائية المتبادلة بين أفراد الخليقة هي مادة هذا التسخير، وبدونها لا يكون للتسخير جدوى ولا معنى. فلو كان الإنسان لا يستطيع الاعتماد على الأسباب لإحداث نتائجها، أو كانت الوسائل غير صالحة لتوصِّل إلى الغايات، لفقد الإنسان اهتمامه بالكون ولكف عن أي محاولة لتغييره إلى الأنماط التي يجب أن يكون عليها طبقاً لوحي الله... "مادمت مكلفاً فإنك مستطيع" هذا المبدأ الذي ينسب إلى "كانط"، والذي يعد أول مبادئ "ميتافيزيقا الأخلاق" كان أول من عبر عنه أحد فلاسفة المسلمين مستوحياً إياه من المبدأ القرآني (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية286) وبدون هذه النتيجة الضمنية الضرورية يصبح العالم إما جامداً عديم الحركة والتغير، وإما عالماً للمجانين.
(3) وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة:(33/437)
من المؤكد أن العقل تعرض له الأوهام والضلالات والشكوك. حقاً إن قدرته على تصحيح نفسه توفر له درجة لا بأس بها من الحماية، لكنه بالنسبة للحقيقة المطلقة - وبسبب قصوره البشري - يحتاج إلى تعزيز من مصدر مبرأ من الخطأ، وهو الوحي. وبمجرد أن يتم إرساء القضايا المتعلقة بالمبادئ الأولية أو المطلقة، فإن العقل يكتسب عندئذ قوة يستطيع بها أن يتغلب على ما يعترضه من مشكلات. يجب أن تكون كافة افتراضات العقل الأولية مؤكدة بشكل قاطع: بعضها يكون كذلك لأنه يدهي، والبعض الآخر لأنه عبارة عن تجارب عامة للبشرية ككل؛ ولكن هنالك ضربا ثالثا لا يمكن إدراكه إلا لأولئك الذين تتوفر فيهم الدرجة المطلوبة من الحكمة أو نضوج الرؤية الدينية أو الأخلاقية؛ وأمثال هؤلاء هم الذين يتوقع منهم - لهذا السبب - أن يروا الحقيقة على وجهها الصحيح. ومن هنا، فإن إدراك مثل هذه الحقائق والقيم قد لا يكون عاماً بالمفهوم الرياضي، وإنما يتطلب نوعاً آخر من المؤهلات الضرورية التي يتعين وجودها. وحيثما لا يتأتى للعقل اليقين الجازم فإن نور الإيمان يمكن أن يمده بهذا اليقين، بل إنه ليلقي ضوءاً كاشفاً على سائر الفرضيات الأولية الأخرى كما يضفي مزيداً من اليقين على النظرة الشاملة للكون المبنية على تلك الفرضيات. إن بين الإيمان والفرضيات العقلية الأولية التي تصل إلى حد الجزم لعلاقةً وتناغما واتصالا وتكاملا. وإن العقيدة في الإسلام - خلافا للديانات الأخرى القائمة على التسليم الكامل [حتى لما يناقض العقل] - لا تنفك عن العقل سواء في وظيفتها أو فيما تسهم به. فلا هي فوق العقل، وليس العقل كذلك فوقها. ولذا فليس من الإسلام أن نضع الإدراك العقلي والإدراك الإيماني على طرفي نقيض بحيث يكون على الإنسان أن يختار بينهما. "..إن اليهود يطلبون آية (معجزة)، واليونانيين يطلبون الحكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة ... إن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوي من الناس. فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حكماء ... بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء و ... ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، و ... أوفياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود ..." (هذا النص من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: الإصحاح الأول: 22 - 28) (والنص العربي منقول عن طبعة الكتاب المقدس 1977 التي أصدرتها جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى - المترجم). مثل هذا الكلام قد يكون يهودياً أو نصرانياً أو هندوسياً لكنه على النقيض من الموقف الإسلامي.
أما فيما يتعلق "بنظرية المعرفة" فإن خير ما يوصف به موقف الإسلام هو أنه قائم على "وحدة الحقيقة" ، وهذه الوحدة مستمدة من وحدانية الله المطلقة، إن "الحق" هو أحد أسماء الله الحسنى؛ وإذا كان الله واحداً بالفعل كما يؤكد الإسلام، فلا يمكن أن تتعدد الحقيقة. إن الله يعلم الحقيقة وينزلها من خلال الوحي صافية إلى خلقه، فلا يمكن أن يجيء ما يتنزل به الوحي مختلفاً عن ما في الحقيقة الواقعية لأن الله سبحانه هو خالق الحقائق كلها الواقعية منها والمطلقة. والحقائق التي تدخل في نطاق ما يحيط به عمل العقل متضمنة في قوانين الطبيعة التي هي سنن الله في خلقه، وهي سنن دائمة ثابتة، ومن هنا يمكن أن تُكتشف تلك الحقائق وتقنن وتستخدم لمصالح الإنسانية... والوحي - إضافة لما يقدمه من إعلان لوجود الله وأنه خالق الوجود - يبين أيضا حقيقة القوانين الطبيعية أو السنن الإلهية التي يسير الكون على أساسها. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون هناك بيان أو تعبير عن تلك القوانين أصدق من بيان خالقها ومدبرها. وإذن فإنه نظريا لا يمكن أن تصور وجود أي تناقض بينهما. وهذا التطابق المنطقي بين العقل والحقيقة والواقع من جانب وبين ما يأتي به الوحي من جانب آخر لهو أخطر مبدأ عرفته نظرية المعرفة في تاريخها الطويل. وهذا التطابق يقوم على مباد ثلاثة عليها ترتكز المعرفة الإسلامية كلها:
الأول: إن وحدة الحقيقة تعني رفض أي إمكانية للتناقض بين الحقائق الواقعية وما يأتي به الوحي. فكل ما يقرره الوحي لابد أن يكون صادقاً منسجماً مع الواقع موافقاً له؛ إذ لا يتصور أن يكون الله - تعالى - جاهلاً أو غاشاً أو مضللاً لمخلوقاته. وعليه، فإن ما يبينه لهم لا يمكن أن يتعارض أبدا بأي وجه مع حقائق الواقع، لأنه ما أنزل الوحي إليهم إلا للإرشاد والتعليم. فإن ظهر أي تناقض بين الوحي والواقع، فإن على المسلم أن يراجع "فهمه" للوحي مادام يؤمن بمبدأ وحدة الحقيقة ، فهذا المبدأ يحميه من خطر التأويلات والتفسيرات المتسرعة أو المغرقة في المجازات أو المعتمدة على معان باطنية لا سند لها سوى الفهم الشخصي التحكمى. إن فهم معاني الوحي في الإسلام يقوم على ركيزتين صلبتين: اللغة العربية بمعجمها ونحوها ثم الحقائق الواقعية، وكلاهما محفوظ منذ نزل الوحي. ولهذا السبب لم يعرف الوحي القرآني مشاكل تأويلية من حيث هو، وإنما كل مسائل التفسير تدور حول أمور لغوية تتصل بالمعجم أو بالقواعد.(33/438)
الثاني: إن وحدة الحقيقة تفرض أنه لا يوجد تعارض أو خلاف أو تفاوت مطلق بين العقل والوحي. فوحدة الحقيقة ترفض رفضاً قاطعاً فكرة عدم وجود مبدأ أو حقيقة أو فهم أعلى يمكن أن يزيل التناقض. إن الإنسان وهو يبحث في الطبيعة ويحاول أن يكتشف السنن القانونية التي أوجدها الخالق في الكون، يمكن - بل من المؤكد - أن يخطئ أو يتوهم أو يظن أنه قد أمسك بالحقيقة مع أنه يكون في الواقع مخطئا . ومثل هذا الموقف قد يخلق تعارضاً ظاهريا بين العقل والوحي. فوحدة الحقيقة ترفض هذا التعارض وترى أنه وهم، وتطالب الباحث بالعودة إلى النظر ثانية في معطياته وفحصها من جديد. فقد يكون سبب التعارض فيما انتهى إليه العلم أو العقل من نتائج، وفي مثل هذه الحالة يحسن بالباحث أن يعود إلى معطياته ويفحصها ثانية. وقد يرجع السبب كذلك إلى إساءة فهمه للوحي، وهنا أيضاً يكون عليه أن يراجع مسلماته.
الثالث: إن وحدة الحقيقة ، أو طبيعة قوانين المخلوقات والسنن الإلهية، تفرض أن باب البحث في طبيعة الخلق أو في أي جزئية منه لا يمكن أن يغلق، وذلك لأن سنن الله في خلقه غير محدودة. فمهما عرفنا منها، ومهما تعمقنا في هذه المعرفة، فلا يزال هناك دائماً المزيد منها ليكتشف. ومن هنا، فإن الاستعداد لقبول الجديد من البراهين، والإصرار على متابعة البحث هي خصائص لازمة للعقل المسلم الذي قبل مبدأ وحدة الحقيقة فالموقف الناقد لكل الدعاوى الإنسانية، والبحث الدائب وراء قوانين الطبيعة التي لا تكون نهائية أبداً، هما في ذات الوقت شرطان لازمان للمنهج الإسلامي وللعلم الأصيل. ومن هذا المنطلق، فإن أقوى حكم يبقى دائماً مؤقتاً، ويظل صالحاً حتى تظهر أدلة جديدة تشكك فيه أو تفنده أو تؤكد صحته. إذن، فإن أعلى حكمة، وأوثق قرار يجب أن يعقبه هذا التأكيد "والله أعلم".
(4) وحدة الحياة:
أ- "الأمانة الإلهية": يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا....) (البقرة: 30 - 34) وفي آيات أخرى من القرآن الكريم يقول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان....) (23: 72)؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ) (51 :56)، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا....ً ) (11 : 7) (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً......) (67: 1-2)(33/439)
هذه النصوص السابقة من القرآن الكريم تجيب، في كل آن، على التساؤل عما إذا كان - أو لم يكن - هناك سبب يفسر وجود الإنسان. والإسلام يؤكد كل التأكيد أن لوجود الإنسان سبباً وأن هذا السبب هو عبادة الله تعالى. إن الإرادة الإلهية على ضربين: ضرب متحقق حتماً يتمثل في السنن الإلهية التي يجري الكون على أساسها، وهي قوانين الطبيعة. وهذه السنن ثابتة ومتحققة على مستوى الكون كله. ومن الممكن أن تفهم عن طريق الوحي أو عن طريق العقل. وقد أوجب الله على الإنسان أن يبحث عنها وأن يفهمها ويقننها من أجل المعرفة ثم يستخدمها لصالحه. أما الضرب الثاني من القوانين الإلهية: فيتحقق فقط عن طريق الحرية والاختيار، أي عندما تتحقق في وضع يكون فيه تحقيقها أو عدم تحقيقها إمكانيتين متميزتين. وتلك هي القوانين الخلقية. إنها تتعايش مع قوانين الطبيعة، بمعنى أنها تتحقق دائماً في سياق من الأشياء والأشخاص والعلاقات في العالم الواقعي، لكنها تنتمي إلى ضرب مختلف عن الواقع المحتوم. إنها عملية أولويات. فأن تصبح جزءاً من الموقف الواقعي وأن تتحقق من خلاله أولاً، أمر يعتمد على تحقق ذلك الموقف، أو على المتطلبات الخاصة بهذه القوانين الخلقية. إنها تتطلب ممارسة الشخص لإرادته ممارسة حرة. ولهذا فإن "السماوات والأرض والجبال" عجزن عن حمل "الأمانة" الإلهية لعدم وجود هذه الإرادة لديهن. وحملها الإنسان لأنه دون باقي المخلوقات يتمتع بهذه الحرية الأخلاقية. وهذه الإمكانية لديه جعلته في وضع أسمى من الملائكة الذين لا يتمتعون بالحرية في أن يطيعوا أو لا يطيعوا. وهذا هو السبب في أمر الله لهم أن يسجدوا لآدم. فكان انعدام حرية الإرادة لديهم سبباً في إنزالهم عن مرتبة الإنسان. هم كاملون ويستطيعون فقط أن يطيعوا أوامر الله. إنهم يقدسون الله ويسبحونه دائماً ولا يعصون له أمراً. وعلى هذا، فإن طاعة الإنسان لله أعلى قيمة من طاعة الملائكة، وما ذلك إلا بسبب أنها تصدر عن إنسان لديه القدرة أن يفعل عكس ذلك. فإعراض مثل هذا الإنسان عن طريق الشر، أو ترفعه عما هو أدنى، أو إعراضه عن الخير المادي النفعي الأناني، ثم اتجاهه بمحض اختياره إلى فعل ما يتطلبه القانون الأخلاقي إنما هو إحراز لقيمة أسمى. إن الحياة الأخلاقية لهي ضرب من الحياة أعلى وأنبل وأعظم. وإن النمط الأعلى من الإرادة الإلهية يدخل التاريخ ويصبح واقعا حين يختار البشر في حرية أن يحققوه. ومن هنا، فإن الإنسان يعتبر وصلة كونية بين الإرادة الإلهية والواقع الحقيقي. وواضح أن وجوده عظيم الأهمية.
ب- الخلافة: إن حمل الإنسان للأمانة الإلهية يجعله في مقام الخلافة أو النيابة عن الله. وتتمثل خلافته في إنفاذ القوانين الأخلاقية التي هي والقوانين الدينية شيء واحد، وإن كانت الأخيرة تتحكم كذلك في الشعائر التعبدية وهي قليلة. لكن حتى هذه لها جوانب ليست تعبدية أو أخروية محضة، وإنما لها - من حيث خصائصها وآثارها - علاقة قوية بهذه الدنيا. أما باقي التشريعات الدينية أو الأخلاقية فكلها عبارة عن ممارسات فعلية للحياة والوجود والعمل. وما تضيفه هذه القوانين للممارسات الفعلية إنما هو الصفة أو المنظور أو الطريقة التي يتم بها تصريف تلك الممارسات المتشابهة. إن من الطبيعي أن يشتهي الناس وأن يكبروا ويتمتعوا، أن يطلبوا وأن يتملكوا، وأن يحبوا وأن يتزوجوا وأن ينجبوا، وأن يتسلطوا وأن يمارسوا القوة ..... الخ، والإسلام يحب لكل هذه الأنشطة أن تستمر، إنه لا يشجبها ولا يود لها أن تتوقف كما هو شأن النصرانية والبوذية ، كل ما يطلبه الإسلام ما الناس أن يقدموا على هذه الأفعال بدوافع مختلفة وأن يؤدوها بطريقة مختلفة. الدافع المختلف هو أن يبتغوا بها وجه الله. والأسلوب المختلف هو أن يؤدوها بالعدل وبالحق بحيث تؤدى إلى تحقيق غاياتها النفعية والأخلاقية دون أن يلزم من ذلك حدوث نتائج غير مرغوبة أو غير عادلة أو غير أخلاقية.(33/440)
والوحدة المشار إليها سابقاً بين القوانين الأخلاقية والعبادات الدينية تأتي من أن الإسلام لا يفضل الدين عن الدنيا. فمن وجهة نظره، توجد حقيقة واحدة فقط لا حقيقتان كما هو شأن الأديان التي تقسم الحياة إلى قطاعين: ديني مقدس وعلماني. ليس هناك شيء مقدس بهذا المعنى سوى الله. كل شيء في نظر الإسلام مخلوق وليس مقدساً، ويفترض أنه خير ما دام من صنع الله. وطريقتنا في أداء ما نفعل هي التي تحقق المتطلبات الدينية أو الأخلاقية أو لا تحققها . فإن فعلت فالعمل خير، وإلا فهو شر. وعلى هذا، فإن أفعال الإنسان وحده هي التي يمكن أن تكون خيراً أو شراً بناء على ما تؤول إليه من تحقيق العدل والحق والجمال والسعادة أو عكس ذلك. وعلى هذا، فصفة "التدين" لا تعني أن ينسحب الإنسان من الممارسات المعتادة في الحياة ولا أن يقتصر على الأعمال الخالية من أي قيمة نفعية. فأمر الدين كله إنما هو صفة لنفس الممارسات الحياتية. وعلى هذا الأساس يبقى الإسلام ملتحماً بواقع الحياة والتاريخ. وفي خارج نطاق الحياة والتاريخ ليس ثمة فضيلة ولا تقوى، بل ولا إسلام. وقد ترى النصرانية والبوذية الدين في غير مجريات الحياة والتاريخ، وقد تفرضان إذلال النفس والتنسك والرهبنة والمجاهدة، بل وتجميد تلك المجريات نفسها. إنهما تفعلان ذلك لأن مجريات الحياة والتاريخ في نظرهما أهل للشجب على أساس أنها شر ومحكوم عليها بالهلاك. فالمسيحية تؤمن بأن الخليقة "آثمة" و "شر" و "لا خير فيها"، وترى الخلاص من ذلك في الإيمان بالمسيح وتقليده. كذلك، فإن البوذية تؤمن بأن الخليقة "شر" لا شيء فيه سوى الألم والمعاناة، وتفرض إنكار الذات وإنكار الحياة كباب للخلاص من مجريات الحياة والتاريخ.
أما الإسلام فإنه ينكر مثل هذه المسلمات المسبقة التي تلعن الحياة والتاريخ، ويرى أن الخلقة خير وأن الله سبحانه وتعالى خلقها لغاية طيبة ، وأن تحقيقها يتأتى بالإخلاص لله وطلب العدالة للبشر. والمشاركة في مجريات الحياة من أساسيات نظرة الإسلام للإنسان. لقد عين الله سبحانه وتعالى للإنسان هدفين ليحققهما. الأول، أي أن يعيد ترتيب جزئيات الحياة بحيث تصبح بكل طاقاتها في خدمة الحاجات الإنسانية، يستوي في ذلك الجزئيات المادية (من طعام ومأوى وراحة وإنجاب) والخلقية والفكرية والجمالية. الثاني، أن على البشر في عملية توجيه الخليقة نفسها أن يستعْلوُا بالقيم الخلقية فينتقوا منها - للدخول في عمليات التوجيه تلك وعلى أسس أخلاقية - ما يحقق ما يقتضيه الإخلاص لله وتحقيق العدالة البشرية.
إن مضمون "الأمانة" الإلهية، وبالتالي مضمون "الخلافة"، هو بناء الثقافة والحضارة والسمو بها، إن محور "الخلافة" هو تحقيق السلام والأمن على الحياة والممتلكات وتنظيم البشرية في مجتمعات منظمة قادرة على إنتاج الطعام وعلى معالجته وتخزينه وتوزيعه على الجميع بشكل كاف كماً ونوعاً، وتهيئة المأوى والدفء والراحة والاتصالات واليسر، وإعداد ما يكفي من الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وأخيراً، تهيئة الفرص للتعليم وتحقيق الذات وللتمتع الترفيهي والجمالي. وهذا مرادف لإقامة ثقافة وحضارة ولبناء الحياة في هذا الوجود، ولقد أمر الله عز وجل بإقامة ذلك كله ، وأعلن أن ذلك هو السبب الحقيقي لخلق العالم، والمراد الإلهي الأسمى من وراء هذا كله هو أن يبرهن البشر على أهليتهم من الناحية الأخلاقية فيما يقومون به من أفعال ، وبإمكانهم أن يحققوا هذا ببساطة بأن يجعلوا الله قبلتهم في كل ما يقومون به إذ يمارسون كافة أنشطتهم الحياتية فيجعلونها لوجه الله سبحانه وتعالى، وبأن يحرصوا على إقامة مبدأ العدل من خلال هذا كله ... إن المسلمين يفهمون -وبحق- أن هذا الاستخلاف عمل سياسي في المقام الأول ، وكثيرا ما ربط القرآن الكريم الاستخلاف بإقامة السلطة السياسية (الأعراف : 73) وبضمان الأمن والسلام (النور 54) وبالقضاء على أعداء الله واستبدال نظم حكمهم الظالمة بحكم خلفاء الله في الأرض (الأعراف: 128) (يونس : 13) ... ويعتبر العمل السياسي أي المشاركة في العملية السياسية بدءا من اختيار الحاكم أو بيعته ، وتقديم المشورة والنصح للحاكم ووزرائه، ومراقبة أعمالهم ونقدهم أو حتى خلعهم - كل هذه ليست فقط أمورا مرغوبا فيها في الإسلام بل هي من أوجب الواجبات الدينية والأخلاقية ، والنكوص عن القيام بتلك الواجبات يعني الوقوع في الجاهلية كما قال الرسو صلى الله عليه وسلم ، ولقد حارب أبو بكر والصحابة من رفضوا تلك المشاركة وإن احتفظوا بالعقيدة واعتبروهم كفارا خرجوا من الإسلام كله ، وإذا كانت المسيحية تعتبر العملية السياسية من مهاوي الشر وتنصح بعدم المشاركة فيها ، فإن الإسلام يعتبر ذلك من جوهر الإسلام وينهى عن الانسحابية ، ويصدق هذا الأمر نفسه -وبتأكيد أشد- على بناء الثقافة والحضارة ، فالإسلام يعتبر أن بناءهما هو الشغل الشاغل للدين ، ولهذا فإن تخلي جماهير المسلمين في عصور الضعف عن المشاركة في النشاط السياسي لمما يتناقض بالكلية مع معايير الإسلام.(33/441)
كذلك، فإن المبدأ نفسه يصدق على متطلبات السلام والأمن، وهما أثمن جائزة يسعى إليها العالم الإسلامي اليوم. فكل مسلم يجب أن يأمن على حياته وممتلكاته وعلى كرامته الشخصية ومكانه في المجتمع. وتوفير هذا المطلب من أول الواجبات الاجتماعية. ومن أجل هذا، طلب الإسلام من كل مسلم أن يكون "مسيَّسا"، أي أن يكون يقظا وأن ينظَّم ويُدفع إلى أن يعمل على تحقيق هذا الهدف لنفسه ولأفراد أسرته ولجيرانه ولكل إخوانه من المسلمين.
ج- الشمولية: إن منهج الإسلام لبناء الثقافة والحضارة منهج شامل، كما يجب أن يكون إن فهمناه حق الفهم. وهذا الشمول هو من الخصائص الأساسية للشريعة. فكل جانب من الحياة الإنسانية له حكمه الملائم في الإسلام. هذا الحكم قد يكون واضحاً وقد يكون غير واضح، ملزِماً كما في "الواجبات" و "المحرمات" أو غير ملزم كما في الإرشادات "المندوبة" و "المكروهة" و "المباحة". المهم أن لا شيء يند عن أحكام الإسلام. حقاً إن دائرة "المباح" في الإسلام واسعة، لكن سعتها ليست دليلاً على عدم وجود ما يلائمها في الإسلام، وإنما سببها أن المباحات تقع خارج نطاق "المطلوبات" المحددة، سواء أكانت "إلزاميات" كالوجبات والمحرمات، أو "أفضليات" كالمندوبات والمكروهات. وخارج هذا النطاق تقع الثقافة وطرائق المعيشة، وهي لا تقل أهمية في نظر الإسلام عن قطاع "المطلوبات" التي تعتمد في الحقيقة، على التربية الموفقة؛ فهي تمثل المنطلقات الأولية لها وبدونها تصبح غير واردة. فلا شيء يمكن فرضه بالقوة ما لم تكن الجماهير قد تربت عليه من قبل وسبق اقتناعها به.
ومن هنا، فإن واجب المفكر المسلم أن "يؤسلم" الحياة، أي أن يحدد نظرياً وتطبيقياً علاقة الإسلام بكل جزئية في الحياة الإنسانية. ولقد أوضح القرآن ذلك بالفعل في عدد من ميادين النشاط الإنساني، وذلك عن طريق تحديد مكانة الأفضليات والمباحات، كما في التحية وخفض الصوت والاستئذان عند الدخول، وسرعة الانصراف بعد تناول الطعام (عند الغير) وإحسان معاملة الوالدين ومن يكبروننا سنا ... الخ. وقد بذل الرسو صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لاستكمال التطبيق سواء بالإرشاد أو بالقدوة العملية في مجالات كيفية الأكل والشرب والمحافظة على النظافة والترويح عن النفس ومعاملة الجيران ... الخ . وأسلوب الحياة الذي قرره الإسلام تفصيلياً في العصور الأولى وما تفرع عن تلك التوجيهات القرآنية والنبوية، نراه اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف وبلورة واستكمال بحيث تغطي ما لم يكن معروفاً من الأنشطة زمانئذ، أو تصبح أدق تطبيقاً على ما ترتب على التمدن الحديث من مجالات تمتد من الكماليات إلى الضروريات. مثال ذلك: مجالات العلاقات الاجتماعية والسفر والنقل والترفيه والفنون السمعية والبصرية ووسائل الاتصال الجماهيري وغيرها من الميادين التي تحتاج إلى أن تمتد إليها توجيهات الإسلام.
(5) وحدة الإنسانية:
مادامت الوحدانية صفة لله عز وجل، وهو سبحانه الخالق، فلابد أن تمتد صفة الوحدة الإلهية إلى كل البشر لأنهم من خلقه. ومن الطرف الآخر، لابد للبشر أن يرتبطوا جميعاً كمخلوقين بخالقهم. ولا يمكن أن يتعدد وجودهم من حيث هو، وإلا أدى ذلك إلى تعدد مماثل في الخالق. حقاً، إن البشر يمكن أن يتفاوتوا في الخصائص من العنصر واللون والبنية والشخصية واللغة والثقافة؛ لكن أيا من هذه الخصائص لا يمثل قيمة وجودية، بمعنى أنه لا يجعل من الشخص كائناً مختلفاً، كما لا يستطيع أي منها أن يؤثر في وضع الشخص كمخلوق أمام الله سبحانه وتعالى. فقيمتها ليست أساسية في مخلوقية الشخص لله، هذه الخصائص السلالية (الإثنية) التي تحدد معالم شخصية صاحبها وسلوكه قد يكون لها دور في امتيازه أو انهياره أخلاقياً، وهو أمر كثير الوقوع، لكن دورها في تحديد النتائج الأخلاقية ليس ضرورياً ولا نهائياً ولا مطلقاً. فليس من الضروري أبداً أن شخصاً ذا تركيبة خاصة متخيلة من تلك الخصائص يكون ذا قيمة خلقية عالية أو هابطة. فجوهر بناء وجود الشخص يجب أن يبقى إلى حد ما حراً من سيطرة تلك الخصائص قادراً على أن يتبع قوتها الموجهة أو أن يخالفها عن طريق تحويل تلك القوة إلى غايات أخرى.(33/442)
هذا المبدأ هو السبب الذي يقف وراء الحقيقة الإلهية التي قررها القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .....)(الحجرات: 13). إن الانتماء إلى نوع (ذكر أو أنثى) أو إلى قبيلة أو أمة أو إلى سلالة دون أخرى ربما كان أوضح خصائص البشر وأول عوامل التمييز بينهم. يلي ذلك عوامل اللغة والملامح الوراثية والذكاء والمهارة والقوة البدنية، وهي أقل ثباتاً عند الميلاد وأكثر قبولاً للتغير. وثالثاً، تأتي الشخصية بخصائصها ذات القابلية العالية للتغير والتي تكوِّن الفضائل والرذائل: من الحكمة والمعرفة والتقوى والصبر إلى الجهل والحمق والكفر والتمرد... هذه العوامل كلها تشكل الشخصية الإنسانية وطريقة الحياة، على الأقل من حيث الأساس والقاعدة. أما بقية بناء الشخصية ونمط الحياة فيتكون من العادات أو الآراء، من الميل أو المزاج، من السمعة ومن تاريخ وتقاليد هذه الشخصية عبر تراكمات أعمالها. كل من هذه العوامل له دور في بناء الفرد الإنساني وفي تحديد هويته. لكنها تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً، فبعضها خَلْقي محدد من قبل المولد، وهو - لهذا - ثابت لا يتغير، وبعضها مكتسب في مراحل مختلفة من الحياة، ولذلك ينمو ويتطور، أو يتغير ويزول.
والبشر معرضون كثيراً لأن يخطئوا تقدير قيمة هذه الخصائص وطبيعة الدور الذي تقوم به في حياة الشخص. ففي التاريخ لم يكن لأي من خصائص الإنسان دور في تحديد الحكم على الأشخاص والجماعات أعظم من الدور الذي قامت به المجموعة الأولى من الخصائص، وأعني بها النوع والسلالة. ومع ذلك فهي أشد تلك الخصائص براءة من هذه التبعة نظراً لأنها أقلها اعتماداً على قرار الإنسان أو عمله الأخلاقي، كما أنها أضعفها قابلية للتغير. إن طبيعة المباشرة الوضوح في هذه الخصائص كثيراً ما تضلل الحكم فنأخذها على أنها حقائق وجودية ويبنى التفرقة والتمييز بين الناس على أساسها. وهذا هو السبب في أن القرآن الكريم قد بدأ بها وقصد إلى هدم كافة الأحكام المبنية عليها. إن هذه خصائص من صنع الله، ضرورية ولا تتغير، وقد خلقها الله لتكون فقط عوامل تعارف. إن علينا أن نأخذها على أنها "جواز سفر" أو "هوية شخصية" لا تنبئ عن قيمة صاحبها أو طبيعته الأخلاقية. وهذا هو معنى الآية إن أخذناها على المعنى الحرفي. أما إن أخذنا "ليتعارفوا" مأخذاً مجازياً، فإن القرآن حينئذ يخبرنا بأن الله قد خلق الخصائص النوعية والسلالية كي يتمكن البشر من خلالها من التكامل والتعاون [بتبادل الخبرات المتميزة عند كل شعب].
إذن، كل البشر خلق واحد ومتساوون: وهذا أساس العالمية في الإسلام. كل البشر عند الله سواء لا تميزون إلا بأعمالهم وفي الفضائل الخلقية والإنجازات الحضارية والثقافية. فإذا كانت هذه الأعمال تعتمد على خصائص ثقافية موجودة تعرقل مثل هذا الإنجاز، فالواجب علينا أن نغير هذه الخصائص وننمي أخرى - وهذا أمر في الإمكان دائماً، والباب مفتوح أبداً أمام مثل هذا التغيير. أما حين يتم الحكم على أساس الخصائص الثابتة، فإننا نرتكب جريمة أخلاقية، وهي التعصب العنصري. والتورط في جريمة كهذه ينذر بشر مستطير يتمثل في انتهاك وحدة البشرية وانتهاك الوحدانية الإلهية أيضاً. لا شيء أشد مقتاً عند الله تعالى من الشرك، ولا شيء أقرب إلى الشرك من التعصب العنصري. ولا شيء كالعنصرية أدى إلى العداوة والحروب وإراقة الدماء بين البشر. لقد ألصقت بالدين وبضروب كثيرة من الأسباب تهمة التسبب في إثارة مختلف الصراعات بين جماعات البشر. والحق أن كافة الصراعات تقريباً بين الجماعات يمكن إرجاعها إلى قرارات عنصرية اتخذت على أساس الخصائص الثابتة لمن يدعون "أعداء".
إن الإسلام لا يلتقي أبداً مع التعصب العنصري الذي يعتبر التمييز العنصري والقومية من صوره السائدة. إن الصراع بينهما لا حد له نظرا أن ما ينزله التعصب العنصري من دمار في الروح الإنسانية - فاعلة أو مفعولة له - لا يمكن جبره.(33/443)
وإدانة التعصب العنصري كما يفعل الإسلام ليست إدانة للوطنية ، إذ الأخيرة تعني موقفاً من الحب والإعزاز، والتقدير لحياة الجماعة وقيمتها، ومن الاستعداد لتحمل المرء كل بذل وتضحية، بما في ذلك التضحية بالنفس في سبيل الدفاع عنها. فليست الوطنية على هذا بريئة من الشر فقط، بل إنها عمل إيجابي صالح يفرضه الإسلام. فمن الواجب على المرء دينياً وأخلاقياً أن يحب قومه ويخدمهم ويدافع عنهم ضد كل اعتداء وظلم، وكذلك أرضه. فما أبعد الفرق بين التعصب العنصري والوطنية. إن جوهر الأول هو الإدعاء بأن مزايا الشخصية السلالية هي المعيار المطلق للخير والشر؛ وأشنع صوره هي اعتبار سلالة ما أسمى من كل البشر نتيجة للخصائص الذاتية في أفرادها ثم إجلال تلك المزايا والتمسك بها على حساب كل المزايا الأخرى. والتعصب العنصري بهذا الزعم يتطلب الولاء المطلق له ممن يؤمنون به، ما دامت الدعوى التي يقدمها هي أن العنصر أو السلالة هو الحقيقة المطلقة. إن الشعب المتعصب عنصريا، يهودياً كان أو ألمانياً أو فرنسياً أو روسياً، يدعى مخلصاً أن اليهود أو الألمان أو الفرنسيين أو الروس هم الحقائق المطلقة التي تمثل المعيار المطلق للخير والشر. إن ما غرسته الصهيونية في روح الشعب اليهودي، وما غرسه "هيجل" و "فيخته" و "نيشته" وغيرهم من المفكرين الرومانسيين في روح الشعب الألماني عما هو "الوطن الألماني"؛ وما غرسه "روسو" و "فوستيل دي كولانج" وغيرهما من روح الشعب الفرنسي عما هي "الأمة" أو "فرنسا"، قد وصل إلى ما يشبه المبدأ المقدس الذي نفخ الغرور في اليهود والألمان والفرنسيين فصار عندهم أشبه بالحقيقة المطلقة للمعتقد الديني. وإن ما تتطلبه مثل هذه الأساطير الغامضة من اعتداد بالنفس ومن إلهام، وإن التأثير الشديد الذي تمارسه على قلوب معتنقيها وخيالاتهم، ليسبه تماماً الآثار المرتبطة بحقيقة تتصف بأنها أسطورية وهائلة وأخاذة لها أولوية مطلقة ومتجاوزة للواقع.
أما المسلم فهو الشخص الذي يعتقد نقيض ذلك تماماً بأن "إلهه" هو الإله الواحد للجميع ولكل شيء ولا إله سواه ، فتلك هي المسلمة الضرورية التي تبني عليها لزوماً كل صور الوحدة المشار إليها سابقاً إضافة إلى وحدة الإنسانية كلها. ومن التناقض في التسمية أن نقول "مسلم قومي" أو "عنصري". والمسلم الذي يعلن أن ولاءه إنما هو لقوميته وحدها هو إما "منافق" أو "زنديق" وإما رجل ذو ولاء سطحي زائف لا يثبت أمام إغراء الرشوة والمصالح الشخصية. وهذا هو أيضا السبب الذي يفسر كيف أن الحياة العملية للغالبية العظمى ممن يدعون بالزعماء القوميين المسلمين الملتزمين قد خلت كثيراً من الانسجام والإخلاص للمبدأ المعلن والتكامل الخلقي.
إن معرفة الإنسان في العصر الحاضر تقوم كلها على أن العنصر أو السلالة هي التي تحدد إنسانية الإنسان بإطلاق ، ومعرفة المجتمع تقوم على العنصر كأساس مطلق للنظام والبناء الاجتماعي. ولم تتح أبداً فرصة التحقق الواقعي لمبدأ عالمية "عصر التنوير" قبل أن يتم رفضها لصالح المبدأ العنصري الذي دانت به الرومانتيكية. حتى عالمية "عصر التنوير" كانت نظرية وموضع شك، إذ كانت - حتى على يد أمير هذه الحركة "عمانويل كانط" - تعتبر أن مختلف شعوب البشر تتدرج ما بين رفيع ووضيع على أساس من تحيز أوربي موروث وغلى أساس الخصائص الذاتية الداخلية للشعوب الآسيوية والإفريقية والأوروبية. لقد اكتسحت الرومانتيكية الغرب كله، وأتت على كل أثر للعالمية العقلانية أو النصرانية، وقدمت أعظم دعم للدراسات الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية. ولقد حدد المفكرون الإنسان على أنه حصيلة لعدد من الحقائق والقدرات والقوى التي تنبثق وتتغذى من تصور لوطن أسطوري ومن سلالة أو شعب أو دم يمتد في غموض إلى أبعاد زمنية لا نهائية ، ومن تقاليد تمتد جذورها إلى أعماق وأبعاد لا نهائية في كل من الزمان والمكان. أضف إلى هذا أن هذه الأمور لا تفهم عن طريق العقل، وإنما نلتقط من خلال العواطف والتجربة المباشرة والحدس، وتجد أبلغ وأوضح تعبير عنها في الفنون، خاصة الموسيقى والرسم والأدب. حتى الدين، تصوره أولئك المفكرون الرومانسيون ، خاصة "شليرماخر" Schleie r mache r ، تصوراً جديداً على أنه يرتكز على أساس وحيد هو تجربة المؤمن به التي لا يمكن وصفها، أي أحاسيسه الشخصية، وهو تصور يحط من قيمته بعد ذلك أنه تصور غير عقلاني بل اعتباطي تحكمي لا يختلف في طبيعته عن "الأوهام" و "المخدرات".(33/444)
لقد استمرت الدراسات الإنسانية في الغرب تتحدث عن "الإنسان" و "الإنسانية"، لكن بالمفهوم الرومانسي الذي يحصر مضمون هذه المصطلحات في "الإنسان الغربي" و "الإنسانية الغربية". وإذا كانت لم تستبعد تماماً من دائرة الإنسانية المليار من "السود" والمليار من "الحمر" والمليار من "الصفر" في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإنها تعدهم مخلوقات تكاد تقترب من الإنسانية يمكن أن تستعمر وأن تستغل لصالح الإنسانية الغربية.وبالطبع فإن من الواجب إجراء الدراسات عليهم، لكن المطلوب هو أن يتم دراستهم كعينات لعصر كان الغرب قد مر به في فترة سابقة ، وبذلك يساهمون في تمكين الإنسان الغربي من أن يفهم تاريخ تطوره.
إن التمركز-حول-العنصر بطبيعته مثير للشقاق والتفرق، إذ من الممكن دائما أن تجد داخل أي مجموعة مجموعات أصغر تكشف عن مزيد من التركيز للخصائص الداخلية أكثر من المجموعة الأكبر، وهذه "الحقيقة" يمكن أن تمهد القاعدة لمجموعة أصغر ترى نفسها كياناً عنصرياً مزوداً بخصوصيات أنقى و أقوى. وإذا كانت الرومانتيكية قد فصلت الغربيين عن بقية العالم الذي كانوا على وشك أن يحتكوا به احتكاكاً مكثفاً نتيجة لتطور الصناعة والنقل، فإنها قد مزقت الغرب ذاته إلى قوميات متعادية متنافسة تسعى كل منها إلى "مصالحها القومية" وكأنها وحدها المعيار الوحيد للخير والشر. وسرعان ما تعلمت أمم الغرب من بعضها وقبلت كل منها ما انتهت إليه الأخرى. كما انتقلت بسرعة النظرات والتحليلات والتعبيرات الرومانتيكية من أمة إلى أخرى على أنها حقائق ، ثم تبنتها وطبقتها كما لو كانت من صنعها هي.
وبتأثير الدفعة التي قدمتها الرومانتيكية تطورت العلوم الاجتماعية الغربية: التاريخ والجغرافيا والاقتصاد وعلم السياسة والاجتماع و الأنثروبولوجيا (علم الإنسان). وهي تقوم كلها، كل بطريقته الخاصة، على أساس نظرة عنصرية مؤداها أن الأمة أو الكيان العنصري بمفهومهما المحدد جغرافياً وسكانياً وتاريخياً (لكن الأخير يكون مشوشا وغير محدد) هي الوحدة المطلقة للتحليل والتقويم. وحينما يتحدثون عن "المجتمع" أو "النظام الاجتماعي" فإنهم يقصدون كيانهم ونظامهم القومي. بعضهم يذكرها صراحة منذ الصفحة الأولى، وآخرون لا يصرحون بها على أساس أنها أقوى الفروض الأساسية التي لا تحتاج أن تذكر. ويؤكد علم الاجتماع بجرأة على المقولة العنصرية لأنه يتعامل مباشرة مع المجتمع والنظام الاجتماعي. وعلى إثره يقفو علم السياسة. أما علم الجغرافيا والتاريخ الغربيين فلا يتصوران العالم إلا كتابع للغرب، عالم يدور حول بريطانيا أو أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا، التي هي بمثابة القلب والنواة له، وذلك حسب المؤلف ومكان النشر. أما علم الاقتصاد الغربي فقد كان في مراحله الأولى بعيداً عن الموضوعية العلمية بحيث ادعى لنفسه مكانة العلم العالمي. لكنه أعيد إلى مكانه كتحليل غربي لأمة غربية على أيدي النازيين وهم قادة الرومانتيكية والعنصرية في أوروبا. ونفس الدعاوى الفارغة التي أسبغها كارل ماركس على هذا العلم أنكرها لينين وخروشوف من خلال الممارسة العملية. لكن نظام حكمهم لم يسمح حتى الآن بإعلان أي شيء مكتوب بهذا الخصوص، وإن سمح بقدر معقول من الإعلانات العنصرية (المدعوة هنا بالاشتراكية - القومية) أن يدرج في الدستور (الجديد) للاتحاد السوفيتي عام 1978.
وأخيراً، فإن علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) يعتبر أجرأ هذه العلوم جميعاً. فالإنسانية في نظره تعني العنصرية، وأنهما منطقياً متكافئتان وقابلتان لتحل إحداهما محل الأخرى. وفي القرنين الأخيرين كان تأثير هذا العلم يسوق البشرية إلى سعار من الوعي بالعنصرية وذلك من خلال فرز مجموعات ثانوية واحدة بعد الأخرى وإقامة نظام من المبادئ والقيم لكل مستقى من الخصائص الذاتية لها أو مما لفقه دعاة هذا العلم وأعلنوا أنه ذاتي ومختص بتلك المجموعة العرقية. فبدلاً من إدراك الخصائص العالمية في الإنسان وتأكيدها، إذ بهذا العلم ينمي ويضخم بشكل كبير الجوانب الخصوصية.(33/445)
اعترف الإسلام بالأسرة على أنها وحدة البناء في النظام الاجتماعي، ودعم صورتها الممتدة بالتشريعات المتعلقة بالإرث والإنفاق حتى يمكن أكبر عدد ممكن من أعضاء الأسرة أن يأكلوا من مطبخ واحد، وأن يتكافلوا، من ثم، اقتصادياً. والغاية هي أن يصبح أفراد الأسرة الممتدة، من خلال عيشهم في تقارب وكثيراً ما يكون ذلك تحت سقف واحد، متكاتفين في سبيل صحتهم العقلية والعاطفية والاجتماعية وصالحهم العام. أما فيما وراء الأسرة فإن الإسلام لا يعترف بالجماعة القومية أو العنصرية، وإنما بالإنسانية والنظام الاجتماعي العام. فلا شيء يقف بين دائرتي الأسرة والإنسانية. وهما معاً يكونان كل شيء في النظام الاجتماعي. وعضوية الإنسان في هذا النظام هي ما يهتم به الإسلام في العلوم الاجتماعية. أما سائر التقسيمات للبشر بين دائرتي الأسرة والإنسانية، كالقطر والإقليم والشعب والأمة، فإن الإسلام يعتبرها وحدات إدارية بحتة لا علاقة لها بالمرة بتحديد الخير والشر ولا بفهم الشريعة أو تطبيقها. وعليه، فإن ما عند الغرب الحديث من فنون وعلوم إنسانية واجتماعية يجب أن تعاد صياغتها برمتها، وأن تقوم قواعدها الأولية على أساس جديد يتطابق مع عالمية الإسلام. كما ينبغي أن يمدها المفكرون المسلمون بقيم جديدة، أعني بقيم وغايات إسلامية، لتكون بمثابة أهداف عليا لترشيد البحوث الاجتماعية.
الفصل الرابع
خطة العمل
تتمثل أهداف خطة العمل فيما يلي:-
1- إتقان العلوم الحديثة.
2- التمكن من التراث الإسلامي.
3- إقامة العلاقة المناسبة بين التصور الإسلامي وبين كل مجال من مجالات المعرفة الحديثة.
4- الربط الخلاق بين التراث الإسلامي والمعرفة الحديثة.
5- الانطلاق بالفكر الإسلامي في المسار الذي يقوده إلى تحقيق سنن الله سبحانه وتعالي على أرضه.
وإذا أردنا تحقيق هذه الأهداف فعلينا السير في عدد من الخطوات المرتبة ترتيباً منطقياً يحدد الأولوية الملائمة لكل خطوة منها ... وفيما يلي نسوق الخطوات الضرورية لأسلمة المعرفة.
الخطوة الأولى: إتقان العلوم الحديثة وتقسيمها إلى فئات
من الواجب أن تقسم العلوم الحديثة في صورتها الراهنة وفي أعلى مستويات تقدمها في الغرب إلى أنواع وقواعد ومنهجيات ومشكلات وموضوعات .وهذا التقسيم يجب أن يعكس قائمة المحتويات لأي كتاب دراسي جامعي يغطي مناهج هذا الفرع ومجالاته، وبمعني آخر، يمثل محتوى مقرر دراسي في هذا الفرع لا يستغني طلاب الدراسات العليا في هذا التخصص عن دراسته واستيعابه. مثل هذا التوصيف للمقرر لا يكفي أن يصب في تعبيرات اصطلاحية وعناوين لأبواب وفصول، بل لابد أن يكون على شكل جمل معبرة توضح معاني المصطلحات وتفسر الأبواب والقواعد والمسائل والمواضيع الكلية لهذا الفرع الدراسي في أكمل شكل غربي له.
الخطوة الثانية: المسح الشامل للفروع أو التخصصات العلمية
يجب أن تتم عملية مسح شامل لأدبيات كل علم من العلوم ، وأن تكتب عنه المقالات لتبين الخطوط العريضة لنشأته وتطوره التاريخي ونمو مناهجه واتساع ميدان رؤيته ، والإضافات الأساسية التي أسهم بها المتخصصون فيه. كما يجب أن يلحق بكل مسح منها قائمة ببليوجرافية شارحة تعرف بأهم مراجع هذا العلم ؛ فتضم بشكل مبوب منظم أهم الكتب والمقالات التي تقوم على أساسها مادة هذا الفرع والتي بدونها لا يمكن الوصول إلى إتقانه.
إن من أهداف هذه الخطوة أن يتم التأكد من أن المسلمين قد توصلوا إلى فهم شامل لهذا العلم واستوعبوه بكل مراحل تطوره في الغرب. فإذا ما تحقق هذا المسح للعلم بشكل جيد ودُعم بالشروح والهوامش الشافية فإنه سيقدم للمتخصصين فيه أساساً لفهم مشترك لهذا العلم الذي ينتظر منهم أن يعيدوا صياغته في ضوء التصور الإسلامي. ولما كانت فروع العلم اليوم قد أصبحت في الغرب متعددة الجوانب بسبب انفجار المعرفة، فقد بات من الضروري للعلماء المسلمين ممن يتناولون هذا الفرع أن يقفوا على أساسه وأن يتفقوا فيما بينهم على الموضوع الذي سيبذلون جهودهم في "أسلمته" من حيث طبيعته وتاريخه وخصائصه وحدوده.
الخطوة الثالثة: التمكن من التراث الإسلامي: المختارات(33/446)
قبل الدخول في تفاصيل نوع العلاقة و درجة الملاءمة بين الإسلام و بين علم معين يجب أن نكتشف ماذا في تراث الإسلام مما يتصل بهذا الفرع من فروع العلم... إن تراث أسلافنا يجب أن يظل بالنسبة لنا نقطة الانطلاق لتحديد مدى الارتباط بالإسلام. وإن أسلمتنا للعلوم ستكون ضحلة جدا إذا لم نأخذ تراثنا في الحسبان وإذا لم ننتفع بنظرات أسلافنا الثاقبة. ولكن مساهمة التراث في تخصص ما كثيرا ما لا تكون ميسرة للباحث الحديث حتى يصل إليها ويقرأها ويفهمها؛ بل إن الباحث الحديث ليس مؤهلاً حتى للبحث في التراث عن مساهمات الإسلام في تخصصه. والسبب هو أن تصنيفات العلم الحديث لا توجد، ولا حتى أسماؤها، في التراث على هذا النحو. كذلك، فإن التراث قد يحتوي على معلومات قيمة لا يمكن تصنيفها طبقاً لأي تصنيف حديث ولا ربطها به. وإن العالم المسلم الذي تدرب في الغرب كثيراً ما ينهزم أمام استغلاق التراث الأمر الذي يدفعه بقوة إلى الإعراض واليأس والحكم بأن ليس في التراث شيء حول موضوع البحث، مع أن الحقيقة أنه هو الذي لا خبرة له بتصنيفات التراث التي تندرج تحتها مثل تلك المادة الملائمة لموضوعه. وفوق هذا، فإن العالم المسلم الذي تدرب في الغرب لا يمتلك الأوقات ولا الحيوية المطلوبة للقيام باستطلاع ناجح للمؤلفات الضخمة والكثيرة التي تضم تراث العلم الإسلامي.
من ناحية أخرى فإن أساتذة التراث الإسلامي التقليديين - على الرغم من خبرتهم به - لا يمكنهم أن يكتشفوا ولا أن يحددوا جوانب الملاءمة بين هذا التراث والعلوم الحديثة نظراً لجهلهم بتلك العلوم، وعدم درايتهم بموضوعاتها ومسائلها وقضاياها. ومن هنا يتوجب أن نعرفهم بما نحتاج إليه ثم نتركهم ينطلقون إلى التراث في حرية ليستخرجوا منه ما هو مناسب. ولهذا كان ما تنتهي إليه الخطوتان الأولي والثانية يخدم هذه الغاية من خلال تعريف الخبراء بالعلوم الحديثة وإمدادهم على هذا النحو بمعايير التلاؤم التي يستطيعون استخدامها في بحوثهم.
وتتضمن هذه الخطوة إعداد عدة مجلدات من مختارات التراث تضم ما له صلة بالعلوم الحديثة ، على أن تكون مرتبة طبقا لمنهج التصنيف الحديث لكل علم. هذه المختارات ستضع أمام العالم المسلم الحديث طريقا ممهدة إلى التراث في مجال تخصصه، إذ ستقدم له - في منهج موضوعي مألوف لديه - أفضل ما ساهم به التراث في مجموعة القضايا التي تشكل الموضوعات الرئيسية لمجال دراسته. وما دام المتخصص المسلم الحديث لا يمتلك من الوقت ولا الخبرة للوصول بنفسه إلى التراث (بل إنه في معظم الأحوال لا يعرف حتى لغة التراث) فليس من الممكن له، بدون هذه المختارات، أن يصبح على إلف بالتراث، فما بالك بالتمكن منه؟!
الخطوة الرابعة: التمكن من التراث: التحليل
لكي نقرب منجزات التراث الإسلامي من فهم العالم المسلم الذي تربى في الغرب، فمن الضروري ألا نكتفي بأن نقدم له صفحات من التراث على شكل مختارات مادة علمية تتصل بموضوع معين. لقد قام الأسلاف بواجبهم في ربط المشكلات التي واجهتهم بالمنظور الإسلامي والرؤية الإسلامية. وقد فعلوا ذلك تحت تأثير شتى العوامل والقوى التي دفعتهم إلى التيقظ. وعلينا - كي نفهم طريقتهم في بلورة الرؤية الإسلامية - أن محلل كتاباتهم في ضوء الخلفية التاريخية التي ظهرت فيها ، وأن نتبين ونبرز علاقات المشكلات القائمة في عصرهم بالقطاعات الأخرى من الحياة والفكر. هذا التحليل التاريخي لمساهمات التراث سيكشف ولا ريب مناطق عديدة من الرؤية الإسلامية ذاتها. مما يقودنا إلى فهم أفضل لهذه الرؤية نتعلم منه كيف فهمها الأسلاف وكيف حركتهم ، وكيف ترجموها إلى مناهج تطبيقية في الأفعال والسلوك، وكيف أعانتهم على حل ما واجهوه من مشكلات وصعوبات خاصة.
مثل هذه الأنماط من التحليل لمساهمات التراث الإسلامي لا يمكن أن تتم اعتباطاً. بل يجب أن يقام نظام متدرج من الأولويات وأن يدعى العلماء الإسلاميون لتنفيذه بصورة منظمة. فبالإضافة إلى المبادئ الأساسية والمشكلات الكبرى والقضايا المستمرة، فإن المسائل التي يظهر أن لها علاقة بمشكلاتنا الحاضرة ينبغي أن تكون موضوع الاستراتيجية الإسلامية في التعليم والبحث.
الخطوة الخامسة: تأسيس مدى الملاءمة بين الإسلام وفروع العلوم الحديثة(33/447)
تنتهي الخطوات الأربع السابقة إلى وضع المشكلة في صورتها الكاملة أمام المفكر المسلم، فهي تلخص له كل التطورات التي توصل إليها هذا العلم مما فات المسلمين ففي فترات غفلتهم. وبالمثل، فإنها يجب أن تعرفه، في أوضح وأوثق صورة ممكنة، بمساهمات التراث الإسلامي في المجالات التي تتناولها هذه العلوم وبالأهداف العامة لكل علم. هذه المواد العلمية يجب أن توضع في صورة أكثر تحديداً وذلك بتحويلها إلى مبادئ على نحو تلتقي فيه مع العلم الحديث على مستوى العموميات أو التنظير أو المراجع أو التطبيق. وفي هذا الصدد يجب الربط بين التراث الإسلامي وطبيعة العلم الحديث ومناهجه الأساسية ومبادئه ومشكلاته وأغراضه وآماله وإنجازاته ونواحي النقص فيه؛ كما تستخلص من المساهمة العامة العلاقة الخاصة بين التراث وكل واحدة من تلك النواحي. هنالك ثلاثة أسئلة رئيسية يجب أن تطرح وأن نجد لها جواباً. الأول، ما هي مساهمة الإسلام ابتداء من القرآن الكريم وانتهاء بالتراث الذي توصل إليه المجددون المحدثون في جملة القضايا التي يثيرها هذا العلم؟ والثاني، كيف تتطابق أو تتعارض مساهمات التراث الإسلامي مع ما أنجزه هذا العلم؟ وأين وصل التراث في مستوى رؤية هذا العلم وآفاقه وأين قصر عنها أو تخطاها؟ والثالث، بعد معرفة المجالات والقضايا التي كانت مساهمة التراث الإسلامي فيها قليلة أو معدومة، في أي اتجاه يحسن أن تبذل جهود المسلمين مستقبلاً لكي تسد هذا النقص وتعيد صياغة المشكلة وتوسع مدى الرؤية؟.
الخطوة السادسة: التقييم النقدي للعلم الحديث: بيان واقع الفرع العلمي
بعد استعراض كل من إسهامات العلم الحديث والتراث الإسلامي، والتعرف على مناهجهما ومبادئهما ومشكلاتهما وإنجازاتهما ومسحها وتحليلها، وبعد توضيح العلاقة الخاصة بين الإسلام والعلم وإقامة أسسها، يجب أن نخضع هذا العلم الحديث لتحليل نقدي من وجهة النظر الإسلامية . وهذه خطوة رئيسية من عملية "أسلمة المعرفة". وواضح أن الخطوات الخمس السابقة تقود إليها وتمهد لها. وفي مجال التطور التاريخي للتخصص العلمي يجب أن نميز ونظهر الملابسات التي جعلت هذا العلم يجئ على صورته الحالية هذه. ويجب أن نحلل ونختبر منهجيته - وأعني بها ما يتضمن تحديد مادته الأولية ومسائله الأساسية ، وتصنيفه وتبويبه، ونظريته ومبادئه التي على أساسها يحل مشكلاته - وذلك من أجل الاختصار والكفاية والمعقولية والانسجام مع "الوحدة" فيما يتصل بكل الأبعاد الخمسة التي يقررها الإسلام والتي شرحناها من قبل. كما يجب تحليل مشكلات هذا العلم الغالبة وقضاياه المستمرة لنعرف ما وراءها من فروض وما لها من أهمية وعلاقة بالرؤية الأساسية له. ومن الواجب أن يكون الغرض النهائي للعلم ذا ارتباط محدد بمنهجيته وبأهدافه القريبة أيضا. فنتساءل : هل حقق التخصص رؤية مؤسسيه؟ وهل أدى دوره في عملية البحث عن المعرفة التي هي مطلب الإنسان؟ وهل حقق ما توقعه الناس منه كجزء من المطلب الإنساني العام؟ وهل حدد من أجل الفهم والتاريخ السنن الإلهية في الخلق التي قصد من ورائه تحديدها؟ وبالإجابة على هذه الأسئلة نصل إلى تقرير واضح وأصيل عن حالة هذا العلم، كما تتضح الجوانب التي تستلزم هذا الضرب أو ذاك من التصحيح الإسلامي أو التعديل أو الإضافة أو الحذف.
الخطوة السابعة: التقييم النقدي للتراث الإسلامي: بيان واقع التراث في أحدث صوره
[المصادر الأصلية] للتراث الإسلامي هي القرآن الكريم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، وسنة النبيمحمد صلى الله عليه وسلم ... وهذان [المصدران الأصليان] ليسا موضوعاً للنقد أو التقويم، فالطبيعة الإلهية للقرآن والطبيعة المعيارية للسنة فوق كل تساؤل. أما فهم المسلمين لهذين المصدرين فليس كذلك. بل إنه يخضع للتعديل والنقد في ضوء المبادئ التي يقدمها هذان المصدران الوحييّان. وينطبق هذا على كل الأشياء الأخرى في التراث والتي قد تكون مستقاة من أي من المصدرين الأصليين عن طريق الجهد العقلي البشري. إن هذا العنصر البشري بحاجة إلى إعادة النظر لأنه لم يعد يقوم بالدور الحيوي المحرك في حياة المسلمين كما فعل من قبل وكما يفترض أن يفعل دائماً. إن ربط فهمنا البشري للوحي بمختلف المشكلات الحاضرة يجب أن يخضع للنقد المستمد من ثلاثة مصادر:
الأول: الرؤية الإسلامية كما تستخلص بوضوح من مصادر الوحي مباشرة ومن تحقيقها تاريخياً على يد صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين رضي الله عنهم.
الثاني: ما تحتاجه "الأمة" في الوقت الحاضر في كل مكان من العالم.
الثالث: مجموع المعارف الحديثة التي يمثلها هذا الفرع من العلم.(33/448)
فإذا وجدنا أن التراث [الذي توصلنا إليه باجتهادنا] به نقص أو خطأ وجب تصحيحه بالجهود المعاصرة. أما إن وجدنا أنه لا بأس به، فيلزم، من أجل المستقبل، العمل على مزيد من تطويره وبلورته من جديد وبشكل مبدع. ذلك أنه في كل الأحوال فلن يصلح أمر من أمور الأمة الإسلامية اليوم إلا من خلال ربطه بتراث الإسلام. ولإنجاز ذلك الربط على هذا النحو فيجب أن يتم العمل على أساس من الدراية الكاملة بالتراث من حيث نواحي القوة والضعف فيه. وفي كل الأحوال أيضا فإن أي موقف يمر به العالم الإسلامي في الحاضر أوفي المستقبل يجب أن يستصحب للتراث دائماً ولا يخالفه بأي صورة جذرية.
إن مهمة تقويم ما ساهم به التراث الإسلامي في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني تقع على عاتق الخبراء في هذا النشاط. إنهم ميزان لما يحتاجه المسلمون في هذا الميدان، كما أنهم حذاق العلم الحديث الذي يدرس هذا النشاط. ومن المؤكد أنهم سيكونون في حاجة إلى مساعدة خبراء التراث كي نضمن فهمهم له على أعلى مستوى من الصواب والكفاءة.
الخطوة الثامنة: تحديد أهم مشكلات "الأمة"
تواجه الأمة اليوم، وقد انتبهت من رقادها، مشكلات هائلة على كل الجبهات. إن مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهى مشكلات مستعصية بكل المقاييس - ليست سوى الجوانب اليسيرة الظاهرة من مرضها الكامن في ناحيتي الفكر والأخلاق. وإن المشكلات الكبرى برمتها، و أسبابها ولظاهر المتفاعلة مع سواها من الظواهر والآثار المتصلة بمشكلات الأمة لتتطلب مسحاً علمياً وتحليلاً نقدياً. إن حكمة التخصص العلمي يجب أن توجه لتسهم في حل مشكلات الأمة، أعني أن تمكن المسلمين من أن يفهموا هذه المشكلات فهماً صحيحاً وأن يحددوا بدقة نوع تأثيرها على حياة الأمة وعلى قضية الإسلام في العالم. فليس لمسلم من أهل التخصص أن يتابع تخصصه العلمي لمجرد الترف العلمي لخالص المعتزل في برج عاجي كما لو كان لا علاقة له بواقع الأمة وآمالها وطموحاتها. وعلينا أن نطبق على مجالات تخصصاتنا ذلك الدعاء الذي نسأل الله فيه أن يمنحنا "علماً نافعاً"، وذلك بأن يوجه أنظارنا في قوة إلى مشكلاتنا القائمة. وقبل هذا كله وبعده تأتي مشكلة إصرار التخصصات العلمية والمؤسسات التعليمية على التباعد عن الإسلام في مواجهة جهودنا لإعادة أسلمتها. وفي الوقت نفسه فإن اهتماماتنا يجب أن تكرس للقضايا الرئيسية التي تؤثر على مشكلات الأمة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والأخلاقية والروحية، وفي كل قطاع من قطاعات الجهد الإنساني.
الخطوة التاسعة: تحديد مشكلات الإنسانية
إن حمل أمانة المسؤولية لما مصلحة الجنس البشري كله وليس مصلحة الأمة الإسلامية وحدها لهو جزء لايتجزأ من الرؤية الإسلامية. إن "أمة" الله سبحانه وتعالى تشمل الكون كله ويجب أن تتطابق مسؤولية الإنسان مع نطاقها كله... حقاً، إن "الأمة الإسلامية" تعتبر من بعض النواحي متخلفة وغير متقدمة إذا قيست بسواها من الأمم. ولكن هذه الأمة لا يسبقها أحد في مجال حيازتها للحقيقة والتعبير الأيديولوجي عنها على الوجه الأمثل الذي يضمن تحقيق الازدهار والرقي الديني والخلقي والمادي في الوقت نفسه. ذلك أن "الأمة" بإسلامها تمتلك وحدها الرؤية التي هي شرط ضروري كي تسعد البشرية كلها ليجيء تاريخها على النحو الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى.
من هنا كان المفكر مطالباً بالتصدي للمشكلات التي تواجه العالم اليوم والبحث عن حلول لها طبقاً للرؤية الإسلامية. إن الأمة بحكم رؤيتها الإسلامية تعتبر اليوم هي المتحدث الحق والوحيد على ظهر الأرض اليوم باسم شعوب البشرية التي ضاعت قضيتها بين الاستعماريين والثوريين وهي تسعى للتخلص من نيرهم. إن التمركز-حول-العنصر يدمر العلاقات التي تربط البشر بعضها ببعضهم في كل مكان في العالم . أما البقية الباقية من الخير فقد تكفل بالقضاء عليها تعاطي الخمور والمخدرات وفوضى العلاقات الجنسية وتدهور أخلاقيات الأسرة والأمية والخمول وحكم العسكر وتكديس الأسلحة والعدوان الظالم على الطبيعة وتهديد التوازن البيئي على الأرض، وكل ذلك وغيره يستمر دون ما رادع فعال من أي مصدر كان. ومن المؤكد أن هذه المشكلات تمثل مجالا آخر من المجالات ينبغي أن يوجه الفكر الإسلامي بل والتخطيط والتنفيذ نحو مواجهتها إذ أن في ذلك سعادة "الأمة" وسعادة البشرية أيضا. وإن حل هذه المشكلات والسير بالبشرية إلى السعادة والازدهار في إطار من العدل والكرامة لهو جزء لا يتجزأ من أهداف الإسلام.
الخطوة العاشرة: التحليلات والتركيبات المبدعة(33/449)
بعد فهم العلوم الحديثة والتمكن منها ، وفهم التراث الإسلامي وهضمه وتقدير جوانب القوة والضعف فيهما ، وتحديد مايقوله الإسلام في كل ميدان من ميادين البحث المتخصصة في كل العلوم؛ وبعد التشخيص الجيد وفهم المشكلات التي واجهت الأمة من في مسيرتها التاريخية في خلافتها عن الله في الأرض، وبعد فهم مشكلات البشرية من وجهة النظر الإسلامية التي تفرض على المسلمين أن كونوا "شهداء على الناس" عبر التاريخ الإنساني... بعد هذا كله يصبح المسرح الآن مهيأ أمام العقل المسلم ليتحرك حركته القوية الخلاقة ، بحيث نمهد طريقاً جديدة أمام الإسلام في هذا القرن الخامس عشر إذا كنا نريد له أن يستأنف قيادته للعالم، وأن يتابع دوره الإصلاحي والحضاري في حياة البشرية.
إن واجبنا عندئذ يتمثل في إيجاد تركيبة مبدعة تجمع بين التراث الإسلامي [وما صح] من العلوم الحديثة ...تركيبة قادرة على ردم فجوة التخلف التي امتدت عبر قرون . ولابد للتراث العلمي الإسلام أن يتواصل عطاؤه على الدوام في دفع المعارف والعلوم إلى حدود وآفاق أبعد مما تصورته العلوم الحديثة. وتلك التركيبة يجب أن تحافظ على صلتها الوثيقة بواقع الأمة الإسلامية. وذلك بالاشتغال بمشكلاتها التي تم التعرف عليها وتحديدها. إن عليها أن تهيئ الحلول الفعالة لمشكلات العالم كله بالإضافة إلى الاهتمام بالقضايا التي تتولد من خلال الآمال الإسلامية، ولكن علينا أن تتساءل ما هي بالتحديد محتويات تلك الآمال التي يلهمنا الإسلام إياها لخير البشرية في كل قطاع من حياة الإنسان؟ وكيف نضع هذه الآمال موضعها لتتحقق؟.
فإذا عرفنا بالتحديد ما يمليه التراث بالنسبة لموضوع أو مشكلة ما وعرفنا الطبيعة الخاصة للقضية التي تشغلنا، فأي الخيارات ينبغي اعتباره الخيار الصحيح الذي يجب أن يسير المسلم فيه؟ كما أنه ولا شك فإن عدداً كبيراً من الخيارات يكون مطروحاً في كل حالة ، فأيها أقرب إلى المثال الإسلامي وأيها أبعد عنه؟ أيها أكثر أو أقل فعالية؟ أيها يدفع بالحركة الإسلامية نحو الأهداف العليا للإسلام أو يعوقها؟ وأي هذه الخيارات ممكن وأيها ضروري وأيها لا مفر منه وأيها مرغوب فيه ؟ ما هي المعايير التي يمكن أن نؤكد بها أن الإسلام (شريعته وأخلاقه وثقافته وروحه) يلائم تماماً المشكلة التي نعالجها؟ وما هي الطرق التي يمكن أن نقيس بها مدى كفاءة الحلول المقترحة؟ وما هي المبادئ التي في ضوئها يمكن أن نبرز مساهمة "التركيبة" الإسلامية المبدعة وأن نقيسها ونقومها؛ أو التي يمكن في ضوئها أن ندخل عليها التعديلات والتصحيحات الملائمة وأن نوجهها ونقومها؟.
الخطوة الحادية عشرة: إعادة صياغة العلوم في إطار الإسلام الكتب الدراسية الجامعية
من الطبيعي أن العقول الملتزمة بالإسلام لن تصل كلها إلى نفس الحلول أو تختار نفس الخيارات وهي تحدد مقولات الإسلام فيما يتعلق بقضايا وهموم "الأمة" حاضراً ومستقبلاً. ومثل هذا الاختلاف لن يكون أمرا غير مرغوب فيه، بل سيكون أمراً مطلوباً بقوة. إننا بحاجة إلى العديد من التحليلات النقدية المتنوعة التي يقوم بها الملتزمون بالإسلام من أهل التخصصات الحديثة، وذلك لكي نثري وعي " الأمة" بأمانيها وأهدافها. فالحق أن أمتنا لا يمكن أن نقول إنها قد استعادت فاعليتها وحيويتها التي كانت لها في القرون الهجرية الأولي ما لم يصبح الإسلام نفسه بالنسبة للمسلمين مرجلا دائم التدفق بالجديد من الأفكار التي تجسد سنن الله في الخلق ونبعاً يفيض بالخيارات الأخلاقية الخلاقة التي تتجسد بها القيم والأوامر الإلهية وتصبح تاريخاً واقعاً.
إن الكتاب الجامعي أو المدرسي المنشود في أي تخصص علمي يمكن إعداده بفضل الخصب الذي تتميز به مثل هذه النظرات الثاقبة والمتبصرة في مفاهيم الإسلام، والخيارات المبدعة لتحقيق تلك المفاهيم. إننا بحاجة إلى الاستكثار من المقالات والبحوث التي تمثل اختراقات فردية متعمقة في أي موضوع أو فرع أو مشكلة كي تكون بمثابة "رؤية خلفية" أو "ميدان مواءمة" يمكن تنبع منها الرؤية الإسلامية في أي تخصص أو فرع علمي.(33/450)
إن أسلمة علم ما لا تتم بتأليف كتاب واحد فيه، حتى ولو تحققت فيه كافة المواصفات المطلوبة. لابد من وجود عشرات الكتب الدراسية من أجل تنمية المقدرة الذهنية للعقول المسلمة. أضف إلى هذا، أننا بحاجة ماسة إلى العديد من الكتب التي تغطي الحاجات التربوية للمستويات الجامعية المختلفة (بدءاً من طلاب مرحلة البكالوريوس إلى طلاب الدراسات العليا)، كما أن ثمة حاجة إلى مزيد من الكتب التي تشبع حاجات المسلمين وهي غير محدودة، ولك التي تبرز وتبلور التصور الإسلامي وهي غير محدودة كذلك. لكن نظام الأولويات يفرض علينا أن نعبئ جهودنا في البداية لإعداد كتب دراسية نمطية لكل من التخصصات العلمية بحيث تبرز فيها بشكل حاسم علاقة التصور الإسلامي بهذا التخصص، وتصبح بمثابة الدليل الذي تسير على نهجه العقول الإسلامية في المستقبل. ولست في حاجة إلى القول بأن أية محاولة لتعجيل إنتاج الكتاب الدراسي الجامعي على حساب الالتزام بالخطوات المشار إليها سابقاً لا يمكن أن تنتج إلا شيئاً هزيلاً.
لقد أوصانا رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا عملنا عملاً أن نتقنه. والحق أن الكتاب الدراسي الجامعي هو الهدف النهائي لكل الإجراءات الطويلة التي تؤدي إلى عملية "أسلمة" العلوم. إنه العمل الذي يتوج البحوث الطويلة في الخطوات السابقة.
الخطوة الثانية عشرة: نشر المعرفة "المؤسلمة"
لو تم إنتاج كل هذه الأعمال بأيدي الأساتذة المسلمين ثم بقيت مخزونة في حدود ملكيتهم الخاصة لكان ذلك عبثاً مهما كانت قيمة الأعمال عظيمة في ذاته. كما أنه سيكون أمراً مؤسفاً للغاية لو بقيت تلك الذخائر محصورة في نطاق دائرة محدودة من أصدقاء المؤلفين ومعارفهم، أو اقتصر الانتفاع بها على المؤسسات التربوية في دولهم أو الدول المجاورة وحدها.. إن كل عمل يتم لوجه الله تعالى يصبح ملكاً للأمة الإسلامية كلها، ولن يبارك الله فيه ويتقبله ما لم ييسر طريق الانتفاع به لأكبر عدد من خلق الله. مع أن من حق المسلم، بل من الواجب، أن يكافأ مادياً على جهوده الفكرية، إلا أن الأعمال الفكرية في الإسلام ينبغي أن تنتشر وألا يحتكرها صاحبها سعياً وراء الربح المادي. إن القيام بالعمل لوجه الله تعالى يفرض على صاحبه أن يجعله متاحاً لكل من يرغب في أن يفيد منه وينقل ما فيه من علم بأي وسيلة كانت.
وأمر آخر؛ إن مثل هذا العمل الفكري الذي يأتي نتيجة للخطوات المذكورة سابقاً إنما قصد به أن يحقق اليقظة والتنوير والثراء الفكري لا للمسلمين في العالم وحدهم، بل للناس كافة. هؤلاء إذن هم القراء أو قل هم "المستهلكون" لهذه السلعة. إن العمل الذي يحمل صفة "إسلامي" والذي أنجز لوجه الله تعالى ويحمل في طياته رؤية الإسلام نفسه له غاية أسمى من مجرد نقل المعلومات. إن وعي الإنسانية كلها يمكن، أمام انبلاج التصور الإسلامي الحق، أن يفقد توازنه القديم ويموج بالحركة مولداً من الطاقات الجديدة ما لم تعرفه البشرية من قبل. فتحت تأثير هذا التصور يتوقع لهذا الموضوع العلمي أن يصبح وسيلة للإرادة الإلهية وأداة دفع إلى الأمام وأن ينجز باسم الله ما لم يحلم بإنجازه من قبل.
ومن هنا كان من أهداف خطة العمل أن نضع كل عمل ينجز وفقا للخطوات السابقة تحت تصرف كل باحث جامعي مسلم دون مقابل مادي. إن كل مقالة أو بحث أو نشرة أو كتاب المنتخبات يقدم إلى مثل هذا الباحث فإنما هو بمثابة دعوة شخصية تدعوه إلى الانضمام إلى هذا العمل وإلى أن يصبح "منتجا" لأعمال أفضل نتيجة لتمكنه من المؤلفات المتاحة. وبالمثل، فإن وضع تلك المؤلفات بين أيدي المفكرين المسلمين لهو أعظم مكافأة يمكن الحصول عليها في هذه الدنيا. إن هذا لا يعني استبعاد المكافأة المادية للمؤلف، وإنما نعني أن العالم الملتزم بالتصور الإسلامي، والذي ابتغى بعمله وجه الله تعالى، لا يرى أن ثمة مكافأة أعظم من أن يتمكن من غرس هذا التصور في عقل إنسان آخر وقلبه، ولا يرى واجباً أكبر من أن يربي على هذا التصور وعي المسلمين في العالم. وأمر أخير ، إن إنتاج هذه الخطة يجب أن يتم إهداؤه رسمياً إلى جامعات العالم الإسلامي ومعاهده مع حثها أن تنظر في إمكانية تبنيها كقراءات تتطلبها المقررات المناسبة في منهج الدراسة. ومن الطبيعي أن تترجم، ولابد، إلى لغة التدريس في مختلف أقطار العالم الإسلامي.
=============(33/451)
(33/452)
نقد الفكر الاعتزاليّ " الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
إنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود - رحمهما الله تعالى - قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها - بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية - صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادئ وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب - الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة - ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق (!) ، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى إتباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول ا صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.
وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1- أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2- تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3- أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4- تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم - وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة - في مقال له بعنوان: (نحن والخوارج إلى أين) (الرياض: 13709) : ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أن الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه - والداه أو إخوته مثلاً - من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع.. "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون) (الوطن: 921).
ثم يقول الأول في مقاله إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس.(33/453)
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف - بإذن الله -لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً : سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً : سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري.
ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله.
يقول أحدهم - وهو أشدّهم تطرّفاً - في مقال له بعنوان (إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي) (الرياض: 13401) : فلسطين والنهضة العربية، أيهما الوسيلة، وأيهما الهدف ؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ..!!! .
ويقول آخر - وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال في مقال له بعنوان : (غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني) (الرياض: 13477) : يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها (هكذا) اهتمامهم. ، وأضع تحت كلمتي (طراز) و(بالذات) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان : (النظام المعرفي والهوية الثقافية) الرياض: (13551).
يقول الكاتب نفسه: مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:
* ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: (13490).
* ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) (الرياض: 13551).
* (التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة) من مقال بعنوان: (قراءة في بعض فروع العقائد) (الرياض: 13667) .
* ( المخيال الجمعي) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) (الرياض: 13716) وغيرها من العبارات.
وهم إذ يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلدون هذا الجابري وأمثاله، ويرددون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدها، والتي صدرت - أوّل ما صدرت - من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بد من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم (!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:(33/454)
أوّلاً : السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء - اللحى الليبرالية - حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين 1وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم - وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة _ دعا في مقال له بعنوان: (نحن والخوارج إلى أين) (الرياض: 13716) إلى فرض الوصاية على الخطباء - الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات _ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم _ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي -في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: (التجييش الطائفي على المنابر) (الرياض: 13770) _ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي -، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..
وفي مقال بعنوان : (نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه _ كما يقول _ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه (كاد المريب أن يقول خذوني)، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، منها:(33/455)
أوّلاً: محاربة السلفية، وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم _ وهو أشدّهم تطرفاً _ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: (المعاصرة وتقليدية التقليدي) وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي (!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل - بأقصى سرعة - إلى الماضي السحيق (!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية - أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها _ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية - دائماً(!) - في صف الماضي على حساب الحاضر(!) (الرياض: 13366). والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول الله صلى الله عليه سلم وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر الاعتزالي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق _ على حدّ تعبير الكاتب _ الذي منتهاه رسول الهدى r، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
* (السلفية التقليدية) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
* (الفكر الصحوي) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه _ كما يقول أحدهم _ النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأن العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها (الرياض:13436).
* (الإسلام الحركي) أو (الحراك المتأسلم!!)، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.
* (الإسلام السياسي) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً دراويشياً لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
* (التنميط) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
* (الأيديولوجيا) ، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقين في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1- محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة _ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" _ كما يعبّرون استهزاء _ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(33/456)
(السلفية العتيقة) الرياض: 12953، (السلفية التقليدية) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي) (الرياض: 13338) ، (قوى التقليد والجمود والظلام) (الرياض: 13485) ، (قوى التقليد والظلام والإرهاب) (الرياض: 13331) ، (قوى التأسلم) (الرياض: 13359) ، (قوى التخلف والتوحش والانغلاق) الرياض: 13352، (قوى التطرف) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، (التقليدية البلهاء ) (الرياض: 13065) ،(التقليدية الميتة) (الرياض: 13331) ، (الثقافة الميتة) (الرياض: 13072) ، (الثقافة التي تصنع الغباء) (الرياض: 13072) ، (الثقافة التقليدية البائسة) (الرياض: 13065) ، (ثقافة الانغلاق) (الرياض: 13065) ، (ثقافة تقتل الوعي) الرياض: 13065، (ثقافة التجميع واللاعقل) (الرياض: 13072) ، (ثقافة الموت الوعظية الحمقاء) (الرياض: 13072) ، (ثقافة كسيحة) (الرياض: 13156) ، (الوعي الكسيح) (الرياض: 13002) ، (الوعي المتسطح الكسيح) (الرياض: 13072) ، (الوعي المأزوم) (الرياض: 13380)، (وعي غارق في مخلفات عصور الانحطاط) (الرياض: 13156) ، (القراءة التراثية المبعثرة) (الرياض: 13331) ، (الطرح المتسطح ثقافياً) (الرياض: 13163) ، (رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي) الرياض: 13128، (براثن التنميط والمحافظة والتقليد) (الرياض: 13128، (الاحتيال اللامعرفي وجرثومة الوصاية) (الرياض: 13065، (الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة) (الرياض: 13072) ، (الإفلاس المعرفي) (الرياض: 13072) ، (الاستغفال المعرفي) (الرياض: 13121) ، (الترنح المعرفي) (الرياض: 13282) ، (تيار الجمود والارتياب) (الرياض: 13282) ، (الاختطاف الثقافي والاجتماعي) (الرياض: 13128) ، (قصور معرفي حاد) (الرياض: 13163) ، (البلاهة السياسية) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللاوعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المن_زل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام (!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: (المتأسلمون)، (قوى التأسلم) ، (الحراك الثقافي المتأسلم) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.(33/457)
ج- أنّ هذه الشتائم لم تفتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف (الجماهير): فهم (الجماهير البائسة الظامئة)، و(جماهير الغوغاء)، و(الجماهير المجهّلة)، و(الجماهير الغائبة المغيّبة)، و(المجتمعات المحافظة الأصولية)، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف (الشتائم) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: (رمتني بدائها وانسلّت)!!.
هـ- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والأعجب من ذلك والأدهى أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم _ وهو كبيرهم وأشدّهم فتنة بالحضارة الغربية - في مقال له بعنوان: (تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك (بريخت) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب (!)، واشتغل بالمسرح (!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة - وبئست التربية - فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.
1- محاولة ربط السلفية بالإرهاب _ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة _ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: (السلفيّة الجهادية).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ (الإرهابيين)، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..
يقول أحدهم _ وهو مقيم في لندن _ في مقال له بعنوان: (الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين) (الوطن: 1139) : ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية ؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ (!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.. وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان - ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم - بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ َ.)) (المائدة:17) .
وقوله: (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..)) (المائدة:73)، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم (( والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )) أخرجه مسلم.(33/458)
ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (( كل بدعة ضلالة )) .
وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَ_كِن لاَّ يَشْعُرُونَ )) (البقرة:11) .
ويقول آخر - وهو أشدّهم تطرّفاً - في مقال له بعنوان: (الإنترنت والخطاب الديني) (الرياض: 13247) : - .. كما أظهر هذا الخطاب (يعني خطاب التطرّف ) أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة (!) وإنّما مصدر الاستدلال _ في الغالب العام _: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك _ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً - في مقال له بعنوان: (الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965)، زعم فيه - زوراً وبهتاناً _ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: (واحذرهم أن يفتنوك) (الرياض: 13128) ، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه - تطبيقاً - في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها _ لفظاً _ أن تكون بالمثناة (قرادة)، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً - بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة -: ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟.
وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا )، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية _ خصمه اللدود _ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومه، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللامنهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..(33/459)
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!)
صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أويثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه _ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة _ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم _ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي _ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟(33/460)
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة _ سأضع تحتها خط _ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة _ حسب رأي هذا الكاتب _ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب _ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي _ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له فصلاً مستقلاً بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ين_زلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً فصلاً خاصّاً بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:
فهذا أحدهم _ وهو الكاتب السابق نفسه _ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا _ كما هو ظاهر _: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر _ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص _ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..(33/461)
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: (( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..)) (الحجرات:14) ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق tمانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسوله الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..)) (الممتحنة:10) ، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول ا صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان _ حسب زعمهم _ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.(33/462)
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد _ يريد مذهب السلف _: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها _ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة _ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها (( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. )) (الروم:30) ، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَ_كِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم )) (المائدة:48) ، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم _ بلا خلاف أعلمه _ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: (( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..)) .. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: (( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَ_ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (آل عمران:105) ، وقوله تعالى: (( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. )) (هود:118-119)، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سبق في مبحث جهلهم.
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."(33/463)
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. )) (التغابن:2) ، وقال سبحانه: (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً )) (الإنسان:3) ، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في من_زلة بين المن_زلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا _ وفقهم الله لطاعته _ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول _ وتأمّلوا ما تحته خط _: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها ( النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه صلى الله عليه وسلم المتهافتين على الباطل _ كهذا الكاتب وأمثاله _ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. ه_ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ صلى الله عليه وسلم الفريقين.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب _ للتلبيس _ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!(33/464)
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً _ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة _ واحدة فقط _ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل _ من مسائل الاعتقاد _ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل _ وحتى الإلحادية منها(!) _ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
1- الطعن في مذهب السلف، والتندر به، وكيل التهم له بلا حساب..
في مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً _ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف _ حسب زعمه _ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة _ براجماتياً(!) _ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(33/465)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه _ أي الترتيب التاريخي للخلفاء _ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي _ بأقصى حدود الواقعية الصريحة _ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله _ أو خبثه _ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) [الحشر:10]، وطاعة صلى الله عليه وسلم في قوله: (( لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) ، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر _ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً _ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، _ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة _، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب _ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس _ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
ومن سماتهم البارزة: الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم، وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:(33/466)
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: (( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ )) [سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ " إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصل كافرة إما لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإما لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك ".. والقبوريون هم عبّاد القبور، المعظمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شك في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضاد للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسحه بذلك فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفية ( الوهابية ) لأنّها غير ديموقراطية في نظرهم، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.(33/467)
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه _ على سبيل الشتم _ بالتجهيل أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنهم قد اختطفوها، فأي تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم _ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً _ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضاده ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الإجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبري من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) [الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: (الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..(33/468)
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النص، روعيت المصلحة(!) باعتبار أن المصلحة هي السبب في ورود النص، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتجاه، وتارة في اتجاه مخالف(!!!!!!) "، فتأملوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النص، ثم من الذي يحدد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتجاه، وتارة في اتجاه مخالف ؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصة جداً، لكنها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلى عنها: (( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَ_كِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) [النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة التي تتخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها، والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفيه بلا حساب ولا برهان، والذي يعدونه من النقد!!. ويقرر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: (( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ )) [هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: (( إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) [هود:119]، فجعل الاختلاف مقابل الرحمة، وقوله (( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعد الكافرين من الجن والإنس بنار جهنم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجة أنّ الاختلاف أمر جبلي فطري كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..)) [البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أن الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي _ وهذا هو مربط الفرس لديه _: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها _ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة _ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما _ أيّاً كان دينه ومذهبه _ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..(33/469)
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف _ حديث الافتراق والفرقة الناجية _، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.
وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمها، وأنها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.
_ ومن السمات الظاهرة لأصحاب هذا الفكر: كثرة الحديث عمّا يسمونه ب_ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ) وأنّ أحداً من الناس _ كائناً من كان _ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد (الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم _ حسب زعم هؤلاء _ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن _ ولله الحمد والمنّة _ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: (( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )) (يونس:94) .
وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:
تقول إحداهم في مقال لها بعنوان ( الن_زعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث _ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح _، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة ".. وهكذا ينبغي للناس _ كما يريد الكاتب _ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.(33/470)
ويوضح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية _ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة _ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق _ على رأي الكاتب _ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.
ويقول آخر _ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً _ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: " وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.
وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد _ على الفطرة _ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت _ زوراً _ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا _ طائعين _ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الخليفة آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى ب_ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسو صلى الله عليه وسلم إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة !! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب عليها هذا الكاتب.
وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم _ وكان على علم _ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.(33/471)
_ ومن سماتهم البارزة: العزف على وتر الإنسانية، في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه الن_زعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) وبئسما ما فهم، فيذكر إن الإسلام جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه (( أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) (الحجرات:13) وهي نقلة نوعية متطورة _ كما يقول _ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفق لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية _ كما هي العصبية القبلية _ إلى أقصى قيمة إيجابية _ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )) (الحجرات:10) ، ومن جنس: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )) (التوبة:71) ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )) (الإسراء:70) وأيضاً : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء : 1) انتهى كلامه بنصّه.
وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير الن_زعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).
وفي هذا السياق يقول أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية _ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة _ أيّة هويّة _ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، _ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله _ يكون على حساب الإنسان!! وهذه _ عنده _ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..
ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة _ والمنتجة للأصولية بالضرورة _ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم ب_ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت _ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل _ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها _ وانتصر عليها في الماضي _ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلة للجماهير !!!(33/472)
وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك _ أحياناً _ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب _ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف _ من خلال مجمل مضامينها _ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون جميعا عليها، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة _ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط _ كما يصفها في مقال له بعنوان: ( المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني _ بالضرورة _ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوبة بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك _ كما تدل عليه سائر مقالاته _ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر _ وتر الإنسانية _ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا ( العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!
ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله )) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!(33/473)
ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض _ واقعياً _ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع _ وهو ميدان الفعل السياسي _ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".
وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين ؛ فستبقى دائرة العنف اللاإنسانية تدور رحاها دون توقف ".
ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين _ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي _ ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف ، زادت فعلاً وتهديداً"..
ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر _ المنطوي على تصورات إنسانية _ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب _ مع طوله _ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.
وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم _ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ _ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم _ مفترياً على الله _ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ(33/474)
ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسو صلى الله عليه وسلم يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك الخير والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..
ثم يختم حديثه _ وهذا هو الشاهد _ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم (( إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن)) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..)) (البقرة:62) ، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: " .. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول ا صلى الله عليه وسلم جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( يا سلمان، هم من أهل النار ))، فأنزل الله: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا..)) وتلا إلى قوله: (( وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) . ( أسباب الن_زول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب الن_زول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون من صلى الله عليه وسلم ، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!
أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم _ وهو مقيم في لندن _ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.
_ ومن سماتهم البيّنة _ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به _: الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤن من فكرة أسلمة العلوم _ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية _، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:(33/475)
يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: (( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..)) (يوسف:40) فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..
ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: " ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسو صلى الله عليه وسلم في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله (( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه _ لعمر الله _ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه _ عليه الصلاة والسلام _ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قول صلى الله عليه وسلم " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..
أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم _ وهو متخصّص في الكتابة السياسية _ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ )) (آل عمران:118) ، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.
وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين _ حسب تعبيره _ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.(33/476)
ويقول آخر _ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة _ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : (( ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ )) (الأنعام:30) ، وقال تعالى (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً )) (المائدة:3) .
ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر _ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر _، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..
ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية _ أيّاً كان نوعها _ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..
أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..
وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..(33/477)
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم _ كما سبق شيء من ذلك قريباً _ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ... إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.
وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أتى بها أحدهم _ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها _، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشر الأوسط: 8952 أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..
وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا صلى الله عليه وسلمليرضى عنّا أعداؤنا !!.
ومن سماتهم الواضحة: الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، وحبّه، وكيل الثناء له بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..
إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها _ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة _ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.(33/478)
وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) [ آل عمران: 85].(33/479)
وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنون ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء "موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: " والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها _ يعني الحبشة _ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية _ الأهلية منها والدولية _ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكرين إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) [الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: (( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ )) [آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً )) [النساء:144]، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) [المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) [الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) [الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: (( نعم)) فأنزل الله فيها: (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) . فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً ب_ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.
ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!. وهل الذين يصفهم بالخوارج اليوم هم الذين بدأوا بالاعتداء على ( الآخر ) الصليبيّ الكافر، أم العكس ؟!!..(33/480)
وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.
أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء، وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r ، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.
ويقول آخر _ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية _ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشر الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.
ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديموقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أن الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.
_ ومن سماتهم البارزة: الجهل؛ فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:
1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسو صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر ب صلى الله عليه وسلم في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قول صلى الله عليه وسلم : (( الدين المعاملة )).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ )) (آل عمران:119) ، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: (( لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين )). فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.(33/481)
2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ... )) (الأنعام:68) أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح _ أو تجاهله _ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: (( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.. )) (التوبة:5) ، وقوله في السورة نفسها: (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) (التوبة:29) ، وقول صلى الله عليه وسلم : (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. )) الحديث، وقوله: (( لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً)) أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تن_زل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.
3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم _ وهو من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! _ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله _ مثلاً _ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
4. وفي مقال بعنوان ( الحقوق ) الجزيرة: 11408، كتبت إحداهم وهي تتحدّث عن الحقوق الزوجية للزوجة لا للمطلّقة تقول: " وهناك فتوى صدرت مؤخّراً من مصر أفتاها شيخ أزهري أشار فيها إلى الآية الكريمة: (( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.. )) (الطلاق:6) إلى وجوب أن تمنح المرأة أجراً على إرضاع الأطفال.. ".. وهو دليل على جهل فاضح، فالآية إنما هي في المطلقات، أما الزوجات فلم يقل أحد من أهل العلم بأن الزوجة تأخذ أجراً على إرضاع طفلها. ولو أنّ هذه الكاتبة قرأت الآية من أولها لعرفت ذلك، لكنّهم من أجهل الناس بالنصوص الشرعية ودلالاتها.
5. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم _ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين _ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.(33/482)
6. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً _ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة _ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) (الحجرات:6) ، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.
7. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عن صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (( لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين )) ، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.
هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..
والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق يقول أحدهم _ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم _ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته، وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.
_ ومن سماتهم الظاهرة: تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:
وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي _ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة _ من محاولة التقليدية البلهاء _ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ _ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي _ دائماً _ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس _ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل _ كالأنعام بل هو أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن يترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..
والشاهد هنا من مقاله تن_زيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: (( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ_ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )) [الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) كما يزعم هذا الكاتب وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..(33/483)
وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..
وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض ناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب،لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: (( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )) [البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).
ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه ب_ ( تيارات التأسلم ) و (تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي، أما السباب فقد ضمن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ين_زل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: "أتذكر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: (( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)) [التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تاره بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.
وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفى مما حدث في الفلوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفي أن الفلوجة تعد معقل السلفية في العراق، ثم أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد! الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر مع أنه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون "(!!).
وفي مقال له بعنوان: (الاتصال والانفصال بين الديني والمدني) الرياض: 13324،تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتن_زيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حل الإشكال يتم من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وفي مقال له بعنوان: (المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدها (الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثم أنزل عليها آية نزلت في حق الكفار، يقول: قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة (ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة) كانت المجتمعات على براءتها الأولى (يعني الجهل والغفلة) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحد من حرية الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنها _ على كل حال - كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمت (!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان (ليته ذكر بعض هذه المسارات) وليست إلا من اتباع الظن، والظن لا يغني عن الحق شيئاً ".. وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام ابن باز والعلامة العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء، بحال المشركين الذين قال الله فيهم: ((إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) (النجم: 27، 28) .
ألا يعدّ هذا ضرب من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم ؟!!!.
والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) (الرياض: 13058).
اتهم فيه الشيخ العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي _ رحمه الله - بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعد الكاتب ذلك معضلة، وأن الشيخ - رحمه الله - أخطأ طريق الإصلاح (!!!)..(33/484)
أما عنوان كتاب الشيخ السعدي الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: (الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير) .
ويلاحظ من خلال هذا العنوان أن القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمة الأعلام واتهامهم بما هم منه براء، نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتن_زيل الآيات التي نزلت في الكفار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية، لو أنه نظر إلى هذه الكتابات لوجد فيها ضالته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقاً، لكنه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكر هؤلاء، وكيف يحكمون.
============(33/485)
(33/486)
كاتب " خمس نجوم " !
د سعود الهاشمي
مساكين هؤلاء الكتاب في الصحف الشهيرة مثل "نيويورك تايمز" و "الواشنطون بوست" و "الفاينانشيال تايمز" و "الأهرام" و "النهار" وغيرها فهؤلاء إذا أرادوا كتابة مقالٍ حاد احدودب ظهر أحدهم ليتعلم فنون التحرير وقواعد اللغة والتعبيرات المجازية والبلاغية ولربما تعبت عيناه وهو يقرأ أرتالاً من التقارير وعدداً من الدراسات ولربما نزل إلى ميدان تحكمه لغة الرصاص أو المظاهرات الصاخبة ليعبر في النهاية عن مقالٍ يكتبه في عمود صغير يظهر في أسبوع واحد ولهؤلاء المساكين أقول لهم تعالوا تعلّموا من كتابنا وهذه بعض النصائح حتى تصلوا إلى مستواهم ..."كتاب خمس نجوم":
1- عليك إذا أردت أن تفتح صحافتنا بابها لك أن تجيد فنون التقعر في الكلام، والإغراب في الألفاظ فهذا يدل على أنك ضليعُ عميقُ وليس من السهل فهم مقالاتك على البسطاء من أمثال المساكين أعلاه .
2- وعليك أيها الذكي أن تستخدم رموزاً حداثية وطلاسم بنيوية حتى لاتتهم بالرجعية والتخلف وإليك أنموذجاً لمقطع حداثي: "واستيقظت الفيلة وهربت الطيور مهاجرة إلى سقالات النوم عند شاطئ المريخ واصطدم الغلام بجدار خرساني سميك وصاح البوم حي على ..." إلخ. هذه المقاطع الإبداعية العميقة في مغزاها والتي تُعيي التيار المحافظ الذي لايمتلك قدرات الحداثة وأهلها!.
3- ومن أهم معايير القبول أن تصبح مع الصائحين في قضية المرأة: فالمرأة مظلومة، وهيا إلى تحريرها من الظلاميين وهلم نخرجها من مجتمع مكتوم مأزوم إلى بيئة منفتحة على الأكسجين تتنفس برئتين! وردّدّ مع كل من يهاجم الذين يريدون للمرأة الانفتاح على الآخر!ويريدون منها الخروج إلى سماء الإبداع الوظيفي منافسةً للرجل الذي سجنها ... ياالله ... ياسلام. بمثل هكذا أطروحات تنال وبسرعة درجات الرقي في الكتابة الصحفية المحلية.
4- هاجم ما استطعت "الإرهاب" وإياك أن تضع تعريفاً محددا للإرهاب فإذا كان "العم الكبير" !! يريد به الجهاد فأعلن أنه لا جهاد في زماننا، وزماننا يكفينا فيه الجهاد الأكبر وهو" جهاد النفس" وإذا كان الإرهاب يعني الوضوح والثبات على مبادئ العجائز الأولين فلك الخيار فسمه إن شئت "جموداً" أو قل غياب" للمرونة "، وانغلاق! وضعفٌ في قدراتنا على التسامح ... الخ. باختصار لاتجعل للإرهاب تعريفاً واضحاً فبهذا لن يعطيك الفرصة للإنطلاق في الكتابة كيفما شئت وأينما أردت! ولن يرضى عنك " العم الكبير " الذي سيفتح لك الإعلام على مصراعيه !!
5- عليك بالدعوة إلى تجفيف منابع الإرهاب وذلكم بمحاربة كل الجهات الخيرية غير المحلية بحجة أننا لانعرفها وأن لنا تجارب مريرة سابقة مع جمعيات دولية استغلت طيبتنا وسذاجتنا، وربما أمكنك إضافة حجة سيرددها "الأذكياء"! من خلفك بأن [جحا أولى بلحم ثوره] أمَّا إذا كانت الجمعيات محلّية فعليك بالطعن واللمز في القائمين عليها مرة بأنهم لم يفلحوا في تخصصاتهم ولم يبدعوا في حقولهم ولم تستوعبهم وظائفهم الرسمية فهربوا إلى العمل الخيري وأخرى هاجمهم بأنهم غامضون وغير واضحين في أهدافهم وبأن لهم "أجندة" تخالف إستراتيجية الوطن! وتتنافر مع المجتمع ولهم "مناهج خفية" ويستغلون "مناهجنا المعلنة"!
عندها ستنال إعجاب جماهير "الدهاليز المظلمة" عفواً أقصد عندها ستنال الإعجاب عند جرائد مرموقة وسترتفع درجة أعلى وإذا أردت المزيد فخذ:
6- عليك بالدعوة إلى الانكفاء على الوطن في أطروحة تناقض كل مبدأ يدعو إلى الانفتاح على الأمة، فمشاكلنا تشغلنا عن فلسطين والصومال وهمومنا تلهينا عن العراق والواق واق! وإذا دعا أحدهم إلى الحب في الله فعالجه وهاجمه بأنه يدعو إلى حلول تنظيرية بارزة ! وإذا دعا آخر إلى الاهتمام بأمر المسلمين فاتهمه بغياب الواقعية مع مقدمات تتفق فيها معه ظاهراً بالطبع!
7- وإذا أردت أن تلفت انتباه مسئول فهاجم دائرته وانتقد أطروحاته فإذا لم يستجب فبالغ في اللهجة وأطلق عليه الراجمات اللفظية وإلا فالتفت إلى من هو فوقه حتى يكافئك ويعطيك العناية اللازمة ويرد على أطروحاتك ويدعوك في كل حفل في مؤسسته وتنال الإعجاب والتقدير. واحذر ثم احذر أن تتجاوز قدرك إلى مسئول من "العيار الثقيل" فهذا عليك بمدحه والثناء على كلماته وأطروحاته!! وعندها ستنهال عليك الدعوات سيأتي الداعي إلى حفلات الفنادق الفخمة والصالات الفاخرة للجلوس في الصفوف الأمامية وأما إذا أصررت على المزيد للوصول إلى قمة الإبداع في صحافة بني يعرب "المحلية" فأليك المزيد:
8- عليك بالهجوم على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وارم أساليبهم بالتخلف والجفاء ولاتغادر منهم أحداً!.
9- ثم أنصحك بتشديد الوطأة على الدعاة فإذا كانوا ممن يختلط بالناس فارمهم بالتملق، وان كانوا أصحاب فكر قوي استقلالي فارمهم بالقطبية، وإذا دعوا للتمسك بالسنة فهؤلاء سلفيون جامدون أما إذا نظموا إداراتهم وأساليبهم فهؤلاء ممن يريد الحكم، وإذا قدموا أطروحات سياسية مؤثرة ومحركة للجماهير فهم الأخوان أصحاب الإسلام السياسي!.(33/487)
10- وهذه النصيحة هامة إذا أردت تجنبك الفضيحة! امتدح "المطاوعة" الدراويش ممن لا أثر لهم ولاناقة عندهم ولاجمل ولا يصدرون ولا يوردون وعندها أبشر؛ ستدعى إلى مؤتمرات "التسامح الديني " والانبطاح للآخر عفواً اقصد "الانفتاح على الآخر " و "الحواريين الأديان " وعندها فقط سيختارك نابغة السوق الجاهلي الشهير لتكون كاتباً في صحيفته وسيعلمك ( مس قلائد الفل التي يقدمها الطيبون من أهل مدينته لمحبيهم وبدلاً من ذلك يعلمك موهبة "البصق" !! "للقات" و "الشمّة" من فمٍ توّرم من انتفاخ القذارة اللفظية ورأس امتلأ بالقذارة الفكرية عفواً أقصد الموهبة الصحفية لكاتب خمس نجوم !!!
=============(33/488)
(33/489)
إلى أين تتجه الشخصية المسلمة
حسين بن سعيد الحسنية
لقد أخذت منا العولمة ما أخذت ، وسلبت منا الحضارة ما كنا نملكه من عادات وتقاليد تعاقبت إلينا بالوراثة ، وتسبب الانفتاح والتمدن في نسياننا لمهماتنا نحو ديننا ، بل وصل الأمر إلى أننا أصبحنا نُسأل عن عقيدتنا وهو الأمر الذي لا يجب أن نسأل عنه لإيماننا الفطري به ، ولا نقبل أي نقاش في شرائعنا وتقبلنا لأنها مغروسة بين أضلعنا بالفطرة ، الأمر الذي أذاب الشخصية الإسلامية في أكثر نفوس أهل الإسلام ، وجعلها تنساق خلف الشهوات والمغريات الدنيوية ، وحد من طموحاتها وأمنياتها التي قد ترقى بحاملها إلى مبلغ مناه ، وغاية مطلبه ، في خدمة دينه ووطنه وأمته بكل جد وإخلاص ، ولا غرابة في ذلك متى ما ضاعت الأوقات فيما لا ينفع ، وأهدرت الطاقات بارتكاب المعاصي واتباع الهوى والوصول بالطموحات لكل ما هو دون ، ومحاولة الفوز بكل ما هو دنيوي لا ينفع في الحياة الدنيا ولا الآخرة .
عندها نسأل قائلين إلى أين تتجه هذه الشخصية الإسلامية وهي التي تأخذ أحكامها من الكتاب و ألسنه ؟ وماذا تدرك عن أهميتها وهي من أوائل الأشياء التي يجب المحافظة عليها لأجل تلك الأهمية؟ وكيف هي في مواجهة النوازل المؤثرة والمتتالية ؟ وهل هي مطمئنة لما تقدمه لدينها وأمتها وأوطانها أم لا؟.أسئلة كثيرة توجه لهذه الشخصية الإسلامية التي أذابتها الحداثة ، وغاصت في بحور العولمة، وتاهت في دوّامة الانفتاح والتمدن.
لا أقول ذلك محاربة للحضارة النافعة ، والتقدم النزيه التي توافق جميعها الشرع ، و تتجه إلى كل ما هو سليم حسب منظار الشريعة لها بالعكس، بل أدعو إلى الشخصية الإسلامية أن توسع مداركها ، وتكثر من مصادرها فيما يخص التجديد و مسايرة العصر و الناس ، ولكن نحذر جميعا من الانزلاق الذي يؤدي إلى تهميش شخصيتنا الإسلامية ويسعى إلى تحجيمها ، ولكي نتجنب ذلك الانزلاق إلى تلك الزوابع و دوامتها ، ولكي نحاول الوصول بتلك الشخصية إلى بر الأمان ونحميها من السقوط في الهاوية المُرّة فإنني أوضح بعض الصور التي يجب أن تأخذ بها وتعمل على إقامتها تلك الشخصية ، علها تعي مقدار أهميتها ، وتدرك ما هو المطلوب منها وخاصة في زمن أثقلت كاهله المصائب ،و لعبت في ميادينه الفتن وهي
1ــ ( الإيمان ) ، فحق لنا أن نعود إلى الإيمان الحقيقي الناصع الذي لا يشوبه أي شائبة ، ولا يلوثه أي دخل ، مخلصين بذلك وجه الله تعالى ومتيقنين بذلك بأنه ماهية المسلم وعنوانه
2ــ ( طلب العلم ) وأولة العلم الشرعي المرصود في آيات الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم تأتي بعده أنواع العلوم الأخرى التي تتقيد عندما ينفع الإنسان ويثري حياته العلمية و العملية ، و يزيد ثقافاته و اطلاعاته و السعي بها لخدمة الدين و أهله .
3ــ ( العمل ) الذي يوافق العلم إذ لا عمل دون علم إلا أن يكون عملا غير منظم لا أساس له و لا قيمة، كعمل أولئك العابثين في حياتهم ،الغير مدركين لأهمية نشاطاتهم متى ما كانت في طرق الخير و الصلاح التي توافق العلم المحمود
4ــ ( مجموعة الإنسان الأخلاقية ) التي تميّز كل شخص عن الأخر ، ومن خلالها يعبر الإنسان عن نفسه مباشرة دون أي ترجمات أو إيضاحات زائفة أو خادعة ، و أكاد اجزم بان أخلاق الشخص مع نفسه ثم مع الآخرين تعتبر عاملا مهما في تحديد الشخصية الإسلامية والتي تسعى دائما من خلال تلك المجموعة من الأخلاق الحميدة .
طبعاً فهي توضح صورة الإسلام الصحيح لمن لا يعرف عنه شيئاً خاصة وأنه دين الأخلاق والسمو والسماحة ، إلى غير ذلك من الصور المهمة والتي تفرض على كل إنسان مسلم يحملها الميل مع الحق والخير ، وتجبره على احترام دينه وقواعده الشرعية وأمته وأوطانه ، وتعينه على إظهار صورة الإسلام البيضاء الناصعة لكل من يحمل الحقد والكراهية لهذا الدين وأهله ، خاصة وأكررها كثيراً في زمن كثر فيه أعداء الأمة ، وانتشرت مخططاتهم لهدم هذه الشخصية الإسلامية المعطاءة.
============(33/490)
(33/491)
حتى لا يتحول الحوار عن المسار!!
د.سعيد بن ناصر الغامديّ *
عناوين فرعية:
- الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي)
- فرق بين من يتخذ الإسلام فرصة لتثبيت كمال الإسلام وبين من ينظر إليه بمنظار غربي أو يقيسه بمقياس بنيوي أو أركوني أو صفوي أو طرقي .
- يجب التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة .
- يحدث الخلل عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية .
- ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية .
- عند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار .
- الغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة .
- المطلوب هو ثقافة سوية( تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث ) به ، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) .
المتابع لمجريات الحوار الوطني يسمع كثيراً من الثناء والمدح، والتفاؤل وهذا ظاهرة صحية جيدة، لها آثارها الجيدة في تخفيف الاحتقان، وتفريغ الشحنات السلبية، بيد أن من المهم في تقديري - الالتفات إلى جوانب مهمة حتى يؤدي الحوار وما يليه من مشروعات نتائجه الإيجابية المتوخاة، يمكن الإشارة إلى جوانب مهمة، لا أدري هل ذكرت ونوقشت أو وضعت كضوابط ومعايير أم لا:
الجانب الأول : أحسب أن من الأهمية بمكان الاتفاق على معايير أساسية لتقييم الأقوال والأفعال والمواقف والمشروعات وأهم هذه المعايير في نظري أمران:
الأول:
معيار الحرص على حفظ حقيقة الإسلام وصورته - كما هي - من غير إضافات أهل " الإحداث"، ولا انتقاصات أهل " الحداثة" وأحلافهم، ولا تشويهات أهل الغلو، ولا تفلتتات أهل التفريط.
الثاني:
الحرص على المصالح العامة للوطن حرصاً ينأى عن كل وسيلة تؤدي إلى ما يفسد هذه المصالح أو يضعفها أو يقللها.
وتحت مظلة هذين المعيارين يمكن أن يتحاور العقلاء والحكماء بعقل وحكمة بعيداً عن تصفية الحسابات وتنفيس الضغائن.
فإن حصل ذلك فسوف نجد البرهان القاطع على جودة عقول المتحاورين وسلامتها من نوازع الشبهات التي تشوه جمال دين الإسلام وروعة عقائده وأصوله وتشريعاته، ونجد البرهان أيضاً على سلامة قلوبهم من الحظوظ الذاتية والأنانية الشخصية أو الفكرية أو الفئوية، مع الإقرار بأن كل طرف من الأطراف له هدفه (السياسي) المعلن أو المضمر، بيد أنه يجب وفق المعيارين السابقين دمج المطالب السياسية الخاصة في التيار المصلحي العام القائم أصلا على الثابتين السابقين.
الجانب الثاني: من المستفيض تاريخياً أنه لن يستقيم السلوك الإنساني حتى يستقم (الفكر) أولاً، فالفكر المنحرف ينبني عليه سلوك منحرف، والتفجيرات دليل ذلك، والفكر المستقيم ينتج سلوكاً مستقيماً.
فإن صح المنطلق الفكري ـ للحوار أو غيره ـ صح العمل والتصرف والإجراء المتخذ والنتائج المتوخاه. فمن تعامل مع الحوار على أساس أنه فرصة لتثبيت حقائق الإسلام وتجلية كلياته وترسيخ أصوله وإظهار كمال عدله وكمال تضمنه مصلحة البشرية، فسيكون سلوكه مغايراً لسلوك من يرى الإسلام بمنظار غربي، أو يقيسه بمقياس (بنيوي) أو (أركوني) أو (صفوي) أو (طرقي).
وقل مثل ذلك عن مصلحة البلد ومنافع الناس.
الجانب الثالث: الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي) فإن ذلك - إن حدث - سيؤدي في المستقبل إلى نار ذات (جو حار) وليس إلى (جو حوار) وقد تستفز هذه الأجندة الأغلبية التي ترى أن حقها قد هضم، لصالح آخرين، وقد يفسرون ذلك بأنه هجوم على (منابرهم) و (مناهجهم) واستخفاف (برموزهم وعلمائهم) وغير ذلك من مفردات، تتم ممارستها واقعيا تحت مظلة المتاح من فرص التعبير والحرية، ويخشى أن تتحول من وصفة دواء، إلى جرعة سم، وأن تصبح ملحاً يوضع على الجراح، فيكون الحال كمن أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً، ولا حاجة إلى التنبيه هنا إلى مزايدات متوقّعة تحاول أن تصف هذا التنبيه وأمثاله بالتحجر والخوف والتراجع، والجمود والطائفية والفئوية ومحاكمة النوايا، إلى آخر مفردات الردح المتداولة والمعهودة.
الجانب الرابع: التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة، فإن ذلك - وإن تستر بالمصلحة العامة والموضوعية التامة - سيقود حتماً إلى أزمات أشد ومشكلات أكبر، ومضاعفات، ربما أبشع مما نحن فيه الآن ، والمعيار الصحيح لكل عمل صالح نافع هو مراعاة مصالح الأمة وتحصينها وتكثيرها واستدامتها، وليس مراعاة مصالح فئة محدودة أو طائفة معينة، أو الانزلاق إلى مستنقعات ضيّقي الأهداف.(33/492)
الجانب الخامس: يجب أن يدرك الجميع نسبة التوزيع الفكري والعقدي في هذه البلاد، حيث الأغلبية الكبيرة هم أهل السنة والجماعة، وهناك ثلاث طوائف عقدية ذات نسبة ضئيلة، كما أن هناك أفراد قلائل من أصحاب التوجهات الفكرية الحديثة (ليبراليون ، بقايا القومية ، واليسار ، عصرانيون) ومن المعروف أن حقوق الأغلبية في كل مكان في الدنيا غير حقوق الأقليات، ونتاج الاستقراء الموضوعي الفاحص لاضطرابات البلدان والمشاكل الداخلية فيها يشير إلى أن الخلل يحدث عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية، أو تسعى في النيل من مرتكزات ومنطلقات أكثرية الناس، أو يعلو صوتها الفئوي أو الطائفي وهيمنتها الإعلامية على صوت وحضور الأغلبية.
الجانب السادس: ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية، ولو على المدى البعيد، ويبرهن على استلاب وانخزال واستعارة خطيرة العاقبة.
الجانب السابع: لا يمكن بحال القبول في الحوار بمنطق "الثأر" فالثأر عادة جاهلية، وعند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار.
فعندما تحاول امرأة ما - مثلا - ممارسة شيء ما من السلوك الشخصي (الليبرالي) في أجواء الحوار ومناخاته تحت حجّة مقاومة الكبت، فهي تمارس "الثأر" من عادة اجتماعية ذات أصل ديني.
وقل مثل ذلك في التعاطي مع الأفكار والاتجاهات.
وقد لا تستطيع النية الحسنة أن تطفي نيران (الثأر) المتأججة في الألفاظ والسلوكيات.
ومن خير الحوار وأهله أن يلغي كلية مفهوم الثأر والانتقام لمخالفته للحوار أولاً، ولقدرته الهائلة على تأجيج ثأر مقابل.
الجانب الثامن: من الخطأ العظيم الاعتقاد بأن التخفيف من صيغ التديّن والتضييق على مفاهيم الإسلام وعلومه سبيل إلى مكافحة الإرهاب المستتر بالدين.
فإن هذا المسلك غير سوي ولا ذكي.
فالغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة، في التوسط والاعتدال والتسامح والرفق والعدل والأناة وحقوق الإنسان وغيرها، وسوف يخطئ من يظن أن (تخفيفاً) لما يظنه (سمنة) إسلامية في المجتمع سيؤدي إلى استقرار.
لأن هذا المسلك المفتقر (للذكاء) سينشئ الإرهاب إنشاء، ويوقد نيرانه، ويمنح أصحابه الحجة القوية لمزيد من التطرف، ومزيد من العنف والدمار والشتات، تحت ذريعة أن الحوار ودعاته ورعاته إنما تصدو للدين نفسه تشذيباً وتقليصاً من خلال تقليل حظه في الإعلام والتعليم والثقافة، فحقيقة الصراع - حسب هذا المؤدي عندهم - ليس بين فئة معينة ودولة، بل بين الإسلام والدولة، فتعظم الفتنة ويشتد الخطر من حيث أردنا أن ندرأها.
ودرءاً للمقتنصين أقول بأن هذا وصف للحال والمآل وليس تسويغاً للباطل والضلال.
الجانب التاسع : الحذر من المعالجة الانتقائية.
فإذا أريد - مثلاً - معالجة الإرهاب - ثقافياً - فلابد من النظر الشمولي لأسبابه، وعدم قصرها في اتجاه واحد كالمناهج التعليمية التي حاول بعض التيارات تحميلها إثم ما حصل.
فأين الحديث عن " الإعلام" وما ينطوي عليه من ثقافات غير سوية حيث يوجد في إعلاميات عديدة ، وبوضوح صارخ أحياناً، تلك المعطيات المتمثلة في : (الثقافة المهملة للدين، والمعادية له، أو المحذرة منه والمخوفة منه) ويوجد ـأحياناًـ (الثقافة المنحرفة باسم الدين ، فضلاً عن الحضور القوي لثقافة الضياع والتيه اللهو، وثقافة العنف غير الديني، وثقافة التبعية والهزيمة والاستلاب، وثقافة الاستغراب).
ولا يجترئ منصف على إنكار هذه الثقافات الإعلامية وآثارها الخطيرة في إيجاد أجيال هشة، وإيجاد براهين لأهل الغلو يتذرّعون بها لتسويغ غلوهم وعنفهم، وسيجدون من يصغي إليهم في حال قبول الطرح المناوئ للمناهج والسكوت عن الحمولات الهائلة للثقافة الإعلامية المنحازة في الجملة.
ومهما كان إعداد لقاءات الحوار وأعداد المتحاورين وقوة التوصيات، وسرعة الإجراءات فإنها لا تكفي وحدها في معالجة ظاهرة العنف، بل قد تكون في حال الانحياز ضد الصيغ الدينية في المناهج -والسكوت عن الصيغ الأخرى في الإعلام- سبباً في تفاقم المشكلة، أو نشوئها في أزمنة لاحقة بشكل أخطر مما هي عليه الآن.
وأعنى بكل هذا أن الاهتمام بالمعالجة الثقافيّة يستوجب (استراتيجية ثقافية) حقل نشاطها الذهن والتفكير والتصور، بصورة شمولية يمكن معها حل مشكلة (التطرف والتطرف المضاد) في أدوارها الأولى باعتبار أن التفكير والتصور هو الأساس الذي تنبثق منه المشاعر والسلوكيات، ولنا أن نتساءل:
كيف يمكن أن نقنع شاباً بجدوى المقترحات الموجهة نحو السمة الدينية في المناهج وهم يتصورون قصوراً في شمولية أو عمق هذه السمة؟ بل كيف يمكن أن نثبت لهم جودة المقترحات وهم يرون أنها ركزت على جانب ثقافي واحد بل على جزء من هذا الجانب، وأهملت أو تغاضت عن الجوانب الثقافية (الإعلامية خصوصاً) وهي الأكثر حضوراً والأقوى جذباً والأعمق تأثيراً.(33/493)
فلنتصور أن بعض المفاهيم الإسلامية قلصت حظوظها في الثقافة والتعليم، وشذبت المناهج مما يتصور أنه سبب العنف والغلو، وترك الحال الثقافي في وجهه الإعلامي على ما هو عليه في غلو وتسارع وقوة تأثير، ماذا سيكون الحال عليه بعد عقد أو عقدين من الزمن على أبعد تقدير؟
إن النظر العاقل الحصيف ليدرك أن المطلوب هو ثقافة سوية( تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث ) به ، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) وتحرراً فكرياً منضبط الاتجاه لا فوضوياً مدمراً، ومفاهيم دينية سوية تغسل العقول من لوثاث الغلو الديني والشهواني والأهوائي.
وبهذا تتم المعالجة الثقافية الشاملة التي لا يجرؤ عاقل ذو ضمير وعلم وعدل على إنكار وجوبها وحتمية العناية بها.
الجانب العاشر: التنبه من عمليات الاختطاف
فمع أن إحسان الظن ينبغي أن يكون أساساً ومنطلقاً، إلا أنه في الوقت ذاته يجب الحذر من اختطاف الحوار، وارتهان أجواء الانفتاح، وتوجيهها توجيها منحازاً (طائفياً ، أو فكرياً فئوياً ، أو سياسياً أو أمنياً) ومما يأسف له كثير من المتابعين تلك الممارسات الإعلامية القائمة على مبدأ اختطاف المشروعات، ومن أدواته:
- التركيز على بعض المشاجرات ( الحوارية) في أروقة اللقاء.
- انتقائية المقابلات وانحيازها لمفاهيم فئة مسيطرة على الإعلام أساساً أو لها نصيب كبير منه.
- انحيازية المقالات والتحليلات الإعلامية نحو أفكار واتجاهات ومقاصد فئوية.
- اقتطاع أجزاء من الأبحاث المقدمة وإغفال أجزاء أخرى، بل أحياناً إهمال شبه كامل لأبحاث مخالفة لنسق فئة معينة.
- انتقاء فقرات معينة من التوصيات، وتوسيع حاشيتها، لأنها تخدم أغراضاً معينة لدى فئة محدودة.
- أخيراً بروز اللهجة الخطابية المتوشّحة بالفئوية من البعض في لقاء ولي العهد لاختطاف النتائج والتوصيات وتوجيهها توجيهاً منحازاً، وتكييفها تكييفاً إقصائياً ولَكْم المتحاورين - المتفقين على نتائج محددة - بقفازات الحوار والتفاهم، في (نسق مضمر أصله الهجاء وتفكرته تدمير الخصم عبر تصوير بصورة بشعة.. كتوظيف للقانون الثقافي النسقي قانون الرغبة والرغبة والرهبة) [انظر: كتاب النقد الثقافي د/ عبد الله الغذامي ص 162].
إن مفاهيم الابتسار والاختزال والانحياز تشكل بؤرة (افتراق) و(فتنة) طائفية أو فئوية أو حزبية (والفتنة أكبر من القتل) ولا فكاك من ذلك إلا بإقرار فرص شبه متكافئة إعلامياً، ولا أقول فرص بحسب نسب الأغلبية والأقلية؛ لأن ذلك ـ بكل وضوح ـ لن يحدث في ظل هيمنة تيارات معينة على الإعلام، وعجز المقابل -رغم كثرته- عن التوغل.
ومن المهم -جداً- تثبيت فرص التعامل الفكري والثقافي وجعلها واضحة سافرة مثل الشمس في جو من الصدق، وعلى قاعدة من العلم والعدل.
-------------------
* عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
المصدر : موقع إسلاميات - صفحة المرأة والحوار
http://www.islameiat.com/female/a r ticle.php?sid=17
============(33/494)
(33/495)
أوَ يُهزم دينُ المليارِ ؟!
د.أسامة الأحمد
" في أمسية ثقافية استشهد المحاضر بنص لأحد شعراء "الحداثة" ،
وكان الشاعر إياه حاضراً ، ولكنه نسي ما اقترف! فما كان منه إلا أن سأله :
" لأي حمار هذه القصيدة ؟!" .. فأجابه : " هي لك يا سيدي !" .
قسماً بالمولى الجبارِ *** سأحطم قلمَ الأشرارِ
وسأقطعُ ألسنة بغاةٍ *** ظلمونا بالأدب العاري
تجلدهم يمنايَ .. فإمّا *** تعبتْ أجلدهم بيساري
فإذا وافى الأجلُ فإني** سأناول سوطي لصغاري
حتى لا يبقى عربيدٌ *** ينهقُ بلقيط الأشعارِ
يترنّح بين الأفكارِ *** ما بين يمينٍ و يسارِ!
يكتب فُجراً، يَنطق عُهراً*** يُدعى شعراً! يا للعارِ
ما فيه شعورٌ ، أو نورٌ *** يَهدي ..أو نغمةُ أوتارِ
تعرفهم في لحن القولِ *** وبخنجر ليلٍ غدارِ
أقسِمُ لو نجحوا قد فتحوا *** ليلاً أبوابَ الأسوارِ
فتّشْ بجيوبهمُ تلقَ *** سيلاً من فئة الدولارِ
ملكواالإعلامَ وما نجحوا** هُزموا في ساح الأفكارِ
مهمامكروا،مهما فجروا***مكرُهمُ في جُرُفٍ هارِ
دعوتُنا دعوةُ إيمانٍ *** يتحدى وجهَ الإعصارِ
مليارٌ قالوا : آمنا *** أوَ يُهزم دينُ المليارِ؟!
وأنا منهمْ أحيا معهمْ *** أمضي في هذا التيارِ
هوَذا قلمي أصغرُ قلمٍ *** من بين جيوشِ الأنصارِ
أتحداكم قزماً قزماً *** أنْ تلِجوا ساحة مضماري
أشعاري سجدتْ للباري*** فتسامتْ عزاً أشعاري
============(33/496)
(33/497)
مخيمات أم مهرجانات
عيسى بن مانع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
إن من انتصارات الدعوة و علامات صلاح هذا الدين العظيم لكل الأزمنة و الأمكنة ،هي هذه المخيمات الدعوية والشبابية الصيفية والشتوية والربيعية، المنتشرة على رقعة هذا الثوب السعودي الفضفاض.
إن المهرجانات الغنائية الساقطة التي ظهرت كفقاعة الصابون، لم تلبث أن كانت تجربة خاسرة و شوهاء و من ثم عصفت بها رياح الفناء. لأن المجتمع السعودي مجتمع عَجب منه أعداؤه، كلما فتحوا باب شر أغلق الجمهور هذا الباب أو قاطعوه.
لكن الملفت للنظر أن المخيمات الدعوية تشهد إقبالاً منقطع النظير من أفراد و جماعات و مؤسسات هذا المجتمع المحير للأعداء و الأذناب. حتى أشهر المنتديات الثقافية و مواخير الحداثة لا تشهد إقبالاً من المثقفين والمتعلمين بيد أن مخيم دعوي مثلاً في أحد رفيدة يشهد حضور 10 آلاف شخص في محاضرة واحدة.
إن هذه المخيمات من أهم مكتسبات الدعوة في بلادنا , والناس بحاجة للعودة إلى التدين الغير مشوه من قبل الإعلام الداخلي والخارجي، وأن نحصن المجتمع من دعوات بعض الأذناب و الأفراخ العلمانية التي لا تفرق بين ثوابت المجتمع و توافه الأمور.
"إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق"
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
=============(33/498)
(33/499)
من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب
د. مازن صلاح مطبقاني
قسم الاستشراق
كلية الدعوة بالمدينة المنورة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
لعل من أبرز الأمور التي نجح فيها قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) أنه كوّن عدداً من الباحثين الراغبين في المعرفة والبحث عنها في مظانها في مجال نشاط الاستشراق القديم والحديث، وقد تأكد لي ذلك أن حينما كنت في زيارة إلى عدد من الجامعات الأمريكية ومراكز البحوث والمكتبات بدعوة من وكالة إعلام الولايات المتحدة الأمريكية في صيف عام 1416 (سبتمبر 1995) حرصت على طلب تفاصيل المواد التي تُدْرس في أقسام الدراسات العربية الإسلامية أو مراكز دراسات الشرق الأوسط أو أقسام الدراسات الشرق أوسطية في بعض الجامعات الأمريكية. وكان من هذه الجامعات جامعة جورجتاون، وجامعة انديانا، وجامعة نيويورك، ومعهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن.
وكان من الحرص على المعرفة الاستشراقية حضور بعض المحاضرات والالتقاء ببعض الباحثين الغربيين وكذلك متابعة النشاطات الاستشراقية في الغرب من خلال النشرات التي تصدرها أقسام دراسات الشرق الأوسط ومراكز البحوث وبعض الدوريات المتوفرة مما وفر للباحث بعض المعلومات عن هذه الدراسات
تؤكد هذه الدراسة أن دراسة الاستشراق يجب أن لا تقتصر على معرفة جذور الاستشراق والاستشراق التقليدي بل لا بد أن يهتم الباحثون المسلمون بالتعرف على مراكز الدراسات العربية والإسلامية ومعاهد البحث العلمي وأقسام دراسات الشرق الأوسط. وتتمثل هذه الدراسة في معرفة المواد الدراسية التي يتلقاها الطلاب في هذه الأقسام حيث إن خريجي هذه الأقسام ينتشرون في جميع مجالات الحياة العملية في الحياة الغربية ومن ذلك وزارات الخارجية ووزارات الدفاع ووزارات الاقتصاد ويعملون أيضاً في مجال التعليم وفي مجال الإعلام. فهذه المواد العلمية تصبح جزءاً من تركيبتهم الثقافية والفكرية كما يؤثر فيهم أيضاً أعضاء هيئة التدريس الذين يقدمون هذه المواد فيلزم لمعرفة الاستشراق المعاصر معرفة من يقوم بالتدريس والبحث في هذا المجال في الغرب عموماً . أما الجانب الثالث الذي بحثته هذه الدراسة بإيجاز فتمويل الدراسات العربية والإسلامية وبالرغم من أن العرب المسلمين بدؤوا يقدمون الدعم لبعض البرامج في الغرب ولكن تأثيرنا ما زال محدوداً .
هذا وسيتكون البحث من ثلاثة محاور هي:
أولاً:. الدراسات العربية الإسلامية في بعض الجامعات الأمريكية من خلال بعض المواد الدراسية والنشاطات الأكاديمية من محاضرات وندوات
ثانياً: تمويل الدراسات العربية والإسلامية في بعض الجامعات الغربية.
ثالثاً: أساتذة الدراسات العربية والإسلامية ونماذج من السير الذاتية لعدد منهم.
المحور الأول
الدراسات الاستشراقية من خلال بعض المواد الدراسية والنشاطات الأكاديمية من محاضرات وندوات
يتناول هذا المحور عرض بعض التفاصيل حول المقررات الدراسية أو تفاصيل هذه المقررات. والنشاطات الجامعية( الأكاديمية ) في بعض الجامعات الأمريكية والبريطانية التي يحرص الباحث على متابعتها. وفيما يأتي بعض النماذج للمواد الدراسية التي تقدم في بعض مراكز أو أقسام دراسات الشرق الأوسط أو أقسام الأديان في بعض الجامعات الأمريكية:
أ- مادة تاريخ 561(للدراسات العليا) قضايا وأدبيات في تاريخ الشرق الأوسط. تقوم بتدريس المادة البروفيسورة جوديث تكر. Judith Tucke صلى الله عليه وسلم وقد لاحظت في تفاصيل المقرر أن الأستاذة أو الجامعة أطلقت على المادة (تاريخ الشرق الأوسط) مع أن المقصود هو التاريخ العربي الإسلامي. كما أنها جعلت المراجع الأساسية للمادة هي المصادر المكتوبة باللغة الإنجليزية أو المترجمة إليها مع ملاحظة أن ما يترجم في العادة إلى اللغة الإنجليزية هو ما يتبنى الفكر الغربي أو المناهج الغربية في التفكير. ومن الكتاب العرب أو المسلمين : عبد العزيز الدوري وعزيز العظمة وهشام شرابي وأما الكتاب الغربيون فمنهم جون اسبوزيتو John Esposito ومارلين والدمان Ma r lene Waldmanوميريام روزن Me r iam r ozenوفرانز روزنتال f r anz r osenthalو باربرا ستوواسر Ba r ba r a Stowasse r وغيرهم.
وقد تضمنت المادة قراءات مختارة في كتاب الطبري وابن الأثير والجبرتي وابن خلدون.
ب- المرأة والجنسان (أو الجنوسة كما ترجم كمال أبو ديب كلمة Gende r ) رقم 668(دراسات عليا) حيث تهتم المادة بدراسة موضوع المرأة في الشرق الأوسط والكتابات الحديثة حول العلاقة بين الجنسين ، ويلاحظ أن مراجع المادة هي من الكتابات التي تمت ترجمتها لكاتبات عربيات ومسلمات عرف معظمهن بتبني قضية ما يسمى بتحرير المرأة ومنهن : نوال السعداوي في كتبها الثلاثة : " البريء والشيطان" ، و"مذكرات من سجن النساء" ، و"المرأة في نقطة الصفر". ومنهن حنان الشيخ في كتابها " قصة زهرة" ، وفدوى عمروش وغيرهن.(33/500)
1- المقدمة وتتضمن قراءات من كتاب أستاذة المادة نفسها ، وكتاب " فكر الحركة النسائية" لمؤلفته روزماري تونج r osema r ie Tong وكتاب:"الإسلام المبكر وموقع المرأة : المشكلة " للباحثة دينس سبلبيرجDenise A. Spelpe r g وكتاب جوناثان بيركيJonnathan A. Be r key " النساء والتعليم الإسلامي في العهد المملوكي."
2- الموقف الماركسي
3- الحركة النسائية المتطرفة .
4- الحركة النسائية ما بعد الحداثة.
5- الدين ويتضمن قراءة في كتاب ليلى أحمد " المرأة وقضية الجنس في الإسلام " بالإضافة إلى قراءة في كتاب باربرا ستوواسرBa r ba r a Stowasse صلى الله عليه وسلم
6- القانون .
وبالرغم من كثرة القراءات في هذه المادة لكنها لم تتضمن قراءات لكتاب إسلاميين مثل كتاب " المرأة بين الفقه والقانون " للدكتور مصطفى السباعي وغيره من الكتب المهمة في موضوع المرأة وهي كثيرة جداً. ويمكن أن نضيف بأن مثل هذه المادة كان يجب أن تبدأ بمعرفة موقف الإسلام من المرأة وهل لها قضية حقيقية أو أن هذه القضية إنما هي من تأثير الغرب والفكر الغربي.
جـ- الإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي . حلقة دراسية في قسم العلوم السياسية برقم حكومة:743( دراسات عليا) ويقوم بتدريس هذه المادة مايكال هدسون.
تتناول هذه المادة قضية الإصلاح السياسي الليبرالي مستخدمة المنهج المقارن وسيكلف الطلاب بدراسات تجارب تحررية معينة بعمق بعد دراسة عامة للكتابات حول العلوم السياسية. وسيكون التركيز في هذا الفصل ( ربيع 1995) على اليمن .
ولوحظ أن تسعين بالمائة من المراجع هي لكتاب غربيين وأما كتابات العرب والمسلمين فقد اقتصرت على كتابات كتاب من أمثال: غسان سلامة وسعد الدين إبراهيم وهالة مصطفى وسلوى إسماعيل . ومن المعروف أن معظم هؤلاء يقفون موقف العداء من الحركات الإسلامية عموماً. ولم تتضمن القراءات كتابات لقادة الحركات الإسلامية الذين تضمنت كتاباتهم مواقفهم من الإصلاح السياسي في العالم العربي الإسلامي.وقد حضرت بعض محاضرات الفكر السياسي العربي الحديث للدكتور صادق جلال العظم في مركز قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون فوجدت أنه يهتم بمذكرات ياسين الحافظ أحد منظري حزب البعث حيث بدأ بسيرته الذاتية . ولم تتضمن المادة نظرة زعماء الحركات الإسلامية مثل عبد العزيز الثعالبي وعبد الحميد بن باديس ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وحسن البنا وحسن الترابي وغيرهم . ولكن ما كان للعظم أن يهتم بهذه الشخصيات فهو في الواقع لا يعترف بوجودها فضلاً عن وجود فكر لها.
د- مدخل إلى أديان الغرب: أبناء إبراهيم مجد قديم وإيمان حي : يقوم بتدريس المادة سكوت الكساندرScott Alexande r
التقيت الدكتور سكوت في أثناء زيارتي لجامعة انديانا في ربيع الثاني عام 1416 وقد أكد لي حرصه على تقديم الأديان الثلاثة كما يؤمن بها أصحابها وأنه بصدد إعداد شريط فيديو يتضمن مقابلات مع بعض أتباع هذه الديانات في منطقة بلومنجتون بولاية انديانا وسؤالهم عن تأثير الدين في حياتهم . ولكني لاحظت أن القراءة المقررة على الطلاب حول الإسلام إنما هي من كتاب ثيودور لودوج Theodo r e Ludwig :" الطرق المقدسة في الغرب" والمنشور عام 1994م. ولعلي سألته لماذا لا تختار كتاباً لمؤلف مسلم وذكرت له الدكتور إسماعيل راجي فاروقي- رحمه الله- فزعم أن هذا الكتاب صعب الفهم وأعلى من مستوى الطلاب. ولكن لا بد من وجود كتب أخرى كتبها مسلمون . ومع ذلك فلا بد من تشجيع الكتابات الإسلامية باللغة الإنجليزية حتى لا يبقى لهؤلاء عذر في اللجوء لكتب لغير المسلمين عن الإسلام.
هـ- الإسلام في السياسة المحلية والدولية -معهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز (خريف 1994) والأستاذ هو البروفيسور جيمس بسكتوري( زار المملكة عدة مرات في مهمات علمية) وعمل بعض الوقت في مجلس الشؤون الخارجية بنيويورك.
تهتم هذه المادة بدراسة الأبعاد السياسية للإسلام وطبيعة النظرية الإسلامية السياسية، والعلاقة بين القانون والسياسة وخصائص الدولة الإسلامية والتوافق بين الإسلام والدولة القومية ، وقضايا أخرى . ولن يتم تطبيق هذه القضايا على دول محددة لكن سيكون هناك بعض الأمثلة التطبيقية على دول محددة.
وذكر الأستاذ أن الكتب المتوفرة للشراء من مخزن الكتب بالجامعة هي كتاب : عبد الوهاب الأفندي: " من يحتاج إلى دولة إسلامية؟" وكتاب جون دونهو John Donohou وجون اسبوزيتوJohn Esposito :" الإسلام في مرحلة انتقالية : وجهة نظر المسلمين." وكتاب جيل كيبل : التطرف الإسلامي في مصر : الرسول والفرعون. وكتاب روي متحدة وكتاب إيمانيول سيفان ( يهودي من جامعة تل أبيب) :" الإسلام المتطرف :عقائد من القرون الوسطى وسياسات حديثة."(34/1)
وبالرغم من حرص الأستاذ على ذكر بعض المراجع لكتّاب إسلاميين من أمثال: جعفر شيخ إدريس ومحمد سليم العوا ، وسيد قطب ، ومحمد أسد إلاّ إنه في الوقت نفسه رجع إلى كثير من المستشرقين التقليديين من أمثال : مونتجمري وات وكولسن ونيكي كدي وفاتكيوتيس ( يوناني يهودي) وماكسيم رودنسون ( الشيوعي) ومجيد خدوري، وبرنارد لويس وبوزوورث ، ومارتن كريمر( يهودي ومدير معهد موشي ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتل أبيب) وجوزف شاخت وفرانز روزنثال( اليهودي) .
وذكر الأستاذ أسماء بعض الكتاب من ذوي الاتجاه المعادي للحركات الإسلامية أو من العلمانيين من أمثال فؤاد زكريا وسعد الدين إبراهيم وفاطمة مرنيسي وفؤاد عجمي.
و- " الأصوليات الدينية." يقدمها الدكتور سكوت الكساندر بجامعة انديانا.
يتناول الأستاذ في هذه المادة " الأصولية " في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام. ويهدف إلى الإجابة عن بعض التساؤلات مثل: هل هناك فرق بين الإخوان المسلمين في مصر وحزب الله اللبناني ؟ أو هل يشترك الأصوليون النصارى من بداية هذا القرن ونظرائهم في أواخر القرن العشرين في النظرة نفسها إلى العلاقة بين الرجل والمرأة؟ وما العلاقة بين مفهوم الأصولية والتحديث ؟ وهل ثمة صفات أساسية لكل الحركات الأصولية؟ وما مدى فائدة استخدام مصطلح " الأصولية" في التصنيف؟ وفي عالم النقد الثقافي ما مدى الموضوعية العلمية؟(1)
وبالرغم من أن هذه الأسئلة مهمة وتستحق الاهتمام إلاّ أنها أهملت العديد من القضايا مثل ما مدى صحة إطلاق هذا الاسم على الحركات الإسلامية الداعية إلى العودة إلى تحكيم الإسلام في حياة المسلمين في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؟ كما إن مراجع المادة باللغة الإنجليزية فقط فهل هذه كافية لفهم الحركات الإسلامية ؟ وهل هذه الحركات أطلقت على نفسها هذا المصطلح أو أنه من إطلاق أعدائها عليها؟
وقد وجدت أن الدكتور فهد السماري قد كتب حول مراكز دراسات الشرق الأوسط معلقاً على هذه الدراسات ، وكان مما كتبه :" يتضح من خلال استعراض معظم المواد الدراسية التي تقوم بتدريسها معظم تلك المراكز وجود تركيز متعمد على بعض القضايا الصغيرة والجزئيات اليسيرة في العلوم الإسلامية وإعطائها حجماً كبيراً وبعداً أكثر من طبيعتها على حساب القضايا العامة . فمثلاً يتم التركيز على قضايا الصوفية وعلم الكلام والفتن وقضايا الخلاف بين المسلمين إلى درجة أنها تأخذ عناوين مواد دراسية كاملة في المرحلة الجامعية أو مرحلة الدراسات العليا. " (2)
ومن الانتقادات الأخرى التي وجهها السماري لهذه الدراسات مستشهداً بتقرير "لامبيرت" بأن من "السمات العامة التي تسيطر على معظم المهتمين بهذه الدراسات قلة العارفين باللغة العربية من بين أولئك الخبراء، حيث تصل نسبتهم فقط إلى حوالي 16,7% ، ومن السمات أيضاً عدم ارتباط الغالبية من خبراء دراسات الشرق الأوسط بالمنطقة التي يقومون بدراستها لا من حيث القيام بزيارتها أو معرفتها بصورة جيدة."(3)
وإن كان الباحث هنا لا يوافق تماماً على مثل هذه التعميمات ذلك أن مجالاً مثل الدراسات العربية الإسلامية يحتاج إلى بحث علمي إحصائي دقيق حتى نصل إلى أحكام قريبة من الصواب وبعيدة عن الأحكام الجزافية.
وقد قدّم الدكتور السماري نقداً آخر حول عدم رغبة تلك المراكز في "الحصول على المعلومات الصحيحة عن المنطقة التي يدرسونها إضافة إلى خشيتها من انحرافها عن تحقيق أهدافها المشبوهة التي تتطلب أساتذة من نفس الدولة لحفظها وعدم تسربها...* وأضاف أن هذه المراكز تحجم عن التعاون مع الجامعات العربية الإسلامية ولذلك قامت بإنشاء مراكز أو فروع لها في بعض البلاد العربية الإسلامية وذكر من الأمثلة على ذلك " مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية " الذي أسسته بريطانيا في القدس عام 1943/1362هـ.. و" المعهد الألماني للأبحاث الشرقية" الذي أسسته الحكومة الألمانية في بيروت عام 1361هـ/1961م.(5) وأضيف إلى ذلك مراكز دراسات الشرق الأوسط أو الجامعات الأمريكية في كل من القاهرة وبيروت واستنبول ومركز الدراسات اليمنية في صنعاء وغيرها.
ونظراً لأهمية النشاطات الأكاديمية الأخرى في الحياة الجامعية في الولايات المتحدة وأوروبا حيث تكاد تكون جزءاً لا يتجزأ من الحياة الجامعية ، ولعل الدراسة الجامعية تعد ناقصة بدونها وهي المحاضرات العامة والندوات وحلقات البحث والحفلات التي تهتم بالجوانب المختلفة من حياة الشعوب العربية الإسلامية ، فإنني سأورد هنا نماذج من هذه النشاطات.
أولاً: يصدر مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط بجامعة لندن( مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ) نشرة شهرية حول النشاطات العلمية والاجتماعية التي تتعلق بالعالم العربي الإسلامي في منطقة لندن وما حولها. وفيما يأتي بعض النشاطات المختارة من نشرة شهر ديسمبر 1996/يناير 1997:(6)
1- الآثار في الأردن (3) آخر النتائج لبعثة المتحف البريطاني في تل السعدية (محاضرة) قدمها جوناثان تب Jonathan Tubb .(34/2)
2- التنجيم ، وعلم العقيدة وعلم الكونيات في الإسلام ،محاضرة ألقاها برنارد رادتكBe r na r d r adtke .
3- العراق في المنطقة ، في سلسلة محاضرات برنامج الشرق الأوسط المعاصر ، ألقى المحاضرة الدكتور راغد الصلح.
4- قراءات محظورة: قراءة في كتابات بعض كتاب القصة أو الرواية في تركيا وإيران وإندونيسيا، ومنهم ياسر كمال وبرامادايا أنانتا تو من إندونيسيا وغازي رابحوي من إيران، وغيرهم. *
5- الأصول القرآنية للعقلانية ، محاضرة يقدمها وليد عرفات من مركز الدراسات الإسلامية بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية.
6- اليمن :طريق الوحدة الصعب ، محاضرة ألقاها البر فسور جوزف كوستنر Joseph Kostine صلى الله عليه وسلم
7- دور القانون في أفغانستان : القانون والواقع. محاضرة ألقتها فاطمة غيلاني الناطقة باسم المجاهدين الأفغان ، وترأست الجلسة الدكتورة مي يماني.
8- المصادر المائية ومستقبل نهري دجلة والفرات.(حلقة بحث) قدمها د. رونالد مانلي D صلى الله عليه وسلم Ronald Manley.
9- جغرافية فلسطين 4: القدس ،محاضرة ألقاها د. سي دبليو ميتشال.
10- النساء في الفن التشكيلي الإسلامي. محاضرة ل باربرا برندBa r ba r a Be r nd .
11- كنوز من مقبرة توت عنخ أمون ، محاضرة ل جورج هارت .
12- المغرب بعد الإصلاح الدستوري والاستفتاء ، ندوة اشترك فيها كل من جون ماركس وعلي باهيجوب وجورج جوفي .
13- الإسلام ونظرته إلى الصراع على القوة في مصر. محاضرة قدمها البر فسور صبري حافظ.
14- صور بدو شمال الجزيرة العربية من حوليات الأشوريين إلى كتابات البيزنطيين. محاضرة قدمها مايكال ماكدونالد.
15- زوج من ورق( مسرحية) كتبتها حنان الشيخ تتناول قصة امرأة من المغرب تبحث عن زوج إنجليزى لتحصل على إذن بالبقاء في بريطانيا .
16- مواقف الحركة النسائية في الروايات العربية المعاصرة، محاضرة قدمتها كورنيليا الخالد.
17- الفن المعماري في العالم الإسلامي. عرض صور.
وأقدم فيما يأتي نموذجاً آخر من النشاطات الأكاديمية من جامعة هارفرد الأمريكية وبعض الجامعات الأخرى القريبة كما توضحها النشرة نصف الشهرية لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد الصادرة في 15 أكتوبر و15 نوفمبر 1996.(8)
1- " الإرهاب ، وماذا الآن؟ " ندوة اشترك فيها كل من يوري راعنان مدير معهد دراسة الصراع والأيديولوجية والسياسات في جامعة بوسطن وإلي كراكاوسكي .
2- أصول الهوية القومية الفلسطينية ، محاضرة للدكتور راشد خالدي أستاذ تاريخ الشرق الأوسط ومدير معهد الدراسات الدولية بجامعة شيكاغو.
3- بخارى :قبة الإسلام في الشرق" محاضرة ل ريتشارد فراي r icha r d F r ye أستاذ كرسي الأغا خان للدراسات الإيرانية المتقاعد في جامعة هارفارد.
4- عملية الديموقراطية في العالم العربي ، هل لها مستقبل؟ محاضرة ل يحي سادوسكي Yahya Sadoweski . من معهد بروكنجز بواشنطن العاصمة.
5- البنوك الإسلامية : بين الاقتصادية والنفعية في جمهورية إيران الإسلامية محاضرة قدمها سعدي سفاري مرشح للدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد.
6- سياسات تركيا المعاصرة، محاضرة للبر فسور فيروز أحمد من قسم التاريخ بجامعة ماساتشوستس .
7- الانتخابات اللبنانية لعام 1996 : الديموقراطية تحت التجربة. محاضرة لنواف سلمان محام من بيروت.
8- عملية السلام ، لماذا نحن حيث نحن الآن ؟ محاضرة للباحثة الزائرة بجامعة هارفارد سارة روي، وهي يهودية ومتعاطفة مع أوضاع الفلسطينيين.
9- كيف يحطم الفساد السياسي في الإسلام ونمو التطرف حياة النساء ، محاضرة لجان جودون ، Jan Goodwin صاحبة كتاب " ثمن الشرف: النساء المسلمات ينزعن حجاب الصمت عن العالم الإسلامي." وهي صحافية بريطانية انتقلت للعيش في الولايات المتحدة، وفي هذا الكتاب درست أوضاع المرأة في خمس دول هي أفغانستان وباكستان والكويت والسعودية والأردن. وقد أجرت لقاءات مع النساء في هذه الدول. فعرضت بعض الأوضاع الواقعية ولكنها أخطأت في تفسيرها.
10- المدينة العربية التقليدية ومشكلات المحافظة عليها ، محاضرة قدمها البر فسور أندريه ريموند And r e r aymond من قسم التاريخ بجامعة اكس ان بروفانس بفرنسا .
يلاحظ أولاً كثافة النشاطات الأكاديمية رغم أنني لم أقدم سوى نماذج من هذه النشاطات ومن خلال مصدرين مع إمكان التوسع في عرض هذه النشاطات من نشرات معهد الشرق الأوسط في واشنطن وجامعة نيويورك وغيرها. كما أن هناك نشاطات أخرى لم أوردها تهتم بالرقص وبالغناء وبالأفلام وبالطعام في العالم الإسلامي وبغير ذلك من الأمور التي تخص حياة الشعوب الإسلامية.
ويمكن تصنيف هذه النشاطات إلى ما يأتي :
أ- الاهتمام بالأمم والحضارات التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم
ب- الاهتمام بالعلوم الشرعية كالقرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والتفسير واللغة العربية وغيرها.
جـ- الاهتمام بالقضايا المعاصرة والحساسة مثل المياه والانتخابات والمشاركة السياسية والاستفتاءات وغيرها.(34/3)
د- الاهتمام بالاتجاهات الفكرية المنحرفة في العالم العربي الإسلامي ، كالاهتمام بمحمد شكري وعبد الرحمن المنيف ونوال السعداوي، ومحمد سعيد العشماوي وغيرهم.
هـ- إشراك بعض أبناء البلاد العربية الإسلامية من مسلمين أو غيرهم في هذه النشاطات.
ولا يستطيع الباحث أن يجد أي إشارة إلى التركيز على جانب من حياة الشعوب الإسلامية دون الجوانب الأخرى. كما إن هذه النشاطات تواكب آخر الأحداث في العالم الإسلامي ومن ذلك الاستفتاء على الدستور في المغرب والانتخابات اللبنانية وغير ذلك، وقضية المياه ، وقضايا الحركات الإسلامية أو ما يطلقون عليه (الحركات الإسلامية المتشددة أو المتطرفة أو الإسلام السياسي أو الأصولية..)
ولمّا كانت الحكمة ضالة المؤمن كما جاء في حديث الرسو صلى الله عليه وسلم فهل تنشط الجامعات العربية الإسلامية في معالجة قضايا العالم الإسلامي والاهتمام بالقضايا العالمية، وأود أن أشير على سبيل المثال إلى ما حدث في الغرب منذ بضعة أشهر من اكتشافهم لجرائم الاستغلال الجنسي التجاري للأطفال مما دعاهم إلى عقد مؤتمر دولي في السويد حضرته أكثر من مائة دولة فهل عقدنا أية ندوة لنعرف أوضاع الأطفال في عالمنا وفي عالمهم؟ وما ذا عن مشاركتنا في هذا المؤتمر ، وهل عرضنا نظرة الإسلام إلى الطفل والأمر برعايته؟
المحور الثاني
تمويل الدراسات العربية والإسلامية في بعض الجامعات الغربية
حظيت الدراسات العربية الإسلامية وما تزال بدعم سخي من الحكومات الغربية ومن المؤسسات الغربية الخاصة ومن جهات عربية إسلامية . ولا بد من تناول الاهتمام الحكومي الغربي بالدراسات العربية الإسلامية فقد كلفت الحكومة البريطانية لجنة وزارية بدراسة أوضاع الدراسات الشرقية والأفريقية والأوروبية الشرقية والسلافية عام 1947 وهي التي عرفت بلجنة سكاربرو ، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في عام 1961 كونت لجنة أخرى لدراسة الموضوع ذاته برئاسة السير وليام هايتر وأصبح يطلق على اللجنة اسم رئيسها وليام هايتر وحتى الأموال التي خصصتها للجامعات أصبحت تعرف بأموال هايتر.
وقد أفادت هذه اللجنة من تمويل بعض المؤسسات الأمريكية لرحلتها العلمية إلى عشر جامعات أمريكية وجامعتين كنديتين للاطلاع على الدراسات الإسلامية ودراسات الأقاليم في الجامعات الأمريكية .
ولم يقتصر تمويل هذه الدراسات على الحكومات الغربية بل إن المؤسسات "الخيرية" الغربية قدمت وما تزال تقدم دعماً سخياً لهذه الدراسات ومن أبرزها في الولايات المتحدة الأمريكية: مؤسسة فورد ومؤسسة كارينجي للسلام الدولي التي أسست عام 1910م بمنحة من أندرو كارينجي And r ew Ca r engie بهدف دعم السلام والتفاهم العالمي ، ومؤسسة روكفللر بالإضافة إلى مئات أو ألوف التبرعات من شخصيات أمريكية عادية وثرية.
ومن الأمثلة على دعم المؤسسات الأمريكية للدراسات العربية الإسلامية ما قامت به مؤسسة فورد من تكليف مجموعة من الخبراء لإعداد دراسة عن أوضاع الدراسات الإقليمية الحالية واحتياجاتها وتطلعاتها ومشكلاتها ، وكانت النتيجة كتاباً ضخماً بعنوان " دراسة الشرق الأوسط: البحث والدراسة في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية ." وقام بتحريره ليونارد بايندر. ومن الطريف أن أحد أعضاء الفريق الذي أعد التقرير ذكر أن الصفحة الواحدة من التقرير كلفت 85,5دولاراً أمريكيا (9).فيكون التقرير قد كلف85,5× 648=55404دولاراً.
كما سعت الجامعات الغربية إلى الحصول على دعم كثير من الدول الأجنبية بإنشاء كراس للدراسات العربية والإسلامية أو كراس لدراسة تلك الدول بخاصة.
وإن كانت تفاصيل تمويل الدراسات الإسلامية يحتاج إلى بحث مستقل ولكننا يمكن أن نلم ببعض المعلومات بصورة موجزة . ومن ذلك أن أقدم مصدر تناول هذا التمويل هو ما كتبه الباحث الأمريكي مورو بيرجر Mo r oe Be r ge r المتخصص في علم الاجتماع ومدير برامج دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون عام 1967م. فقد أشار في تقرير أعده لرابطة دراسات الشرق الأوسط نشرته في العدد الثاني من نشرتها نصف السنوية إلى أن مؤسسة فورد قدّمت بضعة ملايين من الدولارات لمراكز الدراسات العليا ولتمويلها للجنة المشتركة للمجلس الأمريكي للجمعيات العلمية ومجلس بحوث العلوم الاجتماعية ، كما قدمت مليوني دولار إضافية لتسعة وستين طالباً ومائة في مجال الدراسات العليا.(10)
ويضيف بيرجر أن الحكومة الفدرالية بدأت في عام 1958 تمويل دراسة لغات الشرق الأوسط وثقافته وتاريخه . وقد كان عدد المراكز التي تدرس فيها اللغة العربية خمسة عشر مركزاً أنشئت بأموال فيدرالية ، وسبعة مراكز للغة العبرية وستة مراكز للفارسية وتسعة مراكز للتركية.(11) ونتيجة لهذا الدعم فقد ارتفع عدد الطلاب الذين كانوا يدرسون لغات الشرق الأوسط من 286طالباً عام 1958 إلى 1084طالباًعام 1964م(12)
أما الجامعات التي تتلقى دعماً مستمراً في مجال الدراسات الإسلامية فهي الجامعات الآتية:
1- جامعة كولمبيا - نيويورك 2- جامعة نيويورك - نيويورك(34/4)
3- جامعة برنستون - برنستون. 4- جامعة هارفارد - كمبردج ماساتشوستس.
5- جامعة أوهايو الحكومية. 6- جامعة بنسلفانيا - فيلادلفيا
7- جامعة شيكاغو- آن أربر. 8- جامعة يوتا
9- جامعة أريزونا- توسان ، أريزونا.10- جامعة بورتلاند الحكومية. بورتلاند ، أوريجن.
11- جامعة تكساس في مدينة أوستن.12- جامعة واشنطن سياتل ولاية واشنطن.
13- جامعة كاليفورنيا- بيركلي. 14- جامعة كاليفورنيا - لوس أنجلوس.
وقد تطورت الدراسات في هذه الجامعات وزادت أعداد الطلاب والمدرسين والباحثين زيادة كبيرة فعلى سبيل المثال بلغ عدد المتخصصين وأعضاء هيئة التدريس والموظفين الأكاديميين بجامعة كاليفورنيا -بيركلي 85 موظفاً عام 1995 . أما عدد طلاب الدراسات العليا فبلغ عددهم 150طالباً . بينما عدد المواد الدراسية الخاصة بالشرق الأوسط فبلغ 200 مادة يدرسها 5000 طالب.
ومن مصادر تمويل المؤتمرات والندوات حول العالم العربي الإسلامي ما تقدمه وكالة الاستخبارات المركزية (CIA). وقد كان الأمر سراً حتى إنه لما فشت الأخبار عن قيام هذه الوكالة بتمويل مؤتمر في جامعة هارفارد يشرف عليه الباحث اليهودي المصري الأصل ناداف سفران عام 1985 ألغي المؤتمر وكان من المقرر أن يستقيل الأستاذ من منصبه في الجامعة.(13) ولكن الأمر لم يعد سراً منذ ثلاث سنوات حيث نشرت جريدة الشرق الأوسط في صدر صفحتها الأولى عن قيام وكالة الاستخبارات بتنظيم ندوة شهرية لدراسة الحركات الإسلامية " الأصولية" في العالم الإسلامي.(14)
وقد قمت باستعراض العديد من المؤلفات حول الإسلام وقضايا الشرق الأوسط فوجدت أن هذه الكتب لم يكن من الممكن تأليفها لولا التمويل السخي من المؤسسات الأمريكية والأوروبية الحكومية وغير الحكومية وهي على النحو الآتي:
1 - كتاب ( الإخوان المسلمون) تأليف ريتشارد ب. ميتشل . يقول المؤلف في مقدمة كتابه:" فقد مكنتني مؤسسة فلبرايت من زيارتي الأولى لمصر، وبذلت مؤسسة فورد دعماً سخياً للبحث ... كما ساعد مستر جون مارشال بمؤسسة روكفللر في الكتابة الأولية لهذه الدراسة."(15)
2- كتاب " اللغة السياسية في الإسلام " برنارد لويس ، والكتاب في الأصل محاضرات ألقاها المؤلف في مركز جون أولين John Olin للبحث في النظرية وتطبيق الديموقراطية بجامعة شيكاغو في الفترة من 29 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 1986م. بتمويل من شركة إكسون Exxon وهي إحدى كبريات شركات البترول في الولايات المتحدة. (16)
3- " نظرة المسلمين إلى الغرب" محاضرة ألقاها برنارد لويس في مكتبة الكونجرس في 29 مايو 1990م. وهي محاضرة توماس جيفرسون السنوية التي ينظمها ويمولها الوقف الأمريكي للإنسانيات . وقد حصل المحاضر على مبلغ عشرة آلاف دولار. ثم أعاد نشرها في مجلة الأتلانتكThe Atalntic Monthly في شهر سبتمبر1990 مع تعديل طفيف .
4- " التعرف إلى الإسلام: الدين والمجتمع في العالم العربي الحديث" مايكال جلسنان ، أستاذ الدين الإسلامي بجامعة نيويورك ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط . وقد قام بتمويل إعداد هذا الكتاب كل من مجلس بحوث العلوم الاجتماعية البريطاني الذي قدّم منحة مدتها ستة أشهر قضاها المؤلف في مركز دراسات الشرق الأوسط بمدينة إكس ان بروفانس بفرنسا عام 1976م. كما قام المجلس نفسه بتمويل منحة لإلقاء محاضرات في جامعة ما نشستر في الفترة من 1970-197م في قسم علم الإنسان لدراسة المجتمع اللبناني ، كما قام مجلس البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية في القاهرة بتمويل دراسة حول الطرق الصوفية في مصر.(17)
5- "سياسات التغيير الاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ." مانفرد هالبرن Manf r ed Halpe r n (1963) يقول المؤلف :" إن كرم مؤسستين قد جعل هذا العمل ممكناً: مؤسسة راند وجامعة برنستون"(18)
6- " السياسة الدولية والشرق الأوسط : قوانين قديمة ولعبة خطيرة" إل.كارل براون. (1984) من الكتب المقررة في إحدى المواد الدراسية بجامعة برنستون. حصل المؤلف على العديد من المنح منها منحة من مؤسسة جون سيمون قجنهايم التذكارية John Simon Guggenheim Memo r ial Foundation. ومؤسسة فلبرايت الأمريكية - برامج هيز ومؤسسة هوفر للحرب والثورة والسلام.(19)
وإذا انتقلنا عبر المحيط لنرى كيف يتم تمويل الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات الأوروبية نجد أولاً أن الحكومة البريطانية قد كلّفت لجنتين لدراسة احتياجات هذه الدراسات وقد قدمت لجنة السير وليام هايتر (1961) توصياتها التي تضمنت ما يأتي:
أ- تقديم منح على مدى خمس سنوات لتغطية مائة وخمسة وعشرين منصباً جديداً.
ب- تقديم منح للدراسات العليا بواقع عشر منح على مدى عشر سنوات.
جـ- تقديم منح للرحلات العلمية لطلاب الدراسات العليا.
د- فتح مراكز جديدة أو توسعة المراكز الحالية المتخصصة ف دراسة المناطق.
هـ- تقديم منح لأعضاء هيئة التدريس كل خمس إلى سبع سنوات لزيارة المناطق التي يدرسونها.
و- تقديم منح للمكتبات لتحديث موجوداتها.(34/5)
بعد هذا العرض لعدد محدود جداً من الكتب التي مولت إعدادها بعض المؤسسات الغربية الخاصة أو الحكومية ،فهل نجد من المؤسسات الخاصة في عالمنا الإسلامي من يهتم بتمويل إعداد البحوث العلمية ليس في مجال الهندسة والعلوم ولكن حتى في مجال العلوم الإنسانية. إن نهضة الأمم لا تعتمد فقط على العلوم التطبيقية فإن نهضتها الحقيقية تعتمد على نهضة العلوم النظرية.
وليست الحكومة البريطانية وحدها التي تمول الدراسات العربية والإسلامية فإن مركز دراسة الشرق الأدنى والأوسط بجامعة لندن( مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) يذكر في الصفحة الثانية من نشرته الشهرية المؤسسات الممولة والمؤسسات التي تساعد في التمويل. ومن أبرز الممولين البريطانيين: شركة البترول البريطانية B r itish Pet r oleum والبنك البريطاني للشرق الأوسط ، وشركة كونكو وشركة شل الدولية وشركة ولكم Wellcome للتجارة الدولية . أما المؤسسات التي تساعد في التمويل فهي:
1- منظمة العفو الدولية 2- الغرفة التجارية البريطانية العربية
3- المجلس البريطاني 4- مكتب الكومنولث والشؤون الخارجية.
5- مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي. 6- بنك الخليج الدولي.
7- الكليات الدولية للعلوم الإسلامية 8- مكتب الاستعلامات التونسي
9- مكتب الاستعلامات الأردني 10- البنك السعودي البريطاني.
11- شركة رولز رويس 12- جامعة الدول العربية.
13- معهد الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية ب نقوسيا ، قبرص.
14- البنك الوطني الكويتي 15- البنك السعودي الدولي.
16- وحدة الاستخبارات الاقتصادية البريطانية.
وهناك ممولون وفقاً للموضوع المطروح للبحث سواءً كان ذلك في صورة ندوة أو محاضرة أو مؤتمراً دولياً. ففي عام 1953 عقدت مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ندوة حول سقوط القسطنطينية بتمويل من السفارة اليونانية ببريطانيا. كما ساهم البنك الزراعي التركي عام 1996 في تمويل ندوة عن الصور الذهنية لأتاتورك.(20) كما أسهمت جامعة محمد الخامس بالرباط في تمويل عقد ندوة لبحث روابط المغرب مع أوروبا في فترة ما قبل وما بعد الاستعمار ، وذكر الكتيّب الذي صدر عن الندوة أن من أهداف الندوة أيضاً تقوية الصلات العلمية بين الجامعات المغربية والجامعات البريطانية.(21)
ومن العجيب أن التبرعات العربية الإسلامية للجامعات الأمريكية أو الغربية عموماً تزعج البعض،ومن هؤلاء برنارد لويس في أحد مقالاته حول الدراسات العربية والإسلامية حيث سمّى في مقالته بعض الدول العربية وتأثيرها في هذه الدراسات(22)،ولكن لويس ينسى أو يتناسى الدور اليهودي الصهيوني في التعيينات الجامعية ومسار البحث العلمي في الكثير منها كما أشار إدوارد سعيد إلى جامعة برنستون وكما هو في الواقع فمن اليهود الصهاينة كان قسم دراسات الشرق الأوسط يضم برنارد لويس وابراهام يودوفتش ومايكال كوك وهاموري وغيرهم .وقد كتب إدوارد سعيد عن مسألة التبرعات يقول " عندما تتبرع الدول الإسلامية للجامعات الأمريكية للدراسات العربية أو الإسلامية فإن صرخات ليبرالية تتعالى حول التدخل الأجنبي في الجامعات الأمريكية ولكن عندما تتبرع اليابان فلا يسمع مثل هذه الشكاوى."(23)
وقد لاحظت في نشرة أحداث لندن أن المتحف البريطاني هو الداعي لكثير من النشاطات حول الشرق الأوسط (24)، كما أن بعض المؤسسات العربية الإسلامية تمول نشاطات تسهم في الدراسات الإسلامية في الغرب مثل : متحف الكوفة ، معهد الكومنولث ، جمعية الدراسات الليبية وجمعية الدراسات الجزائرية، وجمعية الدراسات العربية ، ومركز بحوث أفريقيا الفرنكفونية ، وكلية ليو بائك Leo Baeck College للدراسات اليهودية ، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
وتأتي التبرعات من شخصيات عربية إسلامية درست في بعض الجامعات البريطانية * ، فقد حصل مركز الدراسات الإسلامية بجامعة اكستر على تبرعات سخية من شخصية خليجية درست في هذه الجامعة لعقد ندوة بمناسبة مرور الذكرى الأولى لوفاة المؤرخ المصري محمد عبد الحي شعبان والذي أسس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة اكستر.(26)
ومن نماذج تمويل الدراسات الإسلامية في الغرب الاتفاق المعقود بين وزارة الشؤون الدينية في إندونيسيا وجامعة لايدن حيث تبتعث إندونيسيا عدداً من طلابها للتخصص في الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الهولندية . كما أن وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية قد أسهمت في تمويل المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذين عقد في لايدن في الفترة من 15-18 محرم 1417.
ومن مصادر تمويل الدراسات العربية الإسلامية في الغرب الرسوم التي يدفعها الطلاب العرب المسلمون لهذه الجامعات وبخاصة المبتعثون من الدول العربية الخليجية . وقد كانت أعدادهم كبيرة في فترة من الفترات حينما لم تتوفر الدراسات العليا في بلادهم أو كان من أهداف الابتعاث الاطلاع على مناهج البحث الغربية في العلوم الاجتماعية والإنسانية.(34/6)
كذلك لا بد من ذكر جهود المملكة العربية السعودية والدول الإسلامية الأخرى في إنشاء المعاهد الإسلامية والعربية في الغرب، والمراكز الثقافية الإسلامية ، وهذه بلا شك تهدف إلى الإسهام في الدراسات الإسلامية في الغرب بما تقدمه من برامج دراسية وندوات ومحاضرات، ونشر.ولكن الحكم على نتائج أعمال هذه المعاهد يحتاج إلى بحث ميداني للوصول إلى التقويم السليم.
المحور الثالث
نماذج من أساتذة الدراسات الإسلامية في الغرب.
كان من بين الأهداف التي سعيت إلى تحقيقها في الزيارة العلمية التي قمت بها للجامعات الأمريكية في صيف عام 1416 محاولة الالتقاء بأكبر عدد من أساتذة الدراسات الإسلامية للتعرف على فكرهم وإنتاجهم الفكري في هذا المجال. ولا بد أن أشيد بجهود الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي قام برحلة علمية إلى المراكز الاستشراقية في بريطانيا وبعض الدول الأوروبية عام 1956م. فقد كان جهداً ريادياً بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.(27) وقد قال الدكتور السباعي في ذلك :" لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي " السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" قبل أن أزور أكثر جامعات أوروبا عام 1956م وأختلط بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم. فلمّا تم لي ذلك ازددت إيماناً بما كتبته عنهم واقتناعاً بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله سواءً كان تشريعياً أم حضارياً لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين ."(28)
وقد تحقق لي بعض النجاح في هذه الزيارة كما أنني التقيت عدداً منهم في رحلات علمية أخرى وفي بعض الندوات والمؤتمرات التي تيسر لي حضورها في السنتين الماضيتين. وهم ليسوا سواء فالتعصب الشديد مازال يسيطر على البعض بينما تخلص بعضهم الآخر من موروثات الاستعمار والحقد والتعصب.
وفي المؤتمر الدولي الثاني حول المنهجية الغربية في دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية حول العالم العربي وتركيا الذي عقد في الفترة من 2-6 مايو 1996 في تونس ونظمته مؤسسة التميمي للمعلومات والبحث العلمي بالتعاون مع مؤسسة كونراد اديناور الألمانية ، قدمت بحثاً حول التعاون العلمي بين العالم العربي وتركيا والغرب بين الواقع والمثال أوضحت فيه استئثار المتغربين والعلمانيين واليساريين ( السابقين ، والحاليين) بمناصب التدريس ومنح البحث العلمي في الجامعات الغربية ، واحتفاء هذه الجامعات بهم إلى درجة لافتة للانتباه. فقد دعت جامعة برنستون أحد المتخصصين في علم الاجتماع من تونس وهو عبد القادر الزغل ومعروف عنه اتجاهه اليساري ، ولمّا كان لا يجيد اللغة الإنجليزية فقد أعطته عدة أشهر لتقوية لغته الإنجليزية كما ساعدته في الحصول على المراجع المناسبة باللغة الإنجليزية للمادة التي سيقوم بتدريسها. وأعتقد أنه كان بإمكانهم أن يجدوا بديلاً جاهزاً لو أرادوا ولكنهم يصرون على نمط معين من العالم العربي الإسلامي لتنفير الطلاب الأمريكان من الإسلام. ومن الأسماء المشهورة في يساريتها وعلمانيتها وقوميتها : هشام شرابي ( خريج الكلية الأمريكية في بيروت) وهشام جعيط التونسي ، وفؤاد عجمي ، وحليم بركات ، ومحمد عبد الحي شعبان ومسعود ضاهر من لبنان.
ومن الأساتذة المسلمين الذين يعملون في الجامعات الأمريكية أذكر أولاً بعض النماذج الجيدة ومن هؤلاء :
1- خالد يحي بلانكنشب، وهو أمريكي من أصل نرويجي أسلم عام 1973 ومتخصص في التاريخ الإسلامي ومتزوج من سيدة حجازية. وبالإضافة إلى معرفته في التاريخ الإسلامي فإنه درس على العديد من المشايخ في مصر وفي مكة المكرمة في أثناء إقامته في هذين البلدين فهو على علم طيب بالشريعة الإسلامية حتى إنه يدرس في جامعة تمبل Temple بمدينة فيلادلفيا العلوم الشرعية. وقد علمت منه أنه يتلقى دروساً في الديانة اليهودية. وقد قام بترجمة بعض مجلدات تاريخ الطبري وله كتاب بعنوان ( هشام بن عبد الملك ونهاية دولة الجهاد) ، كما أنه ألقى بعض الدروس الحسنية في المغرب.(29)
2- شيرمان جاكسون ( ويسمى عبد الحكيم أيضاً) أمريكي من أصل أفريقي متخصص في الفقه المالكي ويدرس العلوم الإسلامية في قسم الأديان بجامعة انديانا ، حصل على الدرجة الجامعية (بكالوريوس) من قسم الدراسات الشرقية بجامعة بنسلفانيا عام 1982، وحصل على الماجستير من الجامعة نفسها عام 1986، وحصل على الدكتوراه كذلك من الجامعة نفسها عام 1990م.ويتقن اللغة العربية وله معرفة باللهجة السعودية والسودانية. وله معرفة باللغة الفرنسية والألمانية والفارسية. وله كتابات حول الفقه المالكي. ويقوم بالخطابة يوم الجمعة أحياناً في مسجد بلومنجتون بإنديانا.(30)(34/7)
3- تمارا صن Tama r a Sonn أستاذ مشارك للدراسات الدينية بجامعة جنوب فلوريدا بمدينة تامباTampa . حصلت على الدكتوراه في الدراسات الدينية من قسم لغات الشرق الأدنى وحضارته شعبة الدراسات الإسلامية. حصلت على الماجستير في الفلسفة من جامعة تورنتو بكندا ،وكذلك البكالوريوس في الفلسفة من جامعة سانتا كلارا. لها عدة كتب حول الإسلام وبخاصة الفكر السياسي والنظريات السياسية . وهي من الباحثات الأمريكيات اللاتي ينشدن الحقيقة والإنصاف حتى إن المجلة العربية الأمريكية للعلوم الاجتماعية اختارتها عضواً في هيئة المستشارين بالمجلة ولها عدة بحوث منشورة في المجلة نفسها. وقد شاهدت لها ندوة اشتركت فيها مع المنصّر القس كينيث كراج قدمت فيها فهماً جميلاً للإسلام كما تعرفت إلى بعض الطلاب المسلمين الذين درسوا عليها وأشادوا بموقفها من الإسلام . ولعل هذا الموقف المعتدل هو الذي جعل بعض الباحثين يتهمها بالتحيز للطلاب المسلمين.(31)
ومن النماذج التي تبذل جهوداً كبيرة في مهاجمة الإسلام ومحاولة تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الغرب الأساتذة الآتية أسماؤهم:
1- الدكتورة رفعت حسن، باكستانية تعيش في المهجر الاختياري أو المنفى الاختياري كما قالت عن نفسها في المحاضرة الافتتاحية في المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذي عقد في لايدن، وتقوم بالتدريس في جامعة لويفيل في ولاية كنتكي الأمريكية. وقد تضمنت محاضرتها نقداً لبعض الأحاديث في صحيح البخاري ومسلم بخصوص خلق المرأة من ضلع الرجل وزعمت أن هذه الأحاديث ( الستة ) ضعيفة من حيث السند والمتن.وتعجبت في محاضرتها الافتتاحية من عدم السماح لامرأة بنقد كتاب البخاري ومسلم وبخاصة إذا لم تكن عربية. وهي من المناديات ب " تحرير المرأة " ومن الذين شاركوا في مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية.(32)
2- فؤاد عجمي : لبناني شيعي درس في الكلية الأمريكية في بيروت وهي مدرسة ثانوية ثم التحق بالجامعات الأمريكية وهو الآن رئيس قسم الشرق الأدنى بمعهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن . وهو صاحب كتاب ( أزمة العقل العربي) وقد وصفه خالد بلانكنشب بقوله :" هو "مسلم" لبناني يبدو أنه مأجور لكي يدافع عن إسرائيل، ويعمل السيد عجمي أستاذاً في جامعة جونز هوبكنز ."(33)
3-ريتشارد بوليت . r icha r d.W Bulliet مدير معهد الشرق الأوسط بجامعة كولمبيا بمدينة نيويورك. وهو متخصص في التاريخ الإسلامي وقد حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة هارفارد عام 1967م.له عدة كتابات حول الإسلام منها كتابه " الإسلام : النظرة من الخارج" عام 1993. وله العديد من النشاطات ومن ذلك قيامه بدور الراوي الشارح لسلسة تلفزيونية حول الشرق الأوسط تتكون من أربع عشرة حلقة . وله مقالات صحافية ومقالات علمية ومشاركات في بعض الموسوعات بالإضافة إلى عروض الكتب. ومن الطريف أنه بليت كاتب روائي له عدة روايات.
لقيته في مكتبه في شهر سبتمبر 1995 وأبدى نظرة معتدلة نحو قضايا الشرق الأوسط وأشار إلى أن جامعة كولمبيا تتهم بأنها تؤيد العرب والمسلمين ضد اليهود والصهاينة لوجود إدوارد سعيد فيها ولأن بعض أساتذتها يقدمون آراء معتدلة بخصوص القضايا العربية المعاصرة.
4- برنارد لويس ، متخصص في التاريخ الإسلامي حصل على درجة الدكتوراه عام 1939 والتحق بالجيش البريطاني لأداء الخدمة العسكرية ولكن أعيرت خدماته إلى وزارة الخارجية البريطانية ، وقيل إنه عمل في سلك الاستخبارات وليس في تعليم اللغة العربية للضباط كما يزعم هو. انتقل إلى الولايات المتحدة بعد فضيحة أخلاقية وطرده من جامعة لندن عام 1974. وعمل في جامعة برنستون حتى بلوغه سن التقاعد. وعمل أيضاً مديراً مشاركاً لمعهد أننبرج Annenbe r g للدراسات اليهودية ودراسات الشرق الأدنى.
كتب كثيراً وحاضر كثيراً وأشرف على الكثير من طلاب الدراسات العليا من العرب والمسلمين وكان يعاملهم معاملة جيدة ، ولكنه مع ذلك كان يحاول أن يقودهم إلى الحياة الاجتماعية التي تنافي السلوك الإسلامي. كما أن بعض البحوث التي أشرف عليها كانت تسهم في تشويه التاريخ الإسلامي كإشرافه على رسالة في التاريخ الإسلامي جعل فيها كتاب " الأغاني" مصدراً للدراسة.
ومن الأمور اللافتة للانتباه في الدراسات الإسلامية في الغرب أن بعض رؤساء أقسام الشرق الأوسط يتبنون اتجاهاً يحارب العرب والمسلمين ومن هؤلاء فدوى -ملتي دوغلاس التي كتبت عن المرأة في العالم العربي ، وقد علمت من بعض المنتسبين للقسم أنها منذ توليها رئاسة القسم وهي مهتمة بدعوة بعض رموز التيار العلماني في العالم العربي من أمثال فؤاد زكريا ومحاربة دعوة أصحاب الاتجاه الإسلامي أو المعتدلين .(34/8)
كما لاحظت وجود تعاون كبير بين الجامعات اليهودية ومراكز البحوث في إسرائيل مع المؤسسات العلمية الأمريكية والغربية عموماً فمؤسسة راند مثلاً تقدم منحة أو أكثر كل سنة لبعض الباحثين اليهود . كما أن الباحثين اليهود يقومون بزيارات مستمرة للجامعات الأمريكية للمشاركة في النشاطات الجامعية (الأكاديمية). كما تسهم مؤسسة كونراد إديناور في تمويل بعض الندوات العلمية في إسرائيل ، وهذه المؤسسة لها مكتب دائم في تونس وتمول بعض الندوات التي تعقدها مؤسسة التميمي للبحث العلمي. ومن الملاحظ أيضاً أن جامعة هارفارد تهتم بالباحثين اليهود وبعض الباحثين من الأقليات في العالم الإسلامي كدعوتها منى مكرم عبيد .وينبغي ملاحظة أن جامعة لايدن أسرعت في تقديم وظيفة أستاذ زائر لنصر حامد أبو زيد مدة سنتين في الوقت الذي يمكن أن تمتنع عن تقديم منحة بمبلغ ضئيل لباحث مسلم يمكن أن يفيد منها حقاً . ويلاحظ أن الذين يسيرون في تيار الغرب ويحاربون الإسلام ينالون من المناصب الأكاديمية ما لا يدركه أصحاب الاتجاه المتزن المعتدل. ولعل مثال فؤاد عجمي وفضل الرحمن وفدوى ملطي دوغلاس وغيرهم يدل على ذلك.
الخاتمة:
تناول هذا البحث ثلاثة محاور هي بعض المقررات التي تتم دراستها في أقسام الدراسات الإسلامية أو الشرق أوسطية في بعض الجامعات الأمريكية، وهي مجرد نموذج من الصعب الخروج بتعميمات على هذه الدراسات ولكنه جدير بالملاحظة.
كما اهتم هذا البحث بموضوع تمويل الدراسات العربية الإسلامية وقد أكد البحث وجود ارتباط وثيق بين هذه الدراسات والأهداف السياسية الغربية من خلال التمويل السخي لهذا الفرع المعرفي. ولعل قيام العرب والمسلمين بتقديم التبرعات والدعم يساعد في تعديل كفة هذه الدراسات وإزالة ما فيها من التحيز ضد العرب والمسلمين ، ولكن هذا يحتاج إلى جهود كبيرة.
أما المحور الثالث فهو تقديم نماذج من أساتذة الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات الأمريكية مما استطاع الباحث التعرف إليه . ولعل من أهم ما أثاره هذا البحث أن كل محور منها يمكن أن يكون موضوع بحث دكتوراه أو بحث أكاديمي ميداني ، ويمكن أن يضاف محور رابع وهو نوعية الطلاب في هذا المجال فقد تعرفت إلى طالب يعمل ضابطاً في الجيش الأمريكي منتدب لدراسة الشرق الأوسط في جامعة برنستون (ومع التأثير الصهيوني فأي علم سيحصل عليه؟)
المراجع العربية:
- بلانكنشب، خالد يحي " الدراسات الإسلامية في الجامعات الأمريكية." في وقائع الندوة الأولى للدراسات الإسلامية في الجامعات الأمريكية ." معهد العلوم الإسلامية والعربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . واشنطن 1994.
- السباعي ، مصطفى.الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم . ط3(دمشق : المكتب الإسلامي، 1405)
- السماري، فهد بن عبد الله " مراكز دراسات الشرق الأوسط وعنايتها بالمسلمين " بحث مطبوع على الآلة الكاتبة قدم للمؤتمر الإسلامي الثاني ( المسلمون في الغرب)، لندن 1-3 ربيع الآخر 1414.
* الشرق الأوسط، عدد 5765، 10/9/ 1994م.
* الشرق الأوسط عدد 5666، 24/12/ 1414، 3/6/ 1994م.
* صادق، يوشع " تدريس العلوم العربية بالجامعات الأمريكية ." المنشور في وقائع الندوة الأولى للدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الأمريكية. مرجع سابق.
* المجتمع (الكويت) عدد 743 في 14 ربيع الأول 1406 ، 26 نوفمبر 1985 ص- ص 28-32.
- ريشتارد ب. ميتشل. الإخوان المسلمون . ترجمة محمود أبو السعود، تعليق صالح أبو رقيق. (بدون ناشر، 1979).
المراجع الأجنبية:
-Be r ge r , Mo r oe. " Middle East and No r th Af r ican Studies: Development & Needs" In Middle Easte r n Studies Bulletin. Vol. 1, No. 2,Novembe r 15, 1967.
- Blankenship, Khalid Y. Cu r riculum Vitae by himself.
- B r own, L.C. Inte r national and the Middle East: old Games, Dange r ous Game. (P r inceton: P r inceton Unive r sity P r ess, 1984).
-Cente r fo r Middle Easte r n Studies Calenda r , Volume 14,No.2, Octobe r 15,1996 and Volume 14,No.4, Novembe r 15,1996.
- Buillit, r icha r d . Cu r riculum Vitae by himself
- Gilsenan, Michael. r ecognizing Islam: صلى الله عليه وسلم eligion and Society in the Mode r n A r ab Wo r ld. (New Yo r k: Pantheon House) 1982 pp.7-8.
- Halpe r n, Manf r ed. The Politics of Social Change in the Middle East and No r th Af r ica (P r inceton: P r inceton Unive r sity P r ess, 1963).
* Hassan, r ifat. " What does it mean to be a Muslim on the Eve of the 21st Centu r y" The opening lectu r e at the Fi r st Inte r national Confe r ence on Islam and The 21st centu r y.
* Jackson, She r man. Cu r riculum Vitae by himself.
- Joffe, Geo r ge (Ed), Mo r occo and Eu r ope. (London Cent r e of Nea r and Middle Easte r n Studies, Septembe r 1989) P r eface page.
- Lewis, Be r na r d. " The State of Middle Easte r n Studies" in The Ame r ican Schola صلى الله عليه وسلم " vol. 48, Summe r 1979, Pp 365-382.(34/9)
- =. Political Language of Islam. (Chicago and London: The Unive r sity of Chicago P r ess, 1988) p vii.
- Middle East Events in London, Decembe r 1996/ Janua r y 1997.
* = Novembe r 1996.
* Said, Edwa r d. Cove r ing Islam. (London: صلى الله عليه وسلم outledge & Kegan Paul.1981)
* Sonn Tama r a. Cu r riculum Vitae by Sonn he r self.
=============(34/10)
(34/11)
جئتم متأخرين !
محمد جلال القصاص
في القرن التاسع عشر الميلادي بدأ مشروع الحداثة ، أو ما يسمونه ( التجديد ) ، وبدأت تدخل على الأمة أفكار جديدة مثل الوطنية و ( تحرير المرأة ) ، والأحزاب السياسية ، وبدأ الكلام نصارى الشام وأعضاء البعثات العلمية إلى فرنسا ، وكانت الهجمة على التراث الإسلامي تأخذ عدة محاور ، فبعض المحاور كانت سياسية وبعضها كانت عسكرية وبعضها كانت دينية إلا أنه كانت هناك يد ( خفية ) تنسق بين الجهود أو بالأحرى تستثمر الجهود وتفسح الطريق لدعاة ( الإصلاح ) الجدد
تلقت الدعوة قبولا من الجماهير وذلك بسبب جرثومة الإرجاء التي نخرت في عظام الأمة ، فكان من السهل على الأمة تقبل العلمانية .
ويلحق بهذا أيضا ــ من الأسباب ـــ ضعف الدولة العثمانية التي كانت تمثل النموذج الديني للدولة ونجاح النموذج العلماني في أوروبا .
ومن الأسباب أيضا أن الخطاب ( التجديدي ) انطلق من المؤسسة الدينية الأقوى يومها أعني الأزهر ، وفي شخص ( الشيخ ) محمد عبده الذي كان يعمل مفتيا في الدولة المصرية المحتلة وآخرون مثل ( الشيخ ) علي عبد الرزاق وغيره .
قد كان للأمر مبررات تقبلها الجماهير ، فالكل كان يطمع ( للرقي ) و ( التحضر ) ... الخ كما هو الحال في أوروبا المستعمرة .
ومضت السنون ولم تحصل الأمة على شي مما تكلم به المثقفون ... دعاة ( الإصلاح ) ، والعسكريون ... ( الثوار الأحرار ) و ( العرب الأمجاد ) . وازداد الطين بله . وفشلت مشاريع الإصلاح القديمة كلها على أرض الواقع فلا اتحد العرب ، ولا تقدمت الشعوب وارتقت . ولا استطاعت العلمانية أن تثبت فكريا وتناظر .
وها نحن نشهد من جديد ( عودة الحجاب ) في مصر التي بدأ فيها المشروع التغريبي ، وهاهي الجماهير تقف كلها مع التيار الإسلام ولا أدل على ذلك من انتخابات الجزائر والبحرين ومصر ، وها هي الجماهير تتعاطف مع ما يحدث في العراق وأفغانستان والشيشان وتكسر بذاك الحواجز الجغرافية المصطنعة . بما يعني أن المشروع ( الإصلاحي ) لم يعد يصلح . بعدما كذبه الواقع وانكشف عواره أمام الجماهير .
وأمرُّ من هذا كله هو أننا نجد أن الصراعات في العالم بدأت تتجدد على خلفيات دينية . إذ أن العالم كله اليوم يشهد صحوة دينية عند أصحاب الديانات الثلاثة . فالمد الكنسي يزداد يوما بعد يوم . والانتخابات الأخيرة في أمريكا شاهد على ذلك .
ففي استطلاع للرأي أجري في أمريكا قبل الإنتخابات الأخيرة بثلاثة أشهر تقريبا وجد أن 70 % من الأمريكيين المسجلين على قائمة اللوائح الانتخابية الأمريكية قالوا : إن الرئيس الأمريكي المقبل يجب أن يحدد سياسته بناءا على قناعات دينية ( المجتمع العدد 1627 ص 28 ) .
وفي الانتخابات الأخيرة رأينا عقد ما يشبه المؤتمرات الانتخابية في الكنائس ، وتصويت جماعي من المنظمات الدينية لجورج بوش .
ولم يستطع كيري الثبات على خطابه العلماني الذي ابتدأ به حملته الانتخابية فأخذ هو الآخر يتلو ما يحفظه من وصايا ( الرب ) ويزور الكنائس .ورأينا المناظرات الأمريكية بين المرشحين تنتهي بدعوات مثل " فليحمِ الرب أمريكا " .
نعم اختيار الشعب الأمريكي بوش تعبير واضح عن صحوة دينية لدى الشعب الأمريكي .
والأمر ليس خاص بأمريكا وحدها وإنما بكل عباد الصليب . والأمر بالنسبة لأوروبا أشد وضوحا ولا يخفى على أحد منع الحجاب في فرنسا وتطاول الأوربيون الشرقيون على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ــ .
وغني عن القول أن اليهود تُحركهم معتقدات توراتية وأنهم ما جاؤا لفلسطين إلا لتحقيق نبوءات توراتية يشهد لذلك عَلَمُهم ذو الخطين الأخضرين.( النيل والفرات ) , وخارطة إسرائيل الكبرى على الكنيست ( الإسرائيلي ) والعملة اليهودية تشهد بذلك .
كل هذا يعطي جملة واحدة يفهمها كل من متابع وهي أن الصراع بدأ يتجدد عقديا . وأن العلمانية شددت رحالها عن العالم .
بعد كل هذه الآيات البينان على فشل المشروع التغريبي ... أو كما يسميه أصحابه ( التجديدي ) .. ( الإصلاحي ) . نجد أن بعضا قاموا يعيدون الكرة من جديد ، ويطالبون بحرية المرأة في قيادة السيارة والسفر للخارج ، وأن التفسخ والعري هو رغبة ( بنات البلاد ) ، وأنه تسلط الرجل . وإلى متى ؟ ... الخ .
ونقول لهؤلاء جميعا : جئتم متأخرين .
فقد فشل أسلافكم في مصر وتونس والشام ، ولفظتهما الجماهير . .
جئتم متأخرين فقد شبّت الصحوة وأصبحت فتية ، ولم تعد الجماهير تنصت للمؤسسة الدينية في أغلب البلاد بل لا تنصت إلا لشيوخ الصحوة هنا وهناك .
جئتم متأخرين فعدونا اليوم على أرضنا يغتصب نساءنا ويقتل شبابنا ويشرب بترولنا ويأكل زرعنا ، ولم يأت بسبب الحكم الديني المتخلف كما تزعمون بل بسبب الحكم العلماني الذي إليه تدعون .
جئتم متأخرين وأسفر وجهكم وهو كالح يذكرنا بماضي أليم لم نجن من ورائه شيء . ولم نعد نصدقكم .
===============(34/12)
(34/13)
مع ( الشيوعي ) ( الليبرالي ) ( الإصلاحي ) !
الدميني .. في كتابه الأخير
سليمان بن صالح الخراشي
أرجو أن لا يتعجب القارئ من اجتماع " الشيوعية " و " الليبرالية " في شخص واحد ؛ لأننا في زمن تحولات من يسمون بالمثقفين العرب من أقصى اليمين - إن كان يمينًا حقًا - إلى أقصى اليسار ، فينما ترى الواحد منهم يساريًا يترنم بـ " متون " ماركس وصاحبه ، إذا به عن قريب يتحول إلى داعية من دعاة العولمة والأمركة ! فهم كما قيل :
يومًا يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ *** وإن لقيتَ معديّا فعدناني
- والأعجب من هذا أن الجميع - مهما تنقل أو تحول أو تناقض - يدعي " الإصلاح " ! وقد أخبرنا تعالى في كتابه عن إصلاحين : إصلاح المفسدين ، وإصلاح الأنبياء وأتباعهم . وتفصيله في هذا الرابط.
والبعض للأسف يغتر بما يراه من إصلاح ضئيل عند المفسدين في مجال " المال " ، ويتغافل عن " انحرافات " بل " كفريات " تخفيها دعواتهم البراقة . وإسلام مع شيئ من " الأثرة " خيرٌ من " إصلاح مالي " - موعود ! - مع " كفر " و " علمنة " .
- ويجد القارئ في كتاب " خيانة المثقفين " للدكتور عبدالحكيم بدران نماذج محزنة لهؤلاء . وأقول " محزنة " لأن معظمهم من أبناء المسلمين الذين بحثوا عن سعادتهم في الاقتيات على موائد الشرق والغرب ، راضين أن يكونوا مجرد " وكلاء " له ، فرارًا من دين الله الذي ارتضاه لهم ، وجعله سبب فلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة . ولو عملوا بقوله تعالى : ( ففروا إلى الله ) لارتاحوا وأراحوا . ومن كان منهم من أهل هذه البلاد فيا حسرته عندما يفرّط في نعمة الله التي أتته بيضاء نقية كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان البعضُ يعذر مثقفي البلاد الأخرى الذين ضاقت عليهم الخيارات حتى غدت : إما العلمنة أو الصوفية الخرافية ، فما عذر أصحابنا ؟ سوى التقليد و " تكلف " المعاناة محاكاة للآخرين !
***************
لقد قدِم الدميني " ابن القرية الجنوبية الهادئة " - بعد الثانوية - إلى المنطقة الشرقية للدراسة في جامعة البترول والمعادن ، فكان الاحتكاك الأول بمجتمع " أرامكو " المنفتح ، حيث " السينما " و الاختلاط .. الخ مما أصابه بصدمة حضارية ! أثرت على توجهه إلى هذه الساعة ، وجعلته " صيدًا " سهلا للمتربصين . يقول الدميني : " هزتني تجربة الحياة الجامعية الاجتماعية في تلك السنوات الغنية من عمر تجربة كلية البترول والمعادن ؛ فخرجت من ثيابي القروية " ( أعلام الأدب العربي المعاصر ، كامبل ) . ثم يحكي تعرفه على أشعار أدباء الحداثة ، وتأثره بهم .
احتضن الأديب " الشيعي " محمد العلي : الدميني مبكرًا - عام 1972م - ، " ففتح - كما يقول الدميني - نافذة الشعر أمامي على العديد من الشعراء .... - إلى أن يقول - وكان لأستاذي الكبير محمد العلي من قبل ومن بعد فضيلة المطر ورائحة الماء " ! ( المصدر السابق ) .
وللفائدة : من تأمل بدايات تكوين الأحزاب في عالمنا العربي وجدها تبدأ - غالبًا - من " نصارى أو يهود العرب " أو من " الأقليات الشيعية - بأقسامها - " ؛ لأنهم يجدون فيها متنفسًا ومنفذًا متسترًا للوصول إلى حكم أي بلد يتشكلون فيه ، وللتمويه فإنهم يحرصون على ضم من يأمنونه من أبناء المسلمين المغفلين ، والمنخدعين بالأوهام . ( قارن بتسلط النصيريين على حكم سوريا بواسطة حزب البعث ) .
************
صدر للدميني كتاب صغير بعنوان " زمن للسجن .. أزمنة للحرية " يحكي فيه - بإطالة مملة - تجربته مع السجن ( مرة عندما كان شيوعيًا ومرة عندما أصبح ليبراليًا إصلاحيًا ! ) ، وتجربته في ارتباطه بما يسمى الحزب الشيوعي في السعودية ! وقد هوّل أمره حتى أوهم القارئ أنه يعيش في كوبا أو الصين ! والأمر لا يعدو أن يكون مجرد عشرات من الشباب الطامحين ، ثلاثة أرباعهم من " الشيعة " ! ، ثم حديث عن دعوته الأخيرة للإصلاح ! مع نقولات مطولة للبيانات التي صدرت في السنوات الأخيرة ، تطالبُ - كما تزعم - بهذا الإصلاح . ثم ذكر التحقيق الذي تم معه ، وختم بمجموعة قصائد له . وهذه مقتطفات لفتت نظري مع تعليق موجز :
- في ص 18 يقول عن الأمن السعودي : ( إنني أتساءل عن سر نجاحهم في إلقاء القبض على أحد عشر مثقفاً من المهتمين بالشأن العام في نفس اليوم والساعة، وعن عدم نجاحهم مع الإرهابيين؟ ) ! وفي هذا لمزٌ مبطن برجال الأمن ومن يقودهم أنهم متواطؤون مع المفجرين ، والواقع يُخالف هذا اللمز .
- في ص 78 قال واصفًا أحد أئمة المساجد : ( رافعاً صوته بالبكاء تارة، وبالدعاء للمجاهدين في أفغانستان، والشيشان، وتارة بالدعاء على أعداء الأمة من الكفرة والصليبيين، ولكنه لم يتعرض ببنت شفة للإرهاب والإرهابيين في بلادنا، الذين استحلوا دماء الأبرياء من مواطنين ومقيمين ) ! وهذا الانتقاء - إن كان كلامه صادقًا - له مقاصده التي لا تخفى على القارئ .(34/14)
- في ص 30 قال : ( وقد عمت تلك المظاهرات المنطقة الشرقية، والرياض، مما شجع الحكومة على قطع البترول عن الدول الغربية وأمريكا لمدة ثلاثة أشهر ) ! وفي هذا نسبة الفضل - قطع البترول عن الغرب زمن الملك فيصل رحمه الله - لغير أهله .
- في ص 46 يقول معترفًا بشيوعيته : ( عرفت أن " الشيوعية " ، هي إحدى المراحل التاريخية في سياق تطور المجتمعات، التي ينعم فيها الناس بالحرية وتقاسم الخيرات ) ! ومصداق هذه الحرية ما رأيناه في " الاتحاد السوفيتي " !
- في ص 162 : يعترف بليبراليته - متحدثًا عن أحد خطاباتهم - ( وبكونه صياغة واضحة تعبر عن التيار الليبرالي العريض ) ! ووصف " العريض " مقحم للتكثر ، وإلا فهم يعلمون أنهم مجرد شرذمة محدودة ، تمردت على الدين قبل الوطن .
- في ص 65 يقول : ( إن الخط الإصلاحي في القيادة يحتاج إلى الدعم الذي تقدمه له خطاباتنا للمضي في الإصلاح ) . ومثلها قوله في ص 165 : ( رأت بعض الأطياف الليبرالية، أن الحكمة تستدعي مساندة الطرف الأكثر قبولاً بالإصلاح السياسي ) .
وهذا ذمٌ للملك عبدالله بما يُشبه المدح ، أو ذم لأبيه الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ولإخوانه الملوك من قبله ؛ لأن هذا الإصلاح السياسي المؤمل منه إن كان يتعارض مع الشرع فهو ذمٌ لا مدح ، وإن كان لا يتعارض فهو ذمٌ لأبيه ولإخوانه .
- في ص 82 وصف صاحبه " الأديب " عبدالله الحامد - هداه الله - بأنه : ( الوطني الغيور والباحث الأكاديمي والذي يعد رائداً لتجديد الخطاب الديني في بلادنا ) ! ولا أدري ما هي مؤهلات الحامد ليُجدد لنا الخطاب الديني ! أو أن تجديده المزعوم وافق هوى الدميني ورفاقه ؛ فاستمتع بعضهم ببعض ؟ ولمعرفة ماعند الحامد - رده الله - يُنظر ( هذا الرابط ) و ( هذا الرابط ) . وعن تجديد الخطاب الديني انظر ( هذا الرابط ) .
- في ص 87 قال : ( المسلسل المحلي (طاش ما طاش) الذي تعرّض وباستمرار، إلى نقد خطباء المساجد وضيوف البرامج الدينية، وكان أكثر ما يغيظني تركيزهم على الفنانة زينب العسكري، لأنها الوحيدة التي تمتلك بعض مواصفات الجمال في كل برامج " طاش ما طاش " ) ! وهذه الكذبة لا تحتاج لتعليق ؛ حيث ربط التحريم بجمال العسكري !
- في ص 98 قال متحدثًا عن المحققَيْن اللذيْن حققا معه في " هيئة التحقيق " : ( وهنا سمح الشيخان لي بكتابة إجابتي، التي اختصرتها في إحالتهم إلى ما تنشره الصحف هذه الأيام، وإلى البحث الذي قدمه الشيخ عبدالعزيز القاسم والشيخ السكران، إلى مؤتمر الحوار الوطني، وإلى كتابات الدكتور حمزة المزيني، وإلى أبحاث الشيخ حسن فرحان المالكي ) ! أما القاسم والسكران - هداهما الله - فقد أخطأآ خطأ شنيعًا عندما اتهما مناهجنا بما هي بريئة منه بلغة انتقائية مغرضة ؛ لم يستفد منها سوى المنحرفين من أهل الأهواء والعلمنة . فلعلهما يُعيدان النظر في بحثهما . وتجد على ( هذا الرابط ) مناقشة لهما . وأما المزيني والمالكي فلا قيمة لأقوالهما .
- في ص 146 أبدى تعاطفًا مع أحبابه الشيعة بقوله : ( ومما يعانيه ذلك " الشارع " من محاربة الخطاب الديني المتشدد لعقيدته ويصل إلى تكفيره أيضاً ) . وفاته - هداه الله - إن تنزلنا معه في ادعائه أن أهل السنة غلوا في تكفيرهم للشيعة بغير مكفر - أن الشيعة لم يقتصروا على تكفير أهل السنة ، بل كفروا معهم معظم الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا . فلماذا لم تأخذه الحمية لهم كما أخذته على الشيعة ؟! وتجد على ( هذا الرابط ) المزيد .والعجيب أنه يعترف ص 167 أن جموع الشيعة في مظاهرة عام 1400 هـ : ( رفعت شعارات المطالبة بالانفصال، حيث رددت الجماهير " يا ابن سعود شيل إيدك .. ترى إحنا ما نريدك" ) ! فأين الوطنية ؟!
- في ص 157 تحدث عن اعتراض الليبراليين على أحد الخطابات التي وقعوها مع من يسمون " التنويريين " ،وهي اعتراضات مهمة لمن أراد معرفة حقيقة فكرهم وأهدافهم ، يقول الدميني : ( حملنا "الخطاب" إلى الأصدقاء في الشرقية، واعترض بعضهم على تلك التعديلات، التي من أهمها:
أ- النص على اختيار مجلس الشورى من أهل "الحل والعقد" ، لأنه مصطلح فقهي يحصر المشاركة في رجال الدين أو المتخصصين في العلوم الشرعية، واقترحنا إضافة " أهل الرأي والخبرة " إلى تلك العبارة.
ب- تعديل حقوق الإنسان إلى حقوق الإنسان الشرعية، وهذا يخل بمفهوم توقيع المملكة على مواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها المملكة.
ت- إلغاء كلمة " الطائفية " من عبارة إزالة كافة أشكال التمييز... وأصررنا على إضافتها.
ث-حصر حقوق المرأة في مصطلح الحقوق الشرعية، وذلك لا يشمل الحقوق السياسية للمرأة، وكذلك إلغاء ما ورد في الخطاب بشأن ضرورة العمل بما تضمنته وثيقة "عدم التمييز ضد المرأة" من قائمة المواثيق الدولية التي وقعتها حكومة المملكة.(34/15)
ج-إلغاء المحاكم الخاصة وربطها بالقضاء، ومن المعروف أن القضاة لا يمتلكون المعارف الكافية للحكم في القضايا التجارية والمالية، بل يرفضون الفصل في المنازعات البنكية، مما حدا بالدولة للخروج من المأزق، باستحداث هذه المحاكم الخاصة المستقلة عن هيمنة القضاة.
وقد عملت كل هذه الملاحظات على تأجيل التوقيع على الخطاب في الشرقية، مما استدعى حضور بعض الأصدقاء من الوسطى لحل هذه المشكلة ) .
يتضح من الاعتراضات :
1- استعمالهم لمصطلح " رجال الدين " الكنسي الذي تزامن مع العلمنة . وهو مصطلح لم يعرفه الإسلام - ولله الحمد - .
2- اعتراضهم على كلمة " الشرعية " في حقوق الإنسان ؛ وهذا دليلٌ على أن الشرع لا يُحقق لهم ما يريدونه مما يسمونه " الحقوق " ! وحكم هذا معلوم لكل مسلم .
3- تعاطفهم مع الشيعة .
4- اعتراضهم على كلمة " الشرعية " في حقوق المرأة ، وهذا دليلٌ على أن الشرع لا يُحقق لهم ما يريدونه مما يسمونه " حقوق المرأة " ! وحكم هذا معلوم لكل مسلم . وأيضًا مطالبتهم بتطبيق وثيقة " عدم التمييز .. " ، وقد علم المسلمون ما فيها من مخالفات صريحة للإسلام .
5- لمزهم وطعنهم بالقضاة . وبدلا من الاعتراف بجريمة الربا المحرم أرادوا أن يوافقهم القضاء على الرضا به .
- في ص 158 نقل قول تركي الحمد : ( إذا لم نبدأ الآن فمتى نبدأ ؟ ) . وسبق أن هذا إما ذم للملك عبدالله أو ذمٌ لأبيه وإخوانه من قبله .
- في ص 159 أخبر بأن صاحبيه الفالح والحامد : ( زارا الشيخ عبدالعزيز التويجري - مستشار ولي العهد-، لإقناعه بإيصال النسخة إلى سمو الأمير عبدالله، فرفض، محتجاً بالأزمة المتوقعة جراء اعتزام الولايات المتحدة غزو العراق، وأنهما قاما ثانيةً بالاتصال بالشيخ التويجري، فلم يستجب ) .
- في ص 202 أثنى على منتدى " طوى " البائد ، الذي كان ينشر الكفر البواح .
- بقي أن أشير إلى كلام جيد للدميني - عسى أن يعيه أصحابه - قاله في ص 83-84 معلقًا على زيارة " كولن باول " للسعودية ومطالبته الدولة أن تُحسن معاملته وصاحبيه ! قال : " أعلن رفضي لذلك الموقف الأمريكي الانتهازي ، ذلك أن معظم المظالم الأمريكية ، وسياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع القضايا العربية والإسلامية تدفع بأي وطني - حتى ولو عانى من أنظمة بلاده القمعية - لكي يُعلن أن الجنة التي تعدني بها أمريكا أو تحملني إليها على بساط الريح مرفوضة ، وإن نار بلادي أرحم . ألا يخجل كولن باول من التحدث عن اعتقال الإصلاحيين في السعودية ، وهو الذي قاد حملة الأكاذيب في مجلس الأمن لإقناعه بوجود أسلحة الدمار الشامل لدى الطاغية صدام ؟ .. " . أتمنى أن يستفيد من كلام الدميني مَن استنصر بالغرب على دينه وبلاده وأهله من الليبراليين الجدد والباطنيين .
أسأل الله الهداية للدميني ومن وافقه ، وأن يردهم إليه ردًا جميلا . وأن يؤلف بين قلوبنا على " الحق " .
==============(34/16)
(34/17)
اعترافات ( الشيخ جاسم مهلهل الياسين ) بأن الحكم الملكي خير من الجمهوري
سليمان بن صالح الخراشي
مع رحيل الاستعمار عن معظم ديار المسلمين وقعت ( انقلابات ) في بعض البلاد العربية ( العراق ، مصر ، الشام ..) على الحكم الملكي فيها بغية إقامة ( جمهوريات ) تتحرر من تحكم " العشائر أو العوائل " ، وتحقق للشعوب المشاركة في القرار والحكم عن طريق البرلمانات والانتخابات و و .. الخ الشعارات .
كانت الآمال تداعب كثيرين - ومن ضمنهم بعض دعاة جماعة الإخوان المسلمين الذين ساهموا أو أيدوا بعضًا منها - في أن هذه ( الجمهوريات ) ستحقق لهم العدل والحرية والعيش الكريم . إلا أن تلك الآمال تبخرت مع أول سنة جمهورية كما يقال ؛ فاستفاق الناس عندها على حكومات متسلطة مجرمة ؛ أضاعت الدين والدنيا ، يقف خلفها و انقلاباتها الغربُ الكافر الذي مكّن لها من الوصول إلى سدة الحكم ؛ مشترطًا عليها تنفيذ مايريده من طمس الهوية الإسلامية ، والجرأة على أحكام الشريعة ؛ بإلغائها أو التضييق عليها .
بعد هذه التجارب الثورية تنبه العقلاء إلى أن الملكيات التي كانوا يفرون منها ، ويتهمون بعضها " بالرجعية " هي أرحم بهم ، وأرعى لدينهم من تلك الجمهوريات الكاذبة .
ففي الملكيات - رغم ما يوجد من أثرة وجور - : لاتزال أعلام الدين قائمة مصانة ، وهيبته باقية ، والرحمة موصولة بين الحاكم ورعيته ، والرخاء مشترك . . . ومن قرأ التاريخ تيقن هذا . ( قارن مثلا بين حكم الملك فاروق - على لهوه وفساده - بحكم الهالك عبدالناصر سواء في الدين أو الدنيا ) .
وممن تنبه إلى ماسبق و(اعترف) به : أحد أبرز شخصيات جماعة الإخوان المسلمين في الكويت ؛ وهو الشيخ جاسم بن مهلهل الياسين - وفقه الله - ؛ وذلك في كتابه الأخير " الدولة الإسلامية بين الواجب والممكن " ؛ الذي ملخصه نصيحة وجهها إلى دعاة الإخوان في أنهم إن لم يتمكنوا من إقامة الدولة الإسلامية ( الواجبة ) ، فليرضوا على سبيل التدريج بالدولة ( الممكنة ) ؛ وهي دولة الملكيات التي أعطت مساحة كبيرة لهم .
( قد أخالف وغيري الشيخَ في أن جماعة الإخوان غير مهيئة - حاليًا - لإقامة الدولة الإسلامية الواجبة ؛ لأسباب عديدة - لامجال لتفصيلها الآن - ؛ سأذكرها إن شاء الله في مقال قادم ) .
يقول الشيخ جاسم ( ص 354 - 356 ) : ( إن المقارنة بين التجربة الجمهورية التي انطلقت سنة 1957 والنظام الملكي في تونس (ملك العائلة الحسينية دام حوالي قرنين ونصف) تؤكد لنا مجموعة من الاستنتاجات التي حصلت لنا من خلال دراسة مقارنة للتجارب الجمهورية والملكية في العالم العربي، وكذلك النتائج السلبية لتعامل الإسلاميين وبعض العلماء مع هذه الأنظمة، على أساس أن النظام الجمهوري أقرب إلى النمط الإسلامي في الحكم حسب اعتقادهم : اتسم الحكم الحسيني باحترامه للأسس الشرعية، التي كانت تقوم عليها الدولة بمختلف أجهزتها، والمجتمع في مختلف تنظيماته وسلوكياته، بل استمد جانباً من شرعيته كسلطة ونظام حكم من تطبيقه للشريعة الإسلامية، رغم المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ عليها في بعض الجوانب، والناظر لا يجد في سجل تاريخ الحكم الحسيني دعوة أو عملاً ما يعمل على نقض الشريعة الإسلامية أو تعطيلها، كما أن النظام قد أولى العلماء ودور العلم أهمية كبرى وكان يستشيرهم في خصوص شئون الدولة.
من جهة أخرى كانت العلاقة بين العلماء والسلطة في ظل الملكية تقوم على الاعتراف والاحترام المتبادل، إذ قبل الباي باستقلالية العلماء ودور العلم عن الدولة رغم أن هذه الأخيرة كانت تمول في جانب المؤسسات التعليمية التي كانت أيضاً تعتمد على تمويل ذاتي لها باعتبار اعتمادها على موارد الأحباس، لذلك كان العلماء يمثلون سلطة في المجتمع قائمة بذاتها ، وكانت مهمتها توجيه المجتمع من الناحية الفكرية والقيمية مع التزامها بحدود المجال الذي تعمل فيه واحترامها لمجال السلطة السياسية، كما أن القضية الاجتماعية التي كانت سائدة في ظل الحكم الملكي في تونس تعود إلى اتفاق الجميع -الأهالي والعلماء والسلطة- وذلك حول المشروع المجتمعي والذي كان يتلاءم والهوية العربية الإسلامية والانتماء الحضاري للشعب التونسي، وهذا أيضاً ما يفسر الاستقرار السياسي الذي كان سائداً .
في ظل النظام الجمهوري فإنها واجهت منذ تأسيسها إلى اليوم أزمات شرعية، ولم تتمكن من فرض نفسها على المجتمع وخصومها السياسيين إلا بالحديد والنار، والمتابع للأوضاع في تونس يرى أن المحاكمات السياسية كانت دورية، سواء بسبب صراعات بين الأجنحة داخل الحزب الحاكم أو إثر انتفاضات شعبية معادية للسياسات المتبعة.. إلخ.(34/18)
لقد ضاعت في ظل الجمهورية كل الحقوق، وديست كل القيم من طرف الأجهزة المسئولة عما يسمى بحفظ النظام، رغم التبجح بمقولات جوفاء نحو "دولة القانون" وحقوق الإنسان وفصل السلطات عن بعضها ودولة المؤسسات.. إلخ، والحقيقة هي أن الدولة ليست حديثة إلا تظاهرياً ولكنها علمانية في العمق وأن المؤسسات ليس لها من الحداثة سوى التسمية ، أما آلياتها وأداؤها فينم على أنها دولة دكتاتورية تسلطية ، لم تترك أي مجال خارج دائرة نفوذها ، وأنها تراقب وتسيطر على ضمائر الناس، وقد اتضح أن "أبو رقيبة" في تونس جاء من فرنسا ليركب الموجه العالية موجة الإسلام، فيستميل الإسلاميين ويتبنى مطالبهم، وينال تأييدهم؛ ليكون هو أول من ينقلب عليهم بعد ذلك، حيث ألغى جامعة الزيتونة وحلها إلى كلية للشريعة فقط ذراً للرماد في العيون، وألغى الأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية، وأبطل كثيراً من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالأحوال الشخصية، ولم ينص الدستور على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام وأباح الإفطار في رمضان بل وجاهر به، وفي عهده ديست كل القيم وتم تغريب المجتمع التونسي.
هذا الذي ذكرناه في تونس يتكرر في الأنظمة الثورية الانقلابية في العراق وليبيا والجزائر وغيرها من البلاد فهي ليست بأقل سوءاً في الانقلاب على الإسلاميين بعد أن وصلت إلى سدة الحكم بمساندة ودعم الحركات الإسلامية التي دافعت عن هذه النظم ووقفت إلى جوارها، آملة منها أن تعمل على إقامة نظام الإسلام في البلاد ، ولكن سرعان ما تبين لها أنها واهمة، وأن الوهم زين لها ما ليس متاحاً ولا صحيحاً، فلم تزد هذه الأنظمة إلا بعداً عن الإسلام، وانحرافاً عن الخط المستقيم، وارتماء في أحضان الشرق تارة والغرب تارة أخرى، وتبديداً لثروة الأمة والدخول بها في متاهات أضاعت الأرض واستسلمت للعدو، ورضيت بما لم ترض به النظم السابقة على الثورات الانقلابية، فلما عارض الإسلاميون ذلك زج بالآلاف منهم في السجون والمعتقلات، وحوكم بعضهم وأعدم آخرون، وخفت الصوت الإسلامي، وعلا الصوت العلماني، وأدرك الإسلاميون أن حظهم مع أنظمة الحكم الانقلابية فاق حد الخداع، ووصل إلى الضرب حتى إزالة النخاع ! ) اهـ .
تعليق
1- من القواعد المُحكمة " ما لايُدرك كله لا يُترك جُله " ؛ ففي الملكيات خيرٌ كثير ، ومافيها من قصور يُعالج بالعلاج الشرعي ، وتتابع النصيحة ، وإزالة التربص والتوجس بين الحاكم والمحكوم ، وتأصيل مقولة " أن نُحكم بالإسلام لا أن نَحكم به " ، وتقديم الحلول والبدائل ، والترغيب بالأجر العظيم .. ثم ( ليهلك من هلك عن بينة ) .
2- أن جماعة الإخوان لُدغت كثيرًا من أهل السياسة والانقلابات ، وأسباب ذلك - في نظري - : بعدها عن العلماء الربانيين وأخذ مشورتهم ، وإغراقها في السياسة على حساب العلم الشرعي المرتكز على الكتاب والسنة - وهو ما يعطيها فرقانًا يكشف لها ألاعيب أهل المكر والنفاق - ، وتصدر غير المؤهلين . فلابد لعقلاء الجماعة - وفقهم الله - ممن جمع الله لهم بين العقيدة السليمة والتقوى أن يعالجوا هذا الخلل ، ويُصلحوا - لاسيما في جيلهم القادم - ما أخذه أهل العلم على الجماعة ، ولا يُمكنوا الجهلة أو أصحاب الطموحات الدنيوية من مصادرة الجماعة وتسييرها .
أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام ويُبصرهم بأخطائهم ليستدركوها ، ويوفق حكام المسلمين لتحكيم شرعه الذي فيه عزهم في الدنيا ، ونجاتهم في الآخرة . والله الهادي ..
==============(34/19)
(34/20)
أسماء القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها (من غير النجديين) ! وفوائد أخرى
سليمان بن صالح الخراشي
يقوم بعض الكتاب بين الحين والآخر بوصف الحجاب الشرعي - الذي هو تغطية الوجه - بأنه حجاب " نجدي " أو " وهابي " !! افتراء منهم ، وتنفيرًا من الحق - كما هو دأب أسلافهم - ، محاولين التلبيس على من ليس ذا علم بالمسألة ؛ حتى يصدق مايقولون من كثرة تكراره .
وقد أحببت في هذا المقال أن أبين كذب هؤلاء ومخالفتهم للحقيقة ، وأثبت لهم ولغيرهم - ولا شك أن غيرهم طلاب حق - أن إجماع المسلمين العملي في جميع البلدان الإسلامية كان مستقرًا على عدم خروج النساء سافرات الوجوه ؛ إلى أن سقطت معظم ديارهم واحدة تلو الأخرى بيد المستعمر النصراني الذي شجع السفور ، وتواطأ مع بعض المتمسلمين المنحرفين لينشروه في ديار الإسلام ؛ بغية صرف الناس عن مخططاتهم إلى الشهوات ، وإضعافهم عن مقاومة المحتل الكافر ؛ حتى ظن البعض مع تقادم الزمان أن كشف الوجه هو الأصل !! وتغطيته إنما هي عادة لبعض البلدان !! فتأمل ما أشد مكر العدو الذي أوصل بعضنا إلى هذه النتيجة المؤامة .
ثم أذكر بعد ذلك من قال بوجوب تغطية المرأة لوجهها ممن جاؤا بعد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وليسوا بنجديين ! مع التطرق لبعض الفوائد والتنبيهات المتنوعة .
إجماع المسلمين ( العملي ) على تغطية الوجه :
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (9/235-236) : ( لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب ) ، ونقل ابن رسلان ( اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه ) . ( انظر : نيل الأوطار للشوكاني (6/114).
وقال أبوحامد الغزالي في " إحياء علوم الدين " ( 6 / 159 مع شرحه ) : ( لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه ، والنساء يخرجن متنقبات ) .
ونقل النووي في روضة الطالبين ( 5 / 366 ) عن إمام الحرمين الجويني : ( اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات ) .
ومما يؤكد هذا أنك لا تجد مسألة كشف الوجه من عدمه قد أخذت حيزًا كبيرًا في مصنفات الأئمة ، ولم تستغرق جهدهم ووقتهم ، بل لا تكاد تجد - فيما أعلم - مصنّفًا خاصًا بهذه المسألة ؛ ولو على شكل رسالة صغيرة ؛ مما يدل دلالة واضحة أن هذه القضية من الوضوح بمكان ، وأن عمل المسلمين كما هو قائم ، يتوارثه الخلف عن السلف ، وهذا التواتر العملي يدلنا أيضًا على طبيعة تلقي العلماء لمثل هذه المسائل ، وأنهم يرشدون أمتهم لما فيه العفة والطهر والإستقامة على أرشد الأمور ، وأفضل السبل .
ولم يبدأ انتشار السفور وكشف الوجه إلا بعد وقوع معظم بلاد المسلمين تحت سيطرة الكفار في العصر الحديث، فهؤلاء الكفار كانوا يحرصون على نشر الرذيلة ومقدماتها في ديار الإسلام لإضعافها وتوهين ما بقي من قوتها. وقد تابعهم في هذا أذنابهم من العلمانيين المنافقين الذين قاموا بتتبع الأقوال الضعيفة في هذه المسألة ليتكئوا عليها ويتخذوها سلاحًا بأيديهم في مقابلة دعاة الكتاب والسنة. لا سيما في الجزيرة العربية ، آخر معاقل الإسلام.
ومما يؤكد هذا أيضًا : ما سيأتيك من تصريح بعض من أنقل عنهم بأن وجوب ستر الوجه هو ما كان مستقرًا عندهم في مجتمعاتهم قبل وقوعها بيد المحتل أو قبل تسلل التغريب إليها : سواء في الحجاز أو مصر أو المغرب العربي أو الشام أو غيرها .
والصور( الفوتغرافية ) التي التقطت لديار المسلمين المختلفة ( تركيا ، مصر ، تونس ، الشام ، .. الخ ) تؤكد أن المرأة المسلمة كانت تغطي وجهها قبل أن تنتشر دعوة السفور على يد أذناب المستعمر النصراني . فانظر على سبيل المثال : كتاب " مكتب عنبر " للقاسمي ، وكتاب " الطاهر الحداد ومسألة الحداثة " لأحمد خالد ، وأي كتاب يتحدث عن ثورة 1919 المصرية . وقد نشر أحد الأخوة في شبكة التبيان مجموعة صور قديمة لنساء عدد من البلدان الإسلامية تشهد لما ذكرت . ( تجدها في موضوع الوقاية من مؤتمر الحوار ) .
أسماء القائلين بوجوب تغطية المرأة وجهها من غير النجديين !!
1- الشيخ الأمير الصنعاني : ( يمني )
ألف كتابًا بعنوان " الأدلة الجلية في تحريم نظر الأجنبية " ، رد فيه على القائلين بجواز الكشف .
2- الشيخ عبدالرب القرشي الملكياري : ( باكستاني )
ألف كتابًا بعنوان " الأبحاث الفقهية القيمة " تعرض فيه للقضية ورجح وجوب تغطية المرأة لوجهها . ( انظر : 2 / 36 )
3 - الشيخ أبو الأعلى المودودي : (باكستاني)
ألف رسالة شهيرة بعنوان "الحجاب" قال فيها كلاماً ممتعاً أحببت نقل بعضه للقارئ؛ وهو قوله تعليقًا على آية الحجاب ( ص 326 - 330 ) :(34/21)
وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لم ير في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب. ما زال العمل جارياً عليه منذ عهد صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم، وإن النقاب مما قد اقترحه القرآن نفسه من حيث حقيقته ومعناه وإن لم يصطلح عليه لفظاً، وكانت نساء المسلمين قد اتخذنه جزءاً من لباسهن لخارج البيت، بمرأى من الذات النبوية التي نزل عليها القرآن، وكان يسمى نقاباً في ذلك العهد أيضاً.
نعم ! هو النقاب (Veil) الذي تعده أوربة غاية في الشناعة والقبح، ويكاد الضمير الغربي يختنق حتى من تصوره، ويعتبره الغربيون عنوان الظلم وسيما الوحشية وضيق الفكر، وهو أول ما يعقد عليه الخنصر إذا ذكرت أُمة شرقية بالجهالة والتخلف في طريق التمدن، وأما إذا وصفت أمة في الشرق بكونها سائرة في طريق الحضارة والتمدن، فأول ما يذكر من شواهده بكل تبجح وافتخار؛ هو كون (النقاب) قد زال عن هذه الأمة أو كاد .
ويا لخزيكم يا أصحابنا المتجددين المستغربين إذا تبين لكم أن هذا الشيء لم يخترع بعد زمان النبي بل نسج بردته القرآن نفسه، وروجه صلى الله عليه وسلم في أمته في حياته، على أن شعوركم بهذا الخزي وإطراقكم بالندامة والخجل ليس بنافعكم شيئاً ؛ لأن النعامة إن أخفت رأسها في التراب لرؤية الصائد، فإنه لا يطرد الصائد ولا ينفي وجوده، كذلك إن أشحتم بوجوهكم عن الحقيقة، لم تبطل به الحقيقة الثابتة ولم تمح آية القرآن، وإن حاولتم أن تكتموا هذه الوصمة -كما ترونها- في تمدنكم من وراء حجب التأويل، لم تزيدوها إلا وضوحاً وجلاء، وإذا كنتم قد قررتم أن هذا النقاب عار على أنفسكم وشنار، بعد إيمانكم بوحي الغرب، فليس إلى غسله عن أنفسكم من سبيل غير أن تعلنوا براءتكم من الدين الإسلامي الذي يأمر بالأشياء السمجة البغيضة كلبس النقاب وإسدال الخمار وستر الوجوه .
إنكم يا قوم تنشدون الرقي وتطلبون الحضارة فأنى لدين يمنع ذات الخدر أن تكون عطر المجالس، ويوصيها بالعفة والحياء والاحتجاب، وينهى ربة البيت أن تكون قرة عين لكل غاد ورائح.. أنى لدين مثل هذا أن يصلح في رأيكم للاتباع؟ وأين هو من الرقي؟ ومن التهذب والحضارة؟ إنما الرقي والحضارة يقتضيان الآنسة -إذا همت بالخروج من بيتها- أن تنفض يديها من كل عمل قبل ساعتين من موعد الخروج، لتتفرغ فيهما إلى زينتها وتجملها، فتعطر الجسم كله بالطيب، وتلبس الجذاب الأخاذ ، وتبيض الوجه والذراعين بأنواع المساحيق، وتلون الشفتين بقلم الدهان الأحمر Lip Stick وتتعهد قوس الحاجبين وتعده للرمي بسهام النظر ! حتى إذا خرجت من البيت رافلةً في هذه الزخارف، استهوى كل مظهر من مظاهر زينتها وجمالها القلوب، وجذب الأنظار، وفتن العقول، ثم لا تطمئن نفس الآنسة بعد هذا كله من التظاهر بالجمال، بل تكون أدوات الزينة والزخرفة محمولة معها في عتيدتها ( أي شنطتها )حتى تتدارك بين حين وآخر كل ما نقص أو ضاع من دقائق زينتها.
إن بين مقاصد الإسلام ومقاصد الحضارة الغربية -كما ذكرناه غير مرة - لبوناً بعيداً وفرقاً شاسعاً جداً، ومخطئ بيِّن الخطأ من يريد أن يفسر أحكام الإسلام بوجهة نظر الغرب، ذلك بأن ما عند الغرب من المقياس لأقدار الأشياء وقيمها، يختلف عنه مقياس الإسلام كل الاختلاف، فالذي يكبره الغرب ويعده غاية لحياة الإنسانية، هو في عين الإسلام من التوافه والهنات، وإن ما يهتم به الإسلام ويعظم شأنه هو عند الغرب من سقط المتاع، لذلك كل من قال بصحة المقياس الغربي، فلا بد أن يرى جميع ما في الإسلام واجب الترميم والإصلاح ، وإذا مضى يفسر أحكام الإسلام ويشرحها، جاء بها محرفة عن معانيها، ثم لم يوفق في تطبيقها على الحياة العملية حتى في صورتها المحرفة، لما يعترض سبيله إلى ذلك من أحكام القرآن ونصوص السنة البينة، فحريٌ بمثل هذا الرجل قبل أن ينظر في جزئيات المناهج العملية، أن يتأمل المقاصد التي قد اتخذت للوصول إليها تلك المناهج، وينظر هل هي صالحة للقبول أم لا. وإن هو لم يكن يوافق تلك المقاصد نفسها فأي غناء يغنيه البحث في المناهج التي تختار لتحقيق تلك المقاصد؟ ولماذا يكلف نفسه مسخ تلك المناهج وتحريفها؟ أليس من الأجدر به الأصلح له أن يهجر الدين الذي يخطئ مقاصده؟ وأما إذا كان يتفق مع تلك المقاصد، فلا يبقى البحث بعد ذلك إلا فيما يتخذ لتحقيقها من المناهج، هل هي صحيحة أم لا؟ وهذا البحث يمكن طيه بكل سهولة ، ولكن هذه الطريقة لا يتبعها إلا ذوو المروءة والكرم، وهم قليلون، وأما المنافقون الذين هم بطبيعتهم أخبث ما خلق الله في هذا الكون، فلا يزكو بهم إلا أن يدَّعوا إيمانهم بشيء، ويؤمنوا في الحقيقة بشيء آخر!(34/22)
فكل ما لا يزال هؤلاء يخوضون فيه من المباحث حول الحجاب والنقاب، هو صادر في الحقيقة عن هذا النفاق. وقد استنفدوا كل ما في طاقاتهم ووسعهم لإثبات أن هذا الوضع من الحجاب إنما كان رواجه في أمم الجاهلية قبل الإسلام. ثم نزل هذا الميراث الجاهلي إلى المسلمين في بعض العصور المتأخرة البعيدة عن عهد النبوة. لماذا يتكلفون هذا البحث والتحقيق التاريخي بإزاء النص القرآني الصريح، والعمل الثابت في عهد النبوة، وتفاسير الصحابة والتابعين لمفهوم الآية؟ إنهم يتكلفونه لمجرد أنه كان -ولا يزال- نصب أعينهم من مقاصد الحياة ما هو مقبول شائع في الغرب. وأنه قد رسخ في أذهانهم من تصورات الحضارة والرقي ما نزل إليهم من سمائه، ولمّا كان لبس الملاءة والنقاب لا يلائم تلك التصورات بحالٍ من الأحوال، فقد جاؤوا بمعول التحقيق التاريخي، ليهدموا به ما هو ثابت في شرع الإسلام، وهذا النفاق البين الذي قد تناولوا به هذه المسألة مع غيرها من المسائل، يرجع في أصله إلى ما سبق أن ذكرناه فيهم من خفة العقل وفقد الجراءة الخلقية وعدم التمسك بمبادئ، ولولا ذلك لما سولت لهم أنفسهم أن يأتوا بالتاريخ شاهداً على القرآن؛ مع كونهم يدعون الإسلام وينتحون إليه، بل كانوا أحرياء -ولو أرادوا أن يبقوا مسلمين- أن يستبدلوا المقاصد القرآنية بمقاصدهم هم أو يعلنوا انصرفهم عن الإسلام الذي يعترض سبيلهم إلى التقدم والرقي حسبما يفهمونه من معاني الرقي! ) .
4- الشيخ أحمد عبد الغفور عطار: (حجازي)
ألف كتاباً بعنوان "الحجاب والسفور" لبيان هذا الأمر ، قال فيه ( ص 73 - 74 ) :
( كشف الوجه والكفين لا حجة للقائلين به :
أما من ذهب إلى جواز كشف الوجه والكفين من العلماء القدامى فلهم رأيهم المردود بما جاء عن الله في كتابه العزيز ، وبما صح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف.
وأما بعض علماء هذا العصر فقد رأوا إجازة كشف الوجه والكفين خضوعاً منهم لبيئاتهم ومجتمعاتهم التي أصابتها عدوى السفور من غير المسلمين كالأوربيين، واحتجاجاً منهم بما ورد من أحاديث لم تثبت صحتها، أو تعسفاً في تأويلات وتخريجات واستنباطات يردها الدليل الذي لا يقبل ما ذهبوا إليه.
وظاهر التنزيل لا يرضى بالتأويل إذا أريد منه طلاؤه بما يناقضه أو يوجهه الوجهة المناقضة.
وأولئك العلماء المعاصرون الذين ذهبوا إلى جواز كشف الوجه والكفين بما اعتسفوا من التأويل والاستنباط يعيشون في بيئات سفرت فيها المرأة سفوراً فاضحاً، وظهرت المرأة سافرة متبرجة مكشوفة الوجه والجيد والذراع وشيء من الصدر والنحر والساق في أبهى زينة فتانة مغرية، ولم يستطيعوا أن يغالبوا هذا الواقع ، فسفر نساؤهم، ودفعوا ببناتهم إلى المدارس والمعاهد، واضطررن إلى السفور، فاضطر أولئك العلماء إلى تسويغ المنكر الذي وقعوا فيه فلجأوا إلى اعتساف الأدلة وذهبوا إلى جواز كشف الوجه والكفين ) .
5 - الشيخ وهبي سليمان غاوجي: (سوري)
ألف كتاباً بعنوان "المرأة المسلمة" بيّن فيه وجوب ستر الوجه بالأدلة الشرعية، ثم عقد فصلاً بعنوان "رأي شاذ" قال فيه ( ص 206 ، 212) : ( وهناك رأي شاذ في شأن كشف المرأة وجهها ليس هو رأي الحنفية، ولا رأي المذاهب الثلاثة الباقية، ولا جماهير الأئمة من السلف الصالح، ذلك هو رأي الشيخ ناصر الألباني الذي ألف كتاباً لقبه "حجاب المرأة المسلمة " وذهب فيه إلى إباحة كشف المرأة وجهها مطلقاً، خُشيت الفتنة أو لا ! ) .
( لقد هوَّن الرجل على بعض الناس -خاصة من يتبعه، ومن يقتنص الرخص- ترك ما عرفه المسلمون من أيام صلى الله عليه وسلم إلى أيامنا هذه من ستر وجه المرأة، وفي هذا الأمر مع ما فيه من مجانبة الصواب مدعاة لإساءة الظن بالسلف وعصور المسلمين المتتابعة إلى يومنا هذا ) .
6 - الشيخ محمد علي الصابوني: (سوري)
عقد مبحثاً في كتابه "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن" بعنوان "آيات الحجاب والنظر" قال في خاتمته (2/182 وما بعدها):
( بدعة كشف الوجه : ظهرت في هذه الأيام الحديثة، دعوة تطورية جديدة، تدعو المرأة إلى أن تسفر عن وجهها، وتترك النقاب الذي اعتادت أن تضعه عند الخروج من المنزل، بحجة أن النقاب ليس من الحجاب الشرعي، وأن الوجه ليس بعورة، دعوة (تجددية) من أناس يريدون أن يظهروا بمظهر الأئمة المصلحين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها، ويبعثوا فيها روح التضحية، والإيمان، والكفاح.
دعوة جديدة، وبدعة حديثة من أناس يدعون العلم، ويزعمون الاجتهاد ، ويريدون أن يثبتوا بآرائهم (العصرية الحديثة) أنهم أهل لأن يُنافسوا الأئمة المجتهدين وأن يجتهدوا في الدين كما اجتهد أئمة المذاهب ويكون لهم أنصار وأتباع.(34/23)
لقد لاقت هذه الدعوة "بدعة كشف الوجه" رواجاً بين صفوف كثيرة من الشباب وخاصة منهم العصريين، لا لأنها "دعوة حق" ؛ ولكن لأنها تلبي داعي الهوى، والهوى محبَّب إلى النفس، وتسير مع الشهوة، والشهوة كامنة في كل إنسان، فلا عجب إذاً أن نرى أو نسمع من يستجيب لهذه الدعوة الأثيمة ويسارع إلى تطبيقها بحجة أنها "حكم الإسلام" وشرع الله المنير.
يقولون: إنها تطبيق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بالحجاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به المسلمات في كتابه العزيز، وأنهم يريدون أن يتخلصوا من الإثم بكتمهم العلم (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) إلى آخر دعاواهم الطويلة العريضة.
ولست أدري : أي إثم يتخلصون منه، وهم يدعون المرأة إلى أن تطرح هذا النقاب عن وجهها وتُسفر عن محاسنها في مجتمع يتأجج بالشهوة ويصطلي بنيران الهوى ويتبجح بالدعارة، والفسق، والفجور؟! ) .
إلى أن قال :
( فهل يعقل أن يأمرها الإسلام - أي المرأة - أن تستر شعرها وقدميها ، وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟ وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر : الوجه أم القدم؟ يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الناس أمر الدين . فإذا كان الإسلام لا يبيح للمرأة أن تدق برجلها الأرض لئلا يسمع صوت الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها ، فهل يسمح لها أن تكشف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر ؟ ) .
7- الدكتور محمد فؤاد البرازي: ( سوري )
ألف كتاباً في مجلد بعنوان "حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" طبع عدة طبعات ، وهو متميز في تبوبيه وترتيبه. ورد فيه على شبهات القائلين بجواز كشف الوجه.
8 - الدكتور خالد بن علي العنبري: (مصري)
ألف جزءً في تضعيف حديث أسماء، بعنوان "فتح الغفور بتضعيف حديث السفور" قال فيه (ص6): ( والحق الذي لا يُبتغى عنه حِوَلا: وجوب تغطية جميع بدن المرأة بما في ذلك الوجه والكفان ).
9- الشيخ عبد الباقي رمضون: (سوري)
ألف كتاباً بعنوان "خطر التبرج والاختلاط" قال فيه (ص74): ( وخير حجاب المرأة بيتها، لكن إذا خرجت منه لضرورة شرعية وجب عليها أن تستر جميع بدنها).
10- الأستاذة اعتصام أحمد الصرَّاف: (مصرية)
ألفت كتاباً بعنوان "أختي المسلمة: سبيلك إلى الجنة" قالت فيه ( ص 120 ) : (إن تغطية الوجه هي الأصل، وقد ندب الشرع لها ندباً شديداً). ولم تستثن إلا أحوال الضرورة؛ كالشهادة ونحوها.
11 - الشيخ محمد بن سالم البيحاني : ( يمني)
ألف كتاباً بعنوان "أستاذ المرأة" قال فيه (ص 28): "وأما خارج الصلاة فتستر بدنها كله حتى الوجه والكفين" ولم يستثن إلا ما كان للضرورة كالشهادة ونحوها.
12- الشيخ طاهر خير الله: (سوري)
قدم لكتاب الشيخ حمود التويجري: "الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور" مؤيداً له.
13- الشيخ عبد القادر بن حبيب السندي: (من علماء السند)
صنف كتابين من أهم الكتب في هذا الموضوع للرد على الألباني :
الأول: "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" .
الثاني: "رفع الجُنة أمام جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة".
14- الشيخ أبو بكر الجزائري: (جزائري)
ألف كتاباً بعنوان "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" ذكر فيه أدلة وجوب ستر الوجه ورد على شبهات المخالفين.
ثم ألف كتاباً ثانياً بعنوان "تنبيه الأحباب إلى خطأ صاحب تحريم النقاب" رد فيه على أحد السفهاء القائلين بحرمة لبس المرأة النقاب!!
وللشيخ - أيضًا - كتابٌ عن الفتاة السعودية بعنوان "إلى الفتاة السعودية والمسؤلين عنها" حذرها فيه من خطورة كشف الوجه.
15- الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي: (موريتاني)
صاحب الكتاب الشهير: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" تعرض فيه لتفسير آيات الحجاب، وبين بالأدلة القوية ، وبأسلوبه العلمي المتين وجوب ستر الوجه: (انظر: 6/586 من كتابه) .
16- الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم: (مصري)
صاحب الكتاب الشهير "عودة الحجاب" بأجزائه الثلاثة، الذي فصَّل فيه تاريخ المؤامرة على الحجاب في بلاد المسلمين، ثم بين في الجزء الثالث أدلة وجوب ستر الوجه، ورد على شبهات المخالفين بما لا مزيد عليه. وهو كتاب حري بالمسلم والمسلمة اقتناؤه .
17- الشيخ محمد بن يوسف الكافي: (تونسي)
ألف كتاباً بعنوان "المسائل الكافيّة في بيان وجوب صدق خبر رب البريّة" شنع فيه على الداعين إلى كشف الوجه. ونقل الشيخ حمود التويجري بعض كلامه في كتابه "الصارم المشهور" (ص 108-109).
18- الشيخ صالح محمد جمال: (حجازي)
ألف كتاباً بعنوان "المرأة المسلمة بين نظريتين" قال فيه (ص37) كلاماً مهماً عن أهل الحجاز طالما تجاهله البعض أو حاولوا إخفاءه! -فتأمله-.(34/24)
قال : ( وهناك فريق قال بمنع الكشف عن الوجه ووجوب تغطيته أخذاً بحديث عائشة ، وهو ما عليه الجمهور ،وما كنا عليه نحن في هذه البلاد المقدسة قروناً طويلة حتى أواخر القرن الماضي الهجري ، حتى منينا بهذا التقليد الأعمى الذي حذرنا منه الإسلام، وخرج منا مجتهدو آخر زمن لينبشوا عن آراء فقهية مرجوحة ليستبيحوا بها كشف وجه المرأة، ويفتوا بذلك تشجيعاً على السفور، وإيقاظاً للفتنة النائمة، وفرح بها بعض الشباب وتمسكوا بها دون التفكير في عواقبها الوخيمة العاجلة والآجلة ؛ من إفساد وخطف وجرائم ، لولا السفور والاختلاط لم تقع ).
19-الأستاذة يسريه محمد أنور: (مصرية)
ألفت كتاباً بعنوان "مهلاً يا صاحبة القوارير" ترد فيه على كريمان حمزة المجوزة لكشف الوجه، ومن بديع ما فيه قولها (ص 62): "فإذا كان الإسلام قد اعتبر ظهور القدمين عورة، وأمر بعدم الضرب على الأرجل حتى لا تبدو أو يُسمع صوت الخلاخل، أو تظهر الزينة الخفية؛ فإن أمره بتغطية الوجه أولى؛ لأنه مجمع الحسن".
20- الشيخ أحمد محمود الديب: (مصري)
ألف كتاباً بعنوان "الردود الخمسة الجلية على أخطاء كتاب السنة النبوية للشيخ الغزالي" جعل الجزء الأول منه في قضية الحجاب؛ حيث دلل بالنصوص الشرعية على وجوب تغطية الوجه ، ونقل عن الشيخ أبي بكر الجزائري قوله المهم: "إن بداية السفور والتبرج الجاهلي الذي عليه جُل نساء المؤمنين اليوم في ديار المسلمين إنما بدأ من كشف الوجه؛ بإزالة البرقع والنقاب عنه، حتى بات وأصبح وأضحى وظل وأمسى من المعلوم بالضرورة أن من كشفت من الفتيات عن وجهها اليوم ستكشف غداً حتماً عن رأسها وصدرها وساقيها وحتى فخذيها, ولا يجادل في هذا أو لا يسلمه إلا مغرور مخدوع.." (ص25).
21- الشيخ صفي الرحمن المباركفوري : (هندي)
ألف كتاباً بعنوان "إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" للرد على من أجاز كشف الوجه. وقال بعد أن بين الحكمة من فرض الحجاب (ص10): "وهذه الحكمة المقصودة بالحجاب تقتضي أن يعم حكم الحجاب جميع أعضاء المرأة؛ ولا سيما وجهها الذي هو أصل الزينة والجمال ..." .
22- الشيخ درويش مصطفى حسن: (مصري)
ألف كتاباً بعنوان "فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنقاب" رد فيها ردًا علميًا على شبهات القائلين بجواز كشف الوجه؛ وقال في آخرها (ص208-209): "ونهاية القول مع أصحاب هذا الرأي أن دعوتهم إلى المرأة المؤمنة بكشف وجهها ويديها للأجانب عنها هي دعوى لا تقوم على دليل من الدين، أو مستند صحيح من الشرع الحكيم، فكل الأدلة التي ساقوها قد سبق ردها وتم دحضها".
23- الأستاذة: الزهراء: فاطمة بنت عبدالله: (يمنية)
ألفت كتاباً بعنوان "المتبرجات" ناصحت فيه النسوة المتحررات، ثم ذكرت شروط الحجاب الشرعي (ص 161 وما بعدها) وأدلة وجوب ستر الوجه.
24- الأستاذ العزي مصوعي : (يمني)
وهو مدير عام الإعلام والثقافة باليمن. قدم للأستاذة الزهراء كتابها السابق مؤيدًا ما فيه.
25- الشيخ محمد علي إسماعيل الأهدل: (يمني)
قدم لكتاب الأستاذة الزهراء، السابق، مؤيدًا ما فيه.
26- الشيخ محمد إبراهيم العيسوي: (يمني)
قدم لكتاب الأستاذة الزهراء، السابق، مؤيدًا ما فيه.
27- الأستاذ محمد أديب كلكل : ( سوري )
ألف كتابًا بعنوان " فقه النظر في الإسلام " نصر فيه وجوب تغطية المرأة لوجهها .
28- الشيخ أبوهاشم عبدالله الأنصاري : ( هندي )
كتب مقالات نافعة مفيدة في مجلة " الجامعة السلفية " ( من ذي القعدة 1398هـ ) يرد فيها على القائلين بجواز كشف الوجه .
29- الشيخ يوسف الدجوي : ( مصري )
له فتوى مطولة في هذا الموضوع قال من ضمنها " إن الحكم الشرعي في هذا هو تحريم هذا التبذل وذلك السفور ، حتى أن من يبيح كشف الوجه والكفين من العلماء يجب أن يقول بالتحريم لما يفعله النساء الآن :
1- لأنهن لا يقتصرن على كشف الوجه واليدين كما هو معروف .
2- لابد عند ذلك القائل من أمن الفتنة ، والفتنة الآن غير مأمونة )
إلى أن قال : ( فالمسألة إجماعية لايختص بها إمام دون آخر من أئمة المسلمين ) . ( انظر : مقالات وفتاوى الشيخ يوسف الدجوي ، 2 / 798 - 802 ) .
30 - الشيخ مصطفى العدوي : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " الحجاب " نصر فيها القول بوجوب تغطية الوجه ، ورد على شبهات المخالفين .
31- الأستاذة رغداء : ( ؟ )
ألفت رسالة عن الحجاب بعنوان " حجابك أختي " نصرت فيه القول بوجوب تغطية الوجه . نقل عنها الألباني في رده المفحم ( ص 103 ) مشنعًا ! . ولم أطلع على رسالتها .
32- الشيخ خالد العك : ( سوري )
رجح هذا القول في رسالته " واجبات المرأة المسلمة " وقال ( ص 175 ) : " ليس لها أن تبدي ذلك - الوجه والكفان - للأجانب " .
33 - الشيخ عطية صقر : ( مصري )
رجح وجوب التغطية إذا كان على الوجه زينة ، أو يسبب الفتنة . ( س و ج للمرأة المسلمة ، ص 240 ) .
34 - الشيخ مصطفى صبري " مفتي الدولة العثمانية " : ( تركي )
شنع على دعاة سفور الوجه في رسالته " قولي في المرأة " .
35 - الشيخ سعيد الجابي : ( سوري )(34/25)
ذكره الشيخ محمد بن اسماعيل في كتابه " عودة الحجاب ، 1 / 285 " فيمن يقول بوجوب التغطية ، ولم أطلع على رسالته .
36 - الشيخ عبدالله ناصح علوان : ( سوري )
ألف رسالة بعنوان " إلى كل أب غيور يؤمن بالله " نصر فيها القول بالوجوب .
37 - الشيخ أحمد عز الدين البيانوني : ( سوري )
ذكره الشيخ محمد بن اسماعيل في كتابه " عودة الحجاب ، 1 / 285 " فيمن يقول بوجوب التغطية ، ولم أطلع على رسالته .
38 - الشيخ محمد الزمزمي بن الصديق : ( مغربي )
ذكره الشيخ محمد بن اسماعيل في كتابه " عودة الحجاب ، 1 / 285 " فيمن يقول بوجوب التغطية ، ولم أطلع على رسالته .
39 - الشيخ عبدالرحمن أحمد زيني آشي : ( حجازي )
ألف رسالة بعنوان " ستر الوجه بين الحق والاضطراب " رد فيها على الألباني .
40 - الشيخ رجائي المصري : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " وجوب الجماعة والقوامة والحجاب " نصر فيها القول بوجوب تغطية الوجه .
41 - الأستاذ محيي الدين عبدالحميد : ( حجازي )
ألف رسالة بعنوان " قالوا وقلن عن الحجاب " قال في مقدمتها ( ص 3 ) : ( والحجاب الشرعي أن تحجب المرأة كل ما يفتن الرجال بنظرهم إليه ، وأعظم شيئ في ذلك هو الوجه ؛ فيجب عليها أن تستر وجهها عن كل إنسان أجنبي عنها ) .
42 - الأستاذ علاء الدين بن محمد : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " لباس المرأة أمام المحارم " اختار فيها وجوب ستر الوجه .
43 - الأستاذ عكاشة بن عبدالمنان الطيبي : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " محجبات لماذا ؟ " اختار فيها وجوب ستر الوجه .
44 - الأستاذ عبدالله جمال الدين : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " حجاب المرأة " قال فيها ( ص 31 ) : ( فالذي يجب على المرأة التي تخرج من بيتها لحاجة أن تدلي جلبابها على وجهها حتى تستره ) .
45 - الشيخ عبدالرشيد بن محمد السخي : ( نيجيري )
ألف رسالة بعنوان " السيف القاطع للنزاع في حكم الحجاب والنقاب " رد فيها من قال ( ص 8 ) : ( ليس الحجاب في الإسلام إلا أنه عادة من عادات أهل الحجاز ) !! واختار وجوب ستر الوجه . وذكر أن نساء الحجاز عرفن بتغطية الوجه على مر الزمان إلى أن غزاهم التغريب . ( انظر ص 8 ) .
46 - الشيخ محمد نسيب الرفاعي : ( سوري )
كتب مقالا في مجلة التوعية الإسلامية في الحج ( بتاريخ 17/11/1399هـ) بعنوان " السفور والتبرج وأثرهما السيئ في البيت المسلم " شنع فيه على استهتار المرأة في عصره : ( هذا الاستهتار الذي جرها تدريجيًا إلى السفور عن وجهها ) . وبين أن من كشفت وجهها ستتساهل حتمًا في غيره .
47 - الأستاذ كمال بن السيد سالم : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " من مخالفات النساء " ذكر فيها من شروط الحجاب الشرعي : ( أن يستوعب جميع البدن ) . ( ص 109 ) .
48 - الأستاذ محمد حسان : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " تبرج الحجاب " ذكر فيها من شروط الحجاب الشرعي : ( أن يستر البدن كله ) . ( ص 107 ) .
49 - الأستاذ محمد طلعت حرب : ( مصري )
أحد من ردوا على مخرب المرأة " قاسم أمين " برسالة عنوانها " تربية المرأة والحجاب " نصر فيها القول بوجوب ستر الوجه .
50 - الشيخ أحمد محمد جمال : ( حجازي )
ألف رسالة بعنوان " نساؤنا ونساؤهم " ذكر فيها ( ص 87 ) اتفاق العلماء على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه .
51 - الشيخ حسن البنا " مرشد جماعة الإخوان المسلمين " : ( مصري )
ألف رسالة بعنوان " المرأة المسلمة " قال فيها ( ص 18 ) : ( إن افسلام يحرم على المرأة أن تكشف عن بدنها ) . وعلق عليه الشيخ محمد بن اسماعيل - في الهامش - : ( الأدلة تؤيد القول بوجوب النقاب كما هو ظاهر كلام فضيلة الأستاذ حسن البنا رحمه الله ) .
قلت : أين الفضلاء من جماعة الإخوان - وفقهم الله للخير - عن قول مرشدهم هذا ، يعيدون له نضارته وبهاءه ؟!
ويتصدون لمن يريد حرف الجماعة عن الفضيلة من المتساهلين والمفرطين ؛ من أمثال القرضاوي وأبي شقة وغيرهم ممن أثروا على الجماعة فيما بعد ، وأوقعوها في مخالفات كثيرة لا أظن الشيخ حسن البنا يرضاها لهم .
52 - الأستاذة كوثر الميناوي : ( مصرية )
ألفت رسالة بعنوان " حقوق المرأة في الإسلام " عقدت فيها فصلا عن الحجاب قالت فيه ( ص 128 ) بعد إيراد آية ( ياأيها النبي قل لأزواجك ..) : ( وفي هذه الآية الكريمة أمر الله سبحانه وتعالى جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعر والوجه وغير ذلك ؛ حتى يُعرفن بالعفة فلا يُفتن ولا يفتن غيرهن فيؤذين ) .
53 - الشيخ أحمد بن حجر آل أبوطامي : ( قطري )
ألف رسالة بعنوان " الأدلة من السنة والكتاب في حكم الخمار والنقاب " .
54 - الدكتورة مكية مرزا : ( حجازية )
ألفت رسالة بعنوان " مشكلات المرأة المسلمة وحلها في ضوء الكتاب والسنة " قالت فيها ( ص 359 - 360 ) : ( وحيث أنه قد قل في هذا العصر : الورع والتقوى ، ولم تؤمن من الفتنة من كل جوانب الحياة العصرية ، وانتشر الفسق والفجور ؛ وجب على المرأة أن تحتاط لدينها بأن تغطي جميع بدنها ) .(34/26)
قلت : وللدكتورة رسالة ماجستير - لم تطبع حسب علمي - بعنوان " حجاب المرأة المسلمة في ضوء الكتاب والسنة " .
55 - الشيخ عبدالحليم محمود " شيخ الأزهر في وقته " : ( مصري )
كتب مقالا بعنوان " مظهر المرأة " قال فيه عن المرأة إذا لم تأمن الفتنة : ( وجب عليها ستر الوجه والكفين سدًا للذرائع إلى المفاسد ) . ( مجلة صوت العرب ، البيروتية ، كانون الثاني ، عام 1967م ) .
56 - الأستاذ عبدالله بن مرعي بن محفوظ : ( حجازي )
ألف رسالة بعنوان " حقوق وقضايا المرأة في عالمنا المعاصر " ذكر فيها من شروط الحجاب ( ص 248 ): ( أن يكون ساترًا لجميع البدن ) .
57 - الدكتور يحيى المعلمي : ( حجازي )
ألف رسالة بعنوان " المرأة في القرآن الكريم " قال فيها بعد أن تحدث عن ستر الوجه واليدين ( ص 110 ) : ( إذا خشيت الفتنة فسترهما واجب بلا جدال ) .
58 - الشيخ محمد بن الحسن الحجوي : ( مغربي )
رد في خاتمة كتابه " الدفاع عن الصحيحين " ( ص 129 - 130 ) على أحد الداعين إلى سفور الوجه في مجلس الملك محمد الخامس - جد الملك الحالي - . ثم قال كلامًا مهمًا يبين لنا تاريخ بداية السفور بالمغرب .
قال : ( ولما لج في عناده أشار أمير المؤمنين لبقية أهل المجلس بالكلام ، فقام من لم تأخذه حمية الحزبية أوالملق ، وقالوا بصوت واحد : اللهم إن هذا منكر ؛ يعنون السفور ، ومن ذلك اليوم أوحى شياطين الإنس إلى إخوانهم ممن يرى إباحة السفور ، ولو مع خوف الفتنة ، إلى الأخذ بما قاله هذا الرجل ، وسموه فتوى كفتوى عمرو بن لحي ! وأعلنوا السفور في شهر جمادى 1362هـ ، وعليه من ذلك ما حُمّل ، فكانت هذه أول سنة السفور بالمغرب ) .
59- الشيخ طارق بن عوض الله: (مصري)
صنف كتاباً مهماً في تضعيف حديث أسماء الذي يتكئ عليه دعاة السفور، وسماه "النقد البناء لحديث أسماء".
60- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: (سوري)
ألف كتيباً بعنوان "إلى كل فتاة تؤمن بالله" قال فيه (ص 50):
( فقد ثبت الإجماع عند جميع الأئمة - سواء من يرى منهم أن وجه المرأة عورة كالحنابلة ومن يرى منهم أنه غير عورة كالحنفية والمالكية - أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان من حولها من ينظر إليها بشهوة. ومنذا الذي يستطيع أن يزعم بأن الفتنة مأمونة اليوم، وأنه لا يوجد في الشوارع من ينظر إلى وجوه النساء بشهوة؟ ).
61- الشيخ عيادة الكبيسي : ( عراقي )
له رسالة بعنوان " لباس التقوى " نصر فيها القول بوجوب تغطية الوجه .
62 - الشيخ محمد زاهد الكوثري : ( تركي )
نصر القول بوجوب تغطية الوجه في مقال له بعنوان " حجاب المرأة " نشر في مجموع مقالاته ( ص 245 - 250 ) أكد فيه ما سبق أن ذكرته من إجماع المسلمين ( العملي ) على هذا الأمر قبل أن تقع بلادهم بيد الكافر الذي روج السفور على يد أذنابه .
قال الكوثري بعد إيراد الأدلة على وجوب ستر الوجه :
( ولتلك النصوص الصريحة في وجوب احتجاب النساء ، تجد نساء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في غاية المراعاة للحجاب منذ قديم ، في البلاد الحجازية واليمنية وبلاد فلسطين والشام وحلب والعراقين وبلاد المغرب الأقصى إلى المغرب الأدنى ، وصعيد مصر والسودان ، وبلاد جبرت والزيلع وزنجبار ، وبلاد فارس والأفغان والسند والهند . بل كانت بلاد الوجه البحري بمصر وبلاد الروملي والأناضول وبلاد الألبان قبل مدة في عداد البلدان التي تراعي فيها نساؤها الاحتجاب البالغ )
إلى أن قال :
( وليس بقليل بمصر من أدرك ما كانت عليه نساء مصر كلهن من ناحية الحجاب قبل عهد قاسم أمين داعية السفور في عهد الاحتلال ) .
63- الشيخ عبدالرزاق عفيفي : ( مصري )
له فتاوى عديدة ضمن اللجنة الدائمة في وجوب تغطية الوجه . انظر على سبيل المثال : فتاوى اللجنة ( 17 / 210 وما بعدها ) .
64 - الدكتورة ازدهار بنت محمود بن صابر المدني : ( حجازية )
لها رسالة ماجستير رائعة ؛ عنوانها " أحكام تجميل النساء في الشريعة الإسلامية " ذكرت فيها شروط الحجاب الشرعي ، ومنها ( ص 277 ) : ( استيعاب جميع البدن ) .
65- صبري أحمد الصبري : ( مصري )
له كتاب بعنوان " مواجهات الشرق الأوسط " رد من خلاله على الشيخ محمد الغزالي في قضايا كثيرة ، من ضمنها قضية الحجاب ، واختار وجوب ستر الوجه ، ثم قال ( ص 173) : ( إن دعوة الشيخ الغزالي لكشف الوجه ليست دليل حضارة أو تقدم للفكر الإسلامي ، فالكاشفات ابتدأن بكشف وجوههن ، وانتهين بكشف عوراتهن ، عورة وراء عورة ) .
66 - شيخ الجامع الأزهر : محمد أبوالفضل - رحمه الله - : ( مصري )
جاء في مجلة المنار ( ج 3 م 26 ص 210-211) :
فتوى مشيخة الجامع الأزهر
وزعت مشيخة الجامع الأزهر على الصحف الاستفتاء الآتي وجوابه وهو:
سأل سائل: ما حكم الشرع في المرأة المسلمة المتبرجة والمتبهرجة وفي مسئولية أبيها وزوجها أو أخيها. وفي المرأة المسلمة التي تظهر على مسارح التمثيل كممثلة؟(34/27)
فنقول: التبرج قد نهى الله عنه بقوله سبحانه وتعالى (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الخطاب في هذه الآية الشريفة موجه إلى نساء صلى الله عليه وسلم ولكن الحكم عام ، ومعناه هو المشي بتبختر وتكسر ، أو أن تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها أو أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، أو أن تبدي محاسنها من وجهها وجسدها ، أو أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال.
فما يشاهد الآن من كشف المرأة من ساقيها وذراعيها وصدرها ووجهها، وما تتكلفه من زينة تكشف عنها، وما تفعله في غدوها ورواحها من تبختر في مشيها وتكسر في قولها وتخلع يستلفت الأنظار يقوي الأشرار، تبرج منهي عنه بالإجماع لا تقره الشريعة الإسلامية ولا يتفق مع العفة والآداب، لما يؤدي إليه من إثارة الشهوات وتلويث النفوس وإفساد الأخلاق وإطماع ذوي النفوس المريضة . وكثيراً ما جر ذلك إلى الجنايات على الشرف والعفة والاستقامة، حتى اشتد الكرب، وعم الخطب، وأصبحت البلاد ترزح تحت آثاره الضارة ونتائجه السيئة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد أدب الله النساء بقوله:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
واشتغال المرأة المسلمة بمهنة التمثيل أولى بالحرمة من المتبرجة، لأن التمثيل تبرج وتهتك، بل حضور النساء محمل التمثيل والرقص والحفلات التي شأنها أن يختلط فيها الرجال بالنساء تحرمه الشريعة سداً للذريعة.
وحيث كان الأمر كما ذُكر فالواجب على زوج المرأة وأولياء أمرها منعها من ذلك، ويجب أيضاً على كل مسلم قدر على هذا، وقد آن للناس أن يتداركوا أمر الأخلاق فقد أوشك صرحها أن ينهار، وأن يُقوموا منها ما اعوج ، ويجددوا ما درس قبل أن تصبح أثراً بعد عين، والله ولي التوفيق.
شيخ الجامع الأزهر
محمد أبو الفضل
هذا ما تيسر لي جمعه من أسماء القائلين بوجوب ستر وجه المرأة المسلمة . وأتمنى ممن لديه زيادة أن لا يبخل بها .
تنبيه : سوقي لهذه الأسماء ممن قالوا بوجوب ستر الوجه هو رد صريح وواضح على من أراد التنفير عن الحق بإيهام عامة المسلمين أن هذا الحكم مما تفرد به أهل نجد ! كما يردد بعض كتاب الساحة ممن يضايقهم انتشار الستر بين المسلمات .
وإلا فالجميع يعلم أن الحق لا يُعرف بكثرة الرجال .
تنبيهات وفوائد :
أ - لا تكذبوا على الشيخ الألباني - رحمه الله - :
مما يؤسف له أنك تجد أصحاب الهوى - رجالا ونساء - ممن يعاندون في وجوب تغطية الوجه عندما تنكر عليهم صنيعهم يواجهونك " بأن الشيخ الألباني يرى جواز كشف الوجه " !! ثم تتفاجأ بأن هؤلاء النسوة الكاشفات لم يقتصرن على كشف الوجه ! ولم يتقيدن بالشروط التي وضعها الشيخ رحمه الله للحجاب ! لتعلم حينها أن رأي الشيخ مجرد ترس يتترسون به أمام من ينكر عليهم .
وتوضيح ذلك :
1- أن الشيخ اقتصر على جواز كشف الوجه . وهؤلاء تجاوزوه إلى نصف الرأس كما هو مشاهد ، بل بعضهن ترمي بجميع الحجاب إذا سافرت للخارج .
2- أن الشيخ عندما اختار هذا الرأي قال ( في ص 89 من جلباب المرأة ) : ( لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا لم يكن على الوجه وكذا الكفين شيئ من الزينة ؛ لعموم قوله تعالى " ولا يبدين زينتهن " ، وإلا وجب ستر ذلك ، ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن بأنواع الزينة والأصبغة ). ولم يستثن سوى الكحل . وأما هؤلاء النسوة فقد كشفن وجوههن المزينة بشتى أنواع الزينة و( المكياج ) مما يحرمه الشيخ - كما سبق - .
3- أن الشيخ رحمه الله أوجب على المرأة أن تلبس الجلباب عند خروجها إضافة إلى الخمار ، (والجلباب عنده هو العباءة كما في ص 83 من كتابه ) . ثم قال الشيخ ( ص 85 ) : ( واعلم أن هذا الجمع بين الخمار والجلباب من المرأة إذا خرجت قد أخل به جماهير النساء المسلمات ؛ فإن الواقع منهن إما الجلباب وحده على رؤسهن أو الخمار ، وقد يكون غير سابغ في بعضهن ؛ كالذي يسمى اليوم بـ " الإيشارب " ، بحيث ينكشف منهن بعض ما حرم الله عليهن ..) .
قلت : فهل ترى ممن يتشبثن برأي الشيخ من التزمت بهذا الأمر الواجب ؟! إلا القليل - كما صرح هو بذلك - .
4 - أن الشيخ عندما اختار هذا الرأي صرح بأن ستر المرأة لوجهها هو الأولى والأفضل . قال رحمه الله ( ص 28 من جلباب المرأة ) : ( نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه وإن كان جائزاً فستره أفضل) . وقال - أيضًا - ( ص 32 ) : ( فمن حجبهما -أي الوجه والكفين- أيضاً منهن، فذلك ما نستحبه وندعو إليه) . وهؤلاء عاندوا الشيخ ؛ حيث لم يكتفوا بكشف الوجه ، بل دعوا إليه ، وطالبوا من تغطي وجهها أن تكشفه !! نعوذ بالله من مرض القلوب .(34/28)
ولهذا : فمقالي هذا موجه إلى مرضى القلوب ممن يتخذون من رأي الألباني مطية إلى شهواتهم . أما الفضلاء والفضليات ممن أحسنوا الظن بالشيخ واعتمدوا قوله ، والتزموا شروطه ، وفرحوا بمن تغطي وجهها ولم ينكروا عليها ؛ استجابة لقول الشيخ - كما سبق - فهؤلاء أتمنى منهم أن يقفوا معنا صفًا واحدًا أمام دعاة الشر والفساد ، وأتمنى منهم - أيضًا - أن يطلعوا على الأدلة الشرعية الموجبة لتغطية المرأة وجهها ، ولا يتغافلوها رضى بما هم عليه ، واتباعًا لعاداتهم الحادثة .
ب - الألباني رحمه الله لم يستطع الرد على أدلة الموجبين ستر الوجه :
فهو في كتابيه يتتبع أي نص يظنه يشهد لقوله - ولو أداه ذلك للتكلف - حتى وقع رحمه الله في تناقضات كثيرة ؛ بينت بعضها في رسالة " وقفات مع من يرى كشف الوجه " . مصداقًا لما تقرر عند العقلاء أن من يخالف الحق لا بد أن يتناقض كلامه .
أما القائلون بوجوب ستر المرأة لوجهها فإنهم يذكرون الأدلة الصحيحة الصريحة على هذا الأمر ، ولايكتفون بهذا ؛ بل يجيبون عن شبهات الآخرين - ولله الحمد - .
ج - كيف تجيبون عن هذا الدليل المحرج ؟!
من المجمع عليه بين العلماء -سواءً القائلين بتغطية الوجه أو كشفه- أن نساء صلى الله عليه وسلم واجبٌ عليهن أن يغطين وجوههن عن الأجانب ؛ بعد نزول آية الحجاب ( وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ) .قال القاضي عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به -أي زوجات صلى الله عليه وسلم - فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك" . ( فتح الباري 8/391 ، وأقره الألباني على هذا في : جلباب المرأة، ص 106).
ثم قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). فدلت هذه الآية على أن حجاب نساء المؤمنين كحجاب زوجات صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأمر واحد للجميع، وقد اتفق العلماء بلا خلاف كما سبق على أن حجاب نسائ صلى الله عليه وسلم هو وجوب تغطية الوجه. إذاً: فحجاب نساء المؤمنين هو تغطية الوجه. وهو معنى قوله تعالى (يدنين عليهن من جلابيبهن) .
فالجلباب مع الإدناء يستر جميع بدن المرأة حتى وجهها، ويشهد لهذا حديث عائشة -رضي الله عنه- في حادثة الإفك لما رآها صفوان بن المعطل -رضي الله عنه-، قالت: "فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي" (أخرجه البخاري4750).
د - عبرة من نساء الصين المسلمات
خرج الشيخ الصيني ثابت بن عبدالباقي الكمالي للحج عام 1349هـ ثم توجه بعد فراغه منه إلى مصر ، وألقى بها محاضرة بين فيها أحوال الصينيين المسلمين ، قال فيها : ( وأما النساء ؛ فلا يخرجن إلى الطريق من غير ضرورة تدعو للخروج ، فإذا دعت ؛ يخرجن متلفعات بمروطهن ، وملقيات عليهن جلابيبهن ، لا متبرجات بزينة ... وهن سالمات من الآداب الأوربية ، وعادات الفرنجة ؛ كالملابس الضيقة التي تحكي أبدانهن ) . ( انظر : نموذج من الأعمال الخيرية ؛ للأستاذ محمد منير آغا الدمشقي ، ص 476 ) .
=============(34/29)
(34/30)
لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها
عبد الرحمن بن صالح السديس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام ، على نبينا محمد، وآله ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، أما بعد:
فهذه نقول جميلة في مسألة جليلة .. لها جوانب لا تخفى على اللبيب أردت نفعك بها عند الحاجة إليها في الرد على متعالم ، أو جاهل جريء .. أو علماني خبيث .. ونحوهم .. ممن بدؤوا يتكلمون في الدين ، ويخوضون في التأويل ، ويفسرون التنزيل كما يشاؤون ..
قال العلامة ابن رجب رحمه الله في الحكم الجديرة بالإذاعة كما في المجموع 1/248:
وقد صح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
فأمر الله ورسوله بالردِ على من خالف أمرَ اللهِ ورسولِه ، والردُ على من خالف أمرَ الله ورسولِه لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخَبَرَه خبرة تامة .
قال بعض الأئمة : لا يؤخذ العلم إلا عمّن عرف بالطلب .
وأمر الرسو صلى الله عليه وسلم نوعان : أمر ظاهر بعمل الجوارح ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ، ونحو ذلك .
وأمر باطن تقوم به القلوب ، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه والصبر على بلائه .
فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة ، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث = لا نقتدي به في علمنا .
فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء عن الرسول فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب ، وفيمن يقول الله على ما لا يعلم ، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم بل ينتقص به وقال : أنا وارث حال الرسول والعلماء وارثون علمه ، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله ، والتكذيب بالحق لما جاء به { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذّب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له ، منقاد لهواه وجهله ، ضال مضل ، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله ، ثم اتبعه ، فإن من لا علم له بحاله فمن أين يكون وارثه ؟
ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد ، وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل ، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله ، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم
يا لله العجب ، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا ، ولم يعرفه الناس بها ، ولا شاهدوا عنده آلاتها = لكذبوه في دعواه ، ولم يأمنوه على أموالهم ، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة ، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ، ولا يجالس أهله ولا يدارسه ؟
فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه ، ويحكمونه في أديانهم ، يفسدها بدعواه الكاذبة ؟
إن كنت تنوح يا حمام البان * للبين ، فأين شاهد الأحزان ؟
أجفانك للدموع أم أجفاني * لا يقبل مدع بلا برهان
وقبله قال العلامة ابن حزم الظاهري ـ رحمه الله ـ في مداواة النفوس ص67:
لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون.
وقال في كتابه مراتب العلوم ص86[ضمن رسائل ابن حزم ج4]:
وإن قوما قوي جهلهم ، وضعفت عقولهم ، وفسدت طبائعهم ، ويظنون أنهم نم أهل العلم وليسوا من أهله ، ولا شيء أعظم آفة من على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة منهذه الطبقة المذكورة ؛ لأنهم تناولوا طرفا من بعض العلوم يسيرا ، وكان الذي فاتهم أكثر مما أدركوا منه ، ولم يكن طلبهم لما طلبوا من العلم لله تعالى ، ولا ليخرجوا من ظلمة الجهل ، لكن ليزدروا بالناس زهوا وعجبا ، وليماروا لجاجا وشغبا ، وليفخروا أنهم من أهله تطاولا ونفجا ، وهذه طريقة مجانبة للفلاح ، لأنهم لم يحصلوا على الحقيقة ، وضيعوا سائر لوازمهم فعظمت خيبتهم ، ولم يكن وكدهم أيضا مع الازدراء بغيرهم إلا الازدراء بسائر العلوم وتنقيصها في ظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوا فقط ، وكثيرا ما يعرض هذا لمبتدئ في علم من العلوم وفي عنفوان الصبا ، وشدة الحداثة إلا أن هؤلاء ليرجى(1) لهم البرء من هذا الداء مع طول النظر والزيادة في السن .اهـ
وقبله قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في الرسالة ص 41 :
فالواجب على العالِمِين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا .
وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله . اهـ.
وقبله قال الإمام محمد بن سيرين:
إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم.
رواه مسلم في مقدمة صحيحه 1/14 .
فهذه أربعة نصوص قد تحتاجها ، لتصفع بها وجه كثير ممن يتكلمون فيما لا يحسنون ، ويهذون بما لا يعرفون ، خاصة من بعض كتاب الجلالة [الصحف: هكذا سماها العلامة بكر أبو زيد] المتعالمين المتجرئين على دين رب العالمين .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
------------
(1) في المطبوع : لا يرجى . ولعل الصواب ما أثبته .
==============(34/31)
(34/32)
مملكة الروح
أ.د. عبدالكريم بكار
أرواحنا وليست عقولنا هي مكمن وجودنا، وهي البعد الأرحب والأعمق في شخصياتنا. في أرواحنا تجتمع الروعة مع الغموض، ومنهما معاً تتولد الحيرة، والعالم حائر في أمر الروح اليوم، وحائر في التعامل معها. وقد مسّ أمة الإسلام في أيامنا هذه شيء من هذا وذاك. ليست مهمة الإيمان مقصورة على رسم الفضاء النظري لمعتقداتنا ورؤانا، وإنما أيضًا منحنا التميز في عالم فقد الإيمان ودخل عالم الشك والضياع. إن الإيمان بالله -تعالى- يمنحنا ميزة فورية هي صعوبة سجننا داخل معطيات مادية محدودة. إنه يخرجنا فورًا من العالم المحدود والمحسوس إلى عالم من غير حدود.
وذلك العالم عالم الروح وعالم الغيب. في العالم المادي يشعر الإنسان دائمًا بالانكماش والضعف، ويجد نفسه محاصرًا بالضرورات ومهددًا بنفاد الطاقة. لكن في عالم الروح الأمر مختلف، كل شيء يتمدد، ويتسع، ويكبر؛ فيشعر المؤمن بمدد لم يحسب حسابه يغمر كيانه كله بالنور والحبور.
هدفنا الأعظم نحن المسلمين أن نفوز برضوان الله -تعالى-، وهذا الفوز يشكل مرجعية وأولوية بالنسبة إلينا، بمعنى أن الذي يدخل البهجة على نفوسنا، ويغمر أرواحنا بالسرور النقي يجب أن يظل دائمًا في إطار محبوبات الله -تبارك وتعالى-، كما أن كل أشكال الارتقاء المادي وكل المغانم والمكاسب التي نحاول الحصول عليها يجب أن تتم داخل ذلك الإطار.
وهذه نقطة مفاصلة بيننا وبين الأمم الأخرى. إن الأمم التي تقود الحضارة اليوم قد أسست منذ مدة لوضعية فيها الكثير من المجافاة للروح؛ حيث الأولوية لرفاهية الجسد، وحيث الحكم لمنتجات العقل ومعطيات الخبرة والممارسة. وليس في إمكان القوم على المدى القريب فعل أفضل من ذلك ما داموا فقدوا المفاهيم والرمزيات التي تجعل استمداد الرؤى من الوحي شيئًا معقولاً أو مقبولاً. إن الإيمان يجعلنا ننظر بجدية إلى أن كل التحسينات التي ندخلها على بيئاتنا وعلى أوضاعنا العامة لا تشكل غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لمساعدتنا على تعميق صلتنا بالله -تعالى- وعلى النجاح في الابتلاء الذي كتب علينا في هذه الحياة.
إن مما يدعو إلى الأسف أن هذا المعنى المحوري قد لحقه الكثير من الحيف في هذه الأيام؛ حيث تعمل العولمة على إغراق وعينا بجزئيات وفرعيات وتفصيلات لا نهاية لها. ومع أن الاهتمام بالتفاصيل يظل علامة على الارتقاء؛ إلا أن ذلك يجب أن يكون في إطار الأصول والمبادئ الكلية، وإلا تحول إلى عامل يطمس ملامح توجهنا العام، فنفقد الغاية العظمى، وتصبح حركتنا في الحياة أشبه بكوكب فقد مداره. الخلاصة أن مواصفات زماننا التي تزداد رسوخًا وتعميمًا لا تخدم عالم الروح، ولا تلائم متطلبات الإيمان، وهذا يعني أن على المسلم الذي يريد أن يحيا وفق مبادئه وعقيدته أن يعوّد نفسه السباحة ضد التيار، وأن يمتلك طاقة استثنائية على التحمل والممانعة، ولدينا العديد من الآثار التي تدل على ما يلاقيه المتمسك بدينه في زمان كزماننا من عنت ومشقة، كما ورد ما يدل على عظم الأجر وجزالة المكافأة التي أعدها الله -تعالى- له.
لا يخفى علينا أننا في عالم يقدّس القوة على حساب الرحمة، ويحتفي بالمادي على حساب المعنوي، وينخرط في العاجل على حساب الآجل، وينظر إلى الطيبة على أنها نوع من السذاجة، وينظر إلى الحديث عن الأخلاق على أنه شيء ينزع إلى المثالية، والمتحدث عنها يستحق شيئًا من الإشفاق!. وفي عالم كهذا تكون الأحاديث حول الرجاء والخوف والمحاسبة والمناجاة والشوق إلى الله -تعالى- وتذكر الصراط والميزان والكوثر وشقاء جهنم... شيئاً يدل على العيش خارج العصر وبعيدًا عن دوائر الاهتمام. وهذا بالضبط ما يجعل مملكة الروح تبدو موحشة ومهجورة!.
إن المسلم في هذه الحياة يحتاج إلى أمور كثيرة، لعله يأتي في مقدمتها أمران: رؤية راشد مسددة للواقع بفرصه وإمكاناته وتحدياته... وطاقة تساعده على قطع طريق طويل مملوء بالصعاب والعقبات.
التفكير والتأمل والتثقف والحوار... أمور تساعد على تكوين الرؤى الجيدة. ويبقى علينا أن نتعلم كيف نحصل على مفتاح منجم الطاقة والقدرة المطلوبة.
إن الإيمان بالله -تعالى- حين يتجاوز وضعية القناعة العقلية ليصبح مصدرًا للشعور بمعية الله -تعالى- والأنس به والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بما عنده... فإنه يصبح آنذاك المولّد الأساسي لروح المقاومة وروح المبادرة وروح الاستمرار لدى الإنسان المسلم.
الإيمان حتى يكون كذلك فإنه يحتاج إلى شيء غير الفكر وغير الثقافة، إنه يحتاج إلى التعبد والتنفل والإكثار من ذكر الله -تعالى- ومناجاته... ولا ريب أن من يفعل هذا يكون في الأساس قد صار أداء الواجبات وترك المعاصي شيئًا مالوفًا في حياته وموضع التزام صارم.(34/33)
في هذا الإطار يقدم لنا شهر رمضان المبارك الذي نتفيأ ظلاله هذه الأيام الفرصة الذهبية لاستعادة شيء من أمجاد الروح السليبة. إن الصيام في حد ذاته هو إعلان من المسلم بأنه قادر لمدة شهر كامل أن يفتح قوسًا في سلسلة أنشطة تستهدف خدمة الجسد، وذلك من أجل إنعاش الروح. إن عالم ما بعد الحداثة يدفع بالناس للعيش في وسط مائع خال من القيود وغير محدود بحدود. ويأتي الصوم بحرفية توقيته من الفجر إلى المغرب ليمنح المسلم فرصة التأكيد على أن التدين الصحيح يوفر للمسلم ترياق المناعة ضد موجات التحديث التي تستهدف تفكيك المنظومة الفكرية والخلقية التي تساعدنا على أن نظل بشرًا أسوياء.
إن الاعتكاف قد بات بين السنن التي هجرها كثير من المسلمين مع أنه يوفر فرصة عظيمة لالتقاط الأنفاس اللاهثة خلف مكاسب مؤقتة، كما يوفر فرصة نادرة لإرواء أرواحنا الظامئة وتحريك عواطفنا الجامدة.
إن في إمكاننا أن نتخذ من رمضان مناسبة لمراجعة أحداث عام كامل ومن خلال تلك المراجعة فقد نتمكن من العودة إلى مملكة الروح ومغادرة عالم الوهم والسراب؛ فهل نحن فاعلون؟
=============(34/34)
(34/35)
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة
د. سامي سعيد حبيب
من مزايا شهر رمضان المبارك أعاده الله على الأمة بالخير والبركات والعزة والمنعة أنه معلم من معالم هوية هذه الأمة الربانية، ففيه أنزل القرآن إيذاناً بربط البشرية بخالقها من جديد بعد أن اجتالتها الشياطين عن الحنيفية السمحة، وفيه يتجلى البعد الروحي للعبادات في الإسلام كما لا يكون في سواه .
فبجانب الصيام الذي هو عبادة داخلية لا يعلم صدقها إلا الله ولا يجزي بها إلا الله وحده هدفها الأسمى تحقيق تقوى الله في النفوس تغص المساجد بالمصلين في رمضان، يؤدون الفرائض ، ويقومون الليل تطوعاً ، ويحافظ المسلمون على أورادهم القرآنية اليومية بشكل منتظم ، وتكثر الزكوات والتراحم بين المسلمين حتى لقد سماه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بشهر الزكاة.
كما يكثر المعتمرون لبيت الله الحرام أحد أعظم رموز الانتماء للربانية على وجه الأرض، حيث العمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ويعتكف الكثير من المسلمين و ينقطعون عن الدنيا في العشر الأواخر من رمضان.
كما وقعت في شهر رمضان العديد من المعارك التاريخية الحاسمة التي غيرت مجرى التاريخ ومصير البشرية وأكدت على هوية هذه الأمة وعلى رأسها معركة بدرٍ الكبرى تاج معارك الإسلام ومروراً بحطين وعين جالوت وغيرها الكثير، وانتهاءً بحرب العاشر من رمضان التي بددت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
غير أن رمضان هذا العام يعود على الأمة الإسلامية وهي كسيرة مهيضة الجناح جراحها غائرة تنزف في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من ديار الإسلام، والأعداء لا يكتفون بذلك بل لم ولن يرضيهم شيء أبداً ، كما حكى الله تعالى عنهم في محكم التنزيل دون رد المسلمين عن دينهم إن استطاعوا أو طمس ومسخ الهوية الإسلامية الربانية لهذه الأمة بدعاوى كاذبة ، فتارة بتغيير المناهج لأنها تعلم الكراهية وعدم قبول الآخر، وتارة أخرى بدعاوى تحرير المرأة وإنقاذها من الظلم، وثالثة بدعوى نشر الديموقراطية والحرية بين الشعوب المسلمة وإصلاح نظمها السياسية... الخ تلك الادعاءات التي يأبى الله إلا أن يفضحها ما بين الفينة والفينة حتى لمن يصرون على إحسان الظن باليهود والصليبيين كما يصرون على جلد الذات وكيل التهم الجزاف لأمتهم.
أحد التقارير التي تفضح تلك النوايا التي أصبحت علنية تقرير صادر في ثمانٍ وثمانين صفحة عن قسم أبحاث الأمن الوطني لمؤسسة ''راند'' للدراسات الإستراتيجية بالولايات المتحدة تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي) لمؤلفته ''شيرلي بينارد'' وهي متخصصة في مجال علم الاجتماع ولها مؤلفات تزعم فيها أن المرأة المسلمة مضطهدة ومغلوبة على أمرها في لبس الحجاب، وتزعم ''بينارد'' لنفسها صفة ''الخبيرة في الفقة الإسلامي، وهي متزوجة من رجل أفغاني الأصل يدعى ''خالي زاد'' يعمل حالياً مستشاراً لدى الرئيس الأمريكي جورج بوش كمستشار أمني خاص لمنطقة جنب غربي آسيا وإيران.
يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة من التقارير الاستراتيجية التي لم تزل تنشر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لتشكيل الاستراتيجية الأمريكية في حربها على العالم الإسلامي، وتتوالى دار ''راند'' هذه كبر الكثير من تلك الطروحات حيث تسربت الأنباء عن العرض الذي قدمه ''لورانت مورويك'' للبنتاغون الأمريكي في صيف عام 2002م متهماً فيه المملكة العربية السعودية بأنها (منبت الشر) ومردفاً بأن الاستراتيجية الإمبراطورية للولايات المتحدة بالشرق الأوسط يجب أن تكون تدريجية وأن تعتبر أن الحرب على العراق بمثابة خطوة تكتيكية، وعلى السعودية بمثابة خطوة استراتيجية، وعلى مصر بمثابة الجائزة العظمى.
تجاهر ''شيرلي بينارد'' من خلال ورقتها (الإسلام المدني الديمقراطي) بالهدف من وراء كتابة هذا المؤلف بألفاظ صريحة لا تحتمل التأويلات ، ألا وهو أطر المسلمين على انتهاج طريقة أو فهم جديد ''مسالم'' للإسلام أطراً ليكون ذلك المنهج مصمماً خصيصاً لتنفيذ الأجندة الغربية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر ، ولا تتورع أبداً على النص في رغبتها في تغيير الدين الإسلامي ذاته .
حيث كان من ضمن ما جاء في ورقتها المذكورة التالي :
(ليس بالأمر السهل تغيير احدى أكبر الديانات العالمية، فإذا كانت مهمة اعادة بناء الدول مهمة مضلعة فإن تغيير ''إعادة بناء الدين'' مهمة أكثر اضلاعاً وتعقيداً).
وتسم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين من خلال :
( إخفاقه في تحقيق الإزدهار وفقدان الصلة بالتوجهات العولمية).
كما يقوم هذا المؤلف بتصنيف المسلمين إلى أربع فئات عقدية حسب قربهم وتقبلهم للقيم والمفاهيم فثمة حسب تصنيفها:
1- الأصوليون: وهم أولئك الذين يرفضون القيم الديموقراطية والثقافة الغربية المعاصرة.
2- والتقليديون: وهم أصحاب المواقف المتشككة من التحديث والإبداع والتغيير.
3. الحداثيون: وهم أولئك الراغبون في انضمام العالم الإسلامي لركب الحداثة العالمي.
4- العلمانيون: وهم أولئك الراغبون في فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي.(34/36)
وتمضي الكاتبة في تفصيل تصنيفها المذكور إلى أن كلاً من العلمانيين والحداثيين هم الأقرب مشرباً من الغرب ، غير أنهم هم الفئات الأضعف في المجتمعات الإسلامية بسبب قلة التعداد والتمويل والبنية التحتية وتوفر المنصات السياسية التي يمكن لهم الانطلاق منها .
وتقترح تقوية هاتين الفئتين من الناس من خلال :
* تشجيعهم للكتابة لجمهور الأمة ،
* وتقديم الدعم المادي اللازم لنشر وإدخال مرئياتهم ضمن مناهج التعليم العام ،
* ومساعدتهم على الظهور الإعلامي الذي يهيمن عليه الأصوليون والتقليديون كما ترى.
ثم تمضي قدماً في تقديم النصائح و المقترحات المسمومة لنشر الفتنة بين شرائح المجتمعات المسلمة من خلال وضع الفتنة بين من تسميهم بالأصوليين والتقليديين ، وكيف أنه يجب على الولايات المتحدة تبني إذكاء الخلاف بين هاتين الفئتين من المسلمين، وتقترح العديد من الآليات لذلك من بينها كما ترى :
* تحدي فهم الأصوليين للإسلام و''فضح'' صلاتهم بالمجموعات والفعاليات غير المشروعة.
* كما تقترح في ذات الوقت تقوية التيارات الصوفية التي صنفتها ضمن مجموعتي العلمانيين والحداثيين لأنها كما تزعم تشكل توجهاً أقل فاعلية وأكثر تفهماً للآخر في الإسلام .
ويصر التقرير على مسخ حتى إنسانية المسلمين بعدم إعطائهم حق مقاومة المخططات الإمبريالية لدولهم وبلدانهم ، و لا ترى المؤلفة في الاحتجاجات والعنف من قبل المسلمين مقاومة لتلك الخطط بل ترى فيها التعبير عن الجهل والأمية المستغلة من قبل الأصولية ذات الثراء العريض!؟. وهم الذين يشكلون الخطر الكبير لأنهم يدعون إلى إسلام شرس وتوسعي لا يخشى العنف وأن تعريفهم للمسلمين لا يقتصر على دولة أو شعب أو عرقية واحدة بل يشمل كامل الأمة المسلمة .
وتخلص إلى استنتاجات غير منطقية البتة ، مبنية على وجهات نظر مسبقة ، يقودها الحقد الأعمى . ففي رأيها إنما يلجأ المسلمون للعنف أو لكراهية الآخر فإن ذلك بسبب كونهم ''رادكاليين'' ومضللين، بينما عندما يقوم الغرب الذي تدافع عنه بذات الأعمال التي يقوم بها المسلمون ، فهي إما أن تتجاهل تلك التعديات الغربية ، أو تجد لها المبررات الشافية من وجهة نظرها مما يجعل كل تحليلاتها تندرج تحت الميكافيلية القائلة بأن الغاية تبرر الوسيلة من خلال الدعوة إلى نسخة معدلة و مهندسة وراثياً من الإسلام تتيح للغرب الهيمنة على الإسلام وأهله.
تلك هي بعض كتاباتهم وتنظيراتهم التي توفر رافداً من روافد تشكيل السياسات وصياغة الاستراتيجيات وصناعة القرار في البيت الأبيض وغيره من أماكن الكراهية الموجهة ضد الإسلام كدين والمسلمين كأمة ، ويكفى أن مجرد كلمة أمة تعتبر عندهم ضرباً من ضروب الإرهاب .
لنجعل من رمضاننا هذا وما بعده من أيام ومناسبات مناسبة للتأكيد على التمسك بهويتنا الإيمانية الربانية الإسلامية لا نساوم عليها ولا نتنازل عنها مهما بلغت بالقوم الأحقاد .
{ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }.
وكل عام وأمة الإسلام بألف خير وعافية وعزة ومنعة.
(*) رئيس الجمعية السعودية لعلوم الطيران و الفضاء
المصدر : جريد المدينة
==============(34/37)
(34/38)
لو أن العقلاء من تكلموا ؟!
محمد جلال القصاص
منذ ظهر الشرك في بني آدم ـ في عهد نوح عليه السلام ـ والحق والباطل يعتركان ، والأيام دول .. جولة للحق وجولة للباطل ، والطيور تطير بأرزاقها ، فَمُجِدٌ رابح ومُجدٌّ خاسر ( كل الناس يغدوا فبائع لنفسه فمُعْتِقُها أو موبقها ) . وجاءت رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة في هذا الصراع ، وما انتهى القرن الأول الهجري إلا والمسلمون على أبواب باريس غربا وحول أسوار القسطنطينية شرقا ....وانحسر الكفر وكاد يقضى عليه . فَفَترت الهمم وركن الناس إلى الدنيا ، وتخلوا عن أسباب النصر المادية والمعنوية ، وعلى الجانب الآخر ، استمسك الباطل بباطله ووحد الشيطان جنده ، ورفعت راية الصليب ، فكانت الحملات الصليبية على أرض الإسلام ، وظلت قرابة قرنين من الزمان . انهزم بعدها الصليب وعاد أدراجه إلى بلاده .
عادوا يتساءلون كيف انهزموا ؟ ... كيف أخرجوا من هذه الديار ؟! وكيف السبيل إلى العودة إليها ؟!
وانتهوا إلى أنهم حين رفعوا الصليب أشعلوا جذوة الإيمان في قلوب المسلمين . وقالوا لا يُأْتى هؤلاء القومُ من قبل دينهم .. انظروا راية أخرى تقاتلونهم تحتها .
ومضت سنون طويلة ، عادت جيوش الكفر بعدها بذات القلوب الحاقدة ، وذات الثارات القديمة ولكنها لا تحمل الصليب . وكانت أول حملة قدمت أرض الإسلام بعد الحملات الصليبية هي حملة نابليون بونابرت ... جاء إلى مصر ، وأصدر منشورا يخاطب فيه شعب مصر كَتب في أعلاه : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وزعم أنه جاء مرسولا من قبل الخليفة العثماني ... خليفة المسلمين آنذاك .وأنه يحب الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم . ثم ادعى الإسلام وسمى نفسه الشيخ محمد ـ وقد لا تصدقني ولكنها حقيقة في بطون الكتب واقرأ تاريخ مصر للجابرتي ـ ، وسمح لأهل التصوف بممارسة بدعهم الموسمية المسماه بـ ( الموالد ) . وترأس هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف ... وأخذ الخبيث يهدم في الإسلام ، فاصدر فرمانات ( وهي القوانين بلغة عصرنا الحالي ) تضاد الشريعة الإسلامية، وأجبر الناس على اتباعها . وسمح لنسائه العاريات المائلات المميلات بالمشي في الشوارع ، كي يفتتن أصحاب القلوب المريضة ، وتشيع الفاحشة في اللذين آمنوا ، ونقب عن الفراعنة وضخَّمَ في أمرهم ، يريد الخبيث أن يُشعل نعرة القومية ويفتخر الناس بآبائهم وأجدادهم ويضيع الفخر بالإسلام ... وقد كان .
. وحين كُشف أمره ، ووقف على حاله وبانت طويته الخبيثة خلع النقاب عن وجهه ، فدنس المقدسات الإسلامية ، إذ أنه دخل الأزهر بالخيول واحرق الكتب .. وبال وغاط ..وأعمل سيفه في عوام الناس .
ومما يذكر أن نابليون وهو على فراش الموت قال : أردت أن أهدم إمبراطورية محمد ـ يعني رسول ا صلى الله عليه وسلم ـ ولكنني لم أستطع ، واعترف أن محمد اعظم شخصية في التاريخ .
وكانت السنون قد تطاولت على هذه الأمة وبعدت عن مصدري عزتها ( الكتاب والسنة ) ، ونسيت حظا مما ذكرت به ، بل نسيت جُلَّ ما ذكرت به . فانبهرت بالفرنسيس وذهبت ورائهم تقلدهم وتقتفي أثرهم ، فكانت البعثات العلمية إلى فرنسا ... ذهبت فئة من هذه الأمة إليهم وشربت من مائهم الكدر الآسن ، وعادت إلينا تريد سقيانا مما ارتوت به . ومن هنا كانت البداية ... بداية الحداثة والتغريب .
عادت هذه الطليعة تعالج أمةً مريضةً موحلةً في طين الإرجاء ، موغلةً في ظلمات الجهل والبعد عن شرع الله . فبدَلَ أن يأتوها بالنور المبين ، وتنشط الهمم للتنقيب عن آثار السلف الصالحين من الصحابة والتابعين . أخذوا بأيديها من ظلمة الجهل البسيط إلى ظلمات الجهل المركب ، لتنقاد إلى طاغوت العلم الحديث بدعوى التقدم والرقي والنهوض كمن نهضوا .
وكلها دعاوى كاذبة فقد مضى مائة وخمسون عاما أو يزيد وما زلنا في زيل القافلة لم ندرك شيئا . ولكن أين من يعقل ؟
وحلّت الأمة في مستنقع الغرب الآسن تحسبه المرتع الذكي ، وسارت في ظلمات الحضارة الغربية تحسبها النور الوضيئ .يحدو الركب نصارى الشام والمنهزمين من أبناء الأمة ، وخلف الركب جند (الاستعمار) يزجره إن تباطأ أو تململ .
مكمن الداء
ومكمن الداء في الإرجاء . نعم ... في الإرجاء . إذ أن جرثومة الإرجاء عملت عملها في عقيدة الأمة ، فأخرجت العمل من مسمى الإيمان ليكون شرط كمال لا شرط صحة واقتضاء ، فانحسر الإيمان في ذهن العوام إلى نطق بالشهادتين ، وإقرار باللسان ، وانتساب في الجملة إلى الإسلام . واحتضر الولاء واحتضر البراء .وبدأ المخاض تحت ظل شجرة ( الاستعمار ) لينذر عن ميلاد فصيل جديد هو فصيل الوطنية .
ولولاه ـ أعني الإرجاء ـ ما انبهر بهم الشعب ولا من ذهبوا مبعوثين عن الشعب . لولاه ما ذهبت النخبة من أبناء الأمة بل من طلبة العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، إلى هذه البلدان الكافرة تتلمذ على يد أبنائها ، وتثني عليهم ، وتريد منا تقليدهم والسير في ركابهم .(34/39)
لولا الخلل العقدي الذي أحدثته جرثومة الإرجاء في المفاهيم الإسلامية ، والتصورات العقدية عند هذه النخبة ، لوقفوا في ديارهم حين رأوا حالهم يقولون لهم : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ." قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " "
ولعادوا إلينا يقولون لنا : إنهم أهل دياسة ، لا يغار الرجل على عرضه ، وأهل كفر لا يتحاكمون إلى شرع الله ...ولكن شيئا من هذا لم يحدث . بل أشربت قلوبهم الفسق بضلالهم وبُعدهم عن منهج الله الصحيح ، فعادوا يريدون من الأمة أن تسير في ركاب الضالين ... وان تقتفي أثر باريس وبرلين ، وأن تحمل على أعناقها الفسقة والمجرمين .
هكذا خاطبوا الأمة
استحضروا للأمة صورة أوروبا التي ارتقت وتحضرت ـ بزعمهم ـ وركبت البحر والجو ومشت في بطن الأرض وارتقت السماء حين تخلصت من سلطان الدين وجعلته في الكنائس والمعابد بعيداً عن الحياة ... وقالوا للامة : إن شئت التقدمَ فلا بد أن نحذوا حذوا القوم ... فننزع غلّ الدين عن أعناقنا كما فعلت أوروبا ، وان نحرر المرأة كما فعلت أوروبا ، وأن نعتنق الديمقراطية كما فعلت أوروبا .. إننا تخلفنا حين حكمنا بسلطان الدين ، وكذا كانت أوروبا ... وإننا تخلفنا لأننا نعطل نصف المجتمع ـ يعنون المرأة ـ ، وكذا كانت أوروبا . وتم الربط ـ ظلما وعدوانا ـ بين تحسين أوضاع الناس ماديا وبين التخلي عن الدين في التعامل والتحاكم .
وقد جاءوا ظلما وزورا .فالحال غير الحال .
أوروبا كان يحكمها دين منحرف أعاق كل جهد بناء ، فقد قتل العلماء باسم الدين ، وجمع الأموال باسم الدين ، واستعبد الناس باسم الدين . وأوروبا قبل أن يأتيها دين بولس ـ المسيحية المحرفة اليوم ـ يوم كانت مشركة بربها تعبد الأصنام من دون الله كان عندها شيء من الرقي والتمدن وسعة في الرزق ، ثم حين اجتاح البربر ( القوط والنورمانديون ) أوروبا واعتنقوا دين ( بولس ) إنْغَطَّتْ أوروبا في ظلمات الجهل ، والتخلف المدني ، وحين تخلصت من هذا الدين المنحرف الذي لا يقاس عليه تقدمت ، فارتبط في عقل الأوربيين أن الدين والتخلف قرينان لا يفترقان ... وهذا تفسير لا تبرير .
أما عندنا فلم يكن الحال هو الحال .. (( كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأت الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف )) ، فجاء الإسلام فذكى النفوس ، وألف بين القلوب وأخرج للناس أمة هي خير أمة ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . وانتشر العدل والأمان بين الناس ... وصار بأيدينا كل شيء ، ثم حين غيرنا غيَّر الله علينا ." وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا كثير " ، " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم "
فكان الطريق الصحيح هو أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم لنتقدم ونرتقي ماديا ومعنويا وسياسيا وعسكريا كما تقدموا رضوان الله عليهم . نُرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة ، والقرآن بين أيدينا يرشدنا " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
وندعوا أوروبا وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها ، أن تنبذه وراء ظهرها ، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر ، ونقول لهم ما امرنا الله بتبليغه " يا أهل الكتاب قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " " ... تعالوا إلى كلمات سواء بيننا وبينكم ، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا ....."
ولكن برز فريق من الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم ، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم فانزل الله رجسا على هذه الأمة . فلو أن العقلاء هم من تكلموا لقالوا : نعود إلى ما كان عليه سلفنا وندعوا أوروبا . ولكن هذا ما حدث . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
==============(34/40)
(34/41)
السريالية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
= السريالية "أي ما فوق الواقعية أو ما بعد الواقع" هي مذهب(*) أدبي فني فكري، أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع أو بعده واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وهي تسعى إلى إدخال علاقات جديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية. وهذه المضامين تستمد من الأحلام؛ سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، ومن هواجس عالم الوعي واللاوعي على السواء، بحيث تتجسد هذه الأحلام والخواطر والهواجس المجردة في أعمال أدبية. وهكذا تعتبر السريالية اتجاهاً يهدف إلى أبراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف.
يعتبر مسرح العبث الابن الشرعي للسريالية.
التأسيس وأبرز الشخصيات :
= في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أصابت الإنسان الأوروبي صدمة هزت النفوس وبلبلت الأفهام، نتيجة للدمار الكامل وإزهاق الأرواح بلا حساب، فنشأت نزعة جارفة للتحلل من القيم الأخلاقية(*)، وتحرير الغرائز والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، وامتدت هذه النزعة إلى الفن والأدب مما أدى إلى ظهور المذهب المعروف بالسريالية في فرنسا سنة 1924م التي بدأت بالسريالية النفسية، ثم دخلت السريالية مجالات الأدب والاجتماع والاقتصاد(*) والفن، ومن أبرز الشخصيات السريالية:
- أندريه بريتون 1896 - 1966م وهو عالم نفس وشاعر فرنسي يعده النقاد مؤسس السريالية.
- ثورنتون وأيلور وهو كاتب مسرحي، ألف مسرحية جلد الإنسان بين الأسنان سنة 1942م، وهي مسرحية تجنح إلى الخيال والعنف الناتج عن اللاشعور عند شخصيات المسرحية.
- سلفادور دالي ولد سنة 1904م وهو رسام أسباني، ويعد من أبرز دعاة السريالية، وقد أضاف إليها إضافات كثيرة أبرزها أسلوبه الذي تميز به الذي دعاه "النقد المبني على الهلوسة" وكان يؤكد دائماً أنه أقرب إلى الجنون منه إلى الماشي نوماً، والمعرفة عنده تقوم على التداعي والتأويل.
الأفكار والمعتقدات:
= يمكن إجمال أفكار ومعتقدات السريالية فيما يلي:
- الاعتماد الكلي على الأمور غير الواقعية: مثل الأحلام والأخيلة.
- الكتابة التلقائية الصادرة عن اللاوعي، والبعيدة عن رقابة العقل، بدعوى أن الكلمات في اللاوعي لا تمارس دور الشرطي في رقابته على الأفكار، ولهذا تنطلق هذه الأفكار نشيطة جديدة.
- إهمال المعتقدات والأديان(*) والقيم الأخلاقية(*) السائدة في المجتمع.
- التركيز على الجانب السياسي والبحث عن برنامج وضعي (مادي ومحسوس) يصلح لتطوير المفاهيم الاجتماعية، لذلك تودد السرياليون للحزب الشيوعي، وبذلوا جهدواً كبيرة من أجل توسيع مجال تطبيق المادية الجدلية الماركسية(*).
- الثورة لتغيير حياة الناس، وتشكيل مجتمع ثوري بدلاً من المجتمع القائم، وشملت الثورة ثورة على اللغة التقليدية، وإحداث لغة جديدة.
- تزيت السريالية بأزياء مختلفة، فتارة تظهر كمجموعة من السحرة، وتارة تبدو كعصابة من قطاع الطرق، وتظهر تارة أخرى كأعضاء في خلية ثورية فهي حركة سرية هدفها تقويض الوضع الراهن.
- ويعد الغموض في التعبير الأدبي أو الفني في مجال الرسم، هدفاً ثابتاً للسرياليين.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= تأثرت السريالية بآراء فرويد عالم النفس اليهودي في تحليله للنفس الإنسانية وخاصة تلك التي تتحدث عن اللاشعور والأحلام، والكبت ودعوته إلى تحرير الغرائز الإنسانية والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، وإشباع الغرائز والرغبات إشباعاً حراً حتى لا تصاب بالأمراض النفسية كما يدَّعي. وهذه الآراء تتلاءم مع دعوتهم إلى التحلل الأخلاقي في المجتمع البشري.
= وكذلك تأثرت السريالية بالفكر الماركسي الشيوعي ودعوته إلى الثورة(*) لتغيير المجتمع، واستخدام العنف في سبيل ذلك.. وبظهور المزاج الثوري حلت الفوضى السياسية والصراع الكامل محل النظام والانسجام.
= وقد تأثرت السريالية أيضاً بحركة سبقتها تُدعى الدادية التي ولدت في زيورخ بسويسرا سنة 1916م. وهي حركة فوضوية تكفر بالقيم السائدة والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية وتدعو إلى العودة إلى البداية. ورائد هذه الحركة هو ترستان تزارا الذي يصفه كاتب أوروبي بأنه "المروِّج للفوضوية الفنية والاجتماعية".
ولذا عد النقاد أن السريالية وريثة هذه الحركة الدادية في أفكارها وتوجهاتها وأسلوبها.
= بداية السريالية ونهايتها:
- بدأت السريالية بمجال النفس البشرية، ثم دخلت مجالات الأدب والفكر والسياسة والاجتماع والفن، ثم اقتحمت بشذوذها الثوري مجال العقيدة الدينية والتقاليد الاجتماعية واللغة، وأثارت جدالاً عنيفاً بين أقصى الكاثوليكية في الغرب وأقصى الشيوعية في الشرق.(34/42)
- وأخذت السريالية في الانكماش والتقوقع بعد ربع قرن من نشوئها، وشعر دعاتها بعجزهم عن تحقيق أي هدف، وبعقم ثورتهم ضد القيم والمعتقدات الدينية، وإخفاقهم في إيجاد مسيحية(*) جديدة، تخلص الإنسان من عذابه وضياعه - حسب زعمهم - وتحول عددٌ منهم بعد الحرب العالمية الثانية إلى الشيوعية والإلحاد، وجُنَّ بعضهم وأدخل المصحات العقلية والنفسية، وتحول البعض الآخر إلى العبثية في الأدب المعبر عن انعدام المعنى العام وراء السلوك الإنساني في العالم المعاصر.
- أما أفكارها ومبادئها فقد تبناها مذهب الحداثة الأدبي الفكري حيث صبت جميع جداول السريالية في مستنقعه الكبير.
وهكذا انتهت السريالية، المعبرة عن فقدان الإنسان الغربي العقيدة الصحيحة، واعتماده على ضلالات فرويد النفسية في اللاشعور والأحلام. هذه الضلالات التي أدت إلى التحلل الأخلاقي وإطلاق الغرائز من عقالها، مما أودى بها بعد ربع قرن من نشوئها.
ويتضح مما سبق:
أن السريالية مذهب(*) أدبي فني فكري غير ملتزم بالأديان(*)، يهدف إلى التحلل من واقع الحياة الواعية، والرنو إلى واقع آخر هو واقع اللاوعي أو اللاشعور المكبوت في النفس البشرية، بحيث يتم تسجيل هذا الواقع في الأدب والفن، من خلال الاعتماد الكلي على الأمور غير الواقعية والكتابة التلقائية الصادرة عن اللاوعي، وإهمال الأديان والمعتقدات والقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، والتركيز على الجانب السياسي وإذكاء الثورة(*) لتغيير حياة الناس وتشكيل مجتمع ثوري بدلاً من المجتمع القائم، وتقويض الوضع القائم في المجتمع. وكل تلك الخصائص والغايات تبرر مدى خطورة مثل هذا المذهب الأدبي على القيم الدينية.
-----------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا. نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض 1405هـ.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر، دار الشعاع، الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب - مكتبة مصر - القاهرة.
- الأدب ومذاهبه، د. محمد مندور.
- السريالية، إيف دوبليس (سلسلة زدني علماً).
- الأدب الرمزي، هنري بير.
المراجع الأجنبية:
- B r aunschvig: Not r e litte r atu r e Etudiee dans le texte. Pa r is 1949.
- Lanson: Histoi r e de la litte r atu r e F r ancaise Pa r is 1961.
- Segu r (Nicola): Histoi r e de la litte r atu r e Eu r opeene 1959.
============(34/43)
(34/44)
لماذا تُمنعُ كُتبُ القصيبي والحمد وغيرهما ؟! ...
سِرٌ بل أسْرارٌ تكشف
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
إن من الأمورِ المقررةِ عند صغارِ طلبةِ العلمِ فضلا عن كبارهم أن من مقاصدِ الشريعةِ المهمةِ حفظَ الضرورياتِ الخمسِ والتي منها حفظُ الدينِ والعقلِ ، ومثلُ هذه الأمور لا يلقي لها أصحابُ الشهواتِ والشبهاتِ بالاً ، ولا يضعون لها اعتباراً ، وحفظُ الدينِ من أهم المقاصدِ بل هو لب المقاصدِ كلها وروحها ، والدين الذي ارتضاهُ اللهُ لعبادهِ هو الإسلام ، قال تعالى : " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [ آل عمران : 85 ] ، وقال تعالى : " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ " [ آل عمران : 19 ] ، والمحافظةُ على الدينِ يكون من جانبين : من جانب وجوده ، ومن جانب عدمه .
فمن جانب عدمه يكون بعدم تركهِ للأقوالِ الباطلة ، والمعتقداتِ الفاسدةِ ، والأفكارِ المنحرفةِ ، والمذاهبِ الهدامةِ التي تتسربُ إلى عقولِ الناسِ من غير إنكارٍ وردٍّ لها ، ومن نعم اللهِ على هذا الدين أن قيض له حراساً يحمونهُ من تحريفِ الغالين ، وانتحالِ المبطلين ، وتأويلِ الجاهلين وهؤلاء هم العلماءُ ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " الفتاوى " (28/187) : " فالمرصدون للعلمِ عليهم للأمةِ حفظُ الدين وتبليغه فإذا لم يبلغوهم علم الدين ، أو ضيعوا حفظهُ كان ذلك من أعظمِ الظلمِ للمسلمين " .ا.هـ.
والحكامُ أيضاً ممن يحفظون الدين بل عده بعض العلماءِ من أولوياتِ الواجباتِ على الحاكمِ المسلمِ قال الماوردي في " الأحكامِ السلطانيةِ " ( ص 15 ) : " والذي يلزمه - يعني الحاكم - من الأمورِ العامةِ عشرة : أحدها : حفظُ الدين على أصولهِ المستقرةِ ، وما أجمع عليه سلفُ الأمةِ ، فإن نجم مبتدعٌ ، أو زاغ ذو شبهةٍ عنه ، أوضح له الحجة وبين له الصواب ، وأخذ بما يلزمهُ من الحقوقِ والحدود ليكون الدين محروساً من خللٍ ، والأمةُ ممنوعةً من زللٍ " .ا.هـ.
ومن المقاصدِ العظيمةِ أيضاً حفظ العقلِ وحفظه يكونُ عن المفسداتِ الحسيةِ والمعنويةِ ، والأصل في حفظ العقلِ من المفسداتِ المعنويةِ غضبُ صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحيفة من التوراةِ في يد عمر فقال صلى الله عليه وسلم له ، ونص الحديثِ :
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَغَضِبَ فَقَالَ : " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؛ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؛ لَوْ أَنَّ مُوسَى r كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي " .
رواهُ أحمدُ (3/387) وغيرهُ ، وطرقُ الحديثِ لا تخلو من مقالٍ .
وقد ورد عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه ما يشبه حديث جابر الآنف في المنعِ من سؤالِ أهلِ الكتابِ فكيف بالنظرِ في كتبهم ؟
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ؛ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ ، وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ r أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا : " هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً " ، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ " . رواه البخاري (2685) .
بعد هذه المقدمةِ نأتي على دعوى أصحابِ القلوبِ المريضةِ ، والذين وجدوا فرصةً في معرض الكتابِ المقام في الرياض والندواتِ المصاحبةِ له سوقاً رائجاً لنشر أفكارهم المنحرفة في بلادٍ هي قبلةُ العالمِ ، وقدوةُ العالمين ، وقد جاءت ندوة " الرقابة الإعلامية ومتغيراتِ العصر " متنفساً لهؤلاء ، والتي يرادُ منها نشرُ فكرةِ رفع الرقابة عن كتبِ الكفرِ والزندقة والإلحاد بدعوى أنه لا جدوى من ذلك ، فإن وسائل وطرق وصولها إلى الناسِ متاحٌ بطرق أخرى ، وبناءً عليه ففتح البابِ على مصرعيهِ وذلك برفعِ الرقابةِ عنها هو طريق حضاري وعصري منفتح ... سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ .
وللردِّ عليهم نقفُ مع النقاطِ التاليةِ :
• النقطةُ الأولى :(34/45)
لا شك ولا ريب أن بلادنا مستهدفةٌ من عدو خارجي لا يريدُ له البقاء على عقيدتهِ وتمسكهِ ، وعندما جربوا وعرفوا أنه لا مجال لذلك بثوا في مجتمعهِ من يقوم بتلك المهمةِ ، فجندوا من يبثُ فيها أفكاراً مخالفةً لما قامت عليه البلادُ ، وآراءً تتصادمُ مع ثوابتِ الدينِ ، وذلك عن طريقِ السيطرة على المنابرِ الإعلاميةِ عموماً لكي يجروا البلاد إلى المستنقعِ التغريبي ، وهذا أمرٌ لا ينكرهُ إلا جاهلٌ أو مكابرٌ ، وهذه البلادُ - وللهِ الحمدُ والمنة - تميزت بالعلماءِ العاملين وطلابِ العلمِ الغيورين الذين يحرصون على دفعِ الباطلِ بالحقِّ ، وفضحِ خططِ الأعداءِ الذين يريدون كيداً بهذهِ البلادِ وأهلها .
• النقطةُ الثانيةُ :
حذر أهلُ العلمِ في كتبهم عن خطرِ الكتبِ التي تؤثر في العقائدِ والسلوكِ ، وطريقةِ التعاملِ معها من منظورٍ شرعيٍّ ، ولعلي أقف مع بعضِ كلامهم ليعرف المسلمُ المريدُ للحقّ أن أهلَ الشهواتِ والشبهاتِ من قديمٍ وهم يحاولون إفسادَ عقائدِ الناسِ وأخلاقهم وسلوكهم ، وليست القضيةُ جديدةً .
• النقطةُ الثالثةُ :
ذهب أهلُ العلمِ إلى حرق وإتلافِ وإعدامِ الكتبِ التي تؤثرُ في عقائدِ الناسِ وأخلاقهم وأفكارهم ، ففي قصةِ الثلاثةِ الذين خُلفوا - أي تأخرت توبتهم - عندما أراد رسولُ اللهِ r الخروجَ للغزو قال كعبُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنه بعد أن وردت إليه رسالة من ملك غسان : " فتيممتُ بها التنور فسجرتها " ، علق الإمامُ ابنُ القيم - رحمهُ اللهُ - في " زادِ المعادِ " (3/581) على هذه العبارةِ فقال : " فيه المبادرةُ إلى إتلافِ ما يُخشى منهُ الفسادُ والمضرَّةُ في الدينِ ، وأن الحازم لا ينتظرُ به ولا يُؤخرهُ ، وهذا كالعصيرِ إذا تخمر ، وكالكتابِ الذي يخشى منه الضرر والشرُّ ، فالحزمُ المبادرةُ إلى إتلافهِ وإعدامهِ " .ا.هـ.
وقال أيضاً في " الطرقِ الحكميةِ " ( ص 325 ) : " والمقصودُ أن هذه الكتبُ المشتملةُ على الكذبِ والبدعةِ يجب إتلافها وإعدامها ، وهي أولى بذلك مِنْ إتلافِ آلات اللهو والمعازفِ ، وإتلافِ آنيةِ الخمرِ ، فإن ضررها أعظمُ من ضرر هذه ، ولا ضمان فيها ، كما لا ضمان في كسر كسر أواني الخمرِ وشق زقاقها " .ا.هـ.
وقال الشوكاني في " الصوارم الحداد " ( ص 68 ) : " حكم ُ هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائدِ المضلةِ وما يوجدُ من نسخها بأيدي الناسِ مثل " الفصوص " ، و" الفتوحات " لابن عربي ، و" البد " لابن سبعين ، و" خلع النعلين " لابن قسي ، و" على اليقين " لابن برخان ، وما أجد الكثير من شعرِ ابنِ الفارض والعفيف التلمساني وأمثالهما أن يلحق بهذه الكتب ، وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدةِ التائيةِ من نظم ابنِ الفارض ، فالحكم في هذه الكتبِ كلها وأمثالها إذهابُ أعيانها متى وجدت بالحريقِ بالنارِ والغسلِ بالماءِ ... " .ا.هـ.
فهذا في كتبِ البدعِ فكيف لو رأى الإمامُ ابنِ القيمِ والشوكاني الكتبَ المعاصرةَ مثل كتب الحداثة التي تنالُ من الذاتِ الإلهيةِ ومن رسل الله وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم وكتب المجون والخنا التي تصف الأجساد وصفاً دقيقاً وغير ذلك من الكتبِ ؟ ثم يسمونها بغيرِ اسمها " حرية فكر " ، وحقيقتها أمرها " حرية كفر " .
• النقطةُ الرابعةُ :
من دقةِ فقهِ علماءِ الأمةِ وبعد نظرهم أنهم سدوا جميعَ الأبوابِ لنشرِ الكتبِ التي تؤثر على معتقداتِ الناس وأفكارهم وأخلاقهم فحرموا حتى المتاجرة بالكتب المنحرفة في العقيدة بل حتى نسخها وكتابتها ، وبلغةِ العصر صفها على جهاز الكمبيوتر .
ذكر ابنُ عبدِ البرِ في " جامعِ بيانِ العلم " (2/117) : بسندهِ إلى ابن خويزمنداد قال في كتابِ " الإجارات " من كتابهِ الخلاف : " قال مالك : لا تجوزُ الإجاراتُ في شيءٍ من كتبِ الأهواءِ والبدعِ والتنجيم ، وذكر كتباً ، ثم قال : " وكتب أهل الأهواءِ والبدعِ عند أصحابنا هي كتبُ أصحابِ الكلامِ من المعتزلةِ وغيرهم ، وتفسخُ الإجارةُ في ذلك ، قال : وكذلك كتاب القضاءِ بالنجومِ وعزائم الجن وما أشه ذلك " .ا.هـ.
وقال ابن السبكي في " مُعيد النعم " ( ص 131 ) عن نساخ الكتب : " ومن حقهِ أن لا يكتبَ المضلة ، ككتبِ أهلِ البدعِ والأهواءِ ، وكذلك لا يكتب الكتب التي لا ينفعُ الله تعالى بها كـ " سيرةِ عنترة " وغيرها من الموضوعات المختلفةِ التي تضيعُ الزمان ، وليس للدين بها حاجةٌ ، وكذلك كتبُ أهلِ المجونِ ، وما وضعوهُ من أصنافِ الجماعِ ، وصفاتِ الخمور ، وغير ذلك مما يهيجُ المحرمات ، فنحن نحذرُ النساخَ منها ، فإن الدنيا تغرهم ، وغالباً مُستكِتبُ هذه الأشياء يعطى من الأجرةِ أكثر مما يعطيهِ مستكتب كتب العلمِ ، فينبغي للناسخِ أن لا يبيعَ دينه بدنياهُ " .ا.هـ.
رحم اللهُ أولئك العلماءُ كيف لو رأوا كتبَ العصور التي نعيشُ فيها ؟ فالخلاصة أنه يحرمُ التجارةُ بأمثالِ الكتبِ التي أشير إليها في فتاوى العلماء بيعاً وشراءً وطباعةً ، بل الحرمةُ أشد في كتبِ السخريةِ بالدين وبالله وبرسوله وبالمجون والدعارة .
• النقطةُ الخامسةُ :(34/46)
من شدةِ حرصهم وخوفهم على مطالعةِ الكتبِ المنحرفةِ أنهم جعلوا تمزيقها وحرقها واقعاً عملياً في حياتهم ليقتدي بهم العوامُ ، ويسقطوا كلّ اعتبارٍ لتلك الكتب .
أورد الملكُ المؤيدُ إسماعيلُ أبو الفداء في " أخبارِ البشرِ " (4/79) فقال : " لما دخلت سنةُ سبع مئة وأربع وأربعين ، وفيها مزقنا كتابَ " فصوص الحكم " بالمدرسةِ العصفوريةِ بحلب ، عقب الدرس وغسلناه ، وهو من تصانيفِ محيى الدين ابنِ عربي ، تنبيهاً على حرمةِ قنيتهِ ومطالعتهِ ، وقلتُ فيه :
هذه فصوصٌ لم تكن * * * بنفيسةٍ في نفسها
أنا قد قرأتُ نقوشها * * * فثوابها في عكسها
• النقطةُ السادسةُ :
ورد عن عثمانَ بنِ عفانَ رضي اللهُ عنه أنه قال : إن اللهَ ليزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقران " ، قوةُ السلطانِ لها دورٌ كبيرٌ في منعِ كتبِ الانحرافِ والضلالِ والتغريبِ للأمةِ ، والمسؤوليةُ عليهم عظيمة في حفظِ دين الأمةِ ، وهذا من ضمن الضرورياتِ الخمس التي ينبغي على السلطانِ أن يحفظها ، ويسد الذريعةَ الموصلةَ لإنحراف عقيدتها ، ويكون عن طريقِ مراقبةِ تلك الكتبِ ، ومنع طباعتها في البلادِ ، ودخولها إليها ، ووضع أناسٍ يتولون العمل في ذلك ، وقد كان من بعضِ السلاطين أن منع نشر كتب الضلالِ والزيغِ في الأمةِ ، قال الإمامُ ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ والنهايةِ (11/69) في حوادثِ سنة ( 279 هـ ) : " وفيها نودي بأن لا تُباعَ كتبُ الكلامِ والفلسفةِ والجدلِ بين الناسِ ، وذلك بهمةِ أبي العباسِ المعتضدِ سلطان الإسلام " .ا.هـ.
• النقطةُ السابعةُ :
يحتجُ بعضُ أصحابِ الشهواتِ والشبهاتِ المنادين برفعِ الرقابةِ عن الكتبِ بأن هذه الرقابة غير مجدية في زمن العولمةِ والنت وأن التحصين الذاتي هو أحسن الحلولِ لذلك ، فإذا لم يدخل الكتابُ عن طريقِ الجماركِ أو نقطةِ التفتيشِ على الحدودِ أو على قسم الرقابةِ في وزارةِ الإعلامِ ، سيجده الناسُ على الشبكةِ بأسهلِ الطرق .
سبحان الله ! منطقٌ عجيب وتبريرٌ سقيمٌ يدل على مدى العقول التي يفكرون بها ، إذا وبحسب كلامكم نسمح بدخولِ المخدراتِ ، وقوارير الخمر ، والأسلحة وغير ذلك من المفسدات لأن الناس إذا ما استخدموها هنا سيسافرون لأجلها في البلادِ المجاورةِ أو البعيدةِ ، فلا داعي لمصلحةِ الجمارك ، ولا الشرطة ، ولا غيرها من الدوائرِ الحكوميةِ ذاتِ العلاقةِ ، ولا أدري ماذا يريدون هؤلاء من بلادنا ؟ هل يردون تغريبها بالقوةِ ؟
نسألُ الله أن يحفظ بلادنا من كيدِ أهل التغريبِ ، والمنافقين .
• كتبهُ
• عبد الله زقيل
4 صفر 1427 هـ
===========(34/47)
(34/48)
إدارة الثقافة
أ.د. عبدالكريم بكار
لو عدنا إلى أدبيّاتنا عبر القرون الماضية لوجدنا أن معظم تنظيرنا للشؤون الثقافية كان ينصبّ عليها بوصفها علوماً واختصاصات معرفيّة منظمة.
وربما سادت تلك النظرة بسبب قلة ما في أيدينا من المعارف والمعطيات المتعلقة بالإنسان باعتباره كائناً متعدّد الجوانب ومتعدّد الاحتياجات.
أما اليوم فإن المفهوم (الأنثروبولوجي) للثقافة آخذ في الانتشار والرسولخ؛ حيث إن هناك اعتقاداً متزايداً بمحدوديّة تأثير (العلم المجرّد) في صياغة السلوك الإنساني، وفي توجيه حركة الحياة اليومية. الثقافة كما بلورها علماء الإنسان هي ذلك النسيج المكون من العقائد والمفاهيم والنظم والعادات والتقاليد وطُرُز الحياة السائدة في بقعة محدّدة من الأرض. إنها طريقة عيش شعب بعينه، أو هي ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، وكثير من مكونات الثقافة يستعصي على التخطيط والتنظيم؛ لأنها تشكل الخلفيّة (اللاواعية) لكل تخطيط وتنظيم. إن تنوع العناصر المكونة للثقافة يمنحها قوة هائلة في مواجهة الوافدات الأجنبيّة، وما يمكن أن تتعرض لها من ضغوطات داخليّة. إنه حين يتعرض أحد أنساق الثقافة للهجوم أو الهون، فإنها تعتمد في استمرارها واستعادة حيويّتها على باقي أنساقها، لكن نقطة قوة الثقافة هذه هي أيضاً نقطة ضعفها؛ حيث يعرّضها تنوّع مكوّناتها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الانقسام على الذات بسبب التصادم بين بعض أنساقها؛ وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى ما سميناه (إدارة الثقافة).
أودّ هنا أن أدلي بالملاحظتين الآتيتين في هذه القضية:
1- في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة أو ثقافة نخبة وثقافة جماهيريّة. الثقافة العليا تتكون بطريقة واعية وتكون أكثر دراية ببنيتها العميقة، وذلك لأننا نتملكها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة.. أما الثقافة الشعبيّة فإنها ليست كذلك، إنها تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشربها أبناء المجتمع ويتشبعون بها كما يتنفسون الهواء. ونقطة ضعفها هذه هي نقطة قوتها؛ حيث إن اختراقها من قبل الثقافات الأجنبية يكون عسيراً بسبب عشوائيّتها وكتامتها ورقابة المجتمع المشدّدة عليها. أما الثقافة العليا والتي نبدأ بنشرها منذ الصف الأول الابتدائي إلى ما لا نهاية. هذه الثقافة هي التي تمثل الأمة أمام الأمم الأخرى، وهذا ما يجعلها على درجة حسنة من المرونة والقدرة على التكيف وتمثل الرموز الثقافية الأجنبية، أي أن كثيراً من الاقتباس والتطوير يأتي عن طريقها. تنظيمها وتمثيلها الخارجي لثقافة الأمة يعرّضها لأمرين مزعجين:
الأول: سهولة اختراقها؛ حيث إن طريقة اكتسابها الواعية تفتح الطريق لغزوها وبالتالي تحويرها وتهجينها.
الثاني: جفول الوعي الشعبي من أصحابها والشعور بأنهم يتجاوزون حدودهم إلى درجة يسوغ معها اتهامهم بخيانة الأمة وبيعها للغرباء. ومع أن شيئاً من هذا ينطبق فعلاً على بعض المثقفين إلا أن المشكلة أن الثقافة الشعبيّة لا تملك المعايير المنهجيّة، ولا الأسس المنطقيّة التي تمكنها من الحكم الراشد على تصرفات النخبة، مما يجعل موقفها شاعرياً أكثر من أن يكون عقلانياً. وهي بدافع من الخوف من الانقطاع تلجأ في كسب قضيتها إلى التيارات النخبويّة الأكثر محافظة وتقليديّة لتقدم لها العون في كبح اندفاع التيارات المتحرّرة والمتطلعة إلى التحديث. وهذا يجعل من الثقافة الشعبيّة عاملاً مهماً في زيادة الانقسام بين تيارات الثقافة العليا.
يمكن القول: إن تطوير الثقافة الشعبيّة وتخليصها من العادات والسلوكات الخاطئة يقع على عاتق الصفوة أصحاب الثقافة العليا، لكن من الصعب أن يحصلوا على الاستجابة لمناشداتهم وطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.
في العالم الإسلامي قامت الثقافات الوطنية والمحلية منذ أمد بعيد بإفراغ طاقاتها على الحضّ والكفّ في الثقافة الإسلاميّة المستندة إلى الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء، وصار من غير الممكن المضي قدماً في تطوير أيّ شأن محلي بعيداً عن مدلولات هذه الثقافة ورمزيّاتها وتحديداتها. وهذا يعني أن ثقافة النخبة لا تستطيع أن تصبح قوة محرّكة للناس ما لم تتشرب روح الدين، وما لم تلتزم بقطعياته وأُطُره العامة. إننا في مرحلة حرجة يحتاج فيها كل من يروم الإصلاح إلى ولاء الناس وحماستهم وتضحياتهم؛ لأن المفكر لا يملك أكثر من ناصية التنظير، والجماهير التي ستتحمل عبء التنفيذ؛ ولهذا فلا بدّ من الاستحواذ على رضاها وإعجابها. وستكون النخبة في وهم كبير إذا ظنّت أنها تستطيع إحداث تغييرات كبرى من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من أبناء الأمة. وقد أثبتت التجارب الكثيرة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة أن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. وحين يجافي أهل الرؤية والخبرة روح الدين فإنهم يسلمون زمام الأمة إلى عناصر تملك الكثير من الحماسة والاندفاع والقليل من البصيرة والفهم لمتطلبات المرحلة.(34/49)
إن طاقة ثقافة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها، على حين أن عقلها ورشدها في المستوى الصفوي. وهذا التفاوت هو دائماً مصدر للتوتر والنزاع، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون مصدراً للتطوير نحو الأحسن والأقوم إذا أدرنا العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.
2- إن تنوع الأنساق المكونة للثقافة يحيل دائماً على إمكانية حدوث الصدام والنزاع، كما هو الشأن في التنوّع والتعدّد. ويبدو أن أشد أنواع التوتر تلك التي تقع بين الثقافة بوصفها (هُوِيّة) وسمات خاصة بالأمة، وبين الثقافة بوصفها تعبيرات عن نَزَعات استهلاكية أو تعبيرات عن تحرّكات لتلبية حاجات الجسد، أو تعبيرات عن التكيف مع ظروف ومعطيات شديدة القسوة. وكلّما أوغل الناس في مدارج الحضارة اشتد أُوار الصراع بين هذين النسقين من أنساق الثقافة؛ ذلك لأن ثقافة الهُويّة تتسم بالتعالي عن الانشغال بالواقع، وتنزع نحو المطلق. على حين أن التحضر يزيد وعي الناس نحو مصالحهم، ويفتح شهيّتهم على الاستهلاك، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تضخم الثقافة المتعلّقة بتسيير الحياة اليومية وتحقيق المنافع الشخصية، وهذا يجعل الناس يشعرون ويظهرون بأنهم أكثر دنيويّة، وهو ما يثير حساسيّة الترميزات العميقة للهُويّة في الثقافة الإسلاميّة.
من الواضح اليوم أن ثقافة ما بعد الحداثة تشجع على انبعاث الهُويّات في كل أنحاء العالم من خلال عمل غير مقصود، وهو المناداة بالنسبيّة الثقافيّة والتأكيد على انعدام الأطر والمرجعيّات، وجعل الحقيقة شيئاً تابعاً للثقافة. وتكمّل العولمة المهمة حين نعتمد نظام التجارة أداة أساسية في تسليع كثير من مظاهر الحياة، وجعلها أموراً جاهزة للمتاجرة والمساومة. إن هذا الدفق الهائل من الرموز والصور الاستهلاكيّة يساعد -على نحو استثنائي- على انتشار الهُويّات المقاتلة دفاعاً عن الوجود، وقد لا يكون أمامنا لإدارة الصراع المحتدم في عمق الثقافة على هذا الصعيد إلا أن ندعم الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والاجتماعيّة ذات النفع العام، وأن نحاول إضفاء المعنى على الأنشطة الدنيويّة من خلال الحرص على شرعيتها، وشرح ما يمكن أن يجعلها موصولة بالأعمال الأخرويّة. وما لم نفعل ذلك فإننا سنعاني من الانقسام والتمزق في أعماق ثقافتنا، وسنشعر بالكثير من تشتت الجذور وضياع الأهداف الكبرى
===========(34/50)
(34/51)
الرومانسية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
? الرومانسية أو الرومانتيكية مذهب(*) أدبي يهتم بالنفس الإنسانية وما تزخر به من عواطف ومشاعر وأخيلة أياً كانت طبيعة صاحبها مؤمناً أو ملحداً، مع فصل الأدب عن الأخلاق(*). ولذا يتصف هذا المذهب بالسهولة في التعبير والتفكير، وإطلاق النفس على سجيتها، والاستجابة لأهوائها. وهو مذهب متحرر من قيود العقل(*) والواقعية اللذين نجدهما لدى المذهب الكلاسيكي الأدبي، وقد زخرت بتيارات لا دينية وغير أخلاقية.
- ويحتوي هذا المذهب على جميع تيارات الفكر التي سادت في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر.
- والرومانسية أصل كلمتها من : رومانس r omance باللغة الإنجليزية ومعناها قصة أو رواية تتضمن مغامرات عاطفية وخيالية ولا تخضع للرغبة العقلية المتجردة ولا تعتمد الأسلوب الكلاسيكي المتأنق وتعظم الخيال المجنح وتسعى للانطلاق والهروب من الواقع المرير، ولهذا يقول بول فاليري: "لا بد أن يكون المرء غير متزن العقل إذا حاول تعريف الرومانسية".
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? بدأت الرومانسية في فرنسا عندما قدّم الباحث الفرنسي عام 1776م ترجمة لمسرحيات شكسبير إلى الفرنسية، واستخدم الرومانسية كمصطلح في النقد الأدبي.
? ويعد الناقد الألماني فريدريك شليجل أول من وضع الرومانسية كنقيض للكلاسيكية.
? ثم تبلورت الرومانسية كمذهب أدبي، وبدأ الناس يدركون معناها الحقيقي التجديدي وثورتها ضد الكلاسيكية.
? وترجع الرومانسية الإنكليزية إلى عام 1711م ولكن على شكل فلسفة فكرية.. ونضجت الرومانسية الإنكليزية على يد توماس جراي وويليام بليك.
? ولا شك أن الثورة(*) الفرنسية 1798م هي أحد العوامل الكبرى التي كانت باعثاً ونتيجة في آن واحد للفكر الرومانسي المتحرر والمتمرد على أوضاع كثيرة ، أهمها الكنيسة(*) وسطوتها والواقع الفرنسي وما فيه.
? وفي إيطاليا ارتبط الأدب بالسياسة عام 1815م وأصبح اصطلاح رومانسي في الأدب يعني ليبراليا (أي: حراً أو حرية) في السياسة.
? ومن أبرز المفكرين والأدباء الذين اعتنقوا الرومانسية:
- المفكر والأديب الفرنسي جان جاك روسو 1712 - 1788م ويعد رائد الرومانسية الحديثة.
- الكاتب الفرنسي شاتو بريان 1768 - 1848م ويعد من رواد المذهب الذين ثاروا على الأدب اليوناني القائم على تعدد الآلهة.
- مجموعة من الشعراء الإنكليز، امتازوا بالعاطفة الجياشة والذاتية والغموض رغم أنهم تغنوا بجمال الطبيعة وهم : توماس جراي 1716 - 1771م ووليم بليك 1757 - 1927م وشيلي 1762 - 1822م كيتش 1795 - 1821م وبايرون 1788 - 1824م.
- الشاعر الألماني جوته 1749 - 1832م مؤلف رواية آلام فرتر عام 1782م وفاوست التي تظهر الصراع بين الإنسان والشيطان.
- الشاعر الألماني شيلر 1759 - 1805م ويعد أيضاً من رواد المذهب(*).
- الشاعر الفرنسي بودلير 1821 - 1867م الذي اتخذ المذهب الرومانسي في عصره شكل الإلحاد(*) بالدين(*).
الأفكار والمعتقدات :
? لقد كانت الرومانسية ثورة ضد الكلاسيكية، وهذا ما نراه واضحاً من خلال أفكارها ومبادئها وأساليبها التي قد لا تكون واحدة عند جميع الرومانسيين، ويمكن إجمال هذه الأفكار والمباديء فيما يلي:
- الذاتية أو الفردية: وتعد من أهم مبادىء الرومانسية ، وتتضمن الذاتية عواطف الحزن والكآبة والأمل، وأحياناً الثورة على المجتمع. فضلاً عن التحرر من قيود العقل والواقعية والتحليق في رحاب الخيال والصور والأحلام.
التركيز على التلقائية والعفوية في التعبير الأدبي، لذلك لا تهتم الرمانسية بالأسلوب المتأنق، والألفاظ اللغوية القوية الجزلة.
تنزع بشدة إلى الثورة وتتعلق بالمطلق واللامحدود.
- الحرية الفردية أمر مقدس لدى الرومانسية، لذلك نجد من الرومانسيين من هو شديد التدين مثل: شاتوبريان ونجد منهم شديد الإلحاد مثل شيلي. ولكن معظمهم يتعالى على الأديان والمعتقدات والشرائع التي يعدها قيوداً.
- الاهتمام بالطبيعة(*)، والدعوة بالرجوع إليها حيث فيها الصفاء والفطرة السليمة، وإليها دعا روسو.
- فصل الأدب عن الأخلاق، فليس من الضروري أن يكون الأديب الفذ فذ الخلق. ولا أن يكون الأدب الرائع خاضعاً للقوانين الخلقية.
- الإبداع(*) والابتكار القائمان على إظهار أسرار الحياة من صميم عمل الأديب، وذلك خلافاً لما ذهب إليه أرسطو من أن عمل الأديب محاكاة الحياة وتصويرها.
- الاهتمام بالمسرح لأنه هو الذي يطلق الأخيلة المثيرة التي تؤدي إلى جيشان العاطفة وهيجانها.
- الاهتمام بالآداب الشعبية والقومية، والاهتمام باللون المحلي الذي يطبع الأديب بطابعه، وخاصة في الأعمال القصصية والمسرحية.
الجذور الفكرية العقائدية:(34/52)
? تعد الرومانسية ثورة ضد الكلاسيكية المتشددة في قواعدها العقلية والأدبية، وكذلك ثورة ضد العقائد اليونانية المبنية على تعدد الآلهة(*)… ومن جذور هذه الثورة ظهور التيارات الفلسفية التي تدعو إلى التحرر من القيود العقلية والدينية والاجتماعية. فضلاً عن اضطراب الأحوال السياسية في أوروبا بعد الثورة(*) الفرنسية الداعية إلى الحرية(*) والمساواة وما يتبع ذلك من صراع على المستعمرات، وحروب داخلية.. كل هذه الأمور تركت الإنسان الأوروبي قلقاً حزيناً متشائماً، فانتشر فيه مرض العصر، وهو الإحساس بالكآبة والإحباط ومحاولة الهروب من الواقع، وكان من نتيجة ذلك ظهور اتجاهات متعددة في الرومانسية، إذ توغلت في العقيدة والأخلاق(*) والفلسفة(*) والتاريخ والفنون الجميلة.
- ودخلت الرومانسية في الفلسفة وتجلت في نظرية الإنسان الأعلى (السوبرمان) عند نيتشة 1844 - 1900م ونظرية الوثبة الحيوية عند برغسون 1859 - 1941م.
? الرومانسية الجديدة:
? انحسرت الرومانسية في مطلع القرن العشرين عندما أعلن النقاد الفرنسيون هجومهم عليها - وذلك لأنها تسلب الإنسان عقله ومنطقه - وهاجموا روسو الذي نادى بالعودة إلى الطبيعة(*). وقالوا: لا خير في عاطفة وخيال لا يحكمهما العقل(*) المفكر والذكاء الإنساني والحكمة الواعية والإرادة المدركة.
وكان من نتيجة ذلك نشوء الرومانسية الجديدة ودعوتها إلى الربط بين العاطفة التلقائية والإرادة الواعية في وحدة فكرية وعاطفية، ومن ثم نشأت الرومانسية الجديدة حاملة معها أكثر المعتقدات القديمة للرومانسية.
الانتشار ومواقع النفوذ:
? تعد فرنسا موطن المذهب(*) الرومانسي، ومنها انتقل إلى ألمانيا ومنها إلى إنكلترا وإيطاليا.
ويتضح مما سبق:
أن الرومانسية أو الرومانتيكية مذهب أدبي يقول أنصاره أنه يهدف إلى سبر أغوار النفس البشرية واستظهار ما تزخر به من عواطف ومشاعر وأحاسيس وأخيلة، للتعبير من خلال الذاتية عن عواطف الحزن والأسى والكآبة والألم والأمل، ومن خلال العفوية الخالية من تأنق الأسلوب وجزالة اللفظ ودقة التراكيب اللغوية، مع الاهتمام بالطبيعة وضرورة الرجوع إليها، وفصل الأخلاق(*) عن الأدب، والاهتمام بالآداب الشعبية.
وقد اعتنق كثير من الحداثيين الرومانسية بل عدها بعضهم أحد اتجاهات الحداثة.
? تعقيب :
ومن وجهة النظر الإسلامية فإن أي تيار أدبي لا بد أن يكون ملتزماً بالدين(*) والأخلاق كجزء من العقيدة، وإذا كانت ملازمة الحزن والتعبير عنه لها سلبيات كثيرة، فإن الإسلام يتطلب من معتنقيه مواجهة الظروف التي يتعرضون لها بشجاعة والتسليم بقضاء الله وتلمس الأسباب للخروج من الأزمات دون يأس أو إحباط، وكل إنسان مسئول عن تصرفاته ومحاسب عليها بين يدي الله، طالما كان يملك أهلية التصرف، أما المكره فهو معذور وتسقط عنه الأوزار فيما يرتكبه قسراً، ولكنه لا يعذر في التعبير الحر عما ينافي العقيدة ويتعارض معها.
---------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا - ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر/ نشر دار الشعاع - الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب - مكتبة مصر - القاهرة.
- الأدب المقارن ، د. محمد غنيمي هلال - دار العودة - بيروت.
- المدخل إلى النقد الحديث، د. محمد غنيمي هلال - القاهرة: 1959م.
- الرومانتيية، د. محمد غنيمي هلال - القاهرة : 1955م.
- الأدب المقارن ، ماريوس فرنسوا غويار - (سلسلة زدني علماً).
- المذاهب الأدبية الكبرى، فيليب فان تيغيمة (سلسلة زدني علما).
المراجع الأجنبية:
- B r aunschvig: Not r e Litte r atu r e Etudiee dans le Texte. Pa r is 1949.
- Lanson: Histoi r e de La Litte r atu r e F r ancaise. Pa r is. 1960.
- De Segu r (Nicola): Histoi r e de la litte r atu r e Eu r opieenne, Pa r is, 1959.
============(34/53)
(34/54)
مقالات في الصحوة
حسين بن سعيد الحسنية
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين وبعد:
أولا / سبب ظهور الصحوة :
لاشك أن الصحوة الإسلامية بكامل جوانبها , وطرق تعزيزها , وتناميها الملحوظ والمعلن عنه في الأوساط الشعبية والحكومية لا شك أنها عاملاً مهما في مسيرة هذا الدين الخالد , واستطاعت أن تؤثر في سير بعض قرارات الحكومات والنظم السياسية , وأصبحت عند البعض والذين لا هم لهم سوى انهيار الكيان الإسلامي كابوساً مخيفاً على كل الأصعدة , وأصبحت عند البعض الآخر عاملاً مهماً لإشعال الفتن وتأجيج نار الحروب الأهلية , وبث روح التعنصر والتحزب وأكثر أصحاب هذا الطريق هم الذين يصطادون في الماء العكر , إلا أنها عند علماء المسلمين والدعاة وطلبة العلم والكثير من المسلمين والذين ينتظرون عودة الإسلام بكامل حضوره وعزه ومجده سلاحاً فتاكاً ضد أهل النفاق والاستعمار والعلمنه وحلاً مناسباً مع ما يشوبها من أخطاء وتجاوزات في أن يسمع العالم صوت الإسلام , وأن يدرك معنى سموه وعلوه على غيره من الأديان , ولعل ذلك يجرني لأن أذكر أهم سبب في ظهور ما يسمى بالصحوة وهو أن المتأمل في تاريخ هذه الأمة منذ بزوغ فجرها من بين جبال مكة وحتى أصبح الآن من الصين إلى الصين هو انسحاب أصحابه من ميادين الحياة ومن ثم تقديم التنازلات عن قيادة العالم , وإمامة الأمم , وأيضاً تكالب الأعداء عليه وتماشي أهله مع الفكر الغربي باسم الحرية والديمقراطية وتقارب الأديان , وتفريطهم في الدين والدنيا , وجنايتهم على أنفسهم وبني نوعهم , واتخاذهم القرآن مهجوراً , وافتتانهم بالمال وشغفهم بجمعه وادخاره . فأصبحت أي (الصحوة) نوراً يطلع من بين دياجير الظلام , وفرجاً من بين أحلك الكروب , ويسراً بعد عسرٍ طالما شكت الأمة منه فمن فتنة الخوارج وحتى حرب المغول إلى الحروب الصليبية إلى تمزيق التتار للإمبراطورية الإسلامية الأخيرة إلى تفشي الأفكار الشيوعية والرأسمالية إلى ظهور العلمانية وتبجح أهلها بقولهم ( مال الله لله ومال قيصر لقيصر) , وحتى بغي أمريكا وتكبرها وقولها ( من أشد منا قوة ) إضافة إلى ما تخللها من مصائب وأزمات في هذا العالم , وسم يراق في فم هذه الأمة والتي ما إن تشفى منه حتى يراق في فمها سم آخر كل هذه الحقائق نورت الكثير من العقول وأنارت الكثير من الدروب المظلمة والتي طالما عاشت القهر والاستبداد والاحتلال مما دفعا البحث عن منقذ يقول الندوي رحمه الله " ولا يغيب عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة حياً محفوظاً من التحريف والتبديل , ولم يزل عالياً وضوءه مشرق (( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )) المائدة(16) ولم يزل الكتاب والسنة يبعثان في نفوس القراء ثورة على الشك والبدع , وعلى الجهالة والضلالة , وثورة على أخلاق الجاهلية وعوائدها , وثورة على ترف المترفين واستبداد الملوك , ولم يزل ينهض بتأثيرهما في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي , وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي رجال يقومون في هذه الأمة على طريقة الأنبياء , يجدِّدون لها أمر دينها , وينفخون فيها روح الجهاد , ويفتحون لها باب الاجتهاد , ويسعون لإقامة حكومة إسلامية على منهاج الخلافة الراشدة , فمنهم من استشهد في هذه السبيل , ومنهم من استطاع أن يمثل دوراً قصيراً يذكر بالخلافة الراشدة (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) الأحزاب(23) , وهم مصداق الحديث :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " رواه مسلم , فتاريخ الجهاد والتجديد في الإسلام متصل لا تقطعه فترة , ومشاعل الإصلاح متسلسلة بعضها من بعض لم تطفئها العواصف" . أنظر ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص150 .
ثانياً/ تاريخ الصحوة الحديثة:ـــ
لقد تحدثت في المقالة الأولى وقلت إن الصحوة الإسلامية كان لنشوئها سبب مهم إلا وهو معاناة الأمة الإسلامية من الويلات والأزمات التي تعاقبت عليها ذلك ومن وجهة نظر خاصة أن الصحوة كما قال مهدي العطار ( هي الظاهرة الاجتماعية التي تعني عودة الوعي للأمة وإحساسها بذاتها واعتزازها بدينها وكرامتها واستغلالها السياسي والاقتصادي والفكري وسعيها للنهوض بدورها الطبيعي في بناء حضارة الإنسان باعتبارها خير أمة أخرجت للناس ) أ.هـ , ومن وجهة نظر خاصة أخرى أرى أن هذا التعريف هو لكل صحوة إسلامية نشئت على المبادئ الإسلامية الصحيحة .(34/55)
والحديث عن تاريخ الصحوة الإسلامية فلا يخفى على الجميع سبب حضورها والمتمثل في استحواذ التغريب والاستعمار وطمس الهوية الإسلامية والعربية , وتذويب الثوابت والأسس التي قام عليها هذا الدين الحنيف , إضافة إلى انتشار الجهل والطبقية العنصرية والتمذهب الفكري في كثير من الأمم والجماعات قال الندوي رحمه الله : في هذا الجانب (خَفَتَ صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ونشِط دعاة الفساد والهدم والخلاعة والمجون والإلحاد والزندقة والحركات الهدامة والاستخفاف بالدين وقيمة الأخلاق وأسسها ....." أ.هـ , إلى أن جاءت حركة الأخوان المسلمين في مصر والتي كانت من أقوى وأعمق الحركات تأثيراً واكثر إنتاجا من غيرها , كانت هذه الحركة تشكل أوسع نطاقاً وأعظم نشاطاً و اكبر نفوذاً وأعظم تغلغلاً في أحشاء المجتمع , وأكثر استحواذاً على النفوس , ويلخص ا.د سالم نجم , تاريخها بقوله " كتب الأخ الفاضل محمد عمارة عن هذا الموضوع في عددين متتالين فقال بدأ تاريخ الصحوة بنداء الشيخ حسن العطار حيث قال ـــ إن بلادنا لابد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها ـــ ثم جاء تلميذه
رفاعة الطهطاوي يطالب بالتجديد للذات الإسلامية بالإحياء والمستفادة من العلوم الغربية , ثم جاء جمال الدين الأفغاني بمشروع الجامعة الإسلامية مع الإمام محمد عبده وتولى نشر هذا الفكر الإمام محمد رشيد رضا في مجلته الشهيرة (((( المنار )))) الذي أَسَلَمَ أمانة هذه الصحوة إلى الحركات والتنظيمات الإسلامية الحديثة من الفكر إلى الحركة والعمل , ويستطرد الدكتور عمارة قوله لم تقف هذه الصحوة عند حدود
الفكر والدعوة وإنما سلكت سبيل التنظيم في مشاريع الحزب الوطني الحر , جمعية العروة الوثقى , جمعية أم القرى في نهاية القرن التاسع عشر , ثم الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أو انتماءه الوطني والإسلامي , ولم تقتصر الصحوة الإسلامية على الحركات والتنظيمات الإسلامية , فأوسع وأعرض فصائل الصحوة الإسلامية هو التيار الشعبي المستمسك بالهوية الإسلامية وفي مقدمات مؤسسة الصحوة الإسلامية الأزهر الشريف ...... أ ــ هـ .
وفي عام1935 م توفي السيد محمد رشيد رضا صاحب (((( المنار ))))
وتزعزعت مسيرة المجلة , وانطفأ أحد أسرجت العلم والمعرفة حتى عادت في شهر يوليو 1939 م وتولى زمام أمور بعد رشيد رضا الإمام حسن البنا وفي ذلك يقول محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في مقدمته لهذا العدد بمناسبة عودة المجلة " والآن قد علمت أن الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث ((((المنار))) ويعيد سيرتها الأولى فسرني هذا , فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه , يفهم الوسط الذي يعيش فيه ..... أ.ه .
وإلى يومنا هذا ومنذ ستة وسبعين عاما ولازالت هذه الحركة *صامدة رغم المكائد تخرج* وانتشرت في أكثر من ثمانين قطر في كل قارات العالم وشكلت خطرا على الغربيين وهذا حق شهدت به الأعداء أمثال سميث في كتابه ( الإسلام اليوم ) و زوجانوسكي الروسي وغيرهم .
ثالثاً/ ((هل نجحت الصحوة الإسلامية في استيعاب حاجة الناس وملامسة همومهم))
إن مقصد ظهور الصحوة الإسلامية هو مقصد إيماني شرعي لا غبار عليه , وأصحابها في الغالب لا يريدون من إبرازها والإعلان عنها إلا صلاح المجتمع وهداية الناس , لذا أستطيع القول أنها استطاعت بشكل مباشر وغير مباشر استيعاب حاجة الناس وملامسة همومهم , وهذا لا يمنع أن هناك جوانب أخرى من نشاطات هذه الصحوة الإسلامية أو مشاريعها لم تستطع استيعاب الحاجات أو ملامسة الهموم , ولعلي هنا أذكر بعض الجوانب التي استطاعت الصحوة الإسلامية من خلالها امتلاك قلوب الناس واهتمام الناس بها وبأفكارها وهي :ــ
1// أن مناهج الصحوة تدور حول الدعوة إلى الله والعمل بسنة محمد عليه الصلاة والسلام في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات المسلمة غارقة في النعيم المُلهي , واللذائذ المطغية , والتي أسرت العقل والقلب والبدن حتى أصبح الإنسان المسلم والعربي بالتحديد إنساناً دنيوياً غارق في بحر الشهوات القاتلة إلى أن وصل مرحلة الفراغ الروحي والذي لا يستقر ولن يستقر إلا بكلام الإيماني , ومنهجه السوي , فجاءت الصحوة فدعت إلى العودة إلى الله والعمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام والزهد في الدنيا والعمل للآخرة , والحرص على عمل الصالحات , والبعد عن الحرام , فوجد الكثير من الناس في ذلك الوقت العصيب ضالتهم وبحثوا عن الاستقرار فوجدوه من خلال هذه الصحوة .(34/56)
2// لقد عانت المجتمعات المسلمة كثيراً من ظلم الحكومات المتسلطة , وقهر أعوان الغرب وأذنابها , ومما يدل على ذلك تسلط أهل الحداثة على منابر الفكر وميادين القلم الأمر الذي هُمِّش فيه أهل الدعوة والثقافة الإسلامية والأدب الإيماني الجميل من الإسلاميين المحافظين وكان ذلك في السبعينات والثمانينات الميلادية , وأيضاً حُجِر العلماء وطلابهم من القيام بنشاطاتهم الدعوية والإصلاحية في مجتمعاتهم ومضايقتهم واتهامهم بالسؤ حتى انتهى الأمر إلى سجنهم وإعدام بعضهم , فجاءت الصحوة وحددت معايير الانطلاق , وأُسس المواجهة مع الآخر بالطرق الحوارية المباشرة وغير المباشرة , واتجهت بالطرق العلمية وبواسطة علماء الصحوة المثمرين والنشيطين إلى السعي وراء الحصول على مساحات إعلامية , ومنابر توعوية , وعلاقات عامة تساعد على الوصول إلى كل متلقي سواءً كان المتلقي مسؤولا أو غير مسؤول , واستطاعت الصحوة والقائمين عليها من إنشاء المراكز الإسلامية , وأن تؤلف الكتب العلمية , وأن تستضيف الأفكار الأخرى لتحليلها ومراجعتها ومن ثم ترد عليها فكسبت الاحترام من الآخر , وحصلت على ما تريد من خلال هذه الطريقة للوصول إلى الناس وملامسة همومهم , وقراءة أفكارهم لاستجابة طلباتهم .
3// اهتمت الصحوة بالجوانب الإغاثية والمساعدات الإنسانية , ودعت إلى الاهتمام بالدول الفقيرة المسلمة , وإيجاد سبل عملية حثيثة لوصول تبرعات المجتمعات المسلمة للفقراء والمعوزين في جميع البلاد الإسلامية إضافة إلى ما قامت هي من فتح صناديق للتبرعات الخيرية , ومن إنشاء للمراكز الصحية والتعليمية , وهذا الجانب وإن كان أصحابه ينوون به الأجر والنصرة إلا أنه عامل مهم في استقطاب قلوب الناس ومعايشة واقعهم .
4// دعت الصحوة الإسلامية إلى الجهاد في سبيل الله , والوقوف في وجه المحتل , والعمل على إنشاء القيادات العسكرية التي بقوتها تقوى الأمم بعد قوة الله تعالى , وهذا من أهم متطلبات الناس والأمة بوجه عام , خاصة وإن كانت قابعة تحت الاحتلال والتهديد والاستعمار والذل والهوان
- وهناك الكثير من الجوانب الأخرى إلا أنني وكما أسلفت وقفت على أهمها على الاطلاق .
رابعاً/ ((هل خرجت الصحوة من عباءة العاطفة إلى ميدان البناء الراشد للعمل المؤسسي))
من الطبيعي أن تأسر الصحوة ونشاطاتها قلوب كثير ٍ من الناس خاصة إذا ظهرت في أوقات الأزمات والمتاعب في مسيرة الدعوة إلى الله , فالناس ينتظرون بين كل فترة وأخرى من يجدد أمور دينهم ويوعيهم وينصحهم
ويبث فيهم الروح الإسلامية الجميلة في زمنٍ كثرت فيه الملذات والشهوات وتلاطمت أمواج الشبهات بعضها ببعض , وعملت الصحوة على تحقيق هذا الجانب في كثير من مقالات أصحابها ومؤسسيها ومنابرها , لأنهم بهذا الجانب كسبوا الكثير من أنصارهم وأتباعهم , وأرى والله أعلم أن هناك من العلماء والدعاة حفظهم الله لا يزالون يأخذون بهذا الجانب ليضمن لهم إتمام المسيرة الدعوية ولا حرج في بالنظر إلى المقصد فـ(الأمور بمقاصدها) والله أعلم .
وكما أسلفت في مداخلة سابقة أن الصحوة الإسلامية رغم اعتمادها على الجانب العاطفي إلا أنها ساهمت بشكل جلي في العمل المؤسسي المنظم وأذكر من ذلك:ـــ
1/// قيامها بإنشاء المراكز الإسلامية خاصة في دول شرق آسيا وأوروبا وأمريك .
2/// استطاعت أن تعمل على تنشئة جيل من الدعاة والخطباء والمثقفين والساسة الذين يتحدثون باسمها على كافة الأصعدة .
3/// عملت على ترشيح أعضائها في الانتخابات الحكومية والبلدية والعمالية .
4/// ساهمت وبشكل كبير في توعية الشعوب الضالة أو المنحرفة حتى ظهر لها من النتائج ما يلمسه الجميع .
5/// استطاعت أن تزاحم أرباب الأفكار الأخرى , والعقائد المختلفة على وسائل الإعلام المختلفة وذلك بالبرامج الهادفة , والمقالات المثمرة والتي وجدنا نتاجها على القراء والمشاهدين والمستمعين .
إلى غير ذلك من مساهمات الصحوة في ميدان البناء الراشد .
خامسا/ً (( هل تحولت الادلجة والتحزب خلف الفكرة والأفراد والجماعة معضلة في حراك الصحوة الميداني))
لقد جاء هذا الدين الحنيف مبيناً فضل التعاون واللحمة في قضاياه المصيرية , ونابذاً للفرقة والتعنصر والحزبية والتي لا يؤول مشروعها إلا للإفلاس والخسارة , ولعلي أذكر هنا ما يدل على ذلك :ــــ
1/// حينما تتحرك إحدى جماعات الصحوة , وتبرز نشاطاتها , وتتبلور داخل المجتمع فإنها تأتي جماعة أخرى قد تكون موافقة لها في المقصد ولكنها تختلف اختلافاً كاملاً في الأفكار والرؤى , فتُطبق القاعدة الاجتماعية التي تقول (( متى يبلغ البنيان تمامه؟ إذا كنت تبني وغيرك يهدم )) فيشكل هذا الاختلاف عائقاً مهماً في مسيرة الصحوة وحراكها الميداني .(34/57)
2/// لقد اعتمدت الكثير من جهات الصحوة على الدعاية والشعارات المعلنة بين الفينة والأخرى وأعلنت عن خططها المستقبلية بشأن دعم مسيرة الإصلاح المجتمعي , والهداية الدينية , وظهر التنافس الشديد من خلال هذه الشعارات والخطط الأمر الذي ولّد الحروب الكلامية والتي لا تخلو من التهم والقدح حتى في الذوات للأسف الشديد , وتخلو الساحة الصحوية من الحوارات الفكرية الهادفة , وتبدأ مسيرة تخلف وهوان للأمة من جديد , وتتضح لنا إحدى معوقات الحراك الصحوي الميداني .
3/// إن من أحد المشكلات الكبيرة والتي تعاني منها المجتمعات المسلمة هي انقياد شباب الصحوة لعالم معين يجدون فيه ما يلبي رغباتهم , ويرون فيه من يتحدث عن مشاعرهم وانطباعاتهم , فيميلون له ميلاً عظيماً فيقرونه على الخطأ , ويعززون من موقفه وإن كان موقفه سلبيا
, وفي المقابل تجدهم يقدحون ويتهمون عالماً آخر خالف عالمهم في مسألة معينة أو مسائل متعددة , فيتشكل مباشرة عائقاً آخر في مسيرة الحراك الصحوي الميداني .
=============(34/58)
(34/59)
{ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ }
أ.د. عبدالكريم بكار
قصة البشرية هي قصة البحث عن طريق السعادة والأمن والاستقرار ... وقصة البحث عن الفهم والوضوح ، ومحاربة (العماء) و (اللاتكوّن) لكن نتائج ذلك كثيراً ما تكون موضوعاً محزناً للقراءة !
وهذه الآية المباركة تفتح أعيننا على السبب الجوهري لذلك ؛ إنه بحث البشرية عن نجاتها بعيداً عن هدي الله - تعالى - وبعيداً عن سبيله الذي وضَّحه لعباده في كتبه ، وعلى لسان رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام . ولعلنا نقف مع هذه الآية الكريمة بعض الوقفات التي نستجلي من خلالها بعض ما تشعَّه من معان ومفاهيم ، وبعض ما ترتب على الحيدة عن سبيل الله من مآس ومهلكات ، وذلك من خلال الحروف الصغيرة الآتية :
1- تقرر هذه الآية المباركة أن سبيل الهداية هو السبيل الوحيد الذي على البشرية أن تسلكه ، وفي حالة تنكبه فليس هناك سبل أخرى للنجاة والفوز والنجاح .
ومعنى الآية : أن من يضلله الله فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا ، وإلى الجنة في الآخرة ، لأنه قد سدت عليه سبل النجاة . إن الضال يجد سبلاً كثيرة ، لكنها جميعاً توصله إلى غير ما يؤمِّله ، وإلى غير ما يحقق من خلاله ذاتيته ووجوده ، وهذا هو الذي يفهم من قوله - جل وعلا : { وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153] .
وفي حديث ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه - قال : ( كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فخط خطاً ، وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن يساره ، ثم وضع يده في الخط الأوسط ، فقال : هذا سبيل الله ، ثم تلا هذه الآية : { وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... } ) [2] .
إن هناك دائماً الكثير من إمكانات الحركة ، والكثير من اتجاهات السير ، لكن عدم وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبالاً على البشرية ، وهذا هو الحاصل الآن .
2- يلمس كل من يعمل فكره في واقع البشرية وجود مفارقة عجيبة بين ما تحرزه في مضمار الاكتشاف والتقنية والتنظيم والسيطرة على البيئة ، وبين ما تحرزه من تقدم على الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني - عامة - حيث إن التقدم التراكمي المطرد على الصعيد الأول ، لا يكاد يوازيه سوى الحيرة والارتباك ، واتساع الخروق على الصعيد الثاني . وهذا ؛ مع أن الناس يؤملون دائماً أن ينعكس توفر وسائل الراحة والرفاهية على وضعهم الروحي والنفسي والاجتماعي ، لكن ذلك - مع الأسف - أمنية لم تتحقق !
في الغرب تساؤلات كثيرة اليوم عن سبب هذه الظاهرة المزعجة ، وتفسيرات عديدة لها ، فمن قائل : إن العالم لم يوجه من إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي لسبر غور الأبعاد الإنسانية والاجتماعية المختلفة ؛ وما بذل من جهد في هذه المجالات أقل بكثير مما بذل في المجالات الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية ... ، ولذلك فالنتائج لم تكن غير متوقعة . ومن قائل : إن المشكلة تعود إلى طبيعة العلوم الاجتماعية ، فهي على درجة من الهلامية تجعلها تتأبى على التشكيل ، ومهما حاولنا تقنين أساليب التعامل معها ، فإن النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها ستظل ظنية واحتمالية . ومن قائل : إننا لم نكتشف بعد المنهج الملائم لبحث قضاياها ومشكلاتها .
والأدوات المعرفية المستخدمة الآن في المجالات الاجتماعية أكثرها مستعار من منهجيات البحث والمعالجة في المجالات العلمية ، ولذا ، فإنها ستظل محدودة الفاعلية ... وهكذا ، فالتحليلات كثيرة ، لكن لا يبدو أن هناك سبيلاً للخروج من المأزق !
وعندي أن التقدم في مجالات العلوم الطبيعية ، يعود إلى أسباب عدة . أهمها :
توفر الإطار الذي تتفاعل فيه الخبرات والإنجازات في المجالات المختلفة ، مما يجعل التقدم الأفقي في المجالات العلمية المختلفة يساعد على التقدم الرأسي في كل مجال على حدة . وأمكن التقدم في بلورة هذا الإطار وفي تحديد المبادئ الأساسية للعمل فيه لسببين أساسيين :
يعود الأول منهما إلى أن العلم محدود الطموحات ، ويشتغل بالجزئيات ؛ فكثافة إنجازاته من تواضع طموحاته .
ويعود الثاني إلى كونه على غير صلة مباشرة بمسائل الوحي والروح والاعتقاد ، فكأن الإنجاز فيه في الأصل جزء من سنة الابتلاء في هذه الحياة ، والذي على الناس أن يستخدموا فيه كل مواهبهم وإمكاناتهم للنجاح . أما في مجال العلوم الاجتماعية ، فالأمر مختلف تماماً ، فمهما بذل الناس من جهود ، ومهما اكتشفوا من مناهج ، فإنهم لن يستطيعوا - مثلاً - تحديد الغاية النهائية للوجود ، كما أنهم لن يستطيعوا توفير المقدمات الكافية لتحديد ما يحتاج العقل من مسارات حتى يقوم بأعمال الاستنتاج والتوليد ، كما أنهم سيجدون أنفسهم مشتتين حيال تقويم التجارب الكلية .(34/60)
العقل البشري - على ما يتمتع به من طاقات هائلة - تظل وظيفته عند بحث القضايا الكبرى أشبه بوظيفة (المدير التنفيذي) الذي يجهز كل أدوات الرحلة ووسائلها ، لكنه لا يحدد أهدافها ووجهتها ؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتجسد هنا في المنهج الرباني المعصوم . وممن انتهى إلى هذه النتيجة (أنشتاين) وهو من أكبر عباقرة القرن العشرين عندما قال : ( إن حضارتنا تملك معدات كاملة ، لكن الأهداف الكبرى غامضة ) .
3- حين أعرض الغرب عن (سبيل الله) أخذ يبحث بجدية نادرة عن السبيل البديلة التي يمكن أن توصله إلى كل أمنياته ، وتحقق له كل رغباته ، وقد كان (القرن التاسع عشر) قرن التفاؤل الكبير ؛ إذ حقق العلم انتصارات كبيرة ، واعتقد الناس في الغرب عندئذ أن (العلم) سيكون قادراً على تحقيق كل شيء وحل كل معضلة ، وسيطرت من جراء ذلك النزعة الوضعية أو العلمية المتطرفة التي اعتقد أصحابها أنهم قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأسئلة التي يطرحها الإنسان ، والمسألة مسألة وقت ليس أكثر . وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بالتضاد بين (العلم) و (الإيمان) فإما أن تكون عالماً غير مؤمن ، أو مؤمناً غير عالم !
في النصف الثاني من القرن العشرين - على نحو أكثر وضوحاً - بدأت النظرة تختلف [3] ، حيث شهد هذا القرن حربين عالميتين إلى جانب أكثر من 130 حرباً صغيرة ، وحيث صارت البيئة الطبيعية في حالة يرثى لها ، وأخذت البنى الاجتماعية المختلفة بالتداعي والانهيار ، وتبين لصفوة من علماء الغرب عظم الخطأ الذي ارتكبه الغربيون حين ردوا على انحرافات الكنيسة بالإلحاد وتأليه (العلم) ، كما تبين لهم أن العلم أعجز من أن يدل على طريق النجاة . يقول (بيير كارلي ) [4] : ( العلم يهدف إلى تمكيننا من معرفة أفضل بالعالم وعلاقتنا به ، كما أن العلم ينير لنا الطريق في صدد ما يمكن فعله ، وبخصوص الوسائل والإمكانات المتاحة ، أو الرهانات والمخاطر . أما (الإيمان) فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي لحياتنا معنى ، إنه يقدم لنا الغاية من الوجود والقيم وأسباب الأمل والعمل ) [5] .
هذه الأفكار صارت من جملة معتقدات بعض صفوة العلماء والمفكرين في الغرب ، لكنها ليست في واقع الأمر سوى خطوات قليلة في طريق طويل ، والتخريب الذي أحدثته (العلمانية) في بنى الحياة الغربية على مدى ثلاثة قرون شديد الانتشار والعمق ؛ والأمل في الإصلاح على المدى المنظور ضئيل للغاية !
4- إن أمة الإسلام ما زالت تنعم - بفضل الله - بالهداية ومعرفة (سبيل الله) وهذا ما يوفر للمسلمين اليوم تميزاً ، لا يشركهم فيه أحد ، كما أنه يخفف الكثير من لأواء الحياة ومشاقها . وأكبر دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (الانتحار) في أي مجتمع إسلامي ، على حين أنها تنتشر في أكثر دول العالم تقدماً ورفاهية . لكن لا ينبغي لنا أن نطمئن كثيراً إلى ما نحن فيه ، فهذا الفيض من الأفكار والصور والنظم والنماذج التي يبثها في كل اتجاه أكثر من خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض أربكت (الوعي) لدى كثير من المسلمين ، وبتنا نرى الكثير من الثقافات المحلية العميقة الجذور آخذةً في التحلل والتفكك والانكماش لصالح رموز الحداثة القادمة من الغرب ، وهذا يفرغ الكثير من الأطر والقوالب الإسلامية من مضامينها ، ويدخل مجتمعاتنا في امتحان ليست مستعدة له !
إن الذي يقرأ التاريخ بشفافية يجد أن التقدم العمراني كثيراً ما يكون مصحوباً بانخفاض في وتائر التدين وسويّات الالتزام ، فالقرن الرابع الهجري - مثلاً - كان قمة في التقدم العلمي والعمراني ، لكن الالتزام بتعاليم الشريعة لم يكن كذلك ، فقد كان في القرون التي سبقته أفضل وأرسخ . وهذا معنى تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته من الانبهار والافتتان بزخارف الدنيا ، وخوفه من أن تعجز عن إقامة أمر الله - تعالى - في ظروف الرخاء والرفاهية .
إن المنتجات التقنية - بالإضافة إلى هيمنة (نظام التجارة) - أخذت تعيد تشكيل حياتنا على نحو لا يعبأ كثيراً بمقتضيات التدين الحق ، وصار من الواجب علينا أن نتدبر أمرنا ونرفع درجة حساسيتنا للوافدات الجديدة ، والا فقد نستيقظ بعد فوات الأوان . وإن على مثقفي الأمة - على اختلاف تخصصاتهم - أن ينهضوا بمسؤولياتهم والوفاء بالعهد المأخوذ عليهم في هذا الشأن ، فالثقافة ليست وجاهة فحسب ، وإنما ريادة ومسؤولية في آن واحد .
ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ، ،
________________________
(1) سورة الشورى : 46 .
(2) أحمد ، ح / 14853 ، وابن ماجه / المقدمة ، ح / 11 .
(3) انظر كتاب العلم والإيمان في الغرب الحديث : 6 ، 7 تأليف : هاشم صالح ، ضمن سلسلة كتاب (الرياض) عام 1998م .
(4) أستاذ فسيولوجيا الأعصاب وعضو أكاديمية العلوم منذ عام 1979 م .
(5) السابق : 63 .
==============(34/61)
(34/62)
( 47 ) طريقة لمواجهة دعاة التحرر
1- ضرورة استحضار الإخلاص في هذا الأمر؛ إذ إنه من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، وبدون الإخلاص تصبح كل هذه الأعمال هباءاً منثوراً يوم الدين .
2- الثقة بنصر الله والتفاؤل بالخير خاصة في مثل هذا الوقت الذي قلَّ فيه الناصر، وهكذا كان هدي الرسو صلى الله عليه وسلم عند الفتن تفاؤلاً وحسن ظن بالله وثقة به مع العمل الجاد المستمر.
3- تعميق قضية الهوية والانتماء لهذا الدين لدي المرأة المسلمة وتوضيح مقتضيات ذلك ولوازمه كوجوب المحبة الكاملة لله، والانقياد التام لشرعه فيما وافق هوى العبد وفيما خالفه، "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
4- تجلية رسالة المرأة المسلمة في الحياة والدور المنوط بها في عصرنا في سبيل نهضة الأمة ورقيها واستعادتها لعزتها، والسبل المعينة لها على أداء ذلك.
5- العناية بالجوانب الإيمانية والعبادية لدى المرأة، وتزويدها بالعلم الشرعي، وبخاصة فيما تحتاج إليه ولا يسعها جهله في مراحل حياتها المختلفة.
6- رفع مستوى ثقافة المرأة وتحبيبها بالقراءة وتدريبها على ممارسة التثقيف الذاتي والاستفادة من الوسائل التقنية المتاحة في ذلك.
7- رفع مستوى وعي المرأة وإدراكها لواقعها والتغيرات الضخمة الحاصلة فيه، وما يحاك ضد الأمة عموماً والمرأة خصوصاً من مخططات تهدف إلى إبعادها عن دينها، وتهميش دورها في الحياة بشكل يجعلها تعيش في عزلة شعورية عن حاضرها.
8- الرقي باهتمامات المرأة وتعميقها وإبعادها عن السطحية، وتعويدها على الجدية وترتيب الأولويات وعدم الانشغال بالترهات والتوافه.
9- تقرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، نحو: كون الأصل قرارها في البيت، والتزام الحجاب، وعدم إبداء الزينة والتبرج تبرج الجاهلية الأولى، ودعوة المرأة إلى التزامها.
10- رصد المشكلات التي تعاني المرأة منها في كافة الجوانب المختلفة، والسعي إلى تلافيها والتقليل من نتائجها السلبية.
11- العناية بوقت المرأة وشغله بالمفيد واقتراح السبل الملائمة لتحقيق ذلك.
12- تقوية البناء الأسري وبخاصة في المجال الدعوي؛ إذ إن للدعوة العائلية أهمية فائقة في تعليم المرأة دينها وتحصينها ضد طروحات العلمانيين ومكائدهم.
13- تفعيل دور المرأة في مواجهة مخططات العلمنة الساعية لإفسادها، وتشجيعها على القيام بدعوة بنات جنسها؛ لأنها الأعرف بمجتمعاتهن والأكثر تأثيراً فيهن والأقدر على الاتصال بهن والبيان لهن فيما يخصهن، مع أهمية العناية بجانب التحفيز لها وإيجاد الدوافع لديها لمواصلة نشاطها الدعوى حتى لا تفتر أو تصاب باليأس والإحباط نتيجة طول المسير ومشقته .
14- مطالبة النساء بالعناية ببيئاتهن الخاصة ـ أزواجاً وأولاداً ـ والقيام بالدور المنشود منهن في استصلاحها وإمدادهن بالوسائل والآليات والسبل المناسبة، وخاصة فيما تجهله المرأة ؛ لأنهن الأكثر دراية بها، والأقدر على توجيهها والتأثير فيها(أي بيئاتهنّ ) متى استخدمن الحكمة.
15- توعية المجتمع بأهمية دور المرأة في نهضة الأمة ورقيها، ومطالبة أفراده بمؤازرتها والتواصي برفع صور الظلم المختلفة عنها والموجودة في بعض البيئات، وترك اللامبالاة والغفلة والتهميش للمرأة الذي يقع فيه بعض الأفراد، إقتداءً بنبينا r في تعامله مع المرأة.
16- إبانة أهداف العلمانيين والتي من أبرزها:
أ - التشكيك بالأصول وإزاحة ثوابت الأمة العقدية وأسسها الفكرية والسلوكية وإحلال حضارة الغرب وقيمه مكانها.
ب - إخراج المرأة عن العبودية لله ـ عز وجل ـ والاستمساك بشرعه، وجعلها مجرد متاع في مسارح الرذيلة وملاهي الخنا ووسائل الإعلان وأوراق الصحف والمجلات وشاشات التلفزة والقنوات الفضائية.
ج - الدعوة إلى التفلت الديني والفوضى الاجتماعية تحت مسمى الحرية والمساواة.
د - إيضاح أن حقيقة الحقوق المزعومة التي يطالبون بإعطائها للمرأة حق الإلحاد والزنا والعري والحمل السفاح والشذوذ الجنسي سالكين طريقة التلميع للوسائل والتزوير للحقائق والإظهار للباطل بمظهر أخاذ.
17- تتبع العلمانيين وكشف تاريخهم ودراسة إنتاجهم الفكري ورصد أنشطتهم ووزنها بميزان الشرع وإبانة ما فيها مما يتناقض مع ثوابت الأمة والسعي إلى زعزعتها لكي يتم فضح القوم وكشف انعزالهم عن قيم الإسلام وحضارته، وارتباطهم خدمة وتربية وفكراً وسلوكاً بجهات خارجية معادية تسعى إلى استئصال هوية الأمة وإحلال قيمها مكانها، وذلك من شأنه أن يمكن العلماء والدعاة من نقل الطرف الآخر من مرحلة الهجوم إلى الدفاع.
18- تتبع مداخلهم النفسية وأنشطتهم الجاذبة لكثير من النساء والعمل على الحد منها والتخفيف من آثارها وإيجاد بدائل إسلامية عنها.
19- العمل على استمالة القريبين فيهم ( أي دعاة التحرر ) من الحق ودعوتهم والعمل على كسبهم إلى جانب الموقف الشرعي الصحيح.(34/63)
20- تحديد الشبهات التي يثيرونها حول النظام الإسلامي في مجال المرأة مما يتخذونه وسيلة لتشكيك المرأة في دينها وزعزعة عقيدتها، والقيام بتفنيدها والإثبات ـ عقلاً وواقعاً - أن النظام الإسلامي هو الطريق الأمثل لحماية المرأة من الظلم وصيانة المجتمع من الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه.
21- بيان حقيقة واقع المرأة في الغرب وكشف ضخامة الأمراض والمشكلات التي تواجهها على كافة الأصعدة ،وفي ذلك أعظم تعرية للعلمانيين والذين يطالبون المرأة في مجتمعاتنا بمحاكاة المرأة الغربية والسير على منوالها إن هي أرادت سلوك طريق التقدم والمضي في دروب الحضارة ـ كما زعموا ـ.
22- إدراك الواقع إدراكاً جيداً وتحليل جوانب القوة والضعف لدى الطرفين ، والاستفادة من ذلك في تحديد أهداف المرحلة والسبل المثلى للمدافعة. إبانة حقيقة النظام الإسلامي في معاملة المرأة، وتجلية محاسنه وإزالة الشبهات التي تثار حوله؛ لأنه لن يدحض الظلام إلا النور كما قال ـ تعالى ـ: ((وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)) [الإسراء: 18].
23- إيضاح الاختلاف الجذري بين النظام الإسلامي وواقع المجتمعات الغربية .
24- تفعيل دور العلماء والواجهات الاجتماعية الخيرة ـ ذكوراً وإناثاً ـ وكافة أفراد المجتمع ومطالبتهم بالقيام بالدور المنشود منهم في مواجهة طروحات العلمانيين ودفع خطرهم، استفادةً منهم من جهة وتوسيعاً لدائرة المعركة من جهة أخرى بدلاً من جعلها كما يريد العلمانيون بينهم وبين الدعاة فقط.
25- زيادة المناشط الدعوية والاجتماعية وتحسينها والاعتناء بتناول الموضوعات المختلفة التي تحتاجها المرأة مع الحرص على التجديد في الأساليب والإبداع في الوسائل لضمان تفاعل المرأة معها بشكل أكبر.
26- توثيق الصلة بالمثقفين ورجال الأعمال ومد الجسور معهم لترشيد أعمالهم من جهة والحيلولة دون أن تكون عوناً للعلمانيين على إفساد المرأة من جهة أخرى، وللتنسيق معهم في اقتحام مجالات جديدة تحتاجها المرأة كصناعة الترويح والملابس ونحوها وفق الضوابط الشرعية.
27- توسيع دائرة الانفتاح الدعوي على كافة مجتمعات النساء: ملتزمات وغير ملتزمات، مثقفات وعاميات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات وأخوات وبنات، وعدم قصر النشاط على فئة دون أخرى.
28- إن الفتاة التي تعيش في عالم التيه والضياع، والفتاة التي تعيش همَّ الحب والعلاقة مع الطرف الآخر، والتي تعيش بين المسلسلات والقنوات الفضائية تحتاج لخطاب غير الذي تحتاجه المهتدية الصالحة، لذا يجب على الدعاة التنبه لذلك.
29- لا بد من تناول قضية المرأة تناولاً شمولياً، وأخذ الأمر من جميع جوانبه دون الاستجابة لتناول دعاة التغريب لجوانب معينة يحددونها ويريدون أن تكون هي موضع النقاش والحوار.
30- نصرة قضية المرأة والدفاع عن حقوقها؛ وذلك بانتقاد بعض الأوضاع والعادات الخاطئة والمخالفة للشرع المطهر في المجتمع بسبب الجهل بالدين وعدم تطبيقه ولنا أسوة حسنة بالنبي r؛ فقد اعتنى بعلاج ما يقع من خطأ تجاه المرأة؛. ومن ذلك: الأوضاع الخاطئة والعادات المخالفة للشرع في تزويجها، كالمغالاة في المهر، واعتباره ميداناً للكسب المادي، وأخذ والدها لكثير من مهرها الذي هو حق لها، ومن ذلك العَضْلُ وتأخير تزويجها طمعاً في الاستفادة من راتبها حين تكون عاملة.
31- لا بد من الاعتناء بتأصيل مبدأ التسليم والخضوع لله ـ تبارك وتعالى ـ والوقوف عند شرعه، والتأكيد على ذلك، وأن المسلم لا خيار له في التسليم لأمر الله سواء أدرك الحكمة أم لم يدركها ((ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب: 63].
32- ينبغي عند تناول القضية والحديث عن المخالفين ألا نحشر الجميع في زاوية واحدة ودائرة واحدة؛ ففرق بين من يساير هؤلاء فيما يطرحون وبين من يحمل الفكر والتوجه العلماني.
33- إتقان لغة الحوار، والحديث العلمي الموضوعي لان دعاة التحرر والمغترين بهم يُدبِّجون حديثهم بحجج ومسوغات تضفي عليه صبغة الموضوعية والحياد العلمي مما يغرر السطحيين من الناس بأقوالهم .
34- ينبغي الاعتناء بالبناء والإعداد، وألا تكون مواقفنا مجرد ردود أفعال لما يثيره الأعداء ،ومع أن هذا لا يعني إهمال القيام بواجب الإنكار وبيان الموقف الشرعي في القضايا التي تثار، وأن ذلك ينبغي أن يكون في وقته، إنما الاعتراض على أن يكون هذا هو وحده محور الحديث ومنطلقه.
35- الاعتناء بتربية الفتيات وتنشئتهن، وهذا يتطلب من أولياء الأمور أن يعتنوا ببيوتهم ويعطوها من أوقاتهم.
36-العناية بمواهب الفتيات الأدبية وتربيتهن على الأدب الملتزم حتى لا يقعن وسط الضجيج الإعلامي في تمجيد رموز الحداثة والفساد ، حيث أن الأدب المنحرف لعب دوراً كبيراً في مسيرة سفور المرأة كما هو معلوم .(34/64)
37- التعرف على المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها المرأة: طالبة على مقاعد الدراسة في الجامعة والمدرسة، أو عاملة لها زوج وأولاد، أو مطلقة، أو ربة بيت، أو غير ذلك، ووضع الحلول الشاملة، وهذا يحتاج إلى إجراء بحوث مكثفة وربما دراسات أكاديمية للوصول إلى أفضل الوسائل للتعامل مع هذه المشكلات.
38- يجب أن يتحول الحجاب وعدم الاختلاط في حس المرأة المسلمة إلى عقيدة يُتعبد الله عز وجل بها بدلاً من أن تكون تقاليد وعادات وجد عليها المجتمع وذلك من خلال الاطلاع على الأدلة الشرعية التي تبين هذا الأمر وتوضحه ، ويكون ذلك من خلال تعليم المرأة المسلمة وتعلّمها لأمور دينها من خلال البيت والمسجد والمؤسسات الدعوية والمؤسسات التربوية . )
39- استثمار شبكة الإنترنت في توجيه المرأة المسلمة في جميع أنحاء العالم فيما يعود عليها بالنفع في دينها ودنياها وفضح مخططات الأعداء الذين يتربصون بها ، سواء بالمشاركة في المنتديات التي تهتم بشؤون المرأة أو فتح مواقع تساعد على ذلك الهدف النبيل.
40- دعم المكتبات الموجودة في المدارس وكليات البنات بالكتب والاشرطة الهادفة التي توضح للفتاة أمور دينها وما يحاك ضدها من مؤامرات .
41- ضرورة مشاركة مكاتب الدعوة والارشاد والمؤسسات الدعوية للاستفادة من الفتيات الحاصلات على المؤهلات الشرعية بالدعوة الى الله سواء في مجال اشراك هؤلاء بالقاء المحاضرات والدروس الشرعية أو الاعمال الخيرية في المجال النسوي .
42- تفعيل دور الصالحات في المجتمع وإفساح المجال وفتح القنوات والميادين الملائمة أمامهن، ومحاولة إعداد بعض المتميزات ـ علماً وتفكيراً وسلوكاً ـ ثم إبرازهن بصفتهن قدوات لنساء المجتمع.
43- يجب أن يكون لإعلامنا مع المرأة المسلمة هدف رئيس ينشد تحقيقه؛ بحيث لا يكون جل نتاجه ردود أفعال لأطروحات الآخر أو تفنيداً لآرائه وهجماته فحسب؛ فالأصل تقديم مادة ذات مهمة وقائية بنائية معاً؛ بحيث تبني شخصية المرأة المتلقية المتزنة والمستقلة القادرة فيما بعد على تفنيد ما تسمعه أو تراه أو تقرؤه!.
44- وضع المسابقات والبحوث في أوساط العوائل والأحياء والمدارس والكليات ، وتكون هذه الأسئلة والبحوث موجهة للمرأة المسلمة فيما يفيدها في أمور دينها ودنياها .
45- يجب على من يجيد فن الكتابة من النساء والرجال أن يبادروا إلى الكتابة في الصحف والمجلات وأن يردوا على أطروحات أدعياء التحرر بالأسلوب العلمي الرصين البعيد عن التجريح والتشنج ومقارعة الحجة بالحجة .
46- يجب على أولياء الأمور أن يعطوا أبنائهم وبناتهم الوقت الكافي من المشاركة معهم فيما يهمهم ويشبع جميع الجوانب النفسية والعاطفية والاجتماعية لديهم وحل المشكلات التي تواجههم حتى لا يتلقوا إشباع هذه الجوانب من قنوات ومصادر منحرفة .
47- مطالبة الجهات الإعلامية والتعليمية بإصلاح ما تقوم ببثه بالمجتمع من برامج ومناهج وان تكون جميعها متوافقة مع شرع الله عز وجل ، حتى يخرج لنا جيلٌ يعتز بدينه ويخدم أمته .
تم جمع هذه الطرق بواسطة( ابن الإسلام )
ومشاركة أعضاء منتدى تحرير المرأة
==============(34/65)
(34/66)
الغرب من الداخل
دراسات للظواهر الاجتماعية
تأليف مازن صلاح مطبقاني
الأستاذ المشارك بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود
الطبعة الثانية -1425هـ 2005م
نشر في الرياض.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
بعد صدور كتابي هذا عن الغرب من الداخل تلقيت العديد من الاتصالات تسأل عنه وعن توزيعه، وتشير إلى أهمية هذا الموضوع وضرورة مواصلة الكتابة في هذا المجال. بل إن فكرة دراسة الغرب ظهرت في العديد المقالات منها مقالة لعبد الرحمن العشماوي يذكر فيها أهمية إنشاء مراكز معلومات حول الغرب بعد أن ذكر أهمية مراكز المعلومات في الغرب التي تسعى إلى معرفة أدق التفاصيل عن العالم الإسلامي، وتساءل في ختام مقالته أين مراكز المعلومات عندنا عن الغرب؟
وقد ظهر مثل هذا التساؤل على لسان مستشرق في أحد المؤتمرات الدولية للمستشرقين قبل أكثر من خمسين سنة حين التفت مستشرق إلى عالم مسلم وسأله "لماذا لا يوجد لديكم دراسات حول الغرب كما يوجد لدينا دراسات حول الإسلام والمسلمين؟"
وما تزال الأصوات تتعالى بضرورة دراسة الغرب، وتأسيس مراكز بحوث وأقسام علمية وحتى كليات لتحقيق هذا الهدف. وكان من ضمنها الاقتراح الذي تقدمت به إلى مجلس عمادة البحث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لإنشاء وحدة للدراسات الأوروبية والأمريكية وتمت موافقة المجلس وكذلك موافقة مدير الجامعة ومن المؤمل أن تبدأ الوحدة عملها في بداية عام 1424/1425هـ
ولكن مع قوة الدعوات لدراسة الغرب فإن هناك من يشكك في قدرتنا على دراسة الغرب، وأننا لا بد أن نصل إلى مستوى الغرب في المجال الفكري والحضاري كي ندرسه. وسخر البعض من هذه الدعوة. بل أنشأ أحمد الشيخ مركزاً لدراسة الغرب ولكن أول إصدار له كان عبارة عن حوار مع عدد من المستشرقين الذين دافعوا عن الاستشراق، ولم يأت بجديد في أهمية دراسة الغرب رغم العنوان الضخم لكتابه.
وها هو الكتاب في طبعته الثانية بعد أن تمت إضافة قسم جديد بعنوان (جوانب إيجابية في الغرب) وكذلك بعض الإضافات حول الحياة الاجتماعية في الغرب. آملاً أن أستطيع مستقبلاً تحديث المعلومات الواردة فيه بشكل أوسع ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وأرجو أن لا تتوقف كتاباتنا عن الغرب على الجوانب السلبية كما يخشى بعض الغيورين على أمتنا أن الكتابة عن سلبيات الغرب وأن انهياره بات وشيكاً يفعل بنا فعل المخدر فنستكين ولا نسعى إلى النهضة والرقي. والحقيقة أنه ما زال في الغرب كثير من عوامل القوة وأننا بحاجة إلى معرفة هذه الجوانب عن قرب. ومن الأمثلة على ذلك أن وكالة إعلام الولايات المتحدة قد دعت عدداً من مدراء الجامعات العرب وبخاصة من دول الخليج لزيارة الجامعات الأمريكية والاطلاع على الطريقة الأمريكية في إدارة الجامعات فاعتذر البعض، وكم كان بودي أن لا يعتذروا فإن بعض جامعاتنا العربية ما تزال تدار بعقلية إدارة مدرسة ابتدائية أو تدار بعقلية إدارة مصنع أو أي إدارة حكومية. فأحد مدراء الجامعات مثلاً يرفض أعطاء موعد لمقابلة بعض أساتذة الجامعة بحجة أن الجامعة أبوابها مفتوحة وما درى المسكين أن وقت الأستاذ مهم وربما أكثر أهمية من وقت مدير الجامعة.
آملاً أن يكون هذا الكتاب مشجعاً لغيري من الباحثين للمشاركة في الكتابة حول الغرب. وأن يكون حافزاً لمن بيدهم القرار أن نبدأ بالخطوة الأولى للدراسات الأوروبية والأمريكية وحتى دراسة الشعوب الأخرى، والله الموفق.
د.مازن مطبقاني
الرياض، 12جمادى الأولى1424هـ
12 يوليو 2003م
مقدمة الطبعة الأولى
عقدت خلال شهر أغسطس عام 1996م "ندوة أصيلة" السنوية في المغرب تحت عنوان: "الواحد من منظور الآخر"، وكان حضور هذه الندوة يتكون من أدباء ومفكرين من العالم العربي ومجموعة من الباحثين الأمريكيين، وكان من بين الموضوعات التي طرحت العلاقات بين العالم العربي والغرب، واتفق المجتمعون على أن العالم العربي تنقصه المعرفة الحقيقية بالغرب فاتفقوا على إنشاء مركز الدراسات الأمريكية في أصيلة نفسها.(1)
وفي شهر ربيع الأخر 1418هـ (أغسطس 1997م) عقد منتدى أصيلة ندوته السنوية وقرر إنشاء معهد الدراسات الأمريكية بالتعاون مع مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد الأمريكية. وقد حضر الجلسة الافتتاحية للندوة الأمير بندر بن عبد العزيز سفير المملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة وقدّم تبرعاً سخياً لإنشاء المعهد وكذلك لإنشاء مكتبة مركزية في مدينة أصيلة.(2)(34/67)
وقد سبقت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض هذه الندوة بأكثر من خمس عشرة سنة حيث أنشأت وحدة الاستشراق والتنصير بعمادة البحث العلمي بالرياض وعمل فيها أساتذة يعرفون الغرب معرفة متميزة أذكر منهم الدكتور قاسم السامرائي والدكتور محمد فتحي عثمان والدكتور السيد محمد الشاهد والدكتور إبراهيم عكاشة. وقد قامت الوحدة بإصدار العديد من الدراسات حول الاستشراق ومنها على سبيل المثال (المستشرقون الناطقون باللغة الإنجليزية) للدكتور الطيباوي وقام بترجمتها الدكتور قاسم السامرائي، وكذلك كتابات الدكتور إبراهيم عكاشة في مجال التنصير في البلاد العربية، وإن لم تكن هذه الوحدة تدرس الغرب من جميع النواحي ولكنها اهتمت بمجالي الاستشراق والتنصير وأصدرت العديد من الكتب في هذين المجالين.
ثم أنشأت جامعة الإمام قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة منذ عام 1403هـ وهو مقتصر على الدراسات العليا حيث لا بد أن يكون الطالب متخرجاً في أحد العلوم الإسلامية أو يعطى سنة تأهيلية لإعداده في هذه العلوم ليتمكن من دراسة كتابات المستشرقين. وقد ضم القسم متخصصين بالإضافة إلى العلوم الشرعية في مجال التاريخ وفي الاجتماع وفي الاقتصاد وفي الإدارة والاقتصاد. وتضمنت المناهج الدراسية في هذا القسم دراسة أصول الحضارة الغربية بالإضافة إلى دراسة اللغات الأوروبية التي من المتوقع أن يكون الطالب متقناً لإحداها.
1. جوانب إيجابية من الغرب
اهتم القسم الأول بتحديد مفهوم الآخر وفقاً لما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، ثم بعض الجهود الأوروبية في معرفة العالم الإسلامي منذ بداية الدراسات الاستشراقية التي تطورت لتشمل جميع مجالات الحياة في العالم الإسلامي، ثم تناولت الدعوة التي ظهرت حديثاً لدراسة الغرب وأوضحت في هذه الجزئية مختلف الشخصيات التي اهتمت بهذا الجانب.
أما القسم الثاني فهو حول الظواهر الاجتماعية في الغرب، قدمت أولاً تعريفاً بما يسمى ظواهر اجتماعية وفقاً لبعض الموسوعات الأمريكية، وتناول هذا القسم الظواهر الاجتماعية من خلال المراجع الأوروبية أو من خلال ما تنشره الصحف والمجلات العربية حول هذه الظواهر التي تضمنت: الأسرة، والمرأة، والطفل، والجريمة، والأخلاق وغير ذلك من الظواهر.
أما القسم الثالث فيهتم بإظهار بعض الجوانب الإيجابية في الغرب علنا نفيد منها، مثل التنظيمات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وذلك عملاً بالقول المأثور (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها).
ولعل سائلاًً يسأل ما علاقة دارس الاستشراق بالظواهر الاجتماعية في الغرب فأقول إن كان لنا أن نفهم الغرب على حقيقته وأن تؤتي دراستنا للدراسات العربية الإسلامية في الغرب ثمارها فعلينا أن نفهم الغرب فهماً دقيقاً وعميقاً. وكما أشار الدكتور حسنين ربيع -نائب رئيس جامعة القاهرة للشؤون الأكاديمية- في مناقشة أول رسالة دكتوراه يمنحها قسم الاستشراق بالمدينة المنورة إلى أننا يجب أن ننتقل من دور المدافع إلى المهاجم. وإن كان مثل هذا البحث لا يقصد تماماً الهجوم ولكنه يسعى إلى الفهم.
أشكر الأستاذ الدكتور أبو بكر باقادر المتخصص في علم الاجتماع الذي قرأ البحث وأبدى رأيا مفاده أننا بالحديث عن سلبيات الغرب إنما نتوجه إلى الناس ليستمروا في نومهم وسباتهم وإنما علينا أن نبحث عن الإيجابيات في الغرب لنتعلم منها ولننهض بدلاً من تخلفنا الذي نعيشه. وهو محق إلى حد ما في هذا التصور ولكن يجب أن يدرك الجمهور المسلم أن نهضة الغرب وتركيزه على المادة كانت له هذه الآثار السلبية، ولعل مثل هذا البحث يقع في أيدي بعض المنبهرين بالغرب فيكفوا عن هذا الانبهار ويكتفوا بالإيجابيات إن صدقوا في نصحهم لأمتهم. (3)
ويسرني أن أشكر كل من الأستاذ الدكتور أحمد الخراط الذي قدم ملاحظات لغوية وفكرية والابن المهندس المثقف خالد المغامسي رحمه الله تعالى، والابن الدكتور محمد السرحاني المتخصص في الاجتماع ثم الاستشراق اللذين أبديا ملاحظات قيمة. كما أشكر الأستاذ عائض الحجيلي على تخريجه الأحاديث الشريفة وبعض الآيات القرآنية وأشكر الابن علي باقيس على قيامه بتخريج بعض الآيات والمراجعة الطباعية.
مازن مطبقاني
المدينة المنورة في 20ربيع الآخر 1418هـ
الموافق 23 أغسطس 1997م
القسم الأول
المعرفة بالآخر
أولاً: الآخر في القرآن الكريم والسنّة الشريفة
إن المعرفة الحقيقية بالنسبة للمسلم هي التي تبدأ من القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، لذلك بحثت في هذه المسألة فوجدت أن القرآن الكريم قد أولاها عناية خاصة، فقد قسمت سورة البقرة البشر إلى ثلاثة أصناف: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين. وبعد ذلك تحدث القرآن عن نماذج من هذه الأصناف وصفاتهم.(34/68)
والآخر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا كفار قريش، واليهود، والنصارى، والمنافقون. وقد قدمت الآيات الكريمة صوراً واضحة لكل فئة من هؤلاء، وأوضحت كيفية التعامل معهم، فبالإضافة إلى توضيح صورة الآخر عقديا فقد اهتم أيضا بالجوانب الأخرى، فها هي صورة العربي الجاهلي وموقفه من المرأة {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون}(4). وأوضح القرآن الكريم انحرافات قوم لوط وانحرافات قوم شعيب، وقد روى البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها صور النكاح في الجاهلية مقارنة إياها بالصورة التي ارتضاها الإسلام.(5) وورد في السيرة النبوية الشريفة وصف جعفر بن أبي طالب للإسلام وكان من هذا الوصف بعض الأمور الاجتماعية.(6)
ويسبق معرفة الآخر معرفة الذات أو النفس، ليؤكد أمرين أولهما: تثبيت الهوية الخاصة بالمؤمنين بتوضيح صفاتهم، وأخلاقهم، وعلاقاتهم بالكون والحياة، فقد وردت كلمة الإيمان بمشتقاتها المختلفة، آمن، آمنوا، يؤمنون، مؤمنون، مؤمنين، مؤمنات .. أكثر من سبعمائة مرة، ولو أضفنا الصفات الأخرى المرادفة مثل: الصادقين، والقانتين، والمتصدقين، والخاشعين، لكان أكثر من ذلك. فمن الآيات التي توضح خصائص المؤمنين قول الله تعالى في وصفهم في مقدمة سورة البقرة {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}(7) ومن ذلك قول الله عز وجل {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رءوف العباد}(8) وقد وردت أحاديث كثيرة توضح صورة المسلم ومنها قوله e (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)(9) وقوله e (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(10) وقوله e في وصف المؤمنين (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.)(11)
ثانيا: معرفة الآخر بصفاته، فقد وردت لفظة الكفر أيضا بمشتقاتها المختلفة، كفر، كفروا، كافرون، كافرين، يكفرون حوالي خمسمائة مرة، وكذلك الأمر بالنسبة لصفات الكافرين والمشركين مثل الكذب، والظلم، والفساد، والخداع، والجحود. ومن ذلك وصف الكافرين في سورة البقرة {إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}(12) وقد جاءت أوصاف المنافقين في مقدمة سورة البقرة في ثلاث عشرة آية ومنها قوله تعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}(13) ومن أوصاف الكفّار في القرآن الكريم قوله الله تعالى {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}(14) وبالنسبة للمنافقين فقد جاءت سورة باسمهم (المنافقون) وجاءت سورة أخرى تفضحهم بأعمالهم وهي سورة (التوبة) حتى إنها سميت سورة الفاضحة لكثرة ما ورد فيها من صفات المنافقين. ومن الأحاديث الشريفة التي توضح صفات المنافقين قوله e (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد اخلف وإذا أؤتمن خان)(15)
وهكذا فالحدود الفاصلة بين "نحن" و "الآخر" واضحة جداً لدى المسلم، وقد يتساءل المرء: ما سر هذا الأمر؟ وما أسبابه؟ إن أسباب هذا الوضوح هو أننا أمة الدعوة، وأمة الشهادة، والأمة الوسط، ونحن مكلفون بالدعوة إلى هذا الدين {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن}(16).
ويرى محمد عمارة "أن الحديث عن 'الذات' و'الآخر' ثقافياً لابد أن يقود إلى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الغربي"(17) ويؤكد عمارة بأن "الإسلام هو المكون لذاتيتنا الثقافية والمحدد لمعالم نموذجنا الثقافي وتميزنا عن 'الآخر' الغربي قائم فقط حيث يكون التميز والاقتران الأمر الذي يجعل علاقة نموذجنا الثقافي -الذات الثقافية- بالآخر هي علاقة التميز والتفاعل."(18)
والآخر ليس هو فقط النصراني أو اليهودي أو المنافق بل الآخر أيضاً أناس من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ولكنهم اختاروا نهجاً يجعلهم أقر ب إلى الآخر، فهم ليسوا في الصف الإسلامي وإن زعموا أنهم حريصون على مصالح الأمة، وهؤلاء ليسوا المقصودين تماماً بهذا البحث، ولكني سأعرج عليهم لأصف بعض مواقفهم وأقدم نماذج من فكرهم.(34/69)
وعندما خرج المسلمون من الجزيرة العربية منطلقين من طيبة الطيبة، كانوا أولا يعرفون دينهم معرفة حقيقية، ويعرفون ما يدعون إليه، كما كانوا يعرفون الأمم الأخرى، دخل أحد رسل جيش سعد ابن أبي وقاص t على القائد الفارسي، وأراد أن يجلس معه على سريره، فحاول الحرس منعه، فقال لهم: (كنا نظنكم أولي أحلام تتساوون فيما بينكم، فإذ بكم يستعبد بعضكم بعضا) ثم أضاف تلك المقولة البليغة: (إن قوما هذا حالهم فمصيرهم إلى زوال)(19) وكان المسلمون يعرفون الروم ونظام حياتهم، فلذلك نجحوا تماما في دعوتهم.
واستمرت معرفتنا بالآخر قوية وواسعة ودقيقة. فبدأت الترجمة كما يصنفها حسن حنفي على عدة مراحل ودرجات منها: الأولى الاهتمام بالنصوص وترجمتها حرفياً أي الاهتمام باللفظ، ثم كانت المرحلة الثانية التي اهتمت بالمعنى، ثم المرحلة الثالثة التي اهتمت بالشرح والإضافة والنقد.(20) واستمرت معرفتنا بالأخر حتى عندما التقى المسلمون بالنصارى في الحروب الصليبية قدم لنا أسامة بن منقذ وصفاً دقيقاً لطباع الإفرنج، فهو يصف شجاعتهم وقوتهم وجلدهم، ولكنه يتعجب من ضعف غيرتهم أو عدمها على الأعراض، ويتحدث عن هذه النقطة بتفاصيل دقيقة مثيرة للاهتمام(21).
وفي الوقت الذي توقفنا أو تراجعنا عن معرفة أنفسنا، وكذلك عن معرفة الآخر، انتبه الغرب إلى هذا الأمر، فبدأ نشاطه العلمي بدراسة الحضارة الإسلامية ومنجزاتها في شتى المجالات، وتأكد لديهم ضرورة معرفة الذات فعادوا إلى جذورهم اليونانية اللاتينية وكذلك اهتموا بتراثهم النصراني اليهودي، فلا يمكن للأديب الغربي أو المفكر الغربي أن يزعم أنه أديب أو مفكر لو لم يكن على دراية بهذا التراث. ويرى الدكتور حسن حنفي أن مصادر الفكر الغربي أربعة، مصدران معلنان، ومصدران غير معلنان، فالمصدران المعلنان هما المصدر اليوناني -الروماني والمصدر اليهودي- المسيحي، أما المصدران غير المعلنين فهما المصدر الشرقي القديم الذي يتضمن المصدر الإسلامي والرابع هو البيئة الأوروبية، ويرى أن "أحد أسباب مؤامرة الصمت على المصادر غير المعلنة هي العنصرية الدفينة في الوعي الأوروبي التي جعلته لا يعترف إلاّ بذاته وينكر وجود كلَّ غَيْرٍ له، فهو مركز العالم احتل صدارته وله مركز الريادة فيه."(22)
نعم كثفت أوروبا جهودها في مجالين: معرفة الذات، ومعرفة الآخر، فبالإضافة إلى الجهود الضخمة في الترجمة والنقل عن اللغة العربية واللغات الإسلامية الأخرى بدأوا في إرسال الرحّالة المستشكفين إلى عالمنا الإسلامي، تزيا بعضهم بأزياء البلاد التي زارها، وأعلن بعضهم إسلامه ليتعمقوا في معرفتنا(23). وساند هذا الجهد نشاط الاستشراق، ومن تتح له الفرصة لدراسة ترجمات المستشرقين يذهله ما بذله القوم من جهود مضنية في دراستنا.
وتميز عمل القوم بالنظام الشديد الصارم، وهو ما تميزنا به يوم أن كنا متفوقين، فعقدوا المؤتمرات السنوية للجمعية الدولية للمستشرقين، وقد بدأ أول مؤتمر عام 1873 وما زالت هذه المؤتمرات تعقد حتى اليوم حيث عقد المؤتمر الخامس والثلاثون في بودابست بالمجر(*) وعقد المؤتمر السادس والثلاثون في مونتريال بكندا عام 2000م وسيعقد المؤتمر السابع والثلاثون في موسكو عام 2004م. كما أنهم إذا نبغ فيهم مستشرق أصبح قبلة لهم وقد حدث هذا عندما كان سلفستر دو ساسي Silvest r e de Sacy يرأس مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس.
وليست المؤتمرات هي النشاط الوحيد، فإنهم أسسوا مئات الأقسام العلمية للدراسات العربية والإسلامية، وأنشأوا مراكز البحوث والمعاهد وعقدوا وما زالوا مئات الندوات والمؤتمرات، ونشروا ألوف أو عشرات الألوف من الكتب والدوريات، ولم يكتفوا بجهودهم وحدهم في معرفتنا، بل استقدموا أبناء الأمة الإسلامية للدراسة عندهم وبخاصة طلاب الدراسات العليا، فأصبحت رسائل الماجستير والدكتوراه تنقل إليهم أدق التفاصيل في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية، وكذلك بعض الندوات والمؤتمرات التي تعقد في بعض البلاد العربية الإسلامية بتمويل من بعض المؤسسات العلمية الغربية حيث يحضرها بعض المراقبين من الغربيين.
واهتمام الغربيين بالذات ما زال قائماً فبالرغم مما يجمع الدول الأوروبية من صلات في المعتقد والتاريخ واللغات فإن هذه الدول حريصة على هويتها القومية. وقد ذكرت الصحف أن شاباً عربياً أراد أن يضع صحناً هوائياً فوق منزله في ألمانيا فرفضت السلطات المحلية بحجة "حماية الإنتاج الوطني، والحفاظ على خصوصية الثقافة الألمانية." وأشار عاصم حمدان إلى أن الفرنسيين أصروا على استثناء القضايا الثقافية من معاهدة (الجات) حرصاً منهم على مقاومة المد الإعلامي الأمريكي المتمثل في المسلسلات التي تنتجها هوليوود وتمثل ثقافة مختلفة عن ثقافة المجتمع الأوروبي(25).(34/70)
ويأتي إصرار فرنسا على استثناء الإنتاج السينمائي والتلفزيوني من مباحثات (الجات) هو أن الجانب الأمريكي هو الجانب المتفوق حالياً في التبادل السينمائي بين أوروبا وأمريكا، ويصر المخرج الفرنسي روجيه بلانشو على أن مشكلة أوروبا الثقافية والفنية التي لم ينظر إليها رجال السياسة ولم يخطط لها أحد، وقال "في حرب الصور التي بدأت اليوم حكم القوي على الضعيف هو المنتصر."(26)
وقد نشرت جريدة التايمز تقريراً صحفياً يشير إلى أن دور عرض السينما البريطانية تلقت دعماً نقدياً من الاتحاد الأوروبي لقيامها بعرض الأفلام المنتجة في أوروبا وذلك لمواجهة الأفلام الأمريكية، فقد تسلمت ثمانية دور سينما في بريطانيا عام 1993م (13,500 جنيه إسترليني) -حوالي سبعين ألف ريال- لعرضها على الأقل خمسين في المئة من الأفلام الأوروبية، وأشارت الصحيفة إلى أن هذه المساعدات النقدية هي جزء من برنامج أكبر وأشمل لتطوير صناعة السينما والوسائل المرئية-المسموعة ودعمها.(27)
وقد تناولت الصحف القرارات التي أصدرتها الحكومة الفرنسية قبل عامين لحماية اللغة الفرنسية وذلك بفرض عقوبات على كل من يستخدم أي لغة أجنبية في المعاملات الحكومية أو غير الحكومية أو في الإعلانات، كما جعلت اللغة الفرنسية هي لغة المؤتمرات والندوات العلمية التي تعقد في فرنسا. وقد اتخذت فرنسا هذه الإجراءات لمقاومة الهجمة الشديدة من اللغة الإنجليزية بصفة خاصة.
ثانياً: الدعوة إلى دراسة الغرب
ظهرت في عالمنا الإسلامي منذ عدة سنوات دعوات لدراسة الغرب أو إخضاعه لدراستنا، ومن ذلك ما كتبه السيد محمد الشاهد حول أهداف هذه الدراسة فذكر منها "طلب علوم الغرب للإفادة من صالحها وبيان فساد طالحها، والخلفية الفكرية للفكر الغربي" (28)، وأوضح من ضمن الموضوعات التي يمكن دراستها:
أ- دراسة عقيدة الغرب دراسة موضوعية بعيداً عن الحماسة والعاطفة.
ب- دراسة الشخصية الغربية من حيث مكوناتها وبنائها النفسي والاجتماعي.(29) وأكد السيد الشاهد في مقالة أخرى على قضية مهمة وهي "إن علينا أن نبحث عن مخرج من موقفنا الضعيف إلى موقع قوي مؤثر، ولا يمكن ذلك إلاّ بدراسة علمية صادقة لما عليه أعداؤنا ولا حرج أن نتعلم من تجاربهم ومناهجهم ونأخذ منها ما ينفعنا ونترك منها ما عدا ذلك."(30)
كما أصدر الدكتور حسن حنفي كتابا ضخما بعنوان مقدمة في علم الاستغراب، تناول فيه أهمية دراسة الغرب فأوضح أن مهمة علم "الاستغراب" هي "فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس. مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب لغة وثقافة وعلماً ومذاهب ونظريات وآراء."(31) وأشار في مواضع أخرى إلى مهمات أخرى لعلم "الاستغراب" ومنها أنه يسعى إلى القضاء على "المركزية الأوروبية Eu r ocent r icity،Eu r ocent r is ، بيان كيف أخذ الوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة، مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء ودور النشر الكبرى ومراكز الأبحاث العملية والاستخبارات."(32).
ويرى حسن حنفي أنه ظهر في العالم العربي من اهتم بدراسة الغرب ولكنه أطلق على هذه الدراسات بالاستغراب "المقلوب" ويبرر هذه التسمية بأنها تؤدي إلى أنه "بدلاً من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه رأى صورته في ذهن الآخر، بدل أن يرى الآخر في مرآة الأنا رأى الأنا في مرآة الآخر. ولما كان الآخر متعدد المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه." وضرب حسن حنفي المثال لهذا بكتابات محمد عابد الجابري وهشام جعيط، ومحمد العروي، وهشام شرابي وغيرهم.(33)
وتأتي أهمية دراسة الغرب لمواجهة حالة الانبهار التي أصابت كثيراً من أبناء الأمة الإسلامية، فيرى البعض أن النظام السياسي الأمثل هو الذي أوجدته الحضارة الغربية وقد دعوت إلى هذه الدراسة في كتابي الغرب في مواجهة الإسلام، فقد ورد في هذا الكتاب العبارة الآتية "انظر كيف يدرسوننا، وكم يبذلون من الجهود والأموال لمعرفة ما يدور في بلادنا. وهل نحن ندرسهم بالمقابل؟ بل قبل ذلك هل عرفنا أنفسنا كما يعرفون عنّا ؟ إن هذا الأمر يحتاج من مفكرينا وعلمائنا وقفة متأنية."(34) وقد تأكدت لي ضرورة هذه الدراسة نتيجة لما تعرفت إليه من بعض الصور الحياتية التي تدل على عدم ثقة البريطانيين في حكومتهم رغم أنها أقدم ديموقراطية في أوربا.(34/71)
واستمرت مقالاتي تدعو لدراسة الغرب وكان منها مقالة بعنوان "بل لابد من دراسة الغرب ونقده" جاءت رداً على مقالة عبد الرحمن العرابي التي ينتقد فيها الاهتمام الزائد بالغرب والكتابة عنه، ومما بررت به ضرورة دراسة الغرب أنه ظهر من أبناء المسلمين من درس في الغرب ورجع إلينا متشبعاً بالروح الغربية حريصاً على تقليد الغرب في كل شيء فكان لابد من معرفة الغرب معرفة حقيقية ومما كتبته في حينها "في مثل هذه الأجواء يجب الاستمرار في دراسة الغرب والإطلاع على عوراته وعيوبه وتبصير الأمة بها ولا بد كذلك من دراسة إيجابيات الغرب فإن للسلف أقوالاً في وصف أعدائهم لم يمنعهم الإسلام من ذكر محاسنهم وهذا ما جاء في قوله تعالى {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}(35)، وختمت المقالة بالقول "إننا بحاجة لدراسة الغرب كيف نهض نهضته الصناعية المدنية، وكيف بنى مؤسساته ثم كيف بدأ الانهيار حتى نأخذ بأسباب الانطلاق ونتجنب أسباب الانهيار."(36)
وكانت كلية الآداب بالرباط بالتعاون مع مدرسة الملك فهد العليا للترجمة وجمعية الدراسات المشرقية في المغرب ومكتب تنسيق التعريب في العالم العربي قد عقدت ندوة حول الاستشراق عام 1994م، وجاء في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها أحمد شحلان دعوته إلى الاهتمام بالدراسات الاستشراقية مشيراً إلى أن الهدف من ذلك هو "أن نعرف ونقوّم الدرس الاستشراقي تاريخاً وحضارة بمنظور مغربي (إسلامي) رزين يعيد النظر في تاريخ الاستشراق ويعرِّف بمعاهده وأعلامه ويبرز أعمالهم كما هي."(37) وأضاف شحلان في تلك الكلمة إلى دراسة الغرب بقوله "أليس من الجميل أن يصبح في جامعاتنا أقسام نسميها أقسام الاستغراب في مقابل الاستشراق؟ أليس من الجميل أن نعتبر الطرف الآخر هو أيضاً موضوع الدرس والتنقيب؟"(38) وكتبت في حينها أؤيد ما دعا إليه الدكتور شحلان في ثلاثة مقالات أوضحت فيها جهود جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في دراسة الاستشراق ومنابعه الفكرية من خلال إنشاء وحدة الاستشراق والتنصير بعمادة البحث العلمي في الرياض، ثم إنشاء قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة. وأيدت الدعوة التي نادى بها شحلان في المؤتمر المغربي وأضفت بأننا نحتاج بالفعل إلى إنشاء كلية للدراسات الأوروبية (والأمريكية) وختمت تلك المقالات بالعبارة الآتية "لهذا كله فلا بد من التفكير الجاد في هذا الاقتراح بإنشاء كلية متخصصة لدراسة الغرب دراسة عميقة، وهذه الدعوة موجهة إلى الجامعات الإسلامية بعامة وإلى الجامعات في بلادنا بخاصة. وإن جامعة الإمام التي كانت سبّاقة ورائدة في دراسة الاستشراق لقادرة بإذن الله على مثل هذه المشروعات الكبرى بعد دراستها من قبل المتخصصين"(39) ونبهت إلى أن الذي يدرس الغرب ينبغي له أن يكون على معرفة عميقة وصحيحة بالإسلام، حتى يكون قادراً على فهم الغرب من منطلق إسلامي*.
وكتبت في مناسبة أخرى أدعو إلى إخضاع الغرب إلى الدراسة في شتى المجالات بالقول "لا شك أن دراسة الغرب تتطلب تخصصاً كالقانون أو الاجتماع أو السياسة أو علم الإنسان أو التاريخ...الخ.. وقبل أن يتساءل القارئ وما شأننا بكل هذا فنقول أليس الغرب أمة يجب أن نتوجه إليهم بالدعوة ونحن مطالبون بالشهادة على الأمم فكيف للشاهد أن يشهد دون أن يعرف معرفة دقيقة موضوع شهادته"(41) وهو ما ورد في قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(42)
ويرى محمد عثمان الخشت بأن فهم الغرب أمر ضروري لفهم موقفهم من الإسلام ويقول في ذلك "ولذلك يتعين على المثقفين الإسلاميين لا نقد الفهم الغربي للإسلام وحضارته فقط وإنما كذلك إقامة 'علم الاستغراب' كعلم يدرس الحضارة الغربية لا لهدمها وبيان إفلاسها الروحي وأنها على وشك الانهيار بل لفهمها من الداخل واكتشاف هويتها بعقل مفتوح وقلب ملتزم"(43) ويضيف الخشت قائلاً "وإنما نحن نعاني مما يعاني منه الغرب في هذا الإطار فنحن لم نفهم الغرب بعد فهماً موضوعياً، والسبب ببساطه هو أنه لم يقم عندنا 'علم الاستغراب' كعلم دقيق حتى الآن، وإنما مزاعم بهذا الشأن هي مجرد أهواء وسراب."(44)
وقد ازدادت الأصوات المنادية بدارسة الغرب فقد كتب قسطنطين زريق يقول "إن الحضور الأمريكي في الذهن العربي ليس في مجمله صحيحاً وكافياً لأنه ليس وليداً لدينا من معرفة صادقة وموثوق بها ومن علم حي متنام."(45)(34/72)
وقد انتقد إدوارد سعيد عزوفنا في العالم العربي عن دراسة الغرب، فذكر أن العديد من المثقفين العرب المسلمين يذهبون إلى الغرب ليكتبوا عن العالم الإسلامي ومما قاله "إن صادق جلال العظم مثلا الذي يفترض أنه ناقد كبير قضى ثلاث سنوات في أمريكا وجل ما فعله هو تدريس الشرق الأوسط إلى صغار أمريكا.." وأطلق سعيد على ذلك بأنه نوع من "النرجسية التي تدعو إلى الأسى عند جزء من المثقفين العرب" وتساءل سعيد "لماذا لا تكون لدينا إسهامات عربية معاصرة أكثر أهمية في دراسة فرنسا وألمانيا أو أمريكا" فالعرب أصبحوا في نظر سعيد "أسرى حالة من الـ (غيتو) لأنهم يكتبون عن العالم العربي بالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، وينظر إليهم كمخبرين محليين."(46)
ويؤكد سعيد هذه الفكرة حين التقى مجموعة من الشباب اللبناني يكتبون عن لبنان في أمريكا، فقال لهم "لستم هنا لكي تكتبوا عن أنفسكم، تستطيعون الكتابة عن لبنان في لبنان، هنا يتوجب عليكم أن تكتبوا وتشاركوا في الجدالات الدائرة حول أمريكا في أمريكا."(47)
ولعل إدوارد سعيد فاته أن هذا الأمر قد خطط له منذ عشرات السنين، فقد جاءت لجنة حكومية بريطانية برئاسة السير وليام هايترSi r William Hayte r للتعرف على الدراسات العربية الإسلامية في أمريكا وكندا فوجدت أن معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مقيل McGill قد وجه طلابه المسلمين ليكتبوا عن بلادهم، وأقنعهم بأن هذه الكتابة ستكون في مصلحتهم لأنهم سينظرون إلى مشكلاتهم من بعد (مسافة) وربما قيل لهم "إنكم ستحررون هناك من بعض القيود في بلادكم"، فأعجبت الفكرة أعضاء اللجنة، وجعلوها ضمن توصياتهم(48). ولكن الأمر من هذا حين تتحول بعض الرسائل إلى نوع من التجسس على العالم العربي الإسلامي، بما تقدمه من معلومات يصعب على الغربيين الوصول إليها، كما أشار إلى ذلك أحمد غراب من توجيه بعض الأساتذة تلاميذهم من العرب والمسلمين دراسة قضايا معينة في بلادهم.(49)
وأعود إلى إدوارد سعيد لأقتبس من مقالته التي نشرت في 17 صفر 1417هـ والتي أكد فيها ضرورة معرفة الآخر، فهو يقول "ولا أعتقد أن من الإجحاف القول إن العرب هم الأقل مساهمة في تغيير الحضارة والسياسة والمجتمع في الغرب، ونحن نتمتع في بلداننا بأحدث البضائع الاستهلاكية وكل وسائل الراحة المستوردة من الخارج وليس من يضارعنا فيم عرفة آخر طراز سيارة مر سيدس أو البرامج التلفزيونية المفضلة، لكنني لا أعرف جهدا منظما في الجامعات العربية وفي مؤسساتنا الدينية لتعميق معرفتنا بالآخر، أي بالمجتمعات المختلفة واللغات والتواريخ التي تشكل عالمنا الحالي.."(50)
وكنت أشرت من قبل إلى مقولة عبد الرحمن العرابي بعدم ضرورة إشغال أنفسنا بدراسة الغرب والكتابة عنه فقد كتب هاشم صالح -تلميذ محمد أركون- منتقداًً الدعوة إلى "علم الاستغراب" بدعوى أننا ما زلنا غير قادرين على الوصول إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم في العلوم ومناهج البحث، بل إنه استهزأ بمشروع حسن حنفي في دراسة الغرب (الاستغراب) بقوله "كيف يمكن لهذا 'العلم' الغريب الشكل أن ينهض على أسس قويمة إذا كنّا عاجزين حتى الآن عن استيعاب الثورات اللاهوتية والابستمولوجية والفلسفية للفكر الغربي، وإذا كنّا عاجزين عن إحداث مثلها في ساحة الفكر العربي؟ وكيف يمكن لنا أن نقف موقف الند من الغرب إذا كنّا لا نملك أبسط المقومات حتى مشروع الترجمة لم نقم به كما ينبغي."(51)
وهناك من يرى أننا لم نصل بعد إلى إنتاج فكر يقف في وجه الفكر الغربي ومن هؤلاء من كتب قائلاً:" علم الاستغراب يحتاج إلى أن يكون لدينا فكر يستطيع مواجهة الفكر الغربي الحديث لكن للأسف نحن لم نصل بعد إلى المستوى الأوروبي ولم نقف بعد في مصاف ما ينتج هناك ففي مجال الفكر ما زلنا عالة على الغرب"(52)
وما يمكن قوله لهذا المتعجب من دراسة المسلمين للغرب هو هل من الضروري أن يمر المسلمون بالأدوار الفكرية والفلسفية التي مرّ بها الغرب حتى نفهم الغرب؟ وهل من الضروري أن ننقد القرآن الكريم والسنة المطهرة وفقاً لنقد النص الذي قام به الغربيون لنصوصهم "المقدسة" حتى يمكننا أن ندرسهم؟ ولكن ألا يعرف الكاتب أن الأمة الإسلامية مطمئنة إلى أن كتاب ربها قد نقل إليها بالتواتر فليس في الدنيا كتاب نال من العناية والاهتمام ما ناله القرآن الكريم. ومن ناحية أخرى يؤمن المسلمون بأن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(53) فهذا هو المنطق المعكوس أن نتوقف عن التفكير في دراسة الغرب حتى نمر بجميع المراحل الفكرية التي مر بها الغرب، وأن نطعن في نصوصنا دون النظر إلى الجهود التي بذلها العلماء المسلمون في الحفاظ على الكتاب والسنة وهي جهود لم تقم بها أمة من الأمم لحفظ كتاب ربها وسنة نبيها.(34/73)
وجاءت ندوة "أصيلة" لتدعو إلى إنشاء مركز الدراسات الأمريكية فكانت المبررات التي نشرت تتلخص فيما يأتي "فقد اتفق الحضور على وجود بعض أشكال من عدم الفهم للعروبة والإسلام في أمريكا وهذا ما يصعّب تقديم قضايا العرب والمسلمين بصفة جيدة كذلك اتفقوا بالمقابل على عدم التفهم العربي الكافي لأمريكا ومجتمعها وعمل إدارتها السياسية."(54) ورأى المجتمعون أن من الأهداف التي من الممكن تحقيقها من إنشاء المعهد "تقريب وجهات النظر وتقديم رؤية معتمدة على المعلومات المعاصرة وليس على الحساسيات التاريخية التي تتحكم بالجانبين" أما الوسائل التي سيستخدمها المعهد في تحقيق أهدافه فكما أشار الخبر "تقوية الحوارات والاتصالات بين الأكاديميين والصحافيين والعلماء والاقتصاديين من كلا الطرفين، كما يطبع الأعمال الثقافية والفكرية التي تخدم كافة أشكال الحوار الحضاري بين الثقافتين العربية والأمريكية."(55)
ومن الطريف أنني قبل ندوة "أصيلة" بأسبوعين تقريباً وفي المحاضرة التي ألقيتها بدعوة من نادي أبها الأدبي وفي 8 ربيع الأول 1417 ناديت بإنشاء كلية الدراسات الأوروبية والأمريكية و هذا ما قلته في تلك المحاضرة "وأجدها فرصة مناسبة لأدعو من هذا المنبر لإنشاء كلية للدراسات الأوربية أو مركز أبحاث الدراسات الأوروبية في المدينة المنورة، تكريما لهذه المدينة العظيمة التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية فعم نورها أرجاء الدنيا وما زال."(*)
وقد أثار هذا الاقتراح الكثير من ردود الأفعال المؤيدة، ومنها ما كتبه عبد القادر طاش مشيراً إلىً أن الواقع يشهد نقصاً في "المعرفة العلمية الموضوعية... لابد لمثل هذا المعهد أن يعنى عناية فائقة بالدراسات الجادة التي تقدم لنا -نحن العرب والمسلمين- رؤية عميقة وموضوعية عن الفكر الأمريكي في تجلياته الإيجابية وفي قصوره السلبي وعن التيارات الثقافية التي يموج بها المجتمع الأمريكي وذلك لنعرف أمريكا على حقيقتها عوضاً عن الاعتماد على الانطباعات العجلى والرؤى القاصرة."(57)
ولكن طاش توقف عند فكرة الحساسيات التاريخية(*) التي يريد مؤسسو المركز استبعادها من أن تكون مصدراً للمعرفة فقال "ولكننا -مع ذلك- لا ينبغي أن نقلل من أثر الدوافع التاريخية في توتير العلاقة بين الطرفين فكرياً وثقافياً. كما لا ينبغي إهمال النظر إلى العوامل الأيديولوجية والسياسية وحتى الاقتصادية التي تؤثر على تلك العلاقة سلباً أو إيجاباً. لذلك فإن الرؤية المتكاملة تفرض علينا دراسة ظاهرة العلاقة بين أمريكا والعرب في ضوء كل هذه العوامل مجتمعة ولا يمكن فصل الحاضر عن الماضي."(59)
وتعجب عبد الرحمن الراشد أن لا توجد في العالم العربي دراسة "العلوم الأمريكية بتخصيص كلية أو مركز لها." وأشار إلى أن لدى الأمريكيين العشرات من المراكز والكليات المتخصصة في تدريس وإجراء بحوث عن منطقة الشرق الأوسط. وهناك مئات الجامعات الأمريكية التي تدرس العلوم الإسلامية وحضارتها ضمن برامج مكثفة في حين أننا لا نملك قسماً واحداً متخصصاً في العلوم الأمريكية مع أننا نعيش في القرن الأمريكي."(60) وأكد الراشد على ضرورة هذه الدراسات بقوله بأننا "لا يمكن أن نفهم ممارسات النظام الأمريكي سياسة واقتصاداً وثقافة من خلال تفاسير بسيطة تنطلق من روح المؤامرة الدائمة أو اللوبي الصهيوني أو لوبي السلاح، بل هناك دولة عظمى تتنازعها قوى داخلية كبرى وتؤثر على سياساتها طروحات حزبية أهم من إسرائيل وغيرها."(61)
ولا بد هنا من التأكيد على أن أمريكا وإن كانت القوة العظمى في العصر الحاضر فإن هذا لا يمنع من دراستها ليس بالروح الانهزامية التخاذلية، كما نؤكد ما قاله عبد القادر طاش بأننا لا ينبغي أن نغفل العامل التاريخي أو الأيديولوجي أو السياسي أو حتى الاقتصادي في العلاقات بين العالم العربي الإسلامي وأمريكا والغرب عموماً.
وقد علّق أحد القراء على هذه القضية وأضاف بُعداً جديداً بأن دراسة الولايات المتحدة وحدها لا تكفي فلا بد أن تتسع هذه الدراسات لتشمل دول الاتحاد الأوروبي ونمور آسيا والصين والهند وروسيا.(62) وهو ما ينطبق عليه تعريفنا للآخر وفقا للمفهوم القرآني كما أوضحناها في بداية هذا البحث.
ولابد أن تنطلق رحلتنا لمعرفة الآخر من أسس شرعية، وقد كانت محاضرة الدكتور جعفر شيخ إدريس في مهرجان الجنادرية لهذا العام رائعة جدا في تحديد هذه المنطلقات، وأحب أن ألخصها هنا في النقاط الآتية:
1- كل جماعة من البشر ترى أن ما هي عليه من المعتقد والقيم والعمل أفضل مما عليه غيرها مهما كان ما هي عليه باطلا بمقياس الشرع، والدليل على هذا قوله تعالى {كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبؤهم بما كانوا يعملون}(63).
2- تتقارب الأمم مع من كان على شاكلتها، ألم تذهب جهود تركيا طوال عشرات السنين هباء للالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة، وهاهي ليتوانيا وأستونيا تدخلان السوق ولم يمض على استقلالهما سنتان أو ثلاثة.
3-عدم الرضا التام إلاّّ على من كان على شاكلتهم، {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}(64).(34/74)
4- إن حرصهم على أن يكون غيرهم معهم يدفعهم للضغط على المخالف ولاسيما مخالفا يساكنهم بأنواع من الضغوط تصل أحيانا حد الضرب أو السجن أو النفي أو حتى القتل {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}(65). وقوله تعالى {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّكَ يا شُعَيْبُ والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال أولو كنا كارهين}(66).
5- يرى أهل بعض الحضارات والأديان أن دينهم أو حضارتهم من خصائصهم القومية التي لا يريد أحدا أن يشاركه فيها وحتى إنهم لا يروا أنفسهم ملزمين بالتعامل معهم بالقيم الأخلاقية {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك إلا مادمت عليه قائما، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}(67).
6- الرغبة الجامحة لدى بعض الحضارات في السيطرة والسيادة "تدفعهم لأن يعدوا العدة لبقاء حضارتهم والدفاع عنها في حال وجود خطر يهددها، والعمل لإخضاع الآخرين لها "وذكر الشيخ جعفر الرغبة الجامحة لدى الغرب في السيطرة، فمثلا في دولته الكبرى في الولايات المتحدة وهم لا يخفون ذلك، كما هو واقع لمن يتابع أحداث العالم بقلب واع وأفق واسع(68).
أما موقفنا من الآخر، فقد حدد الدكتور جعفر ذلك في عدة نقاط هي:
1- الدعوة إلى الحق عملا بقوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}(69).
2- إعداد القوة الرادعة، فلابد أن يكون للمسلمين قوة حتى لا يظهر أحد تحدثه نفسه بالغزو، وحتى لا يكون المسلمون فتنة حيث نكون على الحق ونكون الأضعف فينفر الناس من الحق الذي معها (القوة من أجل السلام).
3 - الجنوح للسلم.
4 - تبادل المنافع.
ويخلص الدكتور جعفر إلى القول بأن (الحضارة الغربية هي التي تدفع الآخرين لمعاداتها حيث تعمل في طريق التطور الطبيعي لغيرها، وتعد كل ماعداها خطر عليها، فتتحدث عن الغربي والآخر The West & The r est تماما كما كان بعضهم ولا يزال يصف كل من ليس على دينه بالأميين (أو الأمميين) ولا يرى أنه ملزم في التعامل معهم بخلق أو دين)(70).
وقبل أن نختم هذه الفقرة نشير إلى أن الآخر الذي نقصده ليس هو فقط العدو الخارجي ولكن ثمة أناس من أبناء جلدتنا يمكن أن يكونوا أخطر من العدو الخارجي: هم أولئك الذين تأثروا بالفكر الغربي وأصبحت لهم مواقف مختلفة في النواحي الفكرية والثقافية والسياسية لا تتفق مع المنهج الإسلامي في التفكير، فقد يبدي عداءً للغرب أو للآخر الحقيقي ولكنه في الوقت نفسه يتبنى كثيراً المواقف المنافية لمصالح الأمة الإسلامية والمنطلقة من المنهج الإسلامي وأضرب لذلك بأمثلة محدودة من هذه المواقف:
لقد زعم هؤلاء بأنهم حزب التنوير الحديث في العالم الإسلامي ولكن أي تنوير هذا وهم يعاندون توجهات الأمة فقد أقر مجلس الأمة في الكويت في الشهور الأخيرة منع الاختلاط في المدارس والجامعات الكويتية ولكن ظهر أعداء الفصل بين الجنسين وشنوا حملة شعواء على هذا القرار وكان من الذين كتبوا عن هذا الموضوع محمد صلاح الدين حيث كتب يقول "جندت (في الشهور التي تلت التصديق على قرار منع الاختلاط) القوى العلمانية قواها وأطلقت عقال أحقادها وافتراءاتها لحث الحكومة على رد القانون الجديد إلى البرلمان والتحذير من آثاره على سمعة الكويت الدولية."(71) وتحدث صلاح الدين في المقال نفسه عن تولي حزب الرفاه رئاسة الوزارة في تركيا بعد صراع سياسي استمر عدة شهور تحالفت فيه كل الأحزاب العلمانية لحرمان الرفاه الإسلامي من ثمار نصره الانتخابي وحقه الديموقراطي."* ووصف محمد صلاح الدين الديموقراطية التي ينادي بها العلمانيون العرب والمسلمين بأنها "ديموقراطية صليبية تقوم على أساس استئصال الإسلام ودعاته من حياة العباد وتوجهات البلاد، وأن التعددية التي يتخوفون عليها هي في حقيقتها دكتاتورية مقنّعة تعتمد على نفي الشريعة وأحكام الدين من الحياة السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، والسماح لكل ما عدا ذلك من مذاهب وأيديولوجيات باعتبار الإسلام هو العدو الأول والوحيد."(73)
وقد ظهرت مواقف هذا الآخر من الإسلام والمسلمين في مواقف كثيرة منها أن إحدى الصحف أجرت استطلاعاً عن أبرز الكتب التي أثرت في حياة المسلمين في القرن الماضي فتواطأت رؤية عدد من الذين استطلعت آراؤهم على الإشادة بكتاب علي عبد الرازق 'أصول الحكم الإسلامي' وكتاب طه حسين 'في الشعر الجاهلي'، وكتاب قاسم أمين 'تحرير المرأة' و'المرأة الجديدة' وكتب أخرى على شاكلتهما. وليت الأمر اقتصر على الاستطلاع الذي نشرته الصحيفة بل إن الهيئة المصرية العامة للكتاب قامت بإعادة نشر هذه الكتب في طبعة فاخرة وبأسعار زهيدة -كما أشار إلى ذلك عبد الله الجفري الذي تلقى هذه الكتب هدية من الهيئة-(74)(34/75)
ومن مواقف الآخر الداخلي استئثاره بالدعوات لبعض المؤتمرات والندوات واستبعاد من ليس على شاكلتهم. فقد كتب عبد العزيز عطية الزهراني حول الندوة التي نظمتها مؤسسة الأهرام بالقاهرة تحت عنوان "مشروع حضاري عربي" فيقول الزهراني: "ليس مستغرباً من ندوة الأهرام أن تغيِّب الإسلام من محاورها وموضوعاتها فالغرب منذ عصر النهضة وحركة التنوير -في مفهومهم للنهضة والتنوير- وهم يركضون ركض الإبل في القفار والصحارى الشاسعة دون أن يصلوا إلى نبع الماء وبقيت الحلقة الرئيسية في نهضتهم المزعومة مفقودة."(75)
وأكد الزهراني في مقالته على أهمية دور العقيدة بقوله: "إن المشروعات الثقافية والفكرية التي لم تقدر على استيعاب العبر والدروس من التاريخ في ماضيه وحاضره لن يكون لها نصيب من النجاح... وسوف تذكر الأجيال القادمة أن حضارتهم لم تكن لتتعثر لو قام المخلصون ذوو القلوب الواعية بمزجها بهذا العنصر الأساس في مكوناتها (العقيدة) والتي لا تكتمل بدونه"(76)
ومن مظاهر الآخر الداخلي تهجمه على التشريعات الربانية كالتهجم على مظاهر الحياة الإسلامية التي من ملامحها الحجاب حيث كتب أحدهم في جريدة الأهرام عن الملابس والاحتشام فأطلق على الحجاب بأنه غزو ثقافي بدوي قادم من الصحراء. ويعلق محمد صلاح الدين على ذلك بقوله: "وهكذا أصبحت الأحكام الشرعية مرتعاً لعبث العابثين والمتزلفين وعدت الأوامر الإلهية حمى مستباحاً في ديار المسلمين للمنحرفين والمتحللين والعياذ بالله."(77)
و ظهر هذا الآخر الداخلي أيضاً في مجال الأدب وفي الثقافة وفي التاريخ وفي علم الاجتماع وفي الفكر السياسي والاقتصادي. ففي مجال الأدب تبنى بعض هؤلاء نظريات الحداثة الغربية التي تنادي بالقطيعة مع التراث، بل إنها تسعى إلى "تحطيم السائد والموروث، وتفجير اللغة" وأما ما يتذرعون به من التجديد في الأشكال الأدبية للشعر والنثر فإنما جزء من خداع الذين أتقنوا فنه، وإلاّ فإن الحداثة تتضمن نظرة متكاملة إلى الحياة والكون بعيداً عن الدين وبخاصة الدين الإسلامي. ومن الأدلة على ذلك أنهم حين أصدروا مجلة "أبواب" كانت في أول أعدادها تعلن الحرب على ما أطلقوا عليه الأصولية حيث يقول في ذلك محمد نور الدين: "أبواب تفتح أبواباً للتحديث والديموقراطية (على النسق الغربي، وهل هناك نسق عالمي آخر؟) وتحمل عصا غليظة تهش بها الأصولية والأصوليين."(78)
وفي المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين تحدث يوهانس يانسن Johannes Jansen تحت عنوان (فشل المشروع الليبرالي) تناول فيه بالحديث فشل النخبة العلمانية في التأثير في المجتمع المصري بخاصة وفي العالم العربي بعامة، وأرجع ذلك إلى أن هؤلاء يعيشون في بروج عاجية وأن الحاجز كبير بينهم وبين عامة الشعب. وقد ذكر يانسن في ملخص موضوعه أن كتابات النخبة من أمثال حسن أحمد أمين ومصطفى أمين وفؤاد زكريا ونصر حامد أبو زيد، ومحمد سعيد العشماوي التي تركز على الهجوم على "الأصولية" الحديثة تجد رواجاً ولهم قراء كثيرون لكنهم فشلوا في تحريك الجماهير.(79) وفي المؤتمر نفسه تحدث نبيل عبد الفتاح و هاله مصطفى -وهما من مؤسسة الأهرام- عن الحركات الإسلامية (الأصولية) وموقفها من الديموقراطية الحديثة فحشدا كثيراً من الاتهامات والدعاوى والزعومات ضد هذه الحركات دون تمييز بين حركات تدعو إلى تحكيم شرع الله وتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع ميادين الحياة، وبين تلك التي اتخذت خط العنف مهما كان حجمها صغيراً، وأصر المتحدثان على أن الحركات الإسلامية لا يمكن أن يكون لديها القابلية للقبول بالتعددية أو القبول بمعطيات الحضارة الغربية.(80) ولاشك أن المحاضرين ينطلقان من منطلق العداوة للحركات الإسلامية فلم يكن النقاش حول مواقف الحركات الإسلامية عقلانياً أو منطقياً، كما أن إدارة المؤتمر ربما تعمدت أن لا يكون في الحضور من يمثل وجهة نظر الحركات الإسلامية ليناقش مثل هذه المفتريات. ومن الأمثلة على هذه الآراء قول هالة مصطفى إن قبول الإسلاميين بالديموقراطية إنما هو قبول بإجراءات الديموقراطية أما الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية لهذه الحركات فبعيدة جداً عن الجوهر التعددي للديموقراطية، كما زعمت الباحثة أن الإسلاميين يسعون إلى تأسيس الدولة الدينية التي لا يمكن أن تقبل بأي خيار آخر بعد أن يضفوا هالة من الشرعية لا تسمح بوجود خيار آخر. وكأن هالة مصطفى لم تقرأ التاريخ الإسلامي الذي يعد مضرب المثل في التسامح مع الأديان الأخرى منذ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة حيث كتب الرسو صلى الله عليه وسلم الصحيفة بينه وبين يهود يضمن لهم فيها حرية الاعتقاد وحرية التصرف في ممتلكاتهم، كما لم يعرف التاريخ الإسلامي اضطهاد أصحاب الديانات الأخرى كما عرفتها أوروبا في حركة الإصلاح الديني وفي محاكم التفتيش في أسبانيا.
القسم الثاني
ظواهر اجتماعية من الغرب
تعريف الظواهر الاجتماعية:(34/76)
تقول الموسوعات انكارتا ENCA r TA ، وجرويلر G r OILE r ، وغيرهما أن الظواهر الاجتماعية هي أقدم فرع من فروع علم الاجتماع لم تتم دراستها في السابق تحت أي علم من العلوم الاجتماعية، وهي الزواج، الأسرة والظلم الاجتماعي والعلاقات العرقية والانحرافات السلوكية والمجتمعات الحضرية والمنظمات الرسمية أو المعقدة(81).
أولاً: الأسرة: الزواج والطلاق وعدد الأفراد:
ولما كانت الأسرة هي اللبنة الأساس في المجتمع فلتكن أول ما نتناوله في الحديث بعض مظاهر الأوضاع الأسرية في الغرب، وفقا للمصادر الغربية، وأول هذه المصادر وأهمها مما اطلعت عليه، التقرير السنوي الذي تصدره الحكومة البريطانية، وعنوانه: "التقرير المنزلي العام لسنة 1993م"Gene r al Household Su r vey(82)
يذكر التقرير أن حجم الأسرة البريطانية بدأ يتقلص بالنسبة للبريطانيين البيض، فقد كان حجم الأسرة البريطانية يتكون من 2.91 فرد عام 1971م ثم أصبح 2.44 فرد عام 1993م، ويشير التقرير إلى أن أسر البريطانيين من أصل هندي أو باكستاني أكبر حجما. أما عدد الأطفال في الأسرة فقد وصل إلى 1.8 فرداً منذ بداية الثمانينات، وهذا العدد يتضمن الأطفال المتبنين وأطفال أحد الزوجين، ومن المظاهر المهمة في تكوين الأسرة البريطانية أن الأسرة المكونة من والد واحد (أب أو أم) ارتفع من 8% عام 1971م إلى 22% عام 1993م. وبالنسبة للأمهات الوحيدات فقد ارتفع من 8% عام 1971م إلى 22% عام 1993م. وبالنسبة للأمهات الوحيدات فقد ارتفعت نسبتهن من 1% عام 1971م إلى 18% عام 1993م.(83)
وكتبت إيان موراي Ian Mu r ray حول التقرير السنوي للسكان قائلة: "إن الأسرة البريطانية التقليدية المكونة من أبوين أصبحت أكثر ندرة وفقاً لآخر تقرير سكاني حكومي، فإن الترتيب الأكثر شيوعاً للأسرة هو رجل وامرأة بلا أطفال، ووفقاً للإحصائيات التي تم إعدادها من أبريل عام 1991م حتى مارس 1992م فإن زوجاً (رجل وامرأة) من بين كل خمس أزواج لا يعيشون تحت مظلة الزواج، وأسرة واحدة من بين سبع أسر يعولها والد واحد (أب أو أم) وعائلة من بين كل اثنتي عشرة عائلة تتضمن طفلاً من زواج سابق لأحد الزوجين.(84)
وقد كتبت ليزلي وايت Lesley White حول انخفاض معدل الزواج في بريطانيا فقالت: "إن مؤسسة الزواج تكاد تختفي في بلادنا، فقد أصبح الإقبال على الزواج أقل وفي سن متأخرة، وارتفعت نسبة الطلاق حتى وصلت 40% وهي أعلى نسبة في أوربا. وبالنسبة لانخفاض الزواج فقد انخفض بنسبة الثلث عام 1992م، وتصف الكاتبة موقف البريطانيين من الزواج فتقول "لقد أصبح الزواج مخيفا جدا، فمن الصعب جدا أن يقدم الناس على الزواج."
ومن النتائج التي حدثت أن أصبح متوسط عمر المرأة عند إنجاب أول طفل هو 28.6 سنة، وهناك عشرون في المئة من النساء لا يفكرن في الإنجاب مطلقا، ويفضلون إنفاق أموالهم على الترفيه والمتع الذاتية، أو هكذا يظنون(85).
ولو عدنا إلى التقرير الحكومي البريطاني لوجدنا أن عدد النساء اللاتي لم يتزوجن قد ارتفع من 18% عام 1979م إلى 28% عام 1993م، أما العيش مع الرجل دون زواج فقد ارتفع من 9% عام 1981م إلى 23% عام 1993م.(86)
ويشير تقرير موراي إلى ارتفاع نسبة الزواجات التجريبية (يعيش الرجل مع المرأة كأزواج دون عقد رسمي) فثمة امرأة من كل أربعة نساء تعيش مع رجل بلا زواج، بينما تتمنع الأخريات عن الإقدام على الزواج كليا.(87)
أما التعليق على هذه الأرقام فكما يأتي:
1 - انخفاض معدل الإنجاب في أوربا سيؤدي بعد حين إلى ارتفاع نسبة كبار السن وانخفاض الفئة القادرة على الإنتاج، وقد بدأت نذر هذا حيث إن الإحصائيات الحالية تشير إلى أن عدد الذين تجاوزوا الستين من العمر وصلوا إلى سبع عشرة في المئة في الولايات المتحدة، وعشرين في المئة في أوربا، وسبع عشرة في المئة في اليابان، وذكر برنامج تلفازي في الولايات المتحدة أن من أسباب هذا انخفاض نسبة المواليد واقتصار العائلة الأمريكية على طفلين فقط.(88) فقد أشارت دراسة أعدتها المفوضية الأوروبية في بروكسل إلى أن عدد الشباب والشابات في دول الاتحاد الأوروبي سوف يتقلص بحلول عام 2025م ليصبح 9,5مليون، أما الذين ستزيد أعمارهم عن الستين فسوف تزيد على 113,5 مليون بينما لا تزيد الآن عن 76,3 مليون عام 1995م، كما أشارت الدراسة إلى أن عدد البالغين عشرين سنة من أعمارهم عام 2025سوف يتدنى إلى 4,2مليون من مجموع السكان بينما كان يساوي 5,1مليون عام 1995م. وأكدت الدراسات أن عدد السكان في دول الاتحاد الأوروبي سوف يتراجع إجمالياً.(89)(34/77)
وقد علق المفوض الأوروبي بيدريج فلين المكلف بحقيبة العمل والشؤون الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي إن الدراسة الديموغرافية لطبيعة سكان الاتحاد الأوروبي لعام 1995م قد أكدت التوجهات التي أشارت إليها الدراسة المماثلة التي أجريت عام 1994م التي حذرت من شيخوخة مرتفعة المعدلات في أوروبا الغربية … وهو الأمر الذي سوف يتسبب في اختلال النظم الاجتماعية المعمول بها حالياً حيث لن يكون هناك أعداد كافية من العاملين لتأمين المنح الهائلة لكبار السن المتقاعدين الذين سيشكلون الغالبية العظمى عام 2025م.(90)
أما تأخر النساء في الزواج فإن ثمة دراسات تؤكد أن المرأة لا تنضج إلا بعد إنجاب الطفل الأول أو الثاني، فها هي المرأة الغربية تتأخر أكثر من عشرة سنوات عن الإنجاب، وقد لا تنجب مطلقا.
وبالنسبة للعزوف عن الزواج بحجة إنفاق المال في المتع والترفيه فقد ذكر الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله في كتابه الحجاب، أن من أسباب انهيار الحضارات وسقوطها (الشح) وهذا هو الشح بعينه، حين يرغب الوالدان إشباع متعهم الذاتية ويمتنعون عن الإنجاب أو عن الزواج.(91)
الأسرة في الولايات المتحدة
كتب ديفيد بلانكنهورن David Blankenho r n يقول: (هذه الليلة سينام أربعون في المئة من أطفال أمريكا بعيدا عن المنازل التي يعيش فيها آباؤهم، ويضيف بأن فقدان الأب يعد من أكثر الاتجاهات الديموغرافية (السكانية) إيلاما لهذا الجيل، فهي السبب الأول لتراجع صحة الطفل في مجتمعنا، وهي الدافع لكثير من المشكلات الاجتماعية من الجريمة إلى عمل الصغار إلى التحرش الجنسي بالأطفال، ويقدم المؤلف بعض الأرقام في هذا المجال وهي:
أ - كانت نسبة الأطفال الذين يعيشون مع آبائهم عام 1960م هي 82.4% وتراجعت هذه النسبة حاليا إلى 61.7%.(92).
ب - كانت نسبة الذين يعيشون بعيدا عن آبائهم عام 1960م هي 17.5% وبلغت هذه النسبة عام1990م 36.3%.
وقد أشار ريتشارد نيكسون إلى تضاعف حالات الطلاق أربع مرات وأصبح طفل واحد من كل ثمانية يعيش على حساب الرعاية الاجتماعية أي أكثر بثلاثة أضعاف ما كان عليه الحال عام 1960م.(93)
وتقول آخر الإحصائيات عن الطلاق والزواج في الولايات المتحدة أن عدد حالات الطلاق( مع أن بعض الولايات ليس لديها إحصائيات لذلك) كان في عام 2000 م هو 957.200وفي عام 1999هو 944.317وفي عام 1998م هو 947.348 أما حالات الزواج فكانت 2.355.005 وفي عام 1999هو 2.366.623 وفي عام 1998هو 2.267.854 وتضيف الإحصائيات أن 43% من الزواج الأول تنتهي بالانفصال أو الطلاق خلال الخمس عشرة سنة.(94)
ألمانيا
وفي ألمانيا ينقل لنا نبيل شبيب بعض الإحصائيات منها أن ثلث الأطفال المولودين هناك ليسوا شرعيين(95)، وهي نفس النسبة لكل من بريطانيا والولايات المتحدة كما نقل الدكتور عبد القادر طاش عن الكاتبة غريتوود هلمفار أستاذة التاريخ بجامعة سيتي بمدينة نيويورك City Unive r sity of New Yo r k، وأضاف طاش بأن إيطاليا تعاني من التناقص السكاني، وهي (ظاهرة توشك أن تتحول فعليا إلى أزمة على أبواب القرن الحادي والعشرين على امتداد الأمة الإيطالية(96).
ويرى الرئيس علي عزت بيجوفتش أن الحضارة الغربية قد تسببت في تحطيم الأسرة حيث بدأ ذلك بهجر الرجل للبيت ثم تبعته المرأة ثم تبعهم الأطفال. ومن مظاهر تحطم الأسرة انخفاض حالات الزواج وارتفاع نسبة الطلاق وازدياد عدد النساء العاملات والازدياد الكبير في عدد المواليد غير الشرعيين وارتفاع عدد الأسر القائمة على والد واحد (الأم) ويضيف بيجوفتش أن عدد ربات البيوت من الأرامل صغار السن قد ازداد شيوعاً بسبب ارتفاع معدل الحوادث وارتفاع عدد ضحايا السكتة القلبية وأمراض السرطان وهذه الأمور شديدة الصلة بالحضارة.(97)
هذه الأوضاع الأسرية الصعبة جع(98)لت المفكرين الأوروبيين يخشون على الجنس الأبيض من خطر الزوال، فيذكر على عزت بيجوفيتش أن معدل المواليد في ألمانيا قد انخفض بحيث أن الألمان قد يتلاشون في القرن القادم، ويضيف بان تقديرات السكان الذين يبلغ تعدادهم الآن ( في السبعينيات) 52مليوناً سوف ينخفض إلى 17 مليوناً في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين.
كما أن التقرير الإحصائي السنوي للسويد يشير إلى أن كل واحد من اثنين من أطفال السويد هو الطفل الوحيد في الأسرة، وينطبق الأمر نفسه على تشيكوسلوفاكيا التي يرى سكانها أن الأسرة التي تتكون من ثلاثة أطفال ترف غير معقول. وتشير الإحصائيات إلى أن السويد لن تكون قادرة في عام 1990م على الاحتفاظ بمعدل المواليد المعتاد.(99)(34/78)
وأما صاحب كتاب صدمة المستقبلFutu r e Shock فيذكر أن الأسرة في الغرب على وشك الاندثار الكلي وينقل عن الكاتب فيرديناند لندبيرج Fe r dinand Lundbe r g أن الأسرة ميتة عدا في السنتين الأولى والثانية من حياة الطفل، ولعل هذه هي مهمتها الوحيدة.(100) ويثير المؤلف قضية خطيرة تعرضت وما زالت تتعرض لها مؤسسة الأسرة في الغرب وهي الزواج المؤقت أو الزواج التجريبي الذي بدأ يجد قبولاً لدى كثير من المفكرين وقادة الرأي ورجال الدين حتى أن القس جاك لازور Jacque Lazu r e أقترح ما أسماء "الزواج التجريبي" وأن يستمر ما بين ثلاثة إلى ثمانية عشر شهراً.(101)
ومما يهدد وجود الأسرة ارتفاع عدد الشاذين جنسياً وإصرارهم على الزواج وقد سنّت بعض الدول الأوروبية تشريعات تسمح بزواج هؤلاء مثل هولندا وبريطانيا بينما ما زالت القضية تثير كثيراً من النقاش والجدال في دول أخرى. ويرى مؤلف كتاب (صدمة المستقبل) بأن بعض الشاذين جنسياً يقوم بتبني أطفال مما يشكل صورة جديدة للأسرة (102).
ثانياً: الأطفال والجريمة
إذا كانت هذه حال الأسرة في الغرب فكيف تصير حال أطفالهم؟ لاشك أنهم سيتأثرون بالفعل، وقد بلغ عدد الجرائم التي يرتكبها الأطفال ونوعها حداً جعلهم يلجأون إلى حظر التجول على الأطفال والشباب ليلا، وأصبحت قضية حظر التجول من القضايا السياسية التي تتنافس الأحزاب في مواقفها منها.
حمل السلاح والعنف
ذكر تقرير حكومي بريطاني أن ثلث تلاميذ بريطانيا في سن الخامسة عشرة استبدلوا الأسلحة بالكتب الدراسية، وتتنوع الأسلحة التي يحملونها في حقائبهم من سكاكين حادة إلى مشرشرة، ومدى وجنازير وعصي بيسبول وسلاح ناري يمكن شراؤه بسهولة، تقول الإحصائيات إن واحداً من خمسين تلميذاً في المدارس البريطانية يحمل مسدسا، هذه الأوضاع جعلت ربع الطلاب يتخوفون من الذهب إلى المدرسة، بينما ثلث الطالبات في المدارس الثانوية المختلفة يتخوفن من الاعتداءات الجسدية(103). هذا بالإضافة إلى الإيذاء اللفظي الذي يتعرض له بصفة خاصة الطلاب المستجدون له في المدارس، ويتعرض للسخرية أيضاً الطلاب الذين يعانون من بعض الأمراض الجسدية مثل حَب الشباب، أو العيوب الخًلقية أو ممن لهم هوايات غريبة(104).
وحمل السلاح هذا لم يكن للتسلية، فقد قام أحد الطلاب عمره خمس عشرة سنة بقتل ناظر مدرسة ثانوية في شمال لندن، ومن حوادث الجرائم التي هزت المجتمع البريطاني قتل طفل عمره سنتان من قبل طفلين في العاشرة. أما الإحصائيات فتقول إن جرائم الأطفال في سن 11-17 ازدادت بنسبة 50% من البيض، و 300% بين السود، وقد وقعت في نيويورك في العام الدراسي 1994م/1995م (1914م) جريمة قتل قام بها أطفال ينتظمون فيما يسمى بقبائل أو جماعات الذئاب، وفي لوس أنجلوس وحدها 40 جماعة ذئاب(105).
حظر التجول
ومن أجل مواجهة جرائم الأطفال فقد بدأت العديد من المدن الأمريكية فرص حظر التجول ليلا على الشباب في سن مادون الثامنة عشرة أو السابعة عشرة، وقد بدأ الحظر في مدينة نيو أولينز New O r leans منذ سنتين، وقد انخفضت حوادث القتل بنسبة 37% لنفس الفترة من العام الماضي، ولكن هذا الحظر وجد من يعارضه من جماعات الدفاع عن الحقول المدنية التي ترى أن الحظر مخالف لحقوق الوالدين في التربية، ومخالفة للحقول المدنية للشباب، ويرى بعض الباحثين أن وقت الجرائم سينتقل من الليل إلى النهار، وإن الشغل الشاغل للشرطة قد أصبح فرض هذا الحظر، ومع ذلك فإن الكثير من المدن الأمريكية بدأت في تطبيق هذا الحظر الذي وجد الدعم من الرئيس الأمريكي الحالي بيل كلينتون(106).
وكتبت صحيفة الجارديان الأسبوعيةGua r dian Weekly بأن حظر التجول يضر بالأولاد الفقراء الذين لا يجدون من ينقلهم في الليل، فليس لديهم سائقون في بيوتهم، وتقول الصحيفة بأن أقسى نقد جاء من اتحاد الحريات المدنية الأمريكي بأن ما تفعله هذه القوانين هو عقاب الناس العاديين المطيعين للقانون(107).
وقد انتقلت فكرة حظر التجول من أمريكا إلى بريطانيا وقد دعا لها كل من حزب العمال وحزب المحافظين جزءا من برنامجه السياسي، ولكن هناك من يعارض هذا الحظر، ومن هؤلاء أحد الوزراء البريطانيين الذي يقول: (إن الحظر إهانة للغالبية من الشباب الحسني السلوك، وهذه السياسة تذكر بسياسة الأخ الأكبر في النظام الاشتراكي الذي يريد السيطرة على كل شيء(108).
وعلقت صحيفة الجارديان بأن أمريكا ليست النموذج المناسب لتقليده في تطبيق حظر التجول على الشباب والأطفال، فنسبة الجريمة في الولايات المتحدة أعلى من بريطانيا، كما أن الأوضاع الاجتماعية تختلف من بلد لآخر، وأضاف بأن هذه السياسة ستعاقب الأغلبية من الأبرياء وبخاصة في مجتمعات السود، فهذه السياسة خاطئة في تأثيرها وفي مبدئها(109).(34/79)
ولابد من كلمة حول هذا الأمر، فقد اقتنعنا مدة طويلة بتفوق الغرب في شتى المجالات ومنها التربية بلا شك، وأرسلنا أعداداً كبيرة من طلاب الدراسات العليا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في التربية في الغرب، وهذا الواقع يؤكد فشل تربيتهم، أما التربية الإسلامية الصحيحة فهل فكرنا لماذا يتقدم شبابنا الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة للدخول إلى المعارك، وكان هذا في أُحُد وفي الخندق وغيرها، ألم يكن أسامة بن زيد رضي الله عنهما في السابعة عشرة حينما ولاه الرسو صلى الله عليه وسلم قيادة جيش للتوجه إلى الشام. وكم كان سن محمد بن القاسم الثقفي ومحمد الفاتح وغيرهما؟
إن التكليف في الإسلام يبدأ بالبلوغ الذي لا يتجاوز الخامسة عشرة، أليس في هذا دليل على أن تربيتنا أنجح من تربيتهم فمن يعيد الثقة إلينا؟
الجرائم ضد الأطفال
كثيرة هي الجرائم التي ترتكب ضد الأطفال ولكن بعضها ينال اهتماماً خاصاً من الإعلام، ومن بينها قضية المرأة التي اشتركت مع زوجها في جرائم اغتصاب وقتل عشر فتيات إحداهن ابنتها البالغة من العمر ست عشرة سنة، وابنة زوجها البالغة من العمر ثماني سنوات، وقد تكون هذه الجرائم أكثر بكثير من العشرة الذين وجدت جثثهم مدفونة في أنحاء المنزل(110).
وقد علقت صحيفة "الحياة " بالتساؤل "هل سبب العنف والانتهاك الجنسي عائد لخلل في جينات الدماغ أم إلى تدهور أخلاقي ناجم عن اضطراب أو تحلل في المجتمع الذي يعيشان فيه، أم سببه انتشار أفلام الجنس والجريمة التي كانت تعرض باستمرار في منزل المجرمين."(111)
وتساءلت صحيفة الحياة وكذلك مجلة "التايم" Time Magazine كيف تمت هذه الجرائم على مدى ثلاثين سنة دون أن تكتشفها شبكة الخدمات الجنائية والاجتماعية الكثيفة في المجتمع البريطاني، والتي تضم إلى الشرطة البريطانية التي تتمتع بسمعة عالية مؤسسات الخدمة الاجتماعية المختلفة من المدارس والباحثين الاجتماعيين حتى الكنيسة؟ أم إن هذه الجرائم تؤيد وجهات النظر الراديكالية التي تعتقد بأن المجتمع البريطاني يعاني من انحلال وتفكك اجتماعي وأخلاقي كبيرين."(112)
جرائم الاستغلال الجنسي للأطفال
رُوِّعت بلجيكا بأخبار مجرم اختطف عدداً من الفتيات وتم اكتشاف جثثهن في حديقة منزله، ثم قادت التحريات إلى أن المجرم إنما هو فرد من عصابة تقوم باختطاف الأطفال لاستغلالهم في الدعارة. وقد كتبت جريدة "الحياة" تقول: "لا تزال بلجيكا تعيش حالة ذهول بعد كشف التفاصيل المروِّعة لأعمال شبكة من الشاذين الذين يقيمون علاقات جنسية مع الأطفال، وهذه القضية تعد الأخيرة في سلسلة شبكات مماثلة كشف عن تورطها في ارتكاب جرائم جنسية ضد أطفال أوروبا وأمريكا الشمالية خلال السنوات الأخيرة."(113)
وأوردت صحيفة أخرى بأن ما حدث في بلجيكا لم يكن حالة منعزلة حيث" تفيد الأوساط القضائية في بروكسل أن منطقة وسط أوروبا وشرقها قد تحولت بعد انهيار الشيوعية إلى أهم المراكز العالمية للاتجار بأجساد الأطفال ومخزن كبير لتطعيم أسواق الدعارة التي تقوم عليها سياحة الجنس في تلك البلدان."(114)
وقد تداعت مئة وست وعشرون دولة لعقد مؤتمر دولي لمكافحة الاستغلال التجاري الجنسي للأطفال، -هل غير التجاري مسموح به؟_ وتضمنت الوفود المشاركة عدد من الأطباء وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع ورجال القانون. ويستمر المؤتمر من 27حتى 31 أغسطس 1996م. وقد يناقش المؤتمر تسعة موضوعات تتصل بنشاطات الشبكات الإجرامية وتعريف الاستغلال الجنسي وتعريف الأطفال، والعقوبات التي ينبغي إنزالها بالشبكات التي تعمل في هذا المجال.(115)
وقد أوردت صحيفة "الشرق الأوسط" أن عدد الأطفال (تحت سن 18) الذين يعملون في الدعارة تجاوز المليون طفل في آسيا، ومن مئة إلى ثلاثمئة ألف طفل في أمريكا الشمالية وفقاً لإحصائيات اليونسيف والمركز الوطني للأطفال المشردين والمفقودين في واشنطن.وتشير الصحيفة إلى أن السياح الأوروبيين يعدون من أبرز الأسباب في انتشار هذه التجارة نظراً لما يبذلونه من أموال في الدول الفقيرة مثل تايلند والفلبين وغيرهما حيث تقول الصحيفة: "إن السياح الأجانب وبسبب المبالغ الطائلة التي ينفقونها على هذه الممارسات جعلوا سوق الدعارة أكثر نشاطاً، كما إنهم أغرقوا العالم أيضاً بالأفلام الجنسية الخليعة وزادوا من انتشارها."(116)
وقد أصبح المؤتمر فرصة لفضح كثير من الممارسات الأوروبية في مجال الدعارة والصور الفاحشة سواء بالنسبة للأطفال أو الكبار فقد أورد تقرير وكالة الأنباء الفرنسية أن تقريراً إيطالياً كشف عن "أرقام مثيرة للصدمة بالنسبة لممارسات دعارة الأطفال ولا سيما في جنوب إيطاليا، وذكر التقرير أن الفضيحة التي أثيرت منذ شهرين في مدينة باليرمو بجزيرة صقلية حول استغلال عدد من الأطفال الإيطاليين دون العاشرة في الدعارة المباشرة مع بالغين ليست هي حالات معزولة بحال."(117)(34/80)
والحقيقة أن استغلال الأطفال جنسياً ليس بالأمر الجديد فالغرب يعرف هذا، وقد سنّت الحكومة الألمانية عدداً من التشريعات ضد مواطنيها الذين يسافرون إلى جنوب شرق آسيا لممارسة هذه الجرائم، وقد نشرت الصحف الأوروبية أيضاً عن اكتشاف شركات دنمركية تتاجر في الصور الخليعة للأطفال. كما أن الولايات المتحدة تعاني من ظاهرة الأطفال الضائعين والهاربين و/أو المخطوفين، وقد خصصت محطة التلفاز الإخباري (سي إن إن CNN ) عدة برامج لبحث هذه المشكلة، ومما ورد في هذه البرامج أن أمريكا تعاني من تفاقم مشكلة اختطاف البنات والأولاد دون سن العشرين، وذكرت المحطة أن عدد المخطوفين يصل إلى عشرات الألوف، وقد تكونت جمعيات تطوعية للبحث عن الأطفال المخطوفين وتستخدم هذه الجمعيات وسائل كثيرة من بينها الطائرات.(118)
ولما اكتشفت بلجيكا عدداً من الجثث لأطفال بيض من ذوي العيون الزرق ذهلت وثارت ولا كان لا بد أن يتحرك العالم كله لإنقاذ الأطفال. والسؤال أين كانت أوروبا وأمريكا عندما كان الصِرْبُ يمارسون كل أنواع الجرائم الوحشية ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وعندما كانت روسيا تدك المدن الشيشانية على رؤوس الأطفال، والشيوخ والنساء من المدنيين العزّل في الشيشان، وعندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف ملجأ الأمم المتحدة في قانا في لبنان على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ؟
ظاهرة تشغيل الأطفال
ليست ظاهرة تشغيل الأطفال بالأمر الغريب على العقلية الأوروبية فإن الروائي الإنجليزي المشهور تشارلز ديكنز قد سَخِرَ في العديد من رواياته من هذه الظاهرة المؤلمة، وربما كانت المجتمعات الأوروبية تجد مبرراً لها لأنها كانت في ذروة نهضتها الصناعية، وكانت في حاجة للأيدي العاملة، كما كانت التشريعات لا تمنع ذلك. ولكن بعد أن وضعت التشريعات التي تمنع تشغيل الأطفال في الأعمال التي يقوم بها الكبار عادت أوروبا وأمريكا من جديد لتشغيل الأطفال ففي تقرير سنشر الذي نشرت إحدى الصحف مقتطفات منه قبل نشره رسمياً جاء فيه: "تفشت في الأعوام الأخيرة ظاهرة اشتغال الأطفال بشكل مثير إلى درجة أن حوالي ثلاثة أربعا الأطفال الذين تقل أعمارهم كثيراً عن ست عشرة سنة نجدهم يشتغلون أشغالاً لا يمكن أن يقوم بها إلاّ كبار السن، مثل أن يشتغلوا في المقاهي والمطاعم أو يشتغلوا كبستانيين أو في المحلات التجارية."(119)
ويشير تقرير الصحيفة إلى أن مجموعة من الأساتذة الباحثين من جامعة بيزلي الإنجليزية Paisley قد قاموا بإجراء مقابلات مع أكثر من ألفي طفل موزعين على اثنتين وعشرين مدرسة تشمل اسكتلندا كشفت لهم عدة حقائق مدهشة أهمها أن هناك سبعين في المئة ممن يشتغلون أو سبق لهم الاشتغال في أعمال أو مهن شتى، منهم من بدأ العمل وسنّه لا يزيد عن عشر سنوات مقابل أجر مادي لا يتجاوز بضعة جنيهات إسترلينية في الأسبوع مما يجعل من ظاهرة تشغيل الأطفال القاعدة وليس الاستثناء."(120)
ولم تقتصر ظاهرة تشغيل الأطفال على أوروبا بل امتدت لتشمل الولايات المتحدة الأمريكية، وفقا لما ورد في تقرير لمنظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة. ويذكر التقرير أن من مبررات تشغيل الأطفال هو سعي أرباب العمل وراء " قوى العمل المرنة".(121)
ثالثاً: الجريمة في المجتمعات الغربية
لا تكاد تخلوا الصحف ووسائل الإعلام الأخرى طوال العام من الحديث عن الجريمة التي أخذت أبعادا أخرى حيث إن "فئة الشباب الذكور هم الفئة التي تنفذ جرائم القتل والموت في المجتمع الأمريكي، وإن نسبة الانتحار بين الشباب تفوق عشرين ضعفا مثيلتها في أوروبا وأربعين ضعفا عن اليابان."(122)
وكأن القتل في الغرب أصبح بديلا للحوار الحضاري، فقد كتبت صحيفة التايمز اللندنية مقالة بعنوان (أمريكا تفقد حريتها) تناولت حوادث القتل التي يقوم بها جماعة من المتطرفين الدينيين ضد الأطباء والعاملين في عيادات الإجهاض، ويتعجب كاتب المقال عن هذه الحضارة المزعومة التي يضطر فيها الطبيب أن يرتدي سترة ضد الرصاص وهو متوجه إلى عمله أو أن تضطر هذه العيادات للاستعانة بالشرطة.(123)
الاغتصاب
كما عانى الشباب والأطفال من توجه الجريمة ضدهم فقد نالت المرأة نصيبها من الجريمة ضدها، ولاسيما جريمة الاغتصاب، فقد نشر (مركز الضحايا الوطني) و(مركز الأبحاث ومعالجة ضحايا الاغتصاب) أن ثمان وسبعين امرأة يتعرضن للاغتصاب كل ساعة أي 683 ألف امرأة سنويا)(124).
أما التعرض للمضايقات الجسدية أو التحرش الجنسي فحدث ولا حرج، فإذا كان الاغتصاب يصعب تحديد حالاته بدقة لأن نسبة كبيرة من النساء لا يبلغن عن حدوثه وذلك لصعوبة إثباته أو للمضايقات التي يتعرض لها إذا ما أقدمن على الشكوى(125)، فإن تعرض المرأة للمضايقات الجنسية بلغ حداً كبيراً، ومما يلفت الانتباه أن ثلثي الشرطيات البريطانيات يتعرضن للمضايقات الجنسية من زملائهن في العمل مما أدى إلى قيام إدارة الشرطة بتكليف عالمة نفس بدراسة الوضع واقتراح الحلول المناسبة(126).(34/81)
ولكن هل ستقدم عالمة النفس من المقترحات ما يمنع التحرش الجنسي في إدارة الشرطة؟ أعتقد أن المجتمعات الغربية عموما بلغت ما يسمونه نقطة ألّا رجوع إلا أن يكتب الله لهم الهداية، فقد بدأ الاختلاط بالزعم أنه "يخفف التوتر الجنسي لدى الطرفين، ويسمو بالعلاقة بينهما إلى مستوى إنساني فلا يعود أحدهما ينظر إلى الآخر من زاوية جنسية فحسب.. وهكذا فالمجتمعات التي تقر الاختلاط تشكو من تفاقم المشكلات الأخلاقية التي تنجم عن العلاقات بين الجنسين."(127)
وقد خصصت مجلة النيوزويك الأمريكية Newsweek ملفاً للحديث عن السلوك الجنسي للرجال مع النساء والنساء مع الرجال وحرصت على تقديم تعريف للاغتصاب، ونظراً للاختلاط الذي تعرفه المجتمعات الغربية منذ مئات السنين فمن الصعب تحديد ما هو الاغتصاب. وقد أوردت المجلة تعريف مكتب التحقيقات الفيدرالي للاغتصاب ولكنها ترى أن هذا التعريف غير كاف. كما إن العقلية الغربية غريبة حقاً في هذه المسألة فإن المرأة تريد أن تكون مع الرجل في خلوة تامة وفي موعد تعرف مسبقاً أن عقلية الرجل الغربي لا تدفعه لدعوة امرأة لعشاء أو سهرة إلاّ وهو يتطلع إلى الحصول على عائد ما ولكنها تستنكر لو أقدم الرجل على المطالبة بتعويض عمّا أنفقه.(128)
ووصل الأمر بانتشار حالات الاغتصاب إلى أن امرأة تعمل شرطية في شرطة لندن تعرضت للاغتصاب في أحد القاطرات في لندن في وقت متأخر وهي في طريق عودتها إلى بيتها.(129) وقد انزعجت الشرطة في لندن من ازدياد حوادث الاغتصاب لذلك قامت بإصدار بعض التعليمات لمواجهة هذه الحوادث ومن التعليمات:
أ - الاحتشام في اللباس.
ب-عدم وضع الأيدي في الجيوب حتى تكون المرأة مستعدة للدفاع إذا ما تعرضت للاعتداء.
ج- عدم الجلوس في الحافلات في الطابق العلوي إذا كانت الحافلة خالية، والحرص على الركوب قريبا من السائق.
ولكن أنى لهن أن يسمعن موعظة وقد ذكرني هذا بمحامية أمريكية عجوز استضافها التلفزيون الأمريكي قبل أكثر من عشرين سنة للتحدث في مشكلة الاغتصاب فذكرت أن النساء هن سبب ما يقع لهن من حوادث اغتصاب حيث الملابس الفاضحة والخروج وحيدات دون حماية من رجل، وأضافت أن الرجل مهما كان مكتفيا غريزيا فإن منظر عري النساء يثيره.
كما أن الاختلاط الذي يعيشه الغرب يتسبب إلى حد ما فيما يعانيه الغرب، حتى إن مجلة "المختار" r eade r 's Digest قد نشرت تحقيقاً حول الاختلاط في العمل في مجالات الحياة المختلفة وما يتسبب فيه من إثارة الغرائز هو أحد أسباب انتشار الجرائم الجنسية. ومما أوردته المجلة في تحقيقها: "أينما يعمل الرجال والنساء معاً فإن 'الافتتان' يأتي بوحي من واقع الميدان (العمل المختلط) وليس هذا الانجذاب بسبب سيطرة إفرازات زائدة لهرمون 'الادريانين' فحسب، ولكن في أي مكان عمل (مختلط طبعاً) من المعمل إلى المكتبة العامة."(130)
هذه الفطرة التي فطر الخالق سبحانه وتعالى عليها وهي الانجذاب بين الجنسين يريد الغرب كبتها في العمل، وهو ليس بمستطيع وهذا ما يقوله أحد العاملين بمعهد العلاقات بين الجنسين في مدينة سانتا باربرا بكاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية: "لا يمكننا أن نشرع قانوناً لإبقاء الميول الغريزية خارج نطاق العمل، فهذه الميول جزء من شخصية الفرد لا تستطيع أن تعطل أداءها بضغطة زر لأنك موجود في العمل."(131)
ولعل من أسباب هذه الأوضاع أن الحضارة الغربية كما يرى علي عزت بيجوفتش قد "أحالت المرأة إلى موضوع إعجاب أو استغلال، ولكنها حُرِمَت من شخصيتها وهو الشيء الوحيد الذي يستحق التقدير والاحترام. وهذا الموضوع مشهود بشكل مضطرد، وقد أصبح أكثر وضوحاً في مواكب الجمال أو في بعض مهن نسائية معينة مثل 'الموديلات'، وفي هذه الحالات لم تعد المرأة شخصية ولا حتى كائناً إنسانياً وإنما هي لا تكاد تكون أكثر من حيوان جميل."(132)
اغتصاب الذكور
ولم تقتصر جرائم الاغتصاب في الغرب على اغتصاب النساء بل إن الغرب بدأ يشهد أمراً عجباً وهو تعرض الرجال للاغتصاب، فقد ذكرت صحيفة التايمز اللندنية أن الرجال أصبحوا هم أيضا ضحايا الاغتصاب، وأن القانون قد يعترف بجريمة جديدة هي اغتصاب الرجال، فالقانون الذي وضع عام 1956م لا يعترف باغتصاب الرجال، ولكن الاتجاه الآن إلى اعتبار الاغتصاب جريمة بغض النظر على من وقعت رجلا أو امرأة، وقدمت الصحيفة بعض الأرقام حول حوادث اغتصاب الرجال فقد وصلت إلى الشرطة 516 حالة عام 1982م ارتفعت إلى 1255 حالة عام 1992م، أما حالات التحرش بالرجال فقد ارتفعت من 2082 حالة عام 1982م إلى 3119 عام 1992م وأشارت الصحيفة إلى أن مثل هذه الحالات تقع في السجون(133).
الرقيق الأبيض:(34/82)
انتشرت في أوروبا تجارة النساء فبعد أن كانت بضاعتها تأتي من الدول الأسيوية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أصبحت دول أوروبا الشرقية منبعاً لهذه التجارة. ويحكي تقرير جريدة التايمز اللندنية عن امرأة بولندية كانت تبحث عن وظيفة لإعالة ولديها، عرضت عليها وكالة عمل وظيفة مقابل ثمانمئة دولار شهرياً للعمل في مطعم في ألمانيا، ولكنها لم تعمل قط في مطعم حيث أُخذت واغتصبت وأُجبرت على العمل بغياً، ثم نقلت بعد عدة أشهر إلى هولندا لتعمل في المنطقة الحمراء من المدينة، ولما حاولت الهرب أعيدت واعتدي عليها بالضرب المبرح على رأسها وفي بطنها وكان يطلب منها دخلٌ معينٌ كل يوم.
وتداعت أوروبا أيضاً بعقد مؤتمر للنظر في هذه التجارة المتزايدة في شهر يونيه عام 1996م. وتقول أنيتا جاردينAnita Ga r din المكلفة من قبل الاتحاد الأوروبي بتنظيم هذا المؤتمر بان القضية ليست قضية أمن بحيث يمكنك إغلاق الحدود، وحتى لو تم القبض على المجرمين المتهمين بتهريب الأشخاص فإن الأحكام في العادة لا تتجاوز سنة أو سنتين في السجن بينما عقوبة تهريب المخدرات بين عشر إلى اثنتي عشرة سنة في السجن. وذكر التقرير أن القائمين على تجارة الرقيق الأبيض غاية في التنظيم. فمن بين هؤلاء تم القبض على رجل بولندي مسؤول عن إرسال أكثر من مائتي امرأة إلى ألمانيا وهولندا منذ عام 1994م، ومن بين هؤلاء النساء من لا تتجاوز أعمارهن السادسة عشرة.
ومما يدفع النساء إلى العمل هو الحصول على المال، ولكنهم بعد فترة من العمل الإجباري على البغاء ولو قررت إحداهن ترك العمل فإنها في الغالب لا ترجع إلاّ بأقل المكاسب بينما يحقق الغنيمة الكبرى هم الذين يديرون شبكات استرقاق النساء.(134)
محاولات القضاء على الجريمة
قبل أن أتناول بعض الإجراءات التي اتخذتها الدول الغربية للقاء على الجريمة أو أن أروي هاتين القصتين اللتين رواهما لي صديق وأستاذ فاضل يعيش في هولندا منذ أكثر من عشرين سنة، أما القصة الأولى فملخصها أن هذا الصديق ذهب إلى محطة وقود لملأ خزان سيارته، فوجد العامل في المحطة مهموماً مغموماً، فسأله ما به؟ فقال له: "لقد جاءني اثنان قبل قليل وقيداني وأخذا كل ما في الصندوق." فقال له الزبون: "وما يحزنك وشركة التأمين تتكفل بدفع ما سُرِق. قال: "ليس هذا ما يهمني، ولكن لو وجد نظام عقوبات كما في السعودية لما أقدم هذان على فعلتهما."
أما القصة الثانية ففي متجر لبيع الساعات كان هذا الصديق يقف في مكان من المتجر فسمع حواراً بين صاحب المحل وصديق له، وكان صاحب المحل يروي حادثة دخول بعض اللصوص وسرقة عدة ساعات ثمينة جداً، وتمنى لو طبق نظام العقوبات الذي يطبق في السعودية لوضع حد لهذه السرقات.(135)
وهكذا فهم يتوقون إلى الفطرة، يريدون أن يعيشوا في أمان، لكن من يهديهم إليه لقد ارتفعت الأصوات في بريطانيا وأمريكا بتشديد العقوبات على المجرمين، فهذه نائبة بريطانية تطالب بجلد المجرمين، وعرض ذلك خلال برنامج اليانصيب الذي يشاهده أكبر عدد من الجمهور، وهناك مطالبات بإعادة تطبيق حد القتل في المجرمين، وقد عادت بالفعل في بعض الولايات الأمريكية، ولكن بعض الأصوات مازالت تعارض معاقبة المجرمين بما يستحقون.(136)
ولابد من كلمة هنا إن نظام العقوبات أو الحدود ليس هو وحده الرادع في المجتمع الإسلامي، فالحدود هي آخر طابق في بناء الإسلام، فالأساس هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ثم الأخلاق، ويأتي بعد الأخلاق العبادات والشعائر التي تقوي الرابطة بين البشر والخالق التي تجعل صلة الفرد مع خالقه وازعاً قوياً ضد ارتكاب الجريمة ثم تأتي المعاملات ومن هذه التشريعات الحدود. وفي ذلك يقول علي جريشة في كتابه القيم "شريعة الله حاكمة ليس بالحدود وحدها:" ليس بالحدود تقام الشريعة.. لأن الحدود جزء من أحكام المعاملات، والمعاملات تمثل الطابق الثالث أو الرابع في بناء الشريعة... وإقامة الحدود وحدها أو حتى المعاملات كلها يعني أننا نقيم طابقاً رابعاً أو ثالثاً من غير طابق أول أو ثان، ومن غير أساس فأنى له أن يقوم!! " (137)
ومن أساليب مواجهة الجريمة عودة الأخذ بالثأر، أو كما يقال أخذ القانون بأيديهم، حيث إن معظم الناس لم يعد يثق في العدالة، فهذا أحدهم يصرح: "إنني لا أؤمن بالعدالة البريطانية، ولذلك قررت أن آخذ حقي بيدي." وقد تظاهر رجل اعتُدي على ابنته بأنه محام، ودخل إلى السجن حيث يوجد المتهم وانهال عليه ضربا. وأجرت مؤسسة جالوب استطلاعا للرأي عن العدالة فأجاب 76% من الإنجليز أنهم يعتقدون بأن الأفراد محقون أحيانا في تطبيق القانون بأنفسهم، وتألفت فرق خاصة من أفراد الشعب للمحافظة على الأمن، وقد بلغ عدد أفراد هذه المجموعات عام 1985م ألف وثلاثمائة شخص ووصلوا الآن أكثر من مئة ألف.(138)(34/83)
وقد نشرت جريدة التايمز تحقيقا صحافيا عن جهود المسلمين وغيرهم في منطقة بالسال بمدينة بيرمنجهام في تنظيف منطقتهم من البغايا وتجار المخدرات والمجرمين، ويروي كاتب التحقيق كيف بدأ هذا العمل بأن كانت امرأتان من البغايا تقفان على الرصيف قريبا من المسجد، وخرج بعض المصلين من المسجد ووقفوا بجوارهما، مما اضطرهما للانسحاب، ففكر المسلمون أنهم إذا استمروا في هذا العمل فلن يبق في منطقتهم نساء بغايا، وبالفعل نجحوا فيما بدأوا به. وكذلك فعلوا مع بقية أصناف المجرمين. ويقول أحد المشاركين: "لقد نجحنا في ثلاثة أسابيع بتحقيق ما لم تستطع الشرطة عمله في ثلاثين سنة." ومع أن الخبر أشار إلى مشاركة غير المسلمين، لكن الصورة المصاحبة للتقرير تؤكد أن المسلمين هم الأساس في هذا العمل.(139)
وأود أن أتوقف هنا لأروي صورة إسلامية يجب أن يتعلم منها الغرب، ففي أحد مؤتمرات (جمعية مسلمي شمال أمريكا) استأجر المؤتمرون فندقاً بكامله مما جعل صاحب الفندق يشدد الإجراءات الأمنية، ولكن بعد انتهاء المؤتمر وجد أنه لم تُرَق قطرة خمر واحدة، ولم تحدث مشاجرة واحدة، كما كان سلوك الحاضرين غاية في الانضباط والاحترام. وهذا ما جعل صاحب الفندق يتساءل أهؤلاء بشر أم ملائكة؟ فهل يتعلم الغرب؟
رابعاً: التجسس على الناس
عاش أستاذي الدكتور علي الغمراوي رحمه الله دهراً طويلاً في أوروبا أتقن خلالها أكثر من عشر لغات أوروبية وتعرف خلال تلك المدة على حياة الغربيين وتاريخهم وثقافتهم، فكان يقول رحمه الله إن العيش في بلادنا العربية الإسلامية أفضل ألف مرة من العيش في الغرب ويشير بصفة خاصة إلى العيش في المملكة العربية السعودية التي فضّل العيش فيها أكثر من عشرة أعوام.
وأشار ذات مرة إلى أن المواطن الغربي تحول إلى رقم يعرف به في سجلات دولته وأن حركاته مرصودة منذ أن يخرج من بيته صباحاً وحتى يعود إلى منزله مساءً وهو مراقب بين ذلك. وكان هذا الحديث قد دار بيني وبينه قبل أكثر من خمس سنوات. وتأكد لي هذا الأمر عندما قرأت في الصحف عن انتشار الكاميرات في الشوارع الغربية ترصد حركة الناس لدرجة أنه لم يعد يملك الإنسان هناك إلى حياة خاصة.
والحقيقة أن موضوع مراقبة المواطن في الغرب بدأت منذ أن نشر جورج أورويل كتابه (1984م)وأشار فيه إلى أنه في عام 1984م سيكون المواطنون في الغرب خاضعين إلى المراقبة المستمرة والاستبداد السياسي. وقد أعيد الحديث عن هذا الكتاب في بداية السبعينيات عندما أعلنت وكالة التحقيقات الفدرالية (FBI) أنها تحتفظ بملفات لعدد كبير من المواطنين الأمريكيين العاديين، وتساءل الأمريكان حينها لماذا تهتم هذه الوكالة بالاحتفاظ بكل هذا العدد من الملفات؟ وقد عرض برنامج في إحدى القنوات الثقافية الجادة أن الحكومة الأمريكية تقوم بمراقبة المظاهرات السلمية وتلتقط الصور لهذه المظاهرات وتستطيع بوسائل إلكترونية أن تتعرف إلى كل فرد في تلك المظاهرات وربما رُفض طلبه للعمل في الحكومة الفدرالية لهذا السبب مع أن المادة الأولى من الدستور الأمريكي تبيح هذا الأمر.
وعوداً للمراقبة فقد نشرت ( الشرق الأوسط) في 16ذي القعدة 1413هـ أن الأجهزة الإلكترونية أصبحت تساعد على القبض على المجرمين من خلال الكاميرات المنصوبة في الشوارع في المدن البريطانية. ويبدو أن الأمر قد راق الذين بدأوا في نشر هذه الكاميرات في الشوارع فازدادت عدداً وفي الوقت الذي تطورت فيه هذه الآلات أصبح الإنسان يعيش في فزع من أن يكون هناك من يتجسس عليه في كل لحظة من حياته. ومن الأمور التي تساعد في الغرب على التجسس أن الشقق المبنية من الخشب لا يفصل بين الجار والجار إلاّ جداراً رقيقاً وقد اخترعوا آلات عجيبة في التصنت وفي التصوير دون أن يشعر المواطن أنه يخضع لذلك.
وعادت (الشرق الأوسط،17ذو القعدة 1419) فنشرت تقرير نقلاً عن جريدة لوس أنجلوس تايمز عنونته ب (خصوصية الأفراد وحرياتهم تختفي في القرن المقبل أمام التطور التكنولوجي) وأوردت فيه مختلف الأقوال والتحليلات عن أوضاع مواطني دول الغرب من حيث ضياع خصوصياتهم الشخصية. ومن الأقوال المهمة في هذا التقرير ما قاله جون فالنتاين- رئيس شركة انفوجيلد - "انتهت أيام الحرية الشخصية ، ولا تستطيع في هذه الأيام حتى تغيير اسمك بسرية تامة." وقال جيمس ديمبسي -أحد نشطاء مركز الديموقراطية والتكنولوجيا في واشنطن:" قبل خمسة وعشرين عاماً كان الخوف من الملف الكبير والسجل الكبير وقاعدة المعلومات الكبيرة ، أما الآن فقد أصبحت أجهزة الكمبيوتر متصلة بعضها ببعض الأمر الذي يساعد على خزن المعلومات بسرعة فائقة وبدون عناء"(34/84)
وقد عرضت محطة السي إن إن CNN يوم الأحد 19ذو القعدة برنامجاً خاصاً عن هذا الأمر استضافت أحد رجال الشرطة الداعين إلى التجسس ونشر الكاميرات في الأماكن العامة وبين مناضل عن الحريات الشخصية فظهر الاختلاف واضحاً فرجل الشرطة يريد لهذه الكاميرات أن تقوم بدور مساعد للحد من الجريمة والتعرف على سلوكيات رجال الشرطة بينما يخشى الآخر من طغيان هذه الكاميرات التي ستحد من الحريات الشخصية وأن القانون مازال عاجزاً عن مواجهة هذه التطورات المتسارعة في مجال المراقبة.
وإن حمّى نشر الكاميرات في الشوارع العامة وفي الميادين قد أصابت بعض العقلاء هناك بالفزع فأخذوا ينادون بأن الحرية الفردية الشخصية أصبحت مهددة. وتساءل البعض عن النواحي القانونية في هذا المجال. وربما كان هذا من أهم ما يميز حياة الغرب أن التكنولوجيا تتطور تطوراً أسرع مما يتطور التشريع لديهم ذلك أنه تشريع بشري خاضع لأهواء البشر.
أما الإسلام فله تشريعاته السامية في هذا المجال والتي أرجو أن تتيح لنا العولمة لنقول لهم إن لدينا من التشريعات- والحمد لله- ما يمكنهم تطبيقه مهما تطورت الوسائل التكنولوجية وهذا من خصائص هذه الشريعة التي تتسم بالشمول والعموم.
وأول هذه التشريعات ما جاء في قوله تعالى )يا أيها الذين آمنوا اجتنوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم( (الحجرات 12). فلم يقع الابتداء بالنهي عن التجسس ولكن سبقه الحديث عن الظن السيء الذي يقود إلى التجسس فذكر القرطبي رحمه الله حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) فقال القرطبي بعد ذلك: "قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التُّهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تُهمة لا سبب لها يوجبها، كما يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلاً ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك …والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب."
أما في قوله تعالى (و لا تجسسوا) فقال بعد أن بحث في الفرق بين التحسس والتجسس فالأول أن التجسس هو البحث عما يكتم عنك والتحسس طلب الأخبار والبحث عنها ويمكن أن يكون الفرق أيضاً أن التحسس ما أدركه الإنسان ببعض حواسه أو طلبه لنفسه أما التجسس أن يكون رسولاً لغيره. ومعنى الآية:" خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلّع عليه بعد أن ستره الله. وأورد بعد ذلك الحديث الذي رواه أبو داود عن معاوية وفيه : سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول ا صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها .ووردت أحاديث أخرى تنهى عن التجسس واتباع أخبار الناس ومن ذلك ما رواه المقدام بن معدي كرب عن أبي أمامة عن صلى الله عليه وسلم (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)
ولعل من أبلغ النهي عن التجسس حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم حَلّ لهم أن يفقئوا عينه.) رواه البخاري ومسلم وقد أورد أبو داود ( ففقئوا عينه فقد هّدِرت) وجاء في صحيح البخاري قول صلى الله عليه وسلم (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أُذنيه الآنُك (الرصاص المذاب) يوم القيامة.)
وقد تحدث الشيخ حسن أيوب في هذا الموضوع في كتابه القيم (لسلوك الاجتماعي في الإسلام) بقوله:" وهكذا يجب أن يفهم المسلمون دينهم وأن يدركوا أن للمسلم ولكل إنسان مسالم حرمته، وأن حرمة المسلم في مسكنه وفي أقواله وأفعاله وآرائه وأفكاره يحب أن تصان وتحترم.
فهل يتعلم الغرب من تشريعات الإسلام العظيمة. وكم كنت أتمنى لو أن محرر الصحيفة التي نقلت تقرير الصحيفة الأجنبية (لوس أنجلوس تايمز) ذكر التشريعات الإسلامية في هذا الباب لكنّا أفدنا من سعة انتشار هذه الجريدة وما يمكن أن تؤديه من خدمة للدعوة الإسلامية.
خامساً: العلاقات الاجتماعية
ترتبط العلاقات الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً بالمبادىء والقيم والعقائد التي يتبناها المجتمع. فبالرغم من مزاعم الغرب أن أحد مصادر ثقافته وفكره هو المصدر الديني اليهودي-المسيحي، لكن حسن حنفي يرى أن "نوعية المعطى الديني في المصدر اليهودي المسيحي واحدة وهي اللاعقلانية."(140) ففي اليهودية يزعم اليهود أنهم شعب الله المختار دونما سبب معين لهذا الاختيار ومهما كانت أعمال هذا الشعب من عصيان أوامر الله عز وجل، وقتل الأنبياء أو الجحود بنعم الله، فالله يعطي الشعب كل شيء دون مقابل من الشعب.(34/85)
أما اللاعقلانية في المعطى الديني المسيحي فهي على نحو فردي شخصي فالإيمان سر لا يمكن إدراك كنهه بالعقل، والمسيح ثالث ثلاثة، ولا يمكن فهم علاقة الأقانيم داخل الثالوث بالعقل، والكنيسة سلطة متوسطة بين الله والإنسان تفسر الكتاب، ويعترف الفرد المذنب أمامها وتهبه الغفران. ثم تمرد النصارى على هذه اللاعقلانية لتظهر العلمانية التي تركز على الصلة المباشرة بين الإنسان والله وحرية تفسير "الكتاب المقدس" وبراءة الإنسان من خطيئة آدم عليه السلام، وضرورة تأسيس الدولة وأنها مستقبل الإنسان في هذا العالم.(141)
ولقد تناول القرآن الكريم معتقدات أهل الكتاب وسلوكهم، فأوضح ما أدخلوه على كتبهم من تحريفات وتبديلات وتغييرات، كما أوضح أن سلوكهم قائم على العداوة للغير والعصيان. وهذا ما يمكن أن نصفه بمصطلحات عصرنا "عنصريتهم وأنانيتهم وتمركزهم حول ذواتهم" ويضيف حنفي " فوصف أهل الكتاب في القرآن الكريم هو وصف ضمني لحال الغربيين اليوم وصلتهم بغيرهم."(142)
وكانت الكنيسة تؤيد النظام الإقطاعي، وكانت هي من أكبر الملاك في العصور الوسطى (الأوروبية) وكان العلاقات الاجتماعية قائمة في هذا النظام على أن للإقطاعي حقاً مقدساً يطلب بموجبه خدمات وأشياء أخرى من أتباعه، ولكنه في الوقت نفسه كان مرتبطاً تقليديا أن يكون مسؤولاً عن حمايتهم ويكفل لهم على الأقل الحد الأدنى من المستوى المعيشي.(143)
وظلت السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية في القرنين السابع عشر والثامن عشر متأثرة بسلوكيات القرون الوسطى، فكان يعدُّ قيام أي شخص بمحاولة كسب الزبائن بتخفيض الأسعار إلى أدنى من السعر السائد يعد سلوكاً غير نصراني، وكانت التشريعات تنص على هذا. وكما يقول إريك فروم E r ich F r omm "كأنّ الاقتصاد والمجتمع وجدا من أجل الإنسان وليس العكس، وما كان أي تطور اقتصادي يعد صحياً لو أدى إلى إيذاء الإنسان."(144)
وما أن حلّ القرن التاسع عشر حتى تغيرت الأحوال فلم يعد الإنسان مقياس الأشياء في دائرة الاقتصاد، وكان من أبرز خصائص الرأسمالية في هذا القرن الاستغلال القاسي للعمال، وكان من المعتقد أنه من الطبيعي وهو القانون الاجتماعي أن يعيش مئات الألوف من العمال في حد المجاعة.(145) وأصبحت الرأسمالية تقوم على أن العمل هو "منتج يشتريه مالك المال، ولا يختلف جوهرياً عن أي سلعة في السوق. واستخدمه المشتري إلى أقصى حد. ومادام قد اشتراه في السوق فليس هناك إلزام على مالك المال فيما عدا دفع الأجور، فلو هلك مئات الألوف من العمال جوعاً فهذا حظهم العاثر بسبب مواهبهم المتدنية، أو ببساطة إنّه القانون الاجتماعي والطبيعي الذي لا يمكن تغييره.(146)
وهكذا أصبح المجتمع الغربي يتكون من طبقات يمتلك بعضها القوة فتستأثر بأفضل المنتجات الاجتماعية لنفسها وتترك الأعمال الأشق والأقذر لغيرها من الطبقات، وقدراً أقل من الناتج الاجتماعي. وكان هذا التقسيم يتم عن طريق التقاليد الاجتماعية والدينية التي احتوت على قوة نفسيه في الناس مما يجعل تهديد القوة المادية غير ضروري.(147)
ويستنتج فروم أن المشكلة بين رأس المال والعمال أكبر بكثير من المشكلة بين طبقتين وأكبر من صراعهم من أجل نصيب أكبر من الناتج الاجتماعي، إنها مشكلة بين مجموعتين من القيم، إنها بين عالم الأشياء وتثمينها، وعالم الحياة و إنتاجيتها.(148) ونتيجة لهذه التطورات "أصبحت الطبقة العمالية نموذجاً لجماعة مُسْتَغَلّة يُتلاعب بها، ويمكن مداهنتها والإشادة بها، ولكن يندر استشارتها أو ابتاع رأيها، إن أكبر طبقتين عماليتين في العالم تلك التي في الولايات المتحدة والتي في الاتحاد السوفيتي، ليس لهما تأثير حقيقي على البناء السياسي في دولتيهما وعلى القرارات التي تتخذ فيهما."(149)
وقد وصل الأمر بالرأسمالية أن لا يبالي الرأسماليون في تدمير المنتجات الزراعية، بل كما يقول فروم إننا بدل أن نفرح بالمحصول الجيد نقوم بإحراقه أو رميه في البحر في الوقت الذي يوجد ملايين من البشر لا يجدون لقمة العيش ، ويبررون ذلك " من أجل استقرار السوق".(150)(34/86)
وليت الأمر توقف عند تدمير المنتجات بل وصل الأمر بالرأسمالية أن تدمر حياة العمال حرصاً على استمرار مستوى الأرباح أو تخفيض تكاليف الإنتاج . وقد أعدت مجلة نيوزويك Newsweek ملفاً خاصاً أطلقت عليه ( الرأسماليون القتلة) أوردت فيه أعداد العمال الذين قامت بعض كبريات الشركات الأمريكية بفصلهم عن العمل . فشركة آي تي أند تيAT&T قام رئيسها بفصل أربعين ألف عامل ، وقام مدير شركة إي بي إم IBM بفصل ستين ألف موظف في يوليو عام 1993، وقام مدير شركة جنرال موتورز Gene r al Moto r s بفصل أربعة وسبعين ألف موظف. وتقول المجلة أن هؤلاء العمال وإن وجدوا تعويضاً لدى مصلحة العاطلين عن العمل ، لكن ما قيمة الإنسان بلا عمل. ومما يدل على فداحة المصيبة أن شركات أخرى تقوم باستثمار مبالغ كبيرة في توفير فرص الدراسة لموظفيها حتى يكتسبوا مهارات جديدة ودرجات علمية حتى إذا اضطرت لفصلهم وجدوا العمل المناسب. كما أن إحدى الشركات قامت بتخفيض رواتب كبار الموظفين-مؤقتاً- بنسبة خمس وعشرين في المئة حتى لا تضطر لفصل أي من موظفيها. (151)
كل هذا يقودنا إلى مؤتمر رابطة علماء السياسة الأمريكية الذي عقد في أوائل سبتمبر 1995 وتحدث فيه روبرت د. باتنام r obe r t D. Putnam أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد قائلاً بأن الثقة بين الأمريكيين قد ضعفت، وكذلك المشاركة الاجتماعية، وقد قدم وثائق تؤكد تراجع المشاركة الاجتماعية في العقود الماضية، وأن النسيج الاجتماعي قد أصبح أقل متانة من ذي قبل. ويمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى عدد من العوامل بما فيها ارتفاع نسبة الطلاق، ودخول المرأة قوة العمل، وتغيير مكان الإقامة، وتوسيع الرعاية الاجتماعية، والتراجع الاقتصادي بعد عام 1973 ونمو ضواحي المدن. ولعل أبرز الأسباب التي ذكرها البرفسور روبرت باتنام هي التلفزيون الذي بدأ بقوة في الخمسينيات من هذا القرن فأولئك الذين لم يدمنوا التلفاز مازالت لديهم روح المشاركة والثقة.(152)
ويرى بعض الباحثين الاجتماعيين أن للتلفزيون آثاراً سيئة في القيم الأخلاقية في المجتمعات الغربية ومن هؤلاء إريك فروم الذي يقول:" يملأ الإعلام عقول الناس بأرخص النفايات التي لا صلة لها بالواقع وفيها الكثير من الخيالات السادية مما لا يقبله الشخص العامي. وفي الوقت نفسه تتعرض فيه العقول صغاراً وكباراً للتسمم فإننا نواصل سعينا أن لا يعرض على الشاشة ما هو مناف للأخلاق، وأي اقتراح بأن تقوم الحكومة بتمويل إنتاج أفلام أو برامج تنوّر العقول وتحسنّها ستجد من يعترض عليها باسم الحرية والمثالية."(153)
ولعل من أقوى ما قيل في تأثير التلفزيون ما كتبه بيجوفتش :" لقد أثبت علم نفس الجماهير، كما أكدت الخبرة أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار الملح لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع ، وتنظر سيكولوجية وسائل الإعلام الجماهيرية إلى التلفزيون على الأخص باعتباره وسيلة ليس لإخضاع الجانب الواعي فحسب ، بل الجوانب الغريزية والعاطفية بحيث تخلق فيه الشعور بأن الآراء المعروضة عليه هي آراؤه الخاصة."(154)
ويؤكد ريتشارد نيكسون على تأثير التلفاز في الصغار وقيمهم وأن هذا التأثير -كما كشفت دراسة أجريت عام 1991-أكثر من تأثير الوالدين والمعلمين والمرشدين الدينيين مجتمعين.(155)
التفرقة العنصرية
ومن مظاهر ضعف العلاقات الاجتماعية ازدياد التفرقة العنصرية ضد السود والملونين حتى إن أندرو شايير مؤلف كتاب (نحن القوة الأولى) يقول عن السود: " إنهم هنا في أمريكا يعيشون كأفراد غرباء وأجانب على أرض ولدوا وترعرعوا فيها، ولا يعرفون سواها.. يمكننا النظر إلى أمريكا على أنها دولة تتكون من شعبين: البيض وهم الأغلبية المسيطرة، والسود وهم الأقلية المضطهدة."(156)
وتظهر معاناة السود من أصل أفريقي في الأرقام الآتية: فهم يشكلون 45% بين المساجين في الولايات المتحدة، ومن النواحي الاجتماعية فالأسر ذات الوالد الواحد ارتفعت بين السود لتبلغ 56% من عدد الأسر، أما حالات الولادات خارج الزواج فهي بين السود 63%.(157)
وقد نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال"Wall St r eet Jou r nal تقريراً عن وضع السود في مجال الشرطة ذكرت فيه أن شرطيا من أصل أفريقي وصل إلى رتبة كابتن في مدينة سنسناتي -وهذه هي المرة الرابعة التي يصل فيها أسود لهذه الرتبة- ولكن بعض البيض اعترض على هذه الترقية، مما جعل السلطات القضائية تتدخل للنظر في القضية. أما في المدن الأخرى فالحال ليست أفضل، ففي ولاية نيويورك حيث يبلغ الأمريكيين الأفارقة 28.7% من عدد سكان الولاية، ولكنهم لا يؤلفون أكثر من 11.4% من قوة الشرطة، أما الذين وصلوا إلى رتبة قيادية فلم يتجاوز 6.6%. ويقول التقرير إن السود بالرغم مما بلغوه في العصر الحاضر فأنهم لا يزالون يعانون من العقبات في التوظيف والترقيات والمضايقات من زملائهم البيض الذين يعترضون على ترقية زملائهم السود، حتى إن بعضهم يرفض إطاعة أوامر رئيس أسود.(158)(34/87)
وقد انفجرت الأوضاع الأمنية في مدينة لوس أنجلوس حيث اندلعت أعمال عنف وشغب قيام محطات التلفاز بعرض شريط لبعض رجال الشرطة من البيض وهم يضربون أحد السود وهو رودني كينج بعنف ووحشية . وكانت نتائج هذه الاضطرابات أن قتل ثمانية وخمسون منهم عشرون شرطياً، وبلغ عدد الجرحى 2382، منهم 220 جريحاً في حالة خطرة. واعتقل 13505شخصاً، ودمرت الحرائق 5537 محلاً تجارياً ، وقدرت الخسائر المالية ب785 مليونا ، وساهم من رجال الشرطة والحرس القومي وجنود البحرية واحد وعشرون ألفاً.(159)
وذكر كارل بيل - مدير مجلس الصحة العقلية بشيكاغو - إن المواطنين السود لا يزالون يتعرضون يومياً للإهانة والعنف بحيث أصبح ذلك جزءاً من لا شعورهم المحبط.(160)
ويعترف نيكسون بأن المحاكم الأمريكية حاولت فرض حصص تميزية على أساس العرق في القَبول في الجامعات والتوظيف والترقية ، وتغاضت عن التمييز في إشغال الوظائف العامة والقطاع الخاص وإبرام العقود مع الحكومة مما جعل الجامعات وبعض الوظائف تقبل بالأقل كفاءة لتغطية الحصص الخاصة بالأعراق.(161)
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة جماعات متطرفة في المجتمعات الغربية ومن هذه الجماعات جماعة تطلق على نفسها "الأحرار" والتي تتزعم حرباً عرقية ودينية ضد السود وبقية الملونين الذين لا ينحدرون من أصول شمال أوروبية، ويزعم هؤلاء أنهم -البيض- شعب الله المختار ، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي أرض الميعاد وليست أرض فلسطين (إسرائيل) .ويبلغ تعداد هذه الجماعة من عشرة آلاف إلى أربعين ألفاً.(162)
ويشبه هذه الجماعة أيضاً حركة أخرى تطلق على نفسها (حليقي الروس)Skin Heads وهي جماعة مسلحة متطرفة تنطلق من منطلقات عنصرية حاقدة على كل الأجناس غير البيض، وقد قدمت محطة التلفزيون H.B.O. برنامجاً خاصاً عن هؤلاء في صيف عام 1995.
وقد أوردت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً من لوس أنجلوس مفاده أن جرائم الكراهية ضد الأسيويين قد ارتفعت بنسبة ثمانين بالمئة في العام الماضي في ولاية كاليفورنيا عن العام الذي سبقه. وقد نقلت الوكالة عن التقرير السنوي الثاني للتجمع القانوني لأسيويي المحيط الهادى الأمريكيين بأن هناك أربعمئة وثمان وخمسين حالة اتهام مثبتة لحوادث ضد الأسيويين مع وجود حالات كثيرة لا تصل إلى الشرطة بسبب اللغة والحاجز الثقافي وعدم وجود سجلات كاملة لدى الشرطة. ومن الطريف أن التجمع يوجه اللوم للخطاب السياسي المعادي للمهاجرين الذي يتسبب في إثارة العواطف وأعمال العنف ضد الأسيويين. ومن الأمثلة على ذلك أن حاكم ولاية أريزونا استخدم حق النقض ضد قانون يحارب الكراهية بسبب العرق بالرغم من ارتفاع هذه الجرائم في ولايته بأكثر من خمسمئة في المئة في الخمس سنين الماضية. (163)
وتشهد فرنسا تطرفاً عرقيا حيث ارتفعت الطوائف المتطرفة بنسبة خمسين في المئة في الفترة من 1983 حتى 1995، فهناك مئة واثنتين وسبعين مجموعة ترتبط بها ثمانمئة فرقه تابعة لها بينها خمس عشرة طائفة تتميز بخطورتها الشديدة على الأوضاع العامة. وقد أشارت مجلة لو بوينت Le Point إلى أن الحكومة الفرنسية تتغاضى عن هذه المجموعات المتطرفة ، كما أشار السيد ولد أباه إلى أن الأصوليين في أمريكا كان لهم تأثير كبير في انتخاب الرئيس ريجان r egan وأن هؤلاء قد بلغوا درجة عالية من التنظيم حيث إن لهم جامعات، وكليات طب ، ومدارس وإذاعات ومحطات تلفاز.(164)
ويحاول مأمون فندي- الأستاذ بجامعة جورجتاون Geo r gtown - تفسير أصول هذه العنصرية بقوله :" إن الرجل الأبيض ينظر باحتقار للإنسان الأسود ويبرر عنفه تجاهه من خلال منظومة ثقافية والتي معها كان يقتل البيض إخوانهم السود ويعلقونهم في الأشجار في حفل عنف جماعي ، وكانوا يبررون ذلك لأنفسهم من خلال كتابهم المقدس فاللون الأسود بالنسبة للمسيحي الجنوبي هو لون الشيطان."(165)
ويرى أحد الباحثين الأمريكيين أن جذور العنصرية ضد الأعراق الأخرى بدأت في الغرب ليس من نتاج اللاعقلانية ولكن كمشروع عقلاني وعلمي لفهم العالم .فقد أوحى بفكرة العنصرية الرحالون الأوروبيون والتي أنتجت مشروعاً لتصنيف نباتات العالم وحيواناته وشعوبه. فبالنسبة للرحالة الأوروبيين و المنصّرين وعلماء الأجناس قدمت النظرية العنصرية بياناً متناسقاً حول الاختلافات الحضارية يمكن إرجاعه إلى المناخ أو البيئة وبالتالي اعتبرت أموراً جوهرية.(166)
ومن مظاهر التفرقة الاجتماعية التفرقة ضد النساء المصابات بأمراض القلب حيث يحصلن على عناية أقل من الرجال من حيث الأدوية، وفي الغالب يواجهن الموت أكثر من الرجال، كما أكدت ذلك ثلاث دراسات مختلفة، وهناك أدلة على أن الأطباء يميزون الرجال المصابين بالقلب على النساء، فقد فحص الباحثون ثمانمائة حالة على مدى خمس سنوات فوجدوا أن ثلث النساء قد توفين بعد ست أشهر من الإصابة بأول أزمة قلبية.(167)
خامساً:الأخلاق
لو زعمنا أن الأخلاق في الغرب في تراجع لقال المنبهرون بالغرب: أنتم تتجنون على الغرب وتتحاملون عليه، ولكن ماذا يقولون إذا كانت هذه المزاعم بأقلام الغربيين أنفسهم؟(34/88)
يقول مؤلفا كتاب (مواجهة أزمة أمريكا الأخلاقية): "لقد أصبح من المؤلم بوضوح أن القيم الأخلاقية ليست كما يجب، قد تكون متطورة من بعض النواحي، لكن هذه الأخلاق تواجه الانهيار عموما، وما زالت منذ مدة طويلة." ويضيفان:" إن مجتمعنا مصاب بالفساد والفوضى، كثير من الأمريكيين يتجاهلون مسألة الصح والخطأ (الحق والباطل) إنهم يهتمون بمنافعهم الذاتية، ويبررون سلوكهم غير الأخلاقي."(168)
ومن أبرز الانحرافات الخلقية في المجتمع الأمريكي انتشار الكذب، هذه الخصلة الذميمة التي تورع عنها رجل عربي في جاهليته حيث قال حين سأله هرقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم " خشيت أن تؤثر عني كذبة"، أما جاهلية أمريكا فتستحل الكذب كما يقول بذلك مؤلفا كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) :"إن عادة الكذب أصبحت سمة من سمات المجتمع الأمريكي، إن الكذب تجسد في شخصيتنا الوظيفية لكن هذا لم يتضح بعد للشعوب الأخرى". ويقول المؤلفان : " الأمريكيون يكذبون في كل صغيرة وكبيرة."(169) ويوردان إحصائية عن الكذب بأن عشرين في المئة من العينة أفادوا بأنهم لا يصبرون عن الكذب ولو يوما واحداً.(170)
ومن مظاهر تراجع الأخلاق ما كتبه هاملتون هوز عن ظاهرة تحول الرجال إلى نساء والنساء إلى رجال، والأفراد في ممارسة الحرية في المجتمع الأمريكي قد تجاوزت كل الحدود، ويضيف هوز قائلا: " ومن الظواهر التي لم تكن مألوفة في مجتمعنا ثم تحولت إلى سلوك طبيعي بدعوى "الحرية الشخصية" ظاهرة الإقبال على اقتناء أو مشاهدة الصور والمجلات الخليعة بين كل طبقات المجتمع الأمريكي وفئاته وعلى وجه الخصوص بين موظفي الكونجرس وموظفي المحكمة العليا."(171)
ويرى بيجوفتش أن الدول الغربية تتعرض لغزو بشع من الأدب الإباحي، وتحتل فرنسا و الدنمارك وألمانيا الغربية المركز الأول في هذا المجال. ويرى أحد خبراء الطب النفسي في تحليله لهذه الظاهرة أن أسبابها تعود إلى نمط الحياة الغربي الشديد الرتابة( نوم- قطار- عمل) "وهي خطة تمنح مستوى معيناً من المعيشة لكنها تحرم الإنسان من الخبرة والإثارة الحقيقية ..ولهذا يحتاج معظم الناس غريزياً إلى الهرب من أنفسهم ليجربوا أنواعاً من الإثارة الرخيصة ، وتجد هذه الحاجة إشباعها في الأفلام الإباحية."(172)
الأخلاق والسياسة:
بالرغم مما كتبه كاتب --يتم تلميعه- بأن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق، لكني لا أجد أجمل من عبارة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن الإسلام فقال: "كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونسيء الجوار ونأكل الميتة، و يأكل القوي منا الضعيف، فجاءنا من نعرف صدقه وأمانته فدعانا إلى عبادة الله وترك عبادة الأوثان، ودعانا إلى مكارم الأخلاق.."(173)
وقد تزامن البناء الأخلاقي مع البناء الإيماني، حتى إذا تكونت الدولة الإسلامية في المدينة وكان بذورها قد بذرت في دار الأرقم بن أبي الأرقم وفي بيعتي العقبة لم تنفصل الأخلاق عن السياسة مطلقا، وما كان لها في الدولة الإسلامية.
وقد عانت السياسة في الغرب من تراجع الأخلاق، فقد كتبت ليبي بيرفيز Lippy Pu r ves تحت عنوان (عندما تتحول حمرة الخجل إلى خد بليد أو وقح) وأشارت إلى المرشحة لرئاسة بلدية مدينة ليفربول بأنها أدينت ثلاث مرات بممارسة البغاء على مدى خمس سنوات حتى عام 1978، وأطلق سراحها بشروط في أربع عشرة حالة تزوير في الثمانينات، وغرمت خمسمئة جنيه عام 1990 لحصولها على ممتلكات بطريق الخداع، وتناولت الكاتبة حالات أخرى تدل على تدهور الأخلاق في المجتمع الإنجليزي حتى إن الشخص يرتكب الجرم ثم يصبح شخصية عامة تنال الاحترام والتقدير.
وقبل سنة من الآن اضطر السناتور (النائب) الأمريكي بوب باكوود Bob Packwood (جمهوري من ولاية أوريجن) رئيس اللجنة المالية إلى الاستقالة بعد أن قررت (لجنة الأخلاق) في الكونجرس طرده بالإجماع، وحاول أن يدافع عن نفسه لكن تحقيقات اللجنة ومذكرات النائب التي بلغت عشرة آلاف صفحة أثبتت إدانته. وتتلخص التهم الموجهة إلى النائب باكوود في سوء سلوكه وأخلاقه جنسياً ومالياً ، ودار الحديث في وسائل الإعلام الأمريكية في تلك الأيام عن الفساد والسلطة هل هما متلازمان ، وما موقف الشعب الأمريكي من مؤسساته السياسية ،وهل تستحق الثقة أو إن هذه الثقة قد تزعزعت ؟(174)
ولا بد أن البعض ما زال يذكر فضيحة واتر جيت التي أخرجت الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون من البيت الأبيض بسبب تجسسه على مقر الحزب المنافس. ولدى الأمريكان جيت جديدة باسم وايت ووتر جيت وكان هناك إيران جيت وغيرها.
وفي فرنسا وقبل ستة أشهر من انتخابات الرئاسة الأخيرة التي أتت بالرئيس جاك شيراك إلى رئاسة الجمهورية ظهرت مجموعة من الفضائح التي تسببت في استقالة وسجن بعض الوزراء ، كما كان لدى القضاء الفرنسي ملفات فضائح مالية حول عدد من الوزراء منهم وزير الصناعة والبريد والهاتف ، ورئيس الحزب الجمهوري ، و وزيرة التعاون، و وزيرة الشباب والرياضة.(175)(34/89)
وظهرت فضائح في شرطة نيويورك بسبب سوء استخدام السلطة لإشباع الغرائز والإثراء الفاحش بالتعاون مع تجار المخدرات إما بالتستر عليهم أو مشاركتهم ، وقد طالت هذه الفضائح رتباً عليا.(176)وكذلك في هولندا أكدت لجنة برلمانية استشراء الفساد في إدارة الشرطة والأمن حيث كشفت التحقيقات أن هذا الجهاز يعد أكبر مصدر لتهريب المخدرات والتعامل مع تجارها وغسل أموالها في هولندا وخارجها.(177)
الإنفاق على السجون والإنفاق على الجامعات
اطلعت على بحث نشرته صحيفة النهار البيروتية في ملحقها الشهري لشهر تموز( يوليو) 1998) وعنوان البحث (البؤس والجريمة في الولايات المتحدة) للأستاذ الجامعي الأمريكي لويك واكنت Loic Wacquant الأستاذ بجامعة بيركلي. وفي هذا البحث من المعلومات الشيء الكثير الذي ينبغي أن نعرفه عن الغرب، ولعله يشكل نواة للدراسات التي من المطلوب أن يقوم بها أبناؤنا عندما يلتحقون بالجامعات الغربية لنيل الدرجات العليا في مجال علم الاجتماع وغيره من العلوم.(178)
بدأ الباحث بالحديث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وما تميزت به من ازدهار اقتصادي وفر الكثير من الوظائف، ولكنه في الوقت نفسه وسّع الفوارق بين الطبقات فانتشرت الجريمة في الطبقات المحرومة مما أدى إلى التوسع في المؤسسات البوليسية والجزائية. ويلخص الباحث هذه التطورات في أربع نقاط:تزايد عدد نزلاء السجون ، وتزايد عدد الأشخاص الخاضعين للرقابة وتضخم المؤسسات الجزائية داخل الإدارات الفيدرالية والمحلية، الارتفاع المذهل لأعداد السود داخل السجون الأمريكية .
لقد كان للتركيز على السياسة الجزائية أن ارتفع عدد المحكوم عليهم إلى أرقام كبيرة جداً أدت إلى عجز في السجون الحالية؛ فقد تضاعف عدد الموقوفين ( الذين لم يجددوا لهم مكاناً في السجون) أربع مرات في ستة عشر عاماً ليصل إلى حوالي أربعة ملايين عام 1995، يتمتع ثلاثة ملايين تقريباً منهم بحرية مشروطة Pa r ole وسبعمائة ألف (700,000)تحت الرقابة حتى بلغ عدد الأمريكيين الخاضعين للوصاية الجزائية عام 1995 خمسة ملايين وأربعمائة ألف أي ما يقارب خمسة في المائة من الرجال فوق الثامنة عشرة من العمر وما نسبته واحد إلى خمسة من الرجال السود.
أما النفقات على السجون فقد بلغت أرقاماً مذهلة فقد بلغت نفقات ولاية كاليفورنيا 3,2مليار دولار بينما تخصص ولاية نيويورك 2,1 مليار وتكساس 1,3مليار سنوياً. ولمواجهة هذه الزيادة في موازنة السجون فقد تقدم حاكم كاليفورنيا بيت ويلسون عام 1995 بمشروع موازنة للولاية اشتمل على إلغاء ألف وظيفة في التعليم العالي من أجل تمويل ثلاثة آلاف وظيفة حارس سجن جديدة. ويذكر الباحث أن ما يتقاضاه حارس السجن يزيد على مرتب الأستاذ الجامعية بنسبة ثلاثين بالمائة وذلك بسبب النفوذ السياسي لنقابات موظفي السجون.
أما عن ارتفاع نسبة الجريمة أو المحكومين بجرائم مختلفة بين السود فيذكر الباحث أنه في عام 1995 من بين 22 مليون أسود راشد كان يمكن إحصاء 767ألف سجين و999 ألفاً تحت الرقابة و325 ألفاً آخرين يتمتعون بحرية مشروطة، وهي نسبة تفوق بكثير ما هو حاصل لدى البيض حتى إنه يمكن وصف النظام القضائي الأمريكي بأنه يقوم بمهمة " تحديد موقع الشبيبة السوداء وتدميرها."
وهناك مسألة الرقابة أو ما يسمى الحرية المشروطة حيث يستخدمون "الاختبار المكثف" والرقابة الهاتفية والإلكترونية (بواسطة المعاصم وغيرها من الحيل التقنية)، والنظام الجزائي يبسط سلطته في شكل واسع عبر تكاثر بنوك المعلومات الجرمية وما تتيحه من مضاعفة عشرات المرات لوسائل المراقبة و نقاطها عن بعد. وأصبحت هذه المعلومات متاحة لمن يريدها فأصبحت كالسيف المصلت على رأس صاحبها تضايقه أينما ذهب.
تطلعات إلى الخير:
يتنازع الغرب تياران أحدهما يدفعه إلى مزيد من الانحراف والانحلال والضلال، وآخر يدعوه إلى العودة إلى القيم الخلقية الرفيعة وإلى العودة إلى الدين، ويتزعم تيار الفساد المؤسسات الإعلامية وبخاصة هوليوود بكثافة ما تنتجه من أفلام، وكذلك الآلة الإعلامية الضخمة التي تضفي على هذا الإنتاج وعلى نجوم السينما هالة من الاحترام والتقديس بل تجعلهم القدوة التي يجب أن يجتذبها العالم أجمع، فقد كتب الناقد السينمائي مايكال ميدفيد Michael Medved (يهودي) كتابا بعنوان (هوليوود وأمريكا) ذكر في مقدمته" أن تأثير هوليود في المجتمع هادىء ومتدرج، إنه ليس تأثيرا ضخما أو فجائيا أو فوري)(179).
ويشير ميدفيد إلى أن الدراسات أثبتت التذمر العميق لدى الجمهور الأمريكي من إنتاج هوليوود، ففي عام 1989 أجرت دراسة على عينة علمية مختارة بعناية فأثبتت أن 80% موجودا أن أفلام هوليوود تحتوي على بذاءة، و 82% يشعرون أن الأفلام تحتوي على كمية زائدة من العنف، واشتكى 72% من العري الزائد، وأكد ثلاثة إلى واحد من العينة أن نوعية الأفلام في هبوط.(180)(34/90)
والعجيب أن القائمين على هوليوود لا يهتمون بالدين حيث إن الملتزمين منهم لا يزيدون على 7% ، ويقول أحد المختلطين بهؤلاء :" لا اعرف أحداً سواءً كان منتجاً أو ممثلاً أو كاتباً تحت سن الخامسة والأربعين يذهب إلى الكنيسة أو البيعة.(181)
ومن التطلع إلى الخير ما ذكره جيمس بترسون وبيتر كيم من أن 80 % من الأمريكيين يؤيدون تدريس المبادىء والقيم الأخلاقية في المدارس الأمريكية، ويعتقد الكثيرون أن الانحطاط الأخلاقي هو المشكلة التي تعاني منها البلاد.(182)
وفي كتاب دعونا نصلي يقول مؤلفه: " الصلاة في المدارس علاقة ثقافية تدل على قضية أكبر أن كل مواطن يدفع الثمن لإلغاء الصلاة في المدارس والروحانية من الحياة العامة.. إن الصلاة ظاهرة إنسانية كونية وهي دافع لا يمكن أن ينتهي في وقت الحاجة إليه وجزء أساسي من كل دين .."(183)
وكتبت صحيفة الجارديان الأسبوعية قبل شهرين تقريبا تتناول مسألة الحرب التي أعلنت على الكحول، وقد قدم المقال بعض الأرقام المفيدة ومنها أن استهلاك الخمور قد انخفض إلى أدنى حد منذ عام 1964 ووصلت مبيعات الخمور إلى أدنى حد خلال الخمسين سنة الماضية، وهناك جهات تسعى إلى أن يصدر الكونجرس الأمريكي قوانين ضد الكحول(184).
وقد أجرت مجلة (أخبار الولايات المتحدة والعالم)U.S. News & Wo r ld r epo r t استطلاعاً في شهر ديسمبر 1991 أكد فيه أكثر من 56% من الأمريكيين بأن أعلى هدف لهم في الحياة هو تحقيق صلة أفضل بالله .(185)
ويعلق ميدفيد على ذلك بقوله:" وعلى ضوء هذه الأرقام فإن إصرار هوليوود في عدائها للقيم الدينية ليس غريباً، إنه فعلاً حالة مرضية. فبدلاً من تعديل هوليوود رؤيتها للواقع حتى تتصالح مع الصحوة الدينية في أمريكا والصحوة الواسعة في الذهاب إلى الكنيسة والارتباط بها، فإن معظم الناس في عاصمة السينما اختاروا ببساطة أن يهملوا ما تقوله الاستطلاعات."(186)
وقد تناول نيكسون موقف هوليوود هذا بقوله:" تزعم هوليوود أنهم يعكسون أحوال أمريكا، وأنها مريضة وأرى إنهم إنما ينظرون في المرآة ، لأن هوليوود هي المريضة وقيمها ليست قيم الاتجاه العام .والعنف والجنس الإباحي سلعتان رائجتان وهوليوود بصدد جمع الأموال عملت على تعجيل انهيار تلك المعايير، فحُقّ للأمريكان الغضب من وسائل جني الأرباح هذه، وإن فشلت هوليوود في مراقبة نفسها علينا إخضاعها لرقابة الحكومة.(187)
هذه الآراء الجريئة ضد هوليوود هل يمكن أن تصل إلى نتيجة ؟ هذا ما يرجوه أي محب للفضيلة والعفة والحياء، ولكن هل ينجح الأمريكيون في الحد من غلواء هوليوود أو تستمر هوليوود في طريقها في إفساد العالم. وهذا يقودنا إلى الكتابين اللذين صدرا في الولايات المتحدة حول الشعب الأمريكي حيث كتب أحدهم كتاباً بعنوان أمة من الغنم فكتب الآخر أمة من الأسود لكن مكبّلة . والحقيقة أن هوليوود قد تكون أقوى من كل هذه التوجهات الأمريكية إلاّ أن يشاء الله لفساد هوليوود أن يهزم ليس في الولايات المتحدة فقط بل على دول العالم كلها أن تقف في وجه فساد هوليوود وأختها بولي ود ( الهندية).
ومما يدل على قوة هوليوود أن شركة ورنر إخوان (Wa r ne r B r othe r s ) أنتجت فيلما بعنوان قتلة بالفطرة Bo r n Kille r s ، وكان سبباً مباشراً في ارتكاب مجموعة من الشباب جرائم قتل. ولما أرادت الشركة أن تعرض الفيلم في بريطانيا قام مجلس مراقبة الأفلام بالامتناع عن السماح للفيلم بالعرض في صالات السينما البريطانية ،ولكن أكدت وسائل الإعلام (الإذاعة) أن الفيلم سوف يعرض في بريطانيا ذلك أن المنتج للفيلم شركة ورونر لديها الوسائل التي تستطيع أن تضغط بها على الحكومة البريطانية.(188)
القسم الثالث
جوانب إيجابية من الغرب
أولاً: البحث العلمي ومؤسسة راند أنموذجاً
تأسست مؤسسة راند r AND كمشروع تحت مظلة شركة دوجلاس المتخصصة في الصناعات الحربية، ووضعت القواعد التي تضمن استقلاليتها ،وأن تكون بحوثها ذات اهتمام بالأهداف طويلة المدى ،ولها أن تحصل على المعلومات الاستخباراتية، ومعلومات التخطيط من سلاح الجو الأمريكي.وبالتالي تقدم تقاريرها وتوصياتها كما يقتضي البحث العلمي.
وتركزت بحوث هذه المؤسسة على الموضوعات الحربية والتكنولوجية مثل: المحركات النفاثة، ومحركات الصواريخ، والوقود ذي الطاقة العالية والنظرية الإحصائية للرادار والفيزياء الفضائية.
ولمّا كانت العلوم الفيزيائية غير كافية كحل فعّال لمشكلات وحيد لمشكلات الأمن القومي، ولا يمكن فصلها عن الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،فقد سعت مؤسسة راند للاستعانة بخبراء من خارجها في التخصصات المطلوبة.ولوضع أسس للعلاقات بين خبراء المشروع مع المتخصصين من خارجه فقد عقدت ندوة عام 1947 استمرت ستة أيام لهذا الغرض.
وفي عام 1948 بدأت الخطوات الفعلية لتحويل المشروع إلى مؤسسة غير ربحية،وتم اختيار مجلس أمناء لإدارتها، واختيار المسؤولين الكبار فيها.وكانت الميزانية المبدئية لها لا تتجاوز ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف دولار.(3750000.00) وأصبحت ميزانيتها عام 1963 تزيد على عشرين مليون دولار.(34/91)
ومن الأسس المهمة التي شجعت البحث العلمي أكثر من مجرد استمرار الدعم المادي، الظروف التي عمل فيها الباحثون حيث إن الأفكار غير المألوفة والجديدة لم تكن في حاجة إلى موافقات موسعة من الهيكل الإداري، أو الإداريين الحكوميين واللجان المتخصصة.ومثل هذه البيئة الجذابة جداً للأشخاص المبدعين، وبالإضافة إلى الظروف الأخرى التي وفرتها المؤسسة فقد ساعد ذلك كله على تعدد المستفيدين من بحوث المؤسسة.
ويتكون مجلس أمناء مؤسسة راند r AND شخصيات علمية وسياسية ورجال أعمال ورجال إعلام وأساتذة جامعات أذكر منهم على سبيل المثال: مستشار الدراسات الاستراتيجية والدولية، ورئيس مؤسسة التايم ورنر، ورئيس مجلس إدارة شركة سيتي كورب، ورئيس جامعة ستانفورد بكاليفورنيا (وهي من جامعات القمة في أمريكا) ورئيس معهد الطب بالأكاديمية القومية للعلوم، وأستاذ الإدارة بجامعة كاليفورنيا (لوس أنجيلوس).
وفي الكتاب الصادر عن المؤسسة عام 1993 نجد نماذج من البحوث التي أجرتها المؤسسة أذكر بعضها لنرى مدى اتساع موضوعات البحوث وشمولها مختلف المجالات: "صورة حياة المدينة الأمريكية:حيث تناول البحث تغير الحياة في المدينة الأمريكية منذ عام 1965، وما الذي لم يتغير، وهل تساعد سياسة الحكومة على تحسين الأحوال أو تؤدي إلى إفسادها،وما الذي يمكن تعلمه من البرامج الحكومية السابقة،وما الذي يمكن عمله مستقبلاً.
وثمة بحث آخر بعنوان (إعادة تخطيط الدراسات العليا) وقد دعا إلى القيام بهذا البحث ازدياد الاهتمام بحالة الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية حيث لوحظ أن المشكلات المادية في الجامعات أدى إلى تخفيض نسب القبول في الجامعات ،وتقليص عدد المواد المقدمة،وزيادة حجم الفصول وتأخير صيانة المباني ،وتخفيض التزويد في المكتبات ،كما إن من هموم الدراسات العليا أن نوعية الطلاب قد انخفضت ، وكذلك لم تعد الداسات العليا تستجيب لمشكلات الأقليات وأن تخريج العلماء والمهندسين لا يفي بالحاجة القومية.
وثمة جانب آخر جديد لنشاطات المؤسسة وهو التعليم حيث تتعاون مع الجامعات في تقديم منح للدراسات العليا ،ووضع برامج للحصول على الدرجات العلمية في مجالات البحث المختلفة.
إن الحديث عن مثل هذه المؤسسة لا يكفي العديد من المقالات، ولكننا نتساءل كم عدد مؤسسات البحث العلمي المستقلة في عالمنا العربي الإسلامي ؟ لا شك أننا في بداية الطريق، فمراكز البحوث موجودة لدينا ،ولكن بعضها يدار بأسلوب يغلب عليه الروتين الإداري ،والإجراءات الإدارية الطويلة.
إننا بحاجة إلى من يدرس هذه المؤسسات دراسة علمية ميدانية يطلع عليها، ويعرف كيف تعمل، فإن لدينا الكثير من المشكلات في العالم الإسلامي ولا يمكن أن تستمر هكذا دون إجراء البحوث المستقلة وإتاحة الفرصة للمفكرين والمبدعين من أبناء الأمة للعمل الجاد بدلاً من تركهم ليهاجروا إلى الغرب فنفقدهم مرتين ؛مرة بعدم الإفادة من عقولهم وعلمهم وإمكاناتهم والثانية بأن تصبح هذه العقول في خدمة دول أخرى لا تخفى مواجهتها لنا.
ثانياً: مؤسسة المجتمع المفتوح
تناول أحد أعداد مجلة(السياسة الخارجية) (189) موضوع (مؤسسة المجمتمع المفتوح).فأعجبني الحماسة والإخلاص اللذين يصبغان نشاط هذه المؤسسة التي تأسست قبل أكثر من خمس عشرة سنة لمقاومة انغلاق مجتمعات أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي (سابقا) .
وفي هذه المقالة يتحدث جورج سوروس Geo r ge So r os - رئيس هذه المؤسسة- قائلاً إن هذه المؤسسة هي إحدى المؤسسات الخاصة (غير الحكومية) التي عملت على مساعدة روسيا ودول أوروبا الشرقية على التغلب على العيش في مجتمعات منغلقة. وقد تأسست عام 1979 ولم يبدأ عملها حتى عام 1984 ، وكانت البداية في المجر ، وازداد عمل هذه المؤسسة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث ارتفع عدد الدول التي تعمل فيها هذه المؤسسة عشرين دولة.
ومن أبرز ملامح هذه المؤسسة أن ميزانيتها عند التأسيس(1979) كانت ثلاثة ملايين دولار فقط، وارتفعت الميزانية إلى ثلاثمئة مليون دولار في عام 1993.وكان من إنجازاتها أنها كلّفت عدداً من المؤلفين لكتابة ألف كتاب منهجي لتحل محل الكتب التي كانت تبث االفكر الماركسي اللينني.
وكيف تبرر هذه المؤسسة عملها ؟ يذكر سوروس أن الشيوعية منذ ظهورها أدت إلى ظهور مجتمعات منغلقة تخضع لسلطة الحزب ، وكان الأفراد يعيشون تحت رحمة جهاز الدولة . ونظراً لأن العقيدة الشيوعية عقيدة زائفة تزعم لنفسها أنها تملك الحقيقة النهائية والكاملة ولذا لم يكن من الممكن أن تنتشر عقيدتها إلاّ عن طريق العنف . وحتى مع هذا العنف لم يكن من الممكن للشيوعية أن تحافظ على وجودها كثيراً. وقد أصبحت الفجوة بين العقيدة والواقع أكثر وضوحاً.
ويقول سورس :" إن انهيار المجتمع المغلق لا يعني تحولاً آلياً إلى المجتمع المفتوح، لأن المجتمع المفتوح مجتمع أكثر تقدماً وأكثر حنكة وثقافة في تنظيمه من المجتمع المغلق.إن الحرية ليست مجرد غياب الاضطهاد.إن المجتمع الذي ينعم أفراده بالحرية يتطلب مؤسسات تحمي الحرية ، وفوق ذلك يحتاج إلى أناس يؤمنون بهذه المؤسسات."(34/92)
وتناول سورس ردود الأفعال المختلفة لانهيار الشيوعية في روسيا ودول أوروبا الشرقية، وعدم قناعة تلك الشعوب بالانتقال إلى النمط الغربي الذي يدعو إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون أو المجتمع المفتوح حيث عادت بعض هذه الشعوب إلى نموذج معدل من الشيوعية.ثم عاد إلى الحديث عن المجتمعات المفتوحة فقال:" إن هذه المجتمعات المفتوحة تتيح الفرصة للشعوب لاستخدام طاقاتها الإبداعية. وإن الحرية تقود إلى الازدهار. ولكن الشعوب التي تعيش في مجتمعات مفتوحة لا تدرك ذلك ،بل إنهم لا يتعاملون مع مفهوم المجتمعات المفتوحة كمسألة تستحق التضحية من أجلها.
ويقترح سورس أن تجعل الولايات المتحدة في قمة سياستها الخارجية إيجاد المجتمعات المفتوحة والمحافظة عليها.ويرى أن يكون الاتحاد السوفيتي السابق على قمة الأهداف الأمريكية ولذلك لأن الاتحاد السوفيتي(سابقا) عانى من الانهيار، ولم تعان المجتمعات الأخرى من الانهيار وبالتالي فلا بد من مجتمع بديل. ويرى الكاتب(سورس) ضرورة العودة إلى المفاهيم القديمة التي تجعل الشيوعية مقابل العالم الحر.ويقترح أن تقوم الأمم المتحدة بدور رائد بعد أن تتغلب الدول الأوروبية وأمريكيا على خلافاتهم ، فليس باستطاعة الولايات المتحدة أن تكون شرطي العالم و لا هي قادرة على ذلك.
وهكذا ينفق الغرب مادياً وفكرياً لنشر معتقداته وأسلوب حياته، ونحن في العالم العربي الإسلامي ابتلينا بالقومية والاشتراكية والشيوعية والعلمانية أو اللادينية حتى أصبحت جزءاً أساساً في فكر أجيال متلاحقة في العالم العربي الإسلامي مازال بعضهم يتسنم منابر التوجيه .فهل لو قامت لدينا مؤسسات تدعو إلى تحرير العقول و الأفهام وإعادتها إلى عقيدة الأمة الصافية النقية يمكن أن تجد التأييد والدعم؟ لا شك أن الإسلام يقدم الحرية لأفراده ولمن يعيشون تحت ظله الفرصة للإبداع والابتكار، وقد قاد العالم إلى الازدهار الحقيقي بعيداً عن الظلم والعصبيات القومية والعرقية والدينية.
إن هذه تجربة غربية هل يمكن لنا دراستها دراسة وثائقية ميدانية ونفيد من وسائلها عملاً بالأثر المشهور الذي بدأت به المقالة ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها؟
ثالثاً: المعرفة بالآخر -برنامج الزائر الدولي أنموذجاً
كتب أحمد عائل فقيهي(190) حول معرفة الغرب بنا وجهلنا به، وكان مما كتبه عن معرفة الغرب: "إنه يعرف عنّا أكثر مما نعرف عنه، ونجهله أكثر مما يجهل دقائقنا، وبين معرفته بنا وجهلنا به ثمة بون شاسع.. ثمة مسافة تتوالى إلى ما لانهاية."
وهذا أمر أوافقه عليه وأجد أن التجربة الأمريكية عموماً وتجربة برنامج الزائر الدولي تستحق أن يشار إليها، ولكن لا بد أن ندرك أن المعرفة بالآخر تتطلب جهداً ومالاً وهمة عالية، فأمريكا قد أنشأت المئات من مراكز البحوث والمعاهد العلمية وأقسام الجامعات التي تدرس العالم أجمع ليس دراسة نظرية فحسب بل تضيف إليها الدراسة الميدانية. ولكني هنا سأقتصر على الحديث عن برنامج الزائر الدولي التابع لوكالة إعلام الولايات المتحدة الأمريكية
هذا البرنامج يتبع مكتب الشؤون التعليمية والثقافية. ويؤكد البرنامج على زيادة التفاهم المتبادل من خلال الاتصالات الشخصية والمهنية. ويركز البرنامج في اختياره على الشخصيات التي يدعوها لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون من ضمن النخبة التي يتوقع لها مستقبلاً في مجال عملها في بلادها سواءً كان ذلك في الأعمال الحكومية، أو السياسية، أو الإعلام، أو التعليم،أو العلوم وغيرها من الميادين الحساسة.
ويتم اختيار هؤلاء الأشخاص من قبل سفارات الولايات المتحدة ليقوموا بزيارة أمريكا للالتقاء بنظرائهم في المجالات التي يعملون بها. وقد بلغ عدد الذين شاركوا في هذا البرنامج على مدى نصف قرن أكثر من مئة ألف زائر كما يقول مدير وكالة إعلام الولايات المتحدة جوسف دفي Joseph Duffey في تقديمه للكتيب الذي صدر بمناسبة مرور خمس وخمسين سنة على بدء برنامج الزائر الدولي. وقد بلغ عدد هؤلاء الزوار عام 1993 أكثر من خمسة آلاف زائر.
وتتعاقد الوكالة مع العديد من المؤسسات لتنظيم برامج الزيارة لهؤلاء الضيوف وفي المجال الثقافي والتعليمي يتم التعاقد مع المعهد الدولي للتعليم Inte r national Institute of Education ، ويقوم المعهد بدوره بالاتصال بالعديد من المنظمات المحلية التي يطلق على بعضها مجلس الزوار الدوليين للقيام بترتيبات الزيارة .وهناك عدد كبير من المتطوعين الذين يهتمون بالزوار الدوليين لأنهم يدركون أن التعرف على هذه الشخصيات سيكون تجربة مثمرة وثرية، فتجد بعضهم يتطوع لاصطحاب الزائر إلى الأماكن الأثرية أو المعالم السياحية أو يستضيفه في بيته .
ماذا يستفيدون من هذا البرنامج الذي يكلف سنوياً عدة ملايين من الدولارات ؟ إنهم يكسبون معرفة بالآخر معرفة وثيقة فهذا الزائر الذي جاء إليهم يقدم لهم نموذجا حياً من العاملين في مجال من المجالات وبالتالي لم يكن من الممكن التعرف إلى مثل هذه الشخصيات دون الاتصال الشخصي بها.(34/93)
ونحن في هذه البلاد نستقبل سنوياً آلاف الزوار والمدعوين لبرامج مختلفة مثل موسمي الحج والعمرة، ومهرجان الجنادرية، والمؤتمرات العلمية التي تعقد في مختلف مدن المملكة. لكن هل يمكن أن ننظر في برنامج الزائر الدولي وأهدافه وطريقة تنفيذه فنفيد منه (فالحكمة ضالة المؤمن). وقد علمت أن مجلس العلاقات العربية الأمريكية بالتعاون مع المملكة سيدعو مجموعة من أساتذة الجامعات الأمريكية لزيارة المملكة خلال الشهر القادم، فهل نظمنا لهم لقاءات مع بعض أساتذة الجامعات السعودية ورجال الفكر ليتعرفوا إلينا عن قرب بدلاً من أن تكون معلوماتهم عنا من بعض الصحافة أو الإعلام المغرض ؟
وهاهي مناسبة كريمة أن أقدم هذا الاقتراح ويتلخص في أن يكون لبعض الضيوف الرسميين في مواسم الحج والعمرة أو غيرها مرافقون من أساتذة الجامعات حسبما يسمح به وقتهم إما بمقابل أو تطوعاً، أو أن يتم ترتيب لقاءات لهؤلاء الضيوف في موسم الحج مع نظرائهم في المملكة لنفيد من خبراتهم وليتعرفوا إلى بلادنا والإنجازات الحضارية الكبيرة والكثيرة التي تمت على مدى سنوات قليلة. فليس الإعلام مجرد صحيفة أو برنامج إذاعي أو تلفازي بل من الإعلام والدعوة الاتصال الشخصي الذي قد يفعل أحياناً مالا تفعله آلاف الكلمات والخطب
رابعاً : إيجابيات متفرقة
طالما انتقدنا الغرب وبحثنا في وعن سلبياته وأشبعناها حديثاً في كتاباتنا وفي مقالاتنا وفي خطبنا وفي مجالسنا. ألم يأن الأوان أن نبحث في بعض الإيجابيات التي نعرف أنها موجودة هناك؟ ونحن نردد دائماً (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها) ولنتذكر قول عمرو بن العاص رضي الله عنه في وصف الروم: " إن فيهم لخصالاً أربعاً : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، و أوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة وأمنعهم من ظلم الملوك" رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة.
فهل يمكننا أن نفكر في إعداد برنامج إذاعية وتلفزيونية عن هذه القضايا أي إعداد حلقات عن هذه الصفات، كما يمكننا أن نعد حلقات عن الإخلاص والدقة في العمل، والالتزام بالمواعيد. وكيف استطاعوا أن يشجعوا الإبداع الفردي. يجب على الأمة الإسلامية أن تقبل التحدي فالمسألة مع العالم ليس مجرد علاقات اقتصادية متبادلة أي لدينا المال ولديهم السلعة ومن الممكن أن نشتري بفلوسنا ما نشاء، القضية أكبر من هذا. يجب أن نبدأ من نقطة معينة.
كم أرسلنا من أبنائنا للدراسة في الغرب وتعلموا الكثير في الغرب فعندما رجعوا إلينا كأنهم لم يذهبوا إلى هناك. وجدوا المعوقات والعراقيل فاستسلموا دون أن يقدموا الكثير منهم شيئاً يذكر. كما أن بعضهم عاد وهو لم يفهم الغرب الفهم الحقيقي بل فهمه فهماً ظاهرياً تمثل في القشور وفي حياة الفساد والترف والانحراف. وما دمنا قد أصبحنا نعقد دورات للمبتعثين فإننا يجب أن ننبهم إلى أن يفهموا المجتمعات التي سيعيشون فيها ونطلب إليهم أن يكون لهم تأثير في هذه المجتمعات وكذلك حين يعودون إلى بلادهم.
يتطلب هذا البرنامج إجراء لقاءات مع الناس عند حدوث بعض الفتن عندهم أو بعض المصائب كالزلازل والكوارث الطبيعية. فمن الملاحظ أنهم يعملون بسرعة على تلافي أي مصيبة تحدث لهم. لقد حدثت اضطرابات في لوس أنجلوس قبل عدة أعوام ولكني أعتقد أنه لم تمر سوى أشهر حتى عادت الحياة إلى طبيعتها، وكذلك أصابت ولاية فلوريدا بعض الأعاصير (وهي وبعض الولايات الشرقية من الولايات المتحدة مهددة بهذه الأعاصير سنوياً) ولا بد أن الحياة تعود إلى طبيعتها بعد هذه الأعاصير بأسابيع.
ويمكن العودة إلى الأيام التي تلت الحرب العالمية الأولى والثانية وكيف استطاع الغرب أن يعيد بناء مدنه بسرعة عجيبة.
ومن الموضوعات التي أعتقد أننا بحاجة إلى تعلمها العدد الهائل من الجمعيات الخيرية أو جمعيات النفع العام. فقد شحنت أوروبا وأمريكيا ملايين الأطنان من الكتب للدول الشيوعية ونحن نعلم مدى حاجة المسلمين للمصحف الشريف أو الكتب الإسلامية ولا نجد من يتبرع بكتاب. أعرف أنهم في الغرب يتبرعون بالورق ( الصحف وغيره من أنواع الورق) فتجمعه بعض الجمعيات الخيرية لصالح الكنائس.
وبعد أن كتبت إلى مدير عام إحدى القنوات الفضائية أقترح عليه هذه الفكرة طلب منّي أن أقدم إليه بعض التفاصيل وفيما يأتي التفاصيل التي بعثتها:(34/94)
1. إن مما يشكو منه كثير من الموظفين في الدوائر الحكومية أنهم لا يعرفون كيفية إجراء أي معاملة أو ليس لديهم دليل لمثل هذه الأمور، كما لا يعرف حقيقة ما له وما عليه فليس هناك في أي مؤسسة دليل للأنظمة والإجراءات أو توصيف حقيقي للوظائف بينما أخذت الخطوط السعودية عن الشركات الأمريكية هذا الأمر ففيها ما يسمى دليل الأنظمة والإجراءات Manual of P r ocedu r es and P r actices (MP&P) هذا الدليل يحدد طريقة إجراء كل المعاملات في الخطوط السعودية الخطوط" وهو بلا شك ييسر العمل في الخطوط فكل إجراء له خطوات محددة لا بد من اتباعها. كما أنه يحدد طريقة وضع أي توصيف لأي وظيفة فيبين حدود الواجبات والصلاحيات. كما أن العلاقات بين الموظفين ورؤسائهم تخضع كثيراً لنظام الخدمة المدنية الذي لا يعرفه معظم الموظفين. ولا بد أن أرامكو والشركات التابعة لها فيها مثل هذه الأدلة التي توضح الإجراءات.
ومن النماذج الأخرى التي يمكن أن يكون لنا فيها دروس جيدة ما يأتي:
* البريد الداخلي للخطوط السعودية . لابد أن الخطوط السعودية قد أخذت بهذا النظام من شركة تي دبليو إي TWA الأمريكية . وهذا البريد يتطلب وجود أظرف عليها العديد من الخانات فتوضع الرسالة في الظرف ويكتب عليه اسم الإدارة ومركز التكلفة ، ثم إذا وصل إلى الإدارة المعنية وأرادت إرسال خطاب إلى جهة ما شطبت الاسم الموجود وكتبت الاسم الجديد. ولعل البريد الإلكتروني هذه الأيام حل كثيراً مشكلة إرسال الخطابات بين الإدارات، وربما حلّها أيضاً وجود الفاكس.
وفيما يتعلق بالبريد أيضاً فإن الخطوط السعودية ولها في جدة ما يزيد على عشرة آلاف موظف ليس لديها سوى صندوق بريد واحد أو اثنين هما 620 و167 بينما لبعض الجامعات أو حتى الصحف عدد من الصناديق.
وإذا وصلت مادة بالخطأ إلى جهة فإنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل إيصالها بسرعة إلى الجهة الصحيحة. فلو حسبنا عشرين صندوق بريد في إحدى الجامعات فإنها تحتاج إلى إرسال عشرين مراسلاً خمسة مرات في الأسبوع لكان لدينا مائة مشوار فكم ستكلف مثل هذه المشاوير من جهد بشري واستهلاك بنزين وسيارات وجهد موظفين في البريد وأجور وغير ذلك.
* الجامعات وتسهيل الإجراءات: تعرفت في أثناء بحثي للماجستير والدكتوراه على الإجراءات الميسرة في المكتبات الأجنبية في أوروبا وأمريكا بينما مازلنا نعيش تعقيدات لا أول لها ولا آخر. فحين ذهبت إلى المكتبة الوطنية في بلد عربي كان لابد من مقابلة أمين المكتبة الذي لا يحضر إلاّ متأخراً وقد لا يحضر بعض الأيام. وبعد اللقاء وقيامه بالتحقيق معي حول بحثي أعطاني التصريح بالاطلاع على المواد التي أرغب الاطلاع عليها. أما في المكتبة الوطنية في باريس فهناك موظفة قريبة من الباب تطلع على ما لديك من وثائق ثم تعطيك التصريح اللازم.
أما بالنسبة للوثائق ففي مديرية الوثائق يوجد عناوين للوثائق في كل علبة ولا يسمح لك بالاطلاع على العلبة كاملة بل تعطى وثيقة واحدة في كل مرة. أما في الأرشيف الوطني الفرنسي لما وراء البحار فكان الأمر أسهل بكثير حيث تعطى العلبة كاملة تتصفحها وتصور ما تشاء.
* سكرتارية الأقسام العلمية في الجامعات: يمكننا أن نتعلم من الغرب في المجال الجامعي حيث لكل قسم سكرتارية تقوم بخدمة الأستاذ من حيث المراسلات واستقبال المكالمات وترتيب المواعيد وطباعة بعض الأوراق أو تصوير الأوراق. فما ذا يحصل الأستاذ الجامعي في جامعاتنا؟ إنني أستغرب أن بعض الجامعات في الطفرة اهتمت بشراء المكاتب الفخمة والإنفاق على بعض الأمور بدل أن يضعوا أسساً للإنفاق على التعليم الجامعي بكرم حقيقي.
* تقويم التعليم العام والتعليم الجامعي : تقوم جهات محايدة في الغرب على تقويم الجامعات وكذلك التعليم العام وقد تعجبت جهة أجنبية أن المؤسسة التي تقوم بتقويم التعليم العام في بلادنا تابعة لوزارة المعارف. وقد كتب الدكتور سالم سحاب عن تقويم الجامعات ومؤسسات التقويم Acc r editation ونحن بحاجة إلى مثل هذا ، صحيح أن مثل هذه المؤسسات قد تفضح كثيراً من الأوضاع الخاطئة ولكن إذا أردنا اليقظة الحقيقية فعلينا مواجهة الحقائق.
* في المجال التجاري: لقد استحدثنا قانون ( البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل) بينما جاء في الحديث الشريف ( من أقال أمرؤا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)، فلو تعرفنا إلى بعض الإجراءات التي يتعامل بها الغرب في البيع والشراء وحاولنا تأصيلها إسلامياً فالناس درجوا على أن يحبوا ما يأتي من الغرب فليكن ذلك شريطة أن نعرف أصولنا معرفة صحيحة.
هذه نماذج مما يمكن أن نتعلمه من الغرب وهي تحتاج إلى جهود كبيرة لتوضيحها، وليت وسائل الإعلام تأخذ على عاتقها مسؤولية ذلك.
الخاتمة(34/95)
تناول هذا البحث مسألة معرفة الآخر وعرض لبعض الظواهر الاجتماعية في الغرب. وكانت نقطة الانطلاق هي تحديد هوية " الذات" أو " الأنا" و " الآخر" من خلال الرجوع إلى آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم . وأوضحنا كيف أن الحضارة الإسلامية قد شُيِّدت بعقول وسواعد وإبداع شعوب أدركت موقعها من العالم . أدرك المسلمون أنهم أمة " الشهادة" وأمة "الدعوة" والشاهد لا بد أن يعلم موضوع شهادته. والداعية لا بد أن يعرف البيئة التي سيدعو فيها. لذلك درس المسلمون الحضارات الأخرى وفهموها فسهل عليهم التعامل معها.
ونحن نعيش في عصر تهيمن فيه الحضارة الغربية فلا بد لنا أن نعرفها معرفة حقيقية ، وقد توصل بعض المثقفين المسلمين إلى معرفة الحضارة الغربية معرفة عميقة ومن هؤلاء طارق البشري الذي يقول :" إن الحضارة الأوروبية الأمريكية لا تعترف بغيرها ،و لا تتيح بالتالي إمكانية الحوار الذي يسهم بهضم و استيعاب قيم وخبرات مستمدة من حضارات أخرى."(191)
ولئن كان هذا صحيحاً لا ينبغي أن يثبط همتنا في الحرص على عرض ما لدينا من علم وهداية ونور عملاً بقول الله عز وجل{ ادع إلى سبيل ربط بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن. (192) هذا الأمر للوجوب وكما يقول علماء التفسير إذا أطلق الأمر هو للوجوب ما لم يصرفه صارف ، أو تأتيه قرينة تصرفه عن حالة الوجوب إلى الندب.، والحكمة تقتضي الاعتدال في الخطاب فلا ننزلق إلى -كما فعل دعاة الشيوعية والاشتراكية أو اليسار العربي- استعداء الغرب بأساليب فجة ، واستخدام وسائل الإعلام للعنتريات الفارغة . وقد كانت قواميس شتائم اليساريين تحتشد بربط الغرب بالامبريالية والاستعمار واستغلال الشعوب واستعبادها. وكأني بهؤلاء مثل الأعرابي الذي سرقت منه إبله فعاد يقول:" أوسعتهم شتماً ، وذهبوا بالإبل" وفي هذا يقول عبد القادر طاش:" إن الحاجة ماسّة الآن لإعادة النظر في الخطاب الإسلامي المعادي للغرب وترشيده وإعادة التوازن لكيلا نفاجأ يوماً بانزلاق الطرفين إلى صدام مدمر يقودنا إليه ذلك الشحن الأيديولوجي الأعمى من قبل الغلاة هنا وهناك."(193)
والمعرفة اليوم لا تبنى من زيارة عاجلة أو قراءة عدة كتب عن الغرب أو المكوث في الغرب عدة سنوات للتحصيل العلمي للدراسات العليا وبخاصة إذا اختار الباحث أطروحة تخص البلد الذي ينتمي إليها. لقد تطورت أساليب المعرفة ووسائلها ولا يمكن تحقيقها إلاّ من خلال الدرس العميق والبحث الجاد الرصين ، ودراسة الظواهر الاجتماعية والفكرية للعالم الغربي. ولا بد أن تكون أهدافنا واضحة لا نبحث عن طريقة لاستعمار أراضيهم واستغلال خيراتها وكما قال أحد الخلفاء حينما أراد أن يبقي الجزية على من أسلم من أهل الذمة: " إنما بعث صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعث جابياً"(194)
وانتقالنا من ذات موضع الدرس إلى ذات دارس إنما هي خطوة في الطريق لنأخذ مكاننا الصحيح في هذا العالم، وذلك من أجل الوصول إلى حوار هادف وبنّاء مع الغرب لا بد أن نتفق فيه على " المصطلحات والمفاهيم والدلالات وذلك لتحرير الغرب من خطر مزعوم."(195) وهذا ينتقل بنا إلى ما قاله فؤاد صادق مفتي عن دور " المدافع" وممارسة "رد الفعل" على كل فعل يصدر عن الآخر دون أن يكون لنا استراتيجية واضحة للتفاعل مع هذه التطورات المحتملة والتأثير فيها قبل أن ترغمنا على التأثر بها أو "الإذعان " لنتائجها بكل سلبياتها."(196)
يجب أن ننظر إلى الآخر (الغرب) على أنه أفاد من معطيات الحضارة الإسلامية والحضارات السابقة وبنى مؤسسات فاعلة في شتى المجالات الفكرية والثقافية والسياسية والعسكرية والعلمية وباستطاعتنا أن نفيد من تنظيمه لهذه المؤسسات فائدة عظيمة إذا ما قمنا بدراستها دراسة واعية.
أما الظواهر الاجتماعية التي قدمتها في الصفحات السابقة فقد غلب عليها الطابع السلبي وهو ليس مقصوداً وذلك أن الغرب كما ذكر مؤرخوه وفلاسفته يمر بطور التراجع والانحدار فلا بد للسلبيات أن تطغى وأن تكون أظهر من الإيجابيات. ومع ذلك فثمة إيجابيات يعرفها من عاش في الغرب ويدركها من يرى استمرار هيمنة الغرب في المجالات السياسية والعسكرية والثقافية. ومن هذه الإيجابيات أن العلم مازال يحتل مكانة بارزة لديهم فهذه الجامعات الغربية تحتل مكان القمة في الجامعات العالمية ولديهم مراكز البحوث والمعاهد العلمية التي ما تزال تغري أبناء العالم النامي (الثالث) بالسعي للالتحاق بها والدراسة فيها والعمل فيها تاركين أوطانهم التي أنفقت الكثير عليهم مضحين بالسكنى في الوطن قريباً من الأهل والأحباب.
بينما نحن في العالم الثالث(النامي) لدينا الكثير من حوافز لاحترام العلم والعلماء وتقدير دور العلماء كما توضح ذلك النصوص المقدسة ومنها قول الله عز وجل:{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }(197)ويعطي الإسلام العلم مكانة رفيعة حتى في الحرب ومن ذلك قول الله تعالى{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}(198)(34/96)
والحضارة الغربية مهما كانت إيجابياتها وتفوقها لكنها كغيرها من الحضارات والغرب كغيره من الشعوب والأقوام يخضع لسنن الله عز وجل . فمهما زعم الزاعمون أن الغرب يمارس النقد الذاتي وهو الذي يعطى لهذه الحضارة حيويتها و" ديناميتها" وكما يقول أحدهم:" وأن هذا يكذب سلفاً كل النبوءات حول وشكان موتها."(199) فإن هذا الزعم لا سند له من الواقع والتاريخ. فإن سنة الله ماضية فإذا بلغ انحرافهم وفسادهم وضلالهم الدرجة التي توجب غضب الله والتدمير فلن يرد بأسه سبحانه وتعالى مهما ملك الغرب من قوة، فهؤلاء الفراعنة الذين بنوا الأهرامات التي ما زال العلم الحديث يتعجب كيف استطاعوا نقل تلك الأحجار الضخمة ولم يكن لديهم الرافعات الهيدروليكية أو غيرها من التقنية الحديث، وهذه مدائن صالح ذات القصور في الجبال، بأي وسيلة نحتوا تلك الجبال؟ ونحن نؤمن بقول الله عز وجل {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد بطشاً}(200) وقول الله سبحانه وتعالى{ فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومضى مثل الأولين}(201) وقول الله تعالى: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}(202)
تناولت فيما سبق تعريف الأخر، وأوضحت الموقف الإسلامي من الآخر من خلال آيات القرآن الكريم واهتمامه أولا بمعرفة الذات وتحقيق الذات ثم الانطلاق لمعرفة الآخر على أسس شرعية، وأفدت في ذلك كثيراً من محاضرة الدكتور جعفر شيخ إدريس التي ألقاها في الرياض في شهر شوال من هذا العام.
وأوضحت حرص الغرب على معرفة الذات وانطلاقه لمعرفة الأخر، ومن هذا الآخر العالم العربي الإسلامي، وأشرت إلى تأخرنا في الوقت في معرفة الذات بله معرفة الأخر.
وفي القسم الثاني اخترت بعض الظواهر الاجتماعية وحرصت أن تكون مراجعي ما صدر عن الغرب بنفسه.
وقد أضفت في الطبعة الثانية قسماً ثالثاً تناول بعض الإيجابيات في المجتمعات الغربية وكان أولها اهتمام الغرب بالبحث العلمي وبدلاً من اللجوء إلى الأرقام والإحصائيات قدمت أنموذجاً خاصاً وهو مؤسسة راند للبحث العلمي وأوضحت بعض خصائص هذه المؤسسة ومزاياها. ثم تحدثت عن مؤسسة المجتمع المفتوح التي كان هدفها انتشال الدول الشيوعية ودول أوروبا الشرقية من الانغلاق ودعوة تلك الشعوب إلى الانفتاح على العالم، ثم كان الحديث عن برنامج الزائر الدولي كوسيلة يستخدمها الأمريكيون لمعرفة الشعوب الأخرى، ثم الحديث عن إيجابيات متفرقة.
وهذا الموضوع في حقيقته يحتاج إلى جهد أكبر ووقت أوسع، فقد تركت كثيرا من المادة العلمية التي توفرت لدي حيث لم أجد متسعا لذكرها كما أن هذا الموضوع يستحق أن يكون موضوع عدد من الرسائل العلمية.
المصادر والمراجع
أولاً: العربية
المصادر
1- القرآن الكريم
2- كتب السنة المطهرة.
المراجع: كتب ومقالات
1- أحمد، محمد سيد." الحضارة الغربية لا تعترف بغيرها، ولا تتيح الحوار معها." في صحيفة الرياض.ع(10032)21رجب 1416(21/12/1995).
2- إدريس، جعفر شيخ." موقفنا من الحضارات والأديان الأخرى:رؤية شرعية." في الشرق الأوسط.ع( 6311و6312)في 9و10 مارس 1996. ونشرت المحاضرة ضمن مطبوعات الحرس الوطني.
3- أمين، عوض عباس. "آفاق مركز الدراسات الأمريكية في العالم العربي." في الشرق الأوسط.ع( 6479)،10 ربيع الآخر 1417، (24أغسطس 1996م) (بريد القراء)
4- باترسون، جيمس ،وبيتر كيم. يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة. ترجمة سعود بن محمد البشر.(الرياض، 1414).
5-بار، كاميرون."الاستغلال الجنسي للصغار." في الشرق الأوسط.ع(6482)،13 ربيع الآخر 1417(27 أغسطس1996م)
6- البشر، سعود بن محمد.السقوط من الداخل:ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي.(الرياض:دار العاصمة 1414)
7-بيجوفيتش، علي عزت .الإسلام بين الشرق والغرب.ترجمة محمد يوسف عدس(الكويت وأمانيا: مجلة النور ومؤسسة بافاريا)1414هـ
8-تقي الدين، رندة،" فرنسا قبل ستة أشهر من انتخابات الرئاسة: فضائح وفوضى." في الحياة.ع(11976)32جمادى الأولى 1415(28 أكتوبر 1994م)
9- جريشة، على محمد.شريعة الله حاكمة ليس بالحدود وحدها. (القاهرة: مكتبة وهبة 1977)
10-حسين، آصف.صراع الغرب مع الإسلام:استعراض للعداء التقليدي للإسلام في الغرب.ترجمة مازن مطبقاني ( تحت الطبع)
11-حمدان، عاصم." الأوروبيون والخصوصية الثقافية." في المدينة المنورة.ع (9698)24جمادى الآخرة1414(27 ديسمبر 1993م)
12- حنفي، حسن .مقدمة في علم الاستغراب.(بيروت: الدار الجامعية للنشر، 1412-1992)
13- الحياة.ع(11975)13رجب 1416(15ديسمبر 1995)
14- ==.ع(11729)2ذو القعدة 1415(2أبريل1995م)
15 -==.ع(11198)15ربيع الآخر 1415، (11أكتوبر 1993)
16-==، ع(12145)10 محرم 1417(27مايو 1996م)
17-==، ع(11579)31أكتوبر 1994م.
18- الخشت، محمد عثمان." الإسلام والغرب:من الصراع إلى الحوار." في الحياة، ع( 12103)26ذو القعدة1416(14يناير1996م)(34/97)
19- الراشد، عبد الرحمن." أصيلة ومشروع المركز الأمريكي." في الشرق الأوسط.ع( 6466)27ربيع الأول1417(11أغسطس1996).
20- زريق، قسطنطين،" حضور أمريكا في الذهن العرب، والحضور العربي في الذهن الأمريكي."في الحياة، ع(12134)28ذو الحجة1416(16مايو1996)
21- الزهراني، عبد العزيز عطية." وجموا وهم جاهلون." في رسالة الجامعة.(جريدة تصدر عن جامعة الملك سعود)ع (547)25 جمادى الآخرة 1415
22-الزين، رلى." حملة فرنسية ضد الهيمنة الثقافية الأمريكية." في الحياة،ع(1178)5 ربيع الآخر 1414، (21سبتمبر 1993م)
23- سحاب، سالم،" الرأسماليون القتلة والأثرياء البررة" في صحيفة المدينة المنورة.ع (12039)، 8ذو القعدة 1416، (27مارس 1996م)
24- سعيد، إدوارد. تعقيبات على الاستشراق. ترجمة صبحي حديدي.(عمان:دار الفارس، 1996)
25- ==. مقالة في الحياة، عدد(12182)17صفر 1417(3يوليه1996)
26- شارن، لوري وبوب منزيسهايمر." البيض شعب الله المختار." في الشرق الأوسط.ع( 6343)2ذو القعدة 1416(10أبريل 1996) عن جريدة لوس أنجلوس تايمز.
27-الشافعي، محمد " حمل الأسلحة في المدارس البريطانية." في الشرق الأوسط.ع(6379)28 ذو الحجة 1415(16مايو 1996م)
28-الشاهد، السيد محمد، " الاستغراب "في مرآة الجامعة(صحيفة تصدرها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)ع( 120)20جمادى الأولى 1410.
29 - ==." المواجهة حضارية.. والنقد لا يكفي." في المسلمون.ع (270) 11-17رمضان1410(6-12أبريل 1990).
30-شبيب، نبيل، " الحضارة في غياب القيم:التقدم إلى الخلف." في المسلمون، ع(374)1شوال 1410م.
31-شفيق، مدحت- ميلانو والوكالة الفرنسية من استكهولم." مؤتمر استكهولم يناقش أبشع الجرائم وأكثرها وحشية." في الشرق الأوسط.ع(6483)،14ربيع الآخر 1417(28أغسطس1996)
32- الشرق الأوسط.ع(5667) 25ذو الحجة 1414(4يونيه 1994)
33-==." أول معهد للدراسات الأمريكية."ع( 6465)26ربيع الأول 1417(10أغسطس1996م)
34==،" 26دولة تشارك في مؤتمر مكافحة استغلال الأطفال جنسياً."ع(6482)13ربيع الآخر1417(27أغسطس1996م)
35- ==، عدد(6406)26محرم 1417(12يونيه1996م).
36-==.ع(6473)4ربيع الآخر 1417(18أغسطس1996م)
37-صالح، هاشم." علم الاستغراب لا يضير الغرب بل يرتد علينا بأفدح الأخطار." في الحياة،ع(11740)13ذو القعدة 1415(13 أبريل 1995م).
387- صلاح الدين، محمد. " الديموقراطية الصليبية." في صحيفة المدينة المنورة.ع(12140)20صفر 1417(6يوليو 1996م).
39-==، الحجاب غزو ثقافي بدوي؟!" في المدينة المنورة ع(11467)16ربيع الأول 1415(23أغسطس 1994)
40- ==."جرائم ضد النساء." في صحيفة المدينة المنورة.ع(9717)12ربيع الأول 1412.
41-طاش، عبد القادر." الدراسات الأمريكية" في صحيفة المدينة المنورة.ع(12180)1ربيع الآخر 1417(15أغسطس1996م)
42-==." مصادمة الفطرة." في صحيفة المدينة المنورة.ع(11711)29ذو القعدة 1415(29أبريل 1995)
43-==." مزاعم ينقضها الواقع." في صحيفة المدينة المنورة.ع(11933)15رجب 1416،(7ديسمبر 1995م)
44-==." المغالاة في عداوة الغرب." في صحيفة المدينة المنورة.ع(12135،15صفر 1417(1يوليه 1996م.)
45-طرابيشي، جورج." الغرب ينهار أم أن الحديث عن انهياره قوة له؟" في الحياة، ع(12130)7رمضان 1416(4فبراير 1996م)
46-طربوش، سوزانا." بلجيكا في حالة ذهول." في الحياة.ع (12230)6ربيع الآخر 1417(20 أغسطس1996م)
47-علكيم، حسن حمدان." العرب وأمريكا والنظام العالمي الجديد." في المجلة العربية للدراسات الدولية، عدد 3/4، السنة الرابعة، صيف /خريف 1993، ص 5-27.
48- عمارة، محمد. مكانة الإسلام في صياغة نموذجنا الثقافي." في الحياة.ع (12224)3 ربيع الآخر 1417(4 أغسطس1996م).
49-فندي، مأمون." الجذور الثقافية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه العرب والمسلمين." في مجلة المجتمع(الكويت) ع(12139) 5ربيع الآخر 1417(20 أغسطس1996) ص31-32.
51- مدير، عصام وانس فودة." مجلة أمريكية تفضح أجواء العمل المختلط." في المسلمون.ع(601)25ربيع الآخر 1417(9أغسطس 1996م)
52-مفتي، صادق."نعم للحوار…لا للمواجهة." في الشرق الأوسط.ع 5454، 3نوفمبر 1993.
53-المودودي، أبو الأعلى. الحجاب. (جدة: الدار السعودية للنشر 1405-1985)
54-مطبقاني، مازن." موازيننا وموازينهم في سقوط الحضارات" مقالتان، في المدينة المنورة ع (8943و8950)في 3و10 جمادى الأولى 1412.
55- ==.جامعة الإمام سبقت ندوة أصيلة." في صحيفة المدينة المنورة،ع (12189)10 ربع الآخر 1417(24أغسطس1996م)
56-==.الغرب في مواجهة الإسلام.( المدينة المنورة: مكتبة ابن القيم، 1409) صدرت طبعة ثانية عن مكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالمدينة المنورة 1418.
57-==." بل لابد من دراسة الغرب ونقده." في صحيفة المدينة المنورة.ع(11256)13شعبان 1414(24يناير 1994)
58-==." دراسة الاستشراق وريادة جامعة الإمام1."في المدينة المنورة.ع(11396)4محرم 1415(13يوينه 1994م)
59- ==." دراسة الاستشراق و ريادة جامعة الإمام 2" في المدينة المنورة ،ع (11403)11محرم 1415.(34/98)
60-==." كلية الدراسات الأوروبية" في المدينة المنورة.ع (11410)18محرم 1415(27يونيه1994 )
61-==" متى نخضعهم لدراستنا؟" في المدينة المنورة.ع (11534)24جمادى الأولى1415( 29 أكتوبر 1994)
62-==." أ تواصوا به (التنوير المزعوم)" في المدينة المنورة.ع(9536)8محرم 1414.
63-==" ماذا لو تفسحوا في مجالسهم؟" في المدينة المنورة، ع(11592)24رجب 1415(26ديسمبر 1994م)
64- ==" أيام في واشنطن،"ست حلقات .في المدينة المنورة.الأولى في عدد (11872)13جمادى الأولى 1416(7 أكتوبر 1995)
65-==" يومان مع الصحن الهوائي" في المدينة المنورة.ع(9704)30 جمادى الآخرة 1414(3ديسمبر 1993)
66-==."الأخذ بالثأر على الطريقة الإنجليزية." في عكاظ ع(9956)21جمادى الأولى 1414(5نوفمبر 1993م)
67-=="العنف رغم أنوفهم." في المدينة المنورة،ع (11597)29 رجب 1415(31ديسمبر 1994)
68-منقذ، أسامة. الاعتبار. تحقيق قاسم السامرائي(الرياض:دار العلوم 1407
69- نور الدين، محمد." أبواب المجلة الجديدة تبالغ في التركيز على الديموقراطية وتنفي الأصولية "في الحياة.ع(11513) 19 ربيع الأول 1415(26 أغسطس 1994م)
70- نيكسون ، ريتشارد. ما وراء السلام. ترجمة مالك عباس.(عمّان:الأهلية للنشر، 1995)
71- هويدي، فهمي." الطفولة المفترسة." في مجلة المجلة.ع (835)17فبراير 1996.
72- وقيع الله، محمد." اضطرابات لوس أنجلوس." في مجلة الإصلاح.(الإمارات العربة المتحدة)ع (178)14مايو 1992.
73- ولد أباه، السيد." التطرف ظاهرة موجودة في الغرب أيضاً." في الشرق الأوسط.ع (6312)20 شوال 1416(10مارس 1996م)
74-==" الإسلام والغرب واجب الحوار وحق الاختلاف." في الشرق الأوسط.ع(5989)24ذو القعدة 1415(24 أبريل1995م)
75- اليحياوي، عبد الحميد. " تقلص عدد الشبان دون العشرين في أوروبا." في الشرق الأوسط.ع (6307)15شوال 1416(5مارس 1995)
76-==" بلجيكا تودع ضحيتي الاعتداء الجنسي." في الشرق الأوسط.ع (6478)9 ربيع الآخر 1417(23 أغسطس 1996م)
ثانياً : المراجع الأجنبية:
1- abdul-Fattah, Nabil and Halah Mustafa. " Weste r n Democ r acy and Islamic Movements in the Middle East." A Pape r of two pa r ts p r esented in The Fis r st Inte r national Confe r ence on Islam and the Twenty fi r st Centu r y. Leiden, June4-7, 1996.
2-A r ab News Newspape r , August 4, 1996.
3- Blankenho r n, David. Fathe r less Ame r ica: Conf r onting Ou r Most U r gent Social P r oblem.(New Yo r k: Basic Books, 1995)
4-C r ichton, Sa r a. "Sexual co r rectness: Has it gone too Fa r ?" in Newsweek. Octobe r 25,1993.
5- D'Souza Dinesh. "Is r acism a Weste r n Idea?" in the Ame r ican Schola صلى الله عليه وسلم Autumn 1995.pp. 517-541.
6- The Economist, June 8th, 1996.
7- F r eedland, Janatan. "Battle of the Bottle B r eaks Out." In the Gua r dian Weekly, June 9th, 1996.
8- F r enchette, Ma r k and Pete r Con r adi. " Eu r ope's r oa r ing t r ade in sex slaves." In The Sunday Times, June 9th, 1996.
9-Fo r d, r icha r d. "Women Fail to r epo r t Sex Attacks." In The Times, July 9th, 1994.
10- F r omm, E r ich. The Sane Society. (New Yo r k: Hen r y Holt&Co. 1990)
11-Gene r al House Hold Su r vey (London: Gove r nment P r inting P r ess, 1993)
12- Gibson, Helen. "The Banality of an Evil Woman." In The Times, Decembe r 4th, 1995.
13-G r eenbe r g, Susan. "Child r en fo r Sale." In The A r ab News .August 27th, 1996.
14-The Gua r dian Weekly. Vol.154, June 23ed, 1996.
15- Hansen, Thomas and F r ank Macchia r ola. Conf r onting Ame r ica's Mo r al C r isis.(New Yo r k: Hasting House, 1995)
16- Jansen Johannes. " The Failu r e of the Libe r al Alte r native ." in The Fi r st Inte r national Confe r ence on Islam and the Twenty Fi r st Centu r y: P r og r ammes and Abst r acts(Leiden: Unive r sity of Leiden ,1996)
17- Levin, Be r na r d. "Ame r ica Loses its Libe r ty." In The Times, August 12th, 1994.
18- Medved, Michael. Hollywood Vs Ame r ica.( New Yo r k: Ha r pe r Pe r nnial ,1993)
19- Mu r ray, Ian. "Ma r riage r ate Slumps as mo r e Choose Single Life." In The Times, Ap r il 29th, 1993.
20- Mu r ray, William. Let Us P r ay: A Plea fo r P r aye r in Schools.( New Yo r k: Willion Ma r row 1995)
21- Newsweek, Septembe r 20th, 1993.
22 صلى الله عليه وسلمoge r s, Noel. "Ze r o Tole r ance and B r itain P r oposal fo r Youth Cu r few." In Saudi Gazette, No.6925, June 17th, 1996.
23- Scott-Cla r k. "Scou r ge of the Bullies B r ings Fea r to School." In The Sunday Times, June 9th, 1996.
24- The Sunday Times, July 31st, 1994.
25- The Times, July 9th, 1994.
26- =. July 12th, 1991.
27- =. July 21st, 1994.
28- The Wall St r eet Jou r nal. Septembe r ,7th, 1995.
29- Toffle r , Alvin. Futu r e Shock. (New Yo r k: Batnam Books 1971)(34/99)
30 - The Washington Post. Septembe r 3ed, 1995.
31- =. Septembe r 8th, 1995.
32- White, Lesley, The Times, July 9th, 1996.
فهرس المحتويات
مقدمة
القسم الأول: المعرفة بالآخر
أولاً:الآخر في القرآن الكريم والسنة الشريفة
ثانياً: الدعوة إلى دراسة الغرب
القسم الثاني
تعريف الظواهر الاجتماعية
أولاً الأسرة: الزواج والطلاق وعدد الأفراد
الأسرة في الولايات المتحدة
الأسرة في ألمانيا
ثانياً: الأطفال والجريمة
حمل السلاح والعنف
حظر التجول
الجرائم ضد الأطفال
جرائم الاستغلال الجنسي
ظاهرة تشغيل الأطفال
ثالثاً: الجريمة في المجتمعات الغربية
الاغتصاب
اغتصاب الذكور
الرقيق الأبيض
محاولات القضاء على الجريمة
رابعاً: العلاقات الاجتماعية
التفرقة العنصرية
خامساً: الأخلاق
الأخلاق والسياسة
أمريكا والسجون
تطلعات إلى الخير
القسم الثالث: جوانب إيجابية من الغرب
البحث العلمي: مؤسسة راند أنموذجاً
مؤسسة المجتمع المفتوح
معرفة الآخر- برنامج الزائر الدولي
إيجابيات متفرقة.
الخاتمة.
المصادر والمراجع.
-العربية
================(34/100)
(34/101)
بدايات السفور في العالم الإسلامي ( 7 ) : ..
المرأة التونسية
سليمان بن صالح الخراشي
يأتي نشر هذه الحلقة متزامنًا مع الحملة الشرسة التي تشنها الحكومة التونسية ضد الحجاب ، والواضح أنها حملة عالمية منسقة ، تناغم فيها الأذناب مع رؤوس الكفر ؛ كما رأينا في فرنسا وبريطانيا ، ثم تونس ومصر .. الخ ، ولكن الأمل أن يردهم الله على أعقابهم خاسرين خائبين .
- كانت تونس كغيرها من بلاد العالم الإسلامي يلتزم نساؤها الحجاب الشرعي ، فيسترن وجوههن عن الأجانب ، إلى أن سقطت البلاد بيد الاستعمار الأجنبي الذي شجع دعوات السفور التي قادها تلاميذهم من المنافقين ومرضى القلوب . فكانت البداية أوائل 1924م ، عندما عقد الحزب الاشتراكي ندوة في المنبر الحر بالترقي ، ويومئذ اعتلت المنصة موظفة مسلمة سافرة ، هي منوبية الورتاني وخطبت في الجمهور مطالبة في جرأة بحقوق المرأة المسلمة، ملحة على ضرورة رفع الحجاب عنها.. وأحدث خطابها رجة في صفوف الحاضرين لا سيما أن تجرؤ امرأة مسلمة على الوقوف أمام الجمهور ومخاطبته سافرة للمطالبة بما لا يخطر على بال مسلم تونسي يومئذ كان بدعة " . ومما يُذكر هنا قصيدة الأستاذ عبدالرزاق كرباكة التي وجهها للمحاضِرة بعنوان (داعية رفع الحجاب) :
أعقيلة الإسلام هل يرضيكِ *** هتكُ الحجاب ومسُ شرع نبيك؟
ماذا رأيت أفي التبرج زبرج *** يا سوأة القوم الألى ولدوك
ما أنجبوك لكي تكوني سُبة *** للغير يشناهم بها شانيك
تالله داعية التهتك لم ترا *** عي الدين لم ترعي حمى أهليك
ماذا يضرك ذا الحجاب وحرزه *** حتى انبريت تسفهين ذويك
أنا لا أرى إبقاء جهلك لا ولا *** أرضى بقانون به ساسوك
بل إن رأيي أن تنالي تعلما *** وأصول تربية وإن صدوك
لنرى مآثرك الزكية قد بدت *** في عيش بعلك واهتداء بنيك
فلك من الفكر السليم غريزة *** ولك من العزمات ما يكفيك
ولسوف ينبت فيك غرس العلم إن *** بذروه خير صيانة وسلوك
إلى أن يقول :
فتربعي في كسر بيتك واقنعي *** بالعيش ضمن صيانة تكسوك
ودعي سلوكاً شائناً كيما تكو *** ني قوة لحجابك المسموك
يا ما أجلك في مخافيه ويا *** ما أحصن الخدر الذي يؤويك
ولك إذا شئت الهداية إسوة *** ببنات يثرب أو نسا اليرموك
- ثم حلت سنة 1929 فدخلت معركة الحجاب في طور جديد اصطبغ بالسياسة: ذلك أن امرأة تونسية مثقفة تدعى حبيبة المنشاري اعتلت سافرة منبر جمعية الترقي بالعاصمة ؛ فألقت مسامرة في جمع غفير من الرجال ومن الأوانس والعقائل التونسيات، وقد بسطت فيها حالة المرأة التونسية ونددت بالحجاب، ولثاني مرة في تونس جرؤت امرأة مسلمة على الوقوف أمام الجمهور ومخاطبته سافرة ؛ مما أحدث رجة في القاعة ، فصفق لها المعجبون وعبس المستنكرون، وكان الجمهور خليطاً من الفرنسيين والتونسيين ، وقد اعتلى عديد منهم المنصة، وتكلموا إما للترحيب بالمحاضرة السيدة حبيبة المنشاري وإبداء الإعجاب بآرائها ومهاجمة الآباء الجامدين المتزمتين ؛ كما عبر عن ذلك المحامي محمد نعمان والمسيو "لافيت" رئيس تحرير جريدة "البتي ماتان" والمسيو"دوريل" رئيس الجامعة الفرنسية للعملة بتونس والأستاذ في معهد كارنو.. " . وفي هذه الأمسية أخذ الكلمة بعد محاضرة المنشاري المحامي الحبيب بورقيبة - رئيس تونس الهالك فيما بعد - وقال : " إن الوقت لم يحن بعد لرفع الحجاب " ! لعلمه أن المجتمع المسلم لازال متماسكًا أمام دعاة التغريب .
- بعدها بدأ دعاة التغريب بتواطؤ من الغرب المستعمر شن حملة ضد الحجاب وغيره من الأحكام الشرعية ، مع ترديد الزخارف التي ينخدع بها السذج ؛ كقول أحدهم - الهادي العبيدي - عام 1928م : " إن الأمة التونسية اليوم على باب تطور جديد ونهضة تؤذن بمستقبل زاهر، فواجب عليها أن تدخل البيوت من أبوابها وتأخذ بوسائل النهضة الحقيقية حتى تبلغ المراد من أقرب السبل فتقتصد الوقت ولا تتكلف من التضحيات والمشاق إلا قليلا.. " .. الخ زخارفه التي يشهد واقع تونس بعد 78سنة بكذبها !!
- ثم أصدر مُغرّب المرأة في تونس " الطاهر الحداد " - عام 1930م كتابه الشهير " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " ، فأصبح - كما يقول بوعلي ياسين - : ( بمنزلة قاسم أمين في مصر ) ، وقد قيل إن الكتاب ليس له ، إنما ألفه أحد النصارى - الأب سلام - وجعله باسمه ؛ خداعًا للمجتمع المسلم . وقد دعا الحداد في كتابه إلى أمور كثيرة منكرة ، على رأسها مطالبته بنزع الحجاب وكشف الوجه - كخطوة أولى - . يقول في كتابه مشوهًا النقاب الذي كانت تلبسه التونسيات : ( ما أشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منعًا للفجور بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين ) ! ( الأعمال الكاملة 3/208) .(34/102)
- وقد تصدى علماء تونس والغيورون فيها للحداد وردوا عليه ، ومن تلك الردود : كتاب " سيف الحق على من لا يرى الحق " للشيخ عمر البري - رحمه الله - ، وكتاب " الحِداد على امرأة الحدّاد " للشيخ محمد الصالح بن مراد - رحمه الله - ، وغيرهم من العلماء والشعراء . ومن أقوالهم فيه : قال الشيخ ابن مراد : ( أجهدتَ قريحتك وأعملتَ فكرك في سبب وضعنا لنسائنا النقاب على وجوههن ؛ فأنتج لك ذاك ما قلتَه بصفحة 115 من أنا نضع النقاب على وجه المرأة منعاً لها من الفجور، وأن ذلك شبيه بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين!! ذكاء مفرط وفهم عجيب! أتتصور أنا نعتقد في نسائنا الفجور، وأنهن يعضضن المارين؟ إن اعتقادك لذلك غاية البلاهة، وإن جوابك عن ذلك الاستنتاج العجيب هو ما سمعنا منك قوله في حق الأوربية، فوضع النقاب ليمنع عين الفجار من أن تنالهن وأبصار الفساق من أن تنظرهن، مع اعتقادنا فيهن غاية العفة والجلال ) .
وقال أحد الشعراء فيه :
حذار من التجديد واخش المكائدا *** فمن خالط الحدّاد نال السوائدا
فتى غره الشيطان وابتز عقله *** فأصبح للدين الحنيف معاندا
يؤول آيات الكتاب بجهله *** على أنه قد جاء للحق ذائدا!
وينقض أحكام الشريعة إن أتت *** تخالف ما يهوى وأن كان فاسدا
وقال غيره في داعيات السفور :
تعالت على سَنن العرب *** وباتت تئن من الحجب
تود التبرج مسفرة *** لتخلص من ربقة النُقب
بربكِ عذراء تونس رفقا *** بأهل البطولة والحسب
فلا تستزيدي لشقوتهم *** مرارة هزء من الأجنبي
وقال آخر :
عيشي كجدتك البتول ببيتها *** وعن التبرج والهوى أنهاك
كوني "كعائشة" ولا تتقاعسي *** عن كل علم فيه نور هداك
تعليم أهل الشرق أنتج "زينبا" *** وكذاك "عائشة" إليها تحاكي
لا تكشفي منك الحجاب فإنه *** صون به ترضين من رباك
ربي البنين على الفضيلة والتقى *** واحييهم من سر لطف حياك
وقال الشاعر القصار :
هل أنهن إذا رفعن حجابا *** يبلغن من نيل العلا أسبابا
كلا فهتك الستر شر مصيبة *** يغدو بها صرح العفاف خرابا
حسبوا التمدن في السفور وما دروا *** أن السفور يُنصر الأعرابا
ويُضل عن طرق الهداية مؤمنا *** عرف الشريعة سنة وكتابا
ماذا تنال البنت إن كشفت على الـ *** وجه المصون وقصرت أثوابا
وتبرجت وجها لوجه بالبغا *** ة الجاهلين الصون والآدابا؟
هذا يغازلها وذا يرمي لها *** قولاً بذيئاً جيئة وذهابا
وبجهلها تنقاد حتما للخنا *** فتدنس الأعراض والأنسابا
وتتيه في واد الفجور كأنها *** خُلقت بغيًا لا تخاف عتابا
تلهو وتمرح في المراقص بين أبـ *** ـناء الهوى من حولها أسرابا
- ثم بدأ نشر الجمعيات النسائية الموجهة من المستعمر ؛ لتؤدي دورها في اختراق المجتمع النسائي التونسي ، وتنشر فيه التغريب ، ومن ذلك : في سنة 1932 م أقامت إحدى الجمعيات تحت إشراف عقيلة المقيم العام (مونصرون ) وأميرتين من الأسرة المالكة ، إحداهما ابنة البشير صفر ، الوطني المعروف : حفلة بدار الخلصي بالعاصمة ، ودعت إليها عدداً كبيراً من الأوانس والسيدات التونسيات المسلمات واليهوديات والغربيات لجمع ما تجود به هممهن لمواساة منكوبي الإعصار ..
- ثم جاء عهد الهالك " أبورقيبة " الذي - كما يقول الأستاذ أحمد خالد - : ( حقق في سنة 1956م بعد أن أصبح المسؤول الأول في الدولة ما كان يصبو إليه صاحب " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " ) أي الحداد . وذلك بإصداره قانون الأحوال الشخصية ، ثم محاربته للحجاب أشد محاربة . وهو القائل : ( أثرت في نفسي مطالعة كتاب الطاهر الحداد ) ، والقائل : ( أول عمل قمت به بعد أن توليت مقاليد الحكم في البلاد هو إصدار مجلة الأحوال الشخصية ) !
( النساء في الخطاب العربي المعاصر ، ص 92 ) .
قلتُ : لم يسلمك أسيادك الحكمَ إلا لأجل هذا !
- والآن يعيش المجتمع التونسي نهاية حقبة فرض السفور والتبرج الطارئة عليه ، التي تبناها المنحرفون بدءًا من الحداد ثم بورقيبة إلى بن علي ، فيشهد عودة مباركة للحجاب الشرعي تتحدى أعداء الفضيلة ، انخلعت لها قلوب أعداء الله ، ينبغي على أهلها : الصبر والثبات على دينهم ، والاجتهاد في نشر الدعوة ، ومحاربة الفساد ، وتقديم البدائل الشرعية ، والبيئة - التعليمية والعملية - الإسلامية الصالحة التي تغني النساء المؤمنات عن ابتزاز أهل الفساد ؛ إلى أن يستريح برّ أو يُستراح من فاجر .. والله الهادي والموفق .(34/103)
مراجع المقال : " أضواء من البيئة التونسية على الطاهر الحداد .." أحمد خالد ، " حقوق المرأة في الكتابة العربية .. " بوعلي ياسين ، " قضية المرأة في فكر النهضة " فرج بن رمضان ، " تعليم الفتيات لا سفور المرأة " الشيخ الحجوي ، " النساء في الخطاب العربي المعاصر " مجموعة باحثين ، " المرأة العربية .. " حسين العودات ، " مائة عام على تحرير المرأة " مجموعة باحثين ، " حراسة الفضيلة " الشيخ بكر أبوزيد ، " أضواء على الحركة النسائية " روز غريب ، " الأعمال الكاملة للحداد " ، " الحركات الاجتماعية في العالم العربي " مجموعة باحثين ، " الطاهر الحداد " الجيلاني يحيى " ، " الحداد ومسألة الحداثة .. " أحمد خالد .
==================(34/104)
(34/105)
جوانيات الرموز المستعارة لكبار " أولاد حارتنا "
أو: نقض التاريخ الديني النبوي
تأليف: د/ عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني
القاهرة، مكتبة وهبة، ط:1، 1416هـ، 236 ص.
عرض وتحليل
محمد حسن يوسف
يعتبر كتاب جوانيات الرموز المستعارة لكبار " أولاد حارتنا " للدكتور/ عبد العظيم المطعني من أهم الكتب التي تصدت لتفنيد هذه الرواية سيئة السمعة لدى المسلمين، والتي كانت السبب الرئيسي في فوز الكاتب نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب كأول كاتب عربي يفوز بمثل هذه الجائزة. وكانت جريدة الأهرام القاهرية قد بدأت في نشر هذه الرواية على حلقات في عام 1959. ثم ظهرت القصة في كتاب عام 1962 عن دار الآداب ببيروت، وما زالت تطبع هناك حتى الآن.
وإذا كان الدكتور المطعني يقول: الأستاذ نجيب محفوظ، مهما اختلفنا معه حول هذه الرواية، كاتب قدير بحق، ومن أبرز خصائصه الأسلوبية إجادة فن " الرمز "، وروايته هذه " أولاد حارتنا " شهادة بأستاذيته ومهارته في الأدب الرمزي الحديث. إذا كان الدكتور المطعني يقول ذلك، فإننا نجزم بأستاذيته هو في فهم " جوانيات " رموز الرواية المذكورة فهما دقيقا وعميقا، ونشهد له بحرفيته في هذا الشأن.
ويرى الدكتور المطعني أنه لفهم المعاني الخبيثة في الرواية، وكذلك المقصود العام منها، فإن ذلك الفهم يتوقف على العناصر الثلاثة الآتية:
أولا: العلم بمادة الموضوع الذي صاغ روايته حوله.
ثانيا: فك الرموز التي شاعت في الرواية، ومعرفة مدلولاتها خارج الرواية.
ثالثا: التمكن من معرفة مواضع الفر بعد الكر، أو الإحجام بعد الإقدام، للتمويه على القارئ، وإثارة موجات من الضباب المعتم أمام ناظريه.
ويرى الدكتور المطعني أن الهدف من وضع أولاد حارتنا هو - باختصار شديد - تفشيل دور الدين بوجه عام في حلول مشكلات الحياة، وتحقيق السعادة للناس فيها. وبعد وقوع ذلك التفشيل، من خلال ما ورد في الرواية، يأذن الأستاذ " محفوظ " للعلم الحديث أن يطل برأسه إلى الوجود، ثم ينمو شيئا فشيئا حتى يصبح عملاقا لا يقاوم، وقادرا لا يعجز، ثم يتمكن من القضاء على الدين متمثلا في قتل أو موت الجبلاوي. ويهز مشاعر أولاد الحارة بمخترعاته المذهلة، فينحاز الناس أو أولاد الحارة إلى عرفة وحنش، اللذان يمثلان العلم الحديث، ويفضلونه على الدين عيانا جهارا، وينخلعون عن الإطار الديني النبوي في وضح النهار؟!
وبداية يقول الدكتور المطعني بأن أخطر رمز في رواية أولاد حارتنا هو رمز " الجبلاوي "، حيث رمز به المؤلف - سامحه الله - إلى معاني الألوهية، أي الله.
ويستطرد بالقول: أما أولئك الزاعمون بأن الجبلاوي في أولاد حارتنا ليس المقصود منه الله، فلا يخلو حالهم من الاحتمالات الآتية:
o إما أنهم لم يقرأوا الرواية، فراحوا يشهدون بما لا علم لهم به.
o وإما أنهم قرأوا ولم يفهموا.
o وإما أنهم قرأوا وفهموا، ثم عاندوا وكابروا، وراحوا يشهدون شهادة زور، ويصرون على الحنث العظيم، ويحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم .
وبعد استعراض شيق ومتابعة دقيقة وتوضيح فاضح لكل الرموز التي استخدمها الكاتب لتغطية الرموز التي استعارها في روايته، يخلص الدكتور المطعني في خاتمة كتابه ( 206 - 229 ) إلى تقرير موجز عن الرواية يلم فيها شعث ما تقدم من إثباتات وأدلة، ثم اقتراح رفعه إلى مؤلف الرواية من باب التواصي بالحق يطالبه فيه بالتوبة إلى الله مما كتبت يداه.
وفي التقرير الذي كتبه الدكتور المطعني عن الرواية، يقول: إن موضوع هذه الرواية " أولاد حارتنا " يتكون من قسمين اثنين: الأول، ويبدأ من " افتتاحية أو مقدمة الرواية، ويستمر حتى الفصل الرابع، أو هو تفصيلا: المقدمة، وأدهم ( أي آدم عليه السلام )، وجبل ( أي موسى عليه السلام )، ورفاعة ( أي عيسى عليه السلام )، وقاسم ( أي صلى الله عليه وسلم ). أما القسم الثاني فهو مكون من فصل واحد، هو عرفة، وقد جعله المؤلف رمزا للعلم الحديث.
وسجل الدكتور المطعني عدة ملاحظات على القسم الأول، منها ما يلي:
أولا: تحريف الوقائع:
وسبب هذا التحريف أمران: الأول: حرص المؤلف على الاستفادة من وقائع التاريخ النبوي الديني في " رسم شخصيات الرواية "، وهذا أمر ظاهر جدا في القسم الأول من الرواية. والثاني: حرص المؤلف الشديد على إخفاء جوانياته، وعدم ظهورها للقراء، لأن الرواية أخضعت التاريخ الديني النبوي - وهو مقدس - للنقد والنقض معا، وهذا أمر - لو ظهر - لقابله الناس بالاستنكار والاستياء، بل وبالغضب والسخط.
ثانيا: الإساءة إلى الذات العلية:
لم توجه رواية أولاد حارتنا كما هائلا من الإساءة مثلما وجهت إلى الجبلاوي رمز الألوهية ( الله )، وجاءت هذه الإساءة على لساني كل من إدريس الذي هو إبليس في الرواية، ثم قدري الذي قابيل أحد ابني آدم، وقاتل هابيل أخيه، وهو همام في الرواية.
ثالثا: الإساءة إلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (34/106)
جاء حديث الرواية عن صلى الله عليه وسلم مليئا بالإساءة والتجريح إلى حد الافتراء في بعض الأحيان. ولم تراعٍ الرواية حرمة خاتم النبيين الذي وصفه رب العالمين بأنه سراج منير، وعلى خلق عظيم، ورحمة للناس كافة.
رابعا: الحط من قدر العرب والمسلمين:
عندما تحدثت الرواية عن العرب قبل الإسلام، ثم عن المسلمين بعد الإسلام، رمتهم بكل نقيصة، فهم أتعس أولاد الحارة - أي الدنيا - وهم الجرابيع الحفاة العراة الذين لا أصل لهم ولا صفة - أي كريمة - وحياتهم لا تعلو كثيرا عن حياة الكلاب والقطط والذباب؟! يلتمسون رزقهم في النفايات وأكوام القمامة؟!
وكان الدكتور المطعني قد تساءل من قبل عن معنى الجربوع، فقال: ليس لهذه الكلمة أصل في اللغة إلا أن تكون محرفة من اليربوع، وهو حيوان بري غير أليف يتخذ له بيتا ( حفرة ) في الأرض لها بابان، فإذا أحس بوجود الصياد دخل بيته من باب وخرج من الباب الآخر، لينخدع الصياد بأنه ما يزال موجودا في بيته، بينما هو قد خرج ناجيا بنفسه، ومنه اشتق وصف المخادع من الناس " المنافق "، لأن بيت اليربوع محفور على شكل نفق تحت الأرض، ويسمى بيته: " نافقاء اليربوع ".
أما الدلالة العرفية أو العامية لكلمة " الجربوع "، فتعني معانٍ كثيرة في عرف العامة، أو العوام، وكلها تدور حول الذم والقدح وانحطاط الشأن، فهي " قاموس " السب والشتم.
فيا ترى ماذا أراد الأستاذ نجيب محفوظ من وصف العرب قبل الإسلام، والمسلمين بعد الإسلام بأنهم الجرابيع؟ هل أراد أن ينسبهم إلى اليربوع الماكر الخدّاع؟ أم أراد أن يصفهم بالمعاني السوقية المبتذلة التي تراد في عرف العوام من كلمة جربوع أو جرابيع؟
خامسا: مناصرة غير الإسلام على الإسلام:
ومن الملاحظات البارزة على الرواية، أنها - دائما - تناصر غير الإسلام على الإسلام نفسه، حتى في العقائد الثوابت في الإسلام.
سادسا: تجريد التاريخ النبوي من محتواه:
حرص المؤلف - كل الحرص - على تجريد التاريخ الديني النبوي من محتواه، وتفريغه تماما من " الإيمانيات والروحانيات "، وتصويره في صورة صراع مادي صرف يبدأ وينتهي حول حطام الدنيا وملذاتها الفانية؟! ومؤدى هذا أن الرواية تجاري العلمانية في تفسيرها المادي للتاريخ.
سابعا: التعاطف مع الشيطان:
جارت الرواية " أولاد حارتنا " بعض الكتّاب الأوربيين والعرب في التعاطف مع الشيطان الذي طرده الله من الجنة بسبب عصيانه وكفره، ونظروا إلى هذه الواقعة على أنها من وقائع " حرية الرأي "، وأن الشيطان عوقب - ظلما - على رأي أبداه، وعقيدة اعتقدها، حملته على عدم السجود لآدم؟
ثامنا: ربط منابع النور بمواضع الخطيئة:
ربط مؤلف الرواية الأستاذ نجيب محفوظ بين منابع النور وهي الرسالات السماوية الثلاث، وبين موضع " صخرة هند "، وهو موضع أول جريمة " زنا " تقع في الوجود حسب " جو " رواية " أولاد حارتنا " الأوسع من الخيال والأوهام؟!
تاسعا: الاختيار والترك:
يقف المؤلف من وقائع التاريخ الديني النبوي وتطوراته موقفا معينا يقوم على سمتين بارزتين: إحداهما: الأخذ، والأخرى: الترك. أي يأخذ بعض وقائع ذلك التاريخ، ويترك بعضا آخر في رسم صور " الأشخاص " الأربعة، الذين تحدث عنهم، وهم: آدم وموسى وعيسى ومحمد r.
عاشرا: نباهة عرفة وصاحبيه:
إن عرفة وحنش وعواطف - الذين يرمزون للعلم الحديث - هم " الوحيدون " في الرواية الذين رفعهم المؤلف " مكانا عليا "، وصانهم من كل ألوان النقص والهمز واللمز أو التجريح، وهذا يلائم الجو العام لـ ... وجدانيات المؤلف، و" جوانياته "؟!
أما القسم الثاني، فهو يتكلم فيه عن عرفة أو العلم الحديث. وهذا القسم معقود أساسا لعمليتي هدم وبناء، أو إعدام وإحياء. وكانت نية " أولاد حارتنا " مُبيّتة على هذا من قبل أن " يُخطّ " حرف واحد فيها، فالنية - عادة وواقعا - تسبق العمل دائما، وتكون " هي " الباعث على العمل، والداعية إليه: الهدم أو الإعدام لـ " الدين " الذي جاء به الرسل وحيا يوحى من عند ربهم؟! والإحياء لـ " العلم الحديث " ممثلا فيما يدرك بالحواس الخمس، وتُجرى عليه التجارب والملاحظات والمشاهدات، ثم تستخرج قوانينه الكلية، وقواعده الجزئية المستوحاة من المادة المدروسة، وكان كل شيء في الرواية يخدم هذا الاتجاه، ويمهد له من وراء ستار.
ولكن هناك تساؤل هام في هذا السياق، ونحن نذكر العداء المحتدم الذي تصوره المؤلف بين الدين والعلم - هل يوجد مثل هذا العداء حقا؟! إن الذين يتصورون عداء ما بين الدين والعلم جد واهمون، وتصور هذا العداء ناشئ عن جهل لحقيقة العلم ووظيفته، أو ناشئ عن الجهل بالدين وحكمته، أو الأمرين معا.
والخلاصة:(34/107)
إن هذه الرواية تترجم في وضوح: أن كاتبها ساعة كتبها كان زاهدا في " الدين " كل الزهد، معرضا عنه كل الإعراض، ضائقا به صدره، أعجميا به لسانه، فراح يشفي نفسه الثائرة، ويعبر عن آرائه في وحي الله الأمين، بهذه الأساليب الرمزية الماكرة، والحيل التعبيرية الغادرة، رافعا من شأن العلم الحديث إلى مكان الثريا، واثقا فيه كل الثقة، حتى أجلسه على " عرش الديان " مناصرا للعلمانية الجاهلة، على دين الله القيم، ورسالاته السامية.
فالرواية - وهذا واقعها - رواية آثمة " مُجَرّمَة " بكل المقاييس وطنيا وقوميا ودينيا.
والتماس البراءة لها: مستحيل، مستحيل، مستحيل.
اللهم إلا إذا طمسنا قلوبنا، وأعمينا أبصارنا، وسددنا سمعنا، ثم هتفنا مع أولاد حارة الأستاذ نجيب محفوظ، وقلنا كما قالوا: " لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خُيّرنا بين " الجبلاوي " ( الله ) والسحر، لاخترنا السحر "؟! [ أولاد حارتنا، ص: 551 ].
وهيهات هيهات لما يتصورون؟
وقبل أن يختتم الدكتور المطعني كتابه، توجه باقتراح مرفوع إلى المؤلف، يطلب منه أن يعلن للعالم كله " تبرؤه " من هذه الرواية الآثمة المُجَرّمة بكل المقاييس، لأن في بقائها منسوبة إليه تبعة تنوء بحملها الجبال؟! ونحن نتمنى أن يكون المؤلف قد فعل ذلك، ولو بينه وبين ربه.
إننا لا نقف هذا الموقف من الرواية أو من الأستاذ نجيب محفوظ إلا لأنه تطاول على الخالق سبحانه، وعلى الدين الذي أرسله الله لهداية البشر، وعلى رسله الكرام. ولو لم يفعل الأستاذ محفوظ هذا، لكنا أول من يهنئه بفنه ويشكره على ما كتبت يداه. ولكن - وكما يقول الدكتور المطعني - لم يكن " الفن " يوما، ولن يكون أبدا مبيحا لانتهاك الحرمات وإهانة المقدسات، والتطاول على القيم العليا، وإن ادعى ذلك الجاهلون الحمقى من دعاة الحداثة، وأعلاج الشيوعية، وببغاوات العلمانية في مصر والعالم العربي.
9 من شعبان عام 1427 ( الموافق في تقويم النصارى 2 من سبتمبر عام 2006 ).
=============(34/108)
(34/109)
الفتنة الدانمركية.. رب ضارة نافعة!
أحمد دعدوش
لعلنا لم ننس بعد نتائج الإحصاء الشهير الذي جرى في مطلع القرن الميلادي الحالي، وأثبت أن أكثر من نصف مواطني الاتحاد الأوربي يعتقدون أن "إسرائيل" هي أكثر دول العالم رعاية للإرهاب.
قامت الدنيا يومها ولم تقعد، ولم يحسن العرب والمسلمون استثمار هذه الفرصة كالعادة، أما الصهاينة فما كانوا ليفوتوها مهما كان التخاذل، إذ سارعوا لإذكاء نار الإسلاموفوبيا من جديد في أوربا، وحركوا الأيادي الخفية للعبث في رؤوس العلمانية الفرنسية التي استصدرت ما سمي بقانون حظر الرموز الدينية في المدارس، حتى ثار المسلمون انتصاراً لدينهم وكرامتهم، وسرعان ما ضاعت الحقائق مع دماء الشهداء في فلسطين!
المشهد ذاته يتكرر اليوم، فما أن لاحت بوادر التعاطف النرويجي مع الحقوق الفلسطينية المهدورة حتى تحرك الصهاينة من جديد، غير أن النتائج قد تخطت التوقعات هذه المرة.
كيف بدأت القصة؟
تعود البداية- وفقا لموقع العربية نت- إلى الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء الدنماركي آنس فوغ راسمسون مع مجموعة من الأئمة وقيادات الجالية الإسلامية في 20 سبتمبر/أيلول الماضي لبحث ما سُمي بأسباب جنوح بعض الشباب المسلم إلى العنف والخروج عن القانون، وقد أجاب الأئمة بضرورة تدخل الحكومة لمنع وسائل الإعلام من الإساءة للإسلام، مع تذكيرهم بواجب الحكومة في منع مظاهر التمييز ضد المسلمين.
أما ردود الفعل الأولى لوسائل الإعلام فكانت على عكس مطالب المسلمين تماما، فبمجرد علم صحيفة "يولاند بوسطن" بهذ الأنباء طلبت على الفور من نقابة رسامي المجلات أن يقدموا لها رسوما كاريكاتيرية تتخطى كل الخطوط الحمراء، وتتعرض مباشرة لمقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجله أكثر من مليار مسلم على وجه الأرض، وحصلت بالتالي على مجموعة من اثني عشر رسماً قامت بنشرها على الفور، وبعد عشرة أيام فقط من الاجتماع المذكور.
الجالية المسلمة في الدانمرك كثفت جهودها للدفاع عن كرامة المسلمين في كل أنحاء الأرض، ودعت إلى مظاهرة في الرابع عشر من أكتوبر- أي بعد أسبوعين- في كوبنهاغن، ثم تلتها الجاليات الإسلامية في أوربا منددة بهذا الفعل الشنيع، كما أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" بيانا يطالب باعتذار الصحيفة.
سرعان ما نُسي الأمر بعد ذلك، تماما كما نُسيت حوادث إهانة المصاحف في غوانتانامو، وهدم المساجد في الهند، واستباحة كل شيء في فلسطين، ولكن التصريح النرويجي الذي طرأ على حين غرة هو الذي أعاد الحدث إلى الواجهة بعد أربعة شهور، مما دفع بالصهاينة لتشجيع إحدى الصحف هناك على إعادة نشر تلك الرسوم، ثم التربص في انتظار وقوع الكارثة.
الشرارة
في العاشر من يناير الماضي بدأت خيوط اللعبة بالتكشف عندما أعادت مجلة (مغازينا) النرويجية والمقربة من حزب التقدم اليميني المتطرف نشر تلك الرسوم بالرغم من سكوت المسلمين عن الأمر ودخوله عالم النسيان، وذلك إثر تصريح وزيرة المالية النرويجية وزعيمة الحزب الاشتراكي (كريستينا هالفرسون) بدعمها لسياسة مقاطعة البضائع الإسرائيلية، مما دفع وزيرة الخارجية الأمريكية لتوجيه إنذار شديد اللهجة للحكومة النرويجية، ليقوم وزير الخارجية النرويجي في المقابل بطمأنة الولايات المتحدة بأن هذه التصريحات لا تمثل إلا هالفرسون وحدها.
العجيب في الأمر هو أن الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين لم يسمعوا شيئا عن تصريح هالفرسون، ذلك التصريح الذي تلقاه الصهاينة على جناح السرعة، واستنفروا له كل طاقاتهم لتطويقه والحؤول دون إخراجه إلى عالم الواقع، أما الأعجب فهو أن العلاج لم يتطلب أكثر من إعادة نشر تلك الرسوم التي نشرت قبل عدة أشهر، ثم الخروج من القضية كلها مثل الشعرة من العجين.
لم تتردد المجلة النرويجية في تنفيذ الأوامر، وقامت بإعادة النشر في استفزاز واضح، ولعل أحداً لم يتوقع آنذاك أن تتحول ردود الفعل من مجرد احتجاجات من قبل الجالية المسلمة في النرويج إلى ثورة عالمية خارجة عن السيطرة.
العرب ما زالوا يتساءلون حتى الآن: لماذا لم نسمع بالأمر من قبل بالرغم من مرور كل هذه الشهور عليه؟ ولعل الجواب يكمن في رغبة الجهة التي تقف خلف القصة بأكملها، إذ أصبحت الدوافع في تحريك العالم ضد المسلمين اليوم أقوى، خصوصا مع تزايد مخاوفهم من صعود حماس في الانتخابات التي كانت على وشك الانطلاق.
هذا الأسلوب لم يعد يخفى على كل متتبع، فما زالت هناك الكثير من الشكوك حول الصور التي جرى تسريبها من سجن أبو غريب، فمن غير المستبعد أن تكون تلك الصور قد أعدت خصيصاً لمسخ ما تبقى من كرامة المواطن العراقي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قد جرب أبشع أنواع القمع والتنكيل على يد النظام الديكتاتوري السابق، وأنه قد اعتاد على الخوف والرضوخ تحت طائلة التهديد، مع الاحتفاظ بحق الاستنكار وإدانة بعض صغار الضباط لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام والتملص من المسئولية.
كسر القاعدة(34/110)
الملفت في الأمر هو أن ردود الفعل العربية لم تأت كسابقاتها هذه المرة، إذ يبدو أن اللاعبين في الظل لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث مع ناشري الرسوم بما يحتمل أن يحدث، خصوصا وأن تبعات هذا التصرف الأخرق لن تقع عليهم مباشرة بل ستأخذ أبعادا سياسية ودبلوماسية، مع علمهم المسبق بأن رفع شعار حرية التعبير سيكون بمثابة الحصانة التي لا يمكن خرقها.
لم تنجح محاولات المسلمين الاحتجاجية في إقناع المسؤولين عن الرسوم بالاعتذار بادئ الأمر، بل لم يكتفوا بالتعنت، إذ حرضوا المزيد من الصحف على إعادة النشر في تحدٍ سافر، مما دفع المسلمين لإشهار سلاح المقاطعة الاقتصادية مرة أخرى بعد تجربته في أيام الانتفاضة.
ليس لدي ما يؤكد تحسبهم المسبق لاحتمال وقوع هذه المقاطعة، ولكني أرجح أنهم لم يعيروا الأمر الكثير من الاهتمام في البداية لإيمانهم بأن العرب أقل شأنا من إحداث خطر بهذا الحجم، خصوصا وأن المقاطعة السابقة لم تؤت ثمارها، بل لم تترك أي أثر في مسار الأحداث إبان الانتفاضة التي قضت على المئات من الفلسطينيين، ولعل ذلك قد أشاع فكرة العجز العربي التام حتى في مجال الدفاع فضلا عن الهجوم، ولكن النقطة الأهم هنا هي أن معظم الصادرات الدانمركية إلى الدول الإسلامية لا تخرج عن كونها منتجات غذائية قابلة للاستبدال، فضلا عن كون معظمها أقرب إلى الكمالية منها إلى الأساسية، بالإضافة إلى أن حصة السوق الإسلامية من هذه الصادرات أكبر بكثير من مثيلتها الأمريكية.
بناء على ذلك، فإن خسارة الشركات الدانمركية بدأت بالظهور على السطح منذ الأيام الأولى، مما عزز الشعور بالنصر لدى المسلمين الغاضبين الذين كثفوا جهودهم لتعميم هذه الظاهرة، ولعل انتصار حماس الساحق قد أعطى دفعا نفسيا قويا، إلى جانب خطابات الرئيس الإيراني التي أعادت للمسلمين الكثير من ذكريات العزة المفقودة، وهكذا توالت أخبار النصر التي تناقلها الشباب المتحمس بسرعة البرق، لتخرج المسيرات والمظاهرات على نحو غير مسبوق في شتى أنحاء الأرض، ويصل الأمر إلى تدمير السفارات في كل من دمشق وبيروت، بالإضافة إلى تهديدات وتحرشات في عواصم إسلامية أخرى.
المأزق
من الصعب حقا تدارك الأنباء للكتابة عنها في خضم هذا التطور المتسارع للأحداث، ولست أبالغ في القول بأنه كان من الصعب التنبؤ بوصول الأمر إلى هذه النقطة، حتى من قِبل أولئك المستفيدين من تدهور العلاقات بين العرب والنرويج إلى هذا الحد.
المأزق الكبير هو ذلك الذي وجدت حكومتا النرويج والدانمرك نفسيهما فيه، فالرأي العام هناك لم يوافق في البداية على الاعتذار الرسمي للمسلمين، اعتقادا بأن في ذلك امتهان للكرامة الوطنية، ومع أن الاستبيان لم تجر إعادته فيما بعد، إلا أن الكثير من الأصوات قد بدأت هناك بالمناداة لإخراج البلدين من هذه الأزمة.
بناء على ذلك، فقد وجد رئيس الوزراء الدانمركي نفسه بين فكي كماشة، فهو محاصر من قبل شعبه الرافض للاعتذار حتى الآن والداعي إلى حرية الصحافة بأي شكل كان، ومُطالَب في الوقت نفسه بإخراج بلاده من هذه الأزمة الاقتصادية والدبلوماسية على جناح السرعة.
أما صحيفة (يولاند بوسطن) فقد حاولت المناورة طويلا، إذ كان موقفها شديد التعنت طوال الأشهر الماضية، ولكنها سرعان ما بدأت بالتجاوب إثر استدعاء الحكومة السعودية السفير الدانمركي في الرياض، ثم استدعاء سفيرها الحجيلان في كوبنهاغن، حيث قررت الخروج عن صمتها واضطر رئيس تحريرها (كارستن يوسته) إلى توجيه خطاب بالعربية للمواطنين السعوديين على موقع الصحيفة الإلكتروني، ولكنها فوجئت بأن الأوان قد فات مع استدعاء كل من ليبيا وسورية لسفيريهما، ثم تصاعد حملات الاستنكار والمقاطعة الاقتصادية في كافة أرجاء العالم الإسلامي مما دفعها لتوجيه خطاب آخر إلى المسلمين عامة، ويذكر أن الخطابين لم ينصّا على الاعتذار الصريح، بل اكتفى رئيس التحرير فيهما بالإعراب عن أسفه مع التبرير، ولكن اجتماع وزراء الداخلية العرب في تونس دفعه لتوجيه اعتذار صريح في الثلاثين من يناير الماضي، وهو أمر لم يعد كافيا فيما يبدو مما دفع الوزراء المجتمعين إلى إصدار بيان رسمي في اليوم التالي يطالبون فيه الحكومة الدانمركية بتطبيق أشد العقوبات على المسؤولين عن هذا التصرف الشنيع.
الملفت في الأمر أن رئيس التحرير قد وصف الهدف من نشر تلك الرسوم بقوله: "لم يكن القصد منها النيل من شخص النبي (ص) بتاتاً أو الحط من قيمته، بل كانت مدخلاً للحوار حول حرية التعبير عن الرأي التي نعتز بها في بلادنا"، وهو أمر يصعب فهمه، إذ كيف يمكن النظر إلى اثني عشر رسماً تسخر جميعها من النبي صلى الله عليه وسلم وتصوره بأقبح الصور على أنها مدخل للحوار حول حرية التعبير؟ ولماذا لم تحمل أي من هذه الرسوم صورة مغايرة لتلك التي أرادت الصحيفة نشرها عمداً، هذا فضلا عن الدافع الموضح سابقاً لنشرها والذي لا يعدو أن يكون رداً فورياً على طلب أئمة الجالية الإسلامية من رئيس الوزراء حث وسائل الإعلام الدانمركية على التخفيف من لهجتها العدائية والتحريضية ضد المسلمين!
الحلول(34/111)
تفاوتت ردود الفعل الإسلامية بين استنكارات ومظاهرات واحتجاجات دبلوماسية ومقاطعة اقتصادية وحتى إحراق للسفارات، ولعل الرد الأقوى جاء من طهران بعد إعلان الحكومة الإيرانية قطع علاقاتها التجارية مع الدانمرك، الأمر الذي استنكرته دول الاتحاد الأوربي كافة وواجهته بالتهديد، أما الرد الأكثر طرافة فهو إعلان إحدى الصحف الإيرانية عن إجراء مسابقة لأفضل الرسوم الكاريكاتورية التي تتناول أسطورة الهولوكوست مع الإشارة إلى أنها تهدف بذلك إلى قياس درجة حرية التعبير لدى الأوربيين! وهي الدعوى نفسها التي تذرع بها رئيس تحرير (يولاندس بوسطن) في الإساءة للنبي r، وأنا أرى أنه رد عملي بالغ الدهاء، وسيؤتي ثماره إذا ما قامت صحف إسلامية أخرى بإعادة نشر تلك الرسوم بعد صدورها مع التذرع بالعذر نفسه! وهذا أفضل بالطبع من التعرض للرموز الغربية بالسخرية، وأكثر إحراجا لهم في اكتشاف مدى قدرتهم على تقبل حرية الرأي.
من جهة أخرى، فإنه من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يتناول فيها الشعب الدانمركي أمثال هذه القضية، فمن المعروف أن الشعوب الغربية "تدين" بالعلمانية التي تنص على عزل الدين عن الحياة، وأن هذه النزعة تزيد عمقا لدى شعوب الدول الأوربية الشمالية ومنها الدانمرك والنرويج، حيث يُختزل الدين إلى بعض التعاليم المقتصرة على تنظيم الأخلاق إلى جانب كونه حافظا للتراث الثقافي الضارب في القدم، وعليه فلن نفاجأ بموقف الملكة الدانمركية المتحرر من الدين على الرغم من كونها رئيسة الكنيسة الإنجيلية في بلادها، إذ تقول في مذكراتها التي نشرتها العام الماضي: "هناك شيء مدهش بعض الشيء لدى أولئك الذين يشكل الدين كل حياتهم ويشبع حياتهم اليومية من الصباح حتى المساء ومن المهد الى القبر", في إشارة إلى المسلمين الذين خصتهم ببعض النقد الصريح في كتابها، علما بأنها لم تنس أن تشير إلى "وجود مسيحيين هم أيضا كذلك" !
بناء عليه، فإن الشعوب الغربية قد تحررت من "قيود" المقدس الغيبي إثر معاناتها مع الاضطهاد الكنسي الطويل، واستبدلت به تقديس العقل الذي امتد طوال عصور النهضة والأنوار، وهو الذي أفضى إلى تأليه الإنسان - الرجل الأبيض حصراً- بدلا من الإله، ليصل الأمر بها إلى الخروج من عالم الحكايات الكبرى كما يقول عرّابو ما بعد الحداثة بعد أن ذاقت ويلات الحروب، ويصبح الفرد أخيراً هو الوجود بعينه، مختزلا بذلك العالم كله في مصالحه الشخصية.
من هنا يمكن فهم عقيدة هذا الشعب في حرية الرأي التي تصبح أكثر قداسة لديه من الإله نفسه، وهو ما يتضح في تعجبهم من موقف المسلمين الغاضب من هذا التصرف الأحمق، وفي استنكارهم للمقاطعة الاقتصادية التي تعد اعتداء غير مفهوم على رفاهيتهم مقابل تناول ساخر لأحد الرموز الدينية، إذ تجد من المضحك تعجب أحدهم من استنكار المسلمين إزاء تلقيه لسخرية مماثلة لرموز دينية مسيحية بدم بارد، ما دام الأمر لا يخرج عن نطاق حرية الجهة الساخرة في التعبير عن الرأي أولا، ولا يمس شيئا مقدسا لديه ثانيا.
انطلاقا من هذا الفهم لثقافة الآخر يجب أن تبدأ مهمة المسلمين الراغبين في التفاوض، إذ يتطلب الأمر توضيحا مقبولا لمفهوم المقدس قبل كل شيء، وتصحيحا للفكرة المغلوطة حول عقيدة الإسلام التي باتت مرتبطة في أذهان عامة الناس هناك بالعنف وإراقة الدماء، بل ومناقشة عميقة للخلط الواضح بين الأسطورة والدين في الفكر الغربي العلماني، والذي يجعل من الإيمان بالله مجرد مرحلة لاهوتية أكل عليها الزمان وشرب. وعليه فإن ما يناله الإسلام من اعتداءات لا يمكن أن ينظر إليه من زاوية تصدي أهل الباطل لأهل الحقيقة كما كان في عهد النبوة، لأن الإسلام آنذاك كان قد تلبس عقول وقلوب الصحابة حتى ظهرت محاسنه في سلوكهم اليومي وأعطى للعالم مثالا حيا على أصله السماوي، بينما يتحمل مسلمو اليوم المسؤولية الكبرى جرّاء إقصائهم للمفهوم الصحيح للإسلام وقصره على الحامل الثانوي للتراث العربي تحت تأثير الغزو الثقافي الغربي!
من جهة أخرى، فإن سلاح المقاطعة الاقتصادي قد آتى ثماره على نحو غير متوقع، ولعل النقطة الأبرز هنا هي نشوة النصر التي حازها دعاة المقاطعة بعد فشل سابقتها أثناء الانتفاضة بالرغم من ضيق المدة، ولا أستبعد أن يؤدي ذلك إلى تبني هذا السلاح في معارك أخرى قادمة، وأن تكون له تداعيات أخرى إيجابية، إذ ينبغي أن يلفت هذا النجاح اهتمام الاقتصاديين لتحليل ما تم إنجازه على الصعيد الاستراتيجي من اكتفاء المستهلك العربي واستغنائه عن المورد الأجنبي، أو التفاته إلى أسواق أخرى قد تكون أقرب إليه.(34/112)
هذا التحليل سيضعنا أمام تساؤل جوهري تم تغييبه طويلا حول حاجة السوق العربية أصلا للمنتج الغربي، ولعل في دعوات بعض وسائل الإعلام للإعلان المجاني عن المنتجات العربية البديلة إشارة واضحة لهذا التجاهل غير المبرر، إذ ما الذي يمنع من اكتفاء الدول العربية والإسلامية الذاتي؟ بل ما هي الدوافع المقنعة للتوجه غربا؟ ولنا في التجربة الماليزية أسوة حسنة عندما رفعت شعار التوجه شرقاً، أي نحو اليابان وكوريا وغيرهما من دول آسيا، مما يقلل من التبعية للغرب، ويساعد على تمتين أواصر العلاقات بين الدول المتقاربة ثقافيا.
بناء على ما سبق، فإن المواطن العربي الذي ترسخت في أعماقه هذه الثقافة الاستهلاكية، إلى جانب مفهومه المغلوط عن الإسلام وعدم تمثله عملا وسلوكا، يعد المسئول الأول عن حادثة الاعتداء السافر على رسول ا صلى الله عليه وسلم . أما التصحيح المطلوب اليوم لهذا الخطأ، فلا يمكن أن يختزل في حلول سريعة عبر مقاطعة عابرة لبعض السلع، أو من خلال بث رسائل الاحتجاج والاستنكار، أو إحراق السفارات وترسيخ العنف، فمع أن هذه الوسائل قد آتت ثمارها الناجعة كحل عاجل، إلا أننا نخشى عودة كل شيء إلى ما كان عليه كما حدث إبان ثورة الملايين العربية لمساندة الانتفاضة، بل ومنح الغرب فرصة أخرى للتفكير في أسلوب عدائي جديد بعد أن تخمد جذوة هذه الفتنة.
الحل يبدأ من الجذور إذن، ويأخذ بعداً عقائدياً يسعى لتصحيح مفهوم المسلمين لدينهم ولثقافة الآخر، كما يمتد ليشمل ضرورة النهضة الاقتصادية التي أصبحت حاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولعل في هذه التجربة درسا عميق الأثر للشعوب العربية التي استكانت طوال عقود للغزو الثقافي الغربي، ومثالا صارخا على مكانة القوة في الحضارة الغربية، حيث تُضفى القدسية على مصالح الغرب قبل أن ترفع رايات حقوق الإنسان والقيم الليبرالية العالمية!
أما سلاح المقاطعة فيجب أن يستمر، بل وأن يتسع ليشمل النرويج أيضا ولا يقتصر على الدانمرك، فبالرغم من أن وزير خارجية النرويج قد سارع للاتصال بسفراء الدول الإسلامية في أوسلو للتعبير عن عدم رضا حكومته بالأمر، إلا أن رئيس الحكومة "يانس ستولنبرغ" رفض في مقال له في صحيفة "داغس أفيسن" الاعتذار مشيدا بحرية التعبير، ومذكرا بأن ليس كل ما ينشر في الصحف يعبر عن موقف الحكومة.
قد يكون هذا الموقف مقبولا في دولة ليبرالية تؤمن بحرية التعبير، وأظن أن المسلمين كانوا سيعذرون رئيس الحكومة لو أنه اقتصر على تحييد موقف حكومته، ولكنهم لم ينسوا بعدُ حملته على رئيسة الحزب الاشتراكي "هالفرسون" وشريكته في الائتلاف الحاكم عندما دعت إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، مما دفعها إلى تقديم الاعتذار فوراً! ولا ننسى التذكير بأن حزب العمال النرويجي الذي يتزعمه رئيس الحكومة ليس أقل دعماً لإسرائيل من أحزاب اليمين سواء في النرويج نفسها أو في الدانمرك، مما يعني توحيد الموقف السياسي في التعامل مع القضايا الإسلامية والعربية بين اليمين واليسار.
قد يعارض البعض وضع كل من النرويج والدانمرك في سلة واحدة، خصوصا وأن الدانمرك هي التي ابتدأت تلك الحملة وأن المجلة النرويجية التي أعادت نشر الرسوم لا تتمتع بنفس الانتشار الذي تحظى به الصحيفة الدانمركية، ولكني أرى أن هذه هي المرة الأولى التي يلتف فيها المسلمون من شعوب وحكومات لإجبار العالم بأسره على إعادة الاعتبار لهم واحترام وجودهم على هذا الكوكب، وإذا كانت المقاطعة الاقتصادية قد أخضعت أشد الحكومات الأوربية تطرفا (الدانمرك) على الرضوخ للكثير من طلباتهم إلى درجة تقديم الاعتذار الرسمي في صحف الجزائر المحلية، ثم اعتذار مجلة "مغازينا" اليمينية النرويجية، فإن الاستمرار في فرض حريتهم في المقاطعة سيؤدي لا محالة إلى تغيير موازين السياسة الخارجية لهذه الدول، ولا ضير في أن يمتد الأمر إلى المقاطعة الشعبية للسلع النيوزيلندية والألمانية والفرنسية والنمساوية والإيطالية حيث أعيد نشر الرسوم في كل من هذه الدول، وأن تستمر المقاطعة حتى صدور قرار دولي يحرّم التعرض للمقدسات وينص على معاقبة المسؤولين، وعندها فقط يمكن أن يعاد الاعتبار لأكثر من مليار مسلم، تماماً كما هو الحال مع قانون تحريم معاداة السامية الذي تحرص الأمم المتحدة على تطبيقه حرصاً على مشاعر العشرين مليون يهودي! ولعل في أخبار الامتعاض الشعبي الدانمركي خير دليل على تحقيق هذه الأهداف، حيث يتوقع الكثيرون سقوط الحكومة اليمينية قريباً، وذلك على عكس توقعات المتخوفين من ارتفاع أسهم المتطرفين، وكأن العالم قد بات اليوم محكوماً - مع الأسف- بالقوة وحدها!(34/113)
إزاء ذلك، فإني لا آسف على تحقيق الهدف الذي سعى إليه الصهاينة من منع حدوث أي تقارب بين النرويج والعرب، فقد آن الأوان لنفهم أن النصر لن يأتي من الغرب مهما تعاطف مع قضايانا الإنسانية، وأن التعويل عليه لن يجر علينا إلا المزيد من الاستسلام المخزي، كما أرجو أن يكف أولئك الكتاب العلمانيون المحتكرين لمنابر الإعلام العربية عن هذا النواح، وأن يقنعوا أخيرا بأن حرية الشعوب لم تُحصّل يوماً بمثل هذا الاستجداء.
مراجعات
في ختام هذا المقال، أود أن أشير إلى أن ما يتردد لدى البعض في الشرق والغرب حول عدم منطقية التناول الإسلامي لهذه القضية ليس إلا نتيجة للنظر إليها بعين واحدة، فالثورة الإسلامية الغاضبة ليست لمجرد تناول بضعة رسامين دانمركيين مجهولي الهوية لمقام النبوة بالإهانة، فقد سبقهم إلى ذلك من هو أكثر جرأة ووضاعة، ولكن الغضب العارم الذي عم أرجاء العالم كان بمثابة ردة فعل على التعنت غير المفهوم من قبل الصحيفة نفسها وحكومتها، واستنكارًا لهذا الهجوم الذي لم يسبقه أي مبرر كما يقول الشيخ القرضاوي، بل ولرفض رئيس الوزراء مقابلة السفراء العرب قبل أن تندلع شرارة هذا الغضب العالمي، في إشارة واضحة إلى الاستهانة بأصحاب القضية والاغترار بالنفس، وهو ما يجب تحمل نتائجه بمقتضى العدالة. يقول تعالى: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (118آل عمران)، ولسنا بحاجة هنا إلى التذكير بموجة السعار التي أصابت الغرب مؤخرا إزاء تصريحات الرئيس الإيراني بعدم صحة أسطورة الهولوكوست، وهي التي حُمّل المسلمون تبعاتها رغماً عنهم بدلاً من الغرب نفسه!
أما المتذرعون بحرية التعبير فهم أقل قدرة على تبرير هذا الموقف، فما هي احتمالات الرد الممكن من قبل المحتجين على تلك الرسوم الساخرة؟ وهل يصح أن يواجه المسلمون أصحاب تلك الرسوم برسوم أخرى تكون بمثابة رد على حرية التعبير وممارسة للحرية نفسها؟
إن حرية التعبير ليست محدودة فقط بحرية الآخرين، وهو ما تنص عليه أولى مفاهيم الليبرالية الغربية، بل ينبغي أن تكون مضبوطة أيضا بضوابط الجدية التي يمكن تناولها من قبل الراغبين في الرد، وهذا ما يفر منه الغرب عادة عند تناولهم رموز الإسلام، إذ يلجؤون إلى الفن والأدب بدلا من المناظرات العلمية الرصينة، حتى إذا ثار المسلمون على أمثال سلمان رشدي وتسليمة نسرين وناشري تلك الرسوم رُفعت في وجوههم لافتات حرية التعبير، وكأنهم مطالبون بمناقشة هذا الهراء بهراء رخيص مثله!
بقي أن نذكر بأن مقام النبوة أعز من أن تناله إساءات الحاقدين، ولنا في السيرة الطاهرة أسوة حسنة: "انظروا كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، إنهم يشتمون مذمَّما ويلعنون مذمما، وأنا محمد!"، على أننا مطالبون هاهنا بأن نخلص نيتنا وننسى حظ نفوسنا من أي ردة فعل نقوم بها، وأن نتيقن أولا من أننا لم نغضب انتصاراً لكرامتنا، بل لمقام النبوة والرسالة، وألا يدفعنا هذا الغضب إلى التغاضي عن تقصيرنا في إيصال رسالة هذا الرسول العظيم إلى العالم أجمع، وأن نتذكر أيضا أن الحاقدين عليه في الغرب ليسوا بكثرة، وإن كانوا كذلك فالجهل يعذرهم، أما نحن فلا عذر لنا في التقصير بعدم تمثل سنته أولا، وفي حمل رسالته الحقة إلى مستحقيها ثانيا.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" (186 آل عمران).
=============(34/114)
(34/115)
( اليونسكو ) .. ودورها المشبوه ..! - حقائق -
سليمان بن صالح الخراشي
لم يعد خافيًا على عاقل أن المنظمات العالمية ؛ كهيئة الأمم المتحدة وما يتبعها من منظمات متنوعة هي مجرد أدوات طيعة بيد منشئيها من دول الغرب ؛ يسيرونها لتخدم أهدافهم ومخططاتهم وتكريس هيمنتهم الثقافية والعسكرية ؛ وإن ستروا ذلك بشيئ لا يُذكر مما يسمونه بالأعمال الإنسانية ذرًا للرماد في العيون ؛ أو كما قال الأستاذ خالد أبوالفتوح : ( وحتى لا يتضح دور العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا في الهيمنة العالمية فسيكتفي الغرب بدور الموجه والمشرف فقط ، تاركاً تتميم الإجراءات وفرض رؤى العولمة للمجتمعات المستهدفة نفسها عن طريق المؤتمرات الدولية والإقليمية والمنظمات الدولية ، كالبنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية (Wto) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ، ومنظمة الأغذية والزراعة (Fao) ومنظمة العمل الدولية ، ومنظمة الصحة العالمية ، ومنظمة اليونسكو.. ) ( مجلة البيان ، العدد 136) .
ومن تلك المنظمات سيئة الهدف : منظمة اليونسكو ( منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ) .
وقد أحببت أن أجمع للقارئ شيئًا من تاريخها غير النزيه مع الإسلام والمسلمين :
نشأتها : خرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» إلى حيز الوجود في عام 1946م، وذلك بعد انقشاع رماد الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من تدمير هائل لبنيات المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية .
وتشير المعلومات الخاصة بتأسيس (اليونسكو) إلى أن البداية ترجع إلى سلسلة من المؤتمرات لوزراء التربية في الدول الحليفة بدأت في عام 1942م نوقشت من خلالها الكيفية التي يمكن من خلالها استنهاض منظمة دولية للتربية والثقافة من أجل توطيد السلم في العالم. وبمبادرة من الحكومتين البريطانية والفرنسية انعقد المؤتمر التأسيسي لمناقشة دستور المنظمة عام 1945م في مدينة لندن، وتم تشكيل لجنة تحضيرية كلف السير جوليان هكسلي أمينًا تنفيذيًا لها. وقد دخل الميثاق التأسيسي للمنظمة إلى التنفيذ بعد أن وقعت عليه الدولة العشرون (اليونان) وعقد أول مؤتمر عام للمنظمة اجتماعاته في ديسمبر 1946م، حيث تم انتخاب السير جوليان هكسلي أول مدير عام للمنظمة. وشارك في ذلك المؤتمر التأسيسي (44) دولة من ضمنها المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان، بل كانت هذه الدول من ضمن قائمة الدول العشرين الأولى التي صادقت على ميثاق المنظمة ، لذا تعتبر الدول العربية من أوائل الدول التي شاركت وساهمت في الاجتماعات التأسيسية لمنظمة اليونسكو ؛ كما تدعم منظمة اليونسكو بأساليب مختلفة ؛ مثل الإسهام في الودائع الخاصة باليونسكو إلى جانب دفع المساهمات السنوية التي تمثل في حدود (5%) من ميزانية اليونسكو، ومن أمثلة الدعم العربي لليونسكو أيضًا برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة.
الوظائف الأساسية لليونسكو :
ويمكن إيجاز الوظائف الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم في التالي:
- أن تكون معملاً للفكر ييسر تفهم التطورات الكبرى في عالم اليوم ويرسم مبادئ توجيهية فكرية وأخلاقية.
- أن تحث السلطات على وضع أهداف محددة، واعتماد السياسات المحققة لها، في ميادين التربية والعلوم والثقافة والاتصالات وتعزيز القانون الدولي بوضع صكوك معيارية في هذه الميادين.
- أن تكون مركزًا دوليًا لتبادل المعلومات عن الاتجاهات في مجالات التربية والعلم والثقافة والاتصالات.
ويلاحظ أن هذه الأهداف قابلة لشتى التفسيرات والتوجهات ! حسب هوية من يسعى في إقرارها وتنفيذها .
( للمزيد عن اليونسكو : انظر : كتاب " مسيرة نحو غاية جليلة - كتاب مرجعي لليونسكو " لميشيل لاكوست ، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993م . وانظر : مجلة المعرفة ، عدد محرم 1426 ) .
====================
يقول مؤلفو كتاب " المؤامرة على التعليم " ( الأساتذة : حسن جودة ، محمد خفاجة ، أحمد العدل ، صلاح الدين محمد ، محمد يوسف صبيح ، عبدالفتاح غالي ) ( ص 81-84) :
ثانياً: الأمم المتحدة ومنظماتها المشبوهة : اليونسكو ومنظمة الإسلام والغرب
(أ) اليونسكو: ودورها المشبوه
اليونسكو تتعمد تشويه تاريخ الإسلام وتتبنى الإلحاد والعلمانية:(34/116)
كانت اليونسكو عند إنشائها تجنح إلى الفكر الإلحادي الصريح ؛ حيث تولى رئاسة اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيس الأول (جوليان هكسلي)البريطاني الجنسية والذي وضع في كتابه (اليونسكو وأهدافها وفلسفتها) نظرية اسمها " الإنسانية الارتقائية " ، لتحل محل الأديان والفلسفات المحلية، وذلك بحجة تذويب الفوارق الثقافية بين الشعوب لتجنب الصراعات الدولية، ولما عارض ذلك عدد من دول العالم الثالث، وطالبوا بالعدالة في تمثيل ثقافات الدول انسحبت أمريكا من اليونسكو مما أفقد المنظمة نحو ثلث مواردها المالية، وعلل جورج شولتز وزير خارجية أمريكا لذلك بقوله: " إن الأفكار والأيدولوجيات التي سادت المنظمة تضر مصالح الأمريكان " ! وهذا دليل قاطع على عنصرية التفكير الأمريكي ورغبته المعلنة في تسيير سياسة المنظمة وإلا ما انسحبت منها، وهكذا بدأت منظمة اليونسكو بالإلحاد وانتهت بالعنصرية.
ومن الأمثلة على تحيز اليونسكو ضد الإسلام أنها قررت عام 1947 أن تدرس تاريخ التطور العلمي ، وفي أثناء مناقشات المؤتمر العام لليونسكو سنة 1954 علق الوفد المصري على خطة المجلد الثالث لدراسة التاريخ الثقافي العالمي بأنها لا تفسح مكاناً ملائماً لتاريخ الإسلام ، وطالب بمشاركة ممثلين عن العالم العربي في هذا العمل، ولكن لم ينل هذا النقد سوى الوعود الكاذبة، وصدرت ستة مجلدات تباعاً بها الكثير من الأكاذيب حول الإسلام والمسلمين.
والمثير للشكوك والريب حول لجان اليونسكو بالعالم العربي والإسلامي أن هذه القضية لم تكتشف إلا عام 1975 عندما أثارها د. عبدالعزيز كامل (عضو جماعة الإخوان المسلمين سابقاً ووزير الأوقاف المصري سابقاً) وذلك في جريدة الأهرام حيث أعلن عن وجود مغالطات عن الإسلام في أهم مؤلفات اليونسكو، ووجد بالفعل في المجلد الثالث فقرات يمكن أن تصدم مشاعر أي مسلم يعتز بدينه.
ثم توالت الأصوات في العالم الإسلامي والعربي تنادي بمنع هذا المجلد من التداول.
وأمام هذه الزوبعة التي أثارها المجلد الثالث، لما فيه من تشويه للتاريخ الإسلامي برمته، تصرف المدير العام لليونسكو أحمد مختار امبو تصرفاً حكيماً، حيث قرر عمل لجنة لمراجعة هذا العمل ككل، وتنقيحه مما فيه من أغلاط، ولكن هذه اللجنة اكتشفت ثغرات وعيوباً خطيرة ومتعددة ؛ بعضها يتعلق بالمنهج وبعضها يتعلق بالموضوع، وكان من أخطر ما جاء في تقرير اللجنة هو الإقرار بوجود " تحريف خطير للحقائق فيما يتعلق بإعداد المصنف وتصميم مادته " .
ويضيف التقرير قائلاً: إنه لا يسعنا إلا أن ندهش إزاء ما يجب تسميته "رؤية لتاريخ البشرية تمركز حول أوربا في المقام الأول" وخلصت اللجنة إلى أنه يجب إعادة كتابة تاريخ البشرية والاستغناء تماماً عن العمل السابق ذي المجلدات الستة.
هذا هو نموذج لموقف اليونسكو من الإسلام وتاريخه، فلا نندهش إذن من تبنيها للمنظمة العالمية المشبوهة : " الإسلام والغرب " .
(ب) منظمة "الإسلام والغرب" المشبوهة
إنه لشيء مؤلم حقاً أن تكتشف فجأة تورط منظمات عالمية لها مكانتها في التآمر على عقول المسلمين ومؤسساتهم التعليمية، ومن ذلك منظمة اليونسكو التعليمية unesco التابعة لهيئة الأمم المتحدة، ومما يؤلم أكثر أن تكتشف أن هناك مشاركاً لها في تلك المؤامرة، من بني جلدتنا ، وهم أعضاء المنظمة العربية للتعليم والثقافة التابعة لجامعة الدول العربية، حيث تبنت كل من اليونسكو un r sco والأليسكو Alesco ومؤسسات أخرى غربية قيام منظمة عالمية خبيثة اسمها "الإسلام والغرب" تخصصت في الدس على المناهج والمقررات الدراسية في العالم الإسلامي وبخاصة مادة التاريخ والدين ؛ وفيما يلي عرض لبعض أعمال هذه المنظمة المشبوهة ولائحتها التأسيسية ودورها في إفساد الكتب الدراسية وغيرها في طول البلاد الإسلامية وعرضها.
ثم نعرض نماذج تطبيقية من مصر ودولة الإمارات والسعودية حيث اتخذت فيها إجراءات للتطوير في مجال التعليم تكاد تكون هي بحذافيرها التي خُطط لها بهذه المنظمة المشبوهة والتي حضر اجتماعاتها مندوبين عن هذه الأقطار وغيرها.
حقيقة منظمة (الإسلام والغرب) : وكيف تخصصت في إفساد مناهجنا الدراسية؟ تكونت هذه الجمعية المشبوهة تحت رعاية اليونسكو unesco، ومنظمة التعليم والثقافة Alesco التابعة لجامعة الدول العربية ، حيث عقدت ندوة استشارية حول التوصل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب عن طريق تغيير مناهج التاريخ والعقيدة الإسلامية !! وقد تم ذلك بالفعل في فينيسيا (البندقية) بإيطاليا في المدة من 16 : 20 أكتوبر 1977 م.
وكان المشتركون في الندوة خمسة وثلاثين ؛ منهم عشرة من المسلمين أما الخمسة والعشرون فمعظمهم من الغربيين الصهاينة والصليبيين من أعلى المستويات التعليمية والسياسية ..(34/117)
وقد شكلت الندوة لجنة لتصنع دستوراً لمنظمة (الإسلام والغرب) وتتكون هذه اللجنة من ثمانية أعضاء منهم أربعة من الدول الإسلامية وأربعة من غير المسلمين ويضاف إليهم رئيس هذه المنظمة الدكتور معروف الدواليبي والسيد/ براون والمدير العام اللورد كارادون الذي كان له النفوذ الأكبر هو والأمين العام الدكتورة مارسيل بواسار اليهودية السويسرية ، على أن تجتمع اللجنة في فبراير 1978 في باريس لتستخلص الأهداف من المناقشات العامة التي تمت في فينيسيا توطئة لتقديم اقتراح بدستور المنظمة، وذلك للعمل بوجه خاص لإخراج كتب للمراحل الابتدائية والثانوية والتعليم العالي والإذاعة والتلفزيون ودور النشر.
وإلى هنا والأمر لا يشوبه إلا أن المشاركين من الغرب أكثرية وفطاحل ومتمرسون في الصياغات المهلكة مثل (كارادون) وغيره.
وفي المدة من 3 - 6 أكتوبر 1979 عقد المؤتمر التأسيسي لجمعية منظمة (الإسلام والغرب) حيث أصدرت دستورها الذي حظي بالقبول، وكان عنوانه (مراجعة كتب تدريس التاريخ وتطوير المواد التعليمية بوصفها السبيل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب) وجاء في قائمة محتويات البرنامج ما يؤكد على الاتجاه العلمي البراجماتي أي النفعي (الأمريكي) ص 10 A p r agmatic app r oach. P. 10، ويؤكد أيضاً على مراجعة الكتب المدرسية، وإعداد المادة الدراسية الخ .
وفيما يلي نقتطف من هذا الدستور بعض الفقرات:
وجد في ص 7: " إن مؤلفي الكتب والمدرسين لا ينبغي لهم أن يسمحوا لأنفسهم بأن يصدروا أحكاماً على القيم سواء صراحة أو ضمناً، كما لا يصح أن يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف، وعليهم أن يجتنبوا الخوض فيما يتعلق من الماضي بالحاضر، أو القيم الشخصية التي تتسم بالمفارقات التاريخية ، ولا ينبغي لمدرس التاريخ خاصة أن يقدم إحدى الممارسات الدينية على أنه تفوق سائر الممارسات ولا يصح له أن يضفي أفضلية عليها "!!
وأيضاً : " من المرغوب فيه أن الأديان يجب عرضها ليفهم منها التلميذ خصائصها الأساسية فقط ولكن أيضاً ما تشترك فيه مع غيرها من الأديان، على وجه العموم ، وذلك في القطر الذي يتم فيه التدريس " .
ص8: " ويلزم فحص الكتب الدراسية التي قامت بتقديم الظاهرة الدينية، على أن يقوم بذلك علماء من مختلف التخصصات وكذلك أعضاء من أصحاب العقائد الأخرى، وكذلك من اللادينيين " !!
تعليق: كل هذه القرارات غير قابلة للتطبيق إلا في البلاد الإسلامية! وقد طبقت بالفعل كما هو موضح في نموذج دولة الإمارات العربية ومصر ، أما دول الغرب ومنها أمريكا فإنه لا يُسمح بتدخل الحكومة سياسياً، في تغيير أي منهج حتى بالنسبة للولايات الفيدرالية ، فالعملية التعليمية عندهم بعيدة عن أصابع العبث والتذبذب مع التغيرات السياسية أو غيرها، فتربية النشء عندهم تخضع لسياسات ثابتة تخدم القضايا القومية، وما ذكر عن ضرورة تحول القرارات إلى تطبيق عملي وفرض ذلك بالقرارات السياسية غير مقبول في مجتمعات الغرب ولا يقصدون به إلا مجتمعاتنا ، وهو ما تسعى إلى تحقيقه جمعية " الإسلام والغرب " في بلادنا للأسف ) .
ثم ذكر الأساتذة نماذج من التحريفات في مناهج الدول العربية .
====================
وقال الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري " ( ص 115 ) :
( والغريب أن الهيئات العالمية مثل اليونسكو -وهي هيئة دولية تشترك فيها الدول الإسلامية- تستكتب المستشرقين، بوصفهم متخصصين في الإسلاميات، للكتابة عن الإسلام والمسلمين في الموسوعة الشاملة التي تصدرها اليونسكو عن "تاريخ الجنس البشري وتطوره الثقافي والعلمي". وقد أثارت كتاباتهم حفيظة المسلمين على مؤسسة اليونسكو . والمهم ما فيها من مجافاة للحقائق التاريخية وتهجم على نبي الإسلام، وكتب الكثيرون احتجاجات على هذه الإساءات التي ليست إلا وحياً لتقاليد موروثة، وامتداداً للروح الصليبية ، وهو عمل كان ينبغي أن تتنزه عنه هذه المؤسسة الكبيرة ) . وانظر أيضًا : " نظرات في حركة الاستشراق " للدكتور عبدالحميد مذكور ، ص7) .
قلتُ : وممن كتب الاحتجاجات على هذه المنظمة وتطاولها على الإسلام ونبي صلى الله عليه وسلم : الدكتور محمد السمان في كتابه الشهير " مفتريات اليونسكو على الإسلام " .
ومن ذلك : ماتراه في هذين الرابطين : http://www.iu.edu.sa/Magazine/30/19.htm
http://www.iu.edu.sa/Magazine/30/20.htm
====================
أما عن دوراليونسكو في تغريب " المرأة المسلمة " فأحيل القارئ إلى بحث بعنوان " العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة " للأستاذ فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم ، نشر في مجلة البيان ( العدد 170) ، قال فيه وهذه المنظمة الأخيرة التي تعرف باسم : « منظمة اليونسكو » ، لها دور فاعل ومميز في هذه المؤتمرات من حيث الإعداد والمشاركة فيها ؛ فقد قرر المدير العام لهذه المنظمة إنشاء لجنة استشارية معنية بالمرأة ، وعهد إلى هذه اللجنة بإعداد ما يمكن لهذه المنظمة الإسهام به في مؤتمر المرأة الرابع في بكين 1995م ، وتهدف هذه المساهمة إلى ما يلي :(34/118)
- تعزيز نشاط اليونسكو وتفكيرها بشأن موضوعات المؤتمر الثلاثة : المساواة ، والتنمية ، والسلام ، وإبرازها بصورة أوضح .
- الإسهام في القضاء على القوالب الجامدة التي لا تزال تحدد أدوار وسلوك الرجال والنساء ، وتبقي من ثم على أشكال التفاوت والتمييز التي تستند إلى الجنس .. ) الخ .
====================
وأما عن دورها في نشر " العلمنة " والفكر المنحرف بين المسلمين ؛ فيكفي شاهدًا عليه مشروعها ( كتاب في جريدة ) الذي توزعه - للأسف ! - بعض صحف بلادنا ؛ حيث التركيز المتعمد على أدباء الحداثة العلمانية ؛ من أمثال : سعد الله ونوس ، نجيب محفوظ ، بدر شاكر السياب ، صلاح عبدالصبور ، غسان كنفاني ، أمل دنقل، غالب طعمة ، فرمان قيصر ، بايّاخو (شاعر إسباني) ، يوسف إدريس ، توفيق الحكيم ، حنا مينة ، عبد المجيد بن جلون ، محمد خضير ، الطيب صالح ، إلياس خوري .. فهي أعمال موجهة مختارة لكتّاب أصحاب توجه فكري واضح ومعلوم .. وليس هذا بمستغرب ؛ حيث لا بد أن القائمين على اختيار الأعمال سينتقون ما يتوافق مع قناعاتهم ، ولتعرف هذه القناعات نذكر قائمة (الهيئة الاستشارية) كما جاؤوا في ( كتاب في جريدة ) ومنهم : أدونيس محمود درويش جابر عصفور عبد العزيز المقالح يمني العيد ناصر الظاهري أحلام مستغانمي توفيق بكار بدر عبد الملك .
فمن الذي وضع هؤلاء أو أولئك أوصياء على وعي الأمة ؟ !
ومن الذي أعطى لليونسكو سلطة تشكيل العقل العربي (أو الإنساني) ؟ ! . ( انظر : البيان ، العدد 130 ) .
وأختم بما قاله سيد قطب - رحمه الله - : ( إن " العالم الحر" ! لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة ، ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ، ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي ، وفي هيئة اليونسكو ، وفي النقطة الرابعة ، ويحاربنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة في بلادنا ... وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام ، وتشتري الهيئات والجماعات ) . ( مجلة الرسالة : العدد 1018 - 5/1/1953 ، نقلا عن مجلة البيان ، العدد 45 ) .
فهل تعيد الدول الإسلامية النظر في دعمها لهذه المنظمة المشبوهة ؟! وأليس باستطاعتها وهي ذات الامكانات المتنوعة - إذا صدقت النية - أن تستغي عنها بمنظمات إسلامية جادة ، تحمل الهم الحقيقي لترقية الشعوب الإسلامية بما ينفعها ولا يضرها ؟!
=============(34/119)
(34/120)
أمواج الردة وصخرة الإيمان
الردة مفهومها وأسبابها في العقيدة والشريعة
د.عبد العزيز آل عبد اللطيف
هناك ظاهرة، تتكرر كل حين، في شكل موجات عاتية من الهجوم على ثوابت هذه الأمة وعقائدها ومناهجها، وهي موجات وهجمات تتحد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وفي أدواتها ورموزها... وهذا الملف، يعالج أخطر وأسوأ مظاهر هذا الهجوم على الدين، وهو ما يجري على ألسنة أدعياء الثقافة والعلم والأدب،...... ما هي حقيقتهم... ما هي أقوالهم... ما هو حكم الشريعة في أمثالهم... ثم... موقف القوانين الوضعية من الردة.. وهل كانت سبباً في الترويح لدعاوى الردة في بلاد المسلمين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله ـ تعالى ـ أتم هذا الدين وجعل شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب الحياة البشرية، ولذا أوجب الله ـ تعالى ـ على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة: 208]، كما جاء هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال ـ تعالى ـ: ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) [الروم: 30].
فإذا كان الشخص مسلماً لله ـ تعالى ـ، والتزم بدين الله ـ تعالى ـ، فأبى إلا أن ينسلخ من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح ـ من سماء وأرض ونبات وحيوان ـ من الاستسلام لله ـ تعالى ـ والخضوع له، كما قال سبحانه: ((وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران: 83].
وإذا كانت قوانين البشر ـ مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب ـ توجب مخالفتها ـ عند أصحابها ـ الجزاءات والعقوبات؛ فكيف بمناقضة شرع الله ـ تعالى ـ، والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟
لقد شرع الله ـ تعالى ـ إقامة الحدود، ومنها: حد الردة تحقيقاً لأهم مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، وهو ـ سبحانه ـ الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم.
وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية... فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة (فلا الإسلامَ نصروا ولا (السفهاء) كسروا).
ولذا سنعرض في هذه المقالة لمعنى الردة وشيء من أحكامها وتطبيقاتها، وأسباب الوقوع فيها.
إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء ـ في كل مذهب من المذاهب الأربعة ـ يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه، ونورد فيما يلي أمثلة لتعريفاتهم للردة، ـ أعاذنا الله منهاـ.
ففي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (ت587هـ): (أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان) [7/134].
ويقول (الصاوي) المالكي (ت 1241هـ) في الشرح الصغير: (الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر) [6/144].
وجاء في مغني المحتاج للشربيني الشافعي (ت: 977هـ): (الردة هي قطع الإسلام بينة، أو فعل سواءً قاله استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) [4/133].
ويقول البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: (المرتد شرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً) [6/136].
وبنظرة في هذه التعريفات نجد أن الردة رجوع عن الإيمان، فهي رجوع باعتبار المعنى اللغوي؛ فالمرتد هو الراجع، ومن قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) [المائدة: 21].
والردة رجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الشرعي؛ فالشرع يخصص اللغة ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله المتين، فإذا ارتد الشخص فقد نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البهوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق بالاعتقاد.(34/121)
ويمكن أن نخلص إلى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، ولا يخفى أن هذا التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح، وإذا قلنا: إن الإيمان قول وعمل ـ كما في عبارات متقدمي أئمة السلف ـ أي قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فإن الردة ـ أيضاً ـ قول وعمل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله ـ تعالى ـ في خبره، أو اعتقاد أن خالقاً مع االله ـ عز وجل ـ، وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله ـ تعالى ـ أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول، وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله ـ تعالى ـ أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو الاستهزاء بدين الله ـ تعالى ـ، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو إهانة المصحف.
فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك (النواقض) يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا المقام: (فإنه لو لم يقتل ذلك [المرتد] لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين وللدين؛ فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه) [الفتاوى 20/102].
كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين كما هو مبسوط في موضعه(1).
ومما يدل على مشروعية قتل المرتد ما أخرجه البخاري ـ رحمه الله ـ أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أُتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بدّل دينه فاقتلوه).
والمراد من قول: (بدّل، دينه) أي بدل الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله ـ تعالى ـ: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران: 85](2).
وقد التزم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ، وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً، فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات)، فأمر به فقتل (3).
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله ـ تعالى ـ في المرتدين تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يخفى موقف الصديق ـ رضي الله عنه ـ تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان.
واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً يتولى أمور الزنادقة.
يقول ابن كثير في حوادث سنة 167هـ: (وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه)(4).
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة، يقول القاضي عياض: (وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: (أنا الحق) مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته)(5).
وقد بسط الحافظ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: (قُدِّم (الحلاج) فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي)(6).
من أهم أخبار المرتدين وأكثرها عبرة ما سجله الحافط ابن كثير في حوادث 726هـ حيث (ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل الهيثي على كفره واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة.
قال البرازلي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام والاستهانة بالنبوة والقرآن.
وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: (وكان هذا الرجل قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام، وذلاً للزنادقة وأهل البدع، قال ابن كثير: وقد شهدتُ قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرّعه على ما كان يصدر عنه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك)(7).
ومما يجدر ذكره في هذه المقالة أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا العصر كـ (رشدي)، و (نسرين)، و (نصر أبو زيد)، و (البغدادي)، وأضرابهم أشنع من ردة أسلافهم كـ (الحلاج)، و (الهيثي)، والله المستعان.
وبالجملة فردة هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليست مجرد ردة فحسب، بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله ـ تعالى ـ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله ـ تعالى ـ، وصاحب هذه الردة المغلظة لا يسقط عنه القتل ـ وإن تاب ـ بعد القدرة عليه.(34/122)
كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: (إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول (الردة المجردة)، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة) وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق؛ والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين...)(8).
وأما أسباب الوقوع في الردة فثمة أسباب متعددة لذلك منها:
ـ الجهل بدين الله ـ تعالى ـ، وضعف التمسك بالمعتقد الصحيح عند الكثير من المسلمين، مما أوقفهم ـ بسبب جهلهم وضعف تمسكهم ـ في جملة من المكفرات، فعلى الدعاة والعلماء أن يجتهدوا في إظهار العلم الشرعي وتبليغ دين الله ـ تعالى ـ، عبر برامج مرتبة، فيرغب أهل الإسلام بالمعتقد الصحيح علماً وعملاً، ويحذرون من الردة وأنواعها، عن طرق حِلَقِ التعليم، والخطب، والمؤلفات، والأشرطة، ونحوها، فيعنى بالتوحيد تقريراً والتزاماً، كما يعنى بالتحذير من مظاهر الردة في الزمن المعاصر، ومن ذلك أن تُدرّس رسالة (نواقض الإسلام) للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) ـ رحمه الله ـ فهي رسالة مع كونها في غاية الإيجاز إلا أنها بينت أهم النواقض وأشملها، وأكثرها وقوعاً وانتشاراً(9).
وأن يبيّن للناس الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد من: القتل، وعدم الصلاة عليه، وحل ماله، وأن تذكر أخبار المرتدين وأحوالهم وما نالوه في الدنيا من العقوبات والمثلات، وما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الدار الآخرة.
وأن يراعى ـ أثناء التحذير من الردة وأنواعها ـ عوارض الأهلية عند الحكم على الأشخاص كالجهل والتأويل والخطأ والإكراه ونحوه، فربما وقع البعض في غلو وإفراط بمجرد علمهم بجملة من أنواع الردة، فيحكمون بذلك على أشخاص بأعيانهم دون التفات إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
ـ ومن أسباب الوقوع في الردة: ظهور الإرجاء في هذه الأوقات.. فالإرجاء في مسألة الإيمان يقرر عبر مؤسسات تعليمية شرعية منتشرة في بلاد المسلمين، حيث تتبنى هذه المؤسسات المذهب الأشعري والماتريدي ـ ذي النزعة الإرجائية الغالية ـ، كما ساعد على ظهور الإرجاء بعض المنهزمين إزاء واقعنا الحاضر المليء بالانحرافات التي تناقض العقيدة السلفية، فقاموا (يبررون)، و (يسوغون) ذلك الانحراف بأنواع من التأويلات المتكلفة.
كما أن الغلو في التكفير والنزعة الخارجية ـ في هذا العصر ـ كان سبباً مساعداً في ظهور الإرجاء كنتيجة عكسية، فجاء ذلك الإرجاء رد فعل لهذا الغلو.
فإذا كان الإيمان ـ عند طوائف من المرجئة ـ هو التصديق فحسب، ففي المقابل سيكون الكفر ـ أو الردة ـ هو التكذيب فقط عند قوم آخرين، فلا يكون الشخص مرتداً عن دين الله ـ تعالى ـ إلا إذا كان مكذباً جاحداً! فلا يكون الشخص عند هؤلاء المرجئة مرتداً بمجرد استهزائه بالله ـ تعالى ـ أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو دينه، كما لا يكون الشخص عندهم مرتداً بمجرد سجوده للصنم أو إهانة المصحف!!.
فالردة عندهم مجرد اعتقاد، فلا تقع الردة بقول أو عمل!
ـ وسبب ثالث وهو تنحية شرع الله ـ عز وجل ـ في كثير من بلاد المسلمين، فلا يخفى أن وجود الولاية الشرعية سبب في حفظ الدين، فحيث تقام الحدود ومنها حد الردة فلن يتطاول زنديق مارق على دين الله ـ تعالى ـ، لكن (من أمن العقوبة أساء الأدب)، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه (كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف)(10).
وإليك ـ أخي القارئ ـ واقعة تاريخية توضح المراد كما دوّنها القاضي عياض في كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بقوله: (وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بـ (ابن أخي عَجَب)، وكان خرج يوماً، فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده.
وكان بعض الفقهاء بها (أي بقرطبة): (أبو زيد)، و (عبد الأعلى بن وهب)، و (ابن عيسى)، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ (موسى بن زياد)، فقال (ابن حبيب): دمه في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي (ت282هـ).
وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه (أي من أحب الزوجات لعبد الرحمن بن الحكم)، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول (ابن حبيب وصاحبه)، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين: (ابن حبيب وأصبغ)، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء وسبّهم)(11).(34/123)
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي (عجب) تلفّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالربّ ـ جل جلاله ـ، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي ـ آنذاك ـ، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم ـ في قرطبة ـ فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها.
وأخيراً: تتجلى روعة الموقف عندما يمضي (عبد الرحمن بن الحكم الأموي) حكم القتل على ابن أخي زوجته (عجب) وهي أحب زوجاته إليه، ولا يكتفي بذلك بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء.
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم الله ـ تعالى ـ على من تطاول على دين الله ـ تعالى ـ.
ـ وأما السبب الرابع في ظهور الردة، فإن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق.
لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله ـ تعالى ـ بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة.
فلا عجب أن تظهر الحداثة ـ مثلاً ـ في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق ـ وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة إلى مواقف مستنيرة.
ثم (تؤصل) هذه الردة، وتقصّد، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية، ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
وأخيراً:
فإن تقصير بعض علماء أهل السنة ودعاتهم تجاه هذا الانحراف الخطير ـ الردة ـ كان سبباً مساعداً في ظهوره واستفحاله، فلو أن علماء أهل السنة ودعاتهم قاموا بواجب التبليغ لدين الله ـ تعالى ـ، وإظهار عقيدة التوحيد، والتحذير من الردة وأنواعها ووسائلها لما كان لمظاهر الكفر أن تنتشر كما هي عليه الآن.
إن الناظر إلى إخواننا من أهل السنة يرى تواكلاً وكسلاً، وتحميلاً للتبعات والمسؤوليات على الآخرين، وتلاوماً فيما بينهم، ألا فليجتهد الجميع في الحرص على ما ينفع، وأن نسعى في تبليغ ديننا والتحذير مما يضاده ويناقضه (ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين)(12).
=======
الهوامش :
(1) تحدث الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن هذه المسائل تفصيلاً، وألفت رسائل علمية مطبوعة في أحكام المرتد، منها: أحكام الردة والمرتدين لجبر الفضيلات، وأحكام المرتد لنعمان السامرائي
(2) انظر: فتح الباري، 13/272.
(3) أخرجه البخاري.
(4) البداية 10/149.
(5) الشفا، 2/1091.
(6) البداية والنهاية، 11/143.
(7) البداية، 14/122.
(8) الصارم المسلول، 3/696.
(9) شرح هذه الرسالة غير واحد، ومن أفضل الشروح: (التبيان شرح نواقض الإسلام) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
(10) العواصم من القواصم، ص 247.
(11) الشفا، 2/1093، 1094.
(12) هذه العبارة سطّرها العلامة عبد الرحمن السعدي، في القول السديد، ص 36.
البيان العدد 125 محرم 1419 هـ
============(34/124)
(34/125)
العدوان الثنائي.....وسلاح المصطلحات
عبدالرحمن ناصر اليوسف
كما تدور رحى المعارك العسكرية بين قوى الكفر والإيمان على أرض العراق وغيرها من بلاد المسلمين، هناك حروب أخرى لا تقل خطورة تجري على صفحات الجرائد، وخلف شاشات الفضائيات، وفي المجالس السياسية بأنواعها ( أمة وشعب وشورى و....)،وفي المؤتمرات الحوارية والثقافية وغيرها من الملتقيات التي تجتمع فيها تيارات فكريه متعددة، والطرف المعتدي في هذه المعركة(بقسميها العسكري والفكري العقائدي) هم بالطبع العدو الظاهر(المعتدي بالقول والفعل) وهو تحالف الصليبة الجديدة بقيادة من يسمون بالمحافظين الجدد والألفيين أو الإنجيلين ممثلين باليمين الأمريكي وأتباعهم من (المتدينين) بالنصرانية ودعاتها المبشرين بها في مختلف أنحاء العالم مع الصهيونية العالمية بشقيها اليهودي والنصراني(يلتبس على البعض كون الولايات المتحدة دولة علمانية في نظامها الداخلي وبين أنها تقود الحملة الصليبية الجديدة على الإسلام والمسلمين-للعلم فإن التشريع النصراني الذي بين أيدي النصارى ويتلى في كنائسهم الآن لا ينص ولا يدعو لأن يكون الحكم في الدول على أساس ديني مستمد من تشريع إلهي على عكس الإسلام الذي لديه نظام سياسي إلهي يلزم المسلمين بتطبيقه والتحاكم إليه،والسير على منهاجه،فأمر الله عزوجل وقال: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ-أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة50-51)
- هذا من جانب، ومن جانب آخر تجد العلمانيين في العالم الإسلامي يتجاهلون الأسباب الدينية لحروب أمريكا الجديدة ويعزونها لهدف الإستيلاء على النفط فقط!!والحقيقة أنها تلاقت أهداف الإنجيليين في الإدارة الأمريكية وإعتقادهم بنزول المسيح عليه السلام في الألفية الثالثة وأنه لابد من خطوات تمهد لذلك منها مباركة دولة اسرائيل بدعمها وتأييدها والمساهمة في توسعها وبقائها، واحتلال أرض الفرات البابلية مع السعي لمحاربة المسلمين في عقيدتهم وإبعادهم عن دينهم و العمل على تحويل كل من يستطيعون تحويله منهم إلى النصرانية،ويتضح ذلك من تدفق المنصرين إلى العراق ومحاولة استغلال حاجة الناس إلى المال والغذاء والدواء لتبشيرهم بالنصرانية-كما يفعلون في أفريقيا وأندونيسيا وغيرها-وسبق للرئيس بوش أن ألقى بتصريحات يؤيد فيها جهود المنصرين في العراق ويرفع من معنوياتهم بأن يذكرهم بأنهم المشرفون بتبليغ كلمة الرب في العالم، فالتقى ذلك التوجه الديني مع الأطماع المادية المتأصلة في النظام الأمريكي بمذهبة الإقتصادي الرأسمالي الذي يؤدي إلى نفوذ وهيمنة أصحاب رؤوس الأموال اللذين يسعون لتحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح وجمع أكثر مايستطيعون جمعه من الثروات بغض النظر عن الوسائل حتى ولو كانت دماء الأبرياء وأراضيهم وأموالهم، وهذا يبين دور شركات النفط وشركات السلاح في حروب أمريكا الأخيرة ودعمها لها عبر نفوذها السياسي في الحكومة الأمريكية).فعندما تقوم حرب من أجل الدين والمال معاً فلن تجد حرباً أشرس منها!.(34/126)
أما الطرف الثاني فهو العدو المستتر(المعتدي فكريا وعقائديا) وهم من وصفهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعاة على أبواب جهنم ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، كما رأينا وسمعنا في زماننا هذا، فهؤلاء هم من التقت مصالحهم وتوجهاتهم الفكريه(المادية-الدنيوية) مع الأهداف الأمبريالية الأمريكية (الدينية-الإقتصادية) ممثلة في اتحاد الوسائل التي يمكن للطرفين المعتدين الوصول لأهدافهم عن طريقها ويتحقق ذلك عبر المبادىء والنظم التي تسعى الإدارة الأمريكية لإرساءها في المنطقة وبدقة أكثر في بلاد المسلمين،من حيث تنحية الشريعة عن الحكم (أكثر مما هي منحاة!!) وفصل كامل بين الدين والسياسة (لاحظ مصطلح الإسلام السياسي دائما مايطلق بوصفه شيء سيء وخاطىء،على الأحزاب والتيارات الإسلامية التي تحاول الوصول للسلطة حتى بالطرق السلمية من حيث ممارسة حقها الطبيعي في الترشح والسعي لكسب أصوات الناخبين، حيث تحارب هذه التيارات في جو كبير من عدم النزاهة مثلما حدث في الجزائر عندما نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الإنتخابات بنسبة تقارب ال81% ولم تمكن (بضم التاء وتشديد الكاف مع فتحها) من أخذ موقعها بسبب التدخل الفرنسي السافر لمنع اعتلائها السلطة وبالتالي الحكم بالشريعة الإسلامية، فمثل هذا يؤدي لردود أفعال غير سلمية من بعض هذه الجماعات فتحاول تحقيق أهدافها بطرق متهورة غير مقررة شرعا نتيجة ما عانته من الظلم والقهر والقمع،، وهذه هي الحقيقة التي يتجاهلها المعتدون بنوعيهم من حيث إرجاعهم أسباب مثل تلك الحوادث لسبب أيديولوجي بحت -لأغراض في أنفسهم- والصحيح أن السبب راديكالية سياسيه صبت الزيت على نار غيرة وعاطفة دينية عندما قهرتها وقمعتها وكممت أفواهها) خذ أيضا عندما يطرح أحد علماء الدين رأي الشرع فيما يخص قضية سياسية معينة تجد هؤلاء - ممن يعتنق العلمانية فكرا والليبرالية ممارسة- يتهافتون على رمي ذلك الشيخ بأنه يتجاوز حدوده ويحاول (تسييس الدين) فهذا إذن إسلامي متطرف يجب الحذر من إنتشار أفكاره وأطروحاته!! فمما يرددونه أن الدين جميل ويحث على الأخلاق والفضائل ولكن دعوه في المسجد ولا تقحموه فيما لا طاقة له به من أمور الناس في السياسة والإقتصاد والإجتماع وسائر أمور الحياة!! وهذا والله زور وبهتان عظيم، فلو كان المقام هنا للحديث عن شمولية الإسلام وعظمة التشريع فيه لكنا أسهبنا وفصلنا في ذلك، وشرحنا كيف أن الشريعة ظللت بمظلتها الواسعة من أمور الناس ما تستطيع استيعابه حتى يرث الله الأرض وما عليها، لكن لامانع من الإشارة إلى أن سيرة أشرف الخلق وخاتم الأنبياء محمد عليه أفضل الصلاة والسلام تمثل الأسوة الحسنة والضوء الذي يستنير به كل من ينتمي لأمة الإسلام أفرادا وجماعات وأمم، فقد حكم دولة الإسلام التي انطلقت منه وحيدا حتى عمت أرجاء المعمورة، كان خلال فترة قيادته نعم القدوة لكل من أراد النجاح في الحكم والسياسة،فكان الحاكم السياسي الخبير، والقائد العسكري المحنك، والمحلل الإقتصادي البارع،يقود في السلم والحرب، ويوقع المعاهدات، ويقضي بين الناس،ويجتبي الأموال ويوزعها، ومع أنه كان النبي المعصوم الذي لاينطق عن الهوى فقد ظل مستعينا بآراء ومشورة ذوي الخبرة والإختصاص من صحابته الكرام تحت مظلة كتاب الله وسنة رسوله الكريم، فعاشت الدولة الإسلامية في أوج مجدها وعزها، وكانت نموذجا للدولة المثالية في نظامها الداخلي و سياستها الخارجية.(34/127)
نعود للعبة المصطلحات التي يروج لها دعاة الليبرالية من الداخل، ودعاة الديمقراطية المزيفة التي يزعم العدو الخارجي أنه يقدمها لشعوب العالم الإسلامي كوجبة رئيسية (مستغلا ما تعانيه تلك الشعوب من ظروف الاستبداد السياسي بكل مايفرزه من نتائج وخيمة) مضاف إليها عدد من أطباق الحلوى المسماة بحقوق المرأة وحقوق الإنسان وحرية الفرد!! والمضحك أنه يردد بكل سذاجه أنه لايفعل مايفعل إلا عطفا على هذه الشعوب ورغبة في تحريرها، وإرساءاً للأمن والسلام العالمي!! لاننتظر من المجرم بالطبع أن يصرح قبل أن يقوم بجريمته بأنه مقدم عليها وطبيعي أن الكذب والدجل هو ديدنهم،ولكن الطريف والمثير للإشمئزاز في الوقت نفسه،حجم الكذبه وسخافتها،ففي قولهم أن حروبهم بجانبيها هي من أجل إقصاء الأشرار لضمان الأمن في العالم فهذا صحيح بمقاييس شريعة الغاب وحكم القوة لا العقل والمنطق ولا حتى حقوق الإنسان والديمقراطية الخادعة!!فعندما تعتدي دوله(أمريكا أو اسرائيل أو أي حليف لهم) على دولة ما(العراق أو فلسطين أومن مثلهم ممن له حق الدفاع عن دينه وماله واستقلاله) فهذا حق للدولة المعتدية التي تدعي بأنه من المصلحة للكون كله أن تغزو تلك الأرض وتحتلها!!! فإن قام أصحاب الحق الحقيقي (الأشرار الإرهابيين) ليدافعوا عن حقهم هنا يختل الأمن في العالم!!!وفي الجانب الفكري لاحظ الهجمة الشرسة على مبادىء إسلاميه عقديه مثل ( الولاء والبراء)،فهذة العقيدة من أمثلة الإتحاد بين العدوين الخارجي والداخلي في الإعتداء عليها من حيث وصفها بثقافة (عدم قبول الاخر والتكفير والإقصاء)، وخذ أيضا فقه (الجهاد) الذي هو ذروة سنام الإسلام وبإقامته تدوم العزة للإسلام وعندما يعطل يضرب على الأمة الذل والهوان-كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام- في أكثر من موضع، فاتحدوا في حربه من حيث وصفه (بالإرهاب) وتعميم هذا المصطلح على الجهاد الحقيقي وبين ما يحدث من ردود أفعال سبق التطرق إليها،مع العلم بأنه حتى إن بدر من بعض المسلمين إنفعالات خاطئه ليست من الجهاد في شيء فلا ينبغي إنكارها بإطلاق مسمى الإرهاب عليها وذلك بهدف عدم الترويج لهذا المصطلح الذي سوقه أعداء الإسلام ليوصف الجهاد به، ولكون لفظ الإرهاب جاء في الشريعة بوصفه عمل محمود،،ولنا في علمائنا الأفاضل ممن عرفوا بالعلم بفقه الواقع وتحديات المرحلة والنظرة الثاقبة كابن جبرين والبراك والعوده والحوالي وناصر العمر وغيرهم من العلماء حفظهم الله وثبتهم على الحق، أسوة حسنة في منهج إنكارهم للفتنة التي حدثت في بلاد المسلمين، أماالحبل الثالث الذي يلعب عليه الغزاة من اليهود والنصارى ومن في صفهم من دعاة الليبرالية في بلاد الإسلام هو (المرأة) ووجوب إعطائها حقوقها المزعومة ورفع الظلم عنها!!(للسخرية: قال كلينتون وهو من أكثر زعماء الغرب حربا للمسلمين وذبحا لهم - حصار العراق وضرب السودان وأفغانستان ودعم إسرائيل الامحدود ودفاعه عن مذبحة قانا في 96م- قال هذا المجرم في منتدى جدة الإقتصادي العام الماضي أنه لو كان النبي محمد موجودا لسمح للنساء بقيادة السيارة في السعودية)!! فأما كلينتون وأمثاله من الأعداء الخارجيين لا يريدون إلا فساد المجتمع المسلم بفساد نسائه بإشغالهم في توافه الأمور، فإن فسدت الأم وانشغلت عن مهمتها الأساسية التي شرفها بها خالقها ومولاها، وهي تربية الأجيال الإسلامية وصناعة الأبطال، تاه الأبناء وأصبحوا ضائعين مهزوزين تتخطفهم أمواج متلاطمة ذات اليمين وذات الشمال،أما المحور الرابع فهو ما يسمونه (بالبوليس الديني) ويقصدون به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيرميها أعداء الخارج بأقذع الأوصاف وأشنع التهم ويفترون عليها ماليس فيها(عرضت محطات أمريكية عدد من البرامج الوثائقية للإساءة لهيئة الأمر بالمعروف)،فبالله عليكم ما دخل أمريكا بالهيئة؟! والله مايريدون إلا أن تشيع الفاحشة في اللذين آمنوا،يشاركهم في ذلك دعاة العلمنة ممن يسمون في صحفنا بالمثقفين والمفكرين!!فيشاركون في الهجوم على هذه المحاور التي تمثل في نظرهم (الإسلام المتطرف) فالحل إذن من أجل الوصول (للإسلام المعتدل)!! هو إقصاء هذه المفاهيم بالكلية من واقع المسلمين-لاحظ مثلا في البرنامج الشهير ستار أكاديمي عرض نموذج للشاب المسلم المعتدل المقبل على الحياة ممثلا في شخص محمد الخلاوي فإسمه محمد وهو من (السعودية الوهابية) ولكنه ليس متشدداً فهاهو شاب ملتزم يصلي ويقرأ القرآن ولكن هذا لايمنعه من أن يعيش حياته بالغناء ومخالطة الفتيات ومصاحبتهم ، فالدين شيء والحياة شيء آخر وهذه هي العلمانية في أكثر صورها إغراءاً!! وهذه البرامج وماشابهها تمثل خطراً على مجتمعات المسلمين أكثر حتى من أفلام الجنس التقليدية التي تمس جانب الشهوات في نفس الإنسان فقط، أما ستار أكاديمي ومثله ما يسمى بتلفزيون الواقع وكذلك الأعمال الفنية التي تمس الجانب الفكري والعقدي للمسلم بهدف التأثير على معتقدات المتلقي وزحزحة ثوابته وقيمه وإثارة الشبهات حولها بأساليب فيها من الإحتراف والمكر الشيء الكثير فهي(34/128)
الخطر الأكبر على مجتمعات المسلمين- فبالتركيز على هذه المحاور الأربعة (الولاء والبراء،الجهاد،المرأة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإقصائها من حياة المسلمين عمليا فإن بقيت في مكان فليس في عقولهم وقلوبهم إنما مجرد نظريات وتراث تاريخي في كتب السلفيين، فينحرف المجتمع عن الطريق الذي رسمه الله له ويبتعد المجتمع المسلم عن تحقيق مآربه ببعده عن دينه فيصبح إسلاما بالاسم والظاهر فقط،، فيغدو شباب المسلمين لقمة سائغة لكل منصر جائع ،وبلادهم أرض خصبه لجمعيات التنصير المبشرة بالنصرانية الضالة المحرفة،ولاحظ في ذلك حربهم على الجمعيات الإسلامية الخيرية وذلك بهدف إخلاء الساحة لجمعيات التنصير والوقوف في وجه المد الدعوي الإسلامي الذي عم أقطار الدنيا بفضل الله أولا ثم بجهود الدعاة الأفاضل وفقهم الله وثبتهم، والقائمين على هذه الجمعيات جزاهم الله كل خير وثواب، وما نجاح أمريكا في إغلاق مؤسسة الحرمين -رحمها الله- واحتلال بعض بلاد الإسلام والتغيير في مناهج التعليم في بلاد أخرى إلا جولة في الصراع بين الحق والباطل، و ماهو إلا تكرار للتاريخ عندما اجتمع الصليبيون واليهود على السعي لإسقاط آخر دولة خلافة إسلامية (الدولة العثمانية) بمركزها السياسي في تركيا ومركزها العلمي والثقافي في مصر وفي الأزهر بالتحديد،فكان لهم ماسعوا له فقد نجحت القوى الخارجية الإستعمارية في تقسيم العالم الإسلامي جغرافيا إلى دول ضعيفة متشتته، فغدت تركيا دولة علمانية تحارب الدين وأهله أشرس حرب، وتغلغلت في مصر المسلمة المحافظة الأفكار الهدامة والتيارات الفكرية الظلاميه وذلك بدعم وغطاء يهودي صليبي إلى أن أمست دولة علمانية يحارب فيها المصلحون والعلماء بعد أن أجهز على الأزهر الشريف فلم يبق منه إلا أطلال يبكي عليها المسلمون على كيانهم العلمي والسياسي العظيم الذي ضعف وارتخى والله المستعان. (لاحظ في تركيا قبل سقوطها بيد العلماني كمال أتاتورك بعد أن نصبه الصليبيون واليهود حاكما ليقضي على مابقي من إسلام في عاصمة الخلافة،وفي مصر قبل الإستعمار الصليبي وتغلغل التيارات الفكرية الضالة من الشيوعية والقومية والعلمانية والإشتراكية بنسختيها التقليدية والعلمية الماركسية،كانت النساء تستر أجسادهن العباءات السوداء ويغطي وجوههن النقاب،وبعد أن نجحت مساعي المستعمرين ومن في كنفهم ممن تعلم في بلادهم وتأثر بدعاواهم وأغرته حضارتهم المادية ،وصل الحال إلى وقت غدت فيه من تغطي شعر رأسها بخمار، غريبة شاذة في ذلك المجتمع!! وقس على هذا المثال الكثير مما تغير حاله في بلاد المسلمين).(34/129)
ومن المصطلحات التي يروج لها الكتاب والصحفيين على سبيل تلبيس الحق بالباطل وإنزالها على المعنى الذي يريدونه وما تهواه أنفسهم، مصطلحات تمس مفاهيم إسلامية مثل (الوسطية) و(التسامح)،فمما يؤسف له إبتداءاً هو تطاول هؤلاء الصحفيين و غيرهم من ليس لهم نصيب من العلم الشرعي بل تجد الكثير منهم على خلل عظيم بالعقيدة والفكر ومع ذلك يتجرأون على الحديث في أمور الدين وانتقاد العلماء وتفسير الآيات والأحاديث على هواهم،حتى وصل الأمر أن كتب أحد لاعبي الكرة ردا على 26عالما وفقيها يعارض فيه رأيا شرعيا لهم!!فياله من شيء محزن وسخيف!!نعود للبحث في ثقافة التلبيس التي يمارسها هؤلاء، فأما في تناولهم لمفهوم (الوسطية) مثلا تبدو رغبتهم واضحة في تمييع الدين وتغييب السنة عن المجتمع سلوكا ومظهرا من خلال تفسيرهم لهذا المصطلح على غير حقيقته النظريه في القرآن الكريم وتطبيقه العملي في واقع الأمة عبر فكر وسلوك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام ومن بعدهم أئمة وأعلام الإسلام عبر التاريخ،أما مفهوم (التسامح) فحرفوا ماقصدته الشريعة به وجعلوه مرادفا للتنازل والتساهل عن أبسط الحقوق فبما أن الغرب عامة والأمريكان خاصة هم الأقوى في العالم عسكريا والمتفوقون علميا فيجب اتباعهم فيما يفعلون والسمع والطاعة لما يقولون، وعندما يغزوننا محتلين يجب تقديم الورود لشكرهم على مايقدمونه لنا من الحرية والعلم والحضارة!!أما حين تدافع عن عقيدتك ومبادئك وأرضك وعرضك ومالك، فأنت تخالف الإسلام الحقيقي(بزعمهم) الذي يدعو إلى المحبة و(التسامح)، وقس على ذلك مصطلحات غلافها الظاهري جميل مثل (الآخر) و(القبول بالآخر) و(الحياد) أما باطنها وما ترمي إليه فيهدف إلى تمييع الإختلاف العقدي بين أهل التوحيد وغيرهم من أهل الديانات والطوائف والفرق الضالة فيرددون أنه لايجب التفرقة بين الناس على أساس الديانة أو العقيدة أو المذهب فالجميع أخوة في (الإنسانية)!! و(حرية الفكر) متاحة للجميع بشكل مطلق،على خلاف تنظيم الشريعة الإلهية لهذا الإختلاف وحددت أسلوب تعامل المسلم معه وبينت ما للفرد فيه من الحقوق وما عليه من الواجبات، وما تلبيسهم هذا إلا في سبيل التمهيد والتخطيط لإرساء قواعد مذاهب فلسفية وفكرية وسياسية في المجتمع المسلم والنظام السياسي لذلك المجتمع،وهي خطيرة جدا من حيث مخالفتها لأصول إيمانية ومنهجية في العقيدة الإسلامية مثل (التعددية) و(الفردية) و(الحداثة) وبالطبع حتى الوصول للجائزة الكبرى (الليبرالية) التي تتيح كنظام سياسي لهذه التيارات أرضا خصبة لتنمو فيها بأن تعبر عن وجودها بحرية أكثر وبشكل رسمي لا يجد أمامه أي حواجز أو يصطدم بأي عقبات، فيفسر ذلك رغبتهم وسعيهم الدؤوب وأمانيهم بإزاحة الشريعة عن الحكم وإستبدالها بالليبرالية المنقذة!!.
وما ذكرنا ما هو إلا حلقه في سلسلة ابتلاء المؤمنين بالكفار والمنافقين وأهل الضلال بكل أشكال الإبتلاء من القتل والتعذيب ونهب المال واحتلال الأرض والإعتداء على العرض والظلم إلى الإستهزاء بالقول والفعل، ومايلاقيه أهل الحق من أهل الباطل منذ بعثة محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم، فما هذه الحياة الدنيا إلا ابتلاء وامتحان وفتنة للمؤمن الحقيقي الصابر الثابت على دينه المعتصم بكتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ،ولن نجد أفضل من بعض من كلام الله عزوجل لنستشهد به على ما قلنا ونذكر به أنفسنا:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } (البقرة 11-17)
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (البقرة 120)
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } (البقرة 212)(34/130)
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } (البقرة 214)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (آل عمران 118-120)
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } (آل عمران 139-142)
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } (المنافقون 4)
===========(34/131)
(34/132)
تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة
تأليف الشيخ : سليمان بن صالح الخراشي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
أما بعد : فهذه دراسة أخرى من سلسة ( رجال وكتب في الميزان ) اخترت أن تكون من نصيب مفكر سعودي بارز ، هو الدكتور تركي الحمد ، الذي عرفه الكثير كابتاً صحفياً سياسياً ، متفرداً باطروحاته وآرائه التي تثير الصخب والضجة من حولها ، حيث تميز بصفة لازمت كتاباته وأقواله ، هي صفة ( المعارضة ) ، ( الصوت النشاز ).
حتى قيل فيه بأنه رجل ( لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب ) !
لهذا : فقد اخترت أن تكون هذه الدراسة من نصيبه لكي نستبين فكره الذي لم يتضح للجميع من خلال ما خطه بيده في مؤلفاته ، ولكي نعلم ما يريد الدكتور قوله أو إيصاله إلى أفراد مجتمعنا .
وقد اخترت مؤلفين هامين من مؤلفات الدكتور ( القليلة ) رأيت أنهما يوجزان أفكاره التي يدور حولها في ( أغلب ) مقالاته لتكون ساحةّ لنقاشي معه .
ثم أعقبت ذلك بدراسةٍ لروايته الثلاثية التي صدرت قريباً ، مع مقارنتها برواية نجيب محفوظ الثلاثية .
وقد تعمدت في هذه الدراسة أن تكون كغيرها من دراسات هذه السلسة تتميز بالوضوح وسهولة العبارة مع الإيجاز غير المخل ، لأن القصد منها هو معرفة مراد الدكتور ثم التعقيب عليه بما يجلي وجه الحق في المسألة المطروحة دون لجوء إلى إطالة مملة أو لغة مغلقة أو نقولات مطولة .
وقد جعلت هذه الدراسة في أربعة مباحث .
أولاً : تعريف بالدكتور ومؤلفاته .
ثانياً : نقد كتابه ( الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ) .
ثالثاً : نقد كتابه ( دراسات أيدلوجية في الحالة العربية ) .
رابعاً : دراسة ثلاثيته .
ثم خاتمة موجزة .
والله أسأل أن ينفع بهذه الدراسة من قرأها ، وأن يكتب لي أجرها ، وأن تكون خالصة في سبيله سبحانه ، تعلي دينه وتكبت أعداءه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
المؤلف
تعريف بتركي الحمد (1)
هو : تركي حمد التركي الحمد ، المشهور بـ( تركي الحمد ) من أسرة قصيمية انتقلت إلى المنطقة الشرقية ، وسكنت الدمام ، وكان والده يعمل في شركة (أرامكو ) .
ـ من مواليد 10 /3/1952م الأردن ، الكرك " العقيلات " .
ـ درس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية بمدينة الدمام .
ـ حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الرياض عام 1975م .
ـ ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات كاملة ! حصل منها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ( كلورادو ) عام 1979م .
ـ ثم حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ـ أيضاً ـ عام 1985م ، من جامعة جنوب كاليفورنيا .
ـ عمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الملك سعود منذ عام 1985م إلى عام 1995م.
ـ ثم طلب التقاعد المبكر ليتفرغ للكتابة. !(2)
مؤلفاته :
1. الحركات الثورية المقارنة عام 1986 م
2. دراسات أيدلوجية في الحالة العربية عام 1992م
3. الثقافة العربية أمام تحديات التغيير عام 1993م
4. عن الإنسان أتحدث 1995م
5. رواية ثلاثية بعنوان (أطياف الأزفة المهجورة )
أ ـ العدامة .
ب ـ الشميسي .
ج ـ الكراديب .
سيصدر له قريباً :
ـ كتاب ( الثقافة العربية في عصر العولمة ) .
ـ ورواية بعنوان ( شوق الوادي ) (3)
ـ له العديد من المشاركات الصحفية عبر المقالات ، كمقالاته الأسبوعية في جريدة الشرق الأوسط ، أو مقالاته في جريدة الحياة ، أو مجلة الاتصال وغيرها من المجلات غير السعودية .
نقد كتاب (الثقافة العربية أمام تحديات التغيير )
يقول تركي الحمد في مقدمة كتابه هذا :
) يعيش الإنسان ( بصفته فرداً أو جماعة) ضمن محيط طبيعي واجتماعي ( (1).
)إدراك واستيعاب هذا المحيط لا يكون إلا عن طريق وسيط معين ، ألا وهو مجموعة من المفاهيم والتصورات والمصطلحات والكلمات التي من خلالها تنتقل صورة الموضوع إلى الذهن ((2).
) المفهوم ليس إلا تصور ذهني يقوم بنقل الموضوع ( المحيط ) الذي هو متغير بطبيعته ، وبالتالي لا بد للمفاهيم والتصورات أن تكون متغيرة بدورها ، وإلا فإنها سوف تتحول إلى وسيط مزيف عندما تثبت في محيط متغير ((3).(34/133)
) الإشكالية تنبع من أن الإنسان ( فرداً أو جماعة ) ينحو في كثير من الأحيان إلى تقديس الكلمات والمفاهيم والمصطلحات ، وإعطائها بُعداً ثابتاً بحيث تتحول مثل هذه المفاهيم والمصطلحات والتصورات والأحكام إلى قيد على الإدراك ، ومن ثم التمثل ، ومن ثم الحكم على الأشياء والعلاقات (4).
ثم يؤكد تركي هذا حين يزعم ) أن الأزمة المعاصرة للثقافة ( العربية ) إنما تكمن في هذه النقطة المتُحدَّث عنها آنفاً . مجموعة من المفاهيم والتصورات والقيم اكتسبت صفة الثبات المطلق ( بل السكون ) وفقدت بالتالي الصلة مع الواقع أو المحيط المتغير فأصبح الإدراك الذي تنقله وبالتالي الأحكام الصادرة عنها إدراكاً وأحكاماً مزيفة أو مشوشة على الأقل ، وهذا ما نتبينه من خلال التعامل العربي المعاصر مع أحداث هذا العالم وتحولاته من حيث عدم القدرة على فهم مجريات الأمور وعدم القدرة على تحقيق الأهداف ، وبالتالي المراوحة في مكانك سر رغم كل دعوات النهضة والثورة والإصلاح وغيرها من اتجاهات ايديولوجية تختلف شكلاً ولكنها ذات بنية واحدة مضموناً ، حيث إنها في نهاية المطاف تتحدَّد بذات الثقافة العاملة في إطارها وتنتمي إلى ذات الخطاب وتصدر عن نفس العقل ( (1)
قلت : فملخص أزمتنا عند تركي الحمد هو أن :
1 ـ العالم ( أو المحيط ) من حولنا متغير .
2 ـ إدراكنا لهذا العالم ( المحيط ) يتم بواسطة ( مجموعة من المفاهيم والتصورات والمصطلحات والكلمات ) تنقل لنا ( المحيط ) الذي هو بطبيعته متغير . إذاً :
3 ـ لا بد أن تكون تلكم المفاهيم متغيرة ، وإلا فإنها ستتحول إلى وسيط مزيَّف إذا ( ثبتت ) و ( سكنت ) .
4 ـ أزمتنا أننا ثبَّتنا المفاهيم وقدسناها لتكون حاكمة على الأشياء والعلاقات .
هذا هو ملخص الأزمة في نظر تركي ، ومشكلته أنه يستخدم مصطلحات عامة وليست محددة لنتبين مقصده بكل وضوح .
فهو ما دام قد نصَّب نفسه مفكراً يسعى إلى خدمة وطنه وأمته ومشخصاَ لأدوائها ومقترحاً حلول مشاكلها كان الأولى به أن يلجأ إلى لغة ( صريحة ) يفهمها من يوجه لهم هذه النصائح والحلول ، أما اللجوء إلى اللغة حمَّالة الأوجه فهو مما يزيد الأزمة تعقيداً ويشغل الأذهان ، يجول بها بين الظنون والاتهامات .
وجوباً على مقولتك أو ( تشخيصك ) السابق أقول نقضاً له :
أولاً : قولك بأن ( المحيط من حولنا متغير ) ما تقصد بالمحيط أو العالم من حولنا الذي هو متغير في نظرك ؟ وهو ما سيترتب عليه أن تتغير مفاهيمنا لأجله .
إن كنت تقصد بهذا العالم ظواهره الجغرافية الطبيعية من حولنا فهي لم تتغير مكوناتها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها فالسماء هي السماء ، والشمس هي الشمس ، والقمر هو القمر ، والجبال هي الجبال ، والأرض هي الأرض ، والبحار هي البحار وهكذا: الأنهار والماء والهواء والنار والشجر والحيوانات .
كل هذا لم يتغير منذ أول مخلوق وهو آدم ـ عليه السلام ـ إلى يومنا هذا .
وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير الأعراض الملازمة للأشياء ، من صحة ومرض ، أو سواد وبياض ، وحار وبارد ، وخشن وناعم . . . . الخ فهذه أيضاً لم تتغير منذ وُجدت الأرض .
وأن كنت تقصد بالمحيط المتغير هو الإنسان وطبائعه المختلفة فهذه لم تتغير ـ فالإنسان هو الإنسان ، يغضب ويرضى ، ويحب ويكره ، ويفرح ويحزن ، ويسعد ويتألم .
وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير هو ( الأخلاق ) فهذه ـ أيضاً ـ لم تتغير، والناس مجمعون عليها من قديم الزمان ، فالصدق هو غير الكذب ، والكرم غير البخل ، والشرف غير الذل ، والشجاعة غير الجبن ، والمروءة غير الخسة وهكذا .
الناس مجمعون على مدح الأخلاق الشريفة ، من صدق وشرف وشجاعة وكرم ومروءة وشهامة ونُصرة و . .
وهم مجمعون ـ أيضاً ـ على ذم الأخلاق الدنيئة ، من كذب ومهانة وجُبن وبخل وخسة ونذالة ومكر وخديعة و . . .
فهذه ( الأخلاق ) لم تتغير . والناس منذ نشأتهم إلى يومنا هذا يحرصون على أشرفها ويجانبون أرذلها .
وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير المحللات والمحرمات ، فهذه الأصل فيها الحل كما قال العلماء (1) ، وألا يُنتقل عن هذا الأصل إلا بوحي من الله . فهو المحلل والمحرم سبحانه . وقد نهى عباده أن يحللوا ويحرموا دون استناد على الوحي ، فقال: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب } .
فما أحله الله فهو حلال طيب .
وما حرمه فهو محرم خبيث .
وما كان من الأشياء محرماً ثم حُلَّل فهو حال تحريمه لا نفع للناس فيه ، وحال تحليله أصبح من الطيبات .
وما كان منها محللاً ثم حُرَّم ، فإنه حال حله نافع للناس ، وحال تحريمه أصبح من الخبائث التي لا نفع فيها .
إذاً فالمحللات والمحرمات تتبع الوحي ، وهي لا تتغير إلا بتغيير الوحي لها .
فالزنا ـ مثلاً ـ محرم في جميع الأحوال ، فلا يأتي يوم يُحلَّل فيه ، لأن الوحي انقطع بعد محمد e ، الذي أكمل الله به الدين ، فالزنا باقٍ على تحريمه إلى يوم الدين.(34/134)
أما أكل لحم الحمار الأهلي ـ مثلاً ـ فإنه كان محللاً في بداية الإسلام ، ثم تغير حكمه إلى التحريم ، لأن الوحي جاء بتحريمه بعد تحليله ، بالمرجع الوحي لا تعقب السنين وتغيرات الأحوال .
والوحي قد انقطع بوفاة محمد e ، واستقرت الأحكام بعده ، وعُرف الحلال والحرام ، وهو باقٍ على حكمه ـ من حل وحرمه ـ إلى يوم القيامة ، لا يستطيع أحد أن يغير هذا الحكم .
نعم : قد يرتكب انسان أو دولة المحرَّم ، بل وتقر القوانين لتحليله ، كمساواة المرأة بالرجل في الميراث ـ مثلاً ـ ولكن حكمه باقٍ عند الله على الحرمة لا يغيره اجتراء الناس على ارتكابه ، وسيلاقي من ارتكب هذا المحرم جزاءه ، سواء كان ارتكابه ذلك ينم عن كفر أو معصية .
وإن كنت تقصد بالمحيط المتغير هو أمور ( العقيدة ) وما يتبعها من غيبيات ، فهذه ـ أيضاً ـ لم تتغير . فالله ـ سبحانه ـ لم تتغير أسماؤه الحسنى ولاصفاته العُلى .
وهكذا الملائكة ، وهكذا الجن ، وهكذا الشياطين ، وهكذا الجنة وهكذا النار. . . الخ .
كل هذا لم يتغير .
قد تقول : بل هو متغير ، إن بعض البشر كانوا يعتقدون بإلهين اثنين ، وبعضهم بثلاثة ، وبعضهم بأكثر .
وبعض البشر ينكر الملائكة والجن والشياطين ، أو يتأولها ، وبعضهم لا يعتقد وجوب جنة ولا نار بل يكذب بمجمل البعث بعد الموت .
فأقول : كل هذا لم يغير شيئأ من ذلك ولو اعتقده بعض الناس . فالحق واحد لايتغير سواء عرفه الناس أم لم يعرفوه ـ وسواء اعتقدوه أم لم يعتقدوه .
مثال ذلك : لو أن شخصاً أبرز لنا رقماً من ألأرقام ، هو رقم واحد مثلاً ، ثم قال لنا : كم هذا ؟ فقال بعضنا : أثنان ! ، وقال بعضنا : بل ثلاثة ! ، وقال آخرون بل أربعة ! ، وقال غيرهم : بل خمسة ! ، وهكذا .
هل يُقال بأن الواحد قد تغير ؟! لا أحد يقول بهذا ، فالواحد هو الواحد ، ولو لم يعرفه الناس ، أو لم يصيبوه .
وهكذا أمور العقيدة والغيب .
بقي أن يقال للحمد بأن المتغير الذي يجب أن تقصده هو الوسائل أو عادات الناس
أما الوسائل فهي متغيرة ، ولا يجحد هذا عاقل .
فالناس عندما كانوا يستخدمون أرجلهم أو رواحلهم في السفر أو التنقل أصبحوا يستخدمون السيارة والطيارة .
وبعد أن كانوا يطبخون بواسطة إيقاد النار في الحطب ، أصبحوا يستخدمون الفرن بأنواعه .
وبعد أن كانوا ياكلون في أواني قديمة أصبحوا ياكلون في أواني حديثة .
وبعد أن كانوا يكتبون بالريشة والحبر أصبحوا يكتبون بالقلم .
وبعد أن كانوا يتحدثون مع البعيد بواسطة رفع الصوت ، أصبحوا يتحدثون معه بجهاز يكبر صوتهم أو ينقل صوت الاخر لهم .
وهكذا . . .
وهذه الوسائل هي نعمة من نعم الله على الإنسان الذي وفقه لاختراعها لتسهل له أمور معيشته . وقد امتن الله على السابقين بتيسير الوسائل المريحة لهم ـ في عهدهم ـ فقال سبحانه : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } .
وقال: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}.
وقال: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
وهكذا أبناء هذا الزمان سخَّر الله لهم من الوسائل المريحة والميسرة لمعيشتهم الشيء الكثير ، فالواجب عليهم شكرها لتدوم وتزيد . { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .
وحكم هذه الوسائل أنها حلال طيب مالم يلابسها محرم .
مثال ذلك : الساعة للرجل حلال طيب ، مالم تكن مصنوعة من ذهب ، فإنها تكون محرمة لاحتوائها على محرم ( أصلي ) وهو الذهب . وقس على هذا .
أما عادات الناس فإنها تتبع مجتمعاتهم ، وأذواقهم ، فتختلف باختلاف البلدان ، وهي ـ أي العادات ـ قسمان :
1ـ قسم يخالف الشرع(10) ، مثال ذلك عادة بعض المجتمعات في التحاكم إلى شيوخهم بدلاً من الكتاب والسنة ، فهذه عادة كفرية والعياذ بالله ، والواجب تغييرها ، وإرجاع الناس إلى التحاكم بالشرع ، وهكذا .
2ـ قسم لا يخالف الشرع : فهذا يترك أمره لأهل ذاك المجتمع أو البلد ، فإن رأوا فيه نفعاً أو معيناً على منفعة أبقوه ، وإن رأوا فيه ضرراً ، أو كان معيقاً لهم عن المنافع أزالوه باحسن منه .
مثال ذلك : عادة رجال بعض المجتمعات أو البلدان بعدم تغطية رؤسهم .أو عادتهم في تأخير جزء من المهر وهكذا غيرها من العادات التي لم يحرمها الشرع ، فهذه ترجع إلى حال الناس .
إذن : اتضح لنا أن المتغير أمور يسيره تتبع وسائل الناس وعاداتهم ، ولكن الحمد قد ضخَّم الأمر وهوَّله على القارئ ليجعله متهيئاً لكل تغيير يريده ( المفسدون ) ، ولو كان تغييراً إلى الأسوأ والأحط والأسفل .(34/135)
وهذه ( النغمة ) التي استخدمها الحمد قد استخدمها قبله آخرون من أبالسة هذا الزمن وكبراء رهط المفسدين الذين قال الله عنهم : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} . ولكنهم فشلوا في تحقيق مايريدون .
ثم جاء الحمد متأخراً ليردد نغمتهم ويُرَجَّع صداهم في بلاد لا تتأقلم مع أي تغيير مفسد ، لكي يجعل لهذا التغيير ( المأمول ! ) قاعدة ( عقلية ) أو ( ثقافية ) .
وإلا فإنه لو كان مخلصاً لدينه ، أو صادقاً مع مجتمعه لطالبهم بالالتزام بالإسلام التزاماً جاداً ، لأته يدعو إلى كل فضيلة ، ويُبعد أبناءه عن كل رذيلة ، وطالبهم ( بتغيير ) عاداتهم المخالفة اللإسلام ، أو الضارة بالمجتمع .
ثم طالبهم وحثهم على الارتقاء في سلم الحضارة ( الدنيوية ) التي تزدهر بها البلاد ، وتترفع بها عن الاتكال على الآخرين ، من انشاء المصانع النافعة المتنوعة وتطوير لأساليبها وتسهيل لمرتاديها وتشجيعهم على خوض غمارها وجلب كل نافع لها من خبراء أو معدات متطورة ، وتوسع في مجالات الزراعة ، وتنويع انتاجها ، واهتمام بكل عقل نابه من ابنائنا ومساعدتهم على تطوير موهبتهم والتفرغ لها وجلب لهم ما يحتاجونه ، وتأمين وسائل المعيشة لهم ليُنتجوا وينافسوا غيرهم دون ( خوف ) أو ( حذر ) .
وهكذا مطالبتهم بالاهتمام بأمر المرأة المسلمة وأن تنال حقها من العلم الذي ينفعها والمناسب لطبيعتها ، كمعرفة أمور دينها ، ومعرفة الطرق السليمة للتعامل مع الطفل منذ ولادته ، ومعرفة أساسيات الصحة ، والأجهزة المتنوعة التي تتعامل معها في البيت .ومعرفتها كل جديد مفيد لها ? كتعلم الحاسب الآلي أو الاقتصاد المنزلي ، أو فن التنسيق أو الديكور. . الخ .
والمطالبة بأن تعمل المرأة ( المضطرة لذلك ) في ما يتوافق مع الإسلام ، ويتلاءم مع تكوينها وطبيعتها لكي تسهم في شغل وقتها بما ينفعها ويفيد مجتمعها دون أن تضطر لارتكاب محظور .
كان الأولى بالحمد ـ وهو المفكر الذي يدعي النصح لمجتمعه ـ أن يطالب بهذا ليكون من ( المصلحين ) الذين ينفع الله بهم ويبارك في آثارهم ، ويُصلح في الآخرة بالهم .
أما ترديد كلمة ( التغيير ) باسلوب مجمل لا ينقل معنى محدداً ، فهو من تضييع الجهود ، وتعميق جراح الأمة ، والتمهيد لها أن تتنكب سبيل الحق والفلاح في الدنيا والآخرة . وهذا ما لا نرضى للحمد أن ( يقدم ) قومه فيه .فإن ( التقدم ) أحياناً قد يقود إلى النار! قال سبحانه عن فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} .
أما دعوة ( نسبية ) الحقيقة وهو ما يُلمح من وراء أسطر الحمد في كتاباته فيقال في رده بأن " نسبية الحقيقة" إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة ، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع ، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة ، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى .
فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس " والذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره ، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت ، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين والعلم ، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت ، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم ، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم ، وصار الربط عنذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة ، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين : الغربية والإسلامية ، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة " في الثقافة الإسلامية .
من أول صور التصادم ما أثاره طه حسين في كتابه " في الشعر الجاهلي " عام 1926م ، فقد تعرض لنصوص قطعية الثبوت قطيعة الدلالة ، تحدثت عن ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام للكعبة ، وتشكك في تلك الحقيقة ، وحتى في وجودهما التاريخي ، وفي هجرتها ، ورأي أن قريشاً اختلقت تلك القصة لأسباب سياسية واقتصادية ، ورأي فيها نوعاً من الحيلة لأثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية ، والقرآن والتوراة من جهة أخرى .(34/136)
ومن صور التصادم أيضاً حديث الدكتور حسين أحمد أمين في كتابه (( حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية )) عن حد السرقة الذي ورد فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة في قوله سبحانه وتعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فقد ربط الدكتور بين ذلك الحد وبين الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية آنذاك ، وبين أن العربي كان ينقل كل متاعه على راحلته ، وإن سرقته تعني كل مايملك من جهة ، وتعني هلاكه من جهة ثانية ، لذلك جاء الحكم بتلك الصورة ، لأنه مرتبط بالأموال المنقولة ، والآن أصبحت الأموال غير المنقولة أثمن وأغلى من الأموال المنقولة ، لذلك فهو يقترح تغير الحكم انطلاقاً من تغير الوضع الاقتصادي .
أما نصر حامد أبو زيد ، فقد تحدث في كتابه (( نقد الحطاب الديني )) عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجالات عدة منها : صفات الله ، وفي الحسد والسحر والجن والشياطين ، وقد اعتبر أن الألفاظ الأخيرة مرتبطة بواقع ثقافي معين ، ويجب أن نفهمها في ضوء واقعها الثقافي ، وإن وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني ، وقد أصبحت الآن ذات دلالة تاريخية ، وهذا ينطلق في أحكامه السابقة من أن النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة ، تم إنتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي ، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة (( دي سوسير )) في التفرقة بين اللغة والكلام ، وينتهي أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية للمناهج اللغوية المشار إليها سابقاً .
أما الدكتور محمد شحرور في كتابه (( الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة )) ، فقد اعتبر أن جميع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجال الحياة الاجتماعية: كالنكاح ، والطعام ، وفي مجال الحدود : كحد السرقة ، والزنى ، والحرابة ، والقتل العمد ... إلخ وفي مجال الأحكام : كتوزيع الميراث ، وأخذ الربا ... إلخ ، جميع تلك النصوص خاضعة لاجتهاد رسم له حدين : أدنى وأعلى ، وقد اعتبر أن سنة الرسول eهي اجتهاد محمد e لتطبيق حدود الإسلام ضمن بيئة الجزيرة العربية ، وبالتالي ، فإن تطبيقه لها ليس ملزماً لنا في شيء !
لاشك في أن نسبية الحقيقة هي النظام الذي يشمل كل تلك الطروحات بدءاً من تشكك طه حسين في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وفي واقعة بنائهما الكعبة ، ومروراً بربط حسين أحمد أمين لحد السرقة بظاهرة الأملاك المنقولة ، وباعتبار نصر حامد أبو زيد السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالة تاريخية ، وانتهاء باعتبار محمد شحرور جواز تأرجح الحد بين اجتهادين أعلى وأدنى .. ولا أريد أن أكرر الحديث عن الخصوصية التاريخية التي جعلت ثقافة الغرب تقوم على نسبية الحقيقة ، ولا أريد أن أفصل مناقشة رأي كل كاتب فيما يتعلق بالنصوص القطعية الثبوت ، القطعية الدلالة التي تعرض لها ، ولكني أرد موجزاً مختصراً فأتساءل : هل يجوز لطه حسين أن يرد نصوصاً قطعية الثبوت قطعية الدلالة في شأن وجود إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ وفي شأن بنائهما الكعبة لا لشيء سوى لوجود أساطير مشابهة قبلها الرومان عن بناء روما من باينياس بن بريام صاحب طرواده اليونان ؟ لماذا يربط حسين أحمد أمين بين حد السرقة والأموال المنقولة ولا يربط ذلك بفعل السرقة الشنيع ، وما يشتمل عليه من ترويع وتخويف واعتداء على المسروق ، وما يصوره من طمع السارق ودناءته وتطلعه إلى ما في يد الغير بغير حق مشروع ؟ لماذ يعتبر نصر حامد أبو زيد الكلمات : السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية ؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نعفي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات دلالات تاريخية ؟ لماذا يخضع محمد شحرور الألفاظ القرآنية للتحليل اللغوي المعجمي ، مع أن الإسلام أخرج كثيراً من الألفاظ من معناها اللغوي وجعلها مصطلحات أعطاها معاني أخرى أمثال : الصلاة ، الزكاة ، الأيمان ، الكفر ، الحد… … إلخ ، وعليه أن يحترم هذة المصطلحات عند أي بحث علمي ؟
والآن أعود إلي نسبية الحقيقة التي تتصادم مع النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يؤدي إلى ثبات الحقيقة ، وأتجاوز الظروف التاريخية التي جعلت نسبية الحقيقة جزءاً أساسياً من ثقافة الغرب ، والتي تختلف عن ظروفتا التاريخية وأتساءل : هل حقاً ليس هناك ثبات في الحقيقة ؟ ومن أين جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في ثقافتنا الإسلامية ؟ وما سنده الواقعي في صيرورة الكون ؟
إن الإجابة عن الأسئلة السابقة تقتضي أن نقرر أن هناك ثباتاً في الحقيقة ، وإلا لما سميت حقيقة ، وبشكل أدق جاء الثبات في الحقيقة من ثبات بعض النواميس التي تحكم الكون ، ومن الفطرة التي قال الله عنها : {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .(34/137)
ومن مظاهر الفطرة الثابتة إلى مدار التاريخ : التعبد ، وحب التملك ، والتجاذب بين الذكر والأنثى ، وإعلاء قيم الصدق والأمانة ، وإسفال قيم الكذب والخيانة ... إلخ لذلك جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الشريغة ليعبرعن تلك الحقائق الثابتة المنغرسة في الفطرة ، فكانت أحكام العقيدة أحكام العبادات ثابتة ، لأنها تتعلق بفطرة التعبد ، وكانت أحكام فرضية الزكاة وتحريم الربا ، وتشريع حد السرقة ثابتة ، لأنها تتعلق بفطرة حب التملك ، وكانت أحكام الخطبة والزواج والطلاق ثابتة لأنها تتعلق بفطرة التجاذب بين الذكر والأنثى ، وكانت أحكام مدح الصادقين وإجزال مثوبتهم ثابتة لأنها تتعلق ببعض الأخلاق الفطرية .
في النهاية نقول : طالما أن هناك فطرة ثابتة لا تتغير فهناك حقائق ثابت لا تتغير، وهذا ماقادت الظروف التاريخية أوروبا لإنكاره ، وليس بالضرورة أن يكون الصواب مع أوروبا ))11 .
ثم قال الحمد تحت عنوان ( الخصائص العامة للثقافة العربية ) بأن ( هناك ثقافة عربية واحدة ، وهنالك ثقافة عربية فرعية) 12 كما أن هناك (ثقافة إنسانية شاملة )13 وهناك (ثقافات قومية مختلفة ذات تباين وتمايز واضح)14 وهناك (الثقافات الوطنية (القطرية) والمختلفة والمتباينة)15وهناك (ثقافات فرعية متباينة في ذات الإطار الوطني)16 .
ثم يقول تركي : (ما نريد قوله إن المسالة ليست قطعية ومطلقة أو آحادية الجانب بحيث يمكن القول مثلاً إن هنالك ثقافة عربية واحدة ولا شيء عداها ( التيارات القومية ) أو إن هنالك تراث إنساني وحسب ( التيارات الأممية ) أو إن هناك تراث ديني وحسب ( التيارات الدينية ) أو إن هتاك ثقافة وطنية وحسب ( التيارات القطرية ) ، بل إن المسالة متشابكة ذات أبعاد تعددية وليست آحادية . نعم هناك ثقافة عربية واحدة ذات خصائص محددة ومعينة مشتركة ولكن إلى جانبها ، أو في إطارها ، هناك ثقافات فرعية لا يمكن حصرها . فعلى المستوى الأفقي هنالك ثقافات وطنية ( قطرية ) متمايزة ، وفي ذات الأقطار هنالك ثقافات إقليمية متمايزة هي الأخرى ، وعلى مستوى الإقليم هنالك تمايز أيضاً وهكذا . وعلى المستوى الرأسي (سواء على مستوى الجامعة القومية أو الجماعية الوطنية وما هو أقل من ذلك ) هنالك ثقافات متمايزة أيضاً : ثقافية قبلية ، مدنية ، جماهيرية نخبوية ، فلاحية ، عمّالية ، طلابية ، أكاديمية . . . الخ. موطن الداء والعلة ليس في التمايز والاختلاف بين الثقافات على اختلاف أنواعها ، إذ أن ذلك من طبيعة الوجود البشري على هذه الأرض ، ولكن الداء والعلة يكمنان في الوقف " الصفري " أو الآحادي من هذه الثقافات وتمايزها . وبذلك نعني أنه عندما توضع المسألة على أن الاعتراف بإحدى هذه الثقافات لا بد وأن يكون على حساب الثقافات الأخرى .
ولتوضيح المسألة نقول : عندما يقول الأممي بثقافة إنسانية معينة شاملة : (إسلامية ، مسيحية ، بروليتارية ، . . . ، الخ ) فإن ذلك لاعيب فيه ولا تثريب ولكن عندما يقول بآحادية هذه الثقافة وإطلاقها ونفي ما عداها فإننا والحالة هذه بصدد موقف دوغماتي شوفيني مناقض لواقع الأمور وطبيعتها ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الموقف القومي أو الوطني القطري أو نحو ذلك عندما ينحو منحىً آحادياً صفرياً . هذه هي العلة وهذا هو الداء).(1)
ثم يقول : (خاتمة القول : هنالك ثقافة عربية مشتركة ، كما أن هنالك ثقافة وإرثاً إنسانياً مشتركاً ، ولكن في ظل هذه الثقافة المشتركة هنالك ثقافات فرعية أخرى ( أفقية ورأسية ) متمايزة ومتعددة . ويجب الاعتراف بمثل هذه التعددية الثقافية إذا كان المراد الانطلاق من أرض الواقع وآليات هذا الواقع للتحكم في تحديد مسار هذا الواقع من أجل تحقيق الأهداف والغايات المرجوة . أما إذا بقيت الآحادية هي المنهج والدوغما هي المعتقد والشوفينية هي منطق الايديولوجيا فإننا في هذه الحالة لن ندرك الواقع ولن نستوعبه ونفهمه وبالتالي لن نستطيع التحكم فيه وفي مساره ومن ثم لا أهداف تتحقّق ولا غايات تتجسّد بل تبقى طواحين الهواء ودون كيشوت (2)) (3)
قلت :لم يأتِ تركي بجديد في هذا الموضوع ، فالجميع ـ كباراً وصغاراً ! ـ يعلمون أن هناك أدياناً وثقافاتٍ متباينة تعيش على هذه الأرض ، في زماننا هذا ، وفي الأزمان الماضية منذ أن تفرق الناس أشتاتاً بعد أن كانوا مجتمعين على دين واحد ، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل .
يقول الله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.(1)
قال ابن عباس _رضي الله عنه _ : (كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعةٍ من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين) (2).
فالناس قد كانو مجتمعين على دين وثقافةٍ واحدة قبل أن يسلك بهم الشيطان ذات اليمين وذات الشمال ويغويهم عن دينهم .
مما ترتب عليه أن كانت الرسل تُبعث فيهم لتدعوهم إلى ما كانو عليه من توحيد ربهم ، وتردهم إلى الصراط المستقيم ، وتبشر المتقين ، وتنذر الضالين .(34/138)
ثم كان خاتمهم محمد e الذي أرسله الله رسولاً إلى الإنس والجن _ جميعاً _، وختم به الوحي ، فلا يُقبل من أحدٍ ديناً بعده سوى دين الإسلام.
قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1)، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2)، وقال : {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(3)، وقال : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4)، وقال : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
أما قول الحمد بأنه (يجب الأعتراف بمثل هذه التعددية الثقافية ) .
فماذا يعني بهذا الإعتراف ؟
إن كان يعني الاعتراف ( بوجود ) هذه التعددية ، فهذا لم ولن يعارضه فيه عاقل ، لأنه واقع بلا ريب ، يراه الجميع .
وإن يعني الاعتراف ( بصحة ) هذه التعددية ، فهذا يحتاج إلى تفضيل :
1 ـ إذا كان يعني بصحة تلك التعددية ، أي صحة مايعتقده أهل الأرض من ثقافات وأديان مخالفة لدين الإسلام ، فهذا ـ والعياذ بالله ـ كفر صريح ، لأنه رضي واعتراف بصحة ( الكفر ) وما عليه أهله ، وهذا مناقض للمعلوم من دين الله بالضرورة : وهو صحة الإسلام وبطلان ما عداه من أديان ، سواء كانت أديان المشركين على مختلف أصنافهم ، أم أديان أهل الكتاب (اليهود والنصارى) التي حرّفوها ثم جاء الإسلام بنسخها (1).
وهذه -- والله - من أعظم المصائب أن يقع فيها كاتب مسلم تربى في بلاد التوحيد ، ودرس وتعلم الكتاب والسنة ، ثم بعد هذا يدعونا إلى الاعتراف ( بصحة ) ما عليه أهل الكفر من عقائد وثقافات ، وهو ـ كما سبق ـ كفر صريح تجب التوبة منه .
2- أما إن كان يعني ( بصحة التعددية ) أي صحة ما عليه ( بعض ) تلك الأمم من تطور مادي لا دخل له بأمور الدين ، فقد أخطأ في العبارة ، وكان الأولى به أن يُطالب أمته ـ كما سبق ـ بالاستفادة مما عليه الآخرون من تطور مادي ، وهو مبذل للجميع يستطيع أن يناله من أتخد له الأسباب الموصلة إليه ، دون رضىً بأديان الكفار وثقافاتهم !.
والذي أظنه أن الحمد لا يعني هذا وإنما يعني الاعتراف بما عند الآخرين من أديان وثقافات وأن لا نحاول أن نكون آحادي النظرة فندعوهم إلى ديننا (الإسلام)!!.
وهذا واضح من عبارته ، لأنه عمم التعددية الثقافية ، ولو كان يعني التطور المادي ـ مثلاً ـ لخصص ذلك بالدول المتقدمة ( دنيوياً ) أو استخدم لفظ (الحضارة) بدلاً من (الثقافة ) على أقل تقدير .
إذاً : فتركي الحمد يدعو إلى الاعتراف بوجود أديان الكفار على مختلف أجناسهم ، ويدعو المسلمين إلى عدم تغيير هذا الواقع بدعوتهم إلى الدين الحق .
وأيضاً : يدعوهم إلى عدم الاعتزاز بالإسلام وأنه الدين الصحيح ، وأنما هو مجرد دينٍ من الأديان ، لا ينبغي لأهله الفخر به !!!
كما سيأتي في كلام هذا (الضال ) .
بعد هذا قام الحمد بوصف ثقافتنا العربية المعاصرة بعدة خصائص عبر نقاط متتالية .
يقول تركي : (إذا نظرنا إلى الثقافة العربية وما يتفرَّع عنها من ثقافات فرعية رأسية وأفقية ، نجد أنها كلها ورغم تمايزها وعند مستوى معين من التجريد تتَّصف بالخصائص التالية :
أولاً : ماضوية في مقابل المستقلة) (1)
ومعنى هذا عند تركي : (أن المستقبل في حالة الثقافة العربية وآلية إدراكها يقع هناك في الماضي وليس هناك في المستقبل التاريخي المحسوس والمحكوم بآليات الواقع وديناميكية التحول والتغير . والعقل العربي المنبثق عن هذه الثقافة القياسية والمنبث في مختلف أوجه الفعل الإنساني ( العقل السياسي ، الاجتماعي ، الاقتصادي ، والتاريخي . . . الخ ) ينقل هذه الآلية إلى كافة تفصيلات الحياة العربية بحيث إنك قد تجد أحدهم يرفض استخدام الملعقة في الطعام مثلاً لأن الأوائل ( النموذج المتسامي ) لم يفعلوا ذلك بكل بساطة . نعم إن هذا مثال موغل في المبالغة ولكنك تجد أمثلة مشابهة تؤكد القياسية والمدرسية في الثقافة العربية بشكل عام ، وما بعض التيارات الإسلامية المغالية في إسلاميتها ، حسب فهمها وزعمها ، إلا التعبير الأشد تطرفاً لهذه الخصيصة من خصائص الثقافية العربية ، وإلا فإن المسألة عامة وشاملة وإن اختلفت درجة الاقتراب أو الابتعاد) (2).
قلت : هذه هي الخصيصة الأولى من خصائص ثقافتنا عند تركي الحمد ، وهي أنها ماضوية ) ، أي أنها تعيش في الماضي ، وتقيس أحداث الحاضر والمستقبل على الماضي ، وهو ( النموذج المتسامي ) ، ويعني به عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، رضوان الله عليهم ـ !!
تعليقاً على هذه الخصيصة أقول :(34/139)
أولاً : إن هذه ( الماضوية ) التي جعلتها وصمة عار في جبين ثقافتنا هي مايدعونا الله إليه في كتابه الكريم ! وذلك في قوله تعالي : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر )(1) فهو تعالى يطلب منا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا واسوتنا في أقوالنا وأعمالنا ، يحذرنا سبحانه من مخالفة أمره e {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاش في هذا الماضي الذي تزدريه ، وهكذا خلفاؤه الكرام الذين أمرنا e باتباع سنتهم ، وبقية الصحابة والسلف الصالح الذين أمرنا باللحاق بركبهم
فإن كنت يا تركي تزدري ثقافتنا بأنها ( ماضوية ) أي أنها تتخذ من رسول اللهe وهو الذي عاش في ( الماضي ) أسوة وقدوه لها في أقوالها وأعمالها فقد هويت بنفسك في مكانٍ سحيق عندما اجترأت على القول ( الكفري ) المزدري لشريعة الإسلام .
وإن زعمت أن ( بعض ) المعاصرين قد يجتهد في أمور يزعم أنها غير جائزة لأن السلف لم يعملوها كالأكل بالملعقة ، وهو المثال الذي ذكرته ، وهو مثال في غاية الندرة لا يكاد أحد يفعله ـ فلا أدري لماذا قمت بتضخيمه وإبرازه !!؟
فهو اجتهاد فردي يُطالب صاحبه بالدليل الشرعي عليه ، وهل هو من الابتداع في الدين أم أنه من العوائد التي لا تخالف الشرع وتتبع عرف الناس،وهذا مبحث طويل ليس هذا موضوع التعرض له .
وإنما الاعتراض هو على تعميمك هذا المسلك النادر حتى وصمت به ثقافتنا كلها .
ثانياً : أنك أزدريت ثقافتنا ( الإسلامية ) بأنها ( ماضوية ) أي تعتز بالاسلام وبنبيها e وبصحابته وبالسلف الصالح ، ونسيت أن الثقافات الأخرى التي تقدمت دنيوياً ، والتي قد اشرأب عنقك إليها هي أيضاً ثقافات ماضوية ، فهاهم اليهود يفخرون بدينهم وبعاداتهم في زيهم وماكلهم ومشربهم ، وهي تسبق الإسلام بمئات من السنين ، ولم تتخذ من هذه الماضوية مطعناً فيهم أو ازدراءً بثقافتهم ، ومثلهم النصاري الذين درستَ عندهم ، وهم أيضاً ماضويون باتخاذهم ( النصرانية ) ديناً لهم ، وإقامتهم كنائسها ( وتبشيرهم ) بها ، والاعتزاز بمبادئها وأعيادها ، ولم ينلهم منك ما نال أمة الإسلام من الازدراء بثقافتهم .
بل هذه الثقافات ( الماركسية ) و ( البعثية ) و ( القومية ) وهي ما تدندن حوله ! لاتزال تفخر بروادها الذين أبلى التراب أجسادهم وتردد مقولات (ماركس)(1) ، و( عفلق)(2) و(ساطع الحصري)(3) وكأنها قرآن منزل من عند الله ! ولم ينلهم منك أي ازدراء لهذا التمجيد والدعوة لاحتذاء أفكار ( الماضين ) .
أما نحن المسلون فيغيظك ـ يا تركي ـ أننا نتبع أفضل رسول بعثه الله إلى الناس ، بخير رسالة نزلت فيهم ، فتزعم أن هذا مما يعيبنا ويعيب ثقافتنا .
فلا حول ولا قوة إلا بالله .
أما إن زعمت بأن ثقافتنا ( الماضوية ) قد دخلتها البدع والخرافات ، فليس الحل بأن ننسلخ من جميع هذه الثقافة ونلغي ارتباطنا ـ والعياذ بالله ـ وإنما الحل يكون بتطهير هذه الثقافة من البدع والزيادات فيها ، والدعوة إليها صافية نقية كما أُنزلت على محمد e .
ثالثاً : نقول لك بأن الماضي ـ سواء كان زماناً أو أفعالاً أو أقوالاًـ لايذم لأجل أنه ( ماضي ) فهذا لا يقوله عاقل ، وإلا لذممنا كل مامر من حياتنا ولو للحظات. فحياتنا الماضية مذمومة ، وحياة آبائنا مذمومة ، وحياة آبائهم مذمومة . . . وهكذا ، وهذا ـ كما سبق ـ لا يقوله عاقل .
فالذي يوصف بالذم هو ما وقع في هذا الماضي من أقوال أو أفعال ذميمة ، أما الأقوال والأفعال النافعة فهي مما يمدح أينما وقعت ، سواءً في الماضي أم الحاضر ، والله سبحانه قد آثنى على أمم قد عاشوا في الماضي لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فقال : {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1) .
وعاب أمماً عاشوا في ( الماضي ) لأنهم كفروا وعملوا السيئات ، فأهلكهم ، وقال عنهم : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1).
الحاصل : أن صفة ( الماضوية ) ليست صفة ذم مطلقاً وليست ـ أيضاً ـ صفة مدح مطلقاً ، وإنما الذم والمدح يتبع الأقوال والأعمال ، فما كان من الأقوال والأعمال نافعاً يرضاه الله فهو ممدوح في أي زمانٍ كان ، وما كان منها ضاراً لا يرضاه الله فهو مذموم في أي زمان كان .
أما إن قال تركي : أنا لا أذم الماضي لمجرد كونه ماضياً ، وإنما أذم ثقافتنا لأنها اتخذت الماضي مثالاً ومقياساً تقيس به حياتها .
فأقول : هذه أشد وأدهى لأنك عبتنا لأننا نتخذ من ديننا ميزاناً لأقوالنا وأعمالنا ، ومعنى هذا أنك تطالبنا بأن نتنكر للإسلام ولا نؤمن به ولا نلتزم بأوامره وننتهي عن نواهيه ، وهذا كفر مخرج من الملة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .(34/140)
ثم أخبرك أنت وأمثالك ممن يدعي أن الالتزام بالإسلام مما يعوق الأمة عن التقدم ، وهو ما تلمحون إليه ولا تصرحون ، أخبرك بأن هذه شبهة باطلة ، لأن دين الإسلام يدعو إلى اتخاذ كافة الوسائل المشروعة للارتقاء بأهله في سلم الحضارة المادية فالله يقول : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) .
وهذه القوة تشمل كل أمر دنيوي يرقي الأمة ، ويجعل أعداءها يهابونها ويقدرونها ولا يستهينون بها ، من اعتناء بالتقنية الحديثة ، والصناعات المتنوعة . . . الخ الأمور المادية التي ترهب العدو وتُعز الأمة .
فهل عارض الإسلام ( الصحيح ) يوماً ما مثل هذا ؟ هل عارض الإسلام مثلاً انشاء المصانع وتشييد الآت الحرب أو النقل وتطوير وسائل الاتصال المتنوعة ؟
لا . . لم يعارض هذا ، وإنما عارض أن ينتشر الفساد الفكري والأخلاقي في ديار الإسلام تحت دعاوي ( التقدم ) و( التطور )، وهو ماتسعى إليه أنت وأضرابك!.
ثم قال تركي واصفاً ثقافتنا بالصفة الثانية : وهي أنها (اسطورية في مقابل الواقعية) ( ) !
ومعنى هذا عنده (أن ما يُميز الثقافة العربية في هذا المجال هو ميلها إلى "أسطرة " الوقائع التاريخية إن صح التعبير بشكل أكبر ، وخاصة في أعقاب ما يُسمى بعصور الانحطاط وحتى هذه اللحظة تقريباً ، إذ أن " الثبات " هو أيضاً من خصائص الثقافة العربية على اختلاف وجوهها ومستوياتها وتفرعاتها وذلك في ما يتعلق ببنيتها الأساسية . فالعقل العربي ( من ثم الثقافة العربية ) يميل إلى أن يصبغ أحداثاً تاريخية معينة بـ " الفرادة " والتفرُّد ورفعها إلى مصاحف الرمز المتسامي الذي لا يتكرر ، فتتحول هذه الأحداث وأبطالها إلى " أساطير " ( بعد الاختزال والإضافة ) لايمكن أن تتكرر في التاريخ المعلوم ولكنها تبقي أملاً وحلماً مانحاً قيماً معنية يُهتدى بها ولكن لا يمكن الوصول إليها بشكل مطلق) (1) .
قلت : يقصد تركي بالاحداث التاريخية المعينة التي جعلتها الأمة كالأساطير هي أحداث الفتوحات الإسلامية منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ مروراً بالفاتحين من أمثال قتيبه بن مسلم ، وموسى بن نصير ، وطارق بن زياد ، ومحمود بن سبكتكين ، ونور الدين زنكي ، وصلاح الدين وغيرهم من الأبطال.
والأمة ـ كما يعلم كل أحد ـ لم تجعل بطولات هؤلاء العظماء أساطيراً ! إنما افتخرت بها ، وتغنت بتلك لأمجاد الماضية التي اعتز فيها الإسلام ، وذل فيها أهل الكفر و ( النفاق ! ) .
والأمة لم تقل بأن تلك الأحداث لا يمكن الوصول إليها ولا إلى مثلها ، فإن هذا من اختراعات تركي الحمد ، بل الأمة تحاول استعادة تلك الأمجاد والبطولات في كل زمان ومكان ؛ لأن الجهاد " ماضٍ إلى يوم القيامة " فلا مانع من أن تكون تلك البطولات مثالاً يحتذى في واقع المسلمين ، ولا مانع أن يتكرر مثلها ـ ولو رغم أنف تركي ! ـ .
فلا أدري بعد هذا ماذا يعني تركي بقوله بأن ثقافتنا ( أسطورية وليست واقعية) ؟ أم أنها كذبة من كذباته يتكثر بها في كتابه (1).
ثم قال تركي مبيناً الصفة الثالثة من صفات ثقافتنا بأنها : (أحادية في مقابل التعددية) (2) .
أي : (إنها ثقافة تنظر إلى نفسها على أنها تتمتع بـ "فرادة " معينة تميزها عن غيرها من الثقافات . مثل هذا الموقف لا غبار ولا تثريب إذ أن التمايز صفة من صفات الثقافات في تعددها واختلافها . غير أن الثقافة العربية ، كما تطرح نفسها من خلال الخطاب والممارسة ، تتجاوز مسألة التمايز لتقول بالفرادة ومن ثم ، كنتيجة منطقية ، القول بعلوية الثقافة العربية على ما عداها من ثقافات) (1) .
ثم يقول : (إن ما يُميَّز الثقافة العربية وانعكاساتها السياسية والاجتماعية على وجه الخصوص ، هو أن الشمولية العربية تطرح نفسها ( من خلال الخطاب والممارسة) على أنها أبدع ما بالإمكان مقارنة بالآخرين وتربط هذه الآحادية والشمولية بالمرجعية " الرمزية الماضوية " فتمنحها بالتالي نوعاً من القداسة والفردية والعلوية) (2) .(34/141)
ثم يقول : (إن كل ثقافة تلجاً إلى آلية الدفاع عن الذات بشكل من الأشكال ، وهذا حق مشروع ، ولكن الملاحظ أن الثقافة العربية في دفاعها عن ذاتها تلجأ إلى عمليات النكوص والارتداد إلى الماضوية البحتة ( انظر الخاصية الأولى ) والرفض المرضي لكل وافد أو ما يعتقد أنه وافد لا يتواءم مع النموذج ـ المرجع ( انظر الخاصية الثانية ) المحدد ايديولجياً بشكل دوغماتي مغلق . والحقيقة أن الثقافة العربية في تعاملها مع " الآخر " تقع في نوع من " الشيزوفرانيا " والازدواجية القلقة من حيث انها تعرف في داخلها أن هذا الآخر متفوق عليها ولكنها ، وفق آليات الدفاع ، ترفض هذا التفوق وتحاول أن تبرز ضعفها ( المرحلي ) بكافة التبريرات الايديولوجية والقول بأن تفوق " الآخر " هذا هو مسألة مرحلية لا تلبث أن تنتهي وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي الذي هو علوية الثقافة العربية في نهاية المطاف . ومن ناحية أخرى ، فإن الثقافة العربية ( الذهنية العربية ) تنظر إلى الآخر على أنه " نموذج " يمكن الاستفادة منه ، ولكنها في ذات الوقت ترفضه وتحاول التمسك بأصالتها التي هي في حقيقة الأمر تلك النزعة الماضوية ( النكوصية ) المتحدث عنها سابقاً . بمعنى أنها ، أي الثقافة العربية ، تريد ولا تريد في نفس الوقت ، وهذا يُدخلنا في إشكالية ليس من السهل حلها وإن لجأ البعض إلى محاولات التلفيق والتوفيق التي ، وكما يقول الواقع المعاش ، لم تنجح كثيراً في مسعاها) (1) .
قلت : خلاصة هذا الكلام الطويل أن تركي الحمد يخبرنا بأن لا ننظر إلى ثقافتنا ( وهي الإسلام ! ) على أنها أفضل الثقافات ! أو أنها متفردة على غيرها !! والدليل أن الغرب قد تفوق علينا !! ولا زلنا ـ كما يقول تركي ـ نبرر هذا التفوق بأنه مرحلي ، وسرعان ماتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي وهو أن تعلو ثقافتنا عليه .
وقد احتوى هذا القول السابق من تركي الحمد على خلط وجهل ، و (كفريات ) لا يشك فيها مسلم ، حيث زعم هذا الجهول بأن علينا أن لا ننظر إلى ثقافتنا بأنها متفردة وأنها أعلى من غيرها ، فقارن بين الكفر والإسلام ، ثم فضُّل الكفر وأهله عليه ، لأنهم تقدموا ( مادياً ) ونحن لم نتقدم بعدُ ، فلهذا هم أفضل منا ، وثقافتهم ( ومن ضمنها دينهم ! ) أفضل من ثقافتنا ( ومن ضمنها الإسلام ! ) والعياذ بالله من هذا الكفر البيِّن .
ونسي هذا ( الأحمق ) بأن تقدم الغرب (مادياً ) لا يعني صحة ثقافته وأديانه ، كما أن تخلف بلاد المسلمين ( ماديًا ) لا يعني بطلان ثقافته ودينه ( الإسلام ) ، لأن هذا التقدم أو التخلف ( المادي ) لا دخل له بالأديان والثقافات ، فهو مبذول للجميع ، من اخذ بأسبابه وجَدَّ وثابر فقد حاز السبق فيه ومن تكاسل عن اسبابه ، وركن واعتمد على غيره فقد باء بالتخلف .
ولهذا نجد أن بعض البلاد غير الغربية كاليابان مثلاً قد وصلت إلى قمة التقدم ( المادي ) وتفوقت على الغرب فيه ، لأنها اتخذت الأسباب الموصلة إليه من استثمار أمثل للطاقات التي أودعها الله في الأرض ، ودعم لكل صاحب عقل مبدع في مجال التقنية دون وضع معوقات أو تثبيط كما يحصل في بلاد المسلمين ، ولهذا فقد وصلت إلى ما تريد .
وهكذا غيرها من الدول التي تخالف ( الغرب ) في ثقافته، ككوريا أو الصين.
الحاصل : أن ربط التقدم ( المادي ) بالأديان هو جهل عن حقيقة الواقع .
ثم يُقال : بأن من تقدم ( دنيوياً ) وكان غارقاً في الكفر فهو مذموم عند الله . وقد عاب سبحانه على أقوام مضوا كانوا متقدمين ( دنيوياً ) وعمروا الأرض مالم نعمرها ، وكانوا أشد منا قوة وبطشاً ومع هذا فقد عابهم الله ، ولم يعبأ بتقدمهم ولا بحضارتهم ، لأن المعول عليه عنده سبحانه هو اتباع أمره واجتناب نهيه ، أما الحضارة والتقدم فهي موهبة لمن أدرك اسبابها وتمثل بقول الشاعر :
وقَلَّ من جدَّ في أمرٍ يحاوله
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفرِ
قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1) ، وقال تعالى : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واقٍ ) (1) .
وهؤلاء الكفار المعاصرون هم كأسلافهم الماضين مذمومون عند الله تعالى لكفرهم وإعراضهم عن دين الإسلام ، ولن تنفعهم حضارتهم المادية عند الله شيئاً ، قال تعالى : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (2) .
فلا يجوز شرعاً وصفهم بعلو أو رفعة أو عزة لأن الله يقول {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .(34/142)
فالعلو والعزة هو للمؤمنين ، وأن كانوا غير متقدمين دنيوياً ، قال تعالى : {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) .
فوصف الله عباده المؤمنين بالعلو والعزة ، ووصف الكافرين بالذلة ، وأخبر بأنهم : ( شر البرية ) (5) ؛ لأن المقياس عنده تعالى هو الأمر والنهي .
وأما أمور ( الدنيا ) فهي حاصلة لمن أراد الله تحصيله إياها بفعله أسبابها .
قال سبحانه : {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (1) .
وليس معنى هذا أن نرضى بواقعنا ( المادي ) غير المتطور فنكون كلاً على الناس من شرق وغرب ، وإنما نجد ونسعى في سبل الفلاح الدنيوي وننافس القوم في تحصيل أسباب القوة .
الحاصل : أن تركي الحمد قد خلط بجهل بين أمور الدين وأمور الدنيا ، فجعل التخلف الدنيوي دليلاً على التخلف الديني ! وجعل التقدم الدنيوي دليلاً على التقدم الديني! ففضل الكافرين على المسلمين ، ولم يرتض للمسلمين أن ينظروا لإسلامهم على أنه المهيمن على سائر الأديان ، وهذا ـ كما سبق ـ كفر ، لايمحوه إلا التوبة النصوح إلى الله ، والانتهاء عنه .
ثم قال تركي مواصلاً حديثه عن ثقافتنا بأنها : (رغبوية في مقابل التاريخية) (2).
ويعني بهذا (اسقاط رغبات الذات على أحداث التاريخ الفعلي لا المفترض ، والنظر إلى أي حدث وكل حدث على أنه يسير في صالح هذه الذات ، وهذا ما نراه واضحاً بشكل خاص في الخطاب العربي المعاصر بشكل أخص الذي يرى ، مثلاً ، في كل حادثة وأي حادثة دليلاً أو مؤشراً على سقوط الغرب أو انتصار قيم الثقافة العربية وغير ذلك) (1) .
ثم يقول : (مسألة الرغبوية في الثقافة العربية المعاصرة خاصية ، تقودنا إلى آلية أخرى من آليات دفاع هذه الثقافة عن ذاتها في وجه الآخر المتفوق والعدو بالضرورة ، ألا وهي ما نسميه النزعة التبريرية في هذه الثقافة . فعندما تبدو معالم ضعف معين وانكسار محدّد فإن السبب في ذلك ، مثلاً ، ليس ذات الثقافة وبعض محدداتها ولكن أمور طارئة شكلية إذا ما استبعدت فإنه لا ريب أن ذلك العقل والثقافة راجعان إلى موقعهما الذي يجب أن يكونا فيه من علوية مفترضة . وإذا لم يحدث ذلك فإن الخلل أيضاً لا يمكن في بنية العقل والثقافة ولا يعني ذلك ضرورة مراجعة هذه البنية . بقدر ما أن أصابع الاتهام تشير دوماً إلى " الآخر " العدو دائماً والذي يمنع معالجة هذه الأمور الطارئة والشكلية . بمعنى آخر ، تتحول العملية في نهاية المطاف إلى قناعة دوغماتية بأن شرط العلاج الأول هو اختفاء " الآخر " ( غائية رغبوية ) وبدون ذلك فإن كل محاولة للعلاج لابد وأن تبوء بالفشل ( فعل تبريري ) . أما ذات العقل ومكوناته وذات الثقافة المفرزة لمثل هذه التطورات ومحدداتها فإنها تبقى بعيدة عن أي اتهام وبمنأى عن أي تحليل وتعليل ونقد) (1) .
قلت : أما مسألة سقوط الغرب ( أو الكفار عموماً ) فهي بأمر الله تعالى الذي لو شاء اسقاطهم لأسقطهم ، ولكنه يبقيهم لحكمة ـ وجميع أفعاله تعالى ذات حكمةـ فهو سبحانه يقول عن الكفار في كل زمان ومكان {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (2) .
فحكم بقائهم كثيرة إليك شيئاً منها :
1- أن يبلو المؤمنين بهم ـ كما سبق ـ فيعلم الصابرين والمجاهدين ، ويثيبهم على جهاد الكفار والانتصار لدينه ، كما في الآية السابقة .
2- أن الدنيا ليست دار جزاء ، وإنما هي دار ابتلاء ، ولو كانت دار جزاء لأهلك الله جميع الكافرين في طرفة عين . قال سبحانه {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} (2) . وقال : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (1).
فالدنيا يموج فيها المؤمن والكافر ، ويسعى كل منهم سعيه الذي سيلاقيه يوم الحساب .
3- أن لايبقى لهم نصيب ولا حظ في الآخرة ، حيث وافاهم الموت وقد أخذوا نصيبهم من الاستمتاع في الدنيا ، فلم يعد لهم عنده تعالى إلا النار مثوىً لهم خالدين فيها .
يقول سبحانه : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(2) .
ويقول : {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} )3)
ويقول : {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (4) .(34/143)
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ (إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم ، وقهرهم ، وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة عظيمة ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل .
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله . وانكسارهم له ، وافتقارهم إليه ، وسؤاله نصرهم على أعدائهم ، ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا . ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ، ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صَرَّفهم بين غَلَبهم تارة ، وكونهم مغلوبين تارة ، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم ، وأنابوا إليه ، وخضعوا له ، وانكسروا له ، وتابوا إليه ، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وجاهدوا عدوه ، ونصروا أولياءَه .
ومنها : أنهم لو كانوا دائماً منصورين ، غالبين ، قاهرين ، لدخل معهم من ليس قصده الدين ، ومتابعة الرسول . فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد . فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة ، وعليهم تارة . فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه .
ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء ، وفي حال العافية والبلاء ، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم . فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال . لا تحصل إلا بها ، ولا يستقيم القلب بدونها كمالا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد ، والجوع والعطش ، والتعب والنصب ، وأضدادها ، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .
ومنها : أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحّصهم ، ويخلصهم ، ويهذبهم . كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
فذكر سبحانه أنواعاً من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار ، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان ، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله ، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله .
ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولاً بين الناس فيصيب كلاً منهم نصيبه منها . كالأرزاق والآجال .
ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم ، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين ، فيلعم واقعاً .
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء ، فإن الشهادة درجة عالية عنده ، ومنزلة رفيعة لاتنال إلا بالقتل في سبيله ، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه ، وأنفعها للعبد .
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين ، أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو ، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم ، وعدوانهم إذا انتصروا .
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر . وأن حكمته تأبى ذلك . فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم .
فهذا بعض حكمه في نصره عدوهم عليهم ، وإدالته في بعض الأحيان) .
هذا عن مسألة انتفاش الكفار ـ والغرب منهم ـ في هذه المرحلة من الزمان، أما المستقبل فإن كل مؤمن يجزم ويؤمن بأن دين الإسلام سيهيمن على كل الأديان ، لقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
وسيكون هذا ـ والله أعلم ـ في زمن عيسى ـ عليه السلام ـ عندما يأذن الله بنزوله من السماء فينزل ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام .
قا صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده ، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الحرب ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها )) .
قلت : أما (تلميح) تركي الحمد بأن الخلل قد يكون في ثقافتنا ، فهو لم يوضح كعادته ما يعني بهذه الثقافة التي هي سبب تخلفنا ؟(34/144)
إن كان يعني بالثقافة (الإسلام) فقد سبق توضيح أن الإسلام يحث أبناءه ويحرضهم على الأخذ بأسباب التقدم الدنيوي ، وهذا لا يخفى إلا على جاهل يريد أن لايفهم ! وإن كان يعني بالثقافة شيئاً آخر في سلوكياتنا ومفاهيمنا فنرجو من هذا المفكر الألمعي ! أن يوضحه لنا .
بعد هذا عقد تركي الحمد فصلاً بعنوان (الثقافة العربية والثقافة العالمية) ملخصه أن العالم بعدها تحول إلى قرية صغيرة بفضل الاتصالات نشأ عن ذلك ثقافة (عالمية) يتفق عليها كل البشر ، ومثّل لهذا بـ (العقلانية ، والعلم التجريبي ، وضرورة التحول الدائم (الحداثة إن شئت) ، والتقنية وما يقف وراءها من عقل وذهن، ونحو ذلك) وهذه الثقافة قد (علت وسادت حتى أصبحت ثقافة عالمية بغض النظر عن المصدر والجذور ، وبغض النظر عن مشاعر الحب أو الكره ، القبول أو الرفض لمثل هذه الثقافة).
ثم بين أن اليابان قد استفادت من أسس هذه الثقافة العالمية دون أن تفقد شخصيتها الخاصة .
ثم قال : ( أما إذا جئنا إلى المنطقة العربية والثقافة العربية السائدة فإننا نجد أن العلاقة مع هذه الثقافة العالمية أو الثقافة الغربية إن شئت فالمسألة سيَّان ، أقول : إذا جئت إلى المنطقة العربية والثقافية فإنك ستجد مثل هذه العلاقة تشكل إشكالية معينة بل ومعضلة عويصة منذ أول احتكاك للعرب مع الغرب الحديث وحتى هذه اللحظة . ما الخطب هنا وما الذي جعل هذه " الفرادة" للثقافة العربية في تعاملها مع ثقافة هذا العالم المعاصر ( الثقافة الغربية ) بشكل لا يوجد تقريباً في الثقافة الأخرى عند تعاملها مع مثل هذه الثقافة ؟ في اعتقادي فإنه وبالنظر إلى خصائص الثقافة العربية والعقل العربي المتحدث عنها سابقاً فإنه يمكن الوصول إلى جواب معين اعتقد أنه مرضٍ وكافٍ. من خلال هذه الخصائص السابقة يتبين لنا أن الثقافة العربية تعتقد " العلوية " في ذاتها كانت تدرك حسياً أنها ليست كذلك في هذه المرحلة من التاريخ على الأقل . الإحساس بالعلوية هذا يجعل الثقافة العربية تتقوقع على ذاتها وعلى أصولها المُدَّعاة "الثابتة" خشية الاحتراف ومن ثم الذوبان في الثقافة العالمية الجديدة مما يفقدها "أصالتها" وبالتالي أحقيتها في العلوية وقدرتها على السيادة والصدارة . إنه هاجس العلوية والصدارة والسيادة العالمية للثقافة العربية هو ما يعيقها عن الاندماج في العصر والاستفادة من منجزات الثقافة الحديثة ) 60 .
( وقد يقول قائل : ( وما العيب في أن تطلب الثقافة العربية الصدارة ؟ أليست اليابان المعاصرة في طريقها إلى السيادة العالمية في ظل النظام الدولي الجديد الآخذ في التكوين ؟) وهذا سؤال مبرر ومشروع ، ولكننا نقول إن النهضة اليابانية والتي ابتدأت في عصر الميجي انطلقت دون أن تكون أسيرة مفاهيم ثقافية كالتي رأيناها عند الحديث عن خصائص الثقافة العربية .وهي ذات المفاهيم التي عرقلت حركة النهضة العربية الحديثة .هذا لا يعني القول بالانفصال المطلق في التجربة اليابانية بين القيم الثقافية الوطنية ومحاولات النهضة ، ولكن المعني منصرف هنا إلى القول إن النهضة اليابانية لم تكن أسيرة هذه المفاهيم بمعنى النظر إليها نظرة ثبوت وسكون وقدسية وإلا فإن إعادة تشكيل هذه المفاهيم كان أحد الحوافز التي أدت إلى النهضة اليابانية الحديثة . هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية فإن الثقافة اليابانية لم تكن أسيرة مفهوم الصدارة والعلوية والسيادة الواجبة كمضمون للنهضة ( الموقف الايديولوجي ) بل إنها اتجهت اتجاهاً براغماتياً شبه صرف أدى في النهاية إلى سيادة يابانية من نوع معين وبشكل معين )61.
قلت : عجيب أمرك يا تركي ! تطالب المسلمين بأن لا يعتزوا بإسلامهم ، وأن لا يروه خاتمة الأديان الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه وتطالبهم بأن يساووا أنفسهم مع الكافرين ، إن لم يكونوا أقل منهم ـ عندك ـ
ثم تقترح عليهم أن يتخلوا عن دينهم وينساقوا مع الثقافة العالمية ( المزعومة ) لكي يتقدموا ويتحضروا ! هذا هو ملخص فلسفتك السابقة .
والذي يَعْجب المرء منه أنك لا زلت تخلط بين مسألة التقدم ( الدنيوي ) وبين مسألة الأديان ، فمن كان عندك متقدماً في أمور الدنيا فهو خير من غيره . ولو كان يدين بدين ( الإسلام ) ! .
ومن كان مسلماً متأخراً في أمور الدنيا فهو شر من الكافرين ـ والعياذ بالله ـ .
وأجهل من هذا أنك ربطت التقدم ( الدنيوي ) بالتخلي عن الإسلام ، والأخذ بهذه الثقافة العالمية التي اخترعتها .والعقلاء جميعاً يعلمون أن التقدم ( الدنيوي ) لا دخل له بالثقافات ، وإنما هو مبذول للجميع ، فمن أخذ بأسبابه حصل عليه ومن آثر الدعة والكسل حُرمه ـ كما سبق ـ .
ودليل هذا أننا نجد بلاداً ( غير غربية ) قد نالت من هذا التقدم ( الدنيوي ) حظاً لا بأس به ، بالرغم من تباين ثقافتها كاليابان ، والهند ، وكوريا وغيرها .
بل نجد بلاداً إسلامية ـ ولله الحمد ـ بدأت تفيق من غفوتها وتسعى حثيثاً إلى حجز مكانها في هذا التقدم . كالباكستان مثلاً .(34/145)
ودليل هذا ـ أيضاً ـ أننا نجد كثيراً من الخبراء الذين ساهموا في تطور أرقى بلاد الغرب ( مادياً ) وهي أمريكا ، هم ممن يدينون بثقافات غير ثقافتها ، وإنما وهبهم الله مواهب عقلية استطاعوا بها استثمار طاقات الأرض وكنوزها ، ولما لم يجدوا من يعينهم في ديارهم لجؤا إلى بلاد الكفر فكانوا عوناً لها على تقدمها .
الحاصل : أن التقدم ( الدنيوي ) لا علاقة له ألبته بالأديان والثقافات، وإنما هو حاصل لمن استثمر مابثه الله في هذا الكون من طاقات ومخزونات .
والإسلام ـ كما سبق ـ يدعو إلى هذا الاستثمار ويحث أبناءه عليه ، فما على بلاد المسلمين وقد حباها الله الكنوز المدفونه في الأرض إلا أن تستثمر هذا كله ، وتتوكل على الله وحده ، وتشجع النابغين من أبنائها ، وتفتح لهم مجال الانطلاق في هذا التقدم ، دون أن تَحْذَر منهم ! أو تثبطهم ، أو تضع في دربهم العراقيل . فإنها بهذا كله واصلة ـ بلا شك ـ إلى ماوصل إليه الآخرون ، وجامعة بين سعادة الدنيا والآخرة ، وغيرها من الكفار وإن وصلوا إلى هذا التقدم فمثواهم النار وبئس المصير ولو رغمت أُنوف ( المنبهرين ) !
فليت الدكتور الحمد يفهم هذا ولا يربط التقدم الدنيوي لنا بالتخلي عن (الإسلام ) والأخذ بالثقافة العالمية التي اخترعها من عند نفسه . والله المستعان .
بعد هذا عقد الحمد فصلاً بعنوان (الثقافة العربية والسلوك السياسي العربي ) ملخصة أن السلوك السياسي هو عبارة عن ترجمة للثقافة التي يحملها المجتمع .
ولتوضيح ذلك ضرب الحمد مثالين لهذا .
أولهما : قضية حرب الخليج الأخيرة ، وحيث استخدم صدام في شعاراته أثناء الحرب ، لغة ( ماضوية ) تتحدث عن الدين وعن الصراع بين الإسلام والصليبية … الخ .
في لغة لا تعبر عن الواقع .
المثال الثاني : هو تعامل العرب مع قضية فلسطين حيث الرفض والتعالي على الواقع حتى خسرنا كل شيء .
ثم قال الحمد ( الماضوية والرمزية ـ الأسطورية ـ خلقت بالنسبة لقضية فلسطين انطباعاً ، بل اعتقاداً ميتافيزيقياً هلامياً معينأ من أن فلسطين لابد وأن تتحرر في يوم ما ، وينتهي الوجود الإسرائيلي برمته كيف ، اين ، ومتى ؟ هذه أسئلة عقلانية لا تجد إجابة لها لدى النخب فما بالك بالجماهير . هنالك مجرد حلم " رغبوي " بذلك يسقط على واقع الحال فتنبثق عنه ثلة من الرموز والأساطير . عندما يُقبل ذلك "المنقذ" من الغيب تتحرر فلسطين كما أقبل صلاح الدين وطرد الصليبيين من فلسطين ، وكما جاء قطز والظاهر بيبرس وهزموا أبناء التتار . هنالك بعد ميتافيزيقي غيبي بالنسبة لهذا المنقذ المفترض تعبر عنه الثقافة العربية عموماً والشعبية خصوصاً أفضل تعبير حين تربط الأشياء بالزعامة الفردية وقدرتها على الانقاذ الخارق ) 62 .
قلت : أما أن صدام حسين استخدم شعارات ( ماضوية ) فيعني بها تركي أن صداماً قد استغل الشعارات الإسلامية عند مواجهته للغرب ، وهذا أمر واقع ، والذي دعاه لهذا هو محاولته كسب تعاطف الجماهير الإسلامية المتعطشة لجهاد أعداء الله ، لاسيما مع تنامي المد الإسلامي في كل البلاد ـ ولله الحمد ـ
فلهذا لجأ صدام إلى دغدغة الشعوب باستخدام اللغة التي يؤمنون بها ، ويتمنون دعوتها ، ولكنه لم يُفلح كثيراً في هذا لأن الشعوب الإسلامية قد انتشر بينها الوعي الإسلامي فلم تعد تخدعها الشعارات دون الأفعال ، والكثير يعلم أن صداماً وحزبه ( البعث ) هم أكفر وأضر على الأمة من اليهود والنصارى لأنه حزب علماني النشأة وخصم لدود للإسلام ، ولولا مصلحة صدام ومن معه من أعضاء حزب البعث في استخدام الشعارات الإسلامية لكانوا قد داسوا تلكم الشعارات ـ والعياذ بالله ـ تحت أقدامهم ، ولكنهم أناس يدورون مع مصلحتهم ، فهم قد أيقنوا أن الشعوب الإسلامية لم تعد كما كانت بالأمس تحركها الشعارات القومية ، وإنما آمنت وأيقنت بعد أن جربت تلكم الحلول ( القومية ) المنابذة للإسلام بأن الحل الوحيد لمشاكلنا جميعاً هو الالتزام بالإسلام وعودة الحكم الإسلامي إلى ديار المسلمين بعد أن عُطَّل وأُبعد عن الواجهة ـ إلا مارحم الله ـ
وأما من تعاطف مع صدام وأيده وانساق مع شعارته ، ففي ظني أنه إنما فعل ذلك ليس حباً في صدام وحزبه ، وإنما بغضاً لأهل الصليب .
أما سخريتك باعتقاد المسلمين بأن فلسطين سوف تتحرر يومأ ما ، ووصمك هذا الاعتقاد بأنه غير واقعي ، وإنما أسطوري غيبي أو ميتافيزيقي كما تقول ، فهذا دليل جهلك بدينك وبأحاديث نبيكw ، أو إعراضك عنها وعدم تصديقها .
فقد قال w مبشراً بهذا : " لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر . فيقول الحجر أو الشجر : يامسلم ! يا عبد الله ! هذا يهوديٌ خلفي فتعالَ فاقتله . إلا الغرقد ، فإنه من شجر اليهود " 63.
هذا هو الذي جعل الشعوب الإسلامية تؤمن بأن يوم تحرير فلسطين آت لا ريب فيه ، لأنها تصدق بقول نبيها w الذي قال الله فيه:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) 64 .(34/146)
وليس معنى هذا أن تركن الأمة إلى أن يأتي هذا اليوم الموعود ، وإنما الواجب عليها أن تحرص على الالتزام بدين نبيها w كما أنزل دون بدع أو تحريف ثم تجاهد أحفاد القردة إلى أن يأتي وعد الله .
قلت : وما سبق من سخريتك بهذا الحديث وما جاء فيه هو دليل على عدم إيمانك بالغيب الذي أخبر به الله وأخبر به رسول الله w ، والله الهادي .
ثم عقد الدكتور فصلاً بعنوان ( الحالة الثقافية العربية : خلاصات ونتائج ) قال فيه :
( نحن أمة لا تعرف ماذا تريد ، وإن عرفت فعن طريق الأسطورة والحلم البحت المجرد ) 65 .
( نحن أمة لا تعرف ماذا تريد ، لأنها أمة محكومة بمفاهيم ثقافية ذات خصائص تُقيد من حرية الفعل والحركة لديها بمفاهيم وتصورات لا تعبر عن الحركة في التاريخ بقدر ماتعبر عن السكون واللاتاريخية ) 66 .
( العالم يتحدث عن المستقبل ويغير من الحاضر ، ونحن لا نتحدث إلا عن الماضي ، وننقسم حول هذا الماضي المتصور شيعاً وأحزاباً متناحرة في قضية لا وجود لها أصلاً ، وإن وجدت فلا أثر لها في تحولات المستقبل في هذا العالم ، وإذا أردنا أن ندرك حقائق الأمور في هذا العصر حاولنا ذلك من خلال تصورات ومسميات لا علاقة لها بالعصر وثقافته ، أي أننا نسبل الماضي على الحاضر فنخسر المستقبل ) 67 .
قلت : لا زال الدكترو يتحدث بلغة رمزية عائمة ، فلم يبين الدكتور ماهي الاسطورة التي لا زلنا نعيش فيها ؟ وما هو الماضي الذي يعيب علينا اتباعه ؟ وما هي المفاهيم الثقافية التي تقيدنا ؟
إن كان يعني بذلك : الإسلام ( الصحيح ) الذي أنزل على محمد w ، فبئس ما سولت له نفسه ، حيث زعم أن اتباع الإسلام يورث الأمة التخلف ويعيقها عن الحركة .
وإن كان يعني بذلك شيئاً آخر فليبينه ( بوضوح ) لا رمز فيه ، لأنه في مقام النُصح للأمة ، فلماذا الخوف ؟ والماذا التعتعة ؟ والماذا التخفي خلف العبارات (المطاطة) ؟
أما تلميحه إلى أننا نختلف حول الماضي ، فهو يعني بذلك اختلاف أهل السنة مع أهل البدع وعلى رأسهم الرافضة ، حول قضية الصحابة والخلافة ، وهي قضية قد مضت ، وهدى الله فيها أهل السنة إلى القول الوسط ، والذي يحفظ للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مكانتهم مع ترديد قوله الله تعالي {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 68 .
أما وقد خاض أهل البدع في هذه القضية وتجرؤا على أعراض خير الخلق بعد الرسل ، فكان من واجب أهل السنة توضيح الحق في هذه المسألة ، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح ليهلك من هلك عن بينه ويحيا من حيَّ عن بينه ، وتبيين الحق في هذه القضية (الماضية ) ليس مما يعيب أهل السنة الذين هم أهل الإسلام ، فاللوم ليس عليهم وإنما على أهل البدع الذين آثروا تفريق الأمة وتحزبها بالخوض في أحداث قد مضت وانتهت ولم يقولوا : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ماكسبتم ولاتسئلون عما كانوا يعملون ) 69 .
فاللوم منصب على المبتدعة ـ وعلى رأسهم الرافضة ـ فهم الأحق بتقريع الدكتور حتى يرعووا عن بدعتهم ويعودوا إلى الإسلام ، ليكونوا عوناً لإخوانهم أهل السنة في نشر دعوة الحق ، والترقي في مراقي التطور والتقدم .
ثم عقد الدكتور خاتمة لكتابة أسماها ( نحو ثقافة عربية جديدة ) ومن يطلع على هذه الخاتمة يتوقع أن يسعفنا الدكتور فيها بخلاصة ما يريد قوله للأمة بعد أن أنهكته اللغة ( الرمزية ) طوال بحثه ! ولكن القارئ لخاتمته يفاجأ بأن الدكتور لا زال يتخبط ويتعثر في سبيل التوضيح عن مراده ويستخدم نفس اللغة السابقة التي سار بها طوال بحثه .
يقول الدكتور ما ملخصه بأن ( لكل النهضات الإنسانية المعروفة تاريخياً ابتدأت بنوع من الثورة الابستمولوجية 70! التي غيرت من نظرة الإنسان إلى نفسه ، وإلى مجتمعه ، وإلى العالم من حوله ) 71( فكانت النهضة ، وكان الابداع ، وكان الفعل الحضاري ) 72.
( وعندما نقول مثل هذا الكلام ، فإن ذلك لا يعني الانفصال التام أو القطيعة المطلقة بين الثقافة السائدة والثقافة اللاحقة ) 73.
ثم يقول تركي ( كل الطروحات النهضوية العربية تقريباً ( الإسلامية منها والقومي ) تدور في فلك التراث ولكنها لاتنطلق منه بمعنى أنها تدور في النسق التراثي ولا تبني أنساقاً جديدة ) 74.(34/147)
( لأجل ذلك ، فإن المفاهيم والتصورات والقيم الماضوية ( التراث ) تبقى حاملة لمضمونها السابق في الأنساق السابقة وذلك لانعدام النسق الجديد ومن ثم تفقد فاعليتها لأنها تنتمي إلى زمان غير الزمان ومكان يختلف عن المكان . ومهما حاولنا تحديث هذه المفاهيم والتصورات والقيم باعطائها مضامين جديدة عن طريق التوفيق وإعادة التفسير والتأويل فإن ذلك لا يجد إذا كان النسق العام للأشياء ( ومنه النسق الابستمولوجي والثقافي عامة ) وبنية العقل ذاتها ثابتة لا تتغير وهذا النسق لا يكون إلا بالإنطلاق من حيث انتهى الآخرون ( وفق ما تقضي به التجارب النهوضية الناجحة ) سواء كان هؤلاء الآخرون هم " الآخر " الغربي أو التراث ذاته وليس الفرق في كل ذلك. بمعنى آخر ، إن المطلوب هو سيطرة الحاضر على الماضي وليس سيطرة الماضي على الحاضر ) 75.
ثم ختم تركي دراسته بقوله : ( من أجل الاندماج في العصر الحديث ، ومن أجل أن يكون للعرب دورٌ في هذا العالم وإيجابية معينة لابد أن تكون البداية على مستوى الثقافة ، مستوى العقل ، مستوى الخطاب ، قبل أي شيء آخر وذلك من خلال نسق جديد للمعرفة يستوعب الحديث ولا يرفض القديم ولكنه لايغرق فيه أو يسجن نفسه فيه في ذات الوقت . كيف يكون هذا النسق وكيف تكون محدداته وبُناه مسألة لا أجيب عنها وحدي ولا أستطيع الإجابة وليس لي حق الإجابة وحدي إنها مسألة مطروحة ومتروكة لكل قطاعات الانتلجنسيا 76العربية كي تقدم رؤاها ورؤياها وفق إحساس بالمسؤولية معين ووفق نظرة منفتحة متفتحة ليست أسيرة أي نوع من أنواع الدوغما والثقافة المدرسية 77وذات منهج متوازن يوائم ما بين الأمل والألم ، الحلم الواقع ، وهذه هي خصائص الانتلجنسيا الجديدة التي على عاتقها يقع الجزء الأكبر من مسؤولية بناء ثقافة عربية جديدة فهل توجد مثل هذه الانتلجنسيا ؟ وهل ستوجد مثل هذه الثقافة الجديدة وتكون نهضة عربية حقيقية أم أن الانقراض هو المصير ، هذه هي المسألة ) 78.
قلت : كما هي عادة الدكتور فإنه يستخدم لغةً هي أشبه بالألغاز أو لغة (المجذوبين ) من غلاة الصوفية ، وإلا فما معنى قوله ( كل الطروحات النهوضية العربية تقريباً . . . تدور في فلك التراث ) ثم يوضح هذا بقوله ( بمعنى أنها تدور في النسق التراثي ولا تبني أنساقاً جديدة ) !!! فما هذا اللغو الكلامي الذي لا طائل تحته ؟ فليس الفهم وادعاء ( العقلانية ) يكون باستخدام هذه المعميات ، وأن يخبط المرء خبط عشواء ، لا يدري ما يقول فهذا لا يعجز المرءَ صنعُه ، فالجميع يجيد مثل هذا التلاعب بالألفاظ وتعمية المعاني تحت دعاوى التحليل والتفكير العقلاني !
وإنما الفهم والذكاء يكونان باستخدام لغة واضحة يتم من خلالها تشريح المشكلة القائمة ثم طرح الحلول التي يرى الكاتب أنها مناسبة لها ، لكي يستفيد من كلامه الناس الذين يخاطبهم هذا المفكر ، بدلاً من تصديع رؤسهم بمثل هذا اللغو غير المثمر .
ثم أقول : ما يقصد الدكتور بأن كل الطروحات العربية والإسلامية تدور في فلك التراث ؟ هل يعني أنه يطالب بأن يُنبذ التراث !؟ والتراث كما نعلم يدخل في مسماه عند الإطلاق : الكتاب والسنة . فهل يقصد الدكتور هذا ؟ وما هي الأنساق الجديدة التي يريد الدكتور أن نبنيها لنتقدم ونتحضر بزعمه ؟
هلاَّ وضح ذلك .
الذي يعلمه العقلاء أننا نحتاج ـ لنتطور ونتقدم دنيوياً ـ إلى أن نتمسك بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة في أحكامنا وسلوكنا ، وعبادتنا ، ثم نفتح آفاق المعرفة ( الدنيوية ) لأفراد الأمة لكي يساهموا فيها بما يستطيعون ، مع دعمهم ، وتسهيل مهمتهم ، ورفع العوائق عن دربهم ، فبهذا نحصل على سعادة الدارين :
الدنيا: بترقينا فيها مع التزامنا بديننا وعدم التفريط فيه .
والآخرة : بديننا الذي استقمنا عليه ، فأوصلنا ـ بعد رحمة الله ـ إلى جنة رب العالمين .
نعم ! بهذه البساطة يمكن علاج مشاكلنا التي لبَّسها علينا الدكتور ، ودعانا إلى نبذ ديننا تحت دعاوى ( نقد العقل ) أو ( الثورة الابستمولوجية ) !! إلى آخر هذا الهراء .
وكما قلت ـ سابقاً ـ يخلط الدكتور كثيراً بين التقدم ( الدنيوي ) وبين الدين والتزامه ، فيرى أننا لنتقدم ( دنيوياً ) لابد أن نتخفف من ديننا ـ والعياذ بالله ـ ونسي مدعي العقل أن لا علاقة بين الاثنين ـ كما سبق ـ
أما خاتمة دراسة الدكتور فهي أيضاً لغز معمىً يضاف إلى قائمة ألغازه السابقة ، فهو يطالبنا بأن تكون ( البداية على مستوى الثقافة ، مستوى العقل ، ومستوى الخطاب ، قبل أي شيء آخر ، وذلك من خلال نسق جديد للمعرفة ، يستوعب الحديث ، ولايرفض القديم ، ولكنه لايغرق فيه أو يسجن نفسه فيه ، في ذات الوقت)79 .
كيف يكون هذا ؟ وما هو هذا النسق الجديد ؟
يقول الدكتور : ( لا أستطيع الإجابة ، وليس لي حق الإجابة وحدي ) 80!!!(34/148)
كيف لا تستطيع الإجابة ، وأنت الذي نظرَّت ، وحلَّلت ، ودرست حالتنا الثقافية الراهنة ، ثم لما جدَّ الجد ، وجاء وقت تقديم الحل لمشاكلها تسللت لواذاً هرباً من الجواب ! كيف تدعي أنك مفكر ، وأنت لا تستطيع تقديم حلٍ لمشكلة أنت أنشاتها ، وهوًّلتها ، وبنيت عليها كتابك ؟
حقيقةً ، هذا من العجائب أن يختم الدكتور كتابه بهذه الخاتمة ، وهذا دليل على أن فكر الدكتور من النوع ( الهدمي ) لا ( البنائي ) .
فهو كالأستاذ الذي يخطَّئ طالبه في أجوبته ، فإذا طالبه الطالب بالحل الصحيح عيَّ وسكت !
فهل يعقل مثل هذا !؟
أم أن المسألة مجرد هدم لبناء هذه الأمة ، ولو لم يُقَدم لها البديل ، كما يفعل أبالسة الحداثة عندما يهدمون ولا يبنون ، ويُقيَّضون ولا يشيدون ، والهدم ـ كما يعلم الجميع ـ من أسهل الأشياء ، أما بناء الأمم فهو أمر لا يستطيعه إلا أفذاذ الرجال ، ولا أظن الدكتور ( الهدمي ) منهم ! .
نقد كتاب
دراسات ايدلوجية في الحالة العربية
هذا الكتاب هو عبارة عن مجموعة من الدراسات والمقالات التي كتبها الحمد في أوقات متفاوتة ، وفي أماكن متفرقة ، ومناسبات مختلفة .
وعند تأملي لها وجدت أنها لا تخرج في محتواها عن الكتاب السابق للدكتور الحمد ( الثقافة العربية أمام تحديات التغيير ) .
لهذا فقد اخترت التعليق على أبرز ما فيها مما يحتاج إلى مراجعة وتعقيب .
المسلمون ليسوا أفضل البشر عند الحمد
يقول الحمد عن لحظة ( التقاء ) المسلمين بحملة نابليون على مصر : ( إن تلك اللحظة التاريخية تشكل في محيطها العام نوعاً من الحَجَر ألقي في بركة ساكنة من الماء محدثاً بذلك دوائر ودوائر ما زالت تتفاعل وتتداخل حتى هذه اللحظة دون أن تهدأ ودون أن يعود إلى البركة هدؤها واستقرارها . لقد بينت هذه اللحظة الفريدة البسيطة في عرف الزمان لسكان هذه المنطقة من العالم ، أن العالم غير العالم الذي عهدوه وخبروه وأن الكون يحتوي غيرهم من الشعوب وغيرهم من الأمم ليسوا بتلك الدونية التي كانت " مفاهيمهم " 81 المتوارثة تصورها لهم . بمعنى من المعاني ، نستطيع القول أن هذه اللحظة التاريخية قد بينت لهم أنهم ليسوا وحدهم في الكون وأن هذا الكون (العالم ) أوسع مما يتصورون أو تصوره لهم المفاهيم السائدة حوله . بل لقد بينت هذه اللحظة أنهم ليسوا أسياد الكون كما كانوا يعتقدون بل ليسوا أفضل من فيه ) 82
قلت : لازال الحمد مصراً على تفضيل ( الكفار ) على ( المسلمين ) ، وتفضيل (ثقافاتهم ومن ضمنها أديانهم المحرفة ) على ( ثقافتنا وهي الإسلام ) ولا زال لم يفهم ـ وأظنه لا يريد أن يفهم ـ أن التطور ( المادي ) الذي حظي به الغرب 83 لا يعود إلى أديانهم أو ثقافاتهم ، وإنما يعود إلى استغلالهم خزائن الأرض والكون ( المبذولة لكل أحد ) واندفاعهم في سبيل استثمارها دون معوقات أو مثبطات ، بل بتشجيع العقول ( النابغة ) عندهم ، وتسهيل مهمتها لتنتج وتثمر . . . إلى أن أدركوا هذا التطور (المادي ) المشاهد الذي هو ليس حكراً عليهم .
بل ـ كما سبق ـ كل من بذل أسبابه سينال منه ما قدره الله {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } 84.
فلا أدري لماذ يتجاهل تركي هذا ولماذا يضخم الموضوع تضخيماً مبالغاً فيه ، ويصور أن تحقيقه لن يكون إلا بأن تتخلى الأمة عن دينها ( وهو يسميها مفاهيمها المتوارثة ) .
وقوله بأن المسلمين ليسوا أفضل من في العالم ، هو قول ( كفري ) والعياذ بالله ، لا يخفى على من عرف مبادئ الإسلام . حيث فضَّل ( الكافرين ) على ( المسلمين ) . نعوذ بالله من الخزي والمهانة ودناءة النفس التي تجعل المرء يستصغر نفسه وأمته أمام أعداء الله ، فينظر إليهم نظر المتسول المستشرف لما عندهم من ( مفاهيم ) و (ثقافات).
وليعلم الحمد أن الغرب وإن تطور ( مادياً ) فهو باقٍ على ( نصرانيته ) القديمة ، معتز بها . وهكذا اليهود ، وهكذا غيرهم من ( الوثنيين ) كأهل الشرق ـ مثلاً ـ
فلم يتغير شيء على وجه الأرض منذ ظهر الإسلام ، كما يزعم الحمد ، لأن الكل باقٍ على ( ديانته ) ومعتز بها ، بل ومنافح عنها .
وإنما الذي تغير أن هذه الأمة تأخذ بأسباب التطور ( المادي ) فتتطور ، وتلك تقصر عنها فتبقى في مكانها .
فلماذا التهويل يا تركي ؟ وكأن العالم قد نقلب رأساً على عقب كما تريد أن تصوره لنا .
الحضارة ( المادية ) مرتبطة بأديان وثقافات الكفار عند الحمد:
لا يرتضي الحمد لنا أن نأخذ بحضارة الغرب ( المادية ) لأنها مرتبطة (بثقافتهم) ، فإما أن نأخذهما جميعاً ، أو نذرهما جميعاً .(34/149)
يقول الحمد : ( إن التاريخ العربي الحديث والمعاصر يبين أن عملية " التوفيق " هذه هي عملية كمية وليست كيفية. بذلك نعني محاولة دمج ما لا يدمج ومزج ما لا يمزج وذلك وفق مقولة " نأخذ منهم ما يتفق وقيمنا ونترك الباقي " وقد ترجمت هذه العبارة في كثير من الأحيان على أساس " استيراد" المنتجات المادية لحضارة الغرب المعاصر دون التعرض لمسألة القيم والايديولوجيا ( وفق الفهم الشمولي ) . بمعني آخر فإن هذا الموقف يفصل ما بين منتجات الحضارة المادية وما بين منتجاتها أو إفرازاتها الثقافية والأيديولوجية ، ويدعو إلى أخذ الأولى ورفض الثانية .
وهذا الموقف ، في رأينا يشكل استحالة منطقية واجتماعية في آن واحد . فالحضارة أية حضارة ، هي عبارة عن كل واحد ليست افرازاتها المادية إلا نتاج لإفرازاتها الثقافية والايديولوجية وهذه بدورها ليست إلا إفرازاً للنتاج المادي وذلك في وحدة جدلية فاعلة ومنفعلة في آن معاً . والاستحالة تنبع ، من الناحية السوسيولوجية ، من استحالة الجمع " الكمي " بين الشق المادي لحضارة ما والشق الثقافي الايديولوجي لحضارة أخرى ) 85 .
قلت : يحاول الحمد من خلال هذا القول ( الكاذب ) أن يسد جميع المنافذ على الأمة ، ويحاول أن يقودها إلى ما يريد .
فإن هي التزمت بدينها وصمها بالتخلف والانغلاق ، وفضل غيرها عليها .
وإن هي حاولت أن تستفيد من حضارتهم ( المادية ) صاح بها بأنها لن تستطيع هذا لأن حضارتهم ( المادية ) مرتبطة بثقافتهم ، فإما أن تأخذها جميعاً ، أو تتركها جميعاً
فماذا تفعل الأمة بعد أن سدَّ الحمد عليها المنافذ ؟ سيأتي ما يريده منها .
أما هنا فلنناقش قوله بأننا لا نستطيع أخذ التطور ( المادي ) دون أخذ الايدلوجيا أو الثقافة .
فأقول : ما المانع من أن نفعل هذا ؟
ثم ما هو هذا التطور ( المادي ) الذي سيرتبط بالثقافة ؟
الذي يعلمه الجميع أن قمة الحضارة المادية اليوم هي في :
ـ بلوغ الذروة في مجال الفضاء : صناعة طائرات مدنية أو حربية ، صناعة صواريخ متنوعة ، اطلاق أقمار صناعية ومركبات فضائية .
ـ بلوغ الذروة في انتاج أنواع الأسلة الحربية المتنوعة .
ـ انشاء المصانع المختلفة المتطورة : صناعات حربية ، صناعات استهلاكية ، صناعات ثقيلة . . . الخ
ـ التفوق في عالم الاتصالات والحاسب : إنشاء شبكاته ، صناعة أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية ، أنظمة وأجهزة الحاسب الآلي ، الإنترنت .
ـ التفوق في الزراعة : أجهزة زراعية متطورة ، تخطيط نافع لما يُزرع وكميته ونوعيته ..
هذه ـ في ظني ـ أبرز ملامح التطور (المادي) المعاصر الذي من حصَّله فقد فاق غيره في القوة ، وأصبحت له سيادة ومهابة.
فما دخل كل هذه بالايدلوجيا والثقافة !؟
وهل كل ما سبق سوى عقول بشرية استفادت مما بثه الله على سطح وفي أعماق الأرض وفي الكون من طاقات كامنة تنتظر من يتوصل إليها فيستغلها ، فاستطاعت أن تسخرها لخدمة أوطانها وبلادها .
فما الذي يمنعنا من :
1 ـ استقدام خبراء وفنيين يكونون نواةً لمن بعدهم في استغلال طاقات وكنوز بلادنا.
2 ـ تشجيع النابغين من أبنائنا ، وجلب ما يحتاجونه من مواد ومعدات لكي ينتجوا ويحققوا أهدافهم كما فعل غيرنا .
3 ـ ومن ثمّ نحصّل ما حصله غيرنا بعد أن أسسنا البنية التحتية السليمة .
أعود فأقول : ما دخل كل هذا بالايدلوجيا والثقافة التي يوهمنا بأنها مرتبطة بهذا التطور (المادي) !؟
هل يخشى الحمد أن تسير الأمة على هذا الدرب فتصل إلى ما وصل إليه غيرها دون أن تفقد هويتها أو تفرط في دينها !؟ فأراد أن يسد عليها هذا المنفذ ، لكي تضطر إلى الاستجابة إلى (فكرته) التي تدعو إلى (الشك) في كل شيء و(هدم) كل شيء لنبدأ مشوارنا من جديد ـ كما زعم الحمد ! ـ
الحمد يدعو إلى نقد الكتاب والسنة الصحيحة !!
يقول الحمد موضحاً فكرته :(34/150)
( إن المطلوب في هذه المرحلة التاريخية الحرجة ( وكل فترة تاريخية هي فترة حرجة في حقيقة الأمر ) هو سيادة العقل النقدي لدى المثقف العربي خاصة ومثقف العالم الثالث عموماً ، وذاك يعني أول ما يعني التخلص بوعي كامل من محددات العقل ( الدوغماتي)86بكافة تفرعاته الايديولوجية والخطابية سواء ما كان منها يتجه شرقاً أو غرباً وما يتجه منها إلى أعماق التاريخ يستفتيه أو ما يسيح منها في عالم الجغرافيا يستنطقه . وعندما نقول سيادة العقل النقدي والتخلص من العقل الدوغماتي فإن ذلك يفرض علينا بادىء ذي بدء التخلص من فرضية نجدها سائدة في حنايا العقل العربي قديمة وحديثة ألا وهي فرضية الحقيقة المطلوبة في مقابل النسبية وحركية الحياة والتاريخ ، فمن الملحوظ أن المثقف العربي على اختلاف مواقعه الايدلوجية والمعرفية والاجتماعية ، يشكل البحث عن الحق والمطلق ثابت الثوابت في تنظيره وخطابه سواء كان ذلك بشكل واع أو غير واع . ولأجل ذلك ، كما أرى ، فإن حياتنا الثقافية والعقلية وإن كان ظاهرياً تتصف بالتعددية إلا أنها هيكلياً ليست ألا انبثاق لعقلية واحدة ونظرة أحادية واحدة للكون والمجتمع ، ولأجل ذلك عجزت النهضة العربية المعاصرة عن تحقيق النهضة وعجزة الثورة عن تحقيق الثورة وعجزة الأصالة عن تحقيق الأصالة وكذلك الحداثة عجزة عن تحقيق الحداثة .
إن المطلوب إذن هو عقل نقدي وهذا لا يكون إلا بإلغاء محددات العقل الدوغماتي من حياتنا ، ولا يكون ذلك إلا باعتناق النسبية وديمومة الحركة ، وكل ذلك لا يكون إلا بنوع من الثورة المفاهيمية في الحياة العقلية العربية . ثورة مفاهيمية شبيهة بتلك الثورة التي استهلها عصر النهضة الأوروبية حيث كان الانقلاب الجذري في نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى مجتمعه والى الكون من حوله . بمعنى آخر ، فنحن بحاجة إلى نوع من النظرة النقدية التي تعيد موضعة الإنسان بالنسبة إلى نفسه ( مفهومه عن نفسه ) وبالنسبة إلى مجتمعه ، وبالنسبة إلى الكون الذي يعيش فيه . وعندما نقول نظرة نقدية أو عقل نقدي فإن البعض قد يعتقد أن ما نقوله هنا ليس إلا جزءاً من موقف القبول المطلق بالغرب ومفاهيم الغرب والذي انتقدناه بدءاً وإن ذلك سوف يؤدي إلى انقطاع كامل وجذري مع التراث والتاريخ الخاص بنا كأمة وجماعة . نرد هنا فنقول إن المسألة ليست كذلك ، فالنظرة النقدية أو العقل النقدي يقف دائما موقف ((المرتاب)) أو الشاك تجاه ما يأتيه من هنا أو هناك ، من أعماق التاريخ أو من مجاهل الجغرافيا فيصيغ كل ما يأتيه وفق ما تقتضيه حركة التاريخ والمجتمع غير ناسف في ذلك عمومية المفهوم أو خصوصية المجتمع الذي يعمل فيه . إن القبول المطلق أو الرفض المطلق أو التلفيق الكمي هي مواقف دوغماتية في جوهرها حيث أنها تأخذ كلاً أو ترفض كلاً دون مراعاة عامل الحركة في التاريخ والمجتمع ) 87!!
إذن فقد صرّح الحمد بمراده بعد طول تردد !
فهو باختصار يريد من الأمة !
1 ـ أن يسود فيها (العقل) .
2 ـ أن تتخلص من ( العقل الدوغاني بكافة تفرعاته الايدلوجية والخطابية.. ) أي أن تتخلص من كل ما يقيد هذا العقل ، ولو كان قول الله ـ عز وجل ـ ، وقول رسول صلى الله عليه وسلم !! فإن هذين ـ كغيرهما عند الحمد ـ سيخضعان للعقل النقدي الذي يبشّر به ويدعونا إليه !!
3 ـ أنه ليس لدينا (حقيقة مطلقة) ، لأن كل شيء قابل للنسبية والتطور ! فكما أن كل شيء يتطور فكذلك الحقيقة تتطور ! فليس شيء ثابتاً عند الحمد ولو كانت أقوال الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يُصرّح بهذا !
4 ـ يطالبنا الحمد لتحقيق (العقل النقدي) أن نكون من (الشاكين) (المرتابين) فلا نقبل أي شيء دون عرضه على هذا العقل النقدي ، فإن قبله قبلناه ، وإن رفضه رفضناه ، ولو كان قول الله وقول رسول صلى الله عليه وسلم ، فلابد من الشك والارتياب فيهما لكي نتطور ! وصدق الله إذ قال عن الكافرين والمنافقين : { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب }88 فهذا نهاية ما يدعونا إليه الحمد من (الشك) ، و( الارتياب ) أن يحال بيننا وبين ما نشتهي ـ والعياذ بالله ـ
ثم إن الحمد في دعوته إلى ( العقل النقدي ) لم يأت بجديد ، وإنما مردد لما قام به طه حسين تقليدأ لديكارت من الشك في كل شيء ولو نصاً من القرآن أو من السنة الصحيحة !
فجاء الحمد مردداً هذه الفكرة ( البائدة ) في بلادنا ، التي لم ترض بغير الإسلام بديلاً ، ولو كره الشاكون المرتابون 89
الحمد يزعم أن حياة الرسول w متناقضة !!(34/151)
يقول الحمد تحت عنوان ( ايدلوجيا المثقف التقليدي ) : ( إن الايديولوجيا التقليدية ، والتي يحملها الشيخ كما في كتابات العروي ، أو السلفي كما في كتابات الجابري ، هي ايديولوجيات تقرأ الحاضر في الماضي ، وتنفي البعد الزماني في قراءتها . بمعنى آخر ، ووفق تعبير الجابري فإنه : " عندما يقرر السلفي أن العرب والمسلمين عامة لن ينهضوا إلا بمثل ما نهضوا به بالأمس ، مستعيداً قوله الإمام مالك " لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " ، فهو يفكر في النهضة داخل مجال خاص ، داخل منظومة مغلقة هي تلك يقدمها له النموذج الحضاري العربي الإسلامي في القرون الوسطي والتي تشكل إطاره المرجعي الوحيد . . . " 90 بمعنى آخر ، فإن أيديولوجيا التقليدي تتضمن استلاباً زمنياً معيناً ، يتلخص في أن المثقف التقليدي ( الشيخ ، السلفي ) إنما يعيش في " حلم زاه " مفصول الجذور عن الواقع المعاش واللحظة التاريخية الراهنة . أي أن الايديولوجيا التي يحملها التقليدي هي بمعنى من المعاني وفق المفهوم الماركسي الكلاسيكي : وعي زائف وغيوم تحجب الحقيقة التاريخية الفاعلة . وكل شيء وفق ايديولوجيا هذا المثقف خاضع لإطاره المرجعي ، أو نموذجه المثالي وفق مفهوم ماكس فيبر ، الذي هو في غالب الأحيان لا يتجاوز فترة حياة الرسول والمرحلة الراشدة ، رغم تناقضاتها العديدة إذا درست وفق منهج تاريخي موضوعي ) 91!!
قلت : مقولة الإمام مالك ـ رحمه الله ـ لم يفهمها هؤلاء الجهلة ( العروي ـ الجابري ـ الحمد ) 92 فالإمام مالك يبين في كلمته تلك بأن المسلمين لن تصلح أحوالهم ، وعلى رأسها الأحوال الدينية ، إلا بأن يتمسكوا بالإسلام الذي جاء به القرآن والسنة الصحيحة ، وهو الذي كان زمن الرسو صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ دون أن يزيدوا عليه ببدع وخرافات ومقولات كلامية ما أنزل الله بها من سلطان ، ودون أن يفرطوا فيه وينقصوا منه .
لأنه تعالى يقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 93 .
ورسول صلى الله عليه وسلم يقول " ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " قالوا : يارسول الله ومن هم ؟ قال : " من كان على ما أنا عليه وأصحابي "94 وهذا في أمر ( الدين ) كما هو معلوم لكل عاقل يريد أن يفهم ، وهذا هو الذي يقصده الإمام مالك 95 .
أما أمر ( الدنيا ) فهي خاضعة للتطور ، وعلى الأمة أن تسعى لتحصيلها والاستفادة من تطورها .
أما إن كان العروي والجابري والحمد يقصدون أن الحق قد يكون في غير (الإسلام ) أي في غير ( الكتاب ) و ( السنة الصحيحة ) ، وأنه ليس مقصوراً عليها ، وأن من حصر الحق في ماجاء به الإسلام فهو ( مثقف تقليدي ) فهذا ـ والعياذ بالله ـ ردة عن دين الله ، حيث اعتقدوا أن غيره من الأديان أو الثقافات ألاخرى قد تكون أفضل منه ، أو أنها مصيبة وهو مخطئ ، نعوذ بالله من ذلك .
فهي طعن بدين الإسلام ، وعدم رضىً بما جاء فيه ، بل والشك والارتياب في مبادئه الثابتة بالكتاب والسنة ، بل شك وارتياب بالكتاب والسنة نفسهما ! كما لا يخفى على عاقل يفهم ما يلمحون إليه .
ومما يؤكد هذا : اتهام الحمد في آخر كلامه ( حياة الرسول 96المرحلة الراشدة) بأن فيها تناقضات عديدة !! ( إذا دُرست وفق منهج تاريخي موضوعي ) !! فهل بعد هذا ( الفكر ) من كفر !؟ حيث يدعي هذا ( الضال ) بأن حياة الرسو صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين متناقضة !
ولا ندري ماهو المنهج التاريخي ( الموضوعي ) الذي سيطبقه الحمد على حياة أشرف أنبياء الله حتى يبين تناقضها !؟ أهو منهج الشك ، أم منهج ( بقايا) الشيوعيين !؟
لقد خبت وخسرت في قولك هذا عندما اتهمت حياة نبيك r بأنها متناقضة ، ولا ندري متناقضة مع ماذا ؟
وصدق الله إذ يقول لنبيه : ( إن شانئك هو الأبتر ) 97.
الحمد يتهم آل سعود بالاستغلالية والنفاق !!
يقول الحمد : ( إن تعاليم الشيخ 98 لعبت ـ وتلعب ـ دوراً محورياً في التاريخ السياسي للجزيرة العربية بشكل عام ، فقد أعطت الوهابية الأسرة السعودية المالكة أساساً ايدلوجياً لاضفاء الشرعية على مطالبها وطموحاتها السياسية في السيطرة والسلطان ) 99!! إذن فآل سعود ـ عند الحمد ـ منذ محمد بن سعود ـ رحمه الله ـ وإلى اليوم ( خادم الحرمين ) وفقه الله لطاعته ، مروراً بالملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ قد استغلوا تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أي الدعوة السلفية ، لتحقيق طموحاتهم في الحكم .
فهم لم يناصروها حباً في الإسلام أو في الدعوة السلفية وإنما طعماً في مُلك زائل يتسلطون به على رقاب المسلمين !
فهو يُشَبّه آل سعود بالمنافقين الذين يبطنون مالا يُظهرون ـ والعياذ بالله ـ .(34/152)
ونسي هذا الجهول جهاد محمد بن سعود وأبنائه وأحفاده ( عبد العزيز ـ سعود ـ عبدالله ) في سبيل هذه الدعوة السلفية ونشر مبادئها ، بل وتعلمها وتعليمها ، وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف ، مع أن بإمكانهم مهادنة أعداء الدعوة مع الاحتفاظ بملكهم .
ونسي ـ أيضاً ـ جهود تركي بن عبد الله وابنه فيصل في سبيل إعادة مبادىء الدعوة ونشرها بين الناس ، والذود عنها ، وعدم الرضا بغيرها ، مع أنهم ـ كأسلافهم ـ يستطيعون مهادنة الأعداء ، الذين سيقبلون ذلك ، مع الاحتفاظ بملكهم دون أن تمسه يد مغتصب .
ونسي أيضاً جهاد الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في سبيل انشاء دولة (سلفيه ) معاصرة ، تحرص على نشر الدعوة السلفية ، ولا ترضى عنها بديلاً من أفكار وثقافات كان يعج بها العالم العربي والإسلامي .
نسي الحمد كل هذا واتهم آل سعود بالنفاق ، لأته لم يرتضِ مشربهم ولا مبادئهم ، وإنما نفسه تنزع إلى غيرهم من ( شياطين ) حزب البعث والماركسية - كما سيأتي ـ .
ثلاثية
تركي الحمد
ثلاثية تر كي الحمد تسمى ( أطياف الأزقة المهجورة ) وهي من ثلاث حلقات أو روايات متسلسلة تحكي قصة بطل واحد هو ( هشام العابر ) .
الحلقة الأولى : بعنوان ( العدامة )100
الحلقة الثانية : بعنوان ( الشميسي )101
الحلقة الثالثة : بعنوان ( الكراديب )102
1 ـ العدامة :
بطل هذه الثلاثية هو ( هشام بن إبراهيم العابر ) شاب صغير السن يعيش مع والديه في مدينة الدمام في فترة الثمانينات الهجرية . وأما اصلهم فيعود إلى القصيم ! .
وكان هذا الفتى الصغير مولع بالقراءة ومتابعة مايدور من حوله من أحداث وأفكار في تلكم الفترة الصاخبة بالشعارات ، فاعتنق لأجل هذا الفكر القومي الماركسي الذي كان متوهجاً ساحراً لكل متفتح على الحياة ، لا سيما بعد نجاح هذا الفكر ( على اختلاف درجاته ) في الاستيلاء على البلاد العربية مما زاد من رصيد معتنقيه الذين رأوا فيه خير موحد للأمة العربية التي مزقها الاستعمار .
لهذا : اعتنق هشام هذا الفكر وآمن به ، ثم استطاع تنظيم ( حزب البعث بالسعودية !! ) أن يضمه إليهم كعضو جديد في الحزب بعدما أعجبوا به وبأفكاره .
استمر هشام يحضر اجتماعات الحزب ( السرية ) ، ويشارك في نقاشاتهم وفي إعداد التقارير لهم عن الأحوال السياسية الجارية .
كما أنه استطاع أن يضم صديقه ( عدنان العلي ) إلى هذا الحزب ، إلا أنه برغم كل هذا يود التخلص من الارتباط بعضوية الحزب ، مع البقاء على أفكاره دون أن يشعر بأي تقييد .
سافر هشام إلى الرياض لتقديم أوراقه إلى كلية التجارة مؤملاً أن يدرس شيئاً عن الأفكار والأنظمة السياسية المختلفة . فاضطر للسكن في بيت خاله ( المتدين ) .
كان أولاد خاله يختلفون عنه كثيراً في أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم ، وحيث كانوا مقبلين على اللهو والتمتع بالحياة ولم تكن الأفكار الفلسفية والأحداث السياسية تستهويهم لا سيما ( عبدالرحمن ) الذي تميز عنهم بحبه للمغامرات (النسائية) مع شربه للخمر ( أو العَرَق ) .
تغيرت أحوال هشام بسبب ابن خاله عبدالرحمن الذي أغراه بالتمتع بشبابه ومعاقرة الخمر والنساء فانساق هشام معه تدريجياً إلى أن سقطت جميع المثل التي كان يراها في السابق من عينيه بفضل رعاية والديه له في الدمام . فأقبل على حياته الجديدة بنهم شديد وبعلاقات نسائية متتالية .
كان هشام قد سافر من قبل مع أهله إلى بلدهم الأصلي ( القصيم ) لزيارة جده وجدته .
وهناك تعرف هشام على (عبد المحسن التغيري ) الذي عرَّف هشاماً على بقية زملائه من خلال ( كشتات ) البر . وهم ( محمد الغبيرة ) و( دعيس الدعيس ) و(سليم السنور ) و ( صالح الطرثوث ) و( مهنا الطعيري ) وكانوا جميعاً من المهووسين بجمال عبد الناصر وبقوميته لا سيما ( مهنا الطعيري ) .
عاد هشام إلى الدمام مواصلاً ترقب أخبار الاعتقالات التي حدثت لأفراد الحزب والأحزاب والتنظيمات الأخرى المعارضة ( للحكومة السعودية ) ومواصلاً أيضاً غزله المتبادل مع بنت الجيران ( نورة ) .
وبهذا انتهت الرواية ألأولى من ثلاثية تركي الحمد .
لتبدأ بعدها أحداث الرواية الثانية ( الشميسي ) .
2 ـ الشميسي :
تكاد تكون أحداث رواية الشميسي مخصصة لحال هشام في مدينة الرياض ، وهذا مايوحي به اسمها ( الشميسي ) الذي هو أسم شارع شهير في مدينة الرياض .
سجل هشام في كلية التجارة وانتقل إلى السكن عند خاله في الرياض ، وكثرت ملابسته للمحرمات من شراب ونساء بواسطة ( عبد الرحمن ) ابن خاله .
ثم ارتبط بعلاقة غير شرعية مع جارة خاله ( سارة ) أو ( سوير) وأصبح يتردد عليها .
تفاجأ هشام بالتزام صديقه عدنان ، الذي اختار سبيل الخير مسلكاً له وارتبط مع شباب صالحين أثناء قدومه للدراسة الجامعية في الريا ض ـ أيضاً ـ .
انتقل هشام للسكن في عزبة مع ( عبد المحسن التغيري ) الذي قدم الرياض من القصيم لكي يأخذ ـ أي هشام ـ حريته الكافية التي كانت مقيدة نوعاً ما في منزل خاله .
انتهت امتحانات نصف العام فذهب هشام إلى الدمام لزيارة أهله مواصلاً علاقته العاطفية مع ( نورة ) بنت الجيران بعد أن علم بزواجها .(34/153)
رجع هشام إلى الرياض مواصلاً ـ أيضاً ـ مغامراته النسائية لا سيما مع (سوير ) التي حملت منه
جاء والده فجأة لزيارة الرياض لاخباره بأنه مطلوب من قبل رجال الأمن (المباحث ) .
وبعد أخذ ورد قرر الوالد اخفاءه عن أعين الأمن عند أحد زملائه إلى حين استصدار جواز مزور له لكي يتمكن من الهرب إلى بيروت 103 عن طريق البحرين ، ولكن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حيث قبضوا عليه وحققوا معه ثم قرروا ترحيله إلى جدة لمواصلة التحقيق ( الجاد ! ) معه .
بهذا الحدث انتهت رواية الشميسي وهي الحلقة الثانية من ثلاثية تركي الحمد ، لتبدأ بعدها أحداث الحلقة الأخيرة من الثلاثية وهي رواية ( الكراديب ).
3ـ الكراديب :
هذه الرواية مخصصة أحداثها لبيان أحوال هشام في السجن في جدة بعد أن حُقق معه ولكنه أبى الاعتراف بانتسابه إلى تنظيم ( حزب البعث ) ، فقرروا أن يلبث في السجن إلى حين ، حيث تعرف من خلال السجن على ( عارف ) وهو أحد الشيوعيين فبدأت بينهما نقاشات حول أفكار بعضهما مع شد وجذب ، لأن كل واحد منهما يؤيد فكرته لتصحيح الأوضاع .
اعترف هشام بما يريده السجانون فنقلوه من مكانه إلى مكان آخر أفضل منه. حيث تعرف ـ أيضاً ـ على ( وليد ) الذي يؤمن بالقومية كحل لأفراد الأمة ، و (عبد الله ) الذي ينتمي إلى ( الجبهة الديمقراطية ) وهي جبهة منفصلة عن حزب البعث ، ( ولقمان ) الذي ينتسب إلى الإخوان المسلمين ! .
استمرت النقاشات بين هؤلاء الأربعة ، وكلٌ منهم يحاول أن يبين صحة نظرة واختياره هذا المسلك الذي سلكه ، وارتضاه دون غيره .
بعد مدة من الزمن تم الافراج عن هشام الذي عاد فوراً إلى الدمام ، ولكنه وجد كل شيء حوله قد تغير ولم يعد يحمل ذكرى الماضي لا سيما وأبوه قد انتقل إلى في بيتٍ جديد بدل بيتهم القديم الذي عاش فيه سنيه الأولى .
بعد أخذ ورد قرر أهله أن يعود إلى مواصلة دراسته في الرياض ، فعاد إليها مندهشاً لمدى تغيرها عن عهده القديم بها ، في مبانيها وفي أفرادها ( وهو ينظر بعينين فقدتا بريقهما ، إلى أزقة كانت مأهولة ، فلم تعد إلا أزقة مهجورة تجوبها أطياف لاحياة فيها ، ولكنها لا تريد أن تموت ) 104، وبهذا انتهت .
أحداث الحلقة الأخيرة من ثلاثية تركي الحمد .
ملامح بطل الثلاثية : هشام العابر :
لنتبين ملامح ( هشام العابر ـ أو تركي الحمد ) في هذه الرواية سأقتطف بعض العبارات من الثلاثية تُكون لنا صورة متكاملة لشخصية ( صفاته وطموحاته ) لتأتي بعدها مناقشته في أفكاره :
1ـ هو شاب يحب القراءة : لاسيما قراءة الكتب ( المحرَّمة ) الفلسفية والماركسية .
( لقد خرج إلى الدنيا وهو لا يعرف إلا هواية واحدة ، ولذة واحدة هي القراءة ، ويقرأ أي شيء ، وكل شيء تقع عليه يده ) 105
( أخذت القراءات الفلسفية والسياسية تجذبه كثيراً منذ أن أهداه أحد أصدقاء والده كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد " لعبد الرحمن الكواكبي ، حتى أنه كان يقضي ليالي بطولها في قراءة النصوص الماركسية والقومية والوجودية وغيرها من التيارات الفلسفية والسياسية مما تقع عليه يده في المكتبات المحلية ، أو يحصل عليه مما هو غير متاح في المكتبات ) 106
( في المرحلة الثانوية أهمل الدراسة إهمالاً تاماً ، ولولا خشيته من جرح كبرياء والده وقلب أمه لما درس إطلاقاً ، وتفرغ لعالمه الجديد من القراءة واكتشاف النصوص المحرمة )107
( لم تعد الكتب المتوفرة في المكتبات المحلية ترضي شغفه بالعالم الجديد الذي اكتشف ، فكان في كل رحلة مع والديه إلى الدول المجاورة ، الأردن أو سوريا ولبنان يجلب معه بعضاً من تلك الكتب الممنوعة والمحرمة ، والتي تكون زاده المعرفي طوال الفترة اللاحقة ) 108.(34/154)
( كان ينفق كل مصروفه على الكتب الماركسية غير المتاحة في بلده ، وخاصة مؤلفات آرنستوتشي غيفارا ، وريجس دوبريه ، وفرانز فانون ، بالإضافة إلى مؤلفات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وترو تسكي وستالين ، التي تشكل الزاد الفكري الرئيسي .أما ما كان يهزه من الداخل فعلاً ، فقد كانت مؤلفات غيفارا التي كانت تدغدغ شيئاً ما داخل ذاته . كانت هذه الكتب ، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والروائية العالمية الخالدة ، تباع بأرخص الأسعار على أرصفة الشوراع في عمان ودمشق وبيروت ، وعلى عربات أشبه بعربات الخضار . التهم خلال رحلاته ، وبعد العودة ، كل روايات مكسيم غوركي خاصة ، وأهم الروايات الخالدة في الأدب الروسي عامة . قرأ " آنا كرنينا " و " البعث " لليو تولستوي ، " والجريمة والعقاب " "والأخوة كارامازوف " لفيدور دوستويفسكي ، " الدون الهاديء " لميخائيل تشولوكوف . وقد أثارت فيه رواية " الأم " لغوركي أحاسيس وانفعالات عنيفة متداخلة ، من الغضب إلى الحماس إلى البكاء إلى العطف إلى القسوة إلى الرقة ، مما جعله يعيد قراءتها مرات ومرات . بكى عدة مرات مع العم توم في كوخه ، وعاش مع لانغ وزوجته في أرضهما الطيبة ، وتعاطف كثيراً مع مدام بوفاري بنفس القدر الذي حنق فيه على سكارليت أوهايرا . وكان يختلس لحظات طويلة يقرأ فيها ألبرتو مورافيا وبلزاك واميل زولا ، لا حباً في ذات هذه الأعمال دائماً ، ولكن بحثاً عن مشهد جنسي هنا ، أو وصف لعلاقة حميمة هناك ويتصور في لحظة حلم يقظة أنه البطل في كل هذه العلاقات. أما ذلك الوصف الأخاذ للحياة الاجتماعية في هذه الأعمال ، فلم يكن يهمه كثيراً ، إذ كان يعتقد أن الأدب الروسي لا يعلى عليه في هذا المجال كما قرأ بعض روايات تشارلز ديكنز ، وأعجبته خاصة " قصة مدينتين " ، التي اعتبراها ، مع " الأم" أفضل أعمال يمكن كتابتها . كان ينفق مصروفه على هذه الكتب ) 109.
2ـ هو يريد أن يكون مفكراً طليقاً ، لا يتقيد بأي دين أو مذهب سوى ( العلم ! ) .
( يذكر ذات مرة أنه دخل في مجادلة مع مدرس الدين حول نظرية النشوء والإرتقاء لدارون ، حين شتم هذا المدرس النظرية واصفاً إياها بالفكر والإلحاد ، وشتم صاحبها واصفاً إياه باليهودية والمؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين . يذكر يومها أنه قال للمدرس إن هذه النظرية إنتاج علمي ، والعلوم هو سيد العصر شئنا أم أبينا . قد يخطىء دارون وقد يصيب بشأن أصل الإنسان وأصل الأنواع ولكن التطور حقيقة تفرض نفسها ، كما أن دارون ليس يهودياً لا أباً ولا أماً . يومها اتخذ منه مدرس الدين موقفاً عدائياً ، واصبح لا يناديه إلا بالفاسق . ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً بل لم يكن يهمه على الإطلاق، مع ذلك الحماس وذلك الإنطلاق الذي وجده في عالمه الجديد )110.
( أريد أن أكون مفكراً طليقاً ، لا مناضلاً سياسياً في تنظيم ) 111.
3ـ هو ماركسي المذهب ، ليس كالماركسيين ، بل يحب المزج بين الماركسية والقومية العربية :
( أعجبته كتابات ياسين الحافظ وكذلك المنطلقات ، إذ وجد فيها مزيجاً أخاذاً ومثيراً من الماركسية والقومية . وجد فيها شيئاً كان أنه ينقص الكتابات الماركسية التي قرأ ، وكذلك الكتابات القومية على اختلافها . فقد سبق له أن قرأ " في سبيل البعث" لميشيل عفلق ، وبعض كتابات منيف الرزاز وصلاح البيطار ، والكتابات الناصرية القليلة مثل فلسفة الثورة ، لجمال عبد الناصر ، وكتابات أنور السادات حول ثورة يوليو وعبد الناصر ، وكذلك " بصراحة " محمد حسنين هيكل التي ينشرها في جريدة الأهرام كل يوم جمعة ، ويستمع إليها من خلال إذاعة "صوت العرب " من القاهرة ، فقد كانت الأهرام ممنوعة من الدخول في بلده . كانت الكتابات الماركسية تركز على المسألة الاجتماعية والأممية ، وبقدر ما كان متحمساً للمسألة الاجتماعية ومؤمناً بها ، بقدر ما كان متردداً بشأن المسألة الأممية .إنه يشعر أنه قومي حتى النخاع ، والقومية تسري في عروقه . وتهزه خطابات جمال عبد الناصر ، وتثمله الشعارات القومية التي يطلقها البعثيون والناصريون والقوميون العرب . لكن رغم ذلك ، كان يحس أن هنالك شيئأ ناقصاً ، كان يشعر أن هؤلاء لم يعطوا المسألة الاجتماعية حقها من الإهتمام ، وخاصة قضايا مثل الصراع الطبقي والإشتراكية العلمية والحتمية التاريخية . ولذلك اعتقد أن الفكر الماركسي ، رغم بعض التحفظات ، هو الذي من الممكن أن ينير الطريق ويعطي فلسفة متكاملة للحياة . أعجبته كتابات الحافظ والمنطلقات لأنها تمزج المسألة القومية بالإجتماعية . جامعة ما يشعر بميل إليه في فلسفة واحدة )112
( لا تعجبني أفكار عفلق والبيطار والرزاز . أعتقد أنها عاطفية أكثر من اللزوم ، رغم إيماني بإطارها العام . نحن بحاجة إلى فلسفة متكاملة . وأعتقد أن الماركسية هي الحل رغم النواقص التي من الممكن إكمالها ) 113
( إذا كان ما في المنطلقات هو فكر البعث ، فإني أجد نفسي فيه ، فهو يمزج القومية بالماركسية . . . وهذه هي قناعاتي ) 114(34/155)
( أحس بالهلع والنفور من كل ما يمت إلى التنظيم وفكره بصلة . وبقيت علاقته الحميمية بالماركسية )115
هو يتبنى فكراً ماركسياً لا يتعقد بدور البطل في التاريخ ، بل هي التناقضات المادية والاجتماعية التحتية ، وانعكاساتها الفوقية السياسية والثقافية ) 116
( الماركسية . . . هي الفكر العلمي الشامل القادر على منحنا مفاتيح التاريخ والمجتمع والسياسة ، ومن لديه هذه المفاتيح لا خوف عليه ولا هو يحزن ) 117
( الحقيقة أني ميال إلى الفكر الماركسي )118
( سوف يتعلم الماركسية على أصولها )119
( من قال لك أني شيوعي ؟ . . . أنا اشتراكي )120 .
( أنا أميل إلى الماركسية ، ولكني لست شيوعياً )121 .
ولكن هشاماً برغم هذا الحسم (الماركسي) لتوجهه إلا أنه بقي متردداً متحيراً في أمره تصارعه أفكار شتى حول هذا الكون ، وخالقه ، وأحداثه ، مما لم يستطع أن يستوعبه فأصبح ينادي بتفاهة هذه الحياة وأهلها ، وعبثية أحداثها وأقدارها ، مع ترقب وتوجس لهجوم الموت (الغادر!) عليه :
(ليست الحياة إلا حفلة ماجنة يُدخن فيها الحشيش ويؤكل الخبز مغموساً بالنبيذ والعرق الراشح من أجساد أدمنت الجنس ، وأدماها الهوى ، ومزقت نفسها بوحشة أخلاقية .نحاول أن نضفي المثال والجمال على هذه الحفلة العابثة ، ولكن كل شىء ينكشف ولو بعد حين ، وتقف الحقيقة عارية من جديد ، كما ولدت عارية من قديم … العدم يقف بالمرصاد ، والمجهول يتربص من بعيد ، والعجز يقيد المجتمع ) 122
(الموت قادم لا محالة .. إنه مصير ملموس ، وليس كمصير الأمة أو الطبقة مشكوك فيه بقدر ما هو مشكوك في الأمة والطبقة ذاتهما . فلماذا الإحتياط ، ولماذا الخوف ؟ … ولماذا هذه اللعبة السمجة ، لعبة القط والفأر … ما نحن إلا ممثلون في مسرحية ، وسواء طال دور أحدنا في هذه المسرحية أم قصر ، فإنه لايلبث أن ينتهي ، وتنتهي كل المسرحية في النهاية …
ثم بعد تردد طفيف .
ـ ولو كان لي من الأمر شيئاً 123 في البداية ، لما اخترت الاشتراك في المسرحية من الأساس )124.
( هل ما يجري هو حكمة خافية لاندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدنا عليه فأصبح نظاماً ، أم هو مزيج منهما ، أم لا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد )125 .
( يالهذا الموت الجبان الغادر … إنه يأخذ أجمل ما في الحياة ويضحك ويهجرنا حين نريده ، ويحل ضيفاً ثقيلاً حين لانريده … ليت موسى لم يفقأ عين عزرائيل حين أتى لقبض روحه ، ولكنه قصم ظهره أو دق عنقه … ولكن حتى لو مات عزرائيل ، هل يموت الموت ؟ ويقلع عن أفكاره هذه ويقتنع بأهمية الموت لا ستمرار الحياة ، ولكنه يكرهه ، ولا زال يعتقد بجبنه وغدره )126.
(عليك الرحمة ياابن آدم . ظنت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة وأحقر من بعوضة يا لك من معتوه يا ابن آدم ، أردت أن تكون إنساناً كما أراد لك من أنسنك ، ولكنك وجدت نفسك في عالم تداس فيه كصرصار تائه ، وتسحق فيه كذبابة وقحة ) 127.
قلت : هذه أبرز ملامح (هشام العابر) : فهو يحب القراءة منذ صغره في الكتب (المحرّمة) الفلسفية والماركسية ، التي كانت ممنوعة ـ لضررها ـ في بلاده (السعودية) ولهذا كان يحرص على تحصيلها من عدة منافذ .
ولأجل قراءته هذه فقد تعلق قلبه بالفكر الماركسي والفكر القومي الذي كان عالياً صوته شديداً هيجانه في تلك الفترة ، فحاول أن يمزج بين (القومية والماركسية) متأثراً ببعض قيادات ومنظري (حزب البعث) .
ولأجل هذا انضم (هشام) ـ على كرهٍ وتمنع ـ إلى هذا الحزب ، لأنه يود أن يكون مفكراً طليقاً ، بدلاً من حصره في صرامة التنظيمات .
وكانت نظرته إلى الحياة سوداوية تشاؤمية ، لأنه لم يعرف لها هدفاً ، ولم يفقه حكمة الله من خلقها ، وجعل الخلق يتوارثونها ، لم يعد يرى منها سوى أنها حياة لا قيمة لها ، تجري أحداثها وأقدارها بعبثٍ لا حكمة فيه .
قلت : ويتضح بعد هذا الموجز عن هشام العابر (أو تركي الحمد !) وأفكاره أن الحديث ـ دون تطويل ـ سيكون حول :
1 ـ نقض الماركسية التي نادى بها الحمد 128.
2 ـ نقض القومية العربية التي نادى بها الحمد .
3 ـ نقض مبادىء حزب البعث ، الذي انظم إليه الحمد .
4 ـ نقض مبدأ الإنسانية التي نادى بها الحمد .
5 ـ بيان عقيدة أهل السنة في (القدر) مع توضيح حكمة الله من خلق الخلق .
6 ـ بيان تنقص الحمد في ثلاثيته :
أ ـ الله .
ب ـ وملائكته .
جـ ـ وكتبه .
د ـ ورسله .
هـ ـ ودينه .
و ـ وعبادة الصالحين .
7 ـ مباحث أخرى .
الماركسية129
تنسب هذه النحلة إلى مؤسسها ( اليهودي ) كارل ماركس الذي ولد في ألمانيا عام 1818م وهلك عام 1883 م . وهو ينحدر من أبوين يهوديين ينتميان إلى الحاخامات العالمين بشريعة اليهود .
( وبعد أن انتهى من التعليم الثانوي بمسقط رأسه التحق عام 1835م بجامعة بون ثم انتقل إلى برلين حيث درس التاريخ والفلسفة والاقتصاد .(34/156)
وفي أثناء دراسته ببرلين اتصل بجامعة الشباب الأحرار الذي كانوا يعتنقون الفلسفة الهيجلية ، وبعد ذلك انتقل كارل إلى الصحافة والتحق بتحرير جريدة رانيش نسياتنج الراديكالية إلى أن عطلت الجريدة بسبب دعوتها الثورية .
وفي عام 1844 تزوج كارل من جيني فون فستنالين التي عاشت أحداث أسرته المتقلبة إلى أن ماتت عام 1881 وما لبث أن لحق بها بعد عدة شهور من وفاتها وذلك عام 1882 .
وكان كارل ماركس قد هاجر وزوجته جيني إلى باريس عام 1844 حيث التقى بصديقه ورفيق حياته الشخصية والمذهبية فريدريك انجلز الذي شاطره الرأي والتفكير وشاركه في عدد من مؤلفاته منها : العائلة المقدسة ، والمثالية الالمانية ، كما التحق كلاهما بالحلف الشيوعي وهو منظمة للاجئين الألمان في فرنسا حتى طردا كلاهما من باريس فارتحلا إلى بروكسل الألمانية .وفي عام 1847 أصدر كلاهما ـ كاركس وانجلز ـ كتابهما المشهور " البيان الشيوعي " وهو في جملته يتضمن تحريضاً للعمال على الثورة ضد الطبقة الرأسمالية .
وبعد عودة قصيرة إلى ألمانيا هاجر ماركس وأسرته وزميله فريدريك انجلز إلى انجلترا . وفي لندن تابع ماركس إصدار مؤلفاته وأفكاره .
ثم عكف بعد ذلك على أشهر مؤلفاته وأكبرها وهو كتاب " رأس المال " وقد ضمنه خلاصة أفكاره وتصوراته في الاقتصاد بما يشرح فيه تحليلاً مفصلاً عن المال وسيطرة الأثرياء والمستغلين وعن العمل المضيع المستغل لحساب البورجوازيين والرأسماليين فيما يسمى بفائض القيمة . وقد صدر الجزء الأول من " رأس المال " عام 1867م . أما الجزءان الآخران فقد اضطلع انجلز بمهمة تجميع المسودات لهما إلى أن تم نشرهما بعد وفاة ماركس ( .
مصادر فلسفته :
استفاد ماركس من عدة مصادر لدعم فلسفته ونظريته ومن أبرزها :
1ـ الفيلسوف الألماني ( هيجل ) أخذ منه مبدأ التناقض في الحياة ، أو (الدياليكتيك).
) وقد أخذ ماركس الإطار الجدلي الهيجلي ، بيد أنه لم يقبل القول بأن الفكر أو العقل أو الروح أو المطلق المثالي هو الذي يؤثر على الحياة والواقع المادي ؛ فقد ذهب على نقيض ذلك إلى أن مجموعة الظروف المادية هي التي تؤثر في الفكر والعقل ، ثم انتقل من ذلك إلى اعتبار أن ( عوامل الإنتاج الاقتصادي ) خاصة هي التي تؤثر في كافة العلاقات والتطورات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تتكون منها حركة التاريخ ؛ فهذه العلاقات والتطورات كلها أثر من آثار ظروف الإنتاج الاقتصادي (.
أهداف الماركسية ومبادؤها :
) تقوم النظرية الماركسية على مجموعة من الأسس والمبادئ يمكن تلخيصها في النقاط الآتية :
1ـ إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا وإحلال الملكية الجماعية بدلاً منها .
2 ـ إلغاء الطبقات بإقامة دكتاتورية البرليتاريا وإبادة الطبقات الأخرى .
3ـ كفالة الدولة لجميع " المواطنين " في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالاً ونساء .
4ـ المساواة في الأجور .
5ـ إلغاء الدين ! .
6ـ تطبيق مبدأ " من كل بحسب طاقته ، ولكل بحسب حاجته " .
7ـ إلغاء الصراع من المجتمع البشري بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية .
8 ـ إلغاء الحكومة في المستقبل ، وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة ( .
نقض الماركسية :
نحاول فيما يلي نقض كل واحد من هذه المبادئ في إيجاز دون تفصيل :
1ـ ) فأما من حيث إلغاء الملكية الفردية فقد تم ذلك وبصورة حادة في المرحلة الأولى من التطبيق على عهد لينين وجزء من عهد ستالين . أما إحلال الملكية الجماعية محلها فقد تكشف عن أسطورة ضخمة ليس لها وجود حقيقي ! فلا أحد من طبقة البروليتاريا يملك شيئاً في الحقيقة أو يحس بملكية شيء .إنما الدولة ـ كما نصت النظرية ـ هي المالك الحقيقي لكل شيء والدولة ـ عند التطبيق ـ شيء والشعب شيء آخر . ومهما قيل من " نيابة " الدولة عن البروليتاريا في الملكية والإشراف عليها فهو مجرد كلام للاستهلاك النظري . أما الواقع فهو أن الدولة أصبحت كابوساً ثقيلاً بدكتاتوريتها البشعة التي لا تدع للناس فرصة للإحساس بوجودهم فضلاً عن أن يحسوا بأنهم يملكون شيئاً على الإطلاق !
فجو الإرهاب الدائم الذي تمارسه الدولة على الشعب بحجة المحافظة على النظام من أعدائه وجو الجاسوسية الذي يعيش فيه إلى حد أن الوالد لا يأمن ولده ولا الزوج يأمن زوجته ولا الأخ يأمن أخاه ـ ضمانا ألا يجتمع اثنان على سر خشية أن يكون السر مؤامرة على " النظام " ! ـ هذا الجو الذي يمكن أن يؤخذ فيه الإنسان بالظنة فيحاكم ويحكم عليه بالإعدام أو الاعتقال في ثلوج سيبيريا أو بأي عقوبة أخرى "رادعة " .. وهو جو لا يسمح بوجود " التعاطف " بين الشعب والدولة ، ذلك التعاطف الذي يحس فيه أن الدولة نائبة عنه في الملكية والإشراف عليها . . فالنيابة لا تكون بالحديد والنار والتجسس . . إنما يخضع الشعب للدولة بعامل الإرهاب المسلط عليه ، ويفقد في النهاية أي شعور بملكية شيء على الإطلاق ! ولا يبقى له إلا شعوره بالحرمان ! ( .(34/157)
) لقد زعمت النظرية الشيوعية أن الأصل في الإنسان هو الملكية الجماعية، وأن الملكية الفردية هي إنحراف شرير وقعت فيه البشرية بعد اكتشاف الزراعة ، وأن الشيوعية الثانية سترد الإنسان إلى أصله " فيستمتع " بالملكية الجماعية ويشفى من هذا الانحراف الخطير الذي أفسد إنسانيته وأشاع الظلم في المجتمع البشري لقرون عديدة من الزمان !
ثم فرضت " الدولة " الأمر فرضاً بالحديد والنار . .
فهل شفيت النفوس من الداء وسلمت من الانحراف ، وارتدت إلى أصلها الملائكي المزعوم ؟!
إن الذي حدث بالفعل ـ أشرنا إليه من قبل ـ أن " النظام " تراجع في عهد ستالين ثم في عهد خر وشوف عدة تراجعات .
ففي المرحلة الثانية من عهد ستالين كان " النظام " في حاجة إلى زيادة الإنتاج ، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال ـ بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى ـ أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافي يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشتري أنواعاً من الطعام أفخر ، أو كميات أكبر ، وأنواعاً من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية .
وموضع الدلالة : أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردي والالتجاء إليه .ولو كانت ترى ـ أو تعتقد في دخيلة نفسها ـ أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردي لفعلت ، خاصة وهي تملك الحديد والنار وتستخدمهما ـ بإسراف ـ في جميع المجالات ، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردي ـ أيا تكن مبرراته التي تلقى أمام الناس ـ هو تراجع عن أصل من أصول النظرية ، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئاً فطرياً وأن الأصل في الناس هو الملكية الجماعية !
موضع الدلالة إذن أن كل بطش الدولة لم يستطع أن " يشفي" الناس من الحافز الفردي ويضع الحافز الجماعي مكانه . ومعنى ذلك أن الحافز الفردي ـ الوثيق الصلة بالملكية الفردية ـ عميق في الفطرة إلى حد لا يمكن انتزاعه ، ولو استخدمت في انتزاعه كل وسائل البطش والإرهاب ( .
2ـ ) أما إنشاء مجتمع غير طبقي ، وإلغاء جميع الطبقات ما عدا طبقة البروليتاريا وإقامة دكتاتورية البروليتاريا ، فقد اختلف التطبيق فيها اختلافا واسعاً عن النظرية !
ولسنا نتحدث هنا عن " محاسن " إنشاء مجتمع غير طبقي ، ولا كون هذا الأمر واجباً أو غير واجب ، ممكنا أو غير ممكن ، إنما نتحدث عن الواقع التطبيقي لنرى مقدار قربه أو بعده عن الشيء الذي قالوا إنه واجب أن يكون .
لقد زالت طبقة الاقطاعيين نعم ، وحال تطبيق الشيوعية في الدولتين الشيوعيتين الكبيرتين دون ظهور الطبقة الرأسمالية ، وما كان منها موجوداً في الدول الأخرى التي اعتنقت الشيوعية فقد أزيل إما بنزع الملكية الفردية وإما بالإبادة الثورية.
ولكن ما الذي حدث بعد ذلك ؟!
الذي حدث بالفعل أن " طبقة " جديدة بكل تعريف الطبقة ومواصفاتها قد برزت في المجتمع الشيوعي تحت أسم جديد بالمرة هو " الحزب " !
والفارق بين أفراد الحزب ـ بدرجاته المختلفة ـ وبين أفراد الشعب هو ذات الفارق بين أية طبقة كانت مالكة وحاكمة من قبل وبين الشعب ! فأدنى درجات الحزب ـ وهي العضوية العادية ـ تنشئ لتوها ضخما في كل شؤون الحياة . وليست العبرة بوجود الملكية الفردية أو عدم وجودها فلم يكن منشأ الطبقية في المجتمعات الطبقية هو مجرد وجود الملكية الفردية كما زعم التفسير الجاهلي للتاريخ ، إنما كان ما يترتب على الملكية من سلطان ونفوذ ، انطلاقاً من مبدأ أن الذي يملك هو الذي يحكم. أي أن الطبقية في الواقع ـ وإن نبعث في المجتمعات الجاهلية من الملكية الفردية كما يقول التفسير المادي ـ إنما هي طبقية السلطان والنفوذ ، التي تنبع من قدرة هذه الطبقية على التشريع لحساب نفسها وإلزام الآخرين بالخضوع لهذا التشريع .
وقد ألغيت الملكية الفردية من المجتمع الشيوعي ، ولكن السلطان والنفوذ الذي تركز في " الحزب " قد جعل منه طبقة متميزة ، لها كل سمات الطبقة ومميزاتها سواء في نوع المعيشة ـ أي المتاع ـ أو في النفوذ والسلطان ( .
) إن تركيز النفوذ في " الحزب " و " الدولة " و " الزعيم " هو الذي ينشئ ذلك الفارق الضخم بين " اللاشيئية " و " الشيئية " في المجتمع الشيوعي . . ولذلك يصبح أكبر مطمح للفرد لعادي في المجتمع الشيوعي أن يضع قدمه ـ مجرد وضع ـ ولو على أدنى درجة من درجات ذلك البناء الشاهق الذي يمثل السلطان ، فيتغير وجوده كله ، بل يصبح في الحقيقة موجوداً بعد أن لم يكن له وجود ( .
3ـ ) أما كفالة الدولة لكل فرد من أفراد المجتمع فهي الشيء الوحيد الذي برزت به الشيوعية في عالم الواقع على كل جاهليات التاريخ .(34/158)
لا يوجد فرد لا يأكل ولا يلبس ولا يسكن من كل أفراد الشعب . وهذا هو الواجب الذي نكلت عنه الدولة الاقطاعية والدولة الرأسمالية على السواء . وإذا كانت الدولة الرأسمالية الحديثة قد اقتربت من أداء هذا الواجب شيئاً من الاقتراب بالضمانات الاجتماعية والإعانات التي تصرف للمتعطلين من نقاباتهم أو من الدولة ، وبالرعاية الصحية المجانية ، وبالخدمات المجانية العامة .. الخ ، فإنها لم تبلغ بعد الحد الذي التزمت به الدولة الشيوعية ، فضلاً عن كونها قد فعلت ما فعلت لا بدافع إنساني ولكن خوفاً من الشيوعية ، من جهة ، وخوفاً من الضرر الذي يلحقها إذا لم تستجب لطلبات العمال المطالبين بهذه الحقوق .
ولكن لنا على هذه الكفالة مجموعة من الملاحظات . إذا قسناها على الكفالة التي قررها الإسلام لكل فرد من أفراد الأمة قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان !
تكفل الدولة الشيوعية أفرادها على الحد الأدنى الذي وصفناه من قبل ، ومع ذلك لا تكفلهم وهم كرماء على أنفسهم ولا على دولتهم ! ولا نتحدث الآن عن تكليفهم بالعمل ـ رجالاً ونساء ـ مقابل كفالتهم ، أي أن الدولة لا تتفضل عليهم بالكفالة إنما هي تجندهم لحسابها وتستصفي جهدهم كله قبل أن تعطيهم ضرورات حياتهم ، وتهددهم تهديداً صريحاً بقولها : من لا يعمل لا يأكل . . .
لا نتحدث الآن عن هذا ، فالعمل على أي حال هو الأصل في حياة الإنسان وليست البطالة هي الأصل . . ولكنا نقول إن الدولة الشيوعية بإلغائها الملكية الفردية والعمل الحر ، وتحويل كل الناس أجراء للدولة ، إنما تستذلهم في الواقع بلقمة الخبز ، فلا يملكون أن يتوجهوا بكلمة نقد واحدة للقائمين بالأمر خوفاً على لقمة الخبز أن تضيع . . وذلك بخلاف الإرهاب بالحديد والنار والتجسس ، الذي يزيد من مذلة الناس وانكماشهم وخضوعهم للظلم الواقع عليهم دون التفوه بكلمة أو إشارة تدل على عدم الارتياح فضلاً عن الاحتجاج الصريح .
ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد في الأرض هو عمل الإنسان أجيراً لإنسان آخر ، وزعمت أنها هي التي ستخلص الناس من الظلم وتمنع الاستغلال حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر .
نعم . . . ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر ، وتأجيره "للدولة " التي هي شخص معنوي في الكلام فقط ، ولكنها في الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذي يطلبونه منهم ، وما يعاقبونهم به إذا قصروا في أدائه ؟ وأيهما أذل ـ في عالم الواقع ـ الأجير الذي يملك ولو ذرة واحدة من الحرية في اختيار شخص ((السيد)) الذي يبيع له جهده ، والمساومة على زيادة هذا الأجر ، والاحتجاج على انخفاضه إذا رآه كذلك ، أم الأجير الذي لا يملك ذرة من الحرية في تلك الأمور كلها ، لا اختيار نوع العمل ولا مكانه ، ولا اختيار ((السيد)) الذي يخدمه ـ فهو مفروض عليه بالحديد والنار ـ ولا حق الاحتجاج على الأجر المنخفض ولا طلب زيادته .. وإن فتح فمه بكلمة يموت جوعاً ، إن لم يمت بوسيلة أخرى غير الجوع ؟!
وأية سفسطة تلك التي تقول إن الذل لا يكون قائماً حين تكون ((الدولة)) هي التي تسخر الناس للعمل وهي التي تمنح الأجور؟! ما تعريف الذل ؟! وما اسم ذلك الإحساس الذي يحسه الإنسان حين يجد أنه لا يملك حريته في أي أمر من الأمور، وأن عليه أوامر ينبغي أن يطيعها ، وواجبات ينبغي أن يؤديها ، دون أن يكون له حق الاعتراض على شيء من الأشياء ؟!
أم يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ؟!
يحلونه إذا كان صادراً منهم ومحققاً لمصلحتهم ، ويحرمونه إذا صدر من غيرهم أو لم يكن في صالحهم ؟(
4 ـ ) أما قضية المساواة في الأجور فلا تزيد على أن تكون واحدة من الأساطير الكثيرة التي بددها التطبيق .
في عهد لينين والجزء الأول من عهد ستالين طبقت روسيا مبدأ المساواة في الأجور لجميع العمال في الاتحاد السوفيتي . ولكن هل كانت هناك مساواة عامة في الأجور بالنسبة لكل العاملين ؟
هل كان أجر المهندس كأجر العامل ؟ وأجر الطبيب كأجر الممرض ؟ وأجر الجندي كأجر الضابط ؟
إن هذا بداهة مستحيل !
ومع استحالته فقد ظلت النظرية الشيوعية تنافح عن قضية المساواة وتندد بقضية التفاوت في الأرزاق !
ثم جاء اليوم الذي انهارت فيه المساواة حتى في صفوف العمال أنفسهم ، بعد أن كانت منهارة ما بين العمال وغيرهم من العاملين . فقد لجأ ستالين ـ كما أسلفناـ إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لقاء أجر إضافي ينفق في ((الكماليات)).. وهكذا ضاعت المساواة تماماً ولم يعد لها وجود! ( .
5 ـ أما إلغاء الدّين فهو الأمر الذي نجح فيه الماركسيون في بلادهم !! فقالوا بأنه ( أفيون الشعب ) وخدرها .(34/159)
) وفي التطبيق اشتد الماركسيون في محاربة الدين . فلم يكتفوا بتحريم الحديث فيه ، ومعاقبة من يضبط ((متلبساً)) بالحديث في الدين مع شاب أو فتاة دون الثامنة عشر ، بل بالغوا في الاحتياط فوضعوا في مناهجهم الدراسية درساً للإلحاد في مكان درس الدين ! فحيث يضع البشر كلهم درساً للدين في مدارسهم ـ مؤمنين وغير مؤمنين ـ يتحدثون فيه عن الله ، يضع الشيوعيون في مدارسهم درساً يقال للتلاميذ فيه إنه لا إله ، والكون مادة (أي بلا خالق) .
ولا مكان للمتدينين في الدولة الشيوعية . وقد قتل ستالين وحده ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهده ، لأن الشيوعية كانت قد طلبت معونة المسلمين في الثورة ضد قيصر . ووعدتهم بأن تجعل لهم مكانة خاصة إذا نجحت الشيوعية ، وتترك لهم حرية ممارسة حياتهم الإسلامية ، فلما طالبوا بتحقيق الوعد ، حققه ستالين لهم على هذا النحو بالقتل والتعذيب والتشريد الجماعي ( .
6 ـ أما تطبيق مبدأ ( من كلٍ بحسب طاقته ، ولكلٍ بحسب حاجته ) .
7 ـ وإلغاء الصراع في المجتمع بإلغاء الملكية الفردية .
8 ـ وإلغاء الحكومة .
فكل هذه الأمور لم تستطع الدول الماركسية (جميعها) تحقيقها إلى الآن ، ولن تستطيع في المستقبل لأمرين :
أولهما : أن هذه الأمور (خيالية) .
وثانيهما : أن الدول الماركسية بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى ، وعلى رأسها (الأم) روسيا ، ولله الحمد والمنة .
* * *
القومية العربية
هي حركة سياسية فكرية متعصبة ، تدعو إلى تمجيد العرب ، وإقامة دولة موحدة لهم ، على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ ، وإحلالها محل رابطة الدين ، وهي صدىً للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوربا .
ظهرت بدايات الفكر القومي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها الجمعيات والخلايا في عاصمة الخلافة العثمانية ، ثم في حركة علنية في جمعيات أدبية تتخذ من دمشق وبيروت مقراً لها ، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس ! سنة 1912م .
ظلت الدعوة إلى القومية العربية محصورة في نطاق الأقليات الدينية غير المسلمة ، وفي عدد محدود من أبناء المسلمين الذين تأثروا ـ كتركي الحمد ! ـ ، ولم تصبح تياراً شعبياً عاماً إلا حين تبني الدعوة إليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، حين سخر لها أجهزة إعلامه ، وإمكانات دولته .
يعد (ساطع الحصر ي ت 1968م) داعية القومية العربية وأهم مفكريها وأشهر دعاتها ، وله مؤلفات كثيرة تعد الأساس الذي تقوم عليه فكرة القومية العربية ، ويأتي بعده في الأهمية النصراني ( ميشيل عفلق ) مؤسس ( حزب البعث ) .
يرى دعاة القومية العربية أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي:
1ـ اللغة العربية .
2ـ الدم .
3ـ التاريخ .
4ـ الأرض .
5ـ الآلام والآمال المشتركة .
أما الدين فإنه مستبعد من مقومات القومية العربية ! بل يحارب ! لأنه بزعمهم يُفرق العرب ولا يوحدهم !
وفي هذا يقول شاعرهم ( القروي ) :
هبوني عيداً يجعل العرب أمة
وسيروا بجثماني على دين بَرهم !
سلامٌ على كفر يوحد بيننا
وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم !
يقول الشيخ ابن باز ـ حفظه الله ـ :
) من خبر أحوال القوميين وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع ، ومن تلك الأمور: فصل الدين عن الدولة ، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع ، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى ، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة ـ لا بلغهم الله مناهم ـ ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طرباً ، ويساعد وجودها ورفع مستواها وإن تظاهر بخلاف ذلك ـ تغريراً للعرب عن دينهم ، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم ، والدعوة إليها والاعراض عن دينهم ( 130.
وقال ـ حفظه الله ـ ناقضاً هذه الفكرة الجاهلية :
) من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات ، دعوة باطلة وخطأ عظيم ومنكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله ، وذلك لوجوه :(34/160)
الأول : أن الدعوة إلى القومية العربية تفرَّق بين المسلمين ، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي ، وتفرّق بين العرب أنفسهم لأنهم كلهم ليسوا يرضونها ، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم ، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزاباً ، فكرة باطلة تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه ، وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى كما يدل على ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تهتدون )131 وقال {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}132 وقال تعالى : {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(31)مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}133 .
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق والاختلاف ويدعو إلى الاجتماع والوئام والتمسك بحبل الحق والوفاة عليه ، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام ، وأن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام .
ويدل على ذلك أيضاً أن هذه الفكرة أعني الدعوة إلى القومية العربية ، وردت إلينا من أعدائنا الغربيين ، وكادوا بها المسلمين ،ويقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض ، وتحطيم كيانهم ، وتفريق شملهم ،على قاعدتهم المشؤمة "فرّق تسد " وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة مما يحزن القلوب ويدمي العيون (134 .
) الوجه الثاني : أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة ، بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية لأنها دعوة إلى غير الإسلام ومناصرة لغير الحق وكم جرّت دعوى الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة وقودها النفوس والأموال والأعراض ، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب والتفريق بين القبائل والشعوب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية ، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاري : يا للأنصار قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم " وغضب لذلك غضباً شديداً " انتهى .
ومما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } 135، وقال تعالى : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 136 ، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية " ، وفي " صحيح مسلم " أيضاً عن النبيe أنه قال :" إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية ، ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية ، ولا ريب أيضاً أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر لأن القومية ليست ديناً سماوياً يمنع أهله من البغي والفخر ، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء ، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم )137 .
(الوجه الثالث : من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية : هو أنها سلّم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من أبناء غير المسلمين واتخاذهم بطانة والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم . ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير والمخالفة لنصوص القرآن والسنة الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة .(34/161)
والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، منها قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } الآية 138 . سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه ، هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا ، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا ، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم تحت لواء القومية العربية ، ويقولون : إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي وإن تفرقت أديانهم ، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله ومخالفة لشرع الله وتعد لحدود الله وموالاة ومعاداة وحب وبغض على غير دين الله ؟
فما أعظم ذلك من باطل وما أسوأه من منهج !
القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا ، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه {قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 139 ويقول الله سبحانه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ـ إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }140 ونظام القومية يقول : كلهم أولياء مسلمهم وكافرهم !!
والله يقول : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية 141 . ويقول سبحانه : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 142 .وقال تعالى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ }143. وشرع القومية ، أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول : أقصوا الدين عن القومية ، وافصلوا الدين عن الدولة ، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم ، وكأن الإسلام وقف في طريقهم وحال بينهم وبين أمجادهم ، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية ، سبحانك هذا بهتان عظم ! والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والتحذير من توليهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن ، فلا ينبغي أن نطيل بذكرها وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل وأبو لهب ، وعقبة ابن أبي معيط ، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يومنا هذا إخواناً وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ومن سلك سبيلهم من العرب إلى يومنا هذا . . هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل . وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه وإن أنكره بعض دعاتها جهلاً أو تجاهلاً وتلبيساً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم )144 .
( الوجه الرابع : من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال : إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن ، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام .(34/162)
وقد صرح الكثير منهم بذلك . وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة ، كما قال تعالى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 145 وقال تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} )146 قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}147 وقال تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}148 وقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}149 وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات . يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله ، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته كم قال عز وجل : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}150 .
فالواجب على زعماء القومية ودعاتها أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشؤومة وغاياتها الوخيمة ، وأن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلاً من الدعوة إلى قومية أو وطنية ) 151
حزب البعث العربي الاشتراكي152
حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب قومي علماني ، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي ، شعاره المعلن (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) وهي رسالة الحزب ، أما أهدافه فتتمثل في الوحدة والحرية والاشتراكية .
التأسيس وأبرز الشخصيات :
ـ في سنة 1932م عاد من باريس قادماً إلى دمشق كل من ميشيل عفلق (نصراني ينتمي إلى الكنيسة الشرقية )153 وصلاح البيطار ( سني ) وذلك بعد دراستهم العالية محملين بأفكار قومية وثقافية أجنبية .
ـ عمل كل من عفلق والبيطار في التدريس ، ومن خلاله أخذا ينشران أفكارهما بين الزملاء والطلاب والشباب .
ـ أصدر التجمع الذي أنشأه عفلق والبيطار مجلة الطليعة مع الماركسيين سنة 1934 وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم ( جماعة الإحياء العربي ) .
ـ في نيسان 1947 تم تأسيس الحزب تحت اسم ( حزب البعث العربي ) ، وقد كان من المؤسسين : ميشيل عفلق ، صلاح البيطار ، جلال السيد ، زكي الأرسوزي ، كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث .
ـ كان لهم بعد ذلك دور فاعل في الحكومات التي طرأت على سوريا بعد الاستقلال سنة 1946 وهذه الحكومات هي :
1ـ حكومة شكري القوتلي : من 1946 وحتى 29/3/1949م .
2ـ حكومة حسني الزعيم : استلم السلطة عدة شهور من سنة 1949م .
3ـ حكومة اللواء سامي الحناوي : بدأ حكمه وانتهى في نفس عام 1494م .
4ـ حكومة أديب الشيشكلي : استمر حكمه حتى سنة 1954م .
5ـ حكومة شكري القوتلي : عاد إلى الحكم مرة ثانية واستمر إلى توقيع الوحدة مع مصر سنة 1958م .
6ـ حكومة الوحدة برئاسة جمال عبد الناصر : 1958ـ 1961م .
7ـ حكومة الانفصال برئاسة الدكتور ناظم القدسي : وقد دام الانفصال من 28/9/1961م وحتى 8/3/1963م وقد قاد حركة الانفصال عبد الكريم النحلاوي .
منذ 8/3/1963م وإلى اليوم فقد وقعت سوريا تحت حكم حزب البعث ، مرت هذا الفترة بعدة حكومات بعثية هي :
ـ حكومة قيادة الثورة : 1963م وفيها برز صلاح البيطار كرئيس للوزراء .
ـ حكومة أمين الحافظ : من 1963م وحتى 1966م .
ـ حكومة نور الدين الأتاسي : 1966م حيث لعب القيادة القطرية للحزب دوراً بارزاً في الحكم ، وقد برز في هذه الفترة كل من صلاح جديد الذي عمل أميناً عاماً للقيادة القطرية وحافظ الأسد الذي عمل وزيراً للدفاع .
ـ حكومة حافظ الأسد : من سنة 1970م وإلى يومنا هذا .
لقد اندمج في سنة 1953م كل من ( حزب البعث ) و ( الحزب العربي الاشتراكي ) الذي كان يقوده أكرم الحوراني في حزب واحد أسمياه ( حزب البعث العربي الاشتراكي ) .
* أما عن الجناح العراقي من حزب البعث فقد استولى على السلطة في العراق بعد أحداث دامية سارت على النحو التالي :
ـ في الرابع عشر من شهر يوليو عام 1958 دخل لواء بقيادة عبد السلام عارف إلى بغداد قادماً من الأردن واستولى على محطة الإذاعة وأعلن الثورة على النظام الملكي وقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد وأعوانه وأسقط النظام الملكي وبذلك انتهى عهد فيصل ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية .(34/163)
ـ وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر يوليو عام 1958م أي بعد عشرة أيام من نشوء الثورة وصل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وزعيمه إلى بغداد وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ومصر ) ولكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه ونادى بعبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق.
ـ وفي اليوم الثامن من شهر فبراير لعام سنة 1963م قام حزب البعث بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم وقد شهد هذا الانقلاب قتالاً شرساً دار في شوارع بغداد ، وبعد نجاح هذا الانقلاب تشكلت أول حكومة بعثية ، وسرعان ما نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف من حزب البعث فاغتنم عبد السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق في 18 نوفمبر سنة 1963م وعين عبد السلام عارف أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين المعتدلين نائباً لرئيس الجمهورية .
ـ في شهر فبراير سنة 1964م أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي .
ـ في شهر سبتمبر سنة 1966م قام حزب البعث العراقي بالتحالف مع ضباط غير بعثيين بانقلاب ناجح أسقط نظام عارف .
ـ في اليوم الثلاثين من شهر يوليو عام 1968م طرد حزب البعث وعين أحمد حسن البكر رئيساً لمجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخلي .
ـ وفي 15 أكتوبر سنة 1970م تم اغتيال الفريق حردان التكريتي في مدينة الكويت وكان من أبرز أعضاء حزب البعث العراقي وعضواً في مجلس قيادة الثورة ونائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للدفاع .
ـ وفي شهر نوفمبر من عام 1971م تم اغتيال السيد فؤاد الركابي وكان المنظر الأول للحزب وأحد أبرز قادته في العراق وقد تم اغتياله داخل السجن .
ـ وفي 8 يوليو سنة 1973م جرى إعدام ناظم كزار رئيس الحكومة وجهاز الأمن الداخلي وخمسة وثلاثين شخصاً من أنصاره وذلك في أعقاب فشل الانقلاب الذي حاولوا القيام يه .
ـ وفي 8 يوليو السادس من شهر مارس عام 1975م وّقعت الحكومة البعثية العراقية مع شاه إيران الاتفاقية المعروفة باتفاقية الجزائر وقد وقعها عن العراق صدام حسين وتقضي الاتفاقية المذكورة بأن يوافق العراق على المطالب الإقليمية للشاه في مقابل وقف الشاه مساندته للأكراد في ثورتهم على النظام العراقي .
ـ في شهر أكتوبر لعام 1978م طردت الحكومة البعثية الخميني من العراق وقامت في شهر فبراير عام 1979م الثورة الخمينية في إيران .
ـ في شهر يونيو عام 1979م أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية بعد إعفاء البكر من جميع مناصبه وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله .
تقييم لأفكار حزب البعث :
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي علماني انقلابي له طروحات فكرية متعددة يتعذر الجميع بينها أحياناً فضلاً عن الاقتناع بها ، لقد كُتِب عنه كثيراً وتحدث زعماؤه طويلاً ، ولكن هناك بون واسع بين ممارسات وأقوال فترة ما قبل السلطة ، وممارسات وأقوال فترة ما بعدها .
ـ الرابطة القومية عنده هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة وتكبح جماح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية حتى قال شاعرهم :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له
وبالعروبة دينا ماله ثاني
ـ تعلن سياسة الحزب التربوية أنها ترمي إلى خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالتها آخذاً بالتفكير العلمي ، طليقاً من قيود الخرافات والتقاليد والرجعية ، مشبعاً بروح التفاؤل والنضال والتضامن مع مواطنيه في سبيل تحقيق الانقلاب العربي الشامل وتقدم الإنسانية ، " والطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هو خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن بأن الله والأديان والإقطاع ورأس المال وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ "!! كما يقول إبراهيم خلاص ـ فيلسوف الحزب في العراق ـ .
من التوصيات العامة لمقررات المؤتمر القومي الرابع للحزب نقتطف الآتي لبيان نظرتهم :
ـ تقول التوصية الرابعة : " يعتبر المؤتمر القومي الرابع الرجعية الدينية إحدى المخاطر الأساسية التي تهدد الانطلاقة التقدمية في المرحلة الحاضرة ولذلك يوصي القيادة القومية بالتركيز في النشاط الثقافي والعمل على علمانية الحزب ، خاصة في الأقطار التي تشوه فيها الطائفية العمل السياسي ".
ـ التوصية التاسعة تقول : " إن أفضل سبيل لتوضيح فكرتنا القومية هو شرح وإبراز مفهومها التقدمي العلماني وتجنب الأسلوب التقليدي الرومنطيقي في عرض الفكرة القومية ، وعلى ذلك سيكون نضالنا في هذه المرحلة مركزاً حول علمانية حركتنا ومضمونها الاشتراكي لاستقطاب قاعدة شعبية لا طائفية من كل فئات الشعب " .(34/164)
ـ أما عن الوحدة فهم يقولون : " ليست الوحدة العربية ، مجرد تجميع ولصق لأجزاء الوطن العربي بل هي التحام فصهر لهذه الأجزاء ، لذا فإن الوحدة ثورة بكل أبعادها ومعانيها ومستوياتها ، وهي ثورة لأنها قضاء على مصالح إقليمية عاشت وتوسعت وترسبت عبر القرون ، وهي ثورة لأنها تجابه مصالح وطبقات تعارض الوحدة وتقف في وجهها " ( المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس ) .
ـ وأما الاشتراكية فهي تعني " تربية المواطن تربية اشتراكية علمية تعتقه من كافة الأطر والتقاليد الاجتماعية الموروثة والمتأخرة لكي يمكن خلق إنسان عربي جديد بعقل علمي متفتح ، ويتمتع بأخلاق اشتراكية جديدة ويؤمن بقيم جماعية " .
ـ الرسالة الخالدة : يفسرونها بأن الأمة العربية ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ ترمي إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم .
هذا ويمكن ملاحظة ما يلي :
ـ إن كلمة الدين لم ترد مطلقاً في صلب الدستور السوري أو العراقي .
ـ كلمة الإيمان بالله على عموميتها لم ترد في صلب الدستور ، لا في تفصيلاته ولا في عمومياته ، مما يؤكد على الاتجاه العماني لديه .
ـ في بناء الأسرة لا يشيرون إلى تحريم الزنى ولا يشيرون إلى آثاره السلبية 154.
ـ في السياسة الخارجية لا يشيرون إلى أية صلة مع العالم الإسلامي .
ـ لا يشيرون إلى التاريخ الإسلامي الذي أكسب الأمة العربية مكانة وقدراً بين الشعوب .
ـ رغم مطالبة الحزب بإتاحة أكبر قدر من الحرية للمواطنين ، فإن ممارساته القمعية فاقت كل تصور وانتهكت كل الحرمات ووأدت كل الحركات ، وألجأت الكثيرين إلى الهجرة والفرار بعقيدتهم من الظلم والاضطهاد .
ـ القوانين في البلاد التي يحكمها البعث علمانية وحانات بيع الخمور مفتوحة ليل نهار ، والنظام المالي ربوي ، ودعاة الإسلام مضطهدون بشكل سافر .
الجذور الفكرية والعقائدية :
1ـ يعتمد الحزب على الفكر القومي الذي ظهر وبرز بعد سقوط الدولة العثمانية في العالم العربي والذي نادت به أوروبا ، والذي نادى به منظر القومية العربية في العالم العربي آنذاك ساطع الحصري .
2ـ يعتمد الحزب على الفكر العلماني إذ ينحي مسألة العقيد الدينية جانباً ولا يقيم لها أي وزن سواء على صعيد الفكر الحزبي أو على صعيد الانتساب إلى الحزب أو على صعيد التطبيق العلمي .
3ـ يستلهم الحزب تصوراته من الفكر الاشتراكي ويترسم طريق الماركسية رغم انهيارها ، والخلاف الوحيد بينهما أن اتجاهات الماركسية أممية ، أما البعث فقومي ، وفيما عدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الفقري في فكر الحزب ومعتقده ، وهي لا تزال كذلك رغم انهيار البنيان الماركسي فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي .
4ـ لقد كان الحزب واجهة انضوت تحته كل الاتجاهات الطائفية ( درزية ـ نصيرية ـإسماعيلية ـ مسيحية ) وأخذ هؤلاء يتحركون من خلاله بدوافع باطنية يطرحونها ويطبقونها تحت شعار الثورة والوحدة والحرية والاشتراكية والتقدمية ، وقد كانت الطائفة النصيرية أقدر هذا الطوائف على استغلال الحزب لتحقيق أهدافها وترسيخ وجودها ، إلى أن وصلت إلى الحكم في سوريا 155.
الانتشار ومواقع النفوذ :
1ـ للحزب أعضاء ينتشرون في معظم الأقطار العربية ، بعضهم يعمل بشكل علني ، وبعضهم الآخر سري ! ويتفاوت وجودهم وتأثيرهم من بلد إلى آخر على حسب طبيعة البلد ونوعية حكمه!
2ـ يحكم حزب البعث بلدين عربيين مهمين هما سوريا والعراق ، وقد عجز الحزب عن تحقيق الوحدة بين فصائله ، بل إن الصراع بين شطري البعث مستمر وعلى أشده ، واتهامات الخيانة بين الطرفين لا تنقضي ، وإذا كان هذا هو شأن الحزب في بلدين يخضعان له ، فهو من باب أولى عاجز عن تحقيق وحدة الأمة العربية بكاملها .
والبعثيون يتطلعون إلى استلام السلطة في جميع أرجاء الوطن العربي باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزأ من طموحاتهم البعيدة ، وقد أدت بهم هذه الرغبة العارمة إلى السقوط في حمأة الإنذار المقنع والتهديد السافر والعدوان الصريح ، وربما يكون حزب البعث في العراق من أسوأ ما شهده التاريخ .
ويتضح مما سبق :
أن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي سلطوي يحاد الله ورسوله ويسعى إلى قلب الأوضاع في العالم العربي ويتخذ العلمانية وتحقيق الاشتراكية مطلباً يبرر سياسته القمعية ، ورسالته التي يصفها ، على خلاف الحقيقة ، بالتقدمية ، ويجعل من الوحدة العربية هدفاً ينفذه بالضم والإرغام رغم إدارة الشعوب .
والعلاقة معه يجب أن يحكمها قول الله سبحانه : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوآدون من حآد الله ورسوله ) 156 .
الإنسانية
عندما أعيت الحمد الأفكار والمذاهب ، فاحتار في أيها الصحيح : هل هو الإسلام : أم الماركسية : أم القومية ، أم .. أم . .(34/165)
تفتق ذهنه عن فكرة أخرى رآها تحل له مشاكله وتريحه من عناء التفرق والانقسام والخلافات بين الفرق والأديان والمذاهب تلكم الفكرة هي فكرة (الإنسانية)! وهي فكرة ( خيالية ) يتوهم بها الحمد أن يعيش الناس ـ من خلالها ـ إخوة متحابين ، لا تفرق بينهم الأديان ، وإنما هم بشر متساوون فيما بينهم كتساوي أسنان المشط .
ـ يقول الحمد على لسان هشام :
) لماذا لا نتعامل مع الإنسان بصفته إنساناً أولاً ، أي صفته الأولى التي خرج بها إلى الحياة ، ثم تأتي اللواحق كأن يكون بروليتاريا أو برجوازياً عربياً أو أعجمياً؟… نحن نتعامل مع الناس بصفاتها اللاحقة وننسى الصفة الأولى التي أتي بها إلى الحياة ، ويخرج منها بها . . لو بحثت في أعماق الناس المستورة لوجدتهم مثل بعضهم ولكن قاتل الله اللواحق . . .
وضحك عبد الله وهو يقول :
ـ هل تريد أن تعرج بنا على فرويد وصحبه ؟
فضحك هشام أيضاً وهو يقول :
ـ ولا فرويد ولا عبد المتجلي . . أتدري من يطوف بخيالي الآن ؟
ـ من يا صاحب الحكمة ؟
ـ غاندي . . . المهاتما غاندي .
وبانت نظرات الاستغراب وجه عبد الله وهو يقول :
ـ غاندي ؟! . . قديس الهند . . . ما علاقته بكل هذيانك ؟
ـ كل العلاقة . . .
قال هشام وهو ينفخ الدخان إلى الأعلى :
ـ عندما كان يتعامل مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا ، ومع الاستعمار البريطاني في الهند ، لم يكن يقسم الناس إلى مستعمرين ومستعَمرين ، طبقات وفئات وجماعات متصارعة ، بل كان يتعامل مع الحس الإنساني المطمور في داخل الجميع . . . لم يكن يقاوم العنف بالعنف ، لأن العنف يأتي بالعنف بشكل تصاعدي ، ولكنه كان يتحمل عنف وقسوة الآخرين حتى الدرجة التي يستثير فيها حسهم الداخلي بالتعاطف معه ، ومن ثم يدركون أنهم مخطئون وظالمون . . . وقد نجح ( 157
ويقول : ) الإنسان لا يكون نفسه عندما يكون مقيداً بأي نوع من القيود ، قيود اجتماعية أو سياسية أو تنظيمية ، أو أي نوع من القيود التي تستر جوهر الإنسان فيه (158 .
قلت : لقد كذب الحمد على نفسه ثم صدقها ، حيث تخيل أن يعيش الناس متحابين في ما بينهم ، متعاونين متآزرين . . . ثم ادعى أن هذا هو حال الإنسان قبل الأديان والمذاهب . ولو صدق الحمد مع نفسه لعلم أن الإنسان الأول وهو آدم كان على دين التوحيد الخالص ، وهو الإسلام ، وهكذا أبناؤه وأحفاده إلى أن حدث الشرك في الأرض ، وعندها بدأ الانحراف ، وبدأت المذاهب الباطلة تنتشر بين البشر . وقد قال تعالى مبيناً هذا {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} 159 .
قال ابن عباس : ) كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق ( 160 .
فلو صدق الحمد مع نفسه لكان مسلماً موحداً ، لأن هذا هو ما كانت (الإنسانية ) عليه فيما مضى إلى أن حدث الانحراف ، وهذا هو الموافق للفطرة التي يحملها الإنسان عند ولادته كما أخبرe : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأ بواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " 161
أما الدعوة ( الإنسانية ) التي يدعو إليها الحمد فهي دعوة باطلة لأنها تساوي بين الحق والضلال ، وبين دين الإسلام وغيره من الأديان الباطلة ، وبين التوحيد والشرك ، وبين المسلمين والمشركين والكافرين ، وقد قال تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 162.
وقال سبحانه {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 163
يقول الشيح محمد قطب ـ حفظه الله ـ : ( ولكن أناساً قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عند الحقيقة التي تنطوي عليها وقد لا يصدقون أصلاً أنها دعوة إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين في الأرض لأمر يراد ) 164.
قال الشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله ـ عن الإنسانية : ( اتسع انتشار هذه اللفظة البراقة بين المسلمين عامتهم وخاصتهم ، ويستملح الواحد نفسه حين يقول : هذا عمل "إنساني " وهكذا حتى في صفوف المتعلمين والمثقفين ، وما يدري المسكين أنها على معنى " ماسونية " وأنها كلمة يلوكها بلسانه ، وهي حرب عليه ، لأنها ضد الدين ، فهي دعوة إلى أن نواجه المعاني السامية في الحياة بالانسانية لا بالدين )165 .
قلت : وانظر لبطلان هذه الدعوة : كتاب ( مذاهب فكرية معاصرة ) للشيخ محمد قطب ، وكتاب ( الإسلام والدعوات الهدامة ) للأستاذ أنور الجندي .
أما عن مدح الحمد للهندوسي المتعصب غاندي بأنه إنساني النزعة ، فانظر حقيقة هذا في كتاب ( مشاهداتي في الهند ) للشيخ محمد المجذوب حيث بين حقيقة هذا الهندوسي الذي خدع كثيراً من المسلمين ( بانسانيته !) وذكر شيئاً من قبائحه .(34/166)
ومن ذلك أن المسلمين في الهند نشطوا في دعوة طائفة ( المنبوذين ) في الهند إلى الإسلام ، وكادوا يستجيبون لهم لولا تدخل الهندوسي ( غاندي ) ! يقول المجذوب : ( كان لغاندي أثره الكبير في تجميد تلك الحركة أيامئذٍ ، إذ فتح للمنبوذين أبواب المعابد التي كانت مغلقة في وجوههم ، وتعهد لهم برد الكثير من الاعتبار الإنساني إليهم بعد الاستقلال إذا هم حافظوا على انتمائهم للنحلة الهندوسية ، وإنما فعل ذلك خشية أن تزداد بهم قوة المسلمين ) 166.
عقيدة أهل السنة في القدر 167
من القضايا التي ألح عليها الحمد في ثلاثيته كثيراً قضية ( القدر ) حيث حاول الحمد أن ينقل جهله وعدم فهمه لهذه القضية إلى القراء فيوحي لهم في مواضع كثيرة من ثلاثيته بأن هذا القدر المزعوم هو مجرد عبث ! وأنه لا فرق في ذلك بين أفعال الله ـ عز وجل ـ وأفعال الشيطان !!! ـ تعالى الله عما يقوله الحمد علواً كبيراً ـ .
وهذا الأمر قد جعله يتناثر بشكل مفتعل في كلمات ( هشام العابر) وأحاديثه مع نفسه خلال الأجزاء الثلاثية .
فمن ذلك :
1ـ قوله عن هشام : ( عصر ذلك اليوم ذهب مبكراً إلى منزل عبد الكريم ، ولم تكن الشلة قد وصلت بعد . كان عبد الكريم مسترخياً وقد مد رجليه أمامه ، ولا يرتدي إلا سروالاً نصفياً وفانيلة بيضاء نصف كم ، ويحتسي الشاي الذي لا يفارقه أبداً ، وقد أمسك برواية " الغريب " لألبير كامو وهو مستغرق في قراءتها . كان باب "الحوش " مفتوحاً كالعادة في مثل هذا الوقت ، ولذلك لم يشعر عبد الكريم إلا وهشام يقف أمامه وهو يقول : " يا عيني على الأفخاذ الندية . . . " ألقى عبد الكريم الرواية من يده وابتسم محيياً هشام ، ثم دعاه للجلوس فيما هو ينهض وقد حمل صينية الشاي قائلاً : " دقيقه واحدة ويكون الشاي جاهزاً " ، ثم انطلق إلى داخل المنزل . وما هي إلا دقائق وعاد عبد الكريم وقد ارتدى ثوباً أبيض ، أو كان أبيض فقد كان مليئاً بالبقع الصفراء والبنية ، وجلس مقابل هشام وقال دون مقدمات " أنا يا أخي لا أفهم . . . هل هناك فعلاً أشخاص مثل الغريب الذي يتحدث عنه كامو ، أم أن المسألة مجرد أبداع مؤلف أو تعبير عن حالته النفسية في لحظة ما ؟ . . . شخص عبثي لهذه الدرجة ! لا يأبه بوفاة أمه ولا بمحاكمته وموته هو شخصياً ! . . . أعتقد أن هذه مبالغة . . . أليس كذلك ؟ " ومد هشام إحدى رجليه ، وشبك ذراعيه خلف رأسه ، واستند إلى الحائط وهو يقول : " ربما يكون مثل هذا العبث مبالغة بالنسبة لنا ، ولكن لو عرفت الظروف التي عاشها كامو ، وحالة المجتمع الأوروبي بعد الحرب ، لربما أدركنا أن العبث قد يكون جزءاً من الحياة . . . " ، ثم اعتدل هشام في جلسته وهو يقول : " ما الفرق بين العبث والقدر ؟ ، " لم أفهم . . . " قال عبد الكريم ، " ما نسميه قدراً قد يكون عبثاً ، وما يسمونه عبثاً قد نسميه قدراً . المسألة يا عزيزي هي في كيف ننظر إلى الأمور وليس في الأمور ذاتها ليس هناك حقيقة في ذاتها ) 168.
2ـ قوله على لسان هشام : ( طوال الطريق إلى المنزل ، كان هشام يفكر بالقدر واللعبة الغريبة التي يمارسها معه )169 .
3ـ قوله عن رحلتهم إلى القصيم عندما تاهوا في الصحراء : ( ولكن الصحراء مثل القدر يسحقك ويكتم أنفاسك )170 .
4ـ قوله على لسان هشام عندما علم بأن ( سوير ) حامل منه : ( كتب علينا أن نخطئ وطلب منا ألا نفعل . فماذا نفعل ؟ … ماذا نفعل … ماذا نفعل…) 171.
5ـ قوله على لسان هشام محاوراً زميله في السجن عارف : ( إني كنت منتمياً إلى حزب البعث … ولم أقل أني بعثي بل لم أكن بعثياً في يوم من الأيام .
ـ عجيب ! .. وما الفرق ؟ أهذا لغز ؟
وسرح هشام بعيداً وهو يقول لنفسه هامساً : مثل لغز الحتم والإرادة ، والجبر والاختيار ) 172.
6ـ قوله على لسان هشام مخاطباً الشيوعي عارف : ( وكما ترى يا أبا وحيد ،فنحن لسنا أحرار تماماً في اختيار مصائرنا .. أليس هذا هو جوهر المادية التاريخية ؟
وضحك عارف في وجه هشام بشدة جعلته يشيح بوجهه قليلاً بعفوية ودون إرداة ، ثم قال وهو يهز سبابته في الهواء :
ـ ليس تماماً يا صاحبي .ليس تماماً . المادية التاريخية والجدلية تتحدث عن مصير الشعوب والمجتمعات والأفكار … إنها تتحدث عن الحتمية أما ما تقوله ، فهو جوهر الفكر الديني .أنت تتحدث عن القضاء والقدر ربما ، لا عن المادية التاريخية قطعاً .
ـ وما الفرق ؟ .. أليس كله حتم في حتم ؟ )173 .
7ـ قوله على لسان عارف الشيوعي متحدثاً عن الموت الذي يتربص بهم في السجن:
( نهرب من قضاء الإله لنقع في قضاء المخلوق … وكلها أقضية في أقضية . هل هناك عبث أكثر من ذلك ؟ ) 174.
8ـ قوله على لسان هشام متحدثاً عن السجن : ( هذا المبنى القبيح .كيف كان الوزراء يحتملون الاجتماع فيه عندما كان مقراً لمجلس الوزراء في الأيام الخالية ؟ ولكنها إرادة مثل القدر والحتم … مقر الوزراء يتحول إلى مقر للسجناء
)! 175.
9ـ قوله على لسان هشام متحدثاً مع نفسه :
( لماذا الاستمرار في مسرحية لا معنى لها ولا هدف ؟ ) 176 .(34/167)
( أكل هذا جزء من قدر إلهي ، أم هو عبث شيطاني ، أم هي حكمة لا ندريها، مختبئة في عباءة قدر عابث ، أو عبث قادر ؟ لا أحد يدري ، فالله والشيطان واحدٌ هنا ، وكلاهما وجهان لعملة واحدة … الصورة وعكسها ، ولكن الكائن واحد . الحياة كلها سؤال بلا جواب ) 177.
( بأي منطق يموت طفل صغير لم يكد يتنسم ريح الحياة وأريج الزهور ؟ إن كان هناك منطق ومعنى في وجوده ، فكيف يختفي قبل أن يمنح فرصة الوجود ؟ وإن يكن هناك منطق في موته ، فلماذا يوجد أصلاً ؟ وإن لم يكن هناك منطق في وجوده أو في موته ، فلماذا يوجد ويموت ؟ بل بأي منطق تموت ذبابة حقيرة نسحقها لأنها مؤذية ولا تستحق الحياة ؟ إذا كانت مؤذية ولا تستحق الحياة ، فلماذا وجدت ؟ وإذا كان لها حق في الحياة ، فلماذا تقتل ؟ من الذي يحدد من يؤذي من ؟ هل ما يجري هو حكمة خافية لا ندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدناه فأصبح نظاماً ، أم مزيج منهما ، أم ولا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد ، فربما كتب علينا أن نعيش ونموت ونحن ملفوفون في خرق بالية من الجهل والضياع . قد لا يكون ذلك الجهل جزءاً من الحكمة الخفية ، أو من العبث المعربد ، ولكنه يبقى جهلاً ) 178.
قلت : بهذا النقول السابقة من ثلاثية الحمد ، يتضح لنا أنه متحير في مسألة القضاء والقدر وهي أحد أركان الإيمان ـ كما هو معلوم ـ
وبتأمل عباراته نجده يميل إلى :
1ـ مذهب الجبرية الذين يقولون بأنه لا إرادة للعباد .
2ـ أن أفعال الله ـ تعالى ـ ليست لحكمة ، بل ربما تكون مجرد عبث !! تعالى الله عن ذلك .
لهذا فإنه لابد من توضيح هذه المسألة العظيمة التي خاض فيها الحمد دون علم ـ بل جهل وحيرة وتقليد لغيره ـ وسيكون هذا التوضيح متضمناً لذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر ثم أقوال الفرق التي انحرفت فيها ـ ومن ضمنهم الجبرية الذين مال الحمد إلى قولهم ـ ثم الرد عليها .
فأقول مستعيناً بالله ـ :
ـ القدَر هو تقدير الله ـ تعالى ، الأشياء في القِدَم وعلمه ـ سبحانه ـ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة ، وكتابته ـ سبحانه ـ لذلك ومشيئته له ، ووقوعها على حسب ما قدرها ، وخلقه لها .
ـ لا فرق بين ( القضاء ) و ( القدر ) في المعنى فكلٌ منهما يدل على معنى الآخر ـ على القول الصحيح ـ .
ـ الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي وردت في قولهe عندما سأله جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإيمان : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 179 وقد ورد ذكر القدر في القرآن في قوله تعالى : ( إنا كل شئ خلقه بقدر ) 180.
ـ مراتب القدر عند أهل السنة أربع :
أ ـ مرتبة العلم : أي أن الله علم ما الخلق عاملون ، بعلمه القديم وأدلة هذا كثيرة منه قوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } 181.
ب ـ مرتبة الكتابة : أي أن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ . ودليل هذا قوله تعالى : {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 182 .
وقوله e " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه183 "
ج ـ مرتبة الإرادة والمشيئة : أي أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله ـ سبحانه وتعالى ـ فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يخرج عن إرادته شيء .
دليل هذا قوله تعالى : {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 184. ، وقوله : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 185 .
د ـ مرتبة الخلق : أي أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ، ومن ذلك أفعال العباد ، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه ، لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 186. وقوله : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 187. وقوله e : " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " 188.
قد يقول قائل هنا : إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله ، وهي فعل لهم حقيقة ، كيف نجمع بين هذين الأمرين ؟
والجواب كما قال شيخ الإسلام :(34/168)
( قول القائل : هذا فعل هذا ، وفعل هذا : لفظ فيه إجمال ، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل ، وتارة يراد به مسمى المصدر ، فيقول : فعلت هذا أفعله فعلاً ، وعملت هذا أعمله عملاً ، فإذا أريد بالعمل نفس العمل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك ، فالعمل هنا هو المعمول ، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجه الثوب ، وبناء الدار ونحو ذلك فالعمل هنا غير المعمول ، قال -تعالى - {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} 189 فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن ، ومن هذا الباب قوله ـ تعالى ـ : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 190. أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها … والمقصود أن لفظ " الفعل " و " العمل " و" الصنع " أنواع ، وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر ، وعلى المفعول ، وكذلك لفظ " التلاوة " و " القراءة " و " الكلام " و " القول " يقع على نفس مسمى المصدر ، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام ، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء والمتلو ، كما يراد بها مسمى المصدر .
والمقصود أن القائل إذا قال : هذه التصرفات فعل الله ، أو فعل العبد ، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر ، فهذا باطل باتفاق المسلمين ، وبصريح العقل ، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق " ، ثم وضح المسألة فقال " وأما من قال ( وهم جمهور أهل السنة ) : خلق الرب ـ تعالى ـ لمخلوقات ليس هو نفس مخلوقاته ، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات ، ومفعولة للرب كسائر المفعولات ، ولم يقل :إنها نفس فعل الرب وخلقه ، بل قال : إنها نفس فعل العبد ، وعلى هذا تزول الشبهة ، فإنه يقال : الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له ، كما يفعلها العبد ، وتقوم به ، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره ، كم أنه ـ سبحانه ـ لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال ، والمقادير والحركات وغير ذلك ، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة ، أو طعماً مراً ، أو صورة قبيحة ، ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح ، لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة ، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها ، وسبباً لذمه وعقابه ، وجالبة لألمه وعذابه ، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره ) 191.
قال الشيح ابن سعدي ـ رحمه الله ـ : ( إن الله كما أنه الذي خلقهم ـ أي الناس ـ ، فإنه خلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم ؛ ثم هم فعلوا الأفعال المتنوعة : من طاعة ومعصية ، بقدرتهم وإرادهم اللتين خلقها الله )192.
ـ ( أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يفعل مايفعل لحكمة يعلمها هو ، وهو يُعْلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه ، وقد لا يعلمون ذلك ، والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرساله محمدe كما قال ـ تعالى ـ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 193يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ " إنه سبحانه حكيم ، لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة ، وهي الغاية المقصودة بالفعل ، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل ، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل ، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا " 194، وأدلة أهل السنة مستفيضة في الكتاب والسنة لا تخفى على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنة ، وقد أطال ابن القيم النفس جداً للاستدلال لها ، فذكر أكثر من اثنين وعشرين نوعاً من الأدلة ، كل نوع يحوي مجموعة من النصوص ، وقد نقض في أثناء عرض الأدلة المذاهب المخالفة ، ورد عليها 195 ، كما رد ابن تيمية على المذاهب المخالفة وذكر الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة 196، وهذا هو المذهب الحق في هذه المسالة ) .
ـ إرادة الله ـ عز وجل ـ على قسمين :
أ ـ إرادة كونية قدرية : وهي مرادفة للمشيئة ، وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء ؛ فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواء ؛ فالطاعات ، والمعاصي ، كلها بمشيئة الرب ، وإرادته .
ومن أمثلتها قوله ـ تعالى ـ : {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } 197، وقوله : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } 198.
ب ـ إرادة شريعة دينية : وتتضمن محبة الرب ، ورضاه .
ومن أمثلتها قوله ـ تعالى ـ : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 199 وقوله : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } 200 ، وقوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ }201 .(34/169)
الفرق بين الإرادتين : بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فروق تميز كل واحدة منهما عن الأخرى ، ومن تلك الفروق ما يلي :
1ـ الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها ، وقد لا يحبها ولا يرضاها أما الشرعية فيحبها الله ويرضاها ؛ فالكونية مرادفة للمشيئة ، والشرعية مرادفة للمحبة .
2ـ الإرادة الكونية قد تكون مقصودة لغيرها كخلق ابليس مثلاً ، وسائر الشرور ؛ لتحصل بسببها محاب كثيرة كالتوبة ، والمجاهدة ، والاستغفار .
أما الشرعية فمقصودة لذاتها ؛ فالله أراد الطاعة وأحبها ، وشرعها ورضيها لذاتها .
3ـ الإرادة الكونية لابد من وقوعها ؛ فالله إذا شاء شيئاً وقع ولا بد ، كإحياء أحد أو إماتته ، أو غير ذلك .
أما الشرعية كالإسلام ـ مثلاً ـ فلا يلزم وقوعها ، فقد تقع وقد لا تقع ، ولو كان لابد من وقوعها لأصبح الناس كلهم مسلمين .
4ـ الإرادة الكونية متعلقة بربوبية الله وخلقه ، أما الشرعية فمتعلقة بألوهيته وشرعه.
5ـ الإرادتان تجتمعان في حق المطيع ، فالذي أدى الصلاة ـ مثلاً ـ جمع بينهما ؛ وذلك لأن الصلاة محبوبة لله ، وقد أمر بها ورضيها وأحبها ، فهي شريعة من هذا الوجه ، وكونها وقعت دل على أن الله أرادها كوناً فهي كونية من هذا الوجه ؛ فمن هنا اجتمعت الإرادتان في حق المطيع .
وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر ، ومعصية العاصي ، فكونها وقعت فهذا يدل على أن الله شاءها ؛ لأنه لا يقع شيء الإ بمشيئته ، وكونها غير محبوبة ولا مرضية لله دليل على انها كونية لا شرعية .
وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر ، وطاعة العاصي ، فكونها محبوبة الله فهي شرعية ، وكونها لم تقع ـ مع أمر الله بها ومحبته لها ـ هذا دليل على أنها شرعية فحسب ؛ إذ هي مرادة محبوبة لم تقع .
6ـ الإرادة الكونية أعم من جهة تعلقها بما لا يحبه الله ولا يرضاه ، من الكفر والمعاصي ، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر ، وطاعة الفاسق .
والإرادة الشرعية أعم من جهة تعلقها بكل مأمور به ، واقعاً كان أم غير واقع ، واخص من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به .
هذه فوارق بين الإرادتين ، فمن عرف الفرق بينهما سلم من شبهات كثيرة ، زلت بها أقدام ، وضلت بها أفهام ، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً ومن نظر إلى الشرع دون القدر أو العكس كان أعور ) .
ـ ( الإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح ، وهو الاختبار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه ـ تعالى ـ ، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله ، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال ، وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها ، وقد كثر الاختلاف حول القدر ، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره ، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمن يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين عن طريق الكلام في القدر ، ودس الشبهات حوله ، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع الإ من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، مسلماً الأمر الله ، مطمئن النفس ، واثقاً بربه ـ تعالى ـ ، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً ، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقية الأركان ) .
ـ خالف أهل في مسألة القدر فرقتان رئيسيتان :
أولا هما : القدرية .
ثانيهما : الجبرية .
أما القدرية فقالوا :
( إن العبد مستقل بعلمه في الإرادة والقدرة ، ليس لمشيئة الله ـ تعالى ـ وقدرته في ذلك أثر .
ويقولون : إن أفعال العباد ليست مخلوقة الله ، وإنما العباد هم الخالقون لها ، ويقولون : إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله .
وغلاتهم ينكرون أن يكون الله قد علمها ، فيجحدون مشيئته الشاملة ، وقدرته النافذة ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ؛ لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا : إن للكون إلهين : إله النور : وهو خالق الخير ، وإله الظلمة : وهو خالق الشر .
وأما الجبرية ـ وهم الذين يؤيد الحمد مذهبهم ـ
فإنهم ( غلو في إثبات القدر ، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل ـ حقيقة ـ بل هو في زعمهم لا حرية له ولا فعل ، كالريشة في مهب الريح ، وإنما تسند إليه الأفعال مجازاً ، فيقال : صلى وصام ، وقتل ، وسرق ، كما يقال : طلعت الشمس ، وجرت الريح ، ونزل المطر ، فاتهموا ربهم بالظلم ، وتكليف العباد بما لا قدرة عليه ، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم ، واتهموه بالعبث في تكليف العباد ، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي ، ألا ساء ما يحكمون .
وهؤلاء في الحقيقة يزعمون أن الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم ، بخلاف ما عليه أهل السنة ، الذين يقولون : إن الله هوالخالق ، والعبد هو الفاعل ، ولذا ترتب على فعله الثواب والعقاب .
هؤلاء ـ الجبرية ـ يسمون بالقدرية المشركية ، لأنهم شابهوا المشركين في قولهم : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 202 .(34/170)
وحيث أن تركي ا لحمد قد أيد مذهبهم ، واحتج على المعاصي والآثام التي يرتكبها ( هشام العابر ) بالقدر كقوله :
( كتب علينا أن نخطئ ) 203.
فإن الرد سيكون منصباً على مسألة : هل يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ؟
فأقول :
الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات :
(الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات ، أو فَعَلَ من المعاصي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين ، وسائر أهل الملل ، وسائر العقلاء ؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال ، وسائر أنواع الفساد في الأرض ، ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه ، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه ، بل يتناقص، وتناقض القول يدل على فساده ، فالا حتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول " 204.
وبما أن هذا الأمر مما يعم به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية والعقلية ، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات .
1ـ قال الله- تعالى - : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 205 فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم ، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه.
2ـ قال تعالى : {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 206
فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لما كان هناك داع لأرسال الرسل .
3ـ أن الله أمر العبد ونهاه ، ولم يكلفه إلا ما يستطيع ، قال ـ تعالى ـ : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }207، وقال : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}208.
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه ، وهذا باطل ، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل ، أو إكراه ، فلا إثم عليه لأنه معذور .
4ـ أن القدر سر مكتوم ، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه ، وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله ، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علم بقدر الله ، فادعاؤه أن الله قدر عليه كذا وكذا ادعاء باطل ؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله ، فحجته إذاً داحضة ؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه .
5ـ أننا لو سلمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطلنا الشرائع .
6ـ لو كان الاحتجاج بالقدر ـ على هذا النحو ـ حجة لقبل من إبليس الذي قال : {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} 209.
7ـ ولو كان حجة هؤلاء مقبولة ـ أيضاً ـ لتساوى فرعون عدو الله ، مع موسى كليم الله ـ عليه السلام ـ .
8ـ الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعائب تصحيح لمذهب الكفار ، وهذا لازم لهذا المحتج ، لا ينفك عنه .
9ـ ولو كان حجة لا حتج به أهل النار ، إذا عاينوها ، وظنوا أنهم مواقعوها ، كذلك إذا دخلوها ، وبدأ توبيخهم وتقريعهم ، هل يحتجون بالقدر على معاصيهم وكفرهم ؟
الجواب : لا ؛ بل إنهم يقولون كما قال ـ عز وجل ـ عنهم : {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ } 210، ويقولون : ( ربنا غلبت علينا شقوتنا )211 ، وقالوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 212، وقالوا : {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}213، إلى غير ذلك مما يقولون .
ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لا حتجوا به ؛ فهم بأمس الحاجة إلى ما ينقذهم من نار جهنم .
10 ـ ومما يرد هذا القول ـ أيضاً ـ أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه ، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر .
فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر ؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك : لو أراد إنسان السفر إلى بلد ، وهذا البلد له طريقان ، أحدهما آمن مطمئن ، والآخر كله فوضى واضطراب ، وقتل ، وسلب ، فأيهما سيسلك ؟
لاشك أنه سيسلك الطريق الأول ، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار ؟
11 ـ ومما يمكن أن يُرد به على هذا المحتج ـ بناء على مذهبه ـ أن يقال له : لا تتزوج ، فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك ، وإلا فلن يأتيك ، ولاتأكل ولا تشرب ، فإن قدر الله لك شبعاً ورياً فسيكون ، وإلا فلن يكون ، وإذا هاجمك سبع ضار فلا تفر منه ، فإن قدر الله لك النجاة فستنجو ، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار ، وإذا مرضت فلا تتداو ، فإن قدر الله لك شفاءً شفيت ، وإلا فلن ينفعك الدواء .(34/171)
فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا ؟ إن وافقنا علمنا فساد عقله ، وإن خالفنا علمنا فساد قوله ، وبطلان حجته .
12 ـ المحتج بالقدر على المعاصي شبه نفسه بالمجانين ، والصبيان ، فهم غير مكلفين ، ولا مؤاخذين ، ولو عومل معاملتهم في أمور الدنيا لما رضي .
13 ـ لو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للإستغفار ، والتوبة ، والدعاء ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
14 ـ لو كان القدر حجة على المعائب والذنوب لتعطلت مصالح الناس ،ولعمت الفوضى ، ولما كان هناك داع للحدود ، والتعزيرات ، والجزاءات ، لأن المسيىء سيحتج مع القدر ، ولما احتجنا لوضع عقوبات للظلمة ، وقطاع الطريق ، ولا إلى فتح المحاكم ، ونصب القضاء ، بحجة أن كل ماوقع إنما وقع بقدر الله ، وهذا لا يقول به عاقل .
15 ـ أن هذا المحتج بالقدر الذي يقول : لا نؤاخذ ، لأن الله كتب ذلك علينا ، فكيف نؤاخذ بما كتب علينا ؟
يقال له : إننا لا نؤاخذ على الكتابة السابقة ، إنما نؤاخذ بما فعلناه ، وكسبناه ، فلسنا مأمورين بما قدره الله لنا ، أو كتبه علينا ، وإنما نحن مأمورين بالقيام بما يأمرنا به ، فهناك فرق بين ما أريد بنا ، وما أريد منا ، فما أراده طواه عنا ، وما أراده منا أمرنا بالقيام به .
ومما تجدر الإشارة إليه أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وأيمان ، وانما هو ناتج عن نوع هوى ومعاندة ، ولهذا قال بعض العلماء فيمن هذا شأنه : " أنت عند الطاعة قدري ، وعند المعصية جبري ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به"214.
يعني أنه إذا فعل الطاعة نسب ذلك نفسه ، وأنكر أن يكون الله قدر ذلك له ، وإذا فعل المعصية احتج بالقدر .
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع ، والعقل ، والواقع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن المحتجين بالقدر : " هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى " 215.
متى يسوغ الاحتجاج بالقدر ؟
يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر ، والمرض ، وفقد القريب ، وتلف الزرع ، وخسارة المال ، وقتل الخطأ ، ونحو ذلك ؛ فهذا من تمام الرضا بالله رباً ، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب ، لا المعائب ، " فالسعيد يستغفر من المعائب ، ويصبر على المصائب ، كما قال ـ تعالى ـ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 216 . والشقي يجزع عند المصائب ، ويحتج بالقدر على المعائب " 217.
ويوضح ذلك المثال الآتي : لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق الخطأ ، ثم لامه من لامه ، واحتج القاتل بالقدر ، لكان احتجاجه مقبولاً ، ولا يمنع ذلك من أن يؤاخذ .
ولو قتل رجلٌ رجلاً عن طريق العمد ثم قُرَّع القاتل ووُبَّخ على ذلك ، ثم احتج بالقدر ، لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً ؛ ولهذا حج آدم موسى ـ عليهما السلام ـ كما في قولهe في محاجتهما : " احتج آدم وموسى فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، ثم تلومني على أمر قد قدّر علي قبل أن أخلق ؟ فحج آدم موسى"218 .
فآدم ـ عليه السلام ـ لم يحتج بالقدر على الذنب كما يظن ذلك بعض الطوائف ، وموسى ـ عليه السلام ـ لم يلم آدم على الذنب ؛ لأنه يعلم أن آدم استغفر ربه وتاب ، فاجتباه ربه ، وتاب عليه ، وهداه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
ولو أن موسى لام آدم على الذنب لأجابه : إنني أذنبت فتبت ، فتاب الله علي ، ولقال له : أنت يا موسى ـ أيضاً قتلت نفساً ، وألقيت الألواح إلى غير ذلك ، إنما احتج موسى بالمصيبة فحجه آدم بالقدر .219.
" فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له ؛ فإنه من تمام الرضا بالله رباً ، أما الذنوب فليس لأحد أن يذنب ، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب ، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب " 220.
وممن يسوغ له الإحتجاج بالقدر التائبُ من الذنب ، فلو لامه أحد على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر .
فلو قيل لأحد التائبين : لم فعلت كذا وكذا ؟ ثم قال : هذا بقضاء الله وقدره ، وأنا تبت واستغفر ، لقُبل منه ذلك الاحتجاج 221.
ثم إنه لايسوغ لأحد أن يلوم التائب من الذنب ، فالعبرة بكمال النهاية ، لابنقص البداية) .
الماركسيون جبريون :
وليعلم ـ بعد هذا ـ أن الماركسيون الذين يدين (هشام العابر! ) بدينهم هم من الجبريين في مسألة القدر ، ولهذا رأينا( هشام العابر) 222الماركسي ينصر هذا المذهب .
يقول الاستاذ أنور الجندي : ( كل الدعوات الفلسفية الحديثة المادية الاتجاه : من الدارونية إلى الماركسية تُسقط الإرادة الحرة ، وتُعلن الجبرية )223.
تركي الحمد يتنقص في ثلاثيته :
الله وملائكته وكتبه ورسله ودينه وعباده الصالحين
تنقص الحمد الله ـ عز وجل ـ :(34/172)
لم يقدر تركي الحمد الله ـ عز وجل ـ حق قدره ولم يعظمه كما يعظمه عباده المؤمنون ، بل تحدث عنه في روايته وكأنه يتحدث عن بشرٍ مثله حديث الند للند بعبارة مملوءة بالتحدي والسخرية ـ والعياذ بالله ـ ، وإن كان قد أخفى أشدها بالأسلوب الرمزي الذي عهدناه من هذا الصنف من البشر عندما يخوضون في مثل هذه الأمور .
فالحمد جاء في روايته بلهجة غريبة شاذة عن أهل هذا المجتمع في حديثهم عن ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ حيث تجرأ في ذلك بصورة وقحة فاجرة .
وهو مشابه في هذه الجرأة لتيار الحداثة في ديار المسلمين الذين كانوا أول من ترددت هذه الظاهرة ( الكفرية ) في أشعارهم وأحاديثهم ، حيث لم يتورعوا عن الحديث عن الله ـ عز وجل ـ بألفاظ سوقية بشرية ، فمن ذلك على سبيل المثال :
قول صلاح عبد الصبور في قصيدته ( الناس في بلادي )
( يا أيها الإله ،
كم أنت قاسٍ موحش
يا أيها الإله ) 224.
وقول الشاعر (الماركسي) البياتي :
( الله في مدينتي يبيعه اليهود
الله في مدينتي مشرّد طريد )225 !!
وقول معين بسيسو :
( وطرقت جميع الأبوا ب
أخفتني عاهرة
ووشى بي قديس
كان الله معي
لكن الله هناك
يدلي بشهادته .. في مركز بوليس ) 226!!
وقل توفيق زياد :
( ومداخن الأفراد
قائمة .. كآلهة المنايا )227!!
وقول محمود دريش :
( نرسم القدس
إلهً يتعرى فوق خطٍ داكن الخضرة
أشباه عصافير تهاجر ) 228!!
وهكذا .. في عبارات (كفرية) كثيرة تتناثر في أشعارهم القذرة 229
وفي ظني أن هذه الظاهرة السيئة قد وفدت إلى ديار المسلمين عبر شعراء اليهود والنصارى وكتابهم ، الذين تُرجمت أشعارهم وعباراتهم وكانت مصدراً رئيسياً لشعراء المسلمين .
وأولئك اليهود والنصارى ـ كما هو معلوم ـ لا يعظمون الله حق تعظيمه ، ولا ينزهون اسمه عن لغوهم وباطلهم .
وسبب ذلك ـ والعلم عند الله ـ هو تأثرهم بما جاء في كتبهم الدينية المحرّفة (لا سيما التوراة) عند الحديث عن الله ـ عز وجل ـ وصفاته حيث تتحدث تلكم الكتب ( المقدسة !) عن الله وصفاته كحديثها عن الخلق وصفاتهم ، فجعلوا ( المولى سبحانه وتعالى في صورة بشر حقود ، سريع الغضب ، كثير الندم ) 230.
فمن ذلك قولهم في ( سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ) عن الله ـ عز وجل ـ : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله … )231!
ومن ذلك إخبارهم عن الله ـ عز وجل ـ بأن اليهود عندما تاهوا نزل الله ـ عز وجل ـ فهداهم إلى طريق الخروج ! (جاء في سفر الخروج (( وارتحلوا من سكوت ، ونزلوا في إيثام في طرف البرية . وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق ، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم …)232.
ومن ذلك زعمهم أن الله يبكي ويلطم وجهه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ 233وأنه ـ تعالى ـ يصارع يعقوب عليه السلام ـ 234!! وأنه ـ تعالى ـ اعترف بخطئه أما كبير الأحبار235!! وأنه ـ تعالى ـ يندم ويحزن وينسى 236!!
إلى آخر تلك الصفات السيئة التي ألصقها اليهود ـ لعنهم الله برب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ
يقول الدكتور محمد البار بعد أن ذكر هذه الافتراءات :
(ومما تقدم نخلص إلى أن صفات الله سبحانه وتعالى في التوراة والتلمود ، لا يمكن أن تكون صفات الله خالق الأكوان ومدبرها .. بل لا يمكن أن تكون إلا من صفات أراذل البشر .
هذا قليل من كثير من هذه الافتراءات والغثاء والكذب ، والتجديف في وصف المولى سبحانه وتعالى .. والتوارة والعهد القديم والتلمود كلها مليئة بهذه الأوصاف المنكرة والسجايا الخبيثة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا أحط البشر وأراذلهم ، فكيف يمكن أن يوصف بها المولى سبحانه وتعالى)237 .
وقال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد أن أورد شيئاً من تلكم الأكاذيب :
(فهذه الأمثلة من أوضح الأدلة على التحريف ، فإن الله عز وجل موصوف بصفات الكمال المطلق وكل ما يشعر بالنقص فالله عز وجل منزه عنه ، فتضمين اليهود كتابهم صفات تشعر بوصف الله بصفات لا تليق بمقام الألوهية والربوبية والكمال المطلق ، دليل واضح على التحريف والتبديل إذ لا يمكن أن يتضمن الكتاب الذي نزل من عند الله ما يطعن فيه جل وعلا .
وبأمثال هذه الافتراءات من قبل متقدميهم تجرأ متأخروهم على الافتراء على الله ، واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لا يعذبهم وفي هذا قول الله عز وجل: { قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 238) 239.
قلت : فهذه العقيدة الفاسدة قد أخذها كتاب وشعراء أهل الكتاب من كتبهم ( المحرفة ) فأضحوا يرددونها في نثرهم وأشعارهم دون أي خوف أو خجل من رب العالمين ، لأن كتبهم ( المقدسة !) قد جرأتهم على نقل وترديد هذا الاستخفاف والطعن بربهم ـ عز وجل ـ وأسقطت هيبته من نفوسهم .
ثم جاء من بعدهم ( نصارى ) العرب 240فنقلوا تلك العقيدة في كتاباتهم ونظمهم .(34/173)
وعن هؤلاء الكفرة أخذها كتابنا وشعراؤنا الذين ( يدعون ) الإسلام ، فخاضوا فيها تقليدا لأولئك دون أن يعصمهم عن هذا الخوض المنكر رهبة من الله ـ عز وجل ـ
فأصبحنا نسمع ونقرأ عبارات لبعض الشعراء ( المسلمين ! ) تضاهي في كفرها عبارات اليهود والنصارى ، ويندى لها جبين المسلم الموحد ، ويأسى على حال إخوانه الذين تابعوا الكافرين في طعنهم برب العالمين ، مصداقاً لقولe في هذا الصنف " لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قيل : اليهود والنصارى ؟ قال e " فمن ؟ "241 أي ليس إلا هم .
وقد دخل شرذمة من كتابنا وشعرائنا هذا الجحر الذي أخبر عنه الرسولe بل زادوا عليه بأن طعنوا في خالقهم ـ عز وجل ـ متابعة لمن هم شر البرية ـ كما سبق
يقول الدكتور أنس داود في كتابه ( الاسطورة في الشعر العربي الحديث ) :
(لجأ شعراؤها إلى الكتب المقدسة وبخاصة التوراة والإنجيل وقلما استفادوا من القرآن في هذا السبيل ، ربما لأنهم يعيشون في أمة إسلامية لا تستسيغ مثل هذه النظرة الفنية إلى أقدس مقدساتها الدينية ، ولأن الكتاب المقدس كان مصدر استلهام فني في الشعر الأوربي بمثل ما استلهم هؤلاء الشعراء أساطير لأقدمين . ولأن ثمة نسباً ـ كما نرى ـ بين كتاب كالتوراة ومجموعات الأساطير المتوارثة في قوة تصويرها لنوازع الإنسان ، وتجسيدها للأهواء البشرية حتى حين تتحدث عن الأنبياء لا تتحدث عنهم هذا الحديث المتطهر الذي تجده في القرآن ، بل نجد لديهم فيضاً من الغرائز ، وغلبة للشهوات أحياناً ولجوءً إلى الحيل والخديعة ، وغير ذلك مما نجده في الحديث عن داود وعن سليمان وغيرهما من الأنبياء مما يقربهم من الشخصيات الأسطورية في نوازعها الجارفة وسلوكها كل مسلك)
قلت : ثم جاء ( الحمد ) منضماً إلى هذا الركب ومتحدثاً في ثلاثيته عن ربه عز وجل بعبارات بشعه لا تصدر عن مؤمن فمن ذلك :
قوله عن هشام : (أراد أن يتحدث مع عارف ، لكنه فقد الرغبة في الحديث . الله ، الحتمية ، الجبرية ، العلم .. كلها أشياء يتعلق بقشة منها . يريد الخروج ، فمن يوفر له ذلك ، فهو الله)242.
وقوله عنه : (يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم) 243.
وقوله : (دائماً المستقبل الذي لا يجئ ، والتاريخ الذي لا نعيه ، والله الذي لا نراه ، يقفون وراء كل شيء ، ويبررون كل شيء) 244.
وقوله : (واستسلم لحلم يقظة جميل … تصور نفسه من بني إسرائيل أو سام ، وود لو كان أسيره إلى الأبد . تصور أنه يوشع نفسه ، أو سوبرمان ذاته . قادر على إيقاف الزمن ذاته . لا شيخوخة ولا موت ولا ألم ولا … تحقيق . تصور أنه الله ذاته … ولم لا … ما فرقه عن الحلاج والسهروردي وابن العربي ؟ 245 نحن الله والله نحن … كانت تلك رسالة موسى والمسيح ومحمد ، ولكن أكثر الناس لا يدركون ، فجعلوه ابن الله إنه ذات الله الآن ، فماذا يفعل ؟ هل يجعل الكون أكثر راحه ، وينشر السعادة بين البشر ؟ ولكن … ما هي السعادة ؟ ! سعادة سقراط أم أفلاطون أم أرسطوا أم ديوجين أم أبقور أم زينون أم كونفيشيوس أم بوذا أم وأم ، وأم … جملة أمَّات لا نهاية لها . كالحياة ذاتها . ثم لو نشر السعادة وقضى على الألم ، فهل يكون للسعادة نقيض الشقاء أو نقيض الألم ، فكيف يمكن إدراك السعادة إذا ختفى الألم ؟ حتى الجنة بدت له عديمة اللذة في تلك اللحظة كما بدت جهنم عديمة الألم . الخمرة لا تسكر ذاتها ، والجمرة لا تحرق نفسها … البراز لا يتأذى من رائحة نفسه ، والفل لا يستمتع بريح ذاته . لابد من البراز لاكتشاف لذة الفلة ، ولا بد من الفلة لاكتشاف قذارة البراز . ولذلك كان هناك جنة ونار معاً ، الله وشيطان ، نبي وفرعون ، وكل في قدر يسبحون… تحقيق السعادة وحدها ، يعني توحيد الألوان . وعندما تتوحد الألوان ، تختفي … المعنى في الاختلاف ، والعماء في التجانس . مشكلة … وجود الحياة بشكلها الحالي مشكلة … وجعلها أجمل وأحلى وأعدل مشكلة لم لا تكون ذات الحياة هي المشكلة ؟ لو كان ذات الله ، لألغى الحياة ذاتها . لألغى هذه المسرحية المملة ، وصرف ممثليها وألغى تلك الأدوار المقررة المعروفة . لا حرية مع الوجود ، فكل الحرية في العدم …) 246.
وقوله : (الله أعلم ! مسكينٌ أنت يالله … دائماً نُحَملك مانقوم به من أخطاء) 247.
وقوله على لسان ( الشيوعي ) عارف : (إن الانتحار هو تحد للإله نفسه .
ثم وهو يضحك بسرعة :
ـ هذا إن كان هناك إله … الانتحار يا صديقي يعني أني قد اخترت الجحيم ورفضت النعيم بمل إرادتي … فالنعيم الحق هو ما أختاره أنا ، لا ما يختاره لي ما ليس أنا … الجحيم هو النعيم حين أختاره أنا ، والنعيم هو الجحيم حينما بختاره غيري لي أنا .
ويضحك عارف مرة أخرى ، ثم يعتدل في جلسته ، وقد اتسعت عيناه ، وبرقت عينه السليمة ، وقال هو ينظر إلى هشام وقد اكتسى وجهه بعلامات نصر ما :
ـ الانتحار نصر على الله . ففي الانتحار تفوت الفرصة على الله أن يختار لك مصيرك . فأنت تدخل النار بإرادتك حين تنتحر وتعلم أن مصيرك هو النار . ليس الله هو من أدخلك النار ، بل أنت من فعل …(34/174)
وابتسم هشام وهو يقول :
ـ ولكن افرض أن الله أدخلك الجنة بالرغم من انتحارك ، ألا يكون قد فوت عليك الفرصة واختار لك بالرغم منك ؟
وضحك عارف بحبور وهو يقول :
ـ كلا … فإذا دخلت النار فبإرادتي ، وإذا أدخلني الله الجنة فأكون قد فرضت إرادتي عليه … لقد توعدني بالنار فيما لو انتحرت ، ولكنه أدخلني الجنة برغم الوعيد . لقد فرضت إرادتي عليه ، وجعلته يغير وعيده ، لقد أصبحت نداً له . أبعد هذا الانتصار انتصارا؟ …
ـ ولماذا لا يكون هو قَدَّر عليك الاختيار منذ البدء ؟
ـ أكون قد فضحت اللعبة كلها حينذاك .
وعاد عارف إلى الاسترخاء وهو يردد :
ـ الانتحار هو النصر النهائي على كافة أشكال السلطة وأنواعها) 248.
الحمد يمتهن لفظ ( العبادة ) :
ومن تنقصه لخالقه ـ عز وجل ـ أنه امتهن لفظ ( العبادة ) وجعلها في غير موضعها ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإنما جعلها في عبادة البشر بعضهم لبعض .
حيث قال على لسان ( عشيقته !) سويّر :
( أنا أعبدك يا هشام ، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً .
وبدون هدف أو غاية أوقصد قال بشيء من المزاح ، وقد أحس بالزهو يسيطر عليه من الداخل :
ـ ولكن الشرك لا يكون إلا بالله . هو المعبود الوحيد .
وكنمرة متوحشة ، نظرت إليه بعينيها المبللتين ، وقد زادتا اتساعاً على اتساعهما ، وهي تقول :
ـ إذا أنت ربي … ترحمني وتعذبني .وكل شيء منك مقبول ومحمود .
ولم يستطع الإحتمال فعلاً ، فقال بتلقائية :
ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم .
ردّد ذلك وشعور من الزهو وشيء لا يعرفه ، أشبه ما يكون بالذنب ، يمتزجان في داخله . كانت يدها قابضة على يده ، فمدَّ يده الأخرى وأخذ يربت على خدها ويتحسسه بلذَّة ، فيما ارتمت هي في أحضانه بعنف ، وأخذت تشمه بصوت مسموع ، وهي تردد :
ـ أحبُّك … أحبُّك يا هشام … أعشقك … أعبدك ) 249.
تنقصّ عظيم :
ومن تنقصه اللهَ ـ عز وجل ـ
قوله متحدثاً عن هشام وهو يحلم في منامه :
( وأخذ يسير على غير هدى في الصحراء ، وقشعريرة البرد تستولي عليه . كل شيء يوحي أنه لا يسير ، رغم أنه يسير . النجوم هي النجوم ، والصحراء والظلام عديمة الأبعاد لا يريد أن تنجلي ، واختفت البداية ، وتلاشت النهاية ،فلا يدري أهو يسير أم يهيء له أنه يسير . ولاح له بصيص نور من بعيد ، وأحس بالفرح الغامر رغم أنه يعلم أنه يحلم . وأخذ يغذ السير ، فيما النور يزداد سطوعاً وتتعدد ألونه ، أخضر وأحمر و أصفر ، ويتخللها لون أزرق باهت . وأخيراً وصل إلى حيث النور ، ثم فجأة أشرقت الشمس وهي تضحك بشكل هستيري لم تكن ذات الشمس التي يعرف ، فقد كانت شديدة الحرارة عديمة النور ، فرغم سطوعها ، إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً . وأخذ دماغه يغلي من الحرارة الشديدة ، إلا أن جسمه كان يرتعش برداً ، وأخذت النجوم ترسل سهاماً فضية في كل مكان ، حيث تتكسر بصوت أقرب إلى الرنين على صخور لا يراها ، ولكنه يعلم أنها هناك .
وفي خضم كل ذلك ، كانت نسمات هواء منعش تأتي من واحة وارفة الظلال تنبعث منها تلك الأضواء التي رآها من بعيد .كانت محاطة بأسلاك شائكة من كل جوانبها ، فلم يستطع الدخول . وأخذ يحوم حولها ، حتى تبين له الباب من بعيد .أتجه إليه ، وأراد الدخول بعجلة ، إلا أنه في اللحظة تلك ، برز له شخص من حيث لا يدري ، يحمل سوطاً طويلاً ، وملامح غريبة ، فقد كان له وجه ثور ، في رأس وجسم بشريين ، له مخالب في يديه ورجليه أشبه بمخالب الكلب ، وفي مؤخرته يبرز ذيل لولبي أشبه بذيل الخنزير ، استوقفه هذا الكائن وهو يخور قائلاً :
ـ إلى أين أيها الإنسان ؟
ـ أريد المأوى والطعام والسلام … هل هذا كثير ؟
ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة ؟ … الواحة واحتي ، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن . وثمنها بخس جداً … قبول شروطي .
ـ واحتك ؟ … شروطك ؟ … من أعطاك إياها ؟
ـ قوتي هي من أعطاني إياها … إنها لي وحدي .
ـ القوة لا تصنع حقاً.
ـ الحاجة أساس الحق .
ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر :
ـ قوتي هي الحق هنا ، وإن كنت في شك من ذلك ، فحاول الدخول رغماً عني .
ولم يجد بداً من الاستسلام ، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق ، فقال :
ـ حسنا … وما هي شروطك ؟
وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة ، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة ، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول :
ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .
ثم استطر :
ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير … أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .
ـ ياله من سعر باهظ !
ـ ويالها من ثمار طيبة !
ـ وإن رفضتُ؟
ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق .
ـ ولكني لا أستغني عن الحرية …
ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :
ـ الحرية … ماهي الحرية ؟ مجرد كلمة .
ـ ولكن في البدء كان الكلمة .
ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق .
ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية ؟
وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء ، وهو يقول :(34/175)
ـ دعك من هرائك هذا … أمامك خياران ، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي ، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء .
وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله ، رغم الألوان التي كانت تحيط بها ، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد ، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم . ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام … وجوه حمراء ، وكروش منتفخه ، وأعين فقدت بريق الحياة ، وهم يأكلون طوال الوقت . وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه .
ـ ولكن قل لي …
قال هشام موجها حديثه للكائن :
ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟
وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :
ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .
ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء ، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة !
ـ النور مزعج للعين ، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينه . ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل ، وصمت الظلام .
ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور ، كي لا ترى أحد وجهك المسخ .
وهناك ثار الكائن ، وأخذ ينخر بشدة ، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام ، الذي فر من أمامه وهو يقول :
ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء … فلابد للصحراء من نهاية ، ولا بد لليل من فجر ، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان … واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام ، ولا أمساخ بشر … وإن مت قبل ذلك ، فسوف أموت وأنا حر .
وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها ، وانكفأت على نفسها ، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد :
ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه ، كل الواحات مثل واحتي … سوف تعود إلى مهما طال بكل التجوال ، طالباً الصفح والغفران ، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي ، وساعتئذ … ستعرف من أنا .
وصاح هشام من بعيد :
ـ كلا … كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .
وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد ) 250.
قلت : تأمل ـ أخي المسلم ـ هذا الحلم الذي صاغه الحمد على لسان هشام جيداً ، ثم تساءل معي كما تساءلت :
ـ ماهي هذه الواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة ؟
ـ من هو هذا الشخص ( البشع !) الذي ساومه هشام على دخول الواحة ؟
لقد صاغ الحمد فكرته التي يريد إيصالها للقارئ بأسلوب رمزي شأنه في ذلك شأن أهل الرمزية الذين يروجون لفكرهم بتلك العبارات الغامضة خوفاً من عاقبة التصريح ( بالكفر) لا سيما في ديار التوحيد . وقد تابع الحمد هنا ( شيخه ) نجيب محفوظ في كفره عندما تحدث في روايته الشهيرة ( أولاد حارتنا ) عن الله ـ عز وجل ـ وعن أنبيائه بأسلوب رمزي 251قاء من خلال بما يحمله قلبه من كفر وحقد تجاه رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وتجاه أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
فجاء الحمد يهرع من ورائه مستعرضاً قدراته في ( تمرير ) كفرياته في مثل هذا الحلم .
فالشخص البشع في نظر الحمد ـ هو الله ـ عز وجل ، وتعالى عن قول الحمد علواً كبيراً ـ . !!
والواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة هي الجنة ومافيها من سعادة واطمئنان .
فالحمد يريد أن يقول لنا بأن من أراد دخول الجنة فليلتزم بعبودية الله ـ عز وجل ـ وطاعة أوامره ، وأما من أنف من هذه العبودية واختار الحرية ! كما يزعم الحمد فلا بد أن يزهد في هذه الجنة ( أو الواحة ) ويضرب في أعماق الصحراء لعله يجد مصدراً آخر للسعادة لا تكون ضريبته فقدان الحرية !
وقد اختار الحمد الطريق الثاني وهو الاستنكاف عن عبادته سبحانه وتعالى ، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم عن هذا الصنف من البشر : {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} 252.
فمن استنكف عن عبادة الله وفرَّ منها طالباً الحرية كما يزعم ! فإنه لن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً ، فالمرد ـ وإن طال الزمان ـ إلى الله الذي : { إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 253.
ونحن نقول للحمد : من لم يرض بعبادة الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك سيعبد غيره لأن الإنسان لا يخرج عن العبودية بأي حال . فمن لم يعبد الرحمن عبد الهوى والشيطان ، ولذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 254.
قال ابن كثير : ( أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسناً فعله ، وما رآه قبيحاً تركه ) 255.
فهو وإن ادعى أنه قد ترفع عن ( عبودية ) الله المستحق لها فإنه قد جعل تلك العبودية في غير محلها باتخاذه إلهه هواه .(34/176)
وقال تعالى{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي ءَادَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}256 .
فمن لم يعبد الله عبد الشيطان ، وعبادته ـ أي الشيطان ـ تكون باتخاذ الشيطان نفسه إليها 257، أو بعبادة ما يزين عبادته من الأصنام والأحجار والصور و… الخ ، حتى وصل بأتباع الشيطان أن يعبدوا فرج المرأة ـ والعياذ بالله ـ
الحاصل : أن من تكبر عن عبادة الله أذله الله بأن صيره عبداً لهوىً أو شيطان أو مخلوق مثله .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله ، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته ، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب .
قال أبو حازم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى "
واعتبر ذلك بحال إبليس . فإنه امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل ، وطلب إعزاز نفسه ، فصيره الله أذل الأذلين ، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته ، فلم يرضى بالسجود له ، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام ، أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر ، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه ، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار .
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله ، أو يبذل ماله في مرضاته ، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته ، لابد أن يذل لمن لا يسوى ، ويبذل له ماله ، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته ، عقوبة له ، كما قال بعض السلف " من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته " ) 258.
وقال ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية عبادة الله وحده للعبد :
( اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب ؛ أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر ، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك . وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه ، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره ، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة ، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب ، والعقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما ، والله الموفق المعين ، وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة)259.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مفصلاً هذا المعنى :
( " العبادة " هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم .والدعاء والذكر والقراءة ، وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ، التي خلق الخلق لها ، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}260 وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ }261 وقال تعالى وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )262 كم قال في الآية الأخرى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }263 وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 264 .(34/177)
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} 265وقال {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}266وذم المستكبرين عنها بقوله : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 267ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}268وقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} 269الآيات ولما قال الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال الله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 270.
وقال في وصف الملائكة بذلك : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}271. وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 272.
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} 273، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله )274.
وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا }275قال في الإيحاء : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}276. وقال في الدعوة : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} 277. وقال في التحدي : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } 278. فالدين كله داخل في العبادة .
وقد ثبت في الصحيح 279أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً " . قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين .
" والذين " يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان أي : ذللته فذل ويقال يدين الله ، ويدين الله أي : يعبد الله ويطيعه ويخشع له ، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له .
و" العبادة " أصل معناها الذل أيضاً ، يقال طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو " التتيم " وأوله " العلاقة " لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم " الصبابة " لانصباب القلب إليه ، ثم " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، ثم " العشق " وآخرها " التتيم " يقال : تيم الله أي : عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله .(34/178)
وكل ما أُحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عُظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 280، فجنس المحبة تكون لله ورسوله ، كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله ) 281.
قلت : وأما ادعاء الحمد بأن عبودية الله وجنته ليس فيها نور ، وإنما النور والفجر ! في حريته ( المزعومة ) فهو من تلبيس الشيطان عليه ، ومن انتكاس قلبه حتى أصبح يبصر الأشياء على خلاف حقيقتها فغدا النور عنده ظلاماً ، والظلمة نوراً، وهذا حال أهل الباطل الذين يرون باطلهم حقاً والحق باطلاً منذ العهود القديمة . ولا أملك أن أقول للحمد في هذا المقام إلا ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " 282 فكذلك أقول : ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل والهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .
فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البته . فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة ، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم وقلبه مظلم ، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولايناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .
بصائر غشاها النهار بضوئه
ولاء مها قطع من الليل مظلم
يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها ، وملاءمتها إياها .
والمؤمن علمه نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 283] 284.
الحلف بغير الله في روايته :
ومن تنقصه الله ـ عز وجل ـ أنه استهان بالحلف بغيره ـ عز وجل ـ فذكره في روايته متغافلاً عن قدحه في عقيدة الإنسان وأنه من الشرك الأصغر 285، مصدقاً لقوله e: "من خلف بغير الله فقد أشرك " 286وقال e : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت 287.
قال الحمد على لسان عبد الرحمن مخاطباً ابن عمته هشام ( أخبره أن ما يشعر به شيء طبيعي لشخص يشرب لأول مرة ، وأنه سوف يعتاد الشراب ولن يفعل به شيئاً بعد ذلك .إلا أن هشام صاح : " أول وآخر مرة ورأس أبوك …" ) 288.
الحمد يعتقد أن الله في كل مكان !!!
ومن طوام تركي الحمد في روايتة أنه _ وهو الذي درس عقيدة السلف في بلاد التوحيد _ يعتقد عقيدة الأشاعرة في أن الله موجود في كل مكان ! ! ! وهذا من الأمور التي مرت علي أثناء دراستي لثلاثيته . مما جعلني أتفكر كثيراً في كيفية تسرب هذه البدعة الغريبة على بلادنا إلى ذهن الحمد وروايته ، ثم اكتشفت أنه قد نقلها ـ بغباء ـ من ثلاثية نجيب محفوظ ، دون أي تفكير بمدى صحتها !!! وهذا من الأدلة على أن الحمد مجرد ببغاء لنجيب محفوظ يردد ما يقوله في ثلاثيته ولو كان مخالفاً للنقل والعقل كهذه المسألة .
قال الحمد متحدثاً عن والد هشام :
( وضحك أبوه إحدى ضحكاته النادرة ، ثم عاد إلى وقاره وهدوئه المعتادين وهو يقول بحزم : اسمع يا ولدي … إن الله موجود في كل مكان ، والتقوى في النية الطيبة والسلوك الطيب مع الناس ، … ) 289(34/179)
قلت :هذه عقيدة باطلة يدين بها متأخرو الأشاعرة ، والذي عليه سلف الأمة أن الله على عرشه فوق سماواته ، كما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 290 وقال : {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } 291 وقال :{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } 292… والأدلة على هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع فيها . فانظرها في كتاب ( العلو ) للذهبي و ( مختصره ) اللألباني ، و( علو الله على خلقه ) للدكتور موسى الدويش ، و( إثبات علو الله … ) للشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ ، و ( الرحمن على العرش استوى ) للشيخ عبد الله السبت ، و( الرحمن على العرش استوى بين التنزيه والتشويه ) للدكتور عوض منصور.
أما أن الحمد قد أخذ هذه العقيدة البدعية من نجيب محفوظ فلأن هذا الآخر قد ذكرها في ثلاثيته ـ التي هي عمدة الحمد ـ على لسان أحمد عبد الجواد .
حيث قال له الحمزاوي : ( ربنا موجود ) فرد عليه أحمد عبد الجواد : ( نعم! ومشيراً إلى الجهات الأربع ) في كل مكان ) 293.
الحمد يرى أن عبودية الله كالأغلال !!
من تنقص الحمد لله عز وجل ، أنه لم يرض بعبوديته ، وإنما آثر عليها (الحرية) كما يدعي ! وهي في حقيقتها ليست ( حرية ) وإنما ( عبودية ) من نوع آخر ، إما للهوى أو الشيطان كما سبق .
يقول الحمد متحدثاً عن هشام : ( وطافت في ذهنه تجربته الدينية العميقة حين ذهب إلى المسجد مع ا لفجر ، وصلى بعمق غريب ولذيذ لأول مرة في حياته ، بعد تجربته الجسدية مع رقية فقد كانت صلواته السابقة مجرد حركات جسدية لا روح فيها ، ومجاملات اجتماعية بعض الأحيان . ورغم أنه يشعر بالضآلة حين يجامل في مثل هذه الأمور ، إلا أنه لا يستطيع إلا أن يجامل ، فالله غفور رحيم ، ولكن عباده لا يعرفون الرحمة والغفران ، لقد أحس بعد تلك التجربة العنيفة بتمزق لم يستطع إحتماله ، فكان بحاجة إلى أب رؤوف رؤوف يلقي بحمله عليه … أب ليس ككل الآباء . أب يسامح على الخطأ والخطيئة ، ويأخذ بيده إلى الراحة بعد العذاب ، والصفاء بعد القلق وذاك الوخز المؤلم في الداخل … ولكن شتان بين حاله مع رقية ، وهذا الإنقلاب العجيب في حال عدنان … كل إنسان يبحث عن أب رحيم قادر ، وأم حنون في الأزمات والملمات، والكل يبحث عن كتف عطوف عطوف قوي يبكي عليه ويلقي عليه بأحماله ، ولكن القليل هو من يريد أن يبقى باكياً على ذلك الكتف ، فهو لذيذ حقاً ، ولكن الألذ منه أن تخطئ وتصيب فاللذة في وجود نقيضها وليس في مجرد وجودها .شيء لذيذ وجميل أن تجد من يكون مسؤولاً عنك طوال الوقت ، ولكن السعر باهظ جداً … إنه الحرية ذاتها . الطفل وحده من يدفع هذا السعر بالرغم منه ، ولكن من يريد أن يبقى طفلاً طوال الوقت ؟! الكل يجد الدفء في حضن الأم ، والقوة في الأب ، ولكن قلةً من يريدون البقاء في ذلك الحضن وعلى الكتف … ويبدو أن عدنان واحد من هؤلاء ) 294.
قلت : ومقصوده واضح لا يحتاج إلى إعمال ذهن ، وهو دليل تكبره عن عبادة ربه ـ كما سبق ـ وقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) 295 .
تنقصه للملائكة الكرام :
أما تنقص الحمد واستخفافه بالملائكة المكرَّمين فمن ذلك قوله متحدثاً عن هشام في السجن :
( ثم نظر إلى النافذة ، وتلك النجوم التي تتبدى من ورائها على استحياء ، وهو يتصور أن يأتي ملاك رحمة من هنا أو هناك فينقله على جناحيه إلى حيث نسمة هواء طليقة . ولكن حتى الملائكة اختفت في هذه اللحظة ، ويبدو أنها نفسها تخاف الدخول إلى هذا المكان ، وليس إلا الرعب والسكون والانتظار )296!!
قلت : كيف تخاف الملائكة الدخول في هذا المكان أو غيره ، وهي معك أينما سرت . قال تعالى عن الإنسان : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) 297.
وقال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) 298.
وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) 299 .
فالملائكة المكرمون قد خُصََّ بعضهم بأنه لا يفارق الإنسان في جميع أحواله ـ كما سبق ـ ولكن الحمد لا يفقه هذا بعد أن اعتاد لسانه على الجرأة عند حديثه عن كل شيء مقَّدس متأثراً بالكفرة الفجرة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
تنقص الحمد القرآن :
أما سخريته بالقرآن ، وبآيات الله ، فهو أنه يضعها في غير موضعها ، بأسلوب هازل .
فمن ذلك قوله :
( حانت التفاتة من عبد الرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه بقوة ، فقال وهو يضحك : " ما تلك بيمينك يا هشام ؟ " وابتسم هشام …) 300 فهو يشير إلى قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى) 301
وقوله : ( وهز هشام رأسه وهو يبتسم محيياً ، فيما أخذ الآخرون يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم ويقولون : "شرَّفت الكراديب " "وما منكم إلا واردها " ) 302.(34/180)
وهو يشير إلى قوله تعالى عن النار : ( وإن منكم إلا واردها ) 303.
قلت : لا يجوز أن يُنزل القرآن في غير منزله الذي أراده الله له ، وأن يُسْتدل به بهذه السخرية 304.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عن ( استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء ؟ ) فأجابت بأنه ( لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح ) 305.
بغضه للقرآن :
يقول الحمد متحدثاً عن ذكريات هشام ، وصديقه عدنان : ( كانا في الصف الرابع الابتدائي ، وكانت مادتي القرآن الكريم والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ) 306!!
قلت : أما ( أصعب ) فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) 307.
وأما ( أبغض ) فهذه التي يريد الحمد ! والسؤال : لماذا كان كلام الله الذي فيه الهدى والنور أبغض المواد !؟ وكان الحب كله للكتب الفلسفية والماركسية و(المحرَّمة ) !
وصدق الله إذ يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) 308.
تنقصه للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ :
لقد أسرف الحمد على نفسه كثيراً واقتحم لجة من الكفر والضلال عندما تعرض لأنبياء الله تعالى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واصفاً إياهم بكل منقصة جرياً وراء أكاذيب اليهود والنصارى التي استولت على ذهنه عند حديثه عنهم ـ عليهم السلام ـ فقد نسخت قراءاته لكتب اليهود والنصارى كل تعظيم غرسه القرآن في صدره حول الأنبياء والرسل .
ولنستمع إلى ( هرائه ) مع التعليق عليه بما تيسر .
قال الحمد على لسان هشام :
( قتل قابيل هابيل من أجل المرأة ، وخرج آدم من الجنة من أجل المرأة ، وأذنب من أجل المرأة ، وسخر سليمان الجن من أجل المرأة ، وقال رسولنا الكريم 309:" حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت الصلاة قرة عيني " ومزامير داود كلها عن المرأة ، وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ، وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ، وكانت المرأة وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو … )310 .
قلت : لقد تضمن هذا النص من الحمد عدة فتراءات على أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ حيث لم يتورع ـ هداه الله ـ عن متابعة اليهود والنصارى في تلفيق التهم والنقائص لخير البشر ـ عليهم السلام ـ ولتفنيد ذلك أقول :
ـ أما قابيل وهابيل فإنهما لم يكونا من الأنبياء هم بشر كغيرهم ، فلا شأن لنا بهما . ومع هذا تركي الحمد لم يذكر إلا قولاً واحداً في قصتهما ولم يذكر القول الثاني .
فهو ألمع إلى القول الأول الذي يفيد بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب المرأة فقررا أن يتقربا إلى الله بقربان فمن تقبل منه كانت المرأة من نصيبه فتقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل ، فقام قابيل بقتل هابيل .
والقول الثاني الذي لم يذكره الحمد هو أنهما قررا أن يقوما بتقديم قربان إلى الله ـ عز وجل ـ فعمد قابيل إلى أسوأ ماله فقدمه قرباناً ، وعمد هابيل إلى أحسن ماله فقدمه ، فتقبل منه ولم يتقبل من أخاه قابيل ، فحسده قابيل وقام بقتله .
وفي هذا يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ : ( عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل ، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ! وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته ، وإن لم يكن رضيه خبت النار ، فقربا قرباناً . وكان أحدهما رعياً وكان الآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها . وقرب الآخر أبغض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد عليّ ؟ فلا والله لاتنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ! فقال أخوه : ماذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين )311 .
قلت : فهذا القول الثاني لم يشر إليه الحمد هو الذي يشهد له القرآن العظيم عندما تحدث عن قصة ابني آدم حيث قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ) 312.(34/181)
ولذا فقد قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ بعد سياقه الأثر السابق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ([ فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لاعن سبب ولا عن تدارئ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن )313 .
قلت : فالحمد لم يسق إلا القول الذي يتماشى مع هواه ، علماً بأن هذه الروايات جميعها لم تصح مرفوعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي تنقل عن أهل الكتاب الذين أمرنا بعدم تصديقهم أو تكذيبهم إلا ما عارض شرعنا فإننا نكذبهم فيه ـ ولا كرامةـ.
بل إن القرآن والسنة الصحيحة لم تذكر ( قابيل وهابيل ) وأنما ذكرت بأن القصة حدثت لابني آدم فقط دون تفصيلات . كما في سورة المائدة ، وكما في قوله e في الصحيحين : " لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ، لأنه أول من سنَّ القتل " .
ـ أما قول الحمد بأن آدم ـ عليه السلام ـ قد خرج من الجنة من أجل المرأة فالذي في القرآن أن ( الشيطان ) قد وسوس لآدم وحواء جميعاً بالأكل من الشجرة ، وفي آيات أخرى يخبر الله بأن الشيطان قد وسوس لآدم بذلك دون ذكر لحواء .
قال تعالى : وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)314.
وقال سبحانه : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)وَيَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ) 315.
وقال عز وجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى) 316.
فهذه الآيات فيها أن الشيطان وسوس لهما جميعاً (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) وفي سورة طه أنه وسوس لآدم أولاً (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) .فهي تشهد لمن قال بأن الوسوسة كانت لهما جميعاً حيث أغراهما الشيطان بنيل الخلد في الجنة وأن يكونا كسائر الملائكة . ولم يذكر فيها أن حواء هي التي أغرت آدم على الأكل من الشجرة كما تقول ذلك الروايات الإسرائيلية . ولهذا قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ : ( دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة ، يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب ، بما حرفوا وكذبوا ) 317.
قلت : ولكن من يقول بأن حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، أو أنها سهلت له الأكل منها يستشهد بحديث رواه البخاري في صحيحه ويحمله على هذه القصة ، وهو أنه e قال : " لولا حواء لم تخن انثى زوجها " . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : ( وقوله " لم تخن انثى زوجها " فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها ابليس حتى زينته لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا الحديث " جحد آدم فجحدت ذريته " وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى ، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور ، وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن ، والله المستعان ) 318.
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها ، والله أعلم ، وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري …) ثم ذكر الحديث السابق319 .
قلت : ومع هذا فلا يحسن أن يقال بأن آدم خرج من الجنة بسبب المرأة ، وأنما يقال بأنه ـ عليه السلام ـ خرج من الجنة بسبب مخالفته لنهي الله ـ عز وجل ـ بوسوسة من الشيطان مما ترتب عليه ابتلاؤه وذريته من بعده . وكان هذا قبل أن يتوب الله عليه ، ويصطفيه كأول نبي على وجه الأرض .
ـ أما قول الحمد بأن داود ـ عليه السلام ـ أذنب من أجل المرأة فهذا من افترائه متابعة لأشياخه اليهود الذين افتروا على داود ـ عليه السلام ـ في توراتهم المحرفة بأنه عليه السلام قتل أحد قواده بواسطة الخدعة حيث جعله في مقدمة الجيش ، لكي يتزوج بامرأته التي أُعجب بها داود ـ عليه السلام ـ بعد أن رآها عريانه !!! كما جاء في ( سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح 11) .(34/182)
قلت : وقد تسللت هذه الكذبة الشنيعة من اليهود إلى تفاسير المسلمين عبر الاسرائيليات التي أخذوها منهم دون تمحيص لها .
حيث تذكر هذه القصة المكذوبة في تفسير قوله تعالى : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )320 .
وقد أجاد ابن كثير ـ رحمه الله ـ عندما قال عند هذه الآية : ( قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ) 321 ثم ضعف القصة السابقة بأن في سندها ( يزيد الرقاشي ) أحد الضعفاء في الحديث عند الأئمة .
وقبله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ :
( قد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم ، كما قالوا في سليمان ما قلوا ، وفي داود ما قالوا )322 .
وقال القاضي عياض ( لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ) قال: ( وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ) 323.
وقال الشيخ محمد أبو شهبه في كتابه ( الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ) : ( والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي . قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم )324 .
وقال الدكتور البار بعد أن ذكر هذه القصة المكذوبة : ( يالها من جريمة بشعة حقيرة تزعم التوراة ( المحرفة ) أن داود عليه السلام ارتكبها ، وهو لاريب منها برئ)325.
قلت : شتان بين هذه القصة التي تصف نبي الله داود ـ عليه السلام ـ بالقتل والمخادعة في سبيل امرأة ، وبين قول الله تعالى عنه (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)326 .
فقد وصفه تعالى بالقوة في العلم والعمل وأبان ذلك e بقوله عنه بأنه " كان يصوم يوماً ويفطر يومأ ، ولا يفر إذا لاقى " 327. وقال عنه " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " 328
فأين هذا الوصف العالي من و صف التوراة المحرفة التي استساغ الحمد أن يتأثر بها وينقلها تشويهاً لصورة نبي الله ـ عليه السلام ـ !؟
ـ أما قول الحمد بأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد سخَّر الجن من أجل المرأة ، فهذا من كذبه الذي يعرفه صغار المسلمين الذي يقرأون القرآن .
فسليمان ـ عليه السلام ـ لم يسخر الجن لنفسه ، وإنما الذي سخرها الله ـ عز وجل ـ .
قال تعالى عن سليمان : (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) 329.
وأما قصته ـ عليه السلام ـ مع ( بلقيس ) ملكة اليمن التي يلمح إليها الحمد فهي إن سليمان غضب منها ومن قومها عندما أرسلوا له المال والهدايا لعله يكف عنهم . فأمر من حوله من الجن والإنس بأن يحضروا له عرش بلقيس الذي لا يكاد يوجد مثله في عظمته ، فقال : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولكن سليمان لم يقنع بهذا ، فقال (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو كاتبه آصف بن برخيا كما يُروى عن ابن عباس : (أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : أن تنظر مد بصرك فلا تكل إلا والعرش عندك : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ) أي سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )330 .
أما سبب احضار العرش فليس لأجل المرأة كما يزعم الحمد ـ كذباً وافتراءً ـ وإنما لأجل أن يظهر سليمان عظمة ملكه لها ، وأنه نبي من عند الله ، قد سخر له الإنس والجن فتستجيب لدعوته لها إلى دين التوحيد بعد أن كانت تسجد هي وقومها للشمس .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( إن سليمان أراد باحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا فارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه )331.
ـ أما قول الحمد بأن نبينا w قد حُبب إليه النساء ، فهذا صحيح ، وقد ورد في هذا قوله w : (( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة ))332.(34/183)
وليس معنى هذا ما قد يظنه الحمد أو غيره من الجهلة وهو أن هذه المحبة هي لأي امرأة ولو لم تحل له ـ والعياذ بالله ـ وإنما هذا خاص بزوجاته وما ملكت يمينه w ، وليس في هذا أي نقص لمرتبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل هو بيان لكمال رجولته .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( أما محبة الزوجات فلا لوم فيها ، بل هي من كماله ، وقد امتن سبحانه على عباده فقال : ((وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))333.فجعل المرأة سكناً للرجل يسكن قلبه إليها ، وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونه بالرحمة ) قال : ( ولا ريب أن النبي w قد حُبب إليه النساء ، كما في الصحيح عن أنس عن النبي w : (( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ) قال : ( فمحبة النساء من كمال الإنسان ، قال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ) قال : ( فعشق النساء ثلاثة أقسام : قسم هو قُربة وطاعة ، وهو عشق امرأته وجاريته ، وهذا العشق عشق نافع ، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يُحمد هذا العاشق عند الله ، وعند الناس )334.
ـ أما قول الحمد بأن مزامير داود ـ عليه السلام ـ كلها عن المرأة ، فهذا كذب منه ، يريد به التهويل قال الدكتور محمد البار ـ حفظه الله ـ وهو ممن اعتنى بدراسة المزامير :
( تنسب المزامير إلى مجموعة من أنبياء بني اسرائيل وأدبائهم وشعرائهم ، وتشتمل على 150 مزموراً ، منها 73 منسوبة إلى داود عليه السلام ، والأخرى منسوبة إلى موسى وسليمان ـ عليهما السلام ـ وإلى آساف وبني قورع وراجح وهيمان وأتيان ويدوتون ) قال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أيٍ من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره ، إلا أنها أصبحت جزء من الفولكلور الشعبي اليهودي )335 .
قال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أي من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره ، إلا أنها أصبحت جزءً من الفولكلور الشعبي اليهودي )336.
قال : ( تُقسم المزامير إلى ثلاث مجموعات أساسية تندرج تحتها مجموعات أصغر . وهذه المجموعات الثلاث هي :
1 ـ مجموعة التسابيح .
2 ـ مجموعة صلوات الاستغاثة .
3 ـ مجموعة التعليم )337 .
قلت : يتضح من هذا أن المزامير كلها عن دين اليهود وتسابيحهم وصلواتهم، وليست كما يزعم الحمد بأنها ( كلها عن المرأة ) !!!
والذي نعتقده ـ كمسلمين ـ هو ماجاء في القرآن الكريم أن الله قد آتى داود ـ عليه السلام ـ كتاباً مقدساً هو ( الزبور ) قال تعالى : ((وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا )) 338.
ونعتقد أن داود ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله صوتاً جميلاً يترنم به عند تسبيحه الله فتردد الجبال والطير معه .
قال تعالى : ((إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ))339، وقال : ((يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ))340، وأما قوله w لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ : (( يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ))341.
فقد قال الخطابي : ( قوله (آل داود ) يريد داود نفسه ، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي )342وقال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالمزمار الصوت الحسن ، وأصله الآله ، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة )343.
ـ أما قول الحمد ( وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ) !!
فهذا من أقبح تشنيعاته على أنبياء الله ، والتعريض بهم بخُبثٍ وسوء طوية ، حيث لم يُعقب على هذا الكذب بما يبينه ، وإنما ساقه به متابعةً لأحفاد القردة .
ثم أعاده في موضع آخر من روايته مبيناً قصده ، حيث قال على لسان هشام ـ كما سيأتي ـ ( وزنت بنات لوط مع أبيهم )!!
وهذا الكذب الفاحش قد أخذه الحمد من التوراة ( المحرّفة ) حيث جاء فيها ـ كما في سفر التكوين ، الاصحاح 19: 30ـ 38 ـ أن ابنتي لوط ـ عليه السلام ـ قامتا بإسقائه خمراً حتى سكر ، ثم اضطجعتا معه ، فجبلتا منه !!!
وهذه الكذبة لا يُستغرب صدورها من قوم قد قال الله ـ تعالى ـ عنهم : ((أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ))344 فمن كذب بعض الرسل وقتل بعضهم الآخر لا يستغرب عليه أن يفتري الكذب عليهم .
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذه القصة المفتراة ( هذه فضائح الأبد ، وتوليد الزنادقة والمبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام )345
وقال ابن القيم رحمه الله ـ:(34/184)
( ومن قدحهم 346في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة ، أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ، ونجى لوطاً بابنتيه فقط ، ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه تسلاً . فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ، ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر ، فهلمي نسقي أبانا خمراً ونضاجعه ، لنستبقي من أبينا نسلاً ، ففعلتا ـ بزعمهم ـ فنسبوا لوطاً النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما … )347.
ـ أما قول الحمد بأن المسيح ـ عليه السلام ـ أبطل حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، فلعله يشير إلى اتهام اليهود لمريم ـ رضي الله عنها ـ بالزنا من أجل حملها بعيسى ـ عليه السلام ـ دون زوج ، ومن ثمّ تكلم عيسى في المهد مبرئاً أمه من هذه التهمة الشنيعة التي وبخ الله اليهود لأجلها بقوله ـ تعالى ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)348 فما دخل هذه الحادثة بما يتحدث عنه الحمد !؟
ـ أما قول الحمد ( وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ) فيشير إلى ما ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (( بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى إلى جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة قال : ياسارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ : فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتوني بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي ، فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره ، وأخدم هاجر )) 349
قلت : وفي هذا الحديث بيان عصمة الله لابراهيم وزوجه أن تمسهما يد ظالم ، حيث كف سبحانه كيد هذا الملك عنهما .
ـ أما قول الحمد بأن المرأة كانت ( وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو) فيشير إلى ما جاء في الإسرائيليات التي دخلت علينا من أهل الكتاب وقد ذكرها المؤرخون في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية :( ذكر أهل الكتاب أن اسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبنه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل .
قالوا : وكان اسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر .
قالوا : فلما كبر اسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطحنه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجلد ويعقوب ليس كذلك ، فلما جاء به وقربه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إلى وجهه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده .
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلتُ منه ودعوتُ لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك )350.
قلت : فهذه من أحاديث أهل الكتاب ، لاتصدق ولا تكذب ، وإن صحت ففيها بيان محبة الأم لابنها وحرصها على أن يكون محظياً عند والده ، ولاحرج في هذا.
تنقصات أخرى :
وقال الحمد في موضع آخر من روايته : ( رحماك يارب الكون … لماذا
خلقت حام طالما أن سام هو الحبيب ؟ ولماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ، وزنت بنات لوط مع أبيهم ، في كتاب يقولون أنه كلماتك وإرادتك ؟ )351.
قلت : في قول الحمد مخاطباً ربه ( لماذا خلقت حام ؟ ) سوء أدب ، ووقاحة ، وعدم تعظيم له سبحانه ، حيث وجه إليه سؤاله تعنتاً واعراضاً ، وقد قال تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)352.(34/185)
وهو يشير بقوله : ( لماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ؟ ) إلى ما ورد في التوراة ( المحرّفة )353 التي هي عمدة الحمد في قدحه بأنبياء الله ! من أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه ، فأبصره ابنه حام ( أبو كنعان ) ، وأخبر أخويه ( سام ويافث ) ، فأخذ ( سام ويافث ) الرداء وسترا عورة أبيهما دون أن ينظرا إليها ، فلما أفاق نوح وعلم بذلك لعن حاماً وابنه كنعان ، ودعا أن يكون عبداً لأخويه ، ودعا لسامٍ بالبركة من الله .
قلت : وهذه احدى كذبات اليهود وتشويههم لصورة الأنبياء في كتبهم المحرفة ، التي نقل منها الحمد دون تورع أو خجل ، ولكن بمكرٍ وخبث ، ومحاولة منه لا سقاط المثل والرموز ـ كما سبق ـ بأسلوب حقير يناسب طبعه وعقليته التي لا تقيم وزناً لأي شيء مقدس ـ كما يحاول أن يدّعي ـ !
قال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد إيراده هذه القصة المكذوبة على نوح ـ عليه السلام ـ : ( وهذا محض كذب وافتراء ، فإن الله عز وجل قد وصف عبده نوحاً في كتابه المهيمن بقوله : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)354)355.
ـ وأما قوله القبيح ( وزنت بنات لوطٍ مع أبيهم) فقد بينت كذبه ـ فيما سبق ـ وأنه مُتلقىً عن أبناء القردة ، من الذين جعلهم الحمد قدوته ، واتبع آثارهم في تعريضه بأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ دون خوف من الله ـ عز وجل ـ الذي قال عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)356.
ـ وقال الحمد على لسان هشام في السجن( يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم . إنه يحس في داخله أنه كان معاصراً لقابيل وهو يقتل أخاه ، ولنوح وهو يصارع أمواج الطوفان ، ليونس وهو يصيح في بطن الحوت ، ولأيوب والدود ينخره ، وليوسف في الجب ، ( والمسيح هو يصيح مصلوباً ، والنبي الأمي وهو يشكو )357.
قلت : أما قوله ( حشر الإله الروح في جسد آدم ) فهو من سوء أدبه مع ربه، واعتراض خفي على خلق آدم _ عليه السلام _ وكان الأولى به أن يقول : (نفخ الإلة الروح في آدم ) كما أخبر القرآن : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) 358.
الحمد يعتقد صلب المسيح ـ عليه السلام ـ !!!
وكل هذا يهون أمام الطامة العظمى التي فاه بها الحمد ، وهي قوله : ( والمسيح وهو يصيح مصلوباً ) !!! فهو يخالف بقوله هذا نصوص الشريعة واجماع المسلمين من أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يصلب بل رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره ممن صلب ، قال تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) 359.
والذي دعا الحمد إلى هذه الزلة العظيمة هو ـ كما سبق ـ متابعته لليهود والنصارى الذين يزعمون أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد صلب ، وقد رد الله عليهم قولهم هذا في القرآن الذي يفترض أن يكون الحمد قد قرأه وآمن به ! قال تعالى عن اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) 360. وهذه العقيدة وهي عدم صلب المسيح ـ لا يخالف فيها أي مسلم ، عامياً كان او عالماً ، وإنما خلاف بعضهم في أنه هل رفع ـ عليه السلام ـ بجسده كما عليه الجمهور وهو الصحيح لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )361.
أم أنه تعالى توفاه بالنوم ثم قبض روحه كما يقبض أرواح البشر ، كما يختاره بعض العقلانيين من أمثال محمد عبده ومدرسته 362.
أما أنه عليه السلام قد صلب فهذا لم يفه به سوى المغضوب عليهم والضالين (وأذنابهم ! ) لأنه مصادم لما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو تكذيب لله ـ عز وجل ـ
فهل يعي الحمد خطورة قوله هذا !؟ أم يتمادى في تجاوزه لكل ما هو قطعي تحت دعاوى ( الحرية ! ) عندها نقول له : (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) 363.
تنقص آخر لأنبياء الله :
قال الحمد على لسان هشام :
( نحن نحاول أن نفهم سر ما يجري ، ولكننا ننتهي إلى صخرة سيزيف ، ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ، وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة … ) 364.
قلت : أما صخرة سيزيف فهي أسطورة يونانية لا شأن لنا به ولا بصخرته التي يحاول الصعود بها .
ـ أما قوله : ( ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ) ! فهو افتراء منه تابع فيه اليهود الذين اتخذهم قائده ودليله في روايته ، فالقول ما قالوا ، والرأي ما رأوا ، والرواية مارووا ، وإن كان فيها تنقص أو شتيمة لأنبياء الله ورسله ، فكل هذا لا يهم ( التوراتي ) تركي الحمد ! الذي شابه قلبه قلوبهم في حملها الغل على أكرم الخلق فأصبح يهذي بما يهذي به يهود .(34/186)
ومن ذلك متابعته لهم في اتهام سليمان ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر !!! وقد رد الله هذا الكفر بقوله تعالى مدافعاً عن نبيه سليمان : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)365 .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( ان سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه محمداً e أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ـ عليه السلام ـ مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ) 366.
ـ وأما قوله( وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ) ! فلا أدري ما الداعي لكلمة ( العابثة ) ! أم أن الحمد أصبح لا يرى في كل شيء إلا العبث ؟
والذي ورد في تفسير قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) 367 هو أنه آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم فدعا الله فاستجاب دعاءه وليس ذلك تعويذات عابثة كما يزعم ( العابث ) تركي الحمد .
سخرية الحمد وتنقصه شعائر الإسلام :
أما سخريته بشعائر الدين ، وتهوينه من أمرها فمن ذلك أنه أخبر عن هشام بأنه ( صلى الفجر مع خاله دون اغتسال ) 368!!
وقوله مهوناً أمر الصلاة : ( حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان ، كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنزل غالباً ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم .. ) 369 .
وقوله : ( وبقي هشام وحيداً لا يدري ما يفعل ، هل يلحق خاله إلى المسجد ، أم يواصل النوم مثل أبناء خاله .. وأخيراً عزم على مواصلة النوم ، فلا ريب أن الأبناء أدرى بحال الدار ، واستلقى على فراشه ، وأخذ النسيم البارد ورطوبة السحر يداعبان أجفانه . وعندما كان المؤذن ينادي : " الصلاة خير من النوم … الصلاة خير من النوم " ، كان قد أغفى تماماً ( 370.
قوله : ( إنه لا يحب القصيم كثيراً . ففي الدمام أصحابه والأجواء التي اعتاد عليها والبحر ، وفي القصيم لا أصداء ولا بحر ، وفوق كل ذلك صلاة الفجر التي لا بد أن يؤديها جماعة في المسجد مع جده .عندما يلذ للعين الرقاد ) 371.
سخريته وتنقصه أحاديث صلى الله عليه وسلم :
وأما سخريته بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك قوله على لسان وليد مخاطباً هشاماً :
( أنت تتحدث عن الموت وكأنه كائن مجسد ، وليس حادثه أو حالاً .
وضحك هشام باقتضاب وهو يقول :
ـ وما أدراك أنه ليس كائناً ؟ .. ألا يقولون إن الملاك عزرائيل هو قابض الأرواح ؟ أوليس ذاك الهيكل العظمي الأسود هو الموت بعينه ؟ ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يوم القيامة يؤتى بالموت على شكل خروف فيذبح على الحدود بين الجنة والنار ؟
ثم وهو يضحك :
ـ لقد ذكرتني بنزار وقصائده المتوحشة .
ثم وهو يعتدل في جلسته :
ـ ولكن أتدري ما يحيرني يا وليد … هل يمكن للموت أن يموت ؟ كيف يموت من هو ميت أصلاً ؟ وإذا كان الموت يميتنا ، فمن يميت الموت ؟ … الله ؟ .. هو الحياة ذاتها فكيف يمكن للحياة أن تميت ؟ .. حقاً يا لها من حيرة ) 372.
قلت : أما تسميته ملك الموت بعزرائيل فهو من جهله ، لأنه لم تصح هذه التسمية في أي من الأحاديث الصحيحة 373، و الله ـ عز وجل ـ سماه في القرآن ملك الموت ولم يذكر له اسماً غيره .
قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) 374.
وأما قوله : ( ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يؤتى بالموت على شكل خروف …الخ ) فهو من سخريته بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فإنه يعلم أنهم لا يقولون ، وإنما القائل هو محمد e 375 ، الذي قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة! هلى تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت . ثم يقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت . قال : فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) 376.
أما تحيره : كيف يموت الموت ؟ فقد أجاب عنه العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله تعليقاً على الحديث السابق : ( وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح .(34/187)
وهذا لا يصح ، فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله ينشئ من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين ولا شيئاً من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال : إن الذبح لملك الموت! فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه ، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح ، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه e " تجي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان " الحديث ، فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه غمامتين ) 377.
بغض الحمد لعباد الله الصالحين :
كما أن الحمد ابغض ريه ـ عز وجل ـ وملائكته ، وأنبياءه وكتبه ، وشرائعه ، فإنه حتماً سيبغض عباده الصلحين ، وسيبغض ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات .
وإليك ما يشهد لهذا :
يقول الحمد متحدثاً عن هشام :
( أخذ يقلب الكتاب الذي أعطاه إياه عدنان ، " المنقذ من الضلال " للغزالي كان لا يحب هذا النوع من الكتب )378 .
وهذا النوع من الكتب يعني به الكتب الإسلامية التي تقربه من الخير ، وتباعده من الشر فهو لا يطيقها ، ولا يحبها ، بل يهرع إلى كتب أحبابه من الفلاسفة والماركسيين الذين يجد عندهم ما يروي ظمأه ، ويوافق طبعه فالطيور على أشكالها تقع.
ويقول الحمد على لسان مهنا :
( أرجو أن لا تتحدث عن البعثيين أو القوميين العرب أو حتى الدراويش من الاخوان المسلمين … كل هؤلاء سذج ومزيفون ) 379.
ويقول على لسان والد هشام متحدثاً مع ابنه :
( ولكن ما لقيت إلا البعثيين كي تصبح منهم … أطقع ناس … ولا أخرط منهم إلا الشيوعيين والإخوان )380 !!
ويقول عن ( الاخواني ) لقمان :
( يا لك من منافق يالقمان … تخدم ألف إله وإله ، ثم تقول لا إله إلا الله … قاتل الله الحياة ، فهي النفاق بعينه قاتل الله الحياة فهي التي تجعلنا عبيداً دون أن نريد ، وأسياداً ونحن نريد ولا نريد . قاتل الله حياة تذلنا فيها لقمة ، وتأسرنا كلمة ، وتستعبدنا شهوة ، ويموت فيها الطيبون .. ثم نقول لا إله إلا الله )381 .
قلت : جماعة الإخوان إحدى الجماعات الإسلامية الشهيرة التي يعرفها معظم الناس ، وهي قد نشأت في مصر ثم امتدت إلى معظم بلاد العالم . وهي جماعة عليها مؤاخذات كثيرة من عدم اهتمام بنشر العقيدة السلفية ، أو تعليم للعلم الشرعي النافع ، وإنما همها ( التجميع ) والوصول إلى الحكم بأي طريقة 382.
ومع هذا فلا نؤيد ( الماركسي ) ( البعثي ) تركي الحمد في طعنه بها ، فشتان بين جماعة إسلامية ( مقصرة ) وبين جماعات ومذاهب ( كافرة ) عدوة للإسلام والمسلمين .
هذا عن نقده واستهزائه بجماعة الإخوان المسلمين، أما غيرهم من عباد الله ( الملتزمين ) فقد نالهم ما نال أولئك من سخرية لاذعة بأسلوب مبطن . يقول الحمد عن ( عدنان العلي ) صديق هشام : ( لم يكن عدنان يأتي إلى المقصف وحده ، فغالباً ما كان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة ، يشربون الشاي ويتحدثون بهمس لا يكاد يسمع ، وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لا يبتسمون أبداً ، وإذا حدث ذلك من أحدهم ، غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ) 383.
قلت : تأمل هذه السخرية المتكلفة التي أراد الحمد إيصالها إلى ذهن قارئه ، بأن كل من التزم بدين الله ، فهو لا شك سيكون متجهماً لا يبتسم ، وإذا ابتسم فإنه سيعتذر من ابتسامته !! ونسي أن هؤلاء الملتزمين هم أول من يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، " تبسمك في وجه أخيك لك صدقه " 384 ولا يجدون غضاضة في هذا التبسم لأنه سنة نبيهم محمد e ، فلماذا تعمد الحمد قلب الحقائق ، الأجل أنهم لم يبتسموا في وجه ( ماركسي ) ( بعثي ) !؟ أم أنه الحقد الذي يحمله في صدره على كل ( ملتزم ) فأراد تفريغ بعضه في روايته هذه عبر هذا الأسلوب المبطن ؟ ثم تأمل ـ أخي القارئ ـ سخريته بسنة نبيه محمد e ( اللحية ) بهذا الأسلوب الحقير( اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ) !! وهو تهويل منه ومبالغة ، لأن الجميع لا يكاد يجد مثل هذا الصنف المتخيل ، فلماذا تقليل الكثير وتكثير القليل يا تركي !؟ ولم يكتف الحمد بهذه السخرية السابقة باللحية لأنها لم تشف غيظه من أهل الإسلام ، فرددها مرة أخرى عندما قال متحدثاً عن هشام :
( ثم فتح الباب عن وجه أحد زملاء عدنان بلحيته الكثه ، ورأسه الحليقة تماماً) 385.(34/188)
فزاد على سخريته باللحية اتهام الصالحين بأنهم يرون السنة حلق الرأس ، ولهذا هم يحلقون رؤسهم اتباعاً لها ، وهذا كذب عليهم وهو اتهام قديم قال به أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عندما اتهموه وأتباع دعوته بأنهم يحلقون رؤسهم ، ويأمرون من اتبعهم بحلق رأسه ! ، ولهذا فهم من الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : "سيماهم التحليق " 386! ثم جاء الحمد مردداً هذه التهمة الباطلة متابعة منه لأعداء الدعوة التي شرق بها العلمانيون والملحدون .
وهذا الاتهام باطل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها يتبعون في هذه المسألة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تجعل أمر الشعر من أمور العادات التي يتبع فيها المرء عادة بلده في ابقاء الشعر أو حلقه . وإنما ينهى عن القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ راداً على من ادعى بأن علماء الدعوة يكفرون من لم يحلق شعر رأسه !! : " إن هذا كذب وافتراء علينا ، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فإن والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم ، وليس عدم الحلق منها ، بل ولم نقل أن الحلق مسنون ، فضلاً عن أن يكون واجباً ، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام !
والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع ، وهو : حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهذا الذي نهينا عنه ، ونؤدب فاعله "387 .
مباحث أخرى
ـ تنقص الحمد قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم
ـ حقده على حكومة المملكة العربية السعودية
ـ محبته للرافضة .
ـ المواقف الجنسية في ثلاثيته .
ـ العبارات الوقحة .
تنقص الحمد قبيلة صلى الله عليه وسلم :
لم تسلم قبيلة قريش ـ وهي أفضل القبائل ـ من لمز الحمد في روايته حيث قال على لسان عارف .
( طز في قريش يا صاحبي … ولماذا يجعل نزار قريشاً مثلاً أعلى ؟.. ألأنها قبيلة النبي ؟ … والنعم بأبي القاسم ولكن قريشاً لا .. لقد جعلوا كل تاريخنا تاريخاً لقريش . ألم يكن هناك غير قريش في الساحة ؟ ) 388.
قلت : قبحك الله وأخزاك ! فقبيلة قريش التي تطعن فيها هي قبيلة محمدe (الذي تدعي الفخربه !!) 389 هي القبيلة التي كان منها أفضل الخلق بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد الرحمن والزبير … وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ وهي القبيلة التي قال فيها e : "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانه ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " 390.
وأما ادعاؤك بأنهم جعلوا تاريخنا تاريخاً لقريش ، فكأنك تعرض بتوليهم أمر الأمة منذ الخلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية وانتهاء بالعباسيين ، وهذا ليس مغمزاً فيهم وإنما فخر لهم أن قادوا الأمة ، ونشروا الإسلام ـ على تفاوت بينهم في ذلك ـ متبعين قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم إلا كبه الله على وجهه ، ما أقاموا الدين " 391.
قال الامام أبو عمرو الداني حاكياً أقوال أهل السنة :
( ومن قولهم أن الإمامة في قريش مقصورة عليهم دون غيرهم من سائر العرب والعجم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش ، ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " ولاجماع المسلمين بعده e على أن ولوا قريشاً ) 392 .
أي ما أقاموا الدين كما في الحديث الذي قبله .
حقد الحمد على حكومة المملكة العربية السعودية :
لم يعد خافياً على أحد أن التيارات الماركسية والشيوعية وما سار في ركبها هي جميعها حاقدة على الدولة السعودية المسلمة ، حيث كانوا يعدونها ـ في زمن الشعارات ـ أم الدول المتخلفة الرجعية !! لأنها لا زالت تحكم بالإسلام . فكانوا يُسَخرون كل طاقاتهم في سبيل محاربتها أو تغيير حكومتها إن استطاعوا . ولذا فقد سخروا إعلامهم للنيل منها ، والسخرية بها وبحكامها ، وسخروا كوادرهم لمحاولة تجنيد عملاء لهم فيها ( كهشام العابر !! ) لعلهم يقومون بانقلاب فيها ويسقطون حكومتها ، كما فعلوا في بعض الدول العربية .
كل هذا فعلوه لكن الله ـ عز وجل ـ رد كيدهم في نحرهم ، وأرجعهم خائبين خاسرين بفضله تعالى ثم بفضل جهود الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وإخوانه الذين حاربوا ( شراذم ) الشيوعيين والبعثيين والقوميين ، وشردوهم ، ومزقوهم شرَّ ممزق ، واستماتوا في سبيل حماية دينهم وبلادهم من عبث العابثين وإن غلفوا ذلك بدعوى ( التقدم ) و ( والتحضر ) .
ثم دار الزمان دورته ، فإذا هذه الدولة ( الرجعية ) ـ أعني السعودية ـ تصبح أعز دولة في عالمنا ديناً ودنيا ، حيث جمعت بين الدين الصحيح وهو ( الدعوة السلفية ) وبين التطور الدنيوي ( المتواصل ) 393.(34/189)
أما تكلم الدول ( التقدمية ) ! فإنها حين أفاقت من سكرة الشعارات ، وجدت نفسها بلادين ( صحيح ) ولا دنيا ( متقدمة ) ، فدينها التقليد والخرافة 394، ودنياها البؤس ، والشقاء . كما هو مشاهد لكل أحد . فبدأ الذين اساؤا للسعودية يعيدون النظر في حساباتهم ويتراجعون عن مواقفهم الخاطئة معها بعد أن انقشعت غشاواة الغوغاء والشعارات عنهم .
ولم يبق منهم على طريقته الأولى سوى ( حزب البعث ) الذي لا زال يعيش أسيراً لتلك الفترة السابقة ، ولا زال يحاول النيل بما استطاع من الدولة السعودية : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) 395 .
كل هذا أقوله مقدمة لما جاء في ثلاثية الحمد من نيل من الدولة السعودية وأمرائها ، حيث صاغ كيده بأسلوب غير مباشر لأنه يعلم أنه لا يستطيع ( المواجهة!).
يقول الحمد متحدثاً عن أحد اجتماعات ( حزب البعث ) في السعودية !
( ثم فجأة قال منصور بهدوء ودون أن ينظر إليه :
ـ ما رأيك في الحكومة يا هشام … ؟
سؤال مباغت لم يكن يتوقعه ، مثل قنبلة ألقيت فجأة . لم يحر جواباً ، أحسّ بالاضطراب ، ولاذ بالصمت . غير أن منصور عاود إلقاء قنابله ، موجهاً عينيه الثاقبتين إلى عين هشام مباشرة وهو يقول :
ـ لا داعي للإجابة . . . أنا أجيب عنك . . . إنها حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال ليس إلا . . . )396.
قلت : لا يستطيع الحمد أن يطعن في ( الحكومة السعودية ) صراحة ، ولذا فقد صاغ طعنه ـ بهدف إيصاله إلى القراء ـ على لسان منصور (البعثى) .
فحكومتنا عند الحمد ( حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال) !
ولهذا فالمطلوب هم اسقاطها واستلام ( حزب البعث ) للسلطة بدلاً منها ، حيث سيقوم هذا الحزب ( العادل ! ) بإقامة حكومة ( ديمقراطية ! ) تساوي بين الناس دون نظرٍ إلى ( أديانهم ! ) ، وتوزيع الثروة بينهم بالتساوي !!
والعراق خير شاهد على هذا !!!
وقال الحمد في روايته على لسان ( الرفيق حديجان ! )
( يا رفيق فهد . . . لقد تحدثنا عن الأمة كثيراً ، ولكن ماذا بشأن قطرنا هذا ، كيف السبيل إلى تحرره ؟ )397
فالهدف هو تحرير ( السعودية ) واسقاط راية التوحيد ، ورفع راية ( البعث ) بدلاً منها ! (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)398.
طعنه في أمراء آل سعود :
أما طعن الحمد في الأمراء من آل سعود فقد صاغه ـ في روايته ـ بأسلوب ماكر لا يكاد يُنتبه له . حيث قال متحدثاً عن هشام في كلية التجارة :
( تساءل هشام بعفوية مصطنعة : ( غريب أمر هذا المكان ! . . إنه أشبه ما يكون بقصر منه بكلية ) ، فضحك العم وردان وهو يحرك السكر في الكوب ، كاشفاً عن بعض أسنان متفرقة اختلط فيها السواد بالصفار وبعض البياض ، وسن ذهبية كانت تبرق وتعلن عن نفسها في أحد جوانب الفم ، ثم وهو يقدم الشاي لهشام ، قال بلهجته السودانية العجلة : (( ما هي كانت قصر يازول . . )) ، ثم وهو يستلم ربع الريال ثمن الشاي : (( لقد كانت قصراً لواحد من علية القوم . . . )) ، قال ذلك وهو يبتسم إبتسامة ذات معنى ، ثم إضاف : (( ولكنه انتقل إلى سكن جديد ، فأجّر قصر على الجامعة . . هذه هي القصة . . . ))399.
قلت : لا يحتاج هذا المقطع إلى تعليق ، فهو يريد توصيل رسالة إلى القارىء بأن هؤلاء الأمراء ( فاسدون ) (مسرفون) يتحول أحدهم من قصر منيف إلى قصر آخر أعظم منه ، ثم يقوم بتأجير قصره الأول على الدولة مقابل مبلغ خيالي !! فهم يتلاعبون بالمال كيف شاؤا ، بلا حسيب أو رقيب .
والنتيجة ـ التي يريد الحمد الوصول إليهاـ هي: استثارة الناس عليهم وزرع الحقد والكراهية فيما بين الشعب وحكومته .
محبة الحمد للرافضة :
من أغرب الأمور في ثلاثية الحمد أنه يدعي أن الشيعة ( الرافضة) كانوا على الحق ! ويوافق الروافض في زعمهم أن أبا بكر وعمر عثمان ـ رضي الله عنهم ـ قد غصبوا الخلافة من على ـ رضي الله عنه ـ !! رغم أنه ـ كما يقول ـ لا يهتم بهذه المسألة التاريخية .
يقول الحمد : ( قال منصور وهو يضحك بعصبية ، ثم أضاف : على فكرة ! ما رأيك في مسألة السنة والشيعة ؟
وبدون تردد أجاب : الحقيقة لا تهمني المسألة كثيراً ، ولا حتى قليلاً ، أنا أعتقد أنها شيء من مخلفات الماضي . مالنا ولعلي وعثمان ومعاوية . نحن أبناء اليوم ، ولدينا من الهموم ما يكفي )400.
ويقول في موضع آخر : ( نظر إلى راشد قائلاً :
ـ على فكرة يا أستاذ راشد . . . هل أنت شيعي ؟
وانتفض راشد ، وكأن ماساً كهربائياً أصابه ، قائلاً بحدة :
ـ كلا . كلا ، لماذا ؟
ـ لاشيء .لا شيء . أرجو المعذرة …
وندم على طرحه مثل هذا السؤال ، وحاول الاعتذار مرة أخرى قائلاً:
ـ أرجو ألا تفهمني خطأ . لا فرق عندي بين هذا المذهب أو ذاك . بل إني لا أهتم بكل المذاهب الدينية ) 401.
ويقول على لسان ( الشيوعي ) عارف :(34/190)
( كان الشيعة مع الحق . كانوا مع علي بن أبي طالب ، في مواجهة عمر وأبي بكر وعبيدة ، أصحاب المؤامرة لنزع الحق من أهله . عليك بمناقشات السقيفة وأنت تعلم أين الحق
ـ معك حق .
قال هشام :
ـ معك حق من الناحية التاريخية )402 !!
فالحمد لا يهتم بمسألة الخلاف بين السنة والشيعة ، وإن تحدث فيها فإنه سيؤيد ( الرافضة ) !
فما أجمل أن نقول له : ( الصمت حكمة ) !! 403 .
وأنا لم أطل في دحض هذه المقولة من الحمد ، لأنه يكفي ذكرها للناس لبيان بطلانها ، وبيان ما يكنه الحمد نحونا ( أهل السنة ) من شنآن .
المواقف الجنسية :
من الأمور التي تلفت الأنظار في ثلاثية تركي الحمد هو طغيان المواقف (الجنسية ) فيها ، فهي تزكم أنف القارئ بتكرارها وتتاليها ، بل وتكلفها الواضح من قبل الحمد ، ولهذا فقد أخذت حيزاً كبيراً من الثلاثية ! فمن ذلك :
1ـ إبراز موقف ( عبد الرحمن ) ابن خال ( هشام ) وكأنه لا هم له في الدنيا إلا شرب الخمر والزنا بالمومسات أو ( القحاب !) وعلى رأسهن المومس ( رقية ) . حيث تكررت أحاديث عبد الرحمن مع هشام حول مغامراته معهن هادفاً استدراجه إلى الوقوع في شباكهن كما وقع هو ، وهذا ما حدث .
2ـ قيام ( عبد المحسن التغيري ) رفيق هشام في العزبة بالزنا بإحدى جاراته واكتشاف هشام لهذا الحدث بعد مراقبته للعزية حيث رأى إحدى النساء تخرج من عند عبد المحسن ، وتدخل ( أحد المنازل المقابلة )404 .
3ـ تصوير هشام في الرياض بعد وقوعه في المحرمات وكأنه ( زير) نساء ، فهو قد زنا برقية ، ثم أتبعها بإحدى جارات خاله وهي سارة أو سويَّر ! ثم مثلثاً ببنت جيرانهم في الدمام : نورة !! وهذه المواقف مع تفاصيلها الدقيقة ! قد استهلكت صفحات كثيرة من رواية الشميسي ) .
4ـ تصوير علاقة هشام ببنت خاله ( موضي ) بأنها علاقة إعجاب من جانبها ثم نفاجأ بأن موضي المتحجبة ، العاقلة ، الرصينة . . . . الخ الصفات المثالية تقوم بحركة (غريبة) مع ابن عمتها بعد أن علمت بعلاقته مع سويَّر ، وبعد أن قرر الذهاب إلى الدمام ، فلنستمع إلى الحمد وهو يقول متحدثاً عن موضي :
( ثم نهضت وهي تمسح عينيها بطرف غدفتها ، واتجهت إلى الباب وهي تقول : " المهم أن تعود إلينا سالماً … ليحفظك الله … " ، وأسرعت في الخروج . ولكنها ما لبثت أن عادت مرة ثانية ، ووقفت عن الباب وهي تقول :
ـ هشام … هل لو كشفت لك وجهي أكون قد تجاوزت حدودي ؟
ـ ليس بيننا حدود يا موضي … ستبقين موضي العزيزة سواء تحجَّبت أو كشفت…
وبحركة مفاجئة ، أزالت موضي غدفتها كاشفة عن وجهها ، ثم تقدمت منه ، وطبعت قبلة سريعة على خدَّه ، ونظرت إليه بعينين حمراوين مبتلتين ، وغادرت بخطوات مرتبكة )405 .
قلت : فحتى موضي التي صوَّرت في الثلاثية وكأنها محافظة وابنة عائلة تسقط في مقدمات الرذيلة مع ابن عمتها ، حيث كشفت له عن وجهها ، ثم تجرأـ ( لاحظ : هي لا هو !!) بتقبيله ! ولا نعلم ماذا سيحدث لو بقي هشام … أو تبعها !! .
5ـ الوصف الدقيق منه للمواقف ( ا لجنسية ) السابقة بشكل مقزز ، كما في وصفه لزنا عبد الرحمن وهشام بالمومس ( رقية ) في طريق خريص !
وكما في وصفه لرؤية هشام لعليان زوج سوير وهو يجامعها !
6ـ تصويره لأفراد شلته بأنهم أصحاب تمرس بالعلاقات النسائية ، يقول تركي عنهم ( كانوا يتحدثون عن مزنة وبدرية وهيلة وعائشة وعواطف وابتسام ومنى ، وهو لا يجد ما يقول … كان يود الحديث عن نورة وعن رقية ، وقصص عن موضي يؤلفها… ولكن شيئاً كانت يمنعه ، فكان يصمت ، ويغرق نفسه في مبادئ القانون والإقتصاد ، حتى أصبح يسمى بفأر الكتب ، أبو أربع عيون … ورغم الوصف الذي كان يضايقه ، فقد كان محل ثقة الجميع وحبهم . كانوا يقصدونه لفهم ما استغلق عليهم فهمه من مواد ، أو في حل مشاكلهم العاطفية ، وكانوا يستشيرونه في جمال فتياتهم وهم يجلبون صورهن في الجيوب …)406 .
7ـ وصفه لنساء شارع ( الحب ) في الدمام ، حيث يقول ( ولفت نظرة إحداهن ، كانت تسير الهوينا وقد التفت بعباءتها ، ووضعت حجاباً رقيقاً على وجهها لا يستر شيئاً منه .لم تكن جميلة الوجه ، ولكنها كانت ممتلئة إلى حد البدانة ، بردفين ضخمين يفرَّق بينهما فج واضح وعميق ، يجعلهما في حالة من التأرجح الدائم . وأثار منظر عجيزتها المترجرجة جوارح هشام ، وارتفعت حرارته وأخذ ينظر إليها بشبق ، وهو يدخن سيجارة بعمق ، وأحست المرأة بنظراته ، فنظرت إليه بدورها وابتسمت بإغراء ، ولكنه عدل عن مغازلتها في آخر لحظة ، وسار في طريقه على عجل . لكم غيرته الرياض … لقد عاش في الدمام طوال حياته ، وجاء إلى شارع الحب أكثر من مرة ، ولكنه لم يلاحظ ما لا حظه اليوم ، ولم يدر في خلده ما دار )407 .
8ـ قوله في وصف رؤية هشام لموضي ابنة خاله :
( وعادت موضي مرددة : " زين … زين … اتبعني " واخذت في صعود درجات السلم المقابل للمجلس وهو يتبعها … لم يستطع إلا ملاحظة استدارة عجيزتها وهي تصعد الدرج أمامه … أثاره المنظر ولكنه أشاح بوجهه عن ردفيها اللذين كانا في حالة اهتزاز شديد مع كل درجة تصعدها ، فحاول تشتيت ذهنه ) 408.(34/191)
قلت : فهذه المواقف ( الجنسية ) الكثيرة ، مع محاولة تضخيمها وتكلفها (أحياناً ) توحي للقارئ بأحد أمرين متلازمين :
الأول : أن تركي الحمد يتكلم عن واقع عاشه أو رآه خلال حياته الماضية فانطبع في ذهنه ومخيلته فارتبط كل حديث عن الماضي بتلكم الأحداث والمغامرات ( الجنسية ) لأن الإنسان لا يستطيع مهما فعل أن ينفصل كلياً عند ماضيه بل تبقى صور كثيرة ( يراها مهمة ) تتخايل بين عينيه عند كل ذكرى ماضية .
فإذا قلنا بهذا الأمر فإن الحمد لم يعد يرى أثناء دراسته في الرياض سوى هذه المواقف ( الجنسية ) التي أثرت عليه . واستهلكت منه وقتاً ( وجهداً ! ) .
الأمر الثاني : الذي يهدف إليه الحمد من خلال تضخيم هذه المواقف ، وإبرازها ، وتكلف بعضها ـ كما سبق ـ هو محاولةٌ لا سقاط جميع المثل التي يعتقدها الناس ، وأن الإنسان مهما ادعى الصلاح أو المثالية فإنه مجرد حيوان يجري خلف شهواته مهما حاول اضفاء هالة الشرف والعفة على شخصيته ، وما هذه الهالات المفتعلة التي يعيشها الناس مع بعضهم إلا ستار وقناع يخفون وراءه ألواناً عديدة من الآثام والسقوط ، فلو تأملنا الثلاثية جيداً للمحنا فيها هذا الهدف الذي يسعى إليه الحمد بل تجرأ فيه كثيراً .
نلمح ذلك في الآتي :
1ـ سقوط هشام في الإثم خلال عيشته بالرياض بعد أن كان يعيش مثاليات زائفة في الدمام بجوار والديه .
2ـ سقوط سوير زوجة عليان في الرذيلة مع هشام .
3ـ سقوط نورة ابنة جيرانهم في الدمام في الرذيلة معه .
4ـ سقوط موضي ابنة خاله في أول درجات الرذيلة .
5ـ عبارات كثيرة يطلقها الحمد في ثلاثيته تنبئ عن هذا الهدف ، ومن ذلك :
أ ـ قول الحمد على لسان عبد الرحمن ابن خال هشام بعد أن وصف له زناه بإحدى النساء : ( من قال لك إن كل من تسكن عند أهلها عذراء ) 409.
ب ـ قوله واصفاً حال هشام في الرياض : ( وفي الرياض سقطت باقي المثل التي زرعتها أمه في ذاته) 410.
ج ـ قوله واصفاً مدينة الرياض على لسان عبد الرحمن : (كل شيء ممكن في الرياض) 411 بعد أن قال هشام : ( كنت أظن أن الخمر غير موجود في الرياض ) .
د ـ قوله ـ على لسان عبد الرحمن موجهاً خطابه إلى هشام : ( سأجعلك تكتشف الرياض كما لم تكتشفها من قبل . ساريك رياضاً غير الرياض ) 412.
هـ ـ قوله ـ أيضاً ـ : ( في الرياض كل شيء ممنوع ، وكل شيء مباح )413 .
و ـ وقوله ـ أيضاً ـ على لسان عبد الرحمن : ( ديرة عجيبه فعلاً … كل شيء حرام وممنوع . وكل شيء مباح بشكل لا يتصور ) 414.
ز ـ قوله على لسان هشام متحدثاً مع نفسه : ( عليك الرحمة يا ابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة ، وأحقر من بعوضة ) 415.
ح ـ قوله : ( لقد مات أبوك آدم ، ولم يبق إلا أبليس ذو الصولجان ، كلهم اليوم لابليس ساجدون ، ومن أجله يسعون ) 416.
قلت : إذن فتركي الحمد يريد أن يقول لنا بأن جميع البشر سقطة منحرفون فاسدون فلا نغتر بالمثاليات الزائفة والأقنعة المخترعة يخفون وراءها حقيقتهم ، فهو يريد منا أن لا نتمسك بأي فضائل أو مثاليات .
فهي فلسفة ( معرّية ) 417 شابه بها رهين المحبسين حينما كان يقول :
وزهدني في الخلق معرفتي بهم
وعلمي بأن العالمين هباء
فالفكرة واحدة وهي عدم الاغترار بأي فضيلة أو مثاليات يتنكر الناس وراءها ، لأننا إذا دققنا في الأمر لم نجد إلا شياطين وأبالسة في مسوح بشر ، مما ينتج عنه أن تسقط من أعيننا كل الصور الجميلة والمثالية والشريفة والعالية التي رسمناها في مخيلتنا عن أفضل البشر سواء كانوا من الأنبياء أو من أفضل القرون بعدهم ، أي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأخزى من أبغضهم ! ـ
فإذا سقطت صور الأفراد المثالية من أعيننا سقطت تبعاً لها مجتمعاتهم التي كنا نظنها فاضلة !! حتى جاء الدكتور الفيلسوف ليحذرنا من الاغترار بهذا الوهم ، ويبين لنا أن لا فضيلة ترجى من ( بني آدم ) ! فهم ما داموا من أبناء آدم فلا شك هم مخادعون منافقون يخفون حقيقتهم خلف حجاب من الفضيلة والمثالية المزيفة .
إذن : لا تطالبونا بأن نترسم خطى القرون الثلاثة المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنخدعوا بمظاهر الصلاح التي يبديها بعض الناس لكم سواء كانوا من العلماء أو الدعاة أو الصالحين ، فإنها قد تتكشف عن انحرافات ومفاسد لا تتخيلونها .
ومما يثير العجب تركيزه على إظهار مدينة ( الرياض) وكانها من مدن الفجور والفاحشة كبانكوك أو .. أو .. من المدن التي يعرفها أهل الفساد ! وكأنه يقول لنا بأن هذه المدينة التي هي قاعدة بلادنا وعاصمتها ومنبع الخير فيها بما تضمه بين جنباتها من رجال ونساء صالحين إن هي إلا مدينة كغيرها من المدن ( الفاسدة ) التي يعرفها الناس ويزدرونها .
فكما أسقط الحمد الرموز البشرية من أفراد ومجتمعات من مخيلتنا فهو سيتبع ذلك باسقاط مثاليات المكان … ليخبرنا بأن لا مكان مقدَّس أو مطهَّر . ويضرب لذلك مثلاً بمدينة الرياض التي نحسن الظن فيها وفي أهلها .(34/192)
قد يقول قائل بأن سياق الثلاثية هو الذي اضطر الحمد إلى ذلك ، لأن هشاماً لم يتعرف على حياة المعصية إلا في الرياض ، فهو في الدمام صغير ، وفي جدة في السجن ، فلم يبق إلا الرياض .
قلت : قد قال هذا فنعذر الحمد لو كان موقفاً واحداً أو عبارة واحدة ذم فيها الرياض .أما وهو قد كرر هذا الذم وألح عليه بشكل غريب ومفتعل فإن وراء الأكمه ما وراءها ، وحق لمدينة الرياض أن تقول له :
ولو كان سهماً واحداً لا تقيته
ولكنه سهمان ثانٍ وثالث
الحاصل : أن الحمد قد هوَّن جانب الانحراف ، والسقوط في الرذيلة ، وجعله يهيمن على أبرز شخصيات ثلاثيته ، شأنه في ذلك شأن نجيب محفوظ في ثلاثيته ـ كما سبق ـ 418 لأنهما جميعاً يصدران من مصدر واحد هو مصدر ( الماركسية !) الذي لا يقيم معتنقوها أي وزن للأخلاق ، بل يسعون إلى هدمها في نفوس الناس ، حتى يتساوى ـ في نظرهم الزنا بالنكاح ـ ، والفضيلة بالرذيلة . يقول الشيخ عبد القادر شيبة الحمد : ( الخُلُق الوحيد الذي آمن به الشيوعيون هو وجوب مخالفة سائر الأنظمة الأخلاقية ، ومحاربة عموم أنواع الآداب المرعية في المجتمعات الإنسانية ، وبخاصة ما كان منها نتيجة للأوامر الإلهية ، وقد قادهم هذا الشذوذ الخلقي إلى هتك الأسرة ، ومحاربة ناموس الزواج ، ورأوا أن هدم ذلك من أقوى دعائم الشيوعية فتساوي الزواج والزنا في نظامهم ) 419.
نسأل الله العفو والعافية ، أن لا يجعلنا ممن قال فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) 420
العبارات الوقحة :
استخدم الحمد في ثلاثيته عبارات ( وقحة ) لم تتعود آذاننا على سماعها ممن تأدب بآدبنا .
فمن ذلك أنه يتحدث عن مخلوقات الله ـ وهي الشمس ـ واصفاً إياها بالوقاحة ! وهو كان الأولى بهذا الوصف ، لأن الشمس خلق مسخَّر في جو السماء يسير بانتظام ويدل على عظمة الخالق ـ سبحانه ـ فكان الأحرى بالحمد أن يتفكر في خلقها ، ويستدل به على عظمة ربه ، لا أن يتفاحش بهذا الكلام البذيء .
يقول الحمد :
( عندما كانوا يهبطون طلعة ديراب على خط الحجاز ، كانت الشمس قد بدأت تبزغ على استحياء ، وعندما وصلوا إلى مرات كانت قد بدأت في ممارسة وقاحتها وإرسال تلك الأشعة النارية الرهيبة ) 421!
ويقول :
( وأخذت الشمس في ممارسة وقاحتها ، وتتحول إلى جحيم لا يُطاق ) 422!
قلت : ومن وقاحة هذا المخلوق ( أعني الحمد ! ) أنه تحدث عن أمه ( أي أم هشام !) في روايته بحديث لا يصدر عن عاقل .. فتأمله وتعجب من سخافته حين يقول : ( وصب هشام ربع البيالة عَرَقاً ، ثم أضاف إليه الكولا ، وأخذ رشفة سريعة استطعمها في فمه ، ثم تجرع ربع البيالة تقريباً ، ولم يحس إلا وقد اشتعل حلقه بالنار انتقلت إلى جوفه ، وأخذ اللعاب ينساب بشدة في فمه ، والرغبة في التقيؤ ، ولكنه تمالك نفسه ، وازداد إفراز اللعاب في فمه ، ثم أحس ببعض الراحة في جوفه ، ودوار في غاية اللذة يغزو رأسه من الداخل . وشرب ربعاً آخر فأحس أن نهراً يجري في فمه ، لم يكن الحريق بالشدة الأولى . دفع البيالة إلى عبد الرحمن ، ولكنه رفض قائلاً : " السجائر أقصى ما يمكن أن أصل إليه " فتجرع هشام بقية البيالة ، دون أن يحس بأي حريق هذه المرة ، وأخذ ينظر إلى رقية . لقد كانت في غاية الجمال والفتنة ، بل كان كل شيء في غاية الجمال . ذهب الذنب وأحاسيسه المؤلمة ، وانتفى الخجل ، وكان وجه أمه يبدو له واضحاً ، ولكنه كان ينظر إليها ببلادة ولا مبالاة ، وكان يود لو كان قادراً علىصفعها ، لكنه يشعر بمغص في الداخل ، فيزيح صورتها ويغرق في رقية)423!!
قلت : فهل يقول عاقل عن أمه ـ ولو كان على سبيل القصص ـ مثل هذا الكلام البذيء الذي يدل على تمردٍ دفين في نفس الكاتب على كل من يستحق (الطاعة ) ولو كان أمه !؟
نسأل الله العافية .
أوجه التشابه بين تلاثية تركي الحمد
و
ثلاثية نجيب محفوظ
عندما تطلق ( الثلاثية ) في الرواية العربية فإنها تنصرف حتماً إلى ثلاثية نجيب محفوظ المشهور ( بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية ) فقد أصبحت علماً عليها ، وهي ـ تقريباً ـ التي شهرته على مستوى العالم ، وعرفتهم به ، نظراً لتفردها وتميزها عن رواياته الأولى .
وعندما أصدر تركي الحمد ثلاثيته انصرفت الأنظار والأذهان إلى المقارنة بين الثلاثيتين لمعرفة أوجه التشابه والتمايز بينهما . وكنت أحد هؤلاء الذين اهتموا بهذا الأمر عند دراستي لفكر تركي الحمد ، فعدت إلى أوراقي القديمة التي دونت فيها الخطوط الرئيسية لثلاثية نجيب محفوظ لمقارنتها بثلاثية الحمد ، لمعرفة هل جاء بجديد عليها ، أم أنه يقول مكرراً من القول ؟
فاتضح لي بالمقارنة أن الحمد قد سار في ثلاثيته مقتفياً أثر نجيب محفوظ في أمور رئيسية وجزئية من الثلاثية ، نظراً لتشابه فكريهما ـ كما سيأتي ـ ومما أكد لي هذا أن الحمد قد أكثر من ذكر قصص نجيب محفوظ في ثلاثيته ، وجعلها جزءً من ثقافة هشام العابر .. فمن ذلك :(34/193)
1ـ أنه ذكر ثلاثية نجيب محفوظ نفسها في قوله عن أحلام هشام : ( يأتيه صوت سي السيد أحمد عبد الجواد زاجراً وزبيدة تقهقه أمامه ، وكمال يرقص بينهما ، فيما ياسين يعض أرداف زنوبه )424 .
قلت : معلوم أن هذه الأسماء هي الشخصيات الرئيسية لثلاثية محفوظ .
2ـ قوله عن هشام : ( هو الفتى المثقف الذي يقرأ لماركس وماوتسي تونع ودوستوفيسكي ونجيب محفوظ … )425 .
3ـ قوله عن هشام : (كان يذاكر ذات يوم هو وعدنان كعادتهما كل عام قبل الامتحانات بفترة ، ويختلس بعض اللحظات ليقرأ فيها رواية نجيب محفوظ الجديدة " أولاد حارتنا " ) 426.
4ـ قوله عن هشام عند سفره إلى الدمام : ( وعندما تحرك القطار أخيراً ، كان بدأ في قراءة " الطريق " لنجيب محفوظ )427 .
5ـ قوله عن هشام في السجن : ( أخذ ينظر إلى حركة الأشباح من حوله وهو يفكر ولا يفكر . وطاف بذهنه جحيم دانتي وأبي العلاء . وباربوس ، وغريب كامو ، وذباب سارتر ، وشحاذ محفوظ ) 428
قلت : ولكي نعرف مدى التشابه بين الثلاثيتين وكيفية استفادة الحمد من محفوظ لابد من عرض موجز لأحداث ثلاثية نجيب محفوظ ، ثم ذكر نقاط التشابه بينهما ، لكي يتضح أن الحمد قد صاغ ثلاثية محفوظ بنفس مناسب لبلادنا ـ كما سيأتي ـ .
أحداث ثلاثية نجيب محفوظ .
1ـ بين القصرين :
يعيش أحمد عبد الجواد في بيته بشخصية قوية متسلطة ـ كما سبق ـ أمام زوجته الضعيفة (أمينة) وأولاده ، ولكنه خارج البيت يمارس أنواع المحرمات من شرب خمر وزنا دون أن يعلم أولاده ، بحيث تبقى هيبته بينهم . يذهب أحمد عبدالجواد لدكانه الذي يشرف عليه وكيله (الحمزاوي) فيأتيه الشيخ الصوفي ! ( متولي عبد الصمد ) صاحب الكرامات !! يعمل الحجب والتمائم للناس ، لينصحه عن ولعه بالنساء .
ـ كمال يدرس ويحب درس ( الديانة ) الذي يشارك فيه لأنه يراجع الدروس مع أمه ، الذي يتلقي معها في حب ( الحسين ) .
ـ فهمي يحب بنت الجيران ( مريم ) يتفرج عليها من السطح .
ـ ياسين يدور في الشوارع ويلتهم النساء بنظراته الشهوانية يتفرج على العالمة زبيدة وربيبتها زنوبة ويتأمل محاسنها ويتذكر خيانة أمه لأبيه مع ( الفاكهاني ) !
ـ أحمد عبد الجواد يتأمل جسد ( زبيدة ) العالمة عندما جاءته إلى الدكان . يحاول استدراجها ،ثم لا يدعها تدفع ( الحساب ) وفي المساء ذهب لزيارتها مع رفاقه .
ـ أحمد عبد الجواد يخبر ابنه ياسين بأن أمه ـ أي أم ياسين ـ ستتزوج من صاحب مخبز صغير السن . يغضب ياسين ، لأنه يطمع في فلوسها ، ذهب ياسين إليها ولامها وغضب عليها .
ـ فهمي يريد الزواج من ( مريم ) لكن والده يرفض بشدة .
ـ عائشة تغازل أحد الضباط من النافذة فتراها خديجة ، فتطلب منها عائشة أن لا تخبر أحد .
ـ ( حسن أفندى ) ضابط الجمالية يخطب عائشة ، فيرفض الأب !
ـ سافر أحمد عبد الجواد إلى ( بور سعيد ) في مهمة عمل ، فاستغل أهل البيت الفرصة ليتمتعوا بالحرية قليلاً ، خرجوا بأمهم لزيارة ( الحسين ) الذي تهيم به ، صدمتها سيارة ، فعادوا بها .
ـ عندما عاد أحمد عبد الجواد اعترفت له زوجته بما حصل بعد أن ألح عليها فطردها من المنزل ، فذهبت لبيت أمها .
ـ أم مريم تقوم بزيارة العائلة لتتشفع في إرجاع ( أمينه ) ، فيشعر أحمد عبد الجواد بأنها تهواه وتستدرجه لإقامة علاقة معها .
ـ حرم ( شوكت ) تزور أحمد عبد الجواد وتخطب عائشة لابنها ، فيوافق .
ـ عادت ( أمينة ) إلى البيت بعد أن عفا عنها زوجها .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع ( زنوبة ) فلما دخل عندها أخبرته بأن هناك رجلاً مع ( زبيدة ) هو أحمد عبد الجواد ! فتفاجأ ياسين لهذا الخبر ، وقد كان عهده بأبيه أنه جاد وصارم .
ـ ذهبت العائلة إلى بيت ( آل شوكت ) لزواج عائشة ( جليلة ) العالمة تحضر الحفل وتسلم على أحمد عبد الجواد مع تضايقه منها خشية انكشاف علاقته السابقة بها . ياسين يخبر فهمي بحال أبيه ، فيندهش فهمي .
ـ ياسين يحاول اغتصاب ( أم حنفي ) الشغالة وهو سكران فغضب أبوه عليه ، ثم يقرر أن يزوجه .
ـ زواج ياسين من ( زينب )
ـ آل شوكت يخطبون ( خديجة ) لابنهم ( إبراهيم ) فيوافق أحمد عبد الجواد.
ـ مات ( محمد رضوان ) والد ( مريم ) فعزاهم أحمد عبد الجواد .
ـ أحمد عبد الجواد يتحدث مع رفاقه في الدكان عن ( سعد زغلول ) زعيم الأمة ! وجهوده ضد الاحتلال .
ـ ياسين يعود للخمر والنساء .
ـ أم مريم تزور أحمد عبد الجواد في الدكان لتستشيره .
ـ فهمي يشارك في ( المظاهرات ) ضد الانجليز المحتلين لمصر .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع الخادمة السوداء ( نور ) ! التي تعمل عند زوجته . فتكتشفهما الزوجة وتغضب وتهجره .
ـ أحمد عبد الجواد ينصح فهمي بعدم الاشتراك في المظاهرات ، أو توزيع المنشورات . خوفاً عليه .
ـ أم ياسين تتوفى .
ـ أحمد عبد الجواد يعود من بيت ( أم مريم ) فيوقفه جندي انجليزي فيجعله يساعد المصريين المسخرين لردم الحفر التي يحفرها المتظاهرون ، فتكون إهانة قاسية له .
ـ عائشة تنجب .
ـ فهمي يشارك في مظاهرة ( سليمة ) ، ولكنه يقتل برصاص الانجليز .(34/194)
بهذا الحدث ، وهو موت فهمي انتهت أحداث الحلقة الأولى من حلقات ثلاثية نجيب محفوظ .
2ـ قصر الشوق 429:
ـ كمال يصاحب ( فؤاد الحمزاوي ) ابن وكيل والده ، مع شعوره بالاستعلاء عليه .
ـ كمال يقيم علاقة غيرشرعية مع ( قمر ) ابنة ( أبو سريع ) صاحب المقلى ! مع شعوره بتأنيب الضمير .
ـ أحمد عبد الجواد يعود إلى اللهو بعد موت ابنه ( فهمي ) ، ويقيم علاقة مع ( زنوبة) التي تستعلي عليه .
ـ ياسين يقرر الزواج من ( مريم ) .
ياسين يقيم علاقة غير شرعية مع أم مريم !!
ـ الحمزاوي ينصح أحمد عبد الجواد بعدم تبذير أمواله على اللهو .
ـ كما يحب ( عايدة ) أخت زميله ( حسين شداد ) وهي من طبقة عالية متحررة ، ويغلو في حبها إلى حد العبادة !
ـ ياسين يتزوج مريم .
ـ ( بهيجة ) تتزوج ( بيومي الشربتلي ) ، ثم تموت بعد أسبوع !
ـ خديجة تسبب مشاكل لأهل زوجها ، فيصلح بينهم أحمد عبد الجواد .
ـ عائشة تنساق مع حياة زوجها المتحررة ، فتدخن .
ـ ( عايدة ) يخطبها أحد زملاء أخيها ( حسين ) واسمه ( حسن ) فيتفاجأ كمال بهذا الخبر !
ـ ياسين يطلق ( مريم ) بعد أن اكتشفت علاقته بزنوبة .
ـ زنوبة تطلب الزواج من أحمد عبد الجواد ، فيرفض أن يتزوج من عاهرة !
ـ كمال يحضر حفل زواج عايدة .
ـ ياسين يتزوج زنوبة ، فيطلب منه أبوه أن يطلقها .
ـ كمال يغرق في الخمر والنساء .
ـ أحمد عبد الجواد يحاول اقناع ياسين بطلاق زنوبة فيخبره ياسين بأنها حامل منه .
ـ زوج عائشة وولدها يصيبهم المرض .
ـ موت سعد زغلول .
وبهذا الحدث انتهت الحلقة الثانية من ثلاثية نجيب محفوظ .
3ـ السكرية 430 :
ـ كمال يحب القراءة في الفلسفة ، ومجتهد في دروسه .
ـ الحمزاوي يطلب اعفاءه من العمل مع أحمد عبد الجواد لأنه تعب .
ـ زبيدة تدمن علىالكوكايين ، وتفتقر بعد العز !
ـ متولي عبد الصمد يصبح شيخاً رثاً وسخاً يدور على الناس .
ـ فؤاد يرغب الزواج من نعيمة ابنة عائشة .
ـ أحمد عبد الجواد هجر الخمر بسبب نصيحة الطبيب .
ـ شداد أفلس ثم انتحر .
ـ ياسين مستمر على عادته في الخمر والنساء .
ـ احمد ابن خديجة يعتنق الماركسية وأما أخوه عبد المنعم فهو من جماعة ( الإخوان المسلمين ) ! وتحصل بينهما مناقشات ومشاهدات . برغم أنهما جميعاً لا يحبان (الطغاة!) .
ـ عبد المنعم ( الإخواني ! ) يقع في الزنا بجارته !!
ـ أحمد يشارك في تحرير مجلة ( الإنسان الجديد ) ، ويحب السكرتيرة في المجلة ( سوسن حماد )
ـ أحمد يتعرف على الكاتب ( رياض قلدس ) الذي يوافقه في الميول .
ـ كمال مستمر في الشهوات .
ـ عبد المنعم يتزوج نعيمة ابنة عائشة .
ـ حوارات فكرية وسياسية بين أحمد وخاله كمال ، لتوافقهما في الهوى !
ـ أحمد عبد الجواد يبيع دكانه .
ـ حوارات فكرية بين كمال وقلدس .
ـ نعيمة تموت .
ـ احمد يخطب ( علوية صبري ) فتطالبة بمصروف يومي ، فيرفض مشروع الخطبة .
ـ رفاق أحمد عبد الجواد يموتون واحداً إثر الآخر ، وهو يتفكر في حال الدنيا .
ـ موت أحمد عبد الجواد .
ـ عبد المنعم يخطب كريمة ابنة ياسين مع معارضة والدته خديجة لأن كريمة تكون ابنة زنوبة .
ـ زبيدة تتحول إلى شحاذة ، بعد العز !
ـ أحمد يتزوج سكرتيرة المجلة ( سوسن حماد ) .
ـ عبد المنعم يتزوج كريمة ويجعل من بيته بيتاً إسلامياً .
ـ كمال يعلم بموت ( عايدة ) .
ـ القبض على أحمد ( الماركسي ) ، واخوه عبد المنعم ( الإخواني ) ووضعهم في السجن بتهمة المعارضة .
ـ أمينة تصاب بالشلل فتنتظر الوفاة .
وبهذا الحدث انتهت الحقلة الثالثة من ثلاثية نجيب محفوظ .
* شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ :
1ـ احمد عبد الجواد : أحد أفراد الطبقة المتوسطة يتميز بشخصية متسلطة داخل بيته ، ويد حديدية يحكم بها أسرته . مع تدين تقليدي يحافظ من خلاله على أداء الصلوات في ( البيت ! ) ، دون أن يؤثر هذا ( التدين !) على سلوكه الخارجي ، أو أن ينهى زوجته عن الانجراف وراء البدع والشركيات ـ كما سيأتي ـ .
وهو في الجانب الآخر ، أي خارج بيته ، يتصف بصفة أوصفات أخرى تختلف عن تلك الأولى ، فهو يحب اللهو والشهوات ، والسهرة مع الغواني والمومسات ، في جلسات طرب وأنس .
ولكن هذا التناقض وإخفاء الشخصية الأخرى عن أولاده سرعان ما انكشف ، ولكنه لم يؤثر على سقوط هيبته الأولى .
أسرة ( أحمد عبد الجواد ) تتكون من :
1ـ زوجته ( أمينه ) الخاضعة له ، والتي هي على النقيض من زوجها ، حيث تتميز بالسماحة والطيبة مع أولادها ، ولكنها غارقة حتى أذنيها في البدع والشركيات التي تعتقدها ديناً ! ، حيث أدمنت على زيارة قبر الحسين ( المزعوم ! ) في القاهرة 431 ودعائه من دون الله 432 ، بل والطواف بقبره 433!!
قولها لابنتها عائشة : ( تعالي معي إلى الحسين ، ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة ، تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم ) 434!!
وكانت تلقن كل هذا ابنها الصغير ( كمال ) بطل الرواية .
وأما أبناؤه فهم :(34/195)
1ـ ياسين : وهو الابن الأكبر من زوجة سابقة ، انتقل إلى العيش مع أبيه وزوجة أبيه ( أمينة ) ، وقد ورث عن أبيه ولعه بالملذات والشهوات ، ولكنه لم يستطع أن يكون كأبيه يعب من تلك الملذات ويحظى باحترام الناس !! مثلما كان أبوه .
2 ـ فهمي : الابن الأوسط لأحمد عبدالجواد ، وهو طالب بمدرسة الحقوق ، يجمع بين خصال أمه من رقة ومودة ورحمة لذويه ، إلى جانب وطنيته وثوريته ، التي انتهت به إلى الموت في مظاهرة وطنية .
3 ـ عائشة : الابنة الصغرى لأحمد عبدالجواد ، تتميز بجمال ورقة ومودة ، مما حببها إلى ذويها . بعد زواجها انساقت مع حياة زوجها المتحررة ، وبعد وفاة زوجها وابنيها ساءت أحوالها وأصبحت تُكثر من الاعتراض على القدر .
فمن ذلك : قولها عند وفاة ابنتها ( نعيمة) : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ أريد أن أفهم )435.
أو قولها عندما تذكرت أولادها : ( الرحمة ! أين الرحمة أين ؟)436.
4 ـ خديجة : الابنة الكبرى لأحمد عبدالجواد ، وكان حظها من الجمال ضئيلاً ، وقد ورثت عن أبيها سلاطة لسانه وقوة شخصيته . كثيرة المتاعب مع زوجها ، وكان لأولادها نصيبهم الأكبر من أحداث الرواية .
5 ـ كمال : وهو ( بطل الثلاثية ) ، الابن الأصغر لأحمد عبدالجواد ، عاش في أحضان أمه ، التي لقنته البدع والخرافات والشركيات منذ صغره ، حيث لم يتعرف على الدين إلا من خلال أحاديثها وقصصها ، فانطبع الدين في ذهنه بتلكم الخرافات .
فهو ـ مثلاً ـ يقول عن ضريح الحسن : ( كم وقف حيال الضريح حالماً مفكراً ، ويود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غِيَر الدهر بسره الإلهي ، فاحتفظ بنضارته ورونقه ، حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته ، ولما يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلاً قنع بمناجاته في وقفات طويلة ، مفصحاً عن حبه ، شاكياً إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت وخوفه من تهديد أبيه ، مستنجداً به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر ، ثم خاتماً مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه )437!!
نشأ كمال متحيراً كثير الاضظراب الفكري ، لم يستقر على قرار ثابت ، كان وفدياً438ثم ما لبث أن مال ميلاً شديد إلى ( الماركسية ) التي تقتلع الطبقات التي أبغضها عندما أحب ( عايدة ) التي تنتمي إلى طبقة عليا .
تكثر في أحاديثه الشكوك والطعن في الدين وعبارات الإلحاد والادعاء بأن (العلم ) سوف يحل مشاكلنا جميعاً . ولهذا كان من أقرب الناس إلى ابن أخته ( أحمد ) الذي كان ( ماركسياً ) متحمساً .
فمن أقواله ـ على سبيل المثال ـ :
ـ ( إن مطلبي الأول الحقيقة : ما الله ؟ ما الإنسان ؟ ما الروح ؟ ما المادة ؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيراً )439.
قوله : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون الوراثة ونظام الطبقات )440.
( طالما نازعته النفس إلى النقيضين وكر الشهوات والتصوف ، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات ، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء ، في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب ) 441.
6ـ عبد المنعم ابن خديجة :
من جماعة الإخوان المسلمين ، يحمل أفكارهم ويافح عنها أمام أخيه أحمد ( الماركسي ) ولكنه يتسم بالعنف في الجدال !! وهكذا أراد له نجيب محفوظ أن يكون !! فمن ذلك أنه قال لأخيه : ( صه يازنديق ) 442 !! وقال له أيضاً ( يا عدو الله ) 443.
ولكنه برغم هذا ( الإيمان ) و ( الحماس ) يقيم ـ كما سبق علاقة غير شرعية مع بنت الجيران !! وهذا من التناقض المفتعل لتشويه جماعة الإخوان المسلمين من نجيب محفوظ ـ هداه الله ـ .
7ـ أحمد ابن خديجة :
شاب متحمس للماركسية ، يدخل مع أخوه ( الإخواني ) عبد المنعم في مجادلات متتالية دون نتيجه .
من أقواله التي تدل على توجهه :
ـ أنه بعد أن تزوج سأله خاله كمال هازئاً : ( هل تزوجت على سنة الله ورسوله ؟) قال : ( طبعاً ، الزواج والدفن على سنن ديننا القديم ، أما الحياة فعلى دين ماركس)444!!
ـ قوله في التحقيق : ( إني اشتراكي ) 445.
أوجه التشابه بين الثلاثيتين :
1ـ أن الثلاثيتين كلتيهما تتكونان من ثلاث أجزاء أو حلقات بأسماء مختلفة ( بين القصرين ـ قصر الشوق ـالسكرية ) ،( العدامة ـ الشميسي ـ الكراديب ) .
2ـ أن البطل في الثلاثية شخص واحد تدور الأحداث من حوله .ففي ثلاثية محفوظ تدور الأحداث حول ( كمال وفي ثلاثية الحمد تدور حول ( هشام ) .
3ـ أن ( كمال عبد الجواد ) هو نفسه مؤلف الثلاثية ، أي هو نجيب محفوظ ، وهذا أمر لا ينكره نجيب محفوظ ، الذي يردد دائماً : [ أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية]446 ويقول : [ الأزمة الخاصة بكمال هي أزمتي ] 447.
أما تركي الحمد فقد اعترف بهذا في مقابلة له مع جريدة اليوم 448 عندما قال عن ثلاثيته بأنها " فيها الكثير مني … فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب " .(34/196)
وقد أكد الدكتور غازي القصيبي أستاذ الحمد في الجامعة ! هذه الحقيقة . فقال في كتابه ( حياة في الإدارة ) : ( كان المفكر السعودي البارز !! الدكتور تركي الحمد أحد طلبتي . وعلى الذين يرغبون أن يعرفوا رأي الطلبة فيَّ أن يعودوا إلى رواية تركي ( الشميسي ) ( لندن : دار الساقي ، 1997م ) ، ماكتبه عن ( الدكتور محارب الخيزراني ) ) 449
قلت: فهذا تأكيد من غازي أن هشام العابر لم يكن إلا تركي الحمد .
وليس معنى أن كمال عبد الجواد هو نجيب محفوظ وأن هشام العابر هو تركي الحمد أن يكون كلاً منهما قد نقل ( جميع ) تفاصيل حياته بجميع أشخاصها إلى القراء دون نقص أو زيادة ، فهذا مالا يقوله عاقل ، بل المقصود أن كلاً منهما كان يحكي عن ماضيه ، وتفكيره ، وتطلعاته ، وآماله ، وآلامه ، وبعضاً ممن عاصروه في اختلاف توجهاتهم . ولكن تبقى الفكرة الرئيسية التي تدور حولها الثلاثية هي ما كانت تقلق بال مؤلفها في فترة مضت ، أولا زالت ! ، كالحيرة والاضطراب ، أو اعلاء شأن الماركسية ، هكذا .
4ـ أن كلاً من ( كمال عبد الجواد ) و ( هشام العابر ) ماركسي التوجه ، أو يميل إليها على أقل تقدير ـ .
5ـ أن كلاً منهما ـ برغم هذا الميل ـ متردد ، متحير ، مذبذب يقول رياض قلدس أحد أصدقاء كمال في الثلاثية عن كمال بأنه : ( الذي دار حول نفسه كثيراً حتى أصابه الدوار ) 450.
ويقول هشام العابر عن نفسه بعد أن ذكر توجهات زملاء السجن : ( أما هشام فلم يعد يدري ما هو ) 451.
6 ـ تكثر الطعون في الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين في كلا الثلاثيتين ولعل للتوجه الماركسي لصاحبيها دور في ذلك ، حيث لا ترى الماركسية في الأديان والمقدسات إلا أفيوناً للشعوب يجب أن يهدم ، وإن لم نستطع الهدم فلا أقل من اللمز والسخرية وإسقاط هيبة الدين ومحتوياته ( أي الإسلام !) من نفوس الناس . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما طعون الحمد فقد قرأناها سابقاً ، وأما طعون نجيب محفوظ ، إليك شيئاً منها بالأرقام ، لكي لا أطيل ولكي لا أتهم بالتجني عليه : ( بين القصرين : ص 122، 227) ( قصر الشوق : 90، 91، 119، 153، 216، 229، 236، 260، 294، 314، 428، 434 ) ( السكرية : 88 ،253 ، 260، 275، 280) .
7ـ تكثر في الثلاثيتين نغمة الاعتراض على القدر ، واتهام الحياة والموت والقدر بالعبث .
أما في ثلاثية الحمد فقد علمنا ذلك سابقاً ، وأما في ثلاثية نجيب محفوظ ، فهذه بعض المواقف والعبارات تؤكذ هذا :
ـ اعتراض خديجة على زواج عائشة قبلها ، وتقول : ( إني أحافظ على الصلاة أما هي فلم تُطق المحافظة عليها … ) 452 أي : لماذا تتزوج قبلي ؟
ـ اعتراض عائشة على وفاة زوجها وأبنائها . وقولها ـ مثلاً ـ : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ ) 453
ـ قوله كمال عن نفسه : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر)454 .
ـ قوله : ( هذا الموت عبث ) 455.
8ـ تكثر في الثلاثيتين المواقف الجنسية بكافة أنواعها ! أما الحمد فقد علمنا شيئاً من مواقفه ( البطولية !! ).
أما نجيب محفوظ فيكفينا من ثلاثيته شخصية أحمد عبد الجود ، والغواني ، وشخصية ياسين .
وهاهنا ملاحظة : وهي أن تركي الحمد اقتصر في مواقفه الجنسية على ( الزنا) وتوابعه ، أما نجيب محفوظ فقد تجاوز ذلك إلى ( اللواط ))!!
كما في علاقة ( رضوان بن ياسين ) مع عبد الرحمن باشا عيسى456 .
وسبب ذلك ـ الله أعلم ـ أن محفوظاً تميز في ثلاثيته بالجرأة أكثر من الحمد ، الذي لا زال يحمل بقية من الحياة !
9ـ أن الملتزمين بالإسلام في الثلاثيتين :
إما مخرف ساذج ، أو من الاخوان المسلمين ،ولا ثالث لها .
فالدين عند محفوظ : إما أن يتمثل في شخصية ( متولي عبد الصمد ) الصوفي ، المخرف ، الوسخ ! ، صاحب البدع والشركيات ، أو في شخصية ( عبد المنعم ) الاخواني .
والدين عن الحمد :
إما أن يتمثل في شخصية خال هشام المتدين الساذج الذي يقول عنه ابنه :
( خالك لا يشك بوجود الخمر أصلاً في هذا البلد ، فكيف في بيته وابنه .. حتى لو رأي حمد مترنحاً فهو لن يشك بمثل هذه الأمور )457 .
ويقول عنه هشام : ( ياله من رجل طيب تخدعه المظاهر ) 458.
ولم يجعله الحمد مخرفاً كمتولي عبدالصمد لأنه يعلم أن لامكان للخرافة في بلاد التوحيد ـ ولله الحمد ـ .
أو في شخصية ( لقمان ) الاخواني 459.
فإن كان محفوظ معذوراً في تجسيد شخصية ( الإخواني ) التي كان يعج بها مجتمع مصر تلك الأيام ، فكانت آراؤهم مطروحة في الساحة المصرية ، ولم تكن خافية على أحد .
فالحمد لا يعذر في تجسيده لهذه الشخصية الغريبة على مجتمعنا ، إلا أن تكون ـ وهو ما أراه ـ تقليداً لمحفوظ ، كما تعودنا من الحمد !
قد تقول : ولكن الاخوان موجودون في السعودية ، وقد وفدوها بعد اضطهادهم في دولهم .
فأقول : نعم هم موجودون ، وقد يكون قلائل من السعوديين تأثروا بهم ، ولكن هذا لا يجيز للحمد أن يصور بلادنا بهذه الصورة الحزبية التي عرفتها مصر وغيرها من الدول العربية .(34/197)
ثم يجعل (الاخوان ) هم الممثلون للتيار الإسلامي ! وكأننا في بلد علماني النزعة لايمثلنا فيه سوى الإخوان !!
فهل نسي الحمد أننا ـ بحمد الله ـ نعيش في دولة إسلامية سلفية منذ نشأتها 460، لم تعرف الأحزاب يوماً ما ؟ وهل من العقل أن يجعل أفراد قلائل مستخفون هم الممثلون للتيار الإسلامي ؟! وننسى الكثرة الغالبة من أهل البلاد الذين لا يعرفون سوى الإسلام ديناً لهم ، على تفاوت بينهم في الالتزام به .
أقول إن كان محفوظ معذوراً ، فالحمد لايعذر في هذا ، لأنه صغر المكبر وكبر المصغر .
وأنا لا أقول هذا بخساً لجهود جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والإسلامي ، فهي جماعة قد اجتهدت في الدعوة إلى الإسلام ، ولكن شاب جهودها شيء من الأخطاء ، منها :
1ـ أنها جماعة تعنى بالتجميع كيفما كان ، فتجد فيها البدعي والسني جنباً إلى جنب .
2ـ وهي جماعة لا تحرص على نشر عقيدة السلف الصالح بل تجد من أفرادها الكثير ممن يعتقد عقيدة الأشاعرة ، ويزعم انها عقيدة السلف !
3ـ وهي جماعة حرصت على الدولة أكثر من حرصها على التربية والدعوة .
4ـ وهي جماعة يقل فيها الالتزام بالسنن النبوية الظاهرة .
5ـ وهي جماعة لا تراجع نفسها ، بل ظلت مأسورة في شخصية ( حسن البنا ) ـ رحمه الله ـ الذي كانت شخصيته تطغى على غيره من الإخوان ، ولا زالت !
6ـ أخيراً : هي جماعة لا مبرر لقيامها في بلادنا ( السعودية ) لأننا ـ ولله الحمد ـ مسلمون قبل قيامها ، فالذي نحتاجه هو الجد في نشر الدعوة ، والالتزام الصادق بالإسلام461 .
إذن : أخطأ الحمد خطأ فاحشاً عندما لم ير في الملتزمين بالإسلام سوى :
1ـ الرجل الساذج .
2ـ الاخواني .
3ـ المتشدد .
وبقي صنف رابع لم يذكره ، أو لم يرد أن يذكره ! ، وهو الشاب المسلم الملتزم بدينه ، صاحب العقيدة السلفية ، والخلق الحسن في التعامل ، والمبرز في دراسته الشرعية أو العلمية ، قاصداً خدمة بلاده الإسلامية ورفعتها من هذا التخلف الذي تعيش فيه .
فبالعقيدة السلفية نرفع التخلف ( الديني ) ـ بدع وشركيات ـ الذي يعج في أوطاننا ، ويفرق بيننا ويضيع كثيراً من طاقاتنا .
وبالعلم الدنيوي النافع نرفع من شأن بلاد الإسلام ونجعلها تنافس الآخرين ، بل تفوقهم ، وما ذلك على الله بعزيز .
كنت أود للحمد لكي يكون عادلاً أن يذكر هذا الصنف في ثلاثيته ، ولكن (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) 462.
10 ـ يبرز في الثلاثيتين جانب محاولة إفحام الدين ، أو التشكيك في بعض مسائله بأسلوب ماكر ، كما في تحير هشام في مسألة : كيف يموت الموت ؟
أما نجيب محفوظ فقد صاغ تشكيكه وتحيره على هيئة سؤال وجهه كمال إلى مدرسه ، حيث يقول عن الجن ( وسألت الشيخ : هل يدخل المسلمون منهم الجنة ؟ فقال : نعم . فسألته مرة أخرى : كيف يدخلونها بأجسام من نار !؟ فأجابني بحدة قائلاً : أن الله قادر على كل شيء ) 463 ولا حظ قوله ( بحدة )! تفهم مقصده . مع أن جواب شيخه مقنع ، وهو أن الذي خلقهم ـ سبحانه ـ قادر على أن يجعل مسلميهم يدخلون الجنة ،إما بطبيعتهم أو بطبيعة أخرى ، كما أنه سبحانه قد أخبر عن النار بأن فيها شجرة الزقوم ، فهل يقول : كيف لا تحرقها النار ؟ فهل هذا إلا سؤال متعنت، يحاكم ربه بعقله القاصر . كما كان مشركو الجاهلية يفعلون مع محمدe .
ولهذا جعل الله ـ سبحانه ـ الإيمان بالغيب أحد الصفات الرئيسية للمؤمنين فقال : (الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) 464.
لأنه سبحانه يعلم أن مسائل الغيب قد لايستوعبها عقل الإنسان في الدنيا ، فلهذا جعل الفارق بين المؤمنين والمذبذبين المرتابين هو الإيمان بالغيب ، ولهذا فعلى المسلم إذا ثبت الدليل من القرآن أوالسنة الصحيحة بأمر من أمور الغيب أن يؤمن ويسلم دون اعتراض أوتشكيك كما فعل ( تركي ) أو ( نجيب ) !
11ـ يكثر الحلف بغير الله في الروايتين ، أما في ثلاثية تركي فقد مضي التدليل عليه . وأما ثلاثية محفوظ فإليك المثال :
ـ ( ورسول الله ) ( بين القصرين ص 253 ) .
ـ ( ورأس أمي ) ( بين قصرين ص 257 ) .
ـ ( حلفتك بالحسين ) ( بين القصرين ص257 ) .
ـ ( وحياة أمك ) (بين قصرين ص 268 ) .
ـ ( وحياتك ) ( بين القصرين ص 435 ) .
ـ ( والنبي ) ( بين القصرين ص 439 ) .
أخيراً : ما سبق هو أبرز المتشابهات في ثلاثيتي ( محفوظ والحمد ) وهي تبين أن الحمد قد بنى ثلاثيته على أعمدة سابقة كان قد أقامها نجيب محفوظ ، فلم يكن له في ثلاثيته سوى صياغتها لتناسب طبيعة وظروف الشاب السعودي بدلاً من المصري .
وإلا فإنهما قد اجتمعا على :
ـ الماركسية .
ـ والاجتراء على الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين .
ـ والاعتراض على القدر ، وتصويره في صورة العدو المتربص أو العابث .
ـ والنظر إلى الحياة والموت بنظرة عباثة .
ـ والإغراق في الجنس .
ـ والشك والحيرة والاضطراب .(34/198)
فكلاهما ـ ثلاثية محفوظ والحمد ـ مجرد رواية ( هدم ) لا ( بناء ) و (تشكيك ) لا ( يقين ) ، فمن قرأها ثم فرغ منها لم يحصل سوى الحيرة التي لا تقود إلى ثبات واطمئنان .
ثم يكتشف أن راويها لم يقدم له أي بديل لما قد تم هدمه في هذه الثلاثية . فهي شبيهة بأدب الحداثيين الذين حملوا معاولهم لهدم الإسلام والمعاني السامية دون أن يقدموا لها بديلاً سوى الحيرة والشكوك والبؤس والشقاء ، زاعمين أنهم سوف يقدمون لبني قومهم كل جميل ، كل مبهج ،ولكن بعد أن يفرغوا من هدمهم !
قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) 465، وقال سبحانه : (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) 466.
وقد أصلح الله بلادنا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ التي ناصرها آل سعود ، فلا مستقر فيها لكل مفسد هادم مهما غلَّف هدمه ذاك بشعارات ( التطور) و( التحضر ) و( التقدم ) … الخ زخارف الشيطان :
وليتق الله ربه وليتب من ( هدمه ) ، وليشارك إخوانه في ( البناء ) فإن خير الخطآئين التوابون .
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) 467.
وإنه مما يستغرب بعد هذا أن يأتي كاتب ( مسلم ) كالأستاذ فهد السلمان ـ وفقه الله للخير ـ فيثني على هذه الثلاثية على صفحات جريدة الرياض 468 ويعدها من " أعمالنا الإبداعية المحلية " ويقول " وجدتها في صف الإبداع الحقيقي " ! ويصف صاحبها بأنه " المفكر والروائي والمبدع … " 469!!
ألا يخشى السلمان ربه وهو يثني هذا الثناء على رواية قد ملئت أسطرها بعبارات ( الكفر ) و ( الردة ) و ( السخرية بالإسلام وأهله )!؟ فهل هذا إلا رضى بالكفر وأهله ، والعياذ بالله . والله يقول : (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) 470.
خاتمة موجزة
بعد هذه الجولة العجلى في أبرز مؤلفات تركي الحمد وفي ثلاثيته يتبين لنا :
1 ـ أن الحمد يدعو إلى " الشك " و " الريبة " في كل شيء ، ولو كان نصاً من الكتاب أو النسة الصحيحة 471، وهو لم يبين لقرائه ما هو الميزان الذي سيحتكم إليه بعد أن " يشك " و " يرتاب " ليقضي لنا بصحة القضية المطروحة أو بطلانها ، هل هو " عقله " ام " عقلي " أم " عقل فلان من البشر " أم ماذا ؟ كما سبق .
2ـ أنه عندما " شك " و " ارتاب " ودعا المسلمين إلى هذا ، لم يقدم لهم أي بديل واقعي ( واضح ) يأخذون به بعد أن يهدموا ( كل شيء حولهم ) بالشك والريب . ففكر الحمد ( هدمي ) ليس ( بنائياً ) ـ كما سبق ـ لأنه يهدم ويهدم ويهدم تحت دعوى ( الشك ) و( الارتياب ) الذي يدعو إليه ، دون أن نجد عنده ما يبنى أو يشيد لنفع أمته472.
3ـ أن الحمد يتظاهر في كتبه ( بالعقلانية ) التي تخفي وراءها نفساً طافحة بالشهوات الحقيرة ـ كما رأينا ذلك في ثلاثيته التي تعبر عن شخصه 473ـ
4 ـ أن شخصية الحمد ـ كما يظهر من مؤلفاته وثلاثيته ـ شخصية قلقة مضطربة لا تريد أن تركن إلى شيء يسندها في هذه الحياة ، وهي شخصية (شاكة) (مرتابه) تحقد على كل من لم يكن مثلها في شكها وحيرتها وارتيابها ، كما قد رأينا في حقده وحمله الظغينة على رسل الله ـ عليهم السلام ـ وعباده الصالحين ، وبلاد التوحيد (السعودية) . . . الخ .
5 ـ أن الحمد يدعو إلى عدم ثبات الحق ، فما كان بالأمس حقاً قد يصبح اليوم باطلاً، وما يحمله فلان من الحق قد ينقلب باطلاً في حق فلان . . . في دائرة لا تنتهي ، تهرباً من قيام الحجة عليه ، أو توهمه أنه بهذه الدعوى يُفهم أهل الحق .
6 ـ أن الحمد يدعو إلى مساواة ( الإسلام ) بغير من الأديان والثقافات الأخرى ، بل هو يُفضلها عليه ـ والعياذ بالله ـ وهذا من أعظم ( الكفر ) الذي يُستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه474.
7 ـ أنه من دعاة ( تحرير )475 المرأة في بلادنا ، وذلك بدعوته إلى سفرها ، واختلاطها بالرجال في الدراسة والعمل ، وقيادتها للسيارة وما يترتب عليه من مفاسد لا تخفى إلا على من أتبع هواه . . . الخ جزئيات هذه الدعوة التي تجرعت مرارتها المجتمعات الإسلامية الأخرى ، فنبتت عندنا نابتة ـ من ضمنهم الحمد ـ يرددون في بلادنا ما ردده شياطين هذه الفكرة الغربية في البلاد الأخرى في مقالات وكلمات متكررة بين الحين والآخر من دعاة وداعيات ( الشهوة ) و( نبذ حكم الإسلام ) .
فنسأل الله أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها ، كما قد قضى على غيرها ، وأن يسلط ولاة أمر هذه البلاد لا جتثاث عروق الفساد من وسائل إعلامنا لكي لا تتجذر هذه الدعوة المفسدة في بلاد التوحيد .
8 ـ أنه عدو لدود للحكم السعودي الذي قام على تحكيم شرع الله ، والدفاع عنه ضد أعدائه من أصحاب التيارات ( الكافرة ) من ديمقراطيين وشيوعيين ومنحلين . وقد سبق نقل ما يُكنه صدره ضد ولاة أمرنا .(34/199)
9 ـ أنه يسرق جُلَّ أفكاره من كتابات وجهود الآخرين عرباً كانوا أم عجماً . كما في ثلاثيته بناها على ثلاثية نجيب محفوظ ، وكما في ( عقلانيته ) التي اكتسب أفكارها من الجابري والعروي .
10ـ أنه بعد هذا البيان عن الفكر ( الهدمي ) للدين والدولة من هذا الرجل ؛ فإنه لا يجوز شرعاً لوسائل إعلامنا أن تحتفي به ، أو أن تُسهل له مهمة بث هذا الهدم بين المسلمين ، عبر مقالات أو برامج مسموعة أو مرئية ؛ لأن الشريعة قد جاءت بالحجر على السفهاء فكيف بمن يكيدون لدين الله وللفضائل ولهذه الدولة المسلمة !؟
ختاماً : أسأل الله أن يحمي بلادنا من شرور الحاسدين والحاقدين الذين لا يرتضون لها أن ترفع راية لا إلة إلا الله محمد رسول الله في هذا الزمان ، والذين يتربصون بها الدوائر ممن ارتضوا ما في زبالات الغرب بديلاً للهدى والنور الذي جاءهم به خير الرسل محمد e وأسأله تعالى أن يُعجل بكبتهم وتشريدهم وتمزيقهم كلَّ ممزق ، وأن يوفق ولاة أمرنا للقضاء عليهم كما هو دأب حكام المسلمين على مرّ الأزمان 476 ، فإن الله قال في هذه الشرذمة من رجال ونساء (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ )477.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
============(34/200)
(34/201)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي!
د. عدنان علي رضا النحوي
للمرأة قضايا تثار في كلِّ مجتمع مضطرب الموازين منحرف القيم أو جاهليٍّ أو ملحدٍ ، كان للمرأة قضيّة في العصر الجاهليّ في الجزيرة العربيَّة، وفي اليونان، وفي روما في عصور الانحلال والتفلّت. ولها قضيّة كُبْرى في الحضارة الغربيّة التي سحقت المرأة وسرقت شرفها، وحطّمت كرامتها ورمتها في فتنة الدنيا ووحول فسادها، مخدّرة لا تُحسُّ بحقيقة شقائها، خدّرتها الشهوة المتفلَّتة، أو الجري اللاهث وراء لقمة العيش، أو زهوة المراكز والمناصب والمسؤوليات.
ولكن لم يكن للمرأة مشكلة في عصر النبوة الخاتمة، ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولا في أيّ عصر ساد فيه حكم الكتاب والسنَّة وكانت كلمة الله فيه هي العليا.
ولكننا اليوم نعاني من هذه القضيَّة، قضيّة المرأة بعامة ومشاركتها في العمل السياسي بخاصة في الآونة الأخيرة، ونرى البعض يطلق مثل هذا الحكم:
" الإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء".
حكم عام يُطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة.
إِنّ هذا النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة والتي يطلقها بعض العلماء المعاصرين دون أي قيود، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا. ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ. نساء النبيّ r لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء، ولا نساء الخلفاء الراشدين، ولا نساء العصور التي تلت، ولا نجد هذه الدعوة التي يطلقها بعض العلماء إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين.
وإذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه، وأن يستشيرها في ذلك، وأن يستمع إلى رأيها، فإن وجد فيه خيراً أخذ به، وإن لم يجدْ تركه. هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام، ونتأسَّى برسول ا صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي.
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء، وكذلك سائر النساء لم يُعرف عنهن هذه المشاركة المساوية للرجال في المجتمع المسلم. فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام.
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسول صلى الله عليه وسلم قوله:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 28- 29 ].
لم يكن الأمر أن نساء صلى الله عليه وسلم يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء حسب ما ذكر بعضهم. لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر، ولكن حياة النبيّ r كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات، لا مستوى الملوك والرؤساء.
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ r ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين، لهن هذه الحرمة والمنزلة العظيمة. فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكّر المسلمين ونساء النبيّ r والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام: نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات. نهجان مختلفان:
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما *** نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على *** نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ(34/202)
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- هذا التذكير، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر. ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء، الطباع التي فُطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف.
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً، وخلق الرجل ليكون رجلاً، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء. وعلى ضوء ذلك، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته، وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً.
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة. فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل. ومن حق المرأة أن تتعلم لأنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة ، " طلب العلم فريضة على كل مسلم"، (1) ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرِّسة للنساء، وطبيبة للنساء، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا، دون أن يتشبّهْن بالرجال:
فعن ابن عباس -رضي عنه- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبّهين من الرجال بالنساء. "(2)
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء " (3) .
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها، حتى قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
) لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله -عزّ وجلَّ- عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ، ...) (4)إلى آخر الحديث.
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها، لا تتركهم للخادمات وغيرهن.
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام، ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة. فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض.
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات، مفتيات موهوبات. ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة. والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة، فهي أحرى أن تصبح أكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى:
(.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله...) [النساء: 34]
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه، واجباتها التي ليس لها بديل. فلنستمع إلى ما يقوله:
" ... ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال" .
ويتابع فيقول: " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وقطاع الخدمات، وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة. وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية... "(5)(34/203)
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج، انطلقوا كما نرى، ولو متأخرين، من البيت، من الأسرة، من دور المرأة في البيت، الدور الذي لا بديل له. ونحن المسلمين، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد، الرجل والمرأة، ثم البيت والأسرة- تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة، أو رئيسة شركة، ونضع من أَجل ذلك قانوناً عاماً مطلقاً دون قيود " :الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية!" وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها؟!
لا نقول: إِنّ المرأة عامة، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء. لا نقول هذا. ولكن نقول: إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ r، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عصور كثيرة أخرى.
وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات، أو مجتمعات غير ملتزمة بالإسلام.
وغفر الله لمن قال، كما نشرته إحدى الصحف: " إنّ الرسو صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير، أنديرا غاندي، تاتشر، ما قال حديثه الشريف: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) . فالمؤسف أنَّ من الناس من يعتبر أنَّ هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن. عجباً كل العجب! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح! وأين قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [ الزخرف : 33-35] نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح. ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين.
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام.
أما حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم (ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) ، فالحديث يرويه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه والترمذي. ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص. وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص. ولا يعجز الرسو صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص. ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم، وامرأة نكرة تفيد العموم، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل.
وبما أنَّ المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه، فإنها كذلك مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه! ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل. وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت. والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال، وليس فرضاً على المرأة، وجهاد المرأة هو في بيتها ورعايته ورعاية زوجها:
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ امرأة جاءت إلى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أُجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون. ونحن النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبلغي من لقيتِ من النساء أنَّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله) .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: " كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى " (6).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "وفيه :" ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ) . (7)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أعلى النساء جهاد؟! قال: ( نعم ! عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة).(8)
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة.
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل. نهجان -كما ذكرنا- مختلفان.(34/204)
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح. ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته.؟! ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة. إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها، وأنتم أضعتم المرأة وأضعتم كرامتها، ثمَّ نعرض الإسلامَ كما هو، وكما أُنزل على صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين.
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته. وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام. المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم. أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن. دور بيّنه الله للنساء وللرجال، لا نجده في الديمقراطية، ولا في العلمانية، ولا في تاريخ الغرب كله.
نعم! إن أول من صدّق رسول ا صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضي الله عنها. ولكنها بتصديقها لرسول ا صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته، فلم تنطلق خديجة -رضي الله عنها- في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال. وكذلك كانت سميّة أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام. والنساء اللواتي قاتلن في أُحد أو حنين، كان ذلك في لحظات طارئة عصيبة لا تمثل القاعدة الدائمة الرئيسة للمرأة في الإسلام، كما بيناها قبل قليل، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال، وإنما كنّ أول من التزمن حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
المرأة التي قامت تردّ على عمر -رضي الله عنه- في المسجد، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم. وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم. وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة.
وأتساءل عن السبب الذي يدعو بعضهم إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها؟ وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم؟ وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية؟!
وبصورة عامة، فإنّ هذا الموضوع: مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم: " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل"! هكذا في تعميم شامل، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه. وكذلك: "مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية"، هذا كله موضوع طُرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية.
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تُدرس وتُراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه. والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور، وإلى التورط في علاقات غير كريمة.
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين، ففي الرجال عندنا فائض، والرجال بحاجة إلى أن تُدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام.
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة، فعندما يُطلق هذا ويُباح، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام كلّه، و بالحجاب واللباس عامة؟
إنَّ إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد في الرجال والنساء، دون أن ينفي هذا وجود بعض النساء الملتزمات والرجال الملتزمين، إنَّ إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها.
وإني لأتساءل: لأيّ مجتمع تصدر مثل هذه الآراء؟! لأيّ رجل وأي امرأة؟ هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي؟ أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً، لتُطلق فيه مثل هذه الأمور؟ وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله؟!(34/205)
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة.
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك. وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى، كما نراها في العالم الغربي؟!
وكذلك أتساءل: لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها؟ ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه؟ في عالمنا اليوم فَقَدَ كثير من الرجال حقوقهم، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل.
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل.
وأخيراً أقول: قبل أن نطلق مثل هذه الآراء اليوم، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم.
فلنبنِ الأمة، فلنبنِ الرجل والمرأة، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الملتزم، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة الملتزمة بالكتاب والسنة. حيث تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هذا المجتمع أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة.
إلى ذلك يجب أن تتجه الجهود متكاتفة بدلاً من أن تتمزَّق في قضايا جزئية لا تساعد إلا على تمزيق الأمة: أيها العلماء والفقهاء والدعاة والمسلمون، أقيموا الإسلام حقّ الإقامة أولاً في نفوسكم رجالاً ونساءً، وأقيموه في الأرض، كما يأمركم الله سبحانه وتعالى، وبلّغوه الناس وتعهّدوهم عليه، ثمَّ انظروا في حقوق المرأة والرجل تجدوها بيّنة جليّة لا تحتاج إلى فتوى، كما وجدها أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم والمؤمنون المتقون في العصور كلِّها!
--------------------------------------------------------------------------------
(1)عن أنس وغيره من الصحابة . صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم: 3913 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير وزيادته 5100 .
(2)صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 5096 ، المشكاة : رقم : 4470 .
(3)عن عائشة رضي الله عنها، وعن عبد الله بن أوفى، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، في روايات متعددة كلها تتفق مع النصّ المذكور. أخرجه الإمام أحمد: الفتح الرباني : 16/227 وأخرجه ابن ماجه وابن حبان. وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : 5295 .
(4)جورباتشوف: البيروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع ، ص : 166 ترجمة أحمد شومان .
(5)مسلم : 32/47/1800 ، وأبوداود : 9/34/2531 .
(6)البخاري : 11/11/893 مسلم : 33/5/1829 ، الترمذي : 24/27/1705 .
(7)أحمد وابن ماجة.
(8)أبوداود : 34/6/4607 ، الترمذي 42/16/2676 ، ابن ماجة : المقدمة 35 .
============(34/206)
(34/207)
38 ـ أوقفوا ثورة الجنس الفضائية !
عماد الدين حسين
البيان / كل المراقبين للأوضاع الاجتماعية في العالم العربي يقولون إن هناك ثورة مقبلة خلال فترة وجيزة، وإنها حتمية ولا مناص منها إلا إذا حدثت معجزة.
عفواً، سوف يتصور كثيرون أن هذه الثورة المقصودة ستكون ضد أوضاعنا المتردية التي لا تخفى على أحد، لكنها ليست كذلك، إنها للأسف الشديد ثورة الجنس والخلاعة والانحلال المنطلقة من «ثكنات الفضائيات»... كل مقومات هذه الثورة جاهزة، أما المؤشرات والإرهاصات فقد بدأت منذ زمن، ولم يعد متبقياً سوى إذاعة البيان رقم واحد لتدشين هذا الانقلاب غير المسبوق في حياتنا الاجتماعية.
في الانقلابات العسكرية أو الثورات السياسية يكون الأمر منوطاً بفرقة أو سرية أو لواء عسكري أو حزب سياسي، لكن سلاح الثورة المرتقبة هو الفضائيات المنتشرة كالسرطانات حالياً، أما طليعة هذه الثورة «غير المباركة» فهي «الكليبات» ومعها سلاح مساعد يدعى «الشات» أو الدردشة عبر الفضائيات!
وحتى لا يسارع أحد إلى اتهامي بالتخلف والرجعية والانغلاق وربما التطرف، أسارع بالقول إنني أحد المؤمنين بحرية الإعلام بغير حدود، وكنت ومازلت أعتبر نفسي من المعارضين لمعظم السياسات العربية التي قادتنا للكارثة بنفس معارضتي لأطروحات غالبية فرق الإسلام السياسي. لكن الحرية شيء وما يحدث حالياً شيء آخر مختلف تماماً.
قبل فترة قصيرة كان مجرد سماح الرقيب العربي لمشهد قبلة ساخنة في فيلم سينمائي يعتبر حدثاً فريداً تقوم له الدنيا ولا تقعد، لدرجة أن بعض المشاهد في أفلام عربية أثارت طلبات احاطة واستجوابات عاجلة في بعض البرلمانات العربية.. الآن تغير كل ذلك ليصبح تاريخاً ينتمي لحقبة غابرة.
إرهاصات ثورة الخلاعة جاءت من حيث لم نحتسب، توقعناها من الأفلام فقدمت إلينا عبر الفيديو كليب و«الشات»، وتحولت بعض الأغنيات أو «الكليبات» لتنافس أشد القنوات الإباحية الغربية فجوراً.. شخصياً ولأن معظم وقتي أمام التلفزيون محصور ما بين قناتي «الجزيرة» و«العربية» يضاف إليهما أحياناً.
«أبوظبي» و«المنار» وبعض القنوات الرياضية، فلم أكن أشعر بالمشكلة، حتى فوجئت قبل أيام قليلة بابني الصغير الذي لم يتجاوز السنوات الثلاث يحدق بعمق في إحدى الأغنيات المصورة سيئة السمعة، وقتها ركبني مليون عفريت، ولم أجد مفراً سوى تغيير القناة بسرعة إلى الفضائية السودانية التي كانت لحسن الحظ تليها في الترتيب!
هذه الورطة فوجئت إن معظم أصدقائي ومعارفي عايشوها ويعايشونها يومياً، تنغص عليهم حياتهم، والأخطر أنهم لا يعرفون كيف يواجهونها، لأنهم غير مقيمين في المنزل طوال اليوم للتحكم في «الريموت كونترول»، وإجبار الأطفال على مشاهدة قناة «سبيس تون» و«عالم سمسم» وغيره من برامج الأطفال.
ثم إن معظم الأطفال أصبحوا على دراية واسعة لكسر «تحكم الوالدين» وفك شفرات كل القنوات المغلقة، ناهيك بالطبع عن بعض قنوات «الكيبل» المدفوعة الأجر وهي كارثة أخرى، لكن المشاهد يشترك فيها باختياره الحر دون ضغط.
معلوم لنا جميعاً إن ما يتعلمه ويسمعه ويراه الأطفال في سنواتهم الأولى هو ما يستقر في وجدانهم، وإذا كان هذا التعليم مصحوباً بصور، ثم موسيقى ماجنة، يمكننا أن نتصور أي نوع من الأطفال سيكون لدينا في المستقبل.
أحد الأصدقاء أحصى على القمر الصناعي «النايل سات» عشر قنوات غنائية وقناتين للدردشة، لا أحد ضد الغناء الراقي، ولا الدردشة البريئة لكن ما نراه الآن ضد أي منطق وعقل ودين ناهيك انه ضد الخلق السوي والفطرة السليمة.
الطبيعي والمفروض إن الغناء يختص بالصوت وموهبته، وبالتالي فهو موجه إلى إذن المستمع وليس الى عيونه ووجهه وغرائزه، إذا كان الأمر كذلك فهل يمكن لنا على سبيل الافتراض المطالبة بقصر إذاعة هذه الأغنيات مؤقتاً على الإذاعات وليس عبر الفضائيات، وقتها إذا طبقنا هذا الافتراض النظري سنتخلص أولاً من المشاهد الفاضحة، ثم ثانياً سنعرف الموهبة الحقيقية لهؤلاء «المجرمين».
وفي الغالب فإن أكثر من 90% منهم سيتم «كنسلتهم» ووقفهم عن بث السموم على الهواء مباشرة، في هذه الحالة يمكن للمطربين «المكنسلين» العمل كمنادين في «مواقف السيارات العامة» لتطفيش الزبائن، في حين يمكن توظيف المطربات في سجون النساء.
أما البقية المحترمة والتي يثبت أنها تغني بـ «صوتها فقط» فلا مانع من مشاهدتها في التلفاز شرط أن توقع على إقرار خطي قبل التعاقد على إذاعة الأغنية بعدم الاستعانة بـ «الكليب»، وإذا رفضت فعلى محطات التلفزيون اشتراط منع وجود «الحريم» في هذا الكليب، والاكتفاء فقط «بالماء والخضرة والوجه غير الحسن».
كثيرون آملوا أن يؤدي انتشار الفضائيات إلى اتساع مساحة الحرية الحقيقية بمعنى حرية كل الأفكار والتيارات، والتعددية بمعناها الفعلي، لكن النتائج جاءت معاكسة تماماً، وضد كل منطق، والغريب انه بينما أصبح لدينا مئات الفضائيات تقلصت مساحة حرية الرأي والتعبير فيما يتعلق بالقضايا الحقيقية، وفي المقابل أصبحنا نتمتع بحرية نحسد عليها في كل ما يتعلق بالخلاعة والميوعة والتفاهة.(34/208)
هذا الأمر مع الفارق يذكرنا بمسارعة معظم البلدان العربية الى تبني حرية الأسواق الى درجاتها القصوى والمتوحشة، مقابل التقليص المستمر للحرية السياسية، رغم إن أي تقدم حقيقي لا يمكن أن يسير بدون الحريتين معاً الاقتصادية والسياسية.
ليست كل الفضائيات سيئة، هناك فضائيات جادة، لكنها للأسف قليلة، كما انه ليست كل الفضائيات الغنائية والمنوعة تافهة، لكن معظمها كذلك، والنتيجة أنه يصعب على أي شخص مشاهدة أغنية مصورة مع أسرته وأولاده دون أن يحمر وجهه خجلاً ويسارع بتغيير هذه المحطة. والسبب ببساطة أننا نشاهد في هذه الأغنيات كل ما لا يمت للغناء بصلة، وأصبحنا بصدد مشاهدة «فتيات ليل» يحشدن كل «أسلحة دمارهن الشامل» للإيقاع بالمراهقين مستخدمين آخر ما توصل إليه العلم من «سيليكون» وخلافه!
وفي ظل هذه الحرية لبعض الفضائيات لم يعد المرء آمناً على أولاده الملتصقين طوال الوقت بالتلفاز، وبجانب مصيبة «الكليبات» المنفلتة من كل عقال، أصبح علينا الآن مواجهة كارثة الدردشة أو «الشات» في شريط أسفل الشاشة.
وقراءة كلمات وعبارات ومعاني تقشعر لها الأبدان والآذان، هذه الظاهرة «الشاتية» بدأت بعبارات من قبيل «ابن القاهرة بيمسي على بنت تونس» و«ابن أسيوط بيدحرج االتماسي على بنت الاسكندرية» أو «سندباد السعودية بيموت في عيون بنت لبنان» لكنها وصلت الآن إلى مستوى لا يمكن كتابته في هذه الزاوية لأنه من اختصاص شرطة الآداب!
هل تلك هي الحرية التي نريدها، الحرية التي أفنى البعض عمره من أجل تحقيقها وقضى بسببها معظم سنوات حياته خلف القضبان؟!
البعض يقلد ويتعلق بكل ما هو غربي وأميركي خاصة إذا كان ممعناً في الخلاعة.. الغرب له عاداته وتقاليده وحرياته.
لديهم منظومة قيم تسمح بدخول نجمة تعرى الى البرلمان كما حدث في ايطاليا، أو أن ترشح ممثلة بورنو نفسها لمنصب حاكم كاليفورنيا ضد الممثل شوارزينغر، وتبيح هذه القيم أيضا الزواج المثلي أو تنصيب أسقف شاذ لإحدى الكنائس كما حدث في الولايات المتحدة وليس مستبعداً في القريب العاجل وصول رئيس شاذ على رأس بلدان نووية!!
إذا كانت تلك هي الحرية كما يريدونها لنا فلتذهب الى الجحيم، فالتخلف والاستبداد سيكون أرحم ملايين المرات من هذا، ثم إن الغرب لديه مئات الأشياء المفيدة والنافعة، فلماذا لا نقلده فيها مثل التقدم العلمي وحكم دولة المؤسسات وثقافة الديمقراطية والتعددية والشفافية.. لماذا لا نقلدهم إلا في التفاهة والهيافة؟!
المشكلة الأخطر أن البعض من المسئولين العرب ربما يعتقد أن إشاعة ثقافة البورنو والانحلال والعنف سلاح مفيد للغاية، فهو قد يرضي الغرب شكلياً، ثم انه وهذا هو الأهم يلهي الناس في الجنس والهيافة ويغرقهم في الأوهام، ما يصرف نظرهم عن المطالبة بالحريات الحقيقية. لكن ذلك هو الآخر محض سراب وتأجيل للمشكلة ليس إلا لأن الإصلاح قادم قادم، لأنه حتى إذا رضيت أميركا بهذا النوع من «الإصلاح» فلن تكتفي به وستطالب بالمزيد!
قد يكون مفهوماً أن يتسابق أصحاب هذه المحطات الفضائية للربح وجذب أكبر نسبة من المشاهدين حتى لو كان الثمن هو تخريب أجيال بأكملها، لكن غير المفهوم بالمرة هو هذا الصمت الرسمي الرهيب وربما التشجيع الخفي لهذه المحطات من دوائر خارجية وداخلية لغرض في نفس يعقوب! الأمر الذي حول هذا النوع من الفضائيات إلى قنبلة مزروعة في كل منزل، لا نملك نزع فتيلها فمن يا ترى يستطيع؟!
مواجهة هذه المشكلة لا تكون بقرار إداري.. الحل الأمثل هو أن يتكتل كل شرفاء هذه الأمة لإشاعة مناخ من الوعي ونشر وتعزيز القيم المحترمة والشريفة.. مواجهة لا تقف ضد الفن كفن، لأن الفن الجاد نفسه سلاح فعال لمكافحة «الهيروين الغنائي» الذي نشاهده الآن تحت ستار «الفيديو كليب» والذي دفع أحد الساخرين إلى القول بأن «الفارق بين أغنية المطربة..... وأفلام البورنو الخليعة هو إن الموسيقى في النوع الأخير أفضل » !!!
مختصرالأخبار875 السبت9\12\1424 هـ
39 ـ لماذا نسرف في غنائنا أكثر من أحزاننا ؟
جريدة الجزيرة العدد 11486
محرم 1425 هـ
40 ـ الملكة نور : أكثر من نصف المصابين بالإيدز في الشرق الأوسط من النساء
جريدة الجزيرة العدد 11486
محرم 1425 هـ
41 ـ حرب طاحنة
أنا فتاة ملتزمة بشرع الله مستقيمة على طريق الهدى ولكنني وللأسف أقطن في بيت قد نسج الضلال أعشاشه بكل زاوية من زواياه ، أجهزة التلفاز في كل ركن من أركانه .
أشرطة الفيديو الساقطة تنتشر هنا وهناك ، هذا غير " الدش " الذي قرر أخي الأكبر إدخاله إلى منزلنا ليزيد النار حطباً .
كدت أجن من فرط هذه المصيبة ، لم ينقص منزلنا سوى هذا " الشبح " لم أصدق إلا عندما رأيته مصمماً على إدخاله وكان عذره أقبح من ذنبه عندما برر بقوله إني لا أريده إلا لأوسع ثقافتي وأطلع على أخبار العالم .
ولا أظن أن بمشاهدة " الدش " اتساعاً للثقلفة بل هدم للأخلاق ، وغسل لمخ الإنسان وو .. إلخ .
وغيرها من مضار هذا الشبح الذي لا يكاد يخلو بيت منه إلا من رحم ربي .(34/209)
عزم أخي أمره وأتى به وأمضى الساعات الطوال ساهراً عنده ليل نهار ، لا يمل ولا يكل ، ولم يقف الشر عنده فقط ، بل امتد إلى إخوتي الباقين ، فهم لا يكادون يفارقونه أبداً .
مرت الأيام ونحن على هذا الحال ، فكرت في إزالة هذا المنكر بأي وسيلة وعزمت أمري فلم استشر أحداً حتى أمي التي أنكرته في قلبها ولكن لم تستطع إزالته خوفاً من غضب أخي فأنا وأمي وإخوتي نسكن معه في منزله بعد أن تركنا منزل والدي " رحمه الله " وزوجته وانتقلنا للعيش معه في فلته الكبيرة .
ولكن على الرغم من ضخامتها لا تساوي عندي شيئاً وتمنيت لو أنني ظللت في منزل والدي المترامي ولم أقم مع أخي وضلاله .
تجرأت وقمت يتحطيم " الدش " إلى أن جعلته إرباً إرباً كما فعل الخليل بأصنام قومه ، في البداية قامت أمي بتوبيخي على هذا الصنيع خوفاً عليّ من أخي ، لكنني ووالله لم ينتابني الخوف للحظة واحدة ، ولم أصدق أن أمي تقابل صنيعي بالتوبيخ ، إذن من لي غيرها بعد الله يقف معي ؟! أقام إخوتي الدنيا وأقعدوها عندما علموا بالأمر وكان أشدهم غضباً أخي هذا فقام بتمزيق كتبي ومذكراتي وأنا في الكلية ، ولكنني قابلت الأمر ببرود لأنني أعذره بفعله هذا وقام بضربي ، هذا غير السيل الهادر من الألفاظ والكلمات التي انهالت عليّ منهم جميعاً ، لكنني صمدت ولم يقف بجانبي سوى زوجة أخي هذا وأختي الكبرى فقط ، ألهذا الحد قد فعلت جريمة شنعاء ليفعلوا هذا بي ؟ ألا يعلمون أنني قد خلصتهم من شبح قضى على حسناتهم ، وجعلهم يتخبطون بمعاصيهم ليل نهار ، وإلى الآن والحرب ثائرة ، حتى إنهم اتهموني بمرض الوسواس والجنون هذا مع ألفاظ السخرية والاستهزاء التي يرمون بها عليّ ، حتى إن أخي قال لي يوماً : ( إنني أعذرك لأنك مريضة ) .
هل الذي يسلك طريق الاستقامة والالتزام مجنون ومريض ؟
هل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر متطفل ومصاب بالوسواس ؟
لكنني رغم كل هذا الاضطهاد صادمة صابرة ، وبعد هذا الانتصار أي يعد تحطيمي للدش ، وبعد أن انزاح هذا الهم ، ويعد مضي خمسة أشهر على تحطيمه فوجئت بأخي وهو يدخل بواحد غيره في المنزل ويقول لي " هل إذا كسرت هذا الدش سأعجز عن الإتيان بغيره "
قولوا لي بالله عليكم ماذا أفعل ، ماذا أفعل للانتصار في هذه الحرب الطاحنة بيني وبين إخوتي هداهم الله .
أختكم المضطهدة مريم / القصيم
------------------------------------
تعليق المحرر :
ابتداءً نحيي فيك القوة في الحق والغضب لانتهاك محارم الله في وقت تنازل الكثيرون عن ذلك حتى في بيوتهم
لكننا في الوقت نفسه نتحفظ على طريقة معالجتك المشكلة مع أخيك ، وعلى وصفك لبيته أنه قد نسج الضلال أعشاشه ، رغم أننا لا نعرف حقيقة ما يجري في البيت .
فطريق الاستقامة أختنا الفاضلة ينقل الناس من المنكر إلى المعروف ومن شؤم المعصية إلى لذة الطاعة ، بعد أن يفتح أنوار الإيمان على قلوبهم ، ولا يصنع أبداً جواً من العداوة أو (( الحرب الطاحنة )) خصوصاً مع الأرحام حتى ولو كان في غمار إنكار منكر .
مع إقرارنا بشرعية الإنكار باليد لمن يستطيع لكن بعد الإنكار باللسان وبالحسنى ، فهلاّ جربتِ ذلك ورأيت كيف تكون النتيجة ، ننصحك باستشارة من تثقين به وإعلامه بالتفاصيل ، ونحن بانتظار رسالة قادمة تخبرينا فيها بأن أخاك أخرج " الدش " بيده - بإذن الله - .
مجلة الأسرة العدد 58
42 - رقص وبكاء
نايف رشدان / جريدة الرياض :
عرضت إحدى القنوات الفضائية مشاهد لليهود في أرض فلسطين يعذبون أهلنا نساء ، ورجالاً بطريقة مؤلمة ، وبوحشية تنم عن حقد دفين ، ويقودون الشباب منهم إلى السجن ، ويسحبون بعضهم على الأرض
وفي الوقت نفسه عرضت قناة أخرى مشاهد يتراقص فيها الرجال بطريقة مخجلة
بين هذين المنظرين كانت القصيدة :
علام نشعّل الدنيا قصيدا *** ونحرق بين أضلعنا الوريدا
ويبكي يومُنا ألماً وقهراً *** ويضحك خصمنا طرباً وعيدا
ونشرب حرفنا غصصاً ودمعاً *** ويأبى حرفُنا أن يستزيدا
منانا في هوانٍ مستفيضٍ *** ترنمْ يا هوان فلن تبيدا
تحف بنا النوائب والمآسي *** ويطوينا الأذى بيداً وبيدا
وتسبقنا الدموع إلى الحنايا *** وتمطرنا الخطوب أسىً مديدا
ونشكو للجوامد كلَّ همًّ *** وما نلقى منىً إلا الصدودا
كأنا قد خُلقنا للرزايا *** كُسينا من مغازلها جلودا
كأنا قد لقينا العمر خصماً *** فكان الحزنُ صاحبنا الوحيدا
ونسأل عن أمانينا بشجوٍ *** كأنا أتعسُ الدنيا جدودا
فمن أفنى ثغور السعد فينا *** ومن غال البلابل والنشيدا
ومن أغرى بمجلسنا نحيباً *** ومن أبكى بسفرتنا الثريدا
كأنا بالنحيب نعيد مجداً *** كأنا بالبكاء نقيم عودا
كأنا بالتشكي قد بلغنا *** وأوفينا المواثق والعهودا
كأنا بالتوجع قد هتفنا *** لنجلي من مُقَدَّسنا يهودا
***
تغنوا يا بني قومي غناء *** يداعب صوتُه العذبُ البليدا
فهاتِ الناي واضرب كل دفًّ *** وسيّلْ في مواجعنا الجليدا
وناغ من المشاعر كلَّ ركنٍ *** وحرَّك في دواخلنا الجمودا
لأن حياتنا في كل لهوٍ *** لأن الليل يألفنا عبيدا
لأن جمالنا في أن نغني *** وننسى أن في يدنا القيودا(34/210)
وننسى أن مسجدنا جريحٌ *** وأن أخاً لنا طعناً أبيدا
وأن نساء أمتنا سبايا *** وأن شبابنا للسجن قيدا
فإنا لن نضيع إذا جهلنا *** لأن لنا عن الباغي حدودا
فتلك ضُلوعنا أوتارُ عودٍ *** نهزُّ له المناكب والقدودا
وأم القوم قيثارٌ تدلى *** تهدهدُ بين أضلعِنا الوليدا
سيهربُ كلُّ من يغزو حِمانا *** إذا كانت معازفنا شهودا
ستأتينا الفتوح إذا طربنا *** وألهبْنا الحناجر والخدودا
43 - معهد صهيوني أمريكي يتتبع الفضائيات العربية
مفكرة الإسلام 17 جمادى الأولي 1425هـ :
قالت مصادر صحفية:
إن معهد الشرق الأوسط لأبحاث الإعلام 'ميمري' افتتح خدمة جديدة تضاف إلى أنشطة المعهد الذي يترأسه عقيد سابق في الجيش الصهيوني ومقره واشنطن, والمتخصص في متابعة الإعلام العربي والإسلامي, وتزويد الإعلام والساسة الغربيين, ولاسيما الأمريكيين بما يقال ضدهم أو ضد الصهاينة في مختلف وسائل الأعلام العربية والإسلامية.
والخدمة الجديدة تتمثل في مراقبة محطات التلفزة العربية والإسلامية وتسجيلها وترجمتها وتوفير أشرطة وتسجيلات عالية الجودة لما تبثه تلك المحطات.
و قالت صحيفة الخليج الإماراتية : إنه سيتم بيع هذه الخدمات لوسائل الإعلام الغربية لكي تستخدمها للعرض على الرأي العام الأوروبي والأمريكي.
وخصصت 'ميمري' فريق عمل لمتابعة قائمة طويلة ضمت عددًا من محطات التلفزة العربية والإسلامية على مدى ست عشرة ساعة يوميًا تترجم محتوياتها على الهواء مباشرة للقفز على حاجز اللغة, كما تقول 'ميمري'.
وسيركز فريق العمل على البرامج السياسية والنشرات والبرامج الدينية.
ومن المحطات التي ستتم متابعتها فضائيات العربية, ودبي, والمجد, والقناة الأولى المصرية, ودريم 2 المصرية, والفضائية الفلسطينية, والمنار, وإم.بي.سي, والجزيرة, واقرأ, والقناة الأولى السعودية, والتليفزيون السوري.
وبدأت 'ميمري' نشاطها ببث وتوزيع مقتطفات من خطبة صلاة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة التي ألقاها الشيخ سعود الشريم.
ويعتبر مراقبون أن 'ميمري' المتخصصة فيما يعرف بالتضليل الإعلامي بهذه الخطوة تكون قد أضافت المزيد من الدعم لأنشطتها التي يعتقد كثيرون أنها تأتي بدعم مباشر من الموساد, وذلك بهدف توسيع الفجوة وإشاعة مشاعر الكراهية والخلاف بين العرب والمسلمين من جهة والعالم والرأي العام الغربي من الجهة الأخرى.
وطالب هؤلاء المراقبون محطات التلفزة العربية بمقاضاة 'ميمري' لاعتدائها على حقوق الملكية الفكرية لتلك القنوات بإقدامها على تسجيل برامج هذه القنوات وبيعها ما يعتبر اعتداءً صارخًا على قوانين الملكية الفكرية الدولية,,.
44 - صور رخيصة في الفضائيات
مجلة الجزيرة العدد : 82
ت.ب : الصور الرخيصة لجسد المرأة تحاصرنا في كل مكان باسم الفن وباسم الغناء.. أينما فتحت قناة فضائية أملاً في أن تشاهد ما يشرح صدرك هنا وهناك.. تطالعك صورة غير محتشمة لفتاة عربية تتمايل ذات اليمين وذات الشمال.. يقولون إنها فنانة.. وتحت مسمى الفيديو كليب ترتكب الفنانات العار الذي لا تستطيع أن تمارسه أمام أقرب الأقربين، فكيف ترضى الفنانة لنفسها أن تلبس ملابس أقل حشمة من ملابس النوم أمام ملايين المشاهدين وتدعي في ذات الوقت أنها فنانة.. وإذا تحدث أحد منتقداً هذا السلوك الجنوني قالوا إنها الحرية، وموضة الفن، فنحن في عصر السرعة.. وعصر الحداثة وعصر العولمة.. وكلها كلمات تنال من التراث والحضارة والثقافة وتهدمها هدماً عياناً بياناً.
ما نعرفه عن مفهوم الفن أنه إبداع يرتقي بالذوق الاجتماعي والفهم الاجتماعي ويناقش قضايا الأمة من خلال الكلمة والنص وربما اللحن الجميل.. ويقودك لترى من الواقع ما لا تستطيع أن تراه بمفردك.. لكن ما يحدث في الفضائيات من أغاني لفيديو كليب هو الانحطاط بعينه.، لأنه يهبط بالذوق العام ويتردى به إلى أسفل سافلين، ويغيب المعنى الحقيقي لكلمة فنان، ويجعل هذا السلوك مجرد حركات إثارة تظهر من خلالها المرأة جسدها عبر الكاميرات لينظر إليها الناس، وهي ترتدي من الثياب ما يشف أكثر مما يستر، وتدعي الفن، أو بالأحرى يدعي من يخدعها بذلك أنها تمارس فناً يعجب الجمهور.
هذه الظاهرة التي باتت تنتشر بسرعة، وتسمم شاشات الفضائيات، للأسف تجد التشجيع من الشركات الفنية التي تبحث عن الربح ولا وزن لديها للقيم، والفن الأصيل أو العادات أو التقاليد.. وهذا لا يمنع قيام نقاشات وحوارات تسعى في اتجاه ترسيخ الفن العربي الراقي الذي تتكامل أدواته من نصوص قوية، وألحان جيدة وأداء يمزج كل عناصر الأغنية العربية ليخاطب المشاهد العربي بلغة الإبداع والفن الحقيقي، وليس بلغة الصور المثيرة والجسد العاري والرقص الرخيص.. الخالي من كل دلالات الفن.
45 - الفضائيات أفسدت أطفال العرب
تحقيق: محمد عبد الحميد(34/211)
أسهمت برامج الأطفال في القنوات الفضائية العربية في إفساد ذوقهم العام من خلال ما تقدمه تلك الفضائيات من إعلانات غير ملائمة وأفلام كارتون تحضّ على الجريمة كالسرقة والكذب والاستهتار بالقيم. هذه هي حقيقة أكدتها دراسة حديثة قام بها خبراء بالمجلس العربي للطفولة والتنمية على شريحة من الأطفال في المنطقة العربية.
نوّهت تلك الدراسة إلى أهمية الدور الذي يلعبه التلفزيون في تثقيف وتوسيع مدارك الطفل من خلال نقل المعارف والخبرات عبر البرامج الهادفة المختلفة، لكن هناك العديد من السلبيات التي تؤثر على الناحية التربوية للطفل، منها زيادة نوعية البرامج التي تحتوي على مشاهد العنف.
كما أشارت إلى أن القنوات الفضائية بسيطرتها وهيمنتها على قطاع كبير من المشاهدين أصبحت بمرور الوقت أشبه بالأسرى، مما أضعف التواصل والعلاقات الأسرية خاصة بين الأطفال وآبائهم.
واعتبرت الدراسة أن التنشئة التلفزيونية أثرت على الأطفال وحوّلتهم من نشطاء مندفعين راغبين في فهم الأشياء والشروع في العمل، إلى أطفال أكثر حذراً وسلبية لا يريدون التقدم واكتشاف ما حولهم.
واستشهد الخبراء في بحثهم بالعديد من الدراسات التربوية التي أجريت في العقد الأخير والتي كشفت عن وجود علاقة بين مشاهدة التلفزيون والتحصيل الدراسي، وأنه كلما زادت مشاهدة الأطفال للتلفزيون انخفض تحصيلهم الدراسي.
كما أشارت الدراسة إلى أن هناك دلائل تشير إلى أن مشاهدة التلفزيون لا تؤدي إلى تقليل وقت اللعب عند الأطفال فحسب، بل إنها أثرت في طبيعة لعب الأطفال، خاصة اللعب في المنزل أو المدرسة.
وأكدت أنه على الرغم من دور التلفزيون في النمو الاجتماعي والثقافي للطفل فإنه قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، ويجعل الطفل شخصية ضعيفة منفصلة عن مجتمعها إذا ما ركّز على عرض قيم وثقافات أخرى، كأفلام الكارتون المدبلجة، تؤثر على ذاتية الطفل الاجتماعية والثقافية.
وأوضحت الدراسة أن القنوات الفضائية أصبحت تشكل مدرسة موازية في نقل المعارف والعلوم، وأن عامل التكرار فيما تقدمه من برامج ليست هادفة تؤدي إلى تهميش ثقافة الطفل.
وأوصت الدراسة بأهمية بحث القائمين عن الإعلام العربي خاصة قنوات التلفزيون سواء الأرضية أم الفضائية عن برامج جذابة ومشوقة وهادفة قادرة على تحفيز الأطفال على المشاركة في أنشطة المجتمع وإتاحة الحرية لهم للتعبير عن أفكارهم وتنمية قدراتهم على النقد وتشجيعهم على المناقشة والتواصل مع آبائهم.
والتأكيد على أهمية أن تكمل تلك القنوات التلفزيونية الدور التربوي للآباء تجاه الأبناء من خلال حثّهم على احترام الحق في الاختلاف والتعدّد والتنوع والتسامح مع الآخرين، واحترام قيم المشاركة والحرية، وتحفيزهم على الاستفادة من تكنولوجيا العصر المتقدمة من حولهم.
من جانب آخر يؤكِّد خبير علم الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن مشاهدة التلفزيون تلعب دوراً مؤثراً في حياة الطفل، خاصة في فترة ما قبل المدرسة، وهو أشبه بسلاح ذو حدين، فالعديد من البرامج ليست ذات هدف، وأشار إلى خطورة أن يتجاهل الآباء دور التلفزيون في حياة أطفالهم، وأشار إلى ضرورة تدخل الآباء والقائمين على برامج القنوات الفضائية لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
46 - وسائل الإعلام هل تهدد نظامنا القيمي والإجتماعي
د. محمد الحضيف :
حدثتني إحدى الأخوات الأكاديميات، عن طالبة عرضت على لجنة التأديب، بسبب قضية أخلاقية
قالت الأخت الفاضلة ، إن الطالبة عزت انحرافها السلوكي لمشاهدتها برنامجاً معيناً في التلفزيون
تقول الأخت : لم أستوعب أن يكون التلفزيون مسؤولاً عن انحراف أخلاقي بهذا الحجم
وتضيف : أرغمت نفسي على الجلوس أمام التلفزيون لمشاهدة البرنامج (أفلام مكسيكية مدبلجة) مع بنات قريبات لي.. في سن تلك الطالبة وأصغر.
كانت تجربة مخيفة، والكلام للأخت الكريمة لقد أحسست وأنا المرأة الناضجة بالأثر التدميري الذي تحدثه هذه البرامج في أنساق سلوكية قطعية
الفكرة الرئيسية للبرنامج التي كانت تبرز لي وأنا منهمكة في المتابعة، هي: تطبيع (العلاقات المحرمة) بين الرجاء والنساء
الفكرة الثانية التي تأتي بعدها في ترتيب (مدروس) أن هذه العلاقات أمر (عادي) يمر به كل مراهق ومراهقة
وأنها مرتبطة بفترة معينة.. وأنها يمكن أن تنسى (...).
تمتلك وسائل الإعلام من خلال ما تبثه القدرة على تغيير نظرة الناس إلى الحياة وإلى العالم من حولهم، من خلال تغيير مواقفهم تجاه الأشخاص والقضايا، فيتغير بالتالي، حكمهم عليها، وموقفهم منها، فمثلاً: حينما تمطرنا وسائل الإعلام الغربية بعشرات المواضيع الإعلامية، المقروءة، والمسموعة عن (السودان الأصولي)، الذي (ينتهك) حقوق الإنسان، ويرعى الإرهاب.. تكون النتيجة أن القارئ الساذج والمستمع السطحي يغير موقفه من السودان، فيصبح السودان المسلم.. خطراً يهدد الأمن الإقليمي، وتصبح عصابات جون قرنق الصليبي المتمردة اسمها (الجيش الشعبي لتحرير السودان).(34/212)
تغيير المواقف والاتجاهات، لا يقتصر على الموقف من الأفراد والقضايا، بل يشمل القيم وبعض أنماط السلوك، وهو ما بدا واضحاً في سلوك الطالبة التي وردت قصتها قبل قليل، فكثيرا ما قبل الناس، وتعاملوا بلا مبالاة، مع سلوك كانوا يأنفونه ويشمئزون منه، وكثيراً أيضاً ما تخلى الناس عن قيم كانت راسخة، واستبدلوا بها قيماً دخيلة، كانت موضع استهجان فيما سبق.
إن (المتغير) الذي دخل حياتنا، وأحدث خللاً في منظومة القيم التي تحكم علاقاتنا تجاه الآخرين (أقاربنا، جيراننا.. بقية أفراد المجتمع)، وتحكم كذلك رؤيتنا للأمور (حلال، حرام، عيب، شرف، عرض) ليس الساقط، وما أدى إليه من وفرة مادية، ولا اقتناءنا للسيارات والأجهزة الإلكترونية المعقدة، وغيرها من منتجات الحضارة الحديثة، إن تعرض منظومتنا القيمية والأخلاقية لسيل لا ينقطع من المفاهيم، والتصورات المضادة والقيم المتناقضة والثقافات (الأخرى) عبر (مصادر) معلومات متعددة، في مقدمتها وسائل الإعلام هو الذي أحدث الخلخلة التي نراها في النظام الأخلاقي والسلوك العام لمجتمعنا.
إن المسألة ليست (هشاشة) ثقافتنا، وقابليتها للاختراق، ولا ضعف (مناعة) نظامنا القيمي ضد الثقافات والأفكار الأخرى، إننا أمام واقع استهدفت فيه مجتمعاتنا في أَضعف حلقاتها.. أطفالها وشبابها وفتياتها، إن سياسة (تجفيف المنابع) في بعض البلاد العربية والإسلامية، وحملات الإثارة الغرائزية والشهوانية التي تقودها (الفضائيات) إضافة إلى انحسار الدور التربوي للبيت، ومؤسسات المجتمع التربوية الأخرى، وعجزها عن تحصين الأطفال والشباب أدى إلى هذا السقوط الأخلاقي الذي نشهده والخلخلة التي تهدد نظامنا القيمي والاجتماعي.
في عملية تغير الموقف والاتجاه سواء على مستوى الأشخاص والقضايا أو على مستوى القيم والسلوك، يبقى الإعلام عاملاً مؤثراً ورئيساً في عملية التحول تلك، فمن خلال الرسائل الإعلامية (المعلومات) الصحيحة، أو المشبوهة، أو حتى المكذوبة، التي تقدمها وسائل الإعلام يشكل الفرد من الجمهور موقفه،
إن الإنسان أياً كان لا بد أن يكون له حكمه الخاص على كل ما يصادفه في بيئته، من أفراد أو قضايا أو سلوك، هذا الحكم تشكل لديه على أساس من المعلومات المتوفرة لديه، ألسنا في طفولتنا نحكم على الأشياء (صواب أو خطأ) من خلال (المعلومات) التي يوفرها لنا والدانا وكذلك يفعل أطفالنا انطلاقا من القاعدة نفسها، إن وسائل الإعلام بما تبثه من كم هائل من الرسائل الإعلامية (معلومات)،
وسعت مساحة نفوذها في عقول أبنائنا وبناتنا على حساب (المعلومات) التي نوفرها نحن لهم، كما أن وسائل الإعلام نفسها استحوذت على الجزء الأعظم من مصادر المعلومات التي نستقي منها فهمنا وبالتالي حكمنا على الأشياء.
إن وسائل الإعلام أًصبحت تؤثر في مواقفنا لأننا أصبحنا نتعرض لها وحدها بطريقة تشبه الإدمان، والنتيجة الطبيعية لحالة التلقي من (مصدر واحد) هي فهم الأمور والحكم عليها بطريقة واحدة من خلال وجهة نظر واحدة، إن وجهة النظر ذات البعد الواحد غالباً بل دائماً ما تكون ناقصة ومنحازة لذا فالاتجاه الذي يشكل لدينا حيال أمر ما بتأثير وسائل الإعلام يحمل السمات نفسها.. أي أنه ليس دائماً صواباً.
التغيير المعرفي Cognitive Change الذي تحدثه وسائل الإعلام في الجمهور أعم وأشمل من تغيير الموقف أو الاتجاه Attitude Change.
المعرفة في أبسط تعريف لها هي (مجموع المعلومات) التي لدى الفرد وتشمل الاعتقادات والمواقف والآراء والسلوك، المعرفة بوضعها هذا، أعمق أثراً في حياة الإنسان، إن التغيير في المواقف طارئ وعارض سرعان ما يزول بزوال المؤثر فيعود كما كان سابقاً، أو ربما ينحى منحى إيجابياً عكس ما كان عليه.
أما التغيرالمعرفي فهو بعيد الجذور يمر بعملية تحول بطيئة تستغرق زمناً طويلاً. تؤثر وسائل الإعلام في التكوين المعرفي للأفراد، من خلال عملية التعرض الطويلة المدى لوسائل الإعلام كمصادر للمعلومات فتقوم باجتثاث الأصول المعرفية القائمة لمسألة أو لمجموعة من المسائل لدى الأفراد، وإحلال أصول معرفية جديدة بدلاً منها، إن تأثير وسائل الإعلام في طريقة تفكيرنا وأسلوب تقييمنا للأشياء من خلال ما نتلقاه منها من معلومات يؤدي إلى تحول في قناعاتنا وفي معتقداتنا، لأن العقائد حصيلة المعرفة التي اكتسبناها، أي إن عقيدتنا في شيء هي نتاج ما علمناه عن ذلك الشيء، فمثلاً: نحن نعرف الحلال والحرام وهذه عقيدة، من خلال العلم والمعرفة التي تعلمناها عن ذلك الحلال والحرام، لو سقنا مثالاً لشرح هذا المفهوم فإن دور المرأة في المجتمع وما لها وما عليها هو حصيلة ما عرفناه عن ذلك الدور من تعاليم ديننا، بمعنى آخر وضع المرأة كما رسمه الإسلام هو (التكوين المعرفي) الذي لدينا عن واقع المرأة في المجتمع المسلم.(34/213)
في مثال المرأة، يحدث التغيير المعرفي، من خلال وسائل الإعلام، حينما تقوم تلك الوسائل بتقديم المرأة ضمن (إطار معرفي) مخالف للتكوين المعرفي الذي لدى الجمهور عن دور المرأة كما تعلموه وآمنوا به، تلجأ وسائل الإعلام في سبيل ذلك إلى استخدام قوالب جذابة، (تعرض) من خلالها المرأة فهي ناجحة لأنها متحررة من ضوابط القيم وهي محط الأنظار لأنها استغلت النواحي الجمالية في جسدها، وهي مشهورة، لأنه عرف عنها مقاومة الأعراف والتقاليد.. وهكذا تتم عملية التغيير المعرفي عبر عملية طويلة، تتنوع فيها جزئيات التكون المعرفي الجديدة التي يراد إحلالها محل المعرفة القديمة.
فهذه مسلسلة تصور العلاقة بين الرجل والمرأة، من خلال رؤية (عصرية) تبدو فيها (العلاقات المحرمة) نوعاً من المتعة العابرة
و(حق) من حقوق الحرية الشخصية، المسلسلات المكسيكية مثال، و(أنا لن أعيش في جلباب أبي) مثال آخر
وهذا مقال يتحدث عن (قصة نجاح) فتاة تغلبت على ظروفها، فتمردت على التقاليد وسافرت وحدها إلى أمريكا، حيث رجعت بأعلى
الشهادات، وقابلت هناك شخصاً فأحبته وتزوجته (...) ثم هناك خبر عن (إنجاز) نسائي، حيث حصدت النساء الألمانيات الميداليات الذهبية في مسابقات العدو للمسافات القصيرة والسباحة الحرة، بينما (فشل) الرجل في تحقيق أي شيء.
لا يخلو (المشهد) الطويل لعملية التغيير المعرفي (المقصودة) الذي تقدمه وسائل الإعلام من امرأة ترأس مجلس إدارة إحدى الشركات، وفتاة حافظت على (عفتها) وهي تعمل في بيئة مختلطة، وقاومت (تحرشات) بعض الرجال قليلي الأدب الذين لا تخلو حتى المجتمعات المحافظة منهم (...)
كما تغرس وسائل الإعلام ذلك في عقولنا.. وتؤكد لنا في كل مناسبة، أن العفة والأخلاق والحجاب (في القلب)، ولا علاقة لها بـ (المظهر) والسلوك (...)، وهكذا تتجمع (جزئيات المعرفة) الجديدة لوضع المرأة بين حياة عصرية، وتمرد على التقاليد وإنجازات (تفوقت) فيها على الرجال لتشكل إطاراً (معرفياً) جديداً، يحل شيئاً فشيئاً محل القديم.
ما سبق ليس إلا مثالاً يوضح كيف يحدث التغيير المعرفي عبر وسائل الإعلام، وإلا فالعملية أعقد من ذلك بكثير، إذ تتداخل فيها عوامل كثيرة، مثل شخصية الإنسان وبنيته الاجتماعية، وتشكيله الثقافي، ونفوذ قوى الضغط الاجتماعي المضادة في المجتمع.
وسائل الإعلام تستطيع أن تحدث تغيراً معرفياً لدى الجمهور متى استطاعت أن توظف العوامل السابقة، وتوجهها في إيقاع واحد متناغم، يعجل بالتغيير المعرفي المنشود، حسب الاتجاه الذي تريده.. ضد ما هو قائم ومناقض له.. ومع ما هو قائم وداعم له.
47 - انتشار"مقاهي الفضائيات" بالسعودية
الرياض-(ا ف ب)-وكالات 6 ديسمبر 1999م
يعيش بعض السعوديين تناقضًا بين موجة غربية تتسلل إلى المجتمع السعودي وبين القوانين الإسلامية في المملكة؛ حيث يمضي البعض سهراتهم أمام قنوات تقدم لهم أجمل نساء العالم، لكن فقط على شاشات التلفزيون، في حين يكون الآخرون في المساجد ودروس العلم والزيارات العائلية.
ويفضل البعض تمضية سهراتهم أمام شاشات الفضائيات التي تبّث المسلسلات الأميركية مثل "باي واتش" الذي تدور أحداثه على الشواطئ الأميركية، وتظهر فيه الممثلات بالمايوه، أو الحفلات الموسيقية التي تحييها مغنيات، ومسابقات تظهر فيها ملكات الجمال.
وفي المقابل يجتمع الكثيرون لمشاهدة قناة الجزيرة الإخبارية السياسية ذات البرامج الجادة والمثيرة حيث يتناقشون حول قضايا المسلمين المشتعلة مثل الشيشان وغيرها.
وتلقى هذه المحطات الفضائية إقبالاً كبيرًا، حتى إنه يظهر نوع جديد من المقاهي وضع على كل طاولة فيها آلة تحكم بالتلفزيونات لإفساح المجال أمام الزبائن لاختيار برنامجهم المفضل بحرية.
وخشية من أن تؤثر هذه المقاهي على سكون الحياة الليلية في الرياض سمحت السلطات السعودية بإقامتها فقط في ضواحي العاصمة، وخصوصا في منطقة "الثمامة" على بعد نصف ساعة من الوسط التجاري.
وتشهد هذه المقاهي التي أطلق عليها اسم "مقاهي الشيشة" نسبة إلى "النرجيلة" إقبالاً كثيفًا لدى السعوديين، وكل منها يمتد على مساحة آلاف الأمتار المربعة، وهناك سبعة مقاهٍ على سبيل المثال في "الثمامة" وحدها، بعضها يستوعب 400 شخص وأمامهم 250 شاشة تلفزيون، وهو يشهد إقبالاً شديدًا مساء الخميس عند بدء عطلة نهاية الأسبوع في الخليج.
وبإمكان رواد المقهى أن يختاروا بين الجلوس على وسائد وفق الطريقة البدوية، أو على كراسي خشبية عالية مثل طريقة الحجاز، أو البرك الرخامية على الطريقة السورية، أو حتى على طاولات وسط الأرصفة وفق الأسلوب الغربي.
ويقول "عبد اللطيف" الموظف الحكومي الذي يخرج عادة مع أصدقائه إلى هذه المقاهي لمشاهدة الأغاني والأفلام: "ليس هناك من مكان آخر للخروج واللهو". وعلى الطاولة المجاورة يمكن مشاهدة سهرة تحييها الراقصة دينا على جهاز التلفزيون.(34/214)
إلا أن أحد العاملين في المقهى قال: "الرقص ممنوع". في إشارة إلى الحدود المفروضة على ما يجري في هذه المقاهي. ومقهى "الأمم" أحد أهم هذه المقاهي هو حكر على الرجال، ولكن هناك مقهيان آخران في الثمامة مخصصان للعائلات؛ أي الرجال برفقة زوجاتهم وبناتهم أو أمهاتهم. وكل هذه المقاهي محاطة بسور من الجدران في إجراء يعكس حرص السلطات على مراعاة المشاعر الإسلامية. ويقول أحد رجال الأعمال السعوديين: إن السلطات سمحت بهذه المقاهي لأن "أي شيء غير شرعي" لا يحدث فيها، ولأن السلطات تعتبرها "صمام أمان لمجتمع محروم من سبل الترفيه الأبسط مثل السينما".
وفي المقابل فإن المحرَّمات تبقى ثابتة مثل منع الكحول. ويمكن تبادل الأنخاب فقط عبر تناول عصير التفاح ممزوجًا بالمياه الغازية.
ولولا المساجد والكتابات بالعربية والنساء المحجبات والرجال بالثوب والغترة لما أمكن التمييز بين شوارع الرياض وشوارع أي مدينة أميركية من حيث الأبنية الشاهقة والساحات ومطاعم الوجبات السريعة مع استثناء دور سينما أو مسارح أو ملاهٍ ليلية؛ حيث إنها محظورة، وهذا يعني أن الطابع الإسلامي ما زال هو المميز لشكل الحياة
48 - العوضي :الفضائيات تشيع الانفلات الأخلاقي
كتبت ليلى الشافعي:
قال الداعية د.محمد العوضي أن الشباب هم الثروة العظيمة لكل مجتمع, ولابد من استثمار هذه الطاقات في البناء والنماء وتطوير المجتمع.
وقال في الندوة الإيمانية التي أقامها فندق كويت ريجينسي بالاس والتي حضرها أكثر من 1500 شخص من الشباب والشابات والكبار إن هذا الجيل اشتد تأثراً وتشكلاً ثقافياً وعرفياً ووجدانياً وسلوكياً.
مشدداً على أن هذه الثروة العظيمة من شبابنا يجب أن تستغل فيما يعود على المجتمع بالخير.
وبين طبيعة عنوان الندوة "للكبار فقط والنداء موجه للشباب" بقوله أن الإنسان في استطاعته مهما كان عمره أن يكون صغيراً أو كبيراً وذلك بالأهداف وبالآمال والتطلعات والسلوك الذي يصدر منك, فالكبر ليس بالعمر.
وأوضح أن العلمانية التي جاءت في البداية لفصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة أصبحت الأن مفهوماً مركباً تتداخل فيه عدة رواسب فكرية وفلسفية يفصل الإنسان عن أي مرجعية أخلاقية سواء أكانت مرجعية عشائرية أو دينية, أو عائلية أو أي مرجعية وتفصله عن أي هدف سلوكي في المستقبل وتحصره في اللحظة وتضخم عنده اللذة والغريزة, وأصبح هذا القطاع يتضخم بطريقة كبيرة عبر شاشات الفضائيات والهدف منها ربحي أصيل .
وأشار د. العوضي إلى أن الهدف من هذه الفضائيات وما تبثه هو ربح مادي لكن النتائج هي انفلات أخلاقي وتفكك أسري وتحويل المرأة إلى حيوان استعراضي.
مبيناً أن هذا الجو الذي يعيشه الشباب من مشاهدة الفيلم إلى مسرحية إلى فيديو كليب, يجعله يعيش في مرحلة التوهان واللامبالاة, والتخبط والحيرة, ويصبح مفصولاً عن الأسرة.
وتطرق إلى الجنس الثالث وفرق بينه من الناحية الشرعية وبين الخنثى المشكل مؤكداً أن الخطورة ليست في وجود الظاهرة ولكن أن تصبح مشروعاً ربحياً أو تدعم من جهات أو تكون مرتبطة بجهات مشبوهة.
وطالب بضرورة أن نفتح عقولنا بتساؤلات هذا الجيل من الشباب, وكيف نتعامل معه ثم كيف نوجه سلوكه حتى يتحكم في نفسه, لافتاً إلى ضعف الشباب وانتمائهم لأصدقاء السوء, وضرب عدة أمثلة حية من شباب وشابات يعانون نفسياً ومتمردون فكرياً.
وأوضح المخرج العام في ظل طوفان الفساد الذي يدخل من كل باب وهو المدافعة والمصابرة .
البوابة الاسلامية وزارة الأوقاف والشئون الاسلامية- الكويت .
49 - هل أنا في حلم؟ تقبيل وحركاته تخدش الحياء في القناة الأولى!!
50 - الدش ليس حلاً
اطلعت على ما كتبته الأخت فاطمة بعنوان " الدش " و " الطفش " في العدد 83 من مجلة الأسرة
فأحببت أن أدلي بدلوي للتخفيف مما تعانيه الأخت من وقت الفراغ .
في البداية أود أن أوضح أن عبادة المسلم لله تعالى لا تنحصر فقط في الصلاة والصيام والزكاة والحج ، وإنما كل عمل أريد به وجه الله تعالى لا يخالف شرعه فهو عبادة حتى النوم الذي يتقرب به المسلم لممارسة يومه عبادة يؤجر عليها ، وكذلك الأكل والشرب إن قصد منهما التقوى لممارسة عبادة أخرى ، وأعمال المنزل من طبخ وكنس وغسيل وتربية .. الخ ، فهي عبادة يؤجر عليها المسلم ، فكل ذلك من شأنه أن يجلب الطمأنينة والسعادة في نفس المسلم ، لأن جهده لا يضيع سدىً ، والمسلم يُسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، كما ورد في الحديث . فحري بنا أن نغتنم ساعات أعمارنا ودقائق حياتنا .
ثم أسألك أختي الكريمة إن كان لديك كما تقولين شغل البيت الذي لا ينتهي ، فكيف يكون لديك وقت فراغ ترغبين أن تقضيه مع الدش ؟ ، بل الأحرى حينما تكونين صاحبة أعمال كثيرة في بيتك أن تكوني بخيلة على باقي الأوقات حتى تتزودي فيها بما ينفعك وينفع مجتمعك وأسرتك ، فتثقفين نفسك وتتقربين بأعمالك إلى ربك جل وعلا ، وتصلين رحمك وتقيمين حلقات تحفيظ القرآن للأطفال أو من هم أكبر سناً ، بأن تحددي السورة أو الجزء كهدف للحفظ ، فتكسبين بذلك أجر تعليمهم بإخلاصك النية .(34/215)
هناك أخيتي وسائل تستطيعين أن تقضي بها وقتك وتروحي عن نفسك غير الدش ، ومعي هنا عدة أسئلة وددت أن تجيبي عنها بينك وبين نفسك .
- هل وضعت خطة لكيفية استغلالك لوقتك ، والأعمال أو المهمات التي لابد أن تلتزمي بها مثل : " زيارة مفيدة ، مكالمة هاتفية أسبوعية لإحدى أخواتك في الله ، خياطة ، كمبيوتر ، قراءة كتاب مفيد كالتفسير ، قراءة قصة مفيدة ، زيارة مريض .. الخ "
- كم جزءاً حفظت من القرآن ؟
- كم حزباً من القرآن تقرئين في اليوم ؟
- هل قرأت جميع الكتب والمجلات النافعة وسمعت الأشرطة النافعة الموجودة لديك ؟
- هل تداومين على شراء ما جدّ من المحاضرات للمشايخ الفضلاء ؟
- هل تقرئين الكتب المفيدة من الشعر ؟
- هل أنت مُجيدة لمهارة الخياطة أو عمل التصميمات والأشكال الإبداعية ، وهل تستغلين هذه المهارة لتزيين منزلك ؟
- هل فكرت في تنمية بعض مواهبك ككتابة الخواطر والقدرة على التعبير النافع ؟
وجميل أخيتي بعدها أن تصارحي نفسك بمدى حاجتك إلى الدش في منزلك .
أما النقطة التالية فهي قولك ( فنحن البنات لا نعرف كيف نقضي أوقات فراغنا ، على عكس الشباب الذين يذهبون إلى أماكن من غير رقيب ويسهرون الليل ، بينما نحن البنات في حسرة وألم ) ..
اسمحي لي هنا أن أعارضك في فكرتك ، فإذا كان الشباب يذهبون إلى أي مكان دون رقيب ويسهرون الليل كما تقولين ، فهل يعني ذلك أنهم يعرفون كيف يقضون وقت فراغهم ؟! لا يا أختي ، فهم هنا يدمرون وقتهم ودقائق حياتهم ، فماذا سيقولون عندما يسألهم الله تعالى عنها ؟
وكيف يا أخيتي تدّعين أننا معشر البنات في حسرة وألم ، ونحن والحمد لله نهنأ بحياة آمنة مطمئنة في ظل تعاليم ديننا العظيمة ، وفي ظل حياتنا .
هل تتحسرين وتتألمين أننا لسنا كأولئك الشباب الذين يسافرون ويسهرون دون استشعار لرقابة الله تعالى !
إنهم ليسوا في سعادة وهناء ، بل هي سعادة مؤقتة ثم ضيق وطفش ، إن رضا الإنسان بما قسمه الله تعالى له في الدنيا حتى بجنسه لحريّ أخيتي أن يجلب له السعادة والراحة ، فلنستغل نعم الله تعالى لرضاه ولننتفع بها .
أختي العزيزة .. إن الإنسان أياً كان بحاجة لرفقة صالحة تعينه على فعل الخير وتدعو له بظهر الغيب ، فابحثي عنها وتمسكي بها وتآخي معها ، تجدين طعماً للحياة عذباً في ظل الأخوة في الله تعالى مهما كانت الظروف .
وأنصح بالإطلاع على كتاب ( الوقت عمار أو دمار ) لمؤلفه : جاسم المطوع .
أم بشار / سلطنة عمان
مجلة الأسرة العدد 87
=============(34/216)
(34/217)
قتل المرتد إذا لم يتب
تمهيد
إذا ثبتت الردة على الشخص ترتب عليها أحكام دنيوية وأحكام أخروية.
وأهم الأحكام المتعلقة بالآخرة حبوط العمل والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?. [البقرة:217].
أما الأحكام المتعلقة بالدنيا فكثيرة نذكر أولا: قتل المرتد إذا لم يتب، ثم نذكر ما تيسر منها في مباحث أخرى.
إن قتل المرتد إذا لم يتب من ردته، حكم ثابت في أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وعمل بها الصحابة رضي الله عنهم في زمن الخلفاء الراشدين، وبعد عهدهم رضي الله عنهم، وأطبق عليها جماهير أهل العلم، ونقلوا عليه الإجماع في المذاهب الإسلامية المعتبرة.
وهو مما يحسم تذب ضعاف الإيمان، ويجعلهم يظهرون لأمتهم ولغيرها الثبات على مبدأ الإسلام العظيم.
وإن الثبات على المبدأ والصبر عليه، يجعل غير أهله يفكرون في شأنه ويبحثون عن سبب الثبات عليه، ويغريهم ذلك بالدخول فيه.
وعلى علماء المسلمين تقع المسئولية العظمى في الثبات على المبدأ وتثبيت أهله عليه، بعدم التنازل عن ثوابته في تعليمهم وإفتائهم وقضائهم ونصحهم لمن بيدهم الأمر في مراعاة أحكام الإسلام وتنفيذها، ففي الثبات على المبدأ والصبر عليه وتثبيت أمته عليه يكمن بقاء هذه الأمة وفلاحها ونجاتها من الامحاق والذوبان.
ولقد ثبت أهل الإيمان على إيمانهم رغم ما لاقوا من محن وأذى.
من أوضح الأدلة على ذلك قصة أصحاب الأخدود، التي كان سببها ذلك الغلام الذي ثبت على دينه، مع شدة ما لقيه من تعذيب الملك الظالم الجبار الذي اتخذ كل وسيلة لقتله، فلم ينجح في ذلك، حتى قال له الغلام: إذا شئت أن تقتلني فاجمع الناس، وقل: بسم الله رب الغلام وارمني بقوسك، ففعل الملك ذلك فمات الغلام، فقال الحاضرون من الناس: آمنا برب الغلام....
والقصة في صحيح مسلم (4/2300) وساقها المفسرون في سورة البروج، عند قوله تعالى: ?قتل أصحاب الأخدود...?
وهذا بخلاف المبدأ الذي يضطرب أهله، ولا يثبتون على منهجه، فإن الناس يزهدون فيه وينفرون منه، ويقولون في أنفسهم: لو كان حقا لثبت عليه أهله، ولم يخرجوا عن صراطه.
فهل يليق بالأمة الإسلامية أن تترك أبناءها يحققون لأعدائها هذا الهدف الخطير، بخروج من نشأ منهم مسلما في أسرة مسلمة عن الإسلام، أو من دخل في الإسلام من غير المسلمين مختارا مقرا بأن هذا الدين هو الدين الحق، عالما بكل ما يترتب على إسلامه من أحكام وجزاءات، ثم يخرج منه.
ولقد شكك في قتل المرتد طائفتان
الطائفة الأولى: أعداء الإسلام والجهلة من أبنائه فيه، وزعموا أن للمسلم الحق في تغيير دينه إلى أي دين آخر، ادعاء منهم أن ذلك من أهم حقوق الإنسان التي تمنحه حرية التدين، وبناء على ذلك يرون أن للمسلم أن ينتقل من دين الإسلام إلى أي دين من الأديان من الأديان السماوية المحرفة، كاليهودية والنصرانية، أو العقائد الوثنية كالهندوسية والبوذية وغيرها.
الطائفة الثانية: بعض العلماء المعاصرين الذين تأولوا بعضا من عمومات النصوص، مقدمين لها على نصوص أخرى خاصة صحيحة في نفس الموضوع، وزعموا أن المسلم إذا غيير دينه إلى غيره من الأديان لا يقتل من أجل ذلك، ويمكن عقابه تعزيرا، ومنهم من رأى عدم معاقبته مطلقا على ذلك، ولو بتكرار استتابته، كما قال بعضهم:
"ولا أنكر أن بعض أولئك المنافقين كانت التوبة تبسط لهم فيتوبون، ولكن هذه التوبة المبسوطة لهم كانت توبة اختيارية لا يكرهون عليها بسيف ولا غيره من وسائل الإكراه، وهذا هو ما أذهب إليه في ثبوت الحرية الدينية للمرتد، فلا أريد إلا أن تكون توبته اختيارية كتوبة أولئك المنافقين، فيدعى إلى العودة إلى الإسلام بالتي هي أحسن، ولا يكره عليها بقتل كما يذهب إليه بعضهم، "ولا بحبس أنفسنا عليه باستتابة دائمة كما يذهب إليه القائلون بهذه الاستتابة، لأن فيها شبه إكراه له، ونحن نريدها حرية دينية كاملة غير منقوصة..." وخالصة من الإكراه وشبه الإكراه، ليكون الإسلام وحده دين الحرية، ويمتاز بهذا على غيره من الأديان، وتكون مفخرة له على طول الزمان." [[الحرية الدينية للشيخ عبد المتعال الصعيدي ص: 148دار المعارف بمصر]
ويرى أن في عقابه على خروجه من الإسلام إلى غيره، يعتبر اعتداء على الحرية الدينية التي يرون أن نصوص القرآن كفلت ذلك له، كما كفلتها له مبادئ حقوق الإنسان."
ترجيح وأدلة:
والذي نراه وندين الله به أنه إذا ثبتت الردة على من كان مسلما في الأصل، أو دخل في دين الإسلام حرا مختارا، وفهمه حق الفهم، وفهم ما يترتب على إسلامه، ومن ذلك حد المرتد عن الإسلام، أن هذا الحكم إذا توفرت شروطه ثابت لا مراء فيه.(34/218)
أما إذا كان حديث عهد بالإسلام، لم يفهم حقيقته وما يترتب على إسلامه فلا يقتل بل ينصح بالبقاء على الإسلام ويبين له ما فيه من المحاسن وما في تركه من المساوي، فإن رجع إلى الإسلام فبها ونعمت وإن أبى خلي سبيله.
ولا يجوز أن نَخضَع لآراء أعداء الإسلام، ولا من حاول اقتحام عقبة الفتوى فيما لا ناقة له ولا جمل من أحكام الإسلام، كما لا نعذر من ادعى أنه طبيب مختص وهو يجهل الطب، وعبث في أجساد البشر فأفسدها.
ولكنا نعذر من تأول نصوص القرآن مجتهدا من علماء الإسلام، ونرجو الله أن يغفر له خطأه، معتمدين على قول الباري الرحيم: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [البقرة (286)] وقول الله في جواب هذا الدعاء: (قد فعلت) [صحيح مسلم (1/116) وقول رسوله الكريم: (تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [المستدرك على الصحيحين (2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
أدلة قتل المرتد إذا توفرت شروط قتله
سبق أن للمرتد أحكاما في الدنيا وأخرى في الآخرة، والذي يعنينا في هذا الكتاب، هو أحكام الدنيا، أما أحكام الآخرة فهي موكولة إلى الله تعالى، والذي نعلمه من كتابه من حكم الله تعالى على من ارتد عن الإسلام أمران:
الأمر الأول: حبوط العمل.
الثاني: والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?. [البقرة:217].
ومن أحكام المرتد في الدنيا: قتله بعد استتابته وإصراره على كفره.
ومن الأدلة الصحيحة على هذا الحكم ما يأتي:
الدليل الأول: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم
أولها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَال: قال: رسول ا صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة) [(صحيح البخاري (6/2521) و صحيح مسلم (3/1302)
ثانيها: حديث: عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ بن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم لأن صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) [صحيح البخاري رقم(2854 (3/1098)
ثالثها: ومن أصرح الأدلة في ذلك، التنصيص على قتل الرجل والمرأة المرتدين، كما وقع في بعض الروايات في حديث معاذ عندما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.. وقال له: ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها).. ذكر هذه الرواية الحافظ في فتح الباري وحسنها. [فتح الباري (12/272)
رابعها: حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت. [سنن الدارقطني (3/118) وسنن البيهقي الكبرى (8/203)]
خامسها: فعل الصحابيين الجليلين: أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وقد صرح فيه معاذ بن جبل أنه قضاء الله ورسوله.
كما روى ذلك أبو موسى وفيه: (اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال أنزل وإذا رجل عنده موثق قال ما هذا قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال اجلس قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل) [صحيح البخاري (6/ 2537) وصحيح مسلم (صحيح مسلم (3/1456) قال الحافظ رحمه الله: "وبين أبو داود في روايته أنهما كررا القول أبو موسى يقول اجلس ومعاذ يقول لا أجلس. فتح الباري (12/274)]
وتكرار معاذ لأبي موسى أن هذا الحكم هو قضاء الله ثلاث مرات، يدل على أنه علمه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس مجرد اجتهاد منه.
وذكر الدكتور يوسف القرضاوي عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: ابن عباس وأبو موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة .رووا قتل المرتد، ثم قال: "وحديث قتل المرتد رواه جمع غفير من الصحابة، ذكرنا عددًا منهم، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة."
الدليل الثالث: إجماع الأمة على قتل المرتد الذي توافرت فيه شروط القتل: سبقت الأدلة الثابتة الصحيحة الصريحة من أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ، على وجوب قتل المرتد بعد استتابته، وقد طبق ذلك أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد وفاته، وأجمع العلماء على ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقال صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا" [المغني (9/16)]
قال الدكتور يوسف القرضاوي:(34/219)
"ثانيًا: أن من مصادر التشريع المعتمدة لدى الأمة مصدر الإجماع. وقد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب، السنية وغير السنية، والفقهاء من خارج المذاهب على عقوبة المرتد وأوشكوا أن يتفقوا على أنها القتل، إلا ما رُوي عن عمر والنخعي والثوري ولكن التجريم في الجملة مجمع عليه."
قلت: وكل من روي عنه عدم القتل روي عنه عكس ذلك، وهو القتل، والذي ري عن عمر رضي الله عنه هو حبسه قبل قتله رجاء أن يتوب، وليس ترك قتله مطلقا، وهذا نص ما نقل عنه رضي الله عنه:
"قدم مجزأة بن ثور أو شقيق بن ثور على عمر يبشره بفتح تستر فقال له عمر هل كانت مغربة يخبرنا بها قال لا إلا أن رجلا من العرب ارتد فضربنا عنقه قال عمر ويحكم فهلا طينتم عليه بابا وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا وسقيتموه كوزا من ماء ثلاثة أيام ثم عرضتم عليه الإسلام في الثالثة فلعله أن يرجع اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أعلم" [المحلى 11/191)]
فقوله "ثم عرضتم عليه الثالثة، فلعله أن يرجع" ظاهر في أنه يرى عرض التوبة عليه ثلاثا، لعله يرجع، فإذا لم يرجع بعد استتابته ثلاثا، قتل.
وفي رواية عن عمر زيادة: " فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه" [التمهيد (5/307)] أي قطعتم عذره الذي يستحق بقطعه قتله.
وقد صرح بقتله إذا لم يرجع في رواية أخرى.
قال: "أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثم استتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه ثم قال اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني أو قال حين بلغني" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)
وتؤكد هذا المعنى عن عمر ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال "كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب أن رجلا يبدل بالكفر بعد إيمان فكتب إليه عمر استتبه فإن تاب فاقبل منه وإلا فاضرب عنقه"
وبذلك جزم ابن عبد البر رحمه الله، فقال:
"قال أبو عمر يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فان لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول ا صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاضربوا عنقه" [الاستذكار (7/154)]
وأما ما نقل عن الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، فبرد عليهم بروايات عنه تعارض ذلك النقل، بل يرى قتل الرجل المرتد و المرأة المرتدة التي خالف في قتلها الحنفية.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "واختلف الفقهاء أيضا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرا" [التمهيد (5/312) وممن نسب إلى النخعي قتل المرأة الحافظ ابن حجر رحمه الله فتح الباري 12/268]
وجزم ابن حجر رحمه الله أن الرواية المثبتة عنه لقتل المرتد والمرتدة أقوى من الرواية النافية عنه، بل ضعف الرواية النافية عنه.
قال رحمه الله:
"وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال إذا أرتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فان تابا تركا وأن أبيا قتلا وأخرج بن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا يقتل والأول أقوى فان عبيدة ضعيف وقد اختلف نقله عن إبراهيم" [فتح الباري (12/268)]
ولهذا يجب حمل ما روي عنه من أن المرتد يستتاب أبدا أنه إذا تكررت منه الردة، يستتاب في كل مرة، وليس المراد الاستمرار في استتابته من ردة واحدة طول حياته، لأن قوله: يستتاب أبدا، مجمل، والرواية السابقة التي رجحها ابن حجر مُبَيِّنة، ومعروف أن المجمل يحمل على المبين. [مصنف ابن أبي شيبة (6/440)]
وبهذا يظهر ثبوت الإجماع، وأن من روي عنه القول بعدم قتل المرتد، عارضه ما روي عنه من قتله، وترجح الروايات بالقتل على الروايات بعدمه، لموافقتها للسنة الصحيحة الثابتة عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، وتطبيق صحابته وغيرهم لما ثبت عنه في حياته وبعد مماته
ثم لو فرضنا ثبوت القول بعدم قتل المرتد عن فرد أو أفراد من العلماء، فلا حجة في ذلك لإطباق غيرهم على القول بقتله، ولثبوت قتله عن الرسو صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته.
تقتل المرتدة إذا لم تتب كالمرتد
والأحاديث الواردة في قتل المرتد شاملة للذكر والأنثى جميعا، إما بصيغ عمومها، كقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) وإما بذكرها نصا مع الرجل كما مضى.
ويدل على استواء المرتد والمرتدة في الحكم، أن الحدود تقام عليهما جميع، فالزانية تحد جلدا ورجما كالزاني وكذا القاتلة عمداً تقتل كما يقتل الرجل، ولا يقال: إن هذا استدلال بدلالة الاقتران والاستدلال بها ضعيف، لأن ضعف دلالة الاقتران عند من يقول به من العلماء، إنما يكون حيث يستدل بها عارية عن أدلة ثابتة غيرها، والأدلة هنا ثابتة كما ترى.
وإذا أنعمت النظر في هذه الأدلة وجدت كل واحد منها صالحاً للاحتجاج به على حدة فكيف بها مجتمعة..؟ وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" يشمل الذكر والأنثى، لأن "من" اسم موصول، وهي من صيغ العموم، كما قال في مراق السعود:
ومَا شُمُولُ "مَنْ" لِلُانثى جَنَفُ.
أي إن شمول من للذكر والأنثى ليس فيه ميل عن جادة الصواب.(34/220)
وكذلك قول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة) لفظ "امرئ" يشمل كذلك الذكر والأنثى.
وقد فسر العلماء لفظ "امرئ" بـ"نفس" كما في تفسير ابن كثير:
(4/ص243)
وذهب أبو حنيفة رحمه الله، إلى أن المرأة لا تقتل بل تحبس ويضيق عليها حتى تتوب، و استدل على ذلك بالنهي عن قتل النساء وبأن المرأة لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالكفر الطارئ.
وهذا الاستدلال غير ناهض، فالنهي ورد في الكافرة الأصلية كما هو واضح في القصة التي ورد النهي بسببها..
ولو فرضنا العموم لكان الأمر بقتل المرتد معارضاً له بعمومه.. فكيف وقد ورد الأمر بقتل المرتدة بخصوصه؟
ثم إنه يفرق بين الكفر الأصلي والكفر الطارئ من وجوه أهمها:
أن الرجل يقر على كفره الأصلي ولا يقر على الكفر الطارئ. [فتح الباري (12/272) المغني (9/3) المقنع (3/516) فتح القدير (6/71)].
وقال القرطبي رحمه الله: "واختلفوا في المرتدة:
فقال مالك والأوزاعى والشافعى والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) و"مَن" يصلح للذكر والأنثى.
وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول بن شبرمة، وإليه ذهب بن علية وهو قول عطاء والحسن، واحتجوا بأن ابن عباس روى عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه)
ثم إن بن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن على مثله، ونهى r عن قتل النساء والصبيان.
واحتج الأولون بقوله عليه السلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان) فعم كل من كفر بعد إيمانه وهو أصح" [تفسير القرطبي (3/48)]
وقال ابن الأمير رحمه الله:"ذهب الجمهور إلى أنها تقتل المرأة المرتدة، لأن كلمة "مَن" هنا تعم الذكر والأنثى، ولأنه أخرج بن المنذر عن بن عباس راوي الحديث أنه قال: تقتل المرأة المرتدة، ولما أخرجه هو والدارقطني، أن أبا بكر رضي الله عنه، قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد، وهو حديث حسن" [سبل السلام (3/265)]
والخلاصة أن المرتد عن الإسلام، رجلا كان أو امرأة يجب قتله إذا استتيب فلم يرجع، والأدلة على ذلك واضحة كما مضى.
آراء شاذة في قتل المرتد:
ومع ثبوت الأدلة الصحيحة وتعددها على قتل المرتد، فقد ظهرت آراء شاذة مخالفة لهذا الحكم، نجمل أدلتها فيما يأتي، مع مناقشة كل دليل منها على حدة بإذن الله.
الرأي الأول: التفريق بين الخروج من الإسلام والخروج عليه، هذا الرأي يعتبر الردة عن الإسلام من الأفراد الذين لا يدعون إلى الدين الذي خرجوا إليه من، لا يقام عليهم حد الردة، وعللوا هذا الرأي بأمرين:
الأمر الأول: أنهم خرجوا من الجماعة ولم يخرجوا عليها، فلم يحدثوا بذلك ضررا على غيرهم، بل أحدثوه على أنفسهم.
الأمر الثاني: العمل بمبدأ الحرية الدينية كما سيأتي الكلام عنه قريبا.
واستدلوا في زعمهم بأدلة:
الدليل الأول: من القرآن الكريم: مثل قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ? [البقرة (256)] ورأوا أن إكراه المرتد على الرجوع إلى الإسلام، هو إكراه له على الدخول في دين لا يرضى الدخول فيه، وفيه مصادرة للحرية الدينية.
والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا نص عام يشمل الكافر الأصلي الذي لم يسبق له الدخول في الإسلام، ويشمل من دخل في الإسلام ثم خرج منه إلى أي دين غيره.
والقاعدة الأصولية أن النص الخاص يُخرج ما دل عليه من النص العام، ويبقى العام دالا ما عدا ما أخرجه النص الخاص، وعلى هذا يكون عدم الإكراه مقصورا على من لم يدخل الإسلام أصلا، ويخص بالقتل من خرج من الإسلام من المسلمين، عملا بالأدلة السابقة من الأحاديث الصحيحة والعمل بها في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، ومن تبعهم، وما قام على العمل بها من إجماع الأمة.
الوجه الثاني: أن الحرية الدينية يجب أن تقيد بما قيدته به الشريعة، والشريعة قيدت هذه الحرية بمن لم يدخل في الإسلام أصلا، أما المسلم أصلا، أومن دخل فيه مختارا عالما حقيقته وما تترتب عليه من أحكام، ومنها حكم المرتد الذي بينته الأدلة، فليس له نصيب من هذه الحرية، لأنه دخل في الإسلام مختارا عالما أنه لا يجوز له الخروج منه، وأنه يترتب على خروجه منه قتله إن لم يرجع إليه.
الوجه الثالث: أن الإنسان ليس حرا فيما يضر به نفسه لأن نفسه ليست ملكا له يتصرف فيها كما يشاء، فليس له حق أن يجرح نفسه بدون سبب أو يقتلها، ولا أن يحرق أمواله، ولا يتعاطى ما يذهب عقله، ولو لم يضر غيره بذلك، فتعاطيه لما ضرره عليه أعظم وهو الخروج من الإسلام من باب أولى، وقد شرع الله تعالى عقوبة، لهذه الجريمة، يجب الأخذ بها وتنفيذها.(34/221)
الوجه الرابع: تعليلهم بأن المرتد لا يقتل لأنه لم يحرج على الإسلام وإنما خرج منه، وأن ردته "ليس فيها استهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدا للأمة، أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
نقول لهم: أي استهزاء بالدين أعظم من أن يخرج منه من دخل فيه باختياره دون إكراه وهو يعلم أحكام شريعته، ومنها قتل المرتد، أو نشأ في بيئة إسلامية وذاق فيها حلاوة الإسلام وخصائصه التي لا توجد في أي دين سواه في الأرض؟
وكيف لا تمثل ردة الأفراد تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ونحن نرى تهديد الأمة وكيان الدين من قوم بين أظهرنا، لا يزالون يدَّعون الإسلام، ويقفون في صف من يحاربون تطبيق الإسلام من أعداء الإسلام، باسم الحداثة والحرية وحقوق الإنسان؟
هل المرتد عن الإسلام سيحمي الإسلام، أو سيقف محايدا لا ينصر أعداء الإسلام؟
وهل سيترك الدعوة إلى دينه الجديد سرا أو جهرا، وبخاصة في هذا العصر الذي يدعم أعداء الإسلام أي فرد أو جماعة تعارض هذا الدين أو شيئا منه، حتى يصح القول: "فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية" وأن "فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
وقد خالف أستاذنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - مع ميله إلى عدم قتل المرتد الذي لم يقم بالدعوة إلى الدين الذي ارتد إليه كما يأتي - خالف التهوين من شأن الردة الفردية التي يقال عنها: إنها خروج من الدين وليست خروجا عليه، فقال:
"ولا بد من مقاومة الردة الفردية وحصارها، حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها، وتغدو ردة جماعية، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ومن ثم أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية......"
ثم قال:
"سر التشديد في عقوبة الردة
وسر التشديد في مواجهة الردة أن المجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده.
ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية، ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم في نظر الإسلام؛ لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي حرص الإسلام على صيانتها عبر كل نسقه التشريعي والأخلاقي، وهي: "الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، والدين أولها؛ لأن المؤمن يضحي بنفسه ووطنه وماله من أجل دينه.
والإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، ولا على الخروج من دينه إلى دين ما؛ لأن الإيمان المعتد به هو ما كان عن اختيار واقتناع.
وقد قال الله تعالى في القرآن المكي: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، وفي القرآن المدني قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).
ولكنه لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدًا على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72(. انتهى
[المرجع: الإسلام على الطريق.]
ونحن نقول للذين يرون أن ردة الأفراد لا يكون فيها ضرر على غيرهم، ولا يصدر منهم استهزاء بالدين: كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟ وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال بعض الكتاب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
الدليل الثاني: ومن أدلتهم على عدم قتل المرتد، أن الرسو صلى الله عليه وسلم ، لم يقتل أحدا من المنافقين الذين كفروا بعد إسلامهم، مع علمه بكفرهم، وقد وصفه أحدهم بالجور -حاشا صلى الله عليه وسلم -
كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما كان يوم حنين، آثر رسول ا صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.(34/222)
قال فقلت: والله لأخبرن رسول ا صلى الله عليه وسلم ، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قَال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) قال ثم قال: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [صحيح البخاري (3/1148) و صحيح مسلم (2/739)]
وجه استدلالهم بالحديث أن الرجل وصف الرسو صلى الله عليه وسلم بالجور، وهو مقتض لكفره، ومع ذلك لم يأمر بقتله، وهو دليل على أن المرتد عن الإسلام لا يقتل، ولو كان قتله واجبا لما تركه الرسو صلى الله عليه وسلم .
وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، بأن ترك قتله كان للتأليف، كما خص بعض حديثي الإسلام بالعطاء تأليفا لهم، وساق حديثين لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرج أحدهما الطبراني، و في آخره زيادة : "فغفل عن الرجل فذهب، فسأل صلى الله عليه وسلم عنه فطُلب فلم يُدرَك" قال الحافظ: "وسنده جيد"
وأخرج الحديث الثاني الإمام أحمد، وفيه أمر الرسو صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بقتل رجل فوُجد يصلي متخشعا، فكرهوا لذلك أن يقتلوه، فقال: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون) وهذا نص ما ذكره الحافظ رحمه الله:
"تنبيه"
جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى، تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد، قال: جاء أبو بكر إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله: إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه.
فقال (اذهب إليه فاقتله) قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله، فرجع.
فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: (اذهب فاقتله) فذهب فرآه على تلك الحالة، فرجع.
فقال: (يا علي اذهب إليه فاقتله) فذهب علي فلم يره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية) وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات.
ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول، وكانت قصته هذه الثانية متراخبة عن الأولى، وأذن r في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع، وهي التألف فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام، كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك.
وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن لا يكون لا يصلي، فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي.
ثم وجدت في مغازي الأموي من مرسل الشعبي في نحو أصل القصة ثم دعا رجالا فأعطاهم، فقام رجل فقال: انك لتقسم وما نرى عدلا، قال: (إذًا لا يعدل أحد بعدي) ثم دعا أبا بكر فقال: (اذهب فاقتله) فذهب فلم يجده، فقال: (لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم) ["فتح الباري" (12/298-2299)]
الدليل الثالث: من السنة أيضا، وهو أن أعرابيا بايع رسول ا صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها) [صحيح البخاري، برقم (6891) وصحيح مسلم، برقم (1383)]
قال النووي في معنى "ينصع": "هو بفتح الياء والصاد المهملة، أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، ومنه قولهم ناصع اللون أي صافية وخالصة، ومعنى الحديث: أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه"]
وجه الدلالة عند من استدل بالحديث، أن هذا الرجل طلب من الرسو صلى الله عليه وسلم أن يقيله من الإسلام، وهذا الطلب يعتبر ردة، ومع ذلك لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه خرج عن الإسلام ولم يخرج عليه.
قال المستدل: "دلت النصوص التي سنورد بعضًا منها في النقطة الخامسة على هذا التفريق، فالقتل يكون لمن خرج على الإسلام وقصد الإساءة أو العبث بالدين، أو مسَّ أمن وسلامة الأمة ونظام الدولة، كما أنه يُعدُّ جرمًا ضد نظام الحكم في الدولة، وخروجًا على أحكام الدين الذي تعتنقه الأمة، ويُعتَبر حينذاك مرادفًا لجريمة "الخيانة العظمى" التي تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين، وهذا العقاب لم يكن مقتصرًا على الدول التي يقوم الحكم فيها على أساس الدين." [المرجع: موقع الإسلام على الطريق
http://www.islamonline.net/Daawa/A r abic/display.asp?hquestionID=5625
وأرى أن هذا استدلال بعيد، لأربعة أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن هذا الأعرابي طلب من الرسو صلى الله عليه وسلم إقالته من البقاء في المدينة، ولم يصبر على ما أصابه فيها من المرض، لضعف إيمانه ولم يطلب الإقالة من الإسلام، وهذا ما فهمه جماهير العلماء، ومنهم شراح الحديث.
قال النووي رحمه الله:(34/223)
"قال العلماء: إنما لم يقله صلى الله عليه وسلم بيعته، لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره.
قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع صلى الله عليه وسلم على المقام معه.
قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة، وسقوط الهجرة إلي صلى الله عليه وسلم ، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه، فلم يُقِله، والصحيح الأول ... " [شرح النووي على صحيح مسلم (9/155-156)]
وقال الحافظ في شرح هذا الحديث: "قال بن التين إنما امتنع صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان.
قال [أي ابن التين] وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى: ?والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا? فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح)ففي هذا إشعار بان مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال بن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور.
وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها..." [فتح الباري 13/200)]
وقال الحافظ في شرح رواية البخاري: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة" [فتح الباري (4/97)]
الأمر الثاني: ما ورد في قصة معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، عندما بعثهما الرسو صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، "فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ لأضربن عنقه" [صحيح البخاري، برقم (4088)]
وفي رواية: "فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه، قضى الله وقضى رسوله" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)]
وكلمة "قضى" تدل على أن قتل المرتد هو حكم قضائي يجب على ولي الأمر تنفيذه، وليس هو من باب التعزير كما زعم بعض الكتاب المعاصرين.
فهذا يهودي واحد خرج عن الإسلام، ولم يذكر في الحديث ما يدل على صفة أخرى استحق بها القتل غير الردة، ولو كان المرتد لا يقتل إلا إذا ضم إلى خروجه من الإسلام خروجه عليه، لذكر ذلك أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما...
الأمر الثالث: الأحاديث الصحيحة العامة في قتل من كفر بعد إيمانه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان)
فتبديل المسلم دينه، وهو كفره بعد إيمانه، وصف كاف في استحقاقه القتل، كما سبق...
ولو كان يجب ضم معنى آخر إلى معنى الردة، لنص عليه الرسو صلى الله عليه وسلم ، ولم يرتب الحكم الذي تزهق به الأرواح على معنى ناقص، يتنزه عنه شرع الله.
الأمر الرابع: لو فرضنا أن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام كما جزم به القاضي عياض، فيجب حمله على أنه كان من المنافقين الذين كف الرسو صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وعاشرهم كما عاشر عامة المسلمين، وبخاصة أن الرجل لم يعلن تركه الإسلام، وإنما اكتفى بخروجه بدون إذن من الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[صحيح البخاري (صحيح البخاري، برقم (4622) وصحيح مسلم، برقم (2584)]
الدليل الرابع: دليل عقلي عندهم، وهو أن العلماء أجمعوا على اشتراط الاختيار في صحة الإسلام، فهو شرط في صحة إسلام كل شخص سواء أكان ممن لم يسبق منه إسلام أم كان ممن سبق منه وارتد منه وحينئذٍ لا يصح أخذ المرتد إلى الإسلام بالإكراه كما لم يصح فيما سبق إكراه من لم يسبق منه إسلام على الإسلام، لأنه يكون إسلاماً باطلاً لا فائدة فيه، ولا ينجي صاحبه من عقاب الله تعالى في الآخرة، وحينئذٍ يكون من العبث إكراهه عليه.
والجواب على هذا الاستدلال: أن نقول: ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ? [(140) البقرة]
إن بقاء الإنسان في الظاهر على إسلامه، مختلط بأسرته، وبمجتمعه الإسلامي في المساجد والمناسبات الجماعية، وحضور دروسهم ووعظهم وإرشاده، قد يحرك فيه عاطفة سبق أن تلبس بها، وقد يدعوه تفكيره وعقله إلى الموازنة بين الإسلام الذي كان عليه، وبين الدين الذي رجع عنه، فيبدأ إيمانه يقوى حتى يعود إلى الإيمان الحق، فيثبت في قلبه، وقد يفوق في قوة إيمانه غيره من المسلمين.(34/224)
بخلاف ما إذا انتقل إلى أهل الدين الجديد وخالطهم، فإنه سيلقى منهم الفرح والسرور بردته، وسيشجعونه على الاستمرار على دينهم، وقد يغروته بالمناصب والأموال والشهوات والشبهات التي تجعله يستمر في ردته وتأييده لأهل الملة الجديدة، وهذا ما نشاهده في واقع الحال في أي مرتد يلجأ إلى أهل الدين الجديد.
ونحن نعلم أن غالب أحكام الشريعة، واضحة الحكم والمصالح، وقليل منها قد لا ندرك حكمته، فنقبله مستسلمين لله تعالى في تشريعه، لعلمنا أن الدين كله حق، وما ذكرنا يظهر لنا شيئا من حكمة قتل المرتد وإجباره إلى الرجوع إلى الإسلام، ولو فرضنا أنما ذكرناه غير صحيح وأن الحكمة لم تظهر لنا فيه، فالواجب علينا التسليم المطلق لشرع الله، وقد الذي ثبت بسنة رسوله الصحيحة، وهي وحي كالقرآن إلا أن القرآن يتعبد بتلاوته، بخلاف السنة.
الدليل الخامس : أن الذي يكره على الرجوع إلى الإسلام، سيكون في واقع الأمر باقيا على معتقده، وإظهاره الإسلام يكون من باب النفاق، وهذا يقتضي أن يكثر المنافقون في صف المسلمين، يتتبعون عوراتهم ويتجسسون عليهم لأعدائهم، أفلا يكون وضوح كفرهم أولى ليتمكن المسلمون من الحذر منهم
والجواب على ذلك أنه لا تخلوا الأمة الإسلامية من وجود منافقين في صفوفها من عهد الرسو صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وسيستمر ذلك، ونحن لا نيأس من هداية الله لمنافق يوجد بين المسلمين كما مضى.
وقد يتوب بعض المنافقين وتحسن توبته وإسلامه، قال أبو عطية الأندلسي رحمه الله:
"وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص وحسنت توبته" [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/61)]
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان، أو من تظهر عليه سمات النفاق، بين الجماعة المسلمة، خير له وللأمة من إعلانه ترك دينه، لأنه يرجى له بما معه من إيمان ضعيف أو ما اعتراه من صفات المنافقين، أن يقوى إيمانه المؤمن ويموت على الإسلام، وأن تتغلب عاطفة الإيمان على صفات المنافقين، فينجوان من الخلود في جهنم، ويبقيان مكثرين لسواد المسلمين، مشاركين لهم في تعاونهما معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانهما، ولو فرض أنهما لم يتعاونا مع المسلمين، فإنهما بحكم انتمائهما الظاهر إليهم قد يتورعان عن التعاون مع أعدائهم عليهم...
والغالب أن بلدان المسلمين لا تخلو من رعايا غير مسلمين، يجب أن يحتاط المسلمون من كيد من يريد الكيد بهم، والغالب أن المنافقين تظهر على معاشرتهم قرائن تدل على نفاقهم، فليحتاطوا منهم كما احتاطوا من غير المسلمين، والدول غير المسلمة، تجند كثيرا من المسلمين للتجسس لها، وكثير منهم لا يظهرون لعامة الناس إلا بعد انتهاء مهمتهم والكشف عنهم.
وضعاف الإيمان في البلدان الإسلامية إذا عرفوا أن عقوبة المرتد القتل إذا لم يتب سيقَدَّرون لأرجلهم مواضعها قبل أن ينزلقوا في إظهارهم الكفر، والذين يظهرون الكفر اليوم غالبهم ينضمون إلى أهل ملتهم الجديد ويظاهرونهم على أهل بلدانهم علنا، لعلمهم أنهم سيفلتون من العقوبة.
الدليل السادس: أن أحاديث قتل المرتد، أحاديث آحاد، ودليل عدم إكراه المرتد على الدخول في الإٍسلام من القرآن والقرآن متواتر، فيجب ترجيحه على أحاديث الآحاد.
والجواب من أوجه:
الوجه الأول: أننا لا نحتاج إلى ترجيح المتواتر على الآحاد إلا إذا تعارضا تَعارضا لا يمكن فيه الجمع بينهما، وهنا قد أمكن الجمع وهو تقديم الخاص على العام كما مضى، ومضى الكلام على هذه القاعدة في مبحث الخوارج والمعتزلة.
الوجه الثاني: أن غالب الأحكام الشرعية لم تنقل بالتواتر، بل نقلت جمهرتها عن طريق الآحاد، ولو اتبعنا مسلم من يشكك في أخبار الآحاد، لضاع غالب الأحكام الشرعية، فلا يلتفت إلى هذا المسلك إلا عند التعارض المستعصي على الجمع أو النسخ.
الوجه الثالث: أن أئمة الإسلام قد ردوا هذا المسلك ردا حاسما، يدحض مذهب من يلجأ إليه لرد كثير من الأحكام الثابتة بدون مسوغ مقبول، ومن هؤلاء الأئمة الإمام الشافعي رحمه الله، حيث قال في كتاب "الرسالة":
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله من أدلة العمل بخبر الآحاد، حديث ابن سعود رضي الله عنه فقال: "فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع(34/225)
فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من روائهم، فلما ندب رسول الله إلى استمع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها والامرء واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا [الرسالة (1/401) -403]
وقال بعد ذلك "أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر انه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قَال قال النبي (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وقد ساق في الرسالة تلك الحجج [من صفحة 369 إلى صفحة 471 أي في "102" من الصفحات] أمثلة كثيرة من القرآن والسنة، ومن مذاهب فقهاء الأمة، تدل على وجوب العمل بخبر الآحاد في عهد الرسول صلى الله، وفي عهد الصحابة وفي عهد التابعين فمن بعدهم إلى عصره رحمه الله. وفي كتابه "الأم" أمثلة كثيرة من تلك الحجج.
ولا زال علماء الأمة من المحدثين والأصوليين وغيرهم يرون وجوب العمل بما صح عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، ما تواتر منه ومال لم يتواتر.
وممن أخرج هذا الحديث الحاكم [المستدرك على الصحيحين، وقال: "وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" (1/190) وأبو داود في سننه (4/200) وغيرهم، فيجب التسليم للحديث الصحيح كالتسليم للقرآن، وسلوك مسلك الجمع بين ما قد يظهر فيه التعارض، ومن لم يظهر له الجمع فليدعه لمن يظهر له.
هذا وقد رجح شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في "مذكرة أصول الفقه" التي درسناها على يديه في الكلية أن خبر الآحاد ظني من حيث الثبوت أي مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر، قطعي من حيث العمل به.
قال: "الذي يظهر لي أنه هو التحقيق في هذه المسألة والله جل وعلا أعلم، أن خبر الآحاد الذي لم يبلغ حد التواتر، ينظر إليه من جهتين، هو من إحداهما قطعي، ومن الأخر ظني.
ينظر إليه من حيث إن العمل به واجب، وهو من هذه الناحية قطعي، لأن العمل بالبينات مثلا قطعي منصوص في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليه المسلمون وهي أخبار الآحاد.
وينظر إليه من ناحية أخرى، وهي: هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر.
فلو قتلنا رجلا قصاصا بشهادة رجلين فَقَتْلنا هذا له قطعي شرعا لا شك فيه، وصدق الشاهدين فيما أخبرا به، مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة.
ويوضح هذا قول صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع.
فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فليأخذها أو ليتركها"
فعَمَل صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعيُّ الصوابِ شرعا، مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس لأمر كما ترى. [مذكرة في أصول الفقه 116..]
الدليل السابع: أن القرآن الكريم لم يذكر عقابا للمرتد عن الإسلام في الدنيا، بل ذكر عقابه في الآخرة، مثل قوله تعالى:
?وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة (217)] وغيرها من الآيات، ولو كان للمرتد عقاب في الدنيا، لما أغفله القرآن الكريم، فلنسلك بالمرتد مسلك القرآن الكريم، فلا نعاقبه.
ولا أدري هل يريد هؤلاء أن يعطلوا كل حديث صح عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، لم يتبين لهم الجمع بينه وبين ما ورد في القرآن أولم يذكر في القرآن حكمه، ولا يقبلوا أحكام السنة التي لم ترد أحكامها في القرآن، وما فائدة السنة إذا عطلت أحكامها غير الواردة في القرآن؟
الدليل الثامن: أن باب الاجتهاد مفتوح، ولمن عنده أهلية الاجتهاد أن يخالف من سبقه ولو ادعي فيه الإجماع، بناء على استنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإعمال القياس الصحيح.
ونحن لا نحجر على من هو أهل للاجتهاد في أن يجتهد، ولا نقول: لم يترك الأول للآخر شيئا، بل نقول: كم ترك الأول للآخر، ولكن الاجتهاد لا قيمة له إذا عارض نصا صحيحا واضح الدلالة، كما هو الحال في موضوعنا هذا الذي استفاضت فيه الأحاديث الصحيحة وصح العمل به، وأجمعت عليه الأمة؟!
والعقل يجب أن ينتهي حيث انتهى الدليل الشرعي، وإلا ضل وهو لا يدري. [بينت مجال العقل وحدوده له الحق أن يسرح ويمرح فيها في كتابي"السباق إلى العقول" وقد طبع حديثا في دار ابن حزم في بيروت]
ولنعد للإمام الشافعي رحمه الله الذي حرص كل الحرص في جميع كتبه وحواراته على وجوب التمسك بسنة الرسو صلى الله عليه وسلم وعد مخالفتها، على كل من عرفها ثابتة صحيحة، قال:(34/226)
"وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو لازم لجميع من عرفه لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه ولم يجعل لأحد معه أمرا يخالف أمره" [الرسالة (1/330)
ولا شك أن الاجتهاد المخالف للنص باطل، و الأقيسة المخالفة له فاسدة.
الدليل التاسع: ومما استدل به أهل هذا الرأي قوله في الحديث السابق: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)
ووجه الدلالة عنده وصف (التارك لدينه) بـ(المفارق للجماعة)
حيث رأى أن المفارق للجماعة هو الخارج على نظامها قاصدا الإضرار بها، وليس مجرد تركه لدينها.
وهو يدعم بهذا الاستدلال قوله قبل ذلك:
" فـ"الخروج من الإسلام" بصورةٍ فرديةٍ ليس فيها الاستهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين، وإنما منبعها الوحيد شعور "المرتد" بعدم الاقتناع بالإسلام والاقتناع بغيره، فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية، فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
قال: "يوحي هذا الحديث بما نقول: (... والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فنص "المفارق للجماعة" يوحي بالانسلاخ من الكيان وإرادة الضرر به، فكان ترك الدين وحده ليس سببًا لحِلِّ الدم، بل يجب مفارقة الجماعة أيضًا، وقد نقل الإمام ابن حجر في "فتح الباري" عن الإمام القرطبيِّ قوله: "ظاهر قوله: (المفارق للجماعة) أنه نعتٌ للتارك لدينه"، أي تارك دينه الموصوف بأنه فارق الجماعة، وليس مجرد تارك دينه فقط." انتهى
والصحيح أن هذا الوصف: (التارك لدينه) وصف كاشف، أي مفسر للتارك لدينه، وليس وصفا مستقلا، وهو الذي رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال ابن دقيق العيد: رحمه الله مبينا هذا المعنى ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله، إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وكذلك المفارق للجماعة كالتفسير لقوله التارك لدينه والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل..." [إحكام الأحكام (4/83- 84)]
قال الحافظ رحمه الله: "والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة، وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك: (مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) فإنها صفة مفسرة لقوله: مسلم وليست قيدا فيه، إذ لا يكون مسلما إلا بذلك.
ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان: (أو يكفر بعد إسلامه) أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: (ارتد بعد إسلامه) وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة: (أو كفر بعد ما أسلم)
وفي حديث بن عباس عند النسائي: (مرتد بعد إيمان)
قال بن دقيق العيد: "الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل..." [فتح الباري [12/201 -202]
وقال أبو العلاء المبارك فوري رحمه الله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة): "أي تَركُ التاركِ، والمفارق للجماعة صفة مولدة للتارك لدينه، أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، وانفرد عن أمرهم بالردة، التي هي قطع الإسلام قولا أو فعلا أو اعتقادا فيجب قتله إن لم يتب" [تحفة الأحوذي (4/547)]
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: (المفارق للجماعة): "أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم وانفرد عن أمرهم بالردة" [عون المعبود (12/5)]
وقال البجيرمي الفقيه الشافعي رحمه الله:
"وقوله: (المفارق) صفة مؤكدة للتارك، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، فالتارك لدينه هو المفارق للجماعة".
وقيل هو من باب التأسيس لأن التارك لدينه قد لا يفارق الجماعة، كاليهودي والنصراني إذا أسلم، فهو تارك لدينه غير مفارق بل هو موافق لهم داخل فيهم، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد "شوبري" وهو بعيد لأن فرض الحديث في المسلم فلا يشمل غيره" [حاشية البجيرمي على كتاب الإقناع للماوردي (4/129)]
ومن العلماء المعاصرين الذين رجحوا أنه وصف كاشف، الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال:
"وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ؛ فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة".
[المرجع: الإسلام على الطريق:
http://www.islamonline.net/A r abic/contempo r a r y/2002/02/a r ticle2a.shtml ]
وإذا كان علماء المسلمين، قد نقل عنهم الإجماع قديما وحديثا على قتل المرتد، إلا من شذ - وفي صحة نسبة الخلاف إليه شك كما سيأتي - فكلهم على هذا الرأي، وهو أن "المفارق للجماعة" صفة مؤكدة أو كاشفة، وليست تأسيسية، لأنهم لو فهموا أنها تأسيسية لما أجمعوا على الاكتفاء بالردة في قتل المرتد، بل لا بد أن يجتمع الوصفان في من يستحق عقوبة القتل...
الدليل العاشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يقتل أحدا من المرتدين، ومنهم من عرفوا بالنفاق، مثل كبيرهم عبد الله بن أبي.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: يفينا أمره الصريح بقتل التارك لدينه، وقد سبقت الأحاديث المفيدة لذلك.(34/227)
الوجه الثاني: أمره بفتل أم مروان عندما ارتدت، إذا لم تتب، كما في حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت.
الوجه الثالث: أن صلى الله عليه وسلم ، كان يتألف الناس من أجل دخولهم في الإسلام، ويخشى إذا تسامع الناس بأن يقتل المنافقين ، وهم يظهرون الإسلام، أن ينفر من يريد الدخول في الإسلام، بسبب ذلك، ولهذا عندما كلن يستأذنه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
ومعلوم أن المنافقين لا يصرحون بأنهم ارتدوا عن الإسلام، وإنما كانت تظهر منهم قرائن، تدل على نفاقهم، فلم يكن يأخذ بتلك القرائن، مع ما يظهرونه من الإسلام الذي لم يكن إظهارهم له إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...? [المنافقون (1، 2)]
وقد سبق الكلام على معاشرت صلى الله عليه وسلم المنافقين بالتفصيل.
ما دخوله في الإسلام عقد لازم يجب لله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود? [المائدة (1)]
الوفاء به، لقول ال
من يرى عدم قتل المرتد مطلقا ووجه استدلاله
هذا وقد وجد في هذا العصر من أراد تعطيل قتل المرتد، بل يرى عدم عقابه مطلقا،
ثم يقولون: إن ذلك مخالف لما تضمنه القرآن الكريم، من النهي عن الإكراه في الدين، كما قال تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ? [البقرة (256)]
يضاف إلى ذلك ما هو معلوم من أن منع من أراد تغيير دينه إلى غيره من الأديان، وإلزامه بالبقاء على دينه الذي لم يعد يطمئن إليه، يبعث على نفاق وكثرة المنافقين بين المسلمين...
ونحن نرد على هؤلاء المشككين بالأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الحرية الحقيقية، لا توجد إلا في الإسلام، الذي حدد للمسلم معبودا واحدا، وهو الله مالك الملك الذي أراد من الإنسان أن يتحرر من كل معبود سواه، وأن تكون حياته كلها وتصرفاته ومآله إلى الله لا إلى سواه، كما قال تعالى:
?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ...? [الأنعام (164)]
والمسلم الذي يعبد الإله الواحد الحق، له منهج يهديه إلى ما ينفعه في دنياه وأخراه، ويمنعه من الظلم والإضرار بمن سواه...
أما الذي يخرج من دين يعبد فيه ربا واحدا، إلى دين يعبد فيه آلهة شتى، لا يمكن أن يكون حرا، بل هو عبد تتنازعه تلك الآلهة، فهو يعبد مخلوقات الله من أشجار وأحجار وحيوان، وملائكة وأنبياء، بدلا من عبادة خالق تلك المخلوقات.
كما يعبد هواه الذي لا يقف به عند حد من المتناقضات التي تحرمه الحياة المطمئنة، لأنه كلما تعاطى شيئا من الشهوات التي دفعه إلى تعاطيها هواه، تاقت نفسه لغيره فتتعدد شهواته بتعدد ما يميل إليه هواه، فلا يقنع بطعام ولا شراب ولا مسكن ولا مركب، ولا حلال ولا حرام.
وليس له منهج يعبد الله به، يمنعه من ظلم غيره من البشر والحيوانات والإفساد في الأرض، ولا يغنيه جاه ولا منصب ولا وظيفة.
ولقد نبه الله تعالى على خطر الهوى الذي يتبعه صاحبه على غير هدى من الله، فسماه بسبب اتباعه إياه إلها يعبده من دون الله، كما قال تعالى: ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)) [الفرقان:43].
فأيهما الحر الذي يعبد إلها واحدا، يأمره بالخير الذي يجمع له بين مصالح الدنيا والآخرة، و ينهاه عن الشر الذي يدفع عنه مفاسد الدنيا والآخرة و مضارهما، أم الذي يعبد آلهة شتى تتعدد أوامرها المتناقضة له، كما تتعدد نواهيها المتضادة كذلك، فتضطرب حياته في الدنيا، وينال أشد العذاب في الآخرة؟
أيهما الحر الذي يستغل خيرات الدنيا في طاعة ربه، دون أن تسترقه وتستعبده، أم الذي يكون عبدا لدنياه؟
كما قال صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له) [البخاري(3/1057)]
لقد ضرب الله لحرية من يعبد إلها واحدا، وعبودية من يعبد آلهة متعددة بهذا المثل الواضح البين:(34/228)
?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ? [الزمر (29)]
وكم من ناس نالوا من الدنيا ما نالوا من مال وسلطان وجاه وملك، وهم في حقيقة أمرهم عبيد أسرى، وكم من ناس حرموا ذلك بل قد يقعون أسرى مستعبدين تحت قهر الأعداء، وهم أعزة أحرار؟!
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:
(.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض...فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب.....-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم ... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
الأمر الثاني: أن منع المسلم من تغيير دينه إلى دين آخر، ليس إكراها له على الدخول في دين الإسلام، بل هو إعانة له على بقائه على الحق ومنعه من الانضمام إلى أهل الباطل، وفي ذلك تحقيق أعظم مصلحة له في الدنيا والآخرة، وحفظ له من خسارة محققة، وأي خسارة أعظم من خسارة المسلم دينه الذي لا يوجد في الأرض دين يقبله الله ويرضاه غيره:
?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ? [آل عمران (19)]
?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ? [آل عمران (85)]
?وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)? [سورة العصر]
إن الذي ينعم الله تعالى عليه بالإسلام، فيتمتع بما فيه من خير وحرية وعدل ومساواة وطمأنينة قلب وراحة بال، ثم يكفر بتلك النعمة التي لا تعقبها إلا خسارة الدارين، إنما هو أشد ممن يحجر عليه بسبب سفهه الذي يبذر بسببه أمواله تبذيرا لا تجيزه الأديان ولا العقول السليمة.
قال تعالى: ?وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...? [النساء (5،6)]
فأيهما أولى بالحجر والمنع الصغير والسفيه اللذان يبذران أموالهما، وكذلك الحجر الذي تطبقه الحكومات على أملاك المفلسين من الأفراد والشركات، أهؤلاء أولى بالحجر أم الذين يتبدلون الكفر بالإيمان: ?وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ? [البقرة (108)]
وسبحان الله الذي وصف من رغب عن ملة الإسلام بسفه النفس، فقال تعالى:
?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ? (130)
قال ابن كثير رحمه الله "قال تعالى: ?ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه?: أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره، بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطُفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا أم أي ظلم أكبر من هذا، كما قال تعالى: ?إن الشرك لظلم عظيم?" [تفسير القرآن العظيم تفسير (1/ص186)]
الأمر الثالث: أن ما قد يخشى من بعث حكم الردة على النفاق، فسيكون عدد الواقعين في النفاق قليلا جدا، لأن عامة المسلمين راضون بدينهم مطمئنون، لا يبغون به بديلا، وكونه قد يوجد عدد قليل يظهر الإيمان ويبطن الكفر، أهون من إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان.
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان على إيمانه، خير له وللأمة من تركه دينه، لأنه يرجى له بما معه من الإيمان أن يقوى إيمانه ويموت على الإسلام، فينجو من الخلود في جهنم، ويبقى مكثرا لسواد المسلمين، مشاركا لهم في تعاونه معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانه، ولو فرض أنه لم يتعاون مع المسلمين، فإنه بحكم انتمائه إليهم يتورع عن التعاون مع أعدائهم عليهم.(34/229)
والذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر وهو المنافق، يبقى ملتزما أمام قانون الشرع بالشرع، ومما يجب عليه التزامه النصح للمسلمين، وعدم التعاون مع عدوهم ضدهم ولو في الظاهر، ويؤاخذ على مخالفته شرعا...
وقد وجد المنافقون في عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وعاملهم معاملة من سواهم من المسلمين، بناء على الظاهر كما مضى...
وعندما استأذن منه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
وما أظهروا الإسلام إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...? [المنافقون (1، 2)]
حماية الأفراد والأسر والأمة من خطر الردة
إن أول ما يتعرض لخطر الردة، نظام الأمة العام، ثم أسرة المرتد، من زوج وأولاد، وأقارب، ثم استشراء ذلك في ضعاف الإيمان من الأمة...
ومن هنا نعلم شيئا من حكمة الله تعالى في منع المسلم من الارتداد عن دينه إلى دين آخر، لأن في ترك المسلمين لدينهم هدما لهذا الدين الحق الذي يجب أن يحفظ، وتوهينا لأهله الذين يجب أن يعتصموا بحبل الله، ليكونوا قدوة للعالمين في سلوك صراط الله المستقيم: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه? [آل عمران(110)]
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما المرتد فالمبيح عنده - أي المبيح للقتل عند الإمام أحمد - هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنعهم من النقص ويمنعهم من الخروج بخلاف من لم يدخل فيه". [مجموع الفتاوى (20/9-103)، (28/413) راجع أيضاً المبسوط (10/98)، وبدائع الصنائع (59/438)].
وقال أحمد فتحي بهنسي:
"جريمة الردة في الفقه الإسلامي فيها شيء من المماثلة لجريمة تغيير النظام الاجتماعي في الفقه الغربي.. كالفوضوية.. وغيرها من المذاهب الهدامة". [المسؤولية الجنائية (18)].
وقال سيد سابق رحمه الله:
"الإسلام منهج كامل للحياة فهو..
دين ودولة..
وعبادة وقيادة..
ومصحف وسيف..
وروح ومادة..
ودنيا وآخرة..
وهو مبني على العقل والمنطق..
وقائم على الدليل والبرهان..
وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الإنسان، أو يقف حائلاً دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي..
ومن دخل فيه وعرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجاً على الحق والمنطق ومنكرا للدليل والبرهان وحائداً عن الحق السليم والفطرة المستقيمة.
والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى، يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط.
ومثل هذا الإنسان لا ينبغي الحفاظ على حياته، ولا الحرص على بقائه لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل؟.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإسلام وهو منهج عام للحياة ونظام شامل للسلوك الإنساني لا غنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه..
فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه ويزعزع بنيانه، ولا شيء أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لأن الخروج عليه يهدد كيانه، ويعرضه للسقوط والتداعي..
إن الخروج على الإسلام والارتداد عنه، إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.
إن أي إنسان سواء كان في الدول الشيوعية أم الدول الرأسمالية، إذا خرج على نظام الدولة، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده والخيانة العظمى جزاؤها الإعدام.
فالإسلام في تقرير عقوبة الإعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم". [فقه السنة (2/457)].
راجع أيضا [كتاب الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي (2/101، 188)]
وخلاصة القول أن الارتداد عن الإسلام تمرد على النظام، وإضعاف للجماعة، وتكثير لسواد الأعداء وإفشاء لأسرار المسلمين الخطيرة، وغير ذلك مما لا يتسع له المقام..
شبهة من جعل المرتد كالكافر الأصلي في حرية الاعتقاد
وما زعمه بعض المعاصرين، من المساواة بين المسلم المرتد والكافر الأصلي، في أن لكل منهما حرية الاعتقاد، ودخولهما في النهي عن الإكراه في الدين، الوارد في كتاب الله، مثل قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ? [آل عمران: (256)]هو زعم باطل، من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: ما سبق من المفاسد المترتبة على ارتداد المسلمين، وتأثيره الخطير على الأمة ودينها...(34/230)
الوجه الثاني: أن النهي عن الإكراه في الدين، حكم عام أريد به الخاص، وهو الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام، بدليل ما ورد من السنة في حكم المرتد، ولو فرض أن المرتد يدخل في عموم النهي عن الإكراه في الدين، فإنه يجب تخصيصه بما ورد في السنة من حكم المرتد، لأن الخاص مقدم على العام.
الوجه الثالث: إجماع علماء الأمة على القول بحكم المرتد الذي ورد في السنة الصحيحة، وكذلك عمل الصحابة وغيرهم من ولاة الأمور به.
ولا يجوز أن يساوى بين المسلم المرتد عن الإسلام، والكافر الأصلي، لأن الداخل في الإسلام، لا يخلو من أحد شخصين: شخص نشأ مسلما في أسرة مسلمة وشعب مسلم، وهذا لعمر الله جدير بشكر نعمة الله عليه، حيث هيأ الله تعالى له بيئة لم تتلوث برجس الكفر الذي لا يتمكن كثير من أهله من الاهتداء إلى هذا الدين والدخول فيه.
وشخص آخر لم يكن مسلما، ولكنه دخل في الإسلام مختارا حرا لم يكرهه على الدخول فيه أحد، بل دخله بسبب قيام حججه وبراهينه التي تضطر العقل على الاعتراف بأنه الدين الحق الذي لم يعد في الأرض دين حق سواه.
وهو يعلم كذلك أنه لا يجوز لمن دخل في الإسلام الخروج منه إلى غيره
ويعلم أنه بنطقه بالشهادتين، قد أسلم وجهه لله، وأصبح بذلك خاضعا لشرعه الكامل وحكمه العادل الذي إذا ثبت أي حكم من أحكامه، وجب تطبيقه عليه رضيه أو كرهه.
تشكيك يجب رفضه
ومع هذه الأدلة الصحيحة الصريحة في قتل المرتد، والعمل بها في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم ، وعهد خلفائه الراشدين، وعهود أخرى تلت ذلك، ومع ما نقل من انعقاد إجماع العلماء على العمل بها، نجد من يشكك في تطبيق هذا الحكم في هذا العصر.
وهؤلاء قسمان:
القسم الأول: بعض المنتسبين إلى الإسلام من تلاميذ المستشرقين الذين انبروا لمهاجمة أصول هذا الدين وفروعه، وغالب هؤلاء التلاميذ يفقدون الفقه في دين الله، مع فقدهم الولاء الصادق لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولهذا تأثروا بآراء أساتذتهم وقلدوهم في الحق وفي الباطل على غير هدى من الله، ونصبوا أنفسهم وكلاء لهم في البلدان الإسلامية، ناشرين أفكارهم مدافعين عنها، مشككين في كتاب الله وسنة رسوله، وفي صلاحية تطبيق شرع الله في هذه العصور.
القسم الثاني: بعض العلماء الأفاضل وبعض الكتاب، هالتهم الهجمات الشديدة، التي يشنها أعداء الإسلام الذين لم يزالوا ولا زالوا ولن يزالوا، يحاربون أصول الإسلام و فروعه، حربا شاملة لكتابه وسنة رسوله، ومناهجه وشريعته ودعاته وعلمائه، ووسائل انتشاره، من مال واقتصاد وتعليم وإعلام وغير ذلك مما لا يخفى على أحد اليوم.
حاربوا هذا الدين بكل وسيلة أتيحت لهم، وعلى رأس هذه الوسائل القوة العسكرية التي احتلوا بها بعض بلدان المسلمين، وهددوا بها بعضها الآخر، متذرعين بحقوق الإنسان التي تحوي موادها حرية الاعتقاد الشاملة للخروج من دين إلى دين آخر، سواء كان الخارج فردا أو جماعة.
ومما لا شك فيه أن إخراج المسلمين من دينهم هو الهدف الأساسي عند اليهود والصليبيين والوثنيين، ولم نر هجوما شنوه في الماضي، ويشنونه في الحاضر، وسيشنونه في المستقبل، على أي دين وجد في الأرض مثل هجومهم على دين الإسلام، فهو هدفهم الرئيس من حملاتهم الظالمة اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم، كما قال تعالى:
?وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ? [البقرة (120)]
وقال تعالى:
?وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة (217) البقرة]
ولقد تدخل أعداء الله في كل شأن من شئون هذا الدين، وبخاصة في أصول ديننا وشريعتنا، وهاهي مؤسساتهم التي تدعمها الدول الغربية، تلح على الأمم المتحدة - التي تسيرها الدولة المعتدية على أمتنا - لحماية المرتدين عن الإسلام مما تسميه اضطهادا - هذا مع العلم أن كثيرا من المرتدين لا يقام عليهم حكم الشرع، في غالب حكومات الشعوب الإسلامية:
"هيئة تنصيرية تطالب بحرية الردة "
وجهت منظمة تنصيرية إنجليزية نداءً للأمم المتحدة يوم الأربعاء 29 يوليو؛ كي تتصدى لاضطهاد المرتدين عن الدين في البلدان الإسلامية على حد زعمهم.
وجاء ذلك في الوقت الذي أشادت فيه جماعات حقوقية بما ورد في تقرير التنمية البشرية لعام 2004 الصادر عن الأمم المتحدة من التأكيد على أن "الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً لا في انتقاد الدين الذي ولدوا عليه فحسب، بل وفي التحول عنه أيضاً إلى دين آخر أو البقاء بلا دين".(34/231)
وجاء نداء الأربعاء طبقاً لموقع الإسلام اليوم في شكل التماس أعدته جماعة نصرانية بريطانية اسمها صندوق برنابا "Ba r naba Fund" دعت فيه مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والحكومات والهيئات الدولية، إلى رفع أصواتها وإثارة هذه القضية "كأمر ملح" مع التجمعات الإسلامية.
وقال مدير الدعاية بالصندوق بول كوك الذي رحب بما ورد في تقرير التنمية البشرية باعتباره "تأكيداً مشجعاً جدّاً" على "حق الردة" إن جهود جماعته من أجل الدخول في حوار مع الهيئات الإسلامية بشأن هذا الأمر قوبلت بالصمت..
يذكر أن حد الردة غير مطبق في معظم الدول الإسلامية خاصة أن أحكام الشريعة الإسلامية كلها معطلة."
[مجلة المجتمع، عدد: 1613، تاريخ 7/8/2004م المجتمع الإسلامي]
أقول: إن هذا الهجوم الشديد وهذه الحملات الظالمة التي ما فتئ أعداء الإسلام يشنونها عليه، جعلت بعض العلماء الأفاضل الغيورين وبعض الكتاب في هذا العصر، يتحفزون لرد الشبهات التي أُطْلِقت سهامها إلى صميم هذا الدين واتهام نصوصه بالتعارض والتناقض، ومن ذلك ما زعموه من تعارض بين قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ? [البقرة (256)] وما ورد من النصوص في قتل المرتد.
ومن هؤلاء العلماء والكتاب من نفى قتل المرتد مطلقا، ومنهم من نفى قتل بعض المرتدين دون بعض.
ألسنا نرى ونسمع بعض المرتدين عن الإسلام يجاهرون في وسائل الإعلام كلها: الفضائيات والإذاعات، والصحف والمجلات، والشبكة العالمية للمعلومات "الإنترنت" وينصبون أنفسهم مفتين يهاجمون ما علم من الدين بالضرورة؟
أما تعليل إسقاط عقوبة المرتد بأنه "لا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
فنقول: إن مناط عقوبة الردة هو وقوعها مستوفية شروطها، فإذا خرج من دخل في الإسلام منه، فقد استحق هذه العقوبة الشرعية، ولسنا مكلفين بالتنقيب عن قصده من ردته...
ثم نقول كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟
وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال الكاتب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.
بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
============(34/232)
(34/233)
30 وقفة في فن الدعوة
الشيخ / عائض بن عبدالله القرني
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن الدعوة فنُّ يجيده الدعاة الصادقون ، كفنّ البناء للبُناة المهرة ، وفنّ الصناعة للصُّناع الحُذّاق ، وكان لزاماُ على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة ، ويجيدوا إيصالها للنّاس ، لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم
ولا بد للدعاة أن يدرسوا الدعوة ، لوازمها ، ونتائجها ، وأساليبها ، وما يجدّ في الدعوة ، وكان لزاماً عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير r ، فإنهم ورثة الأنبياء والرسل ، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم .
فإذا عُلم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه الداعية فإن ذلك سيؤثر في الأمة ، وسيكون الدعّاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عمّا يحدث من خطأ أو يرتكب من فشل ، بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى برّ الأمان نجت بإذن الله .
لذا فإن على الدعاة آداباً لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رُسُل هِداية ، ومشاعل حقّ وخير ، يؤدون الرسالة كما أرادها الله .
1- الإخلاص في الدعوة :
إن الإخلاص في العمل هو أساس النّجاح فيه ، لذا فإن على الدّعاة الإخلاص في دعوتهم وأن يقصدوا ربهم في عملهم ، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية زائلة إلى حُطام فانِ ، ولسان الواحد منهم يقول ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) الفرقان (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) سبأ .. فلا يطلب الداعي منصباً ، ولا مكاناً ، ولا منزلة ، ولا شهرةً ، بل يريد وجه الواحد الأحد .
( خذوا كلّ دنياكم ، واتركوا فؤادي حرًّا طليقاً غريباً ، فإني أعظم ثروة ، وإن خلتموني وحيداً سليباً ) .
2 - تحديد الهدف :
يجب أن يكون هدف الداعية واضحاً أمامه ، وهو إقامة الدين ، وهيمنة الصّلاح ، وإنهاء أو تقليص الفساد في العالم (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .
3 - التحلي بصفات المجاهدين :
الداعية كالمجاهد في سبيل الله ، فكما أن ذاك على ثغر من الثغور ، فهذا على ثغر من الثغور ، وكما أن المجاهد يقاتل أعداء الله ، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشهوات والشبهات ،وإغواء الجيل ، وانحطاط الأمة ، وإيقاعها في حمأة الرذيلة (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ) النساء ..
• فيجب على الداعية أن يتحلى بما يتحلى به المجاهد وأن يصابر الأعداء فيضرب الرقاب ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)
4- طلب العلم النافع :
يلزم الداعية أن يطلب العلم النافع الموروث عن معلم الخير r ، ليدعو على بصيرة ، فإن الله قال في محكم تنزيلة : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ....
قال مجاهد : (( البصيرة : أي العلم )) ، وقال غيرة : (( البصيرة : أي الحكمة )) ... وقال آخر : (( البصيرة : التوحيد ))
والحقيقة أن المعاني الثلاثة متداخلة ، ولابد للداعي أن يكون موحداً للواحد الأحد ، لا يخاف إلا من الله ، ولا يرجو إلا الله ، ولا يرهب إلا الله ، ولا يكون أحداً أشدّ حبَّا له من الله - عز وجل .
• ولابد أن يكون ذا علم نافع ، وهو علم قال الله وقال رسول صلى الله عليه وسلم ، ليدعو الناس على بصيرة ، فيحفظ كتاب الله أو ما تيسّر من كتاب الله _ عز وجل _ ويُعنى بالأحاديث عناية فائقة فيخرجها ، ويصحح المصحح منها ، ويضعف الضعيف حتى يثق الناس بعلمه ، ويعلم الناس أنه يحترم أفكارهم ، وأنه يحترم حضورهم ، فيجب أن يحترم الجمهور بأن يحضر لهم علماً نافعاً ، جديداً بناءً ، مرسوماً على منهج أهل السنة والجماعة .
كذلك على الداعية أن يكون حريصاً على أوقاته في حلّه وترحاله ، في إقامته وسفره ، في مجالسه ، فيناقش المسائل ، ويبحث مع طلبة العلم ، ويحترم الكبير ، ويستفيد من ذوي العلم ، ومن ذوي التجربة والعقل .
إذا فعل ذلك سدد الله سهامه ، ونفع بكلامه ، وأقام حجته ، وأقام برهانه .
5 - ألا يعيش المثاليات :(34/234)
ومما ينبغي على الداعية ألاّ يعيش المثاليات ، وأن يعلم أنه مقصر ، وأن الناس مقصرون , قال سبحانه وتعالى ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) النور ... فهو الكامل سبحانه وتعالى وحده ، والنقص لنا ، ذهب الله بالكمال ، وأبقى كل النقص لذلك الإنسان ، فما دام أن الإنسان خلق من نقص فعلى الداعية أن يتعامل معه على هذا الاعتبار سواء كانوا رجالاً أو شباباً أو نساءً ، قال سبحانه وتعالى ((إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ ) النجم 32 .
فما دام الله قد أنشأكم من الأرض ، من الطين ، من التُراب ، فأنتم ناقصون لا محالة ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الناس على أنهم ناقصون ، وعلى أنهم مقصرون ، يرى المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه ، ويأخذ بيده إلى الطريق .
• والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس ، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة ، الخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب !!
وهذا خطأ ، خاصة في مثل القرن الخامس عشر الذي لا يوجد فيه صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الأخيار ، وقل أهل العلم ، وكثرت الشبهات !!
وانحدرت علينا البدع من مكان ، وأُغرقنا بالشهوات ، وحاربتنا وسائل مدروسة ، دُرست في مجالس عالمية وراءها الصهيونيه العالمية وأذنابها !!
فحق على العالم وحق على الداعية أن يتعامل مع هذا الجيل ويتوقع منه الخطأ ، ويعلم أن الإنسان سوف يحيد عن الطريق ، فلا يعيش المثاليات .
6 - عدم اليأس من رحمة الله :
يجب على الداعية ألاّ يغضب إن طَرح عليه شاب مشكلته ، وأنه وقع في معصية ، فقد أُتىَ الرسو صلى الله عليه وسلم برجل شرب الخمر وهو من الصحابة أكثر من خمسين مرة !!
ثبت في الصحيح ، فلما أتى به ليقام عليه الحدّ ، قال بعض الصحابة : أخزاه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ! فغضب عليه الصلاة والسلام ، وقال للرجل : (( لا تقل ذلك لا تعن الشيطان عليه ، والذي نفسي بيده ، ما علمتُ إلا أنه يحبّ الله ورسوله )) أخرجه البخاري (12/75 رقم : 6781/6780 )
فما أحسن الحكمة ، وما أعظم التوجيه !!
لذلك نقول دائماً : لا تيأس من الناس مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء ، واعتبر أنهم أمل هذه الأمة ، وأنهم في يوم من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة ، وسوف تراهم صادقين مخلصين ، تائبين متوضئين .
• وينبغي على الداعية أن لا ييأس من استجابة الناس ، بل عليه أن يصبر ويثابر ، ويسأل الله لهم الهداية في السجود ، ولا يستعجل عليهم ، فإن رسولنا r مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدو إلى (( لا إله إلا الله )) ، فلم ييأس مع كثرة الإيذاء !! ومع كثرة السب !! ومع كثرة الشتم !! واعلم أن ما تتعرض له من صعوبات لا يقارن بما تعرض له صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك صبر وتحمل كل ذلك ولم يغضب ، حتى أتاه ملك الجبال ! فقال له : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال له رسول ا صلى الله عليه وسلم (( بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً )) أخرجه البخاري ( 6/312-313 رقم 3231 ) ومسلم ( 3 / 1420 رقم 1795 )
فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة ، فمن صُلب الوليد بن المغيرة : خالد بن الوليد ، ومن صُلب أبي جهل : عكرمة بن أبي جهل .
فما أحسن الطريقة ، وما أحسن ألا ييأس الداعية ، وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد عصيانه إلى إمام مسجد ! أو خطيب ! أو إلى عالم !
من الذي ما أساء قط ! ومن له الحسنى فقط ؟!
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه !
تريد مهذّباً لا عيب فيه *** وهل عود يفوح بلا دُخان ؟!
هذا لا يصلح على منهج الكتاب والسنة .
فلا تقنط من رحمة الله فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، وهو الرحمن الرحيم ، الذي يقول في الحديث القدسي الذي رواه أحمد والترمذي بسند صحيح (( يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً ، لأتيتك بها مغفرة )) أخرجه الترمذي ( 3540 ).
وعلى الداعية ألا ييأس من المدعوين بسبب بعض معاصيهم وإنما عليه أن يعايش الجميع ، الكبير والصغير ، الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، ولتعلم أن هذا العاصي قد يكون في يوم من الأيام من رجال الدعوة ، وقد يكون من أولياء الله ، فلا تيأس ، وعليك أن تتدرّج معه ، وأن تأخذ بيده رويداً رويداً ، وألا تجابهه وألا تقاطعه .
• جاء وفد ثقيف إلى الرسو صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الدين قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، ولكن أما الصلاة فلا نصلي ! وأما الزكاة فلا نزكي ! ولا نُجاهد في سبيل الله !!(34/235)
فقال صلى الله عليه وسلم : ( أما الصلاة ، فلا خير في دين لا صلاة فيه )
وأما الصدقة والجهاد فقد فقا صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : ( سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) رواه أبو داود
فأسلموا ، فأدخل الله الإيمان في قلوبهم ، فصلوا وزكوا وجاهدوا ، وقتل بعضهم وراء نهر سيحون وجيحون في سبيل الله ! وقُتل بعضهم في قندهار .
فلا ييأس الإنسان من دعوة الناس إلى سبيل الله سبحانه وتعالى ، وليعلم أنهم في مرحلة المراحل سوف يهتدون وسوف يعودون إلى الله سبحانه وتعالى .
فلا تقنط شارب الخمر من توبته إلى الله ، ولا تُقنط السارق ولا الزاني ، ولا القاتل ، بل حببهم إلى الهداية ، وقل لهم هناك ربَّ رحيم ، يقول في محكم التنزيل : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) آل عمران 135.
قال علي رضي الله عنه وأرضاه : ( الحكيم من لا يُقنط الناس من رحمة الله ، ولا يورطهم في معصية الله ).
• ومن آداب الداعية كذلك ألا يهون على الناس المعاصي ، بل يخوفهم من الواحد الأحد ، فيكون في دعوته وسطاً بين الخوف والرجاء ، فإن بعض الدعاة قد يتساهل مع بعض الناس في المعاصي ! كلما أرتكب كبيرة قال : (( سهلة ))! وكلما أُتي بأخطاء قال : (( أمرها بسيط ))!
أفلا يعلم أن هناك ربًّا يغضب إذا انتهكت حدوده ؟! وأن هناك سلطاناً عظيماً على العرش استوى ، لا يرضى أن تُنتهك محارمه ، وقد صح في الحديث الصحيح أن الرسو صلى الله عليه وسلم : (( تعجبون من غيرة سعد ؟ والذي نفسي بيده ، إني أغير من سعد ، وإن الله أغير منّي )) أخرجه البخاري ( 13/399 رقم 7416 ) ومسلم ( 2 / 1136 رقم 1499 ) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .
وقد ورد من صفاته _ سبحانه وتعالى _ كما في الصحيح من حديث ابن مسعود : (( إن الله غيور ، ومن غيرته سبحانه وتعالى أنه يغار على عبده المؤمن أن يزني ، وعلى أمتِه المؤمنة أن تزني )).
7 - عدم الهجوم على الأشخاص بأسمائهم :
من مواصفات الداعية ألا يُهاجم الأشخاص ب؟أسمائهم ، فلا ينبذهم على المنابر بأسمائهم أمام الناس ، بل يفعل كما فعل الرسو صلى الله عليه وسلم ويقول : (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا )).
فيعرف صاحب الخطأ خطاه ولكن لا يُشهر به .
أما إن كان هناك رجل جاهر الله بكتاباته أو بانحرافاته أو بأدبه أو ببدعته ، أو بدعوته إلى المجون ، فهذا لا بأس أن يُشهر به عند أهل العلم ، حتى يبين خطره ، فقد شهر أهل العلم بالجهم بن صفوان ، وقال ابن المبارك في الجهم : هذا المجرم الذي قاد الأمة إلى الهاوية ، وابتدع في الدين قال : عجبت لدّجال دعا الناس إلى النار . واشتق أسمه من جهنم ، وشهّروا كذلك بالجعد بن درهم ، وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث ، وحذروا الناس منهم في المجالس العامة والخاصة ، فمثل هؤلاء يُشهر بهم ، أما الذين يُتكتم على أسماءهم فهم أُناس أرادوا الخير فأخطأوا ، وأُناس زلت بهم أقدامهم ، وأُناس أساءوا في مرحلة من المراحل ، فهؤلاء لا تُحاول أن تُظهر أسماءهم في قائمة سوداء فقد يغريهم هذا إلى التمادي في الخطأ ، وقد تأخذهم العزة بالإثم !
8 - الداعية لا يزكي نفسه عند الناس :
على الداعية ألا يُزكي نفسه عند الناس ، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل ، ويحمد ربه سبحانه وتعالى أن جعله متحدثاً إلى الناس ، مبلغاً عن رسول صلى الله عليه وسلم ، فيشكر الله على هذه النعمة ، فإن الله قال لرسول صلى الله عليه وسلم : (( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً )) وقال له في آخر المطاف بعد أن أدى الرسالة كاملة (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ))
• قال أهل العلم : أمره أن يستغفر الله
فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه ، ويقول : أنا آمركم دائماً وتعصونني ! وأنهاكم ولا تمتثلوا نهيي ! وأنا دائماً ألاحظ عليكم .. وأنا دائماً أرى ، وأنا دائماً أقول ، أو أنا دائماً أُحدث نفسي إلى متى تعصي هذه الأمة ربها ؟!
• فيخرج نفسه من اللوم والعقاب ، وكأنه بريء !! فهذا خطأ . بل بل يجعل الذنب واحداً ، والتقصير واحداً ، فيقول لهم : وقعنا كلنا في هذه المسألة ، وأخطأنا كلنا ، فما نحن إلا أسرة واحدة ، فربما يكون من الجالسين من هو أزكى من الداعية ، ومن هو أحب إلى الله ، وأقرب إليه منه !
9- عدم الإحباط من كثرة الفساد والمفسدين :
فينبغي ألا يصاب الداعية بالإحباط ، وألا يصاب بخيبة أمل ، وهو يرى الألوف المألفة تتجه إلى اللهو ، وإلى اللغو ، والقلة القليلة تتجه إلى الدروس والمحاضرات ، فهذه سنة الله في خلقه ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) الأحزاب(34/236)
فإن الله ذكر في محكم تنزيله أن أهل المعصية أكثر ، وأن الضلال أكثر وأن المفسدين في الأرض أكثر ، فقال : ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ )) سبأ .. وقال : ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )) الأنعام .. وقال سبحانه وتعالى : ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )) يوسف . وقال : ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )) يونس .. وقال : ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) الغاشية .. (( لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )) الأنعام .. (( إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ)) الشورى .. فنحن لا نملك سوطاً ولا عصى ، ولا عذاباً ولا حساباً ، إنما نملك حبّا ودعوة وبسمة ونقود الناس بها إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فإن أجابوا حمدنا الله ، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم لله الذي يحاسبهم - سبحانه وتعالى .
قال بعض العلماء : ( الكفار في الأرض أكثر من المسلمين ، وأهل البدعة أكثر من أهل ألسنه ، والمخلصون من أهل ألسنه أقل من غير المخلصين )!
• ومن صفات الداعية أيضاً أنه يعيش واقع الناس ويقرأ حياتهم ويتعرف على أخبارهم ، وقال - سبحانه وتعالى - لرسول صلى الله عليه وسلم : (( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )) الأنعام ..
ومن حكمة الله - سبحانه وتعالى - أنه أحيا رسوله أربعين سنة في مكة ، عاش في شعاب مكة ، وفي أودية مكة ، عرف مساربها ومداخلها ، عرف الأطروحات التي وقعت في مكة ، وعرف بيوت أهل مكة ، واعترض الكفار . وقالوا : (( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ )) الأنعام .. فالله - سبحانه وتعالى - ذكر أنه لا بد أن يكون بشراً ، يعيش آمال الناس ، ويعيش هموم الناس و مشاكلهم ، ويعرف احتياجاتهم .
• فحق على الداعية أن يقرأ واقعة ، ويستفيد من مجتمعه ، وأن يعرف ماذا يدور في البلد ؟ وماذا يقال ؟ وما هي القضايا المطروحة ؟ ويتعرف حتى على الباعة ، وعلى أصناف التجار ، وعلى الفلاحين ، وعلى طبقات الناس ، وأن يلوح بطرفه في الأماكن ، وفي مجامع الناس ، وفي الأسواق وفي المحلات ، وفي الجامعات ، وفي الأندية ، حتى يكون صاحب خلفية قوية ، ويتكلم عن واقع يعرفه .
لذا جعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتى إلى بلد أن يقرأ تاريخ هذا البلد ، وكان بعض العلماء إذا سافروا إلى الخارج يأخذون مذكرات عن البلد ، وعن تاريخه ، وعن جغرافيته ، وعن متنزهاته ، ويتعرفون على طبيعة أهله ، وكيف يعيشون وماذا يحبون ، وماذا يكرهون ؟! ويتعرفون على كيفية التربية في هذا البلد .. حتى يتكلمون عن بصيرة .
10 - عدم المزايدة على كتاب الله :
فإن بعض الوعّاظ والدعاة يحملهم الإشفاق والغيرة على الدين على أن يزيدوا عليه ما ليس فيه ، فتجدهم إذا تكلموا عن معصية جعلوا عقابها أكثر مما جعله الله - عز وجل - حتى إن من يريد أن ينهى عن الدخان وعن شربه يقول مثلاً : ( يا عباد الله ، إن من شرب الدخان حرَّم الله عليه دخول الجنة ، وكان جزاؤه جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ) !!
هذا خطأ ، لأن هناك موازين في الشريعة .. هناك شرك يخرج من الملة . وهناك كبائر ، وهناك صغائر ، وهناك مباحات . قد جعل الله لكل شيء قدراً .
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
فعلى الداعي ألاّ يهول على الناس في جانب العقاب ، كما عليه ألا يهول عليهم في جانب الحسنات كأن يستشهد بالحديث - وهو ضعيف - الذي يقول : ( صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك ) انظر الفوائد المجموعه في الأحاديث الموضوعه للشوكاني رقم 22 .. وحديث - وهو باطل - : ( من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بني له سبعين قصراً في الجنة ، في كل قصر سبعون حورية ، على كل حورية سبعون وصيفاً ، ويبقى في سبعين من صلاة العصر إلى صلاة المغرب ...)!
فالتهويل ليس بصحيح ، بل يكون الإنسان متزناً في عباراته ، ويعرف أنه يوقع عن رب العالمين ، وينقل عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم
11 - عدم الاستدلال بالأحاديث الموضوعة :
على الداعية ألاّ يستدل بحديث موضوع إلا على سبيل البيان ، ويعلم أن السنة ممحصة ومنقاة ، وأنها معروضة ، ولذلك لما أوتي بالمصلوب - هذا المجرم الذي وضع أربعة آلاف حديث على صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً - إلى هارون الرشيد ليقتله ، فسلَّ هارون الرشيد عليه السيف ، قال هذا المجرم : اقتلني أو لا تقتلني ، والله لقد وضعت على أمة محمد أربعة آلاف حديث !!
فقال هارون الرشيد : (( ما عليك يا عدو الله يتصدى لها الجهابذة يزيّفونها ، ويخرجونها كابن المبارك ، وأبي إسحاق المروزي )) . فما مرَّ ثلاثة أيام إلا نقاها عبدالله بن المبارك وأخرجها ، وبين أنها موضوعه جميعها .(34/237)