إن ما حصل من إساءة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم - في الأعلام الدنماركي والنرويجي، جرم عظيم ينم عن حقد متأصل في قلوب القوم، ولكن ينبغي أن لا تنسينا مدافعة هؤلاء القوم من هو أشد منهم خبثاً وحقداً وضرراً على المسلمين، ألا وهي طاغية العصر أمريكا حيث جمعت الشر كله، فوقعت فيما وقع فيه هؤلاء من الإساءة إلى نبينامحمد صلى الله عليه وسلم ، وإهانة كتاب ربنا سبحانه وتنجيسه وتمزيقه على مرأى من العالم، وزادت على القوم بقتل أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق وفلسطين، وسامت الدعاة والمجاهدين سوء العذاب في أبي غريب وأفغانستان، وسجونها السرية في الغرب والشرق، فيجب أن يكون لها الحظ الأكبر من البراءة والانتصار منها لربنا عز وجل ولكتابه سبحانه ولرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن ننبه الناس في هذه الحملة الميمونة إلى هذا العدو الأكبر، وأنه يجب أن يكون في حقه من إظهار العداوة له، والبراءة منه، ومقطاعته كما كان في حق الدنمارك بل أكثر وأشد .
وأتوجه بهذه المناسبة إلى المنادين بمصطلح (نحن والآخر)، والمطالبين بالتسامح مع الآخر الكافر وعدم إظهار الكراهية له، لأقول لهم: هذا هو الأخر الذي تطلبون وده، وتتحرجون من تسميته بالكافر، إنه يرفض ودكم، ويعلن كراهيته لديننا ونبينا، وكتاب ربنا سبحانه، فماذا أنتم قائلون؟! وهذا من عدونا غيض من فيض، وصدق ربنا سبحانه إذ يقول في وصفهم: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)) ( آل عمران: 118).
الوصية الرابعة:
إن من علامة صدق النصرة لرسول ا صلى الله عليه وسلم أن لا نفرق في بغضنا وغضبتنا بين جنس وأخر ممن آذى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأساء إليه أو إلى دين الإسلام؛ بل يجب أن تكون غضبتنا لله تعالى، وتكون عداوتنا لكل من أساء إلى ربنا أو ديننا أو نبينا صلى الله عليه وسلم، من أي جنس كان، ولو كان من بني جلدتنا ويتكلم بألسنتنا. كما هو الحاصل من بعض كتاب الصحافة والرواية، وشعراء الحداثة، والذين يلمحون تارة، ويصرحون تارة أخرى بالنيل من أحكام ديننا وعقيدتنا، وإيذاء نبينا صلى الله عليه وسلم، بل وصل أذاهم وسبهم للذات الإلهية العلية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، فأين غضبتنا على هؤلاء، وأين الذين ينتصرون لله تعالى ودينه، ورسول صلى الله عليه وسلم من فضح هؤلاء والمطالبة بإقامة حكم الله فيهم، ليكونوا عبرة لغيرهم ؟ إن الانتصار من هؤلاء لا يقل شأناً من الانتصار ممن سب ديننا ونبينا صلى الله عليه وسلم في دول الغرب الكافر، يقول الله عز وجل: (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (المجادلة: 22).
الوصية الخامسة:
يقول الله عز وجل: (( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )) ( الإسراء: 36 ).
يقول الإمام أبن كثير- رحمه الله تعالى-: عند هذه الآية بعد أن ذكر أقوال أهل العلم، (ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ )) (الحجرات: 12).
وفي الحديث: (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)).
وفي سنن أبي داوود (( بئس مطية الرجل زعموا )).
وقوله (( كل أولئك )) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد (كان عنه مسؤولا) : أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتسأل عنه وعما عمل فيها ) أ.هـ .
وفي ضوء هذه الآية الكريمة وما ورد في معناها نخرج بمنهج عادل وقويم في التعامل مع الأحداث، والمواقف ينصحنا الله عز وجل به، حتى لا تزل الأقدام، وتضل الأفهام، وحتى لا يقع المسلم في عاقبة تهوره وعجلته، وذلك بأن لا ينساق وراء عاطفته وحماسته الثائرة دون علم وتثبت مما رأى أو سمع، فيقول بلا علم، أو يتخذ موقفاً دون تثبت وتروي.
إن المسلم المستسلم لشريعة ربه سبحانه محكوم في جميع أقواله ومواقفه وحبه وبغضه، ورضاه وسخطه بما جاء في الكتاب والسنة من الميزان العدل، والقسطاس المستقيم، فإن لم يضبط المسلم عاطفته وحماسه بالعلم الشرعي، والعقل والتروي، فإن حماسته هذه قد تجره إلى أمور قد يندم على عجلته فيها.(33/76)
والمقصود هنا التحذير من العجلة، والجور في الأحكام، والمواقف خاصة عندما تكثر الشائعات، ويخوض فيها الخائضون بلا علم أو عدل، بل لابد من التثبت ومشاورة أهل العلم والشرع، وأهل الفهم بالواقع.
ومن أمثلة هذه المواقف المتسرعة في هذا الحدث، مما تناقلته بعض المطويات ورسائل الجوال من وجوب المقاطعة لبضائع كثيرة بعضها ليست من منتجات القوم المقصودين بالمقاطعة, ومن ذلك التسرع في الحكم على من لم يقاطع بأنه آثم لا يحب رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وكما جاء في قول القائل: ( قاطع من لم يقاطع )، ومن ذلك الإكثار من الرؤى و المنامات, والاستناد عليها في تصحيح موقف ما أو تخطئته.
وبعد: فهذا ما يسره الله عز وجل من هذه الوصايا التي أخص بها نفسي وإخواني المسلمين في كل مكان؛ مع التأكيد على ضرورة الصمود والمصابرة في البراءة من القوم، ومقاطعة منتجاتهم، فما كان في هذه الوصايا من صواب فمن الله عز وجل، فهو الأمان بذلكـ وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطانـ وأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه، والحمد لله رب العالمين.
============(33/77)
(33/78)
هل توجد حداثة إسلامية؟!*
2006/03/19
…
منتصر حمادة
غلاف الكتاب
"روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية" هو أحدث إصدارات الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن"، والصادر منذ أسابيع قليلة عن "المركز الثقافي العربي" بيروت-الدار البيضاء، في طبعته الأولي 2006، في 287 صفحة من الحجم الكبير، ويأتي هذا العمل ليضع لبنات الحداثة الإسلامية بعد كتاب "سؤال الأخلاق" الذي بسط فيه نقده للحداثة الغربية.
يسعى هذا الكتاب إلى أن يُبصِّر الحداثيين بما هم فيه من تقليد مُطبِق، لفتح فضاء الإبداع، وذلك عن طريق التفريق بين ما يصفه المؤلف بـ"روح الحداثة التي ينبغي حفظها" و"واقع الحداثة الذي يمكن تركه إلى واقع غيره لا يقلُّ عنه حداثة".
كما يسعى طه عبد الرحمن من خلال عمله هذا إلى أن يُخرج التراثيين بدورهم مما هم فيه من تقليد مُعيق، لفتح فضاء الاجتهاد لهم، وذلك عن طريق تطبيق روح الحداثة على مقتضى التداول الإسلامي. وفي هذا الشق الثاني رد صارم على تهمة الأصولية الفلسفية التي وجهها أحد الباحثين لفيلسوف الأخلاق طه عبد الرحمن.
أما الكتاب في مجمله فيؤسس لقراءة تفكيكية مغايرة بالمرة مع القراءات العربية والإسلامية التي تطرقت لموضوع الحداثة.
الهمة الأخلاقية أقوى
برأي طه عبد الرحمن، بلغ تعلق النقاد العرب بالحداثة الغربية أن توهموا أنها واقع لا يزول، وحتمية لا تحول، وأنها نافعة لا ضرر فيها، وكاملة لا نقص معها، فحجَبهم هذا التعلُّق عن أن يتبيَّنوا ما في كتابه السابق "سؤال الأخلاق: مساهمة في نقد الحداثة الغربية" من أصول أخلاقية مصحِّحة لمسار هذه الحداثة لم يقلّد فيها أحدا، ونذكر منها الأصول التالية:
*
أن الأخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، وليست هي مجرد صفات عرضية أو كمالية لا يقدح تركُها إلا في مروءته.
*
أن ماهية الإنسان تُحدِّدها الأخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعا للأخلاق.
*
أن الأخلاق مستمدة من الدين حتى إنه يحكم بالتناقض على قول القائل: الأخلاق العلمانية.
*
أن الإنسان بموجب أخلاقيته، لا يستطيع أن يتجرد كليا من حال التدين ولو سعى إلى ذلك ما سعى.
*
أن الهمة الأخلاقية للإنسان أقوى من الأمر الواقع.
فيما يتعلق بكتاب "روح الحداثة" فمداره على الأطروحة التالية: كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية.
فلا يعقل أن يتقرر في الأذهان أن الحداثة تأتي بالمنافع والخيرات التي تَصلُح بها البشرية، وأن تتحقق هذه المنافع والخيرات في الأعيان، ثم لا يكون هذا الجزء النافع منها متضمنا في الحقيقة الإسلامية؛ خاصة أن الزمن الإسلامي يبقي بمنزلة الزمن الأخلاقي الذي تتحقق فيه ظاهرة الحداثة والذي يتمّم ما نقص في سابق الأزمان من المكارم. تذكروا القول النبوي الشهير: "إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ويضيف الدكتور "طه" أن كل دين مُنزل يَمدُّ الإنسان بأسباب الصلاح في دنياه، فضلا عن أسباب الفلاح في أخراه؛ ويخلص إلى ضرورة دخول الحداثة الصالحة في الممارسة الإسلامية.
روح الحداثة وواقعها
طه عبد الرحمن
بسط المؤلف في المدخل التنظيري العام الأصول التي تتأسس عليها نظريته في الحداثة والقائمة على: التفريق بين روح الحداثة وواقع الحداثة، وتتكون هذه الأصول العامة من ثلاثة مبادئ تتحدد بها روح الحداثة، وهي:
*
مبدأ الرشد: الذي يتكون من: الاستقلال والإبداع.
*
ومبدأ النقد: الذي يتكون من: التعقيل والتفصيل.
*
ومبدأ الشمول: الذي يتكون من: التوسع والتعميم.
وبعد أن فرغ من التنظير، استعرض عمليات التطبيق الإسلامي لروح الحداثة في حالات معينة التزم في انتقائها بما يصف معيار النموذجية المُثْلى، ومقتضاه أن الحالات المختارة ينبغي أن تكون أفضل النماذج التي يمكن أن يُجرَى عليها هذا التطبيق.
يتفرع الكتاب إلى ثلاثة أبواب، واختص كل باب بتطبيق مبدأ واحد من المبادئ الثلاثة لروح الحداثة على حالتين نموذجيتين، كل حالة تطبّق ركنا من ركني هذا المبدأ.
وهكذا تفرَّد الباب الأول بتطبيق مبدأ النقد على نموذجين أمثلين، خصَّص لكل منهما فصلا مستقلا، وهما نظام العولمة ونظام الأسرة الغربية.
وتولى الباب الثاني تطبيق مبدأ الرشد على نموذجين أمثلين دائما، وهما الترجمة الحداثية والقراءة الحداثية للقرآن. والحق أن هذا الفصل يأتي في زمانه، بحيث نكاد نعجز عن حصر عدد المحاضرات والندوات التي نظمت خلال السنين الأخيرة حول موضوع القراءات الحديثة أو الحداثية للقرآن.
واختص الباب الثالث بتطبيق مبدأ الشمول على نموذجين أمثلين كذلك، وهما حق المواطنة وواجب التضامن.
لا شك أن التصنيف الجديد الذي وضعه طه عبد الرحمن للترجمات في الفصل الأول من الباب الثاني ما بين ترجمة منطقية وترجمة دلالية وترجمة تركيبية يحيل متتبع أعمال هذا الفيلسوف إلى علاقته بالتصنيف الوارد في الجزء الأول من كتاب "فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة" حيث الحديث عن ترجمة تحصيلية، وترجمة توصيلية، وترجمة تأصيلية.(33/79)
ولا شك أيضا أن المطلع على هذا المدخل المهم بالذات، سوف يندهش أو يُستفز عندما يجد أن طه عبد الرحمن لم يذكر المبادئ التي اشتهر تداولها في أوساط الدارسين لظاهرة الحداثة مثل مبدأ العقلانية ومبدأ الذاتية ومبدأ الفردانية ومبدأ الإنسانية ومبدأ الحرية ومبدأ العلمانية وغيرها، حيث يعُدُّ طه عبد الرحمن بعض هذه المبادئ متفرعا على المبادئ التي ارتضاها، وبعضها يدخل ضمن ما يسميه مُسلمات التطبيق الحداثي الغربي.
وأحد هذه المبادئ المبتذلة، يضيف مبدأ العقلانية الذي غلب على الدارسين من العرب والمسلمين أن يجعلوه المبدأ الأساسي المحدد لحقيقة الحداثة، مقلدين في ذلك أساتذتهم من نقاد الغرب، والواقع أن العقلانية تندرج ضمن الأصول الثلاثة التي أخذ بها المؤلف في تحديد روح الحداثة، حيث تندرج في مبدأ النقد باعتبارها وسيلة له، وتندرج في مبدأ الرشد باعتبارها أصلا له، وتندرج في مبدأ الشمول باعتبارها سببا فيه؛ مما يُخوِّل له الاستغناء عنها كمبدأ مستقل بنفسه، إذ تنزل رتبة غير رتبتها، فهي أعم، وهذه المبادئ أخص؛ والذين جعلوا العقلانية واحدا من مبادئ الحداثة إنما وقعوا في تضييق مدلولها، حتى حصروها في النظر الآلي أو الأداتي وحده، مع التذكير بأن العقلانية لم تختص بها الحداثة الغربية كما يُزعَم، ولا لها شكل واحد ولا لها مرتبة واحدة، بل إنها ظلت كل يقظة حضارية تَحقَّق بها الإنسان على مدى تاريخه الطويل. وبالنسبة لتخصيص الحداثة بها، فهو خطأ ناتج عن التقديس الذي أحاطه بها بعضهم.
الحداثة تُبتَكر من الداخل
وتتفرع على طبيعة التعريف الذي ساقه المؤلف لروح الحداثة عدة أمور نوجزها في النتائج التالية:
*
كون روح الحداثة تختلف عن واقع الحداثة.
*
وأن واقع الحداثة الغربية هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة.
*
أن روح الحداثة متأصلة إنسانيا وتاريخيا.
*
أن الأمم الحضارية كلها تستوي في الانتساب إلى روح الحداثة.
*
أن واقع المجتمعات الإسلامية هو أقرب إلى الحداثة المُقلِّدة منه إلى الحداثة المبدِعة.
*
أن الحداثة لا تُنقل من الخارج، وإنما تُبتَكر من الداخل.
*
وأخيرا، كون ابتكار الحداثة الإسلامية الداخلية يستلزم إبطال المسلمات التي صاحَبت تطبيق الغرب لروح الحداثة، وأدخلت عليه آفات تختلف باختلاف أركان هذه الروح، ولا يسعنا إلا أن نسرد استشهادا موجزا لهذا الإبطال، وجاء في ست نقاط:
- إبطال مُسلّمات الاستقلال الغربي: وصاية الأقوى ليست عناية بالأضعف، والوصاية في الداخل قد لا تكون وصاية رجال الدين.
- وإبطال مسلمات الإبداع الغربي؛ فالإبداع لا يقتضي الانقطاع المطلق؛ لأن الحداثة الحقة هي حداثة قِيَم لا حداثة زمن.
- وإبطال مسلمات التعقيل الغربي؛ لأن العقل لا يعقل كل شيء.
- وإبطال مسلمات التفصيل الغربي لا إطلاق في الفصل بين الحداثة والدين، ولا إطلاق في الفصل بين العقل والدين ولا محو للقدسية من أفق الإنسان.
- وإبطال مسلمات التوسع الغربي: التطبيق الغربي لروح الحداثة ليس واقعا حتميا؛ لأن الإنسان أقوى من هذا التطبيق.
- وأخيرا، إبطال مسلمات التعميم الغربي: روح الحداثة لا توجب التفكير الفرداني، والحداثة العلمانية لا تحفظ حُرمة الأديان، وليست كونية قِيَم الحداثة الغربية كونية إطلاقية، وإنما كونية سياقية.
لماذا الحداثة الإسلامية؟
لِمَ الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة، وقد انتقلت الإنسانية من طور الحداثة إلى طور ما بعد حداثة؟ اعتراض مشروع على الأطروحة الناظمة لكتاب "روح الحداثة"، وقد خُصِّصت خاتمة أحدث مؤلفات طه عبد الرحمن وجاءت تحت عنوان سؤال المشروعية للرد على ذلك، ويجيب الدكتور "طه" عن هذا الاعتراض على أربع مراتب هي:
*
كيف أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تتعامل مع المفاهيم المخترَعة التي شاع تداولها عند الأمم الأخرى، وأن تخرّجَها على قواعد مجالها التداولي، بدءا من الحداثة وما بعد الحداثة.
*
وكيف أن مفهوم ما بعد حداثة ليس له معنى واحد، وإنما له معان عدة.
*
وكيف أن وجود الطور الحداثي والطور ما بعد الحداثي يقضي بافتراض أصل مشترك ينبنيان عليه، وهذا الأصل هو بالذات روح الحداثة.
*
وأخيرا كيف أن التطبيق الإسلامي لروح الحداثة لا يكتفي بأن يكون واحدا من تطبيقاتها الممكنة، بل أيضا يهدف إلى الارتقاء بالفعل الحداثي.
وبعد أن فرغ من بيان هذه المراتب الأربع، يخلص إلى أن الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة اشتغال لا يقل مشروعية عن الاشتغال بالتطبيق الغربي لهذه الروح.
==============
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
الفكر الإنساني بلا تجديد ركود ناشز، فطبيعة الإنسان وفطرته تدعو إلى التجديد والتطوير، بل تعتبر عملية التجديد نسيج متلاحم للفكر الإنساني على اختلاف الأنساق الفكرية والعقدية، وهو شريان من شرايين البقاء في الحياة على صورة من العيش الكريم، ومعايشة التطور البشري بجميع أشكاله، سواء تلك التي يكون للإنسان دخل فيها، أم تلك التي يكون مجبرًا عليها، مساقًا إليها.(33/80)
وكل محاولة للتجديد لا بد لها من محركات فكرية وعقدية وثقافية وحضارية، تشكل الأساس الذي تتحرك منه، والقاعدة التي تسير عليها، وتعطي معرفة بأهداف هذا التجديد، والغرض من وراء تلك العملية التجديدية.
ويعتبر المنطلق العقدي من أهم المنطلقات في عملية التجديد؛ إذ يحدد الوجهة المرادة، والطريق المسلوك. ولا بد للمجموعة البشرية التي تنظر إلى هذه العملية أن تراعي منطلقها العقدي.
ولكن هل يعني هذا أن المكون العقدي هو الأوحد في تشكيل عملية التجديد؟ وهل الاطلاع على النماذج والأنساق الأخرى والاستفادة منها تُعَدّ عائقًا عن السير في الطريق الصحيح لهذه العملية؟ وهل من العيب أن ينظر إلى الأنساق المغايرة للمنطلق العقدي أثناء إنشاء عملية التجديد؟ وهل لهذا أثر في تحديد الاتجاه المراد، وما يراد منه في نطاق المجموعة البشرية التي تقوم بهذه العملية التجديدية؟
وهل يتطلب الانفصال الحاد حتى يكون هناك نوع من التمايز والمغايرة والاستقلالية في طبيعة عملية التجديد؟
وهل للمواطنة في أرض غير التي نشأ فيها الإنسان أثر في تشكيل العقل التجديدي، سيرًا وراء التغيرات الاجتماعية والفكرية بحكم المخالطة المتغايرة، والمعايشة المتباينة، مما قد يحيد به عن التمايز الذي يبرزه المنطلق العقدي مع المواطنة التي تولد من وطن النشأة.
وما هو الطريق الأسلم للوصول إلى أسلمة المعرفة بنوع من الجمع بين الأصالة والمعاصرة؟
هذه الإشكاليات طرحها الباحث الجزائري عبد القادر قلاتي في ورقته حول تجديد الخطاب الديني.
==============(33/81)
(33/82)
أدعياء التنوير والعيش في الظلام
عبدالله الزايدي 24/4/1427
22/05/2006
يصف دعاة التنوير ذواتهم بالتقدمية ومواكبة العصر والتطورية، وينعون على غيرهم -خصوصاً خصومهم التقليديين (الإسلاميين )- تعلقهم بالقديم وارتباطهم التراثي، وانشدادهم للماضي، وخصومتهم للمجتمع، وفي ذات الوقت نجد هؤلاء الدعاة يقعون -وبصورة أشد- فيما يتهمون به خصومهم.
وحتى لايكون الأمر دعاوى لا تستند إلى البرهان، نقف مع أحد أبرز دعاة التنوير في بلادنا المملكة العربية السعودية، الذي يعده العديد من المتابعين أبرز وأعمق منظري الفكر التنويري كما يصفونه، وهو أكثر من كتب عن التنوير محبذاً وداعياً، ومنافحاً من خلال مقالات عدة في إحدى أبرز الصحف السعودية:
فنجد أبرز سمات فكره التنويري واضحة في كتاباته، وهي سمات تتناقض مع دعاوى التقدمية التي يبشر بها، ويمكن إيجازها على النحو التالي، مستندة إلى شواهدها من مقالاته المنشورة:
أولاً: الانشداد للماضي الأوروبي الذي مضى عليه أربعة قرون، وتجاوزه الواقع الأوروبي بمراحل، ولا يزال التنويري الكبير يحلم بتلك الفترة، ويعمّم أثرها على كل الإنسانية، حتى على المجتمع المسلم الذي لم يخرج من الظلمات إلى النور في رؤية التنويري إلاّ بفكر التنوير الأوروبي؟! فيقول:
1 -لم ينهض التنوير الأوروبي المجيد، الذي أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية، إلاّ على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الوقائع المادية، ولكنه - قبل ذلك وبعده - يكاد يكون عقيدة كلية، تستولي على مشاعر أولئك الفلاسفة العظام، في عصر النهضة الأوروبية.
2 - كما لم يأت التنوير الأوروبي من فراغ؛ فإنه - كذلك - لم يقم في فراغ. لقد كان الوقع المظلم لأوروبا في القرون الوسطى هو الباعث أو المسوّغ لطرح سؤال التنوير الذي أخرج أوروبا من الظلمات إلى النور. ولا يزال التراث التنويري، يمد العالم أجمع بنفحات من الحياة، يصعب أن تعيش بدونها؛ على الرغم من بعض صور العقوق له، حتى من أبنائه، وعلى الرغم من القراءات التي المتجاوزة من جهة، والمضادة لنهائيات القيم التنويرية من جهة أخرى.
3- اجترار مصطلحات الفكر الماركسي ومفرداته الخطابية نحو الخصوم: الظلامية، الرجعية.
على الرغم من مزاعم التنويري بالحداثة والتقدم إلاّ أنه موغل في التخلف واجترار مفردات الخطاب الشيوعي أيام الستينيات؛ فهو يصف مخالفيه بالرجعية والتخلف فيقول: هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها - ومن المعلوم أن مصطلح سدنة الرجعية أحد أبرز المصطلحات الشيوعية شيوعاً في الأوساط العربية في فترة الستينيات.
4- العداء المطلق للآخر (الإسلامي) وثقافته؛ ففي كتابات هذا الكاتب عداء شديد للثقافة الإسلامية، يتضح جلياً في مفردات السباب التي يوجهها لهذه الثقافة؛ فهو يصف ثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش فيه بأبشع الأوصاف، فهي(ثقافة الغباء)، و (ثقافة الموت)، و (الثقافة الآتية من عصور الانحطاط)، و (الثقافة البائسة).
وهذه الشتائم لثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش الكاتب فيه بجسده، ويغترب عنه بفكره تتكرر في أكثر من مقال، بل تتردّد أحياناً في المقال الواحد.
5 - تأكيد حالة الصراع الدائم مع المجتمع والاغتراب عنه، والاستعلاء عليه، ووصفه بالجهل والظلامية والخصومة معه ومع ثقافته، والدعوة للصراع مع المجتمع والقوى النافذة فيه، والتي تقف موقف التوجّس من دعوته، في نفس الوقت الذي يهاجم فيه أعلام الدعاة بأوصافهم بزعم أنهم يثيرون ثقافة الصراع في المجتمع، فمن أقواله الغريبة في هذا السياق:
أ ) وكلّما تكشف الواقع عن روح ظلامية رجعية كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً؛ يدعوه إلى (الجهاد) في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير.
ب) هناك من لا يريد أن تظهر العلاقة بين التقليدي والتنويري على أنها علاقة صراع، وإنما يريدها علاقة حوار وتكامل. هذا حلم جميل. لكن طبيعة الوعي التنويري التقدمي، لا يمكن أن تكون في علاقة سلام مع الوعي التقليدي الرجعي الذي يحاول الرجوع بالأمة إلى الوراء. كل مفردة من مفردات التنوير الإنساني، ستجد لها ما يضادها من مفردات السلفية التقليدية التي تقف على الضدّ من الإنسان.
ج) التحوّلات الاجتماعية لا تسير بمنطق الأحلام الجميلة، بل هي إلى منطق الصراع أقرب. لن يرضى التنويري بالانسياق إلى غياهب الظلامية التقليدية، وكلّما تكشّف الواقع عن روح ظلامية رجعية؛ كلما كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً يدعوه إلى (الجهاد في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير).(33/83)
4 -التيار التقليدي قادر على الإضرار بنا مادياً ومعنوياً. لكن يجب أن تكون هذه القدرة حافزاً لنا للقيام بأي شيء لمواجهة هذه الظلامية القاهرة. والواجب أن تكون علاقتنا بقوة التيار التقليدي غير تقليدية. أي كلّما أحسسنا بتنامي قدرته على الإضرار بنا، فلا بد أن نكون أشد صراحة وجذرية في مواجهته، وليس أن نخضع لهيمنته ونفوذه.
6- التحامل على المخالفين له، وتشويه حقيقة موقفهم، وافتعال أسباب غير حقيقية للخلاف.
7- استبعاد البعد العقدي الديني لخصومهم الفكريين وقصر الأسباب على السبب المادي (التفسير المادي للتاريخ)، ويتضح ذلك في النصوص التالية:
1 - هناك من يستفيد مادياً من ضمور الفاعلية التنويرية وتضخم النفوذ التقليدي. أي أن موقعه في بنية المجتمع، وامتدادات المصالح الخاصة، تجبره على الوقوف في الصف التقليدي.
2 - هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها. نحن نعرف أن هناك مؤسسات قائمة على ترويج هذا الخطاب، بل وأقسام (علمية!) جامعية، تمنح الشهادات العليا، بدرجة الولاء لهذا الخطاب التقليدي، وهؤلاء سيكونون في المهمش الاجتماعي في حال تنامي المد التنويري، وستصل قيمتهم الاعتبارية إلى درجة الصفر، بل ربما كانت المراجعة المعرفية التنويرية كفيلة بمحاكمتهم - معرفياً - على جنايتهم في حق الأمة.
8- اجترار مقولات ثبت بطلانها:
من المزاعم التي كان يلوكها دعاة التغريب من العلمانيين والشيوعيين في أواسط القرن الماضي، دعوى التشابه بين وضع علماء الشريعة ورجال الدين في أوروبا، وأن علماء الدين الإسلامي يتماثلون في مسؤولياتهم وأعمالهم مع رجال الكهنوت الأوروبي، وهذه مزاعم فجة وغير علمية، ومع ذلك يأبى داعية التنوير الكبير إلا أن يلوكها في ترداد ساذج لمقولة مزورة للحقيقة، فيقول:
"لقد أدرك رواد التنوير العربي منذ أيام الطهطاوي وإلى هذه الساعة، أن التشابه كبير جداً - على الرغم من الفروقات الثانوية - بين الحالة الأوروبية في القرون الوسطى وحالة المسلمين اليوم. أدرك رواد التنوير العربي أن المسلمين لم يخرجوا - بعد - من قرونهم الوسطى التي تمتد لما يناهز عشرة القرون، وأن عصور الظلام الإسلامية لم تكن أحسن حالاً - بمعيار الوعي الكلي - من عصور أوروبا المظلمة ذات النفس الكنسي".
9- الاعتراف بأن للتنوير أهدافاً غير التقدم المادي، وهو الهدف التغريبي.
على الرغم من إلحاح التنويريين -كما يسمون أنفسهم- بأن التنوير يستهدف النهوض بالأمة، والانبعاث الحضاري، وتحقيق التقدم المادي، فإن داعية التنوير يعترف بأن بلادنا استطاعت أن تحقق إنجازاً تنموياً مادياً لايُستهان به، ولذلك لم تكن هناك حاجة للتنوير في بعده الثقافي في الرأي العام المحلي، ومع ذلك يصر على الحاجة إليه؟! مما يؤكد أن هدفهم من التنوير ليس التقدم المادي الذي يمكن حدوثه بمعزل عن هذا الفكر، بل يريدون نقل الفكر التنويري الغربي المعادي للثقافة المهيمنة على المجتمع وهي الثقافة الإسلامية، يقول الكاتب:
"لهذا لم يكن المجال للتنوير - في بعده الثقافي - مفتوحاً، بالقدر الذي يكفي لصناعة وعي حديث، يستطيع أن يعمل بالتوازي مع الحركة التنموية في بعدها المادي، وشبه المادي، وساعد على الزهد في التنوير ما أتت به الطفرة المادية من قدرة كبيرة على تحقيق منجزات تنموية لا يُستهان بها. وهذا المنجز المادي أوهم الوعي العام أن لا حاجة إلى التنوير، وأن الانبعاث الحضاري يتحقق، على الرغم من التمسك بالوعي التقليدي".
وحسب هذا الوهم فلا مسوّغ للمغامرة بتبني المشروع التنويري في أبعاده الثقافية.
=============(33/84)
(33/85)
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا
فك ترابط علاقة التجديد بالحداثة
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
لا يمكن فك هذه العلاقة المتشكلة ضمن شروط تاريخية وإكراهات حداثية لم يكن التفكير الديني قادرًا على أن يعط مفهومًا ذاتيا عن التجديد والتغيير إلا ضمن هذه الشروط (ربط التجديد بالحداثة) ما لم نحرر مفهوم التقليد (التراث) «الذي تنحصر دلالته بحسب الأدبيات الشائعة في الدعوة إلى ماضٍ أساسي يقاس به التاريخ اللاصق ويرد إليه»1.
إن العلاقة بين التجديد كآلية والحداثة كمعطى اجتماعي وثقافي لم تتشكل إلا ضمن تصور مغلوط فرضته شروط تاريجية عند حاجة الأمة إلى النهوض. وبالتالي فالإسراع في التأكيد ألا حاجة ماسة من وراء هكذا علاقة مطلب ضروري عندما تبدأ محاولة تجديدية جادة. تبدع شروطها التاريخية الناسخة لتلك المشوهة وتبرز حاجة الأمة إلى التغيير أو التجديد ضمن رؤية وتصور ينطلقان من الذات ولا يستبعدان ما قد يستفاد من إنجازات الحداثة. في أي محاولة للتجديد (الذاتي).
إن الدعوة إلى تحرير مفهوم التقليد (التراث) من أسر تصورات خاطئة جعلته يلتصق بخاصة «زمانية أي أنه تابع للزمن». وهذا ما كرس هذا الوهم نحو مفهوم التقليد. حيث إن أعراضه «تنقض بالفراغ من عملها بدون بقاء أثر أو قيمة»، وهذا ما يُحاول تيار التغريب أن يُكرسه كتصور منطقي لإبعاد الإسلام ومنظومته المعرفية من أي محاولة سياسية أو ثقافية. باعتبار الإسلام -في نظر هؤلاء- شكل تقليدي (تاريخي) انتفت فاعليته بانقضاء حضوره في الزمن. والمحاولات التحديدية التي ربطت مصيرها بالحداثة لم تكن بعيدة عن هكذا تصور، أي أن تراثنا الديني الذي صنع وجودنا الحضاري، وظل يحدد مسار تفكيرنا عبر تاريخ طويل لا بد أنه فقد الكثير من فاعليته، وأن عطباً واسعاً طال آلياته. ومن ثم الارتهان إلى الحداثة مصير وليس خيارا.
إن المحاولات التجديدية لم يلامس عملها بنية التراث بل عملت على إضفاء طابع حداثي على مفاهيم تراثية. وحاولت بإجراء تعسفي تأصيل صيغ حداثية ضمن فضاء التراث. وأكسبتها شرعية الممارسة الإسلامية. وضمن فقه الواقع (الارتهان إلى الحداثة). طال مجهودها غير المجدي الكثير من الصيغ التراثية والتي تملك في أحايين كثيرة شرعتها من النص المؤسس. لكن هذه المحاولات المحدثنة وبدعوى فقه الواقع تعمل على تجاوز هذا المعطى، وتبرر عملها هذا بعنوان واسع ومتهافت (فقه الواقع وضرورة العصر)، كي لا تحدث قطيعة معرفية مع الأصول والمقاصد الكبرى لهذا الدين. وهي لا تدرك أن القطيعة المعرفية حاصلة بمجرد سحب مفاهيم التراث وتقريبها نحو هذه الصيغ الحداثية. وقد نقرأ في كثير من أدبياتها جملاً من قبيل «العقلانية الإسلامية المؤمنة» التي تختلف بحسب هذه الأدبيات عن العقلانية اليونانية المتجردة من البعد الديني، العقلانية الوضعية التي جاءت نقيضاً للدين عكس عقلانية هذه المحاولات التي جمعت بين النقل والعقل بين حكمة والشريعة، وما إلى ذلك من عبارات وجمل صيغت ضمن هذا التنظير
والإشكالية هنا ليس فيما قد تطرحه هذه التنظيرات من الصيغ المستحدثة وإنما في التأصيل الذي غيّب أي محاولة إبداعية للتجديد، فالمحاولات التجديدية التي استندت إلى التأصيل في تنظيراتها غفلت عن حقيقة تظهر لأي متابع للفكر الإسلامي المعاصر. الذي غيبت منهجية التأصيل بنيته الأصلية التي كان يمكن للمحاولات التجديدية أن تعيد صياغة المفاهيم والقيم الإسلامية ضمنها -أي بنية الفكر الإسلامي- بدل النظر إلى هذه القيم والمفاهيم من زاوية حاجات العصر وضروراته.
ومن أخطر ما تقبله الفكر الإسلامي تحت ضغط منهجية التأصيل إدماج قيم حداثية ضمن المنظومة المعرفية الإسلامية وذلك بالقول مثلا إن الديمقراطية «موجودة في الفكر الإسلامي تحت اسم الشورى، وأن العلمانية موجود تحت اسم العقل»!!.
إن هذه المنهجية جعلت محاولات التجديد تغفل حتى عن النظر إلى هذه القيم الحداثية نظرة نقدية بل عملت على إدخالها إلى حقل التداول الإسلامي باعتبارها «مكتسبات أو اكتشافات إنسانية وعقلية نهائية، ولم تنظر أو لم تفكر في النظر إلى ما يمكن أن تنطوي عليه من محدودية تاريخية أو تناقضات داخلية»2. ذلك أن الضغط المنهجي الذي صاحب المحاولات التجديدية جعلها تعتقد أن التجديد يكمن في «تحديد المعاني والمفاهيم المستخدمة في إطار منظومة ثقافية أو فكرية بما يتفق مع القيم الحديثة أو العصرية.. إن الخطأ هو في التفكير في أن التجديد هو مطابقة أو مسايرة لقيم معينة داخل المنظومة، أي ما أصبحنا نردده فيما بعد، ونسميه التكيف مع قيم ومعطيات العصر»3.(33/86)
ما يمكن أن نخلص إليه من فك الترابط بين التجديد والحداثة. وجعل هذه العملية -التجديد- تتم بعيدًا عن النمط الحداثي الغربي، هو دفعها نحو وضعية مختلفة وشروط مختلفة عن تلك التي عرفتها المحاولات التجديدية التي تمت في حقل التداول الإسلامي. لعلها تبدع نمطها في التحديث انطلاقاً من الذات (التراث). وإن كنا لا نستطيع أن نحدد هذه الوضعية وأن نكتشف الشروط الممكن أن تتم فيها محاولة جديدة للتفكير الديني.
============(33/87)
(33/88)
روعة التّهافت؟!
د. مسفر بن علي القحطاني 20/3/1427
18/04/2006
" القيم إلى أين؟ " هذا التساؤل الكبير كان محطّ اهتمام أكثر من خمسين مفكراً جمعتهم اليونسكو من كل أنحاء العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال, وكان هناك شبه إجماع -حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا- وهو أن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم التي تحكم معطياتها إشراقات التفاؤل.
لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية، لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته، ولكن من أجل الحماية من تداعياته الكارثية، وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب، وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم، وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية، وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر, وهنا مكمن الخلل الذي يتعدّى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مَسلّة المجتمعات البشرية, وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطّم المجتمع ،ويلاشيه، ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية، أو سلعاً رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء.
هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم، بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة. صحيح أن المجتمعات ليست قالباً واحداً في حجم التأثر بل هناك تفاوت في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار, وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة، والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول!
أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر، ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر، ويغرس النخلة، ولو قامت الساعة, لكن الفأل المفرط لا يمنع دقّ نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يُباع فيه كل شيء, نعم كل شيء حتى الفكر والقيم والإنسان, والمتأمل في اقتصاديات العولمة وأسواقها الحرة رأى كيف تذوب اللغات، وتُهمّش الثقافات، ويُباع الإنسان، أو يُدفن حياً تحت ركام الديون أو البحث عن فتات العيش في مزابل الأغنياء والمترفين. لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب كـ(جاك دريدا) و(هابرماس) و(بيار) و(ريفكي) و(تشومسكي) و(كنيدي) وغيرهم بالدفاع عن القيم، ولو كانت ناقصة التأثير؛ فالحداثة الغربية بمفاهيميها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثيرين، وسقطت في براثن فيروسات الغطرسة والتعالي وازدواجية المبادئ, وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم.
أنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستبداد والاستغلال, وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب، وذاقت مرارتها ثقافات، تريد بسط نفوذها تحت هيمنة الإعلام المؤدلج, ووطئت المنتديات الاقتصادية التي يُجلب لها متحدثون من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس، كما يريدون، لا كما نؤمن ونعتقد, لقد اضطّروا المثقفَ والكاتبَ والعالمَ لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب، أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق وأهواء الناس, وعليه دائماً -إذا لم يكن له صديق أو معرّف في هذا السوق- أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين: كم سيجلب من مال أو يشتري بضاعته الفكرية من أناس، ولو بالإثارة التافهة أو الدّوْس على القيم السامية؟! هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب، وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم، وتعظيم الحقير، وتحطيم الوعاة، وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكريّ الأصيل؟!
============(33/89)
(33/90)
محاولة في المنهجية الإسلامية
د. عماد الدين خليل
هناك مدى قد يبدو شاسعا بين (المنهج العلمي) و(الروح العلمية) فالمنتهج انما هو تقنية عمل في هذا الحقل او ذاك من حقول المعرفة البشرية للكشف عن حقيقة ما او مقاربتها تحليلا وتركيبا، وهو بهذا قد يكون مسألة (موضوعية) يتحكم فيها قانون تراكم الخبرة ويتلقاها الباحث عن الخارج مضيفا اليها حينا، ومنفذا مطالبها دونما أي قدر من الاضافة او التعديل حينا آخر.
وهذا يبدو أكثر ما يبدو في العصر الحديث الذي تبلورت عبره الملامح الاساسية لمنهج البحث العلمي بمقاطعه ومراحله جميعا.
اما الروح العلمية فهي أقرب الى أن تكون أمرا ذاتيا يرتبط بالباحث نفسه ويصبغ ـ أو يحكم ـ رؤيته للعالم والظواهر والاشياء، وهو يتعامل معها بحثا وكشفا وتحليلا وتركيبا.
لكننا يجب أن نكون حذرين، فأن هذه الرؤية التي قد تبدو ذاتية ليست منفصلة بالكلية عن الخارج، عن الموضوع.. وبعبارة أخرى فأن البيئة الحضارية التي ينتمي اليها الباحث ستلعب دورا مؤثرا في تشكيل روحه العلمية سلبا وايجابا.
بالنسبة لابن خلدون، حيث لم يكن منهج البحث العلمي في التاريخ على وجه الخصوص قد قطع شوطا كبيرا صوب النضج والاكتمال، تبدو محاولته في (المقدمة) خطوة جريئة بمقدار ما تتضمنه من قدرة على ارتياد آفاق عمل جديدة من أجل صياغة، أو اضافة تقنيات وضوابط منهجية في هذا الحقل ولا ريب أن تكون الروح العلمية في حالة كهذه ذات دور فعال في صياغة المنهج، وأن تكون المرتكزات الاساسية للحضارة الاسلامية ذات تأثير لا يقل خطورة.
وهكذا فأن المدى المتباعد بين المنهج والروح سيتقارب هاهنا وسيكون الحديث عنهما او اعتمادهما كمفردتين أمرا متصلا متداخلا بقدر ما يتعلق الامر بابن خلدون.
***
ثمة مسألة اخرى يجب التأشير عليها قبل المضي في الموضوع.. أن المنهج نفسه ليس طبقة أو دائرة واحدة وإنما هو طبقات ودوائر تنداح من بؤرتها المركزية الحرفية الصرفة باتجاه التأثر بالمعطيات الحضارية ذات الخصوصية، وتمضي لكي تكون في مداها الأكثر اتساعا مرادفا للشريعة التي تتولى مهمة تنفيذ مطالب العقيدة على أرضية العالم.
اذا بدأنا من هاهنا فأننا سنجد القرآن الكريم يعتمد اللفظة للدلالة على هذا المعنى.
ابن كثير ـ مثلا ـ وهو يتناول الآية الثامنة والاربعين من سورة المائدة يفسر قوله تعالى (ولكم جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) بالسبيل والسنة (أي الطريقة)، وأن الشرعة هي الشريعة.. اما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق، وفي (صفوة التفاسير) اننا جعلنا لكل امة شريعة وطريقا بينا واضحا خاصا بتلك الامة. واختلاف المناهج هذا ينصب على الاحكام أما المعتقد فهو واحد لجميع الناس: توحيد وإيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء(2)، أي لكافة المنتمين للديانات السماوية في جوهرها الاصيل.
ما الذي يقوله المعجم العربي بصدد المفردة؟
النهج هو الطريق الواضح البين والجمع نهجات.. وطرق نهجة أي واضحة كالمنهج والمنهاج..
وأنهج أي أوضح، قال يزيد العبدي
سبل المكارم والهدى تعدى …ولقد أضاء لك الطريق وأنهجت
أي تعين وتقوى..
ونهج الطريق أي سلكه، واستنهج الطريق صار نهجا واضحا بينا..
وأنهج الطريق اذا وضح واستبان..
وفلان استنهج طريق فلان اذا سلك مسلكه..
وطريق ناهجة أي واضحة بينة) 3)..
فالمفردة ـ إذن ـ لا تتجاوز هنا حدود اللغوية باتجاه المصطلح الاكثر حداثة والذي يدل على حرفية البحث العلمي حينا، كما يدل في مداه الواسع على رؤية جماعة ما، وبرنامج عملها، أو شريعتها التي تتولى مهمة تحويل مفردات الرؤية الى واقع معاش.
***
بما أن هذه الورقات ليست حديثا عن المنهج، وإنما هي متابعة موجزة لملامح (العلمية الاسلامية) في منهج ابن خلدون فأن هذا يكفي.. كل ما هنالك هو ضرورة أن نضع هذه المسائل في الحسبان ونحن نتحدث عن الرجل، فان المنهج عنده مزيج من التقنيات الحرفية (الموضوعية) التي لعب دورا كبيرا في إغنائها بل في تأسيسها، والروح التي تمثل حصيلة رؤيته المعرفية (الابستمولوجية).. ثم وهذا هو المهم رؤيته الاسلامية التي طبعت بصماتها منهجه وروحه العلمية معا.
وبما أن المنهج العلمي لابن خلدون في حقول المعرفة عامة، والتاريخ على وجه الخصوص، قد قل فيه كثيرا وكتب كثيرا فان الصفحات التالية ستتجاوز هذه المسألة، قدر الامكان، صوب محاولة للكشف، أو التأكيد، بعبارة أدق على طبيعة الارتباط بين الاسلامية والمنهج في مقدمة ابن خلدون، وصولا الى أن العلمية التي أخذ بها الرجل ودعا اليها، لم تكن هبة قادمة من الفراغ، وهي لم تتشكل في عقل ابن خلدون ابتداء، ولكنها وليدة البيئة الحضارية الاسلامية التي قدر له ان يكون ابنها البار.(33/91)
وقد يكون غريبا التأكيد على هذه المسألة التي قد تبدو للبعض امرا بديهيا ولكننا اذا تذكرنا عددا من استنتاجات الباحثين والمفكرين المحدثين والمعاصرين بصدد المقدمة، عرفنا ان تأكيدا كهذا ضروري كنوع من إعادة الامر الى نصابه بعد أن جنحت به التحليلات الخاطئة التي لم تقف عند حد إقامة جدار عازل أو حفر خندق عميق بين الاسلامية و(المقدمة) في المنهج والمعطيات، وانما مضت خطوات أكثر تطرفا بجعلها (المقدمة) بشكل من الاشكال، نقيضة للاسلامية.
اننا نجد ـ مثلاـ ان احد الباحثين الغربيين وهو دي بوير T. J. de Boe r (الهولندي) يذكر (ان الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية بقدر ما أثرت الارسطوطاليسية الافلاطونية) ويشير باحث آخر هو تاتنيل شميت N. Snhmidt الاستاذ بجامعة كورنل بامريكا الى ان ابن خلدون «اذا كان يذكر خلال بحثه كثيرا من آيات القرآن، فليس لذكره علاقة جوهرية بتدليله، ولعله يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن»(5). وثمة مستشرق الماني هو فون فيسندنك Von Wesendonk يقول ان ابن خلدون «تحرر من اصفاد التقاليد الاسلامية في درس شؤون الدولة والادارة وغيرهما، وانه حرر ذهنه ـ كذلك ـ من القيود الفكرية التي ارتبطت في عصره بالعقائد العربية الصحيحة»(6).
وبهذا سيكون المنهج العلمي لابن خلدون متشكلا من الفراغ وستكون روحه العلمية في حالة انشقاق عن مطالب الرؤية العقيدية للاسلام الذي ينتمي اليه، وستكون النتيجة النهائية ان (العلمية) لا صلة لها (بالاسلامية) بل قد تكون في حالة اصطراع معها، وقد يقود هذا الى تكرار الصورة المحزنة للصراع بين العلم والدين والى ان يوضع ابن خلدون في قائمة واحدة مع برونو ونيكوس وغاليلية، والى جعل الحضارة الاسلامية وجها آخر للحضارة النصرانية بقدر ما يتعلق الأمر بطبيعة الارتباط بين العلم والايمان.
بل ان التحليل المادي للتاريخ يمضي خطوة أبعد فيحاول ان يصور منهج ابن خلدون كما لو كان منهجا جدليا ومعطياته كما لو انها وليدة رؤية للعالم والظواهر والاشياء لا علاقة لها بالاسلامية من قريب أو بعيد، بل هي نقيضة لها من أول الرحلة حتى منتهاها.
إننا نقرأ ـ على سبيل المثال ـ واحدة من المحاولات الاكثر حداثة في هذا السياق (في علمية الفكر الخلدوني)(7) ونجد الناشر يلخص المحاولة بالاستنتاج التالي: أن «ثورة ابن خلدون الفكرية تكمن، في انه حرر الفكر التاريخي من هيمنة الفكر الديني، بان اكتشف في واقعات التاريخ عقلها المادي فأحل ضرورة العمران محل الله ـ او ما يشبهه ـ في تفسير الظاهرات جميعا، فاستبدل التأويل بالتفسير، فكان التفسير بالضرورة ماديا، وكان علميا من حيث هو مادي، دون ان يعني هذا رفضا للدين او الشرع ومبادئه، فالشرع شيء والتاريخ او العمران ـ شيء آخر، وليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولئن دخل الشرع، أو الدين: في حقل العمران او التاريخ كما هو واقع الامر في المقدمة فكأمر عمراني او تاريخي مادي لا كأمر غيبي أو الهي. وينظر فيه حينئذ بعين العمران وقوانينه، لا بعين الدين ومبادئه، او بعين الشرع واحكامه فلمسائل الشرع منطقها ولمسائل العمران والتاريخ منطقها، ولا يصح، الخلط بين المنطقين»)8 ) .
والمسألة في أساسها ليست لعبة لجر الحبل بين الاسلاميين والطرف الآخر نصرانيا كان أم علمانيا أم ماديا، لكنها محاولة للاضاءة يتبين من خلالها الموقع الذي وقف عليه ابن خلدون، والدائرة التي تحرك في إطارها.
وفي حالة كهذه فأن تفنيد حجج الاخرين سيتضمن ابتداء - موافقة على الدخول في اللعبة. ومن أجل الا نمسك بالحبل من طرفه الاخر لكي نجر الينا ابن خلدون بطريقة متعسفة، فان علينا ان نتابع بعض الملامح المنهجية والموضوعية في معطياته لكي نعرف الارضية التي ينشط عليها، دونما حاجة لاقناع الاخرين او ارغامهم ـ بقوة الشد ـ على إعادة الفكر الخلدوني الينا.
والمدى واسع، وما قاله ابن خلدون في هذا السياق اوسع بكثير من أن تتحمله صفحات بحث كهذا. ولذا سيكون الايجاز أمرا لا مفر منه وستتحرك المقاطع التالية على محاور أساسية ثلاثة فحسب في الفكر الخلدوني من بين محاور عديدة اخرى، مؤشرة على علمية الرجل، وعلى إرتباط هذه العملية بمنظوره الاسلامي الاصيل: النشاط المعرفي، الرؤية التربوية، وحركة التاريخ.
أولا: النشاط المعرفي
في حيث ابن خلدون عن طبيعة النشاط المعرفي، وضوابطه، لا يكفي أن نقول بأنه كان يملك (روحا علميا) ولكن أن نضيف الى هذا صفة (الاسلامية) التي كانت تشكل هذه الروح وترسم ملامحها.(33/92)
يتحدث في مقدمة له بعنوان (الانسان جاهل بالذات عالم بالكسب) عن الفكر بما انه الخصيصة التي تميز الانسان عن سائر الحيوانات وتمكنه من اداء دوره العمراني في العالم كخليفة عن الله سبحانه فيه. وهو هنا يشير الى ثلاثة انماط من النشاط العقلي الذي يمارسه الانسان ويطرح في هذا المجال ـ كما فعل في مجالات اخرى من الباب السادس ـ جوانب عديدة من تصوره لنظرية المعرفة، ولا يكاد وهو يتوغل في الموضوع أن يفارق طريقته التي اعتادها: الاحساس الدائم بالحضور الالهي المستمر في التاريخ، والاستشهاد بآيات من كتاب الله وهما امران لهما دلالتهما على عمق المعنى والرؤية الدينية لدى ابن خلدون (قد بينا أن الانسان من جنس الحيوانات وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به افعاله على انتظام وهو العقل التمييزي، أو يقتنص به العلم بالاراء، والمصالح والمفاسد من ابناء جنسه وهو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا وشاهدا على ما هي عليه وهو العقل النظري. وهذا الفكر انما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه. ويبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز من النطفة والعلقة والمضغة، وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل له الله في مدارك الحس والافئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة)، فهو في الحالة الاولى قبل التمييز فقط لجهله بجميع المعارف، ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فتكمل ذاته الانسانية في وجودها.
وانظر الى قوله تعالى مبدأ الوحي الى نبيه (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الاكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم)»، أي اكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له، بعد ان كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي، واشارت اليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الانسانية وحالتاها الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي وكان الله عليما حكيما)(11).
بصدد الفلسفة كطريقة للمعرفة يتحدد موقف ابن خلدون المرتبط برؤيته الدينية الواضحة تحت هذا العنوان(فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها) وهو يرد في الباب السادس من مقدمته والذي يتناول فيه (العلوم وأصنافها)(12) حيث يقوده تحليله العميق الى القول بتعارض الفلسفة والدين.
وهو موقف اسلامي ذكي مقنع يصدر عن فهم دقيق للعلاقات المتبادلة بين العقل والشرع، وبين العقل والعالم، لولا أن ابن خلدون اخطأ العنوان، أو أن العنوان اخطأ الرجل، فجاء بهذه الصيغة التعميمية، و(التعميم) هو احدى ثغرات (المقدمة).
(إبطال الفلسفة) وللوهلة الاولى يبدو أنه يرفض الفلسفة بانماطها وحقولها واختصاصاتها جميعا، ولما كانت هناك انماط شتى من الفلسفة، كفلسفة الاخلاق وفلسفة الجمال، فلسفة الفن، وفلسفة التاريخ: الى آخره.. وكان هو نفسه فيلسوفا على هذا المستوى الاخير، وان لم يكن مصطلح (فلسفة التاريخ) قد برز بعد وتبلور، تبدى لنا كيف ان الرجل يناقض نفسه، وكيف يعلم عن إبطاله للفلسفة وفيها من الفروع ما هو ضروري جدا للتقدم الجاد في حقول المعرفة، ولفهم الارتباطات الشاملة بين الحقائق والظواهر التي تتضمنها هذه الحقول.
لكننا بتجاوز العنوان يتبين لنا، بمجرد اجتياز الاسطر الاولى، ان الرجل لا يقول بابطال عموم الفلسفة، وإنما نوع واحد منها فقط هو المسمى بفلسفة الالهيات أو ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، بما أن العقل البشري والادوات الحسية التي يعتمدها، غير قادرتين على سبر أغوار هذا العالم الذي يتحتم ـ على ذلك ـ ان يبقى في دائرة اختصاص الشرائع القومية الموحى بها من الله الذي لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء والي أحاط ـ سبحانه ـ بك شيء علما.
وطالما تجاوز العقل وأدواته الحسية حدود اختصاصاتها المعقولة حيثما انتهى بهما المطاف الى الضياع، وحيثما مورس نوع من التبذير في الطاقات البشرية التي كان احرى بها ان تتجه للعمل في ما هو أقرب اليها وأجدى عليها، وأن تترك ما وراء العيان لاصحابه الحقيقيين، فتسلم وتعرف كيف تضع خطاها، مستمدة الضوء في تلك الدائرة اللامتناهية من مصادر اخرى تفوق العقل والحواس قدرة على رؤية ما يجري هنالك.
أن ابن خلدون يذكرنا، بموقفه الملتزم هذا، بالغزالي، الذي كان فيلسوفا هو الآخر، ولكنه سدد ضربات قاسية للفلسفة بمعناها الميتافيزيقي هذا في كتابه (تهافت الفلاسفة) على وجه الخصوص، ويذكرنا ـ في الجهة الاخرى ـ بجهود حشد كبير من الفلاسفة المسلمين: الكندي، الفارابي، ابن سينا.. الى آخره، كانوا اشبه بظلال لفلاسفة اليونان، افنوا اعمارهم في هذا الحقل وكتبوا كثيرا في الالهيات، وأجهدوا عقولهم في تحليل معطيات ما وراء الطبيعة بحثا عن العلة والمعلول وواجب الوجود ومتناهي الاول، ولم يصلوا ـ في نهاية الامر ـ إلا الى تعميمات وإشارات معقدة غامضة.(33/93)
صحيح انها في معظمها اكدت التوجه صوب الله الواحد سبحانه، إلا انها استنزفت من قدرات العقل البشري جهدا اكبر بكثير من النتائج التي بلغتها لانه ضرب في يم ليس من السهولة بمكان الوصول الى مرافئه وشواطئه في وقت كانت الشرائع الموحى بها من الله سبحانه وتعالى قد حسمته بوضوح وإعجاز بالغين، ولان جهدا كهذا أحرى أن يبذل فيما هو أجدى على الانسان والعمران البشري في تقدمه ورقيه.
وما لنا الا نرجع الى ابن خلدون نفسه لكي نرى ما الذي يريد أن يقوله: «هذا الفصل وما بعده(13) مهم لان هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصرح بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها، وذلك أن نوعا من عقلاء النوع الانساني زعموا أن الوجودكله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك ذواته واحواله باسبابه وعللها بالانظار الفكرية والاقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الايمانية من قبل النظر (اي العقل) لا من جهة السمع (أي النقل عن الشرائع الموحى بها من الله سبحانه) فأنها بغض من مدارك العقل.
وهؤلاء يسمون فلاسفة، جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره الى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق وبع أن يعرف بالمنطق يقول «.. ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها، ما في الحس وما وراء الحس، بهذا النظر وتلك البراهين»)14 ) .
فهو اذن يرفض ما يريده هؤلاء الفلاسفة من تحكيم للعقل في مسائل الحس وما وراء الحس، ومن إخضاعه ـ حتى ـ للعقائد الايمانية التي تند عن دائرة المعقول والمحسوس، ويرى في ذلك ضررا كبيرا يلحق بالدين، لان هذا الموقف هو في نهاية التحليل تجاوز للاختصاص الذي اختصت به طاقات الانسان وقدراته وهذا التجاوز سيكون على حساب المعطيات الدينية التي وان جاءت في كثير من جوانبها مساوقة لبداهات العقل والحس السليمين، الا انها بصدورها عن مصدر هو أكبر بكثير في رؤيته من العقل والحس، واكثر شمولية وموضوعية واستشراقا، بما لا يقبل القياس، يجعلها لا تخضع للحصر الحسي أو العقلي والا كانت النتائج التي ستصل اليها اما خاطئة من الاساس، او انها ـ على أقل تقدير ستجعل العقل فوق الدين، وستفقد الاخير بالتالي الزاماته الفوقية وابعاده الغيبية، وتجعله في نهاية الامر لعبة يتلهى بها الفلاسفة في ضوء معطيات عقولهم النسبية دون ان يحاول احدهم يوما التزام مقولاتها.. وحاشا للدين من هذا المصير
بل يحدث ما هو أبعد من ذلك: رفض لشريعة الله الموحى بها الى انبيائه (عليهم السلام) واتباع للشرائع التي يسنها العقل البشري، وابتكار طريف لمعنى النعيم والعذاب لم يقل به دين من الاديان. وهذا ما يصل اليه ابن خلدون من خلال تحليله لطرائق هؤلاء الفلاسفة في التدرج من الحسي الى ما وراء الحسي، وفي الحكم على مجريات السماء البعيدة استنادا الى ما يلحظونه في الارض القريبة.. يقول «وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة، وما آلت اليه، وهو الذي فرعوا عليه قضايا انظارهم، انهم عثروا اولا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس، ثم ترقى ادراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس بالحيوانات، ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف ادراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على الذات الانسانية ووجب عندهم ان يكون للفلك نفس وعقل كما للانسان. ثم انهوا ذلك نهاية عدد الاحاد وهي العشر، تسع مفصلة ذواتها جمل وواحد اول مفرد وهو العاشر(15). ويزعمون ان السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالفضائل، وان ذلك ممكن للانسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الافعال بمقتضى عقله ونظره وميله الى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته، وان ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة، وان الجهل بذلك هو البقاء السرمدي. وهذا عندهم هو النعيم والعذاب في الآخرة.. الى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم»(15).
فلا معنى لنزول الاديان اذن، ولا حاجة لاتصال الوحي ببني آدم عن طريق رسل الله سبحانه، ما دام ان مجموعة الفلاسفة قادرة بمنهجها الذي يبدأ من الاسفل ويصعد الى الاعلى، على منح الانسان الدين الذي يسعده ويبهجه! وهكذا يتبدى لنا الضرر الذي حذر منه ابن خلدون في بداية فصله هذا.
إننا هنا قبالة منهج مقلوب: أن نصل الى الدين السماوي من خال الارض السفلية، وان نحظى بنعيم الكلي الخالد من خلال رؤية المحدود الفاني وفضلا عن ذلك، فان هذا الجهد المقلوب، يستنزف من العقول البشرية طاقات كبيرة وهي تعمل في غير حقها، كان أحرى ان تبذل في مجال تنمية العمران في العالم من خلال فهم هذا العالم القريب ومحاولة كشف سننه والسيطرة عليها وتسخيرها لصالح الانسان فيما هو من إختصاص العقل والحس البشريين.(33/94)
أما المنهج الديني فهو على العكس من ذلك، يجعلنا نعتمد منهجا يقف دائما في وضعه الصحيح: ان السماء هي التي تمنح الارض الهدى الذي تسير فيه الى غايتها، والله سبحانه، الذي هو ادرى بخلقه هو الذي يبحث بوحيه الامين، بين الحين والحين، ينقله الانبياء الكرام الى أجيال البشرية حقبة في إثر حقبة حتى خاتم الانبياء عليهم السلام. وهكذا فأن الكلي هو الذي يقود المحدود، وان الخالد هو الذي يحدد الفاني، ما دام عالم السماء، عالم ما وراء الحس والادراكات العقلية النسبية، يند عن طاقة الانسان، وسعيه فيه لا يعدو أن يكون سعيا ظنيا، فأحرى بالعقل والحس البشريين ان يتجها للعمل في قلب العالم، في دراسة مادته وفهم علاقاته وادراك سننه.. وحينذاك سيعرف الانسان، ليس فقط الطرائق التي تمكنه من إعمار العالم كخليفة عن الله فيه، وإنما سيزداد إيماننا بالله والتزاما بوحيه الامين من خلال إدراكه لحكمة المقصودة في خلق هذا العالم، والتناسق المعجز في وظائفه وتركيبه، وهكذا فبينما ينتهي الامر بالفلسفة الى ان تقف نقيضا للعلم المجدي الفعال، وأدواته عقلا وحواسا، ينتهي الدين الى تأكيد لهذا العلم وتنشيط لادواته.
وبع ان يشير ابن خلدون الى ان امام هذه الفلسفة الذي استوفى مسائلها هو ارسطو المسمى بالمعلم الاول، يلتفت التفاتة ذكية بقوله «.... ثم كان من بعده في السلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل الا في التعليل، وذلك لان كتب اولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني الى اللسان العربي، تصفحها كثير من أهل الملة من منتحلي العلوم (الفلسفية) وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل تفاريعها وكان من اشهرهم ابو نصر الفارابي وابو علي بن سينا.. وغيرهما»(17).
ولكن مهما يكن من أمر هذه الاختلافات فأن فلاسفة المسلمين الاول ما كانوا بأكثر من ظلال لاسلافهم اليونان، اتبعوا رؤيتهم في الفلسفة «حذو النعل بالنعل».
يأخذ ابن خلدون بعد ذلك بمناقشة وجهات هؤلاء الفلاسفة وتفنيد ما يستحق التفنيد، فيما لا مجال لاستعراض تفاصيله(18)، ويختتم مناقشته هذه بقوله «فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها» ثم يشير الى الثمرة الوحيدة التي نحظى بها من شجرة الفلسفة هذه تلك هي شحذ الذهن البشري وتمكينه من ترتيب الادلة المنطقية وسوق البراهين على ما يسعى الى إثباته. وهذا يدل على انفساح صدر ابن خلدون لكل علم بشري وملاحظة سلبياته وإيجابياته على السواء في محاولة منه ان يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت كما علمه الرسو صلى الله عليه وسلم ان يكون، «وأما مضارها ـ أي الفلسفة ـ فهي ما علمت. فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل ان يسلم لذلك من معاطبها»(19). وأما الذين يختارون ان يتحصنوا ـ أولا ـ بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، فلهم ان يسيروا حيث يشاؤون، وان يسبروا غور الفلسفة ايا كانت، فأنهم سوف يصلون شاطئ الامان وقد ازدادوا إيمانا ويقينا.
الا أن ابن خلدون يحبذ«الاعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم ما لا يعنيه» فأن هذه المسائل «لا تهمنا في ديننا ولا في معاشنا فوجب علينا تركها»(20). فكأنه، انطلاقا من موقف الاسلام نفسه، يريد ان يحفظ على العقل البشري طاقته الفعالة فلا تستنزف فيما هو غير مجد، ولا تعمل إلا فيما يعود على الانسان المسلم بالخير في دينه ومعاشه، أي ان ينصب جهدها في صميم العالم، لا فيما وراء العالم حيث إختصاص الاديان.
ومن زاوية الرؤية المتسلحة بالعقل، نفسها، يدعو ابن خلدون الى إبطال خرافة التنجيم، تماما كما دعا الى إبطال خرافة فلسفة الالهيات وما وراء الطبيعة.. كلتاهما خرافة، بما انهما تقودان العقل البشري الى مساحة الكون غير المنظور، بما لم يتهيأ له أساسا. والخرافة بمعنى ما، هي أن نتحرك الى اهدافنا بدون الوسائل المنطقية التي تبلغنا تلك الاهداف. وإذا كانت الممارسة الفلسفية لما وراء الطبيعة تغطي على عبثها وعقلانيتها بنوع من المنهجية المدعاة وبحشد من المصطلحات المعماة، فان التنجيم يضرب بهذا كله عرض الحائط، ويعتمد اسلوبا في العلم ما انزلت معطيات العقل والمنطق وبداهاتهما به من سلطان «فهذه الصناعة ـ يقول ابن خلدون ـ يزعم اصحابها انهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة، فتكون لذلك اوضاع الافلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية..»(21) الى آخر هذا الغشاء.(33/95)
وهو ينفي ان يكون الانبياء عليهم السالم قد مارسوا هذا المنهج الخاصي وحاشاهم «.. ذهب ضعفاء ـ من اصحاب التنجيم ـ الى ان معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي، وهو رأي قائل «خاطئ وضعيف» وقد كفونا مؤونة ابطاله.. ومن اوضح الادلة فيه ان تعلم ان الانبياء عليهم الصلاة والسلام أبعد الناس عن الصنائع، وانهم لا يتعرضون للاخبار عن الغيب ألا أن يكون عن الله، فكيف يدعون استنباطه بالصناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق»(22).
وبعد ان يستعرض ابن خلدون مقولات بطليموس وتلامذته في هذا الميدان يتقدم لتفنيدها بحجج عقلية بينة ويصل الى القول بأن «تثير الكواكب فيما تحتها باطل، اذ قد تبين في باب التوحيد ان لا فاعل الا الله، بطريق استلالي كما رأيته، واحتج له أهل علم الكلام بما هو غني عن البيان من أن اسناد الاسباب الى المسببات مجهول الكيفية والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير، فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف والقدرة الالهية رابطة بينها كما ربطت جميع الكائنات علوا وسفلا، سيما والشرع يرد الحوادث كلها الى درة الله تعالى ويبدأ مما سوى ذلك.
والنبوات أيضا منكرة لشأن النجوم وتأثراتها واستقراء الشرعيات شاهد بذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم «أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته» فقد بان لك بطلان هذه الصناعة عن طريق الشرع، وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل، كما لها من المضار في العمران الانساني لما تبعث في عقائد العوام من الفساد اذا اتفق الصدق في إخفائها في بعض الاحايين اتفاقا لا يرجع الى تعليل ولا تحقيق. فليلهج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر احكامها، وليس كذلك، فيقع في رد الاشياء الى غير خالقها». ثم يبين ان حظر الشريعة لهذا العبث المدعو علما، دفع اصحابه الى ممارسته بمعزل عن الجمهور، وتسترهم عن الناس كي لا ينكشف امرهم وهذا مما زاده الغازا وتعيدا..»(23).
ومن المنطلق نفسه يرفض ابن خلدون الكيمياء، لا بمفهومها التجريبي المختبري الذي عرفته بمرور الوقت، ولكن بمفهومها السحري القديم القائم على الدجل والخرافة والذي كان يطمح بتحويل المعادن الرخيصة الى ثمينة بأساليب سحرية ملغزة لا تقل سخفا في تعاملها مع حقائق الطبيعة والكون من الميتافيزيقا او التنجيم»(24).
ان ابن خلدون في دعوته الجادة الى ابطال تلك الفنون الثلاثة ـ ولا أقول علوما ـ الميتافيزيقا والكيمياء السحرية والتنجمي، بقدر ما ينطلق من رؤية دينية واضحة وعميقة، تستمد من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، بقدر ما يؤكد مدى احترامه للعقل البشري، وانه برفضه هذه الفنون لا يقف بمواجهة العقل والروح العلمية وانما معها، وتلك هي طبيعة الرؤية الدينية كما يمنحنا إياها كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام.(24)
***
ثانيا: الرؤية التربوية
التربية بايجاز شيد، عمل داينمي يستهدف صقل وتنمية قدرات الانسان العقلية والروحية والجسدية والوجدانية، وبما ان الانسان ـ بايجاز ايضا ـ هو صانع الحضارة، فان التربية ـ بالضرورة ـ تغدو صيغة عمل حضاري يحمل قدرا كبيرا من الأهمية.
وابن خلدون هو واحد من المفكرين الرواد الذين أولوا المسألة الحضارية أهمية بالغة، وتجاوزوا المنظور التسطيحي لقراءة التاريخ البشري صوب التوغل عمقا لفهم أبعاد معطياته الحضارية، والقوانين التي تحكمها، بدءا وصيرورة ونموا وغناء.. وليس من قبل الصدفة ـ إذن ـ ولا لمجرد استكمال الحديث عن كل موضوع وفق نزعة موضوعية فضفاضة، كما كان يفعل الكثير من الكتاب قبله، أو بعده، ليس من هذا القبيل تلك المساحات الواسعة التي يمنحها الرجل للمسألة التربوية في العديد من شعبها واهتماماتها وأنشطتها ما دام ان العمل التربوي سعي متواصل في صميم النشاط الحضاري للجماعة البشرية.
وهو يمنحنا تحليلات طيبة، وعلى قدر كبير من النضج، بالمقارنة مع المعطيات التربوية الحديثة: عن القيم والاهداف ومحتوى التعليم وطرائقه وأساليبه، والمعلم المتعلم، كما انه يقف طويلا عند (نظرية المعرفة) ذات الارتباط الوثيق بالتربية، ويقدم ـ في الوقت نسه ـ رؤية للانسان من خلال نظرة التربية الاسلامية اليه.
وبما أن الرجل هو ابن البيئة الاسلامية لحما ودما وفكرا، فان معطياته التربوية كانت تتشكل بالضرورة من مادة هذه البيئة وتتداخل مع نسيجها.
بعبارة اخرى، انه يتحدث عن التربية الاسلامية على وجه الخصوص لا عن اية تربية اخرى، وضعية او غير وضعية، كما حاول ويحاول بعض الباحثين، منذ اواخر القرن الماضي وعبر القرن الاخير، أن يذهبوا ـ كما رأينا ـ ليس على مستوى التربية فحسب، بل على كافة المستويات المعرفية التي تتضمنها المقدمة.
وتتوزع المادة التربوية على مدى المقدمة، وتنتشر في أبوابها الستة لكنها تتكاثف هنا وتقل هناك، وفقا لطبيعة الباب، أو الفصل الذي يتحدث عن (موضوعة) ما قد ترتبط بالمنظور التربوي بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد لا ترتبط به اساسا.(33/96)
يصدر ابن خلدون في نظرته للانسان، والتعامل التربوي معه بالتالي عن رؤية اسلامية واضحة تضع هذا الكائن المتفرد في مكانه الحق من العالم.
وهو يؤكد ويعيد تأكيده المرة تلو المرة، على تميز الانسان بالفكر الذي وهبه الله اياه، متجاوزا «النظرة التجزيئية للانسان، متعاملا معه بمكوناته كافة: العقل والروح والوجدان والحس والغرائز والجسم، دونما عزل أو نفي أو فصل أو تقطيع، الانسان كما خلقه الله سبحانه وكما اراد له ان يكون.. كما يؤكد حتمية النبوات التي أعان الله الانسان بها على اكتشاف الطريق، وعلى استخلافه العمراني في العالم، وتسخير العالم، بطاقاته وسننه، لهذا المخلوق المستخلف عن الله في الارض، لكي يقدر على مواصلة مهمته في التقدم والتحضر والاعمار.(26)
هذه هي الخطوط الاساسية، أو مراكز الثقل الخمسة التي تميز التصور الاسلامي للانسان، عن سائر المذاهب والتصورات، والتي تنبثق عنها بالضرورة طبيعة التربية التي يتحتم اعتمادها لتنمية قدرات هذا الكائن وتمكينه من أداء مهمته في الأرض، كما تنبثق عنها ملامح وأسس نظرية للمعرفة تتميز هي الاخرى عن سائر النظريات الوضعية، باتساع مداها وتجاوزه لظواهر الاشياء صوب عالم الباطن والغيب.
ويحمل التعليم قيمته الاساسية في مقدمة ابن خلدون من حيث انه ضرورة من ضرورات الاجماع البشري، وأداء لابد منها لتمكين الجماعة من التحقق بالعيش والرفاهية من خلال الخبرات والصنائع التي تنالها بالتعليم. بل أن الأمر ليتجاوز هذا كله فيغدو التعليم ضرورة لقبول ما جاء به الانبياء عليهم السلام والانتماء لدعواتهم. من خلال نظرة إسلامية شمولية يطل بها أبن خلدون على قيمة التعليم فيجدها تمتد كلي تشمل الارض والسماء، الدنيا والاخرة على السواء وتلك هي بحق واحدة من أهم ملامح التربية الاسلامية، بل أهمها على الاطلاق(27).
ويقف ابن خلدون طويلا «عند قيمة العمل ـ الذي تبرمجه وتؤكده الممارسة التربوية التعليمية ـ ويراه ضرورة من ضرورات العمران، ثم هو كعادته يعالجه من زاوية رؤياه الاسلامية ويبلغ به الامر القول بأن قيمة الاشياء انما تقاس بمقدار ما بذل فيها من عمل، وهو يربط ـ كذلك ـ بين مبدأ التسخير الذي يعرض له كتاب الله للانسان في هذا العالم، وحيثما تلفتنا وجدنا الرجل يولي العمل قيمة كبرى كواحد من الوسائل الاساسية لتحقيق مهمة الانسان في الارض واستخلافه العمراني في العالم على عين اله وهدى انبيائه عليهم السلام(28).
حتى اذا ما بلغنا المسائل المباشرة الاكثر ارتباطا بالعملية التربوية التعليمية وجدنا ابن خلدون يقدم مادة طيبة، ويقف وقفات قد تطول وقد تقصر عند هذه المسألة أو تلك من مسائل التربية والتعليم.
انه يرى حتمية وجود (المعلم) كطرف اساسي في هذه العملية، سواء استهدفت تخريج العلماء أم الصناع(29). ليس المعلم فحسب ولكنه المعلم الجيد هو المطلوب لتحقيق النتيجة الافضل. ونجد ابن خلدون يركز المسالة بمبدأ واضح بسيط ولكنه ضروري، أنه (على قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون المتعلم) وهكذا يحتل المعلم مكانه المناسب.
والمهمة التي يمارسها المعلم ليست مجالا «كيفيا» ولا عمل مستقلا بذاته لا يحتاج الى عوامل مساعدة، انها برنامج مرسوم يتدرج من البسيط الى المركب، ومن الضروري الى الكمالي، وهذا يحتاج الى زمن، ولا يستكمل اسبابه الا بعد تقدم الجماعة خطوات واسعة في تحضرها30 ثم أن مهمة المعلم لا تنحصر في تعليم هذا الجانب او ذاك فحسب من أمور المعرفة، بل تمتد لكي تشمل الجوانب كافة، أي ما هو علمي وما هو عملي في الوقت نفسه(31).
وهو يعتبر التعليم من (جملة الصنائع) باعتباره فنا لابد من الالمام بأصوله وقواعده لكي يتمكن المعلم الذي يمارسه من تأدية مهمته على الوجه المطلوب(32) أنه يؤكد (مهنية) المعلم وأن يمارسه ليس مجرد علم فحسب وأنما هو (منهج) للتوصيل يختلف فيه هذا المعلم عن ذاك، ويتباين هذا الجيل عن ذاك(33).
وابن خلدون يعرف كيف يرتبط بين ما يبلغه فن التعليم من مستوى وبين البيئة الحضارية التي ينشط فيها. فالعلاقة بينهما طردية، وحيثما بلغت جماعة ما شأوا متقدم في المضمار الحضاري حيثما تقدم معها فن التعليم ونفق سوقه(34). أنه يجد فرصته للحذق والاكتمال في البيئة المتحضرة بسبب ما تتيحه من مجالات أوسع للمناظرة والجدل والحوار في مناحي العلوم، وتسمح به من الاحتكاك والاتصال والاخذ والعطاء بين الطرائق والمناهج هنالك حيث يتألق المعلم وحيث يجد طلبة المعلم مبتغاهم فيمن يعرف كيف يوصل اليهم المعرفة التي يطلبونها.(35)
والتعليم ليس تحفيظا كما أن التعلم ليس حفظا وإنما هو على جانبيه إعمال للقدرات العقلية وكسب لزمن من أجل التمكن من المعرف في هذا الحقل او ذاك(36). إن غياب المعلم الجيد يحرم الطلبة من الفرص المواتية للتعلم، كما يحرم الجماعات من كسب عامل الزمن في الصراع من أجل المعرفة(37).(33/97)
واذا كان ابن خلدون ـ فيما سبق ـ يقف عند حدود العلاقة بين درجة التحضر عموما ومستوى التعليم والتعلم، فأنه لا ينسى أن يشير الى بعض المفردات (المساعدة) التي تعين على تحسين العملية التعليمية والتربوية عموما. منها ـ بطبيعة الحال ـ الاكثار من بناء المؤسسات التعليمية من مدرسة وزاوية ومسجد ورباط، ومنها وقف الاوقاف المنحلة على هذه المؤسسات من أجل أن تسير العملية بنجاح، ويجد المعلم والمتعلم فرصته لتجاوز الانهماك بالضرورات فيتحرر منها، بالضمان المعاشي الاكيد، لكي يتفرغ لما هو بصدده: ذاك لمهنته وهذا لمهمته. فحيثما كثرت الاوقاف والضمانات وعظمت الغلات والفوائد حيثما كثر طالب العلم ومعلمه وأحسنوا مهمتهم (ونفقت اسواق العلوم وزخرت بحارها)(38).
وبما ان التعليم يعني توصيل الحقائق المعرفية بين طرفين، فأن ابن خلدون يقف بعض الوقت عند نوعين من صيغ التوصيل: الصيغة الشفافية التي تتم مباشرة بين العلم والمتعلم، والصيغة الكتابية التي تتم بشكل غير مباشر بينهما من خلال الكتب والمؤلفات(39)، هي الصيغة الاكثر ذيوعا وانتشارا بسبب من أن المؤلف كخزين للمعرفة اكثر دواما من صاحبه، واكثر قدرة على الانتشار في المكان. وهكذا يكون دور المعلم ضروريا على هذا المستوى كذلك، بما أن التدليف تحتاج الى من يتقن توصيلها بمهنته المتخصصة في فنه، الى عقول المتعلمين(40).
وابن خلدون يتخذ ازاء (الكتاب) كواحد من أهم الوسائل التعليمية، طريقا وسطا يتميز بالمرونة، ويلاحظ جيدا سايكولوجية التعلم، والقدرات النفسية للمتعلم فهو من جهة يرفض فكرة الاكثار من التأليف وتحميل المناهج التعليمية بالمزيد من الكتب التي تعالج موضوعا واحدا، لأن ذلك يعوق الطالب عن التحصيل ويحدث لديه نوعا من الارباك الذهني(41)، فضلا عن انه يستغرق وقته فيما لا مبرر له ثم ان اختلاف الكتب في المادة الواحدة يعني عند ابن خلدون اختلاف الطرائق المنهجية في العرض والشرح والتعليل الامر الذي يقود الى السلبيات آنفة الذكر ويرى، بدلا من الدخول الى التفاصيل والجزئيات التي تكرر نفسها بصيغ مختلفة، أن يقدم للطالب جوهر المادة العلمية وخطوطا العريضة ـ دون الحاح في الايجاز ـ في كتاب واحد لكي يعينه ذلك على كسب الوقت والتمكن من الالمام بالملامح الاساسية للمادة(42).
وهو ـ بالمقابل ـ يندد بالتلخيصات والاختصارات في المؤلفات المنهجية ويرى أن ذلك بدوره يخل بالتعليم بسبب من الحاحه في الايجاز الامر الذي يجعل المادة عسرة على الفهم بتركيزه المعاني الكثيرة في الفاظ محدودة(43).
ولا ينسى ابن خلدون ان يقدم تصوره لعقلانية التعلم، وصي توصل العقل لحقائق الاشياء، داعيا المتعلم الى إدراك كنه هذا النشاط لكي يتمكن من تجاوز صعابه وعقابيله، ولكي ينفذ الى المعاني من وراء حجب الالفاظ والاستدلالات المنطقية الصناعية باعمال الفكر (الطبيعي) مباشرة في الحقائق المستغلقة وصولا الى الجوهر والمعنى(44).
كما انه لا ينسى ان يفرد فصلا لمسألة التخصص العلمي، أو المهني، أو سايكولوجيته بعبارة أدق، ويرى ان المرء اذا اجاد مهنة ما ورسخت في نفسه فانه قد لا يجيد بعدها مهنة أخرى(45).
وبصدد المراحل المبكرة للتعليم، فيما يسمى بتعليم الولدان، يمنحنا ابن خلدون مادة مقارنة يستمدها من طرائق التعليم الاسلامية واختلافها ويكاد يكون تعلم القرآن الكريم القاسم المشترك، والاساس في هذه الطرائق جميعا عبر مراحل التعليم المبكرة. فالقرآن الكريم كتاب هذه الامة، وهاديها ودليلها، وهو دستور عقيدتها، ومنهاج حركتها في العالم.. وتعليمه لاجيال الناشئة ضرورة محتومة اذا ما اريد لهذه الاجيال ان تكون مسلمة حقا (46).
لكن الذي يختلف فيه بين مصر ومصر ومدرسة وأخرى، هو منهج التعليم وهاهنا يقدم ابن خلدون عرضا مقارنا لهذا المنهج في تعليم كتاب الله في كل من المغرب والانلس، والمشرق، والنتائج التي ترتبت عليه في كل من هذه الاقاليم.(47).
وابن خلدون وهو يتحدث عن محتوى التعليم يشير الى صنفين من العلوم عقلي ونقلي دون أن يغفل عن أن هذا الاخير يتحتم ان يتم التعامل معه عقليا بالقياس والتفريع والاجتهاد. كما ان الرجل لا يفوته كذلك ان يؤكد هاهنا رؤيته الاسلامية وخصوصيته العقيدية اسوة بما كان يفعل في جل مساحات مقدمته الخصبة، بصيغ مباشرة حينا وغير مباشرة حيانا اخرى، فكأنه يرد بذلك على الذين جاءوا في قرون تالية لكي يخرجوه عن الرحم الذي تخلق فيه، ويضعوه على غير إرادة منه في دائرة (الوضعية) هجينا غريبا(48).
ثالثا: الحركة التاريخية
وضع ابن خلدون (مقدمته) في الاساس، وكما يؤكد في تمهيده لها اكثر من مرة(49) لكي تكون اداة أو معيارا في التعامل مع الواقعة التاريخية. فهناك، في نسيج هذه الواقعة، ما يمكن قبوله والتسليم به، وما يستعصي على القبول والتسليم.. ما يمكن ان يصدق وما يخرج الى دائرة الكذب والتلفيق.(33/98)
واذا كان المؤرخون قبله، في معظمهم، قد اكتفوا بأن يكونوا جماعين للرواية، أو المادة التاريخية، دونما اخذها بما يتطلبه من منهج يمحص ويعزل.. يقبل ويرفض.. يثبت وينفي.. كي لا يمر الا ما هو متحقق في حركة التاريخ، أو مقارب للحقيقة في أقل تقدير، فأنه رأى أن قد آن الاوان لاعتماد منهج مرسوم لكي يصير النشاط التاريخي علما منضبطا لا عواطف وتحزبات واهواء وميولا.
ولقد قيل الكثير في هذه المسألة، ولذا سنجد انفسنا مضطربين لتجاوزها صوب بعض التأشيرات التي تؤكد (اسلامية) هذا التوجه (العلمي)في التعامل مع التاريخ، واستمداده الكثير من الخصائص والمواصفات من البيئة التي انتمى اليها الرجل لا من أية بيئة أخرى. وهكذا ستكون النتائج التي توصل اليها الرجل من خلال منهجه هذا وتساوقه في نسيجها العام، وفي معظم مفرداتها، مع المنظور والمعطيات الاسلامية.
ابتداء وعى سبيل المثال، يطرح ابن خلدون هذه المقولة الاستقرائية ذات التأثير البالغ في صميم الحركة التاريخية للجماعات والشعوب انه ما من دولة (كبيرة) الا وأصلها الدين «اما من نبوة أو دعوة حق» والدول الكبيرة التي يسميها البعض بالامبراطوريات ويسميها ابن خلدون (الدول العامة الاستيلاء، العظيم الملك) هي الدول الاكثر ثقلا وتأثيرا في حركة التاريخ، ليس فقط في مجرياته السياسية، بل في نموه الحضاري، وهذا هو الاهم.
كيف يفسر ابن خلدون ذلك (أن الملك ـ يقول الرجل ـ انما يحصل بالتغلب، والتغلب انما يكون بالعصبية واتفاق الاهواء على المطالب وجمع القلوب وتأليفها انما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه.
قال تعالى (لو انفقت ما في الارض جميعا ما الفت بين قلوبهم)(50). وسره ان القلوب اذا تداعت الى اهواء الباطل والميل الى الدنيا حصل التنافس ونشأ الخلاف، واذا انصرفت الى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة(51).
إنه يتحدث هنا عما يمكن تسميته بالمعامل العقائدي، وذلك الذي يشد طاقات الجماعة البشرية الواحدة التي تنتمي الى عقيدة ما، ويوجهها صوب هدف واحد.. بؤرة واحدة، فتزداد قدرتها على الفعل التاريخي، تماما كما تزداد قدرة أشعة الشمس على الاحراق من خلال تجميعها بالعدسات اللامة. فالدولة الكبيرة ـ إذن ـ هي تعبير تاريخي عن قدرة امة ما على الفعل الموحد الذي صاغته ووجهته صوب هدفه الواحد، عقيدة حيوية آمن بها الجميع.
وبعكس هذا، فان غياب الدين يعني تبعثر الفعل وتشتته صوب اهداف متغايرة متضاربة، ومن ثم تضاؤل دوره التاريخي. فليست الجماعة التي لا تربطها عقيدة بقادرة على ان تمتد في الزمان والمكان، واذا حث وان امتدت فعلا، فان هذا يجيء استثناء للقاعدة، ولا يحكم عليه، ومصيره ان يتلاشى لاول تحد يبرز له في الطريق، ولن يؤخذ يوما بالاستثناء.
في الانتماء الديني ثمة حقيقة اخرى يشير اليها ابن خلدون تزيد فاعلية هذا الانتماء.. انه رفض الانقياد للباطل والاقبال على اله. وتلك هي حجر الزاوية في قدرة الانسان الفرد والجماعة البشرية على التجرد الكامل في مواجهة التاريخ بأقصى قدر من التوتر والفاعلية والتناغم، وباقل قدر من الجذب والشد والاعاقة.. ان القرآن الكريم يصف المؤمنين مرارا بأنهم (يسارعون في الخيرات)52 فيكشف هاهنا البعد الزمني، البعد التاريخي، في حركة الانسان المؤمن في العالم لتحقيق اكبر قدر ممكن من الانجاز في أقل حيز ممكن.
وابن خلدون يختم مقولته تلك بهذه العبارة ذات الدلالة «.. اتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة»، فالكلمة كما هو معروف، لا تتحول الى فعل تاريخي الا بالايمان الذي يحيلها الى طاقة حركية تعبر عن نفسها من خلال الجماعة المؤمنة وتكون نتيجة هذا التعبير: دولة عظيمة. وكذلك كانت دولة الاسلام الاولى في أعقاب الفتحات التي اختزلت الزمن والمكان، وكذلك كانت الدول الكبرى في التاريخ.
واذا كان ابن خلدون قد أكد مرارا على مفهوم العصبية، باعتباره أساسا لقيام الدول، فانه لم يغفل عن ان الدعوة الدينية تزيد الدولة في اصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها، كما يقول في احدى فصول الباب الثالث من مقدمته.. لماذا؟ وكيف؟ لأن السبب في ذلك «ان الصيغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في اهل العصبية وتفرد الوجهة الى الحق. فاذا حصل لهم الاستبصار في امرهم لم يقف لهم شيء لان الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه. وأهل الدولة التي هم طالبوها، وان كانوا اضعافهم فاغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقنية الموت حاصل، فلا يقاومونهم وان كانوا اكثر منهم، بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل كما قدمناه.(33/99)
وهذا كما وقع للعرب في صدر الفتوحات الاسلامية.. واعتبر ذلك في دولتي المرابطين والموحدين، فقد كان بالمغرب من القبائل كثير من يقاومهم في العدد والعصبية او يشف عليهم، الا ان الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة، كما قلناه، فلم يقف له شيء». ويواصل ابن خلدون تحليله قائلا «واعتبر ذلك اذا حالت صبغة الدين وفسدت، كيف ينتقض الامر، ويصير الغالب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين، فيغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها او الزائدة القوة عليها الذي غلبتهم، بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا اكثر عصبية منها وأشد بداوة..»(53).
ان ابن خلدون هنا (يحيد) العصبية في حالة دخول الدين في الصراع فاذا ما غاب الدين كان للعصبية، كقوة عددية واجتماعية، ان تلعب دورها اما مع الدين فتكون اشبه باداة، او عامل مساعد، وهذا الموقف خطير لانه رغم تأكيدات ابن خلدون المتكررة على العصبية، وإقامة اقسام واسعة من نظريته على قواعدها فانه هنا يفوق الدين عليها ويجعله صاحب الفاعلية الاولى في الغلبة السياسية، والفعل التاريخي عموما.
فاذا ما استرجعنا الآن عبارته الدقيقة ذات الدلالة، والتي وردت في ثنايا مقولته، لم ندهش لتأكيد ابن خلدون على دور الدين، فوالذي ادرك بعمق ابعاد هذا الدور «اذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لان الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه»
ومن ثم ينهار منطق الاعداد في الصراع التاريخي، ينهار حتى منطق الارتباط النسبي بالعصبية والقوة البدائية المجردة التي تنبثق عنه، لكي يحل محلها جميعا (استبصار) ديني لموقف الانسان العالم وعلاقته بالله خالق الكون والحياة والانسان. وعند ذاك يتحول الانسان المؤمن الى طاقة حركية متقدة لا يقف لها شيء، وهو مع الجماعة المؤمنة التي ينتمي اليها والتي وجهها الايمان الديني والاستبصار صوب الهدف الواحد، تقلب المقاييس الظاهرية للصراع وتفعل المعجزات.
وبرجوع متبصر الى واقعة الفتوحات الاسلامية، والى العديد من التجارب التي شهدها التاريخ الاسلامي، يمكن ان نعثر على النموذج التطبيقي الذي أكد عليه ابن خلدون واستشهد به.
وبالمقابل «فان الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» كما يؤكد الرجل في فصل آخر من الباب الثالث، ويسعى للتدليل عليه بحشد من الادلة المنطقية والاحايث الصحيحة والوقائع التاريخية «ان كل امر تحمل عليه الكافة لابد له من العصبية».
وفي الحديث الصحيح «ما بعث الله نبيا الا في منعة من قومه» واذا كان هذا في الانبياء وهم اولى الناس من برق العوائد، فما ظنك بغيرهم؟ الا تخرق له العادة في الغلب بغير العصبية؟».
انه يشير الى قدرة الانبياء عليهم السلام على تجاوز التحديات التاريخية فوق العادة، كما حدث لكثير من منهم، لكنهم مع ذلك يعملون في التاريخ في صياغة أبعاد جديدة مستمدة من معطيات الزمان والمكان، فلابد لهم اذن من الافادة من اسبابه الذاتية للانقلاب عليه. وحديث الرسول (صلى اله عليه وسلم) هنا يبدو متساوقا مع معطيات الحركة الاسلامية كلها، تلك التي جاءت لكي تنقلب على التاريخ من خلال التاريخ نفسه، على ضوء برنامج الهي فوقي هو بمثابة دليل عمل أو (استبصار)، اذا اعتمدنا تعابير ابن خلدون، في هذا الانقلاب. ومن أجل مزيد من القانعة يقودنا الرجل الى عديد من الشواهد التاريخية(54).
ولا ينسى ابن خلدون ان يطرح تحفظه الذكي وهو يتحدث عن دعوات الانبياء عليهم السلام.. انهم مؤيدون من الله سبحانه بالكون كله لو شاء، لكنه انما اجرى الامور على مستقر العادة (55). ان الله سبحانه قادر، حيث لا يعجزه شيء في الارض ولا في السماء، على حمل رسله بكلمته التي لا راد لها الى |فاق الانتصار النهائي، لكن حكمته سبحانه، وعلمه المسبق بمصائر لدعوات، في الوقت نفسه، شاءت ان يتحرك رسله في قلب العالم، في صميم التاريخ، ان يعانوا من اثقاله وعوائقه، وان يتجشموا واتباعهم عناء اوهاقه، والا يبلغوا النصر النهائي الا باتخاذ الاسباب التي تمكنهم من هذا الصراع القاسي الذي لا يرحم احدا ولا ينحني لاحد. وذلك هو ما يعنيه ابن خلدون «بمجرى الامور على مستقر العادة» أي سنن التاريخ ونواميس الكون.
ذلك اذن هو التقابل الفعال في نظرية ابن خلدون: الدين والعصبية.. الرؤية أو الاستبصار الايماني، والاداة التاريخية. ان العصبية بدون دين لا تحقق شيئا كبيرا، والدين بدون عصبية لا يتحرك وقتا طويلا.. لابد من اقتران الجانبين. واذا كانت رؤية ابن خلدون للعصبية محدودة في نطاق الروابط القبلية يومذاك فأنها قد تنسحب في الفترات اللاحقة وفي القرن العشرين، على التنظيمات البشرية التي تعتمد القوة والعصبية الحزبية وتحل فيها رابطة الولاء بدلا من رابطة النسب.. والامر سواء.(33/100)
ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد، بل ان رؤيته الدينية لا تفارق منهجه في الاستقرار والتحليل وهو يطرح مقولاته ويبرهن عليها في ابواب مقدمته الستة عن مسائل مختلفة تتعلق بصيرورة الواقعة التاريخية، ونشاط الجماعات البشرية وعوامل تكوينها ومؤثرات سلوكها التاريخي مما لا يتسع المجال لاستعراضه وربما تكفي الا حالة عليه(56).
بل اننا نلتقي في تمهيده للمقدمة بهذا المقطع«اعلم ان فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد شريف الغاية، اذ هو يوقفنا على احوال الماضين من الامم في اخلاقهم والانبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في احوال الدين والدنيا»(57). فمنذ اللحظات الاولى يبرز جدوى علم التاريخ كاداة تستهدف خدمة الجماعات البشرية وترقية أحوالها دينيا ودنيا، بجعلها تتحرك على هذين المستويين معا، وهي أكثر ادراكا وأعمق تجربة بما يمنحه التاريخ اياها من قيم وتعاليم.
ومما يؤكد الرؤية الدينية الاصيلة عند ابن خلدون، وكونها مسألة اساسية في منهجه، ذلك الحشد من الاستشهادات المستمدة من كتاب الله حينا، وسنة رسوله عليه السلام حينا آخر، وأقوال ومعطيات صحابته الكرام رضي الله عنهم حينا ثالثا، والتي طالما اعتمدها لتعزيز وجهات نظره وجعل استدلالاته اكثر حجية وإقناعا.
وللوهلة الاولى يبدو ان طريقة ابن خلدون هذه لا تعدو ان تكون مسألة تقليدية قد لا تعني شيئا، لكن المتمعن في هذا التكرار المقصود، وفي النماذج التعبيرية التي ينتقيها الرجل، يتضح له ان الامر أبعد من هذا.. وأبعد حتى من مجرد دلالته على عمق الاحساس الديني لدى ابن خلدون، فالرجل، فضلا عن ذلك، يرى في حركة التاريخ، وقائع وسننا، انعكاسا لمشيئة الله سبحانه وقدره في العالم.
وثمة اخيرا مسألتان اساسيتان في نظرية ابن خلدون طالما اكد عليهما وعلى ارتباطهما الوثيق بصلب النظرية وهما الترف وحتمية السقوط، اذ اننا لا نعتقد انه كان بمعز عن معطيات القرآن والسنة وهو يتحدث عن هاتين المسألتين اللتين كان لهما في المصدرين المذكورين مكان كبير(58).
هذا على المستوى العام للحركة التاريخية، اما على مستوى التاريخ الاسلامي، على وجه الخصوص، فأن ابن خلدون يمضي بالمنهج نفسه، بالروح العلمية المنضبطة برؤيته الاسلامية والمستمدة من حقائقها ومفرداتها لكي يناقش ويحلل مسائل شتى تتميز بأهميتها وحساسيتها. وهو هاهنا يؤكد موقفه الديني من خلال تفسيراته الملتزمة لعديد من وقائع تاريخنا الاسلامي وهو الساحة التي انصبت جل اختباراته عليها والتي مارس فيها معظم جوانب استقرائه الذي قاده الى صياغة قوانينه العديدة التي ضمنها مقدمته.
وابن خلدون في هذا الاتجاه يمارس تحليلا للتاريخ الاسلامي، أو بالاحرى لجوانب من التاريخ الاسلامي، يلقي المزيد من الاضواء على خصائصه وصيرورته وفق معايير منهجية تنحت مفرداتها وأدواتها من معطيات هذا التاريخ وليس من أية بيئة اخرى كما توهم بعض المفكرين والباحثين ممن المحنا الى بعضهم في بداية هذه الصفحات(59).
هوامش البحث
1 ـ تفسير ابن كثير 2/588 (در الاندلس، بيروت ـ 1966م).
2 ـ محمد علي الصابوني: صفوة التفاسير/346 ـ 347 (الطبعة الرابعة دار القرآن الكريم، بيروت ـ 1981م).
3 ـ محمد مرتضى الزبيدي: تاج العروس، 2/109 ـ 110، (دار ليبيا بنغازي ـ 1966م).
4 ـ محمد عبد الله عنان: ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري ص177 ـ 178 (الطبعة الثالثة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ـ 1965م) عن كتاب
Geschichte de r philosophic in Islam
للباحث المذكور.
5 ـ عنان: ابن خلدون ص190 عن:
Ibn Khaldon Histo r ian Sociologist and philosophe r
للمؤرخ المذكور.
6 ـ عنان: نفسه ص281 عن
Ibn Khaldoun: Ein a r abische r Kultu r histo r ke r des 14 jah r hunde r ts.
(ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربية في القرن الرابع عشر) للمستشرق المذكور.
7 ـ مهدي عامل (الطبعة الثانية، دار الفارابي، بيروت ـ 1986م).
8 ـ من تعليق الناشر على غلاف المرجع السابق.
9 ـ سورة النحل آية78.
10 ـ سورة العلق الآيات 1 ـ 5.
11 ـ مقدمة ابن خلدون6/983 ـ 984 (الطبعة الثانية، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي، لجنة البيان العربي، القاهرة ـ 1965م).
12 ـ المقدمة6/1199 ـ 1210.
13 ـ ابطال صناعة النجوم: المقدمة6/1207 ـ 1215.
14 ـ المقدمة6/1199 ـ 1201.
15 ـ يشير بذلك الى نظرية العقول عند الفارابي وبقية فلاسفة المسلمين، انظر بالتفصيل الهامش رقم 1322 المقدمة ص980.
16ـ المقدمة 6/1210.
17ـ نفسه.
18ـ انظر المقدمة 6/1202 ـ 1207.
19 ـ نفسه 6/1207.
20 ـ نفسه 6/1203.
21 ـ نفسه 6/1207.
22 ـ نفسه 6/1207 ـ 1208.
23 ـ عماد الدين خليل: ابن خلدون اسلاميا ص135 ـ 136 (المكتب الاسلامي بيروت ـ 1983م).
25ـ نفسه ص136 ـ 137.
26 ـ عماد الدين خليل: الرؤية التربوية في مقدمة ابن خلدون، كتاب (من اعلام التربية العربية الاسلامية) المجلد الرابع ص128 (مكتب التربية العربية لدول الخليج، الرياض ـ 1989).
27 ـ نفسه 4/131 ـ 132.
28 ـ نفسه 4/133.
29 ـ المقدمة 3/923.(33/101)
30 ـ نفسه 3/923 ـ 924.
31 ـ نفسه 3/924.
32ـ نفسه 3/985.
د. عماد الدين خليل
=============(33/102)
(33/103)
قراءة في كتاب الغذامي الجديد : ( حكاية الحداثة في المملكة )
سليمان بن صالح الخراشي
صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب جديد بعنوان " حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية " للدكتور / عبد الله الغذامي ، وهذا العنوان يغري كل متابع للساحة الثقافية بالمملكة ، فلذا حرصت كثيراً على قراءته لأهمية موضوعة - بالنسبة لي على الأقل - ، وبعد فراغي منه كانت هذه المدونات المركزة ، التي أحببت نشرها تفاعلاً مع الكتاب وصاحبه وقرائه :
1- عنوان الكتاب أضخم من مضمونه !! وقد تفاجأت بهذا الأمر ؛ لأن كاتبه كان في يوم ما يعد سادن الحداثة وقطبها في بلادنا . فتوقعت أن أجد عنده من الأسرار والخفايا مالا أجده عند غيره . إلا أن الأمر كما قيل " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " .
فملخص الكتاب : أن بلادنا كانت تعيش " نسقاً " فكرياً واجتماعياً محافظاً ثابتاً رغم بعض المحاولات الفردية ممن يسميهم الغذامي " بالمستنيرين " ! كحمزة شحاتة ومحمد حسن عواد .. ثم حدث التعليم .. فظهر جيل مثقف من " الشباب المبدعين " كمحمد العلي والدميني والحميدين .. ثم ظهرت " المثقفة " .. ثم جاءت الموجة الحدايثة الثالثة .. إلى أن اصطدمت بالآخر " المحافظ " ! وهم العلماء والدعاة وأبناء المجتمع المسلم . فانكسرت الحداثة باعتراف بعض دعاتها ! كالسريحي .
هذه باختصار مضامين كتاب الغذامي ! ولا أظنه أتى بجديد ، سوى بعض الأحداث الشخصية التي مرت به في جامعة الملك عبد العزيز بجدة .
2- كان الأولى بالكاتب أن يجعل كتابه من قبيل " السيرة الذاتية " ؛ لأنه جعل الحداثة وحكايتها تدوران وتتمركزان حوله . فهو " القضية " وهو " الناقد " وهو " المدافع " وهو " المتهم " ثم هو " البريء " ! . " صرت أسمع تعليقات الزملاء التي تقول إن ما كان بيد الغذامي من مسؤوليات أسند الآن إلى أربعة أشخاص " ( ص225 ) !
3_ أثنى الغذامي على " محمد حسن عواد " كما سبق بصفته أحد " المستنيرين " ( ص59 ) الذين سعوا إلى تحديث مجتمعنا ، لا سيما من خلال كتابه الشهير " خواطر مصرحة " الذي أعطي أكبر من حجمه؛لأن الكتاب مجرد مقالات إنشائية عن نواحي الحياة المختلفة تذكرني وأمثالي بموضوعات مادة " المطالعة " في المرحلة الابتدائية !
وتذمر العواد في كتابه من " علماء " عصره وسخريته اللاذعة بهم ، كقوله " كم جلبت لنا من المصائب تلك العمائم المشيدة فوق الرؤس " ( ص 113 ضمن الأعمال الكاملة ) ، يعني بهم علماء الحجاز في عصره ممن انكفأ على عاداته وبدعه ولم يقبل غيرهما ، ولهذا نجد العواد يدعوهم إلى الاقتداء بابن القيم ( 18- 21 من خواطره) .
ولكن كيف فات على الغذامي المعجب بالعواد : غلو الأخير في مدح الغرب ( كما في ص 82،62 من خواطره ) مما حدا بمقدم الكتاب عبد الوهاب آشي أن ينكر عليه هذا الأمر . وكذا قال العطار عنه : " أثرت فيه فلسفة المتمردين من كتاب الشرق والغرب " ( العواد أبعاد وملامح ، ص 226 ) .
وكيف فات على الغذامي المفتخر بتدينه وتتلمذه على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ! قول العواد في كتابه السابق لنساء السعودية : " زحزحن بأيديكن هذا الحجاب الدخيل على عادات العرب وعلى مبادئ الدين ( !! ) وعلى أسس الأخلاق الشريفة العاملة ( !! ) " ( ديوان العواد 2/374 نقلاً عن خواطر مصرحة الجزء الثاني ) .
فهل الغذامي المسلم ! يؤيد العواد في هذا التحرر ؟! وهل يرضاه لنساء هذه البلاد ؟! وهل هو من شروط الكاتب " المستنير " ؟! ثم هل تُعجز مثل هذه الأمور التافهة ( التذمر من المجتمع أو الدعوة لنزع الحجاب ، أو الشكوى من السلطة السياسية والدينية ! ) أي كاتب ولو كان من سفلة الكتاب ( تعليماً وفناً وأخلاقاً ) لكي يحظى من الغذامي وإخوانه بوصف ( الكاتب المستنير ) أو ( المثقف التقدمي ) .. الخ الأوصاف الرنانة ؟!
ما أسهل التقدم حينئذٍ !
تنيبه : يفتخر الحداثيون كشأن أستاذهم الغذامي بالعواد ويعدونه من طلائعهم في بلادنا للأسباب السابقة ! ولهذا فقد تتابعوا على تأبينه وذكر محاسنه . ومنهم علي الدميني الذي يقول فيه : " إننا لنعذر له هذا التطرف ، بل ونجله له ، ونصنع من تلك المواقف المتمردة علي الصيغ الأدبية الجامدة ، والكتب الجافة ، وعلي المتزمتين في شتئ شؤون الحياة ، وعلي النائمين في ثبات التاريخ ( ! ) نصنع منها كياناً عامراً بالريادة والشجاعة والتمرد ( ! ) " ( العواد أبعاد وملامح ، ص 256 ) .
ومنهم : فوزية أبو خالد التي تقول عنه : " إن العواد بمواقفه عموماً إحدى الشارات الهامة التي تدلنا على مفترق الطرق الصحيح ( ! ) الذي سيتحتم علينا يوماً ما أن نصنع باتجاهه القرار والمشوار " ( السابق ، ص 265 )
ومنهم : هاشم عبده هاشم وعبد الله الجفري ، وعزيز ضياء ..
تنبيه آخر : العواد أحد المعتقلين عام 1352هـ بتهمة المشاركة في ثورة " ابن رفادة " علي الدولة السعودية : إضافة إلى صاحبه حمزة شحا ته ! ( انظر : محمد حسن عواد .. شاعراً ، لآمنه عقاد ، ص 44 )؛ فهما قد جمعا بين الحداثة الفكرية والسياسية !!(33/104)
4- أكثر الغذامي في كتابه من الشكوى لأن بلادنا تعيش كما يقول " نسقاً " ثابتاً لم يتغير رغم مامر بها من حداثات دنيوية ظاهرية يسميها " حداثة الوسائل " وهذه وحدها لا تكفي عنده ! ، لأنها " حداثة في الوسائل ورجعية في الأذهان " !! ( ص 173 ) ولم يوضح ما هذه الرجعية الذهنية !
ويزداد تذمره لأن مجتمعنا " مجتمع لا يعرف سوى التسليم وليس النقد " ( ص244 ) .
ويقول محددا مايريد لمجتمعنا : " إن التحول يجب أن يتكامل سياسياَ وثقافياً لكي يحدث التحول الاجتماعي المأمول " ( ص64 ) .
قلت : أما سياسيًا فنتركها لولاة الأمور يتفاهمون فيها معه !
وأما ثقافيًا واجتماعيًا فنرجو من الغذامي أن يتحفنا بكيفيتها لعلنا نتخلص من تخلفنا ونلحق بحداثته هو وإخوانه ! لأن الكلمات العامة المطاطة لاتكفي .
5- ردد الغذامي في كتابه كلمة " النسق " وتصريفاتها بشكل ممل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب دون أن تجدها فيه ( انظر مثلاً : 36 ، 57 ، 67 ، 168 ، 171 ، 172 ، 210 ، 221 ، 231 ، 241 ، 244 ، 250 ، 256 ، 261 ، 262 ، 288 .. ) .
6- دافع الغذامي عن نفسه مقابل الحملة الشرسة التي واجهتها الحداثة في بلادنا ممن لم يفهموها ! - كما يزعم - ولذا ظنوها قرين الإلحاد والتمرد على الدين ! ( ص33 ــ وما بعدها ) . وهذا غير صحيح في نظر الغذامي ، لأن " تعريف الحداثة مسألة بحثية فردية ، وليس هناك إجماع مؤسساتي ولا مدروس يشير إلى معنى واحد متفق عليه " ( ص 36 ) . وأحيل القارئ إلى رسالة الدكتور سعيد الغامدي ـ حفظه الله " الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها " ليتبين له زيف ما ذكره الغذامي ويتأكد له من أقوال القوم أن الحداثة مهما تعددت تعريفاتها فإنها تلتقي على معاداة الدين ونسف ثوابت المجتمع المسلم وقيمه .
والغذامي هنا يذكرني ببعض دعاة العلمانية في البلاد الإسلامية الذين من أجل ترويج علمانيتهم ـ زعموا أن العلمانية قسمان : قسم معارض للدين وقسم غير معارض له وإنما يحصره في إحدى الزوايا !
7- أثناء دفاع الغذامي عن الحداثة وأهلها في المملكة ( ص37 ) زعم أن منهم من هو يصلي ومنهم من هو بار بوالديه وآخر قد تتلمذ على الشيخ ابن عثيمين ـ رحمة الله . ! وهذا كافٍ في الحكم بإسلام القوم وعدم اتهاماتهم بما اتهموا به .
وأنا ألفت نظر الغذامي ومن معه إلى أن الأصل في المسلم الإسلام مالم يتلبس بأحد نوا قض الإسلام أو الكفريات المخرجة من الملة ـ وهذا يعرفه صبيان المسلمين ـ وقد كان المنافقون في عهد صلى الله عليه وسلم يصلون خلفه ويتصدقون بل ويجاهدون ! وقد قال الله تعالى فيهم ( وما منعهم أن تقبل منهم صدقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) . وقال في آخرين منهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) .
فليحذر الإنسان أن يدعي الإيمان والإسلام وهو في حقيقته كافر بالله ، إما ببغض شيء من أمور الشريعة ، أو بمحبة الكفار وتمني ظهورهم على أهل الإسلام ، أو بموالاة من حاد الله ورسوله .. إلى غير ذلك . عندها يصدق فيه ما قاله الله تعالى في المنافقين ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ).
8- انتقد الغذامي موقف الدكتور سعد البازعي الذي عده من أنصار الحداثة الرجعية ! ( ص 7 ، 37 ، 254 وما بعدها ) . فقال عنه : " هو رجل ناصبنا العداء من ظهور ( الخطيئة والتكفير ) عام 1985 ، ومع تخصصه في الأدب الإنجليزي ودراسته في أمريكا ، ومع اندماجه الشخصي مع الحداثيين ، إلا أنه عجز أن يتأقلم مع الحركة , وله مع كل كتاب من كتبي موقف مناهض مبالغ في مناهضته " . " الخلل يكمن في أنه رجل محافظ عقلياً ونفسياً ، ولذا عجز عن تقبل التحولات المعرفية التي ظل يعلن عن تخوفه منها والتحذير من مغبتها .. " " تظهر كتاباته في نقد النظريات أنه لم يستوعب النظريات استيعاباً علمياً ولا منهجياً ينم عن فهم .. " .
قلت : ذم الغذامي للبازعي هو من محاسنه لمن تأمل ! وهو يستحق الشكر عليه ؛ لأنه تصدى لهذه الفئة المنحرفة ، ولم يتورط فيما تورطوا فيه ، أو ينخدع بأدبهم وأفكارهم .
9- انتقد الغذامي كل من وقف ضد الحداثة من الدعاة ، كالدكتور سعيد الغامدي ، والدكتور عوض القرني ، والأستاذ محمد مليباري ـ رحمه الله ـ وغيرهم . ( ص 22 وما بعدها ، 210 ، 284 ) .
10- انتقد الغذامي الجامعات السعودية لأنها لم تساهم في حركة الحداثة ! ( ص 77 وما بعدها ) .
11- أخيراً : يرى الغذامي أن الحداثة لم تنته في بلادنا ! إنما الذي انتهى فعلياً وعملياً هو " الصراع العلني المركز ضد الحداثة كمصطلح وكميدان وحيد للصراع والنقاش ، ثم إن الذي انتهى فعلياً أيضاً هو بعض الأسماء التي كانت متوهجة في الثمانينات وتراجعت بعد ذلك وانطفأت " ( ص 286 ) .
ودليل عدم انتهاء الحداثة عند الدكتور أنها ظلت تتفاعل بطرق وأساليب متعددة ، كاتساع نظرية النقد ، وظهور نظريات جديدة ، وظهور الرواية ، وظهور ما يسمى بيانات المثقفين ، ثم خطاب الإنترنت المفتوح . ( ص 286 - 288 ).(33/105)
قلت : هذا رأي الدكتور ، ولغيره آراء تناقض هذا الرأي ملخصها أن الحداثة المناهضة للدين كسرت وتعرت وانتهت في بلادنا ـ ولله الحمد ـ ولم يبق من يتشبث بها إلا شرذمه من الكتاب والكاتبات الذين لا زالوا يعيشون على أطلالها الخاوية ، ويحاولون ما استطاعوا بعثها من جديد .
أما إن كان المقصود بالحداثة أن يساهم المسلمون في صناعة الحضارة ( المادية ) ، ويزاحموا الآخرين في سبيل هذا الأمر ، إما بنقل التقنية ، أو دعم الموهوبين والمخترعين ، أو بالاكتفاء والاستغناء عن الآخرين في المجالات الدنيوية المتعددة ، مع الحفاظ على شرعنا وعدم التنازل عنه .. فحي هلا بها من حداثة ، وأنا زعيم بأن لا أحد من أبناء مجتمعنا سيعترض عليها ! والله الهادي .
==============(33/106)
(33/107)
قصّة الفلسفة
عبد الله السهلي 21/1/1427
20/02/2006
هاهي أثينا ترسف في أغلال الوثنية. السماء مكفهرة، الجلبة تملأ شوارع المدينة، والجماهير الغاضبة الهادرة تهتف بإعدام سقراط. وفي السجن يفد إليه تلاميذه وعلى رأسهم أفلاطون، لقد تعاطف معه القضاة وأرادوا إطلاق سراحه، بعد أن حُكم عليه بشرب السم، عرض عليه أصدقاؤه مهرباً سهلاًً؛ فقد رشوا الموظفين الذين يقفون بينه وبين الحرية والفرار. لكنه رفض فقد بلغ السبعين من عمره (399 ق م )، وربما اعتقد أن الوقت قد حان ليفارق الحياة، وأنه قد لايموت أبداً بمثل هذه الطريقة المفيدة لتدعيم مبادئه، وقال لأصدقائه: "افرحوا إنكم توارون في التراب جسدي فقط" ثم التفت إلى السجّان وقال: "أنت يا صديقي السجّان المجرب في هذه الأمور، هل تدلني كيف أفعل؟ وكيف أتقدم في شرب السم؟ فقال السجان وهو يتألم لحاله ويغالب دموعه": بعد أن تحتسي السم عليك أن تمشي فقط إلى أن تشعر بثقل في قدميك فتستلقي، وبهذا يسري السمّ في جسدك" فيفعل سقراط ليموت بين أصدقائه بهدوءٍ.
ما جرم سقراط ؟! وما جنايته التي ارتكبها!؟ وما الذنب الذي اقترفه؟!
لقد كانت جريمته أنه كان عابداً متألّهاً مجاهراً بمخالفة قومه في وثنيتهم، بل وقابلهم وناظر رؤساءهم في بطلان عبادتهم. لقد كانت جريمته أنه كان موحداً وهو الذي يقول: إن الله إله كل شيء وخالقه ومقدره، وكان يقول: إن أخص ما يوصف به الرب سبحانه وتعالى كونه حياً قيوماً. قال ابن القيم: وبالجملة فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل، وكذلك تلميذه أفلاطون كان معروفاً بالتوحيد منكراً لعبادة الأصنام، لكنه لم يجاهر قومه بهذا كما فعل أستاذه، فسكتوا عنه وكانوا يعرفون له فضله وعلمه.
أما أرسطو تلميذ أفلاطون فتنكب طريق أستاذه، فقال بقدم العالم مخالفاً أساطين الفلاسفة قبله، وعبد الأصنام، وهام في وثنية الإغريق، وفرقته من الفلاسفة يُسمّون المشائين، وهي فرقة شاذة كما حكاه ابن رشد في مناهج الأدلة. وسبب ذلك ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم أن أساطين الأوائل كفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بإثارة الأنبياء ما عند سلفه، وكان عنده قدر يسير من الصابئة الصحيحة، فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية، وصارت قانوناً مشى عليه أتباعه. ذكره ابن تيمية في الرد على المنطقيين.
أرسطو هذا المسمى المعلم الأول تلقف ابن سينا كتبه وتتلمذ عليها، وكان ابن سينا من القرامطة الباطنية، وقد تميز في الطب لكنه أخفق في الإلهيات فقد جمع خرافات الباطنية وضلالات الإغريق.
كما تبنى هذه الفلسفة غير ابن سينا كالكندي والفارابي وإخوان الصفا هذه الجماعة السرية التي كانت تزعم اختلاط الشريعة بالضلالات، ولا سبيل إلى تطهيرها إلا بالفلسفة اليونانية. وتأملوا كيف يُعاد التاريخ والأحداث والمقولات في أطروحات الليبرالية، وربيبتها المدللة العصرانية. كيف لا ؟! والفكر الإغريقي من أقوى الروافد لليبرالية المعاصرة؛ إذ تُعتبر هذه الأخيرة سليلة ثلاثة أصول الفكر الإغريقي والفكرة الرومانية والديانة المسيحية. أفلا يفقه هذا الليبراليون العرب؟!! ولك أن تتأمل موضوع الإنسان والإنسانية كنموذج ودليل على ماسبق؛ فالإنسان في الفكر الإغريقي هو موضوع تأمله وفلسفته حتى قالوا: إن الإنسان هو المقياس الوحيد الذي يُقاس به كل شيء في الكون، وباختصار الإنسان مقابل الكون والوجود والقوة العليا وقد يحاربه القدر الأعمى، وقد يسقط ولكن سقوط أبطال التراجيديا، بل أكسبوا حتى آلهتهم ثوباً إنسانياً. ولاغرو ولاعجب!! فالفلسفة ظاهرة طبيعية للأمم والمجتمعات الوثنية تحاول من خلالها الإجابة عن الأسئلة الكبرى في الحياة والتي تظل حائرةً دون قبسٍ من نبوة!!
ولعله بعد هذا يتضح قدم الأطروحات المشبوهة التي تصم أذاننا بين الفينة والأخرى، إنها باختصار اجترار للإرث الفلسفي الإغريقي، ومن تأثر به من معتزلة أو متكلمين!! الذين جنَوْا على العقل أعظم جناية عندما جعلوه يهرول في غير ميدانه، وافتعلوا في ذلك الخصومة بين العقل والنقل. بعد هذا قد يزول تعجّبنا عندما نسمع من يقول بتنقية التراث الإسلامي يعني به القرآن والسنة، أو من يقول: أنا أدين بدين الإنسانية!! لذا فالليبرالية والحداثة لا جديد فيها!!
عذراً (ول ديورانت) على اقتباس عنوان كتابكم القيّم قصة الفلسفة.
============(33/108)
(33/109)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فمنذ أشرقت شمس الإسلام وأعداؤه يكيدون له المؤامرة تلو المؤامرة ، فاستخدموا كثيراً من الوسائل ونوعوا العديد من الخطط ، فتارة بالقوة ، وتارة بالحيلة ، نجحوا أحياناً وفشلوا أحياناً أخرى ، وهكذا الصراع بين الحق والباطل.
وعصرنا الحاضر ما هو إلا حلقة في سلسلة التداول بين الإسلام وأعدائه ؛ إلا أن الأعداء هذه المرة ابتكروا أسلوباً جديداً ؛ حيث ابتعدوا عن الاعتماد على القوة وحدها ولجأوا إلى محاربة الإسلام بالفكر فكان ما يسمى بالغزو الفكري .
ولا شك أن لهذا الغزو الجديد خطورته ووسائله ، وله أهدافه و آثاره ، مما جعل الغيورين من أبناء المسلمين يتنادون بوجوب مجابهته ومحاربته ، وكشف زيفه وبيان مغازيه .
ومن المحاولات الرامية إلى مواجهة هذا الغزو عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات الإرشادية ، وكتابة الكتب والمقالات ومنها هذه المقالات والتي هي بعنوان (الغزو الفكري وآثاره) .
أولا: تعريف الغزو الفكري :
الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة , وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك [1].
فالغزو الفكري إذاً مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدخل على الفكر الإسلامي هدفها السيطرة على هذا الفكر أو على الأقل حرفه عن وجهته الصحيحة.
نشأة الغزو الفكري:
بعد فشل الحروب الصليبية وعدم استطاعة الصليبين السيطرة على المسلمين بالوسائل العسكرية تنادى مفكروهم وقوادهم إلى ضرورة استحداث أسلوب آخر يكفل لهم تحقيق أهدافهم, فكان هذا الأسلوب المطلوب هو الغزو الفكري.
يقول لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن وقع في الأسر وبقي سجيناً في المنصورة يقول(إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده, فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) [2].
وبالفعل بدأت الحملات الصليبية ولكن هذا المرة عن طريق الفكر وبالفكر, واستخدمت الوسائل المتعددة والأساليب الكثيرة لتحقيق ما يريدون, سواء كان ذلك عن طريق الوسائل التعليمية أو عن طريق الوسائل الاقتصادية أو عن طريق الوسائل الاجتماعية أو عن طريق الوسائل السياسية, مما سيأتي الكلام عنه مفصلا عند الكلام على وسائل الغزو الفكري.
ثانياً: أهداف الغزو الفكري:
- السيطرة السياسية على بلاد المسلمين:
قد ذكرت أن نشأة الغزو الفكري كان بعد فشل السيطرة العسكرية, فحتى يتم لهم ما يريدون من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بدأوا بالغزو الفكري.
والسيطرة السياسية تنقسم إلى قسمين أو يمكن أن تأتى على وجهتين:
الوجهة الأولى:
الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين كما حصل في وقت ما يسمى بالاستعمار, حيث تدخل الجيوش الغازية إلى البلد المسلم, وتبسط نفوذها عليه, كالاستعمار البرتغالي لمنطقة الخليج ثم انحساره عنها ليحل محله الاستعمار الهولندي ثم الاستعمار البريطاني, وكان هذا الاستعمار يهدف في ما يهدف إليه إعطاء الغطاء السياسي اللازم لحركات الغزو الفكري.
الوجهة الثانية:
الاحتلال غير المباشر لبلاد المسلمين بأن يجعلوا من حكامها تابعين لهم لا يخرجون عن أرادتهم وطوعهم ولا ينفذون إلا ما يريدون, وقد حدث هذا بعد خروج المحتل ولكنه أبقى نفوذه ووصايته, فبعد اكتشاف النفط في دول الخليج بادرت بريطانيا إلى اخذ التعهدات من حكام تلك الدول ألا يمنحوا امتياز التنقيب عن النفط لشركات أو أشخاص دون مشورتها([3]).
- الاستغلال الاقتصادي:
لا تقوم البلدان إلا على اقتصاد قوي, والاقتصاد يحتاج إلى موارد اقتصادية, وبلدان العالم الإسلامي في الغالب تحتوي على موارد اقتصادية هائلة سال لها لعاب الدول الغربية مما جعلها تحاول جاهدة استغلال هذه الموارد, فكان في بداية الأمر أن فرضت الدول المستعمرة شروطا واتفاقيات تبيح لها التصرف في ثروات الشعوب الإسلامية سواء كانت هذه الاتفاقيات مفروضة بالقوة أو كانت بقوة غير مباشرة كمعاهدات الحماية بأن تتعهد الدولة القوية بحماية الدولة المسلمة الضعيفة مقابل ابتزازها اقتصادياً, ولأن القوة ربما تولد القوة والهجوم يولد الدفاع, لذا رأت الدول القوية أن منطق القوة قد لا يستمر لها وأن الدولة المسلمة ربما أفاقت وقاومت, لذا لجأت هذه القوى إلى الغزو الفكري الذي يحقق لهم ما يريدون دون إثارة حفيظة المسلمين وحنقهم.
- إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم:(33/110)
أدرك الغزاه أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان وتشتت وانقسام إلا أنهم يملكون سلاحاً قوياً يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه لذا حرصوا اشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح وعن مصدر قوتهم, فبدءوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين, لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر فهذا يثير المسلمين عليهم ويرجع المسلمين إلى عقيدهم, ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال, وبطرق ملتوية غير مباشرة, فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم.
وقد لجأوا في ذلك إلى أساليب كثيرة أحيانا تحت مسمى التدرج وعدم التعصب وأحيانا تحت مسمى البحث العلمي وأحيانا تحت مسمى التقارب العقدي للأديان وهكذا,,,,
وسيأتي الكلام عن الأساليب التي اتخذوها.
ثالثاً: وسائل الغزو الفكري:
- التدخل في مناهج التعليم:
من أخطر وسائل الغزو الفكري, لأنه على مناهج التعليم يتربى الجيل, ومناهج التعليم على قسمين:
القسم الأول:
قسم تتولى الدولة وضعه أو بمعنى آخر يضعه أناس ولكن تحت إشراف الدولة, ويتم الغزو الفكري في هذا القسم بما يبذله العلمانيون من جهد في تغيير المناهج ولهم في ذلك أساليب ووسائل يخادعون بها دولتهم ومجتمعهم, حتى يتم لهم ما يريدون, يقدمون التقارير ونتائج الندوات والمؤتمرات المبرمجة سلفاً لشيء معين وكلها تنصب في ضرورة التغيير, وأن المناهج الحالية لا تلبي حاجة المجتمع أو حاجة السوق كما يعبر عنه أحيانا, وأحيانا تتهم أنها سبب في توليد الإرهاب, وأنها تنمي الكراهة والبغض عند الطلاب ضد الكفار, الذين اصبحوا أصدقاء وأعوان, وهكذا, ولا بأس إذا أرادوا شيئاً معيناً أن يحركوا بعض الصحفيين ليكتبوا في الصحف عن ضرورة التغيير وعن حاجة المجتمع, وعن عدم قدرة المناهج الموجودة على مواكبة العصر.
وأحياناً يمكن أن يكون الغزو في هذا القسم تحت ضغوط مباشرة من الغزاة الحقيقيين, ويستخدمون لهذه الضغوط وسائل متعددة ليس المجال مجال ذكرها.
- القسم الثاني:
قسم لا تتولى الدولة وضعه ، وإشرافها عليه غير مباشر, وهذا يتمثل في الجامعات, وبعض المدارس الخاصة والمدارس الأجنبية.
ويتم الغزو الفكري فيها باختيار مناهج تضعف فيها المواد الدينية ويركز على غيرها, ثم هذه المواد تدرس بعيداً عن الدين, وربما كان فيها من الانحراف الفكري ما يشوش على أفكار الطالب ، وربما درست نظريات وأفكار لعلماء غربيين مليئة بالانحراف, دع عنك النظريات العلمية في مواد العلوم الطبيعية كما تسمى, وإنما نقصد العلوم الاجتماعية, كعلم الاجتماع ، و علم النفس, وغيرهما.
وربما درست للطلاب أشياء مخالفة للدين فيدرس الربا على أنه فوائد ، ويدرسون كيفية حساب الفائدة, حتى إنه يلقى في روع الطالب أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا.
وربما يوكل للأستاذ الجامعي وضع المنهج وقد لا يكون على مستوى المسؤولية.
- المدارس الخاصة والأجنبية ، ومنها الجامعات الغربية المقامة في بلاد المسلمين :
وذلك لأنها لا تخضع في مناهجها ومدرسيها للدولة بشكل مباشر, وبالتالي تكون مجالاًََََََ خصباً لبث ما يريدون, كما أن هذه المدارس قد تتعدد فيها الديانات ولاسيما المدارس الأجنبية مما يخفي عند الطالب المسلم عقيدة الولاء والبراء أو يضعفها ؛ لأنه يرى أستاذه نصرانياً وزميله كذلك وهو يعاشرهم ويعيش معهم مما يضعف البراء من الكفار.
كما أن هذه المدارس ربما تمارس أنشطة غير منهجية فيها مخالفات للدين.
من أخطر آثار هذه المدارس أنها تجذب الأنظار إليها بما تملكه من وسائل تعليمية عالية, وبما تتمتع به من تنظيم إداري فائق, كما أنها تهتم باللغات الأخرى ، مما يجعلها محط أنظار فئات خاصة من المجتمع, هذه الفئات تتخرج من هذه المدارس لتتولى المناصب في مجتمعاتهم ، مما يجعلهم سنداً بعد ذلك لقادة الغزو الفكري.
- تقليل الاهتمام بمواد الدين:
ويتم ذلك بما يلي:
- تقليصها في الجدول الدراسي.
- دعوى صعوبتها, وصعوبة فهمها.
- جعلها في آخر الجدول اليومي, مما يجعلها في وقت تعب وملل.
- التقليل من شأن مدرسها.
- دعوى أنها لا تلبي حاجة المجتمع.
- دعوى أن الطالب ربما يستفيدها من خارج المدرسة.
- جعلها مادة لا يترتب عليها نجاح الطالب, وإنما للفائدة فقط.
- جمع مواد الدينية كلها تحت مسمى واحد كأن تسمى مادة الثقافة الإسلامية مثلاً, أو مادة إسلامية, أو دين أو تربية إسلامية وهكذا.
- حصر الدين في المواد الشرعية وإخراج العلوم الأخرى
كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و العلوم الإدارية والعلوم التطبيقية.
- تدريس المواد غير الشرعية بعيداً عن الدين فالاقتصاد بعيد عن الإسلام أو فيه مخالفات شرعية كثيرة, وعلم الاجتماع كذلك , وعلم النفس كذلك , والعلوم التطبيقية لا تربط بقدرة الله ، وإنما الطبيعة هي كل شيئ ..
- تقسيم المدارس أو التخصصات إلى دينية وغيرها
مما يولد الشعور عند الطالب أن الدين لا يصلح في التخصصات الأخرى.(33/111)
- تهيئة الفرص الوظيفة لخريجي الأقسام غير الشرعية, وتقليل هذه الفرص بالنسبة لخريجي الأقسام الشرعية, مما يجعل الطالب لا يحرص على دخول هذه الأقسام.
- هدم اللغة العربية: ويتم هذا بما يلي:
- الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية بدعوى أن الحركات لا تكتب.
- الدعوة إلى العامية والبعد عن الفصحى.
- دعوى صعوبة اللغة العربية وعدم قدرة النشء على تعلمها.
- الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية, وربما للصغار مما يفسد لغتهم الأصلية.
- تشويه التاريخ الإسلامي: ويتم هذا بما يلي:
- تصوير أن الإسلام لم يعش إلا في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين, وما بعده انحرف المسلمون عن الإسلام.
- إبراز مظاهر الانحراف التي حدثت في عصور الإسلام, وجعلها هي الأصل والأساس ، وبالذات الانحرافات السياسية.
- إلصاق التهم السيئة بنوايا الفاتحين, وبنوايا المصلحين ، كاتهام الفتوحات الإسلامية بأنها نوع من الاستعمار.
- تمثيل المواقف الإسلامية أو المعارك بتشويه متعمد, فهذا القائد يحب ابنة الخصم أو يحب أخرى ، وعلاقات الحب تمثل مع عدم وجود مستند تاريخي لها ، وكتابات جورجي زيدان في التاريخ الإسلامي شاهد على ذلك.
- الاختلاط:
وهذا يكون في مسلك التعليم وفي غيرة, فأما في التعليم فيتم في البداية في الروضة ، وفي المختبرات في الجامعات ونحوها ، ثم في المراحل الأولية من الدراسة الابتدائية ، ثم يتطور بعد ذلك إلى ما هو أكثر.
هذا في المدارس الحكومية وأما المدارس الأجنبية فالأمر مختلف فالاختلاط فيها ظاهر سواء بين الطلاب والطالبات أو بين المدرسين والطالبات أو بين المدرسات والطلاب أو بين المدرسين والمدرسات.
وأما غير التعليم فالاختلاط يكون في المستشفيات ، وفي الحدائق ، وفي مطاعم العوائل ، وفي الأسواق ، وفي المنتزهات وغيرها.
- الابتعاث:
ويعني إرسال أولاد المسلمين إلى البلاد الكافرة للتعلم هناك وهذا قد تضطر له الدول الإسلامية لتتعلم العلوم التي سبقتنا فيها البلاد الكافرة, ولكن الإشكال حينما يفتح الابتعاث على مصراعيه لكل أحد ، وبدون ضوابط ولا عوامل حماية للمبتعثين, فيذهب المبتعث ويرجع بفكر غير الذي ذهب به.
- الدعوة إلى تعلم اللغة خلال الصيف في مدارسهم ومعاهدهم في بلادهم الكافرة, فيذهب الشاب إلى هناك ، وربما سكن مع عائلة كافرة ، مما يجعل فرصة تأثره بأفكارهم ومعتقداتهم سانحة, وربما احتقر بلاده وتعاليم دينه.
- نشر الأفكار الهدامة التي تدعو إليها بعض المؤتمرات والمنظمات والجمعيات العالمية.
- الحديث عن أعيادهم ، ونشر ما يحدث فيها كعيد الميلاد وعيد الحب.
- الدعوات إلى الفرق والأديان الباطلة.
- زعم التقريب بين الأديان, والدعوة إلى الندوات والمحاضرات والمؤتمرات لمناقشة هذه القضية.
- محاولة نشر الكتب أو الكتيبات أو النشرات التي تدعو إلى أديان باطلة أو تشكك في الدين الإسلامي.
- الدخول من باب الأدب لحرف الفكر الإسلامي, فتارة عن طريق الحداثة ، وتارة عن طريق القصص الغرامية, وتارة عن طريق فكر مخالف للدين بدعوى الحرية الفكرية.
- نشر الأدبيات المنحرفة وتمجيد أصحابها, سواء كان عن طريق القصة أو الشعر أو غيرها, وكتاب في جريدة شاهد على ذلك.
- ترجمة غير المفيد من اللغات الأخرى فلا تترجم الكتب العلمية المفيدة و إنما تترجم الغراميات ، أو التي تحمل الأفكار العلمانية أو الإلحادية.
- استغلال الإذاعة أو التلفزيون أو القناة الفضائية لبث الأفكار التي يريدون.
- استغلال العادات والتقاليد:
ويتم عن طريقين:
أ- استغلال واقع خاطئ يعيشه المجتمع المسلم أفرزته العادات والتقاليد البعيدة عن الإسلام, فيقوم هؤلاء باستغلال هذا الوضع ويهاجمونه هجوماً شديداً لا لرد الناس إلى الحق ولكن للشطوح بهم بعيداً عن الدين.
- الطريق الثاني:
الحرص على جعل تعاليم الإسلام عادات وتقاليد مما يهون من شأنها ويسهل تركها, كالحجاب مثلاً.
- إفساد المرأة:
والدعوة إلى تغريبها وسفورها واختلاطها ، ولهم في ذلك طرق كثيرة ودعوات مغرضة ؛ لأنهم يعرفون أهمية المرأة ودورها في المجتمع.
- استغلال النكبات في العالم الإسلامي بدعوى تقديم العون للمنكوبين المحتاجين ، وهم في الحقيقة لا يقدمون العون إلا مع تقديم أفكارهم ومعتقداتهم.
- السيطرة على مصارف النقد ومحاربة الاقتصاد الإسلامي لإضعاف المسلمين ، وبالتالي السيطرة عليهم.
- تكثيف الدراسات الاستشراقية ، والاهتمام بها ؛ لتسهل السيطرة على العالم الإسلامي .
- القيام بالعمليات التنصيرية ، ورصد الأموال الطائلة ، والجهود الكبيرة لإنجاحها .
- اختراع مصطلح العولمة لإذابة الفكر الإسلامي ، بل ليس سراً أن نقول إن العولمة هو المصطلح الجديد للغزو الفكري .
- الضغوط الخارجية على الحكومات المسلمة لئلا تقف في وجه الغزو الفكري.
- الدعم السياسي للغزاة المحليين ممن هم على شاكلتهم, ولذا ليس سراً صلة حركات التغريب بالاستعمار وبالدول الكافرة بعد الاستعمار.
1 واقعنا المعاصر ص195.
2 المرجع السابق ص196.
3 الخليج العربي دراسة في الجغرافيا السياسية ص281.
===============(33/112)
(33/113)
(33/114)
الغزو الفكري وآثاره 2 / 2
تحدث فضيلة الشيخ في المقال السابق عن تعريف الغزو الفكري ونشأته ، وأهداف الغزو الفكري، وسائل الغزو الفكري ، وفي هذا المقال الأخير سيتحدث عن آثار الغزو الفكري، وأسباب التأثر بالغزو الفكري ، ووسائل التحصين ضد الغزو الفكري.
إدارة الموقع
رابعاً: آثار الغزو الفكري:
لا شك أن الغزو الفكري أثر على المسلمين, ولكن هذا التأثير يتفاوت من بلاد إلى بلاد ومن منطقة إلى أخرى.
ويمكن رصد بعض التأثيرات لهذا الغزو بما يلي:
1- تحريف العقيدة الإسلامية ، وتشويهها ، وإثارة الشكوك حولها ، كما فعل المستشرقون وتلامذتهم من أبناء المسلمين ..
2- إضعاف الشعور الإسلامي عند المسلمين.
3- إضعاف روح الاخوة والشعور بالجسد الواحد بين المسلمين بتقسيم المسلمين إلى دول وأحزاب ، وإثارة النعرات القومية والإقليمية.
4- التشكيك بقدرة المسلمين على قيادة العالم وبناء حضارة إسلامية جديدة.
5- إضعاف عقيدة الولاء والبراء.
6- استعارة نظم التربية والتعليم.
7- تقليد الغرب في عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم.
8- استعارة القوانين والنظم الغربية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
9- إضعاف روح الجهاد والدفاع عن الأمة لمقاومة هؤلاء الغزاة.
10- الإفساد الأخلاقي.
11- نشر المذاهب المنحرفة كالعلمانية والحداثة وغيرهما.
12- ربط الدول الإسلامية بالدول الكافرة من الناحية السياسية ومن الناحية الاقتصادية
خامساً: أسباب التأثر بالغزو الفكري:
1- البعد عن الدين الإسلامي.
2- الجهل بأساليب الغزو الفكري.
3- عدم أدراك خطورة الغزو الفكري.
4- ضعف التحذير منه.
5- الرغبة في تقليد من يرى أنه الأقوى.
سادساً: وسائل التحصين ضد الغزو الفكري:
1- كشف الغزو الفكري ومخططاته وأهدافه ووسائله للسيطرة على المسلمين فكرياً, والاهتمام بالدراسات التي تعنى بالغزو الفكري.
2- توعية الناس بأخطار هذا الغزو ، وتبصيرهم بما يستهدفهم من الغزو الفكري.
3- بيان دور المجتمع بكافه طبقاته في مقاومة هذا الغزو.
4- نشر الوثائق والكتب, وعقد الندوات والمؤتمرات لبيان هذا الخطر.
5- تدريس أخطار هذا الغزو للطلاب في بعض مراحل التعليم.
6- الاهتمام بالجيل القادم وتربيتهم تربية إيمانية صحيحة.
7- الاهتمام بتدريس العقيدة الإسلامية الصحيحة, وتكوين الشعور بالاعتزاز بهذه العقيدة, ؛ لأن المسلم حينما يتسلح بهذه العقيدة لا يتأثر بالعقائد الفاسدة.
8- طرح الفكر الإسلامي الصحيح كبديل عن الغزو الفكري ، وحماية المفكرين الإسلاميين, وإتاحة الفرصة لهم في وسائل الإعلام المختلفة لإبداء أفكارهم.
9- توثيق صلة الشباب بالعلماء والمربين الناصحين.
10- إعداد المعلم الناجح ليكون قدوة يؤمن جانبه.
11- قيام الحكام والعلماء والقضاة ورجال الحسبة بدورهم في محاربة وسائل الغزو الفكري.
12- قيام وسائل الإعلام بواجبها في كشف وسائل الغزو الفكري ومحاربته والتحذير منه.
13- قيام المجتمع بكافة قطاعاته بدءاً بالأسرة بواجبه تجاه الشباب.
14- التوعية بالتاريخ الإسلامي ، وبيان أهميته ، وبيان ما ألصق به من تهم باطلة.
15- الانتباه لوسائل الإعلام المختلفة ومراقبتها مراقبة دقيقه سواء كانت كتباً أو نشرات أو إذاعة أو تلفزيون أو قناة فضائية وغيرها.
16- التأكد من وجود ضمانات وقيود على أي نشاط للغزو الفكري, وسد الثغرات التي يتسلل منها الغزو الفكري.
17- إغلاق أي مكان يكون منطلقاً للغزو الفكري كبعض المستشفيات أو بعض الفنادق ، أو بعض المدارس .
18- الاهتمام بالتعليم الخاص والإشراف المباشر عليه, وإخضاع هذه المدارس لمراقبة الدولة بشكل دقيق, بحيث تضمن خلو مناهجها وسلامة مدرسيها من الأفكار الهدامة, وضمان عدم قيامها بأي نشاط مشبوه.
19- تنظيم الابتعاث واقتصاره على المحتاج فقط, وتشجيع الطلاب على الزواج قبل الابتعاث, وعقد دورات لهم قبل الابتعاث وبعده, ومطالبتهم بالعودة إلى بلادهم في كل عام مرة حتى لا تنقطع صلتهم بمجتمعهم المسلم.
20- الاهتمام بأقسام الثقافة الإسلامية في الجامعات الإسلامية ؛ لأن هذه الأقسام هي التي تعنى بشكل أكبر بدراسة مثل هذه الأفكار وبحثها .
21- تكثيف الدعوة إلى الله.
22- العناية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتوسيع نطاق عمله ، وتشجيع القائمين به ، وحمايتهم ، وتوعيتهم ، وتثقيفهم ليقوموا بعملهم على أفضل وجه.
23- تطبيق الحكم الشرعي على المروجين للأفكار الهدامة.
وفي الختام أسأل الله أن يحفظنا من كيد الفجار وأن يجعل كيدهم في نحورهم ز
وأسأل الله -عز وجل- أن يحقق بهذه المقالات الأهداف المرجوة منها ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
==============(33/115)
(33/116)
انعكاسات لأِزمة الفهم
غادة أحمد 17/1/1427
16/02/2006
سوء الفهم على مستوى الفرد يُشكّل أزمة له و لمن يتعامل معه، و يزداد تفاقم هذه الأزمة كلما اتسعت الدائرة، و أسوأ ما تكون عندما تتسع لتشمل المجتمع ككل في رؤيته لقضايا عدة، فينعكس ذلك على محاولات التقييم و الطرح و العلاج و الذي أحوج ما يكون للإنصاف و الموضوعية و الشمولية.
سوء الفهم للواقع الذي نحياه و عدم بذل الجهد لسبر أغواره و المتغيرات التي تحف به، و مع العجز عن المواجهة، يؤدي بنا في كثير من الأحيان لممارسة لون من ألوان الهروب الخفي فنتلفع بعباءة التاريخ - و الذي نتوهم أنه يستر الكثير من السوءات، و التي بات سترها أكبر همنا! - في محاولة للتنصل من أعباء المواجهة، و هذا بدوره يوفر لنا فرصاً كثيرة لتسويغ ما نحن عليه من سوء الحال و المآل، فلو كان عندنا صلاح الدين أو قطز أو ابن تيمية ... الخ، لكانت مشاكل البشر جميعاً فضلاً عن أزماتنا كالصدقة في زمن الغنى و فيض الأموال.
و ليتسع الرتق في سوء الفهم، فهو ليس لهذا الواقع فحسب، بل و لكثير من آيات الله تعالى، و إلا فأين نحن من قوله تعالى: (...اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...) [الأنعام: من الآية124]، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ...)[البقرة: من الآية134].
هؤلاء الذين صنعوا الحياة في زمانهم، أتراهم لو عادوا لزماننا هذا أكانوا يملكون من الأمر شيئاً، و هذا الهروب الساذج الذي نمارسه يعطل العقل عن التوقف و التدبر، فتنقلب المعايير لعدم وضوح الرؤية، ولا يقتصر الإعذار على افتقاد مثل هذه النماذج، بل لعلنا نضيف أنه لولا تقصير الأولين و سوء فعلهم ما كان إرثنا لهذه التركة من التخلف، و نقعد نندب سوء حظنا وننوح على أحوالنا، و المولى سبحانه و تعالى يخاطبنا بقوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ...)[لأعراف: من الآية173].
فنحن في الحالين بُرَآء من الذنب براءة الذئب.
و يمتد بنا سوء الفهم، و يسافر معنا عبر مراحل الزمان، فنبحث عن أمة، بل أمم في زماننا هذا تحمل عنا عبء البطالة و العنوسة و الفقر و تشويه اللغة ...الخ، فلولا العمالة الوافدة من شتى بقاع الأرض، و لولا الزواج من المسلمات الأجنبيات! و ننسى أنها أزمات تعاني منها منطقتنا العربية كلها، بل العالم بأسره، و ننسى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52]. إن أنّ مشرقها بآهٍ، ردد مغربها صداه.
و هذا بدوره يقودنا لتلمس أزمة الفهم التي نعاني منها في تعاملنا مع القرآن، ففي الأمة نهضة لحفظ كتاب اللهK و لا شك أن ذلك خيرٌ كبير، فهناك من يمتلكون موهبة الحفظ المتقن، و لكن هذا لا يسوّغ أن يصل بنا الأمر لممارسة عقوبة الضرب مثلاً و الحرمان مما يحبه الأطفال ليستظهروا الآيات، و لكم ننتقد سياسة الحفظ كآلية معتمدة في مسيرة التعليم، و لكن لا بأس من اعتمادها عند التعامل مع القرآن! و لننظر إلى ما يؤول إليه الحال، و لنتدبر! انعكاس مهارات الحفظ على أخلاقنا و تعاملاتنا و اقتصادنا و سياستنا ....و عالميتنا! في زمان العولمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
نعيش أزمة فهم لماهية التربية من حيث أنها ثقافة تؤثر في السلوك، و تقويم في الاتجاه الذي يحبه الله و يرضاه، مما يستلزم منا استمرارية ضخ الكثير من القيم و المعاني في عقول الناشئة و وجدانهم فتتراكم و تترسخ، و لا تكون يوماً عرضة للمساومة .
فليس من المفترض أن ننتظر حتى يكذب أولادنا لنبدأ في تعليمهم قيمة الصدق، أو أخذهم ما لا يحل لهم لنشرع في تبيان الحلال و الحرام، وقد نفعل ذلك من دون استصحاب أنهم مخلوقون لزمان غير زماننا، فلا نعتمد التجديد و الإضافة لقيم و مفاهيم لنتناسق و نتناغم مع سنن التغيير و التطوير في هذا الكون، فالشرع حاكم على العرف و المسلم منتج قبل أن يكون مستهلكاً، و ما هو الإنتاج؟ و ما معنى التنمية؟ و كيف يكون التدريب و الذي وصل نصيب الفرد الياباني منه في السنة ما يوازي (320) دولاراً و الأمريكي (200) دولار و العربي 1.5 دولار؟* ، و عندها فلن نعثر على طفل في العاشرة يرى أن امتلاك هاتف نقال حق أصيل له، لماذا؟ ما الهدف؟ سوى أن زملاءه على هذا الحال، فيحكمه العرف دون الشرع الذي يربيه كي يساهم في تحويل أمته من أمة مستهلكة إلى أمة منتجة، و أننا نتميز لا بما نملكه و إنما بما نكونه.
و الرجولة وفق التحديث اللازم و لكي تستعصي على المساومة، هي الاستعفاف و التزام وسطية الشرع عند استشراف الجمال فلا تخضع لعرف الفضائيات، و من ثم فلن نعثر على شاب يساهم في رفع أسهم أمته في بورصة الاستهلاك عندما تنفق المرأة في منطقة الخليج و في عام واحد فقط أربعة مليارات ريال على أدوات الزينة و التجميل**، غير ما يُنفق من الجهد و الطاقة .(33/117)
نعيش في أزمة فهم متبادلة بيننا و بين الغرب، و نطالبهم بما يتوجب علينا أن نكون من أربابه، لا من أجلهم، و إنما من أجل أن العدل و الإنصاف من ثوابتنا
ما أشد تعرض الاجتهاد وفق الكتاب و السنة و من علماء أفاضل لتهمة التعمد للمساس بالثوابت!!
و ما أهون التخلي عن هذه الثوابت عند تقييم الآخر المخالف لنا في العقيدة!! (...وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا...)[المائدة: من الآية8]، و كأننا نخشى إنصافه، و الذي قد يكشف سوءات تقصيرنا في الأخذ بزمام العلم و التقدم والذي برع فيه و حاز السبق.
و لِمَ لا نفعل؟ ألم نعش أزمة فهم عقوداً طويلة كان شعارها "...و من نافسك في الدنيا فألقها في نحره "!
و ها نحن قد ألقيناها بكل ما فيها دون تحقيق لسندٍ أو متن أو فتوى تتغير زماناً و مكاناً، فما بال الأقوال المأثورة؟
لا نفرق بين إرادات الشعوب و الحكومات، فهم و بكل إصرار عندنا سواسية و على نفس القدر من الفهم و الاستيعاب، ما أرادوا بنا إلا شراً، و ما أضمروا حيالنا إلا السوء، و ما يكتب منهم و لو مفكر واحد أو عالِم ما فيه إنصاف للمسلمين، و ما يعكس رغبة الكثير منهم لمعرفة الإسلام، و الذي قد تجد صوراً لتطبيقه مما ينبئ عن رغبة هذه البشرية في العيش في أمن و أمان و سعادة و سلام، فحين تُنذر أُم مسلمة في كندا بأخذ أولادها لتشرف على رعايتهم الجهات المتخصصة؛ لأِنها أهملت بتركهم بمفردهم، و هما في الثالثة و الخامسة من أجل الذهاب لعملها، مما استلزم اتصال المدرسة الملحق بها الثاني للاستفسار عن سبب تَغيبه، و الذي كان بسبب مرض الأول، و عدم تمكن الأم من المكوث بجانبه، فتذهب إحدى المسؤولات و تحصل على مفتاح السكن، و الذي يتوجب ترك نسخة منه مع الحارس، و تقوم بإعداد طعام الإفطار، و رعاية الأولاد لحين عودة الأم، و التي اعتذرت بعدم معرفتها بقوانين البلاد، أوَ لم تكن على علم بالشرع؟
أوَ ليس هذا من النظام الجميل و الانضباط الذي يحبه الإسلام و يرضاه لصلاح البشر جميعاً؟
و حين يقر مجلس اللوردات البريطاني قانوناً برفض الأدلة التي تُؤخذ تحت التعذيب، ألا يقرب هذا المسافات بيننا و بين تلك الشعوب، و تلك العقول المنصفة؟! وكثير؛ فلا يخلو مجتمع من خير و قيم و مثل، و لا ينفرد آخر بالشر و الأذى و العدوان.
ليست دعوة للتعاطف المطلق مع الغرب و تجاهل ما ترتكبه حكوماته في بلاد المسلمين، و إنما محاولة لرؤية أكثر وضوحاً حتى - و مهما كانت الضغوط - لا تُخدش ثوابتنا .
و في سياق ذي صلة يمتد سوء الفهم فيتهيأ لبعضنا أن التحقير و التصغير لمن اعتمدوا أفكاراً تُنسب إلى الحداثة و العلمانية و العصرانية ...الخ هو الأسلوب الأمثل لمخاطبتهم، و لعل منهم الجاهل أو المتأول، و حتى لو كان متعمداً، أوَ ليس من بين جوانحه نفسٌ تتألم، و إذا كان التوجيه الإلهي بعدم المبالغة في إلحاق الأذى بالكافر المحارب (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ...)[النساء: من الآية104]، بل إن أراد سماع الحق فلا تحقير و لا تصغير، و إنما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ...)[التوبة: من الآية6]، فما بال من لا يزال ينطق بالشهادتين، و إذا لم يأت فلماذا لا نذهب نحن، و نحن الأكثر قوة و ثقة بالحق الذي نملكه (...ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ...)[المائدة: من الآية23]، و ما كان أرفق و أجمل رد أحد علمائنا الكرام في مؤتمر الحوار الوطني بأبها حين طالب أحدهم بفك الارتباط يبن النشاطات الخيرية و أعمال الإغاثة فلا تُحاصر بالإسلام، فهذه أعمال إنسانية لا وطن لها و لا دين، فتأتي الحجة الهادئة تقرع مثيلتها و تفندها، - ما صاحبها غمز و لا لمز و لا تحقير، وهكذا كل من كان له نصيب من علمٍ أو حكمة - و لماذا إذن لا تتكرر نفس الدعوة من صاحبها بفك الارتباط المزمن بين النشاطات التبشيرية و أعمال الإغاثة؟
أزمة الفهم التي نحياها تعكس سؤالاً ملحاً ... لماذا هذه العلاقة الحميمة بيننا و بين سرعة الاصطدام بالآخر؟
أم هو اصطدام مع النفس؟!
فتكون أزمة الفهم التي يعاني منها المسلمون - و ما سبق كان على سيبل المثال لا الحصر - هي فرع عن أزمة فهم مع النفس؟
=================(33/118)
(33/119)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي!
د. عدنان علي رضا النحوي 24/4/1426
01/06/2005
للمرأة قضايا تثار في كلِّ مجتمع مضطرب الموازين منحرف القيم أو جاهليٍّ أو ملحدٍ ، كان للمرأة قضيّة في العصر الجاهليّ في الجزيرة العربيَّة، وفي اليونان، وفي روما في عصور الانحلال والتفلّت. ولها قضيّة كُبْرى في الحضارة الغربيّة التي سحقت المرأة وسرقت شرفها، وحطّمت كرامتها ورمتها في فتنة الدنيا ووحول فسادها، مخدّرة لا تُحسُّ بحقيقة شقائها، خدّرتها الشهوة المتفلَّتة، أو الجري اللاهث وراء لقمة العيش، أو زهوة المراكز والمناصب والمسؤوليات.
ولكن لم يكن للمرأة مشكلة في عصر النبوة الخاتمة، ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولا في أيّ عصر ساد فيه حكم الكتاب والسنَّة وكانت كلمة الله فيه هي العليا.
ولكننا اليوم نعاني من هذه القضيَّة، قضيّة المرأة بعامة ومشاركتها في العمل السياسي بخاصة في الآونة الأخيرة، ونرى البعض يطلق مثل هذا الحكم:
" الإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء".
حكم عام يُطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة.
إِنّ هذا النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة والتي يطلقها بعض العلماء المعاصرين دون أي قيود، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا. ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ. نساء النبيّ r لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء، ولا نساء الخلفاء الراشدين، ولا نساء العصور التي تلت، ولا نجد هذه الدعوة التي يطلقها بعض العلماء إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين.
وإذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه، وأن يستشيرها في ذلك، وأن يستمع إلى رأيها، فإن وجد فيه خيراً أخذ به، وإن لم يجدْ تركه. هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام، ونتأسَّى برسول ا صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي.
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء، وكذلك سائر النساء لم يُعرف عنهن هذه المشاركة المساوية للرجال في المجتمع المسلم. فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام.
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسول صلى الله عليه وسلم قوله:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 28- 29 ].
لم يكن الأمر أن نساء صلى الله عليه وسلم يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء حسب ما ذكر بعضهم. لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر، ولكن حياة النبيّ r كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات، لا مستوى الملوك والرؤساء.
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ r ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين، لهن هذه الحرمة والمنزلة العظيمة. فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكّر المسلمين ونساء النبيّ r والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام: نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات. نهجان مختلفان:
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما … …
نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على … …
نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ(33/120)
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- هذا التذكير، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر. ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء، الطباع التي فُطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف.
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً، وخلق الرجل ليكون رجلاً، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء. وعلى ضوء ذلك، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته، وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً.
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة. فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل. ومن حق المرأة أن تتعلم لأنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة ، " طلب العلم فريضة على كل مسلم"، (1) ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرِّسة للنساء، وطبيبة للنساء، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا، دون أن يتشبّهْن بالرجال:
فعن ابن عباس -رضي عنه- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبّهين من الرجال بالنساء. "(2)
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء " (3) .
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها، حتى قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
) لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله -عزّ وجلَّ- عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ، ...) (4)إلى آخر الحديث.
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها، لا تتركهم للخادمات وغيرهن.
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام، ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة. فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض.
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات، مفتيات موهوبات. ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة. والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة، فهي أحرى أن تصبح أكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى:
(.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله...) [النساء: 34]
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه، واجباتها التي ليس لها بديل. فلنستمع إلى ما يقوله:
" ... ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال" .
ويتابع فيقول: " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وقطاع الخدمات، وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة. وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية... "(5)(33/121)
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج، انطلقوا كما نرى، ولو متأخرين، من البيت، من الأسرة، من دور المرأة في البيت، الدور الذي لا بديل له. ونحن المسلمين، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد، الرجل والمرأة، ثم البيت والأسرة- تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة، أو رئيسة شركة، ونضع من أَجل ذلك قانوناً عاماً مطلقاً دون قيود " :الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية!" وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها؟!
لا نقول: إِنّ المرأة عامة، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء. لا نقول هذا. ولكن نقول: إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ r، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عصور كثيرة أخرى.
وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات، أو مجتمعات غير ملتزمة بالإسلام.
وغفر الله لمن قال، كما نشرته إحدى الصحف: " إنّ الرسو صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير، أنديرا غاندي، تاتشر، ما قال حديثه الشريف: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) . فالمؤسف أنَّ من الناس من يعتبر أنَّ هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن. عجباً كل العجب! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح! وأين قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [ الزخرف : 33-35] نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح. ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين.
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام.
أما حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم (ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) ، فالحديث يرويه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه والترمذي. ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص. وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص. ولا يعجز الرسو صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص. ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم، وامرأة نكرة تفيد العموم، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل.
وبما أنَّ المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه، فإنها كذلك مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه! ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل. وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت. والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال، وليس فرضاً على المرأة، وجهاد المرأة هو في بيتها ورعايته ورعاية زوجها:
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ امرأة جاءت إلى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أُجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون. ونحن النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبلغي من لقيتِ من النساء أنَّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله) .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: " كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى " (6).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "وفيه :" ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ) . (7)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أعلى النساء جهاد؟! قال: ( نعم ! عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة).(8)
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة.
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل. نهجان -كما ذكرنا- مختلفان.(33/122)
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح. ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته.؟! ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة. إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها، وأنتم أضعتم المرأة وأضعتم كرامتها، ثمَّ نعرض الإسلامَ كما هو، وكما أُنزل على صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين.
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته. وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام. المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم. أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن. دور بيّنه الله للنساء وللرجال، لا نجده في الديمقراطية، ولا في العلمانية، ولا في تاريخ الغرب كله.
نعم! إن أول من صدّق رسول ا صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضي الله عنها. ولكنها بتصديقها لرسول ا صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته، فلم تنطلق خديجة -رضي الله عنها- في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال. وكذلك كانت سميّة أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام. والنساء اللواتي قاتلن في أُحد أو حنين، كان ذلك في لحظات طارئة عصيبة لا تمثل القاعدة الدائمة الرئيسة للمرأة في الإسلام، كما بيناها قبل قليل، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال، وإنما كنّ أول من التزمن حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
المرأة التي قامت تردّ على عمر -رضي الله عنه- في المسجد، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم. وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم. وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة.
وأتساءل عن السبب الذي يدعو بعضهم إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها؟ وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم؟ وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية؟!
وبصورة عامة، فإنّ هذا الموضوع: مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم: " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل"! هكذا في تعميم شامل، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه. وكذلك: "مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية"، هذا كله موضوع طُرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية.
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تُدرس وتُراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه. والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور، وإلى التورط في علاقات غير كريمة.
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين، ففي الرجال عندنا فائض، والرجال بحاجة إلى أن تُدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام.
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة، فعندما يُطلق هذا ويُباح، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام كلّه، و بالحجاب واللباس عامة؟
إنَّ إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد في الرجال والنساء، دون أن ينفي هذا وجود بعض النساء الملتزمات والرجال الملتزمين، إنَّ إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها.
وإني لأتساءل: لأيّ مجتمع تصدر مثل هذه الآراء؟! لأيّ رجل وأي امرأة؟ هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي؟ أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً، لتُطلق فيه مثل هذه الأمور؟ وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله؟!(33/123)
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة.
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك. وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى، كما نراها في العالم الغربي؟!
وكذلك أتساءل: لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها؟ ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه؟ في عالمنا اليوم فَقَدَ كثير من الرجال حقوقهم، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل.
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل.
وأخيراً أقول: قبل أن نطلق مثل هذه الآراء اليوم، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم.
فلنبنِ الأمة، فلنبنِ الرجل والمرأة، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الملتزم، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة الملتزمة بالكتاب والسنة. حيث تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هذا المجتمع أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة.
إلى ذلك يجب أن تتجه الجهود متكاتفة بدلاً من أن تتمزَّق في قضايا جزئية لا تساعد إلا على تمزيق الأمة: أيها العلماء والفقهاء والدعاة والمسلمون، أقيموا الإسلام حقّ الإقامة أولاً في نفوسكم رجالاً ونساءً، وأقيموه في الأرض، كما يأمركم الله سبحانه وتعالى، وبلّغوه الناس وتعهّدوهم عليه، ثمَّ انظروا في حقوق المرأة والرجل تجدوها بيّنة جليّة لا تحتاج إلى فتوى، كما وجدها أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم والمؤمنون المتقون في العصور كلِّها!
(1)عن أنس وغيره من الصحابة . صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم: 3913 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير وزيادته 5100 .
(2)صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 5096 ، المشكاة : رقم : 4470 .
(3)عن عائشة رضي الله عنها، وعن عبد الله بن أوفى، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، في روايات متعددة كلها تتفق مع النصّ المذكور. أخرجه الإمام أحمد: الفتح الرباني : 16/227 وأخرجه ابن ماجه وابن حبان. وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : 5295 .
(4)جورباتشوف: البيروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع ، ص : 166 ترجمة أحمد شومان .
(5)مسلم : 32/47/1800 ، وأبوداود : 9/34/2531 .
(6)البخاري : 11/11/893 مسلم : 33/5/1829 ، الترمذي : 24/27/1705 .
(7)أحمد وابن ماجة.
(8)أبوداود : 34/6/4607 ، الترمذي 42/16/2676 ، ابن ماجة : المقدمة 35 .
============(33/124)
(33/125)
إدارة الثقافة
د. عبد الكريم بكار 28/2/1426
07/04/2005
لو عدنا إلى أدبيّاتنا عبر القرون الماضية لوجدنا أن معظم تنظيرنا للشؤون الثقافية كان ينصبّ عليها بوصفها علوماً واختصاصات معرفيّة منظمة.
وربما سادت تلك النظرة بسبب قلة ما في أيدينا من المعارف والمعطيات المتعلقة بالإنسان باعتباره كائناً متعدّد الجوانب ومتعدّد الاحتياجات.
أما اليوم فإن المفهوم (الأنثروبولوجي) للثقافة آخذ في الانتشار والرسولخ؛ حيث إن هناك اعتقاداً متزايداً بمحدوديّة تأثير (العلم المجرّد) في صياغة السلوك الإنساني، وفي توجيه حركة الحياة اليومية. الثقافة كما بلورها علماء الإنسان هي ذلك النسيج المكون من العقائد والمفاهيم والنظم والعادات والتقاليد وطُرُز الحياة السائدة في بقعة محدّدة من الأرض. إنها طريقة عيش شعب بعينه، أو هي ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، وكثير من مكونات الثقافة يستعصي على التخطيط والتنظيم؛ لأنها تشكل الخلفيّة (اللاواعية) لكل تخطيط وتنظيم. إن تنوع العناصر المكونة للثقافة يمنحها قوة هائلة في مواجهة الوافدات الأجنبيّة، وما يمكن أن تتعرض لها من ضغوطات داخليّة. إنه حين يتعرض أحد أنساق الثقافة للهجوم أو الهون، فإنها تعتمد في استمرارها واستعادة حيويّتها على باقي أنساقها، لكن نقطة قوة الثقافة هذه هي أيضاً نقطة ضعفها؛ حيث يعرّضها تنوّع مكوّناتها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الانقسام على الذات بسبب التصادم بين بعض أنساقها؛ وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى ما سميناه (إدارة الثقافة).
أودّ هنا أن أدلي بالملاحظتين الآتيتين في هذه القضية:
1- في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة أو ثقافة نخبة وثقافة جماهيريّة. الثقافة العليا تتكون بطريقة واعية وتكون أكثر دراية ببنيتها العميقة، وذلك لأننا نتملكها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة.. أما الثقافة الشعبيّة فإنها ليست كذلك، إنها تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشربها أبناء المجتمع ويتشبعون بها كما يتنفسون الهواء. ونقطة ضعفها هذه هي نقطة قوتها؛ حيث إن اختراقها من قبل الثقافات الأجنبية يكون عسيراً بسبب عشوائيّتها وكتامتها ورقابة المجتمع المشدّدة عليها. أما الثقافة العليا والتي نبدأ بنشرها منذ الصف الأول الابتدائي إلى ما لا نهاية. هذه الثقافة هي التي تمثل الأمة أمام الأمم الأخرى، وهذا ما يجعلها على درجة حسنة من المرونة والقدرة على التكيف وتمثل الرموز الثقافية الأجنبية، أي أن كثيراً من الاقتباس والتطوير يأتي عن طريقها. تنظيمها وتمثيلها الخارجي لثقافة الأمة يعرّضها لأمرين مزعجين:
الأول:سهولة اختراقها؛ حيث إن طريقة اكتسابها الواعية تفتح الطريق لغزوها وبالتالي تحويرها وتهجينها.
الثاني:جفول الوعي الشعبي من أصحابها والشعور بأنهم يتجاوزون حدودهم إلى درجة يسوغ معها اتهامهم بخيانة الأمة وبيعها للغرباء. ومع أن شيئاً من هذا ينطبق فعلاً على بعض المثقفين إلا أن المشكلة أن الثقافة الشعبيّة لا تملك المعايير المنهجيّة، ولا الأسس المنطقيّة التي تمكنها من الحكم الراشد على تصرفات النخبة، مما يجعل موقفها شاعرياً أكثر من أن يكون عقلانياً. وهي بدافع من الخوف من الانقطاع تلجأ في كسب قضيتها إلى التيارات النخبويّة الأكثر محافظة وتقليديّة لتقدم لها العون في كبح اندفاع التيارات المتحرّرة والمتطلعة إلى التحديث. وهذا يجعل من الثقافة الشعبيّة عاملاً مهماً في زيادة الانقسام بين تيارات الثقافة العليا.
يمكن القول: إن تطوير الثقافة الشعبيّة وتخليصها من العادات والسلوكات الخاطئة يقع على عاتق الصفوة أصحاب الثقافة العليا، لكن من الصعب أن يحصلوا على الاستجابة لمناشداتهم وطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.
في العالم الإسلامي قامت الثقافات الوطنية والمحلية منذ أمد بعيد بإفراغ طاقاتها على الحضّ والكفّ في الثقافة الإسلاميّة المستندة إلى الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء، وصار من غير الممكن المضي قدماً في تطوير أيّ شأن محلي بعيداً عن مدلولات هذه الثقافة ورمزيّاتها وتحديداتها. وهذا يعني أن ثقافة النخبة لا تستطيع أن تصبح قوة محرّكة للناس ما لم تتشرب روح الدين، وما لم تلتزم بقطعياته وأُطُره العامة. إننا في مرحلة حرجة يحتاج فيها كل من يروم الإصلاح إلى ولاء الناس وحماستهم وتضحياتهم؛ لأن المفكر لا يملك أكثر من ناصية التنظير، والجماهير التي ستتحمل عبء التنفيذ؛ ولهذا فلا بدّ من الاستحواذ على رضاها وإعجابها. وستكون النخبة في وهم كبير إذا ظنّت أنها تستطيع إحداث تغييرات كبرى من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من أبناء الأمة. وقد أثبتت التجارب الكثيرة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة أن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. وحين يجافي أهل الرؤية والخبرة روح الدين فإنهم يسلمون زمام الأمة إلى عناصر تملك الكثير من الحماسة والاندفاع والقليل من البصيرة والفهم لمتطلبات المرحلة.(33/126)
إن طاقة ثقافة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها، على حين أن عقلها ورشدها في المستوى الصفوي. وهذا التفاوت هو دائماً مصدر للتوتر والنزاع، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون مصدراً للتطوير نحو الأحسن والأقوم إذا أدرنا العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.
2- إن تنوع الأنساق المكونة للثقافة يحيل دائماً على إمكانية حدوث الصدام والنزاع، كما هو الشأن في التنوّع والتعدّد. ويبدو أن أشد أنواع التوتر تلك التي تقع بين الثقافة بوصفها (هُوِيّة) وسمات خاصة بالأمة، وبين الثقافة بوصفها تعبيرات عن نَزَعات استهلاكية أو تعبيرات عن تحرّكات لتلبية حاجات الجسد، أو تعبيرات عن التكيف مع ظروف ومعطيات شديدة القسوة. وكلّما أوغل الناس في مدارج الحضارة اشتد أُوار الصراع بين هذين النسقين من أنساق الثقافة؛ ذلك لأن ثقافة الهُويّة تتسم بالتعالي عن الانشغال بالواقع، وتنزع نحو المطلق. على حين أن التحضر يزيد وعي الناس نحو مصالحهم، ويفتح شهيّتهم على الاستهلاك، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تضخم الثقافة المتعلّقة بتسيير الحياة اليومية وتحقيق المنافع الشخصية، وهذا يجعل الناس يشعرون ويظهرون بأنهم أكثر دنيويّة، وهو ما يثير حساسيّة الترميزات العميقة للهُويّة في الثقافة الإسلاميّة.
من الواضح اليوم أن ثقافة ما بعد الحداثة تشجع على انبعاث الهُويّات في كل أنحاء العالم من خلال عمل غير مقصود، وهو المناداة بالنسبيّة الثقافيّة والتأكيد على انعدام الأطر والمرجعيّات، وجعل الحقيقة شيئاً تابعاً للثقافة. وتكمّل العولمة المهمة حين نعتمد نظام التجارة أداة أساسية في تسليع كثير من مظاهر الحياة، وجعلها أموراً جاهزة للمتاجرة والمساومة. إن هذا الدفق الهائل من الرموز والصور الاستهلاكيّة يساعد -على نحو استثنائي- على انتشار الهُويّات المقاتلة دفاعاً عن الوجود، وقد لا يكون أمامنا لإدارة الصراع المحتدم في عمق الثقافة على هذا الصعيد إلا أن ندعم الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والاجتماعيّة ذات النفع العام، وأن نحاول إضفاء المعنى على الأنشطة الدنيويّة من خلال الحرص على شرعيتها، وشرح ما يمكن أن يجعلها موصولة بالأعمال الأخرويّة. وما لم نفعل ذلك فإننا سنعاني من الانقسام والتمزق في أعماق ثقافتنا، وسنشعر بالكثير من تشتت الجذور وضياع الأهداف الكبرى
===========(33/127)
(33/128)
الحرية الغربية.. الجذور والمنطلقات
2006/02/22
نبيل شبيب**
أرسطو
إلى أيّ حرية يدعو الغرب؟ وأيّ حرية يمارسها داخل بلدانه؟ ما موقعها من العقيدة أو موقع العقيدة في إطارها؟ ما وضعها في الواقع التطبيقي الغربي، وما الذي يجعل الازدواجية سمة ملازمة للتعامل الغربي مع حرية الآخر؟ هل الحرية بمفهومها الغربي قيمة من القيم الإنسانية المشتركة، يحقّ للغرب المطالبة بسريان مفعولها في المجتمع البشري دون تحفّظ؟ وهل يمكن الأخذ بحرية الغرب في الدوائر الحضارية الأخرى؟ وعلى افتراض صحّة ذلك، هل ينبغي تكييف المعطيات والخصائص الذاتية في تلك الدوائر الحضارية مع الحرية بمفهومها الغربي أم العكس؟
ويلاحظ أنه في القسط الأكبر مما يُكتب عن الحرية الغربية بأقلام غربية، أو حتى الأقلام الإسلامية، تتردد مقولة تعميمية، مؤداها أن التناقض بين مفهوم الحرية الغربي المعاصر والدين إنما نشأ كردة فعل تنويرية حداثية على الاستبداد الكنسي في ظلمات العصر الوسيط الأوربي فحسب، وهذه مقولة تفتقر إلى تمحيص تاريخي منهجي.
وشبيه بذلك مقولة تعميمية أخرى مؤدّاها أن انطلاقة مسيرة الحريات في عصر التنوير الأوربي قد تجاوزت الحقبة الكنسية، فأخذت جذور "الديمقراطية" من عصر الإغريق والرومان، وهي مقولة تنطوي ضمنًا على تبرئة ذلك العصر مقابل إدانة الكنيسة وعصر استبدادها، ومن العسير القبول بذلك وما يراد أن ينبني عليه.
جذور إغريقية وكنسية
أوّل من استخدم كلمة "الديمقراطية" في الغرب كان الفيلسوف الغربي أرسطو (توفي 322 ق.م)، وقليلا ما يُذكر أنّ أرسطو لم يستخدم الكلمة، والتي تعني في الأصل "حكم الشعب" بمقاصدها المعروفة اليوم، بل من منظور الازدراء ببعض معاصريه ممّن دعا إلى تمكين "الدهماء" من العامّة من قول ما يريدون، فأولئك لا يفقهون -وفق نظرته- في السياسة ولا سواها، ولا ينبغي الاستماع إليهم في نطاق ما سمّاه الغربيّون المحدَثون "ديمقراطية أثينا".
وديمقراطية أثينا تلك لم تتجاوز احتكارَ صناعة القرار في نطاق "علية القوم، أي زهاء 2 إلى 3% من "الشعب"، ولم تعرف انتخاباتٍ ولا فصلَ سلطات ولا أي علامة أخرى واضحة أو حتى في حدود بذور أولية من علامات الديمقراطية الغربية الحديثة. إنما قال بعض معاصريها بجواز السماح للعامّة أن "يقولوا" ما يريدون، فكان ذلك على غرار ما تعرفه الأنظمة الاستبدادية حديثا؛ إذ تسمح بالتعبير عن الرأي بأسلوب "قل ما تشاء.. ونقرّر نحن ما نشاء"، ويسري شبيه ذلك بدرجات متفاوتة على غالبية الدول الديمقراطية الغربية المعاصرة، حيث حرية التعبير مكفولة دستوريا، لكنّ غالبية الأفراد من عامّة المواطنين لا يمتلكون قوّة فاعلة تسمح بتأثير "حرية تعبيرهم" على صناعة القرار، فلا مبالغة في القول إنّها تبقى في الحصيلة حبرا على ورق.
في عصر الإغريق كان أشهر الشواهد على هذه الصورة ما عُرف بمحاكمة سقراط (توفي 399 ق.م) الذي اشتهر بفلسفته "التوليدية"، أي استخراج الجواب عبر طرح الأسئلة على العامّة في شوارع أثينا ليستخرج من أجوبتهم ما يفكّرون به، وكان مصيره المحاكمة بتهمة الشغب، وصدور حكم بالإعدام عليه وهو في السبعين من عمره، فاستبق تنفيذ الحكم بتناول السمّ كما كانت تقضي أعراف الفلاسفة.
يتكرّر هذا المشهد بصور شتّى في نطاق "الفلسفة الرواقية" التي أسّسها "زينون الرواقي" (توفي 264 ق.م)، وانتقلت لاحقا إلى العصر الروماني والكنسي، وقامت على الفصل بين القيم السلوكية وصناعة القرار، أو "الفلسفة الإبيقورية" التي أسّسها إبيقور (توفي 270 ق.م)، داعيا إلى اللذة والمتعة، وإلى تجنّب السياسة وأهلها.
أمّا أن يتجاوز الفلاسفة -والفلسفة هي الفكر بمفهوم الغرب- حدود فرضياتهم عن الطبيعة والكون، والإنسان وسلوكه، إلى أمر يتعلّق بتكوين الإمبراطوريات آنذاك، وطبيعة حكمها، أو إلى ما يتّصل بالآلهة الوثنية استهزاء أو إنكارا، فمصير من يصنع ذلك كمصير سقراط، محاكمة، وإعداما، أو نفيا، أو سجنا، أو قتلا، أو انتحارا، كما كان مع عدد كبير من الفلاسفة من أيام آناكساجوراس الإغريقي (توفي 428 ق.م) إلى أيام سيزيرو الروماني (توفي 43 ق.م).
وأبرز ما بقي من تلك الفترة عن الديمقراطية الإغريقية الغربية مخطوطة أفلاطون (توفي 347 ق.م) بعنوان "المدينة الفاضلة"، وإليها يعيد الغربيون ومن دعا بدعوتهم جذور ديمقراطيتهم المعاصرة، وكانت "المدينة الفاضلة" وفق أفلاطون نظام حكم طبقي؛ ففيها طبقة رجال الدين والنبلاء (الأرستقراطيين الحاكمين)، وطبقة العسكريين المقاتلين، وطبقة الشعب التي لا حقوق لها سوى أن تنفّذ ما تقرّره الطبقة الأولى.(33/129)
عنصر "الطبقية" هذا لا يظهر كثيرا في مقارنات الكتّاب المحدثين بين الإمبراطورية التي يريد صانعو القرار الأمريكيون إقامتها عالميا، وبين الإمبراطورية الرومانية قديما؛ إذ يغلب عندهم حديث المقارنات في أسلوب التعامل مع الشعوب الأخرى، وهو ما يرتبط بعامل العنصرية فيما يوصف بحضارة "الإنسان الأبيض"، فيغيب عن تلك المقارنات عنصر التعامل مع الشعوب داخل نطاق الغرب نفسه، والمرتبط بعامل "الطبقية" التي اختلفت مسمّياتها وتطبيقاتها فحسب.
ملاحظات مهمة
أمّا الحقبة التالية فشهدت الفلسفة الكنسية، مثل "الأبوية" و"المدارسية" وسواهما، ولم تنطلق من الجانب الديني بل من المزاوجة بينه وبين ما أخذته عن الإغريق، لا سيّما الفلسفات الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة. منطلقة من أطروحات الفيلسوف اليهودي في الإسكندرية، فيلو (توفي 40م)، لتستقرّ عموما على محاور ما صاغه لها بعد قرون الفيلسوف الجزائري الأصل أوجستينوس (توفي 354م).
ونتوّقف هنا عند ملاحظة أولية:
1 - كانت القرون التالية من العصر الوسيط الأوروبي امتدادًا تاريخيًّا لاضطهاد "الآخر" في العصر الإغريقي، وأصبح عنوانه "الآخر الكنسي"، ثمّ "الآخر الفلسفي"، ثمّ مع ظهور بذور التمرّد على سلطان الكنيسة، شهدت القرون الأخيرة من العصر الوسيط الأوروبي اضطهاد رأي "الآخر" العلمي والفني والأدبي والسياسي.
2 - كيف نفسّر إذن تركيز الدعوات العلمانية والحداثية المعاصرة -لا سيما بالعربية- على ممارسات الكنيسة الاستبدادية تلك، مع أنّ الكنيسة فقدت سلطانها، مع ندرة التنويه بما كان من ممارسات مماثلة لدى الإغريق والرومان من قبل، وكذلك لدى الفراعنة والبابليين والآشوريين وغيرهم؟
3 - أليس في هذا التركيز ما يراد به استهداف المسيحية عبر استهداف الكنيسة، باعتبارها من أديان الوحي الإلهي، لتشمل مقولة التناقض المزعوم بين الحرية -لا سيّما حرية الرأي والتعبير- وبين الدين، سائر أديانِ الوحي دون تمييز.. بل لتشمل الإسلام تخصيصا، فهو الذي يتناول سائر ميادين الحياة، ولا يفصل بين مجال شخصي ما وبين السياسة التي لا تترك مجالا من المجالات دون توجيهه، بما في ذلك المجالات الشخصية للإنسان.
النهضة وليدة الحرية لا الحداثة المادية
في نطاق التركيز المشار إليه تعميما لدعوة "الحداثة" ثمّ "ما بعد الحداثة" في الدائرة الحضارية الإسلامية، انتشرت مزاعم عديدة، محورها القول إنّ صناعة قيم الحرية والكرامة الإنسانية في أوروبا، بمعنى التنوير، كانت من حصيلة فلسفات حداثية ومادية وإلحادية، أو هي على الأقلّ حصيلة علمانية بدأت بالفصل بين الكنيسة وحكم الدولة، وقد تطوّرت واقعيا إلى الفصل بين صناعة الإنسان والدين.
في هذا الطرح مغالطات تتجاهل حتى تسلسل الوقائع الزمنية المجرّدة؛ بل إنّ كلمة حداثة نفسها عندما ظهرت لأوّل مرة في الكتابات الإنجليزية عام 1580م بلفظة mode r n اقتصر استخدامها على المعنى اللغوي: جديد، وهذا ما يسري على استخدامها في الكتابات الفرنسية في مطالع القرن 18م، بلفظتي mode r ne وmode r nise r ثم كان أوّل من استخدم الكلمة بمعنى قريب من "الحداثة" بمفهوم فلسفي وبلفظة mode r nitè، هو الكاتب الفرنسي شاتوبريان (توفي 1848م)، وكان ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية.
وما يسري على الاستخدام اللغوي، يسري على المضمون الفلسفي والواقع التطبيقي، فما يُعتبر إنجازا بمقاييس النهضة الإنسانية، أي قيم الكرامة والحرية وما يتبع لها، والحكم القويم، ومكافحة الاستبداد.. جميع ذلك وما بُني عليه في "التنوير" الأوروبي سبق الأطروحات التي يصنّفها الحداثيون والعلمانيون في التأريخ للحداثة، تحت عنوانين رئيسيين هما "العقلانية" و"التجريبية الحسية/ الإمبريقية"، في فلسفات رينيه ديكارت (توفي 1596م) وباروخ سبينوزا (توفي 1632م) وفرانسيس بيكون (توفي 1626م) وديفيد هيوم (توفي 1711م) وغيرهم.
بل إنّ دور المنطلق الديني في التمرّد على الاستبداد الكنسي وترسيخ قيم الحرية والكرامة، كان هو الدور الأبرز للعيان على امتداد عدّة قرون، قبل التنوير والحداثة ثم العلمانية والمادية، وهو المنطلق الذي صنع الإصلاحات الأولى في الواقع الأوربي، وجعل التنوير نفسه نتيجة من نتائجه.
لقد واجهت مسيرة السيطرة الكنسية الأولى مظاهر التمرّد من منطلقٍ ديني؛ وهو ما أدّى إلى الانشقاقات الكنسية وظهور طوائف عديدة، وانطوى على صدامات عنيفة مع معارضة كنسية داخلية -إذا صحّ التعبير- في فترة ترسيخ الفلسفة الكنسية، باتجاهيها الكبيرين، الكاثوليكي والأرثوذوكسي، ثم في فترة نشأة الكنائس أو الحركات الكنسية الموصوفة بالإصلاح الكنسي، كالبروتستانتية التي أسّسها مارتن لوثر(توفي 1546م)، والإنجليكية أو الإنجليكانية التي استقرّت في بريطانيا في القرن 17م.
فلاسفة.. ودعوات
ميكافيلي(33/130)
كذلك لم تبدأ دعوات الإصلاح السياسي تحت عناوين الحرية والكرامة الإنسانية انطلاقا من حقبة الحداثة في القرن 18م، والفلسفات المادية والعلمانية في القرنين 19 و20م، إنّما سبقتها بعدّة قرون على مساراتٍ ارتبطت بأطروحات فلاسفة وساسة عديدين، من أشهرهم على سبيل المثال دون الحصر:
*
مارسيليو دي مينارديني (توفي 1342م): دعا إلى مجتمع جمهوري قائم على السيادة الشعبية.
*
جون فورتيسكو (توفي 1476م): دعا إلى الحدّ من السلطة الملكية، واعتبارها مرتبطة بإرادة الشعوب، وتابعه جورج بوخينان (توفي 1582م).
*
نيقولو ميكيافيلي (توفي 1527م)، وقد اشتهر بفلسفته النفعية، وتطبيقها في حياته السياسية، ولكنّه تميّز بدور فعّال عبر مجلس السلام والحرية في فلورنسا؛ حيث قام حكم جمهوري مستقلّ عن روما القريبة. ورغم ما عُرف عن نفعيّة ميكيافيللي، فإن "العقد الاجتماعي" يصنّفه بين أوائل من دعوا إلى حرية الشعوب، وهو جزء من أجهزة السيطرة عليها.
*
جان بودان (توفي 1596م): وقد دعا إلى سيادة الدولة على سائر المواطنين فيها، مؤكّدا بذلك رفضَ السلطة الكنسية المطلقة، ومتأثّرا بالحقبة التي عايشها، وكانت حافلة بالحروب الدينية في أوربا، لا سيّما بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في فرنسا.
ويمكن المضيّ مع مزيد من الأمثلة على أطروحات فلسفية محضة، وأطروحات علمية، وإنجازات تقنية علمية، وجميعها -كأطروحات الفلسفة الإنسانية والسياسية- كانت سابقة لأطروحات الحداثة المادية والعلمانية المتشدّدة أو المستقلة عنها، ولم تكن من نتائجها.
إنّ مفعول القيم الكامن في تلك الأطروحات هو ما صنع القوّة المحرّكة للتقدّم التقني والعلمي، قبل أطروحات التجريبية الحسية / الإمبريقية، ناهيك عن أنّها سبقت بعدة قرون ولادة الوجودية والوضعية وغيرها؛ أي الدعوات التي يروّج لها أنصارها على خلفية أخذها بالإلحاد المطلق أو إنكار الدين، شرطا من شروط حرية الإنسان لصناعة الإنجازات الحضارية البشرية، فقلبوا بذلك المعادلة الزمنية التاريخية التي سبقت فلسفاتهم رأسا على عقب. وهذا ما يؤكّد تهافت منطلق مَن يروّج حاليا للزعم القائل إنّ بداية الطريق إلى النهضة في الدائرة الحضارية الإسلامية يجب أن تعبر طريق العداء للدين -أو إقصاء الدين- أسوة بالتنويريين الأوربيين، وبزعم تقييده لحربة الفكر والرأي والعلم والعطاء والإبداع.
الغرب والعداء للدين
إنّ هذا الشطط الفلسفي لا يُكسب من يمارسه حتى "إتقان" عملية "التقليد أو التغريب"، فمراحل تطوّر الغرب تاريخيا تؤكّد أنّ العداء للدين لم يستقرّ وينتشر في مرحلة الانطلاقة الأولى للنهضة الغربية في الميادين العلمية والفكرية والسياسية والأدبية والفنية الأولى، بل كان مرافقا لمسيرة تلك النهضة في فترة متأخّرة، ونتيجة تطوّرات معيّنة لاحقة، فلم يكن قطعا هو المحرّك لصناعة النهضة؛ بل إنّ هذا الانحراف هو ما يمكن اعتباره بالمنظور الإنساني التاريخي -وبالمنظور الإسلامي على كلّ حال- بداية الانهيار على الطريق الحضاري وليس شرط الصعود والنهوض.
لا يعني ما سبق تبرئة مفعول الاستبداد الكنسي في ولادة الانحراف المادي في النظرة إلى الدين وعلاقته بالحرية. إنّما ينبغي التمييز وفق ما سبق بين عدد من المحاور:
1 - الاضطهاد كان إغريقيا ورومانيا، عنصريا وطبقيا، قبل ظهور الاستبداد الكنسي.
2 - استمرّ الاضطهاد في العهد الكنسي، ولم ينطلق من التعاليم الدينية، بل من مزاوجتها بالفلسفات القديمة.
3 - نشأت دعوات التحرير التنويرية بمعزل عن مفعول النظرات المادية اللاحقة في دعوات الحداثة والعلمانية.
ونضيف هنا أنّ الانحراف بالاتجاه المادي والشطط في الدعوات العلمانية، ومزاعم أنّ هذا هو ما تعنيه "حرية الإنسان" أو يعنيه تحريره، بدأ عبر الانتقال من أطروحة فصل "مؤسسة الكنيسة" عن "مؤسسة الحكم"، إلى فصل "الدين" عن مختلف ميادين الحياة الإنسانية المشتركة، وكان هذا الانحراف وليد جولات صراع مادي واكبت ما سمّي "اكتشافات جغرافية" -وهي انتشار جغرافي استعماري- ثمّ ظهور الرأسمالية بعد آدم سميث (توفي 1790م)، آنذاك بدأ دفاع الكنيسة والإقطاع المتحالف معها عن المواقع الاستبدادية القائمة في وجه الرأسمالية الناشئة، وآنذاك في القرنين 18 و19م تحوّل الاضطهاد الكنسي من اضطهادٍ للمخالفين من منطلقات كنسية للإملاءات الكنسية/ الدوجما، إلى معاداة "سائر المخالفين" بما يشمل المنطلقات الأدبية والفكرية والعلمية.
هذا ممّا يستدعي تجنّب التعميم في الكتابة عن الشطط في مفهوم الحرية الغربي إلى درجة معاداة الدين، كما لو كان وليد معادلة الكنيسة والنهضة في أوربا فحسب، فهي جزء من كلّ، كما هو الحال مع كلّ "صراع" تاريخي. وكان من ذلك كأمثلة:
1 - في ميدان الفكر والآداب والفنون التي بدأت بذور النهضة على صعيدها، تحوّلت محاكمات الإغريق لكلّ من يتجاوز حدود الاستبداد الحاكم إلى محاكمات كنسية لكلّ من يتجاوز حدود استبداد الكنيسة ويتمرّد على تعاليمها التي قرّرت للفنون أن تكون لأغراض كنسية فقط.(33/131)
2 - على الصعيد العلمي بدأ وضع مفهوم الحرية فوق ضوابط العقيدة والقيم، عبر انتشار الفلسفات الوضعية والمادية، وإذا كانت له جذور سابقة فهي ممّا يكمن في متابعة الكنيسة لممارسات الإغريق والرومان فيما عُرف بالعلوم السبعة، التي كانت هي المرخّص بها للطبقة المسيطرة دون العامة، ولم تكن خاصة بالميدان الفلسفي، بل شملت مثلا الرياضيات، والفنون، واللغة، وغيرها، فجعلتها الكنيسة حكرا على الأديرة لتخريج رجال الكنيسة منها على امتداد قرون عديدة، وعليها قامت الجامعات الأوربية الأولى في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا أواخر العهد الوسيط، فكان التمرّد عليها لاحقا مقترنا بالتمرّد على "الدين" نفسه وليس على المؤسسة التي أخذت لنفسها حقّ احتكار العلم.
==============(33/132)
(33/133)
محمد عبده وعودة لمشروع الإصلاح الديني
محمد أبو رمان 23/2/1426
02/04/2005
يبدو من المناسب استعارة عنوان رواية ماركيز "مائة عام من العزلة" في تعريف الفترة التي فصلتنا عن وفاة الإمام المجدّد محمد عبده، فهي بمثابة المائة عام من التنكُّر والهجر والقطيعة مع مدرسة وأفكار وتراث محمد عبده تحت وطأة فتاوى فكرية وفقهية صدرت بحق الرجل وحبست مدرسته الفكرية قرنًا كاملاً مورس بحقه خلالها كل أنواع التجاهل والإهمال إلى أن دار التاريخ، وعاد بنا إلى الاستعمار والاحتلال والتخلّف مرة أخرى، وعدنا نلتمس الطريق لنجد أن الإمام محمد عبده كان قد أحسن في قراءة الشروط التاريخية والحضارية، والعوامل الذاتية الفاعلة والكامنة وراء حالة الضعف والتخلف، وقدم مشروعه الإصلاحي المبدع في مواجهتها مبتدئاً من الإصلاح الديني كي يكون الدين عامل تقدم ونهوض لا كابحاً للأمم، فجعل الإمام الدين معولاً لهدم الخرافات والتقليد والعوائق لا سادِناً لها كما كان الحال قبل ظهور هذا العالم الجليل!
ولعل السؤال المطروح اليوم هو لماذا تم تجاهل مدرسة الإمام محمد عبده قرناً كاملاً من الزمن؟ والجواب على ذلك يرتبط بطبيعة الشروط التاريخية التي مرت بها الشعوب العربية خلال هذه الفترة، والمداخل التي تم اختيارها لمواجهة هذه الظروف، ففي الوقت الذي كان محمد عبده يواجه تحدي التخلف والضعف، ويلح عليه سؤال المفارقة الحضارية بين الشرق والغرب، فإن الفكر والحراك الإسلامي بعده واجه سؤال الهوية، وزوال ظل الخلافة، وهاجس الدولة القطرية والصراع على السلطة بين التيارات الفكرية والسياسية العربية الرئيسة، الأمر الذي دفع بمدرسة الإصلاح والتجديد إلى الوراء وقدّم مدرسة الثورة والهويّة والإحياء، ثم نعود من جديد بعد قرن من التيه فنجد أننا مكشوفون حضارياً وثقافياً وسياسياً، وأننا مهدّدون في أمننا الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، وسواء قلنا إن العوامل الخارجية هي السبب -كما يصر دوماً الأستاذ منير شفيق وأنصار مدرسة التبعية- أم قلنا إن السبب هو ضعفنا الداخلي فإن المحصلة واحدة: ما زلنا في المربع الأول الذي تركنا الإمام عنده -لمّا رحل من الدنيا- وهو سؤال الضعف والتخلف وملخّصه "لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟!".
في هذا السياق لا يعني احتفاؤنا بالإمام محمد عبده أننا نطالب بالقبول بمدرسته وكل فتاواه وآرائه، فهذا ما يرفضه هو نفسه؛ لأنه يرفض التقليد والجمود، ولكننا نطالب بالاستفادة من مدرسته الفكرية، ومن مشروعه الإصلاحي المتكامل من خلال ممارسة نقديّة موضوعيّة، بمعنى: استلهام أصول وقواعد منهجه الفكريّ والمعرفي والبناء عليها وغربلتها، وتطويرها والوصول إلى الاستفادة مما يمكن البناء عليه، واستثماره في عملية الانبعاث الحضاري والفكري دون الخوف من الوقوع في فخ التسمّر عند أفكاره ومواقفه، وكلها غير ملزمة لنا. لذلك فإن خطورة ما حدث خلال مائة عام ليس انقطاعنا عن فتاوى وأفكار الإمام؛ ولكن لأننا انقطعنا عن مدرسته الفكرية، والتي تعتبر أن الإصلاح والتجديد هو المدخل المناسب للتقدم والقوة والمنعة، وأن الإصلاح الديني يقع في مقدمة أوليات الإصلاح، وهو ما تكشفت حقيقته اليوم، فقد أعطى محمد عبده مسألة الإصلاح الديني مشروعية فقهية وفكرية نُزعت عنها فيما بعد من قبل العلماء والمفكرين العرب والمسلمين.(33/134)
ما سبق يطرح السؤال/ الإشكالية - في ذكرى وفاة الإمام المئوية- وهو: لماذا الإصلاح الديني؟ هل لأن الغرب والولايات المتحدة يُطالب به اليوم؟ والجواب بالتأكيد: لا، بل لأننا نحن بحاجة إليه؛ فالمسألة لا ترتبط بمشروعية الحديث عن الإصلاح الديني، ولكن ترتبط بمعالم الإصلاح المطلوب واتجاهاته وأسسه، وهو -برأيي- ما ميز مدرسة الإمام مما جعلها تحتفظ ببريقها على الرغم من مائة عام من العزلة؛ فالإمام أراد الإصلاح الديني ليعيد الحيوية والفاعلية والعطاء للعقل المسلم بعد أن تخدّر قروناً كاملة أُغلق عملياً فيها باب الاجتهاد والتجديد، وتحول الدين من طاقة حيوية دافعة إلى تقاليد تعبّدية، وأوهام فكرية وجمود فقهي وتكلّس فكري نتج عنه عصور من الانحطاط والتراجع، ليجد المسلم نفسه أمام الاستعمار وهو مسلّح بأحدث الوسائل الصناعية والتقنية وتسنده قوة معرفية وفكرية وثقافية متحرّرة ودافعة إلى الإبداع والتجديد، وهو ما جعل المسلم -وما زال- في تناقض شديد بين مقتضيات العصر والعقل والتحرّر، وبين ما كان يُمارس أمامه باسم الدين من تقاليد ومن جمود؛ فمدرسة الإمام تقوم على فك الشيفرة التي تسمح بدخول المسلم إلى العصر واستحقاقاته ومتطلباته، وهو قادر على الاحتفاظ بإيمانه ويقينه بالله، وهذا يستدعي بالطبع عقلاً نقدياً مزدوجاً؛ يمتلك أدوات غربلة الحداثة والحضارة الغربية، ومناقشة أصولها المعرفية والفلسفية خاصة ما يرتبط بها من طبيعة الدين ودوره السياسي والاجتماعي، وفي نفس الوقت مراجعة الموروث الفكري والثقافي والتخلص من كل المعوّقات التي تحول بين الإسلام وبين استعادة قدرته على تحريك المسلمين إلى الأمام، لكن مع الاحتفاظ بقدسية النصوص الربانية وتأثيرها.
لقد اعتمد الإمام للوصول إلى المطالب السابقة -للإصلاح والتجديد- أسساً رئيسة أبرزها بناء النظرية المعرفية الإسلامية على قاعدة الجمع بين العقل والإحساس والوحي وفك الاشتباك بينها ليؤدي كل منها وظيفته في تقديم المعرفة الصحيحة للإسلام، فالعقل المسدّد (الفكر البشري) بحاجة إلى العقل المؤيد (الوحي) ليتمكن من اكتشاف الطريق الصحيح للإعمار والتحضّر، والوجدان قادر على توفير البنية النفسية التي تدفع الإنسان من حالة الكلالة إلى مرحلة الفعالية والعطاء، وهنا تكمن أهمية العقيدة والدين، واللّذيْن لا غنى عنهما لبناء الأساس الأخلاقي للمجتمع على النقيض مما كانت تقول به النظرية الوضعية الغربية.
و إذا أسقطنا ما سبق على كتاب الإمام "رسالة التوحيد" سنجد أن الإمام نقل الحديث في "موضوع التوحيد" مرة أخرى من الجدل بين الفرق والطوائف الإسلامية حول أسماء الله وصفاته والاختلافات الميتافيزيقية المرتبطة بذلك إلى تفعيل التوحيد في محاربة الأوهام والخرافات والجمود والتقليد، فقد عنى التوحيد عند الإمام -كما يرى المفكر فهمي جدعان- طاقة محرّرة من الطراز الأول؛ فالشهادة بدلالتها الكبرى هي تجنب كل أنواع الفتنة والضلال بتطهير العقول من الخرافات والأوهام والعقائد الفاسدة واعتبار الكرامة الإنسانية كقيمة عليا لا تقبل التنازل أو التبديد، كما أن التوحيد هو رد الحرية إلى الإنسان وإطلاق أرادته من القيود، فهو مساواة بين البشر بعيداً عن الأنساب والألوان والطوائف والولاءات، وأخيراً يمثل التوحيد بالنسبة للإمام حرباً على التقليد والجمود وإيقاظاً للفكر الإنساني ولطاقات العقل وملكاته.
الحديث عن مدرسة الإمام ذو شجون ومتشعب، ويدفعنا في هذه الفترة التي تتعالى فيها الأصوات بضرورة الإصلاح والتجديد أن نعيد قراءة مدرسته ومعالم مشروعه الإصلاحي بموضوعيّة ونقتنص منه ما ينفعنا اليوم في مواجهة التحديات الجسام التي تحيط بنا!
==============(33/135)
(33/136)
المسيري.. ونقد التفسيرات الحرفية للقرآن
2005/11/27
…
حسام تمام
عبد الوهاب المسيري
كُتب من الأبحاث والدراسات القرآنية خلال العقود الأخيرة نتاج كبير لم يسبق أن ظهر مثله في مدة زمنية مماثلة من قبل، وتأتي دراسة القرآن وتفسيره كـ"تقليد" سارت عليه كل حركات الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الإسلامية، فكل تفكير بالنهضة لا بد له من أن يتخذ موقفا تجاه النص الكريم وفهما يسوغ رؤيته للحاضر والمستقبل.
وفي الفترة الأخيرة قدم عبد الوهاب المسيري محاضرتين في قضية التفسيرات الحداثية والحرفية للقرآن الكريم، الأولى جاءت في الندوة التي نظمها اتحاد الطلاب الإندونيسيين السولاسيين بالقاهرة عن الهرمينوطيقا وتفسير القرآن الكريم، والثانية استضافتها جمعية مصر للثقافة والحوار عن "نقد التفسيرات الحرفية للقرآن الكريم".
ويسعى هذا التقرير لإلقاء الضوء على أهم ما جاء في محاضرتي المسيري وكتابه "اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود". إذ إن قضية الكتاب هي علاقة اللغة والمجاز برؤية الإنسان للكون وتصوره لعلاقة الخالق بالمخلوق، وعلى الرغم من غياب العلاقة المباشرة بين موضوع الكتاب وموضوع تفسير القرآن فإن القضايا التي يتناولها -خاصة الباب الثاني من الكتاب الذي هو مزيج من الدراسات اللغوية والنفسية والدينية- تقدم معالجة ذات صلة بقضية التفسيرات الحرفية للقرآن الكريم.
تصور العلاقة بين المخلوق والخالق
غلاف كتاب اللغة والمجاز
بدأ المسيري بشرح المفاهيم الفلسفية ذات الطابع التحليلي التي لا بد منها عند الحديث في قضية تفسير القرآن، فبدأ بشرح جوهر الرؤية الإسلامية السنية التي يرى أنها تقوم على وجود مسافة بين الخالق والمخلوق لا يمكن إلغاؤها على الإطلاق، ويمكن أن نفهم العلاقة بين المخلوق والخالق من قوله تعالى: "قاب قوسين أو أدنى"؛ ففي لحظة من أشرف اللحظات اقترب أفضل المخلوقات -محمد r- من العرش، ولكن دون أن يصل إليه، والخالق في علاقته بالمخلوق "أقرب إليه من حبل الوريد"، ولكن دون أن يجري في هذا الوريد أو يلتقي به.
وثنائية الخالق والمخلوق يتردد صداها في الكون كله، فالله عز وجل منفصل عن الإنسان وعن كل ما في الكون، وجوهر الرؤية السنية هو الإيمان بهذه الثنائية وبأن هناك انفصالا بين الكل والجزء، هناك علاقة اتصال ولكن مع انفصال يحول دون اللقاء والتوحد، نحن نتفاعل مع الله ولكن لا نمتزج به.
وينتج عن هذه الرؤية قدر عالٍ من التركيبية، فالإنسان والواقع، وكل شيء في الكون مركب وليس بسيطا، والله عز وجل متجاوز للصورة البسيطة، وبين الله وبين الكون ومفرداته المختلفة علاقة اتصال وانفصال في الوقت نفسه: الله يتصل بنا عبر الوحي وعبر العناية الإلهية، ونحن نتصل به عبر الدعاء والصلاة.. إنه اتصال مع انفصال تام.
ويناقض هذا التصور تماما العقائد الحلولية وعقيدة وحدة الوجود التي تلغي المسافة فيحدث حلول للإله في الإنسان والكون وتوحد بين الخالق والمخلوق، وهو ما ينطبق أيضا على الفلسفة العلمانية وفلسفات ما بعد الحداثة التي تماثل وحدة الوجود هي الأخرى حين تلغي المسافة أو تختزلها بين الخالق والمخلوق وتختفي فيها علاقة الانفصال والاتصال بين الله وبين خلقه، وتنتهي إما إلى "تأليه" الإنسان أو "أنسنة" الله.. وهي في كل الأحوال تنتهي إلى ما يسميه المسيري بالواحدية التي هي ضد التوحيد، فهي شكل من أشكال المادية حيث لا يوجد إلا جوهر واحد فقط.
المادية تعبر عن الروح!!
ويلفت المسيري النظر إلى إحدى المفارقات التي تستحق النظر، وهي أن المادية قد يعبر عنها -أحيانا- بطريقة روحية مثل القول بأن العالم هو الله انطلاقا من تفسير حرفي خاطئ لقوله تعالى: "أينما تكونوا فثم وجه الله"، فالقول بأن العالم هو الله يعني أيضا أن الله هو العالم وهو المادية بعينها.
ويخلص المسيري إلى أن غياب هذا التصور هو الذي يسقط التفسيرات القرآنية في فخ "الحرفية"، حيث تلغي التعدد والمسافة وتنتهي إلى السقوط في فخ المادية الواحدية، وهذه يغيب عنها أن القرآن -وهو نص مقدس من عند الله وليس نصا بشريا- إنما يتعامل مع الكليات دون التفصيلات الكاملة، لأن الإنسان -في التصور الإسلامي- حر، ولا بد من مسافة يتحرك فيها ويختار، وإلا أصبح غير مسئول.
والجزئيات هي مجال تفاعل الإنسان مع الخالق (عبر النص) ومع الكون، وهو ما يعني أن العقل الإنساني عاجز عن الإحاطة بكل النص القرآني (معانيه ومراميه)؛ لأنه عاجز ونسبي في حين أن القرآن كامل ومطلق، ولا يمكن الإحاطة به تماما ونهائيا، إذ لو كان النقاد يقرون بأنهم لا يستطيعون الإحاطة الكاملة بالنص الأدبي فما بالهم بالنص القرآني، ومن هنا نفهم معنى كلمة "اجتهاد" باعتبارها نوعا من الجهد العقلي الدءوب.(33/137)
كل هذا يغيب تماما -في رأي المسيري- عن مفسري هذه الأيام من المفسرين الحرفيين الذين لا يعترفون بالنسبية. وهنا يفرق المسيري بين النسبية الإسلامية وبين النسبية الغربية، ففي حين تقول الغربية بغياب المطلق تماما فإن النسبية الإسلامية تقول: إن عقل الإنسان محدود، وإن النص القرآني يتجاوزه، وإننا وإن كنا لن نصل للحقيقة المطلقة، ولكن لنا مرجعية مطلقة تقول إن "فوق كل ذي علم عليم".
ويرى المسيري أن التفسيرات الحرفية متأثرة بالتصور الغربي، وأبعد ما تكون عن التصور الإسلامي، ويضرب مثالا لهذه التفسيرات بالتفسيرات التاريخية والتفسيرات العلمية للقرآن والتي تسعى للمطابقة بين القرآن والواقع، سواء الواقع التاريخي (مثل المطابقة بين وقائع تاريخية وبين القصص القرآني) أو الواقع العلمي (مثل المطابقة بين نظريات واكتشافات علمية وبين نصوص قرآنية)، ويؤكد على أن القرآن حاكم للتاريخ وللواقع وليس العكس، ولا يجوز المطابقة بين المطلق الإلهي والنسبي البشري.
أخطاء منهجية للتفسيرات الحرفية
ويعدد المسيري عددا من الأخطاء المنهجية التي تقع فيها التفسيرات القرآنية للقرآن منها:
*
أنها تتجاهل أن النص القرآني ليس نصا بسيطا واضحا كلية، بل هو نص مركب يتطلب جهدا وخيالا.
*
كما تتجاهل أن علاقة هذا النص بالواقع ليست بسيطة أو سببية بسيطة (مثل قول بعضهم: من يقرأ كذا يحدث له كذا...) فالنص هو إرادة الله، والسهل والبسيط هو إرادة البشر، وهي أيضا تؤدي إلى إغلاق باب الاجتهاد حين تلغى المسافة بين النص وبين الواقع، كما تحول المعرفة من الاجتهاد لتصبح أقرب إلى انتزاع الآيات من سياقها لتطابق واقعا تاريخيا أو علميا أو يفرض عليها أي معنى في رؤية بسيطة اختزالية.
*
كما تنزع النص من سياقه ورؤيته الكلية الشاملة، وهنا يؤكد المسيري على أهمية السياق والنظرة الكلية للنص، ويشير إلى أن مقولة "لا اجتهاد مع النص" يجب أن تتسع لتصبح "لا اجتهاد مع النص في كليته وتركيبيته"، مؤكدا على أن الاجتهاد الحالي في مسائل مثل الاستنساخ والقضايا العلمية، يجب أن يكون جماعيا ولا ينفرد به مفسر واحد.
وينتقد المسيري مطابقة التفسيرات الحرفية بين النص القرآني وبين الواقع التاريخي أو العلمي، ويرى أن القول بتطابق القرآن مع الواقع دعوة ربوبية، والربوبية هي أصل العلمانية وهي تدعو إلى إمكانية وصول الإنسان للقيم الأخلاقية بمفرده، ولكن لا مانع من الوحي، وعنها ظهرت فكرة أن الله صنع الكون وتركه كصانع الساعة.
ويرفض المسيري دعوى التطابق ويقول: "لو كان هناك تطابق لذهبنا للواقع بدلا من النص" كما أن هذه المطابقة تجعلنا نحاكم القرآن من منظور الواقع وليس العكس، ويرفض مقولة حسن حنفي -أحد من ينادون بالتفسيرات الحداثية للقرآن- عن أن النص هو الواقع والتي تسير به إلى القول بأن الله هو الواقع والله هو الشعب، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) ويرى أنها رؤية تشابه الرؤية الصهيونية.
ومما يأخذه المسيري على التفسيرات الحرفية أنها تؤمن بأن العقل الإنساني قادر على الإحاطة بمعنى القرآن إحاطة كاملة شاملة، ويرى أن هذه التفسيرات (ترى الإله متجسدا في النص المقدس وفي المفسر صاحب القول الفصل الذي يكتشف التطابق التام بين النص المقدس والواقع التاريخي العلمي)، كما أن المفسر الحرفي للقرآن يرى نفسه باعتباره صوت الله ويخلع على تفسيره ومن ثم على نفسه القداسة.
بين المجازية والحرفية
ولكي يكشف مأزق التفسيرات الحرفية يحلل المسيري فهم المفسر للغة فيؤكد أن هناك لغات بسيطة واضحة كاللغة الرياضية لا تتناسب مع التعبير عن العلاقات الإنسانية، إذ لكي يفصح الإنسان أكثر لا يمكن أن يستخدم اللغة الرياضية الحيادية، ومن ثم يصير اللجوء للمجاز مهما في اللغة الإنسانية بسبب تركيبية الواقع، وهو ما يساعدنا على عبور المسافة بين النص والواقع ويحولها لمجال التفاعل. فالمجاز يجعل هناك قدرة على التعبير عن المركب واللا محدود، ويربط غير المعروف وغير المحسوس بالمعروف والمحسوس، والمعنوي بالمادي دون أن يمزجهما عضويا فيصيرا شيئا واحدا.
ويؤكد أنه من دون مجاز لا يمكننا إدراك الله الذي هو رب المحدود واللا محدود وهو متجاوز (مفارق) للمخلوقات و"ليس كمثله شيء". فالله موجود ولكن ليس وجودا ككل الوجود، ونحتاج للمجازية في الحديث عن الله، فالسؤال: هل الله موجود هو سؤال علماني مادي لا يرى وجودا إلا للمادة، ولأن الله لا يتجسد وهذا جوهر التوحيد، كان المجاز هو وسيلتنا في فهم وجوده سبحانه وتعالى.
ويلاحظ المسيري أن الحضارة الإسلامية العربية التي زخرت بالمجاز لم تلجأ للرموز لأنها -الرموز- تعني امتزاج العنصرين (الدال والمدلول) على عكس الحضارة الغربية الغارقة في التجسيد والتي تحل فيها الصور والأيقونات بديلا عن المجاز، وعند الحلوليين فإن الله هو مركز الكون والكامن فيه أيضا، على عكس الرؤية الإسلامية التي ترى أن الله لا يمكن إدراكه على وجه الكلية.(33/138)
ويقارن المسيري بين الإله في اللغة المجازية وبينه في التفسيرات الحرفية ليوضح خطورة هذا النوع من التفسير، فالإله في اللغة المجازية مدلول متجاوز مفارق لنا، مختلف عنا ولكنه لا يهجرنا بل يرعانا، وعلاقتنا به علاقة اتصال وانفصال، وهو متجاوز للتاريخ والواقع ولا يمكن تجسده أو تصويره. بينما هو في التفسيرات الحرفية يتجسد ويصبح مثلنا وعلاقتنا به علاقة اتصال والتحام وذوبان للمسافة ويتجسد فينا وفي الدنيا وفي النص المقدس.
فالمفسرون الحرفيون يرون أن القرآن هو الله، وبما أنهم قادرون على معرفة النص فهم قادرون على معرفة الله، ومن ثم فإن الله يحل فيهم! فبما أن النص عندهم يحوي التاريخ والعلم والواقع إذن يصبح الواقع والنص والإله شيئا واحدا! وهذا - برأي المسيري- هو النموذج الكامن الخفي وراء التفسيرات الحرفية التي ترى إمكانية الوصول للمعنى الكلي والنهائي من خلال معرفة النص والواقع والطبيعة.
وهم اليقين والولع بالعلم
وينتقد المسيري التفسيرات الحرفية، فالنص المقدس فيها كأحداث التاريخ وقوانين الطبيعة، وأن تفسيراتها خطية متوازية مع الواقع المادي، وأن صاحبها يميل للاجتزاء، وعلى عكس المفسر الأصولي التوحيدي الذي يميل للتواضع، ولا يتوقف عن قول "الله أعلم"، في حين يؤكد المفسر الحرفي دائما وصوله لليقين المطلق وهو متعجرف شبه متأله وأحيانا متأله!.
ويؤكد المسيري على أن الخطورة في التفسير الحرفي ليست في مجرد مطابقة النص القرآني بالواقع، وإنما في الرؤية الكامنة وراء هذه المطابقة، فالرؤية المتوازية الحرفية بين الواقع والنص تؤدي لاحتفاء المركز (الله)؛ لأن المرجعية تنتقل هنا للواقع. وأخيرا فإن التفسيرات الحرفية يموت فيها النص ويبقي المفسر الحرفي الذي يصبح ديكتاتورا يتحكم بالنص.
ويرى المسيري أن من أكبر المآخذ على التفسيرات الحرفية ولعها بالعلم، وينتقد التفسير بالإعجاز العلمي الذي يعتبره أحد التفسيرات المغرقة بالحرفية، ويفسر ظهورها وانتشارها بأنها ناتجة عن أزمة حضارية تتعلق بمحاولة اللحاق بركب التقدم العلمي في أوربا والغرب، وأنها تقع تحت تأثير سطوة العلم، وسطوة أن اليقين الكامل لا تحققه إلا العلوم الطبيعية، في حين أنها تفتقد الوعي بأن للعلم بعدا إلحاديا، وأنه في أفضل حالاته لا يمكن أن يزيد من الإيمان أو ينقصه.
ويرى المسيري أن ثمة تأثيرات علمانية على التفسيرات الحرفية التي تأخذ بالإعجاز العلمي؛ فالعلمانية تؤله الإنسان في نهاية الأمر وتؤمن بأن الإنسان قادر على الوصول إلى الحقيقة الكاملة، وأن العلوم الطبيعية تعطينا الحقيقة الكاملة كما نتصورها، ويعلق المسيري ساخرا: "إن تفسيرات الإعجاز العلمي تبدو وكأنها تريد أن تثبت أن الله عالم طبيعة لا بأس به!".
من المفارقات التي يتوقف عندها المسيري أن سطوة العلم الطبيعي تم تقويضها في الغرب في حين أن مفسرينا الحرفيين ما يزالون يعيشون عصر الولع بالعلم ويرونه مدخلا لإنسان هذا العصر، ويضيف "هناك أشياء في الإنسان لا يمكن تفسيرها علميا ولا ماديا، والأفضل ألا نتحدث عن تفسير علمي لها بل الأفضل عكس ذلك تماما: أن نثبت أن العلم لا يصلح مدخلا للإنسان".
==============(33/139)
(33/140)
عن "الدين والتراث والحداثة"
2005/04/17
…
القسم الثقافي
غلاف كتاب قضايا إسلامية معاصرة
صدر في بيروت العدد الثلاثون (شتاء 2005) من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، وهي فصلية فكرية متخصصة يصدرها "مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد"، ويرأس تحريرها عبد الجبار الرفاعي.
العدد الجديد يأتي مع دخول المجلة عامها التاسع، هي المناسبة التي عقدت من أجلها المجلة ندوة في مدينة أغادير وذلك لتقويم تجربتها والتعرف على دورها، ودراسة أثرها في تحديث التفكير الديني وجرأتها في زحزحة مجموعة من المفهومات.
وقد تناول ملف العدد إشكالية الإسلام والحداثة، وتمحورت المساهمات المنشورة فيه حول "الدين والتراث في عصر الحداثة". فقد تصدرت العدد كلمة التحرير للمثقف الإيراني مصطفى ملكيان حول "رهانات الحداثة" تساءل فيها عما إذا كانت هناك مفارقة وتناقض في الجمع بين الإيمان والحداثة في المجتمع الإنساني، وهل يكون سلوكنا غير متجانس حينما نكون مؤمنين وحداثيين في آن واحد؟ هل لنا أن نلتزم بأي شكل من أشكال القراءات للدين في العالم الحديث الذي يتجه بنا نحو ما هو أحدث؟ هل بمقدور الإنسان الحديث أن يتمسك بما يشاء من قراءة للدين؟.
وقد ضم العدد أكثر من حوار مطول؛ فجاء الحوار الأول مع رئيس الجمعية الفلسفية المغربية الدكتور محمد سبيلا ليتناول "معوقات الحداثة الإسلامية وأزمة النخب"، ويذهب فيه إلى أن الإسلام لا يتعارض مع الحداثة، بل هو قادر على أن يكتسح الحداثة وأن يستوعبها، شريطة أن تتحرر النخب الفكرية والتقليدية من العوائق المعرفية والرؤى المكبلة للفكر والإبداع. فالمشكل ليس في الإسلام ذاته، من حيث إنه يتضمن الكثير من القدرة على التأويلات الإيجابية والإنسانية، بل إن المجتمعات العربية والإسلامية لم تفرز النخب الثقافية القادرة على التحرر والإبداع.
فيما كان الحوار الثاني مع المفكر الفرنسي ريجيه دوبريه الذي أصدر أخيرا كتابه "النار المقدسة"، وشدد فيه على فاعلية الشأن الديني، وخلص إلى أن "المقدس هو أفضل طريق لفهم الدنيوي" وتحدث عن العامل الديني وأثره في تبلور وبعث الروح الاقتحامية.
أما الحوار الثالث فجاء تحت عنوان "التراث والحداثة" مع مصطفى ملكيان، وتحدث فيه عن أسلوب التفكير والحياة التقليدي. وفي العدد مقابلة أخرى بعنوان "الإطار المنهجي للفكر الإسلامي المعاصر" مع الدكتور سعيد شبار الذي عالج مجموعة من الرؤى والمقولات والأدوات المنهاجية في التفكير الإسلامي الحديث والمعاصر.
وفي العدد كتب إدريس هاني عن "تصالح الإمكان الإسلامي مع الإمكان الحداثي"، موضحا أن الاعتراف بوجود تراث لكل أمة لا يعني القول إن كل أمة تصنع حداثتها كما لو كانت مخيرة في ذلك.
وفي باب "دراسات" نشرت المجلة بحثا موسعا للدكتور عبد الكريم سروش (الباحث الإيراني) يعالج إشكالية "الدين والتراث في العالم المعاصر".
كما يتناول الشيخ محمد مجتهد شبستري "أبرز القراءات للتراث الديني المسيحي في عصر الحداثة"، متوقفا عند منهجية كارل بارث ورودولف بولتمان وشلاير ماخر، وخلص إلى أننا لا نستطيع الحكم على مجتمعنا وتراثنا في ضوء الدراسات التي أجريت على التراث الغربي؛ فالمعروف أن ثيولوجيا المسيحية لا تزال حاضرة في كل أنسجة العلم والفلسفة والأبحاث الغربية؛ فالمفاهيم المطروحة، خصوصا في العلوم الإنسانية والدراسات الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية وغيرها، والمعطيات التي توفرها لنا هذه العلوم، مضافا إلى أبحاث علماء الاجتماع والنفس والتاريخ والثقافة والإنثروبولوجيا الغربية، زاخرة بالمفاهيم المسيحية، ولكن بصورة مُعلمنة؛ لهذا نراهم حينما يحاولون الإجابة عن: ما هو التراث، وما هي الثقافة؟ وحينما يقدمون نظريات اجتماعية حول الدين تكتسي جميع طروحاتهم ألوانا ثيولوجية مسيحية واضحة.
ونقرأ دراسة للدكتور داريوش شايغان حلل فيها ما أسماه "تشبيح العالم، أو كيف أمسى العالم شبحا" وما أفضت إليه الحداثة وقيمها، فقد أسفرت هذه العملية حسبما يرى شايغان إلى "تضخم النفس" المهيمنة والمكتفية ذاتيا.
واستعرض الدكتور محمد الشيخ في دراسته "من الحداثة إلى ما بعد الحداثة" مغامرات الفكر الغربي في القرون الأربعة الأخيرة، ومبادئ الحداثة التي انتهى إليها هذا الفكر المتمثلة بـ"العاقلية والذاتية والحرية". وفي العدد دراسة للدكتور محمد المصباحي عن تراث المتصوف ابن عربي في عالم ما بعد الحداثة؛ فدرس صورة العقل وصورة الوجود في مرآة ما بعد الحداثة، ساعيا لمقارنة ذلك مع أفكار مارتن هايدجر.
==============(33/141)
(33/142)
الحركة النسويّة الغربيّة ومحاولات العولمة (1/2)
الحركة النسويّة الغربيّة في طور جديد
د. إبراهيم الناصر * 25/3/1426
04/05/2005
الحركة النسويّة: هي حركة غربيّة عُرفت سابقاً بحركة تحرير المرأة ثم انتقلت إلى عالمنا العربي و الإسلامي من خلال الغزو العسكري والثقافي فشقيت بها الأمة منذ عقود من الزمن، وما زالت هذه الأفكار تُستورد تباعاً، كلما حصل تطورات فكريّة لهذه الحركة في موطنها الأصلي.
وتعريفها باختصار عند أتباعها هي: الفلسفة الرافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل، وإعطاء فلسفة وتصور عن الأشياء من خلال وجهة نظر المرأة.
والمتخصصون يفرقون بين النسويّة والنسائيّة، فالنسائيّة: هي الفعاليّات التي تقوم بها النساء دون اعتبار للبعد الفكري والفلسفي، وإنما بمجرد أنها فعاليات تقوم بها المرأة، بينما النسويّة تعبر عن مضمون فلسفي وفكري مقصود حسب التعريف السابق.
- موجبات وجود هذه الحركة في الغرب هي صورة المرأة في المصادر الثقافيّة الدينيّة الغربيّة أي في التراث اليهودي والمسيحي باعتبار أن الحركة هي نتاج المجتمع الغربي وثقافته، وليست نتاج المجتمعات الأخرى سواء كانت إسلاميّة أو غير إسلاميّة؛ فقد نشأت فيه وانبعثت منه، فمن أهم أسباب وجودها صورة المرأة في التراث اليهودي والمسيحي؛ فالمرأة في هذا التراث هي أصل الخطيئة؛ لأنها هي التي أغرت آدم بالخطيئة عندما أكلت من الشجرة كما هو منصوص عليه في كتبهم الدينية المحرّفة، فالرب عندما فعلت هذا الفعل حكم بسيادة الرجل عليها نهائياً، وقد ترتب على هذا الموقف - فيما بعد - أحكام وأوصاف أخرى للمرأة في هذا التراث، فهي شيطانة وملعونة، وليس لها روح تستحق من خلال هذه الروح أن تدخل الجنة بل الأغلب أنها تدخل النار، ولا توجد امرأة لديها فضيلة يمكن أن تدخلها إلى الجنة, هذا أحد موجبات وجود هذه الحركة وأسباب انتشار هذه الأفكار التي تجمّعت عليها هذه الحركة.
الموجب الآخر لهذه الحركة المتطرفة هو موقف العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه المرأة من (أفلاطون) الفيلسوف اليوناني المشهور الذي يصنف المرأة في عدد من كتبه ومحاوراته مع العبيد والأشرار ومع المخبولين والمرضى, إلى الفلاسفة المتأخرين مثل (ديكارت) من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على العقل والمادة: فيربط العقل بالذكر ويربط المادة بالمرأة، والفيلسوف (أوغست كنت) أحد أباء الفلسفة الغربية: يصف المرأة بأنها ضعيفة في كافة الاتجاهات بالذات في قدراتها العقلية, كذلك فيلسوف الثورة الفرنسية (جان جاك رسو) يقول: إن المرأة وُجدت من أجل الجنس، ومن أجل الإنجاب فقط إلى (فرويد) اليهودي رائد مدرسة التحليل النفسي وموقفه المعروف من المرأة الذي يتضمن أن المرأة جنس ناقص لا يمكن أن يصل إلى الرجل، أو أن تكون قريبة منه.
هذا الموقف التراثي الديني المنبعث من التحريف الموجود في العهدين القديم والجديد مع موقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة هما الموجبان الرئيسان لهذه الحركة النسوية.
فدعاة النسوية يتخذون من هذه الأفكار منطلقاً لنشر الثقافة المضادة عن المرأة التي شكلت مفاهيم وقيم ومبادئ الحركة النسوية الغربية، ثم هم يهدفون أن تكون حركة نسوية عالمية.
ما هي النتائج التي عكسها الموقف التراثي الديني والموقف الفكري الفلسفي حسب رؤية النسويّين؟
قالوا: إن تهميش المرأة, وسيطرة الرجل عليها سبب نشوء جماعات ذكوريّة متطرفة في نظرتها إلى المرأة مسيطرة عليها لا تعطي لها فرصة إثبات وجودها مما تسبب في نشوء تمييز على أساس الجنس أي تمييز ضد المرأة، ولذلك أصبح الحل في نظر الحركة النسويّة الغربيّة: هو التخلي عن المنطلقات التي كوّنت هذه النظرة، وهي العقائد والأعراف الدينية والشرائع السماوية باعتبار أن هذا الوضع للمرأة هو إفراز لتلك النظرة في التراث الديني.
ثم برزت فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل أن تنتزع المرأة الحقوق التي سلبها الرجل منها، أي أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع على الحقوق، لذا كان من أهم الحلول التي طرحتها الحركة النسويّة الغربيّة هو التخلي عن العقائد ورفض الدين؛ فالفكر النسوي قائم على أساس فكري علماني صرف، وهذه حقيقة لا بد أن ندركها؛ لأن هذا الفكر اللاديني تأثرت به معظم المجتمعات الإسلامية.
و في أثناء مسيرة هذا الفكر نشأ تياران داخل الفكر النسوي في المجتمعات الغربية:
التيار الأول:التيار النسوي الليبرالي المعروف بحركة تحرير المرأة، وهو الذي بدأ في العالم الغربي منذ قرن ونصف القرن، ويقوم على مبدأين أساسيين هما: المساواة و الحرية, مبدأ المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة ومبدأ الحرية شبه المطلقة, وهذان المبدآن الرئيسان اللذان قامت على أساسهما الحداثة الغربية, كيف نشأ هذان المبدآن؟ هذه قصة فلسفية طويلة لا حاجة للوقوف عندها، لكن العبرة بآثارهما؛ فهما الأساسان اللذان قام عليهما الفكر النسوي كأحد منتجات الحضارة الغربية، وقد تم تكريس هذا الفكر على المراحل الآتية:(33/143)
1- قامت ثورتان في المجتمع الغربي ترفعان هذين المبدأين وهي الثورة الأمريكية عام 1779م والثورة الفرنسية عام 1789م، ومبادئ هاتين الثورتين ضمنتا في الدساتير التي قامت عليه الدولتان الأمريكية والفرنسية، ثم ترسّخت هذه المبادئ في الفكر الغربي المعاصر.
2- قام التنظيم الدولي المعاصر على هذا الأساس, فمبادئ الأمم المتحدة عندما نشأت عام 1945م ضمنت في وثيقتها رفض التمييز على أساس الجنس، وتحقيق المساواة التماثلية بالمفهوم الغربي الذي يقوم على فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل الحقوق التي يسيطر عليها الرجل.
3- صيغت الصكوك والاتفاقات الدولية على أساس هذه المبادئ، وأهم وثيقتين في هذا الصدد هما:
ا - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948) وهو ينص على وجوب الالتزام بهذه المبادئ ويؤكد على عدم التمييز على أساس الجنس وعلى تحقيق المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة وعلى حرية الزواج خاصة في المادة السابعة والمادة السادسة عشر.
ب - الوثيقة الثانية وهي الأهم والأخطر من بين هذه الاتفاقيات فيما يخص المرأة اتفاقية (سيداوcedaw) أو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) عام ( 1979) . وهي اتفاقية مكونة من (30) مادة، وموادها الست عشرة الأولى تؤكد على عدم التمييز وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتشجيع الاختلاط بين الجنسين، والمساواة بين الزواج والطلاق.
4- مرحلة عولمة هذا الفكر من خلال الصكوك والوثائق الدولية، و ترويجها من خلال المؤتمرات الأممية التي تنعقد بين الفينة والأخرى في القضايا الاجتماعية مثل مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م، وهذا الأخير هو أخطرها لأن وثيقته اعتبرت مرجعية في مصاف اتفاقية (سيداو) من حيث الأهمية والمتابعة مع أن وثائق المؤتمرات عبارة عن توصيات وليست اتفاقاً دولياً, لكن النشاط المحموم في متابعة تنفيذ مقررات هذه الوثيقة (وثيقة بكين) يدل على مرجعيتها، فانعقد عام 2000م في نيويورك اجتماع دولي سُمّي بِـ(بكين 5) لمتابعة تنفيذ ما في هذه الوثيقة، و في فبراير هذا العام 2005م انعقد في نيويورك مؤتمر (بكين10) لمتابعة تنفيذ توصيات نفس الوثيقة، وفي كل هذه الاجتماعات يُطلب من الدول تقديم تقارير توضح مدى التقدم في تنفيذ هذه التوصيات، وما هي العوائق التي تقف في وجه تنفيذ ما لم يُنفذ.
التيار الثاني: الذي أفرزه الفكر النسوي الغربي عبارة عن تيار نسوي متطرف يطالب بتغيير البنى الاجتماعية و الثقافية والعلمية واللغوية والتاريخية باعتبار أنها متحيزة للذكر، وفي داخل هذا التيار نشأت جيوب تدعو إلى دين جديد (الوثنيّة النسويّة).
(female paganism) أو دين المرأة الجديد الذي يقوم على أساس تأليه المرأة مقابل الأديان الذكورية التي فيها الإله ذكر، فلا بد للمرأة أن تكون آلهة في الدين الجديد.
أهم مبادئ هذا التيار: - التخلي عن الأفكار التي أخذت صفة القدسية، ويعنون بها نصوص الوحي والتراث الديني وهذا موقف يلتقون به مع التيار الأول فمحاربة الأديان قاسم مشترك بين التيارين.
- التخلي عن الأنوثة باعتبار أن الأنوثة هي سبب ضعف المرأة وسبب هيمنة الرجل عليها، فالأنوثة تقود إلى الزواج، والزواج يقود إلى الأمومة، والأمومة تقود إلى تكوين الأسرة، ففي كل هذه المراحل تكون المرأة الطرف الأضعف، والرجل يكون الطرف المهيمن.
كيف يمكن التخلي عن الأنوثة في نظرية هذا التيار؟
يتم ذلك عن طريق عدد من الإجراءات :
ا- تغيير النظام الأسري الذي يصنع نظاماً طبقياً ذكورياً يقهر المرأة, وهذا لا يتم إلا بتقويض مفهوم الأسرة المعروف وإحلال الأسرة الديمقراطية محلها.
ب- حق المرأة في الإجهاض بحرية حسب الطلب، وتسهيل ذلك.
ج- ممارسة الجنس المثلي (اللواط والسحاق) وهذا يعطي المرأة الحرية في أن تمارس حقها الجنسي بحرية، فلا تبقى بحاجة إلى ذكر في المسألة الجنسية.
د- صياغة نظرية نسويّة لتحقيق المساواة التماثلية بين الجنسين، ولا يتم ذلك إلا بخلخلة الثنائية السيكولوجيّة والاجتماعيّة التقليديّة بين الذكر والأنثى، وإيجاد بديل عنها، وهو مصطلح (الجندر) أو الجنوسة وهو النوع الاجتماعي بدلاً عن مصطلح الجنس.
ما هو مفهوم (الجندر)؟
يقوم هذا المفهوم على أساس تغيير الهوية البيولوجية والنفسية الكاملة للمرأة, و يقوم أيضاً على إزالة الحدود النفسية التي تفرق بين الجنسين على أساس بيلوجي أو نفسي أو عقلي, كذلك يزيل الهويّة الاجتماعيّة التي تحدد دوراً مختلفاً لكل واحد من الجنسين في الحياة وتمايزه عن الجنس الآخر.
سبب التمييز والاختلاف بين الرجل والمرأة حسب تفسير هذا التيار المتطرف للحركة النسوية: أن التنشئة الاجتماعية والأسرية تتم في مجتمع ذكوري، أي أن الأنظمة ذكوريّة والآلهة ذكوريّة حتى عقيدة التثليث المسيحية هي ذكورية فالأب والابن وروح القدس كلهم ذكور يرمز لهم بـ ( He ) ضمير المذكر وليس (She)ضمير المؤنث.(33/144)
هذه التنشئة الاجتماعية والأسرية والبيئية التي يتحكم فيها الذكر بالأنثى تحدّد دور المرأة في المجتمع فتنشئ تمييزاً جنسياً, فالأنثى اكتسبت خصائص الأنوثة بسبب التنشئة الاجتماعية و البيئية وبسبب المصطلحات اللغوية التي تميز بين الذكر والأنثى، التي أبرزتها كأنثى, بينما الذات الواحدة يمكن أن تكون مذكراً أو مؤنثاً حسب القواعد الاجتماعية السائدة, فلا توجد ذات مذكرة في جوهرها ولا ذات مؤنثة في جوهرها, هذا الاعتقاد هو الذي قاد إلى فكرة (الجندر) أي النوع الاجتماعي باعتبار أنه إذا بقي الوصف بالجنس (ذكر وأنثى) لا يمكن أن تتحقق المساواة مهما بُذل من محاولات لتحققها فلابد من إزالة صفة الأنوثة لتحقيق المساواة أو تخفيفها على الأقل؛ لتخفيف التمييز وبناء على ذلك لا يُقسم المجتمع على أساس الجنس ولا تقوم الحياة الاجتماعية، ولا تؤسس العلاقات الاجتماعية على أساس الذكر والأنثى، إنما يكون نوع إنساني (Gende r ), وبذا تتخلخل هذه الثنائيّة الاجتماعيّة المكونة من المذكر والمؤنث.
كيف يمكن إيجاد الأسرة الديمقراطيّة وتكريس مفهوم جديد للأسرة يتوافق مع مبادئ هذا التيار باعتبار أن الأسرة التقليديّة عائق في تحقيق المساواة الكاملة؟
يتم ذلك من خلال إجراءات تحقّق في النهاية خصائص الأسرة الديمقراطية، وأهم هذه الإجراءات:
- إلغاء مؤسسة الزواج لأنه معوق أساس في تحقيق المساواة، وهو في النهاية يوجد طبقية بين الزوجين، ويكرس السيادة للمذكر على المؤنث.
- تحرير المرأة من الحمل والإنجاب وإحلال الحمل، والإنجاب الصناعي لأن الحمل والإنجاب عمليتان استبداديّتان في حق المرأة؛ فلابد من تحرير المرأة منهما.
- إلغاء دور المرأة في تربية الأطفال، ومن القيام بالأعمال المنزلية وإقامة مراكز تربويّة لتربية الأطفال داخل المجتمع وليس بالبيت.
هذه المبادئ تأخذ عند بعض جيوب هذا التيار شكل إنشاء دين جديد وثني يسمونه دين المرأة الجديد أو الوثنيّة النسويّة ( (female paganism حسب مصطلحاتهم كما ذكرنا سابقاً, وقد اعتنق مبادئ الوثنيّة النسويّة الجديدة حسب آخر الإحصائيات المتاحة في السبعينيات الميلادية أكثر من مائتي ألف امرأة، ويتوقع أن تزداد هذه النسبة في مرحلة ما بعد الحداثة, لأن مبادئ هذا التيار تتوافق مع مبادئ وأفكار هذه المرحلة مثل التعددية النسبية, رفض المُطلقات والثوابت, ومن غرائب أفكار هذا التيار المتطرف (الوثنيّة النسويّة) أنهم يتهمون العلم الطبيعي المادي بأنه تسبب باغتراب الإنسان عن ذاته وعن الإيمان الروحي، ولذلك تضع هذه الحركة من أهدافها إعادة الروح للإنسان من خلال تأليه الطبيعة, الذي يساعد على إعادة العلاقة بين الطبيعة وبين الإنسان بعد أن دمرها الرجل المستبد المسيطر الذي صنع آلات الدمار فدمر بها الطبيعة؛ فلابد من إعادة العلاقة من جديد بين الطبيعة وبين الإنسان من خلال المرأة؛ لأن هناك علاقة مباشرة بين المرأة والطبيعة، فالطبيعة فيها الجمال والخصب وفيها النماء وتوحي بالسلام، وهكذا هي صفات المرأة، فالمرأة متوافقة مع الطبيعة، فإذا ألّهت الطبيعة ألّهت المرأة فتنشأ علاقة مقدسة بينهما، فالطبيعة هي وجه المرأة، والمرأة هي وجه الطبيعة. وبناء على هذه الأفكار نشأ مذهب داخل هذه الحركة في المجتمع الغربي يُسمّى المذهب النسوي البيئي ((Ecofeminism, يكون الربّ فيه مؤنثاً وأظهروا له تماثيل بشكل المرأة ذات الصدر العالي تُسمّى (الإلهة) (Godess) مؤنثة وليس (إله) ((God مذكر، واسترجعوا تاريخ الوثنيات القديمة التي ألّهت الطبيعة في مجتمعات آسيوية وأفريقية قديمة ليضعوه أحد مسوغات هذا الفكر الجديد بوجهه النسوي المتطرف في العالم الغربي.
ومجمل القول: إن هذا الفكر قائم على أساس تدمير الأديان؛ لأنها قامت على أساس ذكوري من الإله إلى الأنظمة السياسية، إلى المجتمع، إلى الرجل الذي يتحكم بالمجتمع الذكوري، ويستبد به، ويصنع هذه البيئة الذكوريّة على حساب المرأة، كما يقوم هذا الفكر على إزاحة البُنى التي قامت على أساس ذكوري، ونبذ القوالب الثابتة والأفكار الجامدة في إشارة إلى الأفكار المتأثرة بالفكر الديني.
ثم صياغة فكر نسوي يتمثل في الوثنيّة النسويّة أو دين المرأة الجديد يقوم على مفهوم (الجندر)، والأسرة الديمقراطية، ويقوم على عبادة الطبيعة من أجل التوازن البيئي، وربط ذلك بالمرأة لأنها تمثل الجمال والخير والخصب والنماء. والتركيز على المرأة كذات مستقلة عن الرجل وتستغني عنه حتى في الجنس بتشريع السحاق، وباختصار فإن "الفكر النسوي الغربي عبارة عن هجوم على طبيعة الإنسان الاجتماعي، و إلغاء الثنائية الإنسانيّة (الذكر والأنثى) التي يستند إليها العمران الإنساني" كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري.(33/145)
هناك حركة محمومة في هذا الاتجاه في عدد من البلدان العربية والإسلامية كل مجتمع بحسبه، ولو أخذنا مثالين من المغرب ومصر؛ ففي المغرب حركة قوية جداًّ في الغارة على ما بقي من أحكام الشريعة الإسلامية في بعض جوانب الأحوال الشخصية تحت شعار إدماج المرأة في التنمية، وأما في مصر فهناك قوانين جديدة للأحوال الشخصية وجدل كبير حول مبادئ النسوية،والجمعيات النسوية الموجودة في مصر من كثرتها يسميها بعض الكتاب الدكاكين النسوية، وهي بالمئات وبعضها تمول تمويلاً أجنبياً للقيام بأنشطة مريبة هناك، فهناك أكثر من خمسين مؤسسة تمويل، أمريكية في الدرجة الأولى ثم كندية ثم أوروبية وأسترالية، ومنها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، وبعضها مؤسسات رسمية، أو شبه رسمية، ومنها مؤسسات طوعية أهلية ليست على علاقات بالحكومات.
ومن أبرز المشاريع التي مولتها بعض مؤسسات التمويل الغربية في مصر مشروعات لمتابعة تنفيذ مقررات وثيقة بكين في مصر، فهناك أكثر من مؤسسة تمويل دعمت أكثر من جمعية لنفس الهدف.
أما على مستوى التنظيم الرسمي فهناك عدد من المجالس واللجان المعنية بشؤون المرأة، مجالس ولجان عليا تخطيطية ولجان تنفيذية ، كذلك صدر عدد من التشريعات لتتوافق مع مقررات (سيداو: اتفاقية القضاء على كافة إشكال التمييز ضد المرأة) ولتتوافق مع مقررات بكين ومن أهمها موضوع الأحوال الشخصية، والجدل الذي دار في مجلس الشعب المصري لتغيير عدد من مواد قانون الأحوال الشخصية في مصر، وصدور عدد من التشريعات في هذا الاتجاه يحكي الحالة المصرية، كما أن التحفظات المصرية المعتادة على بعض الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد بدأت تختفي أو زالت بحكم الواقع ، ولو انتقلنا إلى السعودية التي قاطعت رسمياً المؤتمرات هذه (مؤتمر السكان ومؤتمر بكين) وصدر بيانان من هيئة كبار العلماء مستنكراً أفكار وثيقتي المؤتمرين وحضورهما، لكن في المقابل وقعت المملكة على اتفاقية (سيداو) مع التحفظ المعتاد على ما يخالف الشريعة الإسلامية، لكن المشكلة أن القانون الدولي لا يقبل مثل هذه التحفظات لوجود اتفاقية دولية (اتفاقية جنيف) تنص على أن التحفظ على أي بند في أي اتفاقية دولية لا يكون مقبولاً إلا إذا كان يتعلق في جوهر هذه الاتفاقية، ومعلوم أن مخالفة اتفاقية ( سيداو) للشريعة الإسلامية هو في بنودها الموضوعية الجوهرية ، ومن الأشياء التي تُحمد لمجتمعنا في السعودية أن الجمعيات النسائية لم تتورط في هذه الفتنة المتمثلة في هذا الفكر النسوي المنحرف، كما هو الحال في كثير من الجمعيات النسوية في المجتمعات العربية والإسلامية. ومع الأسف أنك تجد أطروحات كثير من هذه الجمعيات في تلك المجتمعات تتوافق مع أطروحات جمعيات الحركة النسوية العالمية، ففي مؤتمر بكين كان من أسوأ الأطروحات ما جاء من بعض الجمعيات النسائية العربية، بينما كانت الجمعيات النصرانية الغربية خاصة الكاثوليكية أكثر محافظة من بعض الجمعيات العربية النسوية.
ومما يحمد للمجتمع السعودي أنه يمنع الاختلاط في أكثر المجالات ، والاختلاط بين الجنسين في فكر الحركة النسوية العالمية وفي اتفاقية ( سيداو) من مظاهر المساواة ومنعه يعتبر تمييزاً في حق المرأة، ولذا فإن هذه الاتفاقية تنص على ضرورة الاختلاط في التعليم وفي العمل، ولكن هذا المجتمع متمسك ومتماسك إلى حد كبير في هذه المسألة عدا بعض الخروقات في بعض مواقع التعليم والعمل مع أن الأنظمة والتعليمات تنص على منع الاختلاط، ونظام العمل والعمال المعمول به الآن ينص على عدم الاختلاط؛ فينبغي المحافظة على هذه القيمة الفاضلة في المجتمع حتى لا نِزل أو نِضل بتشرب هذه الفتن التي ابتليت بها مجتمعات إسلامية وعربية.
وأهم ما ينتقدونه على المجتمع السعودي في اللجان والمؤتمرات هو عدم تمكين المرأة - تمكين المرأة مصطلح نسوي يعني أن تمكن في المجتمع كالرجل تماماً- في تولي الوظائف القيادية والمشاركة في اتخاذ القرار وتولي القضاء، وقد تولت امرأة القضاء في مجلس الدولة في مصر هذه السنة لأول مرة، مع أن الفتوى الشرعية في مصر عدم جواز تولي المرأة للقضاء.
أيضاً ما ينتقدونه على المجتمع السعودي تمييز الرجل عن المرأة في الميراث، وكذلك الشهادة أمام المحاكم، وموقف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المرأة، والتمييز ضد المرأة بمنع الاختلاط، ومنعها من قيادة السيارة، وعدم حرية التنقل والسفر دون محرم وخاصة السفر الخارجي، وعدم المشاركة في الوفود الرسمية الخارجية.. هذه أهم الانتقادات التي توجه إلى المملكة العربية السعودية، ومعظم هذه القضايا ذوات أبعاد شرعية واجتماعية، وهذه الاتفاقية وتوصيات المؤتمرات تطالب تطبيق بنودها دون اعتبار للأحكام الشرعية والمواقف الثقافية.
كيف نواجه ضغوط الموقف الخارجي:(33/146)
على المستوى الخارجي:المشاركة الفعالة في هذه اللجان والمؤتمرات ولا أرى أن المقام يتسع للمقاطعة؛ لأن الضعيف إذا قاطع لا يؤبه به - ونحن ضعفاء مادياً وسياسياً في هذه المرحلة - وإنما إذا شارك أثبت حضوره وقرر فكره ونشر مبادئه بخلاف القوي إذا قاطع فسيكون له أثر، فالولايات المتحدة الأمريكية عندما قاطعت اليونسكو ضعفت اليونسكو بسبب أن الذي قاطع دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية، لكن إذا أتت بعض الدول الإسلامية وقاطعت مؤتمرات عالمية فإن هذا لا يؤثر كثيراً. فمن الحكمة -والله أعلم- أن نشارك ونطرح وجهة النظر الشرعية والرؤية الإسلامية بقوة ومن دون انهزامية حتى نزاحمهم ونكاثرهم ونثبت في وثائق هذه المؤتمرات وجهة النظر الإسلامية، ونمنع تفرد وجهة نظر النسوية العالمية التي تتبناها السياسة الغربية والأمم المتحدة، والحذر من أن نظهر وكأننا نريد أن نتوافق مع مواد اتفاقية (سيداو) أو مقررات بكين؛ لأننا لا نستطيع أن نستبدل مرجعيتنا الشرعية والثقافية بهذه المقررات، فالله سبحانه وتعالى يقول (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، ولأن مجتمعنا سيرفض ذلك تماماً فهذا الخيار غير ممكن، ولذا سنستمر في جدل مع لجان المتابعة ومجاملات لهم توصلنا إلى حال مرتبك، لكن إذا أظهرنا ديننا ومبادئنا وأعلنا ثوابتنا وأن قيم مجتمعنا نشأت على أساس مبادئ وأحكام الشريعة التي قامت عليها شرعية الدولة ونشأ عليها المجتمع؛ فيمكن أن ننفذ بهذه الحجة التي قد لا يقتنعون بها في البداية لكن بعد الإصرار والثبات والعرض القوي الحكيم، ولذا يكون من المناسب أن يتضمن الموقف نقد مفهوم الحرية الغربي ومفهوم المساواة القائم على فكرة التماثل بين الجنسين وظيفياً، ونبين موقف الإسلام من هذه القضايا بحسن عرض وقوة منطق، فنتحدث عن العدل في مقابل المساواة، وأن المساواة ليست دائما تحقق العدل؛ بل تكون أحيانا ظلماً وهذا ما يحصل بالنسبة للمرأة الغربية، فهم يظنون أنهم يحققون لها المساواة وهذا ليس صحيحا لأن التسوية بين المختلفين تكون ظلماً في كثير من الأحيان وفي حالتنا هذه تكون المرأة هي المظلومة.
على المستوى الداخلي:هناك أطروحات ليبرالية داخلية تريدنا أن نبدأ بدرجات السلم الأولى للهبوط من خلال التوافق مع أجندة المؤتمرات أو بعضها مستثمرين ظروف المرحلة. ومواجهة هذه الأطروحات يكون بعمل إيجابي يقوم على حل مشكلات المرأة بالتزامن مع تطوير وتنمية أدائها لوظائفها ودورها الاجتماعي ، ويكون ذلك بالتالي:
أولاً : من خلال تحرير الموقف الشرعي من حقوق المرأة وواجباتها بوضوح، وبيان أن مقتضى كون الشريعة مرجعاً لنا هو قبول هذا الموقف والانقياد له في المجتمع المسلم.
ثانياً: من خلال بيان ما يواجه المرأة من مشكلات؛ فالمرأة تواجه مشكلات كثيرة في أي مجتمع من المجتمعات مثلها مثل غيرها من أفراد المجتمع، فالرجل له مشكلاته، والأطفال لهم مشكلاتهم ، والمعاقون لهم مشكلاتهم وهكذا.. ، ونظراً لأن المرأة لها اعتبار خاص وقضيتها مطروحة الآن وهي مدخل للفتنة في مجتمعنا كما هي فتنة للحضارة الغربية المعاصرة؛ فلا بد أن نواجه هذه القضية بما يكافئها علمياً وعملياً، ومنها أن ننظر في مشكلات المرأة التي تواجهها في المجتمع بنظر شرعي واقعي.
ما هي مشكلات المرأة مع الرجل؟ ما هي مشكلات المرأة في المجتمع؟ ما هي مشكلات المرأة مع الأنظمة؟ ما هي مشكلة المرأة مع المرأة؟ هناك مشكلات تواجهها المرأة مع المرأة يغفل عنها كثير من المهتمين بشأن المرأة ، المرأة كثيراً ما تظلم المرأة، كم تظلم الضرة ضرتها! وكم تظلم زوجة الابن أم الزوج والعكس! كم تظلم العميدة عضوات التدريس! كم تظلم المدرسة الطالبات! وكم تظلم المديرة المدرسات والموظفات! وهكذا...
ثالثاً: اقتراح البرامج العملية لحل هذه المشكلات بأن يبادر أهل العلم والمثقفون والدعاة والمصلحون وأصحاب الغيرة بالتصدي لهذه القضية، ولا تترك للناعقين والمتفيهقين ولمدعي العلم والثقافة ممن في قلوبهم مرض، المستنسخين لفصول من الثقافة النسوية الغربية، مستقوين بفكر العولمة الذي يدعم هذا الاتجاه، ومستغلين ظروف البلاد بعد أحداث سبتمبر عام 2001م.
من المبادرات الجيدة لبعض أهل العلم والدعوة صدور وثيقة تحمل تصوراً شرعياً لقضايا المرأة، سميت بـ (وثيقة حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام) وقعها أكثر من ثلاث مئة عالم وداعية ومفكر ما بين رجل وامرأة، وهذه الوثيقة قسمت إلى أقسام:
أولاً: منطلقات أساسية ذكرت الوثيقة عدداً من المنطلقات التي يجب أن يبنى عليها أي مشروع للمرأة سواء في بيان الموقف الشرعي تجاه المرأة أو عند مناقشة المشكلات أو في مرحلة طرح البرامج والحلول، وأذكر فقرتين كنموذج لما ورد في باب المنطلقات من هذه الوثيقة المتميزة:(33/147)
الفقرة الأولى: تقرر الوثيقة أن دين الإسلام هو دين العدل، ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين، ويخطئ على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد، حيث إن المساواة تقتضي أحياناً التسوية بين المختلفين وهذه حقيقة الظلم، ومن أراد بالمساواة العدل؛ فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ، ولم يأت حرف واحد من القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق، وإنما جاء الأمر بالعدل قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل؛ فتسوي حين تكون المساواة هي العدل، وتفرّق حين يكون التفريق هو العدل، قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام؛ لذا فإن الإسلام يقيم الحياة البشرية والعلائق الإنسانية على العدل كحد أدنى، فالعدل مطلوب من كل أحد مع كل أحد في كل حال، قال تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
الفقرة الثانية في هذا الباب: في مجال العلائق بين البشر. تعتبر الجاهلية الغربية المعاصرة الفردية قيمة أساسية، والنتيجة الطبيعية والمنطقية لذلك هو التسليم بأن الأصل في العلاقات بين البشر تقوم على الصراع والتغالب لا على التعاون والتعاضد، وعلى الأنانية والأثرة لا على البذل والإيثار، وهذه ثمرة الانحراف عن منهج الله، فصراع الحقوق السائد عالمياً بين الرجل والمرأة هو نتاج طبيعي للموروث التاريخي والثقافي الغربي بجذوره الميثولوجية (الدينية) الذي تقبل أن فكرة العداوة بين الجنسين أزلية وأن المرأة هي سبب الخطيئة الأولى، وهذا الموروث ربما التقى مع بعض الثقافات الأخرى، ولكنه بالتأكيد لا ينتمي إلى شريعة الإسلام ولا إلى ثقافة المسلمين؛ فالحقوق عند المسلمين لم يقرها الرجل ولا المرأة إنما قررها الله اللطيف الخبير.
وفي باب آخر من هذه الوثيقة: تحت عنوان "أصول شرعية في حقوق المرأة وواجباتها" تكلمت الوثيقة عن عدد من النقاط كان منها: التأكيد على موضوع الأسرة وعلى موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة وأنها علاقة تكاملية وليست تماثلية، وقالت في بند من بنودها: "حفظت الشريعة الإسلامية -المراعية للعدل- أن للمرأة حقوقاً في المجتمع تفوق في الأهمية الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة القائمة على أساس المساواة التماثلية وتغفل الجاهلية المعاصرة هذه الحقوق ولا تبالي بانتهاكها، مثل: حق المرأة في الزواج حسب الشريعة الإسلامية وأيضاً حقها في الأمومة وحقها في أن يكون لها بيت تكون ربته ويعتبر مملكتها الصغيرة، حيث يتيح لها الفرصة الكاملة في ممارسة وظائفها الطبيعية الملائمة لفطرتها، ولذا فإن أي قانون أو مجتمع يحد من فرص المرأة في الزواج يعتبر منتهكاً لحقوقها ظالماً لها.
ومعلومٌ أن الفكر النسوي ينتهك هذه الحقوق (حق الزواج وحق الأمومة)، فاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة تدعو الدولة الموقعة أن تدعم تعليم وعمل المرأة ولو على حساب الزواج، وتحارب الزواج المبكر، هذا فضلاً عن موقف التيار النسوي المتطرف المطالب بإلغاء قدسية الزواج!.
وتكلمت الوثيقة أيضاً في باب آخر تحت عنوان رؤى الوثيقة عن نقاط عدة، منها: أن الإسلام بعد تقرير المساواة بين الرجل والمرأة في معنى الإنسانية والكرامة البشرية والحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك والمساواة في عموم الدين و التشريع، يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق والواجبات تبعاً للاختلاف الطبيعي الحاصل بينهما في المهام والأهداف والاختلاف في الطبائع التي جبل عليها كل منهما ليؤدي بها وظيفته الأساسية، وهنا تحدث الضجة الكبرى التي تثيرها المؤتمرات الكبرى الخاصة بالمرأة وروادها، و يثيرها المنتسبون للحركة النسوية العالمية ومقلدوها في العالم الإسلامي المروجون لفكرة المساواة التماثلية بين الجنسين.
إن المساواة في معنى الإنسانية ومقتضياتها أمر طبعي ومطلب عادل؛ فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية، والإسلام قرر ذلك بصورة قطعية لا لبس فيها، أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؟ هل في وسع هذه المؤتمرات والحركات النسوية ومنتسبيها من الرجال والنساء بقراراتهم واجتماعاتهم أن يبدلوا طبائع الأشياء؟ وأن يغيروا طبيعة الفطرة البشرية؟
إن مزية الإسلام الكبرى أنه دين ونظام واقعي يحكم في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر؛ فيسوي بينهما حين تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيحة، ويفرق بينهما حين يكون التفريق هو منطق الفطرة الصحيحة، قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).(33/148)
وفي فقرة أخرى عللت الوثيقة أسباب التمايز بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة والدية والعمل والتعليم والحجاب وغير ذلك من الرؤى التي تخص المرأة، وفي النهاية تذكر الوثيقة مطالب وتوصيات موجهة للحكام وللمجتمع وللمرأة وأيضاً للناشطين في مجال الحقوق من المسلمين ومن غير المسلمين وتختم الوثيقة مطالبها بالاهتمام بالبرامج العملية التي تقوم على أساسين:
الأول: الثوابت الشرعية من عقائد وأحكام ومقاصد.
والثاني: الملائمة الواقعية لمستجدات الحياة.
ثم تبشر الوثيقة بأن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً في العالم الغربي وأن أكثر من يسلم في الغرب من النساء... هذه أهم أفكار الوثيقة.
وأرجو أن يتبعها وثيقة أخرى تتكلم عن مشكلات المرأة في المجتمع، ثم ثالثة تطرح البرامج والحلول في المجتمع لتكون مبادرة من أهل العلم والمثقفين وأهل الغيرة والمصلحين لحماية مجتمعهم من هذه الفتنة العاصفة المتمثلة في فساد الفكر الوافد الذي تمثله الحركة النسوية العالمية وإسقاطاتها في المجتمع، وللعناية بالمرأة تربيةً وتنميةً لتقوم بدور فاعل برؤية شرعية واثقة.
================(33/149)
(33/150)
السلفية في طريق النهضة.. مشكل أم حل؟
2004/10/18
…
حسام تمام **
محمد عابد الجابري
السلفية مشكل أم حل؟ سؤال لم يبرح أذهان كل المسكونين بأسئلة النهضة وهمومها، وهو سؤال فيه من الأهمية ما يفرضه كون معظم الحركات النهضوية في عالمنا العربي أو الإسلامي داعية للسلفية أم معادية لها!
المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري حاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال سلسلة مقالات متفرقة نشرت بملحق وجهات نظر الذي يصدر عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، ضمن سلسلة مقالات مميزة عن قضية ومفهوم الإصلاح.
وقد اخترت أن أعرض لخمسة مقالات يمكن أن تمثل رؤيته لقضية السلفية وموقعها في جدل النهضة.
والجابري غني عن التعريف؛ فقد قدم للمكتبة العربية 30 مؤلفا في قضايا الفكر المعاصر؛ أهمها كتابه الشهير "نقد العقل العربي" الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوربية وشرقية، وهو يعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي الإسلامي بكلية الآداب في جامعة محمد الخامس.
السلفية أم التجربة التاريخية؟
افتتح الجابري النقاش بمقالة تأسيسية (طالع: "السلفية أم التجربة التاريخية للأمة؟") توقف فيها أمام السلفية وفعلها في حركة الأمة نحو النهضة ليرصد ويقرر كيف أن جميع الحركات السلفية التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي كانت بمثابة تعبير عن عملية إعادة التوازن الذاتي.. وأن السلفية كانت دائما ذلك الجزء من التجربة التاريخية للإسلام السني الذي تستعيد منه هذه التجربة ما يحفظ لها الوجود والاستمرارية عندما يفرز تطورها الداخلي ما يهددها بالاندثار.
فالسلفية -كما يقرر الجابري- نوع من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ.. ومن ثم تتسع -عنده- حمولة مفهوم "السلفي" ليشمل في آن واحد: "محاربة الاستعمار، ومحاربة البدع والتقاليد الاجتماعية (الشعبية)، والدعوة إلى التجديد والتحديث في كل مجال في الفكر والسياسة والاجتماع".
غير أنه حين يؤكد هذه الحقيقة يتخذها منطلقا يتجاوز به رؤية أنصار السلفية الذين يرونها وجها وحيدا لأي إصلاح أو نهضة؛ فهو يؤكد "أن جميع التيارات السلفية من الحسن البصري إلى محمد بن عبد الوهاب إلى الأفغاني ومحمد عبده إنما كانت أحد مظاهر التجربة التاريخية للأمة، أحد مظاهرها الإصلاحية، بل أحد مظاهر الإصلاح فيها"، ومن ثم فيجب ألا ينظر إليها كوجه وحيد، ويخرج من ذلك إلى القول بأن "التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية تجربتها الراهنة مع الحضارة المعاصرة لا يكفي فيها استلهام نموذج السلف الصالح وحده. فهذا النموذج إنما كان نموذجا كافيا لنا يوم كان التاريخ هو تاريخنا".. فالنموذج المنشود "ينبغي ألا يكون من نوع (النموذج السلف) الذي يقدم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته؛ بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضا -ولم لا؟- من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع".
ويؤسس رؤيته على أن "السلفية كانت كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا قي بيت هو بيتنا وبيت لنا في الوقت نفسه"، أما الآن فلا بد من التعامل بمنطق جديد تفرضه التغيرات "منطق الحضارة المعاصرة، ويتلخص في مبدأين: العقلانية والنظرة النقدية العقلانية في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء في الحياة؛ للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والأيديولوجيا".
وعلى هذا فإن منطق "سيرة السلف الصالح" التي تمثل "المدينة الفاضلة" في التجربة التاريخية للأمة كان يقوم على أن الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة، وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط وليس عصر علم وتقنية ومصالح وأيديولوجيات وصراعات دولية وطموحات للهيمنة العولمية.
السلفية في سياقاتها التاريخية
الأفغاني.. أول حلقات التجديد والاجتهاد المعاصر
ويتتبع الجابري تجليات السلفية من خلال سياقاتها التاريخية في مقالة ثانية (طالع: "من الوهابية إلى السلفية الإصلاحية.. إلى الجهادية")، فيتوقف عند السلفية الوهابية التي تتبنى الفهم السلفي للعقيدة لمواجهة البدع التي تنحرف بها، ثم ينتقل إلى ما يسميه بالسلفية الإصلاحية التي مثلها الأفغاني ومحمد عبده؛ فيرى أنها تواصلت مع سلفية محمد بن عبد الوهاب فيما يخص تصحيح العقيدة، ثم قفزت بها فيما يتعلق بمشروع التقدم والنهضة، ويميز داخلها على مستوى الإستراتيجية بين سلفية الأفغاني التي تعتمد الثورات الجماهيرية وسلفية عبده التي تعتمد الوسائل السلمية ونبذ سياسة العنف واجتناب معاداة الحكام المسلمين، والانصراف بدلا من ذلك إلى تكوين أجيال تحمل الدعوة وتنشر التربية الإسلامية، حتى لو اضطرها ذلك لمهادنة ومداهنة الاحتلال ما دام ذلك يدرأ المفاسد؛ إذ إن سلفية محمد عبده كانت إصلاحية نهضوية ولم تكن ثورية ولا جهادية.(33/151)
وفي هذا الإطار ينسب الجابري إلى محمد عبده نوعا من اعتماد نمط من الفصل بين الدين والسياسة، قوامه تأجيل العمل السياسي إلى أن يتم تكوين ما يكفي من الرجال تكوينا صحيحا في الدين وغيره من علوم الوقت.
ويرصد الجابري عددا من الحركات ذات الامتداد السلفي لجأت إلى خيار الثورة المسلحة (مثل حركة الأمير عبد القادر في الجزائر، المهدوية في السودان، حركة عمر المختار في ليبيا، ثورة ابن عبد الكريم الخطابي في المغرب...)، ولكنه يؤكد على سمة فارقة غلبت على هذه الحركات؛ هي أنها لم تكن تتحرك في أفق عولمي، بل كانت قُطرية محلية الطابع.
يؤكد أن هذا الملمح كان مما ميز الإسلام السياسي النهضوي؛ فهو نهض لمقاومة الغزو الاستعماري لبلاد الإسلام، معتمدا العمل المباشر قُطريا، ومقتصرا على التضامن المعنوي (وأحيانا المالي) عالميا. كما لم يكن يضع الغرب كله في سلة واحدة؛ بل كان يركز مناهضته -التي كانت قُطرية الطابع- على الدول التي مارست الاستعمار، وأكثر من ذلك استغلاله المنافسة والخلاف بين الدول الاستعمارية، سالكا مسلكا براغماتيا، قوامه عدو عدوي صديقي.
ويخلص الجابري من قراءته لتطور الحركة السلفية والإسلام السياسي المرتبط بها إلى أن الإسلام السياسي المعاصر الذي ينسب إليه ما يعرف اليوم بـ الإرهاب ليس امتدادا للسلفية النهضوية التي حملت مشعل الإصلاح الديني، ورفعت راية مقاومة الاستعمار.. رغم أنه يقع على الخط والمسار نفسيهما.
وينتهي الجابري إلى أن سلفية الأفغاني وعبده النهضوية كانت نقلة نوعية قياسا مع سلفية محمد بن عبد الوهاب. أما السلفية التي تسمي نفسها اليوم بالسلفية الجهادية فهي نقلة نوعية مغايرة: ترتبط بالوهابية على صعيد السلف؛ فهي من هذه الناحية نكوص بالنسبة للسلفية النهضوية الإصلاحية، ولكنها من ناحية أخرى تجاوز لها من حيث قفزها على القُطرية والوطنية، وتطلعها إلى التحول إلى عولمة مضادة، تجسم ما يسميه بـ النقيض الخارجي للأمركة، للعولمة/ الإمبريالية/ الأمريكية.
وفي مقالته: (طالع: الإخوان المسلمون في مصر.. والسلفية في المغرب) يتتبع الجابري مسار تطور سلفية محمد عبده؛ فيلحظ أنها أسست -على صعيد الفكر والواقع معا- لتيارين؛ الأول تيار فكري سلفي إصلاحي يستعيد سلفية ابن عبد الوهاب ويتجاوزها على صعيد الانفتاح على العصر، والنزوع نحو التجديد في الدين والفكر واللغة، وهو التيار الذي توطد وتطور في المغرب العربي، خاصة مع كل من الثعالبي ومدرسته في تونس، وابن باديس في الجزائر، ومحمد بن العربي العلوي وتلميذه علال الفاسي بالمغرب. وهذا التيار -الذي يصفه بالمتفتح- هو الذي أسس لقيام أحزاب سياسية وطنية زاوجت بين السلفية والتحديث، وبين الأصالة والمعاصرة، متخذة من الاستعمار الفرنسي خصمها الخارجي الأول، ومن الطرقية وشيوخها المتعاملين مع الاستعمار المكرسين للبدع ومظاهر الانحطاط خصمها الداخلي.
وأما التيار الثاني -وهو المباشر والأساسي- فهو ذلك الذي استمر ينمو وينتشر في المشرق العربي وفي مصر خاصة، عبر رشيد رضا وآخرين، ثم عبر جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين.
في رأي الجابري كان قيام جماعة الإخوان -ظاهريا- تطبيقا للإستراتيجية التي انتهى إليها عبده؛ إستراتيجية التدرج من تكوين مجموعة، تليها مجموعات، تتولى الدعوة للإصلاح والعمل له مع تربية الشعب تربية دينية صحيحة.. لكنها خرجت فعليا على نهجه الذي لم يكن يقصد أن تتحول هذه الجماعات إلى جماعات سرية، وتتطور أحيانا لممارسة العنف. وهو الاتجاه الذي كان عبده قد قطع معه بعد الفشل الذي رآه بأم عينه، سواء في مصير حركة الضابط عرابي الثورية أو في متاهات الحركات السياسية والفكرية المتطاحنة.
وفي رأي الجابري أن أول الاختلافات كان في الرؤية السياسية؛ فرغم أن السياسة كانت حاضرة في إستراتيجية محمد عبده فإن الهدف السياسي الذي قصده منها كان ينحصر في تكوين رأي عام وطني يعرف ما للحكام من حق الطاعة، وما للمحكومين عليهم من حق العدالة. وعلى أساسها يقومون بمراقبتهم وتوجيههم.
وعبده -من هذه الناحية- ينخرط في فضاء فقه السياسة، ولكنه فقه لا يطرح ذلك الشعار الذي طرحته جماعة الإخوان ومن بعدها معظم الجماعات الإسلامية، شعار إقامة الدولة الإسلامية. فالدولة الإسلامية -عنده- كانت قائمة دائما في بلاد الإسلام، ومهمة فقه السياسة وفقه النصيحة هي الدعوة إلى جعل الدولة أقرب ما يمكن من المدينة الفاضلة الإسلامية التي يسودها العمل بالكتاب والسنة، كما كان الحال زمن الخلفاء الراشدين.
والجابري يرى أن جماعة الإخوان ظهرت كتعبير جذري عن الجانب المحافظ في فكر محمد عبده، وبالتالي كانفصال عن سلفيته الإصلاحية وإستراتيجيتها. إذ إنها نقلتها من دعوة إصلاحية مفتوحة تخاطب المسلمين كافة إلى حركة قوامها الدعوة والتنظيم معا، وبالتالي إلى طرف ضد أطراف أخرى في المجتمع، وهو طرف تتحدد هويته بمبدأ واحد هو: الأخوة في الإسلام.(33/152)
ويعد هذا ملمحا لاختلاف جماعة الإخوان المسلمين عن سلفية عبده؛ فهي -الجماعة- أقرب لحزب سياسي تتخذ الإسلام (بوصفه عنصرا مقوما لهوية المجتمع ككل) محددا لهويتها هي وحدها كجماعة خاصة داخل المجتمع. وهو ما أدى بها إلى التطور في وضع غير حزبي، وضع لا يعترف بـ الآخرين، ولا يعترف به هؤلاء الآخرون.
وكانت النتيجة حدوث انفصال واصطدام بين هذه الجماعة والأحزاب الوطنية التي تحدد هويتها الحزبية بغير الدين (وإن كانت لا تقصيه بالضرورة) والتي ترفع شعارات لا تتعارض مع الدين مثل: الحرية، الاستقلال، الجلاء، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، التحديث الاجتماعي، محاربة الاستبداد السياسي والطبقي... إلخ.
أما المسار الذي اتخذته سلفية محمد عبده في المغرب العربي فقد اختلف تماما؛ فقد وقع تبينها وتوظيفها في عملية مؤاخاة كبرى بين جميع فئات المجتمع من أجل حركة وطنية جامعة، هدفها تحقيق الاستقلال وبناء دولة عصرية. ولم يكن لهذه الحركة خصم فعلي أو محتمل غير الاستعمار وعملائه، هو وحده الآخر؛ ولذلك اتخذت قضية التحديث في المغرب العربي مجرى يختلف عن المجرى الذي عرفته في المشرق.
ولم يكن لعبارة الإخوان المسلمين ما يبررها في المغرب العربي؛ لأنه لم تكن هناك أخوة أخرى غير إسلامية فعلية أو محتملة. لم يكن هناك تغاير. ولن يحصل التغاير والتعدد في الأخوة إلا بعد تحقيق الاستقلال، وانقسام رجال الحركة الوطنية إلى محافظين ومجددين، وهذا هو السياق الذي يفسر عدم ظهور فروع لجماعة الإخوان المسلمين في المغرب العربي، وبالتالي تأخر قيام تنظيمات دينية تمارس فيها السياسة بوسائل أخرى. والتي كان ظهورها فيما بعد نوعا من ردود الفعل داخل هذا الحزب الوطني أو ذاك.
السلفية المغربية نموذج مغاير
الإمام محمد عبده
وينتقل الجابري بعد ذلك من المركز إلى الأطراف؛ فيبتعد بنا عن التجربة المصرية السلفية كما قدمها الأفغاني وعبده ومن تلاهما؛ ليعرض في مقالته (طالع: "السلفية الوطنية" في المغرب) لتجربة سلفية أخرى لها خصوصيتها باعتبارها من تجارب الأطراف، ويقارن بينها وبين التجربة المصرية ليخلص إلى أن أهم ما يميزها هو أنها لم تعانِ من التناقض الذي عانت منه التجارب السلفية الأخرى خاصة المصرية بين الوجهة السلفية والوجهة الحداثية؛ بل قادت هي نفسها معركة التحديث.
فالمغرب -في رأي الجابري- كان دائما يتلقى الأفكار الجديدة والتيارات الأيديولوجية من المشرق، ولكن ما إن يستوطن الوافد من الأفكار والدعوات في أرضه حتى تنزع عنها لباسها "الخلافي" المشرقي لتتكيف مع ظروف المغرب وحاجاته الخاصة فتظهر في صورة جديدة تماما.
ويفسر ذلك كيف أن التيارات الفكرية النهضوية -السلفية منها والليبرالية والقومية- التي تعرَّف المغاربة على آرائها وأطروحاتها، عبر المجلات والصحف والأسفار والاتصالات المباشرة، كانت تؤخذ دائما من وجهها الإيجابي الوطني النهضوي التحرري. أما الوجه الآخر الذي يعكس الخصومات السياسية والأيديولوجية فلم يكن يعني المغاربة في شيء؛ بل ربما لم يكونوا يدركون من أمره شيئا ذا بال. وهكذا كانت آراء محمد عبده تُقرأ في المغرب جنبا إلى جنب مع آراء الزعماء الوطنيين والدعاة النهضويين في مصر وسوريا والعراق، أمثال سعد زغلول ومصطفى كامل ولطفي السيد وسلامة موسى والكواكبي... إلخ. كان هؤلاء يُقرأ لهم لا كمعبرين عن تيارات فكرية متباينة أو أحزاب سياسية متخاصمة، بل فقط كمبشرين بالنهضة والإصلاح والتقدم والتحرر؛ الشيء الذي يجعل هذه الأفكار تعيش علاقات جديدة في المغرب؛ علاقات سلمية، بل علاقات تزاوج واندماج.
ومن ثم فقد لبست سلفية الأفغاني ومحمد عبده حينما انتقلت إلى المغرب لباسا آخر خلت فيه من كل عيوبها: من التوظيف "البراغماتي" للدين لصالح السياسة، ومن اللجوء إلى المهادنة السياسية أملا في إزالة العوائق التي تقف أمام الدعوة، أو من تشكيك في الحريات الديمقراطية وجدوى الحياة النيابية، أو من التزام التحفظ والحذر في اقتباس أفكار الحداثة الأوربية، أو من الدخول في تناقض وصراع مع الحركات الوطنية والليبرالية... إلخ؛ فكل هذه السلبيات لم تنتقل مع الدعوة السلفية النهضوية إلى المغرب. بل حدث العكس فاندمجت أفكار محمد عبده الإصلاحية في مجال العقيدة والسلوك الديني والتربية والتعليم مع أفكار زعماء الوطنية ودعاة التجديد والتحديث المصريين والسوريين واللبنانيين وغيرهم، وشكلت حركة فكرية سياسية واحدة تقمصت خصوصية وضعية المغرب وظروفه وحاجاته وتطلعاته، وأنتجت ما أسماه علال الفاسي بـ"السلفية الوطنية" أو"السلفية الجديدة".(33/153)
ويرى الجابري في فكر حركة علال الفاسي عالم القرويين وزعيم الحركة الوطنية التي قادت الاستقلال ما يؤكد فرضيته من أن السلفية الوطنية الجديدة في المغرب تقبل بل تطالب بكل ما تدعو إليه سلفية محمد عبده، ولكنها لا ترفض ما ترفضه؛ بل تقبله وترغب فيه وتراه ضروريا، وأنها لا ترى تناقضا بين الإصلاح الديني ونشر التربية والتعليم، وإقرار الحريات الديمقراطية والحياة النيابية الدستورية والأخذ بقيم الحداثة ووسائل التحديث من جهة، ولا بين الوطنية الإقليمية والفكرة القومية العربية والجامعة الإسلامية من جهة أخرى.
ويرى أن الخصوصية هي التي جعلت السلفية في المغرب تتبنى هذه الأفكار، بينما ترفضها في بلاد أخرى من العالم العربي؛ فقد تمتع المغاربة بالانسجام والوحدة على مستوى الهوية الدينية؛ فهم جميعا مسلمون سنة، ومن أتباع مذهب الإمام مالك. كما أن الفقه المالكي بالمغرب قد ركز على فكرة المصلحة العامة التي تجد مجالا واسعا في فقه الإمام مالك، إضافة إلى تبني مبدأ المقاصد، وهي فكرة برزت بصورة واضحة مع "ابن رشد" في مؤلفاته حول العقيدة بالخصوص لتتبلور في نظرية متكاملة في الفقه مع الإمام "الشاطبي". وعلال الفاسي تبنى اتجاه "الشاطبي" فبنى اجتهاده الديني على فكرة المقاصد.
بين السلفية والماضوية
وفي مقالته (طالع: السلفية غير.. والماضوية غير!) يتخذ الجابري من "السلفية الوطنية" عند علال الفاسي نموذجا مغايرا لأنواع أخرى من الفهم تجعل من السلفية "ماضوية"؛ أي الرجوع إلى الماضي والتمسك به لذاته، واعتبار سلوك السلف نموذجا صالحا لكل وقت ولكل مكان، كما هو شأن التيار الحنبلي المتشدد المنسوب إلى ابن تيمية (مع تجاوز في كثير من الأحيان)، وإلى ابن عبد الوهاب من بعده، وخاصة أتباعه المتشددين الذي طبعوا مذهبه بـ"الجمود على التقليد"، فجعلوا السلفية مذهبا "ماضويا" حتى الأعماق.
فهو يرى "السلفية الوطنية" أقرب إلى المنهج منها إلى المذهب. ويثمن قول علال الفاسي: "والذي ينظر في تاريخ الحركات العامة في الدنيا كلها يجد أنه لم تقم ثورة مفيدة في بلد ما إلا سبقتها دعوة للرجوع للماضي البعيد. ذلك أن الرجوع الذي يظهر في شكل تقهقر إلى الوراء هو نفسه تحرر كبير من أشياء كثيرة وضعتها الأجيال العديدة والعصور المختلفة. والتحرر منها هو تخفيف يسهل السير إلى الأمام بخطى واسعة. وإزالتها من الطريق تفتح أفقا عاليا يهدي السائرين للغاية الصحيحة التي يجب أن يوجهوا أنفسهم إليها".
ومن ثم يقرر الجابري أن الرجوع إلى نقطة مضيئة في الماضي ليس من أجل الماضي نفسه بل من أجل التحرر مما تراكم من انحرافات و"ظلمات" في المسار الذي يفصل الحاضر عن تلك النقطة المضيئة. والهدف من هذا الرجوع ليس التثبت عند نقطة في الماضي ولا الجمود فيها؛ بل الهدف هو الانتظام فيها من أجل مواصلة المسيرة من جديد في الاتجاه الذي يمد المستقبل الآتي بسند مما يسميه بالمستقبل الماضي؛ أي الذي كان مشروعا للتقدم في الماضي قبل أن تجهضه الانحرافات والجمود والانكسارات.
بهذا المعنى يتفق الجابري مع مقولة الفاسي: "إنه لم تقم ثورة مفيدة في بلد ما إلا سبقتها دعوة للرجوع للماضي البعيد". والمقصود بالماضي "البعيد" ليس بالضرورة ذاك الذي يمتد بعيدا عن الحاضر بقياس الزمن، بل المقصود ذاك الذي يقع بعيدا عن الحاضر بقياس التقدم والتخلف، إذا جاز استعمال هذا التعبير هنا.
والجابري يرى أن دعوة الإسلام نفسها لم تكن سوى توظيف لهذا النوع من السلفية المنهجية. فبعد أن يشرح الجانب المنهجي يطبقه على الدعوة المحمدية نفسها؛ فقد دخلت في صراع مكشوف وضارٍ مع قوى التقليد التي رفعت شعار "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا". ولكن بدلا من أن يتجه الإسلام إلى المستقبل وحده ويحارب الماضي محاربته للحاضر، أو يتنكر له جملة وتفصيلا.. طرح على العكس من ذلك شعار الرجوع إلى "الأصل"، إلى دين إبراهيم جد العرب، ولكن ليس من أجل استعادته كما كان تاريخيًّا؛ بل من أجل الارتباط به كتراث "أصيل"؛ أي كما كان في الأصل قبل تحريفه. لقد تم تكثيف الماضي العربي كله في نقطة واحدة هي "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل" (الحج: 78) والارتكاز عليه لتحقيق قفزة تاريخية يتم من خلالها وبواسطتها تجاوز عبادة الأصنام إلى دين جديد سيحطم أصحابه الأصنام ويقضون على سلطة حماتها.
لقد انطلقت الدعوة الإسلامية والنهضة العربية الأولى من الانتظام في تراث، لكن ليس لتتثبت عنده جامدة ساكنة؛ بل لترتكز عليه في عملية تجاوز كل الموروث القديم، وتشييد تراث جديد.
=============(33/154)
(33/155)
مالك بن نبي.. وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة
2003/11/2
…
د.إبراهيم رضا / المغرب**
مالك بن نبي
يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة. فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.
"وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ"1.
ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره "شخص الفكرة"، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة "إسلامية المعرفة" وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها"2.
*
ابن خلدون العصر
*
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
*
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
*
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
*
القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
*
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
*
الدورة الحضارية عند ابن نبي
ابن خلدون العصر
لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر" 3.
ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته "شاهد القرن" 4 .
وهكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري"..
ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين "نظريات" مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق "المشروع الحضاري" للأمة.5
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه". 6
وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. 7
ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و"فقه حضاري" نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية "لسنن" و"قوانين" اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: "إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس"
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان + التراب + الوقت.8(33/156)
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. "فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار"
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، "فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة "اقرأ" التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم" 9.
. ولهذا "فالحضارة" لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن "الحضارة" إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ "فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار 10. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها"
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع "الفعالية" و"العطاء" و"الإنتاج"؛ لأن "المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها"، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" 11.
وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم.. أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. لهذا علينا في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلاميذه ابن نبي- ألا نتبع سبيل الاستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها، ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية شديدة الأركان. فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن ينقض البناء، لا تاجرا يملأ البيت بالأدوات والأثاث" 12
. وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف، ولم ترقَ أفكاره بعدُ إلى درجة الاستقلال والتحرر الشاملين، وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لأن "المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.. فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وألا نسلم بأن تحدد لنا بكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي"13
القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
يرى ابن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية14.(33/157)
وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته15.
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم الإسلامي نموذجا يختزل كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلاصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي -في نظره- معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان؛ "فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. "فالأفكار الميتة" في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها.. لتقاليدها.. لماضيها".
وفي مقابل هذا يرى الأستاذ أن المجتمع الإسلامي -رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة- ما يزال مجتمعا متخلفا؛ لأنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعاملا علميا ونقديا، يقول: "الواضح أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها. فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح. وكلا الطالبين (المجد والسائح) لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها" 16.
فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب، وتعامل الإنسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الأخير ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها. دون أن يؤدي به ذلك إلى فقدان هويته، والسقوط في التبعية والتقليد. "فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء كحجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه، أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحيانا نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا" 17.
وقد خصص ابن نبي مقالات عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي لا تفرق في اقتباسها واستلهامها لأفكار ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للاقتباس وما هو خاص بحضارة معينة، لا يمكن نقله لأي بيئة حضارية أخرى مغايرة.18
الدورة الحضارية عند ابن نبي
استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها، كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية.
وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى"
ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول ابن نبي: "إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر" 19(33/158)
ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. و"من عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد" 20
ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات؛ لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. "فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء" 21
ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات الإنسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي تخضع له الحضارة الإسلامية بدورها. 22
وختاما لا بد من الإشارة إلى جملة من الملاحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي.
أولا: على الرغم من اهتمام ابن نبي بقضايا الحضارة ومشكلاتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلاته منحى التجريد والنظر البعيدين عن هموم الأمة الإسلامية وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية؛ بل ظل على الدوام ملتصقا بواقع الأمة، وراصدا لمختلف التحولات التي تطرأ عليها.
ثانيا: تتبُّع مالك بن نبي لواقع الأمة الإسلامية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر، وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة، على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.
ثالثا: إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى مقاصدها، وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر، وذلك بالآتي:
1- إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق.
2- وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالات، وتعميق النظر في "المفردات" و"المفاهيم" و"المعادلات" و"القوانين" التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها، وتوظيفها لتحليل وتوليد الحلول المناسبة لكثير من المشكلات الحضارية المستجدة في واقع الأمة.
اقرأ أيضا:
* ابن خلدون.. سيرة ومسيرة
* الغرب وعلاقته بالآخر
* لماذا نعيد طرح السؤال: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"
* حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لأمتنا الإسلامية
* دراسة حول العلاقة بين الإسلام والتنمية
1 - جودت سعيد: "مذهب ابن آدم الأول"، ص: 14-15.
2- انظر: د.نصر عارف: مقال "هندسة البناء الحضاري عند مالك بن نبي" مجلة الفكر الإسلامي، نشرة تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ملف العدد الحضارة ـ ذوالقعدة 1414هـ أبريل1994م.
3- د. فهمي جدعان: "أسس التقدم عند مفكري الإسلام"، ص: 410.
4- ذكر مالك بن نبي في مذكراته شاهد القرن: الطفل والطالب، "جملة من المفكرين المسلمين وغيرهم الذين كان لهم تأثير فكري في حياته ينظر إلى مذكراته، ترجمة مروان القنواتي، الطبعة 1، 1969، دار الفكر- بيروت.
5- خالد أبو الفتوح "مقال نحو وعي سنني"، مجلة البيان، العدد 89.
6- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 19-20.
7- مالك بن نبي: آفاق جزائرية، ص: 38، وهذا هو التعريف الحقيقي الذي اختاره مالك بن نبي للحضارة، وليس ما ذهب إليه الدكتور توفيق يوسف الواعي في كتابه "الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية"، حين ادعى أن تعريف الحضارة عند ابن نبي "هو البحث الفكري والبحث الروحي".
الكتاب نفسه، ص: 29، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1408هـ /1988م.
8- مالك بن نبي: تأملات، ص: 168.
9 - عمر كامل مسقاوي: تقديم كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، ص: 7.
10- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص: 51.
11- مالك بن نبي: في مهب المعركة، ص: 117.
12- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 42.
13- عمر كامل مسقاوي: في تقديمه لكتاب مالك بن نبي "حديث في البناء الجديد"، ص: 12 و13.
14- مالك بن نبي: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ص: 48.
15- مالك بن نبي: تأملات، ص: 167.(33/159)
16- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 151.
17- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 152.
18 -مالك بن نبي، تأملات، ص: 164.
19- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 19-20.
20 - المصدر نفسه، ص: 49.
21- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 20.
22- المصدر نفسه، ص: 47
** أستاذ بكلية الآداب جامعة القاضي عياض - مراكش
================(33/160)
(33/161)
"محمد بن عبد الوهاب" والعودة إلى جوهر التوحيد
(في ذكري وفاته: 30 ربيع الآخر 1206 هـ)
…
سمير حلبي
الدرعية عاصمة آل سعود الأولى
لا يعد الإمام "محمد بن عبد الوهاب" زعيم حركة إسلامية سلفية فحسب، وإنما يعد أحد رواد الإصلاح الديني، ومجدد نبع الإسلام الصافي، الذي كادت تكدر صفوه تلك البدع والأوهام التي شاعت بين كثير من الناس في العصر الحديث، والتي وصفها بعض العلماء بوثنية العصر الحديث.
ميلاده ونشأته
وُلد "محمد بن عبد الوهاب بن داود" سنة (1115هـ = 1703م) في "العيينة" من بلاد "نجد"، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وتلقى العلم عن أبيه الذي تولى القضاء في بلدان العارض من أقاليم نجد، منذ سنة (1139هـ = 1726م) وحتى وفاته سنة (1153هـ = 1740م).
كان شديد الذكاء، سريع الإدراك والحفظ، كما عُرف بحبه للعلم وشغفه به منذ نعومة أظفاره، فذهب إلى مكة وحج بيت الله الحرام وهو بعد في سن الشباب، وأخذ عن علمائها، ثم قصد المدينة المنورة وأقام بها نحو شهرين، وعاد إلى بلده فاشتغل بدراسة الفقه على مذهب الإمام "أحمد بن حنبل".
سافر إلى كثير من بلدان العالم الإسلامي، وحواضر العلم والثقافة؛ لينهل من العلم والمعرفة على أعلامها وعلمائها، فرحل إلى البصرة حيث أقام بها أربع سنوات، وسافر إلى بغداد فقضى فيها خمسة أعوام، وعاش في كردستان لمدة عام، وأقام في همذان عامين آخرين، وانتقل إلى "أصفهان" ورحل إلى "قم".
وعندما عاد إلى بلده كان قد تزود برصيد وافر من العلم والمعرفة، فهَالَهُ ما قد شاع بين الناس من بدع وأوهام، مثل: تقديس الأولياء، والتبرك بالقبور، وغير ذلك مما يشوب عقيدة التوحيد، ويعد مظهرًا من مظاهر الشرك وفساد العقيدة.
الدعوة إلى التوحيد
كان حنبلي المذهب، يميل إلى الشدة في التعاليم الدينية، ولا يأخذ بالرخص، فاستنكر كثيرًا من البدع الفاشية بين المسلمين، ورأى فيها شركًا بالله، ودعا إلى التوحيد، وتنقية الدين من البدع، وتخليصه مما داخَلَه من انحراف، فدعا قومه إلى نبذ البدع، وطرح كل ما لم يرد في القرآن والسنة من الأحكام والتعاليم، والرجوع بالدين إلى فطرته النقية وبساطته الأولى، وسعى إلى تنقية العقيدة من تلك الشوائب والشبهات، والعودة إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصافية؛ ولذلك فقد أطلق على حركته اسم "التوحيد" وعلى أتباعه اسم "الموحدين"، أما اسم "الوهابيين" الذي عُرفوا به فيما بعد، فقد أطلقه عليهم خصومهم، واستعمله الأوروبيون حتى صار عَلمًا عليهم.
وقد قامت دعوة "ابن عبد الوهاب" على فكرة التوحيد، فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون، وأنه هو المسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره؛ فهو وحده الذي بيده الحكم، وهو وحده الذي يملك النفع والضر، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم سواه.
بين ابن عبد الوهاب وابن تيمية
وقد تأثر الإمام "محمد بن عبد الوهاب" في دعوته وتعاليمه بعالم آخر جليل ظهر في القرن السابع الهجري هو الإمام "ابن تيمية الحراني"، الذي عُرف بالشجاعة وقوة الحجة، وكان لا يخشى في الله لومة لائم، حتى تعرض للسجن والتعذيب.
وكان ابن تيمية يدعو إلى الوحدانية وإخلاص العبودية لله، وترك ما اقترن بزيارة القبور من بدع أو التبرك بالأولياء، كما نادى بهدم الأضرحة حتى لا تجلب للناس الفساد في العقيدة أو الفتنة في الدين.
وقد وجدت دعوة "ابن تيمية" صدى لها في قلب وعقل "ابن عبد الوهاب"، فأخذ كثيرًا من أفكاره وآرائه التي نادى بها.
فدعا إلى محو كل ما هو مخالف للإسلام الصحيح، والعودة إلى الإسلام في صورته الأولى، في بساطته وطهارته ونقائه، وصدق التوحيد واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك.
وكان "ابن عبد الوهاب" يرى أن ما لحق بالمسلمين من ضعف وسقوط إنما هو بسبب ضعف العقيدة، والبعد عن التوحيد، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وبهذه العقيدة وحدها انتصر المسلمون وفتحوا العالم.
انتشار دعوته
لم يجد الاستجابة المنشودة من أبناء بلده، فارتحل إلى "عيينة"؛ حيث وجد معاونة- في أول الأمر- من أميرها "عثمان بن حمد بن معمر"، ولكنه ما لبث أن انقلب عليه وخذله، فانتقل بعد ذلك إلى "الدرعية" سنة (1157هـ = 1744م) التي كانت مقر "آل سعود"، وهناك عرض دعوته على أميرها "محمد بن سعود" فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب، وأعلن الأمير "محمد بن سعود" مناصرته للتعاليم الوهابية.
وبدأت الدعوة تنتشر بين القبائل والبلاد المجاورة، فلم تمض عدة سنوات حتى عمّت الدعوة معظم بلاد نجد، وحارب الأمير قبائل كثيرة كانت تناوئ الوهابية إلى أن تُوفي سنة (1179هـ = 1765م)، فخلفه في تلك السنة ابنه الأمير "عبد العزيز بن سعود"، وكان من أنصار الدعوة، فشهدت الدعوة في عهده نموًا وانتشارًا كبيرًا، وامتد نفوذه السياسي إلى معظم بلاد "نجد"، وتجاوزها إلى بعض أنحاء "الحجاز" وأطراف العراق.
موقف العثمانيون(33/162)
وفي نهاية ربيع الآخر (1206هـ = 1792م) توفي الإمام "محمد بن عبد الوهاب"، بعد أن قويت دعوته، وانتشرت بين القبائل.
وظلت الدعوة بعد وفاة مؤسسها تنمو ويتسع نفوذها ويزداد أتباعها، وبلغ نفوذ الوهابيين أقصاه، وامتد سلطانهم من أقصى الجزيرة إلى أقصاها، وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يقترب منها، وأن الحجاز يوشك- في ظل هذه الدعوة الفتية- أن يخرج من قبضتها، وهو أمر في غاية الخطورة والحساسية بالنسبة للدولة العثمانية، فالحجاز يمثل السيادة الروحية على العالم الإسلامي كله؛ نظرًا لوجود الحرمين الشريفين فيه، وفقده يعني زوال تلك السلطة الروحية والسيادة والزعامة الدينية التي يتمتع بها الخلفاء العثمانيون.
فاستنجد العثمانيون بمحمد علي باشا- والي مصر- وطلبوا منه تجهيز جيش لمحاربة الوهابيين، وبعد عدة معارك استطاع "محمد علي" تحقيق النصر، وانهزم "الوهابيون".
وبالرغم من تلك الهزيمة التي مُني بها الوهابيون فإن تلك الدعوة ظلت باقية إلى أن هُيئ لها الانتشار والتأييد من جديد، فانتشرت في كثير من الأقطار الإسلامية: كالهند، والجزائر، واليمن، وتأثر بها في مصر عدد كبير من العلماء المجددين من أمثال: "جمال الدين الأفغاني"، والشيخ "محمد عبده"، وتلميذه "محمد رشيد رضا".
وما تزال تلك الدعوة- السلفية- تجتذب المزيد من الأتباع والأنصار كل يوم في مواجهة ذلك الطوفان الهائل من البدع والتغريب.
مؤلفاته
ترك الإمام "محمد بن عبد الوهاب" عددًا كبيرًا من الرسائل والكتب التي تدعو إلى التوحيد، وتكشف ما قد لحق به من بدع وشبهات، ومن ذلك:
1 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العباد.
وقد شرحه عدد من العلماء منهم:
- "أحمد بن حسن النجدي" بعنوان "الدر النضيد".
- و"حامد بن محمد بن حسن" بعنوان "فتح الله الحميد المجيد".
- و"عبد الرحمن بن حسن قصيلة" بعنوان "فتح المجيد".
2 - كشف الشبهات من التوحيد.
3 - تفسير الشهادة.
4 - رسالة في مبحث الاجتهاد والتقليد والاختلاف بينهما.
5 - الكبائر.
6 - مسائل خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما عليه أهل الجاهلية.
7 - فضل الإسلام.
8 - السيرة: وهو مختصر من "سيرة ابن هشام".
9 - نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين.
10- رسالة في الاعتقاد وفي التوسل إلى الله.
11- أصول الإسلام.
12- أصول الإيمان.
*من مصادر الدراسة
- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان- ترجمة: د. عمر صابر عبد الجليل- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة (1415هـ = 1995م)- (القسم التاسع).
- زعماء الإصلاح في العصر الحديث: أحمد أمين- مكتبة النهضة المصرية- القاهرة (1368هـ = 1948م).
- عصر محمد علي: عبد الرحمن الرافعي- (مكتبة الأسرة: 2000م)- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة (1421هـ = 2000م).
==============(33/163)
(33/164)
بعث وتجديد السلفية فلسفيا
2003/08/02
حسام تمام
د. مصطفى حلمي
ربما لم يُظلم في عالم الفكر والفلسفة مصطلح كما ظُلمت السلفية؛ فقد ظلت في الدرس الفلسفي والوعي الثقافي العربي لزمن طويل عنوانا على الرجعية والتخلف؛ في الوقت الذي ظلت فيه -وهذه هي المفارقة- عقيدة عموم مسلمي أهل السنة والقاعدة الأساسية لمعظم حركات التجديد والإصلاح الإسلامية في العصر الحديث!!
وربما وجدت السلفية من يتبناها ويجدد فيها ويدافع عنها دعويا وحركيا؛ لكنها لم تجد من يعكف على خدمتها ويجددها فلسفيا في العصر الحديث إلا قليلا، ومن هؤلاء القليل وعلى رأسهم يأتي الدكتور مصطفى حلمي (وُلد 10-11-1932م) أستاذ الفلسفة الإسلامية الذي يمكن أن يعد صاحب أهم الدراسات الفلسفية عن السلفية في العالم العربي.
السيرة العلمية
لا نستطيع الحديث عن جهود الدكتور مصطفى حلمي دون استعراض سيرته العلمية التي لن تنفصل عن مشروعه الفكري؛ فقد توجه الرجل لدراسة الفلسفة عن قناعة ورغبة في خدمة العقيدة الإسلامية فتخصص فيها متأخرا؛ إذ حصل على ليسانس الآداب في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع من كلية الآداب جامعة الإسكندرية (عام 1960)، وكان قد قارب الثلاثين، ثم أكمل رحلته العلمية فحصل على درجة الماجستير من الكلية نفسها عام 1967 عن: "الإمامة (الخلافة) عند أهل السنة والجماعة"، ثم حصل على درجة الدكتوراة من الكلية نفسها 1971م، وكانت عن "موقف المدرسة السلفية من التصوف منذ بدايته حتى العصر الحديث".
بعد ذلك أخذ طريق العمل الأكاديمي؛ فعُين مدرسا للفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة 1972م، وظل فيها إلى أن أحيل للتقاعد أستاذا غير متفرغ بعد بلوغه السبعين في العام الماضي (2002)، وفي هذه الأثناء أعير لأكثر من جامعة إسلامية؛ فعمل بتدريس الفلسفة الإسلامية في جامعة الرياض (الملك سعود حاليا) من 1972 إلى 1980. ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية العالمية في باكستان من 1986 - 1987، ثم جامعة أم القرى بمكة المكرمة من 1987 إلى 1992م.
مشروع للدفاع عن أهل السنة
أما إذا تحدثنا عن مشروعه الفكري فيمكن القول إن منطلقه هو الدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة الخالصة النقية من الانحراف والزيغ، ومجاله هو الفلسفة، ومحاوره خمسة هي: السلفية، والتصوف، والفكر السياسي الإسلامي، وأسلمة العلوم، والغزو الثقافي، وقدم فيه نحو 30 كتابا ما بين تأليف وتحقيق؛ لا يخلو أي منها من إضافة وتجديد بدرجات متفاوتة، كان أهم جهوده على الإطلاق وهي تعد إبداعا في الفلسفة الإسلامية المعاصرة دراساته عن السلفية والتي كانت نقلة في مجال مناهج دراسة الفلسفة الإسلامية في القرن الماضي (العشرين)، ونال عنها جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية ( عام 1987).
السلفية.. المفترى عليها
كانت السلفية كلمة سيئة السمعة على المستوى الفلسفي؛ فكانت مستبعدة منه تماما، وكانت مناهج دراسة الفلسفة الإسلامية في جامعات العالم الإسلامي -مثلها مثل الجامعات الأوربية- تقتصر على الفرق الكلامية المختلفة عن مذهب أهل السنة والحديث وعلى رأسها المعتزلة، أو تهتم بالبحث عن الصلات بين معتقدات هذه الفرق وبين المصادر الخارجية من عقائد وأديان وفلسفات يونانية وفارسية.. ولم يكن الدرس الفلسفي ومناهجه يُعنى بالسلفية أو أهل السنة والحديث، وكذلك لم ير لديهم ما يستحق الدراسة باعتبار أن السلفية ضد العقل بالأساس؛ ومن ثم فليس فيها جانب عقلي فلسفي يستحق الدراسة.
كما كان مفهوم السلفية نفسه مختلطا في الفكر الإسلامي الحديث، ويختلط فيه المنهج والنموذج بالمذهب الذي يتبنى آراء فقهية بعينها وبجماعات تنسب نفسها إلى السلفية، كما كانت السلفية في الوعي الثقافي قرينة للرجعية، وضد التقدم، وذلك بتأثير الرؤية الغربية التي أصّلت مبدأ النظر إلى السلفية كمرادف للتأخر والرجعية والعداء للتحضر والعقلانية، ثم جاءت كتابات مصطفى حلمي عن السلفية؛ لتحدث ما يمكن أن نعده انقلابا أعاد رسم الصورة السلفية في الفكر والفلسفة والثقافة الإسلامية العامة. وله في هذا المجال ثلاثة كتب رئيسية.
الكتاب الأول هو "منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين (علم الكلام)"، وفيه يكشف عن خطأ النظرة الفلسفية السائدة التي تقصر "علم الكلام" على الفرق الكلامية الخارجة عن أهل السنة والحديث، ويتحدث المؤلف عن علم كلام سني غير علم الكلام البدعي الذي هاجمه ورفضه أئمة أهل السنة والحديث، وهذا العلم هو المتعلق بالجانب العقلي في النصوص الدينية والذي سماه الإمام السفاريني "علم التوحيد"، وأصل لهذه الفكرة التي تقوم على أن النظر عند أهل السنة والحديث للنصوص الدينية كان باعتبارها نصوصا عقلية شرعية، وأن هذا النظر لا يتعارض فيه العقل مع النقل، وأبرز هذه الرؤية من خلال دراسة وافية لمنهج ابن تيمية أحد أعلام أهل السنة والحديث والذي يرفض تعارض النصوص الشرعية مع الأدلة العقلية، ويضع الشرع ضد البدعة وليس العقل.(33/165)
فى هذا الكتاب الرائد قدم دراسة شاملة أبرز فيها جوانب ومعالم علم الكلام السني غير البدعي (والذي سماه علم أصول الدين) عند أئمة علوم الحديث وأهل السنة مثل الحسن البصري وسعيد بن المسيب وابن قتيبة والدارمي وابن حنبل وبقية الأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم... وغيرهم ممن كانوا دائما محل اتهام بمعاداة العقل وموضع رفض من أهل الفلسفة.
وفي كتابه "قواعد المنهج السلفي في الفكر الإسلامي" قدَّم دراسة جديدة لقواعد المنهج السلفي وفق التصور الإسلامي النابع من العقيدة كما يفهمها أهل السنة، وأجملها في ثلاث قواعد هي: تقديم الشرع على العقل، ورفض التأويل (وهو ما تختلف به عن الأشعرية التي تلتقي بها تحت اسم أهل السنة والجماعة)، والاستدلال بالآيات القرانية، وفيه يكشف أن السلفية ليست مرحلة زمنية فقط ولا مذهبا يتبنى آراء فقهية بعينها؛ بل هي نموذج ومثال ومنهج، وتعني الشمول والأصالة والتقدم والتحضر، وكانت مرادفا وشرطا للنهضة في جميع عصور الحضارة الإسلامية، ويشرح أن اتباع المنهج السلفي يعني "الارتفاع" إلى مستوى السلف في فهم العقيدة الإسلامية استيعابا وتنفيذا، وليس "الرجوع" إلى زمنهم بوسائله وأدواته، أي أن الاتباع في "القيم" التي حققوها وعاشوا من أجلها لا "الوسائل" التي استخدموها.
أما في كتاب "السلفية بين العقيدة الإسلامية والفلسفة الغربية" فقد قدم د. مصطفى حلمي دراسة مفصلة يفرق فيها بين السلفية في الفكر الإسلامي وتعني الازدهار والشمول والأصالة والتقدم والتحضر، والسلفية في الفكر الغربي كرجعية تؤدي لتخلف المجتمعات الغربية، ويقضي على قدرتها على النهوض. وقدم السلفية في هذا الكتاب كأساس لمواجهة كل مشروعات التغريب الفكري، كما قدم فيه رؤيته السلفية للخروج من أسر المنهج الغربي في دراسة التاريخ والنظر إليه كماض وليس كفكرة.
وقد أعادت هذه الكتب الثلاث الاعتبار إلى السلفية؛ فجددتها على المستوى الفلسفي بما أفسح لها المجال في مناهج دراسة الفلسفة في الجامعات العربية؛ فكانت أول مقرر لها في مناهج دراسة الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم المصرية، كما حسنت صورتها على المستوى الثقافي، وبثت في نفوس أنصارها قوة معنوية في التصدي للانتقادات العلمانية الموجهة للسلفية والتيارات الإسلامية الحديثة التي قامت عليها.
ابن تيمية مجددا
وفي كل دراساته عن السلفية كان د. مصطفى حلمي يقدم شيخ الإسلام ابن تيمية وأفكاره وكتاباته كنموذج؛ باعتباره أكثر أئمة أهل السنة والحديث تجسيدا للمنهج السلفي في صورته التجديدية والأصلية في الوقت نفسه. وإذا كان الراحل د. محمد رشاد سالم أول من أدخل ابن تيمية وعرَّف به في مصر؛ فإن د. مصطفى حلمي صار الحجة في كل ما يتصل بابن تيمية، والمرجع فيه على المستوى الفلسفي؛ فهو الذي قام بتحقيق ودراسة العمل الضخم "نظريات ابن تيمية في السياسة والاجتماع" للمستشرق الفرنسي هنري لاوست الذي يعد أهم من تخصصوا في ابن تيمية وأكثر المستشرقين إنصافا له. كما كتب عنه كتابي: "ابن تيمية والتصوف"، و"معرفة الله وطريق الوصول إليه عند ابن تيمية".. وكان النموذج الأول الذي قدمه كممثل لأهل السنة والحديث في كل الدراسات الفلسفية التي قدمها (السلفية/علم الكلام/التصوف/الخلافة).
الطريق إلى تصوف سني
وقد انصب جهده في مجال التصوف على إعادته إلى الوجهة السنية، وعقد مصالحة بين السلفية والتصوف؛ فقام بنقد التصوف من وجهة نظر أهل السنة والحديث نقدا منهجيا، ثم أعاد تعريفه، وكشف عن الصلة بين التصوف والاتجاه السني السلفي، وسعى إلى إعادة النظر إلى التصوف في سياقه التاريخي؛ بحيث يفك الاشتباك بينه وبين المدرسة السلفية ليقدم تصوفا سنيا غير بدعي، وقدم في هذا عدة مؤلفات هي: التصوف والاتجاه السلفي في العصر الحديث، وأعمال القلوب بين علماء السنة والصوفية، مع المسلمين الأوائل في نظرتهم للحياة والقيم، ابن تيمية والتصوف، ومعرفة الله وطريق الوصول إليه عند ابن تيمية.
ويمكن القول: إن عمله في هذا المجال الذي بدأه مبكرا منذ أطروحته للدكتوراة كان محاولة لرصد أصول التصوف عن أهل السنة والحديث، ووضع قواعد سنية للتصوف تعيد وصل الاتجاهين بعد أن افترقا قرونا.
في الفكر السياسي الإسلامي
واهتم د. مصطفى حلمي بقضية الخلافة أو الإمامة كواحدة من أهم قضايا الفكر السياسي الإسلامي، وكانت البداية في رسالته للماجستير "فكرة الإمامة عند أهل السنة والجماعة" التي كانت أول دراسة شاملة لنظام الخلافة عن علماء وأئمة أهل السنة والجماعة، وجاءت مكملة لرسالة أخرى قدمها عن الخلافة عند الشيعة الدكتور أحمد صبحي، فأكملت دراسة نظام الخلافة عند اتجاهات الفكر السياسي الإسلامي، وكانت جديدة في وقتها وأشبه بالمغامرة؛ حيث نوقشت (1967) أثناء الحكم الناصري وقت أن كان الحديث عن الخلافة يجلب الأذى لأصحابه حتى ولو كان حديثا أكاديميا. وقد قدم فيها كتابيه: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ونظام الخلافة بين أهل السنة والشيعة.(33/166)
ثم أكمل دراسته للموضوع بتحقيق ودراسة كتاب "غياث الأمم في التياث الظلم" لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني؛ وهو أحد أهم كتب الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي، وأهم ما فيه التأسيس لنظرية الخروج على الإمام الجائر، كما حقق كتاب شيخ الإسلام مصطفى صبري آخر شيوخ الدولة العثمانية: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"، وقدم له دراسة شاملة، وأصدره بعنوان "الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية"، وهو واحد من أهم الكتب السياسية الحديثة في مسألة الخلافة، وأول كتاب كشف حقيقة سقوط الخلافة العثمانية، وكشف شخصية كمال أتاتورك الحقيقية، وكان أحد كتابين يُتداولان سرًّا في تركيا (مع كتاب: الرجل الصنم) حيث منعته الحكومة العلمانية، وهاجمته وسائل إعلامها.
أسلمة العلوم.. رؤية أخرى
واهتم د. مصطفى حلمي بهذه الفكرة مبكرا، قبل أن تنتشر في الأدبيات الإسلامية؛ فأصدر في الثمانينيات كتابه "مناهج البحث في العلوم الإنسانية بين علماء الإسلام وفلاسفة الغرب".
وقدَّم في هذا الكتاب محاولة لتأصيل مناهج دراسة العلوم الإنسانية من منظور إسلامي، وقيمة الكتاب ليست في طرحه الذي اقتصر على أفكار وأسس عامة؛ وإنما في كون دراسة أسلمة العلوم ضمن مقررات الفلسفة الإسلامية في جامعة عربية جديدة وقتها، مثل جامعة القاهرة، وقد تأثر بها أساتذة آخرون في أقسام الفلسفة بالجامعات المصرية، مثل د/محمد أبو ريان، ود/حسن الشرقاوي (فى كلية الآداب جامعة الإسكندرية).
غير أن أهم ما تميز به د. مصطفى حلمي عن غيره من دعاة أسلمة العلوم هو التزامه الصارم بأصول وقواعد منهج أهل السنة والحديث بعيدا عن أفكار الاتجاهات الاعتزالية التي أثَّرت في أفكار عدد من دعاة أسلمة المعرفة.
مقاومة التغريب والغزو الثقافي
واحتلت هذه القضية مساحة كبيرة من اهتمامه، وأصدر فيها عدة كتب تمثل في مجموعها رؤية متكاملة في مواجهة الغزو الثقافي وعمليات التغريب التي يتعرض لها مسلمو اليوم، وتظهر هذه الرؤية متكاملة في كتابه "الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافي"؛ فقدم فيها تعريفا بالمذاهب والفلسفات والأديان المعاصرة ونقدها وبيان موقف الإسلام منها، وكشف حقيقتها للأجيال المسلمة، وصدر له في هذا كتب: الإسلام والمذاهب الفلسفية المعاصرة، الإسلام والأديان- دراسة مقارنة، والأخلاق بين فلاسفة الغرب وعلماء الإسلام، الرؤية الإسلامية للفلسفات والمذاهب الغربية، وتؤكد استعلاء الإسلام على غيره من مذاهب وفلسفات وأديان.
وفى هذا قدم دراسات متناثرة عن أفكار علي عزت بيجوفيتش، ورينيه جينو، وروجيه دوباسكويه، ومراد هوفمان، ولكن كان أهم ما كتبه في ذلك كتابه عن روجيه جارودي "إسلام جارودي بين الحقيقة والافتراء"؛ حيث كان من أوائل من اشتغلوا بفكر "جارودي" لتدعيم آرائه الناقدة للغرب ومشروعاته السياسية ومذاهبه الفكرية، ولنقد وتصويب بعض الأخطاء التي وقع فيها فيما يخص الفكر والعقيدة الإسلامية، وربما كان هذا الكتاب الأول في بابه.
وكعادة علماء السلف في كتابة رسائل وملخصات لتحصين المسلم وبنائه ثقافيا وعقائديا كتب د. مصطفى حلمي عدة رسائل عن: "كيف نصون الهوية الإسلامية في عصر العولمة؟"، و"أضواء على ثقافة المسلم المعاصر"، وهو مجموعة بحوث تتناول ثقافة المسلم المعاصر في نواحيها العقدية والتعبدية والثقافية والحضارية والسلوكية، و"الموجز في العقيدة الإسلامية" وهو مختصر مفيد لواحد من أهم كتب العقيدة (للإمام السفاريني).
النشأة والحياة
ولا يمكن الحديث عن إنتاج الدكتور مصطفى حلمي في الفلسفة دون أن نتحدث عن نشأته وتربيته وشيوخه الذين أثروا في تكوينه الفكري؛ فقد نشأ في أسرة متدينة بالفطرة، وكان أول من تأثر به والده الذي كان شيخا ديِّنًا بذَرَ فيه بذور التدين؛ فعرف التدين والالتزام مبكرا، رغم أجواء التضييق على الإسلام في الخمسينيات والستينيات أثناء الحكم الناصري والمد الاشتراكي، وقبل تصاعد الصحوة الإسلامية في عقد السبعينيات. وقد لا يعرف الكثيرون أن الدكتور مصطفى كان جزءا من الحركة الإسلامية التي تكونت في نهاية الستينيات وعملت بشكل مستقل عن الإخوان المسلمين في أثناء سجنهم، وكانت أقرب إلى التيار العام الذي استوعب كل الاتجاهات الإسلامية، مثل الجمعية الشرعية، وأنصار السنة، والإخوان... منها إلى الحركة المحددة فكريا وتنظيميا.
ومن الطريف أن أول وأهم أساتذته كان واحدا من كبار التجار في مدينة الإسكندرية وهو الشيخ محمد رشاد غانم الذي كان ينتمي إلى جماعة أنصار السنة، وكانت لديه مكتبة ضخمة جدا جمعها من سفرياته للتجارة في كثير من أنحاء العالم، وعنه أخذ علوم التوحيد التي صاغته وشكلته فيما بعد. أما في دراسته وحياته الأكاديمية فقد أثر فيه عدد من أقطاب الفلسفة الإسلامية وتاريخ العلوم الإسلامية، منهم: علي سامي النشار، وثابت الفندي، ومحمد علي أبو ريان، وأحمد صبري..(33/167)
ومنذ زمن تعودت على زيارة هذا العالم الجليل، فلفت نظري أنه لا يكتب عن علماء السلف وأئمتهم فحسب بل ويتمثلهم ويلتزم بأسلوب حياتهم؛ فهو يبدأ يومه مع صلاة الفجر وينهيه بعد صلاة العشاء، ولا يبدأ حديثه إلا بعد حمد الله والثناء عليه وخطبة الحاجة حتى ولو كان تعليقا بسيطا ولا ينهيه إلا بدعاء ختام المجلس، ويتحاشى أن يتصدر المجالس، ولا يحفل بالظهور في وسائل الإعلام بل ويتحاشاها، كما يتحاشى كل ما يقرب إلى السلطة والسلطان والنفوذ، وقد لا يرضيه أن أكتب عن شخصه، وربما اعْتَبَرَهُ إظهارا لعمل حرص على ستره، لكن العذر في أنه في غيبة أهل العلم تخلو الساحة للمدعين، وأن من اشتهروا ليس بالضرورة الأفضل، وقديما قالوا: الليث أفقه من مالك، ولكن خذله تلامذته!.
===============(33/168)
(33/169)
التجديد
بقلم/ أ.د.سيف الدين عبد الفتّاح
أستاذ النظرية السياسية ـ جامعة القاهرة
يعتبر مفهوم التجديد من أكثر المفاهيم التي تنازعتها التيارات الثقافية والفكرية المختلفة، وقد انعكس هذا التنازع على المفهوم ذاته من حيث معناه ودلالاته، وواقعيًا يصل الباحثون لمُسلَّمة هي أن التجديد -على المستوى النظامي والحركي- قد تُخفق أهم جهوده نظرًا لعدم وضوح التأصيل الفكري والمنهجي لعملية التجديد في تأكيد واضح على أهمية الربط بين النظرية والفاعلية في مجال التجديد الحضاري.
والتجديد في اللغة العربية من أصل الفعل "تجدد" أي صار جديدًا، جدده أي صيّره جديدًا وكذلك أجدّه واستجده، وكذلك سُمِّي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديدًا، ومن خلال هذه المعاني اللغوية يمكن القول: إن التجديد في الأصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصورًا تجتمع فيه ثلاثة معانٍ متصلة:
أ- أن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجودًا وقائمًا وللناس به عهد.
ب- أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديمًا.
جـ- أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق.
ولقد استخدمت كلمة جديد - وليس لفظ التجديد- في القرآن الكريم بمعنى البعث والإحياء والإعادة -غالبًا للخلق-، وكذلك أشارت السنة النبوية لمفهوم التجديد من خلال المعاني السابقة المتصلة: الخلق- الضعف أو الموت-الإعادة والإحياء. ويعتبر حديث التجديد [عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" رواه أبو داود]: من أهم الإشارات إلى مفهوم التجديد في السنة النبوية، وقد تعلقت بهذا الحديث مجموعة من الأفكار أهمها:
1…- …تجديد الدين: هو في حقيقته تجديد وإحياء وإصلاح لعلاقة المسلمين بالدين والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه؛ لتحقيق العمارة الحضارية وتجديد حال المسلمين ولا يعني إطلاقا تبديلاً في الدين أو الشرع ذاته.
2…- …زمن التجديد: اعتبر بعض الباحثين أن الإشارة الواردة في الحديث عن زمن التجديد على رأس كل مائة إنما هي دلالة على حقيقة استمرارية عملية التجديد، وتقارب زمانه بحيث يصبح عملية تواصل وتوريث.
3…- …المجدِّد: اجتهد العلماء في توصيف وتحديد المجدد على رأس كل مائة سنة، لكن البعض يرى أن المجدد يقصد به الفرد أو الجماعة التي تحمل لواء التجديد في هذا العصر أو ذاك، ويجوز تفرقهم في البلاد، ويعرفهم ابن كثير بأنهم حملة العلم في كل عصر.
ويعد التجديد مفهومًا مناقضاً لمفهوم التقليد، ويقصد بالتقليد محاكاة الماضي بكل أشكاله وشكلياته، ولقد أدى التقليد إلى انفصال بين الوحي والعقل، وكأنهما متضادان لا يمكن الجمع بينهما، وبناءً على ذلك فإن عملية التجديد تعتبر ضرورة لإعادة ضبط العلاقة بين الوحي والعقل حتى لا تضطرب الأمور فيصير التجديد نابعًا من الخارج (التقليد الغربي) أو مرتدًا نحو الماضي لمحاولة إعادته (تقديس التراث)، ولكنها تعني أن العقل هدفه تكريم الإنسان وأساس تحمله للأمانة وقاعدة التكليف والالتزام بقواعد الاستخلاف.
ويتيح الربط بين فكرة التجديد والخبرة التاريخية الغربية أبعادًا جديدة؛ حيث يعتبر مفهوم التجديد لدى الغرب إفرازاً لصراع حاد بين الكنيسة من جانب وسلطة المعرفة والعلم والعقل من جانب آخر، مما دفع الأخيرة للاتجاه نحو تجاوز كل النظريات الدينية تحت مسمى التجديد.
يرتكز مفهوم التجديد في الفكر الغربي على أساسين:
أ- لا تُرى عملية التجديد إلا بمنظور التكيف في إطار من نسبية القيم وغياب العلاقة الواضحة بين الثابت والمتغير؛ إذ تعتبر كل قيمة قابلة للإصابة بالتبدل والتحول، وعلى الإنسان أن يستجيب لهذه التغيرات بما أسمته التكيف، ولم يطرح الفكر الغربي قواعد لعملية التجديد وحدوده وغاياته ومقاصده.
ب- يغلب على مفهوم التجديد في الفكر الغربي عملية التجاوز المستمرة للماضي أو حتى الواقع الراهن؛ من خلال مفهوم الثورة والذي يشير إلى التغيير الجذري والانقلاب في وضعية المجتمع.
وتبدو فكرة التجاوز مرتبطة بالفكر الغربي الذي يقوم على نفي وجود مصدر معرفي مستقل عن المصدر المعرفي البشري المبني على الواقع المشاهَد أو المحسوس المادي.
ومقارنة بالفكر الغربي القائم على تجاوز الماضي وغياب المعايير الثابتة للتجديد، فإن مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي: يعني العودة إلى الأصول وإحياءها في حياة الإنسان المسلم؛ بما يمكن من إحياء ما اندرس، وتقويم ما انحرف، ومواجهة الحوادث والوقائع المتجددة، من خلال فهمها وإعادة قراءتها تمثلاً للأمر الإلهي المستمر بالقراءة: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق:1).(33/170)
وفي الواقع يرتبط "مفهوم التجديد" بشبكة من المفاهيم النظرية المتعلقة بالتأصيل النظري للمفهوم، والمفاهيم الحركية المتعلقة بالممارسة الفعلية لعملية التجديد. على سبيل المثال: يتشابك مفهوم "التجديد" مع مفهومي "الأصالة والتراث"؛ حيث يقصد بالأصالة تأكيد الهوية والوعي بالتراث دون تقليد جامد، وتلك المقاصد جزء من غايات التجديد. كما يشتبك "التجديد" مع مفهوم "التغريب" الذي يعبر عن عملية النقل الفكري من الغرب، وهو ما قد يحدث تحت دعوى التجديد.
وعلى صعيد المفاهيم الحركية، تطرح مفاهيم مثل "التقدم" و"التحديث" و"التطور" و"التقنية" و"النهضة" لتعبر عن رؤية غربية لعملية التجديد نابعة من الخبر التاريخية الغربية، ومستهدفة لربط عملية التجديد في كل الحضارات بالحضارة الغربية، باعتبارها قمة التقدم وهدفاً للدول الساعية نحو التنمية، كما تظهر مفاهيم مثل "الإصلاح" و"الإحياء" وهي نابعة من الرؤية الإسلامية لعملية التجديد، حيث التجديد هو إحياء لنموذج حضاري وجد من قبل ولم تحدث تجاهه عمليات التجاوز والخلاص، ويتضح مما سبق مدى الارتباط بين "مفهوم التجديد" فكرًا وممارسة وبين الخبرة التاريخية والمرجعية الكبرى النهائية للمجتمع
==============(33/171)
(33/172)
فلسفة "الجابري" بين الثقافي والسياسي
2004/01/24
…
جواد الشقوري**
غلاف مجلة مواقف
كيف يتسنى لفيلسوف يجمع بين الاشتغال المعرفي/الفلسفي والعمل السياسي/ الحزبي أن يؤسس لمقاربات فيها قدر معقول من التجرد والموضوعية؟! إننا وإن كنا منذ البداية نعتقد أن الموضوعية الوحيدة في أي اشتغال معرفي -كما يقول بعض علماء الاجتماع- هي أن يعتقد الباحث أنه غير موضوعي؛ فإن هذا لن يمنعنا من القول بأنه ليس من العيب أن يكون المثقف (بالمعنى العام والشامل) منخرطا في قضايا سياسية وحزبية، إذا كان هذا المثقف يستطيع أن يضع بينه وبين الأحداث "مسافة" معينة تمكنه من رؤية الأمور على حقيقتها، أو على الأقل أن يرى شيئا من حقيقتها؛ إذ المطلوب من المثقف الحزبي أن تكون لديه ضمانات معرفية ومنهجية تجعله يطمئن إلى "حتمية" الوصول إلى صياغة مقاربات تقترب من ملامسة الإشكاليات والظواهر المختلفة.
إن المشكلة الأساسية تحصل عندما تكون الاختيارات السياسية/الحزبية بمنزلة المنظار الذي من خلاله ينظر المثقف إلى موضوعاته ذات الطابع المعرفي؛ فتتلون المقاربات والظواهر بلون هذه الاختيارات القبلية، ومن ثم تتحول المعرفة إلى أيديولوجيا.
ومن بين المثقفين العرب الذين اشتغلوا بالثقافة والسياسة في آن واحد الفيلسوف العربي محمد عابد الجابري؛ إذ تأرجح طوال مسيرته الفلسفية بين التعمق في قضايا التراث العربي والعقل العربي.. وبين الانخراط في العمل السياسي الحزبي. وكثيرا ما مال الجابري إلى اعتقاد؛ مفاده أن المثقف الحقيقي ينبغي أن يظل دائما "فوق" السياسي؛ أي أن يكون المثقف هو الذي يوجه السياسي، وأن تكون السياسات التي يبنيها السياسي مبنية على ما وصل إليه المثقف من تأسيسات نظرية ومن تقديرات للمواقف.
إن المثقف المحنك تماشيا مع هذه الرؤية هو الذي يحصر همه في فهم الظواهر والأحداث، أما السياسي الناجح فهو الذي يتلقف ذلك الفهم؛ فيحوله إلى خطط وبرامج من أجل التغيير؛ فرسالة المثقف هي الفهم، ورسالة السياسي هي التغيير. وعندما يكون الإنسان مثقفا وسياسيا في نفس الوقت فإن عملية الجمع بين الفهم السليم والتغيير الناجح تظل معادلة صعبة لا يقوى على حلها إلا من فهم حدود كل من الثقافي والسياسي، وأدرك ما بينهما من جدلية.
وقد أصدر الجابري مؤخرا عددا جديدا من سلسلة: "مواقف إضاءات وشهادات"؛ هذه السلسلة عبارة عن كتب، وهي أقرب إلى جنس السيرة الذاتية منها إلى الكتابات الأكاديمية. وقد ارتأينا أن يقتصر عرضنا على ما جاء في العدد 22 من هذه السلسلة؛ بسبب ما تضمنه من مقاربات لبعض الأسئلة المعرفية والثقافية التي طالما نذر الجابري نفسه وكرس حياته لخدمتها. ومجمل ما جاء في هذه المقاربات هو جزء من بعض الحوارات التي أجريت مؤخرا مع الجابري. وقد حاولنا في هذه المساهمة أن نرتب تلكم المقاربات المنثورة في ثنايا الكتاب كله تحت عناوين كبيرة تختصر الاتجاه العام للأفكار.
في بناء العلاقة بين ثلاثي: الدين والسياسة والعلم
للجابري رؤية للدين وعلاقته بالسياسة تختلف عن رؤية معظم الاتجاهات "الحداثية" على طول عالمنا العربي؛ فالدين بالنسبة للجابري ينبغي ألا يطرح كشيء يمزق الهوية. ويعتقد أن الذين يطرحون الدين كمشكلة في المغرب -مثلا- يبالغون كثيرا! فالدين في تصور الجابري قد يكون مشكلة عندما يكون هناك تعدد ديني أو مذهبي أو طائفي.
وإذا ما انتقلنا إلى الجانب المتعلق بعلاقة الدين بالسياسة يقرر الجابري أن المطلوب في المجال السياسي في أي بلد إسلامي هو الخلفية الإسلامية، وهي -كما يقول- لا تتنافى مطلقا مع أي منظور حداثي وتقدمي.
أما عن الإشكالية القديمة المتعلقة بعلاقة الدين بالعلم؛ فيرى الجابري أنه لم يكن في الإسلام صراع بين الدين والعلم، كما كان حال أوربا. ولم يحرم علماء الدين عندنا القول بدوران الكرة الأرضية، بينما حرمها رجال الكنيسة!
ولتبيان مركزية الدين في تاريخنا أشار الجابري إلى أنه عندما مورست السياسة في الدين -في تاريخنا- كانت المصطلحات السياسية غير موجودة، وأن المفاهيم الدينية هي التي كانت سائدة. ويصر الجابري على القول بأن الصراع في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية كان بين الفلسفة والسياسة.
في التعامل السليم مع قضايا التراث
الجابري بدون منازع هو من بين الباحثين العرب القلائل الذين كرسوا حياتهم الفكرية للحفر في قضايا التراث؛ هذا الحفر أوصله إلى ملاحظة مؤداها أن الفكر العربي -من حيث تعامله مع التراث- قد سلك طريقين منذ القرن التاسع عشر: الأول الدعوة إلى سحب الماضي وإلغائه وتبني الحداثة كما هي، وهناك في المقابل الدعوة إلى فعل عكس ذلك. وهذان الاتجاهان في رأي الفيلسوف المغربي وصلا إلى طريق مسدود.(33/173)
يقول الجابري في هذا الصدد: إن من غير الممكن صناعة بشر آخر بتراث آخر وبمفاهيم أخرى؛ فأوربا عندما استفادت من التجربة الحضارية العربية بكل جوانبها، أعادت بناءها من داخل أوربا نفسها. ويوضح الأمر قائلا: لقد استرجعوا ابن رشد ليس كما نعرفه نحن، بل كما صنعوه هم. ونفس الشيء يقال عن ابن سينا.. إن الهوة التي تفصل الماضي والمستقبل الذي نريده لنعيش عالمنا لا يمكن أن تردم إلا بجسور نبنيها من داخلنا بأدوات جديدة، وبالتفتح على كل ما يمكن أن يساعدنا.
وعن الذين يدعون إلى طي صفحة الماضي نهائيا يقول لهم الجابري: إن "الصفحات المطوية" ستبقى في الكتاب، ويجب أن تبقى لتفتح من جديد، ولنصحح قراءتها من جديد.
وأمام هذا النوع من التعامل مع الماضي/التراث حدد الجابري واجب الفكر في هذه المرحلة في التخلي عن منطق "إما.. وإما.."؛ الأمر الذي يقتضي -في رأيه- بذل جهد فكري وعملي من أجل التغلب الجدلي على مثل هذه الوضعية.
في علاقة المثقف بالسلطة والسياسة
عندما يترك المثقف همومه الشخصية وينخرط في هموم الآخرين، حينئذ سيكون مثقفا حقيقيا؛ أي عندما يتزوج المثقف -كما يقول الفرنسيون- هموم الوطن وهموم المجموع؛ أي حملها على ظهره! فالمشكلة -في رأي الجابري- تتلخص في أن المثقفين ينطلقون كأشخاص مستقلين؛ إذ إنهم عندما يفكرون كمثقفين ويشرعون للمستقبل؛ فالغالب أنهم لا يعملون كفريق في مختبر؛ بل كل منهم يفكر ويعاني ويعبر عما يفكر ويعاني.
ومن خلال هذه التعبيرات يتكون وعي تام، قد يقوم هؤلاء المثقفون بقيادته. ولهذا السبب فإن السلطة -في نظر الجابري- تخاف دائما من المثقفين. ولتعزيز هذه الفكرة استشهد بمقولة جنرال فرنسي حين قال: "عندما أسمع كلمة مثقف أضع يدي في مسدسي"!
ولما أصر الجابري على القول بأن المثقف/العالم هو الذي يقول الحقيقة للحاكم والمستعصي على الاحتواء نبش في نصوصنا التراثية، وسرد القصة المشهورة التي جرت بين أبي جعفر المنصور وعمرو بن عبيد المعتزلي الذي شارك في الثورة العباسية إلى جانب صديقه أبي جعفر. فلما انتصر العباسيون، وتولى أبو جعفر الحكم نادى على صديقه عمر بن عبيد الذي كان معتزليا طلب منه أن يأتي إليه. فلما جاءه قال له أبو جعفر: أنا أريدك أن تعينني على هذا الأمر وإقامة العدل. فقال له عمرو بن عبيد: "يا أبا جعفر! أغلق بابك في وجه الانتهازيين.. يكون العدل في البلاد قائما بنفسه، فلا تحتاجني". فلما خرج انطلق مسرعا وأبو جعفر ينظر إليه ويقول: "كلهم يمشي رويدا، كلهم يبغي صيدا، غير ابن عبيد"؛ حيث كان الذين يقصدون القصر يتباطئون عند الخروج، ينظرون ذات اليمين وذات الشمال في انتظار "الصلة".. أما عمرو بن عبيد فقد انطلق يجري مسرعا إلى باب القصر دون التفات.
فمن خلال مقاربة الجابري لعلاقة المثقف بالسلطة يمكن الوصول إلى اختصار هذه العلاقة في "القاعدة الجابرية" التي تقول: "لم يحدث في التاريخ أن وجد حاكم مستبد أو ناجح أو فاشل بمفرده. من يدورون حوله من مثقفين وفنيين وغيرهم هم المسئولون إلى حد كبير جدا على الفشل أو على النجاح".
في "وليمة السياسة" أو السياسة في المخيال الجابري
يعد الجابري من الفلاسفة القلائل الذين جمعوا بين الاشتغال الفلسفي والعمل السياسي؛ فرغم إعلانه اعتزال العمل السياسي فإن معظم إنتاجات الجابري الرصينة والعميقة ولدت في الفترة التي سبقت اعتزاله؛ أي تلك الكتابات التي تزامنت مع ممارسته للعمل السياسي/الحزبي.
ويتهم الجابري من طرف الكثيرين بأنه من الصنف الذي يمارس السياسة ويتظاهر بالفلسفة؛ فبدلا من أن يقوم الجابري بنفي هذا "الاتهام" أعلنها بكل وضوح قائلا: أن يتكلم الإنسان السياسة والإيديولوجيا ويعي أنه يفعل ذلك أفضل ألف مرة من أن يدعي أنه لا يمارس السياسة. بل أكثر من ذلك أن الإنسان في تصوره حيوان سياسي بطبعه!
لكن ما هو المخرج الذي سيسلكه الجابري في الإجابة على إشكالية العلاقة بين الكتابة والسياسة؟! يقول الفيلسوف: إن الكتابة -خاصة في الشئون الإنسانية- هي عملية إستراتيجية، والذي يكتب بدون سياسة -أي بدون إستراتيجية- معناه أنه يكتب "إنشاء" في مستوى ما يكتبه الطفل في الفصل الرابع الابتدائي!! إنه مخرج ذكي فيه قدر كبير من المراوغة، لكنه في رأينا غير مقنع.
والجابري ربما يتحدث هنا عن نوع من السياسة، نسجه في مخياله.. وليس عن السياسة التي قال عنها: إنها صارت في المغرب كالولائم والأعراس؛ إذ إن من التقاليد المغربية أن يلتقي الناس في الولائم والأعراس رغم ما يفرق بينهم من ضغوطات سياسية فيجلسون بعضهم إلى جانب بعض.. إلى أن يقول: والآن هاهم يلتقون حول "وليمة السياسة" بنفس الروح!! نعم إنها صورة مجازية رائعة لتقريب مآل السياسة في المغرب، وفي أقطار عربية أخرى.(33/174)
ولم يفت الجابري أن يشير إلى مساعي السلطة لاحتواء وتدجين المثقفين؛ حيث وقف عند بعض تجاربه الشخصية، وذكر أنه في الوقت الذي كان فيه المثقفون والشعراء العرب يتوافدون على المربد ويمدحون ويتوهون كان موقفه الاعتذار عن عدم الذهاب! بل يذكر أنه مرة كتب إليه المسئولون المنظمون لجائزة "صدام حسين" من بغداد (تمنح للأدباء والشعراء).. وأخبروه بأنهم قد رشحوه لها، وطلبوا منه التوقيع على استمارة الترشيح، إلا أنه اعتذر؛ بحجة أن قانون الجائزة لا ينص بالتحديد على الدراسات الفلسفية، وبالتالي فليس من حقه الترشيح لها. فردوا عليه بأنهم سيضيفون إلى بند الدراسات الإنسانية عبارة الدراسات الفلسفية، لكن الجابري اعتذر مع ذلك!!
وقصة رفض مثل هذه الجوائز يرجع -كما يحكي الجابري- إلى السبعينيات، عندما وصله عبر البريد كتاب ضخم من تأليف "أمير إسكندر" بعنوان" صدام حسين". وما لفت نظر الجابري أن يكون مؤلف الكتاب هو كاتبا كان يقرأ له في المجلات المصرية، خاصة مجلة الكاتب التي كانت تقدمية، وكان "أمير" يكتب كتابة تقدمية يسارية؛ فكان الجابري يقرأ له ويقدره. لكن كما يقول الجابري: عندما قرأت ما كتب في ذلك الكتاب، ثم لما علمت الثمن الذي أخذ.. حينئذ اتخذت موقفا من الشخص المعني.. ومنذ ذلك الوقت قررت نهائيا موقفي!
في خطورة تسييس القضايا الفقهية والظواهر الاجتماعية
يميل الجابري إلى الاعتقاد بأن تسييس مجموعة من القضايا يحول دون فهمها.. ومن تجليات هذا التسييس -في رأيه- التصنيف الأيديولوجي عندما يتم التعامل مع الحركة الإسلامية؛ إذ يكون هذا التصنيف في رأي الجابري عقبة أمام فهم الواقع كما هو.
ومن أخطر الأفكار التي ذكرها الجابري في هذا الصدد ما يتعلق بقضايا المرأة وما يصاحبها من معارك مجتمعية -لسنوات عديدة- ولما خرجت في المغرب إلى الوجود ما سمي بـ"مدونة الأسرة" هلل لها كل الفرقاء السياسيين والثقافيين.. وعقب الجابري قائلا: أي فقيه يعرف الفقه كان يمكن له بمفرده ومعه كتبه، وبمعزل عن أي صراع أو خلفيات أن يأتي بتلك النتائج دون أن تخرج عن المجال الديني ولا عن كلام الفقهاء. فالمشكل -كما يقول الجابري- لم يكن مشكلا اجتهاديا فقهيا؛ بل هو تسييس المشكل!!
وانطلاقا من تأملنا فيما قاله الجابري في هذا الكتاب تألمنا لسقوطه في المحذور نفسه الذي حذر منه؛ حيث تعامل مع القضية الفلسطينية من منظور أيديولوجي "سياسوي".. فمن "الغرائب" التي يذكرها الجابري في صدد حديثه عن تجربته كفيلسوف ومثقف في الميدان السياسي وُلوجُه عالمَ السياسة انطلاقا من قضية فلسطين. ففي الستينيات والسبعينيات كان حزب الاتحاد الاشتراكي -حزب الفيلسوف- ممنوعا وصحفه موقوفة.. ومن أجل الممارسة السياسية أنشأ الحزب جريدة "فلسطين".. ومن خلال هذه الجريدة يقول الجابري: مارسنا السياسة، وواصلنا النضال من أجل الديمقراطية؛ حيث كانت هذه الجريدة المختصة فقط بفلسطين، وبأخبارها ومساندة الكفاح.. مركزا للقاء وتبادل الأخبار. ويضيف مؤكدا: كنا نمارس السياسة في المغرب زمن القمع من خلال القضية الفلسطينية!! وفي رأينا بدل أن تكون هذه القضية تكتسي بعدا مبدئيا وإستراتيجيا وتحظى بمركزية في كل تفكير وعمل -خاصة لدى النخب المثقفة- فإنه تم التعامل معها كأنها مسألة وظيفية لتحقيق أغراض ومقاصد معينة. وربما كان هذا المسلك من التعاطي مع القضية الفلسطينية هو الذي يفسر عزوف الكثير من المثقفين الحزبيين عن الاهتمام الفعلي بهذه القضية والانشغال بقضايا قطرية تحددها حدود "دولة التجزئة".
في العلاقة بالآخر.. وضرورة "الكتلة التاريخية"
لم تقتصر مقاربة الجابري لإشكالية "العلاقة بالآخر" على الجانب المتعلق بالتأسيس النظري، بل تعداه إلى مستوى إبداع شكل "الكتلة التاريخية" كتعبير متقدم ورائد لفكرة الاعتراف بالآخر.. وفهمنا من نص الجابري أن لهذه الكتلة سندين اثنين:
سندا تاريخيا: حيث إن فكرة "الكتلة التاريخية" بينت نجاعتها من خلال الثورة الإيرانية؛ حيث قامت بها كتلة تاريخية؛ أي الشعب الإيراني كله: علماء الدين ومجاهدو خلق وأصحاب البازار الذين يمثلون الطبقة الرأسمالية.. لكن -كما يقول الجابري- بعد مرور سنوات من الثورة بدأ التخلص من فصائل شاركت فيها (رئيس الجمهورية الأول، بنو صدر، المرجعيات الدينية ذات التوجه الإصلاحي مثل آية الله شريعاتي وآية الله منتظري...).
سندا واقعيا: وهو أن المجتمع العربي والإسلامي المقسم إلى طوائف وأحزاب لا يمكن لأي فصيل من فصائله -قبيلة كانت أم حزبا سياسيا، أم حركة دينية- أن يقوم بمفرده بالإصلاح المطلوب.
ويعتقد الجابري أن الثورة في الثمانينيات كررت نفس الخطأ الذي ارتكبه القوميون العرب في الخمسينيات والستينيات، وارتكبه اليساريون العرب في الستينيات والسبعينيات.. ويتمثل هذا الخطأ في إقصاء الآخرين.(33/175)
وفي رأي الجابري يعتبر الاعتراف بالاختلاف مقدمة لقبول الآخر.. ولما سئل من بعض الصحفيين الذين احتاروا في أنجع السبل للتعامل مع الحركة الإسلامية رد عليه، قائلا: "إن الحركة الإسلامية ليست بضاعة تباع وتشترى يا أخي!!".
وذكره بأن الاختلاف في الإسلام قاعدة شرعية ومؤسسة.. وأن الحاكم المستبد هو الذي يفكر بهذا المنطق وهو الذي يتساءل: كيف نتعامل مع هؤلاء الذين في رؤوسهم سخونة أو برودة؟!
ولم يقف الجابري عند هذا الحد؛ بل ذهب بعيدا حين قال بالحرف الواحد: إننا نحن من نسمى بالمعاصرين والحداثيين ننسى أننا أقلية، لا نمثل سوى 10%.. ويضيف: وأكثر من ذلك يتناقص عددنا.. الإسلاميون موجودون لأنهم هم الشعب. ثم يتساءل مستغربا: هل سنقول: هم جميعا غير صالحين، ونحن فقط الصالحون؟!!
في مساهمة الفلسفة في عملية الحوار مع الآخر
في الاتجاه نفسه يعتقد الجابري أن الفلسفة التي تضم قطاعات معرفية ضرورية، ليس فقط لفهم النصوص وفكر الآخر؛ بل أيضا لبناء ذهنية الفرد لكي يتعود على التحليل الموضوعي والمنطقي.. ويضيف معتبرا أن الفلسفة تضم قضايا إسلامية مستلهمة من علم الكلام، وهي القضايا التي تتميز بقبول الرأي الآخر، إضافة إلى اكتساب نوع من المرونة والنسبية في رؤية العالم والأشياء، والنظر إلى الشيء الواحد من زوايا متعددة.
فبنية الفلسفة -في تصور الجابري- تقود إلى قبول الآخر. وإذا لم يقتنع المرء بكون الفلسفة كذلك؛ فسيفاجئه الجابري بالقول بأن التطرف ظهر بقوة في كليات العلوم وفي الكليات التي فيها "القولبة الذهنية"!! طبعا لم يسلح الجابري رأيه هذا بالأرقام والمعطيات أو على الأقل أن يقدم تعريفا محددا لما يقصده من كلمة "التطرف". ونقول: ما رأي الجابري في تلك الزمرة من "الحداثيين" المتطرفين الذين تخرجوا في أقسام الفلسفة؟! على أي حال تبقى ملاحظة الجابري جديرة بالعناية، ووجب أخذها بعين الاعتبار.
=============(33/176)
(33/177)
النقيضان
د. جواهر بنت عبدالعزيز آل الشيخ
حينما روى لنا الأديب الكبير عبد الله بن إدريس ذكرياته الأدبية التاريخية حول نادي الرياض الأدبي إبان فترة رئاسته إياه، رأيناها تموج بزخم من العبر التي توجب الاستفادة الحقّة منها، ومن أبرز ما لفت نظري فيها هي قصة ذلك الشاب الصغير الذي جاء يعرض قصيدته الحداثية على النقاد في اثنينية النادي التي يعرض فيها الشباب الموهوبون إبداعاتهم الشعرية والنثرية أمام كبار المتخصصين ليقوموا بنقدها.
إلى هنا يعدّ الأمر إيجابياً يحسب للنادي، وللمسؤولين فيه، أو المتطوعين لخدمته، ولكن المفاجأة الأليمة أن ذلك الفتى حينما قرأ قصيدته وجدها النقاد تحوي جرأة على الخالق جل وعلا وكذلك على رسول صلى الله عليه وسلم فغضبوا عليه غضباً شديداً وطردوه من النادي.
ثم انتشر الخبر بعد ذلك انتشار النار في الهشيم، بل وُجد هناك من صعّده وحرّض على النادي وأهله من وجهة نظر دينية، وكل ذلك حدث ورئيس النادي غير موجود في الرياض؛ لأنه كان أثناءها في اثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجة بغرض تكريمه أدبياً، وإلاّ فالإدريس هو الأقدر على احتواء هذا الموقف لخبرته وحنكته ووعيه الإداري والنقدي، ولكنه حينما عاد وجد أن الخرق قد اتسع على الراقع وأن الأمر قد انفلت من يده، حيث حُقّق مع النادي ثم حُكم على الفتى قائل القصيدة الحداثية بالسجن عشر سنوات! عسى في الأمر طهوراً له.
ليس لي اعتراض على هذا الحكم رغم شدّته، لأني لم أحضر الموقف، ولم اطّلع على القصيدة، ولكن الذي أودّ قوله إن القصائد الحداثية تمتاز عادة بالغموض الذي قد يكون حالكاً إلى حدّ أنه لا يُفهم المراد منه، والدليل أن تلك القصيدة قد مرّت على مشرف الإثنينية دون أن يلحظها، فهل كان الشاب يقصد حقاً الخطأ في حق الذات الإلهية والدين الإسلامي، أم أنه تقليد لبعض تخبطات الحداثيين الهوجاء؟ ولا سيمّا أن تلك الآونة كانت هي عزّ الحداثة في مجتمعنا المسلم.
وبالمناسبة: فالحداثة التيار المدمّر في الأدب والنقد أسلوباً ومضموناً والمتجرئ على الدين واللغة والخلق، هي غير الأدب الحديث الذي يعدّ امتداداً لأدبنا العربي الإيجابي، فليس كل أدب حديث: (حداثة)، وإلاّ فإننا بذلك نظلم كثيراً من أدبائنا وشعرائنا ونقادنا المحدثين، فلا يجب أن نرفض الحديث لمجرّد جدته أو نقدس القديم لمجرد قدمه، فلكل منهما إيجابياته وسلبياته المحسوبة له أو عليه.
ولكن السؤال الإنساني المهم: هل نَوصِح ذلك الشاب الغرّ؟ أم هل استتيب؟ لأن الذي فُهم: أنه ما زال صغيراً حدثاً، أم أصرّ على فعلته حتى بعد أن هدأ وفكّر في فداحتها ونتائجه؟ والسؤال الأهم: إذا كان هذا الفتى اليافع قد نال الجزاء الرادع جرّاء قصيدته عام 1412ه، فما بال الساحة الآن الثقافية والصحافية بل والإعلامية على وجه العموم أصبحت وأمست تموج بمثل هذه الأخطاء الفادحة عقائدياً وخلقياً بل تفوقها جرأة، ولم تجدْ من يوقفها؟! مع أنها تصدر ممّن يفوقون ذلك الصبي عمرياً وعلمياً؟! ومع أنهم وأنهنّ ينطقون أو يكتبون عبارات أشدّ وأنكى؟! بل أكثر جهارة وجرأة ووضوحاً؟!
مازال مجتمعنا هو ذات المجتمع المسلم المحافظ الذي ليس له إلاّ ذخر الدين، فلماذا فتح الباب على مصراعيه للقدح في الدين والمتدينيين وترديد عبارات مؤلمة في حق السنة وأهلها وعلمائها من قبل أفراد هداهم الله سواء السبيل لا نعلم أهم عامدون مغرضون؟ أم طلاّب شهرة؟ أم مقلدون مكررون لعبارات ببغائية؟ أم راغبو إصلاح ولكن ضلّوا صراطه المستقيم؟ ولماذا إذا ناصحهم المتخصصون وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا؟!
=============(33/178)
(33/179)
اعترافات محمد أركون !
سليمان بن صالح الخراشي
يقول مراد هوفمان في كتابه ( رحله إلى مكه ) : ( إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل ، حتى مع عبدة الشيطان ، ولكنه لا يظهر أي تسامح مع المسلمين . فكل شيئ مسموح إلا أن تكون مسلمًا ) . ( انظر : كتاب : ربحت محمدًا ولم أخسر المسيح ، للدكتور عبدالمعطي الدالاني ، ص 30 ) .
قلت : وهذا مصداق لقوله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . فمهما قدم المسلم من تنازلات لأعداء الإسلام مبتغيًا رضاهم أو التقرب منهم ؛ فإن فعله هذا سيعود ذما عليه ، يسخط الله ، ولايرضي الأعداء ! فيجمع السيئتين .
وقد رأينا وسمعنا من تعلمن وانسلخ من دينه لعله يحقق رضا العلوج عنه ؛ ولكنه عاد بخفي حنين ، وخسر دينه ودنياه . والأمثلة كثيرة ؛ ومنها دولة ( الترك ) التي كانت في يوم ما تحكم ديار الإسلام عندما اعتزت به ، ولكنها ذلت وتسلط عليها الأعداء عندما تنكرت له ، وهاهي رغم تعلمنها تتذلل أمام عباد الصليب أن يقبلوها في حلفهم ، ولكن هيهات مادامت لم تتنصر !
وبين يدي اعتراف مهم لمفكر من رموز مفكري العلمنة في عصرنا ؛ هو المتفرنس محمد أركون الذي تشرب الثقافة الفرنسية منذ نشأته ؛ حتى أنه يكتب كتبه عن الإسلام بهذه اللغة ! يبين في اعترافه بحسرة أن العرب لم يرض عنه رغم ما قدم لهم وتآمر معهم على دينه وبني قومه . وقد أحببت نقلها لتكون عبرة للمعتبر ممن لا زال في بداية هذا الطريق .
يقول جورج طرابيشي - مؤكدا هذا - : ( إن محمد أركون، بعد نحو من عشرة كتب وربع قرن من النشاط الكتابي، قد فشل في المهمة الأساسية التي نذر نفسه لها "كوسيط بين الفكر الإسلامي والفكر الأوروبي" . فأركون لم يعجز فقط عن تغيير نظرة الغرب "الثابتة"، "اللامتغيرة" إلى الإسلام، وهي نظرة "من فوق" و"ذات طابع احتقاري" ، بل هو قد عجز حتى عن تغيير نظرة الغربيين إليه هو نفسه كمثقف مسلم ( ! ) مضى إلى أبعد مدى يمكن المضي إليه بالنسبة إلى من هو في وضعه من المثقفين المسلمين في تبني المنهجية العلمية الغربية وفي تطبيقها على التراث الإسلامي، يقول أركون : ( على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا أنهم - أي الفرنسيين - يستمرون في النظر إليّ وكأني مسلم تقليدي! فالمسلم في نظرهم -أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخالص وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية ومعارضته الأزلية والجوهرية للعلمنة... هذا هو المسلم ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا!! والمثقف الموصوف بالمسلم يشار إليه دائماً بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة) .
ويبدو أن واقعة بعينها هي التي أوصلت "سوء التفهم" هذا إلى ذروته. ففي 15 آذار/ مارس 1989 نشر أركون في صحيفة "اللوموند" الفرنسية مقالة حول قضية سلمان رشدي أثارت في حينه "لغطاً كبيراً ومناقشات حامية الوطيس". وقد طورت ردود الفعل التي استتبعتها شعوراً حقيقياً بالاضطهاد لدى أركون. وعلى حد تعبيره بالذات، كانت (ردود فعل هائجة بشكل لا يكاد يصدق) سواء في الساحة الفرنسية أو الأوروبية، و(كان الإعصار من القوة، والأهواء من العنف، والتهديدات من الجدية بحيث أن كلامي لم يفهم على حقيقته، بل صُنِّف في خانة التيار المتزمت! وأصبح محمد أركون أصولياً متطرفاً!! أنا الذي انخرطت منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي أصبحت خارج دائرة العلمانية والحداثة) .
ولا يكتم أركون أن تلك الهجمات العنيفة قد أشعرته (بالنبذ والاستبعاد، إن لم أقل بالاضطهاد... وعشت لمدة أشهر طويلة بعد تلك الحادثة حالة المنبوذ، وهي تشبه الحالة التي يعيشها اليهود أو المسيحيون في أرض الإسلام ( ! )عندما تطبق عليهم مكانة الذمي أو المحمي) ...(33/180)
إن تلك الحادثة كانت شديدة الإيلام لمحمد أركون إلى حد أنها حملته على الكلام عن العلاقة بين الغرب والإسلام على نحو ما يتكلم حسن حنفي مثلاً، أو حتى محمد عمارة. وعلى هذا النحو نجده يقول: (إن مقالة اللوموند كلفتني غالياً بعد نشرها. وانهالت عليّ أعنف الهجمات بسببها. ولم يفهمني الفرنسيون أبداً، أو قل الكثيرون منهم، ومن بينهم بعض زملائي المستعربين على الرغم من أنهم يعرفون جيداً كتاباتي ومواقفي. لقد أساءوا فهمي ونظروا إليّ شزراً... ونهضوا جميعاً ضد هذا المسلم الأصولي(!) الذي يسمح لنفسه بأن يعلن أنه أستاذ في السوربون، ويا للفضيحة!! لقد تجاوزت حدودي، أو حدود المسموح به بالنسبة لأتباع الدين العلمانوي المتطرف الذي يدعونه بالعلماني، ولكني لا أراه كذلك. وفي الوقت الذي دعوا إلى نبذي وعدم التسامح معي بأي شكل، راحوا يدعون للتسامح مع سلمان رشدي. وهذا موقف نفساني شبه مرضي أو ردّ فعل عنيف تقفه الثقافة الفرنسية في كل مرة تجد نفسها في مواجهة أحد الأصوات المنحرفة لبعض أبناء مستعمراتها السابقة. إنها لا تحتمله، بل وتتهمه بالعقوق ونكران الجميل... فنلاحظ أن اكتساب الأجنبي للجنسية الفرنسية في فرنسا الجمهورية والعلمانية يلقي على كاهل المتجنس الجديد بواجبات ومسؤوليات ثقيلة... فالفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائماً بتقديم أمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل. باختصار، فإنه مشبوه باستمرار، وبخاصة إذا كان من أصل مسلم) .
انتهى كلام طرابيشي من كتابه ( من النهضة إلى الردة ، ص 133-134) . وكلام أركون منقول من كتابه ( الإسلام-أوربا- الغرب ، ص 101،126،45،139،105،106).
قلت : فهل يعتبر بعد هذا من لازال يؤمل على الغرب النصراني خيرا أونفعا له أو لبلاده ؟
=============(33/181)
(33/182)
الزندقة
* قال محمد بن مصعب العابد : من زعم أنك لا تكلم ولا ترى في الآخرة ، فهو كافر بوجهك لا يعرفك ، أشهد أنك فوق العرش ، فوق سبع سماوات ليس كما يقول أعداؤك الزنادقة .
(3/280)
* كان آدم بن عبد العزيز - وهو ابن عمر بن عبد العزيز - في أيام حداثته يشرب الخمر , ويفرط في المجون , والخلاعة , ويقول الشعر, فرفع إلى المهدي أنه زنديق , وأنشد شعراً له كان قاله في أيام الحداثة على طريق المجون , فأخذه فضربه ثلاثمائة سوط يقرره بالزندقة , فقال: والله لا أقر على نفسي بباطل , ولو قطعت عضواً عضواً , ووالله ما أشركت بالله طرفة عين قط , فقال المهدي فأين قولك :
أسقني وأسق خليلي في مدى الليل الطويل
قهوة صهباء صرفا سبيت من نهر بيل
قل لمن يلحاك فيها من فقيه أو نبيل
أنت دعها وارج أخرى من رحيق السلسبيل
فقال : يا أمير المؤمنين كنت من فتيان قريش أشرب النبيذ , وأتمجن مع الشباب , واعتقادي مع ذلك الإيمان بالله وتوحيده , فلا تؤاخذني بما أسلفت من قولي , قال : فخلى سبيله .
( 7 / 26 )
* دخل الحسن بن هانئ على أمير المؤمنين الأمين فقال : يا حسن بن هانئ . قلت : نعم يا أمير المؤمنين . قال : إنك زنديق , فقلت: يا أمير المؤمنين وأنا أقول مثل هذا الشعر :
أصلي صلاة الخمس في حين وقتها وأشهد بالتوحيد لله خاضعا
وأحسن غسلاً إن ركبت جنابة وإن جاءني المسكين لم أك مانع
وإني وإن حانت من الكأس دعوة إلى بيعة الساقي أجبت مسارع
وأشربها صرفا على لحم ماعز وجدي كثير الشحم أصبح راضعا
بجوذاب جودي وجوز وسكر وما زال للمخمور مذ كان نافعا
واجعل تخليط الروافض كلهم لفقحة بختيشوع في النار طابعا
فقال لي : كيف وقعت على فقحة بختيشوع ويلك ؟! قلت : بها تمت القافية , فضحك , وأمر لي بجائزة , وانصرفت .
( 7 / 440 )
* وحكى عن عمرو المكي أنه قال : كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت اقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال : يمكنني أن أقول مثل هذا ، ففارقته .
(8/121)
* عن عمرو بن عثمان أنه لعن الحلاج وقال : لو قدرت عليه لقتلته بيدي . فقلت : إيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله فقال يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به .
(8/121)
* لما أرادوا قتل الحسين بن منصور أحضر لذلك الفقهاء والعلماء , وأخرجوه , وقدموه بحضرة السلطان , فسألوه , فقالوا : مسألة ؟ فقال : هاتوا . فقالوا له : ما البرهان ؟ فقال : البرهان شواهد يلبسها الحق أهل الإخلاص يجذب النفوس إليها جاذب القبول . فقالوا: بأجمعهم هذا كلام أهل الزندقة , وأشاروا على السلطان بقتله .
( 8 / 127ـ 128 )
* قال المهدي لشريك - بن عبد الله النخعي - : كأني أرى رأس زنديق يضرب الساعة , فقال شريك : يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات تركهم الجماعات ، وشربهم القهوات , وتخلفهم عن الجماعات . فقال المهدي : يا أبا عبد الله لم نعنك بهذا .
( 9 / 294 )
* عن عبد الكريم بن هوازن قال : كنت يوماً بين يدي أبي علي الحسن بن على الدقاق , فجرى حديث أبى عبد الرحمن السلمي , وأنه يقوم في السماع موافقة للفقراء . فقال أبو علي : مثله في حاله ، لعل السكون أولى به , ثم قال لي : امض إليه فستجده قاعداً في بيت كتبه ، وعلى وجه الكتب مجلدة حمراء مربعة صغيرة فيها أشعار الحسين ابن منصور ، فاحمل تلك المجلدة ولا تقل له شيئا وجئني بها , وكان وقت الهاجرة فدخلت على أبي عبد الرحمن , وإذا هو في بيت كتبه , والمجلدة موضوعة بحيث ذكر ، فلما قعدت أخذ أبو عبد الرحمن في الحديث , وقال : كان بعض الناس ينكر على واحد من العلماء حركته في السماع، فرئي ذلك الإنسان يوماً خاليا في بيت وهو يدور كالمتواجد ، فسئل عن حاله . فقال : كانت مسألة مشكلة عليّ فتبين لي معناها فلم أتمالك من السرور حتى قمت أدور، فقيل له: مثل هذا يكون حالهم .
( 2 / 248 ، 249 )
* اتهم المهدي أمير المؤمنين صالح بن عبد القدوس الشاعر بالزندقة , فأمر بحمله إليه , وأحضره بين يديه , فلما خاطبه أعجب بغزارة أدبه , وعلمه , وبراعته , وحسن بيانه , وكثرة حكمته , فأمر بتخلية سبيله , فلما ولى رده , وقال له ألست القائل :
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنى عاد إلى نكثه
قال : بلى يا أمير المؤمنين . قال : فأنت لا تترك أخلاقك , ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك , ثم أمر به فقتل وصلب على الجسر. ويقال : إن المهدي أبلغ عنه أبيات يعرض فيها ب صلى الله عليه وسلم , فأحضره المهدي , وقال له : أنت القائل هذه الأبيات ؟ قال : لا والله يا أمير المؤمنين , والله ما أشركت بالله طرفة عين , فاتق الله , ولا تسفك دمي على الشبهة , وقد قال صلى الله عليه وسلم : « ادرؤا الحدود بالشبهات » وجعل يتلو عليه القرآن حتى رق له , وأمر بتخليته فلما ولى قال : أنشدني قصيدتك السينية , فأنشده حتى بلغ البيت أوله :
والشيخ لا يترك أخلاقه ...
فأمر به حينئذ فقتل .
( 9 / 303 )(33/183)
* عن عثمان بن حكيم قال : إني لأرجو لأبي يوسف في هذه المسألة رفع إلى هارون زنديق , فدعا أبا يوسف يكلمه , فقال له هارون: كلمه وناظره . فقال له : يا أمير المؤمنين ادع بالسيف , والنطع , وأعرض عليه الإسلام ؛ فإن أسلم وإلا فاضرب عنقه هذا لا يناظر, وقد ألحد في الإسلام .
( 14 / 253 )
=============(33/184)
(33/185)
سياقات الحداثة المشروطة بالنهضة
السبت :12/10/2002
(الشبكة الإسلامية) د.رضوان جودت زيادة
شهد المسار التاريخي للعالم الغربي تحولات وتقاطعات عدة، إذ لم يستمر هذا السياق بالخط نفسه، بل سيمر بلحظات صعود وانكسار ستشكل بمجملها تاريخ المجتمع الغربي بكل رهاناته ومآلاته. وإذا غضضنا طرفاً عن نظرية التقدم الكلي التي أطلقها هيغل، وتبعه فيما بعد ماركس، فإننا سنلحظ أن تاريخ الغرب نفسه لم يشهد الصعود نفسه أو السقوط نفسه، إنه لم يكن تاريخاً صقيلاً متسقاً كما عبّر فوكو.
عاش الغرب نهضته وأنواره وحداثته وهو الآن على أعتاب أن يعيش ما بعد حداثته، وكل هذه الفترات إنما هي نتاج حراك ثقافي اجتماعي اقتصادي وسياسي ولدت الفترة الخاصة بزمنها. وضمن هذا المنظور نفسه تتم مقاربة مفاهيم الديمقراطية، التعددية، حقوق الإنسان، الحداثة وغيرها من المصطلحات التي يشكل التاريخ الغربي الحاضن المعرفي لنشوئها وظهورها، ذلك أن أية محاولة لأسطرة المفهوم أو تأبيد النظرة بمعنى جعل المصطلح مبدأ كونياً يجب تعميمه وعولمته، ومن ثم إطلاق الأحكام المعيارية والقيمية على الآخر وفقه هي محاولة تخرج عن سياقها المعرفي لتدخل ضمن الأطر الأيديولوجية التي تحتفظ لنفسها بمسبقات نظرية تشكل الأرضية المعرفية التي تنطلق منها وتحاور الآخر من خلالها.
إن لكل حضارة وثقافة مسارَ تشكلٍ خاصًا بها مرتبطًا بتطورها، واتساقاً مع ذلك يفرز هذا المسار مفاهيمه التي تعبر عن رؤيةٍ للعالم خاصةٍ به حسب تعبير اشبنجلر ونظرةٍ للآخر مُشكَّلة وفق بناه التي أفرزها التاريخ المجتمعي بكل مصائره واختلافاته وتحولاته.
و هذه ليست نظرة تحاول اختلاق خصوصية مفتعلة في زمن عولمة ترى الهوية موتاً والذاتية والتأصيل وهماً، وإنما هي نقد لمشروعية سؤال العالمية والكونية، إذ إن أي خطاب مفرز يقتضي وفق النظام السيميوطيقي مرجعاً يتحدث من ضمنه وينطلق وفقه، فالسؤال ليس في منطق العالمية وإنما في التشكيك في مشروعيتها. ولكن هل يعني هذا شرعيةً لكل حضارة أن تتقوقع داخل نفسها لتشكل بنية مصمتة بذاتها تحاور نفسها بنفسها؟ إن ذلك لو صحَّ نظرياً فإنه لا يصح تاريخياً الذي هو المحك الرئيسي الذي تختبر عليه أمثال هذه المقولات ؛ إذ على كل حضارة أن تنتج خطابها الخاص بها لتحاور به، وإنما كنقطة بدءٍ للوصول إلى خطاب يسع الجميع وتتفق عليه الأطراف.
منطق الثنائيات ..
هذه الإشكالية التي تسم المجتمعات غير الغربية بحكم كونها المُطالَبة بتطوير خطابها وتحريره، إشكالية الخصوصية والعالمية حكمت الكثير من المفكرين العرب والمسلمين منذ بداية الاتصال العربي الإسلامي - الغربي وحتى الآن. إنها بشكل أو بآخر ثنائية أخرى تنضم إلى العديد من الثنائيات التي أفلح العرب والمسلمون في صنعها أو اختلاقها العروبة / الإسلام ، التراث/الحداثة، الأصالة/المعاصرة، الديمقراطية/الشورى ، الإسلام /الديمقراطية … إلى آخر هذه السلسلة غير المنتهية واللامتناهية. وتفترض الثنائية عند تركيبها نوعاً من التناقض أو درجة ما من التوفيق يقتضيها الجمع بين متعارضين ، وفض الثنائية وتفكيكها يغدو صعباً بعد تكونها كثنائيات الإسلام والحداثة والإسلام والغرب وغيرها ، فهي فضلاً عن أنها تحوي لبساً يغدو ظاهراً من طرفيها ؛ فمثلاً هي تجمع بين طرفين ليسا متماثلين فالإسلام دين إلهي والحداثة أشبه ما تكون بالزمن التاريخي الذي تكوّن غربياً ، والغرب مجال جغرافي تحدد تاريخياً، فما الذي يجمع بين الدين والتاريخ ، أو بين الدين والجغرافيا ، أقول فضلاً عن ذلك كله فالثنائية تحوي تركيباً ليس متجانساً بالضرورة ويصعب بعدها إعادة صياغة الثنائية وفق منطقها الطبيعي ، إذ تكون عندها قد صكت وأنجزت وبدأ الكلام يدور في إشكاليتها .
لقد شكل منطق الثنائيات هذا عائقاً معرفياً وابستمولوجياً على طريق تجديد الخطاب وتطويره بحيث حصر التفكير في أحد طرفي الثنائية، أو في أحسن الأحوال في العلاقة بين الطرفين حتى تصبح كل محاولة لتجاوز هذه الثنائية محكوماً عليها بالفشل مسبقاً لأنها تنطلق في أولياتها من
نفس المبادئ التي وضعت وفقها هذه الثنائيات.
سؤال الإسلام والديمقراطية:
وليست ثنائية الإسلام والديمقراطية ببعيدة عن ذلك كله ، فالإسلام كدين بدأ تاريخياً منذ (14) قرنًا من الزمان وانطلق من أرض جزيرة العرب ، والديمقراطية نظام سياسي تعود أصوله إلى اليونان البعيد وترسّخت جذوره مع الغرب الحديث على ضوء صيرورته التاريخية الزمنية في القرنين التاسع عشر والعشرين ، فما الذي يجمع بين طرفي الثنائية حتى يتم تشكيلها أو تركيبها . وغالباً
ما يكون القصد من وراء ذلك هو السؤال المضمر في طيّاتها و يتعلق بمدى قدرة الإسلام كدين على الانسجام مع الديمقراطية كنظام سياسي ،(33/186)
ومن غير شك فإن نظرية الانسجام هذه قد نشأت مع بداية احتكاك الإسلام كرقعة جغرافية مع الغرب الحديث ، فأعادت النخبة العربية والإسلامية التفكير في تراثها القديم وفق المنطق الحديث ، عندها نشأ ما يسمى القدرة على الانسجام أو التوافق ، إذ هي مجملاً تدخل في خانة رد الفعل المطلوب احتواؤه والإجابة على سؤاله التاريخي الملحّ .
وإذا كان سؤال الإسلام والديمقراطية عربياً قد تأخر ظهوره بعض الشيء بحكم كون سؤال الديمقراطية نفسه كان مغيباً ، فإن الإجابة عنه تكفل بها الكثيرون ومن مختلف الاتجاهات ، بدءاً بالمستشرقين والغربيين الذين داروا في فلك نفي الديمقراطية عن الإسلام ذلك أنه دين ثيوقراطي وليس زمنيًا وهذا ما يتنافى قطعاً مع الديمقراطية التي لا تنمو إلا في مناخ علماني ، ومروراً بالمثقفين العرب من ذوي الاتجاهات المتغايرة ؛
- فمنهم من عزف على الوتر السابق نفسه كصادق جلال العظم الذي يرى تحقق القطيعة الكاملة بين الإسلام والديمقراطية .
- وآخرون أسلموا الديمقراطية إذ هي شقيقة الشورى وتنبع الاثنتان من مشكاة واحدة وأطلقوا مصطلح (الشورقراطية) ليدل على ذلك كما فعل توفيق الشاوي .
- والقليل حاول أن يقرأ السياق التاريخي والاجتماعي للديمقراطية ليرى تحققاتها الممكنة مع الإسلام واختراقاتها الممتنعة عنه .
علاقة الإسلام بالديمقراطية:
لا بد أن نسجل بداية أن الكلام الكثير حول علاقة الإسلام بالديمقراطية غير مجدٍ ، خاصة عند الانهماك في البحث عن أصول شرعية للديمقراطية ، ذلك أن الحوار حول الديمقراطية يتحول - عندئذ - من مناقشة الوسائل الأكثر فاعلية لزيادة المشاركة الشعبية إلى جدالات حول شرعية استيراد مؤسسات سياسية أجنبية ، لذلك فعلينا أن نرفض مقولة بعض الغربيين (ويتطابق معهم فيها بعض الإسلاميين) التي تتعلق باستحالة الديمقراطية الإسلامية ؛ بحجة أن مفهوم سيادة الشعب يتعارض مع سيادة الله ، ذلك أن السياق الاجتماعي السياسي هو الكفيل بالإجابة عن سؤال الانسجام بين الإسلام والديمقراطية ، والتراث يُظهر وجود بعض الأفكار المنسجمة تماماً مع غاية الديمقراطية وعلى رأسها المعارضة كما يرى ذلك جون اسبوزيتو وجون فول في كتابهما المشترك (الإسلام والديمقراطية) ؛ فالمعارضة هنا هي التي تسمح بوجود نوع من الاختلاف المسموح به ، ويمكن اعتبار مصطلح الفتنة بمثابة الموضّح للكثير من مفاهيم حرية التعبير والاختلاف والمعارضة في الإسلام (1)، إذ يتمتع هذا المفهوم بغنى تراثي كبير ويكمن خلفه معظم الحوارات حول حقوق المعارضة في المجتمعات المسلمة .
تجديد النظر في الديمقراطية:
إضافة إلى ذلك أرغب في تجاوز المنطق السياسي الذي يحكم على الكثير من الممارسات وفقاً لعلاقتها وصلتها بالديمقراطية ، فمحمد عابد الجابري قرأ المشروع النهضوي العربي وبحث عن مكمن العلة القائم في غياب الديمقراطية ، وحيدر إبراهيم علي درس الحركات الإسلامية المعاصرة وبحث في خطابها ومدى قدرتها على الإيمان بالديمقراطية كوسيلة أساسية في الممارسة السياسية .
ورغم أهمية ذلك كله وضرورته فإني أرغب في التقدم خطوة أخرى في النظر إلى الديمقراطية ، وذلك بناء على الأطروحات التي قدمها تيار ما بعد الحداثة وخاصة جان بودريار وفريدريك جيمسون الذين قدموا نقداً للديمقراطية وطلبوا إعادة النظر فيها بناءً على تجلياتها السياسية . فمثلاً لدى النظر في علاقة الديمقراطية مع الأقليات نلحظ اتجاهين سائدين كلاهما ينحو المنحى الأقصى في التعامل مع الأقليات، فالديمقراطية القائمة
في " الكيان الإسرائيلي" مثلاً تفسح المجال للأقليات لكي تمثل في البرلمان ولتشكل قوة ضغط وابتزاز للحكومة أقوى من حجمها الطبيعي ووجودها الفعلي كحزب شاس مثلاً، ذلك أن التشكيل الحكومي الذي يعتمد مبدأ الأغلبية يفرض نوعاً من التوازن بين غالبية الأقليات الموجودة في المجتمع، إلا أن بعض الأقليات قد يلعب دوراً أكبر من حجمه عندما تعمل على خط الابتزاز السياسي، وتمتلك عندها الأقلية القدرة على تغليب أحد الأطراف السياسية على الأخرى ، هنا نلحظ دوراً متضخماً للأقليات في النظام الديمقراطي، مقابل ذلك نلحظ في النظام الديمقراطي الأمريكي الذي أثبتت الانتخابات الأخيرة ضرورة العمل على تجديده إلغاءً متزايداً وتهميشاً واضحاً للأقليات عندما يصبح النظام السياسي قائماً على الحزب الحاصل على الأغلبية ، ولا تستطيع الأقليات عندها أن تمارس تأثيرها إلا من خلال اندماجها في أحد الأحزاب القائمة.
هاتان الحالتان تكشفان عن الثغرات التي تمارسها الديمقراطية بالنسبة للأقليات سواءً بالنسبة لتضخيم دورها أو تقزيم وجودها، وهذا ما قصدته بضروة تجديد النظر في الديمقراطية بحيث نعمل دائماً على الوصول إلى(33/187)
النظام السياسي الذي يحقق النسبة الأكبر من المشاركة السياسية الشعبية ويحفظ حريات الرأي والتعبير وفقًا لأطر القانونية . وهذا بالضبط أحد المداخل التي حاول تيار ما بعد الحداثة أن ينظر من خلالها إلى الديمقراطية محاولاً وبشكلٍ دائم نزع الهالة القدسية والصنمية التي تشكلت حول المفهوم من أجل تجديد القول الدائم فيه.
أما المدخل الذي أحاول من خلاله النظر إلى علاقة الإسلام مع الديمقراطية راغباً من خلاله إعادة النظر في هذه العلاقة فهو المدخل القائم والمؤسس على الانثربولوجيا الاجتماعية ، ويجب أن أسجل بداية مديونيتي المعرفية في ذلك إلى الانثربولوجي الباكستاني المعروف طلال أسد أستاذ البحوث الاجتماعية في مدرسة نيويورك الذي فتح لي آفاقاً في النظر إلى الحداثة وهيئاتها المؤسِّسة لها كالليبرالية والعلمانية والعقلانية وغيرها، وقد حاول دائماً النظر إلى هذه المفاهيم وفق صيروراتها التاريخية وضمن حواملها الاجتماعية ، حيث تشكل فكرة (غياب التناظر) التي بلورها بين المجتمعات الغربية وغير الغربية نواة مشروعه النقدي كما نرى ذلك واضحاً في كتابه (جينيالوجيات الدين) .
الابتكار المفارق للحداثة
يعتبر ميشيل فوكو أن الحداثة حالة قائمة ، فهي وفقاً لذلك ليست مرحلة من مراحل التاريخ ، وعندها لا تغدو الحداثة بمثابة الحلم الذي يلهث وراءه الجميع من أجل جعله واقعاً، وليست مشروطة بتاريخ خاص بها ، بل إن هناك سياقات مختلفة ومتعددة توصل جميعها إلى الحداثة ، فالحداثة ليست مشروعاً ناجزاً حكراً على الغرب ، إنها ما يحققه صُبوّ المجتمعات إلى التغيير والانخراط في مشروع النهضة والتنمية .
لذلك فالسؤال الذي يجب أن تطرحه المجتمعات على نفسها باستمرار كما يرى جان فرانسوا ليوتار هو كيف نشأت الحداثة؟ وهل في الإمكان خلق نموذج خاص بالحداثة في كل مجتمع؟.
إن البديل الذي يجب أن تطرحه المجتمعات هو الابتكار المفارق للحداثة لا عن طريق الانزواء والانغلاق أو التماثل والتوحد ، بل إعادة صياغة الفوارق ، ولكن دون الحاجة إلى جعلها شرطاً مسبقاً ، ولذلك تبدو ثنائية
الإسلام والديمقراطية لا تاريخية ، عندما تحاول تأبيد الفوارق أو عندما تسعى إلى إماهة الاختلافات وإلغائها .
إن السؤال الذي يجب أن تطرحه المجتمعات العربية والإسلامية على نفسها هو قدرتها على ابتكار نموذجٍ للديمقراطية منسجم مع سياقاتها التاريخية والاجتماعية من أجل تحقيق حراك سياسي واجتماعي يفسح المجال لمشاركة أوسع وأكثر عمقاً بين الشرائح والفئات المختلفة، لكن دون الوقوف أبداً عند انغلاق المجتمعات على نفسها وإنما بالانخراط في مشروع النهضة المستديمة والمتكاملة، بل إن نموذج الديمقراطية البديل المنسجم مع الإرث التاريخي العربي والإسلامي لن يتم اختراعه أو تطويره إلا من خلال البناء على نموذج الديمقراطية القائم الذي يفسح المجال لصيرورة تاريخية خلاقة .
إن التجربة الديمقراطية في البلاد العربية كشفت عن تحويل هذه الممارسة من مسألة سياسية مدنية إلى ترتيبات واختلافات عشائرية وقبلية وطائفية ما قبل مدنية ، فكيف يمكن لنا النظر في الديمقراطية في شرطها التاريخي
ولكن في تحققها الأتم عندما يتم بناء نموذج الديمقراطية وفقاً للخطوط الحضارية التي شكلت تضاريس المنطقة العربية الإسلامية .
ـــــــــــ
(1) من المهم تَذَكر أن التراث الإسلامي يأتي غالبًا أو دائمًا على ذكر (الفتنة) في سياق عدم الشرعية ؛ بل إن تسميتها "فتنة" أبرز دليل على ذلك
==============(33/188)
(33/189)
الإسلاميون والحداثة
الاثنين :18/03/2002
(الشبكة الإسلامية) جمال سلطان
للحداثة ألف وجه ومعنى وتصريف ، وكل طائفة ذات توجه إيديولوجي تحاول أن تدعي احتكارها لوصف الحداثة وفق قوالب خاصة أعدتها على مقاسها، ولكن الدلالة الأساسية غير الإيديولوجية لوصف الحداثة هي القدرة على التفاعل الإيجابي مع العصر الحديث ، والقدرة على التطور والعمل من خلال روح العصر الحديث وضروراته ، ووفق هذا الطرح البسيط والمباشر والبعيد عن ألاعيب المتغربين العرب وتفيهقهم ، يمكن أن نطرح السؤال المهم وهو : ما هو موقف الإسلاميين من الحداثة ؟ وهل يمكن أن نتصور الصحوة الإسلامية كحركة تحديثية ؟ السؤال طرحته مجلة " المنار الجديد " على الباحث والمفكر الفرنسي المعروف الدكتور " فرانسوا بورجا " ، وهو خبير متخصص في الشأن الإسلامي ، وراصد جيد لتطورات الحركة الإسلامية والإحياء الإسلامي في العالم العربي ، وإن كان " بورجا " أكثر موضوعية وانفلاتا من التعصب والاستعلاء الأوربي المعهود في النظر إلى قضايا العالم الثالث ، " فرانسوا بورجا " رفض من حيث الابتداء النظرة الغربية ـ وأتباعها في بلادنا ـ التي تذهب إلى أن الحركة الإسلامية هي حركة ضد الحداثة ، ووصف هذا الرأي بأنه " سطحي ومتعجل " ، وأكد " بورجا " على أن حركة الرفض الإسلامية للكثير من القيم الثقافية والاجتماعية الغربية التي أريد لها السيطرة على العالم الإسلامي إنما هي امتداد طبيعي لحركة النضال السياسي ضد التوسع الأوربي الاستعماري في المرحلة الماضية ، ويضيف بورجا : إن هذه العملية تندرج في إطار الديناميكية القومية أو توجه الهوية الذي ردت به المجتمعات في أطراف التوسع الأوربي الاستعماري على صدمة الهيمنة السياسية الأوربية بعد الاعتناق الثقافي لمبادئها التي ربطت بها في وقت من الأوقات كل أشكال التقدم ، وبعد عملية إضفاء الطابع الأثري على عالم رموز الثقافة الإسلامية والتي تفككت تحت وطأة تلك العملية " ، أي أن " بورجا " يقول إن رفض الحركة الإسلامية للقيم الثقافية الغربية ، يأتي في سياق الدفاع عن الهوية التي تعمدت قوى الاستعمار الأوربي استلابها وإخضاعها ، في عملية شملت محاولة تدمير معالم الثقافة الإسلامية وتحويلها إلى مجرد فولكلور وآثار من غابر التاريخ ، " بورجا " يضيف إشارة مهمة للغاية في هذا السياق ، وهي أن الإحياء الإسلامي هو في جوهره محاولة لتحقيق ما أسماه " الديناميكية المزدوجة " التي تبحث عن التحديث على أرضية التحرر ، ويضيف : إن عملية الابتعاد الرمزية عن بعض منتجات الحداثة الغربية والتي تظهر دائما كواجهة للتيار الإسلامي وتثير لدى خصومه أشد ردود الفعل حدة وألماً ، كانت في حد ذاتها الشرط اللازم لعملية إعادة الالتزام وإن بشكل انتقائي / نقدي بهذا التراث ، ثم ختم " بورجا " تعليقه على هذه المسألة بقوله : إنه إذا كان الفشل قد أصاب جزئيا عملية نقل كل ما له قيمة عالمية شاملة في تراث العصرية الغربية خلال أو في سياق الهجمة الاستعمارية ، فإن ذلك قد يعود إلى ضعف الرابطة بين تلك المنتجات العصرية وبين القيم الثقافية المحلية ، ويبدو لي أن القدرة الاستيعابية الإسلامية تعمل في هذه الآونة على إعادة كتابة أو رسم هذه المنتجات بألوان الثقافة الإسلامية المحلية " ، انتهى كلام " فرانسوا بورجا " .
وفي الواقع فإن كلامه هذا لا يمثل أية إضافة بالنسبة لي كمتابع " عربي " للإنتاج الإسلامي الفكري والثقافي الذي نشر على مدى السنوات الماضية لعلماء ومفكرين ودعاة وقيادات إسلامية مختلفة ، ولكن كلام الرجل يمثل إضافة ، بل " سوطا " يفيق بعض المتغربين والمتطرفين من غلاة العلمانيين العرب من غفلتهم وسطحيتهم عندما يقيمون الإحياء الإسلامي أو يبحثون في مواقفه الفكرية والسياسية ، ويحاولون دمغ هذا الإحياء بأنه ضد العصر ، وأنه ضد التحديث ، وأنه توجه رجعي وضد التنوير ، ونحو ذلك من توصيف ساذج وسطحي بعيد عن أية قراءة علمية وموضوعية وعاقلة لخطاب هذا التيار التجديدي ، وتكون الفضيحة مؤلمة عندما يأتي هذا التقييم الموضوعي من باحث أجنبي ، غير مسلم وغير عربي ، ينظر إلى أبعد من السطح ، وينطلق من التحليل العلمي وليس من رد الفعل الانفعالي الغاضب على خصم فكري أو سياسي ، لينتهي إلى أن الحركة الإسلامية هي الحركة التحديثية الأصيلة في المجتمع العربي ، والتي تبحث عن التعايش والتفاعل مع العصر الجديد ، ولكن ليس وفق منطق التبعية والذوبان وإنما وفق الموقف النقدي الراشد الذي يأخذ أو يدع وفق حاجات مجتمعه الحقيقية ، ووفق نظامه القيمي والأخلاقي ، وتقديره هو ـ وليس الآخرين ـ لما يصلح للنهضة مما لا يصلح ، وإن زينوه بكل فنون الخداع المصطلحي .
=============(33/190)
(33/191)
هل ستسير باكستان إلى الحداثة أو العلمانية
الجمعة :25/01/2002
(الشبكة الإسلامية) إسلام آباد ـ محمود عبد السلام :
تشهد باكستان تحولاً كبيراً يعتبر الأول من نوعه في تاريخ البلد عبرت عنه بعض الأوساط المحلية بالقول : قرارات الرئيس الباكستاني الجنرال " برويز مشرف " التي أعقبت عملية البرلمان الهندي ، التي جاءت على خلفية إدراج أميركا بعض الفصائل الكشميرية في قائمة الإرهاب تعتبر بداية لنهاية علاقة الجيش الباكستاني بالمسجد وبالجماعات الدينية ، وروافدها من المدارس التي أسسها رئيس باكستان السابق الجنرال " ضياء الحق " خلال فترة حكمه ، فقد جاءت هذه القرارات لتحجيم دور الإسلاميين من المجتمع الباكستاني رغم أن سلفه من العسكر قد حرصوا على توثيق صلاتهم مع الإسلاميين وإبراز دورهم كقوة دينية لها قدسيتها واحترامها على كافة الأصعدة في البلد ، ليضفوا من خلال هذه السياسة شرعية على حكمهم تحت شعار الأسلمة وفاء للشعار الأول الذي أقيمت باكستان على أساسه ، والذي يعبر عنه الباكستانيون بقولهم : " مطالب باكستان . . لا إله إلا الله " ،
فالجنرال مشرف يطمح إلى تخفيف هذا التأثير الإسلامي في الشارع الباكستاني مقابل أن يحظى باعتراف دولي فيما لو تخلص من هذه التيارات التي يعتبرها الغرب تيارات متطرفة أو أصولية تعرقل عملية السلام والأمن في المنطقة بالدرجة الأولى حسب تعبيرهم .
باكستان تستعد للمقايضة
ورغم أن باكستان - مواصلةلهذه السياسة - قداستعدت لتسليم المطلوبين الأربعة عشر هندياً ، كشرط أساسي لنيودلهي في شروطها لتسوية النزاع مع باكستان بعد أن لوحت بعملية مقايضتهم مع المطلوبين الباكستانيين الذين ينتمون إلى جماعات عرقية مطلوبة تتمثل بحركة المهاجرين القومية تدينها إسلام آباد بقضايا قتل وتفجيرات نفذتها في إقليم السند الأشد تضرراً في هذه العمليات وتقيم حالياً تحت الحماية الهندية ، في حين جددت رفضها لتسليم العناصر الباكستانية المطلوبة هندياً ، مؤكدة في الوقت ذاته على أنها مستعدة لمحاكمة كل من تقدم نيودلهي أدلة إدانة تثبت تورطه بقضايا إرهابية في المحاكم الباكستانية ، طبقاً لدستور وقوانين البلد على اعتبار أنهاغير ملتزمةبالتسليم ما دامت لم توقع اتفاقية تسليم المطلوبين مع الهند .
ويرى مراقبون أن الاستعدادات الباكستانية كانت نتيجة للضغوطات الأمريكية بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكية كولن باول بأنه لا يستبعد أن تسلم باكستان المطلوبين لنيودلهي كخطوة إيجابية لمواصلة عملية السلام التي ستصار إلى نزع فتيل الصراع بين البلدين لا سيما وقد صرح الرئيس برويز مشرف في خطابه الأخير بأنه لن يسلم الهند عناصر باكستانية ، في حين لم ينف تسليم غير الباكستانيين لدى خطابه ، الأمر الذي قرأه المراقبون أن عملية تسليم المطلوبين الهنود واردة على أجندة المحادثات والتفاوض .
تطبيق القرارات رهينة الوضع الداخلي
وإلى ذلك تباينت وجهات نظر المحللين الباكستانيين حول المستقبل الذي يمكن أن تصار إليه البلد بعد هذه التحولات الكبيرة والجذرية ، فبعض العسكريين السابقين الذين يشاطرون الجنرال مشرف سياسة العصا الغليظة ضد من يعتبرونهم سبب القلق في المجتمع ، ورغم تحفظهم على إمكانية نجاح الرئيس مشرف بتنفيذ هذه الخطة وتطبيق القرارات التي نص عليها في خطابه ، لا سيما وموعد الانتخابات الباكستانية المزمع عقدها في شهر أكتوبر القادم ستشكل تحد آخر سابق لهذه العملية ، فيقول رئيس الجيش الباكستاني السابق الجنرال " طلعت مسعود " : تبقى قرارات الجنرال برويز مشرف منوطة بكيفية تطبيقها على الأرض كواقع عملي يثبت مصداقيتها ، لا سيما والانتخابات غدت قريبة ، وبعد عملية الانتخابات على الحكومة الحالية أن تحول جميع مسؤولياتها ومهامها التي تضطلع بها الآن إلى الأحزاب السياسية التي ستشارك في الانتخابات باعتبارها ستصل إلى محط ثقة الشعب لتضطلع بدورها بهذه المهام ، إذاً فالقرارات تتعلق بالدرجة الأولى باستمرار هذه السياسة ونجاح تطبيقها والتي تعني التخلص أو تحجيم التيار الديني المتطرف من المجتمع ، الأمر الذي يعني أن مواصلة هذه السياسة نحو التطبيق متعلقة بشكل وثيق بالأوضاع الداخلية للبلد ، على اعتبار أن معظم الشعب في باكستان يؤيد سيناريو تخليص المجتمع من هذه الأحزاب الطائفية أو التي تؤمن بالعنف كونه لا يتفق معها على هذه السياسة ، ومع ذلك على الحكومة أن تضع بعض القضايا الهامة والأساسية بعين الاعتبار طالما أنها تريد مواصلة تنفيذ هذه الخطة والمضي بها والتي تتمثل بـ :
&9619; أن تجمع الأحزاب السياسية في باكستان وتحاول صهرها في بوتقة واحدة وفي خط منهجي سياسي موحد ، الأمر الذي يعني عزل وتهميش غيرها من الأحزاب المتطرفة وغير المرغوب فيها من هذه البوتقة كخطوة ضرورية لتجنيب البلد من خلق مشكلة داخلية .
&9619; تحسين الوضع الاقتصادي وتأمين فرص عمل مناسبة للقضاء على ظاهرة البطالة المتفشية كخطوة ضرورية كذلك في إنجاح هذه العملية .(33/192)
&9619; أن تنهض بالمجتمع لتحوله إلى مجتمع متسامح فيما بين شرائحه وأطيافه المختلفة ، لأن هذه الخطة ستعزز موقف الحكومة داخل المجتمع .
&9619; أن تخلق دعماً داخلياً لهامن الأحزاب السياسية والبرلمان ومن كل الأطراف الفاعلة في البلد ، ورغم أنها قد حظيت بالدعم العالمي إلا أن الدعم السياسي لا بد أن يتوفر من النظام السياسي المحلي كونه الركيزة في الأمر .
فإدخال الأحزاب السياسية ضد تيار ( التطرف الديني )بالتعاون مع الحكومة أمر أساسي باعتباره الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه الحكومة ، وإلا فهذه الأحزاب الدينية سترد وتعبر عن ردة فعلها بعمليات عنف ضد هذه القرارات .
وفيما لو فشلت الحكومة الباكستانية في هذه الخطة وتنامت قوة الهند على حسابها ، فهذه التيارات ستشكل معضلة حقيقية للحكومة الباكستانية .
إلى أي حد يمكن لأمريكاممارسة الضغوطات على هذه الجماعات ؟
ورغم هذا التفاؤل الذي يبسط العملية إلى درجة لا تعتبر مخاطرة أمام التحديات التي يراها البعض إلا أن شريحة أخرى في المجتمع الباكستاني تصر على أن العلمية غاية في الصعوبة كي تأخذ حيز التنفيذ بعد أن كانت هذه الجماعات تحظى باحترام من الوسطين الشعبي و الحكومي ، خاصة وهذه الشريحة تعتبر أن باكستان بمساعدة بعض الأيدي الأجنبية ساهمت في تقوية وتغذية هذا التيار ، فوكيل وزارة الخارجية السابق ورئيس لجنة باكستان للشؤون الخارجية " أكرم زكي " يرى بأن الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة هؤلاء الجنرالات الذين أوصلتهم إلى السلطة ـ حسب تعبيره ـ قد استغلت هذه الشريحة لتنفيذ مصالحها وتمرير مخططاتها الخاصة في المنطقة ، ثم تريد التخلص منها إلى غير ما رجعة بعد أن انتهى دورها الذي تمثل في تقويض الاتحاد السوفييتي آنذاك إذ يقول :
لندع الأيام تقرر ما إذا كان الرئيس مشرف سينجح في خطته وتنفيذ قراراته أم لا ؟
ولكن الشيء الأساسي والمهم في الأمر ، من الذي خلق هذه الفوضى في المجتمع الباكستاني ، ومن الذي شجع عليها وروج لها ؟!!
لقد أرادت الولايات المتحدة استغلال بعض الجهات الدينية في هذه المنطقة ضد الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي ، فعملت على تأسيس الجنرالات ومن ثم أوصلتهم إلى السلطة ، فتمكنوا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية صناعة ما يمكن أن نسميه ظاهرة ( ثورة الجنرال الموصلة إلى السلطة ) ، وأمريكا والجنرالات هم أنفسهم من صنع هذه الجهات وهذه التيارات التي اعتبروها في المحصلة تيارات متطرفة أو أصولية ، وعندما شعروا بعدم الحاجة لها وصمتها الولايات المتحدة بالإرهاب ، وتحت هذا الغطاء تريد أمريكا تفكيكها والتخلص منها ليصار بها إلى الفكر العلماني الذي هو من صناعتهم .
فالأجندة الأمريكية قد طبقها عدة جنرالات في البلد ، حيث الجنرال الأول ( ضياء الحق ) ينتمي إلى التيار الإسلامي وثورته كانت إسلامية ، بينما الثورة الثانية كانت علمانية سيطبقها الجنرال مشرف نفسه .
والولايات المتحدة عندما كانت تؤيد هذه الأحزاب الدينية قدمت لها الدعم ، وساهمت في تقديم المساعدات لها على اعتبار أنها كانت تحقق بها بعض الأهداف ، ولكنها الآن ترغب في ممارسة ضغوطات عليها أو التخلص منها بعد أن انتهت هذه الفائدة ، ويبقى السؤال المطروح والملح في الأمر : إلى أي حد يمكن لأمريكا ممارسة الضغوطات على هذه الجماعات ؟
يمكن القول بأنه نتيجة ممارسة هذه الضغوطات التي نراها على أرض الواقع حالياً من خلال قرارات الجنرال مشرف الأخيرة ستغيب الشخصيات الكبيرة والفاعلة في هذه الجماعات عن الأنظار حالياً وإلى وقت قصير ، ولكن سرعان ما ستعود مرة أخرى لتمارس أعمال عنف وخلق جو من المشاكل للحكومة كردة فعل .
فالحكومة عندما تفرض هذه السياسة أعتبرها غير عادلة ومن الخطأ أن تطبق في الشارع الباكستاني ، وأنا لا أعتقد أن خطة مشرف ستحقق نجاحاً بالقضاء على المتطرفين أو الإسلاميين من المجتمع ، فهي تحاول الآن إنشاء مسجد مثالي للشعب وتبني حوله ملعباً ومسبحاً أيضا وستفتح المسجد للصلاة فقط !
رغم أن عليها أن تدرك بأنها ستفتح المسجد خمس مرات يومياً للصلوات الخمس وليس مرة واحدة في اليوم ، وهذا أمر يتعذر تنفيذه أو تطبيقه عملياً ، فقد يمكنها تنفيذ هذا القرار في الكنيسة التي تفتح مرة واحدة في الأسبوع ، وليس في المسجد ، الأمر الذي يعني أنه من الصعوبة بمكان نجاح أو تحقيق هذه الخطة .
صهر قوة البلد السياسية في بوتقة الثقة
في حين الرأي الثالث الذي يحلو له حفظ مسلك العودة والإمساك بالعصا من المنتصف في القضية على اعتبارها تجربة أولى من نوعها قابلة للفشل أو النجاح فيرى بأن السبيل الأسلم للتخلص من العنف والإرهاب هو احتواء هذه الجماعات ودمجها في التيار السياسي والشريحة التي ستحكم البلد لإعطائها نصيباً من مجلس الشعب ولتشترك في القرار وتعبر من خلاله عن سياستها وعن رأيها وعن طموحاتها كي لا تلجأ إلى سياسة العنف في التعبير عن إرادتها ، وإلى ذلك وزير الشؤون البرلمانية وأحد كبار الشخصيات في حزب الشعب الباكستاني " افتخار جيلاني " يقول :(33/193)
رغم أن معظم الشعب الباكستاني لا ينتمي إلى هذه الأحزاب والجماعات الدينية إلا أنها قد أثبتت وجودها على الأرض ، فللسيطرة عليها أو لتخفيف حدة التطرف الديني في المجتمع على الحكومة أن تجمّع قوة البلد السياسية لتضعها في بوتقة الثقة ، والشعب لا يرغب بهذا النوع من القرارات التي جاءت على لسان الرئيس مشرف ضد الجماعات الدينية ، فإذا لم يكن للشعب مجلساً برلمانياً لإسماع صوته والتعبير عن سياساته يعتبر انتشار هذه الظاهرة أمر طبيعي باعتبارها لم تشترك في الحكم ، ولم تتمكن من إسماع صوتها من خلال هذا المنبر الذي تمثله السلطة أو المؤسسات الحكومية للشعب ، لذلك ذهبت إلى منبر آخر بديل كما حصل للأحزاب الدينية .
فالحكومة فيما لو أرادت التخلص من ظاهرة التطرف في المجتمع عليها تطبيق النظام السياسي وإشراك الأحزاب الدينية كباقي الأحزاب السياسية في الثقة ، على اعتبار أن هذه الأحزاب تستطيع المساهمة في دعم الحكومة بإعداد خطط أو اتخاذ خطوات للقضاء على ظاهرة (التطرف) من المجتمع ، ويمكن تطبيق ذلك في الانتخابات التي ستعقد قريباً ، لا سيما والأحزاب الدينية ترغب في المشاركة مع الأحزاب السياسية الأخرى بهذه الانتخابات ، وهم من جانبهم سيؤقلمون أنفسهم مع الأحزاب السياسية المعتدلة في البلد ليشكلوا تحالفاً يقف في وجه المتطرفين ، وهذا شيء إيجابي باعتبارها ستتأقلم مع الأحزاب السياسية الأخرى ، الأمر الذي لن يترك فرصة أمام الأحزاب المتطرفة كي تطفو على سطح الواقع الباكستاني .
ولكن حكومة مشرف ارتكبت خطأ كبيراً باعتبارها لم تضم الأحزاب السياسية المعتدلة إلى سلكها لتستفيد منها في تحقيق خطوات إيجابية للقضاء على ظاهرة التطرف ، إذ يستحيل أن ينجح شخص واحد في تحقيق أو تنفيذ هذه القرارات بعيداً عن مساعدة الأحزاب السياسية الأخرى ، فربما يكون على الجنرال مشرف أن يستقطب القوى السياسية إلى جانبه ويهيئ المؤسسات المدنية لتنفيذ هذه الخطة .
ومهما تباينت الآراء وتفاوتت التوقعات حول إمكانية نجاح تطبيق هذه الخطة التي ستقود البلد نحو برنامج الحداثة والتجديد أو بمفهوم البعض نحو العلمانية لمواكبة متطلبات العصر التي يعول عليها مؤيدي الرئيس مشرف في قراراته ، إلا أن هذه القرارات قد أحدثت خضة عنيفة في الشارع الباكستاني ربما يعتبرها البعض الأولى من نوعها تماشياً مع أن هذه الخطوة وليدة ومستجدة على لواقع الباكستاني فيما لو أخذت حيز التنفيذ والجدية على المستوى العملي بعد أن تحدت جميع التيارات الدينية في باكستان هذه القرارات التي اعتبرتها مخالفة للشريعة الإسلامية من خلال تصريحات نارية صدرت عن معظم القادة والزعماء الإسلاميين في البلد ، لاسيما وشريحة كبيرة في الشارع الباكستاني تعتبر أن هذه القرارات هي المسمار الأول الذي سيدق في نعش العلاقة بين العسكر والتيار الديني لتستبدل العلاقات الحميمة التي كانت قائمة بين الطرفين منذ قيام باكستان بعلاقات ملاحقة ومطاردة واتهام
===============(33/194)
(33/195)
الردة مفهومها وأسبابها في العقيدة والشريعة
هناك ظاهرة، تتكرر كل حين، في شكل موجات عاتية من الهجوم على ثوابت هذه الأمة وعقائدها ومناهجها، وهي موجات وهجمات تتحد في غاياتها، وإن كانت تختلف في أساليبها وفي أدواتها ورموزها.وهذا الملف، يعالج أخطر وأسوأ مظاهر هذا الهجوم على الدين، وهو ما يجري على ألسنة أدعياء الثقافة والعلم والأدب،ما هي حقيقتهم ما هي أقوالهم.ما هو حكم الشريعة في أمثالهم.ثم.موقف القوانين الوضعية من الردة. وهل كانت سبباً في الترويح لدعاوى الردة في بلاد المسلمين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله تعالى أتم هذا الدين وجعل شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب الحياة البشرية، ولذا أوجب الله - تعالى- على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال سبحانه : ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة: 208].
كما جاء هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال تعالى : ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) [الروم: 30].
فإذا كان الشخص مسلماً لله تعالى والتزم بدين الله تعالى فأبى إلا أن ينسلخ من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح - من سماء وأرض ونبات وحيوان - من الاستسلام لله - تعالى - والخضوع له، كما قال سبحانه: ((وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران: 83].
وإذا كانت قوانين البشر - مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب - توجب مخالفتها -عند أصحابها - الجزاءات والعقوبات؛ فكيف بمناقضة شرع الله تعالى والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟
لقد شرع الله - تعالى - إقامة الحدود، ومنها: حد الردة تحقيقاً لأهم مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، وهو- سبحانه - الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم.
وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية... فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة (فلا الإسلامَ نصروا ولا (السفهاء) كسروا).
ولذا سنعرض في هذه المقالة لمعنى الردة وشيء من أحكاما وتطبيقاتها، وأسباب الوقوع فيها.
إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء - في كل مذهب من المذاهب الأربعة - يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه، ونورد فيما يلي أمثلة لتعريفاتهم للردة، - أعاذنا الله منها-.
ففي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (ت587هـ) : (أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان؛ إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان) [7/134].
ويقول (الصاوي) المالكي (ت 1241هـ) في الشرح الصغير: (الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر) [6/144].
وجاء في مغني المحتاج للشربيني الشافعي (ت: 977هـ) : (الردة هي قطع الإسلام بينة، أو فعل سواءً قاله استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) [4/133].
ويقول البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: (المرتد شرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً) [6/136].
وبنظرة في هذه التعريفات نجد أن الردة رجوع عن الإيمان، فهي رجوع باعتبار المعنى اللغوي؛ فالمرتد هو الراجع، ومن قوله تعالى : ((وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) [المائدة: 21].
والردة رجوع عن الإيمان باعتبار المعنى الشرعي؛ فالشرع يخصص اللغة ويقيّدها، كما أن الردة هي قطع الإسلام؛ لأن الإسلام عقد وميثاق، وحبل الله المتين، فإذا ارتد الشخص فقد نقض العقد وقطع هذا الحبل.
والردة، كما ذكر البهوتي قد تكون نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً، لكن يسوغ أن ندرج الشك ضمن الاعتقاد باعتبار أن الشك يكون في عمل القلب المتعلق بالاعتقاد.
ويمكن أن نخلص إلى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، ولا يخفى أن هذا التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح، وإذا قلنا: إن الإيمان قول وعمل - كما في عبارات متقدمي أئمة السلف - أي قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فإن الردة - أيضاً - قول وعمل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله ـ تعالى - في خبره، أو اعتقاد أن خالقاً مع االله -عز وجل - وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله - تعالى - أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول، وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله - تعالى - أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الاستهزاء بدين الله - تعالى -، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو إهانة المصحف.(33/196)
فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك (النواقض) يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان .
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المقام: (فإنه لو لم يقتل ذلك [المرتد] لكان الداخل في الدين يخرج منه؛ فقتله حفظ لأهل الدين وللدين؛ فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه) [الفتاوى 20/102].
كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين كما هو مبسوط في موضعه [1]
ومما يدل على مشروعية قتل المرتد ما أخرجه البخاري - رحمه الله - أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أُتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما- فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بدّل دينه فاقتلوه).
والمراد من قول: (بدّل، دينه) أي بدل الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله تعالى : ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران: 85] [2].
وقد التزم الصحابة - رضي الله عنهم - بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه أبا موسى الأشعري - رضي الله عنهما - وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً، فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات)، فأمر به فقتل [3].
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله - تعالى - في المرتدين تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يخفى موقف الصديق رضي الله عنه تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان.
واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً يتولى أمور الزنادقة.
يقول ابن كثير في حوادث سنة 167هـ: (وفيها تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه) [4]
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة، يقول القاضي عياض: (وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول، وقوله: (أنا الحق) مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته) [5].
وقد بسط الحافظ ابن كثير الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: (قُدِّم (الحلاج) فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي) [6].
من أهم أخبار المرتدين وأكثرها عبرة ما سجله الحافط ابن كثير في حوادث 726هـ حيث (ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل الهيثي على كفره واستهانته بآيات الله وصحبته الزنادقة.
قال البرازلي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام والاستهانة بالنبوة والقرآن.
وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة، قال: (وكان هذا الرجل قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام، وذلاً للزنادقة وأهل البدع، قال ابن كثير: وقد شهدتُ قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرّعه على ما كان يصدر عنه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك) [7].
ومما يجدر ذكره في هذه المقالة أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا العصر كـ (رشدي)، و (نسرين)، و (نصر أبو زيد)، و (البغدادي)، وأضرابهم أشنع من ردة أسلافهم كـ (الحلاج)، و (الهيثي)، والله المستعان.
وبالجملة فردة هؤلاء الزنادقة في القديم والحديث ليست مجرد ردة فحسب، بل ضموا إلى هذه الردة المحاربة لله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم -، والإفراط في العداوة، والمبالغة في الطعن في دين الله تعالى وصاحب هذه الردة المغلظة لا يسقط عنه القتل - وإن تاب - بعد القدرة عليه.
كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: (إن الردة على قسمين: ردة مجردة، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول (الردة المجردة)، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني (الردة المغلظة) وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي، فانقطع الإلحاق؛ والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين...) [8].
وأما أسباب الوقوع في الردة فثمة أسباب متعددة لذلك منها:(33/197)
- الجهل بدين الله تعالى وضعف التمسك بالمعتقد الصحيح عند الكثير من المسلمين، مما أوقفهم - بسبب جهلهم وعف تمسكهم- في جملة من المكفرات، فعلى الدعاة والعلماء أن يجتهدوا في إظهار العلم الشرعي وتبليغ دين الله ـ تعالى-عبر برامج مرتبة، فيرغب أهل الإسلام بالمعتقد الصحيح علماً وعملاً، ويحذرون من الردة وأنواعها، عن طرق حِلَقِ التعليم، والخطب، والمؤلفات، والأشرطة، ونحوها، فيعنى بالتوحيد تقريراً والتزاماً، كما يعنى بالتحذير من مظاهر الردة في الزمن المعاصر،
ومن ذلك أن تُدرّس رسالة (نواقض الإسلام) للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) - رحمه الله- فهي رسالة مع كونها في غاية الإيجاز إلا أنها بينت أهم النواقض وأشملها، وأكثرها وقوعاً وانتشاراً [9].
وأن يبيّن للناس الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد من: القتل، وعدم الصلاة عليه، وحل ماله، وأن تذكر أخبار المرتدين وأحوالهم وما نالوه في الدنيا من العقوبات والمثلات، وما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الدار الآخرة.
وأن يراعى - أثناء التحذير من الردة وأنواعها - عوارض الأهلية عند الحكم على الأشخاص كالجهل والتأويل والخطأ والإكراه ونحوه، فربما وقع البعض في غلو وإفراط بمجرد علمهم بجملة من أنواع الردة، فيحكمون بذلك على أشخاص بأعيانهم دون التفات إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
- ومن أسباب الوقوع في الردة: ظهور الإرجاء في هذه الأوقات.. فالإرجاء في مسألة الإيمان يقرر عبر مؤسسات تعليمية شرعية منتشرة في بلاد المسلمين، حيث تتبنى هذه المؤسسات المذهب الأشعري والماتريدي - ذي النزعة الإرجائية الغالية - كما ساعد على ظهور الإرجاء بعض المنهزمين إزاء واقعنا الحاضر المليء بالانحرافات التي تناقض العقيدة السلفية، فقاموا (يبررون)، و (يسوغون) ذلك الانحراف بأنواع من التأويلات المتكلفة.
كما أن الغلو في التكفير والنزعة الخارجية - في هذا العصر- كان سبباً مساعداً في ظهور الإرجاء كنتيجة عكسية، فجاء ذلك الإرجاء رد فعل لهذا الغلو.
فإذا كان الإيمان - عند طوائف من المرجئة - هو التصديق فحسب، ففي المقابل سيكون الكفر- أو الردة - هو التكذيب فقط عند قوم آخرين، فلا يكون الشخص مرتداً عن دين الله تعالى إلا إذا كان مكذباً جاحداً! فلا يكون الشخص عند هؤلاء المرجئة مرتداً بمجرد استهزائه بالله تعالى أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو دينه، كما لا يكون الشخص عندهم مرتداً بمجرد سجوده للصنم أو إهانة المصحف!!.
فالردة عندهم مجرد اعتقاد، فلا تقع الردة بقول أو عمل!
- وسبب ثالث وهو تنحية شرع الله عز وجل في كثير من بلاد المسلمين، فلا يخفى أن وجود الولاية الشرعية سبب في حفظ الدين، فحيث تقام الحدود ومنها حد الردة فلن يتطاول زنديق مارق على دين الله تعالى لكن (من أمن العقوبة أساء الأدب)، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله ابن العربي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه (كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف) [10].
وإليك - أخي القارئ - واقعة تاريخية توضح المراد كما دوّنها القاضي عياض في كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بقوله: (وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بـ (ابن أخي عَجَب)، وكان خرج يوماً، فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده.
وكان بعض الفقهاء بها (أي بقرطبة) : (أبو زيد)، و (عبد الأعلى بن وهب)، و (ابن عيسى)، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ (موسى بن زياد)، فقال (ابن حبيب): دمه في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي (ت282هـ).
وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه (أي من أحب الزوجات لعبد الرحمن بن الحكم)، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول (ابن حبيب وصاحبه)، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين : (ابن حبيب وأصبغ)، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء وسبّهم) [11].
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي (عجب) تلفّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالربّ ـ جل جلاله ـ، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي آنذاك ، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم في قرطبة فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها.
وأخيراً: تتجلى روعة الموقف عندما يمضي (عبد الرحمن بن الحكم الأموي) حكم القتل على ابن أخي زوجته (عجب) وهي أحب زوجات ه إليه، ولا يكتفي بذلك بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء.
فانظر رعاك الله إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم الله تعالى على من تطاول على دين الله ـ تعالى- .(33/198)
- وأما السبب الرابع في ظهور الردة، فإن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق.
لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله تعالى بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة.
فلا عجب أن تظهر الحداثة - مثلاً- في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق - وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة إلى مواقف مستنيرة.
ثم (تؤصل) هذه الردة، وتقصّد، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية، ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
وأخيراً :
فإن تقصير بعض علماء أهل السنة ودعاتهم تجاه هذا الانحراف الخطير ـ الردة - كان سبباً مساعداً في ظهوره واستفحاله، فلو أن علماء أهل السنة ودعاتهم قاموا بواجب التبليغ لدين الله- تعالى- وإظهار عقيدة التوحيد، والتحذير من الردة وأنواعها ووسائلها لما كان لمظاهر الكفر أن تنتشر كما هي عليه الآن.
إن الناظر إلى إخواننا من أهل السنة يرى تواكلاً وكسلاً، وتحميلاً للتبعات والمسؤوليات على الآخرين، وتلاوماً فيما بينهم، ألا فليجتهد الجميع في الحرص على ما ينفع، وأن نسعى في تبليغ ديننا والتحذير ما يضاده ويناقضه (ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين) [12].
[1] تحدث الفقهاء - رحمهم الله - عن هذه المسائل تفصيلاً، وألفت رسائل علمية مطبوعة في أحكام المرتد، منها: أحكام الردة والمرتدين لجبر الفضيلات، وأحكام المرتد لنعمان السامرائي
[2] انظر: فتح الباري، 13/272.
[3] أخرجه البخاري.
[4] البداية 10/149.
[5] الشفا، 2/1091.
[6] البداية والنهاية، 11/143.
[7] البداية، 14/122.
[8] الصارم المسلول، 3/696.
[9] شرح هذه الرسالة غير واحد، ومن أفضل الشروح: (التبيان شرح نواقض الإسلام) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
[10] العواصم من القواصم، ص 247.
[11] الشفا، 2/1093، 1094.
[12] هذه العبارة سطّرها العلامة عبد الرحمن السعدي، في القول السديد، ص 36 .
==============(33/199)
(33/200)
: …يجيدون الكذب
تاريخ الاستشارة : …
الموضوع : …استشارات ثقافية وفكرية
السائل : …القعقاع
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
بداية أود أن أشكر كل العاملين في هذا الموقع على جهودهم الجبارة في خدمة الدعوة الإسلامية
أنا طالب في إحدى الجامعات أقوم بإعداد بحث بعنوان ( يجيدون الكذب) وهو يتحدث عن الكذب في الحضارة الغربية التي تستخدم وسائل الإعلام لتغطية جرائمها وتصويرها بانها أعمال إنسانية ... فقتل أطفال العراق هو تضحيات من أجل تحريرهم ... أما التنمية فهي السيطرة على ثروات الدول الفقيرة واستغلالها لخدمة الاقتصاد الاستعماري ....
أما الأخلاق فهي غطاء واه لمستنقع يبلغ معدل حالات اغتصاب النساء في إحدى ولاياته 4 حالات في الدقيقة....
أما حرية المرأة فماهي إلا جعلها كسلعة مسلوبة الحرية تباع وتشترى مقابل التنازل عن أعز ما تملك من أمومة وأنوثة
وهي دراسة موضوعية تبحث في أوهام الغرب واكاذيبه من أجل فتح عيون القارىء على الحقيقة وليس لأننا نريد أن نشتم الغرب وكأننا بذلك نسعى لتلبية احتياجات عاطفية ، المطلوب التوعية وإزالة ركام الكاذيب والتضليل والزخرف الكاذب عن الشعارات التي يرفعها الغرب مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة والتنمية والعولمة...الخ.
ولقد قمت باعداد جزء من هذه الدراسة لكن تواجهني مشكلة قلة المراجع التي لم أجد منها إلا بعض كتب روجيه جارودي و بعض النشرات الأخرى
فيا حبذا لو قمتم بإرشادي إلى بعض المراجع المناسبة من كتب ودراسات
أخرى ، وبارك الله فيكم
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل / القعقاع حفظه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ،،،
وفقك اله يا أخي وسدد خطاك لما فيه الخير .
فيما يخص المراجع التي سألت عنها هي كثيرة ، ولكن سأرشدك إلى بعض منها لعلك تجد ضالتك فبها:
1- المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان للدكتور عدنان علي النحوي.
2- على أبواب القدس للدكتور عدنان علي النحوي.
3- المسلمون بين الواقع والأمل للدكتور عدنان علي النحوي.
4- واقع المسلمين أمراض وعلاج للدكتور عدنان علي النحوي.
5- وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي للشيخ حسان محمد حسان.
6- إسرائيل الصهيونية السياسية روجيه غارودي.
7- الحركات الباطنية في العالم الإسلامي محمد أحمد الخطيب.
8- أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية محمود شيت الخطيب.
9- في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإسلامية مصطفى فرغلي الشقيري.
10- أحجار على رقعة الشطرنج وليام غاي كار.
وفقك الله لما يحبه ويرضاه .
المجيب : …د/ العربي عطاء الله
==============(33/201)
(33/202)
الشعر والشعراء في الميزان الشرعي
الشيخ- سعد بن عبدالله السعدان
alqudaee*awab.com
الشعر هو ديوان العرب، وهو تعبير عن خلجات النفس، ونبضات القلب.
ولقد اهتم الإسلام بوظيفة الشعر، واعتنى بتوجيه مضمونه، فأراد بذلك أن يسمو بالشعر والشعراء، وأن يجعلهم أداة بناء وإسعاد، بعد أن كانوا من قبل أداة هدم وشقاء.
وقد فهم الصحابة موقف الإسلام من الشعر، كما علمهم القرآن الكريم، ورسول الله {، فكان منهم من قال الشعر وأجاد، ومنهم بالإضافة إلى حسان أمير شعراء الإسلام، كعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة وغيرهما، ورويت أقوال عن كبار الصحابة تحث على تعلم الشعر والعمل بمضمونه الحسن، من ذلك قول عمر رضي الله عنه: "احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن محاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق، وتنهى عن مساوئها".
ومع هذا فقد وردت أحاديث في ذم الشعر، وأخرى في مدحه تستدعي توفيقاً بينها، ولذا أحببت أن أُفَصِّل في ذلك، وأبين الحكم الشرعي في مسألةِ الشعر والشعراء.
الشعر في اللغة:
الشين والعين والراء أصلان معروفان، يدل أحدهما على: ثبات، والآخر على عِلْم وعَلَم.
فالأول: الشَّعْر، معروف، والجمع أشعار، وهو جمع جمعٍ، والواحدة شَعْرة.
والباب الآخر: الشِّعار، الذي يتنادى به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً. والأصل: قولهم شَعَرتُ بالشيء، إذا علمته وفطنتَ له.
قالوا: وسُمِّي الشاعر، لأنه يَفطِن لما لا يفطن له غيره.
قالوا: والدليل على ذلك قول عنترة:
هل غادرَ الشعراءُ من مُتردَّمِ
أم هل عرفتَ الدارَ بعد توهُّمِ
يقول: إن الشعراء لم يغادروا شيئاً إلا فطنوا له(1).
قال اليزيدي:
شعر الشاعر، والشِّعرُ من قولك: ما شعرت به شعراً. ومنه قيل: ليت شعري ما فعل فلان(2).
والشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية. قال الأزهري: الشعر القريضُ المحدود بعلامات لا يجاوزها. وشعرَ الرجلُ يَشعُرُ شِعْراً وشَعْراً وشَعُرَ، وقيل: شَعرَ قالَ الشعر، وشَعُرَ أجادَ الشعر، ورجل شاعر، والجمع شعراء(3).
والشعر هو حديث الشعور، يقول ابن رَشِيق: "وإنما سُمِّي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره"(4).
ويلاحظ أن كلمة الشعر في معاجم اللغة ترتبط بالعلم والفطنة، والعقل، لا بالحذر والغيوبة والأساطير، ونحو ذلك.
هكذا هو الشعر العربي منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية فله قواعد وأصول ينبغي لكل من أراد أن ينظم الشعر أن يكون على دراية تامة بها، ولا يحيد عنها البتة، لأن اللغة العربية نظمت كل شيء والتجاوز في أصول العربية بإدخال ما سموه بالشعر الحر!؟ الذي تولى كِبْره أدباء الحداثة؟ الذين تأثروا بأدب الغرب المبني على الأساطير والخرافات وهدم الثوابت، ونبذ الدين، جناية على لغة القرآن، وخطر محدق بالعربية، وللأسف أن هذا اللون له منتدياته، ووسائِلُه الإعلامية هي الأكثرُ إنتشاراً وسيطرة، ويوصف بأنه الشعر الإبداعي؟
ويا ويل من تعرض له بنقدٍ، فسيكون عرضة للتجريح والتقريع والتوبيخ. وسيوصف بصفات التخلف، ومحاربة الإبداع؟!
وزحفَ هذا اللون، وامتلأت به الصحف اليومية والمجلات، وامتلأت الساحات بمثل هذا الغثاء الذي يسمونه شعراً، وهو من نوع الأساطير والحكايات التي لا تفهم!؟ فلا وزن، ولا قافية، ولا خصائص فيه، فهو معول هدم لا بناء، وفيروس فتاك بلغة الضاد.
الشعر في الاصطلاح:
كلامٌ مُقَفى موزون على سبيل القصد.
والقيد الأخير يُخرج: نحو قوله تعالى: الذي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) {الشرح: 3 - 4}.
فإنه كلامٌ مُقَفى موزون، لكن ليس بشعر، لأن الإتيان به موزوناً ليس على سبيل القصد.
والشعر في اصطلاح المنطقيين:
قِياسٌ مُؤَلَّف من المخيلات. والغرض منه انفعال النفس بالترغيب والتنفير، كقولهم:
الخمر ياقوته سيالة، والعسل مرة مهوعة(5).
وقال الشيخ الأديب محمود محمد شاكر رحمه الله: الشعر كلام صادر عن قلب إنسان مُبين عن نفسه(6).
وقد عرف بعض الأدباء المعاصرين الشعر فقال: الشعر هو نوعٌ من التعبير الفني، له عناصره الفنية الخاصة به، يهبه كل عنصر درجةً من الجمال، حتى يرقى إلى المستوى الذي يستحق معه أن يسمى فناً وأدباً(7).
العرب والشعر:
يعد الشعر ظاهرة ثابتة في حياة البشرية من أفراد وجماعات وقبائل وشعوب في جميع العصور والأزمان.
ولكنه مع العرب كان ظاهرة أبعد عمقاً، حتى كان ملكة البيان فيهم، وكانوا يتنافسون على تحصيله والإبداع فيه، ولهذا كانوا يفرحون فرحاً شديداً بنبوغ شاعر فيه، بل ربما تعدى إلى الاحتفال به، ورفع منزلته، والإشارة إليه بالبنان، ولمكانة هذا الأمر عندهم فقد كانوا يمتدحون الشعر ويذكرونه، قال الطائي:
إن القوافيَ والمساعيَ لم تزل
مثلَ النظام إذا أصابَ فريدا
هي جوهرٌ نثر فإن ألَّفْتَه
بالشعر صارَ قلائداً وعقودا
من أجل ذلكَ كانت العربُ الأُلى
يدعُون هذا سُؤْدداً مجدودا
وتَنِدُّ عندهُم العلا إلا عُلاً
جُعِلت لها مِرَرُ القريضِ قيودا
وقال أيضاً:
ولم أر كالمعروف تُدعى حُقوقُه
مغارمَ في الأقوامِ وهي مغانمُ
وإن العلا مالم ترً الشعر بينها
لكا لأرض غُفلاً ليس فيها معالمُ(33/203)
ما هو إلا القولُ ليسري فيغتدي
له غُرر في أوجهٍ ومواسم
يُرى حكمة مافيه وهو فكاهةٌ
ويُقضى بما يقْضي به وهو ظالمُ
ولولا خِِلالٌ سنَّها الشعرُ مادرى
بغاة ُالعُلا من أين تُؤتى المكارمُ(8)
وقد وصف ابن قتيبة الشعر بوصف بليغ فقال: "الشعر معدن علم العرب، وسِفْرُ حكمتها، وديوانُ أخبارها، ومستودع أيامها، والسورُ المضروب على مآثرها، والخندق المحجوز على مفاخرها، والشاهد العدل يوم النِّفَار، والحجة القاطعة عند الخصام، ومن لم يقم عندهم على شرفه، وما يدَّعِيه لسلفه من المناقب الكريمة، والفِعَال الحميد بيت منه، شذت مساعيه وإن كانت مشهورة، ودرست على مرور الأيام وإن كانت جساماً، ومن قيدها بقوافي الشعر، وأوثقها بأوزانه، وأشهرها بالبيت النادر، والمثل السائر، والمعنى اللطيف، أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجَحْد، ورفع عنها كيدَ العدو، وغض عين الحسود"(9).
أقسام الشعر:
إن المتأمل للشعر يرى أن له أقساماً فمنه ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح، وهكذا، وقد أبان الإمام ابن قتيبة رحمه الله عن أقسام الشعر، فقال:
تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب:
1- ضرب منه (حَسنٌ لفظه، وجادٌ معناه) كقول القائل:
أيتها النفس أَجْمِلي جزعاً
إن الذي تحذرين قد وقعا
2- وضرب منه (حَسن لفظه وحَلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى) كقول القائل:
ولما قضينا من منى كلَّ حاجةٍ
ومسحَ بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّت على حُدب المهاري رحالُنا
ولا ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطحُ
3- وضربٌ منه (جادٌ معناه، وقَصُرت ألفاظه عنه) كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه
والمرءُ يُصلحهُ الجليسُ الصالح
4- وضرب منه (تأخر معناه، وتأخر لفظه) كقول الأعشى في امرأة:
وفُوها كَأقَاحي
غذاهُ دائمُ الهطيلِ
كما شيب براحٍ بارد
من عسل النحلِ
وتقسيم ابن قتيبة لطيف، لكنه تقسيم من الناحية الفنية.
هذا وللشعر عند العرب في العصر الجاهلي أغراض متعددة، من ذلك: المديح، والتفاخر، والهجاء، والرثاء، والغزل وغير ذلك.
وقد امتاز شعرهم بقوته، وبلاغته، وسلاسته، وبُعْده عن حشو الكلام، إضافة إلى أنه في الغالب شعر واقعي، يقوم على نقل المشاهد الحسية دون إغراق في المعاني والأبعاد.
تلك إلماحة أردتها أن تكون موطئة لأصل البحث، والله الموفق.
الإسلام والشعر:
طغى حب الشعر ونظمه وإنشاده على قلوب الكثير في العصر الجاهلي، واستمر حتى بعد الإسلام، وإلى يومنا هذا، فقد كان الناس يستشهدون بالشعر في حلهم وترحالهم وسمرهم والمواقف التي تمر بهم.
لكن لابد أن نعرف أن الشعر في الإسلام يختلف تماماً عمّا كان عليه في العصر الجاهلي، فقد أصبحت أغراض الشعر تنحى باتجاه تهذيب الأخلاق، والاعتناء بالمبادئ والقيم، والمثل العليا والدعوة إلى توحيد الله، والحث على الجهاد في سبيل الله، والزهد في الدنيا، والوعظ والنصح، ونصر الدين، وهجاء أعداء الإسلام.
على أن أغراض الشعر الأخرى كالمديح، والرثاء، والغزل العفيف ونحو ذلك مستمرة، لكن السمة الغالبة هو ما تقدم ذكره.
حكم الإسلام في الشعر:
عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله {: "الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام"(10).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً، منها القصيدة فيها أربعون بيتاً، ودون ذلك"(11).
قال الجيلاني: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح" أي: إذا حَسُنَ المعنى شرعاً فالكلام محكوم عليه شرعاً بالحسن، ولو كان اللفظ غير فصيح. وإذا قَبُح المعنى شرعاً لم يُحكم عليه بالحسن وإن كان لفظه فصيحاً. وهذا حق، ولكن الوزن وفصاحة الكلام يزيد الحسن حسناً كالحكمة، ويزيد القبيح قُبْحاً كالهجو، لأن الكلام الفصيح أجدر أن يُصغى له، ويُحفظ ويروى، وأشد تأثيراً في النفس"(12).
ولكن هناك آراء زعمت أن الإسلام وقف من الشعر موقف العداء، وذم الشعراء، وألحقهم بالغواة والمنافقين، واستشهدوا بالقرآن الكريم، وأوردوا آيات منه، قرأوها مُجَزَّأة مبتورة، ليصلوا إلى تأييد رأيهم السقيم، فقالوا: بأن الله ذم الشعر والشعراء في قوله الكريم: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224، 226}.
ووقفوا في قراءاتهم واستشهادهم عند هذه الآيات ولم يتموا القراءة؛ لأنهم علموا أنها لا توافق ما ذهبوا إليه.."(13).
ويحسن بنا أن نذكر ما ورد في مدح الشعر، وما ورد في ذمه، حتى نخرج بنتيجة مقنعة:
ما ورد في مدح الشعر:
وردت أحاديث وآثار كثيرة في ذلك منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً - أو أعرابياً - أتى النبي { فتكلم بكلام بَيِّن، فقال النبي {: "إن من البيان سحراً، وإن من الشعر حكمة".(33/204)
وإن المتأمل في هذا الحديث الشريف يُدرك ثناء النبي { على الشعر، كما يشعر في المقابل بتوجيهٍ رشيد لمضموناته، فقد نبه عليه الصلاة والسلام، المسلم إلى أهمية الشعر وأن فيه قيماً سامية، وأكد عليه الصلاة والسلام قوله ذلك بمؤكد لغوي هو: حرف التوكيد (إن) وذلك حتى يزيد الأمر في النفس ثباتاً واستقراراً... وغني عن البيان أن قول النبي {: "إن من الشعر حكمة" يفيد أن منه ماليس كذلك، لأن (من) تبعيضية"(14).
وجاء في رواية أبي داود: "وإن من الشعر حُكْماً" وهو بمعنى: الحِكْمة، يدل لذلك قوله تبارك وتعالى: وآتيناه الحكم صبيا 12 {مريم: 12}.
وقد قال بعض العلماء بأن (السحر) الذي ذكره {، عن البيان ورد في مَعْرِض الذم، حيث شبهه بعمل السحر، لكونه يزين القبيح، ويقبح الحسن، فيكون معناه: أن صاحبه يكسب من الإثم ما يكسبه الساحر بعمله(15).
ومنهم من رأى أن ذلك ورد مورد المدح، وعلى هذا يكون المعنى: "إنه تمال به القلوب، ويرضى به الساخط، ويذل به الصعب، ويشهد له: إن من الشعر لحكمة، وهذا لا ريب فيه أنه مدح.
والصواب: أن الأمر يختلف باختلاف المقاصد التي يراد بيانها، فإن كان البيان في أمر باطل فهو كذلك، وإلا فمدح لا محالة(16).
وعن هذا الحديث بين الطبري بأنه: ردٌ على من كره الشعر مطلقاً.
قال الجيلاني: "سحراً" السحر ما لَطُف مأخذه ودق. والبيان اثنان: أحدهما ماتقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة، حيث يروق السامعين، ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه السحر إذا خلب القلب، وغلب النفس، حتى يحول ذلك عن حقيقته، ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره. وهذا إذا صُرِفَ إلى الحق يُمدح، وإذا صُرِفَ إلى الباطل يُذم. وقد حمل بعضهم الحديث على المدح، والحث على تحسين الكلام، وبعضهم على الذم لمن تَصنَّع في الكلام، وتكلف لتحسينه، وصرف الشيء عن ظاهره، والظاهرُ: أن المراد به أن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق، فيسحر الناس ببيانه فيذهب الحق.
قال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا: أن هذا الحديث ليس ذماً للبيان كله، ولا مدحاً، لقوله {: "من البيان" فأتى بلفظة (من) التي للتبعيض، وكيف وقد امتن الله به على صفوة خلقه قال: علمه البيان، وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها"(17).
وبالجملة: فلقد كان { يقول عندما يستمع إلى رائع من الشعر أو النثر "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً"، وكان يقول لشاعر الإسلام حسان بن ثابت: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"(18)، وقال: "أهجهم وجبريل معك"(19).
وقال لكعب بن مالك: "أهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل"(20).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله { قال: "جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم"(21).
والأحاديث في هذه المعاني معلومة، وفيما أوردناه كفاية ودليل على مدح الشعر وأهله الصادقين.
ما ورد في ذم الشعر:
مَنْ ذمَّ الشعر وأهله استدل بقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 {الشعراء: 224} وسيأتي الكلام عليها لاحقاً.
واستدلوا بأحاديث منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله { قال: "لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً"(22).
وظاهر هذا الحديث أن الشعر مذموم بإطلاق.
ومعنى: (يَريَه) من الوَري، وهو داء يفسد الجوف، ومعناه: قيحاً يأكل جوفه ويفسده. ويصيب رئته ويفسدها.
وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: "سألتُ عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله { يتسامع عنده الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه"(23).
وهناك أدلة أخرى في هذا المعنى، وقد أشكل على بعضهم ورود المدح، وورود الذم في الشعر، مما دفع العلماء إلى التوفيق بينهما، والتوجيه والتأويل، لدفع ما يوهم التعارض بين النصوص الشرعية، والتعارض هذا في الظاهر، وإلا فنصوص الإسلام متوافقة وهي من لدن حكيم خبير، والنصوص بعضها يوضح بعضاً، فما أُجْمِل في موضع فُصِّل في موضع آخر، وما ورد مطلقاً قُيِّد في موضع آخر وخصصه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية وتمامها، قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا3 {المائدة: 3}.
التوفيق بين أدلة المدح وأدلة الذم:
فهم بعض العلماء أن حديث ذم الشعر المتقدم، جاء في ذم الشعر مطلقاً، وتعلقوا بما ورد في رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله { بالعَرْج (اسم موضع قرب المدينة) إذْ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله {: "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لئن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً".
ففي هذه الرواية سبب ورود الحديث وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأنه مخصوص بمن غلب عليه الشعر، ويؤيد هذا قوله { "يمتلئ" وهي كلمة تدل على الغلبة والكثرة.(33/205)
قال النووي: "استدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقاً، قليله وكثيره، وإن كان لا فُحش فيه، وتعلق بقوله {: "خذوا الشيطان"، وقال العلماء كافة: هو مباحٌ ما لم يكن فيه فحش ونحوه، قالوا: هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح (وهذا هو الصواب)، فقد سمع النبي { الشعر، واستنشده، وأمر به حسان في هجاء المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار - وغيرها، وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة، وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه، وهو الفحش ونحوه.
وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه ينشد (شيطاناً) فلعله: كان كافراً، أو: كان الشعر هو الغالب عليه، أو: كان شعره هذا من المذموم.."(24).
وقال ابن حجر: "وقوله شعراً، ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحاً حقاً، كمدح الله ورسوله، وما اشتمل على الذكر، والزهد، وسائر المواعظ، مما لا إفراط فيه"(25).
قال القرطبي: "وهذا الحديث أحسنُ ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلبَ عليه الشعر وامتلأ صدره منه، دون علم سواه ولا شيء من الذكر، ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوّب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر.."(26).
قال ابن كثير: "على أن الشعر فيه ما هو (مشروع) وهو: هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت رضي الله عنه، وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وأمثالهم، وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين.
ومنه: ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم أمية بن أبي الصلت.... وقد أنشد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي { مئة بيت، يقول { عقب كل بيت "هيه"، يعني: يستطعمه فيزيده من ذلك.."(27).
وقال ابن عبدالبر: "ولا يُنكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا قد قال الشعر، أو تمثل به، أو سمعه، فرضيه ما كان حكمه مباحاً ولم يكن فيه فحش ولا خناً ولا لمسلم أذى"(28).
موقف الرسول { من الشعر:
تقدم أنه { سمع الشعر، واستنشده، وأمر حسان بن ثابت بهجاء المشركين، وقال: "إن من البيان لسحراً"، وزاد على ذلك بأن أثاب المحسن من الشعراء المسلمين، ومثال ذلك ما فعله تجاه كعب بن زهير عندما أنشد قصيدته البليغة التي يعتذر فيه للرسول {:
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
متيم إِثرَها لم يُفْدَ مكبوُل
لكنه { لم يتجاوز في مسألة الشعر والشعراء الحدود، فقد عاب أن ينشغل المرء بالشعر حتى يغلب عليه لأن هذا المسلك من شأنه أن يصرف المرء عن العناية والاهتمام بالقرآن والسنة، ونحو ذلك.
موقف الصحابة من الشعر:
لقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين سنة المصطفى { ولم يبالغوا في مسألة الشعر، بل كانوا قمة في الاعتدال، فقد اهتموا به، ولكنه لم يشغلهم عن ما هو أهم، وكانوا يحفظون أولادهم الشعر لما للشعر والأدب من تأثير بليغ في التربية والتهذيب، فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى ساكني الأمصار: "أما بعد فعلموا أولادكم العلوم والفروسية، وَروُّوهُم ما سار من المثل، وحَسُنَ من الشعر"(29).
وبعث أيضاً إلى أبي موسى الأشعري برسالة قال فيها: "مُرْ من قِبَلِك بتعلم الشعر، فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل"(30).
نفي القرآن عن النبي { أن يكون شاعراً:
المتأمل للآيات الواردة في الشعر والشعراء يجد أنها أتت في معرض الذب عن الرسول {، ونفي الشعر عما أوحاه الله إليه؛ لأن الشعر بطبيعة الحال يتنافى مع طبيعة الرسالة والوحي، وقال تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين 69 {يس: 69}.
وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم 40 وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون 41 ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 تنزيل من رب العالمين 43 {الحاقة: 40 - 43}.
وقد زعم كفار مكة أن هذا القرآن شعر، وأن محمداً شاعر قال تعالى: بل قالوا أضغاث أحلام بل \فتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 5 {الأنبياء: 5}.
وقال تعالى: فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون 29 أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 30 قل تربصوا فإني معكم من المتربصين 31 {الطور: 29 - 31}.
فالله تبارك وتعالى يبين أنه ماعلَّم نبيه الشعر وما علمناه الشعر وما ينبغي له 69 {يس: 69} قال ابن كثير: "أي ما هو في طبعه فلا يحسنه، ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه { كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمه".
ثم قال: "وثبت في الصحيح، أنه { تمثل يوم حفر الخندق، بأبيات عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:
لا هم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا(33/206)
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا(31)
ويرفع { بقوله: "أبينا" ويمدها، وقد روى هذا بزحاف، في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه { قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبدالمطلب(32)
ولكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله { في غار فنكبت أصبعه، فقال {:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت(33)
ثم قال ابن كثير موجهاً في ذلك بكلام دقيق: "وكل هذا لا ينافي كونه { ما علم شعراً، ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن، العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 {فصلت: 42}، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته { تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً"(34).
ولا يقول قائل: بأن من تمثل بأبيات من الشعر فهو شاعر "ولا يلزم منه أن يكون النبي { عالماً بالشعر، ولا شاعراً؛ لأن التمثيل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين في الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء.
كما أن من خاط خيطاً لا يكون خياطاً، قال أبو إسحاق الزجاج: معنى وما علمناه 69 {يس: 69} وما علمناه أن يشعر أي: ما جعلناه شاعراً، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشعر، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما خَبَّر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنه لا ينشد شعراً، وهذا ظاهر الكلام"(35).
وقد أنشد بعض الصحابة للنبي { مائة بيت، يقول بعدها {: "هيه". قال ابن كثير: يعني يستطعمه فيزيده من ذلك(36).
بيان حال شعراء الكفر والضلال:
قال تبارك وتعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225 وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224 - 226}.
هذا استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن الرسول { شاعر، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل: ما يُلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن الشعراء الذين يركبون المخيلات، والمزخرفات من القياسات الشعرية، والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنهم يتبعهم ويجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لاغيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه"(37).
قال ابن عطية: ويدخل في الآية كل شاعر مُخَلِّط، يهجو ويمدح شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
ثم قال: وقوله في كل واد يهيمون 225 {الشعراء: 225} عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن.
وقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب"(38).
فهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم، "فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم، ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم"(39) ويدعون لأنفسهم بما لايستطيعونه ولا يقدرون عليه.
ولما كان الشعر منطلقه العاطفة الجياشة، والمشاعر الملتهبة، كان الشعراء إلى الإنحراف أقرب، وإلى الهوى أميل، إلا من رحم الله، كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون.
قال ابن سعدي عن الشعراء الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون... قال: "ألم تر غوايتهم، وشدة ضلالهم أنهم في كل واد من أودية الشعر يهيمون فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار ولا يثبتون على حال من الأحوال. وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غراماً، وقلبه فارغ من ذاك! وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب! وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم..إلخ(40).
وقال يوسف العظم: "لا يقف القرآن الكريم عند الحديث عن الشعراء، بل يتعرض للجمهور المُعْجَب بالقول المشجع عليه، لأنه وسيلة من وسائل دعم الزور، وتأييد الكذب والاستزادة من الباطل، والسبب في ذلك واضح، إذ إن الشاعر ما كان ليتمادى في باطله، أو يوالي أكاذيبه لو لقي صدا من جمهور داع، وأمة سليمة الفكر، قويمة الخلق. ومن هنا: نجد حكم الإسلام شاملاً لا يتناول الشاعر وحده، بل يمتد فيشمل الشاعر شخصاً، والشعر مادة، والمستمعين جمهوراً مؤيداً أو معارضاً(41).
مسألة: اعتراف الشاعر في شعره بما يوجب الحد عليه؟(33/207)
قال ابن كثير: اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً، هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون مالا يفعلون، على قولين(42).
قال الشنقيطي:
أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد، لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في قوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226}.
فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد، ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب، وإن كان لا يحد به(43).
بيان حال شعراء الحق:
بعد ما ذكر جل وعلا شعراء الضلال، وبين أوصافهم، استثنى من جنس الشعراء، شعراء الحق والإيمان قال ابن عطية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وكل من اتصف بهذه الصفة.
قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون 227 {الشعراء: 227}.
وقوله: وذكروا الله كثيرا يحتمل أن يريد في أشعارهم ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة(44).
وقوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227}.
قال بيان الحق النيسابوري: أي شعراء المسلمين الذين نافحوا عن رسول الله {، وقال لحسان: "أجب عني". ثم قال: "اللهم أيده بروح القدس"(45).
قال ابن عطية: وباقي الآية وعيدٌ للظلمة، كفار مكة وتهديد لهم، وعمل (ينقلبون) في (أي) لتأخيره.
قال ابن عاشور: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة وحالة مأذونة، فتعين أن ذمَّه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حف به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح، فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله، أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه، وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227} وإلى الحالة المأذونة قوله: وعملوا الصالحات وكيف وقد أثنى النبي { عل بعض الشعر مما فيه محامد الخصال، واستنصت أصحابه لشعر كعب بن زهير وكان يستنشد شعر أمية ابن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة، وأمر حسان بهجاء المشركين، وقال لكعب بن مالك: "لكلامك أشد عليهم من وقع النبل"(46).
وهذا تفصيل جيد، وتوضيح مفيد، وقد أسهب الجرجاني في مدح الشعر فقال: وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة، ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس، وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن، وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من النبي { بالشعر، وإصغائه إليه، واستحسانه له.
وبالجملة: فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق حياته، فهذا مذموم شرعاً، لقول النبي {: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً"(47).
قال الشافعي عن الشعر: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. قال ابن العربي معلقاً: يعني: أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمتضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول منهم: وجرح اللسان كجرح اليد(48) والله أعلم.
الهوامش:
1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (193/3-194).
2- ما اتفق لفظه واختلف معناه، لإبراهيم ابن أبي محمد يحيى اليزيدي ص: (234).
3- لسان العرب لابن منظور مادة (الشعر).
4- العمدة في محاسن الشعر (116/1).
5- التعريفات للجرجاني (166-167).
6- المتنبي، محمود محمد شاكر ص: (7).
7- مهرجان القصيدة ص: (29) د. عدنان رضا النحوي.
8- عيون الأخبار لابن قتبة (199/2).
9- عيون الأخبار (200/2-201).
10 - أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح، (صحيح الأدب المفرد ج865) قال الألباني: صحيح لغيره.
11- المصدر السابق (ح866) وقال الألباني: صحيح.
12- فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (315/2).
13- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث (5/1-6) أحمد الجدع وحسني جرار.
14- الالتزام الإسلامي في الشعر د. ناصر الخنين (119-120) دار الأصالة 1408ه.
15- عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق أبادي (354/13).
16- المصدر السابق (352/13-353).
17- فضل الله الصمد (321/2-322).
18- البخاري في الصلاة، باب الشعر في المسجد (ح453).
19- البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (ح3213).
20- البخاري في المناقب باب من أحب أن لا يسب نسبه (ح3531) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل حسان (ح2490) وغيرهما.
21- أخرجه أحمد في المسند (124/3) وغيره وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
22- البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (ح6155)، ومسلم في صحيحه (ح2257) وغيرهما، وللأحاديث ألفاظ متنوعة أوردها عبدالغني المقدسي في كتاب: جزء أحاديث الشعر (ح32) فما بعد.(33/208)
23- أحمد في المسند (134/6)، والبيهقي في الكبرى (245/10) بإسناد صحيح.
24- شرح صحيح مسلم للنووي (14/15).
25- فتح الباري (356/22).
26- الجامع لأحكام القرآن (151/13).
27- تفسير ابن كثير (587/3).
28- الجامع لأحكام القرآن (147/13).
29- جامع البيان (78/19).
30- البيان والتبيين للجاحظ (180/2).
31- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب حفر الخندق (ح2837)، ومسلم في صحيحه ك الجهاد باب غزوة الأحزاب (ح1803).
32- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: ويوم حنين... (ج4316).
33- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب من ينكب في سبيل الله (ح2802).
34- تفسير ابن كثير (585/3-587).
35- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5497/8).
36- تفسير ابن كثير (587/3).
37- تفسير أبي السعود (120/4)، تفسير القاسمي (49/13-50).
38- المحرر الوجيز لابن عطية (246/4).
39- الشعر والشعراء ليوسف العظم (14-15).
40- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي (491/3).
41- الشعر والشعراء للعظم ص: (14-15).
42- تفسير ابن كثير (366/3).
43- أضواء البيان (391/6).
44- تفسير ابن عطية (247/2).
45- وضح البرهان في مشكلات القرآن (136/2).
46- التنوير والتحرير (207/19-208) للطاهر بن عاشور.
47- دلائل الإعجاز للجرجاني ص: (27).
48- أحكام القرآن (462/3).
==============(33/209)
(33/210)
الإبداع الأدبي
الأدب بحر لا ساحل له، ومعترك لا نهاية له، إلا بنهاية البسيطة والحياة فهورافد حي على مر العصور والأزمان، وهو مستودع ثقافات الأمم، تودعه تجاربها وخبراتها، وأفراحها وأتراحها، لذا فالجمود يقعد دون تحقيق تلك المآرب والغايات. والأدب المحنط غير المتجدد المنبع والأداة، يبدو كأنه نبت غريب أصم، لا يتحرك ولا يتجاوب مع آهات الأمة حوله.. أخرس لا يتحدث عن أمجادها وماضيها، وساعتها يكون الإبداع والتجديد ضرورة لابد منها.. ولا نعني بالتجديد طرح القوالب والأطر الأدبية على اختلاف مشاربها، من شعر وقصة ومقال.. ولكننا نعني بالتجديد المادة التي تغذي تلك المنابع، أن تستلهم تلك المادة من الواقع المعيش للأمة.. ليعكس وجهها المشرق في ظل عقيدة إسلامية راسخة، مستمداً مادته من أوامرها ونواهيها، ومتكئاً على موروث حضاري لايتعارض وتلك العقيدة في مختلف جوانب الحياة. وقد ضل كثير من الأدباء (خاصة الشعراء) طريقهم إلى التجديد والإبداع، فظنوا أنه يتمثل في الثورة على الموروث الحضاري في هذا المجال؛ فحطموا قوالبه، وابتعدوا عن أطره السليمة، واستوردوا مادته كما يستورد (الهمبورغر)، فجاء فجاً باهتاً لاتطرب له الآذان، ولا يهتز له الفؤاد، فسمعنا بشعر الحداثة توقف له أعمدة الصحف، وتشرع له أبواب الأندية، وقرأنا الرواية العربية المقلدة، وجاءت القصة القصيرة ضبابية كثيفة تتوشح بأساليب رمزية غامضة، وأخرى ملغزة عاتمة.
عبدالله بن عبدالرحمن الشهري
عضو رابطة الأدب الإسلامي
==============(33/211)
(33/212)
الإسلام ....وميزة القيم في زمن العولمة
التقط العالم الغربي أنفاسه لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية وحتى تلاشي الحرب الباردة بسقوط المنظومة الماركسية في شرق أوروبا ووسط آسيا مطلع التسعينيات من القرن العشرين.. ولتكشف الأحداث المتسارعة عن بداية عصر جديد نسبياً: هوعصر الهيمنة الرأسمالية بتوجهاته الليبرالية الحرة.. وهو ما يعرف اصطلاحا بعصر العولمة؟!
ولكن مجرد هزيمة الماركسية مع غياب الند الحضاري عن دائرة المنافسة التقليدية.. لا يعكس في الحقيقة إلا نصف معادلة السقوط أو النهوض على السواء.. إذ إن أمر العولمة مجملاً لا يزال مستقبله كامناً في مطاوي الأقدار.. وما تزال ترتيباته قائمة.. وإجراءاته لم تحسم بعد.. لا سيما وأن العولمة حسبما يدور على إلفنا: عبارة عن ضغوط قسرية للانخراط الإنساني في سياق منظومة محدثة من القيم والمفاهيم، والمناهج والرؤى والتصورات الوضعية، فضلاً عن العقائد والأفكار التي لا تتلاءم بطبيعتها مع الخصوصيات الحضارية الأخرى.. وهو الأمر الذي يحدونا إلى التكهن بأيلولة هذا الزخم العولمي إلى البوار القريب.!! >> فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. << (الرعد-17).
فالعولمة بطبيعتها تخضع لقيمتين متناقضتين على الرغم من توحد مصدرهما : قيمة الوحدة، وقيمة التجزئة؛ وحدة في إطار المشروع الغربي وطموحاته المستوحاة من قيم الفردانية الموروثة عن عصور الإمبراطوريات الاستعمارية، التي تتأسس وتنطلق من الإحساس الغامر بالأنانية المفرطة. وتجزئة الآخر الذي يمكن أن يأتي من قبيله بعوامل التجزئة ذاتها، والتي يمكن تسميتها بعدوى الانفراط والتفتت..! ولئن كانت تلك القوى الفاعلة في حركة الوجود الإنساني المعاصر: تتدافع وتتصارع لتبلغ بشعوبها مستويات عليا من الإشباع والرفاهية والتفوق على حساب الآخرين ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.. فإن هناك في المقابل جماعات بشرية فقيرة اقتصادياً تتعامل مع هذا الواقع فتقاوم بضغط من الإحساس بالحرمان والانحسار والتخلف.. دون أن تفطن لما بين يديها من رصيد ضخم لا يتوافر لدى نظرائها: هو رصيد الفطرة من قيم روحية وأخلاقية فريدة.. تعفيها من ضغط الواقع واختناقاته القاتلة..!!
فلقد تحول المجتمع الغربي في زمن العولمة إلى مجتمع استهلاك جشع..! دمر إيمانه بالله تعالى في ضمير الإنسان.. وأوهن في داخلته مفهوم الوجدان الديني والوازع الفطري، ونمى في غريزته اختلاس اللذات الرخيصة وحطّم بين يديه كل الوسائل التي تبلغه مأمنه النفسي وسكينته الروحية وإحساسه بإنسانيته.. حتى انتهى به مطافه إلى شفير الموت والانتحار.. >> والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب << (النور-39).
والعجيب أن حالة من التداعي والاستسلام لقيم العولمة الغربية بُعُجرها وبُجُرها.. تنتاب شعوب وحضارات العالم النامي الضعيفة.. فتهيمن على مقدراتهم النفسية والمعنوية بصورة غير مبرورة بحجة أو ببينة معتبرة.. وبينما يتصاعد النكير على هذا الانسياق والتحدر.. وتتعدد الإيماءات إليه بوجوب التريث والتحسب.. لا سيما بتصاعد النكير على هذا الانسياق والتحدر.. وتتعدد الإيماءات إليه بوجوب التريث والتحسب..لا سيما في أصداء اليقين العالمي بنسبية تلك القيم وعدمية ملائمتها طبيعة هذه الشعوب وثوابتها الحضارية ـ فضلاً عن فشلها الذريع في عقر دارها.. نجد أن تهميش المرجعية العليا للقيم المطلقة التي يوفرها الإيمان بالله وباليوم الآخر.. وتخلية الشعوب والحضارات عن الاحتكام إليها: ذلك شيء لا معنى له سوى تنصيب الإنسان نفسه إلهاً في هذه الأرض، فيغدو هواه هو معيار الصواب والخطأ، ومرجعية الحلال والحرام مستندة لمطلق إرادته وتطلعاته ونزواته.. الأمر الذي من شأنه أن يمعن في تكريس كل ماهو وضعي نسبي.. وتغييب المقدسات المطلقة، ويجعل الإنسان ـ فضلاً عن عدمية استشعاره بأن ثمة حدوداً لا ينبغي تجاوزها بحال ـ عاجزاً عن إدراك مقتضيات الالتزام ببنود العقد الاجتماعي الإنساني.. كما أن هناك أوامر ونواهي جاءت بها التعاليم الإلهية لا مجال لغير التسليم بها، والإذعان لها بالخضوع والتسليم وفقا لنواميس الربوبية والعبودية في هذا الكون المترامي..!
وعلى جانب آخر قوى حضارية تتدافع خلف ستار الأحداث؛ لتفصح عن نفسها، وتعلن عن وجودها بقوة.. بيد أن هذا التدافع يستند في مجمله إلى مرتكزات اقتصادية.. وتطلعات تنافسية في مضمار التقنيات.. دون الاعتداد صراحة بقضية القيم الروحية والأخلاقية التي تعد لازمة نهضوية فطرية، تقتضيها حركة الوجود الإنساني في سياق مقررات الاستخلاف الربانية..!(33/213)
فماذا يمكن لمن قل حظهم ولم تسعفهم مقدراتهم في خوض منافسات من ذلك النوع المتسارع إلى تأكيد التفوق الغربي، وتعميم القناعة الإنسانية بهذا التفوق؟! أو بعبارة أخرى أشد خصوصية: ماذا يمكن للأمة المسلمة أن تخوض به هذا المعترك الساخن؟ هل ستستجيب هذه المرة لتحديات ذلك النمط العولمي المثير، فتكشف عما بجعبتها مما يمكن أن ترتاد به ميدان المواجهات العولمية الساخنة..؟! أم أنها ستظل هكذا نهباً لما يستجد من أحداث على الساحة الإنسانية..؟!!
إن أسوأ ما أفرزته العولمة من سلبيات.. ذلك النمط المخيف من الطبقية التي تسللت عبر النظم الاجتماعية داخل الدوائر الحضارية أو بين تلك الدوائر وبعضها البعض... فأثمرت عن حالة من الخلل الصارخ في موازين التكافؤ ومعايير التفاضل الحضاري بين الأمم والشعوب على اختلافها.. ويبدو أن كثيراً من فصائل المجتمع الإنساني ـ والغربي على وجه الخصوص: أخذت تستلفتها هذه النواتج السلبية للعولمة وتداعياتها.. فجعلت تتراجع شيئاً فشيئاً إلى منطقة الحياد.. ترقب الأحداث وتطوراتها من طرف خفي.. ريثما تفيئ شراع العولمة إلى مرافئ أكثر أماناً واستقراراً وهدوءاً..!
فالعالم لايزال في انتظار ما تمخضه التقلبات الشديدة في موازين الحياة المعاصرة جميعها.. فهو يعيش حالة من الانصهار الشديد.. ريثما تتحدد ملامحه المقبلة بصورة أكثر تركيزاً وثباتاً؛ ولعل هذه المرحلة الحاسمة هي التي سينبثق من بناتها الأنموذج المنتظر في قالبه النهائي تقريباً..! لذا، فإن العوامل التي تحرك وتتحكم بسهم ما في فعاليات هذه المرحلة:هي مهمة في سياق طموحات كل حضارة إزاء التأثير في معادلة الانصهار هذه لتحديد الشكل النهائي للعالم في أجله غير القصير..!
ولقد تمكن الباحثون من رصد عوامل عدة مهمة تدفع بها بعض القوى المؤثرة في حركة الأحداث العالمية، والتي من شأنها أن تعلي من أسهم ومعاملات كل منها في هذه المعادلة، نذكر منها:
1ـ بروز ظاهرة التكتلات السياسية والاقتصادية على نطاقات إقليمية ذات حضارة أو ثقافة مشتركة.
2ـ الدفع بأفكار ونظريات جديدة تدعم توجه كل تكتل، وقد تلتقي هذه الأفكار وتلك النظريات على هدف واحد وغاية واحدة.. تبعاً لما يجمعها من قواسم مشتركة.
3ـ قضايا الحريات وحقوق الإنسان.. وقبول الآخر الحضاري..!
ويبدو أن أوروبا قد فطنت مبكراً لهذه القضايا ، ومن ثم فقد رتبت أوضاعها على نحو ما تطمح إليه من نصيب في صياغة مستقبل العالم.. ولكن المطروحات الأمريكية العولمية قد غطت كافة هذه الجوانب فأوقعت أوروبا في بعض الحرج لا سيما مع من تزعم أنهم حلفاؤها من دول جنوب المتوسط ذات الثقافة الإسلامية إذ احتوى المشروع تلك البنود جميعاً وغيرها ولتضمن الولايات المتحدة تفوقها في صياغته وتفردها النسبي بقيادة دفته الغربية..!!
ولكن سلوك أغلب المفردات الحضارية الأخرى إزاء هذه الظواهر التي تغلي بها قدور المطبخ العالمي.. لم يبعد كثيراً عن مفهوم القدرية.. إذ إنها على ما يبدو قد استوعبت فلسفة التلقي والتشرب والاستلهام..فهي تتعاطى بغير حيلة: قيم الحداثة والعلمانية وأخلاقيات السوق الحرة.. وتحث خطاها على الطريقة الغربية ـ بغير وعي وتبصر ـ إلى رعاية حق الذات بالإشباع والرفاهية من خلال قيم الشهوة والأثرة ومفاهيم الاستهلاك بلا حدود أو قيود دون تورع بقيم وأخلاق أو اتزاع بضمير حي.. حتى في مشروعاته التنموية: قد ضلت غاياتها.. وزاغت عن ثوابتها حين تعقبت خطى ومناهج مغايرة تماماً لمقرراتها الحضارية.. فلم تفلح في التخصص بنصيب ما إزاء افتعال منظومة ـ ولو متواضعة في مجال التغذية العكسية.. كأحد معولات التكافؤ في ميزان المعاملات الدولية..!
يحدث ذلك كله، وكأنه تسليم عالمي بالتفوق الغربي..! وتوبيخ كل ما يتوارد على الخواطر من أحاسيس بخلاف هذه الثوابت العولمية والمطلقات التي لا تقبل المساس على أي حال..!! وكان طبيعياً أن تنقرض الطبقة الوسطى في عموم القرية الكونية الجديدة، التي يقطن أطرافها غالبية الفقراء الذين يزداد شعورهم بالتفاوت الصارخ بين مركزية العولمة وبينهم..! حتى مفهوم (الحضارة الوسط) لم يعد حاضراً لدى البديهة الإسلامية الحائرة؛ التي أوجلتها التسارعات إلى تأكيد وتعميم القناعات الإنسانية بقضية العولمة على بسط كونية ساحرة..حتى أعمتها عن كل ما يمكن استدعاء التاريخ به وفقاً لمعطيات الوحي الإلهي.. وماله من دور هائل في سياق إعادة إنتاج الفعل الحضاري الإسلامي على امتداد الحياة وتطور الوجود..!(33/214)
ولعله في خضم موجة الظمأ القيمي التي تضرب بحرقتها في أكباد الشعوب الإنسانية المعاصرة ـ الغربية منها بخاصةـ فتعصف بطمأنينتها النفسية وهدوئها، وتذهب براحتها وسكينتها أدراج اليأس والقلق والحبوط.. !! فمع كون هذه الشعوب تسهم بحظ وافر في مجال العلوم الطبيعية والتقنيات التي تذهل الألباب وتطير الصواب..! وعلى الرغم من كونها أصلت في نفوس أتباعها صفات الانفتاح والأريحية والجرأة الحكيمة على نقد الذات ومحاسبتها على كافة المستويات بإيجابية فريدة.. والإسهام في العمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بكفاءة عالية.. فإنها تعاني ضعفاً شديداً في الأخلاق، وندرة في القيم، وقلقاً نفسياً واضطراباً عاطفياً مروعاً...! ومما يؤخذ على هذه الشعوب أيضاً: أنها شحنت أتباعها بخلائق الإباحية والعنصرية والفاشية والاستغلال والفساد وتشجيع تجارة الرقيق وتسويق الدعارة بمختلف مستوياتها.. ومباركة عمليات القتل الجماعي والإبادة العنصرية والإحلال العرقي، بل والحماس لها في بعض الأحيان.. هذا غير موجات الانحلال.
ولو قدر لتلك الثقافة أن تستشير الإسلام وتفيد من إمكاناته؛ لأخذت منه ما يمكن أن يزيل مضغة الشر من صدرها الذي يغلي بنار التوحش والاستئساد..!
ولقد تعرضت القيم الإلهية على امتداد التاريخ لموجات متتالية من العبث والنبذ والانتهاك الصارخ من جانب أولئك الذين استحفظوا على أمر الرسالات السماوية السابقة لقاء عرض دنيوي زائل.. >> وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون << (آل عمران-187) . فحين لان هؤلاء في يد الشيطان: استحالت القيم الربانية من دائرة المطلقات الشمولية، إلى دائرة النسبيات المتغيرة؛ ففقدت الإنسانية أغلى ما لديها وانحطت بعد سمو إلى مسافل الحضيض ومدارك التخبط.. فلم يكتب لها أن تتعافى من هذا الدور الكئيب إلا بعد أن انشق فجر الرسالة الخاتمة واستطار خيره في آفاق الكون بأسره.. >> قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم << (المائدة-16).
ومع أن الاحتكاك الإسلامي بتلك الدوائر الحضارية بعد بعثة النبي وحتى عهد قريب.. كان من أقوى عوامل استعادة التوازن إلى مركبات القيم الإنسانية..! فإن درجة هذا التوازن ظلت مرهونة على أية حال بطبيعة هذا الاحتكاك وظروفه وملابساته وبمدى توافر مناخات التلاقح الحضاري على صعيد القيم.. ولكن في أصداء الحديث عن نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، وتصادم الحضارات لهانتنجتون، والموجة الثالثة لألفن توفلر... أنى لذلك التلاقح أن يحدث..؟!
ولكن الأمر لا يمنع، على أية حال، من الإقرار بإخفاقاتنا الإسلامية المعاصرة في استيعاب كافة نواحي التجربة الغربية المريرة التي فصلت قيم العلم عن قيم الإيمان، ونبذت تلك القيم.. وحرصت على إقامة قطيعة معرفية ووجدانية بين العقل ومصادر الوحي حتى استحالت حركة الحياة الغربية إلى مركبات ومعادلات برجماتية جافة..!! ذلك فضلاً عن انسياقنا المهين وراء ما يسمى بنسبية القيم وحشرها في مصاف العادات والتقاليد الفلوكلورية.. الأمر الذي يقدح في عقيدتنا وهويتنا، وليس بعد الحق غير الضلال..!!
إن أمامنا هموماً عظاماً وعلى عواتقنا تبعات جساماً.. والواقع العالمي بغير يأس أو إحباط، قد ولغ في السوء ففاق كل حدود..!! ونحن في الحقيقة لا تنقصنا إمكانات ولا كفاءات ولا قيم ولا مناهج.. حتى موارد الطاقة المادية والروحية تتمتع بوفرة غير منظورة في ذلك الواقع العالمي غير المحدود.. ولكن الذي ينقصنا أن تهب العزائم من رقدتها التي طالت واستطالت حتى بات غطيطها يسمع من مكان بعيد..!! وأن تنهض الهمم من مخادعها فتعلو وتسمو وترتفع إلى مستوى المسئولية التاريخية عن أمة كم أرقها البعد عن معانقة ذلك الماضي المجيد.. وبغير استغراق في أحلام ذلك الماضي السعيد، فإننا نؤكد على حتمية استحضار مقومات ذلك المجد الأثيل، وإعادة إنتاج الفعل الحضاري الإسلامي وفقا لحاجات الواقع الإنساني الذي تكاد صيحاته تدوي في الآفاق استجارة بالله عز وجل من هذا التعس.. واستغاثة من ذلك الشقاء.. فمن يأخذ بزمام المبادرة فيفوز بشرف القرب والحظوة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة >> من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون << (النحل-97).
=============(33/215)
(33/216)
الدعوة إلى العامية
توطئة:
تنبه المستعمر الصليبي بعد طرده من ديار الإسلام إلى أهمية الإسلام وأثره في بقاء أهله أقوياء، وأنه هو قوتهم. فبدأوا غزواً فكرياً حاول هدم أسس الإسلام في نفوس المسلمين، وشنوا حملات مختلفة في جميع الميادين. ومنها محاربة اللغة العربية فهي لغة الإسلام ولغة القرآن وهي لغة رسول ا صلى الله عليه وسلم وحاولوا أولاً خلع رداء القدسية في هذه اللغة ليتمكنوا من تدميرها. واقرأ قول أحد أذنابهم يقول: إن اللغة العربية ليست ملكاً لرجال الدين يؤمنون وحدهم عليها ويقومون وحدهم دونها، ولكنها ملك للذين يتكلمون جميعاً، وكل فرد من هؤلاء الناس حر في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك(1).
وكانت أول المحاولات لتدمير لغة القرآن هي الدعوة إلى اتخاذ العامية بديلاً لها. لكي ينقطع اتصال المسلم مع دينه وكتابه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وتراثه المجيد.
تاريخ الدعوة إلى العامية:
نرى أوربا مقسمة إلى دول كثيرة لاتزيد مساحة اكبرها عن نصف مليون كم2، لكل بلد تاريخه ولغته وكذلك كادوا للمسلمين. فبعد تطبيق التقسيم السياسي حاولوا تطبيق التقسم اللغوي والتاريخي. فروجوا لهذه الدعوة وكان أول من دعا إلى ذلك المعجب بالغرب وإمام أول بعثة علمية إلى بلاد الغرب: رفاعة رافع الطهطاوي، قال في كتابه "أنوار توفيق الجليل من أخبار توثيق بني اسماعيل" الذي صدر عام 1868م: "إن اللغة المتداولة المسماة باللغة الدارجة، التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة لامانع من أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ.. وتصنف فيها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية"(2).
وخرج علينا مندس من طلائع المستعمرين عاش في مصر، وعمل في دار الكتب، هو ولهلم سبيتا عام 1880م فقال:(3) وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمر يتعلق بمصر نفسها.. فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم بالعربية يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب اختلاف بين لغة الحديث والكتابة. وذلك في كتابه: "قواعد اللغة العامية في مصر". وأسرع صاحب المقتطف فارس نمر فقرظ هذه الدعوة، ودعا إلى تدريس العلوم وكتابتها باللغة التي يتكلم بها الناس(4) وذر قرن كارل فولرس فكتب كتاباً أسماه: اللهجة العامية في مصر(5) عام 1893م. وكان لولكوكس رأي مشابه بل وصفيق يقول في محاضرة له: إن مايعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى.. وما أوقفني هذا الموقف إلا حبي لخدمة الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف.ا هـ وأعلن في آخر محاضرته مسابقة للخطابة بالعامية، من تكون خطبته جيدة ناجحة فله أربع جنيهات(6) ومن العجب أن ولكوكس هذا كان يصدر مجلة اسمها الأزهر كان من خلالها ينفث سمومه ودعواته الهدامة. وخرج بعد ذلك نفر كثير من هؤلاء يدعون إلى كل مافيه هدم لأسس الإسلام في نفوس المسلمين. وكان منهم: سلدان ولمور الذي كتب عام 1901م كتاب: "العربية المحلية في مصر" قال فيه: ومن الحكمة أن تدع جانباً كل حكم خاطئ وجه إلى العامية، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد. ا هـ (7) وأسرع فارس نمر يقرظ هذا الكتاب كعادته في كل مايريد المستعمر. وقد وضع ولمور كتاباً آخر عام 1910م أسماه: "لغة القاهرة مضمونه كسابقه".
وكذلك كان يعقوب صروف يدعو إلى نبذ الفصحى واتخاذ العامية لغة كتابة العلوم(8) ولم يكن هذا الوباء في مصر وحدها فهذا اسكندر معلوف اللبناني أنفق وقته في ضبط أحوال العامية وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابه العلوم؛ لأنه وجد أسباب التخلص في التمسك بالفصحى(9). ونحا ابنه عيسى نحوه حيث يقول (10): إن اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهم أسباب تخلفنا.. رغم أنه من الممكن اتخاذ أي لهجة عامية لغة للكتابة؛ لأنها ستكون أسهل على المتكلمين بالعربية كافة. ولي أمل بأن أرى الجرائد العربية وقد غيرت لغتها، وهذا أعده أعظم خطوة نحو النجاح وهو غاية أملي. أ هـ.
ومن العجب أن يكون هذا الداعي إلى العامية عضواً في مجمع اللغة العربية فمن وضعه عضواً؟! من المؤكد أنه المستعمر.
وفي العراق ينعق الشاعر جميل صادق الزهاوي قائلاً:(11) فتشت طويلاً عن أسباب انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين أولهما: الحجاب الذي عددت في مقالي الأول مضاره.. والثاني: هو كون المسلمين ولاسيما العرب منهم يكتبون بلغة غير التي يحكونها. أ هـ.
ونعود إلى مصر فنجد سلامة موسى يقول في كتابه "البلاغة العصرية":(12) إن الفصحى تبعثر وطنيتنا وتجعلها شائعة في القومية العربية. ويقول عن أستاذه أحمد لطفي السيد: وقام على أثره منشئ الوطنية المصرية الحديثة فأشار باستعمال اللغة العامية، وبين أن ما يشغل بال السير ولكوكس بل يقلقه هذه اللغة التي نكتبها ولا نتكلمها. أ هـ.
وأحمد لطفي السيد تولى رئاسة مجمع اللغة العربية.(33/217)
أما محمود تيمور فيقول:(13) العامية أقدم من الفصحى عهداً وأعرق منها إلى العربية نسباً، وفي مقدورنا لو أتيحت لنا كتابة العامية أن نقول بأننا نكتب العربية ولا مراء. أ هـ وذهب يتلمس الشواذ في قواعد العربية ليلبسها العامية ويقرب بين العامية والفصحى بسوء نية(14).
أما محمد فريد أبو حديد فيدعي (15) أنه من الهين علينا تقبل العامية لجهودنا فنسمو بآدابها ونودعها ثمار كل مافي شعوبنا من عبقرية فتصبح هي لغتنا، ولاضرر علينا أن تكون لنا لغة ليست هي الفصحى. وممن دعا إلى العامية لويس عوض(16) في كتاب أهداه إلى كريستوفر سكيف الجاسوس الانجليزي. ودعا في ديوانه بلوتلاند عام 1947م إلى كسر رقبة البلاغة العربية. واتخاذ العامية لغة.
وكان للمغرب العربي نصيب من هذه الدعوة، فقد أصبحت اللغة العربية لغة ثانية بعد الفرنسية. وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغربية الفرنسية:(17) إن أول واجب في هذا السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وحرف الناس عنها بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال أفريقيا. أ هـ يقول شحادة الخوري:(18) شعر المستعمر باستحالة اقتلاع اللغة العربية من أرض الجزائر وغرس اللغة الفرنسية مكانها، فلجأوا إلى وسيلة مساعدة أخرى وهي الإيحاء لأكبر عدد من أبناء الجزائر بأن اللغة العربية ليست لغة أصيلة في الجزائر وإنما اللغة الأصلية هي البربرية لغة الأمازيغ.. وقد تطوع الفرنسيون لوضع أبجدية لها كيما يمكن كتابتها. أ هـ.
ونعود إلى الشام ولبنان خاصة فنجد رفائيل نخله اليسوعي يدعو إلى اتخاذ العامية لغة بدلاً من الفصحى في كتابه "اللهجة اللبنانية السورية". بل زاد على ذلك بتدوين كتابه هذا بالحرف اللاتيني ونشرته المطبوعة اليسوعية.
ويقول مارون غصن الخوري: إن كل لغة سائرة إلى الفناء.. لأن الشعب كله متعلق كل التعلق بلغة آبائه وأجداده، وماهذه اللغة إلا العامية. أ هـ وأتبع ذلك بإصدار كتاب بالعامية عنوانه "في متلو هالكتاب" عام 1930م.
ويتمنى مارون غصن أن يرى عاملاً عسكرياً سياسياً يفرض اللغة العامية(21).
أما المتسمي بأدونيس فيقول: إنني عدو للفصحى ذاتها وأعتبر التمسك بها سبباً أساسياً ومباشراً لما يبدو من مظاهر التخلف عن الشعوب الغربية بلا استثناء، أنا على يقين تام من أن دعوتي إلى الحرف اللاتيني واللهجات العامية سوف تنتصر لا محالة وستأخذ بها جميع شعوب آسية وأفريقية. أ هـ.
أما يوسف الخال فيدعو إلى ذلك ويرى أن العامية تستطيع أن تنتج أدباً عظيماً(23).
أساليب الدعوة إلى العامية:
قرأنا آنفاً الدعوة الصريحة لاتخاذ العامية لغة بدل الفصحى ولكن لما استعصى على من دعا إلى ذلك تلمس جمع منهم وآخرون غيرهم طرقاً أخرى تنشر العامية وتغرق بها، ومن طرقهم: دراسات اللهجات العامية، وكان للمستشرقين قصب السبق فقد ذكر أنور الجندي بعضاً منهم. ومنهم: نللينو كتب دراسة عن عامية مصر، وسيانكو فسكي عن عامية المغرب وتونس، وإلياس برازين عن عامية حلب، وليوربال عن عامية الجزائر، ودعا إلى دراسة اللهجات كثيرون منهم: أنيس فريحة ألقى محاضرات في مراكز اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية عن اللهجات وأساليب دراستها عام 1955م وسارعت اللجنة بطباعتها(25).
ومنهم إبراهيم أنيس الذي ألف كتاب اللهجات العربية، دعا فيه إلى وضع منهج علمي لدراسة هذه اللهجات المتعددة في كافة الأقطار وخاصة مصر.
وفي الأساليب كذلك تشجيع العامية تأليفاً ونشراً. فلم يأت عام 1900م حتى صدرت سبع عشر جريدة ومجلة في مصر(27) عامية. كما تحول المسرح إلى العامية وسماه المنفلوطي لذلك: الملاعب الهزيلة(28).
وأطلت الحداثة برأسها في الأدب، يقول د-عمر موسى باشا: إن مفهوم الحداثة في الأدب يعني حرية الأديب فيما يختص باستخدام اللغة، وأن للأديب الحرية الكاملة في استخدام اللغة المحلية. ونحن نعترض على إطلاق هذه الحرية مادامت تصدع صرح اللغة العربية(29).
وأخذت المجلات والجرائد تعنى بالتراث الشعبي وتخصص أبواباً ثابتة له بل وصدرت مجلات خاصة به لكي ينتشر بين الناس ويدون بعد أن كان شفهياً. يقول د- محمد محمد حسين عن هذه الآداب الشعبية: هو امتداد للدعوة إلى استبدال اللهجات المحلية مكان اللغة الفصحى(30).
يقول أنور الجندي: حاول الداعون بها أن يوجهوا العناية إلى الجمال الفني الذي تمثله الأمثال والقصص والأغاني التي يتداولها العامة، وقد دونوا مالم يكن مدوناً. فلما برزت الدعوة إلى العناية بالفنون الشعبية فتمسح الداعون بهذه الدعوة بين العرب زاعمين أن إهمال هذا اللون من الفنون ترفع عن العناية بالطبقات الفقيرة الكادحة، وما يتصل بها من شؤون أ هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ المجموعة الكاملة لمؤلفات طه حسين علم التربية 290.
2ـ الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي للكتاني جـ2 758 والاتجاهات الوطنية في الشعر العربي المعاصر لمحمد محمد حسين جـ2 359.
3ـ تيارات مسمومة ومذاهب هدامة لأنور الجندي 127، الاتجاهات الوطنية جـ2 360 لماذا يزيفون التاريخ لاسماعيل الكيلاني 6-3-317.(33/218)
4ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 360 ولماذا يزيفون التاريخ 317.
6ـ الصراع بين القديم والجديد جـ2 761 ولماذا يزيفون التاريخ 317.
7ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 360 ولماذا يزيفون التاريخ 317.
8ـ الفصحى في مواجهة التحديات لنذير مكتبي 118.
9ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 363.
10ـ السابق جـ2 363 ولماذا يزيفون التاريخ 318.
11ـ تيارات مسمومة ونظريات هدامة 196.
12ـ الفصحى لغة القرآن لأنور الجندي 127 والاتجاهات الوطنية جـ2 372.
13ـ مشكلات اللغة العربية لمحمد تيمور 188.
14ـ وعقد لذلك فصلاً في كتابه مشكلات اللغة العربية من 191 إلى 197.
15ـ الفصحى في مواجهة التحديات 138.
16ـ لماذا يزيفون التاريخ 324 ومجلة الأداب عدد 1 و2 1999م ص 101.
17ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 365 ولماذا يزيفون التاريخ 323.
18ـ القضية اللغوية في الجزائر وانتصار اللغة العربية 18-19.
19ـ لماذا يزيفون التاريخ 323.
20ـ لماذا يزيفون التاريخ 324.
21ـ السابق واتجاهات البحث اللغوي الحديث في العالم العربي ـ لبنان ـ دار رياض قاسم 388.
22ـ الفصحى في مواجهة التحديات 144.
23ـ تيارات مسمومة 272.
24ـ الفصحى لغة القرآن 127.
25ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 377.
26ـ الفصحى في مواجهة التحديات 150.
27ـ الفصحى لغة القرآن 127.
28ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 361.
29ـ تيارات مسمومة 272.
30ـ الاتجاهات الوطنية جـ2 374.
31ـ تيارات مسمومة 256.
=============(33/219)
(33/220)
السلفية المفهوم والتحديات
محمد بن شاكر الشريف
لفظ سلف في اللغة يراد به ما مضى وتقدم كما قال تعالى :"وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"[البقرة :275] كما يراد به القوم المتقدّمون فكل من تقدم من الناس فهو سلف لمن جاء بعدهم ، قال الله تعالى :"فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين" وقد وردت مادة "سلف" في القرءان في ثمانية مواضع كلها دالة عما تقدم ذكره، والملاحظ في اللفظ مطلق التقدم الزمني، دون الاقتصار على قوم معينين أو جماعة محددة من الناس، والسلف بمعنى من سبق منهم الصالحون ومنهم الطالحون، والنسبة إليه سلفي، والسلف الصالح بالنسبة لنا هم أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، والنسبة إليهم لا تعني إلا أن المنسوب إليهم سائر على نهجهم وطريقتهم، وعلى ذلك فالسلفية ليست جماعة من الجماعات، كما أنها ليست فترة زمنية من الفترات مرت وانتهت، وإنما السلفية تعني متابعة السلف الصالح في تعاملهم مع كتاب ربهم وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، في فهم الدين والعمل به والدعوة إليه، وهم أهل السنة والجماعة، مما يعني أن السلفية منهج علمي وعملي شامل ومتكامل تجاه النصوص الشرعية، وليست مجرد موقف علمي، وقد حث الله تبارك وتعالى على اتباع السلف الصالح في قوله :"وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة :100]، كما قال عنهم رسول ا صلى الله عليه وسلم :"خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ، فهي بذلك منهج قابل للتكرار على اتساع الزمان والمكان.
لقد كان التزام المسلمين بالمنهج السلفي في التعامل مع نصوص الشريعة من حيث الفهم والعمل، ضمانة ثبات الدين عندهم وعدم تحريفه في أذهانهم، مصداقا لقوله تعالى :" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر:9] كما مكَّن هذا الالتزام من التعامل مع النوازل والمستجدات بالطريقة نفسها التي تعامل بها السلف الصالح معها، مما يعني وحدة المنهج التي تؤلف بين المسلمين فتجعل منهم نسيجا متجانسا، ولا يعني هذا عدم الاختلاف بين أصحاب المنهج السلفي في الفهم مطلقا، فذلك أمر غير مقدور كما أنه ليس مطلوبا، وإنما يكون الخلاف في هذه الحالة خلافا منضبطا أي وفق أطر وقواعد معلومة، تنأى بالاختلاف في الفهم والاستنباط عن أن يكون تفرقا في الدين، أو تفلتا وخروجا على النصوص، كما لا يعني العصمة في الفهم والعمل، بحيث لا تكون هناك أخطاء علمية أو عملية، فذلك أيضا لم يُضمن لأحد غير الرسل صلوات الله وسلامه عيهم، ومن أدبيات المنهج السلفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال :"ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير صلى الله عليه وسلم " ، وتبعه في ذلك مجاهد فقال :"ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا صلى الله عليه وسلم " ، وقد ورد نحو هذا عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، وقد ورد نحو ذلك أيضا عن كوكبة كبيرة من أهل العلم في جميع المذاهب.
لقد كانت طبيعة هذا المنهج الذي يلتزم بقول الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات:1]، وبقوله تعالى :" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً" [الأحزاب:36] سبب رئيس لأن يتحالف ضد متبعيه على طول التاريخ المتفلتون الذين لم يقدموا الكتاب والسنة على ما عداهما مما يظنونه من اتباع العقول أو المصالح، بل عدوا الكتاب والسنة كأحد ما يمكن أن يرجع إليه ضمن أشياء أُخر.
مفاهيم خاطئة عن المنهج السلفي :(33/221)
يروج المناوئون للمنهج السلفي بعض المفاهيم المغلوطة عنه، ويخلطونها ببعض التحليلات التي تعتمد على تلك المفاهيم، فمن ذلك دعواهم :أن المنهج السلفي منهج إقصائي حاد وعنيف يلغي الآخر المسلم ولا يعترف به، مما يترتب عليه تقسيم البلاد وتفتيت الجماعة، وتهديد الوحدة الوطنية والعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي وهو يؤدي في النهاية إلى الاحتراب الداخلي، وهم يدعون لأجل ذلك إلى إقصاء المنهج السلفي، وإلى التمييع في متابعة الكتاب والسنة والسلف الصالح بزعم التمكين للتعددية الثقافية والمذهبية، وهذا بلا شك غير صحيح بل أصحاب المنهج السلفي هم أهل اتِّباع السنة وأهل الجماعة والاجتماع، فهم حريصون على الجماعة يذمون التفرق ويصبرون من المخالف على الأذى، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في خطبته فيما صنفه من الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله قال :الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقابا من أهل العلم يدعون من ضل إلي الهدى، ويصبرون منهم علي الأذي، يحيون بكتاب الله الموتي ويبصرون بنور الله أهل العمي، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم علي الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، وقد طبق ذلك رحمه الله عمليا وموقفه العملي في ذلك مع المعتزلة الذين عذبوه وسجنوه معروف مشهور، وهذا مالك بن أنس رحمه الله تعالى لما اسشاره هارون الرشيد في حمل الناس على موطئه قال له :"لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال" ، ومواقف أصحاب المنهج السلفي في ذلك كثيرة مشهورة فكيف يقال عنهم إنهم إقصائيون؟ وقد سُمي السلف الصالح بأهل السنة والجماعة من حرصهم على الالتزام بالسنة ومجانبة الابتداع، وعلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وبهذا يظهر أن هذه مواقف أصيلة في المنهج السلفي وليست تنازلات مؤقتة فرضتها ظروف قاهرة، والشيء الغريب في ذلك أن الذين يرمون الاتجاه السلفي بهذه الفرية هم من يعلنون ويطالبون بإقصاء التيار السلفي، بل الأغرب من ذلك أن من قبل من هؤلاء بالحل الديمقراطي وأن يكون قرار الشعب هو الفاصل، تجده يقول :ولكن كيف نفعل ذلك من غير أن يصل أصحاب المنهج السلفي إلى الحكم؟، فحتى النظام الانتخابي الذي ارتضوه يسعون إلى صياغته ليكون قائما على الإقصاء.
ومن ذلك حديثهم أن أصحاب المنهج السلفي لا يستطيعون العيش بدون معارك داخلية مع العلمانيين والراوفض وغيرهم، والشيء الغريب أن أصحاب هذه الأقوال هم من يقومون بمعارك داخلية عنيفة وإقصائية مع من يختلفون معهم، لكنهم لا يقبلون أن يرد عليهم أحد، فهم ينكرون على غيرهم ما هم غائصون فيه إلى الأذقان، ولكن بفارق مهم هو أنهم لا مرجعية لهم في إنكارهم على السلفيين، فمن المعلوم من دين الإسلام وعند كل المسلمين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما أمرت به الشريعة وجاءت به الرسالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات ثلاثة باليد واللسان والقلب، ولا شك أن كل من كان لديه علم صحيح فعليه أن يقوم بالبيان في هذا الأمر، فهل المطلوب من السلفيين أن يكفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويغلقوا أفواههم على ألسنتهم حتى يقال عنهم إنهم منفتحون أو يقبلون بالتعددية؟، إن هذا الاعتراض في حقيقته هو اعتراض على شريعة الإسلام نفسه وليس على السلفيين فحسب، إن الأمر والنهي أمر قد مارسه المسلمون في كل عصورهم، وكان ضمانة مهمة من ضمانات أمن المجتمعات الإسلامية، وإن الدعوة اليوم إلى إهماله أو تهميشه بحجة السماح بالتعددية الثقافية ونحو ذلك هي دعوة إلى إفساد المجتمعات وتخريبها، وتلك مهمة كثير من التيارات المناوئة للمنهج السلفي
حرب السلفية من جهة تيارات الحداثة بجميع فصائلها :
كل من كان يريد الخروج على هذه الشريعة الكاملة ومنازعة الكتاب والسنة في المرجعية، فلا بد أن يهاجم أصحاب المنهج السلفي لأن أصحابه هم الذين يتصدون له ويردون عليه بالدليل ويبينون زيف كلامه أو دعواه.
في عصرنا الحاضر توجد مجموعات عدة تعادي أصحاب المنهج السلفي، بعضها يستند إلى جذور قديمة وبعضها محدث جديد، فممن يستند في ذلك إلى أصولهم ومرجعياتهم القديمة، الشيعة وكذلك الصوفية.
لكن هناك فئة معاصرة تعادي أصحاب المنهج السلفي، من غير أن يكون لهم سلف أو أصول يمكن أن يرجعوا إليها، وهي فئة العصرانيين أو الحداثيين أو الليبراليين، ما يجعلهم مقطوعي الصلة مبتوتين عن أوضاع المجتمع الإسلامي، وإن حاولوا الاستناد على المعتزلة الذين قدموا العقل في أمور كثيرة على الكتاب والسنة، فكانوا لهم سلف من هذه الناحية، فلذلك يكثر من هذه الفئة المديح والتبجيل لهم، ومحاولة إحياء تراثهم، حتى صار الثناء على المعتزلة يمثل علامة بارزة لأصحاب هذه الاتجاهات.(33/222)
لقد وفرت الحملة الأمريكية الظالمة التي تشنها هي وأحلافها-على ثبات الدين الإسلامي في محاولة لتفريغه من مضمونه، أو تطويره الذي يعني تغييره وتبديله، متذرعة في ذلك بما ابتدعته وروجت له باسم الحرب على الإرهاب، وقد قدمت العديد من مراكز أبحاثهم توصيات لتحيق ذلك كتقوية الفئات المبتدعة أو الفئات الليبرالية والاتصال بهم، وفرضهم على الأنظمة، والسماح بإدخال بعضا من أطروحاتهم ومفاهيمهم للدين لتكون جزءا من المناهج التعليمية،-وفرت شروطا لنجاح أصحاب تلك الفرق في مشروعهم التخريبي، الذين عملوا على الاستفادة من هذه الأوضاع، واستغلال حالة الضعف الشديدة التي تمر بها الكثير من الأنظمة الإسلامية، والتي لم يعد يشغلها سوى الحفاظ على مكاسبها وأوضاعها.
وقد تعرض المنهج السلفي في عصرنا على أيديهم إلى مناوأة شديدة على مختلف الأصعدة ويمكن تقسيم الحديث عن حربهم للسلفية إلى ثلاثة محاور :
الأول :المرجعيات أو المصادر (الكتاب-السنة-الإجماع)
الثاني :منهج التعامل العلمي والعملي.
الثالث :رموز ورجالات المنهج السلفي.
وقد حظي كل محور من هذه المحاور بحملة من الهجوم والقدح لمحاولة إفراغه من مضمونه، أو إسقاطه من نظر المسلمين.
حرب المرجعيات :تمثلت هذه الحرب في محاولة تهميش مكانة الكتاب والسنة والإجماع باعتبارها الأصول الضابطة التي يرجع إليها عند الاختلاف، وذلك من خلال الحديث عن :
1. تعددية القراءة للنصوص الشرعية، بمعنى أن النص الشرعي يمكن فهمه بأكثر من طريق، أو أسلوب، مما يسمح بالوصول إلى نتائج مختلفة أو متباينة، وأحقية كل واحد أن تكون له قراءة خاصة به، يفهم من خلالها النصوص بلا ضابط يضبط ذلك، سوى الحديث عن موافقة العصر ومجاراة التطور، وعدم التحجر أو مخالفة العقل، من غير اشتراط لأي إمكانيات أو مؤهلات علمية تعين على الفهم والاستنباط، وهم في ذلك متأثرون بالنظرة الغربية لكتبهم المقدسة التي فقدت قداستها لكثرة ما وقع فيها من الخلط والاضطراب، الذي هو أحد نتائج التحريف الذي تعرضت له تلك الكتب على أيدي أتباعها
2. إهمال مكانة أصحاب التخصص في العلوم الشرعية في الفهم والاستنباط، تحت زعم نفي الوصاية والقداسة، ومن هذا المنطلق، انفتح الباب على مصراعيه لكل دخيل دعي يزعم أحقيته في مخالفة المستقر المعلوم الذي دلت عليه النصوص، وأيدته أقوال أهل العلم على مدى القرون، وهم في ذلك أيضا متأثرون بالنظرة الغربية لعلماء دينهم الذين جعلوا من أرائهم ومعارفهم المحدودة، شرعا ودينا يضاهي ما نزل من عند الله العلي الكبير، فقامت لأجل ذلك في الغرب حركات للإصلاح الديني من أشهرها حركة "مارتن لوثر"، حيث دعا إلى رفع وصاية القساوسة عن "الكتاب المقدس" وأن تتاح قراءته لجميع النصارى بعيدا عن التقيد بشروحات أو أفهام القساوسة والرهبان
3. تاريخية الشريعة بمعنى ربط النص بالحادثة أو الواقعة التي جاء فيها، بما يعني إخراج الشريعة عن عمومها وشمولها، وهو ما يعني في حقيقته نسخ الشريعة، وإذا لم يكن النسخ كاملا عند بعض هؤلاء، فعلى الأقل نسخ كل ما يتعارض من الشريعة مع ما يعدونه من قيم التحضر والمعاصرة، انطلاقا من أن تلك النصوص المتروكة إنما هي نصوص تاريخية ليست عامة أو شاملة، فصارت هذه القيم بمنزلة المحكم الذي يُقدَّم على غيره، وتحرف لأجله النصوص الواضحة المحكمة باسم التأويل.
حرب المنهج العلمي : وذلك من خلال :
1. الاعتداد الزائد عن الحد بالعقل وتقديمه على النص، فإذا تعارض ما دل عليه الشرع مع ما دل عليه العقل، كان ما دل عليه العقل هو المقدم،
2. تأسيس الأحكام على ما يتصور أنه مصلحة من غير مراعاة لأية قيود أو ضوابط سوى مجرد المصلحة.
3. الخروج على الضوابط الشرعية والتفلت من الاتباع بدعوى التيسير، فأصبح لفظ التيسير هو الصخرة التي تحطم بها الضوابط والقيود والحدود، وتخالف بها النصوص الصريحة في دلالاتها
حرب الرموز :(33/223)
أما الرموز فهي القيادات المتبعة للمنهج السلفي والداعية إليه والمقررة لأصوله، ويكون ذلك بالطعن فيها بنبزها بالتحجر والانغلاق، وعدم معرفتها بالواقع، وعدم الانفتاح على قيم العصر، وأن هذه القيادات لم تعد مما يصلح في حقبة العولمة التي تحول فيها العالم إلى بقعة كبيرة متجانسة متصلة ببعضها اتصالا وثيقا على رغم بعد المسافات بينها، ومحاولة حصر المنهج في عدد من الأشخاص وكأنهم هم الذين حاؤوا به أو ابتدعوه، وليس هو منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، فتراهم يحصرون المنهج السلفي في العصر الحديث في الشيح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ومن قبل يحصرونه في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، في حين أن هؤلاء الأعلام لم يكونوا أكثر من مقررين لمنهج السلف، ناقلين له، وداعين إليه، فلم يكونوا منشئين له، والدليل على ذلك أنك تجدهم يستدلون على ما يقررونه بكلام المتقدمين من أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المتَّبَعين كأبي حنيفة ومالك والليث والشافعي وابن حنبل والبخاري والطبري وابن عبد البر والآجري واللالكائي والهروي والدارمي وابن مندة، وغيرهم كثير
ساحات العمل :
لقد بان أن على أصحاب المنهج السلفي أن يجاهدوا في ساحة عمليات واسعة، تشتمل على عدة جبهات كلها مفتوحة في آن واحد، ولا شك أن تعدد الجبهات واتساعها من شأنه أن يضعف القوة المواجهة ويشتتها، كما قد يورث نوعا من البلبلة والتداخل بل وربما التعارض أحيانا، وليس هناك من خيار في مواجهة تلك الجبهات جميعا، لكن قد يمكن التأجيل بعض الوقت مع بعض الجبهات، وتقديم مواجهة الأخطر على الخطير إذا لم يمكن استيعاب الجبهات جميعا، كما يمكن تقسيم العمل بحيث تتفرغ مجموعة لمواجهة طرف من أطراف الهجوم على المنهج السلفي، بينما تتفرغ مجموعة أخرى لمواجهة طرف ثان وهكذا، ويتبين من هذا أن الساحة تتسع لكل فصائل التيار السلفي بالمشاركة دون المزاحمة، والجبهات المفتوحة لمحاربة المنهج السلفي هي :جبهة الشيعة، جبهة الصوفية، جبهة تيار الحداثة بكل فصائله، جبهة الغلاة الذين يغالون في المنهج السلفي، وفي المقابل لهم فئة المتخاذلين أمام جبروت الظالمين وكلهم يزعم اتباع المنهج السلفي، وهم رغم تناقضهم الشديد إلا أنهم وجهان لعملة واحدة، هي البعد عن المنهج السلفي إما بالغلو فيه، وإما بالجفاء عنه
التحديات التي تواجه الدعوة السلفية: هناك العديد من التحديات التي تعترض مسير الدعوة إلى المنهج السلفيي، والتي يمكن النظر إليها من خلال جهة التحدي : فهناك تحديات دولية، وهناك تحديات محلية، كما أن هناك تحديات داخلية، نذكر منها ما يلي :
التحديات الدولية :
تتمثل التحديات الدولية في الحملة العالمية المعلنة على الإرهاب، والتي تحاول الربط ظلما وافتراء بين الإرهاب والمنهج السلفي، فاتِّباع المنهج السلفي يعد في نظر أصحاب هذه الحملة من الإرهاب الذي ينبغي محاربته، ويعدون المنهج السلفي هو منتج الإرهاب، ولا يستثنون من ذلك إلا ما يدعونه بأنه معتدل، والاعتدال عندهم ليس هو ما ينافي الغلو، ولكن الاعتدال هو القبول بالقيم الغربية والدعوة إليها، أو عدم معارضتها، فأتْباع المنهج السلفي-عندهم-إما إرهابيون بالفعل، وإما إرهابيون بالاستعداد، مما ترتب عليه ضغط الحكومات الغربية على كثير من الأنظمة الإسلامية للتضييق على الاتجاه السلفي ومحاصرته، وذلك عن طريق إلغاء التعليم الديني أو التضييق عليه، وتقييد النشاط الدعوي السلفي،وتقليص الدعم المادي إلى حدود متدنية، ولا يبعد عن ذلك تلك الهجمة الشرسة على المؤسسات الخيرية الإسلامية التي تقوم بالعمل الخيري بين المسلمين، وهذا يؤثر بلا شك على الدعوة السلفية حيث يجعلها في دائرة الاتهام في نظر المخدوعين بهذه الحملة الظالمة، مما يصد الكثير من المسلمين عنها.
وفي تقرير شيرلي بينارد الذي أعدته مؤسسة راند لمقاومة الإسلام في شخص المتمسكين به، قدَّمتْ عدة من التوصيات لصانعي القرارات فمن ذلك :أن الصوفية تمثل تأويلا فكريا منفتحا للإسلام، ويجب أن يتم تشجيع التأثير الصوفي بقوة في البلدان التي لديها تقاليد صوفية مثل العراق وأفغانستان، وذلك من خلال التأثير في مناهج التعليم وقيم المجتمع وثقافته، حيث إن الصوفية بما لديها من طقوس شعرية وموسيقية وفلسفية تمثل جسرا للخروج من الاندماج الديني، ومن ذلك يجب دعم الحداثيين في المقام الأول وذلك من خلال تغليب نظرتهم للإسلام..ويجب العناية بهم وتقديمهم إلى الرأي العام على أنهم يمثلون الوجه المعاصر للإسلام، ومن ذلك تشجيع العلماء من أنصار الحداثة في تأليف الكتب وإعداد المناهج الدراسية، ومنه الاستفادة من وسائل الإعلام الإقليمية للتعريف بأفكار وممارسات أنصار الحداثة المسلمين، ومن ذلك العمل على تأهيل نماذج قيادية يقتدى بها، ومن ذلك مشاركة الغالبية من المسلمين من أنصار الحداثة في المناسبات السياسية ليصبحوا حقيقة سكانية ماثلة للعيان ، إلى غير ذلك من التوصيات، التي تأخذ طريقها إلى التنفيذ في واقع المجتمعات الإسلامية.(33/224)
التحديات المحلية :
وأما التحديات المحلية فكثيرة منها :سيطرة كثير من مروجي بضاعة الغرب الفكرية على مواقع التأثير، والذين يرون أن في التمسك بالمنهج السلفي والمحافظة عليه خطرا يهدد سلامة المجتمع وأمنه وتآلفه، ولذلك يدعون إلى التخلي عن هذا المنهج وتجاوزه، واستغلال واقع العالم المناوئ للمنهج السلفي في كسب أرض جديدة، والضغط على الأنظمة لابتزازها في التصدي للدعوة السلفية،واستعداؤها عليها بزعم الخطورة على استقرارها، والتخويف بالعالم الغربي.
ومن ذلك السماح للاتجاهات المنحرفة إسلاميا كالشيعة والصوفية وتيارات الحداثة في الدعوة إلى انحرافاتهم، ومن ذلك تجاهل أصحاب الدعوة السلفية في كثير من المجتمعات، وإبعادهم عن مراكز التأثير، والحيلولة بينهم وبين المناصب العليا في مؤسسات الدولة المهمة، وعدم إشراكهم في حركة التصحيح والإصلاح، بل حجبهم عن ذلك ومنعهم منها، مما يؤثر على قدرتهم في إصلاح مجتمعاتهم ويحول بينهم وبين الانفتاح على شعوبهم.
ومنه جهل كثير من الشعوب الإسلامية بحقيقة دين الإسلام، مما أدى إلى اختزال الإسلام على شموله وعمومه في بعض أركانه عند فريق، وفي مستحباته عند فريق آخر، بل بلغ الاختزال إلى مجرد الانتساب إليه، فالإسلام عندهم هو الانتساب إليه، ولو لم يقم بأيٍّ من فرائضه، وقد ترتب على هذا الاختزال أن انحرفت كثير من العقول عن جادة الطريق وتعلقت بسفساف الأمور، ولا شك أن هذا الاختزال عند الكثيرين يجعلهم ينظرون إلى دعاة المنهج السلفي وكأنهم قد أتوا بدعوة جديدة، وليس تجديدا لمفهوم الدين الصحيح.
ومن التحديات الخطيرة التي يظهر أنها مرشحة بقوة في الفترة القادمة لمواجهة المنهج السلفي، الإغراء بلعبة الحل الديمقراطي والانتخابات، مما قد يغري طائفة كبيرة من الناس بالتحول إلى ذلك الخيار خاصة مع التضييق على المنهج السلفي، فيذهب الناس إليه على أنه متنفس لهم، يحاولون عن طريقه تحقيق ما يمكن تحقيقه، وإذا كان من الممكن تحقيق بعض الإيجابيات من ورائه على المدى القصير، فإن سلوك هذا الطريق والتعويل عليه سيكون على المدى الطويل حائلا عن اجتماع المسلمين على متابعة الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام، ولذلك فإننا نجد ضغطا غربيا على الدول العربية والإسلامية لفتح هذا الباب حتى آخر مداه، ولا يكون ضغطهم هذا لخير الأمة فقد قال الله تعالى في وصف حالهم :" َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ"، والآيات في ذلك كثيرة، وإنما يضغطون لما يعود عليهم من النفع من وراء ذلك.
التحديات الداخلية :
وأما التحديات الداخلية فهي تتمثل في التحديات الآتية من داخل التيار السلفي نفسه، فمن ذلك :تقدير بعض الفصائل لنفسها تقديرا زائدا عن الحد حتى لترى أنها الفرقة الناجية دون ما سواها من المسلمين، ومن ثم النظر لكل من خالفها على أنها من الفرق المذمومة، ومن ذلك وسْم المنهج السلفي بسمات ضيقة مما يترتب عليه أن يُخرج كل فصيل من المنهج السلفي الفصيل المغاير له في الفهم ولو في بعض القضايا الفقهية، ومنه اختزال العمل الدعوي كله في العناية ببعض المسائل العلمية، وتحقيقها وشرحها والدعوة إليها.
ضوابط وآليات في المواجهة :
أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم الأمناء على هذا الدين وهم من يقع على كاهلهم أمانة تبليغه والمحافظة عليه، وهم الذين عناهم الرسو صلى الله عليه وسلم بقوله :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " ، وهم المناط بهم مواجهة الخارجين عن هذه الشريعة أو الزائغين عنها، وهناك أمور مهمة يحتاج إليها المسلم على الدوام في رد عادية المعتدي، فمن ذلك :
1. الجهر بالحق والمفاصلة عليه مع من يبغضون الحق ويكرهونه، وعدم الضعف في ذلك أو التلون أمام ضغوط الإكراه أو الإغواء، وقد الله تعالى لرسوله وهو في مكة :"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [يونس:104]، وقال له :"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" [الكافرون:2،1] وهو قول له ولكل من اتبعه وسار على منهاجه، ولكن ينبغي الحذر من البغي أو الاستطالة على الآخرين.
2. كشف المحاربين للدعوة السلفية والذين يتدثرون ببعض أرديتها، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، لكن من غير أن يُظلم أحد أو يُتهم بغير بينة ودليل يرشد إلى ذلك.
3. عدم الفتور في نشر المنهج السلفي وجمع الأمة عليه، والتماس كل طريق صالح يؤدي إلى ذلك، فإن الدعوة السلفية دعوة للاجتماع على الحق قولا وعملا.(33/225)
4. تحديث وسائل الدعوة ومواجهة الخارجين على المنهج السلفي بأساليب ووسائل صحيحة مقبولة وفق قواعد المنهج السلفي، مع عدم الانسياق وراء ما تروجه وسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين عن الخيار الديمقراطي.
5. الثبات على الحق وعدم المداهنة أو الخضوع والخنوع :من عوامل قوة المنهج السلفي الثبات على الحق، وفي أجواء الحملة المضادة ربما يحاول بعضهم أن ينحني للعاصفة حتى لا تقتلعه، وإذا كانت قواعد السياسة الشرعية تسمح للمسلم أن يؤخر الدعوة إلى أمر من الدين إذا علم أنه لا يقدر على ذلك، فيؤخره إلى حين التمكن، لكن لا ينبغي له المداهنة والموافقة على بعض الباطل في مقابل أن يُسمح له ببعض الحق، فالسكوت عن التكلم بالحق إذا لم يكن ذلك مقدورا أولى من النطق بالباطل وقد حذر القرآن من ذلك المسلك فقال تعالى :"وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم:9] وقد بين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى معنى ذلك فقال :"ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم، إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك" ، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى :"ودوا لو ترفض بعض أمرك، فيرفضون بعض أمرهم" ، فالمنهج السلفي يأبى الصيغ التوافقية التي يترتب عليها الإقرار ببعض الحق بجانب بعض الباطل، أو التخلي عن بعض الحق في مقابل أن يتخلى أهل الباطل عن بعض باطلهم، ونلحظ في هذا المجال في أيامنا هذه محاولة إدخال كثير من الألفاظ والتعابير وحشرها بعجرها وبجرها في نسيج الأمة الثقافي من غير أي تمييز، وموافقة كثير من الناس على ذلك أو السكوت عليه، كما نلحظ اتهام من يميز هذه الألفاظ ويبين ما فيها من الصواب وما فيها من الخطأ، فمن هذه الألفاظ التي غزت ثقافتنا التسامح أو الإخاء الديني، والاعتراف بالآخر المختلف ثقافيا وعقديا، ونبذ التعصب والكراهية للآخر المختلف، والبحث عن المشترك الإنساني والتعاون لخير الإنسانية، وفي المقابل نجد عملية تغييب مقصودة لكثير من المصطلحات الشرعية مثل الولاء والبراء، ودار الحرب ودار الإسلام، وأحكام أهل الذمة.
6. الصبر وعدم الضجر واستعجال النتائج :إن مشروعا ضخما كمشروع المنهج السلفي يحتاج إلى جهد ومثابرة ومكابدة وطول زمان، والاستعجال يقوض العمل ويفسد النتائج، فالزلل يلازم المستعجل، لكن عدم الاستعجال لا يعني التراخي والكسل، بل الجد والاجتهاد والحرص كلها أمور مطلوبة في ترسيخ هذا المشروع الكبير، وقد قال نوح عليه السلام :"إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً وقال :"ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً" مما يبين حرصه الشديد وجهده المتواصل، وكذلك الأنبياء من بعده، وعلى رأسهم سيد البشر r فلم يستعجل إذ ظل يدعو في مكة ثلاثة عشر عاما من غير استعجال النتائج، ولكن مع الجد والاجتهاد في الدعوة حيث كان يلقى الناس في المواسم ويعرض عليهم دعوته، كما خرج من مكة إلى الطائف يدعو إلى ربه، فلم يكن عدم الاستعجال مدعاة للتواني أو الخمول، وكان r يرشد أصحابه إلى عدم الاستعجال، فعندما قال له خباب رضي الله تعالى عنه وهم يُضيق عليهم في مكة :ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا, قال لهم بعدما ذكر ما كان يلاقيه المسلمون السابقون من أقوامهم :"والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" .
لكن هناك ضوابط لا بد مراعاتها في هذه المواجهة والتي منها :
1. العدل والإنصاف، فلا يجور على المخالف، ولا يعاملهم بمثل ما يعملون من الكذب والغش والخيانة، قال الله تعالى :"ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، والعدل والإنصاف مطلوب مع كل أحد سواء كان من أهل السنة والجماعة، أو كان من أصحاب الفرق، أو كان من غير المسلمين، وأما من كان يفترى على أصحاب المنهج السلفي فإن الله تعالى يرد كيده في نحره ويخذل المفترين قال الله تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " [الأعراف :152] فبين الله تعالى أن هذه العقوبة جزاء لكل مفتر.
2. اتباع الظاهر وعدم التنقيب عن البواطن، فإنه لا سبيل إلى الاطلاع على البواطن إلا للذي يعلم السر وأخفى، لكن ينبغي مع هذا عدم الغفلة عن القرائن التي تنبئ عما وراءها، كما قال تعالى :" وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" [محمد :30]، وإذا كانت هذه القرائن لا تصلح لإصدار حكم على صاحبها، لكنها تصلح للاحتراز والاحتراس منهم، وهو معنى ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه :"احترسوا من الناس بسوء الظن" والحسن البصري ومطرف بن عبد الله من التابعين، وكذلك ما ورد في أمثال العرب من قول القائل :أخوك البكري فلا تأمنه.(33/226)
3. عدم المبالغة أو الغلو في الأحكام :فمن المعروف أن أحكام الشريعة ليست كلها على وزان واحد، فمنها ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه والخلاف ضعيف، ومنها ما هو مختلف فيه والخلاف قوي، وكل نوع من هذه الأنواع له أحكامه المترتبة على وضعه، ولا ينبغي إنزال الجميع منزلة واحدة بحيث تعامل المسائل المختلف فيها كما لو كانت مسائل إجماعية، ولا تعامل المسائل المشهورة كما لو كانت معلومة من الدين بالضرورة، كما لا ينبغي حمل الناس على مذهب واحد في العلم والفتيا في المسائل الاجتهادية.
ويتبين مما تقدم أن أصحاب المنهج السلفي أهل السنة والجماعة بحاجة إلى وحدة الصف وعدم التنازع وتفريق الجهود، والثبات على الحق ورفض المساومة عليه، والجد والاجتهاد واحتمال الأذى في العمل لهذا الدين، وبيان فساد الدعوات المخالفة، وبيان ارتكانها على المشاريع الغربية الساعية لتقويض صرح هذا الدين، حتى يحذرهم الناس على دينهم ودنياهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
-===========(33/227)
(33/228)
تزايد النزعة الدينية لدى البشر
بحث مقدم من الطالب
محمد حسن يوسف
مادة التكامل الاقتصادي في العالم الإسلامي
الأستاذ الدكتور/ رفعت العوضي
يناير 2007
تزايد النزعة الدينية لدى البشر
إعداد: محمد حسن يوسف
بدأ الحضور المتنامي للظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة يتجه لكي يصبح اتجاها كونيا، بما في ذلك الدوائر الحضارية للديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. وفي هذا الإطار، يمكننا فهم مقولة الأديب الفرنسي أندريه مالرو: "سيكون القرن الواحد والعشرين دينيا أو لن يكون".1
فبعد ما يربو عن قرنين من الزمان، تجد الدولة العلمانية نفسها وهي تحكم مجتمعا يتدين بتصاعد كما كشفت عن ذلك الاستطلاعات والدراسات المتعددة، وهذه مفارقة مقلقة جدا للدولة العلمانية، أثارها أكثر من مفكر ومحلل سياسي ورجل دين، خاصة في المناقشات الدائرة اليوم حول منع العلامات الدينية من الظهور في المدارس والمؤسسات العمومية، فكيف يقبل ويعقل أن يكون المجتمع غير علماني، بل متدينا، في حين أن دولته علمانية بنص الدستور. أما أعضاء الحكومة فيقفون في منزلة بين المنزلتين: بين المجتمع المتدين والدولة غير المتدينة ... ومن المسلم به في الحداثة المعاصرة أن فرنسا هي رائدة فصل الدين عن السياسة منذ ثورتها الشهيرة عام 1789، حيث صاحت الأصوات مرددة بحماس وقوة: "اشنقوا آخر الملوك بأمعاء آخر قسيس"، وفي تلك الأجواء الحامية ظهرت الدولة العلمانية وتطورت ونمت حتى فصلت في الجو المشحون بين الدين والدولة جاعلة ما لله وما لقيصر لقيصر، وتوج ذلك في قانون عام 1905.2
لقد كان طغيان الكنيسة الكاثوليكية في المجالين الديني والدنيوي معا هو المحرك الأساسي لاحتدام الصراع بينها وبين أصحاب السلطة من الأمراء والملوك وأصحاب النفوذ والتطلع الفكري من العلماء والأدباء والفلاسفة.3 ولذلك أخذ هذا الصراع صورة صراع بين طبقة وطبقة، أو سلطة وسلطة. وعلى أساس من الفصل بين الكنيسة والحكومة، حدّد الغربيون معنى الدين، فأرادوا به التوجيه الروحي للأفراد، كما حددوا معنى الدولة والحكومة، فقصدوا بها تنظيم العلاقات بين الأفراد.4 وظل هذا الفصل قائما دون المساس بالدين، إلى أن أصبحت مع القرن التاسع عشر ثورة على الدين كله بوجه عام، ودعوة صريحة تنادي بعدم حاجة الإنسان إلى وجود إله، وبالتالي فلا ضرورة ولا أهمية للدين في النشاط الإنساني.5
بل نكاد نجزم أنه على الرغم من كل هذا الغلو الإلحادي، إلا أنه لم يستطع أن ينزع الدين من حياة الناس. فالدين أمر فطري فطر الله الناس عليه، بل حتى السياسة لم تستغن عن الدين، ولن تستغنى عن الدين، والفصل التام بينهما يكاد يكون مستحيلا. يقول الزعيم الكبير المهاتما غاندي: " لكي يرى الإنسان روح الحق الكبرى التي تخلل كل شيء وجها لوجه، يجب أن يكون في قدرته أن يحب أدنأ صور الخليقة كما يحب نفسه. والرجل الذي يتطلع إلى ذلك لا قبل له بأن ينعزل عن أي ميدان من ميادين الحياة، وهذا هو السبب الذي من أجله دفعني حبي للصدق والحق إلى ميدان السياسة. وأستطيع أن أقول دون تردد، وفي الوقت نفسه بكل ذل وخضوع: إن الذين يقولون إن الدين لا علاقة له بالسياسة لا يعرفون معنى الدين ".
فهذا الزعيم الكبير ذائع الصيت، والسياسي النادر الوجود، يرى أن طهارة النفس ضرورية لكل عمل إنساني، وبصفة خاصة لرجل السياسة الذي يدير شئون البلاد والعباد. والنفس البشرية لا تتطهر إلا إذا عرفت الله تعالى حق المعرفة وآمنت به، ومن هنا يمكن أن ندرك قوله: " إن الذين يقولون إن الدين لا علاقة له بالسياسة لا يعرفون معنى الدين ".
والدليل على ذلك: أنه حتى في الموطن الأصلي للعلمانية في مرحلتها الأولى والثانية، انجلترا وألمانيا وفرنسا، لم يستطع أحد أن ينحي الدين عن الحياة:
* فالتاج البريطاني لم يزل حاميا للبروتستانتية - والملكة هي رئيسة الكنيسة فيها -
* وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة علمية
* والدولة في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا - رغم إعلان أنها علمانية - تساعد المدارس الدينية من ضرائبها الخاصة التي تجبيها من المواطنين، مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية.
* ولا يستطيع أحد أن يقول: إن نفوذ الكنيسة الكاثوليكية قد تلاشى في أوربا، بل كانت كلمة البابا ولا تزال تسمع بعناية واحترام، لا في الشئون الدينية فحسب، بل حتى في الشئون السياسية. بل إن البابا السابق يعد من أنشط البابوات في التدخل في القضايا السياسية، ولا ينكر أحد دوره الخطير في تقويض العالم الشيوعي بأكمله، وذلك بتضامنه مع حركة التضامن البولندية - موطنه الأصلي - التي هب العمال فيها العمال هبتهم الكبرى ضد النظرية الشيوعية وضد النظام الشيوعي بكامله.
أليس هذا دليلا على تأثير الدين في حياة الإنسان؟6
وبالنظر إلى ما يحدث من تطورات في عالم اليوم، نجد جنوح العالم إلى الدين بشكل لافت للنظر، على النحو التالي7:
* امتدادات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية(33/229)
* بروز ظاهرة الديمقراطيات المسيحية التي تمكنت من احتلال مواقع متقدمة في هرم السلطة في الكثير من الدول الأوربية المتقدمة
* الاتساع الملحوظ للقاعدة الاجتماعية للكاثوليكية، لاسيما في صفوف الشباب
* السياسة الأمريكية الحالية
* الديانات الجديدة في آسيا، لاسيما اليابان، التي تعيش أشكالا تجديدية للكونفوشيوسية والبوذية في هذا السياق، لم تكن تصريحات الرئيس بوش في اللقاء الذي جمعه في البيت الأبيض بكتاب وصحفيين محافظين، والذي اعتبر فيها أن الولايات المتحدة تشهد الصحوة الدينية الثالثة في تاريخها، وأن المناخ الثقافي العلماني الذي كان سائدا في الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات قد ولى، هي المؤشر الوحيد على التغيرات الثقافية التي يمر بها المجتمع الأمريكي منذ سبعينات القرن العشرين وحتى الآن، والتي يحلو للبعض أن يطلق على هذه الحالة إجمالا واختزالا "عودة أمريكا إلى ربها".8
قد يوافق معظم الأمريكيين على أنهم يعيشون في مجتمع علماني secula صلى الله عليه وسلم ولكننا نشهد اليوم حرباً مشتعلة بين فكرتين مختلفتين عن معنى كون المرء علمانياً. فكلما انطلق المرء باحثاً عن البسيط والواضح في التاريخ الأمريكي، وجد نفسه، بعد وقت قصير، وجهاً لوجه أمام كمٍّ هائل من المفارقات. ولا أكبر من هذه المفارقة: إن الدولة الرائدة - عالمياً - في الإبداعين التكنولوجي والاجتماعي، هي، في الوقت نفسه، الحصن الأساس - عالمياً - للإيمان الديني وممارسته. وقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية الحفاظ على مستويات عالية من الإيمان الديني التقليدي والارتباط به، حتى وهي تتهادى في مياه الحداثة mode r nity الصافية السريعة.9
وبالفعل، يوجد شعور متنامٍ بأن الدين قد يكون قوة حيوية دافعة للكرامة الإنسانية والنظام الأخلاقي في عالم تهيمن عليه بيروقراطيات الدولة الشرهة والشركات العابرة للقارات التي تنتشر باستمرار ولا تخضع خضوعاً فاعلاً للقانون القومي أو تُسأل مسائلة فاعلة أمام سنن السلوك الراسخة. فكما يحاجج عالم الاجتماع هوزيه كازانوفا، تُخاطر الحداثة بإمكانية "أن يلتهمها المنطق غير الإنساني المتصلِّب الذي خلقته بنفسها"، إلا إذا استعادت "حواراً خلاّقاً" مع التقاليد الدينية التي تحدتها بنجاح كبير. وتوجد، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، أدلة وافرة على أن المعتقدات والممارسات الدينية قد صمدت، جماهيرياً وبقوة، أمام كل محاولات طمسها أو تجاوزها وأنها الآن صاعدة.10
وبعض الأمور لم تتغير أبداً، رغم نجاحات العلمانية المذهلة في المحاكم والأروقة الحكومية والأكاديمية. فلا يزال النطق بالصلوات مألوفاً عند افتتاح دورات الكونغرس، ويظهر اسم الله على أوراق النقد، ويُنطق في القسم الذي نقسمه في المحاكم. ولا يزال الكونغرس والقوات المسلحة يوظفون القساوسة. ولا تزال المؤسسات الدينية تتمتع بوضع قانوني يعفي المتبرعين لها من الضرائب. ولا يزال الإيمان المُعلن بالله طاغياً بشكل مذهل، كما لا يزال معدَّل ارتياد الكنائس المسيحية والمعابد الدينية اليهودية عالياً، في الأقل نسبة إلى معدَّله في بلدان غربية أخرى. وسواء نظر المرء إلى هذه الظواهر موافقاً أو غير موافق، فإن أمريكا ما زالت بلداً غير علماني كلياً، بلداً خالياً من أي جزاء حكومي على الدين.11
وكما أن للدين أثر في الحياة الاجتماعية، فإن للدين أثر كذلك في الحياة السياسية، كغيره من العوامل الأخرى التي تؤثر في السلوك السياسي للأفراد كالطبقة الاجتماعية، والعرق، والمنطقة الجغرافية، والآراء حول السياسة الخارجية. كل هذه العوامل لها دور في تحديد السلوك السياسي للناخبين. ولكن التأثير الذي يحدثه كل عامل يختلف عن غيره من حيث الأهمية والامتداد.12
وعن القرارات السياسية أيضا: فقد غرقت الأصولية الإنجيلية الأمريكية حتى أذنيها في المشروع الصهيوني " باعتباره تجسيدا للإرادة الإلهية. واعتمد المنطق اللاهوتي لقساوسة هذه الحركة على مبدأ أساسي، تحدد فيما يلي: " إن أرض فلسطين هي الأرض المقدسة، لأن الله جعل هذه الأرض ملكا لشعب مميّز من ذرية داود. ولذلك فإن كل من يحاول فصل شعبها عنها يتعرض لعقاب إلهي ". وقد وجد قساوسة هذه الحركة في احتلال إسرائيل للقدس علامة بارزة من العلامات الممهدة للعودة الثانية للمسيح. ولذلك قال كل من القس بيلي غراهام والقس نلسون بال: " إن سيطرة اليهود على القدس، لأول مرة منذ ألفي عام، يثير في نفس دارس الإنجيل قشعريرة روحانية ويجدد إيمانه بصحة وبصدقية كل ما ورد فيه ".
لم تقتصر هذه المشاعر على القساوسة فقط، ولكنها غمرت سياسيين أيضا، بمن فيهم بعض رؤساء الولايات المتحدة. ولعل الرئيس رونالد ريجان كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين إيمانا والتزاما بعقيدة الصهيونية المسيحية. وكان يؤمن بنظرية هرمجيدون، وكان يقول: " إننا الجيل الذي سيرى هرمجيدون ". ولذلك فإن فترة رئاسته اُعتبرت الفترة الذهبية للصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة.(33/230)
بهذه الخلفية العقدية، وافق ريجان في عام 1986 على قصف ليبيا لأنه اعتبرها " عدوا لله ". وعندما تمكن التحالف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي من إخراج القوات الفلسطينية من لبنان في عام 1982، اعتبر ريجان - في خطاب له - ذلك الإنجاز " مفخرة لأمريكا، لأننا معنيون بالبحث عن السلام في الشرق الأوسط، ليس كخيار إنما كالتزام ديني ".
على أن هذا المشهد المنتظر لن يتم في مفهوم الحركة الصهيونية المسيحية ما لم تتهود فلسطين كاملة، ولذلك فإن القس روبرتسون وجّه مذكرة إلى الكونجرس الأمريكي في أبريل 2002، دعا فيها إلى دعم إسرائيل بكل الوسائل ضد الإرهاب الفلسطيني ( أي: الانتفاضة الفلسطينية )!!!13
وعن البعد الديني للحرب على العراق: قبل الحرب الأمريكية على العراق، صبّ قساوسة الصهيونية المسيحية جام غضبهم على الانتفاضة الفلسطينية، ووقفوا ضد أي تسوية سياسية انطلاقا من إيمانهم بأن السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط يتعارض مع مستلزمات العودة الثانية للمسيح، وفي مقدمتها حتمية معركة هرمجيدون.
ودعا القس والتر ريغانز إلى محاربة اتفاقي أوسلو وواي ريفر بحجة أن الاتفاقين يمنحان الشرعية " للطموحات " الفلسطينية في القدس وفي الضفة الغربية. وحذر من أن ذلك سوف يشكل الخطوة الأولى في مسيرة الفلسطينيين " الإرهابيين " نحو القضاء على إسرائيل. وحتى يعطي هذا الموقف السياسي خلفية دينية، أعلن القس ريغانز: " إن اتفاقات السلام هي خيانة لله ولنواياه نحو الشعب اليهودي ... فالسلام كاذب لأن جذوره تنطلق من الشيطان ". ويعرض القس كلارنس الأمر في غاية الوضوح، فيقول: " علينا أن نشجع الآخرين على فهم الخطط الإلهية وليس الخطط التي هي من صنع الإنسان في الأمم المتحدة، أو حتى في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي أو في أوسلو أو في واي ريفر ... الخ. إن الله بعيد عن أي مخطط يعرّض مدينة القدس للصراع، بما في ذلك منطقة جبل الهيكل وجبل الزيتون، وهو أبعد ما يكون عن إعطائها للعالم الإسلامي. إن المسيح لن يعود إلى مدينة إسلامية تدعى القدس، ولكنه سيعود إلى مدينة يهودية موحدة تدعى ( جروزالم ) ".
وعلى الانتفاضة الفلسطينية: تلقي هذه الأفكار اللاهوتية للمسيحية الصهيونية الضوء على المواقف السياسية التي اتخذتها إدارة الرئيس بوش، والتي اتخذها الرئيس نفسه، من القضية الفلسطينية وانتفاضة الشعب الفلسطيني ضد اجتياح الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة، وارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ذلك أن تلك الجرائم، على بشاعتها، لم تكن لتحرك مشاعر إنسانية أو لتوقظ ضميرا معذبا، طالما أنها يُنظر إليها على أنها من أعمال تُرتكب باسم الله ومن أجل تحقيق برنامجه في الأرض المقدسة.
إن الأدبيات الدينية التي توظفها هذه الحركة الصهيونية المسيحية، تجعل من اليهود المؤتمنين على الخطة الإلهية التي يتحدد بمقتضاها مصير البشر جميعا، وتجعل من إقامة دولتهم المدخل الوحيد الذي لابد منه للعودة الثانية للمسيح، وهي العودة التي تحسم مصير صراع الإيمان والكفر، والتي تنتهي بانتصار المسيح وسيادته على العالم مدة ألف عام، ومن ثم تقوم الساعة.
في ضوء هذه الأدبيات الدينية، يمكن فهم خلفية الموقف الرسمي الأمريكي المعارض لمبدأ عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، والذي يشجّع في الوقت نفسه اليهود على الاستيطان في إسرائيل وفي بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة!!14
ومع دراسة الأعداء لتاريخنا وفهمهم له والتحرك من خلاله، فإنهم كذلك يأخذون ثاراتهم من هذا التاريخ أيضا. ومن ذلك15:
* أصر المجتمع الدولي على إقامة مفاوضات التسوية النهائية بين فلسطين وإسرائيل بمدينة مدريد في أسبانيا في عام 1992، وهي ذكرى طرد أبي عبد الله محمد الصغير آخر ملوك المسلمين من أسبانيا منذ نحو 500 عام في الثاني من يناير عام 1592 من ميلاد المسيح عليه السلام الموافق للثاني من ربيع الأول عام 897 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم . والرسالة واضحة إلى الفلسطينيين: لا تظنوا أن تكون لكم دولة، بل سيكون مصيركم في فلسطين هو نفس مصير أسلافكم في الأندلس!!
* في عام 1917 دخل اللورد أللنبي في طرقات بيت المقدس قائلا: الآن انتهت الحروب الصليبية. أي إنهم يخططون مدة ثمانية قرون للثأر من هزائمهم التي أصيبوا بها آنذاك. ثم ظلوا يخططون للعودة إلى بيت المقدس طيلة هذه المدة إلى أن تسنى لهم ذلك في آخر الأمر.
* وفي عام 1920 دخل الجنرال الفرنسي جرو دمشق، وكان أول مكان يزوره ليس قصره ولا معسكرات جيشه ولا مكان ضيافته، وإنما إلى قبر صلاح الدين الأيوبي. فقال لجنوده: امضوا بي إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، فقد اشتقت إلى المقابلة! ولما ذهب إلى هناك، وقف أمام قبره ليقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين!! فهل من صلاح؟!
* قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن معركة بلاده مع المسلمين في أفغانستان والعراق هي امتداد للحروب الصليبية!! ولما أخبره مستشاروه بخطورة هذه المقولة، خشية إيقاظ المسلمين من سباتهم، عاد واعتذر وقال إنها زلة لسان!!(33/231)
* قام الشيعة بإعدام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في فجر أول يوم من أيام عيد الأضحى، لكي يرسلوا رسالة للسنة أنكم كالخراف التي تُذبح يوم النحر!!!
ومن مظاهر تزايد النزعة الدينية في حياة البشر كذلك، ما نشهده من جديد من عودة الحجاب في مصر التي بدأ فيها المشروع التغريبي، رغم أن العصا غليظة. وهاهي الجماهير تقف كلها مع التيار الإسلامي في كل الدول الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، وها هي الجماهير تتعاطف مع ما يحدث في العراق وأفغانستان والشيشان وتكسر بذلك الحواجز الجغرافية المصطنعة. بما يعني أن المشروع ( الإصلاحي ) لم يعد يصلح. بعدما كذََّبَه الواقع وانكشف عواره أمام الجماهير.
ومن مظاهر تزايد تلك النزعة مؤخرا كذلك، هو ما تشهده تطورات الصراع الإسلامي اليهودي الدائرة الآن في قضية فلسطين. وتتفرع من هذه القضية كل القضايا الأخرى التي تدور على الساحة من حين لآخر. وما لم يتم حشد الأمة لكل مواردها وإمكانياتها لمواجهة هذه القضية، فلن يتم حل هذا الصراع وانتهائه، وهو الأمر غير الوارد حدوثه في ظل النظم العربية القائمة.16
إن طريق العودة إلى فلسطين ... لن يكون من خلال المحافل الدولية ... التي لم تستطع يوما أن تفرض على اليهود تنفيذ قرار واحد! ولن يكون من خلال الاستعانة بالدول الكبرى، لأنها ضالعة مع اليهود في التآمر، والاستعانة بمثلها كمثل المستجير من الرمضاء بالنار!
ولن يكون من خلال أنظمة حاكمة تقف اليوم حارسة لحدود اليهود من أن يقتحمها مجاهدون سموهم بالمتطرفين، أو وصموهم بالإرهاب! إنما سوف تكون من خلال من ذكرهم الله في كتابه، وذكرهم رسول ا صلى الله عليه وسلم في حديثه، ونراهم اليوم بعين الحقيقة لا بعين الخيال، وإن الطريق إلى فلسطين لابد أن يمر بعواصم أربع أو خمس دول قبل أن يصل إلى القدس بإذن الله!17
لقد أصبح عبء إدارة المعركة يقع الآن على عاتق الشعوب العربية، التي يمكنها أن تتبنى استراتيجيات بديلة لهزيمة المشروع الصهيوني، وذلك على غرار ما يفعله الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين، وما يفعله الشعب اللبناني في أرض لبنان، وما يفعله الشعب العراقي في أرض العراق، وما تفعله بقية الشعوب الإسلامية على أراضيها
=============(33/232)
(33/233)
الرمزية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
? الرمزية مذهب(*) أدبي فلسفي ملحد، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بواسطة الرمز أو الإشارة أو التلميح.
- والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة.
- ولا تخلو الرمزية من مضامين فكرية واجتماعية، تدعو إلى التحلل من القيم الدينية والخلقية، بل تتمرد عليها؛ متسترة بالرمز والإشارة.
- وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي الذي خلفه.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? رغم أن استعمال الرمز قديم جداً، كما هو عند الفراعنة واليونانيين القدماء إلا أن المذهب الرمزي بخصائصه المتميزة لم يعرف إلا عام 1886م حيث أصدر عشرون كاتباً فرنسيًّا بياناً نشر في إحدى الصحف يعلن ميلاد المذهب الرمزي، وعرف هؤلاء الكتّاب حتى مطلع القرن العشرين بالأدباء الغامضين. وقد جاء في البيان: إن هدفهم "تقديم نوع من التجربة الأدبية تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية، سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه، لأن التجربة الأدبية تجربة وجدانية في المقام الأول".
? ومن أبرز الشخصيات في المذهب الرمزي في فرنسا وهي مسقط رأس الرمزية:
- الأديب الفرنسي بودلير 1821 - 1967م وتلميذه رامبو.
- ومالارراميه 1842 - 1898م ويعد من رموز مذهب الحداثة أيضاً.
- بول فاليري 1871 - 1945م.
- وفي ألمانيا ر.م. ريلكه وستيفان جورج.
- وفي أمريكا يمي لويل.
- وفي بريطانيا: أوسكار وايلد.
الأفكار والمعتقدات :
من الأفكار والآراء التي تضمنتها الرمزية:
? الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية.
? البحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي ويعوضهم عن غياب العقيدة الدينية، وقد وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح الأرواح.
? اتخاذ أساليب تعبيرية جديدة واستخدام ألفاظ موحية، تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ الغروب الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالإنقباض. وكذلك تعمد الرمزية إلى تقريب الصفات المتباعدة رغبة في الإيحاء مثل تعبيرات: الكون المقمر، الضوء الباكي، الشمس المرة المذاق.. الخ.
? تحرير الشعر من الأوزان التقليدية، فقد دعى الرمزيون إلى الشعر المطلق مع التزام القافية أو الشعر الحر وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور.
الجذور الفكرية والعقائدية:
? لقد انبثقت الرمزية عن نظرية المثل لدى أفلاطون، وهي نظرية تقوم على إنكار الحقائق الملموسة، وتعبر النظرية عن حقائق مثالية، وتقول: إن عقل(*) الإنسان الظاهر الواعي عقل محدود، وأن الإنسان يملك عقلاً غير واعٍ أرحب من ذلك العقل.
? وفي أواخر القرن التاسع عشر تجمعت عوامل عقدية واجتماعية وثقافية لولادة الرمزية على يد: بودلير وغيره من الأدباء:
? العوامل العقدية: وتتمثل في انغماس الإنسان الغربي في المادية(*) التي زرعتها الفلسفة(*) الوضعية، ونسيان كيانه الروحي، وقد فشلت المادية والإلحاد(*) في ملء الفراغ الذي تركه عدم الإيمان بالله.
? العوامل الإجتماعية: وتتمثل في الصراع الاجتماعي الحاد بين ما يريده بعض الأدباء والمفكرين من حرية مطلقة وإباحية أخلاقية، وبين ما يمارسه المجتمع من ضغط وكبح لجماحهم، مما زاد بتأثرهم بنظرية المثل الأفلاطونية وكتابات الكاتب الأمريكي ادجار الآن بو - الخيالية المتميزة.
- العوامل الفنية : وذلك باعتقادهم أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبق إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره.
الانتشار ومواقع النفوذ:
? بدأت الرمزية في فرنسا حيث ولدت أكثر المذاهب(*) الأدبية والفكرية، ثم انتشرت في أوروبا وأمريكا.
? ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة، والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها، من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال، ولا شك أن الرمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرمز في التعبير عنها.
ويتضح مما سبق:
أن الرمزية مذهب أدبي يتحلل من القيم الدينية، ويعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح، نأياً من عالم الواقع وجنوحاً إلى عالم الخيال، وبحثاً عن مثالية مجهولة تعوض الشباب عن غياب العقيدة الدينية، وذلك باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة، والألفاظ الموحية، وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية. ولاشك في خطورة هذا المذهب على الشباب المسلم إن درسه دون أن يكون ملماً سلفاً بأسسه المتقدمة والتي تهدر القيم الدينية.
----------------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :(33/234)
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر، نشر دار الشعاع - الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب.
- مقالة: "الحداثة في الأدب العربي المعاصر هل انفض سامرها"، للدكتور محمد مصطفى هدارة - مجلة الحرس الوطني عدد ربيع الآخرة 1410هـ.
- الأدب الرمزي، تأليف هنري بير - ترجمة هنري زغيب.
- السريالية، إيف دوليس (سلسلة زدني علماً).
- الأدب المقارن، مايوس فرانسوا غويار (سلسلة زدني علماً).
- المعجم الأدبي ، جبور عبد النور - دار العلم للملايين - بيروت.
المراجع الأجنبية:
- Clou r ad (H): Histoi r e de la litte r atu r e F r ancaise du symbolisme a no r jou r s. Pa r is 1944 - 1949.
- Cazamian (L): Symbolisme et Poesie. L'Exemple anglais. Pa r is 1947.
- G. Kahon: let o r igine r du symbolisme, Pa r is, 1936.
- De Segu صلى الله عليه وسلم Histo r i r e de la litte r atu r e Eu r opieenne, pa r is 1959.
- P. Mo r tino, Pa r nasse et. Symbolisme, Pa r is, 1947.
- Lanson: Histoi r e de la litte r atu r e Eu r opieenne, pa r is 1960.
- Stphane Malla r me, Qeu r res Complete r , Pa r is. Ed. De la pleiade. 1951.
- Guy Michaud Message Poetique du symbolisme pa r is 1947.
- Enquete de jules Hu r et, in Malla r me et le - Symbolisme, classique r La r ousse 1972.
===========(33/235)
(33/236)
الحداثة .... معول الهدم
علي الحارثي
كلنا يعرف الحداثة وأربابها ومن أين جاءت ومن يحطب على نارها ، ولقد أوقع الله بين أربابها في جزيرتنا العربية فاستعرت بينهم حرب كلامية شعواء فقلت في ذلك :-
هل هذه ريح القلوب تفوحُ ******** أم أنها حرب الكلام تلوحُ
أقتلتم الأدب الأصيل وجئتمُ ******** ( بمسيخكم ) والوجه فيه قبيحُ
بحداثة من كل خير جُردت ******** ودم الأصالة بينتكم مسفوحُ
عربٌ؟؟ أكاد أشك لستم منهمُ******** أيشذُّ عن لغة البيان فصيحُ
وابن العروبة لا يهد كيانها ******** لكنها فيما يخط صروحُ
لم يدع يوما أن يشد رحاله ******** ( وزن الخليل ) لأنه مجروحُ
يا من على درب الحداثة سيركم ******** أمر الحداثة عندنا مفضوحُ
هي دعوة كي نرم بالماضي الذي ******** هوعزنا فلبئس تلك نُبوحُ
إن لم تقولوا الأمر تصريحا به ******** فلقد أبان الخافي التلميحُ
بئس الخيانة أن تخون عقيدة ******** ويقال إنك في الحياة طموحُ
الشعر يشكو إذ تناثر عقده ******** يبكي على نُظّامه وينوحُ
قد هُدمت أركانه وتساقطت ******** نغدو على أطلاله ونروحُ
يا ويح قومي كيف يكرم بينهم ******** من يدعهم لحداثة ويصيحُ
قالوا هي التجديد قلت جهلتمُ ******** هي والذي خلق الوجود جنوحُ
هي طعنةٌ في ظهر أمتنا التي ******** أزرت بها في المعمعات قروحُ
يا أيها الحدثاء لست أهابكم ******** طود أنا عالٍ وأنتم ريحُ
إن كان في هذي الصحافة أمركم ******** مستفحلٌ يثني عليه مديحُ
فلأن ساحتنا خواءٌ بلقعٌ ******** ممن بأسرار الخؤون يبوحُ
هذي يدي تمتد جسر محبة ******** وعن المسيء وإن أطال صفوحُ
لا تحسبوا أني أحاول شهرة ******** أنا مؤمن للغافلين نصوحُ
أنا ما كتبتُ قصائدي مترنما ******** كلا فقلبي هائم مجروحُ
أبكي على لغتي الأصيلة أُعملت ******** فيها المعاول وجهها ملفوحُ
لو أن لي بذوي الحداثة قوةَ ******** أركبتهم خيلا بهن جموحُ
تجري بهم في مهمهٍ متلاطمٍ ******** حتى ينادي هالكا مطروحُ
==============(33/237)
(33/238)
عَرف قصّابي (1)
حسين بن رشود العفنان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
ـ فرش العَرف ـ
ألم تدمع عينك، ويقشعر جلدك، حين شنفت سمعك هذه الأبيات؟!
مغيب الشمس يا أمي = بجانب تلنا الأخضر
أنا واعدتي أصحابي = هناك الموعد الأكبر
سنسقي حلم فرحتنا = ونزرع دربنا عنبر
تواعدنا لكي نمضي = لقد عفنا الذي كنا
كرهنا الواقع المخزي= أنفنا أننا عشنا
على الحرمان نمضغه= بلا حول ويطحننا
ألم تنتشر في نفسك العزة، وتضيء في جوانحك الأنفة، و تتباشر أعضاؤك، وتتهلل قسماتك، حين وقعتَ على هذه الكلمة ؟
مغيب الشمس يا أمي= متى ليل السُّرى يولد
سألقى جمع أصحابي= رفاق كفاحنا المجهد
وبين ذراعنا الرشا= ش قد أرغى وقد أزبد
لنزرع دربنا المحزو= ن أثوابا من العسجد
ونمحو بؤس تاريخ= تلفع بالأسى الأسود
ألم يرتفع حجاب قلبك، وجلباب سمعك، لهذه المفردة؟
تواعدنا سنمضي نحـ=ـو رحلتنا ولن نضجر
لنكسر باب غربتنا=فيشرق صبحنا الأنور
يسابق زحفنا أمل=كمثل ربيعنا أزهر
بأن الحق يرجعه=زناد غاضب يزأر
ومن لا يعرف هذه اليتيمة، التي سارت مسير الشمس،و طارت بين الشرق والغرب، وحين أنشدت بصوت المنشدين القديرين أبي عبد الملك وأبي علي ، تكشف جمالها وتبرج حسنها!
واعلم ـ أيها القارىء الكريم ـ أنه أنشأها وهو في شرخ شبابه، وميعة عمره ،على رأس العشرين، وهذه آية من آيات إبداعه!
ومن رام هذه المنيفة كما شُيّدت فسيجدها تامة في (مختارات من شعراء الرابطة 343 ـ 346 تحت عنوان الموعد الأكبر)
صاحب هذا الموعد هو القائل : أنا لا أهتم كثيرا أن يكتب هذا الأديب أو ذلك قصيدة شعر عامودي ، أو حر ، أو نثر شاعري ، أو ما شاء من ضروب القول ، فذلك حكمه للذوق والتاريخ ومعايير الفن ، ولكني أهتم كثيرا ، ولا أطيق السكوت إذا رأيت ـ باسم التحديث ـ من يهدم عقيدتي ، ويسخر من ديني ، ويستأصل لغتي وتراثي.( من صيد الخاطر112)
وهو مصنف (الحداثة في الشعر العربي المعاصر، حقيقتها وقضاياها، رؤية فكرية وفنية) الذي قال عنه الشيخ الدكتور سعيد الغامدي : وهو من أحسن الكتب التي تناولت موضوع الحداثة من زاوية فكرية اعتقادية... (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها 1/ 22)
وهو الذي دعا في كتابه البليغ (مقالات في الأدب والنقد ص 112 ـ 115) إلى الدعاية للأدب الإسلامي فقال ـ أتم الله عليه الفضائل ـ :
...ونصرته تكون بإذاعته ما استطاعوا ، والترويج له بكل الطرق التي يملكونها، حتى يكفلوا له ضربا من الذيوع ، مهما يقل فيه فإنه خير من الموت في المنفى وأقبية النسيان. وهذا واجب نقاد المسلمين وأدبائهم وصحفييهم ومفكريهم وأساتذتهم وإعلامييهم...وعلى هؤلاء جميعا أن يتظاهروا للدعاية لأدباء المسلمين المخلصين الشرفاء ، بالكتابة عنهم، والتعريف بهم وبمؤلفاتهم، ومساعدتهم على نشر إنتاجهم ، وتمكين هذا الأديب من أن يصل إلى أكبر عدد من الناس ، وأبعد مساحة من الأرض).
ثم يقول ـ ثبته الله على الخير والعز ـ:
إن كثيرا من الباحثين المسلمين ما زالوا مشغولين عن أدبهم ، وإلا أ فليس من العجب أن نرى العديد منهم منصرفا إلى إعداد الدراسات الأدبية أو النقدية عن شاعر ماجن ، أو كاتب منحرف ، أو مفكر عدو لله ورسوله ، و يهمل عشرات من أدباء المسلمين ومفكريهم ، وأصحاب الكلمة الطيبة النبيلة؟
كم دراسة أعدها المسلمون عن امرئ القيس، وأبي نواس ، وبشار بن برد ، وبدر شاكر السياب ، وصلاح عبد الصبور ، ومحمود درويش ، وطه حسين ، وإحسان عبد القدوس ، ونجيب محفوظ وأمثال هؤلاء !
وكم دراسة أعدوا في المقابل عن حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وعلي الطنطاوي ، ونجيب الكيلاني ، وعلي أحمد باكثير ، وعمر باء الأميري ، ويوسف العظم، وغيرهم من أصحاب الكلمة الطيبة الشريفة؟)
وقد صدق ـ حفظه الله تعالى ـ فكم عرفتُ من المغنين والممثلين و اللاعبين والأدباء المنحرفين وغيرهم من خُشارة الناس، قبل أن أعرف نجيب الكيلاني، و عمر الأميري، وحلمي القاعود، وعبد العزيز الخويطر ،وعدنان النحوي، ومحمد ابن حسين، وعماد الدين خليل...وغيرهم وغيرهم ممن لا تلحقهم يد ! وليس هذا لفن الأدب فحسب!
بل لفنون المسلمين الأخرى فقد غيبها الإقصاء،ودفنها الإبعاد!و يكفيك أن تشاهد برنامج (الأعلام) التي تبثه قناة (المجد) الحبيبة، فتعرف قدر جناية الإعلام ،إذ أخفى حياة علماء أجلاء أفنوا حياتهم ،وقضوا أيامهم في الإصلاح والخير، والمؤلم أن منهم عصري لك!(33/239)
وقد أفصح ـ جزاه الله الخير ـ لـ( مجلة البيان1425) عن معوقات الأدب الإسلامي فقال : (المعوقات كثيرة، منها ضعف منابره الإعلامية، وضعف موقعه على شبكة الإنترنت المنتشرة الفعالة. ومنها معوقات تعود إليه هو في حد ذاته متمثلاً ذلك ـ بشكل خاص ـ في قصور في فهمه؛ إذ لا يزال قوم من مبدعيه ونقاده يضيِّقون آفاقه، فيحصرونه في موضوعات معينة، كالحديث عن الجهاد، وفلسطين، وأفغانستان، ومسائل عبادية، وهذا كله ـ من غير شك ـ أدب إسلامي، ولكن قصر الأدب عليها وحدها يقصّ من أجنحة انطلاقه؛ إذ هو أوسع من ذلك وأرحب، وكلُّ تجربة مهما كان نوعها: سياسية، أو اجتماعية، أو عاطفية، أو ذاتية تصلح موضوعاً للأدب الإسلامي ما دام المبدع يقدّم عنها رؤية الإسلام وتصوره.)
ولأني اهتززت لحروفه المؤمنات ،عزمت على استفتاح الكلام عنه ـ ثبته الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه ـ !
ـ تعريف بحامل العَرف ـ
هو الأديب الإسلامي الكبير وليد بن إبراهيم قصّاب ولدفي دمشق (1370 ـ 1949م ) التي يقول عنها :
مدينتي إني على = هواك لم أبدل
مازلتُ ذاك العاشق الـ = ـمفتون منذ الأزل
روحي إذا قدمتها = رخيصة لم أبذل
فمن يكن متيما = في حبه لا يبخل
وقبل ذلك يقول:
شآم يا أنشودة = تجيش في خواطري
يا ذكريات لم تزل = مثل الصباح الغامر
في مسمعي ألف = صدى للمجد والمآثر
وقصة للحق والـ = ـعلياء والمفاخر
ودرس فيها حتى حمل شهادة الآداب ـ قسم اللغة العربية من جامعة دمشق وحمل شهادة الماجستير (1394 ـ 1973م) والدكتوراة (1397 ـ 1976م) من جامعة القاهرة وتنقل في الجامعات الخليجية والسعودية مدرسا وأستاذا حتى استقر في جامعة الإمام في الرياض ،وهو عضو في رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وعضو في اتحاد كتاب العرب ،وترجم له في معجم البابطين، وقد ألّف بين الإبداع والنقد،و قرن بين الإنتاج والتحقيق، فله أكثر من خمسة وثلاثين كتابا، في الشعر والقصة ودراسات في الأدب واللغة وتحقيق التراث.(انظر مختارات من شعر الرابطة ص 340)
اختلف اسم الأستاذ الكبير وليد قصّاب على ذاكرتي ،في إبداعاته الشعرية والنثرية ودراساته النقدية والأدبية واللغوية كثيرا ، حتى تعلّقته وأحببته ،فطفقت أتلقى كل ما ينشئه ويبدعه ويدرسه، بشغف ونهم ،وزاد كلفي به حين قابلته لأول مرة في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض ـ حرسها الله ـ فعرفتُ بشاشته، وتهلله!
وأسأل الكريم أن يجعلني من طلاب وصل العلماء والفضلاء والأدباء وأن يزيد حبال صلتي بهم قوة ومتانة!
ـ تضوعُ العَرف ـ
العَرف القصّابي مختلف ألوانه ،فمنه الشعري والقصصي والنقدي واللغوي ...فيحتار من يختار.
وعَرفنا اليوم، عَرف نقدي ،تضوع من الكتابين البليغين (من صيد الخاطر في النقد الأدبي1424، مقالات في الأدب والنقد1426 ) وأصلهما طاقة مقالات، نشرت في مجلات مختلفة، في دمشق والإمارات والسعودية.
ومن آياتهما البلاغة الممتنعة، والفصاحة المتأبية، و من يسرح النظر فيهما، سيشهد بمتانة علم كاتبها، وعمق فكره، وفضله وأدبه!
وكم أتمنى أن أنسخ ما يحويانه من جواهر يتيمات ،ودرر أثيرات، ليلتذ القارئ، وتنعم نفسه، و ينشرح خاطره !
ولكن هذه اللُّبثة، لا تسع إلا نتفا و شذرات، ولعل فيها تحريضا لاقتنائهما!
كتاب (من صيد الخاطر في النقد الأدبي ، دار البشائر ، ط1، 1424، 136 صفحة)
طاقة مقالات قسمت إلى ثلاثة أقسام في (النقد وقضاياه الكبرى) و (قضايا الشعر والنثر)وأخيرا (قضايا ثقافية فكرية عامة تتصل بالحداثة والأصالة والمثاقفة مع الآخر...)
القسم الأول
النقد العربي الحديث : التبعية والتأصيل
وإن تراثنا الأدبي النقدي حافل بالنظرات والأفكار الفنية النفيسة ، ولا يزال كثير منها صالحا، بل لا يزال كثير منها متفقا مع أحداث ما توصلت إليه الدراسات الأدبية المعاصرة. (12)
بين ناري الإبداع والنقد
إن أزمة التوصيل هذه ، والتي أصبحنا ـ نقادا ومبدعين ومتذوقين ـ نصلى نارها من طرفين : الإبداع والنقد ، هي أصل الداء. ولولا خشية الوقوع في الظن لقلنا إن الناقد اليوم يخادع المبدع ، ويتعامل معه بمكر شديد، فيرد له الصاع صاعين ، يرد على غموضه في الإبداع بغموض في النقد ، حتى كأنه يقول له : أفهمني ما تقول أُفهمك ما أقول . هذا نقد من جنس البضاعة التي تقدمها إلينا أيها المبدع . طلاسم تُقابل بطلاسم وأحاج تليق بها أحاج والبادئ أظلم. (18)
...والضحية الأولى هو القارئ العاشق للأدب ، والذي ينشد فيما يقرؤه المتعة والفائدة ، وأن يزداد خبرة بالحياة والكون من حوله، لا أن تُعمّى أمامه السبل ، وتسد في وجهه منافذ النور.(18)
الناقد يرفع ويضع
كم يجور النقد اليوم على أقوام ((فيقزمهم)) ويحجبهم، وكم يعملق من أقوام ويضخّمهم وهم مثل الطبول الجوفاء.
إن الناقد كالقاضي ، فهل يتقي اللهَ النقادُ ، فيعرفوا حق الكلمة وأمانة القول؟ (31)
الاتجاه اللغوي في درس الأدب(33/240)
...ولو أردنا أن نلملم شتات كل ما يقال عن وظائف النقد الأدبي ، وأن نصنع منها جوابا موجزا مختصرا مبسطا، يكون فيه ـ كما يقال ـ ((ما قل ودل )) لما وجدنا أفضل من القول إن وظيفة النقد معرفة الأدب. فإذا سلمنا بهذه المقولة ، فإن الأدب مكون من عناصر مختلفة، وما اللغة إلا واحد من هذه العناصر ومن ثم فإن المنهج النقدي اللغوي وحده لا يبدو قادرا على تحقيق هذا الغرض، ولا بد من منهج نقدي متكامل يوظف جميع المعارف والتقانات في سبيل معرفة الأدب معرفة عميقة ، واستكناه أسراره ودقائقه.( 35)
بين علم اللغة وعلم الأسلوب
...أن علم اللغة يدرس ما يقال في اللغة وأما علم الأسلوب فإنه يدرس كيف يقال ما في اللغة ...(37)
وتكلم ـ فضيلته ـ عن جريمة علم اللغة الأوروبي على الفصحى، فمن أفكاره نفي القداسة عن اللغات، فليس للغات أية صلة عقدية، أو دينية، أو وجدانية، بحياة الناس فاستوردها العرب ـ كالعادة ـ دون تمحيص، وطبقوها على لغة القرآن :
...وعندما استوردنا نحن العرب عن الأوربيين هذا العلم اللغوي الحديث كما نستورد عنهم كل شيء ، رحنا نطبق ذلك على لغتنا العربية جميع ما نادوا به دون تفكير أو روية ،فاعتقدنا في لغتنا ما اعتقدوا في لغتهم .وسرى إلينا وهم انفصال العربية عن أي جانب ديني أو عقدي أو وجداني ،فلم نعد ننظر إليها ـ كما كان يفعل علماؤنا وفقهاؤنا ـ بعين القداسة والإجلال ، أو بعين التوقير والإكبار...(38)
...وصرنا بوحي من هذا الوهم نتحمس للعاميات ونقبل على درسها وتأصيل جذورها ...بل نعد العامية ـ في بعض الأحيان لغة كالفصحى بل محترمة مثلها...وفتحت الأبواب للأدب الشعبي على مصراعيها ، ولم يعد كثيرون يرون حرجا من الكتابة بالعامية، ولم يعد اللحن بالفصحى وركاكة التعبير بها وخرق قواعدها يعد عيبا أو عارا... (38 ـ 39)
ثم أتى ـ وفقه الله تعالى ـ بمثال لأحد الحداثيين وهو يجترئ على اللغة وينتهك قواعدها وجمالها :
الدرج الحالي بزيزفون
والفوقه تعرش يا سمينة
تكوكب السفينة
للحلوة التخطر كالظنون
الدرج الرنا إليّ عهدا
والكاد يشهق لي في دلال...إلخ
فأدخل (أل التعريف) على الظرف والفعل ـ ماضيا ومضارعا ـ وتعمد عددا من الشواذ والتجاوزات في مقطوعة سقيمة لا تتعدى اثني عشر سطرا...(40)
إن اللغات الأوربية ليست لغات ذات قداسة دينية ، ولا زعم لها أحد ذلك من أهلها أنفسهم...
وأما العربية فهي من الدين وتعلمها دين وقد كان ابن تيمية يرى أن تعلمها فرض واجب على المسلم ...(41)
التجربة الشعرية بين الفن والمعتقد
إن لكل قارئ للشعر طبيعته الخاصة ، وإن كثيرا أو قليلا من الإعجاب بالقصيدة ليرجع إلى كونها تقدم تجربة تشبه تجربة المتلقي ،أو حالة من حالاته... (45)
الالتزام مطلب حضاري
فالالتزام اليوم مطلب حضاري ، لأنه يعني تواصل الإنسان مع عصره، وعيشه فيه. وهذا عصر الأفكار والإيديولوجيات والمذاهب الفلسفية والسياسية والاجتماعية ولا يمكن للإنسان أن يعيش متفرجا على ذلك كله من غير أن يكون له موقف. (47)
وإن الالتزام يجعل الأدب نشاطا جادا فعالا، ذا تأثير في مسار الحياة،وفي حركتها، مما يكسبه المصداقية والقيمة...إن الالتزام يتمشى مع سنة الله في الكون الذي لم يخلق شيئا عبثا...(48)
الالتزام ابن الحرية
الالتزام ابن الاختيار ، والإلزام ابن الإجبار . الأول ثمرة من ثمرات الوعي والإدراك ، واليقظة والمسؤولية والثاني من ثمرات التغييب والإملاء والتسيير وشتان ما بينهما.
إن كل أديب ملتزم هو أديب حر شريف. وإن كل أديب ملزم هو أديب ((مُسيس)) مستعبد مباع أو مُشترى.(49)
الشاعر والجمهور
إن الحياة الإنسانية ـ بكل عمقها وثرائها وواقعيتها ـ هي مادة الأدب...ولكما كانت صلة الشاعر بالحياة صلة عميقة حميمة كانت حظوته عند الجمهور أبلغ، وكان احتفاء الناس بشعره أعمق وأغزر، وإن انهماكه في قضايا عصره، وتفهمه لمشكلات الناس وهمومهم، وعيشه في ضمير المجتمع، ينبض بقلبه، ويتنفس برئته، هو الذي يدنيه من الجمهور ، ويدني الجمهور منه.
وإن الاتجاه الشكلي، أو الفن من أجل الفن، ليقصران الشعر على القيم الحسية، مجردة عن الحياة والمجتمع...(61)
الغموض واحتقار القارئ
وبدا الغموض ، واحتقار التواصل مع القارئ، من معالم الحداثة البارزة ومما يتباهى به القوم يقول أدونيس:
حيث الغموض أن تحيا= حيث الوضوح أن تموت
ويقول محمود درويش متباهيا بانعدام التواصل:
طوبى لشيء غامض
طوبى لشيء لم يصل
ويقول في موضع آخر :
لن تفهموني دون معجزة
لأن لغاتكم مفهومة
إن الوضوح جريمة.(67)
وفي غمرة النقاش المحتدم حول مشكلة ((الغموض والتواصل)) تمخضت النزعة الحداثية عن تقليعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الآداب، وهي ((احتقار القارئ)) والاستعلاء عليه، أو ((موت القارئ)) على شاكلة ما يسمى ((موت المؤلف)) الذي أشاعته البنيوية... (68)(33/241)
وهكذا يفقد كثير من الشعر الحداثي وهو يُحدر إلى هذه الوَهدة كلّ هدف، ويصبح ثرثرة لا تهم أحدا ، ولا تهتم بأحد. وإذا كان الشاعر الحداثي لا يبالي بالقارئ ولا يضعه في حسبانه، فلمن يكتب إذن؟ وإذا كان هذا الشعر نتاجا في ذاته ولذاته فلماذا يذيعه صاحبه في الناس؟ولماذا لا يريحهم مما لا طائل من ورائه، حفاظا على هذه الذاتية المزعومة؟ (68ـ 69)
وضوح العمودي وغموض الحديث
إن ادعاء نمطية التعبير في الشعر العمودي وحده، مما يقود إلى جلاء أكثر هو ادعاء غير صحيح، بل إن ظاهرة تكرار الرموز، وتجمد الدلالة، وأنماط التعبيرات التي أصبحت كالرواسم الجاهزة المبتذلة، هي في شعر الحداثة اليوم أكثر بروزا. (71)
القسم الثاني : في الشعر والنثر
تراسل الأجناس الأدبية لا يعني توحُّدها
لماذا يصر مثلا كتاب نثر مجيدون، استوفى نثرهم كثيرا من ملامح الشعر وجمالياته أن يسموا نثرهم شعرا مادام لم يأخذ من الشعر كل شيء، ولا سيما الوزن، أبرز خصائصه؟ أليس هذا احتقارا للنثر وإشعارا بدونيته؟(77)
طبقية الأجناس الأدبية
ليس هناك ـ في رأيي ـ جنس أدبي أرقى من جنس آخر، بل لكل جنس طبيعته ووظيفته، وله نكهته وطعمه ومذاقه، وهو يستطيع أن يلج من العوالم والآفاق، وأن يكون له من الحضور ما لا يملك الآخر شيئا منه.(79)
قصيدة النثر وحمار الكتابة
وعلى أن هذا الذيوع لا يدل على أية شعبية لهذا النمط الكتابي، وهو لا يحمل أي مؤشر على رصيد جماهيري له عند المتلقين، بل هو ذيوع موهوم، مُسوّغ بمجموعة من العوامل، من أبرزها:
ـ الترويج الإعلامي الهائل، الذي يشبه ((تسويق )) السلع الرديئة..
ـ استسهال الكتابة ، واستعجال الوصول.
ـ شحّ المواهب، وانعدام الجدّ والدأب.
إن ما يدعى قصيدة النثر هو اليوم مطيّة ذلول، لا تتأبى على راكب ، ولا ترد يد لامس. إنها ((حمار الكتابة)) كما قالت العرب قديما عن الرجز إنه ((حمار الشعر)).. (81)
وانظر غير مأمور لـ ص (82 ـ 86) فقد تحدث عن مرجعية قصيدة النثر، وهل لها جذور وما هي هويتها؟ وقد أفحم القوم وأثبت من كلامهم أنها تقليد غربي، وأنها بلا هوية،حتى أن أدونيس هجر كتابتها واتجه إلى ((ملحمية الكتابة)) كما يسميها!وقد كان أول من كتبها وشجعها!
هل غربت شمس الشعر العمودي؟
ولنحتكم إلى معجم البابطين الذي صدر حديثا، ويعد موسوعة أدبية ضخمة تمثل الشعر العربي المعاصر إذ ضم (1644) شاعرا من مختلف الاتجاهات والأصقاع. إن هذا المعجم يُري ـ كما ورد في مقدمته التي وضعتها لجنة إعداده ـ أن الذين يكتبون القصيدة العمودية من الشعراء العرب المعاصرين هم أكثر ممن يكتبون أي نمط شعري آخر.
جاء في معجم البابطين (1/42) : جاءت معظم النماذج من الشعر العمودي ، ثم شعر التفعيلة، وجاء بعضها من قصيدة النثر..)
وإذا استحضرنا أن الشعراء في هذا المعجم هم الذين اختاروا نماذجهم بأنفسهم، قدرنا أن هؤلاء الشعراء لم يفقدوا إيمانهم بالشعر العمودي ، وإلا لما اختاروه ليمثل تجاربهم الفنية، ويكون سفيرهم إلى المتلقي. (88)
القسم الثالث: في الحداثة والمثاقفة
سؤال الهوية في الحداثة
وفي أثناء هذا الاكتساب الدائم ، لمجاراة العصور ، لا مانع ـ وقد يكون واجبا ـ أن نستعير من الآخر أدواتٍ في التفكير ، والتنظيم ، والعمل ، والمنهج، وأن نتصالح معها ، وأن نتعامل معها بمودة وترحاب بعد أن نصفيها بمصفاة الهوية ، وأن ننظر إليها عندئذ على أنها من المنجز الإنساني العام الذي اشتركت الحضارات جميعا في الوصول إليه.
إن أخطر ما يصيب الهوية نفسها في مقتل هو أن نجمد عند نصوص تراثية ليس لها أي لون من القداسة أو العصمة، وأن نتعصب لها ، ونحسب أن مناقشتها أو نقدها ضرب من التجديف العقدي، أو التغرب الفكري، أو ينطوي على عقوق للأجداد والآباء. (113 ـ 114)
إن القرآن الكريم نفسه يدعونا إلى النظر الدائم ، والتأمل الجاد، وقد ورد فيه كثيرا أمثال قوله تعالى ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا ) وقوله ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا) ولا بد أن يقود كل سير، وكل نظر أو تأمل إلى كشف جديد...(114)
الحداثة العربية المعاصرة والتراث
وقد أفاضل القول ـ جزاه الله خيرا ـ عن مواقف الحداثة تجاه تراثنا العربي الإسلامي مستندة على أدلة وأقوال ثم قال في ختام المقالة:
تلك هي مواقف الحداثة العربية المعاصرة غير الراشدة من تراثنا العربي الإسلامي : الانسلاخ منه نهائيا، أو الإشادة بنماذجه الشاذة الهجينة التي تصور انحرافا في فكر الأمة وعقيدتها وسلوكها ، أو تأويل النصوص والأحداث في ضوء إسقاطات فكرية، ومناهج غربية علمانية معاصرة،مما حمل ظلما فادحا ، وتشويها خطيرا لهذا التراث، إذ استخرج غير الأصيل منه، ودفن الأصيل، أو قُوَّل ما لم يقل. (118)
أين عولمة العرب الثقافية؟
إن العولمة بحسب قاموس وبستر هي إكساب الشيء طابع العالمية(123)
إن الثقافة هي خط الدفاع الأخير في هذا الوقت الراهن على الأقل لصمود هذه الأمة ، وحمايتها من الاندثار والسقوط النهائي، وفقدان الهوية الفكرية المميزة.(124)(33/242)
كتاب (من صيد الخاطر فكتاب (مقالات في الأدب والنقد ، دار البشائر ، ط1 ،1426، 144 صفحة)
طاقة مقالات في ثلاثة أبواب باب في (المسائل النقدية والأدبية المعاصرة) وباب في (الأدب الإسلامي وقضاياه والشبهه المثارة حوله) وباب عن (ثقافة المواجهة وعن صلة الأدب والثقافة بقضايا الأمة المعاصرة).
الباب الأول : قضايا نقدية
خصوصية النقد عند كل أمة
إن النقد العربي الحديث المشرع اليوم أبوابه لرياح الشرق والغرب عليه أن يدرك ـ قبل غيره ـ هذه الحقيقة التي يتحدث عنها رينيه ويليك ، وهي أنه ما من نقد أدبي لأمة من الأمم يتماهى في نقد أمة أخرى ، وهو ـ مهما أخذ من هذا الآخر ، أو جمعت بينهما أواصر مشتركة وقواسم عامة ـ ذو فرادة ، وينبغي أن تكون له خصوصيته المميزة التي تمثل الحضارة التي ينتمي إليها.
ذلك أن من أكثر ضروب المعارف الإنسانية تميزا وعكسا للطوابع الوطنية والقومية والفردية هو النشاط الأدبي والنقدي، إذ النشاط ـ في طبيعته ـ رؤية شخصية للأشياء كما تنعكس في وجدان الأديب... (11ـ 12 )
سلطة القارئ أم تملّق القارئ؟
تمخض نقد ما بعد الحداثة عن آراء خطيرة في التلقي، ودور القارئ ، وسلطة القراءة ، حتى زعمت التفكيكية أن النص الأدبي يحتمل عددا غير نهائي من القراءات ، فهو نص مفتوح ، مشكوك في وجود مركز ثابت له ، أي في وجود معنى يمكن أن يقال إن النص يحتمله، أو يدّل عليه...
والحق أن هذا السلطان غير المتناهي الذي أعطي للقارئ هو ـ في رأينا ـ نوع من تملقه واسترضائه ، وذلك في إثر شعور الحداثة وما بعد الحداثة المتزايد بالانفصام الحاد، بل الانفصال التام، بينها وبين الجمهور المتلقي...(28)
القراءة الفاعلة
أعلت الاتجاهات البنيوية من سلطة النص ، ولم تعر اهتماما مماثلا للعناصر الأخرى، فكان ذلك أحد المآخذ التي جعلت البنيوية منهجا نقديا عاجزا عن الوفاء بالدرس الأدبي درسا عميقا متكاملا.
ثم جاءت التفكيكية لتأخذ اتجاها أحاديا آخر مخالفا للمنهج البنيوي ، إذ أعلت من سلطة القارئ والقراءة ، وأعلنت انتهاء عصر تسلط النص الأدبي، وبدأ الكلام على فاعلية القراءة، مستوياتها، وأشكالها، حتى كاد يتطور على جمال خاص بالقراءة أو التلقي... (30)
شاعر الخاصة
ولكن الأديب ما إن يفكر في إذاعة أدبه بين الناس، وإخراجه من درجه لينشره حتى يحضر المتلقي بشكل تلقائي، ويصبح طرفا هاما في عملية الإبداع، وتصبح مراعاته، والتفكير فيه، ثم اكتسابه والتأثير فيه معيارا من معاير نجاح المبدع في إبداعه.(37)
إن كثيرا من الصور الأدبية تفقد مع الأيام ـ بسبب تداولها، وكثرة استعمالها ـ روح الغرابة التي فيها، وتصبح ـ بعد أن كانت أدبية ـ لغة عادية ((معيارية)) لا تثير أحدا.
ولقد طرحت هذه المسألة بقوة ووضوح في البلاغة والنقد العربيين فتحدث النقاد طويلا عن هذه الظاهرة، وأطلقوا على أمثال هذه الصور التي كثر تداولها اسم ((الصور المبتذلة)) ودعوا الشاعر إلى ابتكار غيرها، أو تجديدها، بأن يقدّمها في ثوب آخر طريف، أو يضيف إليها، أو يعدل في جزئياتها، أو يقيدها، أو غير ذلك من البدع الفنية...(41)
أيقضي الحداثيون على الشعر بالضربة القاضية؟
أرخصَ الشعر العربي عند متعاطيه إلى هذا الحد، وقد كان فنا عظيما له في نفوس القوم توقير وتعظيم لا يزيد عليهما إلا تعظيم القرآن الكريم وحديث صلى الله عليه وسلم ؟ حتى كان الحطيئة يقول:
الشعر صعب وطويل سلمه= إذا ارتقى فيه الذي لا يفهمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه= يريد أن يعربه فيعجمه
وحتى كان الكثيرون ـ من العلماء ـ يتهيبون ولوج ساحته. قيل للأصمعي:
ما يمنعك من قول الشعر؟فقال نظري لجيده.(45)
إن عدد من يسمون ((شعراء)) في هذه الأيام عدد هائل جدا، يفوق عدد ما عرفه أي عصر من عصور الأدب العربي.(46)
الشعر والنقد الحداثيان، إلى أين؟
إن النقد الحداثي وما بعد الحداثي لم يزد على اجترار نظريات غربية ثبت إخفاقها عند أهلها المصنعين لها ، وهو عادة يستقبلها بعد أن يمل الآخر من التسلي بها ، أو يتبين له عقمها ، فيلفظها غير آسف عليها...(49)
الاعتداء على المصطلحات التراثية
إن التجديد الحقيقي هو ابتداع الجديد لفظا ومعنى، ظاهرا وباطنا ، وأما تغيير اسم القديم فحسب فليس بتجديد، بل هو فوضى وتبديد، وهو كذلك اعتداء على حقوق الغير، وإذا كان هذا ((الغير)) هم آباؤنا وأجدادنا صار الاعتداء جريمة.
لقد اعترف بعض الدارسين المشتغلين بالنقد الأسلوبي الحديث أن أدواتهم البحثية لا تفرق عن أدوات التراث العربي إلا في الأسماء فقط.
يقول الدكتور محمد عبد المطلب ـ في كتابه هكذا تكلم النص ـ : تأكد لي ((كفاءة الأدوات البلاغية ـ التراثية ـ وصلاحيتها للتعامل مع الظواهر الحداثية، بل تأكد لي أن كثيرا من الدارسين الأسلوبين والبنيويين لا تفترق أدواتهم عن الأدوات القديمة، إلا في المسميات فحسب...))(51)
الباب الثاني : في الأدب الإسلامي
دور الكلمة(33/243)
إن الكلمة أمانة ومسؤولية، وهي رسالة عظيمة، يحملها الشرفاء ممن يعرفون خطرها. إنها ليست لهوا، ولا دعابة، ولا متعة، وليست من باب (الفن للفن) كما يذيع قوم. وإنما هي أداة خير وإصلاح.
إن إسرائيل منذ استيلائها على فلسطين تجند الكلمة ـ كما تجند كل شيء ـ لخدمة قضايا الصهاينة والدعاية لها. وقد جيشت كتابا وفنانين من داخل البلاد وخارجها للترويج والدفاع عن معتقداتهم الباطلة. إن الأدب اليهودي أدب هادف وملتزم، وهو مجند لخدمة الدولة العبرية، إنه يحاول صياغة وجدان الإنسان الإسرائيلي صياغة دينية توراتية ، مستمدة من تعاليم اليهود المزعومة، وكتابهم المحرف ، وهو يجتهد أن يرسخ في نفوس الناس ـ من أتباعه وغيرهم ـ أن فلسطين هي أرض الميعاد، التي بارك الله فيها، ووهبها بني إسرائيل، الذين جعلهم شعبه المختار، وأمته المصطفاة، وفضلهم على جميع العالمين ، وجعل شعوب الأرض الأخرى أميين رعاعا ينبغي ذبحهم، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في قوله (ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل)
وقد عبر الشاعر اليهودي (رافي دان) ذات مرة عن هذه الروح العدوانية العنصرية في قوله للمقاتلين اليهود (صوبوا بنادقكم نحو الشرق)(65)
فمتى تكف طائفة من أرباب القول عندنا عن الدعوة إلى الكلمة المجردة عن أي هدف أو رسالة ، وتفريغها ـ كما يحصل عند الكثيرين من كتاب هذا الزمان ـ من أي محتوى خلقي ، أو ديني ، أو اجتماعي؟(66)
الأدب بين المتعة والفائدة
كان مرتبطا بالقبيلة والمجتمع(يقصد الأدب القديم)، مجندا لخدمتهما، ولم يكن نشاطا هازلا، بل إنما وضعت العرب الشعر (للتغني بمكارم أخلاقها، وطيب أعرافها، وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد ، وسمحائها الأجواد، لتهتز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم).
ولأهمية الرسالة الاجتماعية التي كان الشاعر ينهض بها ، وخطر الدور الخلقي المنوط به ، احتل فيهم المنزلة الرفيعة...وكانت (القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس ، ويتباشر الولدان، لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم..)
ولما انحرفت طائفة من الشعراء عن هذا المسار الخلقي للأدب قوبلوا برفض اجتماعي، تمثل في مجموعة من ردود الفعل...(68)
ثم سردها انظر (68 ـ 69)
النص يحيا بلفظه و فكره
تشتد يوما بعد يوم قبضة النزعات النقدية التي تريد تجريد الأدب ـ أو الفن عموما ـ من أي وظيفة فكرية ، أو اجتماعية ، أو خلقية...وتريد قصره على التعبير عن التجارب الجمالية ، أو الذاتية، أو تلك البعيدة عن الواقع بشكل عام، حتى كأن الفكر قد صار سُبّة في العلم الأدبي...
لقد أخطأت النظريات المثالية والجمالية النقدية باستمرار خطأين كبيرين في تعاملها مع النص الأدبي:
ــ أحدهما قصر طبيعة التجربة الفنية على تغذية حاسة الجمال في الإنسان، والتماس الفن لذات الفن.
ــ ثانيهما : وهو تابع للأول ، قصر الفن على الموضوعات التي لا تمت إلى الواقع أو المجتمع بصلة.
ولذلك تجرد الأدب من وظيفته الاجتماعية ، بل قل الإنسانية، وأوشك أن يتمحض للتشكيل اللفظي وحده. (72 ـ 73)
لماذا الأدب الإسلامي؟
إن الدعوة إلى سد نوافذنا في وجه الثقافات الغربية جهل بيّن، وهو قصور في الإدراك، وهروب من العصر، ولا يدعو إلى هذا كله إلا أخرق فاقد الثقة بنفسه ، ولكن الأظهر في الجهل كذلك أن نأخذ كل شيء تنتجه تلك الثقافات ، أن نستقبله بعيون مغلقة ، وعقول غير واعية، أن نحتفي به غير مميزين فيه حقا من باطل أو ما يصلح لنا مما لا يصلح.
إن الأدب الإسلامي دعوة إلى التبصر والرشد، إنه كابح لجماح الجري الأعمى وراء كل جديد ينجم هنا وهناك، إنه لا يعادي الجديد ولا يرفضه، وهو لا يدعو إلى السكون والثبات، أو التحصن في الأبراج والتمسك بالمواقع، بل هو دائب الحركة ، مستمر في إطلالته على الآخرين، ولكنه يطل دائما مفتوح العينين، بيده معيار لا يخطئ وهو التصور الإسلامي ، به يزن الأفكار ، ويحاكم الثقافات ، فما لم يتصادم معه ، أو يشكل اعتداء عليه، قبله واحتفى به، بل عده من الحكمة التي هو أولى بها. (80)
إن أدب الغرب الذي يجري وراءه من فقدوا الرشاد عندنا ليعكس مأساة أهله ، ويدل على إفلاسهم الروحي وخوائهم العاطفي، وما يعانون من ضروب الشك والقلق، والحيرة والضياع،وفقدان الثقة بكل شيء ، والإحساس بعبثية الحياة والموت، وسخف الأديان والقيم، وقيود الأخلاق والعادات ، والرغبة الملحاح الدؤوب ـ في غيبة الإيمان واليقين ـ بالهروب الدائم، والانسحاب المستمر، والجموح من أي ضابط أو قيد.(83)
الأدب الإسلامي أصل..وليس بدعة
فالأدب الإسلامي إذن بدأ بنزول القرآن الكريم ، فهو ليس بدعة حادثة، ولا دعوة طارئة، ولا مذهبا مستوردا من هنا أو هناك..(33/244)
ووجد في كل عصور الأدب العربي قوم من النقاد يدعون الأديب إلى مراعاة حق الإسلام فيما يقول، فالثعالبي الذي يرى ـ بحق ـ أن شاعرية الشاعر لا تقاس بتدينه بل بقدرته الفنية، يدعو الشاعر إلى أن يلتزم أحكام الدين، ولا يخرج عليها في شعره.
يقول الثعالبي : للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولا ونقلا ،ونظما ونثرا، ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى ، وتعرض لمقته في وقته(85)
لقد غدا الشك والإلحاد والشذوذ والإباحية وغيرها من القيم الفاسدة من السمات الواضحة التي تميز الأدب الغربي المعاصر الذي يغترف من كثير من أدباء العرب المشهورين في زماننا(86)
وإذا كنت آخذ الحكمة التي تصدر عن كافر مادامت حكمة، فهل يمنعني شرع أو عقل أن آخذ دعوة حق صدرت عن أية طائفة من طوائف المسلمين وإن كنت لا أسلم لها بآرائها الأخرى؟(87)
ويشهد التاريخ ـ قديما وحديثا ـ أن بعض أدباء المسلمين كتبوا من القول الذي يعتدى على الإسلام أكثر مما كتبه أعداؤه، مما يبطل زعم من زعم أن الأديب المسلم لا يكتب إلا أدبا إسلاميا ، وأسماء الأدباء الذين انحرفوا عن الجادة أكثر من أن تُحصى.(88)
إبداع أدب ملتزم
إن العقيدة إذا دخلت الأدب لا يمكن أن تضعفه أو تُلينه ، ولا يمكن أن تحول بين الأديب وبين التحليق في سماء الإبداع ، وليس صحيحا ما ذهب اليه الأصمعي وغيره من أن (الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير لان وضُعف..)
إن هذا التصور مغلوط لطبيعة العلاقة بين الفنّ والدين، أو بين الأدب والعقيدة، وإذا كان الالتزام اختيارا شخصيا نابعا من أعماق الأديب بحرية وتلقائية، غير مفروض عليه ، ولا مجبر ولا مُكره، فإنه لا يعد قيدا، لأنه عندئذ صنو الحرية، بل هو الحرية ذاتها في وجه من الوجوه...(94)
القصيدة الإسلامية بين الفن والرؤية
إن آفاق الأدب الإسلامي لا حصر لها، وهو يستطيع أن يخوض جميع التجارب التي يخوضها الآخرون، يعصمه معياره الضابط، وهو تقديم التصور السليم عنها.
وإن كان من الكلام المستحب والمباح ، والمحظور فلماذا يصر كثير من الشعراء الإسلاميين على ألا يتجاوز النوع الأول؟ لماذا لا يثرون التجربة باقتحام المباح ، وتلوين الصوت، وإغناء الفكرة، وتوسيع الأفق؟(97 ـ 98)
لقد أصبحنا في زمن يحاكم الناس فيه ـ الشعر والشعراء ـ إلى الشهرة أكثر مما يحاكمونها إلى الجودة والتألق...
إن أغلب نماذج الشعر الإسلامي المعاصر مجهول لدى جمهور العامة إن لم نقل الخاصة، والذين عرفوه أو تسامعوا به ـ من خصومه ـ يحاولون تجاهله وطمسه والافتراء عليه...(100)
الأدب بين الجودة والدعاية
فكم من أديب مجيد ومفكر ألمعي لا يكاد يسمع به أحد، ولم يعرف أدبه الطريق إلى دنيا الناس ولن يعرفه ، وكم من (متشاعرين ) هم اليوم حديث الغادي والرائح ، وهم أغث القوم قولا ، وأسفهم كلمة! (114 ـ 115)
الباب الثالث : ثقافة المواجهة
الحوار مع الآخر
وشدد القرآن النكير على من يرغم أحدا على الإيمان ، أو يكرهه على تبني ما لا يعتقد ، حتى خاطب نبيه قائلا له معلما ومبينا ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس99.(119)
ثقافة الهزيمة
إن استرداد الأرض والجغرافيا أمر ميسور ، وإن الحروب ـ على مر التاريخ ـ كرّ وفرّ ، وإقبال وإدبار، ولكن ضياع الذات هو الخطر الأكبر، لأن ضياع الذات، وفقدان الهوية، يحملان على التفريط في الثوابت ، بل نسيان هذه الثوابت ، ثوابت الدين ، والشريعة، واللغة ، والتاريخ، والجغرافيا...(121 ـ 122)
المثقف العربي(*)...وكارثة العراق
ولن ينسى التاريخ كيف جمع سعد بن أبي وقاص المثقفين جميعا، من قراء ، وشعراء، وخطباء، وحكماء، في معركة القادسية ، ثم حثهم على أداء دورهم قائلا: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم، ويحق لهم عند مواطن البأس...إنكم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال..
تلك وصية من قائد عظيم يعرف دور الثقافة والمثقفين في الحرب، ويعرف تأثير الكلمة وقدرتها الخارقة على صياغة وجدان الناس...وإذا انشغل المثقف العربي(*) اليوم عن مأساة أمته، ومورس عليه من الترهيب والترغيب ما يشغله عن ذلك ، ويجعله بوقا لهذا النظام أو ذلك ، فتلك هي المأساة الكبرى، وتلك هي الهزيمة الحقيقة التي لا تقل إن لم تكن أفدح عن هزائمنا العسكرية...(124)
العدوان الأمريكي
هل يغير بعض مفاهيمنا الثقافية؟
ويثبت بالدليل القاطع ـ من خلال قتلهم اليوم الآلاف من أهلنا في العراق وتدميرهم بلد الحضارة والعلم ، واستعمالهم من الأسلحة الفتّاكة ما يحرمه كل ضمير إنساني، وتناقض أقوالهم مع أفعالهم. وازدواجية معايير الحكم عندهم ، وآلاف التصرفات اللا إنسانية الأخرى ـ يثبت أنهم قوم غير مؤهلين أصلا للقبض على ناصية الحضارة الإنسانية أو صناعتها ، ناهيك عن أن يكونوا القدوة أو النموذج الأرفع...(129)
صناعة النجومية(33/245)
ولا ينبغي أن يكون عدم نجومية الأديب الفلاني ، أو شهرة الشاعر العلاني، أو غيرهما ، شيئا حاجبا عن درسه وتقويمه ، فقد يكون وراء غيبة هذه النجومية تلك العوامل الإعلامية والسياسية والحزبية وصنعة الانتماءات المختلفة التي أشرنا إليها.(133)
الحالة الفكرية لكل أمة
إن الأمم تموت وتتلاشى مثلما يموت الأفراد ويتلاشون، وإن الأمة التي لا شخصية لها ، ولا فكر ، ولا عقيدة ، وإنما هي ذيل ، تمشي في ركاب الآخرين ، وتأتمر بأمرهم ، لهي أمة ميتة، وإن كان لها وجود مادي على مسرح الحياة...(135)
التهاوي من الداخل
إن طائفة من أدباء هذه الأمة ومثقفيها، ممن هم من بين جلدتنا ، أصبحت (عين الرضى) عندهم هي (الآخر) وأصبحت (عين السخط) عندهم هي كل ما هو عربي وإسلامي، بل أصبحت هذه الأمة ـ التي تسنّمت ذروة البشرية ن وقادت مسيرتها الحضارية قرونا طويلة أخرجت فيها الناس من الظلمات إلى النور ـ مدينة للآخرين في إنجازاتها الثقافية والفكرية ، في القديم وفي الحديث.
*في القديم
ردت طائفة من هؤلاء المنهارين من الداخل الثقافة العربية الإسلامية القديمة إلى الفكر اليوناني...
ومثل بـ محمد عابد الجابري الذي شايع رأي رينان الفرنسي ومثل بـ طه حسين الذي رد البيان العربي إلى أصول يونانية...انظر(137 ـ 138)
*في الحديث
يزعم اليوم أن ما سبق عصر النهضة العربية الحديث كان عصر انحطاط ، عصرا غير نهضوي ، وعندما سقطت خلافة المسلمين في الأستانة، وغزا الغرب الصليبي أمة العرب والمسلمين ، فحررها من ((الاستعمار العثماني)) حمل إليها مفاهيمه الثقافية والفكرية العلمية ، فانتهت عصور الانحطاط العربي، وبدأت نهضتهم الحضارية الحديثة...إن النهضة عند هؤلاء تعني التبعية للغرب، تعني الانسلاخ من قيم الإسلام والعروبة ، وتقليد الأوروبيين في كل شيء على نحو ما كان يدعو إلى ذلك طه حسين في كتابه ((مستقبل الثقافة في مصر))...(138 ـ 139)
أما بعد:فهذه إيماءة وتلويحة لما تقلّه هاتان الصحيفتان البليغتان، من عرف فواح، وورد جني، وفاكهة كثيرة، و والله لولا رهبة الإطالة، أو أن يقال نسخهما بحروفهما ،لأتيت بكل ما شرح صدري، وروى فكري، وأنعش قلبي، مما لا يزهد به المثقف المسلم!
وصلى الله على العز والفضل، سيدنا وعظيمنا وقدوتنا وكبيرنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
حسين بن رشود العفنان
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
حائل
==============(33/246)
(33/247)
لقاء مجلة اليمامة السعودية
مع الشيخ الدكتور/ عوض القرني
1) قال تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) على من تنطبق هذه الآية في هذه الأيام؟.
تنطبق على كل ظالم لنفسه أو ظالم لغيره من خلق الله .
2) يقال أن أفكار الشيخ عوض القرنى تتداول كما تتداول علب السجائر هل هي كذلك؟ .
أتمنى أن تكون أفكاري مما يتهادى به ويتحف به الأحباب ، كما يتهادى ويتحف بماء زمزم .
3) من هم الأسوأ..شياطين الإنس أم شياطين الجن؟.
الأكثر ضرراً على الخلق ومحادّة للرب ، وسعياً في الإفساد هو الأسوأ .
4) قليل الشهرة على الحق ..خير من كثيرها على باطل , أليس كذالك؟.
نعم صحيح .
5) تجاوز الإشارات (الحمراء) في النقاش والاختلاف..هل هو خلل في البناء التربوى, أو اجتهاد بأجر , أم هوى متبع أم ماذا؟.
قد يكون هذا أو هذا أو ذاك ، لكن من الذي يحدد الإشارات الحمراء ، هل هو الوحي والعقل ، أم المزاج والهوى .
6) كيف يجرؤ البعض على التكلم باسم الدين أو الفكر دون أن يتحرروا من عقد الطائفية؟
المعوّل عليه عند الحديث باسم الدين أن يكون الحديث حقاً مستندا إلى الدليل والبرهان ، سواءاً وافق قول الطائفة والمذهب ، أو خالف الطائفة والمذهب .
7) في السابق كانت الفضائيات بالنسبة لهم( رجسا من عمل الشيطان) ؟ ، والآن يتسابقون للظهور عليها..كيف نفهم هذا؟ .
هذا الكلام ليس على إطلاقه ، لا سابقا ولا الآن ، فمن الفضائيات ما هو رجس من عمل الشيطان سابقا ولاحقا ، ومنها ما هو من الخير والهدى ، ومنها ما هو بين ذلك ، والتعامل مع أي منها يقوم على فقه المصالح والمفاسد ، المستند إلى قواعد الشريعة ، فربما تدفع المفسدة قبل وقوعها ، فإذا وقعت فالواجب شرعاً السعي إلى تقليلها ، إذا لم يتمكن من منعها .
8) لماذا يعتقد البعض أنه يملك وحده الحقيقة ولا يعترف بإمكانية وجودها أو جزء منها لدى الآخر؟.
الحقيقة تختلف من سياق إلى آخر ، ففي بعض السياقات الحقيقة أمر قطعي ،غير قابل للأخذ والرد ، فكما أنك لا تشك في وجودك ، ولا في اسمك ، ولا أنك في الليل أو في النهار ، فكذلك هناك من القضايا ما لا تحتمل الخلاف والاختلاف ، وهناك سياقات أخرى الحقيقة فيها تحتمل أكثر من وجهة نظر ، وقد يكون لدى كل طرف قدر من الحقيقة ، يقل أو يكثر ، لكن في المحصلة النهائية لا بد أن يكون ذلك كله من خلال مرجعية واحدة متسامية فوق الأهواء منزهة عن القصور ، وليس ذلك إلا للوحي ففي إطاره يمكن التفريق بين ما يجب أن يكون محل إجماع ، أو الخلاف فيه سائغ .
9) لماذا عندما نسمع محاضرات بعض المشايخ نشعر أننا لا ننتمي إلى هذا العصر؟
قد يكون الخلل في المحاضر وفكره ، وقد يكون الخلل في المتلقي وفكره ، لأن المعاصرة تعني عند البعض تكريس الذات في صياغة تاريخية معينة ، وقد تعني عند البعض الانسلاخ من جميع الثوابت ، مهما كان لها من صفة الخلود والاستمرار .
10) عندما نمزج العقيدة بالخرافة والعادات التقاليد ..تتحول إلى ماذا؟ .
تتحول إلى دين جديد لم ينزل الله به سلطانا .
11) من أين يبدأ الحوار والنقاش وصولاً للإقناع؟ .
يبدأ من المشتركات والمتفق عليه ، وينتقل على جسر المشترك والمتفق عليه إلى بحث المختلف فيه.
12) هل تزعم أنك صاحب فكرة , وصاحب دعوة , وصاحب مشروع؟ .
إذا عاش الإنسان لغير رسالة يدعوا إليها وتشكّل فكره ، وتعبّر عنها مشاريعه ، فهو لا يستحق أن يطلق عليه إنسان .
13) لماذا يرى الكثيرون أنك تسرف في استخدام لفظ العلمانية والعلمانيين.
أولاً لا أظن الكثيرين يرون ذلك ، والإسراف والاقتصاد أمران نسبيان ، ويمكن أن يُسأل الآخرون عن ذلك .
14) من هم الذين يمكن أن نطلق عليهم ( دعاة على أبواب جهنم )؟ .
هم الذين يلبّسون على الناس الحق بالباطل ، أو يكتمون الحق وهم يعلمون ، دعاة الشيطان وأعداء الرحمن .
15) يرى الكثيرون أنك لم تكن عادلا في كتابك (الحداثة في ميزان الإسلام) لأنك لم تلتق بكثير ممن تحدثت عنهم وكان حكمك فقط من خلال كتاباتهم؟ .
وهؤلاء الكثيرون الذين رأوا هذا الرأي هم لم يلتقوا بي أيضاً ، وإنما حكموا علي من خلال كتابي ، فإذا صحّ كلامهم فهم أيضاً غير عادلين ، وإذا لم يصح كلامهم فقد سقطت حجة السؤال .
16) في رأيك كم درجة انحراف المسلمين عن الملة؟
لا يمكن أن يعطى حكم واحد لاثنين من الناس في قضية واحدة فكيف بجميع المسلمين في جميع قضايا الإسلام .
17) هناك اختلاف كبير بين العلماء في تفسير( الولاء والبراء) في رأيك هل هي من الثوابت أم من المتغيرات المرتبطة بظروف معينة وغايات معينة؟ .
المبدأ من حيث هو مبدأ من الثوابت ، وصور تطبيقه من المتغيرات .
18) اختراع الخصوم أو تضخيم الخصومات القائمة.. أيعد نوعا من أنواع صراع الحضارات؟ .
قد يكون كما ذكرت ، وقد يكون في حقيقته دفاع عن الذات وحماية للحرمات والمقدسات ، وإن رآه البعض غير ذلك .
19) عزلة المجتمعات.. إلى أي مدى تولد الخوف المتبادل من الآخر, وتباعد المسافات, وتزيد الأوهام ؟ .(33/248)
ليس من المناسب الانفتاح المطلق ولا العزلة الكاملة ، بل يكون الانفتاح متبصّراً رشيداً ، والانكفاء للحفاظ على الثوابت والخصوصيات .
20) في سلّم الحضارة والتقدم العلمي أين أصبحت (خير أمة أخرجت للناس)؟ .
في ذيل الأمم .
21) كيف يشفى من في قلبه مرض ؟.
بعلاج المرض ، بالدواء الصحيح ، على يد الطبيب الحاذق .
22) ثقافة الموت والأساطير المصاحبة لها.. لماذا وجدت طريقها سريعاً إلي عقول فئات من شباب المجتمعات الإسلامية؟ .
البعض يسمي كل غيب أساطير ، حتى وإن كان من عقائد الإسلام الثابتة ، والبعض يتعلق بكل وهم وخرافة ، والحق بين هذا وذاك .
23) بعد كل هذه المعارك مع الحداثيّن..هل الحداثة كلها شر مستطير؟.
الحداثة كمذهب فكري يسعى لتغيير العقائد والقيم والأخلاق هي شر بلا شك ، وأما التحديث الذي هو في المشتركات الإنسانية ، ولا يعبّر عن هوية خاصة بذاتها فهو ضرورة للعصر ، وهو شيء آخر غير المذهب الفكري المسمى "الحداثة" .
24) ترأس تحرير عدد من المجلات كالمنار والجسور وغيرهما .. فهل هناك إعلام إسلامي وآخر غير إسلامي في بلد إسلامي ؟ .
يمكن أن يكون في البلد الإسلامي إعلام إسلامي ، وإعلام غير إسلامي ، كما يمكن أن يكون في البلد البوذي والهندوسي والنصراني ، والبلد ما زال إسلامياً .
25) الصحوة ..أين هي الآن؟ .
في قلوب المسلمين والمسلمات ، وعلى جوارحهم وفي مساجدهم ، وفي مؤسساتهم الثقافية والتربوية والاقتصادية ، ويعبّر عنها كل نشاط أصيل وسطي معتدل ، يرفض الغلو وينبذ التحلل .
26) ماهي المعركة الحقيقة للمسلم اليوم ؟.
تتمثل المعركة الحقيقية للمسلم اليوم في المعالم الآتية:
- الحفاظ على الهوية .
- والدفاع عن الأوطان .
- وتحقيق الإصلاح والتنمية .
- والسعي لوحدة الأمة ، وفق سنن الله وفي إطار شرع الله .
27) أول هجرة للمسلمين كانت إلي ملك نصراني في الحبشة ..أهي دليل تسامح الدين مع الآخر؟ .
الأدلة كثيرة ، ولا توجد حضارة في تاريخ البشرية استوعبت الآخر ، وحفظت حقوقه كما كانت حضارتنا الإسلامية .
28) يقال أن هناك مناخ قهر يمنع السعوديات من العمل والإنتاج.. أليس كذالك؟.
هذا وهم أصيب به من يستوردون مشكلات المجتمعات الأخرى ، ويحاولون إعادة استنباتها في مجتمعنا ، فمشكلات المرأة عندنا تختلف يقيناً في أكثرها عن مشكلاتها في مجتمعات أخرى .
29) انتحرت مؤخراً امرأة سعودية بائسة من الفقر..كيف يمكننا أن نفهم ذلك في المجتمع المسلم؟ .
أضف إلى ذلك لتكتمل الصورة قبل محاولة الفهم انتحار العديد من الرجال والعديد من الشباب ، وأضف لذلك أيضاً جانباً آخر من الصورة يتمثل فيمن حققوا النجاح وعاشوا سعداء في مجتمعنا من النساء والرجال والشباب .
30) لماذا تتزايد المخدرات والجرائم الأخلاقية والسرقة في المجتمعات الإسلامية ؟.
هي ليست خاصة بالمجتمعات الإسلامية ، بل هي بلاء عالمي .
31) في الآونة الأخيرة بدأنا نسمع عن قيادة المرأة للسيارة , ومشاركتها في انتخابات المجلس البلدي , وفي مجلس الشورى.. وغيرها , لماذا لم نكن نسمع عنها هذا الكلام من قبل؟ .
بل سمعنا عنه كثيراً ، والذي لم يسمع عنه من قبل ، إما أنه لا يسمع ، أو لا يريد أن يسمع .
32) هل يحتاج الخطاب الديني المحلي التجديد والتطوير في أساليبه؟ .
بلا شك أن أي خطاب في حاجة إلى التطوير المستمر ، في وسائله وأساليبه وآلياته .
33) طالبان في أفغانستان والمحاكم الإسلامية في الصومال..هل قدمت النموذج الإسلامي في الحكم والإدارة وبالتالي عندما سقطت مثلت فاجعة سقوط النموذج؟.
النموذج الإسلامي هو قضية الأمة بجميع شرائحها ، وإذا أخفقت تجربة لعدم توفر شروط النجاح لها ، فلا يجوز للأمة أن تتخلى عن قضيتها ، ولا يعني عدم النجاح في التجربة إخفاق الإسلام كنموذج متفرد للحياة .
34) ما أبرز ما قلته للشيخ حسن الصفار أثناء زيارتك له مؤخرا؟ .
الزيارة لم تكن مؤخراً ، إنما كانت قبل سنوات وكان الحوار محاولة لاكتشاف آفاق الوحدة بين طوائف الأمة وبحث المختلف فيه ،على ضوء الكتاب والسنة .
35) بصراحة: ماهي "أم القضايا" في مجتمعنا؟ .
أم القضايا جهل البعض بحقيقة ديننا ، وانسياق البعض وراء موضات التغريب والعلمانية .
36) على الرغم من تخصصك في الفقه إلا أنك تزاحم الأدباء والكتّاب في تخصصهم؟.
الأدب والكتابة موهبة ، وليست تخصصاً ، والدليل أن الكثيرين من الأدباء والصحفيين إما مهندسون أو أطباء أو اقتصاديون ، أو علماء شريعة ، أو لا يحملون أي شهادة جامعية .
37) يخشي الكثيرون فتح الأبواب والنوافذ , فمتي تدعوهم للخروج من الخنادق وتنفس الهواء الطلق ؟ .
كما قلت قبل قليل ، نحن نرفض الانفتاح غير المتبصر وغير الرشيد ، كما نرفض الانكفاء على الذات ورفض كل جديد .
38) هل تري أن أمريكا في العراق أصبحت تغوص في مستنقع من الدماء؟
لقد غرقت في المستنقع الدامي الذي أوجدته بظلمها واستبدادها وسوء عملها والقادم لها أسوأ .
39) فكريا..كيف نتعامل مع فئة(طقها والحقها) في المجتمع؟ .(33/249)
يمكن حل كثير من المعضلات ببناء المنهج العلمي والميثاق الأخلاقي ، القائم على قواعد ديننا ومصلحة أمتنا ، والمستوعب لعصرنا ، ثم أخذ الناس بذلك المنهج .
40) ماذا تقول لهؤلاء:
- د/غازي القصيبى:
- ياليتك تتجاوز عداوات أيام المراهقة والشباب وتتخلص من عقد القوميين والبعثيين والناصريين التي ما زالت توجه كثيراً من ردود أفعالك نحو العلماء والمتدينين من أبناء هذا الوطن ، وأعجب لمثلك في عقله وثقافته وتجربته كيف تخفى عنه كثيراً من الحقائق ويعيش أسيراً كبّلته في ميعة الصبا وعنفوان الشباب .
- سعيد السريحى
- نتمنى منك كشف المزيد من الحقائق عن الحداثة المخفية وراء الأستار عن عيون الجمهور.
- عبد الرحمن العشماوي
ما زلت صوتاً بالحق ناطقاً ، ولأمتك منتمياً ، وفي وجه كل انحراف سداً منيعاً .
- عبد الله الصيخان
هل لا زلت موجوداً .
41) من هو الشخص الذي تتمنى ألا تلتقي به؟
إبليس
42) هل أنت راض عن نفسك؟
لا يمكن أن يرضى عاقل عن نفسه ، وإلا لأصيب بالغرور ، وكان ذلك قاصمه .
43) ما هو القرار الذي ندمت عليه كثيراً؟
عدم استزادتي من طاعة الله ، واستكثاري من أسباب رضوانه.
44) أي القضايا تؤلمك؟ .
عجز التقي ، وجلد الفاجر .
45) رؤساء تحرير الصحف والمجلات السعودية.. ماذا تقول لهم؟.
اتقوا الله في أجيال الأمة ، واعلموا أن بعد الجاه والمنصب الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى .
46) متى تصبر ؟ ومتى تغضب؟ ومتى تفرح؟ .
أصبر عندما يجهل الجاهل علي ، وأغضب عندما تقصّر أمتي في الدفاع عن نسائها وأطفالها ومقدساتها ، وأفرح عندما أستشعر قربي من الله ، وبذلي ما أستطيع في خدمة أمتي ورفعة وطني.
47) ما هو الهدف الذي فشلت في تحقيقه؟ .
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
48) أين يقف طموحك؟.
يقف طموحي إذا حطّيت رحالي في الجنة بإذن الله.
49) من تفضّل أن تدعوه على مائدة غدائك: (أدونيس) أم (تركي الحمد)؟ .
الضيافة من شيم العرب ، لا يرد عنها طارق كائناً من كان .
50) ما هو السؤال الذي لم نسألك إياه؟ .
رأيي في مجلة اليمامة وفي زاوية 50×50 .
==============(33/250)
(33/251)
فُضُوح نزار قباني
حسين بن رشود العفنان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
فرش
(ومن زُين له أن يصبح دميم القلم ، مشوه الفكر ، ممسوخ الهوية واللسان، فليقرأ للحداثيين..) (الشاعر الكبير الدكتور / عبدالمعطي الدالاتي، من موقع رواء)
(أنا لا أهتم كثيرا أن يكتب هذا الأديب أو ذلك قصيدة شعر عامودي ، أو حر ، أو نثر شاعري ، أو ما شاء من ضروب القول ، فذلك حكمه للذوق والتاريخ ومعايير الفن ، ولكني أهتم كثيرا ، ولا أطيق السكوت إذا رأيت ـ باسم التحديث ـ من يهدم عقيدتي ، ويسخر من ديني ، ويستأصل لغتي وتراثي) ( الأديب الكبير د. وليد قصّاب ، من صيد الخاطر112)
***
زرتُ كتاب الأستاذ الكبير، فضيلة الشيخ الدكتور / سعيد بن ناصر الغامدي ـ رفع الله قدره وأجزل مثوبته ـ (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) وقلبت البصر في نصوص الحداثيين الشُّذاذ، فأثخنت قلبي قِحتهم ، وملأت نفسي حربا وغضبا عليهم!
فقبحا لهذه الجماجم، التي أنكرت وجود الله، ووصفته بأوصاف النقص والقلة، وتهكمت بملائكته ورسله، وقذّرتهم وكذبتهم،وألحقت الوحي والقرآن بالأساطير، ونفت البعث والغيبيات، وكفرت بالقدر وذمته، وحاربت الإسلام ولغته وأهله، وآمنت بالوثنيات والعقائد المحرفة والخرافات، وسخرت من الأخلاق الإسلامية، وهدمت الحياة الاجتماعية والنفسية، وفسرتها تفسيرات جاهلية حيوانية، ودعت إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية الجاهلية، واعترفت بعمالتها وأنها ذنب لأهل الكفر والشرك، وخشاش تحت أقدامهم !!
فرأيتُ أنهم أتوا بما لم يأتِ به إبليس، من إلحاد وكفر ووقاحة وجرأة!
وكم أتألم وأنا أبصر إعلامنا الخائن، يُمجد هؤلاء (الأميين) ويَشتطُّ في تليمع (كفرياتهم)، وأنها الجسر الفرد الذي يفضي إلى مشارف النبوغ و قُنن الإبداع!! ويهددنا ـ إن لم نقرأها ونحفظها ونستشهد بها ونعترف بجمالها!! ـ بالجمود ومحاربة الجديد، والضعف الفني، (والإرهاب!!) والسقوط، والتخلف، وقلة الأدب... إلى آخر هذه التهم المُعلبة!!
مع أن القوم تدابروا، وأخذ بعضهم يلغ في بعض، وكثر الشهود من جحرهم ومخبأهم،وانكشفت عوراتهم ومخازيهم، لكن ما زالوا منتصبين أمام أصنامهم (الأدونيسية)!
***
(الحداثة) عقيدة دنيئة، نبشوا من أجلها مراحيض الفكر الغربي، ولم يزهدهم نتنها!! فبؤسا لهم ولها!!
هذه العقيدة : منجم للباطل، ومغرس للدعارة، جاست دينَنا وعقيدتنا ومقدساتنا ولغتنا وتاريخنا وعقولنا، وناكرت كل حق وفضيلة، بحُجُب واهية مكشوفة، وأسدال عارية مفضوحة، كالتجديد والتطوير وبث الدماء الجديدة...!!!
***
وهنا أُظهرُ لك على عجل،حفنة من هذه الفُضوح أو (الإبداعات!!) التي يشيب منها رأس الوليد الغِر ...:
وأستفتح بـ(نزار قباني) ويتميز هذا الجنسي المعتوه ـ في العقل الحداثي ـ بأنه (شاعر كبير جدا جدا!!) وأنه (أنصف المرأة وطهرها ورفع منزلتها!!)...
الجنسي المعتوه في سطور
وترجم له المؤلف في بحثه البليغ فقال : نزار قباني شاعر سوري، ولد سنة 1341هـ / 1923م ، درس الحقوق وتخرج سنة 1364هـ / 1945م ، وعمل في بعثة دبلوماسية في القاهرة ثم تركيا ثم لندن وبكين، من رواد الحداثة ، اشتهر بأنه شاعر المرأة، حيث جعل منها مجرد جسد ، وإناء لتفريغ الشهوة الجنسية ، يركز على أعضاء الجنس ، والملابس الداخلية للنساء ، ويأتي بعبارات صارخة مكشوفة جنسيا ، ويجاهر بالإلحاد ، والتهكم بالله ورسوله والدين والشريعة ، ويبغض العرب لفرط شعوبيته.(1/145)
فُضوحه أو (إبداعاته!!)
يقول هذا الأميّ : (من بعد موت الله مشنوقا / على باب المدينة / لم تبق للصلوات قيمة / لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة ) الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني 3/342
ويقول لإحدى عشيقاته : (وجسدك الياسميني يأمر وينهى ، ويقول للشيء كن فيكون) السابق: 2/ 922
ويقول متهكما : ( إن الله عندي هو دبيب شعري ، وإيقاع صوفي في داخلي ...والكفر عندي هو موت صورة الله...وأفترش شعر حبيبتي كما يفترش المؤمن سجادة صلاة...وماذا يكون الشعر الصوفي سوى محاولة لإعطاء الله مدلولا جنسيا).
أسئلة الشعر ص :196
ويقول كذلك : (فاليوم أخلق منك إلها وأجعل نهدك قطعة من جوهر) الأعمال الشعرية الكاملة : 1/470.
ويقول : (قد كان ثغرك مرة / ربي فأصبح خادمي)
السابق:1/347.
***
ويقول : ( ولا تخجلي مني فهذه فرصتي لأكون ربا أو أكون رسولا) السابق: 2/761
ويقول عن محبوبته : ( امرأة ناهية كالرب في السماء )
السابق: 1/597
ويقول : (ويتزوج الله حبيبته ) السابق: 2/442
ويقول : (حين وزع الله النساء على الرجال / وأعطاني إياك شعرت أنه انحاز بصورة مكشوفة إلي / وخالف كل الكتب السماوية التي ألفها / فأعطاني النبيذ وأعطاهم الحنطة...حين عرفني الله عليك / ذهب إلى بيته / فكرت أن أكتب له رسالة ...كنت أريد أن أشكره لأنه اختارك لي / فالله ـ كما قالوا لي ـ / لا يستلم إلا رسائل الحب / ولا يجاوب إلا عليها...) السابق: 2/404
ويصف ثورا أسبانيا ( ويسقط في ساحة الملعب كأي شهيد ...كأي نبي )السابق : 1/561 ـ 62
***(33/252)
ويقول متأثرا بالعقائد المحرفة : ( لو كنت في مدريد رأس السنة / كنا ذهبنا آخر الليل إلى الكنيسة / كنا حملنا شمعنا وزيتنا / لسيد السلام والمحبة / كنا شكونا حزننا إليه / كنا أرحنا رأسنا لديه...) السابق : 1/510 ـ 511
ويقول : ( أرجوك يا سيدتي باسم جميع الكتب المقدسة / والشمع والبخور والصلبان / أرجو بالأوثان يا سيدتي / إن كنت تؤمنين في عبادة الأوثان) السابق: 1/710 ـ 711
ويقول : (أود لو كان فمي كنيسة ...) السابق: 1/744
ويقول (اصلبيني بين نهديك مسيحيا ) السابق: 2/ 20 ـ 21
***
ويقول عن الهذيان المسمى (قصيدة النثر) أن أصولها ترجع إلى القرآن الكريم : (احتمالات النثر لا نهائية ، ومن هذه الاحتمالات قصيدة النثر التي نجد لها أصولا في الكتب المقدسة كما في سورة مريم وسورة الرحمن وفي قصار السور القرآنية، كذلك نجدها في نشيد الإنشاد وفي المزامير) قضايا الشعر الحديث ص:243
ويقول : (ويسألونك عن الشعر قل الشعر من علم ربي )
فتافيت شاعر 85.
ويقول منكرا الغيب : (أنا شاعر لا أؤمن بالغيبيات...) السابق: 43 ـ 54
ويقول : (وسنلغي سورة الرحمن والفتح / ونغتال يسوع )
الأعمال الشعرية الكاملة 3/ 212
***
ومن إنصافه للمرأة : ( تظل بكارة الأنثى / بهذا الشرق عقدتنا وهاجسنا / فعند جدارها الموهوم قدمنا ذبائحنا...صداع الجنس مفترس جماجمنا / صداع مزمن بشع من الصحراء رافقنا / فأنسانا بصيرتنا ، وأنسانا ضمائرنا ) السابق: 1/ 639
واسمع : ( كنا ثمانية معا / نتقاسم امرأة جميلة / كنا عليها كالقبيلة ) السابق: 2/123
واسمع استهزاءه بعفاف المسلمات وطهارتهن ورفعتهن : ( فأمي (دقة قديمة) ولا تفهم كيف يكون للمرأة / حب أول وثان وثالث وخامس عشر / أمي تؤمن برب واحد وحبيب واحد وحب واحد ) السابق : 2/728
ويقول مجاهرا : ( أنا رجل يرفض أن يلعب الحب خلف الكواليس ، ولذلك نقلت سريري إلى الهواء الطلق) أسئلة الشعر : 181
ويقول : (أرى أن فكرة العيب والشرف والعرض تقيم حصارا طرواديا حول الجنس الثاني...) أسئلة الشعر : 199
ويقول : (إن الرجولة كما يفهمها مجتمع الرجال لدينا ، هي القائمة على الكسر ، والقمع وإلغاء الأنثى ...فمن النظام الأبوي إلى النظام الزوجي ، تنتقل المرأة من معتقل إلى معتقل...من رجل مباحث إلى رجل مباحث).المرأة في شعري وفي حياتي :25
فيقول المؤلف ـ أجله الله ورفع قدره ـ : أي أن التحرر الذي يريده للمرأة أن تنتقل من يد داعر إلى يد داعر آخر ، ومن سرير زان إلى سرير زان آخر. (3/ 2065)
***
وهنا يتهكم بتعلم العربية وتعليمها : (وتمضغ مرة أخرى / حروف النصب والجر التي كنا مضغناها)
الأعمال السياسية الكاملة 3/347
ويقول : (مازلنا نجادل بعضنا بعضا / عن المصروف والمنموع من صرف) السابق : 3/351
ثم يهجو العرب (إياك أن تقرأ حرفا من كتابات العرب / فحربهم إشاعة وسيفهم خشب / وعشقهم خيانة ووعدهم كذب / إياك أن تسمع حرفا من خطابات العرب / فكلها نحو وصرف وأدب / ليس في معاجم الأقوال قوم اسمهم عرب) فتافيت شاعر ص 13
***
يقول الحق تبارك وتعالى وتقدس ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم :
( قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد(1) اللَّه الصَّمَد(2) لَمْ يَلِد وَلَمْ يُولَد(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد(4) )
ويقول جل جلاله وتباركت أسماؤه وصفاته : ( اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )[سورة البقرة].
حسين العفنان ـ حائل الطيبة
==============(33/253)
(33/254)
اعترافات .. محمد عابد الجابري ..!
سليمان بن صالح الخراشي
سبق أن كتبت مقالا بعنوان : ( اعترافات محمد أركون ) تجده على هذا الرابط : هنا
وفي هذا المقال سأنقل اعترافًا من نوع آخر لمفكر آخر : هو : محمد عابد الجابري ، يكشف فيه بإيجاز عن الهدف الذي يسعى إليه من خلال كتبه ومشاريعه النقدية لما يسميه العقل العربي .. ، وكما هو معلوم للمتابعين فإن الجابري يعد على قائمة الرموز الذين تأثر بهم قلة من شبابنا المرضى بما يسمى ( العصرنة ) التي انتقلوا إليها من الطرف الآخر ( الغلو والتشدد ) !
. حيث عكفوا على كتبه وتأثروا بها ، فصبغتهم بأفكارها وألفاظها ، فأصبح مايهمه يهمهم ، مما أدى بهم إلى تحقيق شيئ من أمنياته على أرض الواقع كما سيأتي - إن شاء الله - .
سئل أحد هؤلاء المرضى عن الكتب التي أثرت في عقله ( القروي ) فقلبته 180 درجة !! فقال - بالنص - : ( أماالكتب المعاصرة فساذكر لك عناوين عابرة ربما تفيد :تكوين العقل العربي ، وبنية العقل العربي كلاهما لمحمد عابد الجابري) .
هذا الاعتراف للجابري ورد في مقابلة أجراها معه الكاتب ( عبدالإله بلقزيز ) في مجلة : المستقبل العربي ، العدد 278. أبان فيه عن سعيه إلى تحقيق الحداثة ( ! ) من خلال التراث لا من خارجه كما يفعل ( العلمانيون ) الفاشلون ! الذين لم تنجح دعوتهم لتغريب المجتمع المسلم؛ لأنها أتت من خارجه . أما هو فسوف يلجأ إلى أسلحة التراثيين ! ويجعلها ترتد في نحورهم ! في محاولة خبيثة لإعادة تشكيل العقل والتاريخ والتراث حسب ما يريد . ومن هنا تأتي الخطورة !
وقد تابعه على هذا المعجبون به لدينا ، وحاولوا نقل مشروعه .....
يقول تركي الربيعو في كتابه ( المحاكمة والإرهاب ، ص 32 ) : ( الخطاب العربي المعاصر هو خطاب محكوم بسلف ، والمطلوب تحريره من ربقة السلف . هذا ما قادنا إليه الجابري ) .
يقول بلقزيز في سؤاله :
( مع كل هذا العطاء العلمي في ميدان الدراسات التراثية ، مقرونا بإطلالة غير منقطعة على أسئلة العصر وأسئلة الفكر الحديث ، هل ما زلت مقتنعا بأن الطريق إلى كسب مطالب العقلانية والحداثة والتقدم تمر حتما عبر تبيئتها وتأصيلها وعبر ربط الجسور باللحظات الحية والتقدمية في تراثنا ؟ أم انك أفسحت مجالا آخر ؟ أو تتفهم ذاك المجال الذي يمكن أن يكون ساحة لمنافذ أخرى قصد طلب هذه القيم والمبادئ ، طبعا دون المرور بمسائل التراث ؟
فيرد الجابري : إن وجهة نظري في هذا الموضوع تعبر عن اقتناع شخصي ليس فقط من خلال تجربتي منذ البداية ، وأنا على اتصال بالطلاب والمثقفين ، بل أيضا لأن هذا الاقتناع تكون لدي أساسا كنتيجة النظر في تاريخ النهضة العربية . أنت تعرف أنه كانت هناك ثلاثة تيارات معروفة ؛ هي التيار السلفي والتيار الليبرالي و التيار التوفيقي أو التلفيقي ، وأنت تعرف أن تجربة مائة سنة قد أسفرت عن جمود الحركة في هذه التيارات ، فلا أحد منها تطور وحقق أهدافه ، بل كل ما حدث هو اجترار وعود على بدء مستمر . لقد استنتجت من ذلك تلك القضية الأساس التي أدافع عنها وهي أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعا معاصرًا لنا ، وفي الوقت ذاته بالحفاظ له على معاصرته لنفسه ولتاريخيته ، حتى نتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ به (!) وهذا هو التجاوز العلمي الجدلي .
هذا هو اقتناعي إذا كنا نفكر في الأمة العربية و الإسلامية كمجموع ، وليس كنخبة محصورة العدد متصلة ببعض مظاهر الحداثة ، تنظرالى نفسها في مرآتها وتعتقد أن الوجود كله هو ما يرى في تلك المرآة . هذا في حين أن هذه النخبة صغيرة ، قليلة ، ضعيفة الحجة أمام التراثيين . والمطلوب منا في ما يخص الحداثة ليس أن يحدث المحدثون أنفسهم ، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق ، والنطاق الأوسع هو نطاق التراث . فإذا لم نكن على معرفة دقيقة وعامة بالتراث وأهله فكيف يمكن أن نطمع في نشر الحداثة فيه ، أن نجدد فيه ، أن ندشن عصر تدوين في مجالاته ) .
ويقول في نفس المقابلة عن إحدى أمنياته :
( لو كان لدي ، وكان لدي مثل هذا الميل نحو مشروع إصلاحي ؛ لكان في برنامجي الاشتغال على ابن تيمية أيضا ، ولقدمت للقراء وجهًا آخر عنه ، يختلف عن الوجه السائد والمؤدلج ..) !
قلت : وقد وعدنا بعض تلاميذ الجابري عندنا بأنه سيقوم بهذه المهمة ، وسوف يبين لنا جهلنا بالشخصية الحقيقية لشيخ الإسلام - رحمه الله - !
ولا تعجب من هذا ..
فقد حرفت نصوص نبوية ..
وتؤلت آيات قرانية ..
فما ظنك بابن تيمية .. ؟!
الخلاصة : أن خطة القوم تقوم على التغيير من داخل البيت الإسلامي ، لا من خارجه من خلال العبث بالنصوص الشرعية بتأويلها وتفريغها من محتواها ( الحقيقي ) ، واستبداله بالمحتوى الذي يريدون ..
فيا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ...
ولاتغتروا بتلبيسات مدعي ( الإصلاح ) و ( تجديد الخطاب الديني ) ........... ولو كانوا من ذوي ( اللحى ) !
تنبيه : من أراد معرفة انحرافات الجابري والرد على أفكاره فليرجع مكرما إلى رسالة ( نظرات شرعية في فكر منحرف )
==================(33/255)
(33/256)
فُضُوح بدر شاكر السياب
حسين بن رشود العفنان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
فرش
أكدت الحداثة ـ في عشرات آراء المشهورين ـ أنها قضية فكرية أكثر منها اتجاها فنيا ، أو مذهبا أدبيا . إنها صيغة أيديولوجية معينة ، تقدم تصورا جديدا مخالفا لكل ما سبق عن الكون والإنسان والحياة،بل عن الإله نفسه . وما أثارته من قضايا فنية أو أدبية كثيرة إنما تخلق في رحم القضايا العقدية التي شكلت هاجسها الأول...
يقول أحدهم : (لم تعد الحداثة مجرد ظاهرة تاريخية ، بل تحولت مع الزمن إلى ما يشبه الدين..) الأديب الكبير د.وليد قصاب من كتابه البليغ(الحداثة العربية الشعرية ، حقيقتها ومرجعيتها ص52)
***
يقول أحد الباحثين : البول من الرموز اللغوية المقززة التي اتكأ عليها بعض شعراء القصيدة المعاصرة ، وراحوا يتبادلونها ضمن رموز القاذورات. وإليك بعض النماذج :
أشم تبغه الرخيص.
إني أراه عاريا يبول.
أتيتك هذه كراريسهم سأبول عليها.
اكتم صوتي لا اسعل لا أبول
أعيش في حظيرة الأغنام ، أبول كالأغنام
يتبول خلف الأشجار العصفور...
السابق ص : (109)
***
مازلت في( الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) للأستاذ الكبير فضيلة الشيخ الدكتور/ سعيد بن ناصر الغامدي.
يقول ـ رفع الله قدره ـ عن السياب (1/ 162) :
بدر شاكر السياب أول من سن الحداثة الشعرية ، ولد عام 1344هـ / 1926م في قرية جيكور جنوب البصرة لأسرة شيعية ، تخرج في دار المعلمين ودرس ، وتقلب في عدة وظائف ، انتمى للحزب الشيوعي العراقي ثم إلى زمرة الشعراء التموزيين ، وعصابة شعر ، وشارك في مؤتمر روما الذي أشرف عليه اليهود والمخابرات الأمريكية ، أصيب بالشلل ومكث يستجدي زملاءه وأصدقاءه فلم يجيبوه حتى مات في الكويت عام 1383هـ / 1946م ، شعره مليء بالرموز الوثنية ، والانحرافات الفكرية والسلوكية.
وإليك حفنة من قذره ونتنه:
السياب يشكك في وجود الله
(نرى العراق يسأل الصغار في قراه:ما القمح ؟ ما التمر ؟ ما الماء ؟ما المهود؟ ما الإله ؟ ما البشر؟ فكل ما نراه دم ينز أو حبال فيه ، أو حفر...
أكانت النساء والرجال مؤمنين بأن في السماء قوة تدبر تحس تسمع الشكاة تبصر ترق ترحم الضعاف تغفر الذنوب؟) ديوان السياب: ص 484
السياب يستخف بالله ـ تعالى الله وتقدس عما يقول هذا المسكين ـ
(وأبصر الله على هيئة نخلة كتاج نخلة يبيض في الظلام أحسه يقول : يا بني يا غلام وهبتك الحياة والحنان والنجوم ) السابق : ص 147
ويقول : (لولاك ما كان وجه الله من قدري )
السابق: 190
السياب يسخر من الله ـ جل جلاله وتعالى وتقدس ـ ومن أسمائه وصفاته
(فنحن جميعا أموات أنا ومحمد والله وهذا قبرنا : أنقاض مئذنة معفرة عليها يكتب اسم محمد والله...
...فيا قبر الإله ، على النهار......إله الكعبة الجبار بدرع أمس في ذي قار بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار إله محمد وإله آبائي من العرب تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار وفي يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار وأبصرناه يهبط أرضنا يوما من السحب :
جريحا كان في أحيائنا يمشي ويستجدي فلم تضمد له جرحا ولا ضحى له منا بغير الخبز والأنعام من عبد...
...أعاد اليوم ، كي يقتص من أنا دحرناه
وأن الله باق في قرانا ، ما قتلناه
ولا من جوعنا يوما أكلناه
ولا بالمال بعناه...)
ديوان السياب: 395 ـ 400
(كفرت بأمة الصحراء
ووحي الأنبياء على ثراها في مغاور مكة أو عند واديها...
...لست لأعذر الله إذا ما كان عطف منه ، لا الحب ، الذي خلاه يسقيني كؤوسا من نعيم)642
السابق : 435 ـ 436
السياب يؤله أوثان اليونان
(ليعسوب بروس في الدروب وينبش التراب عن إلهنا الدفين تموزنا الطعين...أواه لو يفيق إلهنا الفتي لو يبرعم الحقول...
عشتار ربة الشمال والجنوب...
ليعوسر بروس الدروب
لينهش الآلة الحزينة، الآلة المروعة
فإن من دمائها ستخصب الحبوب
سينبت الإله، فالشرائح الموزعة
تجمعت تململت، سيولد الضياء من رحم ينز بالدماء)
السابق: 483 ـ 485
يقول السياب مقدسا عشتار:
(عشتار ، أم الخصب ، والحب والإحسان ، تلك الربة والوالهة)
السابق: 383
ويجعل تموز ربا يدعوه :
(يا رب ، تمثالك فلتسق كل العراق
فلتسق فلاحيك ، عمالك...يارب تمثالك
فاسمع صلاة الرفاق ولترع فلاحيك، عمالك
تمثالك البعل تمثالك الطفل تمثالك العذراء) ديوان السياب: 434 ـ 439
السياب يؤله نفسه:
(أنا الباقي بقاء الله أكتب باسمه الآجال وما لسواه عند مطارق الآجال من حرمه) ديوان السياب : 215
يقول السياب متبنيا عقيدة النصارى في الصلب :
(على قلبك أنهدُّ تحت الصليب المعلق في صخرة الكبرياء) ديوان السياب : 245
(غنيت تربتك الحبيبة وحملتها ، فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه)
السابق: 321
ويقول : (وعر هو المرقى إلى الجلجلة )
ثم شرح في الهامش قائل : ( الجلجلة الجبل الذي حمل المسيح صليبه إلى قمته) السابق: 391(33/257)
ويقول : (من الذي يحمل عبء الصليب...من ينزل المصلوب عن لوحه؟ من يطرد العقبان عن جرحه؟من يرفع الظلماء عن صبحه؟ويبدل الأشواك بالغار؟) ثم كتب في الهامش: ( وألبسوا المسيح تاجا من الشوك سخرية به)
السابق: 423
(هُوَ الله الذِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم. هُوَ الله الذِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُون. هُوَ الله الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم)(الحشر22-24 )
حسين العفنان ـ حائل الطيبة
============(33/258)
(33/259)
مؤلفٌ جديدٌ أنصحك بشرائهِ ... ادخل وتعرَّف عليه
صدر عن " دار الأندلسِ الخضراءِ " مؤلفٌ بعنوان :
الانحرافُ العقديُّ في أدبِ الحداثةِ وفكرها ... دراسةٌ نقديةٌ شرعيةٌ
تأليف الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي
والكتابُ أطروحةُ دكتوراه جاء على طرتهِ
أصلُ هذا الكتابِ رسالةٌ مقدمةٌ إلى كليةِ أصولِ الدينِ قسمُ العقيدةِ والمذاهبِ المعاصرةِ في جامعةِ الإمامِ محمدِ بنِ سعودٍ الإسلاميةِ ، لنيلِ درجةِ الدكتوراه .
ونال بها المؤلفُ درجةَ الامتيازِ مع مرتبةِ الشرفِ الأولى ، إثر مناقشةٍ علميةِ تمّت في تاريخِ 26 / 1 / 1420 هـ ، وكانت لجنةُ المناقشةِ مكونةٌ من :
1- سماحةُ الشيخِ عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ اللهِ آل الشيخِ ، مفتي عام المملكة العربية السعودية ، مشرفاً ومقرراً .
2- معالي الشيخ أ . د. صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجدِ الحرامِ ، وعضو هيئةِ كبارِ العلماءِ ، ورئيس مجلس الشورى ، عضواً .
3- فضيلةُ الشيخِ أ . د . ناصر بنِ عبدِ الكريمِ العقل ، عضو هيئة التدريس في كليةِ أصولِ الدينِ في الرياضِ ، عضواً .
4- سعادةُ الأستاذ د . حسن بن فهد الهويمل ، عضو هيئة التدريس في كلية اللغة العربية في القصيم ورئيس نادي القصيم الأدبي ، عضواً .
والكتابُ في ثلاثةِ مجلداتٍ
قد يقولُ قائلٌ : ما علاقةُ الكتابِ بـ " الساحةِ السياسيةِ " ؟؟؟
الجوابُ : الكتابُ ذكر رموزاً كثيرةً من رموزِ العلمنةِ والزندقةِ في هذا العصرِ ، ومن ذلك :
تركي الحمد .
عبد الله الغذامي .
أدونيس .
طه حسين .
نزار قباني .
نصر حامد أبو زيد .
محمد عابد الجابري .
عبد العزيز المقالح .
عبد الوهاب البياتي .
نجيب محفوظ .
وغيرهم كثيرٌ .
والكتابُ يناقشُ الانحرافات العقدية عند رموز " الحداثةِ " من خلالِ ما سطروهُ في كتبهم والصحفِ والمجلاتِ ، والذي يهمنا هنا انحرافاتهم في السياسية .
ومن بابِ التشويقِ للكتابِ ؛ لنأخذ طرفا مما جاء في هذا الانحراف فقال المؤلفُ :
القضيةُ الثانيةُ : اعترافهم بالتبعية للغرب :
وقضيةُ الارتماءِ في أحضانِ الغربِ قضيةٌ عاديةٌ مسلمٌ بها عند الحداثيين والعلمانيين ، بل ومفتخرٌ بها ، إلا أن بعضهم - مع إقراره بالتبعيةِ - يبحثُ عن المسوغاتِ ، ويلتمسُ المبرراتِ ، ويأتي بالفذلكاتِ الكلاميةِ ، والتأويلات اللفظيةِ لإضفاءِ مشروعيةٍ لهذه التبعيةِ .ا.هـ.
وختاماً أقول : لن تندم أخي على شراءِ الكتابِ ، فهو بحقٍ كتابٌ يستحقُ أن يطلعَ عليه من له اهتمامٌ بهؤلاءِ الرموزِ .
ولا تنسنا أخي من دعوةٍ صالحةٍ في ظهرِ الغيبِ .
تعريف بالكتاب من موقع الإسلام اليوم :
اسم الكتاب: الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر (دراسة نقدية )
المؤلف: د. سعيد بن ناصر بن سعيد الغامدي
الناشر:
عدد الصفحات: 1749 في ثلاثة أجزاء من القطع الكبير
بدأ المؤلف الرسالة بمقدمة تحدثت فيها عن أهمية الموضوع وسبب اختياره،وعن حدود الموضوع وبعض الدراسات السابقة فيه ،ثم مهد للرسالة بحديث موجز عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه ، وعن علاقة الأدب بالاعتقاد ، ونبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن والأدب .
بعد ذلك دخل المؤلف في صلب البحث فبدأ بالباب الأول والذي عقده للانحرافات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى ، وجزأه إلى أربعة فصول ذكر في الأول الانحرافات المتعلقة بالربوبية ،ثم ذكر في الثاني الانحرافات المتعلقة بالألوهية ،وفي الثالث ذكر الانحرافات المتعلقة بالأسماء والصفات ،ثم ختم هذا الباب بالفصل الرابع وذكر فيه التصورات المتأثرة بالوثنيات والديانات المحرفة .
ثم شرع في الباب الثاني وفيه تعرض للانحرافات المتعلقة بالملائكة والكتب المنزلة والأنبياء ، وضمنه ثلاثة فصول في الأول تحدث الباحث عن الانحرافات المتعلقة بالملائكة عليهم السلام ،وفي الثاني عن الانحرافات المتعلقة بالكتب عامة والقرآن خاصة ،وفي الثالث عن الانحرافات المتعلقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام . بعده انتقل المؤلف للباب الثالث والذي تكلم فيه عن الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر والقدر ، وعرضه في ثلاثة فصول ، جعل الأول في الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر ،والثاني في الانحرافات المتعلقة بالقدر ، ثم تكلم في الأخير عن الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى .
ثم ختم البحث بالباب الرابع والذي خصصه للانحرافات المتعلقة بالأحكام والسلوك ونظام الحياة ، وضمنه خمسة فصول ، تكلم في الأول عن العبث بالمصطلحات الشرعية والشعائر الإسلامية ،وفي الثاني عن محاربة الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره ،وفي الثالث عن السخرية من الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية ، وفي الرابع عن الانحرافات في القضايا الاجتماعية والنفسية ،وفي الخامس عن الانحرافات في القضايا السياسية والاقتصادية .(33/260)
وفي آخر هذا البحث الحافل ،وبعد مسيرة طويلة مع الأدب المعاصر " الحداثة " في شعبها الفكرية والأدبية ، وفي أصولها الفلسفية الغربية ، وفروعها التقليدية العربية وممارستها العملية ، ومن خلال الميزان الاعتقادي والرؤية النقدية العقلية ، والاعترافات الصريحة لأهل هذا الاتجاه ؛ خرج المؤلف بما يلي :
أولاً : الحداثة نبتة غريبة جيء بها لإكمال أدوار التسلط الاستعماري التي مارسها الغرب ضد بلاد المسلمين في القرون المتأخرة .
ثانياً : الحداثة فكرة مستعارة ، وعقيدة مستوردة ، كتبت بأقلام عربية الحرف أجنبية الولاء .
ثالثاً : من أهم أغراض الحداثة الهدم والتخريب وإحداث الفوضى في العقائد والأخلاق وفي النظم والعلاقات .
رابعاً : ليست الحداثة مجرد تجديد في الأشكال والأساليب والمناهج الفنية ، بل هي عقائد وإيديولوجيات شتى ، تجتمع تحت مقصد واحد هو : مضادة الدين الحق ، ومناقضة الإيمان واليقين ، وغرس الضلالات والإلحاد والشكوك .
خامساً : الحداثة لا تخالف الإسلام فحسب بل تناقضه تمام المناقضة ، وتسعى في هدمه وإزاحته من القلوب والعقول والأعمال ، أو على أقل الأحوال التشكيك في ثبوته وصحته وجدواه .
سادساً : بالنظر إلى كلامهم ومواقفهم من الإيمان بالله تعالى نجد أنهم في الربوبية نفوا وجوده تعالى أو شككوا في ذلك ،ونفوا أن الله تعالى هو الخالق المالك والمدبر،ونسبوا الأبدية للمخلوق، وقالوا بأزلية العالم والخلق ،ونسبوا الخلق إلى غير الله تعالى ، وسموا غيره من المخلوقين خالقاً ،ونسبوا الربوبية إلى غير الله تعالى ،وسخروا واستخفوا بالله الخالق الرب العظيم - جل جلاله- ، وتعمدوا تدنيس صفة الربوبية.
وأما ألوهية الله تعالى فقد انحرفوا وضلوا فيها من خلال نفيهم لألوهية الله تعالى،ونفي بعض خصائص ألوهيته وجحد حق عبادته تعالى ، والسخرية بالعبادة ومظاهرها ،والعبودية لغير الله تعالى،وتأليه غير الله تعالى ، ووصف غير الله - جل وعلا- بالألوهية ،والحيرة والشك في الغاية من الحياة ، ووجود الإنسان ، والزعم بأن الوجود عبث ،والسخرية والتدنيس والاستخفاف بالله تعالى وألوهيته- جل وعلا-،واحترام الكفر والإلحاد وملل الكفر وامتداح أهلها والثناء على أقوالهم وأعمالهم الضالة .
وأما أسماء الله وصفاته فقد ضلوا فيها من عدة أوجه فقد وصفوا الله تعالى وسموه بأسماء وأوصاف النقص ووصفوه جل وعلا بما لم يصف به نفسه ، وبإضافة أشياء إليه تهكماً واستخفافاً به تعالى وتقدس ،ونفي أسماءه تعالى وصفاته الثابتة له في الوحي المعصوم ،ووصف غير الله تعالى وتسميته بأوصاف وأسماء الله تعالى ،والسخرية بأسماء الله وصفاته ، ومخاطبته تعالى بما لا يليق به .
سابعاً : أما الركن الثاني من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة فقد نفوا وجود الملائكة ووصفوهم بما لا يليق بهم في تهكم بغيض وسخرية خبيثة ، وألحقوا أسماء وأوصاف الملائكة بغيرهم .
ثامناً : أما الكتب المنزلة فقد ضلوا فيها بجحدهم الوحي جملة وتفصيلاً ، وجعل ما جاء فيها من جملة الأساطير المختلقة ، ونفوا أن يكون القرآن العظيم كلام الله ، أو أن تكون أخباره حقيقية ، أو أوامره لازمة ، وأخضعوه للمناهج الفلسفية الغربية الضالة المنحرفة.
تاسعاً : جحدوا وجود الرسل أو شككوا في ذلك ، ونفوا الصدق عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك بجعل ما جاؤوا به من ضمن الأساطير ، مع بغض للرسل واستهانة وسخرية بهم وبأعمالهم وأقوالهم ، وإطلاقهم الأقوال الضالة في أن الرسل والرسالات مناقضة للعقل وسبب للتخلف ، مع ترديد أقوال الكافرين والملحدين الأقدمين التي أطلقوها على الرسل الكرام ، إضافة إلى إطلاقهم أسماء وأوصاف الرسل على شعراء وأدباء الحداثة وأشباههم من المنحرفين.
عاشراً : جحدوا اليوم الآخر ، ونفوا البعث ، واعتبروا موت الإنسان فناءً لا شيء بعده، وادعوا أن الإيمان بالآخرة من أسباب التخلف ؛ لأن الحياة الدنيا - عندهم - هي المقر الوحيد للإنسان ،وزعموا أن الدنيا أبدية لا تفنى ولا تبيد، مع سخريتهم واستخفافهم باليوم الآخر وما وراءه ، واستهزائهم بالجنة ونعيمها والنار وعذابها .
حادي عشر : نفوا وجود قدرٍ قدره الله تعالى ، وجعلوا القدر مجرد خرافة وكذب ، وذموا القدر ، واعترضوا عليه ، وجعلوا الإيمان به سبباً للتخلف والتحجر والمهانة ، وتهكموا بقدرة الله وقَدَرِه وبالمؤمنين به ، مع نسبتهم التقدير والقدر إلى غير الله تعالى.
ثاني عشر : جحدوا كل الغيبيات التي جاء بها الإسلام ؛ لأن الإنسان عندهم مجرد جسد تطور عن حيوان ، وجعلوا الإيمان بالغيبيات الحقيقة التي أثبتها الوحي من أسباب التخلف والرجعية ، مع سخرية بهذه الغيبيات الثابتة ،واستخفاف بالمؤمنين بها، وإيمان بغيبيات تناسب أهواءهم وضلالهم مثل الإيمان بنظرية داروين وحتميات ماركس واعتقاد أزلية المادة ، والإيمان بالوثنيات الجاهلية القديمة.(33/261)
ثالث عشر : عبثوا في كلامهم بالمصطلحات والشعائر الإسلامية ، واستخدموا أصلهم في الهدم والفوضى والعبث والتخريب ضد الألفاظ والمضامين الإسلامية ، قاصدين بذلك تدنيس المقدس واستباحة المحرم والتحرر من المنع ، وإسقاط موازين الحلال والحرام.
رابع عشر : حاربوا حكم الإسلام ، ورفضوه جملة وتفصيلاً ، وزعموا أنه لا حكم في الإسلام ، وأن أحكامه لا تلائم العصر ولا يمكن اعتماد الإسلام نظاما للحكم ، وأن حكم الله تعالى من أسباب التخلف والإعاقة عن التقدم ، وأن أحكام الإسلام ليست من عند الله بل هي بشرية من صنع البشر، مع دعوة إلحادية صريحة بوجوب فصل الدين عن الحياة وعن الدولة والسياسة خاصة، وإخضاعه للتفسيرات العصرية والتطبيقات العلمانية ، مع سخرية بأحكام الإسلام ، ودعوة صريحة إلى تحكيم غيره من النظم والفلسفات والمناهج الأرضية الجاهلية.
خامس عشر : سخروا من الأخلاق الإسلامية ، بل جحدوا وجود الأخلاق تحت دعاوى نسبية الأخلاق ، ومزاعم أنها من عوامل الكبت والتخلف ؛ ولذلك تبنوا الدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية ومارسوا ذلك فعلاً في سلوكهم واعترفوا به ، واستعاروا مذاهب وسلوكيات الغرب وسعوا في ترويجها قولاً وعملاً ، ومن ذلك : جعلهم الإباحية الجنسية أساس التحرر السياسي والاجتماعي ، واعتبارهم المرأة مجرد جسد ومستودع للشهوات الجنسية ، وإشادتهم بالرذائل الخلقية ودعوتهم إليها وممارستهم لها ، مع عداوتهم وذمهم للأخلاق الفاضلة ، ودعوتهم للإباحية الجنسية والإغراق في وصف الأعضاء الجنسية وأعمال الجنس والحشيش والمخدرات والخمر والدعارة.
سادس عشر : فسورا الحياة الاجتماعية والنفسية تفسيرات معادية حيوانية ، فأما القضايا النفسية فساروا فيها على منوال فرويد واقتفوا آثار فلسفته الحيوانية المادية ، وأمّا القضايا الاجتماعية فقد تبنوا معاداة المجتمع ومضادته ، وسعوا في إفساده ، من خلال إسقاط مفاهيم الأخلاق والقيم من المجتمع ، ونفي قيام مجتمع على أساس ديني ، والدعوة لتطبيق الحياة الاجتماعية الغربية في المجتمعات الإسلامية ، مع مضادة للأسرة ونظام العائلة والوالدين.
سابع عشر : بناء على خلفياتهم الاعتقادية الضالة سعوا إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية الجاهلية محاكين أسيادهم في ذلك ، داعين إلى تطبيق هذه النظم وساعين في إخضاع الأمة لطواغيت هذه النظم، وإلحاقها بمعسكرات الشرق والغرب ،مع اعترافهم صراحة بالانتماء فكريا وعملياً لأعداء الإسلام ، والعمالة الظاهرة والخفية لهم.
ثامن عشر : عند التأمل في كلامهم ومواقفهم وأعمالهم وخلفياتهم الاعتقادية ومنطلقاتهم الفكرية ، يلاحظ بوضوح أنهم يستندون إلى قواعد فكرية جاهلية ، تمتد من الوثنيات الإغريقية والآشورية والفرعونية حتى تصل إلى فروعها المادية المعاصرة من مذاهب الغرب وفلسفاته وعقائده المتفرعة من الشجرة الخبيثة شجرة المادية الملعونة .
ومن تأمل الأصول والمحاور الاعتقادية والفكرية لأدب الحداثة التي سبق ذكرها في ثنايا البحث يجد الثمرات المرة السامة التي أنتجتها هذه الشجرة.
وفي النهاية ذكر الباحث أسباب الانحراف العقدي في الأدب العربي الحديث ،والمقترحات لمواجهة الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر .
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
=============(33/262)
(33/263)
كتاب في جريدة
استجابة لطلب أحد الإخوة الكرام بعرض موضوع مفصل حول أبعاد مشروع : كتاب في جريدة ، والذي سبق وأن تحدثت عنه في مقال سابق بصورة عابرة ، سأتطرق لهذا المشروع في الأسطر القادمة ، وأسأل الله ان يعينني على إظهار كلمة الحق ويرزقني الإخلاص في القول والعمل ، فأقول وبعون الله :
كتاب في جريدة : هو ملحق شهري تتبناه (( اليونسكو )) ..
وفكرته تقوم على إلحاق ملف لعمل روائي أو شعري أو نثري شهريا لأحد الكتاب المعاصرين ، ويقدم هذا الملف بشكل مجاني .. مع أحد الصحف التي تتبنى الفكر الحداثي او العلماني وتدعو إليه .. ويستمر عرضها من عام 1998 إلى عام 2002 .
ولعلك - اخي القارئ - تتأمل معي في الأسماء المشكلة للجنة (( الهيئة الاستشارية )) لهذه المشروع : أدونيس - جابر عصفور - عبدالعزيز المقالح - عبدالله الغذامي - محمود درويش ...
وإلى وقت كتابة مقالي هذا صدر من هذه السلسلة (( المجانية )) 32 عدد ، من ابرز المؤلفين الذين عرض نتاجهم أو سيعرض : نجيب محفوظ ، أمل دنقل ، الطيب صالح ، نزار قباني ، إلياس الخوري ، صلاح عبدالصبور ، عبدالمجيد بن جلون ، طه حسين ، عبدالوهاب البياتي ، عبدالرحمن منيف ، جبران خليل جبران ، أدونيس ، نازك الملائكة ، محمود درويش ، محمد زفزاف ...
وكل اسم من هذه الأسماء يمثل منبراً من منابر الحداثة أو الإلحاد أو المجون .
أما الصحف التي تستضيف هذا الملحق : المغرب : صحيفة الاتحاد ((الاشتراكي )) ، السعودية : الرياض ،اليمن : الثورة !! ، لبنان : السفير ... وغيرها من صحف البلاد العربية .
أما بالنسبة للأهداف المرجوة منها :
أولا : السعي إلى إدخال الفكر الحداثي العلماني إلى كل بيت عربي مسلم ، بدون أي تكاليف تفرض عليه جراء ذلك ، فهم يتعمدون اقتناص الصحيفة الشعبية في كل بلد ، والتعاون معها ... ومن ثم اقحام ذلك الإسفاف في بيوت المسلمين عنوة .
ثانيا : نشر الأفكار الحداثية والعلمانية وبثها من خلال مظلة رسمية توفر لهم الحرية في النشر وعقد اللقاءات الدورية والندوات ، وهذا يتمثل في ارتدائهم لشعار دعم الثقافة العربية والذي ورد في مشروعهم قولهم (( فإنا بهذا المشروع ننجز خطوة مهمة نحو الإندماج الثقافي وتعميم القراءة والتواصل مع الآداب والفنون في مختلف العصور ، من اجل مزيد من التلاحم وترسيخ وحدة الثاقفة واللغة ... )) فاستظلوا بمظلة اليونسكو .. بل وحاولوا وبشكل دؤوب وحثيث في الفترة الماضية إلى ان يزجوا بمنظر من منظريهم لمسك زمام الأمور وتقلد منصب الأمين العام لمنظمة اليونسكو، والغرض من هذا معروف .
ثالثا : محاول إيحاء الطرح الحداثي وتجديده بعد الهزائم التي لحقت به جراء تصدي بعض الغيورين على دينهم لكشف مخططات الحداثة واربابها ، وجراء توبة بعض الحداثيين من ماضيهم وتخليهم عن التجربة الحداثية ، وقلب ظهر المجن عليها ، والتحدث عن زيفها وأبعادها الخفية ..
فكان منهم أن حاولوا لم الشمل ، والمنظر في صياغة جديدة يصاغ بها مفهوم الحداثة فلجأووا إلى مفهوم جديد وهو : مابعد الحداثة ، أو مصطلح ثقافة الصحراء .
وبالنظر إلى تاريخ اولئك الكتاب الذي يعرض نتاجهم ، وخلوهم على الأقل من كتاب يحملون التوجه الإسلامي والثقافة الإسلامية.. يعرف التوجه الحقيقي والهدف من وراء هذا المشروع طويل الأمد .
ولعلي في مقال قادم - إن تيسر إن شاء الله - أتطرق إلى عرض مجمل حول الشخصيات المشاركة وتاريخها وكتاباتها ، لتعرف الحقيقة ويزول اللبس ، والله المستعان .
أبو عبدالعزيز الظفيري
==============(33/264)
(33/265)
الحركة النسوية الغربية ومحاولات العولمة
د. إبراهيم الناصر
الحركة النسوية الغربية في طور جديد:
الحركة النسوية: هي حركة غربية عرفت سابقاً بحركة تحرير المرأة، ثم انتقلت إلى عالمنا العربي و الإسلامي من خلال الغزو العسكري والثقافي فشقيت بها الأمة منذ عقود من الزمن، وما زالت هذه الأفكار تستورد تباعاً كلما حصل تطورات فكرية لهذه الحركة في موطنها الأصلي.
وتعريفها باختصار عند أتباعها، هي: الفلسفة الرافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل وإعطاء فلسفة وتصور عن الأشياء من خلال وجهة نظر المرأة.
والمتخصصون يفرقون بين النسوية والنسائية، فالنسائية: هي الفعاليات التي تقوم بها النساء دون اعتبار للبعد الفكري والفلسفي، وإنما بمجرد أنها فعاليات تقوم بها المرأة بينما النسوية تعبر عن مضمون فلسفي وفكري مقصود حسب التعريف السابق.
موجبات وجود هذه الحركة في الغرب هي صورة المرأة في المصادر الثقافية الدينية الغربية أي في التراث اليهودي والمسيحي باعتبار أن الحركة هي نتاج المجتمع الغربي وثقافته وليست نتاج المجتمعات الأخرى، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية فقد نشأت فيه وانبعثت منه، فمن أهم أسباب وجودها صورة المرأة في التراث اليهودي والمسيحي، فالمرأة في هذا التراث هي أصل الخطيئة؛ لأنها هي التي أغرت آدم بالخطيئة عندما أكلت من الشجرة كما هو منصوص عليه في كتبهم الدينية المحرفة، فالرب عندما فعلت هذا الفعل حكم بسيادة الرجل عليها نهائياً، وقد ترتب على هذا الموقف - فيما بعد - أحكام وأوصاف أخرى للمرأة في هذا التراث فهي شيطانة وأنها ملعونة وأن ليس لها روح تستحق من خلال هذه الروح أن تدخل الجنة، بل الأغلب أنها تدخل النار ولا توجد امرأة لديها فضيلة يمكن أن تدخلها إلى الجنة، هذا أحد موجبات وجود هذه الحركة وأسباب انتشار هذه الأفكار التي تجمعت عليها هذه الحركة.
الموجب الآخر لهذه الحركة المتطرفة هو موقف العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه المرأة من (أفلاطون) الفيلسوف اليوناني المشهور الذي يصنف المرأة في عدد من كتبه ومحاوراته مع العبيد والأشرار ومع المخبولين والمرضى إلى الفلاسفة المتأخرين مثل (ديكارت) من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على العقل والمادة: فيربط العقل بالذكر ويربط المادة بالمرأة .
والفيلسوف (كانط) أحد آباء الفلسفة الغربية: يصف المرأة بأنها ضعيفة في كافة الاتجاهات بالذات في قدراتها العقلية، كذلك فيلسوف الثورة الفرنسية (جان جاك رسو) يقول: إن المرأة وجدت من أجل الجنس ومن أجل الإنجاب فقط إلى (فرويد) اليهودي رائد مدرسة التحليل النفسي وموقفه المعروف من المرأة الذي يتضمن أن المرأة جنس ناقص لا يمكن أن يصل إلى الرجل أو أن تكون قريبة منه.
هذا الموقف التراثي الديني المنبعث من التحريف الموجود في العهدين القديم والجديد مع موقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة هما الموجبان الرئيسان لهذه الحركة النسوية.
فدعاة النسوية يتخذون من هذه الأفكار منطلقاً لنشر الثقافة المضادة عن المرأة التي شكلت مفاهيم وقيم ومبادئ الحركة النسوية الغربية ثم هم يهدفون أن تكون حركة نسوية عالمية.
ما هي النتائج التي عكسها الموقف التراثي الديني والموقف الفكري الفلسفي حسب رؤية النسويين؟
قالوا: إن تهميش المرأة وسيطرة الرجل عليها سبب نشوء جماعات ذكورية متطرفة في نظرتها إلى المرأة مسيطرة عليها لا تعطي لها فرصة إثبات وجودها مما تسبب في نشوء تمييز على أساس الجنس أي تمييز ضد المرأة، ولذلك أصبح الحل في نظر الحركة النسوية الغربية: هو التخلي عن المنطلقات التي كونت هذه النظرة وهي العقائد والأعراف الدينية والشرائع السماوية باعتبار أن هذا الوضع للمرأة هو إفراز لتلك النظرة في التراث الديني.
ثم برزت فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل أن تنتزع المرأة الحقوق التي سلبها الرجل منها أي أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع حقوقي، لذا كان من أهم الحلول التي طرحتها الحركة النسوية الغربية هو التخلي عن العقائد ورفض الدين فالفكر النسوي قائم على أساس فكري علماني صرف وهذه حقيقة لابد أن ندركها؛ لأن هذا الفكر اللا ديني تأثرت به معظم المجتمعات الإسلامية .
و في أثناء مسيرة هذا الفكر نشأ تياران داخل الفكر النسوي في المجتمعات الغربية:
التيار الأول: التيار النسوي الليبرالي المعروف بحركة تحرير المرأة، وهو الذي بدأ في العالم الغربي منذ قرن ونصف القرن، ويقوم على مبدأين أساسيين هما المساواة و الحرية، مبدأ المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة ومبدأ الحرية شبه المطلقة، وهذان المبدآن الرئيسان التي قامت على أساسهما الحداثة الغربية.. كيف نشأ هذان المبدآن؟ هذه قصة فلسفية طويلة لا حاجة للوقوف عندها لكن العبرة بآثارهما فهما الأساسان اللذان قام عليهما الفكر النسوي كأحد منتجات الحضارة الغربية، وقد تم تكريس هذا الفكر على مراحل كالتالي:(33/266)
1- قامت ثورتان في المجتمع الغربي ترفعان هذين المبدأين، وهي الثورة الأمريكية عام 1779م والثورة الفرنسية عام 1789م ومبادئ هاتين الثورتين ضمنتا في الدساتير التي قامت عليه الدولتان الأمريكية والفرنسية، ثم ترسخت هذه المبادئ في الفكر الغربي المعاصر.
2- قام التنظيم الدولي المعاصر على هذا الأساس، فمبادئ الأمم المتحدة عندما نشأت عام 1945م ضمنت في وثيقتها رفض التمييز على أساس الجنس وتحقيق المساواة التماثلية بالمفهوم الغربي الذي يقوم على فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل الحقوق التي يسيطر عليها الرجل.
3- صيغت الصكوك والاتفاقات الدولية على أساس هذه المبادئ، وأهم وثيقتين في هذا الصدد هما:
أ - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948م)، وهو ينص على وجوب الالتزام بهذه المبادئ، ويؤكد على عدم التمييز على أساس الجنس وعلى تحقيق المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة وعلى حرية الزواج خاصة في المادة السابعة والمادة السادسة عشر.
ب - الوثيقة الثانية وهي الأهم والأخطر من بين هذه الاتفاقيات فيما يخص المرأة اتفاقية (سيداوcedaw ) أو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) عام ( 1979م)، وهي اتفاقية مكونة من 30 مادة، وموادها الست عشر الأولى تؤكد على عدم التمييز وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة وتشجيع الاختلاط بين الجنسين والمساواة بين الزواج والطلاق .
4- مرحلة عولمة هذا الفكر من خلال الصكوك والوثائق الدولية و ترويجها من خلال المؤتمرات الأممية التي تنعقد بين الفينة والأخرى في القضايا الاجتماعية، مثل: مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م، وهذا الأخير هو أخطرها؛ لأن وثيقته اعتبرت مرجعية في مصاف اتفاقية (سيداو) من حيث الأهمية والمتابعة مع أن وثائق المؤتمرات عبارة عن توصيات وليست اتفاقاً دولياً، لكن النشاط المحموم في متابعة تنفيذ مقررات هذه الوثيقة ( وثيقة بكين ) يدل على مرجعيتها فانعقد عام 2000م في نيويورك اجتماع دولي سمي ببكين خمسة لمتابعة تنفيذ ما في هذه الوثيقة و في فبراير هذا العام 2005م انعقد في نيويورك مؤتمر بكين عشره لمتابعة تنفيذ توصيات نفس الوثيقة، وفي كل هذه الاجتماعات يطلب من الدول تقديم تقارير توضح مدى التقدم في تنفيذ هذه التوصيات، وما هي العوائق التي تقف في وجه تنفيذ ما لم ينفذ.
التيار الثاني: الذي أفرزه الفكر النسوي الغربي عبارة عن تيار نسوي متطرف يطالب بتغيير البنى الاجتماعية و الثقافية والعلمية واللغوية والتاريخية باعتبار أنها متحيزة للذكر، وفي داخل هذا التيار نشأت جيوب تدعو إلى دين جديد (الوثنية النسوية)
(femal paganism) أو دين المرأة الجديد الذي يقوم على أساس تأليه المرأة مقابل الأديان الذكورية التي فيها الإله ذكر فلا بد للمرأة أن تكون آلهة في الدين الجديد.
أهم مبادئ هذا التيار:
- التخلي عن الأفكار التي أخذت صفة القدسية ويعنون بها نصوص الوحي والتراث الديني وهذا موقف يلتقون به مع التيار الأول فمحاربة الأديان قاسم مشترك بين التيارين.
- التخلي عن الأنوثة باعتبار أن الأنوثة هي سبب ضعف المرأة وسبب هيمنة الرجل عليها، فالأنوثة تقود إلى الزواج، والزواج يقود إلى الأمومة، والأمومة تقود إلى تكوين الأسرة، ففي كل هذه المراحل تكون المرأة الطرف الأضعف، والرجل يكون الطرف المهيمن.
كيف يمكن التخلي عن الأنوثة في نظرية هذا التيار؟
يتم ذلك عن طريق عدد من الإجراءات :
ا- تغيير النظام الأسري الذي يصنع نظاماً طبقياً ذكورياً يقهر المرأة، وهذا لا يتم إلا بتقويض مفهوم الأسرة المعروف وإحلال الأسرة الديمقراطية محلها.
ب- حق المرأة في الإجهاض بحرية حسب الطلب، وتسهيل ذلك.
ج- ممارسة الجنس المثلي (اللواط والسحاق)، وهذا يعطي المرأة الحرية في أن تمارس حقها الجنسي بحرية فلا تبقى بحاجة إلى ذكر في المسألة الجنسية.
د- صياغة نظرية نسوية لتحقيق المساواة التماثلية بين الجنسين ولا يتم ذلك إلا بخلخلة الثنائية السيكولوجية والاجتماعية التقليدية بين الذكر والأنثى وإيجاد بديل عنها وهو مصطلح (الجندر) أو الجنوسة وهو النوع الاجتماعي بدلاً عن مصطلح الجنس.
ما هو مفهوم (الجندر)؟
يقوم هذا المفهوم على أساس تغيير الهوية البيولوجية والنفسية الكاملة للمرأة، و يقوم أيضاً على إزالة الحدود النفسية التي تفرق بين الجنسين على أساس بيلوجي أو نفسي أو عقلي، كذلك يزيل الهوية الاجتماعية التي تحدد دوراً مختلفاً لكل واحد من الجنسين في الحياة وتمايزه عن الجنس الأخر.
سبب التمييز والاختلاف بين الرجل والمرأة حسب تفسير هذا التيار المتطرف للحركة النسوية: أن التنشئة الاجتماعية والأسرية تتم في مجتمع ذكوري أي أن الأنظمة ذكورية والآلهة ذكورية حتى عقيدة التثليث المسيحية هي ذكورية فالأب والابن وروح القدس كلهم ذكور يرمز لهم بـ (He) ضمير المذكر وليس (She) ضمير المؤنث.(33/267)
هذه التنشئة الاجتماعية والأسرية والبيئية التي يتحكم بها الذكر على الأنثى تحدد دور المرأة في المجتمع فتنشئ تمييزاً جنسياً، فالأنثى اكتسبت خصائص الأنوثة بسبب التنشئة الاجتماعية و البيئية وبسبب المصطلحات اللغوية التي تميز بين الذكر والأنثى، التي أبرزتها كأنثى، بينما الذات الواحدة يمكن أن تكون مذكراً أو مؤنثاً حسب القواعد الاجتماعية السائدة، فلا توجد ذات مذكرة في جوهرها ولا ذات مؤنثة في جوهرها.
هذا الاعتقاد هو الذي قاد إلى فكرة (الجندر) أي النوع الاجتماعي باعتبار أنه إذا بقي الوصف بالجنس (ذكر وأنثى) لا يمكن أن تتحقق المساواة مهما بذل من محاولات لتحققها فلابد من إزالة صفة الأنوثة لتحقيق المساواة أو تخفيفها على الأقل لتخفيف التمييز وبناء على ذلك لا يقسم المجتمع على أساس الجنس ولا تقوم الحياة الاجتماعية ولا تؤسس العلاقات الاجتماعية على أساس الذكر والأنثى إنما يكون نوع إنساني (Gende r )، وبذا تتخلخل هذه الثنائية الاجتماعية المكونة من المذكر والمؤنث.
كيف يمكن إيجاد الأسرة الديمقراطية وتكريس مفهوم جديد للأسرة يتوافق مع مبادئ هذا التيار باعتبار أن الأسرة التقليدية عائق في تحقيق المساواة الكاملة؟
يتم ذلك من خلال إجراءات تحقق في النهاية خصائص الأسرة الديمقراطية،وأهم هذه الإجراءات:
- إلغاء مؤسسة الزواج؛ لأنه معوق أساس في تحقيق المساواة وهو في النهاية يخلق طبقية بين الزوجين ويكرس السيادة للمذكر على المؤنث.
- تحرير المرأة من الحمل والإنجاب وإحلال الحمل والإنجاب الصناعي لأن الحمل والإنجاب عمليتان استبداديتان في حق المرأة فلابد من تحرير المرأة منهما.
- إلغاء دور المرأة في تربية الأطفال ومن القيام بالأعمال المنزلية وإقامة مراكز تربوية لتربية الأطفال داخل المجتمع وليس بالبيت.
هذه المبادئ تأخذ عند بعض جيوب هذا التيار شكل إنشاء دين جديد وثني يسمونه دين المرأة الجديد أو الوثنية النسوية ( (female paganism حسب مصطلحاتهم كما ذكرنا سابقاً، وقد اعتنق مبادئ الوثنية النسوية الجديدة حسب آخر الإحصائيات المتاحة في السبعينيات الميلادية أكثر من مئتي ألف امرأة، ويتوقع أن تزداد هذه النسبة في مرحلة ما بعد الحداثة؛ لأن مبادئ هذا التيار تتوافق مع مبادئ وأفكار هذه المرحلة مثل التعددية النسبية، رفض المُطلقات والثوابت، ومن غرائب أفكار هذا التيار المتطرف (الوثنية النسوية) إنهم يتهمون العلم الطبيعي المادي بأنه تسبب باغتراب الإنسان عن ذاته وعن الإيمان الروحي، ولذلك تضع هذه الحركة من أهدافها إعادة الروح للإنسان من خلال تأليه الطبيعة، الذي يساعد على إعادة العلاقة بين الطبيعة وبين الإنسان بعد أن دمرها الرجل المستبد المسيطر الذي صنع آلات الدمار فدمر بها الطبيعة فلابد من إعادة العلاقة من جديد بين الطبيعة وبين الإنسان من خلال المرأة؛ لأن هناك علاقة مباشرة بين المرأة والطبيعة فالطبيعة فيها الجمال والخصب وفيها النماء وتوحي بالسلام، وهكذا هي صفات المرأة .
فالمرأة متوافقة مع الطبيعة، فإذا ألهت الطبيعة ألهت المرأة فتنشأ علاقة مقدسة بينهما، فالطبيعة هي وجه المرأة والمرأة هي وجه الطبيعة، وبناء على هذه الأفكار نشأ مذهب داخل هذه الحركة في المجتمع الغربي يسمى المذهب النسوي البيئي ((Ecofeminism, يكون الرب فيه مؤنثاً وأظهروا له تماثيل بشكل المرأة ذات الصدر العالي تسمى (الآلهة) (Godess) مؤنثة وليس (إله) (God) مذكر، واسترجعوا تاريخ الوثنيات القديمة التي ألهت الطبيعة في مجتمعات آسيوية وأفريقية قديمة ليضعوه أحد مسوغات هذا الفكر الجديد بوجهه النسوي المتطرف في العالم الغربي.
ومجمل القول: إن هذا الفكر قائم على أساس تدمير الأديان؛ لأنها قامت على أساس ذكوري من الإله إلى الأنظمة السياسية إلى المجتمع إلى الرجل الذي يتحكم بالمجتمع الذكوري ويستبد به ويصنع هذه البيئة الذكورية على حساب المرأة، كما يقوم هذا الفكر على إزاحة البنى التي قامت على أساس ذكوري ونبذ القوالب الثابتة والأفكار الجامدة في إشارة إلى الأفكار المتأثرة بالفكر الديني.
ثم صياغة فكر نسوي يتمثل في الوثنية النسوية أو دين المرأة الجديد يقوم على مفهوم (الجندر) والأسرة الديمقراطية ويقوم على عبادة.
عولمة الفكر النسوي الغربي والموقف منه محلياً
هناك حركة محمومة في هذا الاتجاه في عدد من البلدان العربية والإسلامية كل مجتمع بحسبه, ولو أخذنا مثالين من المغرب ومصر ففي المغرب حركة قوية جدا في الغارة على ما بقي من أحكام الشريعة الإسلامية في بعض جوانب الأحوال الشخصية تحت شعار إدماج المرأة في التنمية وأما في مصر فهناك قوانين جديدة للأحوال الشخصية وجدل كبير حول مبادئ النسوية.(33/268)
والجمعيات النسوية الموجودة في مصر من كثرتها يسميها بعض الكتاب الدكاكين النسوية وهي بالمئات وبعضها تمول تمويلاً أجنبياً للقيام بأنشطة مريبة هناك، فهناك أكثر من خمسين مؤسسة تمويل، أمريكية في الدرجة الأولى ثم كندية ثم أوروبية وأسترالية, ومنها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة, وبعضها مؤسسات رسمية, أو شبه رسمية, ومنها مؤسسات طوعية أهلية ليست على علاقات بالحكومات.
ومن أبرز المشاريع التي مولتها بعض مؤسسات التمويل الغربية في مصر مشروعات لمتابعة تنفيذ مقررات وثيقة بكين في مصر، فهناك أكثر من مؤسسة تمويل دعمت أكثر من جمعية لنفس الهدف.
أما على مستوى التنظيم الرسمي فهناك عدد من المجالس واللجان المعنية بشؤون المرأة، مجالس ولجان عليا تخطيطية ولجان تنفيذية، كذلك صدر عدد من التشريعات لتتوافق مع مقررات (سيداو: اتفاقية القضاء على كافة إشكال التمييز ضد المرأة) ولتتوافق مع مقررات بكين ومن أهمها موضوع الأحوال الشخصية والجدل الذي دار في مجلس الشعب المصري لتغيير عدد من مواد قانون الأحوال الشخصية في مصر وصدور عدد من التشريعات في هذا الاتجاه يحكي الحالة المصرية كما أن التحفظات المصرية المعتادة على بعض الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد بدأت تختفي أو زالت بحكم الواقع، ولو انتقلنا إلى السعودية التي قاطعت رسمياً المؤتمرات هذه (مؤتمر السكان ومؤتمر بكين) وصدر بيانان من هيئة كبار العلماء مستنكراً أفكار وثيقتي المؤتمرين وحضورهما، لكن في المقابل وقعت المملكة على اتفاقية (سيداو) مع التحفظ المعتاد على ما يخالف الشريعة الإسلامية،
لكن المشكلة أن القانون الدولي لا يقبل مثل هذه التحفظات لوجود اتفاقية دولية (اتفاقية جنيف) تنص على أن التحفظ على أي بند في أي اتفاقية دولية لا يكون مقبولاً إلا إذا كان يتعلق في جوهر هذه الاتفاقية، ومعلوم أن مخالفة اتفاقية (سيداو) للشريعة الإسلامية هو في بنودها الموضوعية الجوهرية، ومن الأشياء التي تحمد لمجتمعنا في السعودية أن الجمعيات النسائية لم تتورط في هذه الفتنة المتمثلة في هذا الفكر النسوي المنحرف، كما هو الحال في كثير من الجمعيات النسوية في المجتمعات العربية والإسلامية، ومع الأسف أنك تجد أطروحات كثير من هذه الجمعيات في تلك المجتمعات تتوافق مع أطروحات جمعيات الحركة النسوية العالمية ففي مؤتمر بكين كان من أسوأ الأطروحات ما جاء من بعض الجمعيات النسائية العربية, بينما كانت الجمعيات النصرانية الغربية خاصة الكاثوليكية أكثر محافظة من بعض الجمعيات العربية النسوية.
ومما يحمد للمجتمع السعودي أنه يمنع الاختلاط في أكثر المجالات، والاختلاط بين الجنسين في فكر الحركة النسوية العالمية وفي اتفاقية (سيداو) من مظاهر المساواة ومنعه يعتبر تمييزاً في حق المرأة ولذا فان هذه الاتفاقية تنص على ضرورة الاختلاط في التعليم وفي العمل ولكن هذا المجتمع متمسك ومتماسك إلى حد كبير في هذه المسألة عدا بعض الخروقات في بعض مواقع التعليم والعمل مع أن الأنظمة والتعليمات تنص على منع الاختلاط، ونظام العمل والعمال المعمول به الآن ينص على عدم الاختلاط فينبغي المحافظة على هذه القيمة الفاضلة في المجتمع حتى لا نِزل أو نِضل بتشرب هذه الفتن التي ابتليت بها مجتمعات إسلامية وعربية، وأهم ما ينتقدونه على المجتمع السعودي في اللجان والمؤتمرات هو عدم تمكين المرأة - تمكين المرأة مصطلح نسوي يعني أن تمكن في المجتمع كالرجل تماماً- في تولي الوظائف القيادية والمشاركة في اتخاذ القرار وتولي القضاء, وقد تولت امرأة القضاء في مجلس الدولة في مصر هذه السنة لأول مرة مع أن الفتوى الشرعية في مصر عدم جواز تولي المرأة للقضاء.
أيضا ما ينتقدونه على المجتمع السعودي تمييز الرجل عن المرأة في الميراث, وكذلك الشهادة أمام المحاكم, وموقف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المرأة, والتمييز ضد المرأة بمنع الاختلاط, ومنعها من قيادة السيارة, وعدم حرية التنقل والسفر دون محرم وخاصة السفر الخارجي, وعدم المشاركة في الوفود الرسمية الخارجية, هذه أهم الانتقادات التي توجه إلى المملكة العربية السعودية, ومعظم هذه القضايا ذوات أبعاد شرعية واجتماعية, وهذه الاتفاقية وتوصيات المؤتمرات تطالب تطبيق بنودها دون اعتبار للأحكام الشرعية والمواقف الثقافية.
كيف نواجه ضغوط الموقف الخارجي:(33/269)
على المستوى الخارجي: المشاركة الفعالة في هذه اللجان والمؤتمرات ولا أرى أن المقام يتسع للمقاطعة لأن الضعيف إذا قاطع لا يؤبه به - ونحن ضعفاء مادياً وسياسياً في هذه المرحلة - وإنما إذا شارك أثبت حضوره وقرر فكره ونشر مبادئه بخلاف القوي إذا قاطع فسيكون له أثر, فالولايات المتحدة الأمريكية عندما قاطعت اليونسكو ضعفت اليونسكو بسبب أن الذي قاطع دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية لكن إذا أتت بعض الدول الإسلامية وقاطعت مؤتمرات عالمية فان هذا لا يؤثر كثيراً فمن الحكمة -والله أعلم- أن نشارك ونطرح وجهة النظر الشرعية والرؤية الإسلامية بقوة وبدون انهزامية حتى نزاحمهم ونكاثرهم ونثبت في وثائق هذه المؤتمرات وجهة النظر الإسلامية ونمنع تفرد وجهة نظر النسوية العالمية التي تتبناها السياسة الغربية والأمم المتحدة والحذر من أن نظهر وكأننا نريد أن نتوافق مع مواد اتفاقية (سيداو) أو مقررات بكين لأننا لا نستطيع أن نستبدل مرجعيتنا الشرعية والثقافية بهذه المقررات فالله سبحانه وتعالى يقول (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، ولأن مجتمعنا سيرفض ذلك تماما فهذا الخيار غير ممكن، ولذا سنستمر في جدل مع لجان المتابعة ومجاملات لهم توصلنا إلى حال مرتبك، لكن إذا أظهرنا ديننا ومبادئنا وأعلنا ثوابتنا وأن قيم مجتمعنا نشأت على أساس مبادئ وأحكام الشريعة التي قامت عليها شرعية الدولة ونشأ عليها المجتمع فيمكن أن ننفذ بهذه الحجة التي قد لا يقتنعون بها في البداية لكن بعد الإصرار والثبات والعرض القوي الحكيم، ولذا يكون من المناسب أن يتضمن الموقف نقد مفهوم الحرية الغربي ومفهوم المساواة القائم على فكرة التماثل بين الجنسين وظيفياً، ونبين موقف الإسلام من هذه القضايا بحسن عرض وقوة منطق، فنتحدث عن العدل في مقابل المساواة, وأن المساواة ليست دائما تحقق العدل بل تكون أحيانا ظلماً وهذا ما يحصل بالنسبة للمرأة الغربية فهم يظنون أنهم يحققون لها المساواة وهذا ليس صحيحا لأن التسوية بين المختلفين تكون ظلماً في كثير من الأحيان وفي حالتنا هذه تكون المرأة هي المظلومة.
على المستوى الداخلي: هناك اطروحات ليبرالية داخلية تريد أن نبدأ درجات السلم الاولى للهبوط من خلال التوافق مع أجندة المؤتمرات أو بعضها مستثمرين ظروف المرحلة، ومواجهة هذه الاطروحات يكون بعمل ايجابي يقوم على حل مشكلات المرأة بالتزامن مع تطوير وتنمية أدائها لوظائفها ودورها الاجتماعي، ويكون ذلك بالتالي:
أولاً: من خلال تحرير الموقف الشرعي من حقوق المرأة وواجباتها بوضوح، وبيان أن مقتضى كون الشريعة مرجعاً لنا هو قبول هذا الموقف والانقياد له في المجتمع المسلم.
ثانياً: من خلال بيان ما يواجه المرأة من مشكلات, المرأة تواجه مشكلات كثيرة في أي مجتمع من المجتمعات مثلها مثل غيرها من أفراد المجتمع, فالرجل له مشكلاته, والأطفال لهم مشكلاتهم , المعاقون لهم مشكلاتهم وهكذا , ونظراً لأن المرأة لها اعتبار خاص وقضيتها مطروحة الآن وهي مدخل للفتنة في مجتمعنا كما هي فتنة للحضارة الغربية المعاصرة فلا بد أن نواجه هذه القضية بما يكافئها علمياً وعملياً ومنها أن ننظر في مشكلات المرأة التي تواجهها في المجتمع بنظر شرعي واقعي.
ما هي مشكلات المرأة مع الرجل؟ ما هي مشكلات المرأة في المجتمع؟ ما هي مشكلات المرأة مع الأنظمة؟ ما هي مشكلة المرأة مع المرأة؟ هناك مشكلات تواجهها المرأة مع المرأة يغفل عنها كثير من المهتمين بشأن المرأة، المرأة كثيرا ًما تظلم المرأة، كم تظلم الضرة ضرتها؟ كم تظلم زوجة الابن أم الزوج والعكس؟ كم تظلم العميدة عضوات التدريس؟ كم تظلم المدرسة الطالبات؟ كم تظلم المديرة المدرسات والموظفات؟ وهكذا...
ثالثاً: اقتراح البرامج العملية لحل هذه المشكلات بأن يبادر أهل العلم والمثقفون والدعاة والمصلحون وأصحاب الغيرة للتصدي لهذه القضية ولا تترك للناعقين والمتفيهقين ولمدعي العلم والثقافة ممن في قلبوبهم مرض, المستنسخين لفصول من الثقافة النسوية الغربية، مستقوين بفكر العولمة الذي يدعم هذا الاتجاه ومستغلين ظروف البلاد بعد أحداث سبتمبر عام 2001م.
من المبادرات الجيدة لبعض أهل العلم والدعوة صدور وثيقة تحمل تصوراً شرعياُ لقضايا المرأة سميت بـ (وثيقة حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام) وقعها أكثر من ثلاثمائة عالم وداعية ومفكر ما بين رجل وامرأة، وهذه الوثيقة قسمت إلى أقسام:
أولا: منطلقات أساسية ذكرت الوثيقة عدداً من المنطلقات التي يجب أن يبنى عليها أي مشروع للمرأة سواء في بيان الموقف الشرعي تجاه المرأة أو عند مناقشة المشكلات أو في مرحلة طرح البرامج والحلول واذكر فقرتين كنموذج لما ورد في باب المنطلقات من هذه الوثيقة المتميزة:(33/270)
الفقرة الأولى: تقرر الوثيقة أن دين الإسلام هو دين العدل ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين ويخطئ على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد, حيث أن المساواة تقتضي أحيانا التسوية بين المختلفين وهذه حقيقة الظلم ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ ولم يأت حرف واحد من القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق وإنما جاء الأمر بالعدل قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ" (النحل: من الآية90) فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل فتسوي حين تكون المساواة هي العدل وتفرق حين يكون التفريق هو العدل قال تعالى: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام:115) أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام لذا فإن الإسلام يقيم الحياة البشرية والعلائق الإنسانية على العدل كحد أدنى فالعدل مطلوب من كل أحد مع كل أحد في كل حال قال تعالى: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: من الآية8).
الفقرة الثانية في هذا الباب: في مجال العلائق بين البشر تعتبر الجاهلية الغربية المعاصرة الفردية قيمة أساسية والنتيجة الطبيعة والمنطقية لذلك هو التسليم بأن الأصل في العلاقات بين البشر تقوم على الصراع والتغالب لا على التعاون والتعاضد و على الأنانية والأثرة لا على البذل والإيثار وهذه ثمرة الانحراف عن منهج الله, فصراع الحقوق السائد عالميا بين الرجل والمرأة هو نتاج طبيعي للموروث التاريخي والثقافي الغربي بجذوره الميثولوجية (الدينية) الذي تقبل أن فكرة العداوة بين الجنسين أزلية وأن المرأة هي سبب الخطيئة الأولى وهذا الموروث ربما التقى مع بعض الثقافات الأخرى ولكنه بالتأكيد لا ينتمي إلى شريعة الإسلام ولا إلى ثقافة المسلمين فالحقوق عند المسلمين لم يقرها الرجل ولا المرأة إنما قررها الله اللطيف الخبير.
وفي باب آخر من هذه الوثيقة: تحت عنوان أصول شرعية في حقوق المرأة وواجباتها تكلمت الوثيقة عن عدد من النقاط كان منها: التأكيد على موضوع الأسرة وعلى موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة وأنها علاقة تكاملية وليست تماثلية, وقالت في بند من بنودها:- حفظت الشريعة الإسلامية - المراعية للعدل - أن للمرأة حقوقاً في المجتمع تفوق في الأهمية الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة القائمة على أساس المساواة التماثلية وتغفل الجاهلية المعاصرة هذه الحقوق ولا تبالي بانتهاكها, مثل حق المرأة في الزواج حسب الشريعة الإسلامية وأيضا حقها في الأمومة وحقها في أن يكون لها بيت تكون ربته ويعتبر مملكتها الصغيرة حيث يتيح لها الفرصة الكاملة في ممارسة وظائفها الطبيعية الملائمة لفطرتها ولذا فإن أي قانون أو مجتمع يحد من فرص المرأة في الزواج يعتبر منتهكاً لحقوقها ظالما لها.
ومعلومٌ أن الفكر النسوي ينتهك هذه الحقوق، حق الزواج وحق الأمومة، فاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة تدعو الدولة الموقعة أن تدعم تعليم وعمل المرأة ولو على حساب الزواج وتحارب الزواج المبكر هذا فضلا عن موقف التيار النسوي المتطرف المطالب بإلغاء قدسية الزواج، وتكلمت الوثيقة أيضا في باب آخر تحت عنوان رؤى الوثيقة عن نقاط عدة, منها: أن الإسلام بعد تقرير المساواة بين الرجل والمرأة في معنى الإنسانية والكرامة البشرية والحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك والمساواة في عموم الدين و التشريع, يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق والواجبات تبعاً للاختلاف الطبيعي الحاصل بينهما في المهام والأهداف والاختلاف في الطبائع التي جبل عليها كل منهما ليؤدي بها وظيفته الأساسية، وهنا تحدث الضجة الكبرى التي تثيرها المؤتمرات الكبرى الخاصة بالمرأة وروادها و يثيرها المنتسبون للحركة النسوية العالمية ومقلدوها في العالم الإسلامي المروجون لفكرة المساواة التماثلية بين الجنسين، إن المساواة في معنى الإنسانية ومقتضياتها أمر طبعي ومطلب عادل فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية، والإسلام قرر ذلك بصورة قطعية لا لبس فيها، أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؟ هل في وسع هذه المؤتمرات والحركات النسوية ومنتسبيها من الرجال والنساء بقراراتهم واجتماعاتهم أن يبدلوا طبائع الأشياء؟ وأن يغيروا طبيعة الفطرة البشرية؟(33/271)
إن مزية الإسلام الكبرى أنه دين ونظام واقعي يحكم في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر فيسوي بينهما حين تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيحة, ويفرق بينهما حين يكون التفريق هو منطق الفطرة الصحيحة، قال تعالى: "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الملك:14), وفي فقرة أخرى عللت الوثيقة أسباب التمايز بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة والدية والعمل والتعليم والحجاب وغير ذلك من الرؤى التي تخص المرأة، وفي النهاية تذكر الوثيقة مطالب وتوصيات موجهة للحكام وللمجتمع وللمرأة وأيضا للناشطين في مجال الحقوق من المسلمين ومن غير المسلمين وتختم الوثيقة مطالبها بالاهتمام بالبرامج العملية التي تقوم على أساسين:
الأول: الثوابت الشرعية من عقائد وأحكام ومقاصد.
والثاني: الملاءمة الواقعية لمستجدات الحياة، ثم تبشر الوثيقة بأن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً في العالم الغربي وأن أكثر من يسلم في الغرب من النساء, هذه أهم أفكار الوثيقة.
وأرجو أن يتبعها وثيقة أخرى تتكلم عن مشكلات المرأة في المجتمع ثم ثالثة تطرح البرامج والحلول في المجتمع لتكون مبادرة من أهل العلم والمثقفين وأهل الغيرة والمصلحين لحماية مجتمعهم من هذه الفتنة العاصفة المتمثلة في فساد الفكر الوافد الذي تمثله الحركة النسوية العالمية وإسقاطاتها في المجتمع وللعناية بالمرأة تربيةً وتنميةً لتقوم بدور فاعل برؤية شرعية واثقة.
=============(33/272)
(33/273)
اعتراف آخر ... لمحمد أركون !
سليمان بن صالح الخراشي
هذا اعتراف آخر للمفكر المتفرنس ( محمد ! ) أركون أقدمه للقراء لتتبين لهم سذاجة مثل هؤلاء المفكرين الذين كانوا يعيشون أحلاما وخيالات ظانين أن الإنسان الغربي بفضل الحداثة والتنوير ! اللذين مر بهما قد ترقى تفكيره فتخلص مما يسمونه الأيدلوجيا وتعصباتها ، مستبدلا ذلك بالتفكير العلماني المتسامح ...الخ
ثم يتفاجأ هؤلاء السذج الذين باعوا دينهم وعزهم بأبخس الأثمان : أن الغرب النصراني هو هو لم يتغير ولم يتبدل ؛ حيث لا زالت النظرة الصليبية تحكمه عند حديثه عن الإسلام ، مهما ستر ذلك بزخارف الشعارات التي لا تنطلي على العقلاء . وهذا مما رسخ عند أهل القرآن الذين أخبرهم ربهم فيه بأنه ( لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .. وغيرها من الآيات ,
ومحمد أركون من هذا النوع الساذج الذي اغتر بالقوم حتى استبدل دينه بما يسميه ( الأنسنة ) التي تعني عنده - كما يقول مترجم كتبه هاشم صالح - : ( كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة ) ( معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية ، ص 16 ) .
ويقول عنها في كتاب آخر : ( أعود مرة أخرى إلى مصطلح الأنسية أو النزعة الإنسانية ، وأقول بأن أركون يقصد بها ازدهار العقلانية وتراجع الظلامية والتعصب الديني . ففي القرون الوسطى كان التركيز يتم على الله فقط وما كان يجوز الاهتمام بالانسان إلا من خلال علاقته بالله أو عبادته له . باختصار كنا نعيش في ظل المركزية اللاهوتية . ثم انتقلنا بعد عصر النهضة في أوروبا إلى التركيز على الانسان والاهتمام به كقيمة بحد ذاتها ، وهكذا انتقلنا إلى ما يمكن أن ندعوه بالمركزية الانسانية أو بالنزعة الانسانية ) ( نزعة الأنسنة في الفكر العربي ، ص 12 ) .
وكأن الاهتمام بعبادة الله القائل ( وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) - عند أركون - تعني إهمال الإنسان وما يصلحه في الحياة الدنيا !! مما أداه إلى نبذ الإسلام ومعاملته كما يعامل الديانات الأخرى ، أو تحريفه إن اضطر إلى ذلك .. في مقابل تضخيم ( الإنسانية ) واتخاذها دينًا وأيدلوجية .
وللحديث عن ( الإنسانية ) ومناقضتها للإسلام مكان آخر .. ومن أراد بيان ذلك فليرجع إلى رسالة دكتوراة بعنوان ( الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر ) للدكتور محمد إدريس عبدالصمد ( لم تطبع بعد / جامعة الإمام ، قسم الثقافة ) . وليرجع إلى كتاب ( مذاهب معاصرة ) لمحمد قطب .
أعود إلى اعتراف محمد أركون .. الذي اكتشف مؤخرا ! تعصب الغربيين ضد الإسلام ، مهما ادعوا التعددية والبحث العلمي المجرد .. الخ
يقول أركون في كتابه ( معارك من أجل الأنسنة .. ، ص 282 - 288 ) :
( لم تؤد ظاهرة جلاء الاستعمار في الستينيات والسبعينات عن بلدان العالم الثالث إلى زعزعة اليقينيات المتراكمة للعقل الغربي. أقصد العقل الظافر، المنتصر، المهيمن، الذي يستمر في توظيف نفسه في مجال الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والعلوم الصلبة أكثر مما يوظف نفسه في مجال العلوم الرخوة. صحيح أن البنيوية الألسنية والانتربولوجيا أوهمتنا لفترة بأنها قادرة على التوصل إلى علوم إنسانية في نفس صلابة العلوم الدقيقة: أي باردة، يقينية، بدون أي حكم قيمة، ولكنها وضعت اليهودية والمسيحية بمنأى عن تفحصها ودراستها، هذا في حين أن بقية الأديان دُمجت داخل التحريات الاتنوغرافية المحصورة بالمجتمعات المدعوة بالتقليدية أو العتيقة البالية، وهنا نلاحظ أنهم تخلّوا أو تراجعوا عن صفة "البدائية" للدلالة على نهاية العلم الاستعماري.
ولكننا نلاحظ أنهم خصَّصوا للإسلام مكانة غامضة في هذا السياق المستجد، فقد أصبح في آن معاً مادة يدرسها المستشرقون الكلاسيكيون طبقاً للمنهجية الفيلولوجية والتاريخوية البحتة، ثم مادة يدرسها علم الاتنوغرافيا المطبَّق على المجتمعات غير الأوروبية أو غير الغربية، وهذا الموقف الملتبس الذي اتخذه العلم الغربي في أعلى ذراه تقدماً يستحق منا وقفة خاصة من أجل تحليله وتفسير أسبابه.(33/274)
في الواقع إنهم حرصوا على تمييز الأديان المدعوّة بأديان الوحي عن الأديان الآسيوية المتروكة لبعض الاختصاصيين الاستشراقيين، وعن الأديان الأفريقية التي يهتم بها عادة علماء الاتنوغرافيا أو دراسة خصائص الأعراق والشعوب. كما أن هذا التمييز يزداد وضوحاً عندما يتعلّق الأمر بالموضوعات الكبرى للاعتقاد المدعو عادة بالإيمان، وهو موضوع محصور بعلماء اللاهوت فيما يخص أديان الكتاب، ولكنه أصبح عادياً مبتذلاً مع الثقافة بالمعنى الاتنوغرافي للكلمة، وذلك فيما يخص المجتمعات التي لا علاقة لها بالثقافة الأوروبية والمدعوة أيضاً بالمجتمعات التي "لا كتابة لها"، والتي لا تمتلك تاريخاً محورياً ذا نقطة أساسية تفصل الما قبل عن الما بعد، وحتى داخل أديان الوحي نفسها نلاحظ أنهم يخصصون للإسلام مكانة هجينة تدعو للاستغراب، فهم تارة يلحقونه بالأديان الآسيوية الكبرى ويصبح عندئذ محصوراً بدائرة المستشرقين، وتارة يلحقونه بالموقع الذي يحدده علماء الاتنوغرافيا للمجتمعات التي يدرسونها، ولكن بما أنه أحد أديان الكتاب، وبما أنه خاض معارك جدالية في القرون الوسطى مع المسيحية واليهودية، فإنه يحظى أيضاً ببعض الدراسات الخاصة باللاهوت المقارن.
منذ انعقاد المجتمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني، ظهرت أدبيات غزيرة ومكرورة عن موضوع الإسلام في الغرب، وقد غذَّاها الحوار الإسلامي -المسيحي وأحياناً نادرة الإسلامي- اليهودي- المسيحي، ولكن على الرغم من كل هذه الأدبيات، فإن التاريخ المقارن للأنظمة اللاهوتية الثلاثة لم يحقق تقدماً قادراً على تحريرنا من الموضوعاتية القروسطية للنَبْذ أو الاستبعاد المتبادل.
فيما وراء الموروثات اللاهوتية التي يستمرون في تعليمها داخل إطار المنظور الأرثوذكسي الخاص بكل طائفة دينية، فإنه يمكننا أن نعمم الملاحظة السابقة لكي تشتمل تاريخ الأديان، ثم بشكل أخص فلسفة الدين.
أقول ذلك ونحن نعلم أن فلسفة الدين لا تحظى باهتمام كبير بسبب الحواجز الابستمولوجية التي تستمر في فصل الفلسفة عن اللاهوت.
بقي علينا أن ندرس حالة اليهودية والمسيحية. كانت المسيحية تحلم منذ زمن طويل بضمّ اليهودية إليها عن طريق بلورة تركيبة يهودية - مسيحية تدل على تراث متواصل ومشترك، ولكن التراث اليهودي يرفض بالطبع هذا الاستلحاق، ونلاحظ أن الديانة اليهودية تسعى منذ تأسيس دولة إسرائيل للتوكيد على خصوصيتها إزاء الجهود الاستلحاقية التي تبذلها المسيحية. فالتركيبة التوفيقية المدعوة باليهودية - المسيحية تبدو فعالة على المستوى السياسي، ولكنها مرفوضة كلياً على المستوى اللاهوتي والثقافي، ونلاحظ أنه منذ انعقاد المجمع الكنسي للفاتيكان الثاني ونشره لقراراته اللاهوتية الشهيرة، فإنه هناك إرادة مشتركة قليلاً أو كثيراً من أجل العثور على استمرارية تواصلية تمتد من اليهودية إلى المسيحية وذلك على كافة الأصعدة من روحانية، وتاريخية، وثقافية، وعقائدية، ولكن نلاحظ أيضاً ظاهرة أخرى تدعو للدهشة والاستغراب: وهي الرغبة المشتركة لليهود والمسيحيين في استبعاد الإسلام ليس فقط لاهوتياً، وإنما أيضاً ثقافياً وسياسياً، ونلاحظ أيضاً أن هذا الاستبعاد يُطبَّق أيضاً على كيفية تقسيم تاريخ العالم المتوسطي، فهنا أيضاً نلاحظ أن التراث الجامعي "العلماني" يقوي الرؤيا التقليدية لعالم اللاهوت المسيحي، دون أن يستخدم بطبيعة الحال البواعث نفسها والتفسيرات اللاهوتية نفسها، فجنوب المتوسط وشرقه تركا للمستشرقين المختصين باللغة العربية والفارسية والتركية بشكل خاص، وأما الشمال والغرب فعلى العكس ملحقان بأوروبا المسيحية واللاتينية سابقاً ثم الحديثة حالياً، وأما الجنوب والشرق فيقيا بمنأى عن هذه الحداثة. إن لهذا التقسيم انعكاساته على وضع الدراسات التاريخية المتعلقة بكلتا الضفتين، والأكثر أهمية من ذلك هو أن حروب التحرير الوطنية وحركات المعارضة السياسية التي تستلهم الأصولية الراديكالية ساهمتا في توليد مخيالين سياسيين للاستبعاد المتبادل بين القطبين الإيديولوجيين المدعوّين "الإسلام"، و"الغرب".
لنتوقف الآن قليلاً عند حالة المسيحية بكل تجلياتها الكاثوليكية، والبروتستانتية، والأرثوذكسية، والإنكاليكانية. نلاحظ أنها تحظى بإقبال الباحثين العلميين على دراستها بكل طيبة خاطر وبنوع من التفضيل الضمني أو الصريح لها على غيرها، فالمؤمنون الغربيون يستخدمون موهبتهم ومعرفتهم وهيبتهم الفكرية لكي يكرّسوا تفوق المسيحية على جميع الأديان الأخرى، ولكي يثبتوا فرادتها وقدرتها على التأقلم مع الحداثة. وأما العلمانيون الذين يعيشون على الرغم من كل شيء في مجتمعات متأثرة جداً بالفكر والثقافة المسيحية، فإنهم يقبلون ضمنياً بالمحافظة على امتيازات هذا الدين ومعاملته معاملة خاصة، ولذلك فلا يطبقون عليه الاشكاليات الاتنوغرافية نفسها أو الأحكام السياسية السلبية نفسها التي يطبقونها على الأديان الأخرى)
=============(33/275)
(33/276)
أدونيس وقشة الغريق ...
رضا أحمد صمدي
كثيرون أولئك الذين قضوا حياتهم غرقى في بحار الشهوات والملذات ، فلما حصحص حق الشيب وتكلمت طقطقات العظام المتآكلة حال المشي والقعود والقيام ؛ طفقوا يبحثون عن أي قشة تنقذهم من هذا الغرق المحتوم .
هل رأيتم أولئك الكهول والأشياخ الذين ما كان أهل الحي يرونهم في المساجد حينما كانوا في كامل صحتهم وعنفوان شبابهم ؟؟
هذا الرجل مشط كل شوارع الحي بل والأحياء المجاورة تتبعا للفتيات ليغويهن ويمارس هوايته في الإيقاع بالضحايا واستعراض عضلات الفتوة أمام ضعف الفتيات الغافلات المؤمنات ... الآن حجز مكانا في المسجد لا يفارقه حتى غدت صورته وهو يطأطئ رأسه تاليا كتاب الله غدوا وعشيا علامة فارقة لا يمكن أن تنمحي من ذاكرة كل من خطا أو خطوة داخل المسجد ، ولكن أهل الحي لا يستطيعون أن يمحوا من الذاكرة ذكريات هذا الشاطر الذي كانت سيرته مضرب المثل عند شطار الأحياء وقطاع الطرق !
فماذا يمكنه أن يفعل هذا الرجل تجاه عادة الإنسان .. وما أدري هل نصنفها بأنها عادة حسنة أو سيئة .. إنها نسيان حسنات الغير وتذكر سيئاتهم !!!
أدونيس .. علامة فارقة في العقل الجمعي العربي ... أثر كثيرا في التيارات الفكرية .. حتى إنه ليمكننا القول أنه أحدث أكبر فتنة في صفوف الشباب العربي من المحيط إلى الخليج .. بأشعاره وأقواله ومذاهبه التي لا تقل عن تلك التي أحدثتها أشعار نزار قباني ...
إلحاد ...
سخرية من الغيب ..
انتقاص لثوابت الشريعة ..
هدم الرموز الدينية ..
اشعار أدونيس ساهمت في تكريس ضعف اللغة العربية على مستوى النخبة .. حتى غدت أشعاره الحداثية وطريقته في كتابة الأدب مدرسة يتسابق إليها الأدباء والشعراء العرب كأنها مفخرة لهم وللأدب ..
أدونيس يمارس جلد الذات بطريقة ناعمة... إنه يدغدغ العواطف ويمهد لرجوع حميد للدين وثوابت الدين .. ولكن بطريقته هو ... ومع أتباعه وحوارييه ..
في ندوته الأخيرة في الجامعة الأمريكية في القاهرة ( وتأمل في حكمة اختيار المكان ! ) بعنوان : معوقات الحداثة في الثقافة العربية بعامة والشعر العربي بخاصة .. ألم يكن متوقعا أن يتحدث عن الشعر والأدب .. المفاجأة أن أدونيس قال :
لا يزال الفرد المسلم وأنا أولكم يعيش انعدام التجارب الكبرى في العالم في جميع الميادين.. المسلمون الآن يشكلون خمس سكان العالم ولا يوجد فيهم من يقرأ النص الديني قراءة متفردة
يعني أدونيس يقول لنا إنه يقرأ النص الديني .. كيف يقرأه هذه مشكلة أخرى ، فالجديد فعلا أنه أخبرنا أنه يقرأ النص الديني .. جديدة فعلا ! لكن المشكل عنده هو أنه يقرأ النص الديني مثل كل الناس قراءة جمعية ، يعني يعتمد على فهم الآخرين ... ولا يوجد من يفهم ويأخذ من النص الديني بنفسه ...
هل أدركتم الباقعة ؟؟
الباقعة أن أدونيس يخبرنا أنه الآن يقرأ النص الديني .. وأنه يدعونا أن نقرأ النص الديني بطريقة مختلفة عن كل الناس ... أن نقرأ النص الديني بصورة متفردة .. يعني لا تجعل أي واسطة بينك وبين النص الديني !! لا يكن هناك أثر نبوي أو رواية سلفية أو إرشادات علمية في المساعدة على تفسير القرآن ..
إنها نفس الروح البروتوستانتية التي سرت في الفكر الغربي الذي يعتنق أساطينه المذهب البروتستانتي أصلا ... وقراءة البروتوستانت للعهد القديم والجديد كان ثورة على القراءة الكاثوليكية للنص الديني .
وأدونيس من سدنة المناهج الغربية ودعاتها ... وبما أن البروتوستانتية هي بداية ثورة الغرب على الكنيسة ، وتحرر العلم والحكم من سطوة البابا ظن أدونيس ( ربما ) أن استعمال هذه الطريقة المتفردة في قراءة النص الديني ستعود بالثورة على القديم البالي ...
إنها دعوةُ لعدم سماع العلماء وعدم طاعتهم .. إنها دعوة لجعل الجماهير مستغنية عن العلماء وعن الجثو على الركب لتلقي العلم عنهم ، وتوجيهُهم نحوالنرجسية الفكرية ، ومن أهم ضحاياها الشباب المسلم الذي جعل العلماء مرجعية له في تلقي أمور الشريعة ، خاصة الذين تلقتهم الأمة بالقبول ..
إن هذه المغازلة الظريفة من أدونيس للشباب العربي والمسلم بمثابة القشة التي يظن أدونيس أنها ستنقذه من الأهمال والنسيان بعد استفحال المد الإسلامي .. وخاصة في محيط الصفوة والنخبة الذين كانوا في الماضي من سدنة الحداثة الأدونيسية !
قشة لن تنقذ غريقا في حجم أدونيس ... ولا أظن أن أهل الحي سينسون تاريخ أدونيس .. لا أظنهم سينسون قصائده المارقة التي غناها المغنون ولحنها الملحنون وفيها كفرياته وضلالاته ...
نعم .. إنه سيتعلق بها لا محالة ( أعني القشة ) ولكنني لا أظن أنها ستنجيه من الغرق ... بل سيغرق مع قشته ... وإن غدا لناظره لقريب .
============(33/277)
(33/278)
اللغة العربية التحديات والمواجهة
للأستاذ/ سالم مبارك الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
اللغة العربية : التحديات والمواجهة
الحمد لله الذي رفع هذه اللغة و أعلى شأنها , حيث أنزل بها خير كتبه و أفضلها , والصلاة و السلام على أفصل الأنبياء و خاتم المرسلين , نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :ــ
إن لغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا , فيحق لنا أن نفتخر بها , و نعتز بها و يجب علينا أن نذود عنها و نوليها عناية فائقة . و يتمثل واجبنا نحوها في المحافظة على سلامتها و تخليصها مما قد يشوبها من اللحن و العجمة و علينا أن لا ننظر إليها بوصفها مجموعة من الأصوات و جملة من الألفاظ والتراكيب بل يتعين عينا أن نعتبرها كائناً حياً , فنؤمن بقوتها و غزارتها و مرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات كما تعد مقوماً من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .
إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها .
ما اللغة :-
لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة و مفهومها , وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة و يرجع سبب كثرة التعريفات و تعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم , فانتقاء تعريف لها ليس بالعملية اليسيرة منها على سبيل المثال لا الحصر :ــ
1. يعرفها ابن جني 1 بقوله : (( أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )) .
2. اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف بين أفراد المجتمع ، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أ والحركات التي يقوم بها جهاز النطق ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه الظواهر النطقية2 .
3. ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس 3.
4. صورة من صور التخاطب سواء كان لفظياً أو غير لفظي .
5. اللغة كما يقول ( أوتو يسبرسن ) : نشاط إنساني يتمثل من جانب في مجهود عضلي يقوم به فرد من الأفراد ، ومن جانب آخر عملية ادراكية ينفعل بها فرد أو أفراد آخرون .
6. اللغة نظام الأصوات المنطوقة .
7. اللغة معنى موضوع في صوت أو نظام من الرموز الصوتية 4.
8. ادوارد سابيير : اللغة وسيلة إنسانية خالصة , وغير غريزية إطلاقا , لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية 5 .
9. انطوان ماييه : إن كلمة ( اللغة ) تعني كل جهاز كامل من وسائل التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان بصرف النظر عن الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية أو قيمتها من الناحية الحضارية .
10 . اللغة نشاط مكتسب تتم بواسطته تبادل الأفكار والعواطف بين شخصين أو بين أفراد جماعة معينة , وهذا النشاط عبارة عن أصوات تستخدم وتستعمل وفق نظم معينة .
واللغة نعمة من الله عزّ وجل للإنسان مثله مثل كل الحيوانات التي تمتلك نظاما من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها . فيقال : لغة الحيوان ، ولغة الطير ، ولغة النبات ، قال تعالى :( ( وعلمنا منطق الطير )) النمل / 16. .. ولكن لغة الإنسان تتميز بأنها ذات نظام مفتوح بينما الحيوانات الأخرى نظامها التعارفي نظام مغلق .
وظائف اللغة :- 6
يتفق أغلبية علماء اللغة المحدثين على أن وظيفة اللغة هي التعبير أو التواصل أو التفاهم رغم أن بعضهم يرفضون تقييد وظيفة اللغة بالتعبير او التواصل ؛ فالتواصل إحدى وظائفها إلا انه ليس الوظيفة الرئيسة .
(( وقد حاول " هاليداي " halliday تقديم حصر بأهم وظائف اللغة فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية :
1. الوظيفة النفعية ( الوسيلية ) :ـ
وهذه الوظيفة هي التي يطلق عليها " أنا أريد " فاللغة تسمح لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يشبعوا حاجاتهم وأن يعبروا عن رغباتهم ..
2. الوظيفة التنظيمية :ــ
وهي تعرف باسم وظيفة " افعل كذا .... ولا تفعل كذا " من خلال اللغة يستطيع الفرد ان يتحكم في سلوك الآخرين , لتنفيذ المطالب أو النهي و وكذا اللافتات التي نقرؤها وما تحمل من توجيهات وإرشادات ...
3. الوظيفة التفاعلية :
وهي وظيفة " أنا و أنت " تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في العالم الاجتماعي باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسر جماعته , فنستخدم اللغة في المناسبات , و الاحترام , و التأدب مع الآخرين .
4. الوظيفة الشخصية :
من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤاه الفريدة , ومشاعره و اتجاهاته نحو موضوعات كثيرة , وبالتالي يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم أفكاره للآخرين .
5. الوظيفة الاستكشافية :ـ(33/279)
وهي التي تسمى الوظيفة " الاستفهامية " بمعنى انه يسأل عن الجوانب التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة .
6. الوظيفة التخيلية :ــ
تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية ، كما يستخدمها الإنسان للترويح , أو لشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل , وإضفاء روح الجماعة , كما هو الحال في الأغاني والأهازيج الشعبية ...
7. الوظيفة الإخبارية ( الإعلامية ) :ــ
باللغة يستطيع الفرد أن يتقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه , بل ينقل المعلومات والخبرات إلى الأجيال المتعاقبة , وإلى أجزاء متفرقة من الكرة الأرضية خصوصاً بعد الثورة التكنولوجية الهائلة . ويمكن أن تمتد هذه الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية , اقناعية ؛ لحث الجمهور على الإقبال على سلعة معينة أو العدول على نمط سلوكي عير محبب .
8. الوظيفة الرمزية :ــ
يرى البعض ان ألفاظ اللغة تمثل رموزاً تشير إلى الموجودات في العالم الخارجي , وبالتالي فان اللغة تخدم كوظيفة رموزية . )) 7
واللغة كالكائن الحيّ ، فهي تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمرار , مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية فعندما يتطور المجتمع حضارياً وإنتاجيا تتطور اللغة والعكس ... فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية والحضارة ، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول .
نشأة اللغة :-
أما حول أصل نشأة اللغة وما يتصل بهذه النقطة من موضوعات فكرية لن نخرج منها بكثير فائدة بله أن تشتت أفكارنا فقد تصدى للبحث فيها كثير من الفلاسفة والمتكلمين واللغويين , وذهبوا في البحث مذاهب شتى : فهذا يقول مصدرها التوقيف من الله , وذلك يقول مبدؤها الطبيعة , وآخر يقول منشؤها الاصطلاح والتواطؤ ــ ويكفينا هنا أن نعلم أن هناك نظريات متعددة حول نشأة اللغة ، أشهرها أربع نظريات :
(1)/ نظرية التوقيف : قال بها أفلاطون وأبو علي الفارسي ، وابن حزم ، وابن قدامة , وأبو الحسن الأشعري , و الآمدي , وابن فارس ومعظم رجال الدين ، ويستدلون بقوله تعالى
: (( وعلّم آدم الأسماء كلها )) " البقرة /31". وبما جاء في سفر التكوين (( وجبل الربّ الإله كل حيوانات البرية ، وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ، فكل ما دعا به آدم من ذات نفس حيّة فهو اسمها . فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء ، وجميع حيوانات البرّيّة )) ، الإصحاح الثاني عشر آية (19/20).
(2)/ نظرية المواضعة والاصطلاح : قال بها سقراط ، وديمقريط ، وآدم سميث ، ومن العرب أبو الحسن البصري ، وأبو إسحاق الاسفراييني ، والسيوطي ، وابن خلدون .
(3)/ نظرية المحاكاة: تعني أن يحاكي الإنسان ما حوله في الطبيعة من الظواهر , وأول من أشار إلى ذلك ابن جني في الخصائص ثم قال: (( وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل 8 )) , ولكنه لم يستقر على هذا الرأي أيضاً بعد أن ناقش الرأيين السابقين , والأسلم ألا ننسب الرجل إلى مذهب بعينه من المذاهب الثلاثة .
(4)/ نظرية الغريزة : يريدون أن الله زوّد الإنسان بآلة الكلام ، وبجهاز للنطق ، فهو حتما سينطق شاء أم أبى .
والحديث في أصل نشأة اللغة ـــ على رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي ـــ فضول لا أصل له وكأنه يدعو إلى الانصراف عنه إلى معالجة اللغة بوصفها حقيقة واقعية في وضعها الراهن , وهذا التوجه من الإمام الغزالي ينسجم تماماً مع توجه علم اللغة المعاصر الذي أخرج هذه القضية من نطاق مباحث علم اللغة ...
وبعد هذه التوطئة البسيطة عن ماهية اللغة ، ووظائفها . ننتقل إلى معنى لفظة ( العربية)
ما هي العربية :-
متى كانت العربية ؟؟ علم ذلك عند الله , ولكنه سبحانه لم يصادر حريتنا في أن نحاول معرفة أي شيء يمكن أن يبلغه قدراتنا بالقطع , أو بالحدس والتخمين . يقال إن العربية تنحدر من اللغة الآراميّة , وهي التي تكلم بها آرام بن سام بن نوح عليه السلام
واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية وعلماء اللغة حديثاً يصنفون كل السلالات اللغوية والعودة بها إلى لغة ( أم ) أطلقوا عليها ((اللغة السامية )) و أول من أطلق هذه التسمية هو العالم النمساوي شولتزر عام 1781م وواضح أنها تسمية عنصرية اقتبسها من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار(العهد القديم) (الأصحاح 10 سفر التكوين) في ظل تقسيم وهمي للأجناس البشرية مستمد من أبناء نوح وهم : سام وحام و يافث , فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟(33/280)
أصبح يقينا لدى الباحثين المنصفين، أن وصفنا لحركة المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة العربية في القرن السابع بالفتح والفتوحات الإسلامية أصبح تعبيرا خاطئا, فهو لم يكن فتحا بل كان تحريرا للعرب من الحكم الأجنبي كهدف سياسي, وهو توحيد للعرب في الموقع المكاني بمعناه الجغرافي كهدف قومي, كما انه من الخطأ القول بأن العرب ساميون والصحيح هو القول ان الساميين عرب.
السامي والسامية والساميون، تعريف يطلق على التجمعات والكيانات البشرية التي تواجدت في فلسطين وغور الأردن وجنوب العراق وشبه الجزيرة العربية, باعتبار أن كل هذه المناطق، تشكل وحدة جغرافية واحدة, والمعروف أن الجميع جاؤوا من شبه الجزيرة العربية وبالتالي فقد ذهبوا إلى أطراف شبه الجزيرة العربية, في هجرات عدة متتالية, وقد استحالت لغة وألسنة هذه الأقوام إلى اللغة العربية واللغة العبرية واللغة السريانية, والسامية أيضا هي مصطلح يطلق على كل الشعوب والأمم والقبائل قديما وحديثا مرورا بالعصور الوسطى التي تنتسب إلى سام بن نوح, ومن المعروف ان التوراه أول من أشار بالنص إلى ذلك التقسيم كما سبق وأسلفنا.
بعض العلماء نسب الصفة العربية إلى مدينة (عربة) في بلاد تهامة, وقيل أنها نسبة إلى يعرب بن يشجب بن قحطان وهو أبو العرب العاربة، أول من تكلم العربية على صورتها المعروفة وقيل أيضا أنهم سموا كذلك نسبة إلى فصاحة لسانهم في الإعراب , وقد وردت تسمية (( العربية منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد , إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري 9))... والأقوام الذين تكلموا العربية لا يحصي عددهم إلا الله : منهم العرب البائدة : وهم قبائل طسم ، وجديس ، والعماليق ، وأهل الحجر ، وقوم هود وصالح عليهما السلام وغيرهم. وهولاء لم يصل لنا شيء من أخبارهم لا من قريب ولا من بعيد ... وهناك العرب العاربة : وهم القحطانيون ومن ينحدر منهم .. وأخيرا العرب المستعربة وهم أبناء إسماعيل العدنانيون .
إن الموروث الكتابي العربي أعمق جذوراً مما يظن حتى الآن ، فلو أضفنا إليه موروث الكتابة العربية كما كتبها الأكاديون ( بابليون و آشوريون ) بالخط المسماري وما كتبه الكنعانيون على سواحل الشام ،، وكذلك مخطوطات أوغاريت ــ وتل العمارنة ــ ومخطوطات البحر الميت لاتصل تاريخ كتابة العربية ببضع آلاف قبل الميلاد 10.
وتأسيسا على ذلك فالعرب هم في شبه الجزيرة العربية التي تشتمل على جنوب العراق وجنوب الشام وفلسطين وشبه جزيرة سيناء , و العربية وليدة واقعها المعيش أخذ العرب ألفاظها من الطبيعة المحيطة بهم فجاءت مفعمة بالصور ومشحونة بالأحاسيس والمشاعر .
إن الشخصية العربية تقوم على تشابه أذواق العرب وملكاتهم ، وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق , ويرتبط بعمالقة الشعر والأدب بخاصة الذين سجلوا مثلنا العليا 11,, ويرتبط باللغة العربية التي نعتز بالحديث بها .. ولهذا فإهمال الأدب القديم ـــ والاتجاه أكثر إلى الأدب الحديث يساعد من يروج للفصل بين الآداب القديمة (( حيث امتداد أخلاق الآباء والسلف)) وبين الآداب الحديثة ولسنا بحاجة إلى التأكيد على دور اللغة في بناء الأمة وصناعة وجدانها وتكوين هويتها وثقافتها وضمان تماسكها وتواصل أجيالها .
العربية لغة مقدّسة :-
العربية لغة القرآن الكريم ، وهو مهيمن على ما سواه من الكتب الأخرى , وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى . وهي لغة خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للبشرية جمعاء ، واختار الله له اللغة العربية ، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء ، ينبغي أن ندرك أبعاد هذه المسألة .
قال تعالى : (( إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ))(الشعراء/193ــ 195) فلما وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها ، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية ، خصوصاً حين ناط الله بها كلامه المنزل ، قال تعالى :-(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ))( الزخرف/ 3 ) وقال تعالى :- (( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون )) " فصلت / 3" . وقال (( قرآناً عربياً غير ذي عوج )) ( الزمر/28) ومن هنا قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فهو يشير إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده و آفاقه . إنها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا الكتاب المنزّل ،، وقد تكفل الله بحفظها ضمنياً في قوله : (( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون )) " الحجر/9" .(33/281)
ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين : (( كتب " جون فرن" قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها ، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثراً يدل على مبلغ رحلتهم فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية ، ولما سئل جون فرن عن اختياره للغة العربية , قال انها : لغة المستقبل , ولاشك أنه يموت غيرها , وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه ) 12.
فضل تعلّم العربية :-
يرى كثير من العلماء أن الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث النفاق قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فانه يورث النفاق )) (أخرجه الحاكم في المستدرك) ؛ فلا نعجب إذا علمنا أن من العلماء من أوجب تعلم العربية وإتقانها ، قال عمر بن الخطاب : (( تعلموا العربية فإنها من دينكم , وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم )) , وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها , و قال ابن تيمية : (( إن اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، لأن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بالعربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب )), وقال ابن فارس : (( لذلك قلنا أن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم ))13 . وقال أبو هلال العسكري : (( فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله في دنياه ، وكمال آلته في علوم دينه )) وفي ما خلفه لنا علماء العربية دليل على فضلها , فما خلفه ابن جني الذي كان متمكناً من اليونانية لأنه رومي , وما خلفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكناً من الفارسية مع أن الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة , حتى أثر عن أبي الريحان البيروني قوله : " لأن أشتم بالعربية خير من أن امدح بالفارسية " و قد قال الشعراء في مدح اللسان واللسن أبياتاً لا تحصى منثورة في كتب الأدب. كما ذكر محاسن العربية أيضاً رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية قال المستشرق " أرنست رينان " في كتابه " تاريخ اللغات السامية" : (( من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية , وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من الرحل,تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها ..)) وقال المطران يوسف داءود الموصلي : (( من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق، حيث ان عباراتها سلسة طبيعية,يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنع وتكلف )) 14.
هكذا فعل سلفنا الصالح في خدمتهم للغة القرآن أحبوها حباً عظيماً , ووهبوا لها نفوسهم , فنقحوها ووضعوا قواعدها وأصلوا نحوها وصرفها حتى بلغت درجة الكمال والصفاء ، أما نحن عرب عصر التكنولوجيا والاختراقات الفضائية و الثورة المعلوماتية فقد فشا فينا التخاذل والتكاسل والتقاعس فكنا كقول أحدهم : فخلف من بعد السلف خلف تنكروا للغتهم واحتقروها ، ونظروا إليها نظرة ازدراء و اتهموها بالعجز والقصور وعدم صلاحيتها للعصر .
واجبنا تجاه العربية :--
إن خدمتك للغة العربية تعني خدمتك للقرآن ولو من وجه بعيد . وإن السلف الصالح ما قصروا في خدمتها حيث جاهدوا بالجهد والمال والوقت لخدمة لغة القرآن ,, عكفوا على تعلمها لما لها من مكانة مقدسة في نفوسهم ,, غاروا عليها ، وغاروا على بيانها المعجز أن تدنسه عجمة الأعاجم ولوثة الإفرنج ... فقضوا سني حياتهم في تقعيدها وإشادة أركانها ورسم أوضاعها ...
ولعل أقل ما نعمل أن ننشر هذه الكتب المخطوطة التي تقبع في متاحف العالم وأن ننفض عنها غبار الزمن ، حيث أن هناك حوالي مليون مخطوطة عربية موزعة في كافة أرجاء العالم (( ففي تركيا 155أ لف مجلد / وروسيا 40 ألف مجلد / والعراق والمغرب 35ألف مجلد / وتونس 25ألف مجلد / وبريطانيا و سوريا 20 أ لف مجلد / والولايات المتحدة 15ألف مجلد / والهند والسعودية 15ألف مجلد / يوغسلافيا فيها 14 ألف مجلد / فرنسا 8500 مجلد / اليمن 10 ألف مجلد / ايطاليا والفاتيكان 7500مجلد . تضاف إلى هذا بلدان تحتفظ بما يقارب 7500 مجلد ليصل الرقم إلى ما يقارب مليون مخطوطة عربية ناجية ما تزال موزعة في أرجاء الكرة الأرضية . ))15 .
كذلك ينبغي إغناء المكتبة العامة بالمؤلفات التي تحث على كيفية تعلم العربية وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها , بالإضافة إلى استغلال الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى أقصى حد ممكن لخدمة العربية .(33/282)
إن من أكبر مصائب الأمة أن يكون تعليمها بغير لغتها , وتفكيرها بغير أدواتها , وقياس حاضرها يكون بمعايير وضوابط حضارية غريبة عنها ,, والحالة هذه من التخاذل والتكاسل والتبعيّة ، واجهت العربية مجموعة من التحديات والمصاعب وقفنا منها موقف المتفرج ، إن لم نكن شاركنا فيها من طرف خفي . وقد آن الأوان أن نفضح خطط الأعداء ونكشف عن نواياهم الخبيثة ونثبت للعالم أن هذه اللغة ثرية غنية باقية فنرعاها حق الرعاية ولا ندعها تتعرض للتقويض والانهيار والغزو اللغوي الشرس من الداخل والخارج ...
التحديات والمواجهات : ــ
التحدي الأول :- اتهامها بالعقم والجمود والتحجّر والقصور ، وأنها لم تعد ملائمة لأساليب القرن الحادي والعشرين عصر الثورة المعلوماتية و الاختراقات الفضائية ، فكان منا من نظر إلى تخلف العرب العلمي في عصر الذرة فأعلن أنه لا يرى لهذا سبباً غير تمسك العرب بلغتهم في مراحل التعليم عامة والتعليم العالي منها خاصة , وآخر يلحّ في الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغة غير عربية ؛ ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن .
المواجهة :ـــ
أولاً :- الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسر وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها , فخاصية الاشتقاق من أعظم ما امتازت به العربية , فبالاشتقاق عملت على زيادة موروثها اللفظي والمعنوي كلما تقدم الزمن ،،(( وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول ا صلى الله عليه وسلم , ومن ذلك قوله فيما صح عنه : " يقول الله :( أنا الرحمان خلقت الرحم , وشققت لها اسم ) والحديث في مسند الإمام أحمد ))16 ولنأخذ على سبيل المثال مادة (( كتب : كتب - كاتب - مكتوب - كتابة - كتاب ــ مكتبة ....)) : إننا نستخدم هذه الكلمة وعمرها أكثر من 1500عام ، مأخوذة من ( الكَتْب) بسكون التاء ، قال الجوهري : أصله في اللغة للسقاء ، تقول : كتب السقاء ، إذا خرّزه بسيرين ، فهي في معنى / الضم والجمع/ .. ومنه الكتيبة للجيش ، ثم انتقلت اللفظة إلى الكتابة . وإنما قلنا أن أصلها السقاء لأن العرب عرفت السقاء واحتاجت إليه في ترحالها في الصحاري واحتاجت إلى صلاحه قبل أن تعرف الكتابة ،، ولو عرفت ما للسقاء ( القربة ) من الأسماء لهزك العجب . إن خاصة الروابط الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة، وتوحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.
ومن الطريف لمعرفة سعة هذه اللغة ما نقله (( صاحب " المزهر " عن حمزة الأصبهاني : أن الخليل ذكر عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل من غير تكرار وهي اثنا عشر مليون بناء وثلاثمائة وخمسة أبنية وأربعمائة و اثنا عشر ( 12305412 )) 17 و ما ذكره د/ محمد نعمان الدين الندوي في مجلة الأدب الإسلامي قال : (( عدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ [5,099,400]، من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ [6,699,400] ، بينما نجد الفرنسية لا تحتوي إلا على خمسة وعشرين ألف كلمة(25000) ، والإنجليزية على مائة ألف كلمة(100000) فقط) 18. ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) .
فانظر يا رعاك الله إلى هذا البحر الهائج قال حافظ :-
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ثانياً :- اللغة العربية تتميز بثبات الأصول ومرونة الفروع ، وثبات أصول الألفاظ ومحافظتها على روابطها الاشتقاقية يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور، فالحفاظ على الأصل واتصال الشخصية واستمرارها صفة يتصف بها العرب كما تتصف بها لغتهم، إذ تمكن الخاصة الاشتقاقية من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل . (( وبهذه المرونة عولجت مسألة المصطلحات , وقد لاحظ ألفرد غيوم هذه الخصائص فعلق عليها بقوله " صلح اللسان العربي للتعبير عن العلاقات بإيجاز أكثر من اللغات الآرية لمرونته وقابليته الاشتقاقية الفائقة في الاسم والفعل ...)) 19 . فاللغات الأوربية تتغير معاجمها بين الحين والحين ولا يمر قرن واحد إلا ويصيبها تغيير أساسي في مفرداتها وقواعدها . بينما للعربية قدرتها الفائقة على استخدام أكثر من طريقة لتثبيت ألفاظ جديدة في قاموسها : كالقلب المكاني ، والنحت ، و التعريب .. وغيرها . ومن مرونتها كذلك ، الظواهر الصوتية من إبدال ، وإدغام , وإظهار , وإخفاء , وروم ، وإشمام , وأيضاً اسم المكان - الزمان - السببية - الحرفة - الأصوات - المشاركة - الآلة - التفضيل ... وغيرها , تلك المرونة التي أتاحت لها أن تغدو لغة الحضارة في القرون الوسطى . ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ))
قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات(33/283)
ثالثاً :ــ وهي لغة المترادفات إذ يكثر أن يكون للمسمى الواحد أكثر من مفردة لغوية واحدة بل قد تصل إلى العشرات بل المئات ولا ننسى أن كثير من هذه المترادفات نشأ من تعدد اللغات , او من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات ، قال ابن فارس في الصاحبي : (( فإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد وكذلك الأسد والفرس ...)) . وقد سمع أن معاني ( العين ) تنيف على المائة ، ومعاني ( العجوز ) تنيف على الثمانين ، ومعاني ( الكرم ) على الثلاثين ،، قال ابن خالويه : جمعت ( للأسد ) خمسمائة اسم ، و ( للحيّة ) مائتين . وذكر صاحب القاموس في مادة ( سيف ) أن للسيف أسماء تنيف على ألف اسم قال : وذكرتها في ( الروض المسوف ). فإذا رجعنا إلى معاجم المعاني وجدنا أموراً عجباً. فتحت المشي الذي هو المعنى العام أنواع عديدة من المشي :
درج , حبا , حجل , خطر , دلف , هدج , رسف , اختال , تبختر , تخلج , أهطع , هرول , تهادى , تأود... لقد ألف اللغويون العرب مؤلفات خاصة بإبراز الفروق بين الألفاظ مثل : الفروق لأبي هلال العسكري، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي ، والمخصص لابن سيده الذي يقع في 17 جزءاً .
رابعاً :ــ علامات الإعراب التي تتميز بها العربية دون غيرها من اللغات الأخرى والتي يحاول أعداء الإسلام أن يطمسوها بدعوى( تبسيط النحو / صعوبة النحو ... الخ ) ولا تعدو أن تكون معولاً يحاول ان يصيب مقتلاً في كيان هذه الأمة , وهي محاولات هدامة تحاول إضعاف العربية كما قال ذلك الشيخ ( ابن باز ) . .
بينما تلزم الكثيرات من اللغات متكلميها بترتيب معين للكلمات يميز الوظائف النحوية فيها , ويضيع هذا التمييز اذا اختل هذا فالإنجليزية مثلا تتبع ترتيب ،، فاعل + فعل + مفعول ،، فإذا أردت أن تقول : أكل زيد طعاماً ، يجب أن تقول : زيد أكل طعاماً . ولا يجوز أن تقول : أكل زيد طعاما ,,, أما في اللغة العربية فأنت تقول : أكل زيد طعاما / وزيد أكل طعاماً / و أكل طعاماً زيد / وطعاماً أكل زيد / وطعاماً زيد أكل ، فتأمل هذا وتدبره . وفي معرض الحركات فإن جملة ( ما أحسن زيد ؟!.) يمكن أن تكون استفهاما وتعجبا وذمّا ؛ وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول ونظام الأعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .
التحدي الثاني :ـ تلك الدعاوى الرامية إلى تفجير العربية وتحويلها إلى ركام من التراكيب والدلالات التي يعجز اللبيب عن إدراك مراميها فضلا عن المثقف العادي . وقد بلغ مداه وأقصاه في ما يسمون أنفسهم ( أهل الحداثة ), والحداثة أمرها محدث وشر الأمور المحدثات , لم يفكروا في حداثة تحافظ على خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا , وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على نصب الغموض والرمز وعبث القول (( والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:
1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، و لُهاثهم خلف «العصرنة»!!
2 - الخلط بين الحداثة ـ وإن شئت فقل بين الهدم ـ والتجديد.
ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية، الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب حداثي، وأسمى سارتر مجلته «العصور الحديثة»!!
وفي الستينيات زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير.
ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد نفسه مدعياً الدعوى نفسها.
وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد، والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية. )) 20 .
وكما أصابت شظايا تفجير اللغة الأدب الشعري فقد امتدت لتطال النثر وخصوصاً النقد : فالناقد يتحدث بأسلوب موغل في الغموض والتعمية وغير مفهوم وبلغة غريبة , سواء في ما ترجم من مؤلفات النقاد أو في كثير من الكتب النقدية , كل ذلك باسم الحداثة وتفجير اللغة .
المواجهة :ـــ إننا لا نرفض الشعر الحديث جملة وتفصيلاً ،، ولكننا أيضا لا نتركه يعبث في أدبنا ويهين مقدساتنا ويخبط فيه خبط عشواء .. لابد من وضع مفتاح نقدي وإطار ومعيار فني تنظم سير الشعر الحديث وتكشف عن جماله فيستمتع به القارىء . أن الحياة فرضت علينا لوناً ولغة جديدة ــ وهذا طبيعي ــ ولكن أريد أن افهم هذه اللغة وأمتع حاستي الفنية من أدبها .(( أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش... و... ـ كل أولئك حداثيون 21 )) .(33/284)
فحينما ننظر لهذا الركام من حولنا , الذي انتفش , وأصبحت له مؤسسات تعني به وترّوج له , وتكرم الداعين المتسربلين برداء الحداثة حينما ننظر إلى كل هذا نستشعر مدى المسئولية الملقاة على عاتقنا لحفظ اللغة العربية , إنها مسئولية عقدية وأدبية ؛ لأن حماية العربية ــ وهي لغة القرآن ــ من هذا السيل الجارف من الركاكة والرطانة تصبح واجباً دينياً قبل أن يصل ببعض الملاحدة أن يتطاول على أسلوب القرآن المعجز وحلاوته وطلاوته فيتهمه بالدونية والقصور والإخفاق.
التحدي الثالث :- ما يروّج له أعداء الإسلام والعروبة الحاقدون من الدعوى إلى أن نستبدل بالفصحى اللهجات العامية واللغات المناطقية والإقليمية القومية الضيقة أو إحياء لغات قديمة ميتة , وكذلك الدعوة إلى اللاتينية بزعمهم أنها أكثر مرونة واختصارا في النطق .. وقد مشى تيار الهدم هذا في اتجاهين يكمل احدهما الآخر هما الاستشراق والاستغراب :ــ
الأول :- اتجاه المستشرقين الذين أوكلت لهم مهمة التدريس في الجامعات والمدارس فشغلوا مناصب عليا ، وتولوا مهام جسيمة ، وسيطروا على كراسي الدراسة .. فألفوا كتباً في الدين واللغة هي اكبر من علمهم نفثوا فيها سمومهم ودسوا فيها أفكارهم هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أنهم غرسوا في الطلاب والكوادر هذه الأفكار فأشربت قلوب العديد من العرب ,, ومن جهة ثالثة
أنشأوا المدارس والجامعات التبشيرية والغربية في بلاد المسلمين وجعلوها أوكاراً لأغراض تجسسية خبيثة كالجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت مركزاً للاستخبارات في فترة زمنية .
وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".
بداية بلا نهاية :ــ
في فترة العصور الوسطى في أوربا ، و الممتدة من 476م ـــ 1600م ، حدث في الوطن العربي الإسلامي أمران مهمان :-
الأمر الأول : الحروب الصليبية الممتدة من ( 489هـ ــ 690هـ) اي ( 1096م ــ 1291م )
لمدة قرنين كاملين انتهت بالإخفاق ، واليأس من حرب السلاح ، ولكنها تركت في نفس الوقت بصيصاً من التنبّه والتيقظ بسبب احتكاكهم المستمر بحضارة راقية عير عادية .
الأمر الثاني :- وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأول 857هـ / 29مايو1453م
سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ، ودخلها محمد الفاتح بالتهليل والتكبير ، واهتز العالم الأوربي هزة عنيفة مليئة بالخزي وممزوجة بالحقد والكراهية والغضب . ومنذ ذلك اليوم ، بدأت أوربا تتغير إلى الأمام ، وبدأ العالم الإسلامي يتراجع إلى الوراء ، فكان أول تراجع نحصده هو سقوط الأندلس بعد أربعين عاما فقط من فتح القسطنطينية أي عام 1493م .. ومن يومئذ بدأ الرهبان وتلامذتهم معركة أخرى أقسى من معركة الحرب والسلاح ( معركة العلم والمعرفة ) 22 00
النهضة الموءودة 23:ــ
لقد فتن العالم الشرقي أوربا فتنة لا توصف ، وامتلأت قلوبهم رغبة في امتلاكه ،، وتنبه الملوك والرهبان و عقلاء الرجال إلى سؤال خطير : ما سرّ قوة هذه الحضارة ؟؟ فكان الجواب : إن سرّ قوتها هو في العلم ( علم الدنيا وعلم الآخرة ) .
في ظل هذه الغفلة المطبقة على دار الإسلام ، كانت هناك نهضة هادئة ، سليمة ، بطيئة ، يقوم بها كوكبة من العلماء الذين تنبهوا لضرورتها وأهميتها ، نذكر منهم على سبيل المثال : ــ
البغدادي عبدا لقادر بن عمر ( في مصر ) 1620م ـــ 1683م . صاحب ( خزانة الأدب )
الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم ( في مصر) 1698م ــ 1774م .
محمد بن عبد الوهاب ( في الجزيرة العربية) 1703م ـــ 1792م .
المرتضى الزبيدي ( في الهند ومصر ) 1732م ــ 1790م . صاحب( تاج العروس )
الشوكاني محمد بن علي ( في اليمن ) 1760/ ـــ 1834م .
هذه النهضة السليمة الهادئة لم يعرفها على حقيقتها غير ( المستشرقين ) فهبوا هبة الفزع ، وسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة ويضعونها تحت أبصار ملوك المسيحية الأوربية ورؤسائها ويبصرونهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه ( اليقظة ) الوليدة إن تمت .(33/285)
و الاستشراق جهاز خبيث جاء متخفياً في عباءة العلم والبحث ، ساح في دار الإسلام في تركيا ، وفي الشام ، ومصر ، وفي الهند ... وفي غفلة أهل دار الإسلام عن حقيقة هذه الأشباح الغربية التي تتجوّل في الطرقات وتسير في الشوارع في كل لباس ، في زى التاجر ، وفي زى السائح ، وفي زى الباحث المنقب ، وفي زى طالب العلم ، وفي زى المسلم البسيط .... الخ . فاكتسب هذا الجهاز مع تطاول السنين خبرة واسعة عن دار الإسلام ( الحصينة) وصاروا يستخرجون كل شيء عن دار الإسلام عن أحوال الخاصة والعامة ، والعلماء والجهلاء ، والملوك والسوقة ، والجيوش والرعية ، والقوة والضعف ، وتدسسوا حتى أخبار النساء في الخدور ، لم يتركوا شيئا إلا وفتشوه وعرفوه ,.. ومضت سنوات طويلة ، والتقارير ترفع إلى ملوك المسيحية بكل ما يعلمونه عن دار الإسلام ،، وما خبروه وشاهدوه عياناً عن الغفلة المطبقة على دار الإسلام .. فنشأ بفضلهم ( طبقة الساسة ) ، أو من سموا بعد ذلك ( رجال الاستعمار ) .. ... و أكدت التقارير الاستشراقية انه ليس للمسيحية خيار سوى العمل السريع والمحكم .. واهتبال الغفلة المحيطة بالمسلمين ،، فقد كان الفرق بيننا وبين ما وصلت إليه أوربا الآن هو خطوة واحدة لمن يصل إليها أولاً .
الاستعمار العسكري¯ ومساوئه :ــ
وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي كان أول من حرّض فرنسا على اختراق دار الإسلام في مصر هو الفيلسوف الألماني ( ليبنتز ) ت/ 1716م .... وفي عام 1/7/1798م تحرك نابليون بجيوشه لاحتلال مصر ،، الذي يسمونه الآن (( عصر النهضة )) وخلف هذا الاستعمار جملة من النتائج السلبية عادت على العرب والعربية منها على سبيل المثال لا الحصر:ـــ
1. سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ودليل السرقة قائم وموجود في مكتبات أوربا 25، وكان همهم يوم ذاك هو السطو على كتب ( الحضارة ) أولا ، ثم ( التاريخ ) ثم كتب ( الأدب ) فكأن الحملة الفرنسية جاءت لتجريد دار الإسلام في القاهرة ممن أسباب اليقظة المادية المتمثلة في : الكتب ، والمراجع ، وتصفية العلماء ، وإعدام الطلبة .
2. تصفية البلد من رؤوس العلم , ومن طلبة العلم , لأنهم مصدر المقاومة والصحوة (( فقد فعل هذا السفاح ما لم يفعله جنكيز خان ، إذ كان له في كل يوم خمسة أشخاص يقتلهم في القاهرة وحدها ويطوف برؤوسهم في شوارع القاهرة ، وكان يأمر قواه أن يتشبهوا به ،،، ويرشده المستشرقون أن يختارهم من الطلبة النابهين ورثة علم ( الزبيدي ) و( الجبرتي) ليستأ صلوا جذور اليقظة )) .
3. ما كان للاستعمار الغربي بحقده الدفين وخبرته الواسعة .. أن يترك هذه اللغة التي يعرفها معرفة جيدة ويدرك آثارها الاجتماعية والسياسية (( ما كان له أن يدعها تنمو بإيقاعات سريعة تتساوق وإيقاعات النمو الحضاري العام , فأخذ يوجه إليها الضربة تلو الضربة , تارة بقرار سياسي .. وتارة بفتنة عمياء تثير الجدل وتعيق عن العمل .. وتارة باستعمال أبواق لا خلاق لها للترويج للغة مهجورة متخلفة أو للدعوة إلى عامية شائعة ...ففي مصر وجه اللورد كرومر ضربة قوية للعربية ؛ إذ جعل لغة التعليم الرسمي والعالي الإنكليزية ... وفي الجزائر أصدر الفرنسيون عام 1904م قانوناً يمنع أي معلم عربي أن يتعاطى مهنته إلا برخصة وضمن شروط محددة هي :ــ
1. اقتصار التعليم على حفظ القرآن لا غير .
2. عدم التعرض لتفسير الآيات التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد .
5. استبعاد دراسة التاريخ العربي والإسلامي , والتاريخ المحلي وجغرافية القطر الجزائري والأقطار العربية الأخرى .
8. استبعاد دراسة الأدب العربي بجميع فنونه .
ويمكن أن نقول أن ما حدث في مصر والجزائر حدث مثله في سائر الأقطار العربية المستعمرة))26 حيث كان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في (سورية وتونس والجزائر والمغرب)، فقد كانت لحظة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :
أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكانت تكتب أساساً بالحروف العربية ، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسية .
ثانياً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .
ثالثاً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
رابعاً : ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة .
4. محاربة العقيدة الإسلامية ؛ لأن الإسلام يرفض الاعتداء ويحث على محاربة المعتدي (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) .
5. مسك الاستعمار زمام الجانب الاقتصادي , والتعليمي بيده ؛ فكانت النتيجة " الفقر و الجهل و المرض " .(33/286)
حتى إذا انتهى عهد الاستعمار العسكري ــ أو في أثنائه ــ قام ( المستشرقون ) باستكمال بقية المخطط في السنوات التالية , فأخذ نمو العربية يتعثر هنا وهناك في الأقطار العربية كلها ولعل من المناسب هنا أن نذكر أشهر المستشرقين وأهمهم :ــ
لويس ماسينيون كان من أشد الدعاة إلى إحياء اللهجات المحلية وإحلالها محل الفصحى .
دلمور القاضي الإنجليزي , عاش في مصر وألف عام 1902م كتابا أسماه( لغة القاهرة ) .
ويليام ويلكوكس دعا عام 1926م إلى هجر العربية , وترجم الإنجيل إلى اللهجة المصرية يقول : (( إن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة )). وما يزال أحد الشوارع في حي (الزمالك) بالقاهرة يحمل اسمه .
دنلوب قسيس إنجليزي ومبشر خبيث وعات عين في 17 مارس 1897م سكرتيراً عاما لوزارة المعارف ، وكان أول ما فعله هو تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق المرتبط بالعربية ، وإثارة القومية الفرعونية البائدة ، فجعلهم في حيرة بين انتمائين : الثقافة العربية الإسلامية ، والانتماء إلى الفرعونية لغة الأجداد الكفار . وهذا الذي لا تزال تسير عليه مصر في فكرها ولبسها والإعلام المصري خير شاهد على ذلك .
ارنولد توينبي هاجم العربية ورآها لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس الدينية فقط كالصلاة والدعاء شأنها شأن العبرية لغة الكتاب المقدّس .
سبيتا مستشرق ألماني دعا عام 1880م إلى العامية بدل الفصحى .
غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقول: (( ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا ان تكون هي نفسها في أمان )) .
هاملتون جب يقول : (( إن الغرض من الجهود المبذولة لحمل المسلمين على الحضارة الغربية هو تفتيت حضارة الإسلام وتغيير خصائصها جذرياً عن طريق التعليم ، والإعلام ، والثقافة )).
كيمون مستشرق فرنسي له ( باثولوجيا الإسلام ) قال:ــ(( اعتقد أن من الواجب ابادة خمس المسلمين ، والحكم على الباقين بالأعمال الشاقة ، وتدمير الكعبة ، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر )) .
جولد زيهر مستشرق يهودي مجري من أخطر المستشرقين وأشدهم هجوما ، وهو عضو بارز من محرري دائرة المعارف الإسلامية ، ولد 1850م وهلك عام 1921م ، درس في مدارس اللغات برلين ، ليبزج ، فينّا ، رحل إلى سوريا عام 1873م ، تتلمذ على يد الشيخ / طاهر الجزائري ، ثم رحل إلى مصر حنى نضلّع في العربية ، له دراسات في القران و الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله , ، آراؤه عفنة ، وبحوثه مسمومة ، وهجومه عنيف على المقررات العلمية الثابتة .
يوسف شاخت أحد محرري دائرة المعارف الإسلامية ، له كتب في الفقه أشهرها ( أصول الفقه الإسلامي ) .
عطية سوريال مصري الوطن ، مسيحي العقيدة ، شديد الحقد على الإسلام . كان أستاذا بجامعة الإسكندرية .
فيليب حتي لبناني مسيحي ، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية ، كبير الدهاء ، واسع الحيل والمكر ، يخفي حقده على الإسلام بالتظاهر بالدفاع عن القضايا العربية ، كان مشرفاً على الدراسات التي يقدمها الطلاب في التاريخ الإسلامي ، واللغات الشرقية .
اللورد كرومر له كتاب ( مصر الحديثة ) وكتاب ( لغة القاهرة ) , جعل لغة التعليم الرسمية هي الإنجليزية , وقد أشار حافظ إبراهيم إلى محاربة كرومر للعربية بقوله :ـ
قضيت على أم اللغات وإنها قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
هوارد ويلس رئيس سابق للجامعة الأمريكية ببيروت بقول :ــ(( التعليم في جامعتنا ومدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم ، وانتزاعه من قبضة الإسلام ))، ولقد وصل فعلاً خريجو الجامعة الأمريكية ممن غسلت أدمغتهم إلى المناصب القيادية في أكثر البلاد العربية .
ونحن لا ننكر دور المستشرقين في الدراسات الإسلامية ، ولكننا نرتاب في نواياهم !!!
وللحقيقة العلمية فان سؤالاً يفرض نفسه هو : هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟
(( وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق ... اما التيار الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التو فيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.(33/287)
أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية .. وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية. ))27 ومنهم المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد .... الخ .
الاتجاه الثاني :- تعرضت العربية لضربات قاصمة من الخارج شدت أزرها فتن محرقة من الداخل أوهت عزيمتها ومزقت جسدها من أولئك الأذناب من المستغربين الذين يفكرون بالإنجليزية أو الفرنسية ثم يترجمونه إلى اللغة العربية مثل طلبة المستشرقين ، وبعض الذين يوفدون للدراسة في الخارج وكل متعصبي نصارى العرب الذين نبتوا في تربة نصرانية على أصول غربية 0 منهم على سبيل المثال لا الحصر :ــ
رفاعة الطهطاوي : أرسل في بعثة محمد علي إلى فرنسا عام 1826م وكان في الخامسة والعشرين من عمره . (( ذكياً نعم ، نابهاً بين أقرانه نعم ، محبا للعلم نعم ، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر .. غريراً ، طري العود ، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها ... وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم ، انه البارون الفرنسي سلفستر دي ساسي ، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها ، فتتألق معها مفاتن النساء ،، انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس (6) سنوات ، تعلم فيها الفرنسية ، ودرس التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة والآداب الفرنسية ، وقرأ مؤلفات فولتير ، وجان جاك روسو ، ومونتسكيو ، وتعلم فن العسكرية , والرياضيات )) كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن (( تكون خطفاً كحسو الطائر ، وان يكون ما ألفه سطواً على كتب 0 حتى مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درّبوه هناك .. وهذه المدرسة أحدثت صدعاً في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين ،، الأزهر في ناحية , و مدرسة الألسن في ناحية , والوظائف طبعا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون )) 028
طه حسين :ــ ديكارتي المذهب ، علماني العقل والفكر ،عاش حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب بان لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم وتراثهم . قال في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" : (( إن السبيل الى ذلك واحدة وهي ان نسير سير الأوربيين , ونسلك طريقهم ؛ لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها )) ووصل به الولاء لمن تتلمذ عليهم أن يقول في صراحة أن مصر لم تكن قط جزءاً من الشرق وإنما كانت جزءا من حوض البحر المتوسط, وان روابطها الفكرية والروحية والثقافية كانت دائما مع أمم البحر الأبيض المتوسط وليست مع الشرق .... تتلمذ على يد المستشرق ( مرجيليوث ) وأشرف على رسالته ( في الشعر الجاهلي ) التي احدثت ضجة في الأوساط الأدبية , وشرخا في الثقافة الاسلامية ,, وقد ذكر الشيخ/ محمود محمد شاكر (( أن الدكتور طه ، قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي بما كتبه في جريدة الجهاد ، وبما صارحني به بعد ذلك ، وصارح به آخرين ، من رجوعه عن هذه الأقوال . ولكنه لم يكتب شيئا صريحاً يتبرأ به مما قال أو كتب . وهكذا عادة ( الأساتذة الكبار) يخطئون في العلن ويتبرأون من خطئهم في السرّ )) 29.. شكراً لك يا أبا كلود ـــ اسم فرنسي أطلقه على ابنه ـــ شكراً لك يا مؤلف " الخطوة الثانية وإن غضب الغاضبون " .
ولا تزال آثار السموم الفكرية التي زرعها الاستشراق والاستعمار تبرز على أقلام أتباعهم وأجرائهم المتعاطفين معهم حيث لا فائدة منها سوى الهاء الباحثين عن القضايا الهامة إلى الرد على هذا وتفنيد آراء ذاك . فكم من باحث شغل نفسه ووقته للرد على سعيد عقل مثلاً , أو على أنيس فريحة , او على سلامه موسى , أو على عبد العزيز فهمي وهذا الأخير شغل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ثلاث سنين بمناقشات عقيمة حول الكتابة العربية بالحرف اللاتيني كان يمكن استثمارها في قضايا مصيرية مهمة تخدم الأمة واللغة والدين .
المواجهة
الفصحى والعامية تعايش سلمي قديم :
حقيقة كون اللغة واحدة ذات أساس ومرجعية تاريخية ثابتة أما اللهجات الموجودة في الواقع فهي نتيجة طبيعية للعزلة التاريخية والانقسامات الدينية التي رسخت الشرخ الطائفي بين أبناء الأمة الواحدة، واللهجات بشكل عام موجودة في معظم اللغات الحية وفي جميع أصقاع الأرض ولا تخلو لغة من لهجات عامية تختلف من بلد لآخر ويصل الاختلاف أحياناً إلى حد تعذر فهم لغة الشخص الآخر من نفس القومية كما هو الحال في اللغة العربية حيث نجد صعوبة بالغة في فهم اللهجة العربية للجزائري أو المغربي أو الموريتاني أو الصومالي.(33/288)
ففي كل لغة من لغات العالم الحية توجد لغة فصحى وتوجد لهجات عامية محكية ومهما اختلفت اللهجات بحسب المناطق والبلدان فإن المرجعية تكون للفصحى الأساس، ومهما دخلت الشوائب والكلمات الغريبة على اللهجات المحكية فإن الفصحى هي الحصن المنيع والمرجع الأخير لكل الطوائف من أبناء الشعب الواحد.
إن تجاهل كل هؤلاء المستشرقين والمستغربين لمسألة الازدواج اللغوي أي وجود العامية والفصحى في حقيقتها الراهنة في العالم المعاصر ة و إلصاقها بالعربية فقط هو صرف للقضية في غير مسارها الحقيقي ((فالازدواجية ظاهرة عامة لها أصولها ومقوماتها النفسية والاجتماعية وليست ذات صبغة مرضية كما يحاولون تصويرها إذا تكلموا عن العربية , وكأنها انفردت من بين لغات البشر بهذه الازدواجية . وعلى كل حال فان من المبالغة أن نتصور أن هناك ذلك البون الشاسع المتوهم بين عاميتنا وفصحانا خاصة بعد أن خطا التعليم بالناس خطوات واسعة نحو الفصيحة في سائر الدول العربية ... وما حدث تجاه مسألة الازدواجية من تهافت أدلة أولئك الشعوبيين حدث تجاه المسائل الأخرى التي باتت مفضوحة الارتباطات كالدعوة إلى الكتابة باللاتينية التي بلغت حداً من التهافت والسخف جعل أصحابها موضع تندر قبل أن يكونوا جديرين بالرد والنقاش ! ولكن هل انهزم أعداء العربية ؟؟؟ إنهم يعرفون أن هدم ذلك البناء الشامخ غير ممكن ولا ميسر لذلك فانه يكفيهم في كل مرحلة أن يخربوا بعض أطرافه ويقلعوا بعض أحجاره لعله يتاح لهم في المستقبل دك أعمدته وتخريب أساسه ..)) 30 .
لغة مختصرة موجزة : 31
والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجماً يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء (KH) مثلاً ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه ... وفي العربية إشارة نسميها ( الشدة )، نضعها فوق الحرف لندل على أن الحرف مكرر أو مشدد، أي أنه في النطق حرفان، وبذلك نستغني عن كتابته مكرراً، على حين أن الحرف المكرر في النطق في اللغة الأجنبية مكرر أيضاً في الكتابة على نحو (flappe r ) و ( r ecommendation) ... ونحن في العربية قد نستغني كذلك بالإدغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف. فنقول ونكتب ( عَمَّ ) عوضاً عن ( عن ما ) و ( مِمَّ ) عوضاً عن ( من ما ) و (بِمَ) عوضاً عن ( بما ) ومثلها ( لِمَ ) عوضاً عن ( لِما ) .
الإيجاز في الكلمات :/ وبمقارنة كتابة بعض الكلمات بين العربية والفرنسية والإنكليزية نجد الفرق واضحاً :ــ
العربية وحروفها …الفرنسية وحروفها …الإنكليزية وحروفها
أم 2 …mè r e 4 …mothe r 6
أب 2 …pè r e 4 …fathe r 6
أخ 2 …f r ère 5 …b r othe r 7
ومن الإيجاز حالي التثنية و الجمع :ــ
الباب البابان - البابين les deux po r tes the two doo r s
الباب البابان - البابين les deux po r tes the two doo r s
الإيجاز في التراكيب : والإيجاز أيضاً في التراكيب ، فالجملة والتركيب في العربية قائمان أصلاً على الدمج أو الإيجاز . ففي الإضافة يكفي أن تضيف الضمير إلى الكلمة وكأنه جزء منها :
كتابه son liv r e كتابهم leu r liv r e
وأما في الإسناد فيكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه بلا رابطة ملفوظة أو مكتوبة، فنقول مثلاً ( أنا سعيد ) على حين أن ذلك لا يتحقق في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ، ولا بد لك فيهما مما يساعد على الربط فتقول :
( je suis heu r eux ) ، ( I am happy ) .
فمثلاً سورة ( الفاتحة ) المؤلفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة .
والنفي أسلوب في العربية يدل على الإيجاز :
العربية : ( لم أقابله ) ، الإنكليزية : ( I did not meet him )
الفرنسية : ( Je ne l'ai pas r encont r é )
العربية : ( لن أقابله ) ، الإنكليزية : ( I will neve r meet him )
الفرنسية : ( Je ne le r encont r e r ai jamais )
وهكذا نرى أن العربية في عصرنا الراهن عاشت مرحلة صراع دام ضد القوى الخفية والظاهرة ومع ذلك فلا تزال تمارس وظيفتها السياسية والقومية في حفظ الوحدة اللغوية , كما تمارس وظيفتها في الحفاظ على الشخصية العربية والتاريخ العربي والإسلامي .
التحدي الرابع :ــ
الإعلام العربي واللغة العربية
والإعلام : هو التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير ، وروحها ، وميولها ، واتجاهاتها في نفس الوقت (( فهو أولاً وقبل كل شيء يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي , ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا : بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام 32))(33/289)
الاتصال الجماهيري تتسع رقعته يوماً بعد يوم ، فالسماء وما فيها من أقمار صناعية ، والأرض وما فيها من مستقبلات فضائية ، كل يخاطب كلاً ويتصل به (( وقد يكون ميدان الصراع الحضاري الحقيقي اليوم , قد تحول إلى الإعلام , وأصبح التمكن من امتلاك الشوكة الإعلامية , بكل لوازمها ومقتضياتها يضمن الغلبة الثقافية , التي تعتبر ركيزة التفوق الحضاري 33)) حيث ألغى الإعلام كل الحدود الجغرافية والسياسية للدول , فلم تعد الشرائح الاجتماعية تهتم عمّن تتلقى ،، يكفيها أنها تتلقى فحسب .. وهي تنتقل من فضائية إلى أخرى ومن قناة إلى أخرى دون أن تكترث ،، وإن استقرت فإنها تستقر على قناة تعرف لغتها ، لأن العائق اللغوي يلغي مشاهدة أكثر من 70% من المحطات .. والتلفاز هو الوسيلة التي تستهلك اكبر وقت من حياة المشاهدين ، والمذياع في المرتبة الثانية ، ثم الصحف وتليها المجلة .
فإذا افترضنا أن الشرائح الاجتماعية لا تعرف إلا اللغة العربية ، فهذا يعني أنها هي المرشحة للخطاب الإعلامي ، سواء أكانت الفصحى أم العربية الميسرة ( MSA ) . ولكل لغة مستويان على الأقل : المستوى الذي يخاطب الخاصة وهو لغة المثقفين والمتعلمين ، ومستوى حوار العامة في الأسواق والشارع .
هناك شبه إجماع بأن هناك قراراً سياسياً أو إداريا يوجه اعتماد العربية الفصحى لغة للإعلام .
وإدارات الإعلام الرسمية تخطط برامجها على أساس أن الجمهور يقع بين حدين : الأمية ـــ والثقافة ، وما بينهما من درجات ، فتخاطبه بالفصحى ، وباللغة الثالثة ، وبالعامية .
إن أعلى نسبة للفصحى في الإعلام نلاحظها في البرامج التي تعتمد الخطاب الرسمي : كنشرات الأخبار ، والتقارير ، المناسبات السياسية ، والمسلسلات الدينية ... وغيرها ، وأعلى نسبة للعامية نجدها في برامج الأطفال ، والأسرة ، والبرامج المنوعة والترفيهية ، والمسلسلات المعاصرة ، والأغاني بكل لهجاتها .
والتلفاز وسيلة ذات جمهور واسع ، تستغرق اكبر وقت من مشاهدة الناس ، وتجده في كل مكان . كما انه يقدم أنماطاً من السلوك الاجتماعي واللغوي تفتقر إليها وسائل الإعلام الأخرى ، و مما يدل على أهمية هذه الوسيلة الإعلامية ــ رغم أن الصحيفة لها قاعدة عريضة وتستطيع المنافسة إذا أحسن استخدامها وتوجيهها ــ أنه أحكم قبضته على الأسرة واحتل صدر المجالس في الدور بلا منازع ولا منافس وتربع فيها بشموخ منقطع النظير ، وتشير أحدث الإحصاءات أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويا في مشاهدة التلفاز ، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفاز حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9ساعة في المتوسط أسبوعيا بينما يمضى أطفال المجموعة العمرية من 6-11سنة حوالي 20.4ساعة مشاهدة أسبوعيا ، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 54ساعة أسبوعيا لمشاهدين لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد. حيث حول الإعلام بامكاناته الهائلة غرف التعليم التقليدي , بسبوراتها وأقلامها ومقاعدها و وساتلها , إلى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون , أو الانترنت , أو الكمبيوتر .
ولذلك فليس بمستغرب أن نجد انتشار ظاهرة تراجع المستوى الدراسي لأطفال التلفاز فضلا عن تدنى قدراتهم العقلية والخبرات الخاصة نتيجة حرمانهم من ممارسة القراءة , يقول برونو بتلهايم: B r uno Bettelheim : التلفاز يأسر الخيال لكنه لا يحرره أما الكتاب الجيد فإنه ينبه الذهن ويحرره في الوقت ذاته ... فتصبح القراءة ممارسة سطحية ، ويرجع السبب إلى الانتباه المسترخي غير المركز ( السلبية العقلية ) المصاحب للمشاهدة التلفازية الذي يعوق نمو قدرة الأطفال على تفسير المادة اللفظية بطريقة ذات معنى مما يجعل عملية القراءة والتحصيل شاقة جدا وفي ذلك يقول واحد من أبرع كتاب أمريكا إ. ب. وايت E.B. White : لست أعرف حقا ماذا يمكننا أن نفعل من أجل القراءة فيما عدا إلقاء جميع أجهزة التلفاز بعيدا ..إننا في حاجة ملحة لأن نقف وقفة حاسمة تجاه التلفاز نحدد فيها ما يمكن أن نشاهده والقدر من الوقت الذي نستغرقه فإذا فشلنا في هذه الوقفة فعلينا أن نختار بين التلفاز أو أطفالنا .(33/290)
يبين أصحاب الخبرات الطويلة في البحث اللغوي أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها إلى الطبيعة، هو " خلق بيئة فصيحة تنطق بها العربية " ، وان نستمع إليها ونطيل الاستماع ، ثم نحاول التحدث بها ونكثر المحاولات ... فتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل كما أنها تصرف الطفل عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء . فهل يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في إيجاد هذه البيئة .
إننا بحاجة إلى ( تنمية الملكة اللغوية للمجتمع ) أي نقله من مستوى إلى مستوى أفضل ، ومن نمط بال إلى آخر متقدم ، ومن طريقة تعبيرية سوقية إلى أخرى رائعة , إذ ليس من اللائق التستر وراء الشعبية لتسويغ الإسفاف , أو لتسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر إطلاعه على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة الأمية من سقط المتاع , وليس من المقبول كذلك أن تبقى مشكلة الأمية مسوغاً لتدني مستوى لغة الخطاب الإعلامي ، لأننا اذا خاطبنا العامة بلغة الأميين نكون قد أسهمنا في زيادة نشر الأمية ، ولكن إذا خاطبناهم بلغة ارفع نكون قد أفدناهم من جهة ، ولان استمرارنا في ذلك سيجعلهم يتعلمون شيئا ما ، ويقومون باستخدامه في التعبير من جهة أخرى ،، لأن اللغة ضرب من السلوك قبل أن تكون علماً ومعرفة 00
ظواهر سلبية في الإعلام المرئي :ــ
Ok / b r avo /
(1) فشو العامية على ألسنة بعض المذيعين ولا سيما في المقابلات والمحاورات ، رغم أن الصحافة المقروءة استطاعت حتى الآن أن تصون نفسها من الانزلاق في اللهجة الدارجة نوعا.
(2) بعض الألفاظ الأجنبية كثيرة الترداد على ألسنة المذيعين مثل: وهذا العيب قلما نجده في الصحافة المقروءة 0
O r bit / a r t / Lbc / mbc
(3) الإيغال في التفرنج واللهث وراء كل ما يصدر عن الغرب حتى في أسماء القنوات الفضائية من مثل .... والسؤال الذي يفرض نفسه : مادام مضمون برامج التلفزة والإذاعة عربياً وباللغة العربية ، فما المسوغ لهذه الأسماء الأجنبية 0 إن الأجانب بطبيعة الحال لا يلتفتون إلى إذاعاتنا وبرامجنا ، ولا تعنيهم في شيء ، بل لا تحظى بأي قدر من الاهتمام لديهم ، ولا تلامس مشاكلهم ، وبينهم وبينها حاجز اللغة الأصم المنيع .
(4) إن المعول عليه الآن عند توظيف المذيع أن يكون ( فتاة ) يراعى في انتقائها أن تكون حسناء ، يافعة ، رشيقة القد ، مليحة الوجه ، أثيثة الشعر ..... أما ماعدا ذلك من إتقانها اللغة العربية وتجويد أدائها ، وحسن نطق مخارج الحروف .. فهذا أمر لا لزوم للتشديد فيه ، وربما لا يؤبه له . يكفي أن تكون سليمة من عيوب النطق وحبسة اللسان وما عليها في نهاية الأمر ألا أن ترسم ابتسامة على ثغرها 0
(5) ضحالة الأسلوب وضعف الزاد اللغوي لدى المذيعين غالباً ، وسبب ذلك قصور إطلاعهم على أساليب البلغاء وكلام الفصحاء .
(6) لغة الإعلانات :- غلبت الركاكة على اللغة الإعلانية وكثرت فيها الأخطاء والابتذال ، سواء في الصحف أو في التلفاز والإذاعة .. تراها منتشرة في كل مكان ، واللافتات منصوبة على جوانب الطرق ، وفي المحلات التجارية ، والمتاجر عباراتها سوقية عبارات هجينة ، مسفة ..
المواجهة :ـ
(( لذلك لابد أن نجيب في العملية الإعلامية عن السؤال الكبير: " لماذا ؟ " فنجدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي .. ثم نصل إلى السؤال : " كيف ؟ " فنضع الخطط والبرامج ونحدد الوسائل والأدوات في ضوء امكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه , ومن ثم تحديد الإجابة عن : " متى ؟ " وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل )) 34
حلول ومقترحات :ـ
(1)/ أن تستخدم وسائل الإعلام في توعيتها الكلمات الفصحى ، والعبارات سليمة التراكيب التي تجمع بين البساطة في التعبير ،، واحترام قواعد اللغة .
(2)/ قيام وسائل الإعلام بالتوعية المستمرة في حثّ الجماهير على النطق بالعربية الفصحى .
(3)/ ضرورة وجود دائرة من المراجعين المدققين اللغويين ذوي الكفاءة يتتبعون النشرات والتقارير والبرامج الأخرى .
(4)/ تقديم جوائز تشجيعية لكل من يخرج عملاً إعلاميا من لقاء أو مسرحيات أو أغان أو مسلسلات بلغة فصحى مبسطة للجماهير في كل قطر .
(5)/ يجب تقديم دروس تقوية للعاملين بالإعلام ، يكون حضورها إلزامياً في مسائل العربية ونحوها وصرفها .
(6)/ إقامة ندوات لغوية ونحوية للإعلاميين ، وإلقاء محاضرات بين الحين والأخر ، تناقش فيها مختلف القضايا اللغوية والنحوية المتعلقة بوسائل الإعلام .(33/291)
(7)/ إصدار نشرة بأهم الأغلاط الملحوظة ، مع تصويبها وتعميمها على العاملين ليتم تلافيها .
(8)/ عدم قبول أي كادر إعلامي إلا بنجاحه في مادة اللغة العربية ، لأن هذا سيدفعهم للقراءة والمتابعة وتطوير قدراته اللغوية .
(9)/ أن يكون اختيار المذيعين قائماً على جودة اللغة العربية ، وإتقانهم لها ، فكراً وثقافة ، وكتابة موهوبة .
(10)/ زيادة الوقت المخصص للبرامج التثقيفية في اللغة العربية والعمل على رفع مستواها .
(11)/ تعميم لغة مشتركة تقرّب بين اللهجات ثم تلغيها بمرور الوقت .
(12)/ الربط بين الإعلام وأجهزته وبين خطط التعليم والمناهج المدرسية .
(13)/ عرض ترجمات الأفلام والبرامج الأجنبية على المراجعين المدققين اللغويين قبل تسجيلها ، على أن يكون هذا شرطاً لشرائها أو مبادلتها .
(14)/ يفترض في الإعلانات التجارية أن تكون بلغة سليمة ناصعة ، آو على الأقل بلغة وسط بين العامية والفصحى .
(15)/ ينبغي عدم إدخال ألفاظ أجنبية على العربية في لغة الإعلانات ، لأن فيه إهانة لها ، وإنما يتم الترجمة أو التعريب حتى لا يؤدي هذا إلى ازدواجية لغوية .
(16)/ يجب أن تستثمر وسائل الإعلام الدعايات الإعلانية بإلزامها بلغة عربية فصيحة معاصرة ....لأن تأثير الدعاية الإعلانية في الأطفال سريع جداً 0
والله الموفق لما فيه خدمة الإسلام
الأستاذ/ سالم مبارك الفلق
اليمن / حضرموت
alfalagg@yahoo.com
كان الفراغ منه في ليلة 27 رمضان 1425هـ
يوافق : 10 / نوفمبر
==============(33/292)
(33/293)
رسالة المسلم في حقبة العولمة
مشاركة أ.د ناصر بن سليمان العمر
المشرف العام على موقع المسلم
www.almoslim.net
ضمن الأوراق المقدمة إلى
مركز الدراسات الإسلامية بقطر
والتابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
وكان تحريره في ربيع أول/1424
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة المسلم في حقبة العولمة
أولاً: توطئة
العولمة لفظ مأخوذ من (عالَم)، وكما أن الناس اختلفوا فيها ما بين مندد ومسدد، فقد اختلفوا كذلك في تعريفها، ولكن يكاد يتفق الجميع على حد أدنى، وهو اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق1.
فمهما تعدّدت السياقات التي ترد فيها (العولمة)، فإن المفهوم الذي يعبّر عنه الجميع، في اللغات الحيّة كافة، هو الاِتجاه نحو السيطرة على العالم وجعله في نسق واحد. ومن هنا جاء قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بإجازة استعمال العولمة بمعنى جعل الشيء عالمياً.
وكل هذا لا يخرج عن اعتبار العولمة -في دلالتها اللغوية أولاً- هي جعل الشيء عالمياً، بما يعني ذلك من جعل العالم كلِّه وكأنه في منظومة واحدة متكاملة. وهذا هو المعنى الذي حدّده المفكرون باللغات الأوروبية للعولمة Globalization في الإنجليزية والألمانية، وعبروا عن ذلك بالفرنسية بمصطلح Mondialisation، ووضعت كلمة (العولمة) في اللغة العربية مقابلاً حديثاً للدلالة على هذا المفهوم الجديد2.
وتظهر مشكلة العولمة في هذا التعريف، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟ ثم كيف يلزم تاجر صغير كان يعيش في أرضه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، بمزاحمة غيره من العمالقة له في أرضه؟ وإذا كان هذا محتملاً لكون العصفور يرزق مع النسر، وتلك الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً؟ فبأي مبرر تلغى عادات الناس وأنماطهم الاجتماعية؟ ومن الذي يضع الصبغة الجديدة للوحدة الاجتماعية؟ وكيف ألزم بلايين البشر بغسل أدمغتهم، وتنظيفها من فكرهم الأصيل لآخر دخيل؟
ولهذه الإشكالات وغيرها كان من الطبيعي أن يكون في المجتمعات الإسلامية والعربية شبه إجماع بين أطراف الرأي العام السياسي فيها، ماركسيهم وقوميهم وإسلاميهم يقول بأن العولمة، بالموجهات الرئيسة التي تحركها، لا تتضمن أي جديد بل هي شكل من الاستعمار لا تختلف في أهدافها عن أهداف الموجات الاستعمارية السابقة. فلا يمكن لرأس المال المهيمن، وللشركات العملاقة المتعددة الجنسيات أن تنزع نحو أهداف أخرى غير السيطرة على الأسواق وغزو موارد الكوكب واستغلال العمل المأجور والرخيص أنّى وجد. والفرق بين المشروعين الاستعماريين، القديم والجديد، هو أن المشروع الجديد يحتاج إلى التأقلم مع الظروف العالمية التاريخية المتغيرة، أي صعود هيمنة الولايات المتحدة الأحادية على العالم، وتحويل حلف شمال الأطلسي إلى التحالف العسكري السياسي الوحيد في العالم، وفي خدمة مجموعة صغيرة من الدول الصناعية• كما أن الاستعمار الجديد يستخدم خطابا للمشروعية يشدد على قيم نشر الديمقراطية واحترام حقوق الشعوب بدل الخطاب الذي حرك قوى الاستعمار الأسبق الذي ركز بشكل رئيس على قيم تمدين الشعوب الهمجية، أعني كل الشعوب غير الأوربية، وتحضيرها أو إدخالها في الحضارة الفعلية• ولئن كانت للاستعمار الأول أشكال تدخله العسكرية، فإن الاستعمار الجديد يعمد إلى أساليب جديدة، لا تقل فعالية عن السابقة على الرغم من أنها اتسمت بقسط أكبر من الأغطية القانونية• فالتدخل العسكري الانفرادي والمكشوف للدول الاستعمارية قد ترك مكانه3 حتى الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد.
يقول توماس فريدمان مقرراً أن العولمة الحالية نوع من الهيمنة الأمريكية: "خلال التسعينات، أصبحت أميركا وبشكل جلي الأكثر قوة -اقتصاديا وعسكريا وتقنيا- من أية دولة أخرى في العالم، إذا لم يكن في تاريخ البشرية. وقد حدث ذلك، إلى حد كبير، بسبب انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وتحول العالم إلى البديل الرأسمالي المتمثل في اقتصاد السوق الحر، وما صاحب ذلك من ثورة تقنية الإنترنت في أميركا. كل ذلك أدى إلى هيمنة شديدة لقوة الولايات المتحدة وأفكارها الثقافية والاقتصادية المتعلقة بكيفية تنظيم أمور المجتمع، هيمنة ظهرت بجلاء من خلال العولمة، إلى درجة أن أميركا بدأت بالتأثير على حياة البشر في أنحاء المعمورة، بطريقة فاقت حتى تأثير الحكومات على شعوبها، كما قال لي دبلوماسي باكستاني ذات يوم.
أجل، لقد بدأنا بالتأثير على حياة الشعوب -بشكل مباشر أو غير مباشر- وبدرجة تفوق تأثير حكومات تلك الشعوب"4.
ثانياً: العولمة والسنن(33/294)
كان الناس في عصرهم الأول نموذجاً مثالياً لعولمة حضارية، وحدة على مستوى البشرية جمعاء؛ فكرية ثقافية، سياسية، اقتصادية، وكان ذلك وفقاً لمنهج الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ثم جاءت الأذواق والأهواء بعجرها وبجرها، فحاولت جبابرة القرون -جيلاً بعد جيل- رفض الكتاب الذي أنزل ليقوم الناس بالقسط، موظفةً الحديد والنار في محاولات شتى لفرض أضرب من "العولمة" بل لفرض نفوسهم ونفوذهم على العالمين، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم)5 ، (وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)6.
إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال سبحانه: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم ~ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)7 ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون)8، "أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون"9.
فاقتضت حكمته -سبحانه وتعالى- وجود الخير والشر في هذا الكون (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)10، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ~ إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)11، (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير)12، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ~ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ُيدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)13.
وكما اقتضت حكمته وجود الخير والشر، جرت سنته بدوام التدافع بينهما، فقد جعل الله الأيام دولاً، (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)14، (.. ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)15، (وتلك الأيام نداولها بين الناس)16.
غير أن العاقبة للتقوى، فصاحب الحق يجب عليه أن يستعين بالله ويصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ~ إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ~ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)17.
فالناس من حيث المآل فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، وعلى الأعراف فريق ثالث مآله إما إلى جنة أو إلى نار، فالمحصلة فريقان.
أما في الدنيا فصراع أهل الحق مع أهل الباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في أرض الله من يقول الله الله، وعندها تقوم الساعة على شرار خلق الله.
كما أن أهل الباطل طوائف مختلفة ولكن مآلها واحداً، تجمعهم أهواء وأهداف مصالحهم الضيقة، فيتداعون لحرب من يعارضهم من أهل الحق، كما أخبر r (توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة على قصعتها)، ولكن هم مع ذلك طرائق قدداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
ولما كان الناس كذلك، فقد راعت شريعة الإسلام العالمية هذه السنة الكونية، فجاءت تشريعات الإسلام معتبرة للفروق بين ما يجب التفريق فيه كالأديان، فأصحابها بين متبع للباطل ومتبع للحق، فهم متباينون، ومن الجور التسوية بين المتباينين، و لا يمكن أن يسمى هذا عدلاً.
وجاءت كذلك ملغية للتفرقة فيما تلزم المساواة فيه، كالتفريق بين الناس على أساس الأعراق بينما هم كلهم لآدم وآدم من تراب.
أما النظام العالمي الأمريكي فله حقيقة ودعوى تجاه هذه المسألة:
أما حقيقته، فهي فرض للهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة الأقوى،على كافة الشعوب والمجتمعات، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار كما سبق، وقد اعترف بنحو هذا بعض الأمريكيين كالكاتب الصحفي (توماس فريدمان).
أما دعواه فهي زعم أن النظام العالمي الجديد قائم على عدم التفريق بين الناس على أي أساس، سواءً أكان ديناً أو عرقاً، رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، فلا فرق البتة، ولست هنا في مقام مناقشة تفصيلية لهذه الفكرة.
ولكن يكفي القول بأن العدل هو التسوية بين المتساويين والتفريق بين المختلفين، وإن إلزام المختلفين بفعل واحد أو سلوك طريق بعينه سيكون مجحفاً في حق بعضهم.(33/295)
كما أن اعتبار الفروق لامناص منه، والواقع التطبيقي العملي الفعلي اضطر هؤلاء لاعتبار بعض الفروق، فعلى سبيل المثال، لماذا يمنع غير الأمريكي مثلاً من الترشح لحكم أمريكا؟ أليست المساواة تقتضي جواز ترشح أي إنسان سواء جاء من إحدى الولايات أو جاء من إحدى القارات؟ كذلك لماذا يمنع من كان دون سن معينة من الترشح؟ ومع ذلك لم نر أحداً خرج يطالب بحقوق الشباب! إذاً فلابد من ضوابط ومحددات، وهذه المحددات هو ما يرفض العالم أن تكون أمريكا هي صانعتها، وبخاصة في بلداننا.
وأخيراً أشير إلى فشل هذا النظام في إلغاء هذه الفوارق حتى بين مصدريه من أبناء الملة الواحدة، فهذه بريطانيا تعيش ردحاً من الزمن أزمة سياسية ثقافية اجتماعية عجزت أن توحد فيها بين رؤى الجيش الأيرلندي الكاثوليكي الذي يسعى للانفصال، وبين الوحدويون البروتستانت، ومازلنا نسمع بين الفينة والأخرى نبأ انفجار عبوة وضعها متطرفون بروتستانت، أو مقتل بروتستانتي برصاص كاثوليكي أو اشتباكات بين كاثوليك وبروتستانت، كل ذلك في الدولة التي تعد الحليف الأول لراعية العولمة الجديدة!
وقل مثل ذلك عن الجيش الأحمر الياباني الوثني، وجيش التحرير الكوبي الشيوعي.
وكم من مرشح غربي فاز في الانتخابات العامة بسبب برنامجه الاقتصادي الإصلاحي!
وبعد ذلك يريد النظام العالمي الجديد أن يقنعنا بإمكانية إلغاء سنة كونية لن تنتهي إلاّ بنهاية هذه الدنيا.
ثالثاً: مجالات العولمة
أولاً: العولمة الاقتصادية.
يتحدث الناس عن مجالات مختلفة للعولمة، منها الاقتصادي، ومنها الثقافي، ومنها الإعلامي، ومنها السياسي، ومنها العسكري، وغير ذلك.
وهذه لمجالات متداخلة فيما بينها، يصعب فصلها، غير أن الثلاثة الأولى هي مفاتيح أنماط العولمة الأخرى وأهم آلاتها، فالاقتصاد والثقافة والإعلام، هي التي تصنع المجتمعات فالسياسات وما يتبعها. فلهذا ولأن تفصيل الحديث عن أنماط العولمة المختلفة يحتاج إلى جهد وبسط ربما طال أمده، أكتفي في هذه الدراسة بالإشارة إلى الأنماط أو المجالات الرئيسة للعولمة.
الأسئلة التي سبق طرحها يعاد طرحها مرة أخرى لفهم المشكلة الاقتصادية، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟
ولأن هذا نذر يسير من الأسئلة والإشكالات، فلا عجب أن تشهد (براغ) عنفاً لم تشهد مثله منذ قرون! فقد انقلبت العاصمة التشيكية في سبتمبر من عام ألفين رأساً على عقب، ففي اليوم السادس والعشرين تلقى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من خلال شبكة الإنترنت رسالة تحدد موعداً للقيام بتحرك في مدينة (براغ) التشيكية، وتطالب الرسالة أولئك الذين تلقوها، بالحضور في الموعد المحدد من أجل المساهمة في التظاهر ضد العولمة والرأسمالية العالمية. للاحتجاج على الشركات والمؤسسات الكبرى التي أصبحت تتحكم بمصائر العالم من خلال تزايد نفوذها اكثر فأكثر وما يتبع ذلك من آثار مأساوية على العديد من شعوب العالم وخاصة الفقيرة منها المستثناة عملياً من دورة المناقصة التجارية.
وقد تم اختيار الموعد على ضوء انعقاد المؤتمر السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في مدينة (براغ) نفسها، ومما يلفت النظر أن الدعوة وجهت خطاباً خاصاً لمن سبق له التظاهر ضد العولمة في (سياتل) و(ملبورن) و(لندن).
ويرى بعض الغربيين: أن العولمة الرأسمالية والحركات النقابية والعمالية والاجتماعية المضادة لها سيكون بينهما صراع كبير في القرن الحادي والعشرين، وقد ابتدأ بالفعل هذا الصراع في مطلع القرن الحادي والعشرين في مدينة (سياتل) بأمريكا -معقل فكرة العولمة- عام (1999). فمؤتمر (سياتل) الذي اجتمعت فيه معظم الحركات والمنظمات المضادة للعولمة استطاع أن يكشف مؤتمر التجارة العالمية الذي يضم قادة العالم الرأسمالي18.
إذاً فمناهضة العولمة حركة عالمية لا تخضع لأيديولوجية معينة بمعنى أنها ليست محصورة في إيديولوجيا كالماركسية مثلاً وهذا ما كان يحصل للحركات النقابية العمالية سابقاً، بل هي حركة تتجاوز القوميات والأقطار وتعمل لصالح العمال والفلاحين والمضطهدين في شتى أنحاء العالم، كما يزعم أنصارها.
وهدف هذا الطيف المتباين وهو: محاربة الليبرالية أو الرأسمالية الجديدة بل قل العالمية الجديدة، التي تريد أن تلغي الآخر وتحكم للأقوى بالسيادة والبقاء، ولذا يرى كثير ممن لا تجمعهم أيديولوجية أن العولمة آفة متوحشة تحتقر الإنسان والفقراء و المهمشين والعاطلين عن العمل، سواء كان ذلك على نطاق الدول الرأسمالية ذاتها أو على نطاق دول العالم الثالث، فإنها تؤدي إلى كم من المآسي في نهاية المطاف.(33/296)
وهذه الحركة الجديدة المضادة للعولمة الرأسمالية ليست أحادية الجانب وليست متفقة بالضرورة على كل شيء بل كما يقول بعض دعاتها: "إنها ليست حزبا نمطيا ببغائيا يقول نفس الشيء عن كل شيء على الطريقة الشيوعية السابقة، ومن يتأمل حالها يجد فيها كل الاتجاهات: من أحزاب الخضر المدافعة عن البيئة، إلى الأحزاب الاشتراكية، فالحركات السلمية فالحركات الإنسانية، فحركات تحرر المرأة، وغيرها"19.
بعضها يتعاون فيما بينه، وبعضها يعمل مستقلاً لتحقيق نفس الهدف.
وكما أن الأيديولوجيات المناهضة للعولمة مختلفة، فإن الاستراتيجيات التي اعتمدتها الجهات المناضلة مختلفة، فبعضهم يتبع استراتيجية عنيفة إلى حد ما، كما فعل النقابيون الفرنسيون الذين هجموا على المطاعم الأميركية في بعض مناطق فرنسا، وكان ذلك بقيادة (جوزيه بوفيه) ليصبح بذلك المناضل المعروف في الوقت الحاضر!
ومن الطريف أن الرجل عندما قدم للمحاكمة في شهر يونيو من عام ألفين بتهمة تخريبه لأحد مطاعم (ماكدونالدز) تجمع في فرنسا نحواً من 40 ألف شخص للاحتجاج على تقديمه للمحاكمة.
فقد كان هدفه وهدف من معه ظاهراً بالنسبة لهم وهو لفت الأنظار إلى خطورة الأغذية الصناعية، والدفاع عن الأغذية الطبيعية أو الصحية، وهو هدف مشروع في وقت لا تبالي فيه الرأسمالية العالمية بتسميم اللحوم، وتشكيل خطر حقيقي على الصحة العامة، ومن براهين ذلك عندهم قضية البقرة المجنونة وقضايا أخرى مشابهة، فالرأسماليون من شدة حرصهم على الربح بأسرع وقت ممكن وبأكبر قدر ممكن، لا يتورعون عن تقديم اللحوم المطحونة كغذاء للحيوانات بدلا من العلف النباتي!
وقد قال توماس فريدمان معلقاً على مظاهرات سياتل، كلمة يصح لمتظاهري (بوفيه) قولها، قال: "لقد كان لمظاهرات سياتل جانبها الأحمق، لكن ما أراد المحتجون الجادون طرحه هناك كان: "يا أميركا، إنك الآن تؤثرين على حياتي بشكل يفوق تأثير ما تفعله حكومتي. إنك تؤثرين علي بنفس أسلوب تغلغل ثقافتك في ثقافتي، وبنفس أسلوب تسريع تقنياتك لتغيير جميع مناحي حياتي، وبنفس الأسلوب الذي فرضته إجراءاتك الاقتصادية علي، إنني أريد أن أدلي برأيي في كيفية فرضك لقوتك، لأنها الآن باتت قوة تشكل حياتي".
عوداً على بدء، فما اتبعه (جوزيه بوفيه) استراتيجية، وبعض المناهضين للعولمة قد يلجأ إلى استراتيجية أخرى أشد، ومن هؤلاء أولئك الذين جعلوا برجي التجارة العالمية أثراً بعد عين.
ومنهم من يكتفي بمسيرات يحشد لها مئات الآلاف كتلك التي خرجت في بوليفيا عام ألفين بمناسبة خصخصة شركة المياه.
إن هذا الاعتراض العالمي على ما يسمى بالعولمة الأمريكية هو الذي حدا بتوماس فريدمان للتساؤل: لماذا لم تتهيأ الأمم عسكرياً ضد الولايات المتحدة؟
قال: "يجيب مايكل ماندلباوم، مؤلف كتاب "الأفكار التي غزت العالم" قائلا: "تطرح واحدة من أبرز مدارس العلاقات الدولية -مدرسة الواقعيين- أنه متى ما برزت قوة مهيمنة، كأميركا، في النظام العالمي، فإن دولا أخرى ستحشد جهودها بشكل طبيعي ضد هذه القوة. لكن ولأن العالم يدرك بشكل أساسي أن هيمنة أميركا (سلمية)، فان عملية التصدي لها لا تتخذ شكل العمليات الحربية. وبدلا من ذلك، تصبح مسعى لكبح جماحها، باللجوء إلى قواعد منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة -وبقيامها بذلك فإنها تطالب باستخدام حق النقض (الفيتو) في ما يتعلق بكيفية تفعيل قوة أميركا".
وهناك أيضا سبب آخر لرد الفعل غير العسكري وهو أن بروز أميركا كقوة مهولة حدث خلال عصر العولمة، حيث باتت الاقتصاديات متشابكة للغاية، إلى حد أن الصين وروسيا وفرنسا، أو أي تجمع منافس آخر لا يمكنه إلحاق الأذى بالولايات المتحدة بدون إصابة اقتصادياته بضرر ما.
ثم ذكر أن الناس الوحيدين الذين بإمكانهم إلحاق الضرر العسكري هم من ليست لهم أي مصالح مع النظام الدولي، ومثل بأسامة بن لادن.
وأضيف سبباً آخراً على ما ذكراه، وهو أن أصحاب القرار والنفوذ والأموال في العالم ليس من مصلحتهم حرب العولمة، وهؤلاء هم القطاع المؤثر الحقيقي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قرارات الدول.
فإذا كانت المعارضة للعولمة حدت بطرح هذا التساؤل، وهذه الآراء في الدول الغربية لكون الفارض والمسيطر دولة أخرى، فإن ما يسمى بدول العالم الثالث أشد معارضة لهذا النظام، والإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، فكيف تخضع هذه الأمم لغير الشرائع الإلهية أو الأحكام الدينية، ثم إن الدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية المبنية على مصلحة مجتمع ما، ليس من العدالة فرضها على المجتمعات الأخرى.
العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والعولمة:
يتميز النظام الاقتصادي الإسلامي بميزتين متناقضتين، الأولى فيما يتعلق بتشريعاته وأحكامه، والثانية فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، أما الأولى: فهي مُنَزّلة من لدن حكيم خبير، ولهذا جاءت تشريعاته الاقتصادية -كشأن سائر تشريعات وأحكام دين الإسلام- وسطاً بين النظام الاقتصادي الاشتراكي الشرقي المجحف، والنظام الرأس مالي الغربي الجشع.(33/297)
فالإسلام يحث على العمل والكسب وفي الصحيحين: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من تذرهم عالة يتكففون الناس)20، ولكن جعل للكسب ضوابط تحكمه وفقاً لمصالح عامة وحكم عظيمة، فأحل الله البيع وحرم الربا، ونهى عن معاملات كالاحتكار، وأنواعٍ من البيوع المحرمة، وحض على أخرى كعقود الإرفاق التي تجاوز فيها عن أمور راعاها في عقود المعاوضة، ووضع شروطاً تؤثر في الحكم على العقود وتبين الصحيح من الفاسد.
ثم أوجب في المال المكتسب حقاً معلوماً للسائل والمحروم، وأيضاً ندب إلى إخراج جزء منه كصدقة، كل ذلك وفق ضوابط ومعاير محكمة دقيقة.
ولم يكتف الشارع في النظام الإسلامي بسن القوانين التي تنظم العملية الاقتصادية المجردة، بل سن كذلك التشريعات التي تحكم الأخلاقيات والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المتعاملون.
وقد بدأت البنوك العالمية في الاستفادة من نظرية البنك الإسلامي، والذي من صوره ما يعرف بالبنوك التساهمية، التي تقوم على أنواع من المضاربات وقد يتحمل فيها الزبون كلاً من الربح والخسارة مع الخضوع لمتغيرات السوق في تحديد معدلات الفائدة على رؤوس الأموال والودائع.
أما الميزة الثانية فهي عكس الأولى، وذلك فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، فهذه تتميز -في العقود الأخيرة- بالعقم والقصور، على الرغم من وجود الموجهات التشريعية التي تحث على إتقان العمل والإعداد وحسن التفكير والسياسة والتدبير.
وما زال هذا القصور قائماً والتقصير متواصلاً حتى يومنا هذا على الرغم من إمكانية الاستفادة من وسائل التقنية العالمية، وربما كان السبب في هذا التأخر والقصور هو مشاكل الإدارة العامة والخاصة التي يعاني منها المجتمع المسلم في كافة مؤسساته على اختلاف مستوياتها اللهم إلاّ القليل النادر.
أما نظام العولمة الحالي فهو قائم على تحكيم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي في العالم، وهو النظام الذي تعطبه سلبيات عدة، من أهمها عدم ضبط مسألة تضخيم الأرباح ولو كانت على حساب موت الآخرين جوعاً، فوفقاً لقوانين هذا النظام ليس هناك ما يمنع أن تلقي دولٌ الفائض من إنتاجها في البحر حتى تحافظ على سعر المنتج، بينما يموت آخرون بسبب فقده، كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحكمه نوازع الشركات متعددة الجنسيات العملاقة أو حتى الشركات المحلية منها.
كما أنه لا مجال فيه لتشريعات سمحة تنظر إلى ميسرة، أو تأخذ صدقة من أغنيائهم فتردها إلى فقرائهم، أو تبطل بيع ما لا نفع فيه، أو تمنع ما لم ينضبط جانب الغنم أو الغرم فيه، أو تفسد من المعاملات ما كان فيها جهالة أو غرر، أو تحرم سلعاً لمفسدتها فتمنع من التعامل بها ... إلى غير ذلك.
"ومما لا شك فيه أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تحولات ضخمة على الصعيد العالمي كله نتيجة لهذا النظام فأصبحت المؤسسات متعددة الجنسية المائة الكبرى في العالم تتحكم بـ 20% من إجمالي أموال العالم كما أن 51 % من أكبر قوة اقتصادية تسيطر عليها مؤسسات كبرى بينما لا تسيطر الحكومات سوى على الـ49 % الباقية فقط ويبدو في الإطار نفسه من المقارنة بأن مبيعات شركات (جنرال موتورز) و(فورد) مثلاً تفوق الناتج القومي الإجمالي لجميع دول جنوب الصحراء في القارة الأفريقية، وتتجاوز ممتلكات شركات (آي.بي.ام) و(بي.بي) و(جنرال إلكتريك) الإمكانيات الاقتصادية التي تمتلكها معظم البلدان الصغيرة في العالم، كذلك فإن دخل بعض محلات (السوبر ماركت) الأمريكية قد يزيد على دخل معظم دول وسط أوروبا وشرقها! بما فيها بولندا، والمجر ورومانيا ... الخ.
وللوصول إلى هذه المراحل دخلت المؤسسات الضخمة في شراكات مريبة من أجل تعزيز نفوذها المالي والاقتصادي، لتكون النتيجة بالتالي التحكم في كل ما يحتاجه الإنسان العادي حتى في أبسط حاجات حياته اليومية.
وهذا يسميه بعضهم بـ(الاستملاك الصامت)، أو قل بعبارة أدق (الاستعباد الصامت) حيث أصبحت الحكومات مغلولة الأيدي، والناس مقيدين بشروط تفرضها المؤسسات الكبرى التي تحدد قواعد اللعبة حسب مصالحها الذاتية والتي لا تملك الحكومات سوى تنفيذها، فهذه الحكومات غدت ترى أن من واجبها الأول تهيئة الظروف المواتية لازدهار المؤسسات المعنية وتوفير البنى الأساسية التي يحتاجها رجال الأعمال بأرخص التكلفة وحماية نظام التجارة الحرة في العالم.
وهذا ما سيضطر حكومات الدول النامية في نهاية المطاف للانصياع الكامل لشروط (اللوبي) الدولي"21، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات احتجاجية قوية كالتي أشرنا إليها سابقاً، لا يربطها شيء ولا تجري في إطار حدود جغرافية معينة، فالمنادون بها لا تربطهم صلات ثقافية أو تاريخية مشتركة، فهم جماعات وجمعيات أهلية متنوعة يجمعها هدف واحد محوره استعادة الشعوب لحقها في الاختيار وفي تقرير مصيرها، وكلها يحذر من مغبة المضي في هذا الطريق الوعر الذي سيكون من نتيجته تكرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم.(33/298)
ومن بعض ثمار هذا النظام دخول أكثر من 75 دولة القرن الحادي والعشرين، وهي خاضعةٌ كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمةً لإرادته، منفذةً لسياسته، وذلك تجنباً لإعلان عجزها وإفلاسها. وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتوجيه اقتصادياتها نحو عدم النموّ، ونحو تخفيض الإنفاق، ونحو وقف الدعم لبعض المواد الاستهلاكية التي تقدمها لمساعدة شعوبها الفقيرة.
فلا عجب إن أثبتت دراسات الأمم المتحدة أن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء. وهذا يعني أن كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية، وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنغلاديش حتى موريتانيا، فحكوماتها تحت وطأة تضخم ديونها لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية والوقائية.
ومن ثمار ذلك أيضاً أن ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك بعض المؤسسات والشركات ما لا تمتلكه دول مجتمعة!
وأخيراً وهو من الأهمية بمكان، النظام العالمي الاقتصادي نظام لا يخضع لأي تشريع إلهي، فما قضى به الرأسماليون هو التشريع الماضي سواءً خالف الوحي المنزل أو وافقه، فالدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية والتي تمثل مصالح القطاع المالك هي التي تحكم، وليست النصوص والقوانين الإلهية المقدسة.
ولا شك أن نظام الإسلام هو النظام الجدير بأن يكون النظام العالمي البناء، والذي تعود مصلحته على جميع الشعوب سواءً أكانوا ضمن القطاع المالك المنتج، أو المستهلك المستخدم، وما يطلب من بني الإسلام ورواده، وخاصة أهل التخصص الاقتصادي والسياسي والإداري هو العمل على إيجاد آليات فعاله وأجهزة ومؤسسات تنفيذية، تتبناه وتبني اقتصاد دولها عليه، ومن ثم تبين محاسنه وتدعو الآخرين إليه، وعندها لن تستطيع الدكتاتوريات الوقوف أمامه إذا أقنعت الأمم به وتحولت الشعوب إليه، ووجدت فيه بديلاً لتلك المؤسسات الضخمة التي تحكمت في كل صغيرة وكبيرة من حياتها وكادت أن تملكها.
ثانياً: العولمة الثقافية.
الثقافة لفظ عام ولعل ما يهمنا هو مفهومها عند دعاة تصديرها وعولمتها، أو بتعبير أدق عند من يملك الآلة المادية لتصديرها وفرضها، فكلمة cultu r e التي تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب وقد يعطونها أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: تعهد، تهذيب، رعاية.
وعند النظر إلى اصطلاح الثقافة عند الغربيين نجد أن من عرفها لا يخرج كثيراً عن معناها اللغوي ورغم تباينهم في ضبطها بحد جامع مانع، إلاّ أنهم يتفقون على أهمية العقيدة ودور الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان22.
وما تهدف إليه العولمة الثقافية هو إيجاد ثقافة عالمية، تعني بتوحيد القيم، حول المرأة والأسرة , وجميع ما يمكن أن يندرج تحت لفظة (الثقافة)، فهي توحيد للثقافات بغير حدود، وآلة ذلك الإعلام بوسائله المختلفة، والاتصالات بقطاعاتها المتعددة. وهذه العولمة مبنية على سرعة انتشار المعلومات، وسهولة حركتها مع إمكانية الوصول إليها بغير رقيب أو حسيب.
ولا يكاد يؤيد العولمة الثقافية المطلقة في المجتمعات الإسلامية والعربية إلاّ بعض الحداثيين الذين لا يدينون بقضية ولا يعترفون بهوية، فهؤلاء لا تحمل العولمة عندهم أي تهديد ثقافي، بل تقدم فرصا لتجاوز نهائي وحاسم للخصوصيات المريضة، والموروثات الثقافية التي سيطرت على المجتمعات العربية في الحقبة الماضية. وهؤلاء شراذم قليلة في أغلب المجتمعات، وخاصة الإسلامية.
أما بالنسبة للآخرين، على تعدد مشاربهم القومية والدينية، فالعولمة تعني بالضرورة اختراق البنية الثقافية المحلية، وتفاقم مخاطر الاستلاب والغزو والاستعمار الثقافي، بل مخاطر محو الهوية ونزع الخصوصية الشخصية، التي ما زالت الأمم تضحي بالأرواح في سبيل الحفاظ عليها.
وإذا علمنا -استناداً إلى إحصاءات الأمم المتحدة- أنه قد اقتُلع أكثر من 75 مليون إنسان من بيوتهم في الربع الأخير من القرن العشرين بسبب الحروب والصراعات الدينية و الإِثنية والقبلية، فإنه لا يمكن أن نعلل ذلك بغير حرص الناس أياً كانت مشاربهم على الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم، ورفضهم تسلط أي أفكار أو ثقافة دخيلة على المجتمعات.
والناس إزاء رفض هذا النوع من العولمة طوائف تتعدد رؤاهم بحسب أفكارهم وهوياتهم منهم الساذج الذي يرفض العولمة الثقافية لأن ما جاءت عَبره من وسائل حديثة ومبتكرات عصرية سوف تقتل الحس الشعري والإبداع القريحي الفطري! وقد عبر عن ذلك بعض الأدباء المعاصرين ممن يشار إليهم بالبنان قائلاً: " مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة. ولا أقمار صناعية. ولا تلفونات موبايل …ولا إنترنت"!
وآخرون يرون في قبولها جملة تغيير للدين، وقتل لكثير من حميد السلوك والأخلاق، وطيب الخصال والعادات، ودعوة تبيعة ذيلية للغرب.(33/299)
والذي يتأمل واقع الناس اليوم يلحظ أن العالم يشهد تطوراً مطرداً في مجال الاتصالات والإعلام وسائر العلوم التجريبية المختلفة، وعلى الرغم من هذا التقدم المذهل، وعلى الرغم من دعاوى العولمة تظل نسبة المالكين لهذه المبتكرات محدودة جداً.
فالإحصائيات تفيد بأن حوالي: "15 بالمائة من سكان العالم يوفّرون تقريباً كلَّ الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة، و50 بالمائة من سكان العالم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا استهلاكاً أو إنتاجاً، و بقية سكان العالم، 35 بالمائة، يعيشون في حالة انقطاعٍ وعزلةٍ عن هذه التكنولوجيا"23.
أما براءات الاختراع المسجلة فقد نبهت هيئة اليونسكو في تقريرها العلمي الأخير، إلى تدني نصيب الدول العربية من براءات الاختراع التكنولوجي على مستوى العالم، حيث بلغ نصيب أوربا من هذه البراءات 47.4%، وأمريكا الشمالية 33.4%، واليابان والدول الصناعية الجديدة 16.6% وبقي حوالي 2.6% يتنافس فيها العالم.
ولا يرى بطبيعة الحال دعاة العولمة أن من واجبهم أو واجب المؤسسات إشاعة المعرفة التي توصلت بها شركة أو مؤسسة إلى ابتكار ما أو اختراع، ولكن غاية ما هناك أن يستغل نفوذ الإعلام وتطوره المذهل في تصدير الدعاية لاستهلاك تلك المبتكرات العلمية، بالإضافة لثقافات أخرى تراها الشعوب المصدرة حريات تفخر بعرضها، وأفكار من واجبها الدعوة إليها، وكثير منها وسائل قصدوا بها تغيير فكر وثقافة الآخر وصهره في الفكر الحداثي الغربي.
وقد نسب الفرنسي (جيل كيبيل) الخبير في الشؤون الإسلامية والذي تحدث عن حتمية دخول العالم الإسلامي في الحداثة، وانصهار المسلمين في الديموقراطية، نسب الفضل في التحول المرتقب نحو العولمة إلى ثورة الاتصالات والمعلوماتية التي ستدخل فضائل الديموقراطية في وعي الأمم الإسلامية.
وإذا تأملت حال بعض الشعوب وجدت ذلك جلياً، فأي شعب من شعوب ما يسمى بالعالم الثالث أثرت فيه الثقافة الغربية المصدرة، فجعلت من شبابه رجالاً يحاكون (توماس أديسون) في المثابرة والتحصيل، أو يسيرون على خطى (آينشتاين) في البحث والتأصيل؟
كم عدد هؤلاء؟ وما نسبتهم إلى من يترسمون خطى (شوارزنجر) و(جيمس بوند) ويتابعون جديد أستاذ ثقافتهم (هوليود)!!
حتى غدا المثقف -للأسف- عند كثير من هؤلاء هو من يعرف أشهر الأفلام وأبطالها، والجاهل الأضحوكة من يخلط بين (بوب مارلي) و (مايكل جاكسون)!
بل أصبح المثقف في ذهن كثيرين هو الذي يعرف بعض مشاهير الغربيين من ممثلين وفانين ولاعبين وغيرهم من حثالة المجتمع، والأدوار التي قاموا بها، والبطولات التي حققوها! وعلامة الثقافة عندهم أن يذكر هؤلاء في كتاباته ومقالاته!
وهذا الفهم هو ما يريده الغربيون بعولمة الثقافة، فهم يريدون أن تطغى الثقافة الحداثية (الغربية) على كافة الثقافات، وقد صرح عدد من أعمدة الفكر الغربي المعاصرين مثل (فرنسيس فوكوياما) أن عولمة الثقافة لا تتأتى إلاّ بسيطرة ثقافة معينة على الثقافات المتعددة.
فليست العولمة الثقافية إذاً انتقالاً من ظاهرة الثقافة الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة تسمى بالثقافة العالمية، بل هي اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، وبخاصة ثقافتنا العربية والإسلامية .
ووفقاً لفرضية (فوكوياما) في (نهاية التاريخ و الإنسان الأخير) فإنه يرى أن الحداثة هي التي ستطغى وتظهر في المجتمعات الراديكالية، وأن مصير الراديكاليات إلى زوال وسقوط بما في ذلك الراديكالية الإسلامية التي لا يمكن أن تكون عالمية24، وهذا ما أيده العديد من خبرائهم المختصين، وقد سبقت الإشارة إلى كلمة (جيل كييبل). غير أنهم يرون سقوط جميع الراديكاليات حصل فعلياً بما فيها الشيوعية، غير أن الإسلام (الراديكالي) لا يزال يسبب إشكالات، ولكن حربه ومنعه من إقامة تحالفات مع الكونفوشستية الصينية، وقيام النظم العلمانية كفيل بحل النظام الإسلامي.
صورة الغلاف الأخير من كتاب فوكوياما وفيها بعض ما قيل فيه من مدح وتأييد
هذا ما زعموه، ومع أن حلهم المقترح هو الواقع الماثل فلا تحالف للإسلاميين مع ثقافات كونفوشسانية و لا غيرها، كما أن الحرب مستعرة على الإسلام، وكثير من دول المسلمين علمانية، لا يتجاوز حكم الإسلام فيها قانون الأحوال الشخصية. ومع ذلك (مشكلتهم!) لا تزال قائمة تزداد يوماً بعد يوم.
ومع أني لست أدري لماذا تعتبر العلمانية حلاً يمكن أن يجيء بالديمقراطية والليبرالية والثقافة التي يدعون إليها، مع أنها جاءت في الاتحاد السوفيتي -بعد سقوطه- بالشيوعية والاشتراكية مرة أخرى! وجاءت في بعض الدول بقوميات ما أنزل الله بها من سلطان!
ومع أن هذا الرفض للتبعية الغربية أو لمحاولات الاستنساخ لا ينفرد به أصحاب الاتجاهات الإسلامية وحدهم، وإنما هو موقف لكافة التيارات الوطنية والقومية المتباينة اللهم إلاّ ممسوخوا الهوية من الحداثيين، وهؤلاء لا يخالفون بقية القوى الوطنية، بل يخالفون العالم أجمع في سبيل موافقة الغرب.(33/300)
ومع أن واقع الدول الإسلامية بعيد كل البعد عن تمثيل من ينعت بالأصولية الإسلامية! بخلاف بعض الدول الأخرى التي نجد للتيارات الأصولية دوراً فاعلاً فيها، فتنامي دور الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، واليهودية في إسرائيل، والهندوسية في الهند، لا يجوز غض الطرف عنه، فإن تأثيرها على القرار السياسي أصبح قوياً في تلك البلدان، كما أن تأثير الاشتراكية كان و لا يزال في دول أخرى، في حين أن ما يسمى بالأصولية الإسلامية مازالت خارج دائرتي، التمثيل الثقافي الرسمي، والقرار السياسي، بل هي قوى مطاردة في العالم العربي على الأقل25.
مع كل هذا فإن هؤلاء (المفكرون!) يتصورن أن مشكلة المسلمين في النظام الإسلامي الجذري أو (الراديكالي) كما يقولون!
إن هذا التصور الخاطئ يمثل أول الإشكالات التي تكتنف العولمة.
والإشكال الثاني هو في إصرار الباحثين الغربيين على اعتبار التغريب معياراً وحيداً للحداثة، التي ينبغي أن يتبناها العالم ليصل إلى الرقي والتحضر.
والإشكال الثالث: هو اعتبارهم أن الحداثة هي الثقافة التي يجب أن تفرض على الجميع. وأخيراً الإشكال الكبير وهو عدم اكتشاف هؤلاء لما يعيشونه من وهم ومشاكل كبرى بسبب الشق الآخر من الحداثة. فالحداثة جزآن جزء يدعو إلى التطور والتقدم في مجالات العلوم التطبيقية وآلاتها، وجزء يدعو إلى التحلل والتفسخ من روابط و قوانين الأديان ومعتقداتها، وما يريدونه منا هو أن نأخذ الحداثة بجزئها الثاني ولا أظن أنه يعنيهم كثيراً أخذنا لجزئها الأول ولا أقول أو تركه، فهم لا يدعون إليه ولا يقدمونه، وإنما هو علم (باطن) لا يمكن أن يناله إلاّ من (اصطفوه) والأصل أنه محتكر ضمن أروقة المؤسسات الكبرى.
إن مشكلة الثقافة الإسلامية الحقيقية مع الغرب بل مشكلات الثقافات والحضارات الأخرى مع هؤلاء هي في رفضهم الاعتراف بشرعية النموذج الحضاري الذي يحاول أن يبني نفسه على نحو مستقل، يرفض تجارب الاستنساخ الغربية، فضلاً عن أن تكون لهم أذن يصغون بها لما يقدمه الآخر (غير الغربي)، أو عقول حاضرة تقيم ما يقول!
فخيارات دعاة العولمة الجديدة محدودة، إما أن تكون تبعاً، وإما تكون غيراً، وإذا كنت غيراً فأنت حضارة أخرى تجري عليك نظرية "صراع الحضارات" التي أعدت في الكابيتول هول وروج لها (صمويل هنتنجتون) في كتابه الشهير، وحلم بنتيجتها (فوكوياما) في نهاية التاريخ.
وأما مفكروا أهل الإسلام فهم على ثقة من أنه متى ما أصغت الآذان، وحضرت العقول، وأحضرت الحجج، فإن العالم لن يرضى بغير الإسلام بديلاً، فإن فيه ذكرى (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
العلاقة بين الثقافة الإسلامية والعولمة:
إن الله هو رب العالمين، والدين الذي ارتضاه للعالم هو الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)26، وقد بعث اللهمحمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فأدى الرسول الكريم رسالة ربه، فخاطب العرب والعجم، بل دعا الثقلين، ثم أخبر من لا ينطق عن الهوى بأن دين هذه الأمة ظاهر، وأنه أكثر الأنبياء تبعاً.
فأمة الإسلام مبعوثة لتنقل ركناً ركيناً من أركان الثقافة إلى البشرية بل إلى العالم، فقد قال الله تعالى عن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين ~ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)27 ومما قيل في معناها: "لينذر بهذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض"28.
وقال سبحانه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ~ إن هو إلاّ ذكر للعالمين)29، (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين)30، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)31، وقال سبحانه: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)32، ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)33.
وفي حديث الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) قال صلى الله عليه وسلم (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)34.
فاستجاب نبينا صلى الله عليه وسلملأمر ربه وبدأ بدعوة قومه، فاستجابة له قلة وجمع من الضعفاء على استخفاء، أما الأقوياء والكبراء فقد فرحوا بما عندهم من العلم، (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)35 فجاهروا بصريح العداء، وزعموا أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم معتقدات (راديكالية) بالية، لها جذور قديمة، لا أساس لها من الصحة (إن هذا إلاّ خلق الأولين)36، (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً)37.
ولكن سنة الله في الأمم تمضي فما هي إلاّ سنوات قلائل حتى تغيرت الحال، ومما امتن الله به على عباده المؤمنين: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)38.(33/301)
وتنفيذاً لأمر الله لم يكتف r، بدعوة من بدأ بهم من عشيرته الأقربين، فدعا قومه ثم سائر العرب، بل خاطب الأمم والشعوب ممثلة في عظمائها، وكان من ثمرات ذلك إسلام بعضهم كالنجاشي بأرض الحبشة، وإقامة جسور للدعوة بأرض مصر عن طريق الاتصال بمقوقسها، أما كسرى فمزق رسالة صلى الله عليه وسلم فمزق الله ملكه، وعظيم الروم آثر اتباع الهوى من بعد ما تبين له الحق.
ولأن صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لم يكتف بدعوة البشر بل دعا r الجن أيضاً فانقسموا (فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً)39، (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ~ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا)40، (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ~ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ~ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ~ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)41.
وقد تكفل الله بنشر دعوة الإسلام، فعن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها"42، فهذا وعد بقبول دعوة الإسلام وعالميتها، وفي حديث ابن عباس: خرج علينا صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فرجوت أن يكون أمتي فقيل هذا موسى وقومه، ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فقيل هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب)43.
إن هذا الانتشار الواسع لأمة جاءت في ختام الأمم، لدليل يبين أن لديها من الخصائص والمميزات ما لا يوجد في سواها.
كما أن لسيادتها وظهورها في عصرها الأول عندما قام أهلها بها حق القيام، لدليل على صدق الوعد بظهورها في الآخرين على سائر الملل.
فإذا سرنا على نفس الطريق تحقق الوعد الإلهي بظهور هذه الدعوة وقبولها على نطاق واسع، وإذا تأخرنا تأخر، وبشائر الحاضر بحمد الله حاضرة شاهدة، فعجلة الدعوة رغم النكوص والعراقيل والحواجز والسدود لم تتوقف وإن تباطأت، فدعوة الإسلام -بحمد الله- في اطراد مستمر، والناس يدخلون في دين الله يوماً بعد يوم، رغم ضعف الآلة الإعلامية والمقومات المادية الأخرى.
ومتى رجع المسلمون لسابق عهدهم وترسموا خطى سلفهم، ازدادت قوة دعوتهم، وانتشرت ثقافتهم واكتسحت، كما ظهر الصدر الأول وعلا في سنوات قلائل.
ومن البشائر أيضاً أنه ليس ثمة مكان -بحمد الله- في أرض الله يخلو من مسلم، وهذا يدل على مواءمة دعوة الإسلام وثقافته لكافة المجتمعات، وعلاجها لظروف أي زمان ومكان، وليس هذا تنظيراً علمياً بل هو واقع عملي.
وليس معنى هذا أن دعوة الإسلام خاضعة للتشكل كالطين أو العجين، يلعب به الصبيان فيصورونه كيف شاءوا، ولكن المراد بيان أن في شريعة الله علاجاً لكافة أوضاع البشر أين كانوا وأيان وجدوا، وأن من تمسك بها فهو موعود بالحياة الطيبة، وكل المطلوب ممن أرادها هو أن ينهل من المعين الصافي الذي نهل منه الصدر الأول، دون أن يحاول تغيير مجراه، أو تحسين محتواه، فالذي وضعه عليم خبير، والذي أداه حريص أمين.
فالواجب أن نؤدي ما علينا من تبليغ دعوة الله، فنأخذ بالأسباب المادية ونضع الخطط والبرامج الاستراتيجية، والله قد كفل القبول والعالمية.
أما ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.(33/302)
إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلموفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته - صلى الله عليه وسلم - من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد لبس - صلى الله عليه وسلم - جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي و بختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، و قرأوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا - صلى الله عليه وسلم - الدركلة ضرب من لعب الحبشة حتى جاء في الأثر: (خدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة)44.
وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)45، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: (فلا تفعل)46.
بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها -حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)47.
فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها.
آثار العولمة الثقافية: أولاً الآثار العقدية
الآثار العقدية:
1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها، وذلك عبر وسائل وأساليب متعددة، مباشرة وغير مباشرة. وإذا ضاعت العقيدة، وفقد المسلم ركناً ركيناً يجنح إليه إذا تشعبت الأمور، فكيف تكون حاله؟ إن في ما نشهده من نسبة ارتفاع وفيات الانتحار في العالم الغربي مقارنة بالعالم الإسلامي، جواباً على هذا السؤال.
وقف الكون حائرا أين يمضي
عبث ضائع وجهد غبين …
…ولماذا وكيف لو تشاء يمضي
ومصير مقنع ليس يرضي
2- إضعاف عقيدة الولاء و البراء، والحب والبغض في الله
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري، فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس. والله جل وعلا يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)48 الآية.
3- تقليد النصارى في عقيدتهم
وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة (ومن تشبه بقوم فهو منهم)49.
4- نشر الكفر، والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة.
5- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها، فبينما تطحن العولمة الاقتصادية الشعوب الفقيرة يوجد اسطول طائرات يضم أكثر من 360 طائرة في أمريكا وحدها توزع بها الكنائس الإعانات على الفقراء، ومع الدعوة للانفتاح الإعلامي وبينما لايتجاوز عدد الإذاعات الإسلامية أصابع اليدين يربو عدد الإذاعات والتلفزيونات التنصيرية عن 4050 إذاعة، وهذا أيضاً في أمريكا وحدها وفقاً لإحصائيات (دافيد بار) خبير العمل الإحصائي في الولايات المتحدة، ووفقاً لإحصائيات عام 1992 فيوجد بالعالم 24900 مجلة تنصيرية، وعلى الصعيد السياسي يجد المتأمل أن التيارات الأصولية لها أثرها البين على السياسة الأمريكية وبالأخص اليمين المسيحي، والذي من أبرز رجالاته (بات روبرتسون)، و (جيري فلويل)، و(جيري فيناز)، و(فرانكلين جرهام) صاحب الحملة (الإغاثية!) إبان غزو العراق.(33/303)
وقديماً استرعى الانتباه المشروع التنصيري الذي يستعد الفاتيكان فيه لبناء محطة تلفزيونية كبيرة، للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار اصطناعية تسمى بمشروع نومين50 (2000) مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الارضية.
كما عقد قديماً في هولندا اجتماع عالمي للتنصير حضره (8194) منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف (21) مليون دولار، برئاسة المنصر جراهام، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامرتيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير51.
ويقول الدكتور: عمر المالكي: "والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس، مثل شبكة البث المسيحي52 NBN وشبكة CBN والشبكة الأخرى يصل بثها إلى أكثر من سبعة عشر مليون عائلة عن طريق الكابلي VATC وبرامجها على مدار الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي SATC 3 وتوجد عدة قنوات للبث الديني، واحدة منها للبث الديني اليهودي، ومن المقرر بنهاية 1990 م أن يصل عدد الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة آلاف"53.
هذه بعض آثار وأخطار العولمة الثقافية على عقيدة المسلمين ودينهم، وقد لا تبدو تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر.
ثانيا: الأثر الثقافي العام
إن البلاد العربية -وللأسف- موغلة في الأمية، والجهل، وارتفاع نسبة الأمية في البلاد العربية له تأثير سلبي أثناء التلقي من الثقافة الوافدة، فالكأس إذا كانت خالية، أمكن ملؤها بأنواع المائعات.
وإلقاء نظرة سريعة على هذه الأرقام تغني وتوضح المراد:
وفقاً لإحصائيات اليونسكو يقول مدير مكتب اليونسكو الإقليمي (فكتور بلة) في المؤتمر الثالث لوزراء التربية والتعليم والمعارف في الوطن العربي الذي استضافته الجزائر بمشاركة 20 دولة عربية في 10/2/1423هـ الموافق 23/4/2002م: إن عدد الأميين بالوطن العربي يبلغ نحو 70 مليونا، وإن ما يزيد على 90% من الطلبة العرب لا يمتلكون ثقافة معلوماتية.
وقال : إن غالبية الدول العربية تتجاهل تعليم الطفل في المرحلة التحضيرية، كما أن 40% من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين السادسة والخامسة عشرة لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة.
وأضاف أن أحدث الإحصاءات المتوافرة لدى اليونسكو تظهر أن أكثر من 70 مليونا في الوطن العربي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وأشار إلى أن ذلك لا يعني الحديث عن الأمية الحاسوبية.
وصنف (بلة) التعليم في الوطن العربي بأنه يقع ضمن أدنى المستويات في العالم، واعتبرها نسبة مزعجة تشكل خطرا على التنمية في الدول العربية.
وأفاد تقرير حديث عن إحصائيات منظمة اليونسكو في الدول العربية54، أنه من بين كل ثلاثة رجال في العالم العربي يوجد واحد أمي، ومن بين كل امرأتين توجد واحدة أمية.
وفي ندوة(ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) التي عقدت في الرياض عام 1402 هـ تحت إشراف مكتب التربية العربي لدول الخليج، جاءت دراسة مهمة أذكر بعضا منها:
يوجد أكثر من 33% من أطفال البلاد العربية ما بين سن 6 - 14 خارج المدرسة، ويقدر هذا العدد بأكثر من خمسة عشر مليون طفل.
يوجد 75% من شباب البلاد العربية ما بين سن 15- 17 خارج المدرسة الثانوية بمختلف أنواعها.
يوجد حوالي 90% من شباب البلاد العربية من 18- 24 دون تعليم عال، أو جامعي.
يوجد قرابة 50% من أفراد المجتمع العربي فوق سن (15) من الأميين55. بل إن مما يزيد الوضع صعوبة وتعقيداً، ما يقضيه الطالب بين حجرات الدراسة وما يقضيه أمام التلفزيون، فقد ذكر الدكتور حمود البدر أن الأبحاث والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفزيون (15.000) ساعة، بينما لم يقض في حجرات الدراسة أكثر من (10.800) ساعة على أقصى تقدير56.
مع أن هذه الإحصائيات كانت في وقت لايشاهد التلميذ فيه إلا قناة أو قناتين، فكيف وقد أتيحت لهم مشاهدة عدة قنوات، دون حسيب أو رقيب؟ وكيف بعد دخول الإنترنت، وكيف إذا فتحت الأبواب لوسائل العولمة الثقافية الأخرى على مصراعيها؟
لهذا فإن الثقافات الوافدة، قد تشكل خطراً على الهوية العربية والإسلامية، وبخاصة في ظل ضعف التحصينات، والانفتاح على العالم الغربي وخصوصاً إعلامه، وإذا كانت الدول التي لا تعاني من هذه المشاكل قد خافت على ثقافتها من الثقافات الوافدة، ورأت أن هويتها بدأت تزول، فحري بنا أن نعمل على تحصين ثقافتنا، وإلاّ فإن مدّ الثقافات الوافدة سوف يجرف كل خاوٍ لا يقوى على القيام له.
وقد شكت وزيرة الثقافة اليونانية (ملينا يركورى) من أن بلدها قد دهمتها الثقافة الأمريكية57.
وفي فرنسا صرح وزير الثقافة الفرنسي في السبعينات أنه خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية للاستعمار- الثقافي الأمريكي58.(33/304)
وجاء بعده وزير الثقافة الفرنسي (جاك لانق) وشن حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية، وقال إنها أصبحت صنابير تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، فقد لاحظ أنه في يوم الأحد، وفي الساعة الواحدة ظهرا، تجد خمس قنوات فرنسية تبث مسلسلات أمريكية، مع أن عدد القنوات الفرنسية ست قنوات فقط، أي أكثر من 80% تبث الثقافة الأمريكية59.
وشكا رئيس وزراء كندا (بيار ترودو) من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي 60.
إذا كانت هذه حال أولئك القوم وشكواهم مع أنهم في وضع سياسي متقارب، ودينهم واحد، ومناهجهم متشابهة، فكيف بنا، وماذا ستكون حالنا مع الثقافة الوافدة؟ يقول الأستاذ عبد الرحمن العبدان، وهو يتحدث عن البث المباشر، وخطورته في الجانب الثقافي: (ثم البرامج الثقافية الموجهة، والتي يمكن أن نسميها بالغزو الفكري، وهذه سوف تسيء لكثير من مفاهيم الشعوب المستهدفة وقيمها، ولا بد من مراقبتها، وتبصير المتلقين بأهدافها، وتحصينهم من آثارها)61.
وقد صرح وزير خارجية كندا عام 1976 م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة62، فهي تمثل عنده غزو ثقافي.
حتى أن بعض الدراسات أثبتت أن هناك بعض الأطفال الكنديين لا يعرفون أنهم كنديون؛ لتأثرهم بالبرامج الأمريكية التي تبث إلى كندا63.
وفي فرنسا عندما شعر الرئيس الفرنسي (شارل ديغول) بخطورة تأثير الأفلام الأمريكية على الثقافة الفرنسية، قام بعدة إجراءات منها:
1- إلغاء الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية.
2- الانسحاب من الحلف الأطلسي.
3- إعادة النظر في العلاقات الثقافية، والسياسية مع أمريكا.
وقد أعلن صراحة أن تلك الإجراءات (حماية لفرنسا من الاستعمار الثقافي الأمريكي) (64). وما أحسن ما عبر عنه فهمي هويدي65 معلقا على دخول البث التلفزيوني إلى تونس حيث قال:
"خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام 1956 م، ولكنه رجع إليها عام 1989 م، لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسرة نومنا.
رجع ليقضي على الدين، واللغة، والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكُره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب، والترحاب، كنا ننظر إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه إنه الاستعمار الجديد، لا كاستعمار الأرض، وإنما استعمار القلوب، إن الخطر يهدد الأجيال الحاضرة، والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء، والأمهات. وقال: إن الفرنسيين غادروا تونس عام 1956 م وعادوا إليها عام 1989 م ليقتحموا كل بيت، وقرروا أن يقضوا داخله 20 ساعة كل يوم، يمارسون تأثيرهم على اللغة،والأخلاق، والفكر، والوعي، عند الصغار والكبار، والنساء والرجال، والشباب، والفتيات، وإن كان الخطر أكبر يهدد الجيل الجديد كله"66.
وأختم هذه الحقائق بما ذكره أحد الغربيين مشيرا إلى أسلوب صناعة الفكر الشرقي.
"كنا نحضر أولاد الأشراف، والأثرياء، والسادة من أفريقيا،وآسيا، ونطوف بهم لبضعة أيام في أمستردام ولندن، فتتغير مناهجهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية، فيتعلمون لغتنا، وأسلوب رقصنا وركوب عرباتنا، ثم نعلمهم أسلوب الحياة الغربية، ثم نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذا إليها، كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجسا.
ولكن منذ أن صنعنا المفكرين ثم أرسلناهم إلى بلادهم، كنا نصيح في لندن، وأمستردام، وننادي بالإخاء البشري وكانوا يرددون ما نقوله، كنا حين نصمت يصمتون، لأننا واثقون أنهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم"67.
ثالثاً: العولمة الإعلامية
إن العولمة منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانب السياسيُّ بالجانب الاِقتصادي، والجانبان معاً يتكاملان مع الجانب الاجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته، ولكن آلة ذلك كله التي لا تنفصل البتة عن أي شكل من أشكال العولمة هو الإعلام بوسائله المتعدد، فمهما رأيت صوراً لعولمة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فاقطع بأنها جاءت محمولة عبر آلية إعلامية.
فنجاح مروجي ثقافاتهم واقتصادياتهم وسياساتهم بل وحروبهم، كان من أعظم أسبابه نجاحهم في عولمة إعلامهم.
وإذا كان حافظ إبراهيم قال منذ عشرات السنين:
لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف
فاليوم لم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها، واتخذت أشكالاً عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات: وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشاراً للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة. فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.(33/305)
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب، أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دوراً مهما في حياة الناس، ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة، وتؤثر تأثيراً واضحاً.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عدداً من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت الأحداث المختلفة تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومازالت الدول المصدرة للثقافة تطلق إذاعاتها الموجهة للعالم العربي، وقد أطلقت الولايات المتحدة قبل أشهر محطة إذاعة جديدة باللغة العربية باسم [إذاعة سوا]، تشرف عليها [صوت أمريكا] موجهة للعالم العربي، وذكر مسئولون أمريكيون أنهم بصدد مغازلة الشباب العربي الغاضب والقلق والشباب المسلم بشكل عام، وتبث على مدار 24 الساعة، وقد كانت الحكومة الأمريكية قد بدأت التخطيط للمحطة منذ ستة أشهر، حيث أطلق عليها اسم الشيفرة [مبادرة 911]، وتم رصد 30 مليون دولار كنفقات لمدة ستة أشهر لشبكة إذاعية جديدة تستهدف الشباب العربي.. وفي الوقت نفسه بذلت لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي جهوداً مكثفة لمضاعفة نفقات البث الإذاعي الأمريكي؛ التي تبلغ 479 مليون دولار لتغطية كل العالم الإسلامي من نيجيريا إلى إندونيسيا. وفي هذا الإطار دفعت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي الأموال الطائلة بزيادة قدرها 19 مليون دولار؛ لإحياء محطات إذاعية منفصلة خاصة بأفغانستان68.
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمنا طويلا، حتى أصبحت في فترة من الفترات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيرا أقوى، حتى أصبح الملوك، والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفا، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يومياً، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
3- التلفزيون والفيديو:
على الرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى، فإن تأثيرها -رغم قوته- لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلو منه بيت،أو يسلم من مشاهدته إنسان.
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر الدكتور حمود البدر69 أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير70 أي في حالة كونه مواظبا على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.
(جـ) طول مدة البث يوميا، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث أن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغبا للمشاهدة مستعدا للتلقي، متلذذا بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلما غريزيا، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مباراة من مباريات كرة القدم.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، و التمثيليات بلغ الذروة في الإخراج،واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيراً لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر. ولقد تطور التلفزيون تطورا مذهلا، ووصل إلى تقنية عالية الجودة.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدوداً إذا قورن بالمرحلة المقبلة، والانفتاح المذهل.
4- الإنترنت: " أعلنت وزارة الاتصالات اليابانية أن نسبة انتشار الإنترنت في أوساط الأسر اليابانية لم تكن تتعدى 6% قبل ثلاث سنوات.(33/306)
وأضافت أن عدد اليابانيين المتصلين بالإنترنت عبر الخطوط الثابتة والهواتف المحمولة ارتفع في ديسمبر الماضي إلى 43 مليون شخص مقارنة بـ 26.3 مليون قبل ستة أشهر"71، وهذا مؤشر يبين مدى سرعة تزايد الإقبال على الإنترنت في العالم، وفي عالمنا العربي نجد أنه على الرغم من تأخر دخول الإنترنت فإن نسبة مستخدميها في دولة الإمارات العربية بلغت 28% وقد أصبحت بعض الدول العربية تقدم خدمة الإنترنت مجاناً، وكل هذه مؤشرات تدل على أن الإنترنت في السنوات القليلة المقبلة، قد تشهد انتشاراً واسعاً في عالمنا العربي، ربما زاحم التلفاز التقليدي وذلك لعدة أسباب:
أ- لم تعد الإنترنت تعتمد على جهاز حاسب، أو جهاز واحد، بل طرق الوصول إليها متعددة، فقد أصبح من الممكن الوصول إليها عبر الهاتف النقال، والكابل مودم الذي يرتبط مع تلفزيون الإنترنت، بالإضافة لما يسمى بتلفاز الويب، كما أن هناك أجهزة أخرى يستفيد المستخدم منها عبر الإنترنت، ومنها الهواتف التي تتصل بالإنترنت، وإن كان الوصول عن طريق الحاسب الآلي لا يزال الطريقة السائدة.
ب- وكما أن طرق الوصول إليها متعددة، فإن ما توصله أو تقدمه متعدد، يشمل ما يقدمه التلفاز، والإذاعة، والصحافة، وسائر الوسائل الإعلامية الأخرى، بل وغيرها، وإذا كانت بعض الأطباق الفضائية تقدم مئات القنوات، فإن أعداد القنوات والإذاعات والصحف والمجلات والوكالات وغيرها التي تنشر موادها عبر الإنترنت وتقدم بثاً مباشراً عبر صفحاتها يفوق الحصر، كما أنها تقدم من الخدمات ما لا تقدمه أجهزة الإعلام التقليدية، كالبريد الإلكتروني، والقوائم البريدية، ومجموعات الأخبار، وغيرها.
ج- تمتلك الإنترنت مزية لا تملكها وسائل الإعلام التقليدية، وهي التفاعل مع المستخدم، فكما أنك تتلقى، فبإمكانك أن تعطي، فالإعلان التقليدي في الصحف مثلاً قد يعرض منتجاً ثم تنتهي مهمته في إطار محاولة إقناع القارئ بأهمية اقتنائه، ولكن الإنترنت لا تكتفي بذلك، بل تقدم للمستخدم نموذج الشراء، وما عليه إلاّ أن يدخل المعلومات ثم بضغط زر يأته المنتج على رجليه! وقد استفاد الغرب وبعض الدول العربية من إمكانية التفاعل هذه، فجعلت الخدمات الحكومية يتم التعامل معها عن طريق الإنترنت، وقد وعدت حكومة الإمارات العربية بتوفير معظم الخدمات الحكومية على الإنترنت بحلول العام 200572 الأمر الذي يستشرف منه مزيد تفاعل مع الشبكة العنكبوتية في ربوع عالمنا العربي يمضي قدماً.
د- تمثل الإنترنت وسيلة حرة بضوابط محدودة جداً مقارنة بغيرها من الوسائل الإعلامية، فمهما وجدت قناة أو إذاعة، فإنها تخضع لقوانين الدولة التي توجد بها، ومسئولوها عرضة للمساءلة عند تجاوز الخطوط الحمراء، التي تخطها مصالح الدول أو أهواؤها! أما الإنترنت، فبوسع كل شخص أن يعرض ما أراد، وإذا كان أحدهم في (لهايدبارك) بوسعه أن يقول ما يشاء، ولكن ليس له أن يبيع مخدرات أو يعرض أسلحة، فإن الإنترنت توفر لكل أحد أن يقول ما أراد ويروج أو يبيع ما يشاء!
وللإنترنت مزايا أخرى، تنبئ عن توسع انتشارها في المستقبل.
5- وهناك وسائل إعلامية كثيرة كوكالات الأنباء،والأشرطة السمعية، وما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، والفاكس، والبريد الإلكتروني، وغيرها مما يساعد على تبادل المعلومات بسرعة فائقة، حيث أصبح العالم الرحب كقرية صغيرة، من حيث انتشار الأخبار، وسرعة وصول المعلومات، وتأثير الأحداث، والتدخل في شؤون الآخرين بسرعة مذهلة، فانقلاب في روسيا في الشرق تساهم أوربا وأمريكا في إسقاطه خلال يومين، وإشاعة حول بنك من البنوك في الغرب تقضي على بنك آخر في الشرق.
وقيام انقلاب في الشرق يؤدي إلى انهيار سوق الأسهم في الغرب خلال ساعات معدودة، وفشل الانقلاب يعيد الأمور إلى نصابها.
ولهذا الانتشار الواسع للوسائل الإعلامية المختلفة، ولتأثيرها في القطاع الواسع الذي تغطيه، نستطيع أن نقول إن الإعلام اليوم هو الذي يتولى مقاليد الأمور في العالم، والذي يستطيع أن يسيطر على وسيلة من وسائل الإعلام المؤثرة يكون قد شارك في الحكم عالمياً، ومحليا حسب تأثير وسيلته، وقوة نفوذها. وعندما أدركت بعض الأقليات هذه الحقيقة سعت لامتلاك الإعلام في بعض الدول الكبرى، فكان لها أبرز الأثر في تكوين آراء المجتمع، وصنع قرارات الدولة.(33/307)
وإذا تساءلت عن أشكال وأنماط من العولمة الاجتماعية في المجتمعات العربية وعن سر وجودها، وجدت أن سببها عولمة الإعلام، فالموسيقي الأمريكية التي انتشرت في ربوع عالمنا العربي , والنمط الأمريكي الصرف في اللباس، أو نصف الأمريكي (ثوب وقبعة)، والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية، واللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية، والطفل الكرتوني (كالطفل السوبرماني أو الطفل العنكبوتي أو الوطواطي إلى غيرها من الحشرات والحيوانات...)، كل هذه مع كثير من العادات الدخيلة، دخلت المجتمعات العربية من خلال الوسائل الإعلامية، التي باتت تمثل ما يمكن أن نسميه بـ (ثالوث الأبوة) الأب، الأم، الإعلام، فقد غدا الأخير العنصر الثالث مع الأبوين في التربية والتوجيه أو ضدهما!
إن هيمنة الإعلام الغربي على العالم أمر لا يجادل فيه من له سمع أو نظر، أما مظاهر هيمنة الإعلام الغربي داخل وطننا العربي فكثيرة جداً منها الصحف والمجلات الغربية المتداولة في الأوساط العربية، وبالأخص تلك المعربة الموجهة لقراء الشرق الأوسط، ومنها الإذاعات المختلفة متعددة اللغات، ومنها شبكة الإنترنت العالمية، وإذا تأملنا قطاع التلفاز مثلاً بحكمه الأوسع انتشاراً وجدنا أثر الإعلام الغربي وطغيانه بيناً، ففي إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي نجد أن شبكات التليفزيون العربية تستورد مابين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر . أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد علي نصف إجمالي المواد المبثوثة إذ تبلغ 58,5% وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69% من مجموع البرامج الثقافية ولا تكتفي بذلك بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها ، ولعل القارئ الكريم يدرك بأنه لا مزية للبرامج الناطقة بالعربية على الناطقة بلغات أجنبية أخرى، فلا فرق بين (ميكي) ذو اللسان العربي الفصيح، وأصله الأمريكي، بل قد يكون المستنسخ المعرب أكثر قدرة على تصدير العولمة الأمريكية من أصله.
وإذا كانت الإحصاءات السابقة تمثل نسبة الغزو الغربي للإعلام الرسمي، فلك أن تتصور نسبة هذا الغزو وأثره، على البيت الذي ملئ بالأطباق، وفي العائلة التي أدمنت البث المباشر.
ويذكر الدكتور محمد عبده يماني73 أن منظمة اليونسكو أجرت دراسة اتضح من خلالها أن 90% من الأخبار التي يتناقلها العالم من إنتاج خمس وكالات عالمية فقط، وهي:
(أسوشيتدبرس) و(يونايتدبرس) و(وكالة الصحافة الفرنسية) و(رويتر) و(تاس السوفيتية). والأوليان أمريكيتان، والثالثة فرنسية، والرابعة بريطانية، والخامسة سوفيتية.
ولذلك يقول الدكتور على النجعي74 وهو يعدد مخاطر البث المباشر:
ومن وجهة نظري فإن تأثير البث المباشر لا يتوقف على إدخال عادات قبيحة على المجتمعات النامية، بل إن من أخطر ما يحمله هذا التوجه العالمي، هو تفتيت المجتمعات، والتقليل من أهمية ودور وسائل الإعلام المحلية، التي تسير في ضوء أطر محددة وسياسات مرسومة، حيث يصبح بإمكان كل مواطن أن يختار الوسيلة التي يرغب في مشاهدتها والبرنامج الذي يختاره75.
وبطبيعة الحال هذه القدرة على الاختيار تكون عند ساكن العالم الثالث، أما القدرة على العرض فعند الغربيين، وهذا هو الواقع الذي لم يعد سراً، ومما يؤكد هذه الحقيقة ما ذكره تقرير لليونسكو حيث جاء فيه: (إننا نعتقد أن ما يعرف باسم التدفق الحر للإعلام، هو في حقيقة الأمر تدفق باتجاه واحد، وليس تبادلاً حقيقيا للمعلومات)76.
وأوضحت دراسة مشتركة بين ندوة تامبير واليونسكو، أن هناك اتجاهين لا جدال حولهما في مجال تدفق المعلومات:
ا- أنه تدفق في اتجاه واحد من الدول الكبرى المصدرة إلى باقي دول العالم.
2- أن المادة الترفيهية هي السائدة في هذا التدفق77.
ومن أجل توضيح المراد ببرامج التسلية والترفيه الواردة في هاتين الدراستين لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان78: "برامج الترفيه والتسلية ومعظمها -إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيرا من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها وعصرية إعدادها وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة.
ويواصل قائلا: ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية المترتبة على ذلك، وما فيها من الهدم وتدمير السلوك"79.
رابعاً: بعض الآثار السلبية لعولمة الإعلام.
في تحقيق أجرته جريدة عكاظ مع بعض مدمني مشاهدة الأفلام اعترف عدد منهم بخطورة هذه الأفلام (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا )80 وكان مما قالوه:
ا- قال شاب: إن هذه الأفلام عديمة الفائدة، والتي تعتبر مضيعة للوقت بالإضافة إلى كونها الطريق إلى اكتساب عادات وأفكار سيئة تؤدي إلى انحراف بعض الشباب، خاصة في مرحلة المراهقة.
2- واعترف آخر بأن بعض هذه الأفلام قد تتسبب في انحراف الشباب الذين ليس لديهم وعي كامل بخطورة ما تحتويه.(33/308)
3- وثالث يقول: لهذه الأفلام سلبيات، منها ضياع الوقت، واكتساب أفكار قد تكون سيئة81.
أما المجتمعات الأخرى "فقد عزا الغربيون مثل (ريجيس دوبريه) في كتابه الموسوم بـ "الميديولوجيا: علم الإعلام العام" عزا هزيمة الشيوعية إلى انتصار ما أسماه (بالفيديولوجيا) على (الأيديولوجيا)، أي انتصار الاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون المرئي (الفيديو) على حساب الأفكار والقناعات (الأيديولوجيات).
وفي دراسة (لبنيامين باربر) تحت عنوان "ثقافة الماك وورلد في مواجهة الديمقراطية"، يقرر محرر الدراسة أن الثقافة العالمية الأمريكية هي الترجمة الحرفية (للفيديولوجيا)، التي تتعارض مع الثقافات القديمة، ولكنها تلجأ إلى أسلوب آخر، فـ"ماك وورلد" يتزين قليلا بطابع الثقافات التي يلتهمها، فإذا بالإيقاعات الأمريكية اللاتينية تتداخل مع "البوب" في الأحياء المكسيكية الفقيرة في لوس أنجلوس، ولنا أن نقول: ربما تغير النمط قليلاً في بعض الدول العربية بإخراج وجبة (بينية) "ماك عربي"،على نمط القبعة الأمريكية والثوب العربي.. ثم يقول باربر: وإذا بـ (ميكي) يتكلم الفرنسية في ديزني لاند باريس. ووفقاً لوجهة نظر باربر فإن قناة الموسيقى الأمريكية، و الماكدونالدز، وديزني لاند، هي في نهاية المطاف، وقبل كل شيء، أيقونات الثقافة الأمريكية، وهي أحصنة طروادة التي تتسلل من الولايات المتحدة إلى ثقافة سائر الأمم.
ويقول: إن أيقونات الثقافة الأمريكية الجديدة يتم تسريبها إلى الثقافات العالمية التي تبدو عاجزة عن مقاومتها، عن طريق أشباه المنتجات الثقافية، كالأفلام أو الدعايات، وتتفرع منها مجموعة من السلع المادية ولوازم الموضة والتسلية، وهكذا لا تبقى أفلام "الملك الأسد" و"جوراسيك بارك" و"تايتانيك" مجرد أفلام، وإنما تصبح وسائل حقيقية لتسويق الأغذية والموسيقى والألبسة والألعاب والأنماط الاجتماعية والأفكار الثقافية.
إن أيقونات الثقافة الأمريكية الجديدة تنتج التماثل والتشابه وهذا بدوره كما يرى علماء النفس يسهل عملية التحكم والسيطرة، وأبعد من ذلك إنتاجها لنفس أنماط السلوك، فمن وجهة نظر (ريجيس دوبريه) أن كل دقيقة عنف ينتجها فيلم كفيلم "الحديقة الجوراسية" ينقل مستهلكا من الشرق إلى الغرب. فالأسواق تحتاج إلى عملة واحدة هي الدولار، وإلى لغة واحدة هي الإنجليزية وإلى سلوك متشابه في كل مكان يجد تعبيره في سلوك أبطال الثقافة الجديدة.
ومن وجهة نظر (ريجيس دوبريه) كذلك: أنهم أول حضارة أقامت مذبحا منزليا للتبذير، هو "جهاز اللاقط" و أوبريه لا يتوقف عند مستوى الاستهلاك الذي ينحته التلفزيون في حياة البشر، من خلال الدعاية التي تقولب ومن خلال أفلام الجنس والعنف، فهو يرى أن هذا "المذبح المنزلي" ستتحطم عليه قناعاتنا وخياراتنا وعاداتنا، لأنه ينشر اللامبالاة والاستهلاك والقبول السطحي وبالأخص الإشاعة الاجتماعية، يقول (دوبريه): إن التلفاز بالتأكيد يذهب إلى أبعد من الكتاب المطبوع ولكنه أقل عمقا. فدرجات التأثير ربما تكون بعكس مساحات التغطية. وصلابة قناعاتنا تنقص عندما تزيد سرعة المعلومات ومرور العلامة.
إن (باربر) يرى أن الترويج أو الدعاية للمنتجات الأمريكية يعني الترويج لأمريكا وثقافة السوق والمخازن التجارية التي تفرض علينا القيام بفك ارتباط بهويتنا الثقافية، ما عدا صفة المستهلك، والتنكر لمواطنتنا لنتذوق أكثر هذه المتعة الوحيدة الناتجة من التسوق.
أثر آخر من آثار العولمة الإعلامية يتحدث عنها فيريليو، فمن وجهة نظر فيريليو أن هناك فارقا جوهريا بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فإذا كانت "جنية الكهرباء" على حد تعبيره قد أضاءت المدن إضاءة مباشرة في القرن العشرين، فإن القرن الواحد والعشرين سيشهد "الإضاءة غير المباشرة للعالم " بحيث يصبح في الإمكان بفضل التكنولوجيات التليفزيونية التي تتطلب منهجاً بصرياً شمولياً جديداً، يقوم بمراقبة كل شيء، النظر إلى كل شيء، والانشغال بكل شيء.
فإذا كانت بعض كبريات الصحف في ديسمبر 1997 خصصت صفحتها الأولى للكلب الجديد الذي كان قد حصل عليه زعيم دولة عظمى، وتولت صفحة في الداخل إكمال الملف، محللة -على حد تعبير بعض محرري لوموند ديبلوماتيك- موقع الحيوان في تاريخ ذلك البيت الرئاسي الأبيض، ومستعيدة قائمة الكلاب السابقين الذين حلوا ضيوفا على ذلك البيت. فما بالك بما يمكن أن ينشر ويقرأ وينظر عبر وسائل الإعلام العالمية المختلفة، وبماذا يمكن أن يشغل الناس!" 82.
هذا نذر مما ذكره بعض الغربيين، ولاشك أنها أثار سالبة وأخطار فعلية، ولكن ليت الإعلام العالمي اكتفى بهذا، إن كثيراً مما سبقت إشارة إليه من مفاسد مترتبة على العولمة عامة والثقافية منها خاصة، تتحمل الوسائل الإعلامية وزرها، ولكن بالإضافة إلى ما ذكر من آثار سلبية، في العولمة الثقافية، على العقيدة خصوصاً وعلى الثقافة عموماً، نضيف ما أمور أخرى سلبية للعولمة الإعلامية:
1- مساعدة المخابرات الأجنبية في الوصول لأهدافها:(33/309)
فقد كشف تقرير للجنة المواصلات الفيدرالية الأمريكية، أن (60) إذاعة بعد الحرب العالمية الثانية كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمخابرات المركزية الأمريكية83.
وقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكيين -وكان يعمل في سفارة بلاده في إحدى الدول العربية- أن السفارة قد سيطرت على القناة التي تبث باللغة الإنجليزية، حتى قال: إن القناة تدار من السفارة بدلا من إدارة التلفزيون في ذلك البلد.
2- الاضطرابات:
فقد ذكر تقرير صادر من اليونسكو ما يلي:
إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية، وغالبا ما يصاحب فوائد الاتصالات الحديثة سلبية يمكن أن تشيع الاضطرابات بدرجة كبيرة في النظم القائمة84.
3- الجريمة:
قال الطبيب النفسي (ستيفن بانا) الأستاذ بجامعة كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية للانحراف85.
وتوضح دراسات العالم الفرنسي (جان خيرو) أن أسباب سوء التكيف بين المنحرفين ترجع إلى مشاهدة أفلام العنف.
وتدل الإحصائيات الأخيرة التي أجريت في أسبانيا أن 39% من الأحداث المنحرفين قد اقتبسوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانية86.
وفي دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر الباحث أن 41% ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة، و 47% يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال87.
وذكر الدكتور حمود البدر، إنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم وجود (168) مشهد جريمة أو محاولة قتل. بل إنه وجد في (13) فيلما فقط (73) مشهدا للجريمة88.
وقد قام الدكتور تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن 27.4% منها تتناول الجريمة89.
من أخطر ما يخشى أن يؤثر فيها البث المباشر أخلاق الأمة وسلوكها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت … …فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أبرز ما خلّفته الأفلام من شرور خلال السنوات الماضية ما أحدثته من خلل في أخلاق الرجال وأعراض النساء.
ويتخذ هذا الخلل عدة صور من أبرزها:
ا- شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها، حتى أصبحت أمرًا عاديا في بعض المجتمعات.
2- تفجير الغرائز والبحث عن سبل غير شرعية لتصريفها، وذلك لما يرد في الأفلام من عري فاضح، مع اختيار أجمل النساء للقيام بأدوار معينة في الأفلام، حتى إن بعضهن لا دور لها إلا عرض مفاتنها.
3- تعويد الناس على وسائل محرمة هي بريد للفتنة، وسبيل إليها، كالخلوة، و الاختلاط، و المغازلة.
4- الدعاية لأمور محرمة تؤدي إلى الانحراف، كدعايات شرب الخمر، والمسكرات بجميع أنواعها.
5- بث الأفلام الدعائية التي ترغب المشاهد في السفر للخارج، مع ما يحدث هناك بعد ذلك.
6- بعض الأفلام التي تدعو إلى المخدرات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعضها يدعوا إلى أنواع مختلفة من الجريمة، يظهر دعاتها وكأنهم أبطال، فيأتسي بهم الجهال.
ومما يساعد على ذلك شيوع الأمية في عالمنا العربي والإسلامي وقد سبقت الإشارة إليه.
ولعل التأمل في الأرقام التالية يوضح ما سبق بيانه:
يقول الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون)90.
وتبين من خلال دراسة أجرتها هيئات أوروبية متخصصة أن متوسط مدة الإرسال التجاري اليومي 9 ساعات يتوزع كما يلي:
من 75% إلى 80% مواد وبرامج تسلية.
من 5% إلى. ا% برامج ثقافية ووثائقية.
5% تخصص للمعلومات.
من 2% إلى 10% برامج موجهة للشباب والرياضة91.
وفي دراسة ذكرها الدكتور محي الدين عبد الحليم عن (الدراما) توصل فيها إلى ما يلي:
23% من الذكور يرون أنها مفيدة92.
77% يرون أنها تؤدي إلى الانحراف وتدعو إلى الرذيلة، وتتنافى مع عادات المجتمع.
أما الإناث -وهنا الخطورة- فقد رأى قرابة 45% أنها مفيدة93.
و 55% يرين أنها تؤدي إلى الشر والفساد والانحراف94. ويلحظ الفرق بين النساء والرجال لسرعة تأثرهن في الغالب.
ومما تجدر الإشارة إليه -بل الوقوف عنده- مما يشكل خطرا على الأخلاق، وبخاصة على النساء والأطفال، موضوع الدعايات التلفزيونية، مع العلم أن هناك قنوات متخصصة في الدعاية التجارية فقط.
ولندع الأرقام تتحدث:
نوقشت رسالة ماجستير بعنوان: (صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) وذلك في إحدى الدول العربية، اعتمد الباحث فيها على ما يلي:
1- تحليل مضمون (356) إعلانا تلفزيونيا، بلغ إجمالي تكرارها (3409) خلال 90 يوما فقط.
2- مسح شامل لإدارة الإعلانات بالتلفزيون.
3- مقابلات مع عدد من مديري وكالات الإعلان.
وقد توصل الباحث إلى عدد من النتائج من أهمها:(33/310)
ا- استخدمت صورة المرأة وصوتها في (300) إعلان من (356)، كررت قرابة (3000) مرة في (90) يوما.
2- 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة.
3- سن النساء اللاتي خرجن في الدعاية من (15- 30) سنة فقط.
4- 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة كالجمال والجاذبية، و 51% على حركة جسد المرأة، و 12.5 % من هذه الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
5- إن الصورة التي تقدم للمرأة في الإعلان منتقاة وليست عشوائية95.
وإذا كان هذا الأمر في تلفزيون عربي عليه بعض الرقابة، وأغلب شعب هذا البلد مسلمون، فكيف بإعلانات دول الانحلال و الرذيلة ؟
وقام الدكتور سمير حسي96 بإعداد دراسة حول (برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهد والمعلنون) توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة.
96% من الأطفال يتعرفون على المشروبات المعلن عنها بسهولة (97).
96% قالوا إن هناك إعلانات يحبونها، ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية، ويقلدون المعلن98.
ويقول الدكتور محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية، لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها إلى الأوتار العقلية فتوقظها 99.
أما الأطفال فقد قام الدكتور (تشار) بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن:
29.6% تتناول موضوعات جنسية.
27.4% تتناول الجريمة.
15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف100.
وأخيراً هذه بعض الإحصاءات تبين آثار المواد التي تعرض بواسطة الإعلام101:
أظهرت إحصائية ضمن رسالة علمية جامعية بعضاً من السلبيات المنعكسة على الأسرة (النساء بشكل أخص) بسبب متابعتها للقنوات الفضائية وجاء ضمن ذلك:
85% يحرصن على مشاهدة القنوات التي تعرض المناظر الإباحية.
53% قلت لديهن تأدية الفرائض الدينية.
32% فتر تحصيلهن الدراسي.
42% يتطلعن للزواج المبكر ولو كان عرفيا.ً
22% تعرضن للإصابة بأمراض نسائية نتيجة ممارسة عادات خاطئة.
ولا يعني ذلك أن كل ما جاء عن طريق نافذة العولمة باطل أثره سيء، ولكن المقصود التنبيه إلى السيء وبيان أثره، وأن العولمة إذا قبلت مطلقاً فهذا يعني قبول ما أشير إليه، أما إذا قبلت العولمة أن تخضع للموازين، فميزان شريعتنا أولاها، وعندها يمكن أن يقبلها المسلمون، كما أنها لو خضعت لميزان إحدى الأمم فسوف تقبلها تلك الأمة. وعندها لن تكون عولمة!
خامساً: الموقف الشرعي من العولمة.
يرفض قطاع عريض من البشر العولمة كما سلف، ولكن رفضه من قبل المسلمين أشد، وليس ذلك للتصور الذي يحاول أن يرسمه بعض الغربيين، فبعض مثقفيهم نمى إلى علمه أن الله هو الذي يشرع لعباده في نظر المسلمين فقرر متوهماً أنه "لا توجد، بالنسبة إلى المسلم سلطة تشريعية بشرية، اللَّه هو الوحيد مصدر القانون"102، وردّد قوله هذا (لوي غارديه) فقال: "اللَّه هو الشارع بامتياز"103.
ولاشك أن المسلمين يؤمنون بأن التشريع من خصائص الربوبية (ألا له الخلق والأمر)104 (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)105، (ولا يشرك في حكمه أحداً)106،قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: "ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية.. كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله"107.
ولكن ما يغفل عنه هؤلاء هو أن المقصود بهذا كل تشريع يتعبد به الناس، ولهذا قال (من الدين)، فكل ما شرعه الله ديناً لا تجوز مخالفته، وكل تشريع في الدين بغير دليل باطل يرد ولا يقبل (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)108، ولا يعني هذا المنع من وضع قوانين تنظم الأمور الدنيوية والحياتية وتحكم الوسائل وفقاً للشرع فيما سُكت عن النص عليه، فضلاً عن عد ذلك مصادماً لتشريع الله كما قالت الكنيسة! ولكن يجب أن تكون تلك القوانين والنظم تحت إطار تلك التشريعات الربانية والموجهات العامة والخاصة، وهذا ما فهمه من أنزل عليهم الوحي، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أشد هذه الأمة تمسكاً بما جاء به، ففي تاريخنا نجد أن أول من دون الدواوين، وجعلها على الطريقة الفارسية, لإحصاء الأعطيات وتوزيع المرتبات لأصحابها حسب سابقتهم في الإسلام، وأول من استحدث التأريخ الهجري، وأول من وضع وزارة للمالية (بيتاً للمال)، هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالشارع الحكيم وضع أحكاماً عامة وخاصة في كثير من الأمور الحياتية الدنيوية، وأوكل مهمة سن الآليات التنفيذية والقضايا التنظيمية إلى البشر، بحسب ما يتوفر لهم من وسائل قادتهم إليها مبتكرات عصرهم، ما لم تخالف الشرع، وفي صحيح مسلم عن عائشة وأنس رضي الله عنهما أن صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)109.
فلم يمنع الإسلام فيما يتعلق بأمور الدنيا وتنظيم المعاش من سن تشريعات ليست من الدين ولكنها تنظم أمر المعاش، شريطة أن تكون خاضعة للتشريعات الإلهية العامة والخاصة لا تناقضها، تقود إلى العمل بها لا تعارضها.(33/311)
وبناء على هذا، فالإسلام يرفض العولمة لكونها غير خاضعة لتشريعاته السمحة، التي جاءت لهداية البشرية وإرشادها للطريق الأقوم، وهذا يعني أن رفض الإسلام للعولمة معللاً لاعتقاد المسلمين أن تشريع الخالق العليم أحكم، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)110، وليس هذا الرفض رفضاً مجرداً عن التعليل أو تقديم البديل، ولكنه رفض مع تبين الطريق الأرشد، كما أنه ليس رفضاً مطلقاً لكافة تفاصيل العولمة وآلياتها، ولكن لما خالفت فيه التشريعات الربانية، بحجة تحصيل المصلحة الشخصية أو المحدودة على حساب مصلحة الأمم والمجتمعات.
والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها، أن للعولمة قوانينها ونظمها، وهذه القوانين والنظم لابد لها من يحكمها، فمن يكون؟
لسان حال دعاة العولمة يقول: يحكمها الأقوى وفقاً للمصالح التي يراها، فيجيز ما أراد ويمنع ما أراد، ويقترح السبل والوسائل التنظيمية التي أراد.
وهذا ما يرفضه قطاع عريض، وتيارات متباينة من البشر، فليست مصلحة الأقوى أولى، وليست شريعة الغاب، دستوراً يُرضى.
أما المسلمون فيقولون: يحكمها الأصلح للبشرية جمعاء، وهذا له شقين، شق نزل من السماء، وأهل الإسلام يؤمنون بأنه الأصلح، فعلى الأقل ليس لغيرهم أن يلزمهم بسواه، ولهم أن يدعوا الناس لهداه، وشق آخر لا يعارض ما جاء به الأنبياء، فهو محل نظر وتقييم ولكل رأيه الذي من حقه أن يبديه، ولكل نظامه الذي يرتئيه.
الفرق بين رفض العولمة والتعامل معها بسياسة الرفض:
إن رفض العولمة، لا يعني الانزواء في ركن قصي، مع المبالغة في إغماض العينيين، فهذا أمر لا يليق بأمة الرسالة، التي بعثها الله لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سِمَتها، ولم يكن كذلك سَمْتها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
تأملت هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها. ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، كالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ )111.
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا على الحيلولة بيننا وبين نشر الخيرية التي منحنا الله إياها.
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم بإذن الله، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا أن ننبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة …
…كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولكن علينا أن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح وإلا:
فمن يتهيب صعود الجبال … …يعش أبد الدهر بين الحفر
وإذا كانت النفوس كبارا … …تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون يصدق فينا قول الله عز وجل:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )112.
وحتى يتحقق هذا الأمل الموعود لابد من العمل على محاور ثلاثة:
المحور الأول: تطوير النظم الإسلامية وآليات تفعيلها، ثم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم إخراجها للناس، ودعوتهم إليها.
المحور الثاني: بيان ما في العولمة الوافدة من مثالب، وبيان الحلول الشرعية، والبرامج الإسلامية التي يمكن أن تحل محلها، مع توضيح الوجه الذي جعلها تفضل غيرها.
المحور الثالث: تحصين المجتمع المسلم من مثالب العولمة، وما فيها من أخطاء.
وجماع هذا كله، بناء المجتمع المسلم، المؤهل في كافة المجالات، وعلى أكتاف هذا المجتمع تقوم الدول التي إن قالت سمع لها.
وقد شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر113 وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال114 فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال:(33/312)
"إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء"115.
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة لأحد مظاهر العولمة (البث المباشر)، أتفق معه فيه على وجه الإجمال، ويصلح أن يقال حول مظاهر العولمة الأخرى، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، في واقعنا الحاضر، ولكن مع العمل الدؤوب في بناء المجتمعات، والجيل الذي يمثل مؤسسات الدولة وقطاعتها المختلفة، فسنصل إلى نتيجة، كما وصل سلفنا الصالح ونبينا الكريم والذي بدأ دعوته فرداً.
على الرغم من الترحيب المصرح به وغير المصرح بالعولمة وضرورة اللحاق بركبها، من قبل كثير من المسؤولين العرب، مع هذا أقول لو صدقت النوايا، وسرنا في مشروع البناء، لأمكن تحقيق البرنامج الإسلامي والنزول به إلى أرض الواقع، بل ودعوة الآخرين إليه، وهذا ممكن عقلاً جائز وقوعه، ولكنكم قوم تستعجلون
=============(33/313)
(33/314)
الراعي والشعر
حسين بن رشود العفنان / حائل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الراعي والشعر
بينا أنا سائر على ظهر سيارتي أطوي المفاوز وأنتعل المهامه إذ بها تقف على حيد الطريق فجأة فسكن بطرفة عين وانتباهها كل متحرك فيها وإذ بي في قلب سبسب مقفرة قد نصب الموت فيها خيامه وأستعد يستقبل ما أمامه.فتعوذت بكلمات الله التامة من شر ما خلق وترجلت وبدأت أتفقدها من ألفها إلى يائها فما وجدت شيئا يعيبها فقعدت أحد النظر في الطريق لعل قادما ينقذني من الهلكة فما رضي أن يقف أحد ولا أن يمد يد العون مخلوق فأسفت لانقطاع الخير بين الناس..!
حتى تيقنت أنني هالك لا محالة ومودع الدنيا دون أدنى شك..
همت على وجهي حتى لم أكد أرى الطريق فلما بلغ بي الصدى مبلغه وما بقي على الموت إلا شفىً غشي علي فما انتبهت إلا وماء بارد نمير يتدفق على وجهي من وكاء أعرابي قد قلبته الصحراء على ظهرها فكأنه ابن من أبنائها.
فقلت اسقني فسقاني فأومأت أن زد فزادني فحين استطعت الكلام شكرت له صنيعه وسألته إن كان له معرفة بعلل الدواب الحديدية فقال:
لسيدي ابن يدرس في المدينة فهو يخرج والشمس في خدر أمها على دابة كدابتك هذه فلنذهب إليه لعلك أن تجد ما يشفي غليلك!
فقلت على بركة الله فسرت معه وكان راعيا قد لحقت غنمه بنا فكنت لا أعرف أين أنا من بلاد الله فكل شيء متشابه الحجر والنبات والحيوان وكلها قد اعتادت هذا الجمر المتوقد وكلها تحمل صفات هذه المهمة المهلكة من الجفاف والخشونة.
فسرنا وبساط الحر قد فرش ولا ظل إلا تحت النعل والشمس قد قامت على هاماتنا فغلت رؤوسنا وألجمنا العرق إلجاما!
وخفف وجدي أني لحظت على هذا الراعي تغنيه بشعر الصحابة الجزل كحسان شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وابن رواحة وكعب ـ رضي الله عنهما وشيء غير قليل من شعر أهل المعلقات والأمويين والمحدثين... فاستنامت نفسي إليه لفصاحة لسانه وحسن ترنيمه وإنشاده.
فأحسست وكأني على زابي وثيرة تحت شجرة أتفيء ظللها فلم أصبر فسألته أتحفظ الشعر وتقرضه...!!
فقال نعم فاستنشدته فأنشدني حتى طربت فاستأذنته
فقلت : معي بضاعة من القريض أستشرف منك أن تعجمها وتقومها.
فغضب واحمرت أوداجه وتمعر وجه وكاد يبطش بي فحصر من الغضب والحرد
فقلت في عجبٍ : ما أغضبك رحمك الله ؟!
قال: أتظنني جاهلا بقريضكم ـ واستغفر الله من تسميته قريضا ـ أتسمي هذيانكم شعرا أو ما تعلم أنني سمعت منه ما أصم أذني وأدمى قلبي وآذاني وآلمني !! وصدق العلامة الطنطاوي ـ رحمه الله تعالى ـ حين قال أن شعر الحداثة يشبه الحدث الأكبر ولكن لا يطهره شيء ولا الغسل سبعا إحداهن بتراب المقبرة الذي تتمنون أن تدفنوا فيها (الشعر)!
فقلت لا يذهبن بك الغضب إلى ظلمي فأنا لن أروي لك من فاحش الحداثة أي شيء..!! فاستشاط وقال ستروي لي من شعر التفعيلة ذلك الشعر فعل الله به وفعل!!! ذلك الشعر (كالسكر الذي لا حلاوة فيه).!! بل كل المر فيه!
واأسفاه ! (الشعر اليوم لبس البلى وتعطل من الحلى)!!
قلت : بل هو شعر بني على نهج أسلافنا وهو مما يرضاه الخليل وسيبويه بل سأروي لك شعرا خليليلا موزونا مقفى. فمازالت ـ هديت ـ الحلي عليه والحلاوة فيه! وبعد لأي وجهد ورفع وخفض قال هات فتنفست الصعداء:
فأنشدته لأبي أسامة حسان الصحوة وأمير شعراء الإسلام عبد الرحمن العشماوي من قصيدة التي يقول فيها على لسان أم مسيكنة شردتها الحرب :
مَنْ لي، ومَنْ لصغيرتي وصغيري ** في زحمةِ الغاراتِ والتفجيرِ؟
مَنْ لي، إذا هَجَم الظلامُ، وليس لي** إلاَّ رُكام المنزلِ المطمور
مَنْ لي، إذا جُنَّ الرَّصاص وأتقنتْ ** لغةُ المَدافعِ لهجةَ التدمير؟
فأطرق وبدأ وجهه يصفر..فسكتُ : فأومأ لي أن أكمل.
فأنشدته حتى وصلت لقوله:
لكنْ، هَبُوني كسرةً من خبزةٍ ** نَسيتْ متى خرجتْ من التنُّور
فأنا أَنام على الجنادلِ والثَّرى ** وعلى رَصاص الغارةِ المنثور
هلاَّ استمعْتَ إلى بكاءِ صغيرها ** وإلى أَنينِ فؤادها المفطورِ
هلاَّ نظرتَ إلى دموع عَفافها ** وإلى جناحِ إبائها المكسور
فلم يتمالك نفسه فبكى ....وكدت أبكي معه لكن حملتها على المكروه
وأنشدته حتى وصلت خاتمتها:
أختاه يا أُمَّ الصِّغار تعلَّقي ** باللهِ، إنَّ اللهَ خَيْرُ نَصير
في لحظةِ اليأس العميقةِ، حينما ** نهفو إليه، يجود بالتيسير
قولي معي أُختاه قَوْلَة مؤمنٍ ** لا ينثني لوسائل التخدير:
كم أُمةٍ سكرتْ بكأسِ غرورها ** ذَهَبَ الإله بجيشها الأُسطوري
فقال وهو يكفكف دمعه : لقد أحسن الوصف وأتم النعت وبرع في الاستهلال وتفوق في الختام ولله هو! لو بثت هذه المسكينة شعرا لما كان إلا كما قال!
ألا إن قرضه للشعر ليس قرض عابث أو لا عب أو طالب منصب أو مريد شهرة بل هو قرض رجل غضبان أسف متحرق على واقعنا متألم لحالنا ولقد غبّر قافيته والله في سبيل الله!
ثم أنشدت على سمعه قصيدته التي خاطب فيها العالم المتعامي وفيها:
أيُّها العالمُ ما هذا السكوتُ **** أو ما يؤذيك هذا الجبروتُ؟
أو ما تُبصر في الشيشان ظلماً **** أو ما تُبصر أطفالاً تموتُ؟(33/315)
فقال لقد أحسن كذا يخاطب كل من يصعر خده ويدعي العمى وما هو بأعمى!
ومنها
إن يكن للروس آلات قتالٍ **** فلنا في هجعة الليل القنوتُ
عجبا لأمرنا بأيدينا النجاة ونهلك قال أحد الأدباء النجباء (لا يقرع باب السماء بمثل الدعاء خصوصا إذا كان مُطرز الحاشية بالصلاح ومُبرزا عن ناحية الفلاح ) وقال (الدعاء من مقاليد النجاة ومفاتيح النجاح)
ثم ثنيت بأبي عبد الله ابن جوزي عصرنا عائض القرني وتلوت عليه قصيدته التي حشيت حكمة وعظة :
سلا القلب عن غيد صفت وحسان***وأهمل الذكر المنحنى وعمان
وما عاد يلهيني الصبا بأريجه***ولو فاح بالريحان والنفلان
وخط برأسي الشيب لوحة عاشق***يقول: احذروني أيها الثقلان
وفيها:
شربنا ليالي الصفو في كأس غفلة *** ثلاثون عاما توجت بثمان
فمرت كأحلام الربيع سريعة *** فأيامها في ناظري ثوان
فقال صدق : هذه الدنيا كشمس العصر على القصر يتطاولها الإنسان إذا عدها وما أعجلها إذا تتابعت !
إلى أن قال:
وفي أربعين العمر وعظ وعبرة***ويكفيك علما شاهد الرجفان
فلا تسمعني وعظ قس ولا تسق***علي مقامات من الهمداني
فعندي من الأيام ابلغ عبرة***على منبر تلقى بكل لسان
فقال الراعي : لا إله إلا الله خرجت هذه الحروف من قلب صادق قد تقلب في هذه الدنيا وأخذ منها العظة والعبرة الله أكبر لقد أثارت في هذه الأبيات شجونا أعجز عن وصفها!
فقلت :وإليك فخره :
وما كنت مما يسلب اللهو قلبه***وكيف وفي الأعماق سبع مثان
وفي خلدي ذكر مرتل***معاذ الله ليس فيه أغان
إلى أن قال:
لداتي لهم لهو ولغو وسهرة***ولكن ديني عن هواي نهاني
فقال الراعي كذا من أراد أن يفخر لا كمن يفخر بجهله وفسقه وفجوره وما أجمل عزة المؤمن حين يتباهى أمام الناس بدينه وصلاحه والحظيظ من قضى شبابه في طاعة الله ورسوله والله وإن لذتها لا عدل لها .
وذكرت له قصيدة محمد المقرن ـ و هذا الشاعر يحق للأواخر أن يباهوا به الأوائل فقد جاء بما لم يأتوا به واقرأ إن شئت قصائده ـ ذكرت له أبياته التي تبكي كل غريب وبها حن إلى موطنه:
قفي لأجمع في عينيك أشتاتي
ومنها:
شربت فيها زلال الماء في شرق
من الحنين إلى شوب بمسقاة
حتى قال:
كل بموطنه يزهو وما استويا
مصباح بهو ومصباح بمشكاة
والإبل تألف في الصحراء غبرتها
وتأنف العيش في صفو الحضارات
ولفحة النار في أرض نشأت بها
أحب للنفس من بعد بجنات
يموت أهل الهوى بالشوق إن ظعنوا
وإن أبيت فهم أنصاف أموات
فقال : في الغربة كربة وقال العارفون من كان غريبا فلا ينس نصيبه من الذل والغربة قلة ونقص وأهون بغربة الأوطان إن قيست بغربة الأديان ما أعظم غربة الدين فهي التي تفري القلب وتذيب المهج رد الله غربتنا!
فقطع مجلسنا وصولنا إلى سيده الذي أكرم مثواي وقدم ما يقدمه الكريم لضيفه فأزال ما أبقته الصحراء في جسمي من تعب ونصب وأرسل بمن يصلح دابتي ويأتي بها وأمروني أن أتبعهم لئلا أضل أو أحيد عن الطريق فودعتهم وكلي لسان شاكر .
حسين بن رشود العفنان / حائل
=============(33/316)
(33/317)
أمة تذوب إنهزاما ..؟
د.بنت الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم .
اسم الكتاب: الإسلام الجديد للنساء.
المؤلف: روتكلاين هسلينغ - زيغريد نوكل - كارين فيرنر - غريت كلينكهامر.
عدد الصفحات: 256
الناشر: دار نشر ترانسكريبت، بيلفيلد - ألمانيا.
بين يدي الكتاب:
أختي يعاجلنا الغرب بمثل هذا المؤلف الذي يجاهد في إثبات حتمية عولمة المعتقد .. ..عولمة الثقافة .. عولمة الهوية .. ليكون مسخ كامل للشخصية المسلمة .. واستبدالها بالمسخ الأرعنْ . شخصية رجل البقر بلباس الجن والعفاريت وفي يده أنبوبة السم (السيجارة)
هذا هو الأمل لأنثى متحركة بمواصفات( مقاس 10) تتلوى كالأفعي مائلة مميلة ، وقد أصطبغ كامل جسدها المعرى لكل ساقط لا قط بألوان قوس قزح .. مهرجان ألوان تثير الغثيان .. وفوقه رأس قد فرغ من كل ملكة خير وفعل فاضل. هذه الشخصية الكاريكاتيرية هي المطلوبة منك .. مع الإبقاء على مسماك مسلمة .
إنها العولمة التي تريد فرض تأنيث الإسلام. فما رأيك؟؟
يناقش هذا الكتاب موضوع "الإسلام الأنثوي في زمن الحداثة", معتمداً على نتائج أبحاث ميدانية قامت بها كل من الباحثات الألمانيات هيسلينغ ونوكل وفيرنر بالإضافة إلى غريت كلينكهامر من جامعة بايرويت.
وقد نشر الكتاب بتعاون مشترك مع قسم اجتماع الأديان في جامعة بيلفيلد بألمانيا. ونتج عن هذا التعاون الرغبة في الخروج من الوسط الأكاديمي الضيق...من ناحية
وجمع الأبحاث ونشرها في كتاب ميسور الأسلوب بحيث يمكن لدائرة أوسع من القراء الاطلاع على نتائج الأبحاث فيه من ناحية أخرى.
وتقول مؤلفات الكتاب إنهن يهدفن إلى:ـ
1. المساهمة في إيضاح العلاقة بين الإسلام والعولمة.
2. التركيز الخاص على الجانب النسوي في هذه العلاقة.
وتشير الأمثلة الثلاثة عشر من دول (ألمانيا وهولندا ومصر ولبنان والسودان وماليزيا وإندونيسيا وتركيا) المتضمنة في هذا الكتاب إلى تعدد النواحي والاختلاف الشديد الذي يميز هذه العلاقة. وتكتب الباحثات الثلاث في مقدمة الكتاب (ص 12) "يتمركز مشروعنا حول عولمة الحياة اليومية"
وبالتالي أيضا حول المحلي الذي تغير بفعل عملية العولمة ولكنه لم يختف تماما.
إننا نهتم إذا بالعولمة (( كعملية تكوين للعمليات والبنى الإجتماعية ولوسائل الإعلام وللأعراف (...) المتجذرة اجتماعيا على المستوى المحلي وما فوق المحلي بدون أن تختفي الحدود بينهما ))
وجه الربط بين الإسلام والعولمة
ونعلم من الأبحاث السابقة أن عملية العولمة لا تشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة فقط بل الدين أيضا...
وهذا يعني حدوث عمليات تكوين بنى اجتماعية جديدة محلية وشاملة في نفس الوقت، مثل الشبكات والمساحات الاجتماعية المدعومة بوسائل الإعلام المختلفة على المستويين الوطني وما فوق الوطني.
أما بالنسبة إلى العلاقة بين العولمة والإسلام على وجه التحديد فإنه يمكننا رصد ظهور أشكال اجتماعية دينية مختلفة والتي من الصعب أن يتم مراقبتها من نقطة معينة أو توجيهها.
وتقول المؤلفات إنهن يعالجن ديناميكية الإسلام في علاقته مع العولمة من زاوية أن الإسلام الشامل يعتبر وسيلة ومحركا لعمليات التجانس وعدم التجانس بالإضافة إلى طبيعته المزدوجة العالمية والخصوصية.
فصول الكتاب التي تناقش موضوعات متعددة وتحت شعار "الإسلام الجديد للنساء"، ليست مقصورة على نماذج نسوية مغايرة للسائد العام، كما لا تهدف الباحثات إلى عرض حركات نسوية متأثرة بالنسوية العالمية خاصة في الغرب وهذا ما يسجل لهن وأكدن عليه في المقدمة.
بل إن الاهتمام الأكبر هنا ينصب على رصد وتجميع المبادرات التي تصف وتعبر عن الحركات الاجتماعية الجديدة التي حلت في زمن ما بعد الحداثة محل الطبقات الاجتماعية والتي تمثل مصالح غير مركزية لمجموعات جزئية. فهذه الحركات تعبر أكثر عن الممارسات التي تمارسها النساء في أمكنة مختلفة من العالم تحت ظروف العولمة.
وفي العالم الإسلامي يتم التركيز على (الإسلام نفسه ) وتقديم أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين العولمة.
===================
أختي الحبيبة .!!
إن بين الرجاء والتمني خط فاصل . فالرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز.
أما التمني فحديث النفس ورأس مال المفلس والإحالة إلى العفو والمغفرة من جسد ساكن لا حراك فيه ، فيه يتم تعطيل الأسباب الموصلة إلى المبتغى .
قال تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )
فإلى أيهما أنتِ ماضية ..؟.
لكننا واخجلتاه أخية....!! ما أضيعنا ونحن في زمنٍ. لا نملك فيه إلا حق الصمت .
ومنحت التراب وجهي أخشى .. أن أرى في فم العدو إبتساما.
آه من أمة تذوب وتنسى ...........كيف كانت مفوضاً مقداما .
وللموضوع تتمة. بإذن الله.
والله من وراء القصد،،،
==============(33/318)
(33/319)
أي حرية رأي؟
د. رقية بنت محمد المحارب
مرسيل خليفة..ليلى العثمان…عالية شعيب..جمع بين هذه الأسماء التي ترددت خلال الأسابيع الماضية أنها أساءت للدين الإسلامي العظيم من خلال القصة والرواية والأغنية والكتابة..هذا الدين الخالد الذي اختاره الله عز وجل لينقذ الإنسان من الضياع الدنيوي والأخروي ضاق به أولياء الشيطان والضالون من البشر ولو علموا مقدار جنايتهم على أنفسهم لما سلكوا هذا السبيل..لم يكن إهانة الآيات القرآنية الذي قام به الماركسي النصراني مارسيل خليفة ورفيقه في العقيدة الشيوعية محمود درويش عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني، والدعوة إلى الرذيلة والتمرد على القيم والآداب اللذان دعت إليهما ليلى العثمان وعالية شعيب إلا امتداداً للنيل من عظمة هذا الدين ورسول صلى الله عليه وسلم . سب أبو لهب صلى الله عليه وسلم فنزلت آية تتلى إلى يوم الدين، وفضح في هذه الدنيا، ويوم القيامة سيصلى ناراً ذات لهب، ودعا قوم لوط إلى الرذيلة وطالبوا بنفي المصلحين ونددوا بالتضييق على الحريات فأخذتهم الصيحة، وضحك قوم من نوح عليه السلام فأخذهم الطوفان. وعشنا زمناً ولا زلنا نصبح ونمسي على تلميع لرموز الحداثة ومقولا ت الحداثة الذين لم يتعبوا من ترديد "إن المبدع يحتاج إلى جو آمن كي يمارس إبداعه تماماً مثل الطائر الذي لا يمكن أن يأتي بحركات بهلوانية إذا أحس أن هناك من يترصد له بالبندقية".
أيها "المبدعون": الإبداع ليس أفكاراً بهلوانية لا تترك محرماً إلا انتهكته ولا مقدساً إلا أهانته. أي إبداع في تلميع الرذيلة وتصوير أصحابها بالأبرياء وضحايا المجتمع ..أي تميز في تقمص الأسلوب الغربي في السرد القصصي وفي نقل الأفكار وكتاباتها بأحرف عربية..أي أدب في وصف الجسد؟ أي ذوق يخدش الحياء بل يقتله؟
حرية الفكر عند هؤلاء تتحول إلى حرية كفر، والدعوة إلى تحرير الأدب من "الأيدلوجية" ينتهي إلى الطعن في المسلمات والاستخفاف بالمبادئ والقيم، فإنهم وإن ملكوا أقلاما وموهبةً أدبيةً إلا أنهم استخدموا هذه النعمة فيما لا يرضي الله. السماح للدعارة عند هؤلاء عنوان التطور، والرضا بسب الخالق جل وعلا دليل تحضر، ومنع الكتب والروايات الإلحادية والمواقع الإباحية لا يليق بالألفية الثالثة! الثقافة عندهم هدم للمسلمات، وجهر بالكفريات، وردهم إلى الأصول يسمى عندهم "المشنقة الأيدلوجية"!!
يردد الليبراليون مقولة " إن الحقيقة الكاملة هي شأن إلهي خالص خص به الصفوة من أنبيائه" وهي كلمة حق يراد بها باطل، بدليل إنه حين تتنزل على أرض الواقع تستباح المحرمات ولا تحترم المقدسات، ولا تقرأ لهم إلا تمجيداً للكافرين ونقلاً من كلامهم ودفاعاً عن المنحرفين والمنحرفات من الكتبة والكاتبات، ودعوة إلى التعايش مع الآخر وقبول فكره وانحرافاته بحجة العولمة، وتهميشاً للعلماء ومآثرهم وكتبهم، بل إنك لا تجد آية من القرآن أو حديثاً يرد في مقالاتهم وكتبهم مع ادعائهم الحرص على الشريعة والدفاع عنها، وتغيب الحقيقة الكاملة التي أقرها الله عز وجل في كتابه وتصبح الفتوى لاغية لأن هذا شأن إلهي خالص، وتصبح الفتوى حقاً مشاعاً لكل أحد بحجة أنه ليس لفرد أن يفرض وصايته على أحد. فإذن لا فائدة من وجود العلماء وكتب الفقهاء والجامعات الشرعية إذا كان يحق لمن تربى على كتب سارتر وأدونيس ونزار قباني والبياتي أن يفتي في الجليل والحقير.(33/320)
إن الليبراليين يريدون الإباحية المطلقة حتى ولو صرحوا بخلاف ذلك كخطوة مرحلية، والدليل على ذلك سلوكياتهم الخاصة التي لا تقف عند المحرمات التي يدعون الالتزام بها، والانبهار الواضح في كتاباتهم بالغرب وبالعيون الزرقاء والخضراء على طريقة رمزهم طه حسين عندما قال " علينا أن نأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها" والعجيب أنهم لا يترددون في وصف الإسلام بالسماحة والعدل والتيسير في حين أنهم لا يلتزمون بأي شي وردفي الشريعة حتى ما كان منها معلوماً من الدين بالضرورة. هذه المقولة تختفي عندما يأتي من يفتي لهؤلاء بما يتوافق مع أهوائهم وتراهم يستشهدون بأقوال أحد العلماء الذين صبوا عليهم كل أنواع الشتائم..إنه الفريق من الناس الذي قال الله عز وجل عنه ( ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين-وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون-وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين-أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون)، يقول صاحب الظلال: هذا الفريق إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان..المنافقين الذين لا يجرؤن على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام، ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله، ولا أن يحكم فيهم قانونه، فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير "وما أولئك بالمؤمنين" فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله، إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله. أ.هـ. وهكذا رأينا من يرفض تطبيق الشريعة جهاراً ويدعو إلى الفساد علناً يستدل على صحة رأيه بحديث ضعيف أو موضوع أو حديث صحيح لم يفهم معناه!!
المصدر : لها أون لاين
============(33/321)
(33/322)
قراءة في "الثقافة العربية في عصر العولمة"
مبارك عامر بقنه
كتاب "الثقافة العربية في عصر العولمة " ، هو عبارة عن مجموعة مقالات ومحاضرات ألقاها تركي الحمد في مؤتمرات متنوعة، وفي قراءة سريعة لهذا الكتاب يلحظ القارئ المخالفات الشرعية البينة، والتجاوزات الفكرية الواضحة، ومحاولة الخروج عن قيم ومبادئ المجتمع المسلم. مستخدماً أسلوب التكرار الممل لكثير من العبارات والأفكار، وذلك لترسيخ الأفكار ـ المراد نشرها وتعميمها ـ في الذهن. وقد حاول الكاتب نقد الثقافة العربية بطريقة موضوعوية [1] وليست موضوعية، مما جعل الكتاب بلا هوية أو انتماء وهذا النهج الفكري القصد منه تمييع القضايا التي يتناولها للدراسة.
الكاتب ونشأة العولمة:
كثر القول في بداية تحديد بداية نشأة العولمة فبعض الباحثين يرجع ذلك إلى نهاية القرن التاسع عشر مع اكتشاف التلغراف، وبعضهم يرجعها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية مع انقسام العالم إلى معسكر شرقي وآخر غربي، ويذهب كثير من المثقفين في تحديد نشأة العلومة إلى نهاية القرن الخامس عشر، معللين ذلك ببداية ظهور الدولة القومية الحديثة، وهذا القول هو القول السائد عند الغربيين، وكثير ممن نقل وترجم عنهم أخذ بهذا القول تقليداً، ومن هؤلاء الكاتب إذ يقول:" إن العلومة ليست شيئاً جديداً جاء مع الثورة المعاصرة في الاتصالات والمعلومات، فهي بدأت منذ أن دخلت، أو أنتجت، أوروبا الحداثة في نهاية القرن الخامس عشر[2]"
ومن سبر أغوار التاريخ وقلّب صفحات الماضي يجد أنه في هذا العهد سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس، وطرد الصليبيون المسلمين من قرناطة عام 1492م، وبدءوا زحفهم على العالم الإسلامي. ولهذا يصف الغربي هذا العهد بأنه بداية العلومة؛ إذ هو بداية إرسال البعثات التنصيرية للعالم الإسلامي. ومن الخطأ الفادح أن نجعل بداية هزائمنا، وتراجعنا عن الريادة، وتعميم النمط الحضاري الغربي والفكر الصليبي في بلاد المسلمين هو بداية العلومة.
ولكن يظهر أن الكاتب لن يبالي بذلك فهو يرى أن التقدم والتحديث لا يتم إلا بالتغريب كما يقول:" الحداثة ليست مجرد غشاء مادي؛ بل هي حالة عقلية إما أن تأخذ كلها أو تترك كلها، والتحديث عملية متكاملة، وغير ذلك هو المسخ[3]" فلقد وصل الكاتب مرحلة من الانهزامية، وفقدان للهوية، واستسلام مطلق للحداثة الغربية مما يجعله عاجزاً عن المقاومة ومحاولة النهوض والتحدي، فيقول:" لن تستطيع الثقافات التقليدية العريقة أن تفعل شيئاً، أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وإمكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة.[4]"
الكاتب والثقافة:
الكاتب يسعى إلى تمييع مفهوم الثقافة، وتجريد الأمة من خصوصيتها، وإذابة شخصيتها في ثقافة واحدة غربية المفهوم، علمانية التصور، مادية التوجيه. زاعماً أن ثقافتنا من طبيعتها التعايش مع الثقافات الأخرى ولكن التشبث بها هو الذي ولّد التصادم، ولا استطيع أن أصف هذا القول إلا بالجهل والتضليل على القارئ، فإن من خصائص الثقافة الإسلامية أنها ثقافة استقلالية لا تقبل الترقيع والتمزيق، أو التمازج مع أي ثقافة أخرى مغايرة لها، فهي لها نظرتها الفريدة للكون والإنسان والحياة وتتميز بأنها ثقافة تعتمد على الوحي والإيمان بالغيب، ومحاولة إلغاء الفارق بيننا وبين الآخر هو مرفوض من كلا الثقافات، فالصراع والمواجهة لابد أن تستمر ما دامت الحياة كما يقول الله تعالى ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(البقرة: من الآية217) ولا يزالون مستمرون أبداً في مقاتلتنا حتى نكفر ونتخلى عن ديننا وعقيدتنا وثقافتنا ونكون مثلهم، عند ذلك يرضون عنا ويتعايشون معنا كما قال الله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120) فهل نتخلى عن ديننا حتى نكون ذو ثقافة عالمية؟!
ثم لا أدري لماذا هذه التبعية والإعجاب لثقافة الغرب، فهم والله وإن كانوا تقدموا علينا مادياً وتقنياً وإدارياً لا يعني ذلك سلامة منهجهم الثقافي، وصحة تصوراتهم العقدية. ولكنهم وفقوا في الأخذ بالسنن الكونية في التعامل مع الحياة، وسنن الله لا تحابي أحداً ولا تتخلف عن فرد أو أمة أو جماعة من أخذ بها وعرف كيف يتعامل معها وفّق للصواب، فهي تسري على جميع الخلق. وتخلفنا اليوم نشأ عندما تركنا "فاتبع سببا" وأهملنا الأخذ بالسنن الطبيعية. فليس تخلفنا نتيجة خلل في ثقافتنا أو تصورنا للحياة والكون. وبروز الثقافة الغربية في العالم لا ينطلق من طبيعتها وذاتها وإنما يسند هذه الثقافة القوة السياسية والاقتصادية والإعلامية التي يملكها الغرب في نشر ما يريد. فثقافة الغرب سادت وانتشرت بعوامل مساعدة أخرى. وهذا خلاف الثقافة الإسلامية التي انتشرت في العالم بذاتها بدون أي مؤثرات خارجية وإنما بما تحمله في طياتها من حقيقة وصدق ووضوح وتكامل وتوازن شامل لجميع أشكال الحياة.(33/323)
إن النظرة السطحية للثقافة الغربية والأخذ بالظاهر شكّل لدى بعض المثقفين انهزامية ثقافية، فالتقدم الحضاري دليل عند هؤلاء المثقفين على مصداقية الثقافة، وهذا التلازم خاطئ إذ أن الأمة قد تفصل أو تبعد عن مصدر التلقي لديها فيحدث التخلف، فالخلل ليس ناتجاً عن الثقافة الإسلامية وإنما عن عدم التطبيق لهذه الثقافة. وهذا مصدر البلاء أن يكون حكمنا على الإسلام هو تطبيق الفرد له وليس على ذات المنهج وطبيعته.
ومن هذه المنطلقات جعل الكاتب العقائد والأفكار من "الثقافة"، ولم يستثن من ذلك أي أمة على وجه الأرض؛ بل يسري ذلك التعريف على جميع الملل والنحل فيقول عن الثقافة بأنها:" مجمل العقائد التي تؤمن بها جماعة ما، وتمنح المعنى للأشياء من حولها، وما ينبثق عن ذلك من سلوك وعلاقات.[5]" ويقول أيضاً:" الثقافة بكل بساطة، هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها، فهي مجمل العقائد والقناعات المطلقة[6] التي تؤمن بها جماعة ما.[7]" ولم يقف الأمر عند هذا الحد بأن جعل العقيدة من "الثقافة"؛ بل استرسل الكاتب في مفهوم الثقافة ليجعلها من صنع ونسج الإنسان فيقول:" الثقافة، في نهاية التحليل، هي شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان بنفسه، لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حوله.[8] " ويقول أيضاً :" تشبث الإنسان "بشبكة المعاني" التي نسجها بنفسه، يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان، ناسياً جيناتها الأولى، ومبتدأ أصلها، ويدفعه هذا التشبث بالتالي إلى الأحادية في تعامله مع ثقافته في مقابل ثقافات الآخرين، على أساس أنها هي وحدها التي تحمل "المعنى" وتحمل الغا!
ية ببساطة، على أنها هي وحدها المتضمنة لحقيقة الوجود.[9]"
وهذه المقولة من رقى إبليس والتي تصف أن الثقافة الإسلامية كالثقافات الأخرى التي تستمد ثقافتها بما أنتجه مثقوفها، وقرره فلاسفتها، فألبسوه لباس القدسية والسمو، ولا يعجب هذا الوصف من الكاتب للثقافة فهو ينطلق من مفهوم "ماكس فيبر" للثقافة، والتي هي مستوحاة من قول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان:5) فقريش زعمت أن القرآن العظيم من نسج البشر. والتي استمد ماهيته ومبادئه وقيمه من أهل الكتاب، وجعل صلى الله عليه وسلم له خصوصية ، ناسياً جيناتها الأولى وهي أن أصله من أهل الكتاب، الله أكبر، كيف تشابهت قلوبهم فقال مثل ما قالوا.
ثم إن تعجب فعجب قوله:" الثقافات ليست متصادمة بطبيعتها، ولكن التشبث المطلق بها وبرموزها، وما يحمله ذلك من إضفاء السمو والقدسية عليها، هو الذي يدفعها إلى التصادم.[10]" ثم يتمادى الكاتب في غيه منادياً إلى العالمية معللاً ذلك بأن الثقافة الإنسانية مشتركة في بنودها وقيمها فهي:" إرثاً إنسانياً مشتركاً وإيماناً إنسانياً عاماً .[11]" ويقصد بهذه الثقافة العالمية الديموقراطية كما فيقول:" الديموقراطية بصفتها مثلاً يسعى إليه وليس واقعاً معاشاً في كل أنحاء المعمورة. بصفتها تلك، فإن الديموقراطية اليوم أصبحت جزءاً من الثقافة العالمية المشتركة والذي يزداد الإيمان بقيمه يوماً بعد يوم. وهذا بذاته مؤشر كبير على مدى العالمية التي اكتسبها مفهوم الديموقراطية والمثل الديموقراطية.[12]"
الكاتب والديموقراطية:
حدّث ولا حرج عن إعجاب الكاتب بالديموقراطية الليبرالية فهو يرى أنها: " هي فعلاً اليوم أفضل نظام سياسي ممكن ابتكره الإنسان في التاريخ[13]" ثم لا يقف عند هذا الحد؛ بل يجعل ذلك من المسلمات التي لا تقبل الجدل فيقول:" لا مجال للنقاش في القول إن الحضارة في الغرب المعاصر هي أرقى ما توصل إليه الإنسان في تاريخه حتى هذه النقطة من الزمان، سواء تحدثنا عن المنجزات المادية البحتة، أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية[14]"
ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول، ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما قال السفهاء منا، فالدعوة إلى النظام الديموقراطي دعوة كفرية ، وردة شرعية. وقد قرر علماؤنا بكفر هذه الأنظمة، وكفر من يتبعها، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب :" من أعتقد أن هناك هدياً أفضل أو أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، أو متمم له فهذا كفر"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر[15]"
وقال الحافظ ابن كثير :" فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كفر: فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين [16] "(33/324)
وقال الشيخ الشنقيطي :" إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشرهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم [17] "
ويقول الشيخ بن عثيمين:" من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاُ عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية، أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. [18] "
والنظام الديموقراطي نظام كفري لا يتحاكم إلى الله؛ بل يتحاكم إلى الشعب، فالشعب هو المشرع للقوانين وليس الله، ومعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع من خصائص الله فلا يحق لأحد أن يشارك الله في التشريع، وتنظيم شؤون الناس الفردية والاجتماعية حق لله وحده لا يحل لأحد أن يشارك الله فيه ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(يوسف: من الآية40) في كل شيء يجب أن ترجع أمورنا وقضايانا إلى شريعة الله المطهرة المنزهة من كل عيب ونقص. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .
ومن لوازم تطبيق النظام الديموقراطي تشكيل الأحزاب المناهضة للإسلام، ولا فرق بين الناس وإن اختلفت دياناتهم ومعتقداتهم، ولا بد أن تصاغ الأفكار الدينية والآراء السياسية وفق النظام الليبرالي، فلا تقييد على الحرية الشخصية، فيعتقد الشخص ما يشاء، يرتد عن دينه، يدعو إلى الإلحاد والإباحية ونشر الفساد كل ذلك تحت شعار " دعه يعمل ما يشاء دعه يمر" كل هذا وغيره من لوازم النظام الديمقراطي والذي يتناقض مع النظام الإسلامي.
مصدر التلقي لدى الكاتب:
يقول الكاتب :" إن جوهر الوجود يتكون من خالق ومخلوق وموضوع لا رابع لذلك. ونقصد بالمخلوق هنا الكائنات العاقلة فقط (الإنسان وفق المعلومات المتاحة) [19] ."
أولاً: لا نسلم للكاتب أن حوهر الوجود يتكون من ثلاثة لا رابع لها؛ بل الوجود خالق ومخلوق لا ثالث لهما، فكل ما سوى الله فهو مخلوق. ولم يبين الكاتب ما المقصود بالموضوع، ويحتمل أن يراد به المعاني، وهذه لا شك أنها من أفعال العباد وهي مخلوقة.
ثانياً: لم يذكر الكاتب ما هذه المصادر المتاحة التي تلقى عنها العلم بأن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد في هذا الكون. ولا يمكن أن تكون هذه المصادر المتاحة القرآن والسنة لأنهما تقرران أن الكائنات العاقلة: الملائكة، والإنس، والجن. ويكفي أظهر دليل على ذلك إجماع الأمة بأنهم مكلفين، والتكليف لا يكون إلا لعاقل. وهذا أمر واضح بين، ولكنه مبهم لدى الكاتب لأن الملائكة والجن ليست من الأشياء الحسية التي يدركها بالحواس وهذا شيء لا يؤمن به الغرب.
والملاحظ على الكاتب كثرة استشهاده بالغربيين، واستدلاله بأقوالهم، بل لا تكاد تجد له استدلال على أقواله بقول من كلام السلف فهو يستنكف أن تكون هناك مرجعية ثابتة ينطلق منها الإنسان، ويستمد منها أصول التفكير إذ يقول:" إن النقد وثقافة النقد المتحدث عنها هي ذلك الأسلوب الذهني الذي يرى أن كل شيء قابل للنقد وإعادة التفكير والصياغة. إنه، بكلمات موجزة، ذلك الأسلوب المضاد للأسلوب أو العقلية "الدوغمائية[20]" المرتهنة لمرجعية معينة غير قابلة للنقد أو المراجعة أو المناقشة .[21]" ويقول أيضاً:" القول بالمرجعية لا يعني الديموقراطية المطلقة أو الثبات الدائم لمثل هذه المرجعية على مر الدهور والعصور، إذ أنها، أي المرجعية، ليست إلا متغيراً معيناً لا بد أن يتغير بتغير الظروف التي أنشأته أو على الأقل تتعدل وفق قدرة انفتاحية معينة [22]"
الثوابت والمتغيرات لدى الكاتب:
يرى الكاتب أن الأزمة التي يعاني منها العقل العربي هو التزامه بمبدأ الثبات فيقول:" إن علة العقل العربي، وما ينتجه من فكر، ومن يمثله من مثقف أو مفكر، إنما تمكن في سلفيته غير القابلة للتغيير. فالعقل العربي اليوم ليس إلا امتداداً لعقل الأمس ومواقفه من شتى الأمور، طالما أن الآلية التي يعمل بها بقيت ثابتة لا تتغير [23] ."(33/325)
فهذه هي العلة لدى الكاتب وهو الالتزام بالآلية السلفية التي لا تتغير، فالثبات على المبدأ، والالتزام بالقيم هو نوع من الانهزامية التي يراها الكاتب، والمخرج لدى ـ الكاتب بزعمه ـ هو الخروج على هذه المسلمات، وكسر المبادئ والقيم التي قد تخلى عنها الناس إلا نحن، فيقول بهذيان عجيب:" المثقف العربي غالباً ما لا يعيد النظر في مسلماته الفكرية، ملقياً باللوم على كل شيء، إلا المسلمات ذاتها، وكل ذلك يأتي من باب الثبات على المبدأ، والإخلاص للمثل العليا التي تخلى عنها الجميع إلا هو بطبيعة الحال. وذلك يشكل، عند التحليل، نوعاً من آليات الدفاع عن الذات في وجه متغيرات تهدد بسلب دور الوصاية والتخويبة عنه [24]."
فكل شيء جب أن يتغير كما يقول الكاتب:" كل شيء يتغير، ولا بد أن يتغير [25] " وكل هنا من ألفاظ العموم التي تشمل جميع الأفراد؛ فيدخل في ذلك كل القضايا الإنسانية من عقيدة وفكر وسياسة واجتماع واقتصاد … إلا إن الكاتب قد استثنى في موقع آخر من كتابه العقيدة فقال:" العلاقة بين الخالق والمخلوق فتنظيمها عقيدي عبادي ثابت، لأن مناط العقيدة والعبادة ثابت أبد الدهر لا يطرأ عليه تغير [26]." وهذا حسن من الكاتب وإن كانت هدنة على دخن فهو لم يبرز ما هو مفهوم العقيدة لديه ، وكما أنه يقر أن العقيدة والعبادة وهي العلاقة بين العبد وربه لا بد فيها الثبات إلا إنه لم يلتزم بذلك في الشريعة فهو يرى أن الشريعة لا بد أن تكون متغيرة فيقول:" إن مضمونها العلمي ـ أي الشريعة ـ لا بد وأن يكون متغيراً ومتحولاً تبعاً لتحولات الزمان والمكان [27] " ويا ليت شعري، كيف قرر الكاتب هذه القاعدة بأن الشريعة لا بد أن تتغير وتتحول؟ من أين أتى بهذه المقولة الزائفة؟ فهل في كتاب الله أو سنة رسوله أو أحد من العلماء المعتبرين من قال بذلك؟ ثم ما مدى هذا التغير والتحول؟ أم أن المسألة مطاطية ليس لها ضابط أوحد؟ ثم من هو الذي يقرر بتحول وتغير الشريعة هل هو نبي مرسل أم عالم أم مفكر أم سياسي؟ من له الحق بالتغيير والتبديل؟ ومن أين حصل على هذا الحق في تغيير الشريعة؟ وهل التغيير والتحويل يشمل النصوص الثابتة أم يلحق فقط القضايا الاجتهادية؟ فمن هو الذي يقرر المصلحة والمفسدة؟ أسئلة وإشكاليات كثيرة يتحتم على الكاتب إيجاد أجوبة لها حتى يثبت ما أدعاه.
إن تغيير الشريعة وتحويلها هو في الحقيقة تحويل للعقيدة، فإننا نعتقد أن نصوص الشريعة من الله، وأنها تتوافق مع الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان ولن تضيق أو تعجز يوماً في تقديم أرقى وأسمى ما يصبو إليه الإنسان، وإننا نعتقد أنه لا يحل لأحد من البشر كائناً من كان أن يبدل شريعة الله، فيحل الربا والخمر والزنا من أجل ضرورات المجتمع وطبيعة الحياة المعاصرة، فهذا نوع من رفض وإعراض عن شرع الله، فتغيير وتبديل الشريعة هو عزل للدين عن الحياة.(33/326)
وعقيدة الأمة في باب الأسماء والصفات وأفعال الرب لم تحارب من المتغربين كما حاربت الشريعة، والتي تمثل نظام متميز بقوانينه ومبادئه في جميع شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفيما يتعلق بشؤون المرأة والتعليم، وقد أرتأ أهل الزيغ والضلال بعزل النظام الإسلامي عن الحياة وعن المجتمع وجعل الدين هو علاقة بين العبد وربه، وأما الشريعة وتطبيقها فهي مسألة متغيرة متحولة ليست ثابتة تتشكل وفق حاجة الزمان والمكان فلا يمنع من تطبيق النظام الرأسمالي مثلاً لأنه هو الأنسب في هذا العصر، ونحن لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة؛ إذ أن الشريعة متحولة متغيرة فيمكن تغيرها إلى النظام الغربي. سخف من القول وزورا. إن موقف المؤمن المسلّم بأمر الله هو الاستسلام والانصياع لأمر الله كما قال الله تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" وهذا القضاء يكون في الأمر الشرعي ؛ فإن قضاء الرسول عليه الصلاة والسلام يكون في الأمر الشرعي التعبدي ، فالآية صريحة بأنه لا خيرة لنا في حكم الله وقضاءه الشرعي لا تغيراً ولا تبديلاً ولا تحويلاً لأحكام الله وأحكام رسول صلى الله عليه وسلم . وهذا القول الكريم مطلق لا يقيده زمان أو مكان ، وتقييد ما أطلقه الله من غير دليل هو تحريف للكلم عن مواضعه، فليس لنا الخيرة فيما قضى الله ورسوله في جميع الأزمنة والأمكنة؛ حتى وإن بدأ لنا أن حكم الله ورسوله لا يتناسب مع الزمان والمكان، وهذا افتراض لا يمكن وقوعه، ولكن نذكره جدلاً ، فإن المؤمن ليس له الخيرة إلا التسليم لله ولرسوله ، وعدم تغيير النصوص وتبديلها. وما حدث للأمة من انتكاسة وتخلف هو نتيجة عن تعطيلهم نصوص الشريعة عن التطبيق والامتثال، وتأويل النصوص عن غير مراد الله ، فأحدثوا في الدين ما ليس منه ، فكثرت البدع والخرافات والانحرافات الفكرية والعملية فكان ذلك سبباً في تسلط العدو علينا. فالخلل ليس من الشريعة؛ وإنما الخلل في تطبيق الشريعة وفي فهمها وكيفية التعامل معها. وهذا ما وقع فيه الكاتب، فهو لم يدرك حقيقة الشريعة الربانية ، وتوائمها مع الطبيعة البشرية ، وخلله ينبع من انبهاره بالحضارة الغربية المادية ، وجعلها المقياس الصحيح لصحة النظم وتقدم البشرية.
الكاتب وتطفله على العلم الشرعي:
مما يحزن المرء ويمرضه هو تطفل كثير من الكتاب والمثقفين على العلم الشرعي، والتعامل مع العلم الشرعي كأي علم إنساني آخر ليس له خصوصية أو ميزة، فالكل له حق الطرح في القضايا الشرعية وانتقاد مناهج العلماء بزعم أن هذا الدين ليس حكراً على طائفة.
ولا شك أن الدين ليس مخصوصاً لطائفة معينة ولكن الفتى وتقرير المسائل العلمية هو لطائفة معينة لا يشاركهم فيها إلا من اتصف بصفاتهم، فالله عز وجل لم يجعل لكل أحد أن يتكلم في القضايا الشريعة بما شاء؛ بل جعل هناك مرجعية لمعرفة أحكام الله، وهم العلماء الربانيين الذين بذلوا مهجهم في طلب العلم وتحصيله ، فهم الذين لهم الحق في الحكم والفتيا كما قال الله تعالى:" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" فهذه الطائفة قد خصصت نفسها في التفقه في دين الله ، فجعل الله لها الحق في إنذار أقوامهم.
ومن آفات هذا العصر عدم احترام التخصص، وهذا ما سقط فيه الكاتب فقد انتقد مناهج العلماء ، وحاول رفض رأيهم من غير استدلال يستدل به فهو يمنع القياس ويجعل القياس يقيد العقل فيقول:" بقي العقل العربي الإسلامي، بصفة عامة، أسير قضية القياس، دون اعتبار لحركة الواقع [28] " فالذي يحكم على النص هي حاجة الواقع، ومتطلبات العصر وليس النص فيقول :" الانطلاق من الحادثة نفسها للحكم عليها، في إطار متغيرات وحاجات المجتمع المتجددة، وليس مجرد إخضاعها لقياس شاهد حديث على غائب قديم، أو حتى إخضاعها لنص أصلي، طالما أن التغيرات التي أحاطت بإنتاج النص، ليست هي ذاتها المحيطة بتكرار الحادثة [29] "(33/327)
وهكذا يضع أصلاً جديداً للتشريع هو حاجات المجتمع، وكأن الإسلام يتصادم مع حاجات المجتمع. وفي رأي الكاتب أن النص يعالج قضية آنية حادثة لا يصح نقلها إلى مجتمع أو عصر مغاير ، فالنصوص ليست كلية ؛ بل هي لحالات فردية لا يحق لنا إصباغها بالعمومية والشمول. وقصر الأحكام الشريعة في زمن صلى الله عليه وسلم هو دعوة صريحة لتعطيل الشريعة وأنها غير صالحة لهذا الزمن إذ أن تركيبة وطبيعة المجتمع الحديث يختلف عن المجتمع الذي انتج في النص، ويمكن من هذا الباب مثلاً تحليل الربا لأن تحريم الربا جاء في عصر ساد فيه ظلم الأغنياء للفقراء، أما في هذا العصر والذي اصبح فيه التعامل المالي عن طريق المصاريف المالية فإن الفقير لا يلحقه ظلم ، وهذا ما قرره الكاتب بأن التحريم مبني على مقدمات غير صحيحة وهو التشابه بين واقعة حادثة مع واقعة سابقة ، فيقول:" إن التشابه منطقياً لا يفيد التجانس المطلق، لدرجة التوحد. بقدر ما يفيد الاختلاف بحسب درجاته. فالبنوك، وهي مؤسسات حديثة، تتعامل بالفائدة، والفائدة تبدو متشابهة مع الربا القديم. وطالما أن الربا محرم، فالفائدة ربا أذن، وبالتالي فهي محرمة ، نقطة الانطلاق إذن ليست هي الحدث ذاته أو المتغير ذاته، البنوك هنا، ولكنها العملية الذهنية نفسها، التي تحولت إلى هدف باذته، وبذلك انقلبت المعادلة. [30] " وهذا الكلام يشعرك أن الكاتب لا يفقه معنى القياس، وما ضوابط ثوابت العلة وانتفائها، ولا أظنه قرأ أقوال العلماء في هذا الباب العظيم، فقوله أنها عملية ذهنية يدل دلالة قطعية أنه لا يدرك من القياس إلا قوله التشابه بين واقعتين لاحقة وسابقة، فالضوابط التي قررها علماء الأصول من تحقيق المناط ، وتنقيحه ، وتخريجه ، وشروط ثبوت العلة، وقوادح العلة ، كل ذلك يجهله الكاتب لذلك أتى بالعجائب .
وهذه السفسطة من الكاتب هي تلاعب بالأصول الثابتة، ومحاولة لعزل الدين عن واقع الناس، وإشعارنا أن الدين يتعامل مع قضايا سابقة قد اندثرت، وأنه لا صلة بين الدين والواقع وإن تشابهت الواقعة لأن الحدث تغير، وأن النص محدود لا يمكن أن يكون لكل زمان ومكان.
وتجد مسألة التحريم عند الكاتب من أشد المسائل وأعسرها، فيقول :" التحريم لا يكون إلا بنص جامع ومانع أي بنص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة. وحتى في مثل توافر مثل هذا النص فإن القراءة وفهم النص خاضعة للظروف المحيطة بمن يقرأ ،وكيف يقرأ، وأين ومتى [31] " وهذا الحد للتحريم لم يسبقه أحد من العالمين، فهنيئاً له هذا العلم! وبهذا الحد للتحريم لن يكون هناك حرام مطلقاً ، حتى وإن وجد النص الجامع المانع فإن الظروف المحيطة تغيير الحكم.
لم أر جرأة مثل هذه الجرأة في التطاول على أحكام الشريعة ، تغيير وتبديل وتعطيل وتمييع لأحكام الله من غير ذكر لدليل يستند عليه أو ذكر لقول عالم يستأنس به ، وإنما مجرد تعالم مبني على جهل مركب وهوى أعمى وغايات خبيثة ، ولم يكتف بهذا الكذب على الشريعة في حد التحريم؛ بل يرى أن التحريم عند علمائنا ليس مبني على علم؛ بل الغلو والمصالح هي وراء التحريم وليس النص، فيقول:" المشكلة أن الغلو، والأغراض السياسية، والمصالح الشخصية في التاريخ الإسلامي، قلبت القاعدة، فتحول التحريم إلى أصل، والتعددية إلى أحادية، والشريعة إلى تفصيلات قياسية اجتهادية فردية تتعلق بكل شأن من شؤون الدنيا، منحت صفة النص المقدس، رغم أن النص المقدس قليل وعام في أضيق الحدود لقد أصبحت مقولة "الإسلام دين ودنيا" مقولة مضللة أكثر الأحيان، وأدت إلى ظهور طبقة من رجال الدين المتحكمين في كل تفاصيل الحياة [32] " وهذا اتهام لعلماء الإسلام ، وتشويه لتاريخنا، وهذا إن كان يصدق على بعض العلماء ـ وهم قلة في التاريخ الإسلامي ـ إلا أن البحث العلمي يتحتم الإنصاف في الحكم وعدم التعميم للقضايا الفردية . واحترام علماء الأمة والذين هم رم!
وز وقدوات يستضيئون بعلمهم، فهو يقول عن الشافعي العبقري واضع علم أصول الفقه :" فما قام به الشافعي هو أنه وضع قيوداً على عمل العقل، أي عقلن العقل [33] " وهو حق أن الشافعي وضعاً قيوداً ليمنع العقول الفاسدة من التلاعب بأحكام الشريعة ، فحجز السفهاء وحجر على عقولهم وقولهم من أن ينال من هذه الشريعة الغراء، فهي محفوظة باقية ثابتة ما دامت السموات والأرض، فهذه القواعد التي وضعها الشافعي وغيره كفيلة بأذن الله أن تجعل الشريعة الإسلامية نقية ناصعة صالحة لكل زمان ومكان.(33/328)
ولم يكتف الكاتب بهذه الأباطيل، بل جعل مذهب الأشاعرة هو الوحيد لمعرفة الحقيقة وهو مذهب أهل السنة والجماعة. يقول:" مع الاعتراف بمنهج الإمام الشافعي في الشريعة، والأشعري في العقيدة، والغزالي في الفكر، بصفتها سبلاً شبه وحيدة للوصول إلى الحقيقة، وبصفتها الأركان الثلاثة للوسطية الإسلامية... لقد تشكلت هذه الأركان تحديداً، بالإضافة إلى روافد فرعية، ما أصبح يعرف بمذهب أهل السنة والجماعة [34]" لست أدري لمن يكتب الكاتب! أيظن أن القارئ جاهل أحمق حتى لا يعرف منهاج أهل السنة والجماعة! والزعم أن مذهب الأشعري هو المسلك الوحيد لمعرفة الحقيقة وأنه هومذهب أهل السنة والجماعة فهذا الإدعاء يرده الأشعري والغزالي كلاهما؛ فقد تبرأ الأشعري من منهجه ووضع كتابه "الإبانة" معلناً فيه رجوعه إلى ما عليه الإمام أحمد وهو مذهب أهل السنة والجماعة، والغزالي يتبرأ من علم الكلام ومسلك الفلاسفة كما في كتابه " تهافت الفلاسفة" وأن العقل محكوم بالنص ولا يستطيع لوحده أن يدرك الغيبيات.
كنت أتمنى أن يحترم الكاتب عقل القارئ وأنه ليس عقلاً ساذجاً يقبل كل فرية تقال، فالكاتب لا يتردد بأن يسطر ما شاء دون مبالاة بما يقول، ولذلك تجد كتابه خال من البرهان العقلي أو الدليل الشرعي، فيثبت وينفي حقائق علمية بدون ذكر أي برهان على صحة قوله ومن ذلك مثلاً قوله :" لظروف عملية، وسياسية تحديداً، لا علاقة لها بالمسألة المعرفية، صنف الأئمةالأربعة على أنهم ينتمون إلى منهج واحد، بغض النظر عن الدقة المنهجية [35] " وكذلك تقريره أن منهج المرجئة والمعتزلة هما كمنهج أهل السنة ولكن لأمور سياسية هي التي خرجتهما من هذا المنهج، فيقول :" المرجئة والمعتزلة مثلاً، يستمدان شريعتهما من المرجع ذاته، القرآن والسنة، وبالتالي فإنهما معرفياً يقفان على قدم المساواة، والشيء نفسه يمكن يقال عن البقة. ولكن، الأيديولوجيا، وليست الابستمولوجيا [36] ، هي التي تقف وراء سلطة مذهب دون آخر، أوتار سياسي دون آخر، وبالتالي هذه الأحادية التي يحاول البعض، قديماً وحديثاً، فرضها على الإسلام [37] "
وهكذا يلقي الكاتب الكلام على عواهنه من غير ذكر أي دليل يثبت صحة مزاعمه، فألفاظ زور يلقيها الكاتب الأكاديمي لا يبنى على أسس علمية، أوحقائق تاريخية مبنية علىالبحث والاستقراء، فليدرك القارئ أن هذه محاولات من الكاتب وأمثاله لتشويه تاريخنا، وتمييع العقيدة وأنها عامة غير منضبطة بقواعد وأصول، وأن التصنيف العقدي نتج بسبب قضايا سياسية ليس لها علاقة بالمنهج الإسلامي. كل ذلك من أجل تغريب الأمة.
رأي الكاتب في الصحوة:
يشتد الكاتب غضباً، ويتحسرألماً عندما يرى الاكتساح الأصولي ـ على حسب وصفه ـ في هذا العصر، فيقول ـ وقد ركب السيل الدّرج ـ بتبجح ووقاحة :" هل استطاع المثقفون والمفكرون العرب على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم ومذاهبهم، وما أنتجوه من فكر، أن يزرعوا قيما معينة تظهر في سلوك المواطن العادي (العامة) الذي هو محل كل خطاب يطرحه المثقف المنشغل بإشكاليات العصر، وقضاياه ... الجواب بصفة عامة هو لا، وإلا كيف نفسر ذلك الاكتساح الأصولي للساحة السياسية والثقافة العربية المعاصرة، والذي هو دعوة إلى قيم تقليدية بحتة بأفج صورها وسطحيتها، وأنماط سلوك لا تنتمي للفترة المعيشة، رغم مرور قرنين من محاولات التنوير والحداثة والنهضة [38]"
والسؤال هل الدعوة إلى التمسك بقيم الوحي، قيم تقليدية فجة سطحية لا تتناسب مع العصر؟ كلام في غاية الخطورة؛ إذ فيه استحقار وإزدراء واستهانة بقيم الدين، وهذا هو ديدن الكاتب دائماً الاستهجان بكل ما يتعلق بثقافتنا الإسلامية الأصيلة، ولا يرى التقدم والتنوير إلا من الغرب، فتأمل كيف يصف بتبجح بداية الغزو الفرنسي على مصر (1798ـ1801) بأنها بداية التنوير والحداثة فهذا يدل على جهل وانهزامية نفسية عميقة لدى الكاتب، فالحملة الفرنسية التي قام بها " نابليون" على مصر حملة صليبية يراد منها هدم معقل من أكبر معاقل الإسلام الفكرية والعلمية، لقد كان يهدف هذا التنوير إلى " تنحية الشريعة الإسلامية وهي أول نقاط المخطط التي بدأ بتنفيذها بالفعل [39]. وهذا التنوير هو الذي ضرب الأزهر، وجلب البغايا ونشر الفاحشة.
ختاماً: فهذه مقتطفات خاطفة لبعض ما كتبه الكاتب، وقد حاولت أن تكون هذه الكتابة مختصرة، فلم أذكر كل ما رصده القلم، وذلك خشية الملالة، فاقتصرت على البعض، والبعض يدل على الكل. وخطر الكاتب واضح بيّن لذلك لم أذكر الأدلة الشرعية والعقلية على ما ضل به قلم الكاتب؛ إذ أن الهدف هو تحذير الأمة من هذا الكتاب لما فيه من مخالفات عقدية، وتجاوزات شرعية. ولولا أنه يباع في أسواقنا لما كتبت عنه . فالكتاب ليس له هوية، أو طرح علمي رصين، يستحق المناقشة العلمية الجادة، لذلك اكتفيت بالعرض لهذه المفاهيم الخاطئة.
وكتبه: مبارك عامر بقنه
--------------------------------(33/329)
[1] يتصف الكاتب باستخدام مصطلحات كثيرة تتسم بالغموض والإبهام والرمزية، فكثير من الأحيان لا يعرف أحد معنى هذه المصطلحات أحد إلا هو وشيطانه، ويقصد بالموضوعوية هنا أنها نزعة علموية تقف موقفاً نهلستياً (عدمياً) وليس حيادياً تجاه القضايا التي تثيرها حياة الإنسان. بخلاف الموضوعية والتي تقف موقف الحياد لكنها لا تقف موقف العدمية. ولا شك أنه لا يمكن أن يكون الإنسان في لحظة من لحظات حياته في خالة عدمية تجاه القضايا الإنسانية، فهذه افترضات ذهنية لا توجد في الخارج.
[2] ص (11) [3] ص (45) [4] ص(118) [5] ص(63)،(42)
[6] كثيراً ما يذكر الكاتب المطلق مع أنه يرفض المطلق.
[7] ص (90) [8] ص (17) [9] ص(17) [10] ص(17)
[11] ص(178) [12] ص (179) [13] ص(46) [14] ص (80)
[15] مجموع الفتاوى (28/217) [16] البداية والنهاية (3/128) [17] أضواء البيان (4/91ـ92)
[18] مجموع فتاوى ورسائل فضيلة بن عثيمين (2/140) [19] ص (201)
[20] الدوغمائية: مصطلح نصراني كاثولكي مشتق من كلمة (دوجما) ومعناها: المبدأ ذو الصحة المطلقة، ويرتبط هذا المصطلح بالإلهام الذي تزعمه الكنيسة لنفسها، ويدخل في نطاقه الإدعاء المثير للسخرية وفحواه أن بابا الفاتيكان معصوم، وذلك بموجب دوجما صدرت عام (1870م)، وأصبحت الدوجماتية وصفاً يطلق على الحركات الشمولية كالشيوعية والفاشية. وفي نطاق ببغاوية اللادينيين العرب أصبحوا يفترون على الإسلام بإلصاق الدوجماتية به ظلماً وعدواناً، مع أنهم هم الأجدر به، لأن الاقتناع بالإسلام أمر اختياري يلي التفكير والتدبر. (المغني الوجيز) للأسعد. نقلاً من كتاب (تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة) للخراشي.
[21] ص (189) [22] ص (189) [23] ص (138) [24] ص (139)
[25] ص (139) [26] ص (202) [27] ص (203) [28] ص (36)
[29] ص (123) [30] ص (118) [31] ص (112) [32] ص (125)
[33] ص (123) [34] ص (112) [35] ص (112)
[36] ابستمولوجية: من اليونانية، تعني نظرية المعرفة العلمية، استخدم مع بداية القرن العشرين كمصطلح دال على فلسفة العلم، ثم اتسع مدلوله ليعني الدراسة الفكرية المحضة لطبيعة العلم، ولذلك فإنه يعني تناول الموضوعات على المستوى المعرفي.
[37] ص (125) [38] ص (122) [39] انظر واقعنا المعاصر(201)
=============(33/330)
(33/331)
في مرآة الشعر الإسلامي المعاصر
عبد القادر عبار
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
مقدمة
(1)
من الحقائق التي لا يملك أحد طمسها و نكرانها- إذ هي أقوى من أن تطمس واظهر من أن تنكر- أن الإسلام منذ بواكير شروقه على العالم قد صبغ الحياة بصبغته التوحيدية البارزة وترك بصماته على كل شيء لمسه ووقع تحت تأثيره ? في النفس والمجتمع ... وفي الحياة والكون ... كما أن تأثير الانقلاب الجذري الذي صاحب الدعوة المحمّدية منذ إشراقه " اقرأ باسم ربّك الذي خلق" الأبجدية الأولى للعمل الإسلامي- لم يقف مدّه عند مساحة المفاهيم العقيدية والمسألة الاجتماعية والأعراف والخلق ... وإنما امتد قدما ليلمس أيضا الخطاب الثقافي السائد في المجتمع العربي حينذاك فيبعث فيه روحا إبداعيا جديدا.
(2)
وإذا كانت الظاهرة القرآنية قد شغلت- بإبداعية خطابها المؤثر وعمق مضامينها وجدّة أسلوبها- العرب عن قول الشعر والانبهار به وأخرست بإعجاز بيانها السنة الفحول عن النطق به فإن ذلك لا يعني أبدا كون الإسلام جاء ليحطّ من قيمة الشعر ويلغي دوره في الحياة ويعلم حربه على الشعراء ... وإنما الذي يجب أن يقر في الذهن- كما يقول الدكتور? يوسف خليف- هو أن القرآن قد اضعف من سيطرته ( أي الشعر) على المجتمع الأدبي الإسلامي بعد أن كان هو اللون الأساسي في الحياة الأدبية الجاهلية. وإذا كان لبيد بن ربيعة قد فكّر في أن يحطّم قيتارته - بعد أن اسلم وملك عليه الإسلام كيانه- فقد كان هناك غيره- مع دخولهم حظيرة الإيمان والإسلام- قد احتفظوا بقيثاراتهم دون أن يحطموها ... إن الرجّة الدينية والأدبية التي أثارها القرآن في نفوسهم وفي المجتمع الإسلامي من حولهم كادت تزلزل الأوتار في أيديهم وتجد الناس لا يجدون في فنّهم تلك المتعة الآسرة التي كان القدماء يجدونها في الشعر القديم. (1)
(3)
وإذا كانت الآراء قد اختلفت حول تقييم الشعر الإسلامي- قديمه وحديثه- فمنها ما يلحّ على صفة الضعف فيه ومنها ما يجزم بقوّته وازدهاره... فنحن مع الرأي الذي يرى أن الشعر- في ظلال الحياة الإسلامية- قد شهد أزهى فترات تقدمه وإبداعه وذلك بما تهيأ له في المناخ الإسلامي من أسباب القوة والتقدم والنهوض ? كالمصداقية وحرية التعبير والالتزام المسؤول إذ يكفي أن نعرف أن الرسو صلى الله عليه وسلم كان يمّد شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه- بالأسباب المشجعة على القول والإفصاح من مثل قوله له ?
" لندرك مدى المصداقية والمكانة التي يتبوؤها الشاعر- والشعر- في المجتمع الإسلامي".
(4)
وقد فهم الشعراء هذا الدور الذي أولاه لهم هذا الدين ووعوا أبعاده... فكرّسوا قرائحهم في خدمة الدعوة وشحذوها لتحصين القيم والمثل السامية وترشيد الحياة الإسلامية والتغني بجمال الكون وإبداع الخالق... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر....
كما انهم وطّنوا أنفسهم على الالتزام بقضايا الأمة وترجمة هموم المسلمين والإفصاح الصادق عن المعاناة الإسلامية .... ونظرة منصفة للتراث الشعري القيّم الذي تمخّضت عنه القريحة الإسلامية تشهد بصدق ما نقول...
ولعل في مقالات هذا الكتاب بعض الشواهد التي تكشف بوضوح عن ثراء ديوان الشعر الإسلامي وتنوع موضوعاته وعمق مضامينه وصدق التزام الشعراء الإسلاميين برسالتهم الثقافية ودورهم في الحياة.
عبد القادر عبار
القوة والوضوح في الشعر الإسلامي
حول ظاهرة الرمز والوضوح في الشعر الحديث ...
يلاحظ القارئ في جل الكتابات الشعرية الحديثة- الشبابية منها خاصة- المبثوث منها في الدواوين والمبعثر في الجرائد والمجلات والنشرات يلاحظ أنها تتسم بالرمزية المفرطة أحيانا والمحتشمة أحيانا أخرى.
وكتاّب الشعر- حسب رأيي ولا أقول الشعراء- عندما يصرون على انتهاج هذا المنحى في انتهاجهم يحدثون- علموا أم لم يعلموا- فجوة عميقة بين الجمهور وكتاباتهم. فكم من عاشق للقوافي يمني النفس بقراءة لديوان ما ثم لا يلبث أن يجد نفسه مرغما على طرح ذلك الديوان جانبا نتيجة الملل السريع الحاصل من عدم فهم أي معنى للكلمات المرصوفة بتكلّف بليد وعدم تحسس أي تسلسل فني عفوي للجمل الشعرية المهندسة وفق بناء فوضوي للقصيد وكذلك عدم الفوز بأي نغم شعري هفهاف يروّح عن الخاطر وينعم الوجدان رغم ما يبذل القارئ من جهد ومصابرة.
ويعجبني تعليق للشيخ محمد الغزالي في صراحته العفوية ? " .... وإذا كان الأدب مرآة أمة ودقات قلبها فإن المتفرّس في أدب هذه الأيام العجاف لا يرى فيه بتة ملامح الإسلام ولا العروبة ولا أشواق أمة تكافح عن رسالتها وسياستها الوطنية وثقافتها الذاتية ... ما الذي يراه في صحائف هذا الأدب؟ لا شيء إلا انعدام الأصل وانعدام الهدف والتسوّل من شتى الموائد الأجنبية وحيرة اللقيط الذي لا أبوة له . والشعر ؟ لا موضوع له ... وإذا لمحت عيني ما يسمى بالشعر المنثور تجاوزته على عجل. لأني من طول ما بلوته يئست أن أجد فيه معنى جادا أو شعورا صادقا أو فكرة واضحة ... " (2)
شواهد ...(33/332)
ولن اذهب بك بعيدا فأمامي الآن نموذجان شاهدان أولهما من المغرب العربي وثانيهما? من المشرق.
هذا المقطع الأول من قصيدة بعنوان ? أنت انت عروس البر والبحر- جاء فيه ?
" ت . ش . م .
تتشمسين في القيلولة يبلّلك العطش
تفلتين من اللفح.. تهربين من النعاس.. تغالبين الإغماء..
ترشين الوجه بماء الزهر
تدخلين في الظل
تحملين الوزر على الظهر..تختفين في الشعاب..
يجرّب الوطن في أبعاد عينيك دفء الولوج
وحفيف الانسياب " (3)
وهذا مقطع من قصيدة بعنوان ? " محاولة في تأويل عيني حبيبتي " ?
" آخذ قبلة عينيك واقرأ ?
خيزران ويعافير وبقل ونخيل أنثوي
ومهاتان وينبوع ورمل
وغزال يستحم
آخذا كنت و أكتب ?
سيسبان فرعوني وغيد يتهادين
وولدان ينادون ?تعالين إلينا
ومواعيد هوى تمّت ? وأخرى ستتم " (4)
فهل بمثل هذا الكلام الذي يدعي أصحابه مصرّين على أنه شعر(؟؟)يمكن تبليغ قضية ما إلى الجمهور لتحريك عواطفه وكسب تأييده ونصرته ؟ وهل بمثل هذه الرمزية المبهمة التي لا يكاد يفهمها حتى أصحابها يفرض الشعر سلطانه على الوجدان؟ والجواب كما جاء على لسان الشاعر كمال رشيد ?
وكما يموت الصديق في زمني مات القصيد ولامس الوحلا
تجري الأمور كما لو انطفأت عين البصيرة ورأيه اعتلاّ
إلا أن أمانة البحث وموضوعية التحليل تفرض علينا أن نبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة . فنجد أن هناك أسباب ذاتية وأخرى خارجية ?
الأسباب الذاتية ...
ونرجعها أساسا إلى ?
* هزال الثقافة الشعرية المتينة والأصيلة والواسعة لدى الشاعر.
* عجز فني مفاده الضعف التكاملي لدى الفنان الذي ستتحول المعاني على يديه إلى سحب ضبابية وممارسات غيبية لا يعرف حتى قلبه معناها. (5)
الأسباب الخارجية ...
من يتابع شعراء الغموض يجد أن معظمهم أبتدأ"كلاسيكيا" ثم مال إلى الحداثة والتجديد فالغموض بالنسبة لهم لا يعدو أن يكون مسايرة للموضة الجديدة وتقليدا لثورات شكلية في أدب الغرب . وهذا ما يبرر سقوط العديد من شعراء الغموض والتجديد على دروب الحداثة الأصيلة التي يجب أن تنبع من واقع عربي إسلامي وليس مجاراة لصراعات غربية لا تمت لواقعنا بأي صلة. (6).
ثم هناك عوامل الواقع الموضوعي المعاش الذي يرتكس فيه الشاعر والمتسم عموما بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتسلط السياسي .. هذه العوامل تصطدم بحساسية الفنان فتجبره على اللجوء إلى الرمز والإيحاء هروبا من المباشرة.
وههنا أقف لأطرح سؤالا يشكل صلب البحث ? هل سلك الشعراء الإسلاميون هذا المنحى في كتاباتهم ؟
ميزة الشعر الإسلامي ... لقد تميز الشعر الإسلامي منذ العهود الأولى بسمو الموضوعات التي عالجها ونبل الغاية التي قصد إليها ? فموضوعاته هي الإسلام ودعوته. وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن ضيق الكفر إلى سعة الإسلام (7).
وكان الشعر عبر رحلته الإسلامية يقود معارك الحرية ضد الاحتلال الأجنبي ويوقد نيران الحماس في الجماهير التي تنطلق بين الحين والحين لتدافع عن وجودها المادي والأدبي.(8).
ولا ننسى هنا شهادة العلامة بن خلدون في مقدمته الرائعة حول الشعر الإسلامي عموما حيث يقول? " إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليين في منثورهم ومنظومهم ... والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام من القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها. فكان كلامهم في نظمهم ومنثورهم احسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وارصف مبنى واعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي."
القوة والوضوح في الشعر الإسلامي ...
إن المتصفح للشعر الإسلامي القديم منه والحديث يلمس فيه القوة والوضوح في المبنى والمعنى ... بعيدا عن كل إبهام وغموض وذلك راجع- في تقديري- إلى اعتبارين ?
كونه ? من باب العمل الصالح
ذلك أن الذين رضوا الحق والصدق بتبنيهم الفكرة الإسلامية لم يرضوا أبدا أن يغطوا أفكارهم أو يصبغوا أشعارهم برمزية معقدة بل اتخذوا الوضوح منهاجا في كل ما يكتبون يقينا منهم أن ما يفعلونه هو من "العبادة" ومن باب العمل الصالح الذي يتقربون به إلى الله مولاهم الحق. والعبادة في إسلامنا الحنيف- كما نعلم- بعيدة عن الطلاسم والرموز والتعقيد بل هي في غاية الوضوح والجلاء.
والشعراء الإسلاميون- من هذا المنطلق- هم الذين يحيون تحت مظلة الاستثناء في القرآن الكريم ? "... إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا..." ( الشعراء 227)
ولنا في أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت شاعر الإسلام الأول الأسوة الحسنة ? "نافح عنا وروح القدس يؤيدك " " اهجم وجبريل معك" (9) .
كونه ? دعوة ...(33/333)
لقد اهتمت الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى بالشعر والشعراء و أحلّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الشعراء مكانا بارزا في الإعلام الإسلامي فأدّى الشعراء الرسالة التي أنيطت بهم وتصدوا لشعراء المعسكرات المناوئة للدعوة آنذاك ?للمشركين واليهود والمنافقين فأبطلوا باطلهم وردوا افتراءهم ووفّقوا في ذلك التوفيق كله. (10).
وقد واكب الشعر الإسلامي مراحل الفتوحات والحرب والجهاد منذ بدايتها وعاش معها في كل مراحلها وتطوراتها المختلفة وحمل الشعراء على عواتقهم عبء الدعوة ومقاومة المحتلين وتوحيد الجهود الإسلامية المشتتة (11).
وكذلك استمر شعراء الإسلام على مر العصور هداة وجنودا حماة يرفعون صوتهم بالدعوة إلى الله ويرمون بشعرهم أعداء الإسلام (12). وكيف لا يفعلون والرسولل الكريم صلى الله عليه وسلم يقول ? "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم" .
ومن هنا أصر الشعراء الإسلاميون على أن يكون شعرهم قذائف حقّ تطيح بالأعداء ودعوة ناصعة تبلغ إلى الجماهير العريضة على مختلف مستوياتها وأصواتا تسمع وألحانا تفهم دون ترجمان . وهذا لا يمكن أن يتيسر إلا متى كانت نفثات الشاعر واضحة المعنى قوية المبنى موسيقية النفس.
وعموما فالشعر الدعوي في معظمه كان صادرا عن عاطفة جياشة ودافع إيماني ولهذا كان طبيعيا أن يفرغ الشعراء مضمون قصائدهم في صور فنية جميلة تبرز روعة المعاني وتصوغ الأفكار صياغة محسوسة دقيقة (13).
وسأستعرض نماذج من الشعر الإسلامي الحديث تبيانا لما أوضحنا.
نماذج من الشعر الإسلامي الحديث ...
فهذا الشاعر جمال فوزي وهو في غياهب السجن يعلن للعالمين عن منهجه في الحياة ?
سأظلّ حراّ ما حييت مندّدا بالبطش بالجبروت والطغيان
روحي على كفّي فداء عقيدة في ظلّها الوافي اتخذت مكاني
ويظلّ صوتي ما حييت مجلجلا ذوق المهانة ليس في إمكاني (14)
وهذا الشاعر احمد فرح يرسم خيوط الهزيمة وينبش عن أسباب الارتكاس ?
لهفي على العرب أعلاما ممزقة وراءها كل طبّال و زمّار
تقسّمتنا شعارات يروّجها في شعبنا كل طاغوت وغدّار
و صوّروه عدوا متّهما وسلّطوا كل هتّاف و ثرثار
إن الشعوب إذا ضلّت حقيقتها أمسى بها العبد نخّاسا لأحرار
والجيش من دون إيمان ومعتقد ظأن يساق إلى حانوت جزّار (15).
وهذا الشاعر محمد محمود الزبيري قد تغلغلت في أعماقه هموم شعب مهدد بالإعدام والتمزق وجرحته مأساة الجماهير المحطمة تحت سندان الظلم والبغي فلم يهنأ حتى صرخ مزمجرا كالليث بصوت مدوّ مفهوم لا التواء في كلماته ولا غموض في معانيه ?
علت بروحي هموم الشعب وارتفعت بها إلى فوق ما كنت ابغيه
وخوّلتني الملايين التي قتلت حق القصاص على الجلاّد أمضيه
أحارب الظلم مهما كان طابعه البرّاق أو كيفما كانت أساميه
سيّان من جاء باسم الشعب يظلمه أو جاء من- لندن- بالبغي يبغيه (16).
وبعد...
إن الشاعر الذي يعيش قضايا أمته ويتخذ من الكلمة الشاعرة سلاحه في الميدان ?يحمي بها عقيدته ويلوذ بها عن دعوته يتحتّم عليه الابتعاد عن أي طلسم أو غموض حتى تكون كلمته حيّة نابضة فاعلة ومؤثّرة ذلك أن الكلمة الغامضة والمبهمة هي- في تقديري- كلمة ميتة لا حسّ لها إذ حياة الكلمة بمدى تأثيرها وصدقها وشفافيتها وتغلغلها العفوي في الرأي العام.
ومن هنا أعيب على الشعر الفلسطيني المشبع بالرمز المعقّد والغموض الجامح توخّيه هذا المنحى فأولى بشعراء القضية- أي قضية- أن تكون كتاباتهم متسمة بالقوة والوضوح والشفافية.. إذا أرادوا من كلماتهم أن تكون رسلا وقذائف.
هموم المسلمين في الشعر الإسلامي المعاصر
كثيرة هي هموم المسلمين في هذا العصر.. ومتشعّبة ومحزنة ... ولا أخال مسلما صادق الإيمان صالح القلب مهتما بأمر المسلمين- ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم - ... ينفي عن نفسه الإحساس بضغط هذه الهموم على شعوره ووجدانه.
وإذا كان التاريخ- وهو وعاء الأحداث والتجارب- يحدثنا? انه لا تكاد تخلو سجلات عصر من العصور المنصرمة دون تسجيل اضطهادات في صفوف المسلمين وجراحات وآلام قد تحملها الجسد الإسلامي وقاسى من ويلاتها ...
فإن هذا العصر- رغم الشعارات الحضارية البراقة التي يرفعها ? كاحترام الحريات وحقوق الإنسان والإخاء البشري والسلام العالمي والديمقراطية - قد فاضت دفاتره بما سجلت من معاناة أمة الإسلام دون غيرها من أمم الأرض وما يلقاه اتباع عقيدة التوحيد وأحباب صلى الله عليه وسلم من التنكيل والتآمر ومن سموم مخططات الإفناء الأدبي والمادي ومن الاستفزاز الحضاري بوجهيه ? الثقافي والتقني ... على طول خارطة الوجود الإسلامي.
ذلك أن القوى العالمية الغاضبة والحاقدة في صميمها على دعوة الحق قد رمت المسلمين عن قوس واحدة وكالبتهم من كل جانب حتى أصبح تدمير الإسلام وتصفية أهله هدفا استراتيجيا في سياسة اليمين واليسار تخطط له أمريكا كما تخطط له روسيا إذ ليست الرأسمالية بأرحم بالمسلمين من الشيوعية ولا أتباع بوذا وعبّاد البقر بأشفق عليهم من عبّاد الصليب وأولاد الأفاعي.(33/334)
فكل ملل الكفر والإلحاد والشرك رغم التناقضات الصارخة بينها والصراعات الموهومة الحاصلة بين صفوفها... فهي تلتقي يدا واحدة وفكرا واحدا وصفا واحدا عند الكيد للإسلام والتآمر على أنصاره وهذه حقيقة لم تغب ولن تغيب عن وعي الإسلاميين ما لم تفتر علاقتهم بكتاب الله الخالد وما لم يتلبّد فهمهم لمحكم آياته وصريح توجيهاته? ذلك أن القرآن الكريم قد نبّههم إلى استمرارية الكيد العالمي لأصحاب الحق والى ضراوة التآمر الدولي على المؤمنين الصادقين .. قال تعالى (( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا )) ( البقرة 217) وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير كما يقول سيد قطب رحمه الله - ?
" ... يكشف الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة الإسلامية في كل ارض وفي كل جيل ... وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل ثابتا ? أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا وكلما انكسر في يدهم سلاح اتخذوا سلاحا غيره وكلما كلّت في أيديهم أداة شحذوا غيرها ... والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ... " (17) .
موقف الشعر الإسلامي المعاصر من معاناة الأمة
إذا كانت هناك مرآة- في وقنتا الحاضر على الأقل- تعكس بصدق هذه الهموم وتعبر بعمق عن مشاعر هذه الأمة وأحاسيسها وتجلو أحزانها وترسم بواقعية مبدعة ملامح معاناة ملايين المسلمين واهتماماتهم وطموحاتهم ... فلن تكون هذه المرآة غير الشعر الإسلامي الملتزم ? ذلك أن لهذا الشعر رسالة تملي عليه خدمة الإسلام والذود عن حمى عقيدته والإفصاح عن هموم المسلمين حيثما كانوا ... وهو متى تخلّى عن هذه المهمة وفاته أن يكون سلاحا من أسلحة الدعوة ومنبرا من منابرها ... فهو باطل من القول وزور.
ما هو المطلوب من الشاعر الإسلامي ؟
إن المطلوب من الشاعر الإسلامي المعاصر هو أن يشارك في رسم صورة لحياة المسلمين بكل ما تحويه هذه الحياة من آمال وطموحات وآلام وأفراح وأحزان وهجرة وجهاد ونصر وفتح وسيادة وتمكين ... وهذا ليس تكليفا عصريا جديدا بقدر ما هو استئناف لرسالته الشعرية الخالدة منذ فجر العصر الإسلامي الأول وعلى طول مسار الدعوة المباركة ? ذلك أن من ميزة الشعر الملتزم- والشعر الإسلامي هو الذي اعنيه في هذا المقام- كان ولا يزال دائم الحضور في المحن والملمات.. في الكرّ والفرّ..في المنشط والمكره ... حتى لكأنه - في حسي - ? ذلك القمر الاصطناعي الاستكشافي الذي يلتقط بعدساته الحساسة كل سكينة وحركة كل دمعة وابتسامة ... بل كل مدّ وجزر في حياة الأمة وهذا ما يجعل منظومات الشعراء الإسلاميين وقوافيهم تتسم بالشفافية والصدق والواقعية.
فلننظر إذن في وجه هذه المرآة . ولنتأمل صفحتها النابضة والمفعمة بالصور الحية والرسولم الناطقة والمشاهد المعبرة ولنعش بعض الوقت في ظلال القافية المجاهدة والكلمة الداعية نستوحي منها بعض ملامح هموم أمتنا الإسلامية ومعاناتها.
الشعر الإسلامي ... وهموم العقيدة والدعوة.
إذا كان لكل عقيدة من عقائد العصر شعرها وأدبها وفنّها وإعلامها الذي يعمل على نشرها والتعريف بها والدفاع عنها ... فهل يعاب على الإسلام وهو الدين الحق والخالد والمهيمن أن يكون له شعراء يدافعون عنه ويجاهدون بالكلمة الصادقة القوية ويتغنون بمحاسنه ويمجدون فضائله ... ويترجمون هموم أهله واتباعه ويرسمون بالقافية النابضة معاناتهم وآمالهم ؟؟ ... خاصة إذا علمنا بأن نموّ العقائد المعاصرة وتكاثر المنهجيات وتراكم الأيدلوجيات في هذا العصر إنما جاءت بغرض التضييق على عقيدتنا ومحاصرة إسلامنا وتشويه واستفزاز أنصاره وطرحها- أي هذه العقائد - ... كبدائل حضارية عصرية أمام الناس وأمام أبناء المسلمين خصوصا حتى يتركوا دين آبائهم الخالد وينسلخوا من أصالتهم ويعقّوا عقيدتهم السمحة الخالصة تحت غطاء الشعارات الفخمة المزيفة والتبريرات الواهية.
فتارة يستفزهم عواء الملحد ولسان حاله يقول ?
دولة الإلحاد معبودي وأمي وأبي
وزعيمي ماركس عقل عظيم المأرب
بطل أحيا عصور الغاب في ذي الحقب
أنكر الله و لم يؤمن بدين أو نبي
إن في مبدئه تأمنوا فيه شرور النّوب (18)
وطورا يعكّر صفاء ساحتهم ? صفير جاهلي يهمهم ?
هذه قوميتي ? ديني وأهدافي السنيّة
إنها فلسفة تصنع للشعب رقيّه
فانصروها تبلغوا الغاية من كل قضية
ويتّحد الإلحاد الماركسي مع الصفير الجاهلي ليثيروا إعصارا وقحا يعصف بالمسلمين في محاولة لإحباط حركة الدعوة وتشويه نضارة البديل الإسلامي ?
لو أقاموا دولة الإسلام مات الناس جوعا
حرّموا الخمرة والرّشوة والفنّ الرفيعا
كيف نجني بعدها الربح ؟ ألا ماتوا جميعا (19)
وهنا يأتي دور الشاعر الإسلامي الذي لا يرضيه هذا التحدي الماجن... فيبادر بترجمة غضب الرأي العام الإسلامي ورفضه لمثل هذا الاستفزاز الحاقد ?
تارة بحدّة الثائر لكرامته المعتزّ بدينه ?
يا دعوة الحقّ سيري رغم أنفهم وجلجلي في الورى فخرا وإيمانا(33/335)
لن نستكين لمغرور يحاربنا مهما تطاول إلحادا و نكرانا(20)
وتارة وفق التوجيه القرآني ? (( بالحكمة والموعظة الحسنة)) ?
أيها الناس أجيبوا دعوة الحق المبين
إنها دعوة إيمان برب العالمين
شرعت ما يسعد الإنسان في دنيا ودين
أطلقت فيه قوى الخير وروح الطامحين
ارجعوا لله للحق ... وكونوا مسلمين (21)
... ثم بلهجة المتحدّي الواثق ?
قالوا? العروبة. قلت ? دين محمد إنّا به لا بالعروبة نهتدي
هي قالب الإسلام إمّا أفرغت منه فقد صارت مطيّة ملحد
يا من يريد الجاهلية منهجا يدعو إليه ويا لسوء المورد
أيقال إنّك نابه متقدّم كذبوا عليك ... لقد نصحتك فاقعد
بل أنت في رجعية مذمومة وتقهقر نحو المتاه الأبعد (22)
ثم يلتفت الشاعر إلى الدعوة ليجدد لها وفاء الأنصار على العهد وبقائهم على الود وإصرارهم على النصرة وإفرادها بالولاء ?
يا دعوة الحق إنّا لا نزال على درب العقيدة لم نحجم ولم نخب
نغدو على ساحة الإسلام عن ثقة ولو صلبنا على الأعواد والقصب(23)
وهذا الجزم والإصرار والثبات على المبدأ قد كلّف المؤمنين الصادقين ثمنا باهظا وذاقوا في سبيله شتّى ألوان التنكيل والتآمر ... بل قد مسّهم البأساء والضرّاء من أعدائهم بمجرد إعلان الانتماء الواعي للإسلام.
نجد هذا في شكوى الشاعر المسلم الذي يرسم في هذه الأبيات النابضة الصارخة معاناة ملايين المسلمين الذين زجّ بهم في السجون وذاقوا ألوانا من العذاب البربري الحاقد لا لشيء إلا لأنهم اختاروا الإسلام عقيدة ومنهاجا ?
الهي قد غدوت هنا سجينا لأني انشد الإسلام دينا
وحولي اخوة بالحق نادوا أراهم بالقيود مكبّلينا
فطورا مزّقوا الأجسام منّا وطورا بالسّياط معذّبينا(24)
هكذا يتضح لنا من خلال ما عرضنا من أمثلة مختارة ومختصرة بأن هموم العقيدة قد تبوأت مكانا بارزا في الشعر الإسلامي المعاصر وأولاها الشاعر المسلم اهتماما رئيسا لائقا بمقامها حتى جعل الروح لها فداء ?
روحي على كفّي فداء عقيدة في ظلّها الوافي اتخذت مكاني (25)
الشعر الإسلامي .... وهموم الأرض المحتلة
إن هموم الأرض المحتلة سواء أكانت هذه الأرض فلسطين أو لبنان أو أفغانستان أو غيرها من التراب الإسلامي الممتد شرقا وغربا ... وما تحويه من تشريد وتقتيل وتدمير وجراح وآلام ودماء وجوع وعطش وفقر وحرمان ... لم تهملها القريحة الإسلامية ولم تسقطها من اهتماماتها فقد رسمتها ريشة الألم وصورت عذاب اليتامى ودموع الثكالى وغصص المشردين وشكاوى المظلومين المهجّرين من ديارهم وأوطانهم ?
كل ما أدريه أني ذات ليلة
كان لي طفل صغير ... ذبحوه
كان لي بيت جميل ... دمّروه
وخرجنا ...
وعبرنا النهر في جنح الظلام ...
ونساء الحي تمضي ذاهله ...
تتهاوى كالورود الذابله
ومتاعي ذكريات حائله (26)
كما ترجمت في الوقت نفسه معاناة الأمهات المسلمات في الأرض المغصوبة ? ذلك أن المتمعّن في صفحات الشعر الإسلامي المعاصر يجد لوحات حية تنبض بالصدق والشاعرية في رسمها لخلجات الأمومة المكابدة وتصويرها لكثير من أشكال معاناتها وآلامها ? فكم من أم مؤمنة سهرت على تربية وليدها ومنحته كل عطفها الصادق وحنانها الواعي وأولته رعايتها الحانية من أجل أن يشبّ مؤمنا مسلما ملتزما مجاهدا فتساهم به في تعزيز الصف الإسلامي وتقوية كتائب الإيمان ?
حملته في أحشائها ربّته في أحضانها
ودعت اله الكون أن يرعاه من أعماقها ...
وتفتّحت آفاقه ... وتحققت آمالها (27)
ولكن ما إن تحلو الحياة في عين مثل هذه الأم ? إذ ترى الأمل يزهر وثمرة الرعاية تنضج والرجاء يتحقق ... حتى تمتد يد البغي وقحة لتخطف الأمل الزاهر من أمام العين التي طالما سهرت على رعايته وحمايته لترمي به في زنزانات الظلام ومقابر العذاب ?
... وانقضّ أعوان الطغاة يكبّلون حبيبها
... وطوته جدران السجون لكي يرى أهوالها
كم مزّقته سياطهم وتلقّفته كلابها ... (28)
وفي الزاوية المقابلة ? ارتعاشة الأمومة ولوعة القلب الحاني في الأم الواجمة وهي ترى فلذة كبدها تنهشه الظلمة وتنغرس فيه أظافر البغي والعدوان فماذا يمون جوابها يا ترى ?
صرخت وقالت ? ويحكم
ماذا جنى أطهارها ؟
همّت بلثم جبينه
فيزدّها أشرارها (29)
إنها هموم آلاف الأمهات المسلمات في فلسطين ولبنان وأفغانستان ? ... إنها معاناة الأمومة الصادقة المفجوعة في أكبادها والملوعة في أحبابها تترجمها القوافي الغاضبة والكلمات النابضة بالألم والاحتجاج ... والتحدّي ...
وإذا كانت القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة أو القوى العالمية الأخرى تحت الضغط الصهيوني ومن خلال تأثير الجذور الصهيونية والصليبية الممتدّة في مؤسساتها وهياكلها تصرح - بين الحين والآخر- بحقّ اليهود في فلسطين ... فإن ما يؤمن به المسلمون أنه لا مكان لليهود في أرضهم مهما كانت الدعاوي والشكاوي والأضاليل ... وهذا لا يفصح عنه الخطاب السياسي المعلن في المحافل الدولية ولكن الشاعر الإسلامي الملتزم يترجم بشعره هذا الإيمان ويصدع بهذا اليقين ?
أمّا اليهود فليس في أرضي مكان لليهود
وليعطهم بلفور من إنجلترا بدل الوعود
وبذكر بلفور أقول لكل ذي كرم و جود(33/336)
أنا ما رأيت كمثل بلفور صفيقا في الوجود
يعطي اللصوص على هواه من الوعود بلا حدود
وبرغم ذلك فما البليّة عند بلفور الحقود
بل عند من يتجاهلون بأنها أرض الجدود ...(30)
وبالمناسبة نقف هنا لنسأل متى استطاع المقص الصهيوني والصليبي أن يقضم أطرافا من الجسد الإسلامي ؟ ... هل عندما " احتمينا بالنصوص جاء اللصوص " كما أكّد على ذلك جهرة على مسامع المسلمين ودون حياء من يسمونه بشاعر الأرض المحتلّة ؟؟ ... أم أن المخلب الصهيوني توغّل في أرضنا الإسلامية عندما تخلّينا عن النصوص ? قرآنا وسنّة وتلبّد فهم الرأي العام لصريح الأمر والنهي فيهما وتهنا بين عقائد الشرق والغرب ؟؟
إن لدى الشاعر الإسلامي الجواب الفصل ?
فلسطين ضاعت يوم ضاعت عقيدة وبات فساد الحال اقبح مقتنى
أيجحد دين العرب سؤددا وينقض ما شاد النبي وما بنى ؟؟
ليرضى علينا الغرب حينا ويحتفي بنا الشرق أحيانا ... ونفقد ذاتنا
و ما زادنا هذا التذبذب عزّة ولكن حصدنا دونه الشوك والعنا .. (31)
بينما- وهذا يشهد به التاريخ - يوم كنا على ميراث الدعوة محتمين بالنصوص ومقتفين آثار الصالحين ومتخذين القرآن دستورا والله غاية و صلى الله عليه وسلم أسوة وقائدا ... يومها حزنا المجد كله والنصر كله ... ?
حين كنّا ...
نتغذّى من عقول الفضلاء
وتربّينا شريفات النساء
آلت الأرض إلينا ...
والسّماء
اشرق النور فينا ...
وتباهينا ...
بجيل العظماء
***
وسقطنا ...
إذ رضعنا كلمات الآخرين
وطعمنا من فتات الغالبين
أوهمونا
أننا نطفو
بإغراق السّفين
أننا نحيا
بدفن السّابقين
فتسابقنا
لسبّ العلماء
وتندّرنا بقول الأنبياء... (32)
وبعد ...
هذه إذن بعض الهموم الإسلامية المعاصرة التي شغلت مساحة محترمة من شعر الإسلاميين وأولاها هؤلاء اهتماما خاصا فجاء تصويرها إبداعيا واقعيا شفافا يأخذ القلوب وينم عم صدق الإحساس وعمق الشاعرية.
ثم إن هموم العقيدة والدعوة وهموم الأرض المحتلة ليست هي كل ما تمخّضت عنه معاناة الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر ... بل هناك هموم أخرى لا تقل أهمية قد ترجمها الشاعر المسلم في قوافيه ورسم ظلالها في منظوماته كالهموم الثقافية والهموم السياسية والهموم الاجتماعية ... وهي موجودة في مكانها من الدواوين والمجلات.
وما هذا الذي نقدمه هنا إلا إضاءة على الطريق ... ويوما بعد يوم سنشهد للشعر الإسلامي صولات وجولات ... في ميادين الجهاد ... وكلّما تمرّس في العطاء .. وتقدّمت به الخبرة والمعاناة ... واستكمل أدواته ... انطلق في آفاق أوسع من المعاني والأخيلة وعمق التعبير ... وارتفع إلى مستوى الأحداث بصدق وجدارة.
أسباب السقوط وشروط النهضة في مرآة الشعر الإسلامي المعاصر
لقد كان الشاعر المسلم ولا يزال منذ بواكير الفتح الإسلامي المبارك ملتزما التزاما واعيا وصادقا بقضايا أمته ومسخّرا- في إطار هذا الالتزام وتحقيقا لدوره ورسالته في المجتمع - كل مواهبه وإبداعاته.
ذلك أنه منذ أن رسم شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه مستنيرا ومسترشدا بالتوجيه النبوي الشريف معالم رسالة الشعر الإسلامي ومهمّة الشاعر المؤمن والرسالي في الحياة ودوره في المجتمع ... ظلّ الشعراء المسلمون أوفياء لهذا الدور وملتزمين بهذه الرسالة ? فكانت مشاركتهم في ترشيد المجتمع الإسلامي وتحصين الحياة الإسلامية ... صادقة وواعية وفاعلة.
شعراؤنا المعاصرون ... وواقع العالم الإسلامي
إن المتأمل بعمق في واقع العالم الإسلامي المعاصر- والعالم العربي جزء منه- يحزنه ما يرى من أسباب السقوط ومظاهر التخلف السائد في شتى المجالات الحياتية ? السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ... ويؤسفه ما يلاحظ من غياب المشاركة الإسلامية في مختلف مناحي الإبداعات الحضارية الحديثة العلمية منها والتقنية والفكرية ...
وتزداد وطأة هذا الإحساس بسوء هذا الحال لدى الشاعر المسلم بحكم وعيه ورقّة شعوره إذ تصطدم بتلك الصورة الرائعة التي يحتفظ بها في أعماق فكره ووجدانه عن الإسلام والمسلمين حتى أن الشاعر محمود مفلح تتملكه الحيرة مما يرى من تناقض بين انتماء هذه الأمة وبين واقعها الحاضر ?
ما هم بأمة أحمد ... لا والذي فطر السماءا
ما هم بأمة خير خلق الله بدعا و انتهاءا
ما هم بأمة سيدي ... حاشا.. فليسوا الاكفياءا
ما هم بأمة على الأفلاك قد ركزوا اللواءا
من حطّم الأصنام من أرسى العدالة والاخاءا
من قال أن الله رب ّ الناس خالقهم سواءا
لا فضل إلا للصلاح فلا انتساب و لا ادعاءا(33)
كما يعجّ الأسى بأعماق شاعرنا محمود غنيم ويعصره الأليم كلما جال ببصره في أرجاء العالم الإسلامي ?
ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى في زواياه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرّفتنا يد كنّا نصرّفها وبات يحكمنا شعب ملكناه (34)
كما يتساءل الشاعر الملهم محمود صيام بمرارة عن الأسباب التي اختصّت امتنا دون سواها بالمعاناة والسقوط ?
فما لهذا الزمان اختصّ امتنا بالحادثات و غطّتها بلاويه ؟
وما لها ما رأت من قبله زمنا نكراء أيامه سوء لياليه(33/337)
أمن قليل عتاد أم ترى سبب غير العتاده تعاني من تفشّيه (35)
ويبقى أن نسأل الآن عن موقف الشاعر الإسلامي الملتزم من هذا الواقع ?
* هل كان بكائيا هروبيّا ؟
* أم كان موقفا نقديا بنّاء ؟
في الحقيقة إن موقف الشعر الإسلامي المعاصر من الواقع الإسلامي من خلال استقرائنا لمختلف الدواوين الشعرية لم يكن انهزاميّا بل كان نقديا فاعلا ? فقد سطّر الشاعر المسلم أسباب السقوط وكشف عن علل التخلّف وعرّى عن مكامن الانحطاط كما رسم في نفس الوقت شروط نهضة أمته وانبعاثها . وكان في كلتا الحالتين موضوعيا لم يجنح به خيال الشعراء ولم تبطره مثالية الفلاسفة.
* فماهي أسباب السقوط وشروط الانبعاث ؟
1) أسباب السقوط كما يراها الشاعر ....
إذا كانت أدبيات التغريبيّين في تحليلها لواقع العالم العربي والإسلامي ومعاينتها لأسباب التخلف عوامل الانحطاط تحصر الاتّهام في "الدين والتراث" ? إذ ترى في تمسّك الأمة بدينها وحرصها على تحكيمه في شؤون حياتها ضربا من "الرجعية" المعيقة للتقّدم والتجديد كما ترى في حرص المسلمين على الاقتفاء الواعي المبصر لأثر السلف الصالح والاسترشاد بالماضي ... قفزا على الواقع وإلغاء لمفهوم الزمن وإنكارا لعوامل التغيير والتطور في المجتمع الإسلامي وإرادة الوقوف عند نموذج واحد من النماذج التطبيقية للإسلام وهو نموذج مجتمع الصحابة والسلف الصالح ...
وإذا كان الخطاب السياسي للأنظمة الحاكمة يركّز في تحليله لهذه الأسباب على عامل الاستعمار الذي ابتليت به الأمة ردحا من الزمن ...
فإن الشاعر المسلم نجده يتجاوز هذه التفسيرات التبريرية والسطحية ليرسم بكل صدق وموضوعية وشجاعة الأسباب الحقيقية العميقة التي ساهمت ولا تزال تساهم في تعميق التخلف في ربوع العالم الإسلامي ?
فهو لا ينفي دور الغرب المستعمر في دعمه لكل ما يساعد على تخلف المسلمين وسقوطهم سواء عن طريق استعماره المباشر عسكريا وثقافيا أم عن طريق زرع الجرثومة الصهيونية في الجسد الإسلامي ... وقد صدع الشاعر المسلم مبكّرا بهذا محذّرا أولي الأمر وأصحاب القرار ?
يا قادة الشرق المهيض استيقظوا فالغرب أعلن حربه شعواء
حربا تمسّ الدين في تقديسه وتبيد أطفالا لكم و نساء
وتزعّمتها إنجلترا و هي التي عقدت لحرب المسلمين لواء
بالأمس مكّنت اليهود فأنشأوا وسط المهازل دولة عرجاء (36)
... وكان اشد ما حرص عليه الغرب الصليبي في عدوانه على العالم الإسلامي هو نسف الفاعل الديني وتقليص تأثيره في الحياة الإسلامية وذلك ليقينه بأنه يشكّل الروح التي يحيا بها الشرق الإسلامي ومن ثمّ سعى جادا إلى تقويض هذه الروح بأساليب شتّى ?
يا قادة الأمة الغرّاء ... أمتكم إذا رمت بسوى الإسلام لم تصب
لما رأى خصمنا في الدين قوتنا مضى يضللنا بالهدم و الكذب
ويوهم النشء أن الدين ليس سوى رجعيّة تركس الإنسان في النصب (37)
إلا أن شعراءنا لم يحمّلوا الغرب كل الأسباب بقدر ما حمّلوها المسلمين أنفسهم قادة وشعوبا مستأنسين بالتوجيه القرآني ? (( قل هو من عند أنفسكم)) ذلك أن العوامل المباشرة كانت ذاتية قبل أن تكون موضوعية ( وهذا لا يعني التقليل من قيمة هذه الأخيرة) .
فالشاعر الفيلسوف محمد إقبال رحمه الله نجده في تحليله لواقع المسلمين في الهند يحصر علل التخلّف في أربعة عناصر ذاتية وهي ?
1- فساد العقيدة وتحوّل التوحيد الإسلامي إلى وثنية متسترة ... مع انجذاب للأوهام.
2 - الجهل المطبق بأساليب الحياة الناجحة والعلوم العملية وأساليب المدنية والتنظيم الاجتماعي.
3 - الزهد في الحياة وانتشار الطريقة بانتشار الروح الجبرية والتواكلية.
4 - التهافت لدى الشباب المتوثب على الحضارة الغربية والانبهار بقوتها ومفاتنها.
هذه الأدواء أو الأمراض تشكل في رأي إقبال عوائق نفسية تحول دون الانبعاث والتجديد . (38).
وإذا تعدّينا إقبال والهند إلى شعراء آخرين في أرجاء أخرى من عالمنا الإسلامي واستقرانا الإنتاج الشعري الغزير الذي وضعوه بين أيدينا وجدناهم يرجعون الأسباب إلى ?
أ- فساد السلطة السياسية ? التي وجد فيها الغرب خير معين وخير خلف له . والمتسمة عموما بالتبعيّة في خياراتها وتوجّهاتها وبالاستبداد في تعاملها مع رعاياها وبالخلاف فيما بينها ... والتي نبذت بأسلوب أو بآخر شرع الله وراء ظهورها وعملت على تعطيل أحكامه في القضايا المصيرية للامة وتقليص تأثيره في الحياة الإسلامية ?
ساسة الحكم نابذوا شرعة الله فحفّت ديارنا البأساء
كم أضاعوا باسم الشعوب شعوبا طحنتها المكائد الهوجاء (39)
... واحتضنت النموذج الغربي مسترشدة باختياراته وتوجهاته دون مراعاة لخصوصيات الواقع الإسلامي ودون اعتبار لمشاعر المسلمين الذين هم تحت سلطتها حتى أن الشاعر ليحتار في هؤلاء شكلا وانتماء ?
كم من زعيم في الشكل من صنع باريس وفي العقل من عصور الجليد(33/338)
... " وارتبطت بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية العلنية منها والسريّة بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة أخرى وانتهت إلى التمزّق بين أجزاء الأمة الإسلامية لا سيما الأمة العربية الواحدة وأدت هذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة عقيدة وحضارة وهدفا ومصيرا " ... (40)
وهذه السلطة برموزها السياسية الهشّة وأشكالها المستغربة وانتماءاتها المتباينة قد خيّبت أمل المسلمين في أن يجدوا فيها الأسوة القيادية الصالحة والقدوة المشرّفة وخيّبت ظنّهم في أن يروا ظلال لعمر وخالد وصلاح الدين ... يثأرون لكرامة الأمة المجروحة ويعيدون إليها اعتبارها كأمّة شاهدة ورائدة لها مجدها وشرفها وحضارتها, وهذه رسالة كل من يتولّى أمر هذه الأمة ويتربّع على سدّة الحكم فيها, إلاّ أن رموز السياسة في عالمنا العربي والإسلامي كانت همومها وطموحاتها متناقضة ومتضاربة مع رسالة الأمة وتوجّهاتها, ومع تطلّعات شعوبها ومعاناتها, إذ لم تذق هذه الأخيرة في ظلال حكمها وولايتها غير الأزمات الحادّة والنكبات المرّة والهزائم المشينة, ولم تجن من وراءها إلا مزيد الحرمان والتخلّف والضياع . فبينما يحدّثنا التاريخ أننا شعب :
نرث البطولة عن جدود حطّموا كل الطغاة
ومضوا لإصلاح الحياة يرونهم هدي الإله
سقياً لعهد أولئك الغر ّ الميامين الأباه
كم أدّبوا دولا وكم في الله قد داسوا جباه (41)
نجد الواقع المعاصر يصدمنا بنماذج مغايرة وصور باهتة :
واليوم تخلفهم زعانف ما لها في الأمر حيلة
رتب و تيجان و سلطان و أخبار طويلة
وتخيفهم يا للفضائح والأسى عصب دخيلة (42)
ولكي تمدّ في أنفاسها وتركّز وجودها, عملت هذه القيادات منذ انتصابها على خلق وترسيخ واقع متخلّف ومائع ومنبتّ عن أصالته وتراثه, له معاييره الخاصة وموازينه العجيبة وقيمه الغريبة وقد أبدع الشاعر أحمد فرح في رسم ملامحه النّكدة :
كل الرذائل ليست عندنا خطرا أماّ الفضائل فهي البعبع الضّاري
إذا رأوا حانة قرّت بلابلهم و إن رأوا مسجدا ثاروا بإنذار
ذو الدين في عرفهم تخشى غوائله فما يقرّب إلا كل خمّار
إذا سكرت ففي أمن و في دعة و إن تصلّ فمحفوف بأخطار
حريّة الشعب في أبواق دعوتهم حكم المباحث و الإرهاب و النار (43)
هذا إذن السبب الأول والرئيسي كما يبرزه الشعر المعاصر والذي يرى الشاعر المسلم أنه المسؤول المباشر عن مآسينا وتخلّفنا وهزائمنا والذي كان وراء انحراف الأمة عن صراط الله المستقيم, وسقوطها في مهاوي التبعيّة والذلّ والهوان.
ب- ضعف الإيمان وفساد الأخلاق : الذي استشرى في عالمنا الإسلامي عندما ضعف فينا الوازع الإيماني وتخلّينا عن تعاليم ديننا وعققنا بشكل أو بآخر عقيدتنا وزيّنا لأنفسنا الهروب من الحياة في ظلال القرآن :
لماّ تركنا الهدى حلّت بنا محن وهاج للظلم والإفساد طوفان
ومن ثمّ بهتت في نفس المسلم مقوّمات الخلق القويم وانقلبت موازين الحق والخير والعدل وزعزعت مقاييس الشرق والرجولة والبطولة وأبح المجتمع يعجّ بأنماط شاذة من السلوك ونماذج بشرية غريبة في أشكالها وانتماءاتها وهمومها :
هذا إلى صنم يطيف به وذا عبد النّساءا
وهذا من ظنّ الرّياء براعة فغلى رياءا
والمال آلهة فقدّسه .... وكان له فداءا
والموبقات العاشقات ضربن بينهم النّجاءا (44)
ويبيّن الشاعر وليد الأعظمي ما آلت إليه حالنا عند هجرنا للدين وما أثمر هذا الهجر من مآسي :
فمن هجرنا للدين صرنا بحالة يكاد لها قلب الحليم يقطع
وقد أصبحت كل المدارس عندنا تصدّ عن الدّين الشباب و تمنع
وقد طبعتنا كل طبع مدنّس وللمرء من دنياه ما يتطبّع
فمنها سرت روح التفرنج بيننا وما زال فينا عقرب الجهل يلسع
وقد عمّت الفوضى البلاد بأسرها فلم ينج بيت من أذاها ومجمع
وكم من سجايا حلوة قد تبدّلت بأنفسنا ممّا نراه و نسمع
فحلّ محلّ الاحترام تذبذب و حل ّ محلّ الاتّزان تنطّع (45)
ج - الاغتراب الثقافي وموضة الشعارات : التي انتشرت في ديارنا وصارت لها متاجر تروّجها هنا وهناك وأبواق تسبّح بحمدها ليل نهار وسياسات تتبنّاها وتدعّمها ومؤسسات تسهر على تنفيذها وتسخّر لها كل ما من شأنه أن يمدّها بأسباب البقاء والاستمرار وقد أشار الشاعر أحمد فرح إلى النكبات التي جرّها هذا الاغتراب وخلّفتها هذه الشعارات :
أتتركون كتابا فيه ذكركم وتشترون به مسموم أفكار
مبادئ الكفر قد جرّت هزائمنا وصيّرت عارنا نشرات أخبار
تقسّمتنا شعارات يروّجها في شعبنا كل طاغوت وغدّار (46)
ويبيّن منذر الشعار بعض ملامح هذا الاغتراب في خطاب تهكّمي يقرع به آذان أنصاره وجنوده ومروّجيه :
تبعتم درونا ً في كل واد وقول الله فوقكم سنيّ
وما يهدر فرويد فهو حقّ و يترك للغبار الشافعيّ
وحتّى الشعر احضر من علوج وأسكت ذو البيان اليعربيّ
وصوّر بعضكم صورا وأرخى سوالفه فقيل الألمعيّ
لحقتكم كل زي من فرنج وغيّبت العمائم و اللّحيّ(47)(33/339)
وهكذا اجتاحت بلاد الإسلام على طول رقعتها مفاهيم هجينة وظواهر مستحدثة تحت اسم الفنّ والعلم (؟؟) وتحت شعار الحريّة والتقدميّة ... إلى آخر القائمة ... تستهدف نسف مقوّمات أخلاقية عريقة في علاقاتنا الاجتماعية, وتقوم على دعاوي مدمّرة تسخر من أصولنا الفكرية والعقائدية :
و إن لبسوا مرقّعة لبستم و مزّق ثوب خزّ أتحميّ
وإن ركبوا الجرائم فهو فنّ وإن نشروا الرذائل فهو طيّ
وإن كفروا بربّ العرش قلتم علوم حجّا رآها المعيّ
وإن رفعوا لكم صنما سجدتم فأين محمد يا جاهلي ّ؟؟ (48)
وهكذا ساهمت الفنون والثقافة المستهجنة التي غزت ربوعنا في تخلّفنا :
وسقطنا...
إذ رضعنا كلمات الآخرين
... قد دحرنا.
يوم صار الفنّ مأخوذا كبيرا
يوم أضحى الشعر كأسا ...
وسريرا
لقّنونا :
لا يكون الحبّ حبّا
دون عري الركبتين
فسمعنا
وأطعنا
... ما قتلنا
أو سبينا
بصواريخ الفنا
حقنونا
فانتحرنا
بمزامير صنعنا لحنها ...
كالبلهاء .. (49)
" فقد تكّشف من خلال كلمات الأغنية ومن خلال حوار المسرحيات ومن خلال أهداف القصة أن الغرض إنّما يرمي إلى القضاء على الطبيعة الإسلامية في النفس البشريّة وتحويلها إلى نفس أخرى وثنيّة إباحية لا هدف لها إلا المطامع والأهواء والاستجابة للغرائز ... وقد استشرى هذا الخطر فأصبحت تلك المفاهيم وكأنها مسلّمات تجري على الألسنة وتحاكم بها الأمور والعلاقات وأخذت تحلّ شيئا فشيئا مكان القيم الأساسية التي رسمتها العقيدة والأخلاق " ... (50)
هذه إذن أهم الأسباب المباشرة التي جرّت هزائمنا وكانت وراء تخلّفنا ومآسينا وقد عرّى عنها الشعر الإسلامي المعاصر ورسمها بكل وضوح وصدع بها محذّرا ومنبّها دون تزييف أو تعتيم .
إلا أن الشاعر المسلم لم يقف عند حدّ كشف العلّة بل نراه يتعدّى إلى رسم شروط النهضة والانبعاث وتبيان سبيل النجاة وطريق النصر.
2) شروط النهضة في مرآة الشعر الإسلامي :
عند استقرائنا لديوان الشعر الإسلامي المعاصر نجد أن الشاعر يشترط للنّهوض بالأمة والقيام بالدور الحضاري لتغيير مجرى الحياة الإسلامية من دور الركود إلى دور الفعالية والتأثير ثلاث شروط :
أولا : الرجوع الصادق إلى الله تعالى : وتجديد الإيمان والعيش في ظلال القرآن الكريم والعمل الحازم والملتزم بتعاليم الدين الحنيف : لأنّ في الرجوع إلى المولى سبحانه, رجوع إلى الرشاد, رجوع إلى العزّة والقوّة والهدى :
للشرق داء لا يرجى برؤه إلا إذا أخذ الكتاب دواء
والله جلّ الله أخبر أن في آياته للمؤمنين شفاء (51)
ورجوع أيضا إلى الرعاية الحانية المقتدرة, ورجوع إلى مصدر الفاعلية والتشريع الشامل :
يا سادة الحقل للإسلام قاعدة إذا رعينا حقوق الله يرعانا
شتّان ما بين تشريع السماء لنا وبين تشريع أهل الأرض شتّانا
روّضوا على منهج القرآن أنفسكم يمدد لكم ربّكم عزا و سلطانا(52)
ويرى الشاعر محمد صيام في العودة الواعية إلى الله سبحانه نجاة من الشقاء وإنقاذا من الضلال :
يا أيها الناس فلتنجوا بأنفسكم ولا تكونوا كمن ضلّت مساعيه
عودوا إلى الله ينقذكم برحمته من الشقاء الذي بتنا نعانيه
ولتستقوا من كتاب الله منهجكم فليس في الأرض منهاج يدانيه (53)
خاصة وقد جرّبنا كل المناهج الأرضية وبلونا كل النظم الوضعية واسترشدنا بشتّى الشعارات الشرقية منها والغربية, اليمينية واليسارية فما جنينا غير الخسران والانحطاط :
بلونا كل أنظمة البرايا نروم العدل للدنيا و نقفو
و جربنا دساتيرا كثارا مهلهلة عن البلوى تشفّ
متى رمنا الصّلاح بها فسدنا ومن خزي إلى أخرى نسفّ
وقد ذقنا التوى منها إلى أن جزمنا أنها ظلم و زيف (54)
ذلك أن الذي يوقن به كل مسلم صادق وكل مؤمن واع أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها :
العقل والحق والتاريخ أعلنها ما في سوى دينكم حظّ لمختار
كما أن سيرنا إلى المجد والريادة يأخذ منطلقه من مدرسة المسجد:
من جانب المحراب يبدأ سيرنا للمجد لا من جانب الماخور
ثانيا : بناء الذات المبدعة: وبعث الشخصية الإسلامية الفذّة والفاعلة, التي تحذق أساليب الحياة الناجحة وتأخذ بوعي وعلم وحزم بأسباب النهوض والتقدم وتسخّر كل طاقاتها ومواهبها وإبداعاتها في سبيل التجاوز بالأمة من رصيف التخلّف إلى قمم المجد والقيادة : زادها الإيمان والعلم واليقين ورائدها الجهاد والإصلاح وقدوتها محمد رسول ا صلى الله عليه وسلم وغايتها الله جلّ في علاه, لا تعرف الخمول والتواكل بل تتسم بالمبادرة والفاعلية والجدّ والحزم :
قوم إذا داعي الجهاد دعاهم هبّوا إلى الداعي بغير توان
وبنعمة الإسلام عاشوا إخوة شركاء في الأفراح والأحزان
... محرابهم بالليل معمور بهم يتضرّعون تضرّع الرهبان
وإذا انقضى الليل البهيم وجدتهم بنهارهم يا صاح كالفرسان
و هتافهم الله أكبر إنهم لم يهتفوا بحياة شخص فان (55)(33/340)
وحول أهمية الدور الذي تلعبه الذات المسلمة في البناء والتغيير والإصلاح يقول الدكتور عبد الحليم عويس : إن عودة هذه " الذات المسلمة " بكلّ شروطها الإيجابية وبكل تفاعلها مع الرسالة وبكل التزامها بالدور الإنساني العام ... والتي تتصدّى لحمل الأمانة ودور القيادة أمر ضروري ... ليس للذات المسلمة وحدها ولا للأمة المسلمة وحدها, بل من أجل جميع الإنسانية الضّالة ...
ولكي تستمرّ حضارة الإنسان على هذه الأرض إذا ما كان مقدّرا لها في علم الله أن تسير آمادا أخرى في التاريخ.... (56) .
ثالثا : إعادة دور الأمومة الواعية: إن بناء الذات المسلمة وبعث الشخصية الفاعلة وتخريج نشء إسلامي قادر على الجهاد والإبداع والتغيير, يستوجب توفير المحضن النظيف والخصب, الممثل في الأسرة الملتزمة بالكتاب والسنّة , كما يستوجب إعادة دور الأمومة الواعية التي باستطاعتها تربية جيل مؤمن بربّه , متأسّ برسوله ومقدّس لكتابه , يجاهد في سبيل تقدّم الأمة بفكره وساعده ويصون دينه بروحه ودمه . ذلك أن الأمومة مدرسة وحضن يرتبط صلاح الأمة بصلاحها ويرتبط سقوطها بفسادها : ألم يعلنها شوقي من زمان :
من لي بتربية البنات فإنها في الشّرق علّة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق
ولهذا نرى الشاعر الإسلامي المعاصر يولي اهتماما خاصا بالأم المسلمة ويلمح في صلاحها واستقامتها وإيمانها والتزامها شارة النصر والنهوض ويرى في أدائها لدورها الرئيس : دور الأمومة - مسؤوليتها الكبرى وأمانتها العظمى, لذا يلفت نظرها إلى الجزم في أداء هذا الدور الجليل وتحقيق هذه الرسالة , حتى نقترب من النصر ونحقق الانبعاث والسيادة :
يا أخت أنت رعاك الله عدّتنا لخلق جيل قويّ غير مشبوه
فلقّني طفلك الإسلام فهو له كالمنهل العذب ما ينفكّ يرويه
وأبعديه عن الشيطان يفتنه بجنده الكثر في الدنيا ويغويه
وسلّحيه بما في الدين من أدب ومن محبّته البيضاء فاسقيه
ونشئيه على هدى الكتاب ومن آياته الغرّ يا أختاه غذّيه (57)
وهكذا يكون الشاعر المسلم قد ساهم في موقعه , في دفع الأمة نحو التقدم والنهوض بما كشف من علل التخلّف وأسباب السقوط وبما رسم من شروط يرى فيها سبيل النجاة والانبعاث .
وهذا دليل بيّن في كون الشاعر الإسلامي كان ولا يزال صادقا في التزامه بقضايا أمّته ومتفهّما لدوره ورسالته الشعرية وواعيا بمهمته كمجاهد بالقافية الصادقة وبالكلمة الحيّة في الساحة الثقافية ... وأن معاناة الأمة الشاهدة تسري في عقله ووجدانه.
صلاح الدين الأيوبي في ذاكرة الشعر الإسلامي
الأمة الإسلامية هي أمة جهاد ومجاهدة : على مستوى النفس والميدان . وتاريخها تاريخ جهاد بما فيه من عدّة وعتاد وكرّ وفرّ ونصر وفتوحات وبطولات وملاحم ومرابطة ....
وقائمة الخالدين من عظمائها وأعلامها وقادتها , تتصدّر مراتب الشرف فيها أسماء المجاهدين والشهداء ثم الذين يلونهم من العلماء والصالحين.
ومن هنا كانت أفراح النصر وأخبار الفتح وآيات البطولات الرائعة وأحاديث الملاحم النادرة وهموم الجهاد ... تشغل مساحة هائلة من ديوان الشعر الإسلامي - إلى جانب غيرها من المواضيع الاجتماعية والإنسانية والحضارية -... ومع الاهتمام طبعا بالشخصيات التي كانت وراء تلك الانتصارات والفتوحات والبطولات التي زيّنت واجهة التاريخ ... وتركت بصمات مشرقة وشاهدة في سجلات الإصلاح والتغيير ..
فمما يلفت النظر عند دراسة التراث الشعري القيّم الذي تمخضّت عنه القريحة الإسلامية على مدى قرون من التاريخ الإسلامي, تردد بعض الأسماء الكبيرة لأقطاب العلم والتقوى وأعلام الجهاد والإصلاح : مدحا ورثاء وتمجيدا وتخليدا ... ولعل اسم صلاح الدين الأيوبي هو أكثرها ورودا خاصة في منظومات الشعر المعاصر. فلأي ميزة في شخصية هذا القائد المجاهد تنشغل ذاكرة الشعر الإسلامي بترديد اسمه وذكر أخباره وأحواله في قصائد يتغنّى بها القاصي والداني ؟؟
صلاح الدين .... في شعر معاصريه :
لعل أبسط تعريف لصلاح الدين رضي الله تعالى عنه, أو بعبارة أخرى : إن التعريف التاريخي والشعبي لصلاح الدين هو أنه بطل الحروب الصليبية ... إلا أن شخصية هذا القائد المجاهد في تقدير الشاعر هي أعمق وأبعد وأحب من أن يحصرها ويفي بحقها هذا التعريف العادي والمحدود . ومن ثم تراه يضفي عليه من جوامع الأوصاف وكبير الألقاب وبديع الكنى كل ما من شأنه أن يبرز هذا البطل الفذّ في صورة الذات المسلمة المبدعة في مواقفها, النادرة في جهادها والفريدة في أخلاقها, مما ينمّ - في نظري- عن مدى التقدير والتوقير والإعجاب الذي يكنّه الشاعر إزاء هذه الشخصية من جهة, وعن مدى التأثير العميق والجاذبيّة القوية التي يتميّز بها صلاح الدين ... من جهة أخرى .
فهذا الشاعر أبو علي الحسن الجويني يعرّفه بقوله :
الهمام الغضفر الملك النّـ اصر مولى الورى صلاح الدين
يا مليكا أضحى الزمان ينا جيه بلفظ المذلّل المسكين
يا مليكا يلقى الحروب بحول الله مستعصما و صدق اليقين (58)
وهذا الشاعر يوسف بم حسين المجاور يعرّفه قائلا :(33/341)
ملك إذا أم ّ الملوك جنابه لاذوا بأكرم من يؤم ّ وأشرف
وإذا أتوا أسرى على أبوابه وقفوا بأعظم من يصول وأرأف
مولى غدا للدين أكرم والد حدب على أبنائه مترفرف (59)
و أما أسامة بن منقذ فيلقبه بناصر الإسلام ومظهر الإيمان (60) :
يا ناصر الإسلام حين تخاذلت عنه الملوك ومظهر الإيمان
ولن نستنجد بالخيال لنصور المكانة العالية التي تنفرد بها شخصية صلاح الدين العظيمة في وجدان معاصريها . إذ في مصادر التاريخ الصحيحة والموثوقة ما يغني عن ذلك : إذ تنقل لنا هذه المصادر لوحات حيّة نابضة ومشاهد واقعية صريحة , تعبّر بحق وبصدق عن القيمة النفسية والبطولية التي حازتها شخصية هذا القائد الرسالي في قلوب معاصريه , وتترجم بعمق مدى الإجلال والتوقير المبصر والإكبار والإعجاب الواعي الذي يكنّه المسلمون للمجاهد الربّاني الذي ردّ النصارى على أعقابهم وأعاد- بما حقق على أرض الواقع من بطولات وانتصارات ومروءة وشهامة...- الاعتبار إلى أمة الإسلام كأمة شاهدة ذات عزّة وسلطان ... حتى أن موت صلاح الدين- في إطار هذا الإعجاب والحب والإكبار- لا يعني عند شاعر كعماد الأصفهاني, موت شخص واحد بل يعني عنده موت أمة بأكملها وسبب ذلك راجع إلى المكانة المعنوية التي كان يمثّلها هذا القائد وهو أنه كان رمز قوة هذه الأمة ورمز وحدتها , والذي حققّ لها الحياة بشكلها الإسلامي الصحيح والفاعل : حياة العزّة والوحدة والقوة والنصر :
بالله أين النّاصر الملك الذي لله خالصة صفت نيّاته
أين الذي مازال سلطانا لنا يرجى نداءه و تتّقى سطواته
في نصرة الإسلام يسهر دائما لتطول في روض الجنان سناته
لا تحسبوه ممات شخص واحد فممات كل العالمين مماته (61)
وفي اللوحة النابضة التي ينقلها لنا أبو شامة في الروضتين عن يوم فاجعة الأمة بموت قائدها المجاهد, دليل واضح عن علوّ المكانة وسموّ المقام الذي يتبوّؤه هذا الرجل العظيم (رضي الله عنه) في ضمير الأمة الإسلامية . يقول أبو شامة (62) : كان يوما لم يصب الإسلام والمسلمين بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين, وغشي القلع والبلاد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى . وتاالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداء من يعزّ عليهم بنفوسهم فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوّز والرخص, إلا ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدى بالنفس ... ثم يسترسل مبيّنا حالة الناس عند توديع الجثمان : ... حتى أن العاقل يتخيّل أن الدنيا كلها تصبح صوتا واحدا, وغشى الناس من البكاء والعويل ما شغلهم عن الصلاة, وصلى الناس عليه أرسالا.
الشاعر يرثي صلاح الدين :
وإزاء هذا الموقف الجليل, ما كان للشاعر المسلم, المتميز بشفافية الحسّ ورقّة الوجدان وسرعة التأثر ... أن يلزم الصمت ويلوذ باللامبالاة, مع العلم وأن الموت نهاية كل حيّ ولا مفقود أعز من رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا أن الشاعر ينبري بحساسية الشاعر الملهم والتزام الجندي المخلص ووفاء المواطن الصالح ... ليملأ أذان الدهر بقصائد تسيل رقة وشفافية وصدقا, مترجما انفعال الشعور العام الإسلامي وتأثر ضمير الأمة بموت قاهر الصليبيين وناصر الإسلام .
من للعلا من للذّرى من للهدى يحميه من للنّاس من للنّائل ؟
طلب البقاء بملكه في آجل إذ لم يثق بقاء ملك عاجل
بحرّ أعاد البرّ بحرا برّه وبسيفه فتحت بلاد الساحل (63)
أو بمثل :
شمل الهدى والملك عمّ شتاته والدهر ساء وأقلعت حسناته
أين الذي من لم يزل مخشيّة مرجوّة رهباته وهبّاته
أين الذي كانت له طاعاتنا مبذولة ولربّه طاعاته (64)
بمثل هذه الأبيات الصارخة والصادقة بكى الشعراء قائدهم ... وقد يرى البعض أن فيها شيئا من التهويل والمبالغة ... إلا أن مكانة الرجل قلوب مواطنيه تعذر للشعراء شدة تأثرهم وعمق تحسّرهم وطول بكائهم ... وكما يقول الدكتور محمد عي الهرفي (65) : قد كانت وفاة صلاح الدين كارثة عظيمة على الأمة الإسلامية كلها, وترك خلفه فراغا هائلا يصعب ملؤه ولذا كان من الطبيعي أن يبكيه الشعراء ويحزنوا لوفاته وكان من الطبيعي أيضا أن يعبّروا عن آلام الأمة الإسلامية التي أصابتها في الصميم .
وفي الحقيقة , أن المكانة التي يحظى بها صلاح الدين في قلوب المسلمين والإكبار الذي يوليه هؤلاء لهذا البطل القائد , مردّه - في تقديري - إلى سببين هما : الجاذبية الخلقية والجاذبية العملية اللذان انفرد بهما صلاح الدين عن باقي معاصريه من الملوك والأمراء.
الجاذبية الخلقية :
فقد لمس الشعراء في هذا القائد جماع الخصال العالية والخلق السامي من تقوى وورع وإخلاص وتجرّد وسماحة ومروءة وعفو وجود وإحسان ورجولة وشهامة وبطولة وهي من مقوّمات الأسوة الحسنة ومستلزمات القدوة الصالحة التي يحنّ إليها وينجذب إليها الضمير المسلم ..
حتى قال أحدهم :
رأيت صلاح الدين أفضل من غدا وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى
وقيل لنا في البحر الأرض سبعة أبحر ولسنا نرى إلا أنامله الخمسا
سجيّته الحسنى وشيمته الرّضى وبطشته الكبرى وعزّته القعسا (66)
وقال آخر :
ملك إذا علقت يد بزمامه علقت بحبل في الحفاظ متين(33/342)
والبحر لو مزجت به أخلاقه لغدت مياه البحر غير أجون
والأرض لو شيبت بطيب ثناه لم تنبت سوى الخيريّ والنسرين (67)
الجاذبية العملية :
ولعل أهم ما رفع من قيمة صلاح الدين وأعظم قدره عند المسلمين إلى جانب ما ذكرنا من خلقه وسلوكه, هو جهاده الخالص الصادق في سبيل الله وعزمه وحرصه على نصرة الدين وتحرير القدس : فقد رأى فيه المسلمون منقذا للدّيلى الإسلامية وثائرا لكرامة الأمة وقائدا شهما لكتائب الجهاد , في وقت تخاذل فيه الكثيرون عن الحركة والجهاد وأحدقت بالمسلمين جيوش الصليبين وشرار النصارى فما كان من صلاح الدين إلا أن ردّهم على أدبارهم ولم ينالوا خير ولقّنهم درسا في القتال لم يعهدوا مثله ... وبذلك أعاد الثقة والعزّة والقوة إلى المسلمين .وإلى أمة الإسلام المجد والنصر والتمكين .
وفي الشعر الإسلامي إشارات واقعية صادقة لأعمال القائد العملاق وجهاده :
يا ناصر الإسلام حين تخاذلت عنه الملوك ومظهر الإيمان
بك قد أعزّ الله حزب جنوده وأذلّ حزب الكفر والطغيان
وغضبت لله الذي أعطاك فصل الحكم غضبة ثائر حرّان (68)
أو مثل :
ملك إذا علقت يد بزمامه علقت بحبل من الحفاظ متين
قاد الجياد معاقلا وأن اكتفى بمعاقل من رأيه وحصون
وأعدّ للأعداء مهنّد ومثقّف ومضاعف موضون (69)
وفي ظلال جهاده الطويل المبارك وفتوحاته المبينة استعاد المسلمون مكانتهم وقرّت أعينهم بما رأوا من إعزاز لدين الله ونصر لشريعته وتطهير لقدسه من روث الكفّار وحقد الصليبين :
فلا يستحقّ القدس غيرك في الورى فأنت الذي من دونهم فتح القدسا
ومن قبل فتح القدس كنت مقدّسا فلا عدمت أخلاقك الطهر والقدسا
وطهّرته من رجمهم بدمائهم فأذهبت بالرجس الذي ذهب الرجس
وبذلك استعاد القدس ذاتيته الإسلامية وملامحه الإيمانية , وارتفع به الأذان عاليا بعد أن جلجلت فيه نواقيس النصارى :
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها وألبستها الدين الذي كشف اللّبسا
وعادت لبيت الله أحكام دينه فلا بطرقا أبقيت فيه لا قسّا
وقد شاع في الآفاق عنك بشارة بأن أذان القدس قد بطل النّقسا (70)
وهكذا بتلك الأعمال الصادقة والخالصة وبذلك الجهاد الطويل المضني وبتلك الغضبات الربانية والبطولات الرائعة وبذلك الخلق السّامي والسلوك العالي ... حبّب الله تعالى عبده صلاح الدين إلى قلوب عباده المؤمنين ومكّن له في وجدان المسلمين أيّما تمكين وكما يقول الدكتور الهرفي : لقد حظي صلاح الدين الأيوبي بعناية فائقة من الشعراء والأدباء لم يحظ بها أحد غيره من أبطال الحروب الصليبية على الإطلاق وما كان له أن يحصل على هذا لولا فتحه القدس .
صلاح الدين .... في ذاكرة الشعر الإسلامي المعاصر
إذا كان صلاح الدين هذه الشخصية التاريخية الفذّة النادرة قد نالت مكانة تحسد عليها في وجدان العالمين , واعتنى بمدحه ورثائه وتمجيده وتخليده كثير من شعراء عصره فذلك أمر طبيعي , نظرا لما لمسوا من عظيم جهاده وما عاينوا من جليل أعماله وما علموا من كريم خصاله ... أمّا أن يشغل اسمه ذاكرة الشعر المعاصر على عمق المسافة الزمنية الفاصلة فهذا أمر يستدعي البحث.
وفي تقديري, هناك سببان رئيسيان وراء هذا الإهتمام من طرف شعرائنا المعاصرين بشخصية صلاح الدين وإدراج اسمه في كثير من قصائدهم .
أما السبب الأول : فمردّه إلى طبيعة حاضر الواقع العربي والإسلامي الذي يعيش في ظلاله الشاعر والمتّسم بالتخلّف والسقوط والذي يعيش منذ بداية القرن مرحلة القصعة إن صحّ التعبير : حيث تتربص القوى العالمية الملحدة على اختلاف توجّهاتها وانتماءاتها بالمسلمين , لترميهم عن قوس واحد , مسخّرة في سبيل ذلك كلّ آلياتها وعلومها ... في محاولات متكررة ومتجدّدة ومدروسة لدحر الإسلام وذبح المسلمين وافنائهم : فمن محاولات الاستعمار العسكري إلى محاولات الاستيلاء الاقتصادي إلى الاستعمار الثقافي ... إلى الجرثوم الصهيوني في الجسد الإسلامي .
وهكذا نرى التاريخ يعيد نفسه كما يقال وتعود هذه المرّة دبابات اليهود ومصفّحاتهم , بدل خيول النصارى ... لتعربد فوق الأرض المقدسة وتذبّح وتدمّر وتشرّد...
حتى إذا حانت من الشاعر التفاتة واعية إلى هذه الجهة أو تلك من الوطن الإسلامي الذبيح ... صدمته مشاهد الذلّ والهوان وعصره الألم والحزن لما يرى من تغيّر الحال بهذا المكان المقدّس , خاصة , وما لحقه من مظاهر الإذلال والهزيمة ....
وفي كل يوم له صرخة وفي كل يوم يقاسي العذاب
يعيث بساحته المفسدون ولا من حساب ولا من عقاب
وكم مرّة حاولوا نسفه ولكن تخيب مساعي الذئاب (71)
ويمتد الحزن عمقا في وجدان الشاعر وتزداد وطأة الإحساس بمرارة الواقع على القلب المرهف ... كلما حاول تقليب صفحات من دفتر المعاناة الإسلامية والمعاناة الفلسطينية بصفة خاصة إذ تروّعه مشاهد اللاجئين والمشرّدين وصورة الطفولة المحرومة الضائعة واليتم المبكّر الذليل والعرض المهتوك ...
... أما فلسطين فسيل دمائها لم ينقطع وعيونها لم ترقد
اللاجئون وهذه أكواخهم كالعار عن أنظارنا لم يبعد
في كل كوخ لوعة ومناحة من طفلة تبكي وشيخ مقعد(33/343)
ويتيمة تلوي إليك بجيدها تشكو الهوان بحسرة وتنهّد
وكريمة لعب اليهود بطهرها وبها تمتّع رائح أو معتد (72)
إنها هموم الوطن الذبيح ومعاناة الأمة المجروحة تعصف بوجدان الشاعر عصفا مبرحا فتؤرقه وتذهله عن نفسه وأهله وخلاّنه ... وكيف لا ؟؟ وفي كل ناحية من وطنه بيت يقوّض وأرواح تزهق ودماء تسيل وأعراض تدمى...
وجع ألم فغبت في أحزاني وذهلت عن أهلي وعن خلاّني
يا أيها الذبيح وأنّها لخناجر الأحبار والرهبان
في كل ناحية دماء ضحية وركام بيت غاب بين دخان
ماذا أقول عن الجريمة إنّها فوق الحروف وفوق كل بيان
ماذا أقول وكل حرف في فمي حجر فهلاّ تنطق الشفتان
من ثلث قرن والعذاب يسوطني وأنا أجالدهم على الغدران (73)
هذا الوضع القاتم المضطرب بكل ملامحه المحزنة, والذي يعيش في أحضانه الشاعر ... يذكّر المسلمين اليوم بأيام سلفهم إبّان الغزو الصليبي الحاقد عندما وطئت خيل النصارى رحاب الأقصى وتوزّع البغاة الأشرار بين الدّيار الإسلامية ينشرون الرعب والدمار ...
كما يتذكّرون معه ذلك الفجر الساطع الذي أعقب ذلك الليل البهيم وطلعة ذلك القائد المنقذ - صلاح الدين - الذي دحر العدو الكائد واستردّ راية النصر ليرفعها عالية في الفضاء الإسلامية.
وأما السبب الثاني : فهو راجع إلى خلوّ الساحة الإسلامية من قدوة جهاديّة قياديّة فذّة في مستوى متطلبات المرحلة ... تعيد ماء الوجه إلى الأمة المجروحة , وترفع الغبن عن الذات الإسلامية : فكلما تأملنا في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر وبحثنا عن نماذج حيّة لتلك القيادات الرائعة التي نحتفظ بصورها في وجداننا, تثأر للشرف الإسلامي وترفع راية الدين, وتجمع شتاتنا وتوحّد طاقاتنا وقوانا ... اصطدمت أنظارنا بصور باهتة وأنماط هشّة من زعامات لا تملك من مواصفات القيادة وفاعليتها وخصائصها شيئا ... إنمّا هي :
رتب وتيجان وسلطان وأخبار طويله
وتخيفهم يا للفضائح والأسى عصب دخيله ...
وقد اختارت موقف " الجلوس على الربوة " رغم حساسية الوضع وخطورة المرحلة ... لاهية بما توفّر لها من أسباب الخمول والقعود ... عن اقتحام الميدان وخوض وطيس المعركة :
والقدس في أسر اليهود وهم على دنّ وراح
والمسجد الأقصى غدا في الأرض مغلول السّراح
لندائه في كل قلب مؤمن وخز الرماح
أين الذين يقودهم للبذل ذبحي واجتياحي
ويقول هل من ضمضم عن طهر أمته يلاحي
وتلفّت الميدان هل من طارق هل من صلاح ؟؟ (74)
إذن في غياب هذه القيادة الجهادية الميدانية المنشودة ... وفي قتامة هذا الوضع العربي الإسلامي الراهن ... ومع تحدّيات العصر الضاغطة ... يجد الشاعر الإسلامي المعاصر نفسه مدفوعا إلى ابتعاث صورة ذلك القائد الهمام , بطل المواقف : صلاح الدين الأيوبي رضي الله تعالى عنه , ومناجاته وترديد ذكره في كثير من القصائد التي ترسم معاناة الأمة الإسلامية وتترجم هموم المسلمين ... كمحاولة لملأ الفراغ القيادي الحاصل واستفزاز المسلمين وتحريضهم وحثّهم على التأسّي والإعتبار ...
شواهد شعرية :
إن اسم صلاح الدين يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدس : فهو الذي حرّرها من أسر الصليبيين وكيدهم ... وردّها إلى حظيرة المسلمين بعد جهاد طويل .... واليوم القدس في أسر اليهود ترنو إلى من ينقذها ويفكّ أسرها من مخالب الصهيونية الحاقدة . ويطرد عنها جيوش الغاصبين , إنها تتطلّع إلى صلاح الدين كي يحرّرها مرّة أخرى من براثن الأعداء :
فالمسجد الأقصى المبارك يستغيث أتسمعون
والناس كل الناس في أوطاننا يتصايحون
قم يا صلاح الدين إذ بني العروبة نائمون
قم فالصليبين عادوا كالأفاعي ينهشون
فاخلع نيوبهم التي بسمومها يتحرّكون (75)
وكأني بصلاح الدين يسمع الشكوى وتحزّ في نفسه البلوى ... فيمتطي صهوة جواده مدجّجا بسلاحه وعتاده ... ويشرف على الأقصى يناجيه :
ولست أنسى صلاح الدين وهو على مشارف المسجد الأقصى يناجيه :
جئنا إليك فصبرا إن أمتنا رأت لعمرك رأيا سوف تمضيه
جئنا إليك نردّ الغاصبين وما قد هدّموا منك بالأرواح نبنيه
فشعبنا في سبيل الله قد غضبت منه الحواضر واهتزّت بواديه
والشرق ثار فلا عرب ولا عجم بل مسلم واضح من غير تمويه
فازينّت أرضنا من بعد غصّتها وهللّ المسجد الأقصى ومن فيه ...(76)
هكذا سيظل صلاح الدين : القائد الإسلامي الفذ يعيش في وجدان الشاعر ويتردّد ذكره في أشعاره لمّا غنّى عن المعاناة الإسلامية في فلسطين المغتصبة ... إلى أن يأتي من يحتلّ مكانه ... وما ذلك على الله بعزيز
==============(33/344)
(33/345)
إفحام النصارى
مختصر مهذب من رسالة (الأجوبة الفاخرة) للقرافي فيه الرد على شبهات النصارى في عدم كفرهم
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
جاء المسيح عن الإله رسولا
فأبى أقل العالمين عقولا
ضل النصارى في المسيح وأقسموا
لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا
جعلوا الثلاثة واحدا ولو اهتدوا
لم يجعلوا العدد الكثير قليلا
(منظومة البوصري في الرد على النصارى ص7-8)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد.... فإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وتبارك اسمه ، وتعالى جده، ولا إله غيره ، جعل الإسلام عصمة لمن لجأ إليه ، وجنًة لمن استمسك به ، وعض بالنواجذ عليه ، فهو حرمه الذي من دخله كان من الهالكين ، وأبى أن يقبل من أحد دينا سواه ، ولو بذل في المسير إليه جهده ، واستفرغ فواه ،فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها ، وسار مسير الشمس في الأقطار ، وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار .
وكبت الله من يبغضه ويعاديه ، ووسمهم بأنهم شر الدواب ، وحكم لهم بأنهم أضل سبيلا من الأنعام ، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد ، والضلال بالهدى ، والكفر بالإسلام ، وحكم عليهم بقوله تعالى { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا }
لقد رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد رسول ، ورضي النصراني المخذول بالصليب والوثن إلها ، وبالتثليث والكفر دينا ، وبسبيل الضلال والغضب سبيلا .
فهؤلاء النصارى الضلال هم عباد الصليب الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .
فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتهم {إن الله ثالث ثلاثة }وأن مريم صاحبته ، والمسيح ابنه و
أنه -تعالى عما يقولون - نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة ، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن !!
فدين هذه الأمة عبادة الصلبان ، ودعاء الصور المنقوشة في الحيطان ، يقولون في دعائهم :"يا والدة الإله ارزقينا ، واغفري لنا وارحمينا "!!
فدينهم شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، و ترك الختان ، والتعبد بالنجاسات ، واستباحة كل خبيث ، فالحلال عندهم ما حلله القس ، والحرام ما حرمه ، وينجيهم من عذاب السعير .
وقد حكم الله عليهم بالكفر البواح الذي لا يستريب فيه عاقل ، ولم يشك فيه من في قلبه ذرة من إيمان.
فالأدلة على كفرهم كثيرة ، ليس هذا موضعها .
ولكن هؤلاء الضلال من النصارى يلبسون بين حين وآخر على المسلمين بأنهم موحدون ، وأنهم مؤمنون بالله تعالى ، ويزداد تلبيسهم وتعظم شبهاتهم إذا انتزعوا من القرآن آيات يظنونها بجهلهم تزكيهم ، أو تشهد بصحة دينهم.
وليس العجب من صنيع النصارى ، فليس بعد الكفر ذنب ، وإنما العجب من انقياد شرذمة من كتاب وكاتبات يدعون الإسلام ، ثم ينساقون وراء ادعاءات النصارى.
فهذا أحدهم ينشر مقالا في جريدة (الشرق الأوسط) يدعي فيها أن اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين والملحدين من أهل الجنة !!
ويستغرب أن تدخل هذه الجموع والمليارات من الأمم النار ! ونسي هذا الجاهل قوله تعالى :{لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
وهذه إحداهن تكتب في جريدة الرياض وتقول:(نحن نؤمن بعيسى وموسى وغيرهما ، ونؤمن بأحقية -وجود أهل الكتاب ، ويفترض ألا نسبهم ولانطلق عليهم صفة الكفر ، ولكن هناك من يحول الدين إلى صفة عصبية يعلن عنها عنفا وغضبا )!!
ولاحظ -أخي القارىء -قولها (نؤمن) و(يفترض) ، فمسألة إيمانهم لا تقبل الجدال عندها !
فقد منحتهم هذه الكاتبة المستهترة صفة الإيمان ودخول الجنان ، وألقت بآيات الله المكفرة لهم وراء
ظهرها -نعوذ بالله من الكفر بعد الإيمان ، ومن الضلال بعد الهدى.
وهذه كاتبه أخرى قد شب عودها في الحداثة !!
تكتب بعد موت (ديانا) مقالا في جريدة اليوم بعنوان (ديانا الكافرة !!)لتخبرنا فيه بأن الحزن لم يزل (يعاودها) بين الحين والآخر كلما تذكرت موت ديانا !!
وتسخر فيه من إحدى المؤمنات اللواتي نصحنها بعدم جواز البكاء والحزن على موت كافرة داعرة.
هذه -أخي المسلم - نماذج للحال التي وصل إليها كتابنا وكاتباتنا ممن يسمون أنفسهم (بالمثقفين والمثقفات والمبدعين والمبدعات ).
فإذا انكشف الحال وجدت أن إبداعهم يكمن في التمرد على الشريعة بأسلوب صريح أو مبطن ، وفي موادة أعداء الله من النصارى ومحبتهم من دون المؤمنين ونسوا قوله تعالى:{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله}..وقوله :{*يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ببعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين}.
فنعوذ بالله من (ثقافة) و (إبداع) تكون خاتمته الردة والإنسلاخ من دين الله تحت دعاوى (الحداثة)و(الفكر الحر)...وغيرها من زخارف الشيطان .(33/346)
نسأل الله الهداية للجميع وأن يسخروا أقلامهم في نصرة دين الله ، ليكونوا من المفلحين في الدنيا والآخرة .
ختاما:سيأتيك في الأوراق القادمة فصل جميل من فصول رسالة (الأجوبة الفاخرة) للإمام القرافي -رحمه الله- رد فيه على شبهات النصارى في عصره وادعائهم الإيمان وأن القرآن قد أثنى على دينهم وحكم لهم بالنجاة يوم القيامة .
وهي شبهات لم يزل النصارى يرددونها في كل زمان ويلتقطها منهم مرضى القلوب من المسلمين ليروجوها بين أبناء الأمة تحت مسمى (التسامح) و(الحرية الفكرية)و(السلام).
وقد أحببت أن أنشرها رجاء انتفاع المسلمين بها لا سيما وقد صادفت وقتا مناسبا تكاثر فيه المدافعون عن دين النصارى لتكون خير راد عليهم وخير مجل للحقيقة أمام عامة المسلمين.
وستأتيك هذه الشبهات متتالية ، كل شبهة تعقبها الإجابة عنها:-
1- فمنها:أنهم قالوا :إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث إلينا ، فلا يجب علينا اتباعه ، وإنما قلنا : إنه لم يرسل إلينا لقوله تعالى في الكتاب العزيز:{إنا أنزلنه قرءانا عربيا }. ولقوله تعالى :{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }. ولقوله تعالى :{بعث في الأميًن رسولا منهم }. ولقوله تعالى :{لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون }. ولقوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }. ولا يلزمنا إلا من جاءنا بلساننا ، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغاتنا .
فالجواب من وجوه :
أحدها: أن الحكمة في أن الله تعالى إنما يبعث رسله بألسنة قومهم ، ليكون ذلك أبلغ في الفهم عنه ومنه ، وهو أيضا يكون أقرب لفهمه عنهم جميع مقاصدهم في الموافقة والمخالفة وإزاحة الأعذار والعلل ، والأجوبة عن الشبهات المعارضة ، وإيضاح البراهين القاطعة ، فإن مقصود الرسالة في أول وهلة إنما هو البيان والإرشاد وهو مع اتحاد اللغة أقرب ، فإذا تقررت نبوة النبي في قومه قامت الحجة على غيرهم ، إذا سلموا ووافقوا ، فغيرهم أولى أن يسلم ويوافق ، فهذه هي الحكمة في إرسال الرسول بلسان قومه ، ومن قومه .
وفرق : بين قول الله تعالى :{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } وبين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم ، لا الأول . بل لا فرق بين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }.وبين قوله:{وما أرسلنا من رسول إلا مكلفا بهداية قومه}فكما أن الثاني لا إشعار له بأنه لم يكلف بهداية غيرهم ، فكذلك الأول ، فمن لم يكن له معرفة بدلالة الألفاظ ، ومواقع المخاطبات سوى بين المختلفات ، وفرق بين المؤتلفات.
وثانيها:أن التوراة نزلت باللسان العبراني والإنجيل بالرومي ، فلو صح ما قالوه لكانت النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة ، فإن جميع فرقهم لا يعلمون هذا اللسان إلا كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم ، وأن تكون القبط كلهم والحبشة مخطئين في اتباعهم التوراة والإنجيل ، لأن الفريقين غير العبراني والرومي ، ولو لم ينقل هذان الكتابان بلسان القبط ، وترجما بالعربي لم يفهم قبطي ، ولا حبشي ، ولا رومي شيئا من التوراة ، ولا قبطي ولا حبشي شيئا من الإنجيل إلا أن يتعلموا ذلك اللسان ، كما يتعلمون العربي .
وثالثها:أنه إذا سلم أنه عليه السلام رسول لقومه ، ورسل الله تعالى خاصة خلقه وخيرة عباده معصومون عن الزلل ، مبرؤون من الخطل ، وهو عليه السلام قد قاتل اليهود ، وبعث إلى الروم ينذرهم وكتابه عليه السلام محفوظ عندهم إلى اليوم في بلاد الروم عند ملكهم يفتخرون به ، وكتب إلى المقوقس بمصر لإنذار القبط ولكسري بفارس ، وهو الصادق البر ، كما سلم أنه رسول لقومه ، فيكون رسولا للجميع ، ولأن في جملة ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - {وما أرسلنك إلا كافة للناس }.فصرح بالتعميم ، واندفعت شبهة من يدعي التخصيص ، فإن كانت النصارى لا يعتقدون أصل الرسالة ، لا لقومه ، ولا لغيره ، فيقولون : أوضحوا لنا صدق دعواكم ، ولا يقولون كتابكم يقتضي تخصص الرسالة ، وإن كانوا يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة لزمهم التعميم لما تقدم ، وكذلك قوله تعالى {بعث في الأميٍين رسولا منهم } لا يقتضي أنه لم يبعثه لغيرهم ، فإن الملك العظيم إذا قال : بعثت إلى مصر رسولا من أهلها لا يدل ذلك على أنه ليس على يده رسالة أخرى لغيرهم ، ولا أنه لا يأمر قوما آخرين بغير تلك الرسالة ، وكذلك قوله تعالى :{لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم }ليس فيه أنه لا ينذر غيرهم ، بل لما كان الذي يتلقى الوحي أولا هم العرب كان التنبيه عليه بالمنة عليهم بالهداية أولى من غيرهم ، وإذا قال السيد لعبده : بعثتك لتشتري ثوبا ، لا ينافي أنه أمره بشراء الطعام ، بل تخصيص الثوب بالذكر لمعنى اقتضاه ، ويسكت عن الطعام ، لأن المقصد الآن لا يتعلق به ، وما زالت العقلاء في مخاطباتهم يتكلمون فيما يوجد سببه ، ويسكتون عما لم يتعين سببه.(33/347)
وإن كان المذكور والمسكوت عنه حقين واقعين ، فكذلك الرسالة عامة ، ولما كان أيضا المقصود تنبيه بني إسرائيل ، وإرشادهم خصوا بالذكر ، وخصصت كل فرقة من اليهود والنصارى بالذكر ، ولم يذكر معها غيرها في القرآن في تلك الآيات المتعلقة بهم ، وهذا هو شأن الخطاب أبدا ، فلا يغتر جاهل بأن ذكر زيد بالحكم يقتضي نفيه عن عمرو ، وكذلك قوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }ليس فيه دليل على أنه لا ينذر غيرهم ، كما أنه إذا قال القائل لغيره : أدب ولدك ، لا يدل على أنه أراد أنه لا يؤدب غلامه ، بل ذلك يدل على أنه مراد
المتكلم في هذا المقام تأديب الولد ،لأن المقصود مختص به ، ولعله إذا فرغ من الوصية على الولد يقول له : وغلامك أيضا أدبه ؛ وإنما بدأت بالولد لاهتمامي به ، ولا يقول عاقل : إن كلامه الثاني مناقض للأول ، وكذلك قرابته عليه السلام هم أولى الناس ببره عليه السلام وإحسانه ، وإنقاذهم من المهلكات ، فخصهم بالذكر لذلك ، لا أن غيرهم غير مراد كما ذكرنا في صورة الولد والعبد .
وبالجملة فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ، ونحن أعلم بها ، وإذا كان عليه السلام هو المتكلم بها ولم يفهم
تخصيص الرسالة ، ولا إرادته ، بل أنذر الروم والفرس وسائر الأمم ، والعرب لم تفهم ذلك وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ، ولا فهموه ، ولو فهموه لأقاموا به الحجة عليه ، ونحن أيضا لم نفهم ذلك .
2-ومنها أنهم قالوا: أن القرآن الكريم ورد بتعظيم عيسى عليه السلام ، وبتعظيم أمه مريم رضي الله عنها ، وهذا هو رأينا واعتقادنا فيها ، فالدينان واحد ، فلا ينكر المسلمون علينا .
والجواب من وجوه أحدها: تعظيمهما لا نزاع فيه ، ولم يكفر النصارى بالتعظيم ، إنما كفروا بنسبة أمور أخرى إليها لا يليق بجلال الربوبية ، ولا بدناءة البشرية من الأبوة والبنوة والحلول ، والإلحاد ، واتخاذ الصاحبة والأولاد تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ، فهذه مغالطة في قوله (موافق لاعتقادنا) ، ليس هذا هو الاعتقاد المتنازع فيه ، نعم لو ورد القرآن الكريم بهذه الأمور الفاسدة المتقدم ذكرها وحاشاه كان موافقا لاعتقادهم ، فأين أحد البابين من الآخر ؟؟
وثانيها أنه اعترف بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق ، فإن الباطل لا يؤكد الحق ، بل المؤكد للحق حق جزما ، فيكون القرآن الكريم حقا قطعا ، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى ، وهو أنهم اختبروا ما جاء به عليه السلام ، فوجدوه موافقا لما كانوا يعتقدونه من الحق ، فجزموا بأنه حق وأسلموا واتبعوه ، وما زال العقلاء على ذلك يعتبرون كلام المتكلم ، فإن وجدوه على وفق ما يعتقدونه من الحق اتبعوه ، وإلا رفضوه .
وثالثها أن هذا برهان قاطع على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان ، فإن مشتعل على تعظيم جملة الرسل وجميع الكتب المنزلة ، فالمسلم على أمان من جميع الأنبياء عليهم السلام على كل تقدير ، أما النصراني فليس على أمان من تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فتعين رجحان الإسلام على غيره ، ولو سلمنا تحرير صحة ما يقوله النصراني من النبوة وغيرها يكون المسلم قد اعترف لعيسى عليه السلام ، ولأمه رضي الله عنها بالفضل العظيم والشرف المنيف ، وجهل بعض أحوالهما ، على
تقدير تسليم صحة ما ادعاه النصارى والجهل ببعض فضائل من وجب تعظيمه لا يوجب ذلك خطرا ، أما النصراني ، فهو منكر لأصل تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل ينسبه للكذب والرذائل والجراءة على سفك الدماء بغير إذن من الله ، ولا خفاء في أن هذا خطر عظيم ، وكفر كبير ، فيظهر من هذا القطع بنجاة المسلم قطعا ويتعين غيره للغرر والخطر قطعا ، فليبادر كل عاقل حينئذ الإسلام ، فيدخل الجنة بسلام .
3-ومنها أنهم قالوا: إن القرآن الكريم ورد بأن عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته ، وهو اعتقادنا .
والجواب من وجوه أحدها: أن من المحال أن يكون المراد الروح والكلمة على ما تدعيه النصارى ، وكيف يليق بأدنى العقلاء أن يصف عيسى عليه السلام بصفة ، وينادي بها على رؤوس الأشهاد ، ويطبق بها الآفاق ، ثم يكفر من اعتقد تلك الصفة في عيسى عليه السلام ، ويأمر بقتالهم وقتلهم وسفك
دمائهم وسبي ذراريهم ، وسلب أموالهم ، بل هو بالكفر أولى لأنه يعتقد ذلك مضافا إلى تكفير غيره ،
والسعي في وجوه ضرره ، وقد اتفقت الملل كلها مؤمنها وكافرها على أنه عليه السلام من أكمل الناس في الصفات البشرية خَلقا وخُلقا وعقلا ورأيا ، فإنها أمور محسومة ، إنما النزاع في الرسالة الربانية ، فكيف يليق به عليه السلام أن يأتي بكلام هذا معناه ، ثم يقاتل معتقده ويكفره ، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم والفضلاء من الخلفاء من بعده ، وهذا برهان قاطع على أن المراد على غير ما فهمه النصارى.
ثانيها: أن الروح اسم الريح الذي بين الخافقين يقال لها : ريح وروح لغتان ، وكذلك في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام وهو المسمى بروح القدس ، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ، والكلمة اسم للفظة المفيدة من الأصوات .(33/348)
وتطلق الكلمة على الحروف الدالة على اللفظة من الأصوات ، ولهذا يقال : هذه الكلمة خط حسن ومكتوبة بالحبر ، وإذا كانت الروح والكلمة لهما معان عديدة فعلى أيهما يحمل هذا اللفظ ؟ وحمل النصراني اللفظ على معتقده تحكم بمجرد الهوى المحض .
وثالثهما :وهو الجواب بحسب الاعتقاد لا بحسب الإلزام ، أن معنى الروح المذكور في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم لبدن الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه ، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح كل حيوان هي روح الله تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة ، كقول أحد حاملي الخشبة لآخر : شل طرفك يريد طرف الخشبة ، فجعله طرفا ، للحامل ،
ويقول : طلع كوكب زيد إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل ، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقط ، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله تعالى ، وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها ؟ وكذلك
يقول بعض الفضلاء لما سئل عن هذه الآية فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحا من أرواحه ، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخصيص عيسى عليه السلام ، وعلو منزلته بذكر الإضافة إليه ، يقال : كما قال تعالى :{وما أنزلنا على عبدنا}. .{إن عبادى ليس لك عليهم سلطن}
مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصص ، وأما الكلمة فمعناها أن الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : كن فيكون ، فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة كن ، فلما أوجد الله تعالى عيسى عليه السلام قال له : كن في بطن أمك فكان ، وتخصيصه بذلك للشرف كما تقدم ، فهذا معنى معقول متصور ليس فيه شئ كما يعتقده النصارى من أن صفة من صفات الله حلت في ناسوت المسيح
عليه السلام ، وكيف يمكن في العقل أن تفارق الصفة الموصوف ، بل لو قيل لأحدنا : إن علمك أو حياتك انتقلت لزيد لأنكر ذلك كل عاقل ، بل الذي يمكن أن يوجد في الغير مثل الصفة ، وأما أنها هي في نفسها تتحرك من محل إلى محل فمحال لأن الحركات من صفات الأجسام ، والصفة ليست جسما ، فإن كانت النصارى تعتقد أن الأجسام صفات ، والصفات أجسام ، وأن أحكام المختلفات وإن تباينت شئ واحد سقطت مكالمتهم ، وذلك هو الظن بهم ؛ بل يقطع بأنهم أبعد من ذلك عن موارد العقل ومدارك النظر ، وبالجملة فهذه كلمات عربية في كتاب عربي ، فمن كان يعرف لسان العرب حق
معرفته في إضافة وتعريفاته وتخصيصاته ، وتعميماته ، وإطلاقاته وتقييداته ، وسائر أنواع استعمالاته فليتحدث فيه ويستدل له ، ومن ليس كذلك فليقلد أهله العلماء به ، ويترك الخوض فيما لا يعنيه ولا يعرفه .
4- ومنها : أنهم قالوا في الكتاب العزيز إنه : {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة}.
والجواب: أن الذين اتبعوه ليسوا النصارى الذين اعتقدوا أنه ابن الله ، وسلكوا مسلك هؤلاء الجهلة ، فإن اتباع الإنسان موافقته فيما جاء به وكون هؤلاء المتأخرين اتبعوه محل النزاع ، بل متبعوه هم الحواريون ، ومن تابعهم قبل ظهور القول بالتثليث ، أولئك هم الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة ، ونحن إنما نطالب هؤلاء بالرجوع إلى ما كان أولئك عليه فإنهم قدس الله أرواحهم آمنوا بعيسى وبجملة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، وكان عيسى عليه السلام بشرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا ينتظرون ظهوره ليؤمنوا به عليه السلام ، وكذلك لما ظهر عليه السلام جاءه أربعون راهبا من
نجران فتأملوه فوجدوه فهو الموعود به في ساعة واحدة بمجرد النظر والتأمل لعلاماته ، فهؤلاء هم الذين اتبعوه وفهم المرفوعون المعظمون ، وأما هؤلاء النصارى فهم الذين كفروا به مع من كفر ، وجعلوه سببا لانتهاك حرمة الربوبية بنسبة واجب الوجود المقدس عن صفات البشر إلى الصاحبة والولد الذي ينفر منها أقل رهبانهم ، حتى أنه قد ورد أن الله تعالى إذا فال لعيسى عليه السلام يوم القيامة :{ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمي إلهين من دون الله }. يسكت أربعين سنة خجلا من الله تعالى حيث جعل سببا للكفر به ، وانتهاك حرمة جلالة ، فخواص الله تعالى يألمون ويخجلون من اطلاعهم على انتهاك الحرمة ،
وإن لم يكن لهم فيها مدخل ولا لهم فيها تعلق ، فكيف إذا كان لهم فيها تعلق من حيث الجملة ، ومن عاشر أمائل الناس ورؤسائهم ، وله عقل قويم وطبع النصارى أدرك هذا ، فما آذى أحد عيسى عليه السلام ما آذته هؤلاء النصارى ، ونسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه .
5- ومنها:أنهم قالوا : إن القرآن الكريم شهد بتقديم بيع النصارى وكنائسهم على مساجد المسلمين بقوله تعالى : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}فقد جعل الصوامع والبيع مقدمات على المساجد ، وجعل فيها ذكر الله كثيرا ، وذلك يدل على أن النصارى -في زعمهم- على الحق ، فلا ينبغي لهم العدول عما هم عليه ، لأن العدول عن الحق إنما يكون للباطل .
والجواب : من وجوه:(33/349)
أحدها: أن المراد بهذه الآية أن الله تعالى يدفع المكاره عن الأشرار بوجود الأخيار ، فيكون وجود الأخيار سببا لسلامة الأشرار من الفتن والمحن ، فزمان موسى عليه السلام يسلم فيه أهل الأرض من بلاء يعمهم بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة الموسوية ، وزمان عيسى عليه السلام يسلم فيه أهل الاستقامة على الشريعة العيسوية ، وزمان محمد - صلى الله عليه وسلم - يسلم فيه أهل الأرض بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة المحمدية ، وكذلك سائر الأزمان الكائنة بعد الأنبياء عليهم السلام ، كل من كان مستقيما على الشريعة الماضية هو سبب لسلامة البقية ، فلولا أهل الاستقامة في زمن موسى عليه السلام لم يبق صوامع يعبد الله تعالى فيها على الدين الصحيح لعموم الهلاك ، فينقطع الخير بالكلية ، وكذلك في سائر الأزمان ، فلولا أهل الخير في زماننا لم يبق مسجد يعبد الله فيه على الدين الصحيح ، ولغضب الله تعالى على أهل الأرض .
والصوامع أمكنة الرهبان في زمن الاستقامة حيث يعبد الله تعالى فيها على دين صحيح ، وكذلك البيعة والصلاة والمسجد ، وليس المراد هذه المواطن إذا كفر بالله تعالى فيها وبدلت شرائعه ، وكانت محل العصيان والطغيان لا محل التوحيد والإيمان ، وهذه المواطن في أزمنة الاستقامة لا نزاع فيها ، وإنما النزاع لما تغيرت أحوالها ، وذهب التوحيد وجاء التثليث وكذبت الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وصار ذلك يتلى في الصباح والمساء ، حينئذ هي أقبح بقعة على وجه الأرض وألعن مكان يوجد ، فلا تجعل هذه الآية دليلا على تفضيلها .
وثانيها:أن الله تعالى قال : (صوامع وبيع وصلوات) بالتنكير ، والجميع المنكر لا يدل عند العرب على أكثر من ثلاثة من ذلك المجموع بالاتفاق ، ونحن نقول : إنه قد وقع في الدنيا ثلاث من البيع ، وثلاث من الصوامع كانت أفضل مواضع العبادات بالنسبة إلى ثلاثة مساجد ، وذلك أن البيع التي كان عيسى عليه السلام وخواصه من الحواريين يعبدون الله تعالى فيها هي أفضل من جميع المساجد ، ثلاثة أو أربعة لم يصل فيها إلا السفلة من المسلمين ، وهذا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في البيع والصوامع على العموم واللفظ لا يقتضيه ، لأنه جمع منكر ، وإنما يقتضيه أن لو كان معرفا كقولنا : (البيع) باللام .
وثالثها:أن هذه الآية تقتضي أن المساجد أفضل بيت عند الله تعالى على عكس ما قاله هؤلاء الجهال بلغة العرب ، وتقريره أن الصنف القليل المنزلة عند الله تعالى أقرب للهلاك من العظيم المنزلة ، والقاعدة العربية أن الترقي في الخطاب إلى الأعلى فالأعلى أبدا في المدح والذم والتفخيم ، والامتنان ؛ فتقول في المدح : الشجاع البطل ، ولا تقول : البطل الشجاع ، لأنك تعد راجعا عن الأول ، وفي الذم: العاصي الفاسق ، ولا تقول: الفاسق العاصي ، وفي التفخيم : فلان يغلب الألف والمائة ، وفي الامتنان لا أبخل عليك بالدرهم ولا بالدينار ، ولا يقول بالدينار والدرهم ، والسر في الجميع أنك تعد راجعا عن الأول كقهقرتك عما كنت فيه إلى ما هو أدنى منه ، إذا تقرر ذلك ظهرت فضيلة المساجد ومزيد شرفها على غيرها ، وإن هدمها أعظم من تجاوز ما يقتضي هدم غيرها ، كما نقول : لولا السلطان لهلك الصبيان والرجال والأمراء ، فترتقي أبدا للأعلى فالأعلى لتفخيم أمر عزم السلطان ، وإن وجوده سبب عصمة هذه الطوائف ، أما لو قلت: لولا السلطان لهلك الأبطال والصبيان لعد كلاما متهافتا .
ورابعها:أن الآية تدل على أن المساجد أفضل بيت وضع على وجه الأرض للعابدين من وجه آخر ، وذلك أن القاعدة العربية أن الضمائر إنما يحكم بعودها على أقرب مذكور ، فإذا قلت : جاء زيد ، وخالد ، وأكرمته فالإكرام خاص بخالد ، لأنه الأقرب فقوله تعالى:{يذكر فيها اسم الله كثيرا}. يختص بالأخير الذي هو المساجد ، فقد اختصت بكثرة ذكر الله تعالى ، وهو يقتضي أن غيرها لم يساوها في كثرة الذكر ، فتكون أفضل ، وهو المطلوب .
فائدة:الصومعة موضع الرهبان ، وسميت بذلك لحدة أعلاها ودقته ، ومنه قول العرب: أصمعت الثريدة: إذا رفعت أعلاها ، ومنه قولهم: رجل أصمع القلب ، إذا كان حاد الفطنة . والصلاة: اسم لمتعبد اليهود ، وأصلها بالعبراني صلوتا فعربت ، والبيع اسم لمتعبد النصارى ، اسم مرتجل غير مشتق ، والمسجد اسم لمكان السجود فإن مفعلا في لسان العرب ، اسم للمكان ، واسم للزمان الذي يقع فيه الفعل نحو: المضرب لمكان الضرب ورماته .
6- ومنها: أنهم قالوا : القرآن دل على تعظيم الحواريين والإنجيل ، وأنه غير مبدل بقوله تعالى:{وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب }. وإذا صدقها لا تكون مبدلة ، ولا يطرأ الت غيير عليها بعد ذلك لشهرتها في الأعصار والأمصار ، فيعذر تغيرها ، ولقوله تعالى في القرآن :{الَمَ * ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين }. والكتاب هو الإنجيل لقوله تعالى: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءو بالبينات والزبر والكتب المنير }. والكتاب ها هنا هو الإنجيل ، ولأنه تعالى لو أراد القرآن لم يقل ذلك ؛ بل قال هذا ، ولقوله تعالى: {ءامنت بما أنزل الله من كتب }.(33/350)
والجواب:أن تعظيم الحواريين لا نزاع فيه ، وأنهم من خواص عباد الله الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، وكانوا معتقدين لظهور نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في آخر الزمان ، على ما دلت عليه كتبهم وإنما كفر وخالف الحادثون بعدهم : وأما تصديق القرآن لما بين يديه فمعناه : أن الكتب المتقدمة عند نزولها قبل تغييرها وتخبيطها كانت حقا موافقة للقرآن ، والقرآن موافق لها ، وليس المراد الكتب الموجود اليوم فإن لفظ التوراة والإنجيل إنما ينصرفان إلى المنزلين .
وأما قوله تعالى : { ذلك الكتب } ، وأنه المراد به الإنجيل : فمن الافتراء العجيب والتخيل الغريب ، بل أجمع المسلمون قاطبة على أن المراد به القرآن ليس إلا ، وإذا أخبر الناطق بذا اللفظ ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المراد هذا الكتاب ، كيف يليق أن يحمل على غيره ، فإن كل أحد مصدق فيما يدعيه في قول نفسه إنما ينازع في تفسير قول غيره ، إن أمكنت منازعته ، وأما الإشارة بذلك التي اغتر بها هذا السائل فاعلم أن للإشارة ثلاثة أحوال : ذا للقريب ، وذاك للمتوسط ، وذلك للبعيد ، لكن البعد والقرب يكون تارة بالزمان وتارة بالمكان ، وتارة بالشرف ، وتارة بالاستحالة ، ولذلك قالت زليخا في حق يوسف عليه السلام بالحضرة: وقد قطعن أيديهن من الدهش بحسنه ، {فذلكن الذي لمتننى فيه }، إشارة لبعده عليه السلام في شرف الحسن ، وكذلك القرآن الكريم لما عظمت رتيته في الشرف أشير إليه بذلك ، وقد أشير إليه بذلك لبعد مكانه ، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل: لبعد زمانه لأنه وعد به في الكتب المنزلة قديما ، وأما قوله تعالى :{جاءو بالبينت والزبر والكتاب المنير *}.
فاعلم : أن اللام في لسان العرب تكون لاستغراق الجنس نحو حرم الله الخنزير والظلم ، وللعهد نحو قولك لمن رآك أهنت رجلا : أكرمت الرجل بعد إهانته ، ولها محامل كثيرة ليس هذا موضعها فتحمل في كل مكان على ما يليق بها ، فهي في قوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } للعهد ، لأنه موعود به مذكور على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ، فصار معلوما فأشير إليه بلام العهد وهي في قوله تعالى : {بالبينت والزبر والكتاب } للجنس ، إشارة إلى جميع الكتب المنزلة المتقدمة ، ولا يمكن أن يفهم القرآن الكريم إلا من فهم لسان العرب فهما متقنا ، وقوله تعالى لنبيه عليه السلام ، فهو أمر له بأن يقول : {ءامنت بما أنزل الله من كتاب } . فالمراد الكتب المنزلة لا المبدلة ، وهذا لا يمتري فيه عاقل ، ونحن ننازعهم في أن ما بأيديهم منزلة ، بل هي مبدلة مغيرة في غاية الوهن والضعف ، وسقم الحفظ ، والرواية والسند بحيث لا يوثق بشئ منها .
7- ومنها:أنهم قالوا : القرآن الكريم أثنى على أهل الكتاب بقوله تعالى : {قل يأيها الكافرون * لآ أعبد ما تعبدون * ولآ أنتم عابدون ما~ أعبد } إلى قوله تعالى : {لكم دينكم ولي دين } ، وبقوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } ، والظالمون إنما هم اليهود عبدة العجل ، وقتلة الأنبياء ، وبقوله تعالى :{وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }.ولم يقل : كونوا به مسلمين ، وبقوله تعالى : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسسن ورهبانا وأنهم لا يستكبرون }. فذكر حميد صفاتنا وجميل نياتنا ، ونفا عنا الشرك بقوله : {والذين أشركوا }، ومدحنا بقوله تعالى : {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون *}.
والجواب :أما قوله تعالى : {قل يأيها الكافرون }إلى آخرها ، فمعناها : أن قريشا قالت له عليه السلام : اعبد آلهتنا عاما ، ونعبد إلهك عاما ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم ذلك ، فليس المراد النصارى ، ولو كان المراد النصارى لم ينتفعوا بذلك ، لأن قوله تعالى : {لكم دينكم ولي دين *} معناه الموادعة والمتاركة ، فإن الله تعالى أول ما بعث نبيه عليه السلام أمره أولا بالإرشاد بالبيان ليهتدي من قصده الاهتداء ، فلما قويت شوكة الإسلام أمره بالقتال بقوله تعالى : {يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير *}.
قال العلماء : نسخت هذه الآية بيفا وعشرين آية منها : {لكم دينكم ولي دين *} {لايضرنكم من ضل إذا اهتديتم } ، {لست عليهم بمسيطر *} وغير ذلك ، وليس في المتاركة والاقتصار على الموعظة دليل على صحة الدين المتروك .(33/351)
وقوله تعالى : {*ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } دليل على أنهم على الباطل ، فإنهم لو كانوا على الحق ما احتجنا للجدال معهم ، فهي تدل على عكس ما قالوا ، وقوله تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } المراد من طغى ، فإنا نعدل معه عن الدليل والبرهان إلى السيف والسنان ، وأمره تعالى لنا بأن نؤمن بما أنزل على أهل الكتاب صحيح ، ولكن أين ذلك المنزل ؟ والله إن وجود أعز من عنقاء مغرب !
وأما مدح النصارى بأنهم أقرب مودة ، وأنهم متواضعون فمسلم ، لكن هذا لا يمنع أن يكونوا كفرة مخلدين في النار ، لأن السجايا الجليلة والآداب الكسبية تجمع مع الكفر والإيمان ، كالأمانة والشجاعة ، والظرف واللطف ، وجودة العقل ، فليس فيه دليل على صحة دينهم .
وأما نفي الشرك عنهم فالمراد الشرك بعبادة الأصنام ، لا الشرك بعبادة الولد ، واعتقاد التثليث ، وسببه أنهم مع التثليث يقولون : الثلاثة واحد ، فأشاروا إلى التوحيد بزعمهم بوجه من الوجوه ، ويقولون : نحن لا نعبد إلا الله تعالى ، لكن الله تعالى هو المسيح ، ونعبد المسيح ، والمسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم ، فهذا وجه التوحيد من حيث الجملة ، ثم يعكسون ذلك فيقولون : الله ثالث ثلاثة ، وأما عبدة الأوثان فيصرحون بتعدد الآلهة من كل وجه ، ولا يقول أحد منهم : إن الصنم هو الله تعالى ، وكانوا باسم الشرك أولى من النصارى ، وكان النصارى باسم الكفر أولى ، حيث جعلوا الله تعالى بعض مخلوقاته ، وعبدوا الله تعالى ، وذلك المخلوق ، فساروا عبدة الأوثان في عبادة غير الله تعالى ، وزادوا بالاتحاد والصاحبة والأولاد ، فلا يفيدهم كون الله تعالى خصص كل طائفة من الكفار باسم هو أولى بها في اللغة مدحا ولا تصويبا لما هم عليه .
8- ومنها: أنهم قالوا : مدح الله قرباننا وتوعدنا إن أهملنا ما متعنا بقوله تعالى : {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} إلى قوله تعالى : { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه أحدا من العالمين}.فالمائدة هي القربان الذي يتقربون به في كل قداس .
والجواب: إن من العجائب أن يدعي النصارى أن المائدة التي نزلت من السماء هي القربان الذي يتقربون به مع الذين يتقربون به من مصنوعات الأرض ، وأين المائدة من القربان ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان ، بل معنى الآية أن الله تعالى طرد عادته وأجرى سنته أنه متى بعث للعباد أمرا قاهرا للإيمان لا يمكن العبد معه الشك ، فمن لم يؤمن به عجل له العذاب لقوة ظهور الحجة ، كما أن قوم صالح لما أخرج الله تعالى لهم الناقة من الحجر فلم يؤمنوا عجل لهم العذاب ، وكانت هذه المائدة جسما عليه خبز وسمك نزل من السماء يقوت القليل من الخلق العظيم العدد فأمرهم أن يأكلوا ، ولا يدخروا ، فخالفوا وادخروا ، فمسخهم الله تعالى ، ونزول مثل هذا من السماء كخروج الناقة من الصخرة الصماء ، فأخبر الله تعالى أن من لم يؤمن بعد نزول المائدة عجلت له العقوبة ، ولا تعلق للمائدة بقربانهم البتة ؛ بل المائدة معجزة عظيمة خارقة ، والقربان أمر معتاد ليس فيه شئ من الإعجاز البتة . فأين أحد البابين من الآخر لولا العمى والضلال .
9- ومنها : أنهم قالوا : إن الله تعالى أخبر خبرا جازما أنا نؤمن بعيسى عليه السلام بقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته }. فكيف نتبع من أخبر الله تعالى عنه أنه شاك في أمره بقوله تعالى :{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين } وأمره في سورة الفاتحة أن يسأل الهداية إلى صراط مستقيم { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} والمنعم عليهم هم النصارى ، والمغضوب عليهم اليهود ، والضالون عبدة الأصنام .
والجواب: أن النصارى لما لعبوا في كتابهم بالتحريف والتخليط صار ذلك لهم سجية ، وأصبح الضلال والإضلال لهم طوية ، فسهل عليهم تحريف القرآن ، وتغيير معانيه لأغراضهم الفاسدة ، والقرآن الكريم برئ من ذلك ، وكيف تخطر لهم هذه التحكمات بغير دليل ، ولا برهان ؛ بل بمجرد الأوهام والوسواس ، وأما قوله تعالى :{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته }ففيه تفسيران :(33/352)
أحدهما: أن كل كافر إذا عاين الملائكة عند قبض روحه ساعة الموت ظهر له منهم الإنكار عليه بسبب ما كان عليه من الكفر ، فيقطع حينئذ بفساد ما كان عليه ، ويؤمن بالحق على ما هو عليه ، فإن الدار الآخرة لا يبقى فيها تشكك ولا ضلال ، بل يموت الناس كلهم مؤمنين موحدين على قدم الصدق ومنهاج الحق ، وكذلك يوم القيامة بعد ا لموت ، لكنه إيمان لا ينفع ولا يعتد به ، وإنما يقبل الإيمان من العبد حيث يكون متمكنا من الكفر ، فإذا عدل عنه وآمن بالحق كان إيمانه من كسبه وسعيه ، فيؤجر عليه ، أما إذا اضطر إليه ، فليس فيه أجر فما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بنبوة عيسى عليه السلام وعبوديته لله تعالى قبل موته ، لكن قهرا لا ينفعه في الخلوص من النيران وغضب الديان .
التفسير الثاني: أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند ظهور المهدي بعد أن يفتح المسلمون القسطنطينية من الفرنج ،فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ولا يبقى على الأرض إلا المسلمون ، ويستأصل اليهود بالقتل ويصرح بأنه عبد الله ونبيه ، فتضطر النصارى إلى تصديقه حينئذ لإخباره لهم بذلك ، وعلى التفسيرين ليس فيه دلالة على أن النصارى الآن على خير .
وأما قوله تعالى :{ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } فهو من محاسن القرآن الكريم ، لأنه من تلطف الخطاب وحسن الإرشاد ، فإنك إذا قلت لغيرك أنت كافر فآمن ، ربما أدركته الأنفة فاشتد إعراضه عن الحق ، فإذا قلت له : أحدنا كافر ينبغي أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله تعالى ، فهلم بنا نبحث عن الكافر منا فنخلصه ، فإن ذلك أوفر لداعيته في الرجوع إلى الحق والفحص عن الصواب ، فإذا نظر فوجد نفسه هو الكافر فر من الكفر من غير منافرة منك عنده ، ويفرح بالسلامة ، ويسر منك بالنصيحة ، هكذا هذه الآية سهلت الخطاب على الكفار ليكون ذلك أقرب لهدايتهم ، ومنه قول صاحب فرعون المؤمن لموسى عليه السلام : { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا } إلى قوله : { وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } فخصهم أولا بالملك والظهور لتنبسط نفوسهم مع علمه بأنه وبال عليهم ، وسبب طغيانهم ، ولم يجزم في ظاهر اللفظ بصدق موسى عليه السلام مع قطعه بصدقه ، بل جعله معلقا على شرط ، لئلا ينفرهم فيحتجبوا عن الصواب ، فكل من صح قصده في هداية الخلق سلك معهم ما هو أقرب لهدايتهم ، وكذلك قوله تعالى لموسى وهارون في حق فرعون :{ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } وقوله لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين :{ ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك}.وقوله :{ ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن } فهذا كله من محاسن الخطاب لا من موجبات الشك والارتياب .
وأما أمره تعالى لمحمد عليه السلام ولأمته بالدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فلا يدل على عدم حصول الهداية في الحال ، لأن القاعدة اللغوية أن الأمر والنهي والدعاء والوعد والوعيد والشرط وجزاءه إنما يتعلق بالمستقبل من الزمان دون الماضي والحاضر ، فلا يطلب إلا المستقبل ، لأن ما عداه قد تعين وقوعه ، أو عدم وقوعه ، فلا معنى لطلبه ، والإنسان باعتبار المستقبل لا يدري ماذا قضي عليه ، فيسأل الهداية في المستقبل ليأمن من سوء الخاتمة ، كما أن النصراني إذا قال : اللهم أمتني على ديني ، لا يدل على أنه غير نصراني وقت الدعاء ، ولا أنه غير مصمم على صحة دينه ، وكذلك سائر الأدعية ، وأجمع المسلمون والمفسرون على أن المغضوب عليهم اليهود ، وأن الضالين النصارى ، فتبديل ذلك مصادمة ومكابرة ومغالطة وتحريف وتبديل ، فلا يُسمع من مدعيه .
10- ومنها: أنهم قالوا : ليس من عدل الله تعالى أن يطالبنا باتباع رسول لم يرسله إلينا ، ولا وقفنا على كتابه بلساننا .
والجواب : أنه عليه السلام لو لم يرسل إليهم فليت شعري من كتب إلى قيصر هرقل ملك الروم ، وإلى المقوقس أمير القبط يدعوهم إلى الإسلام ؟!
وليس يصح في الأذهان شئ
إذا احتاج النهار إلى دليل
11- ومنها : أنهم قالوا : إن قال المسلمون: لم أطلقتم لفظ الابن والزوج الأقانيم ، مع أن ذلك يوهم أنكم تعتقدون تعدد الآلهة ، وأن الآلهة ثلاثة أشخاص مركبة ، وأنكم تعتقدون ببنوة المباضعة ، قلنا للمسلمين : هذا كإطلاق المتشابه عندكم من لفظ اليد ، والعين ، ونحوها ، فإنه يوهم التجسيم ، وأنتم لا تعتقدونه .(33/353)
والجواب : أن آيات وأحاديث صفات الله ليست من المتشابه عند أهل السنة ؛ بل هي معلومة المعنى ، نثبتها لله كما أثبتها لنفسه دون تشبيه أو تعطيل ، أو تأويل . وأما ما كان من المتشابهات التي بينها العلماء والواردة في قوله تعالى : ( وأخر متشابهات ) فإنما يطلق المسلمون المتشابه بعد ثبوته نقلا متواترا نقطع به عن الله تعالى أنه أمر بتلاوته امتحانا لعباده ليضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وليعظم ثواب المهتدين حيث حصل الهداية بعد التعب في وجوه النظر ، ويعظم عذاب الضالين حيث قطعوا لا في موضع القطع ، ولم ينقلوا ذلك عن امرأة كما اتفق ذلك في الإنجيل ؛ بل ما اقتصر المسلمون على الجمع القليل ، بل ما اعتمدوا على العدد الذي يستحيل عليهم الكذب ، فلما تحققوا أن الله أمرهم بذلك نقلوه ، وأما النصارى فأطلقوا بعض ذلك من قبل أنفسهم ، كالأقانيم والجوهر ، وبعضها نقلوه نقلا لا تقوم به حجة في أقل الأحكام ، فضلا عن أحوال الربوبية ، فهم عصاة لله تعالى حيث أطلقوا عليه ما لم يثبت عندهم بالنقل ، بل لو طولبوا بالرواية لإنجيلهم لعجزوا عن الرواية ، فضلا عن النقل القطعي ، فلا تجد أحدا له رواية في الإنجيل يرويه واحد عن واحد إلى عيسى عليه السلام ، وأقل الكتب عند المسلمين من الارتياب وغيرها يروونها عن قائلها ، فتأمل الفرق بين الاثنين ، والبون الذي بين الدينين؛ هؤلاء المسلمون ضبطوا كل شئ ، والنصارى أهملوا كل شئ ، ومع ذلك يعتقدون أنهم على شئ .
12- ومنها: أنهم قالوا: الله له عدل وفضل ، وهو سبحانه وتعالى يتصرف بهما ، فأرسل موسى عليه السلام بشريعة العدل لما فيها من التشديد ، فلما استقرت في نفوسهم وقد بقي الكمال الذي لا يصنعه إلا أكمل الكملاء ، وهو الله تعالى ، ولما كان جوادا تعين أن يجود بأفضل الموجودات ، وليس في الموجودات أجود من كلمته يعني نطقه ، فجاد بها واتحدت بأفضل المحسوسات ، وهو الإنسان ، لتظهر قدرته ، فحصل غاية الكمال ، ولم يبق بعد الكمال إلا النقص ؛ فتفضب بالنصرانية .
والجواب: أما شريعة موسى عليه السلام ، فكانت عدلا وفضلا وقل أن يقع في العالم عدل مجرد ، وإنما وقع ذلك لأهل الجنة .
وتقرير هذا الباب : أن كل جود وإحسان فهو فضل من الله تعالى ، وهو جود لا يجب عليه عري عن الخير والإحسان البتة فهو العدل المحض ، لأن الملك ملكه ، والتصرف في الملك المملوك كيف كان : عدل ليس بظلم . فإن وقع الخير المحض فهو التفضيل المحض ، وهذا هو شأن أهل الجنة .
إذا تقرر هذا ، فشريعة موسى عليه السلام كان فيها من الإحسان أنواع كثيرة ، فتلك كلها فضل ؛ كتحريم القتل والغصب والزنا والقذف والمسكر من الخمور المغيبة للعقول ، وإنما أباح فيها اليسير الذي لا يصل إلى حد السكر ، وكإباحة الفواكه واللحوم والزواج وغير ذلك ، وهذه كلها أنواع من الفضل ، ثم إن عيسى عليه السلام جاء مقررا لها وعاملا بمقتضاها ، ومستعملا لأحكامها ، ولم يزد شيئا من الأحكام ، إنما زاد المواعظ والأمر بالتواضع والرقة والرأفة ، فلم يأت عيسى عليه السلام بشريعة أخرى حتى يقال : إنها الفضل ؛ بل مقتضى ما قاله أن تكون شريعة الفضل هي شريعتنا ؛ لأنها هي الشريعة المستقلة التي ليست تابعة لغيرها ، ولا مقلدة لسواها ، وهذا هو اللائق لمنصب الكمال أن يكون متبوعا لا تابعا ، فهذه الحجة عليه لا له .
ثم قولهم : لا يصنع الأكمل إلا هو سبحانه ، فهو باطل لأنه لا حجر عليه سبحانه في ملكه ، فيأمر بعض خلقه بوضع الأكمل ، ويرسل للناس بأوامر وشرائع هي في غاية جلب المصالح ودرء المفاسد ، كما هي شريعتنا المعظمة .
ثم قولهم : الله تعالى جواد فجاد بأعظم الموجودات وهو كلمته ، فجعله متحدا بأفضل المحسوسات وهو الإنسان ، باطل لوجوه :
أحدها: أن الجود بالشئ فرع إمكانه ، فإن الكرم بالمستحيل محال ، فينبغي أن يبين
أولا تصور انتقال الكلام من ذات الله تعالى إلى مريم رضي الله عنها ، ثم يقيم الدليل على وقوع هذا الممكن بعد إثبات إمكانه ، وقد تقدم بيان استحالة ذلك .
وثانيها: سلمنا أنه ممكن ، لكن لم قلتم إن الكلام هو أفضل الموجودات ، ولم لا يكون العلم أفضل منه ، لأن الكلام تابع للعلم ؟
وثالثها: أن الذات الواجبة الوجود التي الصفات قائمة بها أفضل من الصفات ، لأن الصفات تفتقرللذات في قيامها ، والذات لا تفتقر لمحل بخلاف الصفة .
ورابعها: أنها صفة من الصفات ، والصفات بجملتها مع الذات أفضل من الكلام وحده ، ولم يقل أحد باتحاد هذا ، فالأفضل لم يحصل حينئذ ، ولما كان كلام النصارى نوعا من الوسواس اتسع الخرق عليهم .
والرد أنا نبين أن صفة الكمال والجود والفضل ظهرت في شريعتنا أكثر من جملة الشرائع ، وبيانه من وجوه :
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
خاتمة:
في فضائل الإسلام على سائر الأديان(33/354)
أحدها: أن معجزات جميع الشرائع ذهبت بذهاب أنبيائها ، فوقع الخبط في تلك الشرائع بعد طول المدة ، وموت الفرقة الذين شاهدوا المعجزات ، وجاء قوم لم يشاهدوا نبيا ، ولا معجزة ، فطغوا وبغوا ، وضلوا ، وأضلوا ، ودثرت تلك الشرائع بهذا السبب ، فلم تتم المصلحة بسبب هذا العارض ، ومعجزة شرعنا هي القرآن الكريم بوصفه ونظمه ، وما اشتمل عليه من المغيبات ، وحلاوة السماع حلاوة لا تخلقها الآباد ، ولا يسئمها الترداد ، ووجدنا فيه من المعجزات نحو عشرة آلاف معجزة مسطورة في كتب هذا الشأن ، واحدة منها كافية ، فكيف بالجميع ؟ وجميعها باق بمشاهدة الأخلاف بعد الأسلاف والأبناء بعد الآباء ، فلا يزيد الإسلام إلا قوة ، ولا الإيمان والتوحيد إلا جدة ولله الحمد على ذلك ، فتمت المصلحة ، واستمرت ، ودحضت الضلالات ودثرت ، فهذا هو الكلام ولأشرف والفضل المنوف .
وثانيها : أن كل نبي بعث إلى قومه خاصة ، ومحمد - r_ بعث للثقلين جميعا ، الإنس والجن على اختلاف أنواعها ، وبيان ذلك أن أكمل الشرائع المتقدمة شريعة التوراة ، مع أن موسى عليه السلام لم يبعث إلا لبني إسرائيل ، ولما أخذهم من مصر وعبر البحر لم يعد لمصر ، ولا وعظ أهلها ، ولا عرج عليهم ، ولو كان رسولا إليهم لما أهملهم ، بل إنما جاء لفرعون ليسلم له بني إسرائيل فقط ، فلما انقضى هذا الغرض أهملهم ولم يعد لمصر البتة ، وإذا كان هذا حديث موسى عليه السلام ، فغيره أولى ، وقد أخبرنا سيد المرسلين بذلك ، ولا شك أن المصالح إذا عمت كانت أكمل ، وهو المطلوب .
وثالثها: أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس فتكون شرائعها أفضل الشرائع ، أما أنها أفضل فلقوله تعالى :{ كنتم خير أمة أخرجت للناس } ، ولأنها صنفت من العلوم ما لم يصنف في ملة من الملل ، حتى أن العالم الواحد منهم يصنف ألف كتاب في المجلدات العديدة في العلوم المتباينة ، ولعله لا يوجد في شريعة الإسرائيليين كلهم من النصارى واليهود من التصانيف مثل هذا العدد ، فيكون العالم منا قدر شريعتهم بجملتها ، وكم فيها من عالم ، ولأن العلوم القديمة كلها إنما تحررت فيها من الحساب والهندسة والطب ، والهيئة ، والمنطق ، وغير ذلك وكل هذا حاصل لها ، وجددت هي علوما لم تكن لغيرها من النحو واللغة ، والعربية البديعة ، وبسط وجوه الإعراب الذي صنفت فيه الدواوين العظيمة ، وعلوم الحديث على اختلاف أنواعها ، وعلوم القرآن العظيم على سعتها ، وعلوم العروض والشعر والنظم ، وغير ذلك من العلوم الخاصة بها ، وهم أولى بعلوم غيرها لتلخيصها وإظهار بهجتها ، وإزالة فاسدها عن صحيحها ، وبسطها بعد قبضها عند غيرها ، فصار علم الوجود منحصرا فيها أولا وآخرا ، فتكون أفضل ، ولأن ما وهبه الله تعالى لهم من وجودة العقول ، وقوة الإدراك ، وتيسير ضبط العلم ، لم يحصل لغيرها مضافا لقوة الحفظ وجودة الضبط الذي لم ينقل عن أمة من الأمم ، وهو دليل كثرة علومها ، ولولا ذلك لم تكثر العلوم فيها ولها ، وأما أنها إذ كانت أفضل الأمم تكون شريعتنا أفضل الشرائع ، فلأنها إنما نالت ذلك ببركة شريعتها ، واتباع نبيها عليه السلام ، ومتى كانت الثمرة أفضل كان المثمر أفضل .
ورابعها: أن الله تعالى جعل عبادة الأمة في هذه الشريعة على نسق الملائكة عليهم السلام ، تسوية بين الملائكة وهذه الأمة في صفة العبادة فكل الأمم يصلون همجا من غير ترتيب إلا هذه الأمة تصلي صفوفا كما تصلي الملائكة : {وإنا لنحن الصآفون * وإنا لنحن المسبحون * } والشريعة المشتملة على أحوال الملائكة أفضل من غيرها ، فشريعتها أفضل الشرائع .
وخامسها : أن سائر الأمم أمرت بتطهير الباطن عن الرذائل والأخلاق الشيطانية فقط ، وهذه الأمة أمروا بذلك وزيد لها وحدها الأمر بتطهير الظاهر بالوضوء والغسل ، واجتناب النجاسات ، والقاذورات ، فيقف الراهب يناجي ربه ويتمثل بين يديه لخطابه والعذرة قد تحجرت على سوءته ، والقاذورات قد غلبت على أطرافه وسحنته ، حتى لو وقف ذلك الراهب قدام شيخ ضيعته لمقتته ، وقبح حالته ، فكيف بملك الملوك رب الأرباب ؟ وأمر المسلم إذا ناجى ربه أن يكون نقي الباطن نظيف الظاهر ، وحسن الهيئة ، مستقبلا أفضل الجهات ، ملازما للسكينة والوقار ، تاركا للعبث والنفار ، فإن كان النصراني لا يدرك الفرق بين هاتين الشريعتين ولا بين الهيئتين ، فهو معذور ، لأنه قد فسد مزاج دماغه بروائح العذرات ، وعمي قلبه بملابسة القاذورات في المطعومات والمشروبات ، حتى إنهم يقولون : ليس ثمة نجاسة البتة ، وبمثل هذا وأقل منه تعذر الناس في فساد عقولهم .
وسادسها : أن هذه الشريعة أمرت باستقبال أفضل الجهات وهو البيت الحرام ، لأنه أفضل من بيت المقدس لأمور : منها أنه أقدم بناء منه بأربعين سنة ، والتقدم دليل الفضل .
ومنها : أن جميع الأنبياء آدم فمن دونه حجه بخلاف البيت المقدس وجميع الشرائع إنما أمرت بالتوجه في الصلاة إلى البيت المقدس .(33/355)
سابعها : أن الله تعالى جوز في شريعة موسى عليه السلام أن يتزوج الرجل من شاء من النساء ، فراعى مصلحة الرجال دون النساء ، فإنهن يتضررن بالغيرة ، والإهمال إذا كثرن ، وحجر في شريعة عيسى عليه السلام على ما زاد على المرأة الواحدة ، فراعى مصلحة النساء دون الرجال لأنهم يتضررون بالاقتصار على الواحدة ، فقد لا تلايم ، فيكون في حيز العدم ، وفي شريعتنا جمع بين مصالح الفريقين فجعل للرجل أربعة نسوة ، فلا ضرر عليه ، ولم يكثر ضرر المرأة بأكثر من ثلاث ، فكانت شريعتنا أتم ، واليهود اليوم لا يزيدون على الأربع تشبها بالمسلمين .
وثامنها : أن جميع الشرائع إنما يؤذن لهم في الصلاة في البيع ، وشريعتنا وردت بالصلاة في كل موضع طاهر في جميع أقطار الأرض ، ومعلوم أن الصلاة فيها تعظيم الله تعالى والإنسان قد يتعذر عليه البيعة لكونه في البرية والسفر ، أو يتيسر له لكن تفتر عزيمته قبل وصوله إليها ، فتكون الصلاة وتعظيم الله تعالى بها في غاية القلة ، وفي هذه الشريعة جميع الأرض مسجد ، فيكون تعظيم الله تعالى وإجلاله في غاية الكثرة ، فتكون هذه الشريعة أفضل الشرائع ، وهو المطلوب .
وتاسعها : أن جميع الشرائع لم تحل فيها الغنائم لأحد بل تقدم للنيران فتحرقها ، وأحلت الغنائم في هذه الشريعة ، ومعلوم بالضرورة أن صون المالية عن الضياع والاستعانة على الدين والدنيا بها واقع في نظر الحكمة ، وأتم في مراعاة المصلحة ، فتكون هذه الشريعة أفضل الشرائع ، وهو المطلوب .
وعاشرها : أنا لا نعلم في شريعة من الشرائع إلا إعلاما بالأوقات المعينات للصلوات بشيء يشتمل على مصلحة غير الإعلام ، فاليهود يعلنون بالبوق ، والنصارى بضرب خشبة على خشبة ، أو نوع آخر من الجمادات يسمونه الناقوس ، وغير هاتين الملتين تعلم بالنيران ، ومعلوم أن هذه الأمور لا تحصل إلا مصلحة الإعلام ، وشرع في هذه الشريعة وحدها الأذان ، فحصل الإعلام ، ومصلحة أفضل ، وهي الثناء على الملك العلام وتجديد كلمة الإيمان ، وتفخيم قدر رسول الملك الديان ، والحض على الصلاة وجميع سبل النجاة بقوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، والفلاح خير الدنيا والآخرة ، وكلمة ( حي ) أمر تحضيض على ما بعدها وفيه إيقاظ الغافلين وانتشار ذكر الذاكرين بالمجاوبة للمؤذنين ، وفيه الإشعار بالتوحيد ، وأنواع التمجيد بدوي الأصوات بين الأرض والسماوات على أعلى البنايات ، وأين هذا من النفخ في البوقات ، وقراقع الخشبات ، ومعلوم أن هذه مصالح جليلة ، ومناقب فضيلة ، لم تقرر إلا في هذه الشريعة المحمدية ، وهذه الأمة الطاهرة الزكية ، وذلك مما يوجب شرفها على غيرها ، وهو المطلوب .
ونقتصر على هذه النبذة في هذا المختصر اللطيف ، وإلا فمحاسن الشريعة لا يحصى عدها ، ولا يخبو زندها ، وهذا هو آخر الرسالة والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الأمين
==============(33/356)
(33/357)
كفريات ( محمد أركون ) !! - تعليقًا على عادل الطريفي -
سليمان بن صالح الخراشي
في مقالة له بجريدة الوطن بشرنا عادل الطريفي - هداه الله - بأن ( بعض طلبة الشريعة يسألون عن أركون في الخفاء ) !!
ولماذا في الخفاء يا عادل ؟! وكتبه مبذولة لمن أرادها ؟!
إن كتب أركون التي بشرتنا بها ، وفرحت أنت وصحبك باكتشافها مؤخرًا ! وكأنكم قد اكتشفتم إكسير الحياة ؛ قدعرفها أهل الإسلام قديمًا قبل أن يبدو عذارك أنت وبعض طلبة الشريعة ، فلم يجدوا فيها سوى الكفر بالله وآياته ، والتطاول والجرأة على كتابه الكريم ، بلغة فجة ركيكة .
وقد أحببت أن أسوق مقالا مكتوبًا قبل سنين للدكتور محمد الأحمري لخص فيه الفكرة التي لا يجاوزها أركون في جميع كتبه التي يتنطع بكتابتها بالفرنسية ، ثم يقوم تابعه هاشم صالح بترجمتها إلى العربية مضيفًا إليها ما يزيدها ظلمة فوق ظلمتها !
ثم أتبع ذلك من آخر كتب أركون " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل " بما يشهد على أن الرجل باق على هذه الكفريات .
أسوق هذا كله لسببين :
الأول : أن لا ينخدع شباب الإسلام بترويج الطريفي وصحبه لهذا المنحرف ، وأن يعلموا حقيقة ما يساقون إليه .
الثاني : موعظة للطريفي ومن تورط معه في طريق العصرنة - إما لطلب شهرة أو حب للتميز والشذوذ أو لغير ذلك من الأسباب - أن ينتهوا عن هذا الطريق المظلم ، ويحاسبوا أنفسهم ، وينيبوا إلى الحق قبل أن يحال بينهم وبينه بسبب الإصرار ، وأن يتقوا الله في الترويج والمدح لمن يكفر بدينهم وقرآنهم . وأن يعلموا أن طريق العصرنة : أوله شذوذ .. وأوسطه علمنة ...وآخره إلحاد . والواقع شاهد لهذا .
يقول الدكتور محمد - وفقه الله - :
محمد أركون ومعالم من أفكاره
تطورت في عصرنا هذا وسائل الدعاية لكل شيء بمقدار لم يسبق له مثيل ، هذه الدعاية في قضايا الكماليات ووسائل الراحة قد تكون معقولة إلى حد ما ، لكن الغريب من أصناف هذه الدعاية، الدعاية الفكرية لعامة الكتاب والشعراء والروائيين إلى درجة تدفع إلى السأم وعدم الثقة بأي شيء يشتهر من كتاب أو كاتب أو صحيفة ، فيجعلك هذا لا تثق بالشهرة لأي عمل، إذ قد يكون في غاية الرداءة والفساد لكن جيوش الإعلام والترويج تحاصرك حتى تفقد بصيرتك. وقد حاصرتنا الدعاية في زماننا ورفعت في وجوهنا مجموعة من الكتاب والمفكرين والأدباء، وألصقتهم في وجوه ثقافتنا كرهاً، وألزمتنا بهم وحاصرتنا كتبهم في كل زاوية ، وليس هذا الحصار فقط بين العرب ، بل لقد شكَت إحدى المستشرقات وقالت : إن أدونيس لم يقل شيئاً ولكن اللوبي الأدونيسي هو الذي أعطاه الأهمية" ! . هذا الجيش الدعائي من وراء كتاب صغار أو مغالطين كبار هو الذي أعطاهم أهمية كبرى في عالم الكتاب العربي .
قال أحد القراء لقد رأيت كتب أركون ولفت انتباهي الدعاية الكبيرة لها؛ فذهبت مع القوم واشتريت منها وقرأت الأول والثاني فما أحسست بفائدة ولا ساعدني الفهم ، وقلت كاتب متعب ولكن زادت الدعاية للرجل فقلت في نفسي : النقص في قدرتي على الدراسة والفهم ، وسكتُّ وخشيت أن أقول لأحد : لا أفهمه ، حتى إذا كان ذات يوم جلست إلى قارئ وكاتب قدير وتناول كتاب "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وقال : لقد حاولت أن أفهم هذا الكاتب أركون فما استطعت ، فكأنما أفرج عني من سجن وقلت : رحمك الله أين أنت فقد كنت أبحث عن قارئ له يعطيني فيه رأياً ، لا الذين أكثروا من الدعاية له دون دراية.
وحتى لا تضر بنا المبالغة في هذا إليك نموذجاً للدعاية الأركونية : علق هاشم صالح مترجم أركون إلى العربية في آخر كتاب "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" يقول هاشم : بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر في حجم المعركة التي يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها ، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد أصبحت واضحة محصورة ، كلما اكتشفت أنها متشابكة معقدة ، شبه لا نهائية. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال : هو أن محمد أركون يخوض المعركة على جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أًصوليي المسلمين ، وجبهة أصوليي المستشرقين :
وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيْك تميل ؟ (1)
هذا مثل مما يفعل هذا المترجم ، وقد يفاجئك مراراً بالمدح في وسط الكتاب أو في المقدمة أو في الهامش (2) أو في لقاءاته مع أركون التي تمثل جزءاً كبيراً من أعماله ؛ فهذه طريقة في الكتابة جديدة إذ يُجري المترجم حواراً حول أفكار أركون بعد كل فصل أو في آخر الكتاب كما في "الفكر الإسلامي قراءة علمية" ، أو "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد".(33/358)
أثناء قراءة أعمال أركون قد تصادفه ينقد مدرسة عقائدية أو فقهية ، ويحاول أن يقول إنها خرافة، وأسطورة دغمائية كما يحلو له أن يكرر، وتقول : لعله ينصر المدرسة الأخرى ، فهو إما شيعي أو خارجي ، ثم يخرج عليك في صفحة أخرى وهو يعرض بعدم معقولية فكرة الإمامة لدى الشيعة (3) ، ثم في مكان آخر لا يتفق مع الإسلام السني المتزمت في نظره (4) علماً أن السني عنده هم الأشاعرة ، وأما أحمد وابن تيمية فيدعوهما حنابلة متزمتين . وتحاول جاهداً أن تقف تماماً على ما يريد فإذا هو متناقض لا يؤمن بشيء ولا يرى أن لهذا العلم أو التراث الإسلامي أي مكانة إلا في عين المدارس النقدية الغربية ؛ فما أقرته فهو الحق والمحترم - كنص للدراسة ليس أكثر من نص بشري قابل للأخذ والعطاء - وما لا تقره المكتشفات الأسلوبية اللغوية الاجتماعية والنفسية المعاصرة فإنه لا يرى إقراره والاهتمام به لقدمه وتخلفه عن العصر.
ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجُل ما قال في الكتب الأخرى ، وأشار فيه بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
عند أركون أهداف واضحة لمن يستقرئ أعماله ويصبر على التزوير والمراوغة واللعب بالكلمات في غير معانيها حتى يحصل على هدفه الكبير من كل مشروعه وسيأتي بيان الهدف بعد ذكر وسائله إليه .
الوسائل :
أول وسائله نقد الكُتاب الإسلاميين الذين ليست لهم صلة بالمدارس الغربية في الفكر ، والذين ليس لهم إلمام بعلوم اللسانيات والاجتماع والنفس والنظريات التي خرجت - فيما يرى - بعد الخمسينات من هذا القرن الميلادي ، وبالتالي يطالبهم بالمشاركة والدراسة لمستجدات النظريات الإنسانية الغربية ، ثم هو يستخدم نظريات ميشيل فوكو في مسائل المعرفة والسلطة ، ويرى تاريخية المعرفة وبكوْنها قابلة للتغيير والتطوير والشمول ، وأهم جوانب المعرفة التي يتحدث عنها المعرفة الدينية بكل أبعادها ، ويرى اعتبار المعرفة الإسلامية نموذجاً أسطورياً لابد أن يخضع للدراسة والنقاش - كما سيأتي - ويرى المجاهرة باعتبار العلوم الإسلامية سياقاً معرفياً أسطورياً يزعج المسلمين ويهز إيمانهم ، ولكن لابد - كما يرى - من بناء مفاهيم جديدة مستمدة من الاحتياجات الجديدة كما فعل السلف، ويرى أن هناك مناطق عديدة في الفكر الإسلامي لا تمس ولا يفكر فيها مثل مسألة عثمان - رضي الله عنه - وقضايا جمع القرآن، والتسليم بصحة أحاديث البخاري والموافقة على الأصول التي بناها الشافعي، ويرى أنه يضع أساساً للاجتهاد وعقلانية جديدة (5) ، وهو يرى أن الوعي الإسلامي قد انشق فيما بين السنة والشيعة ، والوسيلة عنده ليست بالتوفيق بين الجانبين ولا الانتقاء منهما إنما الوسيلة نقد الطرفين وهو يعتنق "النقدية الجذرية" للطرفين وإسقاط كل الحجج التي بأيدي الجميع ، وبالتالي فإن النص السني مغلوط ومزور والنص الشيعي نص العدالة والعصمة مغلوط ومزور وأسطوري، والمطلوب أن يتحرر كل من الفريقين من نصه فيتوحدان (6).
الأهداف :
من أهم ما يهدف له أركون في كتاباته المكررة والمملة نزع الثقة من القرآن الكريم وقداسته واعتباره نصاً أسطورياً (7) قابلاً للدراسة والأخذ والرد. وهو يغالط كثيراً في معنى كلمة "أسطورة" ويقول : إنه يعاني من صعوبة هذه الكلمة على أسماع العرب الذين يربطون بين هذه الكلمة وبين الأكذوبة أو الخرافة، لكن ما هي الكلمة التي يستخدمها أركون في تعبيره عن القرآن باللغة الفرنسية التي يكتب كل كتبه بها.
إنه استخدم كلمة MYTHE وبالإنجليزية MYTH وكلتا الكلمتين تعني الخرافة أو الحكاية والكلمتان جاءتا من الكلمة الإغريقية MUTHOS وهي تعني في جميع اللغات الأوربية حكاية خرافية شعبية تتحدث عن كائنات تجسد - بصورة رمزية - قوى الطبيعة والوضع الإنساني (8).
ثم إذا سلم بهذه الأسطورة - بزعمه - فإنها أولاً لم تصلنا بسند مقطوع الصحة؛ لأن القرآن -كما يقول - لم يُكتب كله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بل كُتب بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعد (9) وهذه من المغالطات التي يسوقها أركون بكل سهولة ويخلط فيها ما بين قضية الجمع وقضية الكتابة ، وبزعم أن الظروف السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون فقط على قرآن واحد ويتركون ما عداه (10).
ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمر يدخل بعد ذلك إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار ويرى أن التاريخ الواقعي المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن ، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة! ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ في كتبه كثيراً مثله يقول :
"ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس" (11) .(33/359)
ويرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قِبَل ندرة أهمهم عنده "محمد أحمد خلف الله" عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن القصة القرآنية مفتعلة، ويتحسر على عدم استمرار "خلف الله" ويذكر أن الأسباب التي لم تمكن "خلف الله" في عمله أنه راعى الموقف الإسلامي الإيماني أولاً ، وثانياً : لنقص المعلومات. إذن فقد آل الأمر إلى أركون الذي سيهاجم القرآن؛ لأنه لا يراعي الموقف الإسلامي الإيماني لأنه مطلع على الأبحاث الجارية. ومع زعمه أنه يعرف الأبحاث الجارية التي كتبها فوكو والحاخام دريدا ؛ فإنه يظهر للقارئ بشكل يجعله لا يثق في قدرة أركون ولا أنه فهم ما زعم فهمه من قضايا المعرفة ونقد اللاهوت ونظريات البنيوية وما بعدها (12) ، ويعاني في عرضه للأقوال من عدم التوثيق أو القول الصحيح لما ينقل ؛ إذ يقلب كل قضية قرآنية أو تفسيرية أو سياق لعلم حتى يفسد المعنى ويلويه إلى ما يريد كما مر معنا في مسألة كتابة القرآن ، ومثال آخر يعرِّف الوحي بقوله : "إنه يُدعَى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت" (13).
معاني القرآن :
لو تجاوزنا قضية شكه في القرآن وردّه للسنة من باب أَوْلى فماذا يفسر به القرآن وكيف يفهمه، إنه يقول : "إن القرآن - كما الأناجيل - ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري ، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس - اعتقاد الملايين - بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبق على كل الحالات وفي كل الظروف" (14) .
ويقول في موضع آخر :
"إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقَّى بصفتها تعابير أدبية ، أي تعابير محورة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي - أن يعيها ويكشفهما" (15).
ويفصل أركون بين القرآن والشريعة ، فالقرآن عنده "خطاب مجازي يغذي التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز ، والمجتمعات البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز" (16) ولكن هناك البشر المحسوسون العائشون - كما يقول - في مجتمع وهناك أمورهم الحياتية المختلفة التي تتطلب نوعاً من التنظيم والضبط وهكذا تم إنجاز الشريعة (17) ثم يعقب بأن هناك مجالاً أسطورياً مجازياً وهو مجال القرآن، ومجال آخر واقعي للناس هو مجال الشريعة ويقول : "إنه وهم كبير أن يتوقع الناس علاقة ما بين القرآن والشريعة التي هي القوانين الشرعية وأن المناخ الميثي (الأسطوري) الذي سيطر على الأجيال السابقة هو الذي أتاح تشييد ذلك الوهم الكبير ، أي إمكانية المرور من إرادة الله المعبر عنها في الكتابات المقدسة إلى القوانين الفقهية (الشريعة) وحجته في ذلك ما يلي : في الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة من الكلام (من الخطاب) وهناك فرق بين خطاب شعري أو ديني ، وخطاب قانوني فقهي أو فلسفي ، ولا يمكن لنا أن نمر من الخطابين الأولين إلى الخطابات الأخرى إلا بتعسف واعتباط"(18) ألا ترى أنك يا أركون قد استطعت أن تمرق من الخطابين .
مكانة السنة عنده :
ليس هذا مجالاً لمتابعة هذه الأقوال والرد عليها، فيكفي هنا التعريف بمعالم فكره بما فيها جرأته على الشك في ثبوت وصول القرآن إلينا ، وجرأته على نفي الحديث والزعم بأن الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام احتاجت إلى أحاديث وقال : "إن السنة كُتبت متأخرة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم بزمن طويل وهذا ولَّد خلافات . لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية ، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة"(19) . وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة كما يسميها (20)، ثم يقول: "وبالطبع فإن مسيرة التاريخ الأرضي وتنوع الشعوب التي اعتنقت الإسلام - قد خلقت حالات وأوضاعاً جديدة ومستحدثة لم تكن متوقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في الحديث، ولكي يتم دمجها وتمثلها في التراث فإنه لزم على المعنيين بالأمر أن يصدقوا عليها ويقدسوها إما بواسطة حديث للنبي ، وإما بواسطة تقنيات المحاجة والقياس" . (21)(33/360)
الشريعة والحياة تلك هي مكانة الشريعة عنده وهذه مكانة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لا يرى أي تشريع جاء به القرآن، وأن القرآن خطاب أدبي عاطفي لا علاقة له بالحياة، والشريعة ضرورة اجتماعية أملتها ظروف المجتمع وحاجة الناس، وهي في مجموعها تراث إذا قابلت في الطريق ثقافة مجتمع آخر أو استجد شيء فإن هذا الجديد يدمج في هذا التراث بواسطة حديث أو قياس ، وهو يناقض نفسه تماماً ، إذ لو لم تكن الشريعة من غير هذين المصدرين كأساس لما سعى المعنيون بالأمر - كما يسميهم - لفعل ما كذبه عليهم. وهذا مثال واحد كبير من الغث والانحراف والكفر الذي يملأ به كتبه، كله يناقض بعضه بعضاً، وكفاه زوراً أو جرأة على كتاب الله قوله : "وليس في وسع الباحثين أن يكتفوا اليوم في الواقع بالتكرار الورع للحقائق الموحى بها في الجزيرة العربية في القرن السادس والتي طُرحت منذئذ على أنها بآن واحد مما يمكن تعريفه واستخدامه وأنها متعالية"(22) وهو يرى أن الباحثين - يعني نفسه ومَن تابعه - (إذ حتى كبار الكفار من المستشرقين لم يحملوا على القرآن والسنة والأمة كالحملة التي يقودها أركون ولم يستطيعوا القول بكل هذه الافتراءات في آن واحد) لا يسعهم تطبيق القرآن لأنه نزل في الجزيرة في ذلك الزمن القديم،وهو لا يرى نفسه وهو يقدس ويستسلم لبقايا قوانين الرومان، بل ويحاسب الإسلام على أفكار فوكوه هل تتطابق معها أم لا ، ويقول في نفس الوقت بأن القرآن حقائق، وقد سبق أن قال إنه مجازات عالية وقد أجمع القائلون بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر (23) ، علماً بأن المجاز بالأسلوب الذي يريده أركون أبعد بكثير من المجاز الذي حدث فيه الخلاف بين المسلمين والذي قال فيه الشنقيطي إن وروده في القرآن غير صحيح ولا دليل يوجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل ونحن ننزه القرآن على أن نقول فيه مجاز بل نقول كله حقائق . (24)
ونقل الشنقيطي عن عدد من العلماء عدم جواز المجاز في اللغة أصلاً فضلاً عن القرآن وهو - أي الشنقيطي - ممن يرى هذا، وأركون لا يرى أن آيات الأحكام هي المجاز، ولا آيات الصفات كما قال بعض السابقين المخالفين لأهل السنة، لكنه يرى كل القرآن مجازات عالية ، ومرة يقول متعالية أي تكون بعيدة عن المجتمع سياسة واقتصاداً واجتماعاً ، إنما تهذيب روحي لا علاقة له بالدنيا.
وليس هذا مكان الحديث عن المجاز ولا الخلاف فيه . لكن جاء بمناسبة خلط أركون وتناقضه؛ إذ يقول : القرآن حقائق نزلت قديماً ثم يرجع ويقول مجازات عالية . إن أركون يهدم كل شيء ولا يقيمك على سنن ولا يثق بأحد ولا بعلم أحد، فهو يسخر من كل مَن سبقه حتى يسخر من الطبري ومن طريقته في التفسير. وما دام قد اجترأ على كتاب الله وسنة رسوله كل هذه الجرأة فماذا يتوقع القارئ عن غيرها. وهناك جوانب عديدة يستنكرها كقضايا الثواب والعقاب والبعث بعد الموت (25) . ويرى في آيات القرآن التي تحدثت عن الجنة وثوابها سياقات شعرية ، وأيضاً يرى رمزية العذاب.
خلاصة :
يرى أركون أن القرآن والكتب السابقة تعاني من سياق واحد ، ويضع القرآن مع الأناجيل في مستوى من الثبوت والدراسة واحد ، وبرى أهمية النقد والتجديد. وعمله هذا النقدي السلبي النافي - الذي يمسخ كل الحقائق وكل المعاني - لا يمكن بحال أن يكون مذهباً فكرياً بديلاً ؛ بحيث يحل محل شيء من الفرق أو الجماعات التي وجدت على الساحة الإسلامية وليس بأسلوب يمكن قبوله من قِبل السنة أو الشيعة؛ ذلك أنه يلغي الجميع ويرى العدمية(26) التي يقدمها هي البديل أو التجديد ، فالشك والجحود بكل شيء لن يكون أبداً بديلاً للإيمان ، إذ هذا العدم لا يكون ديناً ولا يبني خلقاً ، وهو يرى - مع هذا - ضرورة النظام في حياة الناس ويرى أهمية القوانين وهذه القوانين عنده تنشئها الضرورة الاجتماعية ، لكن أي مجتمع وأية قوانين ، أما المجتمع فلا يرى أركون أن يكون للإسلام سلطة عليه؛ لذا فليس للإسلام أن يسن أي قانون في ذلك المجتمع إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا علاقة بالوجود ، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس ، ثم إذا فهم منها معاني فتلك المعاني جاءت للحاجة والضرورة ؛ لأنه لم يكن هناك قوانين في المجتمع. وقد علق أحدهم على نمط تفكير أركون وأسلوب تعامله مع النصوص فقال : إن تجديدية أركون هي تجديدية عدمية ولا نحسب أن مسلماً عاقلاً يهتم لقراءة أركون النافية (27) وهذا ملخص لبحث مطول يتناول كتب ومقالات أركون ، ومع أن أعماله غير معقولة لكن - ويا لَلأسف! - إن الذي يتحكم في سلوك وأفكار العالم الإسلامي اليوم هو (اللامعقول) لهذا يحتاج إلى بيان .
( 2 )
كفريات أركون كما جاءت في كتابه الأخير " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل "(33/361)
يقول أركون : ( لننتقل الآن إلى ما يدعوه الناس عموماً بالقرآن. إن هذه الكلمة مشحونة إلى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، إلى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي. فهي تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة كانت قد طُمست وكُبتت ونُسيت من قبل التراث التقوي الورع، كما من قبل المنهجية الفيلولوجية النصانية أو المغرقة في التزامها بحرفية النص ). ( ص 29) .
ويقول : ( كانت الأرثوذكسية الإسلامية تضغط دائماً بالمحرمات على الدراسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب ، وقد سهل على المستشرقين في المرحلة التاريخوية والفيلولوجية أن ينتهكوا هذه المحرمات أكثر مما يسهل علينا اليوم.
لماذا؟
لأن العقل العلمي كان آنذاك في أوج انتصاره، وكان مدعوماً من قبل الهيمنة الاستعمارية التي رافقته. هكذا نجد أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محققة عن النص القرآني لم يعد الباحثون يواصلونها اليوم بنفس الجرأة كما كان عليه الحال في زمن نولدكه الألماني أو بلاشير الفرنسي، لم يعودوا يتجرأون عليها أو على أمثالها خوفاً من رد فعل الأصولية الإسلامية المتشددة، وهذه الطبعة النقدية تتضمن بشكل خاص إنجاز تصنيف كرونولوجي (أي زمني) للسور والآيات من أجل العثور على الوحدات اللغوية الأولى للنص الشفهي. ولكن المعركة من أجل تحقيق القرآن لم تفقد اليوم أهميتها العلمية على الإطلاق، وذلك لأنها هي التي تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل إلى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص ). ( ص 44- 45) .
ويعلق مترجم كتبه هاشم صالح على هذا النص بقوله : ( هذا أمر طبيعي ؛ لأن القرآن يمثل قدس الأقداس . وبالتالي فتطبيق الدراسة العلمية عليه يعتبر جرأة ما بعدها جرأة، بل ويعتبر تدنيساً وكفراً، وذلك لأن الدراسة العلمية سوف تكشف عن تاريخيته في نهاية المطاف،وسوف تربطه بظروف عصره الذي ظهر فيه. وهذا ما تحاول الأرثوذكسية الدينية أن تتحاشاه بأي شكل، بل وهذا ما تخشاه كل الخشية، ودليلنا على ذلك ما حصل في جهة المسيحية الأوروبية عندما حاولوا دراسة الإنجيل دراسة نقدية تاريخية، وكذلك الكشف عن تاريخية شخصية يسوع المسيح، فقد هاج الوعي الإيماني المسيحي عندئذ وحاول أن يمنع ذلك بوسائل شتى، وسوف يحصل في الإسلام نفس الشيء عندما تُنقَل الدراسات الاستشراقية عن القرآن إلى اللغة العربية مثلاً، أو اللغة الفارسية، أو التركية أو غيرها من اللغات الإسلامية، فالدراسة التاريخية تعتبر عدواناً صريحاً على التراث المقدس ).
( بمعنى أنه ما دمنا لم نتوصل بعد إلى نسخة محققة تماماً عن القرآن فإن قراءتنا التاريخية له سوف تظل ناقصة، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها الاستشراق منذ نولدكه وحتى اليوم إلا أن تحقيق القرآن لا يزال يعاني من ثغرات مهمة، ويبدو أن هذه حالة لا مرجوع عنها ؛ لأن كل النسخ التي كانت معاصرة للقرآن دُمرت إلا نسخة واحدة هي النسخة الأرثوذكسية التي فرضتها السلطة الرسمية، فلو بقيت نسخ أخرى معاصرة لهذه النسخة كمصحف ابن مسعود وغيره لاستطعنا التوصل إلى صورة أكثر تاريخية أو أكثر حقيقية للنص وكيفية تركيبه ) .
ويقول أركون : ( لقد نوقشت بعض أطروحات الدكتوراه عن القرآن مؤخراً في فرنسا، ولكن أياً منها لم ينشر حتى الآن. أقول ذلك في حين أن الأبحاث العلمية التي كتبت عن التوراة والأناجيل كانت عديدة وطبعت بسرعة، وأما القراءات الألسنية المختصة بنقد الخطاب فلم تكن ممثلة بأفضل مما هو عليه الحال فيما يخص القراءات السيميائية، أقصد لم تنشر ولم تطبع. نقول ذلك على الرغم من أن الدراسات المختصة بتاريخ الألسنيات العربية قد شهدت ازدهاراً استثنائياً خلال العشرين سنة الأخيرة، وهذا أكبر دليل على مدى الحذر الفكري السائد في مجال الدراسات العربية الإسلامية، ويتغذَّى هذا الحذر من خوف الباحثين من الاشتغال على النص المقدس للمسلمين، وأعترف هنا بأن العديد من طلابي في السوربون قد فضّلوا التراجع عن دراسة هذا الموضوع بعد أن سجّلوه على الرغم من أنه يثير شهيتهم الثقافية أو فضولهم المعرفي، ولكنهم خشوا من رد فعل بلدانهم الأصلية إذا ما تابعوا العمل فيه ). ( ص 60 ) .
ويقول : ( نذكر من بين هذه العقبات ذلك التدمير الإرادي للوثائق: كتدمير المصاحف الجزئية للقرآن من أجل ضمان انتصار النص الرسمي المغلق (أو مصحف عثمان)، وكذلك تدمير كل الكتابات المعتبرة غير أرثوذكسية ). ( ص 151) .
ويقول : ( وأما فيما يخص المرأة فعلى الرغم من أنها موعودة بكرامة روحية مساوية للرجل ، إلا أنها أُبقيت داخل مكانة شعائرية وقانونية دنيا (أو أدنى).
لماذا؟ لأن القرآن نفسه لم يستطع أن يلغي كل المحرمات وكل القيود التي كانت تضغط على وضع المرأة في زمن الجاهلية (أو في الفترة التي دعاها بالجاهلية) ) .( ص214-215).(33/362)
ويقول مادحًا الحداثة التي أتت بما لم يأت به الإسلام من حقوق ، وتفوقت عليه : (وينبغي أن نعترف هنا بأن الحداثة هي التي ألغت نظام الرق والعبودية، وهي التي أسست المواطنية على قاعدة جديدة واسعة تلتغي فيها كل التمييزات الطائفية، ولكنها لم تنه بعد عملها البطيء والصبور في تحرير الشرط البشري، وبخاصة وضع المرأة وحماية حقوق الطفل). (ص 215).
ويقول مشككا في الإسلام : ( فهؤلاء اللاهوتيون كانوا يعلّمون آنذاك عقائد من نوع شعب الله المختار، أو لا خلاص خارج الكنيسة، أو أن الإسلام هو آخر نسخة عن الدين الحق، وأنه هو وحده المقبول من قبل الله والملقَّن من قبل خاتم الأنبياء. من الواضح أن تفكيك أنظمة التصورات وأطر الفكر الموروثة عن الماضي لا يزال في بداياته. أقصد تفكيك أنظمة الثقافات المناضلة من أجل بقائها على قيد الحياة والخائفة من تهميش الثقافة المهيمنة لها). (ص 247).
ويتابع : ( في الواقع أن الفكر الإسلامي الحالي لايزال يستعصي على الحداثة ، أو قل لا يزال يقاوم تعايمها وإنجازاتها الأكثر رسوخًا وصحة . إنه لايزال يقاومها باسم " الدين الحق " الذي يرفض أن تطبق عليه أي مراجعة تاريخية أو أي دراسة نقدية ) . ( ص 191 ) .
ويقول مترجم كتبه هاشم صالح : معلقًا ( المقصود بأن الدين الحق لا يُناقش ولا يُمس ولا يُدرس حتى دراسة علمية . إنه فوق الدراسة والنقد ، أو على الأقل هذا مايعتقده المؤمنون التقليديون . إنهم يخشون عليه من الدراسة التشريحية أو التفكيكية التي تظهره على حقيقته التاريخية ، وتزيح بالتالي هالات المثالية والتعالي عليه . وهذا ما فعله المسيحيون التقليديون في أوروبا عندما قاوموا بشدة تطبيق النقد التاريخي على التراث المسيحي ) . ( 191 ) .
يقول أركون : ( إن جميع الأديان من يهودية ومسيحية وإسلامية تنافس بعضها البعض على القول بأنها سبقت غيرها إلى التأكيد على القيم التالية : حرية الضمير ، وفضيلة التسامح المرتبطة بالحرية الدينية ، وحرية التعبير ، وحرية تشكيل الروابط والجمعيات ، وتشجيع الشخص البشري على ممارسة استقلاليته الذاتية الكاملة ، وتحقيق مصيره الروحي على هذه الأرض بشكل خاص . ولكننا نعلم أن هذه القيم هي من صنع الحداثة والمجتمعات الأوروبية الحديثة ، ولم تعرفها المجتمعات السابقة ، لا في الجهة الإسلامية ، ولا في الجهة المسيحية ) . ( ص 194 ) .
-----------------------
الهوامش :
1- الفكر الإسلامي فكر واجتهاد ص335 ، "حقاً إن أركون أشد على الإسلام هجوماً من مفكري الروم وسيأتي بيان ذلك".
2- انظر الكتاب السابق ص254 ومواقع عديدة في "الفكر الإسلامي قراءة علمية".
3- أركون ، مقابلة مع أدونيس ، مجلة "مواقف" ، عدد رقم 54 - ربيع عام 1988 ، ص10.
4- أركون ، الفكر العربي ، ترجمة عادل العوا ، ص128 والفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص9. ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجل ما قال بعد في الكتب الأخرى وفيه إشارة بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
5- عيسى بلاطة ، توجهات وقضايا في الفكر العربي المعاصر ، ص89-90.
6- رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص190.
7- محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص202 وما بعدها.
8- محمد العربي الخطابي ، مقال بعنوان "الأسطورة الأصلية في رأي أستاذ جامعي" ، جريدة "الشرق الأوسط"26/2/1990.
9- محمد أركون الفكر ، الإسلامي نقد واجتهاد ، ص85-86..
10- المصدر السابق ، ص86.
11- أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص203.
12- انظر مجلة الحوار ، عدد 9 ، ص117-118.
13- الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص79.
14- تاريخية الفكر الإسلامي ، ص299.
15- الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص191.
16- تاريخية الفكر الإسلامي ، ص299.
17- المصدر السابق ، ص299..
18- المصدر السابق ، ص299.
19- أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص102.
20- أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص103.
21- أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص108.
22- أركون ، الفكر العربي ، ص174 ترجمة عادل العوا .
23- الشنقيطي ، منع جواز المجاز ، ص8.
24- الشنقيطي ، منع جواز المجاز ، ص51.
25- للتوسع يراجع الفصل الأخير من كتابه "الإسلام أصالة وممارسة" ترجمة د.خليل أحمد ، وأيضاً مواضع متعددة من "الفكر الإسلامي قراءة علمية" .
26- رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص190.
27- رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص190.
==============(33/363)
(33/364)
محمود درويش غرمٌ وليس غُنمًا
د / محمد بن خالد الفاضل
اختيار سليمان بن صالح الخراشي
( عجبت من الكاتب حسن المصطفى حديثه باسم الشعراء ومحبي الشعر في السعودية، ونيابته عنهم في الترحيب بمحمود درويش والتلهف على تشريفه لنا، ومبالغته عندما قال: "قد يكون أحد أحلام الشعراء وجمهور الشعر في السعودية أن يحل الشاعر العربي محمود درويش ضيفاً عليهم ولو لمرة واحدة في العمر، قارئاً ما تيسر من شعره وسط أناس طالما ظلوا يحسدون من حولهم على نعمة وجود هذا الشاعر بينهم، خصوصاً أن يوم الشعر العالمي مر عليهم وكأنهم أيتام ثكلوا أمهم وأباهم" !! (صحيفة "الاقتصادية" الثلاثاء 2/2/1425)، إلى آخر ما دبجه الكاتب في مقاله من عبارات الوجد والشوق والهيام، التي يخيل إليك عند قراءتها أنها قيلت في رجل سيكون خلاص الأمة من ضعفها وهوانها وتأخرها على يديه، مع أن الحقيقة أن هذا الشاعر وأمثاله سبب رئيس من أسباب تأخر الأمة وهزائمها في كل الميادين.
وما دام الكاتب الكريم قد سمح لنفسه أن يتكلم باسم شعراء المملكة ومثقفيها ومحبي الشعر فيها، فليسمح لي أن أتكلم أيضاً باسمهم جميعاً، وعندي مستند قوي للحديث باسمهم، وليس عنده ذلك المستند، فأقول: أجزم أن الكاتب الكريم يتفق معي في أن شعب المملكة شعب مسلم بكل فئاته من مثقفين وعامة، وأن المسلم مهما كانت درجة التزامه وتدينه لا يرضى أن يسب أحد دينه أمامه أو خلفه، ولا يسمح بأن يتطاول أحد على ربه أو نبيه أو قرآنه حتى ولو كان بعيدا عنه، فكيف سيحلم بأن يحتفي به أو يستضيفه ؟!
كما أن المسلم كيفما كان وحيثما كان لن يفتح صدره وقلبه وبيته لشخص قد وضع يده في يد عدوه، وكيف يجرؤ على ذلك والله سبحانه يقول في آية صريحة واضحة محكمة: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه...) فانظر أخي حسن في هذه الآية الواضحة واعرض نفسك عليها وكل من يحلم معك بالتشرف بالجلوس تحت منصة يسخر فيها من الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، وأذكرك ونفسي والقراء بأن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ؛كما قال الحسن، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم "أوثق عرى الإسلام -وفي رواية الإيمان- الحب في الله والبغض في الله" رواه أحمد والطبراني وغيرهما وصححه الألباني.
فهل بعد هذه النصوص وغيرها كثير يهون علينا ديننا وربنا ونبينا وقرآننا، فنجلب بأموالنا من يسب ذلك كله في ديارنا ؟! ووالله إننا لا نحسد من حولنا على استضافة هذا الرجل وأمثاله كأدونيس وغيره، وإنما نشفق عليهم ونرثي لحال شبابهم الذين سيتربون على شعر الإلحاد والزندقة الذي خدر الأمة وضيعها، واحتفى به أعداؤها الصهاينة، ولعلك قد قرأت كما قرأ غيرك أن وزير التربية الإسرائيلي قد كافأ محمود درويش على نضاله وكفاحه بتضمين المناهج الإسرائيلية نصوصاً من شعره في المقاومة! ولا أدري أي مقاومة كافأه عليها اليهود؟! هل هي مقاومة الاحتلال، أو مقاومة الانتفاضة؟!
ولعلك قد قرأت أيضاً أن السفير الإسرائيلي في باريس قد سلم قبل عامين تقريباً محمود درويش وأدونيس وبعض زملائهما خطاب شكر على البيان الذي وقعوه ونشرته صحيفة اللوموند الفرنسية يستنكرون فيه المؤتمر الذي كان سيعقد في بيروت لفضح الصهيونية (الهولوكست)، وأحيلك على تفصيل القضية في المقال الذي كتبه الأستاذ محمد رضا نصر الله في جريدة "الرياض" 14/1/1422هـ وعلى مقال قبله للأستاذ نصر الله في الصحيفة نفسها 30/12/1421هـ، كشف فيه حقيقة الشاعر سميح القاسم -زميل درويش في النضال- ورد عليه سخريته بالمملكة ودول الخليج في ندوة عقدها نادي الصحافة العربية في باريس.
وإن العجب لا ينقضي منا نحن أهل الخليج، فما رأيت شعباً يحتفي بمن يحتقره ويزدريه ويسبه في أقدس ما لديه ويراه ما زال بدوياً متخلفاً لا يحسن التصرف في هذه الثروة التي هبطت عليه فجأة : مثلنا؟
متى سنصحو ونعرف الصديق من العدو؟
متى سنميز الشريف من الخائن؟
متى سنفرق بين المناضل والعميل؟
لا أدري : هل أخي حسن قد قرأ ما كتبه الأديب رجاء النقاش في كتابه (محمود درويش شاعر الأرض المحتلة) -وهو غير متهم بالتجني عليه لأنه من المعجبين به- فقد ذكر في صفحة 133: أن محمود درويش قد عمل في جريدة الاتحاد، ومجلة الجديد، وهما من صحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وعلاقة درويش بهذا الحزب وعضويته فيه ثابتة لا شك فيها، وقد أفاض فيها النقاش في كتابه المذكور، وأكدها حسين مروة في كتابه: "دراسات نقدية" حينما قال على لسان درويش: "وصرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي أشعلتنا حماساً وأملاً، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعاً عن الحقوق القومية"؟ ثم أسأله أين الحقوق القومية عند شاعر يحتفي اليهود بشعره في مناهجهم وتأتيه رسائل الشكر من سفرائهم على مواقفه القومية؟!(33/365)
وإن أردت شواهد على سخرية الرجل بديننا ومقدساتنا، فاقرأ قوله: "رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم واستأجرتني آية الكرسي دهراً ثم صرت بطاقة للتهنئات" !!
وقوله: "وتناسل فينا الغزاة تكاثر فينا الطغاة، دم كالمياه وليس تجففه غير سورة عم وقبعة الشرطي وخادمه الآسيوي" !!
وقوله: "ونمت على وتر المعجزات ارتدتني يداك نشيداً إذا أنزلوه على جبل كان سورة ينتصرون" !! وهي مقاطع من ديوانه.
ثم اقرأ قوله عن أخته: "أبي من أجلها صلى وصام وجاب أرض الهند والإغريق إلها راكعاً لغبار رجليها، وجاع لأجلها في البيد أجيالاً يشد النوق، أقسم تحت عينيها قناعة الخالق بالمخلوق، تنام فتحلم اليقظة في عيني مع السهر فدائي الربيع أنا وعبد نعاس عينيها وصوفي الحصى والرمل والحجر فاعبدهم لتلعب كالملاك وظل رجليها على الدنيا صلاة الأرض للمطر"!!
وإني بعد هذه النصوص القليلة جداً من شعر هذا الرجل لأسأل أخي حسن: هل يعجبك هذا الاستهزاء بآية الكرسي وسورة عمَّ وسورة ينصرون؟ وابتذال ألفاظ الصلاة والصيام والعبادة والإله بهذه الصورة الساقطة المهينة، وتحويل الإله من معبود يسجد له الناس ويركعون إلى عبد حقير يركع لغبار رجليها؟
تعالى الله علواً كبيراً عما يقول الظالمون الجاحدون.
ثم لو حاولنا أن نصرف النظر جانباً عن المضامين الإلحادية التي في شعر هذا الرجل، وحاولنا أن نمعن النظر فيه من الناحية الفنية والبيانية والصور الشعرية الجميلة، لما وجدنا فيه شيئاً يفهم، ولرأيناه أقرب إلى سجع الكهان وهلوسة المجانين منه إلى أخيلة الشعر وصوره الجميلة، إلا إن كان يقرأ أو يُفهم بلغة غير اللغة العربية التي درسناها وعشنا معها العمر كله وحصلنا فيها على أعلى الدرجات العلمية، وهذا ليس شعوري وحدي بل شعور كل زملاء التخصص في جامعات المملكة، الذين لم تسحرهم الآلة الإعلامية الضخمة المشبوهة التي تروج لهذا الأدب المشبوه، وليس أهل الحداثة وجمهورها بأكثر علماً وفهماً من فحول أساتذة اللغة العربية، وإنما هم تحت تأثير مخدر لعبت فيه الحزبية والشللية دورها، وقد بدأ الأمر ينكشف عندما انفض سامرها وبطل سحرها، وصرنا نقرأ هذه الأيام في الصحف تراشقاً بين أبطالها واتهامات وهجوماً عليها وعلى قصيدة النثر ورموزها، وكل هذا من بركات كتاب "حكاية الحداثة" وصاحبه، وليست هذه أولى بركاته، فمن بركاته التي كشفت الموضوع للمبصرين في وقت مبكر إشادته البالغة بكلمة (تَمّتْ) التي خُتمت بها إحدى القصائد، وجعلها بيت القصيد في هذه القصيدة العظيمة، ثم يتبين أنها ليست من القصيدة وإنما زيادة من الناسخ الباكستاني الذي طبع القصيدة !! فأي فهم هذا، وأي عبقرية هذه؟ ) .
----------
* رسالة وصلتني من الدكتور محمد بن خالد الفاضل ..
=============(33/366)
(33/367)
نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي
محمد بن عبد الله المقدي
عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها»(1).
إن حزب النقض كان ولا يزال يكيد لهذه الأمة ويمكر بها ويلفتها عن دينها، وإن المتتبع للمكر العالمي يرى تبرماً من ظهور نهج أهل السنة والجماعة في الفهم والسلوك، فأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم.
وقد ظهر جلياً أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: (محاربة الإرهاب). ويرى المروِّجون لهذا المشروع أن القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى؛ فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات منسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي ـ المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حوار صحفي(2): (وفي علاقتها بالحركات الإسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية).
ويعد (برنارد لويس) أن تفاقم تأثير الحركات الأصولية الدينية في أواخر السبعينيات والثمانينيات، قضى نهائياً على أفكار غربيين كانوا يعتقدون أن التصوف الإسلامي السياسي يحُدُّ من تأثير الإسلام السياسي؛ فمقاومة السلطة السياسية من ملوك وأباطرة وفراعنة كما يؤكد دانيال بايبس وَجَدَ له الأصوليون تفسيراً في القانون الإسلامي، ولذا فإن الغرب يسعى إلى مصالحة (التصوف الإسلامي) ودعمه لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استُخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة(3).
أما ستيفن شوارتز(4) فيقول: (ليست التعددية الإسلامية فكرة جديدة نشأت في الغرب وتُقَدَّم كشفاء ناجع للغضب الإسلامي، بل إنها حقيقة قديمة. ينطوي العالم الإسلامي على طيف واسع من التفسيرات الدينية. فإذا وجدنا في أحد أطراف الطيف المذهبَ الوهابي(5) المتعصب الذي يتصف بالقسوة والاستبداد ما يجعله أشبه بالإيديولوجية العربية الرسمية السائدة منه بالمذهب الديني؛ فإننا نجد في الطرف الآخر التعاليمَ المتنورة للصوفية. لا تؤكد هذه التعاليم على الحوار داخل الإسلام وعلى الفصل بين السلطة الروحية وسلطة رجال الدين وعلى التعليم باللغة المحلية فحسب، بل إنها تحترم أيضاً جميع المؤمنين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو هندوسيين أو بوذيين أو من ديانات أخرى، تشدد الصوفية علاوة على ذلك على التزامها باللطف والتفاعل والتعاون المتبادل بين المؤمنين بغض النظر عن مذاهبهم.
ثم يقول: (إذا أخذنا هذه الصورة المتنوعة بعين الاعتبار؛ فكيف يجب على الصوفية أن تدخل في الإستراتيجية الأمريكية للتعامل مع العالم الإسلامي؟
من الواضح جداً أن على الأمريكيين أن يتعلموا المزيد عن الصوفية، وأن يتعاملوا مع شيوخها ومريديها، وأن يتعرفوا على ميولها الأساسية... يجب على أعضاء السلك الديبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغار في غرب الصين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية. يجب أن ينتهز الطلاب الأمريكيون ورجال الأعمال وعمال الإغاثة والسائحون فرص التعرف على الصوفيين. الأهم من ذلك، أن أي شخص داخل أو خارج الحكومة يشغل موقعاً يسمح له بالتأثير على مناقشة ورسم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يمكنه أن يستفيد من فهم هذا التقليد الفطري من التسامح الإسلامي)(6).
وتقول الكاتبة (فارينا علم)(7) ـ وهي تمثل شريحة من الصوفية الموجودة في الغرب ـ: (إن الروحانية الإسلامية ـ الصوفية ـ تعتبر الجزء المكمل لحياة المسلم الدينية، وقد قدم أولياء وشيوخ الصوفية نظرة منهجية لمعرفة الله تستند على تلاوة الابتهالات، والتدرب على تطوير شخصية ورعة قويمة، بغية إذلال الأنا وتكريس النفس لخدمة المجتمع. ومن الممكن أن تصبح الصوفية اليوم ـ بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة ووضع الأهداف السامية نصب عينيها ـ بمثابة قوة كبيرة مضادة للإسلام السياسي المجاهد).
وتستطرد قائلة: (وقد حذرت التعاليم الإسلامية الكلاسيكية علماء الدين من التقرب الكبير من السلطة السياسية).
يقول (دانيال بايبس): (إن هناك أخباراً سارة تقول: إن فكرة أن الإسلام المتطرف والعنفي هو المشكلة، وأن الإسلام المعتدل هو الحل تلقى رواجاً واسعاً مع الوقت... كذلك فإن أشخاصاً بارزين مثل أحمد صبحي منصور، ومحمد هشام قباني يرفعون أصواتهم..)(8).(33/368)
ويقول الباحث د. عبد الوهاب المسيري: (مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين ابن عربي وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية؛ فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي...)(9).
ويؤكد المستشرق الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، أن (مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي)(10).
ومن الجدير بالملاحظة أنه في عام (2001م) أُطلقت مجموعة من الخطابات السياسية حول الإسلام الذي يريده الغربيون؛ (فقد شرح رئيس الوزراء البريطاني المقصود بهذا في خطاب موجه للزعماء والمسؤولين بالدول الإسلامية، دعاهم فيه إلى أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن الإسلام (العادي أو الرئيسي) استخدم لفظ (main st r eam) بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم، والفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) في شهر نوفمبر (2001م) في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي، حيث أشار إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات)(11).
وفي يناير عام (2001م) أقيم المؤتمر العالمي الأول لدراسات الشرق الأوسط الذي عقد بمدينة ماينز الألمانية وقد كان برنامج المؤتمر مكتظاً بالبحوث والدراسات المتنوعة؛ أما ما يتعلق بالإسلام والحضارة الإسلامية فثمة بحثان هما: الإسلام الحديث والطريقة النقشبندية ـ المجددية الصوفية، والأولياء الصوفيون وغير الصوفيين(12).
في صيف عام (2002م) أصدرت مؤسسة (راند)(13) البحثية مقالة(14) عكست فيها رؤيتها للفروقات والتباينات بين الفئات والجماعات الإسلامية المختلفة في العالمين العربي والإسلامي، وسوف نورد منه بعض الفقرات التي تبين مدى اهتمام الغرب بالصوفية أو ما يسمونه بالإسلام التقليدي، فإن التقرير يقول:
(ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم الصناعي المتمدن بأسره يفضلون عالماً إسلامياً يتماشى مع بقية النظام؛ أي يريدون عالماً إسلامياً يتسم بالديمقراطية، بالقابلية للنمو، بالاستقرار السياسي، بالتقدم الاجتماعي، بالتبعية لقوانين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلى أن هذا العالم الإسلامي «المفضل» مُلزَم بالمساهمة في منع أي (صدام للحضارات)، بكل صوره المتاحة والممكنة الممتدة من القلاقل المحلية المتصاعدة بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين (الأصليين) في الغرب؛ إلى العمليات العسكرية المتصاعدة عبر العالم الإسلامي، وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار.
ومن ثم فإن من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر ـ الموجودة في داخل الخلطة الإسلامية ـ التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة. إلا أن الأمر لا يبدو بهذه السهولة؛ فتعريف تلك العناصر وإيجاد الأسلوب الأمثل والأنسب للتعامل معها ليس بالأمر الهين.
ثم رصد التقرير أربعة عناصر موجودة على الساحة الإسلامية، وهي:
ـ الأصوليون الذين يرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الراهنة.
ـ التقليديون الذين يسعون إلى خلق مجتمع محافظ.
ـ الحِداثيون (أهل الحداثة) الذين يبغون عالماً إسلامياً مندمجاً في داخل الحداثة العالمية.
ـ العلمانيون وهم يريدون عالماً إسلامياً مختزلاً للدين في الدوائر الخاصة على غرار الديمقراطيات الغربية.
ثم يوصي التقرير بوصايا متعددة للتعامل مع هذه التصنيفات. ومن هذه الوصايا:
ـ تأييد الاتجاه الصوفي، ونشره، والدعوة إليه..
ففي تقرير نشرته مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية بعنوان (عقول وقلوب ودولارات) نشر عام (2005م) يقول التقرير في إحدى فقراته: (يعتقد الإستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحداً من أفضل الأسلحة، وبينما لا يستطيع الرسميون الأمريكيون أن يُقِرُّوا الصوفية علناً، بسبب فصل الدين عن الدولة في الدستور الأمريكي، فإنهم يدفعون علناً باتجاه تعزيز العلاقة مع الحركة الصوفية...، ومن بين البنود المقترحة هنا: استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود إلى القرون الوسطى وترجمتها، ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية في بلادها)(15).(33/369)
في (30/1/2004م) نشرت جريدة (يني شفق) التركية خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) عرض على رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) خلال استقباله في البيت الأبيض يوم (28/1/2004م) معالم المشروع الأمريكي الجديد لـ (الشرق الأوسط الكبير) الذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز. وحسب ما جاء في الصحيفة؛ فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبق في بلادهم، وأن هذا النموذج هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، ومن ثم فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي يلقى ترحيباً وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي(16).
(النموذج التركي.. الهدف.. كل هذه العوامل أسرعت بالدفع بخيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة إلى المقدمة، نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان في طبعته العربية هو ما تحلم به الإدارة الأمريكية لتسييده في المنطقة)(17).
وفي تقرير (عقول وقلوب ودولارات) الآنف الذكر يقرر أنه لا بد من حل لمشكلة التيارات الإسلامية وأن (هناك حلاً للمشكلة أخذ يشق طريقه بمساندة من الولايات المتحدة لإصلاحيين تجمعهم رابطة الصوفية التي تعتبر فرعاً متسامحاً من فروع الإسلام)(18).
وتؤكد بعض الدراسات (أن هناك تطورات تشير إلى أنهم يبحثون عن ضالتهم في الجماعات الإسلامية التركية التي يغلب على معظمها الصبغة الصوفية بأشكالها المختلفة... واستناداً لتقارير نشرتها بعض الصحف التركية خلال الأيام الأخيرة، فإن مسؤولين من السفارة الأمريكية في أنقرة، قاموا بزيارات إلى بعض الجماعات الإسلامية والمؤسسات الخيرية لدراسة مدى شعبية ونفوذ كل جماعة، وتشير المصادر نفسها إلى أن الأمريكيين يعرضون على زعماء الجماعات التي يزورونها التعاون الاستراتيجي في نشر ما يسمى بـ (الإسلام المعتدل) في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتقديم الدعم المادي والسياسي لجماعاتهم، وفتح مجال الدراسة لطلابهم في الولايات المتحدة. وفي تطور آخر، زار رئيس الشؤون الدينية التركية (علي بارداكوغلو) واشنطن في نهاية الشهر الماضي، وذكرت مصادر صحفية أنه بحث مع الأمريكيين خلال زيارته سبل التعاون في تعميم النموذج التركي، وطلب منه الأمريكيون خططاً ملموسة بهذا الشأن. ويبدو أن الأمريكيين اختاروا رئاسة الشؤون الدينية التركية للتعاون في صناعة ما يسمونه بـ (الإسلام المعتدل)، لخبراتها وتجاربها في إماتة الروح الإسلامية الفعالة وضبط المشاعر الدينية كمؤسسة رسمية خاضعة لنظام علماني، وتسيطر على كافة الشؤون الدينية في البلاد كالإفتاء وتعيين الأئمة والخطباء للمساجد ومدرسي القرآن وغير ذلك)(19).
* النشاط الصوفي بعد أحداث سبتمبر:
ويلحظ المتابع للحركة الصوفية النشاط المتسارع بعد الحادي عشر من سبتمبر بافتتاح المدارس والأكاديميات والأربطة لاستقبال المريدين، والقيام بالمؤتمرات الدولية حول الصوفية والتصوف، ودعم وسائل النقل الثقافي:
ففي 28/3/2001م عقد في مدينة بامبرج الألمانية المؤتمر الثامن والعشرين للمستشرقين الألمان، ومن ضمن البحوث التي قدمت في المؤتمر بحث بعنوان «الأخوة الصوفية كحركات اجتماعية»، و (الحركة النقشبندية في داغستان) و (التيجانية) في غرب أفريقيا، وصورة الموالد الشعبية في مصر(20).
وفي عام (2002م) تم افتتاح أقسام لتعليم اللغات (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية) في المعاهد الشرعية التابعة للشيخ (أحمد كفتارو) النقشبندي، وهذه الأقسام تستقبل الطلبة الناطقين بهذه اللغات أو تعلم الطلبة العرب هذه اللغات كي يقوموا بالتدريس في هذه الدول بعد ذلك(21).
وفي 12/7/2003م نظم المركز الثقافي الأوروبي البلغاري ندوة حول أدب التصوف في الإسلام(22).
وفي أغسطس عام (2..3م) الموافق جمادى الآخرة (1424هـ) صدر العدد الأول من المجلة المنعوتة: بـ (مجلة البحوث والدراسات الصوفية) وهي من مطبوعات جمعية العشيرة المحمدية بمصر وتقع في حوالي (600) صفحة، وتصدر عن المركز العلمي الصوفي الذي يهدف إلى (إحياء التصوف في الأمة، ونشره على كافة مستوياتها، وبين كل فئاتها، وفي مختلف أوجه أنشطتها)!(23).(33/370)
وفي عام (2003م) شهدت مدينة (الإسكندرية) في الفترة من (18 ـ 21) إبريل المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية بمدينة الإسكندرية وقد انعقدت جلسات المؤتمر بمكتبة الإسكندرية بالتعاون مع (منظمة اليونسكو) و (المركز الوطني الفرنسي للبحوث والدراسات العلمية) و (المعهد الفرنسي لآثار الشرقية) و (الوزارة الفرنسية للبحث العلمي) و (وزارة الخارجية الفرنسية) و (دار العلوم الإنسانية بفرنسا) وأخيراً (وزارة السياحة المصرية)(24).
وفي عام (2004م) اقيمت على مدى عشرين يوماً محاضرات عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض في الدانمارك(25).
وفي سبتمبر من عام (2004م) تم افتتاح الأكاديمية الصوفية بمصر(26).
وفي 9/1/2004م أعلن في العراق عن تشكيل «الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي» التي من أهدافها «إنشاء المدارس الدينية ودعم الطرق الصوفية»(27).
وفي (10/9/2004م) أقيم مؤتمر هو اللقاء الأول من: (لقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف) تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس)(28).
يقول الدكتور عمار حسن: «وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل سيدنا الحسين والسيد البدوي»(29)(30).
وفي ديسمبر من عام (2004م) أقيم في عاصمة مالي (باماكو) المؤتمر العالمي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا تحت شعار: (التصوف أصالة وتجدد)(31).
وفي الفاتح من سبتمبر من عام (2005) أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمراً دولياً بعنوان: (الطرق الصوفية في أفريقيا/ حاضرها ومستقبلها) ومن أهداف المؤتمر اقتراح الخطط والوسائل والبرامج التي تساعد على تفعيل دوره، أما شعار المؤتمر فهو: (معاً من أجل تفعيل دور الطرق والزوايا الصوفية في أفريقيا)(32).
وفي(5) يوليو (2005م) أقيم مؤتمر (حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر) الذي بدأ أعماله في العاصمة الأردنية (عمان) برعاية العاهل الأردني الملك (عبد الله الثاني) وقد قرر في خطابه فكرة التصوف واصفاً له بالتصوف المعتدل، فقال: (لقد أفتى شيخ الأزهر بأن الفكر الصوفي المعتدل مقبول ما دام يستند إلى الشهادتين؛ ذلك أن الاعتراف بالمذاهب هو اعتراف بمنهجية الإفتاء وتحديد من هو المؤهل لهذه المهمة، مما يؤدي إلى عدم تكفير بعضنا بعضاً، وإغلاق الباب أمام الجاهلين الذين يمارسون أعمال القتل والإرهاب باسم الإسلام والإسلام منها بريء)(33).
إن هذه المؤتمرات المتلاحقة حول التصوف تنبئ أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمة مقبلة على مد صوفي يراد إحياؤه من جديد بعد أن بدأ بالخمود، سواء أكان هذا التحرك ذاتياً من قِبَل الجماعات الصوفية، أم هو بتحريك غربي عربي؛ فالخطر العقائدي لا يزال قائماً.
إنها مخططات واضحة جلية، ودراسات تعي ما تريد وتخطط لما تطرح بخطوات ثابتة، بل توصي مثل هذه الدراسات بألا تقوم الولايات المتحدة بتدريب الأئمة المحليين في المساجد والمراكز الإسلامية لدعم الصوفية بنفسها، بل تمول في ذلك السلطات المحلية، على أن يتم بشكل مواز دعم التعليم العلماني في هذه المنطقة جنباً إلى جنب مع تقديم منح مالية لترميم ورعاية الأضرحة الصوفية والعناية بالمخطوطات والتراث الثقافي الصوفي. والخطوة الأكثر أهمية هي تعيين أئمة المساجد وخطبائها وتخصيص مناصب وزارية للمتعاطفين مع الصوفية؛ بحيث يتم إعادة ترتيب الأدمغة التي (أفسدها «الأصوليون» قليلو البضاعة الفقهية). نحن إذن أمام سيناريو يعيد إلى الأذهان الأسلوب السوفييتي القديم الذي اعتمد على احتضان ما اصطُلح على تسميته بـ «إسلام السلطةOfficial Islam » في مقابل ممارسات إسلامية تخضع للمراقبة والمتابعة الأمنية تعيش تحت الأرض سميت في ذلك العهد بـ (الإسلام السري) أو الموازي Pa r allel Islam(34).(33/371)
يقول الباحث الدكتور عامر النجار: (إنه قد يكون مما ساعد على انتشار الطرق الصوفية في مصر انتشاراً عجيباً، واندفاع عشرات الألوف من المصريين للانضمام تحت لواء هذه الطرق هو تشجيع الحكام أنفسهم لحركات الطرق الصوفية، ليشغلوا الشعب المصري عن التفكير في أحوال البلاد، فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه إلى الانضمام إلى إحدى الطرق الصوفية فيجد عالمه وخلاصه في رحاب الطريق؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام)(35).
ومن البدهي أن نقول: إن هذه المؤتمرات بعناصرها وأوراق العمل التي تعرض فيها هي برامج للتنفيذ والعمل المباشر؛ وهذا ما نلحظه من خلال الواقع الذي نعيشه.
إن المتأمل للنشاط الصوفي المعاصر يجد نفسه أمام تيار جديد، صوفي المشرب، متحضر الأدوات، واسع النظرة يتعامل مع الواقع السياسي، ويتبنى العمل التربوي المنظم من افتتاح حلقات تحفيظ القرآن واللقاءات المنظمة واستخدام الدعوة الفردية إلى تهيئة رحلات ودروس خاصة للمريد مع لقاءات تتلى فيها البردة في حلقات فلكلورية يردد فيها لفظ الجلالة إلى حد الفناء والجذب.
ولْيكنْ معلوماً أن التصوف بطرقه ورجالاته ومريديه وأربطته لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ؛ بل صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دوراً دينياً وسياسياً واجتماعياً، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية، وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس نفسها. وهناك طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي مثل ما هو الحال في تركيا، ولكنها مع وصولها إلى قمة الهرم السياسي نجدها تفقد مقومات الإسلامية فيها(36).
وبناء على هذا فإنه لا يصح شرعاً وواقعاً أيضاً جعل الصوفية والمنتسبين إليها في سلة واحدة أو أن نحكم عليها بحكم عام يشمل جميع المتصوفة لا من جهة المواجهة ولا من جهة الحكم الشرعي التوصيفي؛ فلا بد إذن من معرفة الواقع الذي تعيشه هذه الجماعات حتى يتم الحكم والتعامل معها بناء على أسس علمية جلية.
إننا أمام مفارقة تأريخية تحتاج إلى الرصد والمتابعة.
* مظاهر تسترعي الانتباه:
حين دخلت القوات الصليبية الأمريكية والبريطانية إلى البلاد الأفغانية كان أول ما قاموا به أنهم فتحوا المزارات والأضرحة، وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها. يقول أحد شيوخ الطرق واسمه (صوفي محمد) وهو في الستين من عمره لوكالة (رويترز): (إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات وأوقفت الاحتفالات ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي! وأنا سعيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة، وأمريكا سمحت لنا بممارسة طقوسنا وإقامة موالدنا، ونحن نشكر لها ذلك وبشدة) هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا: فتحت الأضرحة وأقامت الموالد لإحياء البدعة ومحاربة السنة ولتشويه الإسلام(37).
وفي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنى النهج الصوفي(38).
وفي زيارة هامة للرئيس الباكستاني (برفيز مشرف) إلى الهند شملت إجراء محادثات مع رئيس الوزراء الهندي (مانموهان سينج). توجه الرئيس (مشرف) لولاية راجستان بغرب الهند لزيارة ضريح إسلامي بارز، ثم توجه إلى العاصمة دلهي(39).
وقام الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) بزيارات مكثفة لعدد من زوايا وأضرحة (الأولياء والصالحين) المنتشرة في مختلف أنحاء الجزائر؛ لزيادة شعبيته لدى عدد كبير من الجزائريين الذين يتبركون بهؤلاء الأولياء، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل (2004م)(40).
وفي 16 شوال 1426 حضر مولد البدوي السفير الامريكي في القاهرة معلناً عن إعجابه الشديد بعالم التصوف الإسلامي، لافتاً إلى ما تنطوي عليه الصوفية من تسامح، وما تجسده من قيم ومبادئ إسلامية رفيعة مثل الحق والخير والجمال!(41).
وفي العراق أيضاً ـ في مدينة كركوك ـ أوضح عدد من أهالي المدينة أن مِن المتصوفة في المدينة مَن أخذوا يهادنون الاحتلال والحكومة المعينة خوفاً من الاعتقال، خاصة شيخ الطريقة الكستزانية ويدعى محمد الكستزاني والذي أعلن قبل أشهر أن الجهاد في العراق ينبغي أن تنطبق عليه عدة شروط قبل إعلانه منها: صفاء القلب وتحقيق الصلة بين العبد وربه. وهو ما أثار حفيظة المقاومة العراقية وأهالي المدينة على حد سواء(42).(33/372)
وأخيراً نقول: إننا نخشى أن يؤاخذنا الله بعدم تبليغ دينه كما يريده سبحانه، ونخشى من انطماس حقائق الديانة، وانتشار الطائفين حول الأضرحة والقبور بحجة العبادة، وحلول الأذكار المبتدعة بالحركات الراقصة محل الأذكار النبوية التي تطمئن بها القلوب المؤمنة، وانتشار الخرافة والجهل محل العلم واليقين، وتعطل الأسباب بحجة الكرامات، وفهم الدين عن أرباب التصوف.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: (يجب أن نعذر الأوروبيين إذا صدَّقوا جميع الأكاذيب الملفقة عن الإسلام والمسلمين، وهم غير ملومين إذا أظهروا العداوة لديننا ما داموا لا يجدون نصب أعينهم غير مشاهد البدع التي أحدثها رجال ذوو فكر سقيم، وارتضاها الناس وزادوا عليها وما إلى ذلك من الهرطقات والأخطاء المتنافية مع الطبيعة البشرية ومع نواميس المدنية، وكيف نرجو أن يفهم الأوروبيون روح ديننا نفسها وهو الدين الوحيد الذي يكفل السعادة الكاملة ما داموا لا يعرفون غير بعض مظاهر الإسلام الخارجية التي يشهدونها كل يوم مثل الحشود الضاجَّة في الشوارع السائرة خلف الرايات والطبول، والاحتفالات المستهجنة المنافية لكل منطق أخلاقي والتي تقام في جميع مدن مصر يوم مولد الرسول، وعقد حلقات الذكر الضخمة أمام جمهور يتألف من آلاف الناس، وإرسال الابتهالات الصوفية في صوت جَهْوَري وعلى وقع الانحناءات ذات اليمين وذات اليسار وما شابه ذلك؟)(43).
ويقول الباحث د. عامر النجار(44): (وإذا كان القرن السابع الهجري في مصر يمثل في أغلب فتراته اضمحلالاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً إلا أنه كان عصر انتشار الطرق الصوفية: البدوية، والشاذلية، والدسوقية، وازدهرت فيه وقويت طريقتا الرفاعية والقادرية).
ثم يعقب قائلاً: (مما يجعلني أقول بحذر شديد حتى أوضح هذه الفكرة: إنه يحتمل مع وجود تدهور في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى شعب من الشعوب أن يبدأ انسحاب الناس وتلمس أثر الهزيمة واضحاً في فكرهم، بعضهم يهرب من الحياة منعزلاً في صومعة يعبد ربه بعد أن أخفق في الحياة التي أجبرته ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الانسحاب من أنشطتها).
ثم ينقل عن الباحث هيلر قوله: (إن ذيوع التصوف يصحب تدهور الحضارات) ثم يقول: (والذي يفهم من هذا الرأي ببساطة هو أن نضج التصوف، وتطوره يصاحب دائماً تدهور الحضارة، أي أنه لا يمكن أن تكون هناك حضارة متقدمة وزاهية يصاحبها تصوف ناضج ومكتمل)(45).
ولكن مع هذه التحركات التي يراد منها ولها أن تنشر الخرافة والشرك بين جنبات الأمة وتميت روح العزة والفداء، وتنهمك في حلقات راقصة من الذكر المزعوم، وتعتمد اعتماداً كلياً على كرامات مدَّعاة في تعلق عجيب، أقول:
إن نظامنا العقدي هو أقوى من كل الأنظمة، وإن لدينا من القيم والمناهج ما يمكننا من أن نقدم رؤية متكاملة لإصلاح الفساد القائم؛ لكننا نحتاج أن نغادر مرحلة الانطواء إلى مرحلة بناء الخطوط المتقدمة وفتح خطوط حيوية في أرض الآخرين.
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
----------------------------------
(1) انظر مجمع الزوائد. ورواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح.
(2) حاوره: هادي يحمد، إسلام أون لاين في (20/6/2004م). وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الأحد 30/1/2005 م.
(3) جريدة (الزمان) ـ العدد (1633) ـ التاريخ (12/10/2003م). وهو رئيس منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة.
(4) وهو صاحب كتاب «وجها الإسلام: الأصولية السعودية ودورها في الإرهاب».
(5) هذه الأوصاف ليست بغريبة على أمثاله إذ يتوقع منهم مع الشنآن الفجور في الخصومة.
(6) عن مجلة ويكلي ستاندرد «The Weekly Standa r d»، (7) شباط (2005م).
(7) بقلم فارينا علم المقال على موقع opendemoc r acy وهو بعنوان المبادئ الخمس لمستقبل الإسلام في (27/4/2005م).. وهي صحفية بريطانية من أصل بنغلاديشي، مقيمة في لندن وترأس تحرير مجلة: q-news.(33/373)
(8) نيويورك صن (23/11/2004م) للكاتب النصراني دانيال بايبس وهو رئيس مؤسسة «منبر الشرق الأوسط للأبحاث»، ومقره ولاية فلادلفيا، وله كتابات عدة في التهجم على الإسلام والمسلمين، وقد قام مؤخرا بإنشاء «مركز التعددية الإسلامية»، أعلن أن الهدف منه هو «تشجيع الإسلام المعتدل في الولايات المتحدة والعالم»، ومحاربة نفوذ الإسلام المسلح، وإحباط جهود المنظمات ذات التوجه «الوهابي» المتطرف ـ على حد قوله ـ من خلال وسائل الإعلام، وبالتعاون مع المنظمات الحكومية الأمريكية. أما عن مسؤولي المركز وعن مصادر تمويله. فمديره أمريكي مسلم اسمه ستيفن شوارتز، كان شيوعياً متطرفاً (تروتسكيا)، ثم دخل في الإسلام من باب التصوف. وفي تصوفه فإنه تطرف أيضاً، وأصبحت معركته في الحياة هي مواصلة الحرب ضد ما يسميه بالوهابية. أما مساعده فهو أزهري مصري اسمه الدكتور أحمد صبحي منصور، كان قد فصل من الأزهر في الثمانينيات بسبب إنكاره للسنة النبوية. ومن أبرز الداعمين للمشروع نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوتيز (مهندس الحرب على العراق وأحد أبرز اليهود الناشطين بين المحافظين الجدد ورئيس البنك الدولي مؤخراً) وجيمس وولسي مدير المخابرات المركزية السابق. انظر وكالة «انترناشيونال برس سيرفيس« (في 7/4/2004).
(9) www.aljazee r a.ne.
(10) من مقال بعنوان الصوفية.. هل تكون النموذج الأمريكي للتغيير؟ د. عمار علي حسن.. (26/2/2005م) اسلام أون لاين.
(11) (الأهرام: 18 ـ 12 ـ 2001). مقال بعنوان فرض «الإسلام المعدّل» بعد (11) سبتمبر (2001م) (14/01/2002م). وانظر أيضاً جريدة السفير اللبنانية في 22/12/2001م).
(12) أقيم هذا المؤتمر بجامعة يوهانسن جوتنبرج، كما أن المبادرة إلى عقده جاءت من رابطة دراسات الشرق الأوسط في أمريكا الشمالية، وتقرر أن يعقد تحت الإشراف المشترك لهذه الرابطة والرابطة الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط، والروابط الفرنسية والألمانية والبريطانية والإيطالية لدراسات العالمين العربي والإسلامي. وقد حضره ألفا باحث وعالم ومفكر كما شارك في المؤتمر قرابة الألف من السياسيين الرسميين وغير الرسميين.. الأهرام (25 محرم 1423 هـ) الموافق (8 إبريل 2002م) العدد (42126).
(13) تأسست هذه المؤسسة منذ خمسين سنة، وهي مؤسسة غير ربحية ترتكز على إيجاد حلول للتحديات التي تواجه القطاعات العامة والخاصة في العالم.
(14) التقرير من صياغة «شاريل بينارد» وهي متزوجة من «زلماي خليل زاده» الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، وكبير مستشاري الأمن القومي المسؤول عن الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وقد عين مؤخراً سفيراً للولايات المتحدة لدى العراق، ويعتبر خليل زاده الأمريكي من أصل أفغاني الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد ويعرف بآرائه المتطرفة، التقرير من ترجمة وتحرير: شيرين حامد فهمي. انظر موقع إسلام أون لاين في (18/5/2004م) ومجلة المجتمع. (10 ـ 7 ـ 2004م) وانظر أيضا مجلة الحوادث الأسبوعية في عددها (2495) (20 ـ 27/8/2004م).
(15) انظر الملحق الأسبوعي للعرب اليوم الأردنية في25/4/2005 وانظر أيضا الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25/4/2005م) Us news and wo r ld r epo r t..
(16) جريدة يني شفق التركية في (30/4/2003م) وانظر ايضاً http://abbc.net/Houidi/ r esiste r /tu r ki.htm.
(17 ) www. islamonline. net/A r abic/politics/
من مقال بعنوان «فزاعة» الإسلاميين.. حق الانتفاع ينتقل لواشنطن، من المعلوم لكل متابع التهافت الشديد من قِبَل السلطة في تركيا على الانضمام للاتحاد الأوروبي والذي بدوره استغل الفرصة وبدأ يملي شروطه على الحكومة التركية إلى درجة التدخل في القوانين التركية الداخلية؛ فعندما نوقش قانون الجزاء التركي جرى تعديله بحيث تحاكم المرأة إذا لجأ زوجها إلى المحاكم يتهمها بالزنا.. وعلى الفور صاح الأوروبيون وقالوا: هل ستدخلون الإسلام وأخلاقيات الاسلام في تشريعات دولة تطلب الانضمام إلى أوروبا؟ فسحبوا التعديل واعتذروا للأوروبيين.
بطاقة الهوية التي يحملها التركي تتضمن ديانة حاملها بذكر كونه مسلماً أو غير ذلك... وتدخل الأوربيون مرة أخرى.. وطالبوا بحذف الدين من بطاقة الهوية .. وعندما استجابت الحكومة علق أحد النواب.. بأنهم لن يدخلوا إلى أوروبا إلا بعد أن ينتزعوا منا ديننا.
اجتمع رئيس الوزراء التركي مع مديري المصارف.. وعندما سأله مدير أحد المصارف الإسلامية عن الفائدة ـ الربا ـ قال: هذا نظام عالمي لا بد من الالتزام به!
عندما خرجت مئات الألوف من الطالبات المحجبات في مظاهرات في جميع المدن التركية يطالبن بإعادتهن إلى مدارسهن وجامعاتهن باعتبار الحجاب حرية فردية وأمراً دينياً.. لا يجوز أن تتدخل فيه الحكومة.. اعترض الجيش .. واعترضت أوروبا .. وقالا: الحجاب هو تعبير عن الهوية الإسلامية لا يمكن القبول به .. وعندما سئل رئيس الوزراء عن ذلك .. قال: ليست هذه من أولوياتنا.(33/374)
بعض التعديلات طلبها الاتحاد الأوروبي ولم يوافق عليها إلى الآن رئيس الوزراء التركي وهي مقدار العقوبة التي يتحملها المعلم أو الأب إذا علَّم ابنه القرآن في البيت قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره! انظر مجلة المجتمع العدد 1664رجب 1426 الموافق اغسطس 2005.
(18) الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25 ـ 4 ـ 2005م) Us news and wo r ld r epo r t.
(19) من مقال بعنوان (ماذا وراء التقرب الأمريكي من الجماعات «الصوفية» في تركيا؟!) في (16 ـ 3 ـ 2004م) لإسماعيل باشا، إسلام أون لاين.
(20) انظر جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 4 محرم 1422 هـ 28 مارس 2001 العدد 8156.
(21) وكالة الأنباء الفرنسية سبتمبر (2002م).
(22) انظر جريدة الشرق الأوسط السبت 13 جمادى الاولى 1424 هـ 12 يوليو 2003 العدد 8992. المحاضران هما: ألكسندر فسلينوف، والبروفيسور تسفيتان تيوفانوف الأستاذ في قسم الاستشراق بجامعة صوفيا. ومما يذكر ان الاساتذة فسلينوف وتيوفانوف وبليف كانوا قد أشهروا إسلامهم في أوقات سابقة وينشطون حالياً في مجال نشر الحقيقة عن الدين الحنيف في اوساط الرأي العام في بلغاريا.
(23) مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول من مقدمة المجلة.
(24) انظر مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول صفحة (595).
(25) www.aljazee r a.net من الدعاة المعاصرين للتصوف في أوروبا عبد الواحد يحيى (رينيه جينو) الشاذلي والذي تذكر عنه مجلة البحوث والدراسات الصوفية أنه له أتباع بالملايين في فرنسا ودول أوروبا، وما زال تلاميذه يقومون برسالته حتى الآن، ومنهم الصوفي الفرنسي عبد الله كوديوفتش الذي يقوم بترجمة كتاب الفتوحات المكية لابن عربي إلى الفرنسية وهو يحمل لواء نشر الإسلام والفكر الصوفي في أوروبا، انظر مجلة الدراسات والبحوث الصوفية صفحة (196).
(26) نشر في (14/7/2004م) في موقع إسلام أون لاين. نت 2004، انظر أخبار الأكاديمية على هذا الرابط http://www.ashei r a.o r g/news.php.
(27) جريدة الشرق الأوسط، الجمعة 16 ذو القعدة 1424 هـ، 9 يناير 2004 العدد 9173.
(28) وكالة الانباء المغربية في (10/9/2004م).
(29) الصوفية والسياسة 104.
(30) يقول شعراوي جمعة وزير داخلية مصر في عهد جمال عبد الناصر (حينما مات ناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان؛ فقد وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفيه ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به كافة مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهره) شعراوي جمعة وشهادته للتاريخ، صحيفة العربي، السنة الأولى، العدد 47 ص 9.
(31) http://www. alelam. net/policy/details. php?id=1760&count r y=1&type=N.
(32) http: //www. libsc. o r g/LSC/elan1. htm.
(33) انظر جريدة الرياض، الثلاثاء (28) جمادى الأولى (1426هـ) ـ (5) يوليو (2005م)، العدد (13525).
(34) www.aljazee r a.net/N r /exe r es من مقال بعنوان: استدعاء الصوفية.
(35) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282).
(36) ذكرت جريدة الشرق الأوسط أن حزب العدالة والتنمية الصوفي النقشبندي قرر في عام (2004م) عدم اعتبار الزنا جريمة مع أن هذا يعد مخالفة صريحة لنص القرآن انظر جريدة الشرق الأوسط، الجمعة الموافق: (29/7/2005) العدد: (9740).
(37) انظر www.islammemo.cc/histo r ydb/one_news
(38) جريدة الشرق الأوسط (10/12/2001).
(39) موقع شبكة البي بي سي. وانظر ايضا جريدة الراية القطرية الأحد 24/3/2005.
(40) http://islamonline. net. وانظر أيضاً جريدة الشرق الأوسط ،الاثنين 25 ذو الحجة 1424هـ، 16 فبراير 2004، العدد 9211. وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الخميس 4/3/2004م.
(41) انظر جريدة الخليج «الإماراتية» الصادرة في 17 شوال 1426هـ، الموافق 19 نوفمبر 2005، العدد (9680). وانظر جريدة الشرق الاوسط الصادرة في 16شوال 1426هـ.
(42)www.islammemo.cc/news/ السبت 22 رجب 1426هـ ـ 27 أغسطس 2005
(43) انظر كتاب (دفاع عن الاسلام) الكاتب لورا فيشيا فاغليري (122).
(44) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282).
(45) انظر كتاب (التصوف طريقاً ومذهباً) الدكتور محمد كمال جعفر (283).
المصدر : مجلة البيان
=============(33/375)
(33/376)
باحثٌ مسلم .. يرصد الدعم الغربي للصوفية
سليمان بن صالح الخراشي
هذا بحثٌ مختصر يرصد الدعم الغربي للصوفية في العالم الإسلامي ؛ كبديل للإسلام الصحيح ، الذي يُشكل خطرًا على المشروعات الغربية ، نُشر في مجلة البيان العدد الماضي ؛ فأحببتُ أن أساهم في انتشاره ؛ لما فيه من معلومات مهمة ، ولعل مخدوعًا بالتصوف يستيقظ من غفلته :
عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها»(1).
إن حزب النقض كان ولا يزال يكيد لهذه الأمة ويمكر بها ويلفتها عن دينها، وإن المتتبع للمكر العالمي يرى تبرماً من ظهور نهج أهل السنة والجماعة في الفهم والسلوك، فأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم.
وقد ظهر جلياً أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: (محاربة الإرهاب). ويرى المروِّجون لهذا المشروع أن القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى؛ فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات منسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي ـ المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حوار صحفي(2): (وفي علاقتها بالحركات الإسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية).
ويعد (برنارد لويس) أن تفاقم تأثير الحركات الأصولية الدينية في أواخر السبعينيات والثمانينيات، قضى نهائياً على أفكار غربيين كانوا يعتقدون أن التصوف الإسلامي السياسي يحُدُّ من تأثير الإسلام السياسي؛ فمقاومة السلطة السياسية من ملوك وأباطرة وفراعنة كما يؤكد دانيال بايبس وَجَدَ له الأصوليون تفسيراً في القانون الإسلامي، ولذا فإن الغرب يسعى إلى مصالحة (التصوف الإسلامي) ودعمه لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استُخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة(3).
أما ستيفن شوارتز(4) فيقول: (ليست التعددية الإسلامية فكرة جديدة نشأت في الغرب وتُقَدَّم كشفاء ناجع للغضب الإسلامي، بل إنها حقيقة قديمة. ينطوي العالم الإسلامي على طيف واسع من التفسيرات الدينية. فإذا وجدنا في أحد أطراف الطيف المذهبَ الوهابي(5) المتعصب الذي يتصف بالقسوة والاستبداد ما يجعله أشبه بالإيديولوجية العربية الرسمية السائدة منه بالمذهب الديني؛ فإننا نجد في الطرف الآخر التعاليمَ المتنورة للصوفية. لا تؤكد هذه التعاليم على الحوار داخل الإسلام وعلى الفصل بين السلطة الروحية وسلطة رجال الدين وعلى التعليم باللغة المحلية فحسب، بل إنها تحترم أيضاً جميع المؤمنين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو هندوسيين أو بوذيين أو من ديانات أخرى، تشدد الصوفية علاوة على ذلك على التزامها باللطف والتفاعل والتعاون المتبادل بين المؤمنين بغض النظر عن مذاهبهم.
ثم يقول: (إذا أخذنا هذه الصورة المتنوعة بعين الاعتبار؛ فكيف يجب على الصوفية أن تدخل في الإستراتيجية الأمريكية للتعامل مع العالم الإسلامي؟
من الواضح جداً أن على الأمريكيين أن يتعلموا المزيد عن الصوفية، وأن يتعاملوا مع شيوخها ومريديها، وأن يتعرفوا على ميولها الأساسية... يجب على أعضاء السلك الديبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغار في غرب الصين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية. يجب أن ينتهز الطلاب الأمريكيون ورجال الأعمال وعمال الإغاثة والسائحون فرص التعرف على الصوفيين. الأهم من ذلك، أن أي شخص داخل أو خارج الحكومة يشغل موقعاً يسمح له بالتأثير على مناقشة ورسم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يمكنه أن يستفيد من فهم هذا التقليد الفطري من التسامح الإسلامي)(6).
وتقول الكاتبة (فارينا علم)(7) ـ وهي تمثل شريحة من الصوفية الموجودة في الغرب ـ: (إن الروحانية الإسلامية ـ الصوفية ـ تعتبر الجزء المكمل لحياة المسلم الدينية، وقد قدم أولياء وشيوخ الصوفية نظرة منهجية لمعرفة الله تستند على تلاوة الابتهالات، والتدرب على تطوير شخصية ورعة قويمة، بغية إذلال الأنا وتكريس النفس لخدمة المجتمع. ومن الممكن أن تصبح الصوفية اليوم ـ بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة ووضع الأهداف السامية نصب عينيها ـ بمثابة قوة كبيرة مضادة للإسلام السياسي المجاهد).
وتستطرد قائلة: (وقد حذرت التعاليم الإسلامية الكلاسيكية علماء الدين من التقرب الكبير من السلطة السياسية).(33/377)
يقول (دانيال بايبس): (إن هناك أخباراً سارة تقول: إن فكرة أن الإسلام المتطرف والعنفي هو المشكلة، وأن الإسلام المعتدل هو الحل تلقى رواجاً واسعاً مع الوقت... كذلك فإن أشخاصاً بارزين مثل أحمد صبحي منصور، ومحمد هشام قباني يرفعون أصواتهم..)(8).
ويقول الباحث د. عبد الوهاب المسيري: (مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين ابن عربي وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية؛ فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي...)(9).
ويؤكد المستشرق الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، أن (مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي)(10).
ومن الجدير بالملاحظة أنه في عام (2001م) أُطلقت مجموعة من الخطابات السياسية حول الإسلام الذي يريده الغربيون؛ (فقد شرح رئيس الوزراء البريطاني المقصود بهذا في خطاب موجه للزعماء والمسؤولين بالدول الإسلامية، دعاهم فيه إلى أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن الإسلام (العادي أو الرئيسي) استخدم لفظ (main st r eam) بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم، والفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) في شهر نوفمبر (2001م) في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي، حيث أشار إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات)(11).
وفي يناير عام (2001م) أقيم المؤتمر العالمي الأول لدراسات الشرق الأوسط الذي عقد بمدينة ماينز الألمانية وقد كان برنامج المؤتمر مكتظاً بالبحوث والدراسات المتنوعة؛ أما ما يتعلق بالإسلام والحضارة الإسلامية فثمة بحثان هما: الإسلام الحديث والطريقة النقشبندية ـ المجددية الصوفية، والأولياء الصوفيون وغير الصوفيين(12).
في صيف عام (2002م) أصدرت مؤسسة (راند)(13) البحثية مقالة(14) عكست فيها رؤيتها للفروقات والتباينات بين الفئات والجماعات الإسلامية المختلفة في العالمين العربي والإسلامي، وسوف نورد منه بعض الفقرات التي تبين مدى اهتمام الغرب بالصوفية أو ما يسمونه بالإسلام التقليدي، فإن التقرير يقول:
(ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم الصناعي المتمدن بأسره يفضلون عالماً إسلامياً يتماشى مع بقية النظام؛ أي يريدون عالماً إسلامياً يتسم بالديمقراطية، بالقابلية للنمو، بالاستقرار السياسي، بالتقدم الاجتماعي، بالتبعية لقوانين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلى أن هذا العالم الإسلامي «المفضل» مُلزَم بالمساهمة في منع أي (صدام للحضارات)، بكل صوره المتاحة والممكنة الممتدة من القلاقل المحلية المتصاعدة بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين (الأصليين) في الغرب؛ إلى العمليات العسكرية المتصاعدة عبر العالم الإسلامي، وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار.
ومن ثم فإن من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر ـ الموجودة في داخل الخلطة الإسلامية ـ التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة. إلا أن الأمر لا يبدو بهذه السهولة؛ فتعريف تلك العناصر وإيجاد الأسلوب الأمثل والأنسب للتعامل معها ليس بالأمر الهين.
ثم رصد التقرير أربعة عناصر موجودة على الساحة الإسلامية، وهي:
ـ الأصوليون الذين يرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الراهنة.
ـ التقليديون الذين يسعون إلى خلق مجتمع محافظ.
ـ الحِداثيون (أهل الحداثة) الذين يبغون عالماً إسلامياً مندمجاً في داخل الحداثة العالمية.
ـ العلمانيون وهم يريدون عالماً إسلامياً مختزلاً للدين في الدوائر الخاصة على غرار الديمقراطيات الغربية.
ثم يوصي التقرير بوصايا متعددة للتعامل مع هذه التصنيفات. ومن هذه الوصايا:
ـ تأييد الاتجاه الصوفي، ونشره، والدعوة إليه..
ففي تقرير نشرته مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية بعنوان (عقول وقلوب ودولارات) نشر عام (2005م) يقول التقرير في إحدى فقراته: (يعتقد الإستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحداً من أفضل الأسلحة، وبينما لا يستطيع الرسميون الأمريكيون أن يُقِرُّوا الصوفية علناً، بسبب فصل الدين عن الدولة في الدستور الأمريكي، فإنهم يدفعون علناً باتجاه تعزيز العلاقة مع الحركة الصوفية...، ومن بين البنود المقترحة هنا: استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود إلى القرون الوسطى وترجمتها، ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية في بلادها)(15).(33/378)
في (30/1/2004م) نشرت جريدة (يني شفق) التركية خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) عرض على رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) خلال استقباله في البيت الأبيض يوم (28/1/2004م) معالم المشروع الأمريكي الجديد لـ (الشرق الأوسط الكبير) الذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز. وحسب ما جاء في الصحيفة؛ فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبق في بلادهم، وأن هذا النموذج هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، ومن ثم فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي يلقى ترحيباً وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي(16).
(النموذج التركي.. الهدف.. كل هذه العوامل أسرعت بالدفع بخيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة إلى المقدمة، نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان في طبعته العربية هو ما تحلم به الإدارة الأمريكية لتسييده في المنطقة)(17).
وفي تقرير (عقول وقلوب ودولارات) الآنف الذكر يقرر أنه لا بد من حل لمشكلة التيارات الإسلامية وأن (هناك حلاً للمشكلة أخذ يشق طريقه بمساندة من الولايات المتحدة لإصلاحيين تجمعهم رابطة الصوفية التي تعتبر فرعاً متسامحاً من فروع الإسلام)(18).
وتؤكد بعض الدراسات (أن هناك تطورات تشير إلى أنهم يبحثون عن ضالتهم في الجماعات الإسلامية التركية التي يغلب على معظمها الصبغة الصوفية بأشكالها المختلفة... واستناداً لتقارير نشرتها بعض الصحف التركية خلال الأيام الأخيرة، فإن مسؤولين من السفارة الأمريكية في أنقرة، قاموا بزيارات إلى بعض الجماعات الإسلامية والمؤسسات الخيرية لدراسة مدى شعبية ونفوذ كل جماعة، وتشير المصادر نفسها إلى أن الأمريكيين يعرضون على زعماء الجماعات التي يزورونها التعاون الاستراتيجي في نشر ما يسمى بـ (الإسلام المعتدل) في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتقديم الدعم المادي والسياسي لجماعاتهم، وفتح مجال الدراسة لطلابهم في الولايات المتحدة. وفي تطور آخر، زار رئيس الشؤون الدينية التركية (علي بارداكوغلو) واشنطن في نهاية الشهر الماضي، وذكرت مصادر صحفية أنه بحث مع الأمريكيين خلال زيارته سبل التعاون في تعميم النموذج التركي، وطلب منه الأمريكيون خططاً ملموسة بهذا الشأن. ويبدو أن الأمريكيين اختاروا رئاسة الشؤون الدينية التركية للتعاون في صناعة ما يسمونه بـ (الإسلام المعتدل)، لخبراتها وتجاربها في إماتة الروح الإسلامية الفعالة وضبط المشاعر الدينية كمؤسسة رسمية خاضعة لنظام علماني، وتسيطر على كافة الشؤون الدينية في البلاد كالإفتاء وتعيين الأئمة والخطباء للمساجد ومدرسي القرآن وغير ذلك)(19).
* النشاط الصوفي بعد أحداث سبتمبر:
ويلحظ المتابع للحركة الصوفية النشاط المتسارع بعد الحادي عشر من سبتمبر بافتتاح المدارس والأكاديميات والأربطة لاستقبال المريدين، والقيام بالمؤتمرات الدولية حول الصوفية والتصوف، ودعم وسائل النقل الثقافي:
ففي 28/3/2001م عقد في مدينة بامبرج الألمانية المؤتمر الثامن والعشرين للمستشرقين الألمان، ومن ضمن البحوث التي قدمت في المؤتمر بحث بعنوان «الأخوة الصوفية كحركات اجتماعية»، و (الحركة النقشبندية في داغستان) و (التيجانية) في غرب أفريقيا، وصورة الموالد الشعبية في مصر(20).
وفي عام (2002م) تم افتتاح أقسام لتعليم اللغات (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية) في المعاهد الشرعية التابعة للشيخ (أحمد كفتارو) النقشبندي، وهذه الأقسام تستقبل الطلبة الناطقين بهذه اللغات أو تعلم الطلبة العرب هذه اللغات كي يقوموا بالتدريس في هذه الدول بعد ذلك(21).
وفي 12/7/2003م نظم المركز الثقافي الأوروبي البلغاري ندوة حول أدب التصوف في الإسلام(22).
وفي أغسطس عام (2..3م) الموافق جمادى الآخرة (1424هـ) صدر العدد الأول من المجلة المنعوتة: بـ (مجلة البحوث والدراسات الصوفية) وهي من مطبوعات جمعية العشيرة المحمدية بمصر وتقع في حوالي (600) صفحة، وتصدر عن المركز العلمي الصوفي الذي يهدف إلى (إحياء التصوف في الأمة، ونشره على كافة مستوياتها، وبين كل فئاتها، وفي مختلف أوجه أنشطتها)!(23).(33/379)
وفي عام (2003م) شهدت مدينة (الإسكندرية) في الفترة من (18 ـ 21) إبريل المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية بمدينة الإسكندرية وقد انعقدت جلسات المؤتمر بمكتبة الإسكندرية بالتعاون مع (منظمة اليونسكو) و (المركز الوطني الفرنسي للبحوث والدراسات العلمية) و (المعهد الفرنسي لآثار الشرقية) و (الوزارة الفرنسية للبحث العلمي) و (وزارة الخارجية الفرنسية) و (دار العلوم الإنسانية بفرنسا) وأخيراً (وزارة السياحة المصرية)(24).
وفي عام (2004م) اقيمت على مدى عشرين يوماً محاضرات عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض في الدانمارك(25).
وفي سبتمبر من عام (2004م) تم افتتاح الأكاديمية الصوفية بمصر(26).
وفي 9/1/2004م أعلن في العراق عن تشكيل «الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي» التي من أهدافها «إنشاء المدارس الدينية ودعم الطرق الصوفية»(27).
وفي (10/9/2004م) أقيم مؤتمر هو اللقاء الأول من: (لقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف) تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس)(28).
يقول الدكتور عمار حسن: «وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل سيدنا الحسين والسيد البدوي»(29)(30).
وفي ديسمبر من عام (2004م) أقيم في عاصمة مالي (باماكو) المؤتمر العالمي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا تحت شعار: (التصوف أصالة وتجدد)(31).
وفي الفاتح من سبتمبر من عام (2005) أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمراً دولياً بعنوان: (الطرق الصوفية في أفريقيا/ حاضرها ومستقبلها) ومن أهداف المؤتمر اقتراح الخطط والوسائل والبرامج التي تساعد على تفعيل دوره، أما شعار المؤتمر فهو: (معاً من أجل تفعيل دور الطرق والزوايا الصوفية في أفريقيا)(32).
وفي(5) يوليو (2005م) أقيم مؤتمر (حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر) الذي بدأ أعماله في العاصمة الأردنية (عمان) برعاية العاهل الأردني الملك (عبد الله الثاني) وقد قرر في خطابه فكرة التصوف واصفاً له بالتصوف المعتدل، فقال: (لقد أفتى شيخ الأزهر بأن الفكر الصوفي المعتدل مقبول ما دام يستند إلى الشهادتين؛ ذلك أن الاعتراف بالمذاهب هو اعتراف بمنهجية الإفتاء وتحديد من هو المؤهل لهذه المهمة، مما يؤدي إلى عدم تكفير بعضنا بعضاً، وإغلاق الباب أمام الجاهلين الذين يمارسون أعمال القتل والإرهاب باسم الإسلام والإسلام منها بريء)(33).
إن هذه المؤتمرات المتلاحقة حول التصوف تنبئ أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمة مقبلة على مد صوفي يراد إحياؤه من جديد بعد أن بدأ بالخمود، سواء أكان هذا التحرك ذاتياً من قِبَل الجماعات الصوفية، أم هو بتحريك غربي عربي؛ فالخطر العقائدي لا يزال قائماً.
إنها مخططات واضحة جلية، ودراسات تعي ما تريد وتخطط لما تطرح بخطوات ثابتة، بل توصي مثل هذه الدراسات بألا تقوم الولايات المتحدة بتدريب الأئمة المحليين في المساجد والمراكز الإسلامية لدعم الصوفية بنفسها، بل تمول في ذلك السلطات المحلية، على أن يتم بشكل مواز دعم التعليم العلماني في هذه المنطقة جنباً إلى جنب مع تقديم منح مالية لترميم ورعاية الأضرحة الصوفية والعناية بالمخطوطات والتراث الثقافي الصوفي. والخطوة الأكثر أهمية هي تعيين أئمة المساجد وخطبائها وتخصيص مناصب وزارية للمتعاطفين مع الصوفية؛ بحيث يتم إعادة ترتيب الأدمغة التي (أفسدها «الأصوليون» قليلو البضاعة الفقهية). نحن إذن أمام سيناريو يعيد إلى الأذهان الأسلوب السوفييتي القديم الذي اعتمد على احتضان ما اصطُلح على تسميته بـ «إسلام السلطةOfficial Islam » في مقابل ممارسات إسلامية تخضع للمراقبة والمتابعة الأمنية تعيش تحت الأرض سميت في ذلك العهد بـ (الإسلام السري) أو الموازي Pa r allel Islam(34).(33/380)
يقول الباحث الدكتور عامر النجار: (إنه قد يكون مما ساعد على انتشار الطرق الصوفية في مصر انتشاراً عجيباً، واندفاع عشرات الألوف من المصريين للانضمام تحت لواء هذه الطرق هو تشجيع الحكام أنفسهم لحركات الطرق الصوفية، ليشغلوا الشعب المصري عن التفكير في أحوال البلاد، فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه إلى الانضمام إلى إحدى الطرق الصوفية فيجد عالمه وخلاصه في رحاب الطريق؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام)(35).
ومن البدهي أن نقول: إن هذه المؤتمرات بعناصرها وأوراق العمل التي تعرض فيها هي برامج للتنفيذ والعمل المباشر؛ وهذا ما نلحظه من خلال الواقع الذي نعيشه.
إن المتأمل للنشاط الصوفي المعاصر يجد نفسه أمام تيار جديد، صوفي المشرب، متحضر الأدوات، واسع النظرة يتعامل مع الواقع السياسي، ويتبنى العمل التربوي المنظم من افتتاح حلقات تحفيظ القرآن واللقاءات المنظمة واستخدام الدعوة الفردية إلى تهيئة رحلات ودروس خاصة للمريد مع لقاءات تتلى فيها البردة في حلقات فلكلورية يردد فيها لفظ الجلالة إلى حد الفناء والجذب.
ولْيكنْ معلوماً أن التصوف بطرقه ورجالاته ومريديه وأربطته لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ؛ بل صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دوراً دينياً وسياسياً واجتماعياً، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية، وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس نفسها. وهناك طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي مثل ما هو الحال في تركيا، ولكنها مع وصولها إلى قمة الهرم السياسي نجدها تفقد مقومات الإسلامية فيها(36).
وبناء على هذا فإنه لا يصح شرعاً وواقعاً أيضاً جعل الصوفية والمنتسبين إليها في سلة واحدة أو أن نحكم عليها بحكم عام يشمل جميع المتصوفة لا من جهة المواجهة ولا من جهة الحكم الشرعي التوصيفي؛ فلا بد إذن من معرفة الواقع الذي تعيشه هذه الجماعات حتى يتم الحكم والتعامل معها بناء على أسس علمية جلية.
إننا أمام مفارقة تأريخية تحتاج إلى الرصد والمتابعة.
* مظاهر تسترعي الانتباه:
حين دخلت القوات الصليبية الأمريكية والبريطانية إلى البلاد الأفغانية كان أول ما قاموا به أنهم فتحوا المزارات والأضرحة، وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها. يقول أحد شيوخ الطرق واسمه (صوفي محمد) وهو في الستين من عمره لوكالة (رويترز): (إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات وأوقفت الاحتفالات ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي! وأنا سعيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة، وأمريكا سمحت لنا بممارسة طقوسنا وإقامة موالدنا، ونحن نشكر لها ذلك وبشدة) هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا: فتحت الأضرحة وأقامت الموالد لإحياء البدعة ومحاربة السنة ولتشويه الإسلام(37).
وفي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنى النهج الصوفي(38).
وفي زيارة هامة للرئيس الباكستاني (برفيز مشرف) إلى الهند شملت إجراء محادثات مع رئيس الوزراء الهندي (مانموهان سينج). توجه الرئيس (مشرف) لولاية راجستان بغرب الهند لزيارة ضريح إسلامي بارز، ثم توجه إلى العاصمة دلهي(39).
وقام الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) بزيارات مكثفة لعدد من زوايا وأضرحة (الأولياء والصالحين) المنتشرة في مختلف أنحاء الجزائر؛ لزيادة شعبيته لدى عدد كبير من الجزائريين الذين يتبركون بهؤلاء الأولياء، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل (2004م)(40).
وفي 16 شوال 1426 حضر مولد البدوي السفير الامريكي في القاهرة معلناً عن إعجابه الشديد بعالم التصوف الإسلامي، لافتاً إلى ما تنطوي عليه الصوفية من تسامح، وما تجسده من قيم ومبادئ إسلامية رفيعة مثل الحق والخير والجمال!(41).
وفي العراق أيضاً ـ في مدينة كركوك ـ أوضح عدد من أهالي المدينة أن مِن المتصوفة في المدينة مَن أخذوا يهادنون الاحتلال والحكومة المعينة خوفاً من الاعتقال، خاصة شيخ الطريقة الكستزانية ويدعى محمد الكستزاني والذي أعلن قبل أشهر أن الجهاد في العراق ينبغي أن تنطبق عليه عدة شروط قبل إعلانه منها: صفاء القلب وتحقيق الصلة بين العبد وربه. وهو ما أثار حفيظة المقاومة العراقية وأهالي المدينة على حد سواء(42).(33/381)
وأخيراً نقول: إننا نخشى أن يؤاخذنا الله بعدم تبليغ دينه كما يريده سبحانه، ونخشى من انطماس حقائق الديانة، وانتشار الطائفين حول الأضرحة والقبور بحجة العبادة، وحلول الأذكار المبتدعة بالحركات الراقصة محل الأذكار النبوية التي تطمئن بها القلوب المؤمنة، وانتشار الخرافة والجهل محل العلم واليقين، وتعطل الأسباب بحجة الكرامات، وفهم الدين عن أرباب التصوف.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: (يجب أن نعذر الأوروبيين إذا صدَّقوا جميع الأكاذيب الملفقة عن الإسلام والمسلمين، وهم غير ملومين إذا أظهروا العداوة لديننا ما داموا لا يجدون نصب أعينهم غير مشاهد البدع التي أحدثها رجال ذوو فكر سقيم، وارتضاها الناس وزادوا عليها وما إلى ذلك من الهرطقات والأخطاء المتنافية مع الطبيعة البشرية ومع نواميس المدنية، وكيف نرجو أن يفهم الأوروبيون روح ديننا نفسها وهو الدين الوحيد الذي يكفل السعادة الكاملة ما داموا لا يعرفون غير بعض مظاهر الإسلام الخارجية التي يشهدونها كل يوم مثل الحشود الضاجَّة في الشوارع السائرة خلف الرايات والطبول، والاحتفالات المستهجنة المنافية لكل منطق أخلاقي والتي تقام في جميع مدن مصر يوم مولد الرسول، وعقد حلقات الذكر الضخمة أمام جمهور يتألف من آلاف الناس، وإرسال الابتهالات الصوفية في صوت جَهْوَري وعلى وقع الانحناءات ذات اليمين وذات اليسار وما شابه ذلك؟)(43).
ويقول الباحث د. عامر النجار(44): (وإذا كان القرن السابع الهجري في مصر يمثل في أغلب فتراته اضمحلالاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً إلا أنه كان عصر انتشار الطرق الصوفية: البدوية، والشاذلية، والدسوقية، وازدهرت فيه وقويت طريقتا الرفاعية والقادرية).
ثم يعقب قائلاً: (مما يجعلني أقول بحذر شديد حتى أوضح هذه الفكرة: إنه يحتمل مع وجود تدهور في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى شعب من الشعوب أن يبدأ انسحاب الناس وتلمس أثر الهزيمة واضحاً في فكرهم، بعضهم يهرب من الحياة منعزلاً في صومعة يعبد ربه بعد أن أخفق في الحياة التي أجبرته ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الانسحاب من أنشطتها).
ثم ينقل عن الباحث هيلر قوله: (إن ذيوع التصوف يصحب تدهور الحضارات) ثم يقول: (والذي يفهم من هذا الرأي ببساطة هو أن نضج التصوف، وتطوره يصاحب دائماً تدهور الحضارة، أي أنه لا يمكن أن تكون هناك حضارة متقدمة وزاهية يصاحبها تصوف ناضج ومكتمل)(45).
ولكن مع هذه التحركات التي يراد منها ولها أن تنشر الخرافة والشرك بين جنبات الأمة وتميت روح العزة والفداء، وتنهمك في حلقات راقصة من الذكر المزعوم، وتعتمد اعتماداً كلياً على كرامات مدَّعاة في تعلق عجيب، أقول:
إن نظامنا العقدي هو أقوى من كل الأنظمة، وإن لدينا من القيم والمناهج ما يمكننا من أن نقدم رؤية متكاملة لإصلاح الفساد القائم؛ لكننا نحتاج أن نغادر مرحلة الانطواء إلى مرحلة بناء الخطوط المتقدمة وفتح خطوط حيوية في أرض الآخرين.
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
----------------------------------
(1) انظر مجمع الزوائد. ورواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح.
(2) حاوره: هادي يحمد، إسلام أون لاين في (20/6/2004م). وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الأحد 30/1/2005 م.
(3) جريدة (الزمان) ـ العدد (1633) ـ التاريخ (12/10/2003م). وهو رئيس منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة.
(4) وهو صاحب كتاب «وجها الإسلام: الأصولية السعودية ودورها في الإرهاب».
(5) هذه الأوصاف ليست بغريبة على أمثاله إذ يتوقع منهم مع الشنآن الفجور في الخصومة.
(6) عن مجلة ويكلي ستاندرد «The Weekly Standa r d»، (7) شباط (2005م).
(7) بقلم فارينا علم المقال على موقع opendemoc r acy وهو بعنوان المبادئ الخمس لمستقبل الإسلام في (27/4/2005م).. وهي صحفية بريطانية من أصل بنغلاديشي، مقيمة في لندن وترأس تحرير مجلة: q-news.(33/382)
(8) نيويورك صن (23/11/2004م) للكاتب النصراني دانيال بايبس وهو رئيس مؤسسة «منبر الشرق الأوسط للأبحاث»، ومقره ولاية فلادلفيا، وله كتابات عدة في التهجم على الإسلام والمسلمين، وقد قام مؤخرا بإنشاء «مركز التعددية الإسلامية»، أعلن أن الهدف منه هو «تشجيع الإسلام المعتدل في الولايات المتحدة والعالم»، ومحاربة نفوذ الإسلام المسلح، وإحباط جهود المنظمات ذات التوجه «الوهابي» المتطرف ـ على حد قوله ـ من خلال وسائل الإعلام، وبالتعاون مع المنظمات الحكومية الأمريكية. أما عن مسؤولي المركز وعن مصادر تمويله. فمديره أمريكي مسلم اسمه ستيفن شوارتز، كان شيوعياً متطرفاً (تروتسكيا)، ثم دخل في الإسلام من باب التصوف. وفي تصوفه فإنه تطرف أيضاً، وأصبحت معركته في الحياة هي مواصلة الحرب ضد ما يسميه بالوهابية. أما مساعده فهو أزهري مصري اسمه الدكتور أحمد صبحي منصور، كان قد فصل من الأزهر في الثمانينيات بسبب إنكاره للسنة النبوية. ومن أبرز الداعمين للمشروع نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوتيز (مهندس الحرب على العراق وأحد أبرز اليهود الناشطين بين المحافظين الجدد ورئيس البنك الدولي مؤخراً) وجيمس وولسي مدير المخابرات المركزية السابق. انظر وكالة «انترناشيونال برس سيرفيس« (في 7/4/2004).
(9) www.aljazee r a.ne.
(10) من مقال بعنوان الصوفية.. هل تكون النموذج الأمريكي للتغيير؟ د. عمار علي حسن.. (26/2/2005م) اسلام أون لاين.
(11) (الأهرام: 18 ـ 12 ـ 2001). مقال بعنوان فرض «الإسلام المعدّل» بعد (11) سبتمبر (2001م) (14/01/2002م). وانظر أيضاً جريدة السفير اللبنانية في 22/12/2001م).
(12) أقيم هذا المؤتمر بجامعة يوهانسن جوتنبرج، كما أن المبادرة إلى عقده جاءت من رابطة دراسات الشرق الأوسط في أمريكا الشمالية، وتقرر أن يعقد تحت الإشراف المشترك لهذه الرابطة والرابطة الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط، والروابط الفرنسية والألمانية والبريطانية والإيطالية لدراسات العالمين العربي والإسلامي. وقد حضره ألفا باحث وعالم ومفكر كما شارك في المؤتمر قرابة الألف من السياسيين الرسميين وغير الرسميين.. الأهرام (25 محرم 1423 هـ) الموافق (8 إبريل 2002م) العدد (42126).
(13) تأسست هذه المؤسسة منذ خمسين سنة، وهي مؤسسة غير ربحية ترتكز على إيجاد حلول للتحديات التي تواجه القطاعات العامة والخاصة في العالم.
(14) التقرير من صياغة «شاريل بينارد» وهي متزوجة من «زلماي خليل زاده» الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، وكبير مستشاري الأمن القومي المسؤول عن الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وقد عين مؤخراً سفيراً للولايات المتحدة لدى العراق، ويعتبر خليل زاده الأمريكي من أصل أفغاني الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد ويعرف بآرائه المتطرفة، التقرير من ترجمة وتحرير: شيرين حامد فهمي. انظر موقع إسلام أون لاين في (18/5/2004م) ومجلة المجتمع. (10 ـ 7 ـ 2004م) وانظر أيضا مجلة الحوادث الأسبوعية في عددها (2495) (20 ـ 27/8/2004م).
(15) انظر الملحق الأسبوعي للعرب اليوم الأردنية في25/4/2005 وانظر أيضا الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25/4/2005م) Us news and wo r ld r epo r t..
(16) جريدة يني شفق التركية في (30/4/2003م) وانظر ايضاً http://abbc.net/Houidi/ r esiste r /tu r ki.htm.
(17 ) www. islamonline. net/A r abic/politics/
من مقال بعنوان «فزاعة» الإسلاميين.. حق الانتفاع ينتقل لواشنطن، من المعلوم لكل متابع التهافت الشديد من قِبَل السلطة في تركيا على الانضمام للاتحاد الأوروبي والذي بدوره استغل الفرصة وبدأ يملي شروطه على الحكومة التركية إلى درجة التدخل في القوانين التركية الداخلية؛ فعندما نوقش قانون الجزاء التركي جرى تعديله بحيث تحاكم المرأة إذا لجأ زوجها إلى المحاكم يتهمها بالزنا.. وعلى الفور صاح الأوروبيون وقالوا: هل ستدخلون الإسلام وأخلاقيات الاسلام في تشريعات دولة تطلب الانضمام إلى أوروبا؟ فسحبوا التعديل واعتذروا للأوروبيين.
بطاقة الهوية التي يحملها التركي تتضمن ديانة حاملها بذكر كونه مسلماً أو غير ذلك... وتدخل الأوربيون مرة أخرى.. وطالبوا بحذف الدين من بطاقة الهوية .. وعندما استجابت الحكومة علق أحد النواب.. بأنهم لن يدخلوا إلى أوروبا إلا بعد أن ينتزعوا منا ديننا.
اجتمع رئيس الوزراء التركي مع مديري المصارف.. وعندما سأله مدير أحد المصارف الإسلامية عن الفائدة ـ الربا ـ قال: هذا نظام عالمي لا بد من الالتزام به!
عندما خرجت مئات الألوف من الطالبات المحجبات في مظاهرات في جميع المدن التركية يطالبن بإعادتهن إلى مدارسهن وجامعاتهن باعتبار الحجاب حرية فردية وأمراً دينياً.. لا يجوز أن تتدخل فيه الحكومة.. اعترض الجيش .. واعترضت أوروبا .. وقالا: الحجاب هو تعبير عن الهوية الإسلامية لا يمكن القبول به .. وعندما سئل رئيس الوزراء عن ذلك .. قال: ليست هذه من أولوياتنا.(33/383)
بعض التعديلات طلبها الاتحاد الأوروبي ولم يوافق عليها إلى الآن رئيس الوزراء التركي وهي مقدار العقوبة التي يتحملها المعلم أو الأب إذا علَّم ابنه القرآن في البيت قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره! انظر مجلة المجتمع العدد 1664رجب 1426 الموافق اغسطس 2005.
(18) الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25 ـ 4 ـ 2005م) Us news and wo r ld r epo r t.
(19) من مقال بعنوان (ماذا وراء التقرب الأمريكي من الجماعات «الصوفية» في تركيا؟!) في (16 ـ 3 ـ 2004م) لإسماعيل باشا، إسلام أون لاين.
(20) انظر جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 4 محرم 1422 هـ 28 مارس 2001 العدد 8156.
(21) وكالة الأنباء الفرنسية سبتمبر (2002م).
(22) انظر جريدة الشرق الأوسط السبت 13 جمادى الاولى 1424 هـ 12 يوليو 2003 العدد 8992. المحاضران هما: ألكسندر فسلينوف، والبروفيسور تسفيتان تيوفانوف الأستاذ في قسم الاستشراق بجامعة صوفيا. ومما يذكر ان الاساتذة فسلينوف وتيوفانوف وبليف كانوا قد أشهروا إسلامهم في أوقات سابقة وينشطون حالياً في مجال نشر الحقيقة عن الدين الحنيف في اوساط الرأي العام في بلغاريا.
(23) مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول من مقدمة المجلة.
(24) انظر مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول صفحة (595).
(25) www.aljazee r a.net من الدعاة المعاصرين للتصوف في أوروبا عبد الواحد يحيى (رينيه جينو) الشاذلي والذي تذكر عنه مجلة البحوث والدراسات الصوفية أنه له أتباع بالملايين في فرنسا ودول أوروبا، وما زال تلاميذه يقومون برسالته حتى الآن، ومنهم الصوفي الفرنسي عبد الله كوديوفتش الذي يقوم بترجمة كتاب الفتوحات المكية لابن عربي إلى الفرنسية وهو يحمل لواء نشر الإسلام والفكر الصوفي في أوروبا، انظر مجلة الدراسات والبحوث الصوفية صفحة (196).
(26) نشر في (14/7/2004م) في موقع إسلام أون لاين. نت 2004، انظر أخبار الأكاديمية على هذا الرابط http://www.ashei r a.o r g/news.php.
(27) جريدة الشرق الأوسط، الجمعة 16 ذو القعدة 1424 هـ، 9 يناير 2004 العدد 9173.
(28) وكالة الانباء المغربية في (10/9/2004م).
(29) الصوفية والسياسة 104.
(30) يقول شعراوي جمعة وزير داخلية مصر في عهد جمال عبد الناصر (حينما مات ناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان؛ فقد وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفيه ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به كافة مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهره) شعراوي جمعة وشهادته للتاريخ، صحيفة العربي، السنة الأولى، العدد 47 ص 9.
(31) http://www. alelam. net/policy/details. php?id=1760&count r y=1&type=N.
(32) http: //www. libsc. o r g/LSC/elan1. htm.
(33) انظر جريدة الرياض، الثلاثاء (28) جمادى الأولى (1426هـ) ـ (5) يوليو (2005م)، العدد (13525).
(34) www.aljazee r a.net/N r /exe r es من مقال بعنوان: استدعاء الصوفية.
(35) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282).
(36) ذكرت جريدة الشرق الأوسط أن حزب العدالة والتنمية الصوفي النقشبندي قرر في عام (2004م) عدم اعتبار الزنا جريمة مع أن هذا يعد مخالفة صريحة لنص القرآن انظر جريدة الشرق الأوسط، الجمعة الموافق: (29/7/2005) العدد: (9740).
(37) انظر www.islammemo.cc/histo r ydb/one_news
(38) جريدة الشرق الأوسط (10/12/2001).
(39) موقع شبكة البي بي سي. وانظر ايضا جريدة الراية القطرية الأحد 24/3/2005.
(40) http://islamonline. net. وانظر أيضاً جريدة الشرق الأوسط ،الاثنين 25 ذو الحجة 1424هـ، 16 فبراير 2004، العدد 9211. وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الخميس 4/3/2004م.
(41) انظر جريدة الخليج «الإماراتية» الصادرة في 17 شوال 1426هـ، الموافق 19 نوفمبر 2005، العدد (9680). وانظر جريدة الشرق الاوسط الصادرة في 16شوال 1426هـ.
(42)www.islammemo.cc/news/ السبت 22 رجب 1426هـ ـ 27 أغسطس 2005
(43) انظر كتاب (دفاع عن الاسلام) الكاتب لورا فيشيا فاغليري (122).
(44) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282).
(45) انظر كتاب (التصوف طريقاً ومذهباً) الدكتور محمد كمال جعفر (283).
المصدر : مجلة البيان
===============(33/384)
(33/385)
الصارم المسلول على الزنادقة شاتمي الرسو صلى الله عليه وسلم
عبد الرحمن بن سعد الشثري
الحمد لله ربِّ العالمين , وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له شهادةً تُقيمُ وجهَ صاحبها للدِّين حنيفاً وتُبرِّئُه من الإلحاد , وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أفضلُ المرسلين وأكرمُ العبادِ , أرسلَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهره على الدين كلِّه ولو كره أهلُ الشركِ والعِنادِ , ورفعَ له ذكره فلا يُذكرُ إلاَّ ذُكِرَ معه كما في الأذانِ والتشهُّدِ والْخُطبِ والمجامعِ والأعيادِ , وكَبَت مُحَادَّه ( أي عدُوَّه ) وأهلكَ مُشاقَّه ( أي الذي خالف أمر صلى الله عليه وسلم ) وكفاه المستهزئينَ به ذوي الأحقاد , وبتَرَ شانِئَهُ ( أي مُبغضه ) ولعنَ مُؤذِيَه في الدنيا والآخرة وجعل هوانه بالمرصاد , واختصَّه على إخوانه المرسلين بخصائصَ تفوقُ التَّعداد , فهو سيِّد ولد آدم , وخاتم النبيِّين , وأُرسل للناس كافة , وأول من يعبر الصراط يوم القيامة , وأول من يقرع باب الجنة , وأول من يدخلها , وأول شافعٍ وأول مُشفَّع , وله الوسيلةُ ( أي المنزلة العالية في الجنة والتي لا تكون إلاَّ ل صلى الله عليه وسلم ) والفضيلةُ , والمقامُ المحمودُ ( أي الشفاعة العظمى ) ولواءُ الحمدِ الذي تحته كُلُّ حَمَّاد , صلى الله عليه وعلى آله أفضل الصلواتِ وأعلاها , وأكملها وأنماها , كما يُحبُّ سبحانه أن يُصلَّى عليه وكما أَمرَ , وكما ينبغي أن يُصلَّى على سيِّد البشر , والسلامُ على النبيِّ ورحمةُ الله وبركاتُه أفضل تحيةٍ وأحسنها وأولاها , وأبركها وأطيبها وأزكاها , صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم التناد , باقيين بعد ذلك أبداً رزقاً من الله ما لَهُ من نفاد .
أمَّا بعد : فإنَّ مما لا شكَّ فيه أنَّ علينا تجاه نبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم حقوقاً كثيرة يجب القيام بها وتحقيقها ، فلا بُدَّ من تصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يُعبد الله إلاَّ بما شرع .
وإنَّ من أهم ما يجب علينا تجاه سيِّدنا صلى الله عليه وسلم أن نُحقِّق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً ، ونُقدِّمها على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين , قال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يُؤمنُ أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) رواه البخاري ومسلم .
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في صدق وتمام المحبة لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للعباس وهو في أسارى بدر : ( أنْ تُسلم أحبّ إليَّ من أن يُسلم الخطاب , لأنَّ ذلك أحبّ إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ) تفسير ابن كثير ج2/327 .
وسُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( كيف كان حبُّكم لرسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا , ومن الماء البارد على الظمأ ) الشفا للقاضي عياض ج2/567 .
وإذا كانت محبة الرسو صلى الله عليه وسلم من أجلِّ أعمال القلوب ، وأفضل شعب الإيمان ، فإنَّ بُغض صلى الله عليه وسلم من أشنع الذنوب وأخطرها ، قال الله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } ( فكل من شَنَأَه وأبغضه وعاداه فإنَّ الله تعالى يقطع دابره , ويمحق عينه وأثره ) .
وقد أمر الله ( بتعزيره وتوقير صلى الله عليه وسلم فقال : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } والتعزير : اسم جامعٌ لنصره وتأييده ومنعه من كلِّ ما يُؤذيه ، والتوقير : اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما فيه سكينةٌ وطمأنينةٌ من الإجلال والإكرام ، وأن يُعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كلِّ ما يخرجه عن حد الوقار ) .
فإذا تقرَّر الواجب نحو رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ سبَّ صلى الله عليه وسلم وهو شتمُه وكلُّ كلام قبيحٍ يُوجب الإهانة والنقص والاستخفاف , يُعتبرُ من نواقض الإيمان التي توجب الكفر ظاهراً وباطناً سواء استحلَّ ذلك أو لم يستحلَّه .
قال القاضي عياض رحمه الله : ( دلَّت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تعظيم الرسو صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإكرامه ، ومن ثمَّ حرَّم الله تعالى أذاه في كتابه ، وأجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابِّه ) الشفا 2/926-297 .
( إنَّ سبَّ الله أو سبَّ رسول صلى الله عليه وسلم كُفرٌ ظاهراً وباطناً ، وسواء كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرَّم ، أو كان مستحِلاً له ، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده ، هذا مذهبُ الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأنَّ الإيمان قولٌ وعمل ) .(33/386)
إنَّ سبَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُعدُّ كفراً , يُقتلُ قائلُه إن كان مُسلماً بغير خلاف , ولا يُستتاب على الصحيح , ولا يُحتاج معه إلى سؤال ولا جواب , وينتقض عهد الساب ويُقتلُ إن كان ذمِّياً :
قال الله تعالى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{61} يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ{62} أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ{63} يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ{64} وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ{65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } .
( وهذا نصٌّ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر ، فالسبُّ المقصود بطريق الأولى ، وقد دلَّت هذه الآية على أن كلَّ من تنقَّصَ رسول ا صلى الله عليه وسلم جادَّاً أو هازلاً فقد كفر ) ( وعُلم أنَّ إيذاء رسول ا صلى الله عليه وسلم مُحادَّة لله ولرسوله , وذلك كفرٌ ومُحاربة , فهو أغلظُ من مجرَّد الكفر , فيكون الْمُؤذي لرسول ا صلى الله عليه وسلم كافراً عدوَّاً لله ولرسوله , مُحارباً مُشاقاً لله ورسوله ) .
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً{57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } .
( ودلالة هذه الآيات من وجوه : أحدها : أنه قرَن أذاه بأذاه ، كما قرن طاعته بطاعته ، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى ، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه ، ومن آذى الله فهو كافرٌ حلال الدم ... وثانيها : أنه فرَّق بين أذى الله ورسوله ، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات ، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين , وثالثها : أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة ، وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً ، واللعن : الإبعاد عن الرحمة ، ومَنْ طَرَدَهُ عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلاَّ كافراً ) ( ويُوضِّح ذلك أيضاً قول صلى الله عليه وسلم : ( مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسولَه , فقام محمد بن مسلمة فقال : أنا يا رسول الله , أتحبُّ أن أقتله ؟ قال : نعم ) رواه البخاري ومسلم .
وأمرَ رسول ا صلى الله عليه وسلم أيضاً : بقتل أبي رافع بن أبي الْحُقيق اليهودي , فقتله عبد الله بن عتيك رضي الله عنه كما عند البخاري .
( ولا فرق بين قليل الإيذاء وكثيره , وغليظه وخفيفه في كونه مُبيحاً للدم سواء كان قولاً أو فعلاً ) .
وقتلَ سالِمُ بن عُمير رضي الله عنه اليهوديَ أبو عَفَك وكان شيخاً كبيراً قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد ذكروا أنَّ الجنَّ الذين آمنوا ب صلى الله عليه وسلم كانت تقصد من يسبُّه من الجن الكفار فتقتله فيقرُّها صلى الله عليه وسلم
وأُتيَ عمر رضي الله عنه برجل يَسُبّ صلى الله عليه وسلم فقتلَه ثمَّ قال عمر : من سبَّ الله أو سبَّ أحداً من الأنبياء فاقتلوه .
وسبَّت امرأة النبيَّ r فقا صلى الله عليه وسلم : من يكفيني عدوِّي , فخرج إليها خالد بن الوليد رضي الله عنه فقتلها , رواه عبد الرزاق في مصنفه , وصحح إسناده ابن حزم في المحلَّى .
وعن أنس رضي الله عنه قال : ( كان رجل نصرانياً فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران , وكان يكتب للنبي r فعاد نصرانياً , فكان يقول : لا يدري محمد إلاَّ ما كتبتُ له , فأماته الله , فدفنوه , فأصبح وقد لفظته الأرض , فقالوا : هذا فعل محمدٍ وأصحابه , نبَشُوا عن صاحبنا فألقوه , فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا , فأصبح وقد لفظته الأرض , فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه ) رواه البخاري ومسلم .(33/387)
( فهذا الملعون الذي افترى على صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلاَّ ما كَتبَ له , قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً , وهذا أمرٌ خارج عن العادة , يدل كل أحد على أنَّ هذا عقوبة لِما قاله , وأنه كان كاذباً , إذ كان عامة الموتى لا يُصيبهم مثل هذا , وأنَّ هذا الجرم أعظم من مُجرَّد الارتداد , إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يُصيبهم مثل هذا , وأنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه , ومُظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يُقيموا عليه الحدَّ ) .
ونظير هذا أنه ( من المعروف المشهور المجرَّب عند عساكر المسلمين بالشام إذا حاصروا بعض حصون أهل الكتاب أنه يتعسَّر عليهم فتح الحصن ويطول الحصار إلى أن يَسُبَّ العدو الرسو صلى الله عليه وسلم فحينئذ يستبشرُ المسلمون بفتح الحصن وانتقام الله من العدو فإنه يكون ذلك قريباً كما قد جرَّبه المسلمون غير مرَّة تحقيقاً لقوله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } ولَمَّا مزَّق كسرى كتاب صلى الله عليه وسلم مزَّق الله مُلك الأكاسرة كلَّ مُمزَّق , ولَمَّا أكرم هرقل والمقوقس كتابه بقيَ لهم ملكهم ) الجواب الصحيح ج6/296 .
وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }.
( ولا يُحبط الأعمال غير الكفر كما دلَّت على ذلك النصوص , فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت صلى الله عليه وسلم ، والجهر له بالقول يُخاف من أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك ، وأن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له ، واستخفاف به ، وإن لم يقصد الرافع ، فإنَّ الأذى والاستخفاف المقصود المتعمَّد كفرٌ بطريق الأولى ) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أنَّ أعمى كانت له أمُّ ولد تشتم النبيَّ r وتقع فيه ، فينهاها فلا تنتهي ، ويزجرها فلا تنزجر ، قال : فلَّما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتشتمه ، فأخذ المغول- سيف قصير دقيق - فوضعه في بطنها ، واتكأ عليها فقتلها ، فوقع بين رجليها طفل ، فلطخت ما هناك بالدم ، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس فقال : أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حقٌّ إلا قام ، فقام الأعمى يتخطَّى الناس وهو يتزلزل ، حتى قعد بين يدي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أنا صاحبها ، كانت تشتمك ، وتقع فيك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت بي رفيقة ، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك ، فأخذت المغول فوضعته في بطنها ، واتكأتُ عليها حتى قتلتها ، فقال صلى الله عليه وسلم : ألا اشهدوا أنَّ دَمَهَا هدرٌ ) رواه أبو داود والنسائي .
وعن علي رضي الله عنه : ( أنَّ يهودية كانت تشتم صلى الله عليه وسلم وتقع فيه , فخنقها رجلٌ حتَّى ماتت , فأبطل -أي أهدر - رسول ا صلى الله عليه وسلم دمها ) رواه أبو داود وغيره .
( ولو لَم يكن قتلُها جائزاً لبيَّن r للرجل قُبح ما فعل , فإن صلى الله عليه وسلم قد قال : من قتل نفساً مُعاهَدةً بغير حقِّها لَم يرَح رائحة الجنة ) رواه البخاري .
يقول الخطابي : ( فيه بيانُ أنَّ سابَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُهدر الدم ، وذلك أنَّ السبَّ منها لرسول ا صلى الله عليه وسلم ارتدادٌ عن الدين ، ولا أعلمُ أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله ) معالم السنن ج4/528 .
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ r دخل مكة عام الفتح ، وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجلٌ فقال : ( ابن خطل متعلَّقٌ بأستار الكعبة ، فقال : اقتلوه ) رواه البخاري ومسلم .
( وقد استَدلَّ بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سبَّ النبيّ r من المسلمين يُقتل وإن أسلم حدَّاً ) .
وقت صلى الله عليه وسلم سارة مولاة عمرو بن هاشم وكانت مُغنِّية تهجوه , وقتلَ قينتا ابن خطل , وكانتا تهجوان صلى الله عليه وسلم , ومعَ ذلك قتلهنَّ وهنَّ إماء مأمورات بالهجاء , فعُلم أنَّ السبّ من أغلظ الموجبات للقتل .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها علي رضي الله عنه من اليمن وقال : ( يا رسول الله اتق الله .. ) الحديث
( فثبتَ أنَّ كلّ من لَمَز النبيَّ r في حكمه أو قَسمه فإنه يجب قتله ، كما أمرَ ب صلى الله عليه وسلم في حياته ، وبعد موته ، وأنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يُؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة ، وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة ، بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد ) .(33/388)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان يُتَّهمُ بأمِّ ولد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم لعلي : ( اذهب فاضرب عنقه , فأتاه عليٌّ فإذا هو في رَكِيٍّ - بئر - يتبرَّد فيها ، فقال له عليٌّ : اخرج ، فناوله يده فأخرجه ، فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر ، فكفَّ عليٌّ عنه ، ثم أتى النبيَّ r فقال : يا رسول الله ، إنه لمجبوب ، ما له ذكر ) رواه مسلم .
قال ابن حزم : ( فَصَحَّ بهذا أنَّ كلَّ من آذى رسول ا صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فهو كافرٌ مرتدٌ يُقتلُ ولا بُدَّ ، وبالله تعالى التوفيق ) المحلى 13/504 .
وأجمع العلماء على كفر شاتم الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقد حكى الإجماع جمعٌ كثير من أهل العلم ، ( وأمَّا إجماع الصحابة فلأنَّ ذلك نُقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض ، ولم يُنكرها أحد منهم فصارت إجماعاً … فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب : الردة والفتوح , لَما رُفع إلى الماجر بن أبي أمية - وكان أميراً على اليمامة ونواحيها - أنَّ امرأة مُغنية تشتمُ النبيَّ r ، فقطع يدها , ونزع ثنيَّتها ، فكتب إليه الصديق رضي الله عنه : بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنَّت وزمزمت بشتم النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فلولا ما قد سبقني لأمرتك بقتلها ، لأنَّ حدَّ الأنبياء ليس يُشبه الحدود ، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتدٌ ، أو مُعاهدٌ فهو مُحاربٌ غادرٌ ) .
وقال إسحاق بن راهويه : ( قد أجمع العلماءُ أنَّ من سبَّ الله عز وجل أو سبَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أو دفع شيئاً أنزله الله ، أو قتل نبياً من أنبياء الله ، وهو مع ذلك مُقرٌ بما أنزل الله أنه كافر ) التمهيد ج4/226 .
وقال محمد بن سحنون : ( أجمعَ العلماءُ أنَّ شاتم النبيّ r المنتقِّصَ له كافرٌ ، والوعيدُ جارٍ عليه بعذاب الله ، وحكمُه عند الأمة القتلُ ، ومن شكَّ في كفره وعذابه كفر ) الشفا ج2/933 .
وقال ابن المنذر : ( أجمع عوامُّ أهل العلم على أنَّ حدَّ من سبَّ النبيَّ r القتل ) .
ويقول القاضي عياض : ( ولا نعلم خلافاً في استباحة دمه - يعني سابَّ الرسو صلى الله عليه وسلم - بين علماء الأمصار وسلف الأمة ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره ) الشفا ج2/933 .
وقال الإمام أحمد : ( كلُّ من شتم صلى الله عليه وسلم ، أو تنقَّصه مسلماً كان أو كافراً فعليه القتلُ , وأرى أن يُقتل ولا يُستتاب ) , وقال أبو يوسف : ( وأيما مسلم سبَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم أو كذبه ، أو عابه ، أو تنقصه فقد كفرَ بالله ، وبانت منه امرأته ) الخراج لأبي يوسف ص 293 .
وقال العلامة الشنقيطي : ( اعلم أنَّ عدم احترام النبيِّ صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه ، أو تنقيص صلى الله عليه وسلم ، والاستخفاف به ، أو الاستهزاء ردة عن الإسلام وكفر بالله ) أضواء البيان ج7/617 .
وقال الله تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ( فمن المعلوم أنَّ من أظهرَ سبَّ نبيِّنا في وجوهنا , وشتمَ ربَّنا على رؤوس الملأ منَّا , وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر ) .
وقال الله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } ( فجعلَ همهم بإخراج الرسو صلى الله عليه وسلم من المحضِّضات على قتالهم , وما ذاك إلاَّ لِما فيه من الأذى , وسبُّ صلى الله عليه وسلم أغلظُ من الهمِّ بإخراجه , بدليل أن صلى الله عليه وسلم عفَا عامَ الفتحِ عن الذين همُّوا بإخراجه , ولَم يعفُ عمَّن سبَّه , فالذمِّي إذا أظهر سبَّ صلى الله عليه وسلم فقد نكثَ عهده , وفعلَ ما هو أعظم من الهمِّ بإخراج الرسو صلى الله عليه وسلم , وبدأ بالأذى فيجبُ قتالُه ) .
وقال الله تعالى : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ{14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ( ولا ريبَ أنَّ مَن أظهر سبَّ الرسو صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظُ المؤمنين ويُؤلمهم أكثر مما لو سفكَ دماء بعضهم وأخذَ أموالهم , فإنَّ هذا يُثير الغضبَ لله , والحميَّةَ له ولرسوله , وهذا القدر لا يُهيِّجُ في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه , بل المؤمن المسدَّدُ لا يغضبُ إلاَّ لله , والشارعُ يطلبُ شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم , وهذا إنما يحصل بقتل السابِّ ) .(33/389)
ومن أعظم الإيذاء لرسول ا صلى الله عليه وسلم : قذف زوجته عائشة رضي الله عنها بالزنى من قبل الشيعة الاثنى عشرية ومن اتبعهم , ولقد أجمع العلماء على كفر وقتل من قذف عائشة رضي الله عنها بعد أن برَّأها الله .
ومن أعظم الإيذاء لرسول ا صلى الله عليه وسلم : سبُّ صحابته رضي الله عنهم من قبل الشيعة الاثنى عشرية وأذنابهم .
ومن أعظم الإيذاء لرسول ا صلى الله عليه وسلم : ما وُجد في بعض وسائل الإعلام من السخرية بسنت صلى الله عليه وسلم ومن تمسَّك بها .
وقد علم المسلمون ما تناقلته بعض وكالات الأنباء والعديد من المواقع عبر شبكة الانترنت عمَّا اقترفته الصحيفة الدنمركية: " جيلاندز بوستن " Jyllands-Posten بنشرها (12) رسماً كاريكاتيرياً ساخراً يوم الثلاثاء 26 شعبان 1426هـ تصوِّر فيه رسول اللهمحمدا صلى الله عليه وسلم في أشكالٍ مختلفةٍ .
وقد أعادت صحيفة ( Magazinet ) النرويجية في 10 يناير ما قامت به الصحيفة الدانماركية ، ونشرت 12 رسماً ساخراً لرسول ا صلى الله عليه وسلم بدعوى حرية التعبير !! .
مع مُباركة من حكومة الدنمرك وكثير من شعبها , ودول الاتحاد الأوربي , حيث امتنع رئيس وزراء الدنمرك عن مجرَّد الاعتذار , وأيدته مجموعة اتحاد الدول الأوربية .
إنَّ هذا الأمر هو من قواصم الظهور , بل وأشد مما كان في تلك العصور , فقد ظهر هؤلاء الزنادقة المتبجِّحون , وبلغت بهم الزندقة والوقاحة أن سطَّروا هذه الصور في جرائدهم استخفافاً بنبينا r وأتباعه , وما كان لهؤلاء الزنادقة أن يستمرُّوا على هذا الاستهزاء - بعد تقدير الله - لولا ضعف العالم الإسلامي حكومات وشعوباً , ولولا مُساندة الشعب الدنمركي لموقف حكومته , حيث كشف استطلاع للرأي بثته إذاعة الـ بي بي سي وتناقلته بعض الصحف المحلية أنَّ 79 % من الشعب الدنمركي لا يُؤيدون اعتذار حكومتهم ولا وسائل إعلامهم , ولولا مساندة وتأييد دول الكفر والإلحاد , فاتحاد الدول الأوربية يُشيد بامتناع رئيس وزراء الدنمرك عن مجرَّد الاعتذار للعالم الإسلامي , وهذا لا يُستغرب منهم فأمة الكفر أمة واحدة , وبعض دول الكفر لهم السبق في نُصرة المستهزئين برسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم
فبريطانيا مثلاً : قد ناصرت المرتد ( سلمان رشدي ) مُؤلِّف كتاب : ( آيات شيطانية ) حيثُ أعطته دار : فايكنج و بنجوين : ثمانمائة ألف دولار مقابل كتابه , وحمته بريطانيا بحجة حرية النشر .
وهذه أمريكا : قام رئيسها كلينتون باستقبال أخيه سلمان رشدي في بيته الأبيض الأسود مُتحدِّياً المسلمين كلهم , وها هو الآن كلينتون يستنكر فعل جريدة الدنمرك هذه الأيام ليكسب عدداً من أصوات وأموال السذج من المسلمين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة .
وها هو ( .؟. ) الذي سبَّ صلى الله عليه وسلم في مقاله بجريدة العرب اللندنية في عددها الصادر بتاريخ 18 شوال 1411هـ , نقلاً عن جريدة المسلمون في عددها 327 في 25/10/1411هـ .
وها هم أهل الحداثة يسبُّون الله ورسول صلى الله عليه وسلم , فهذا أحدهم ( .؟. ) يقول : ( صار الله رماداً صمتاً رعباً في كفِّ الجلادين .. كان الله قديماً حبَّاً , كان سحابة , كان نهاراً في الليل .. ) نشرت قصيدته الشركية في مجلة العربي , وأشارت إليها المجلة العربية في عدد شعبان 1405هـ .
ويقول الحداثي ( .؟. ) : ( الله في مدينتي يبيعه اليهود , الله في مدينتي مشرَّد طريد .. ) من ديوانه كلمات لا تموت .
ويقول الحداثي ( .؟. ) : ( نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير ) الحداثة في ميزان الإسلام لعوض القرني ص96 .
ويقول الحداثي ( .؟. ) : ( كاهنة الأجيال قولي لنا شيئاً عن الله الذي يولد , قولي أفي عينيه ما يُعبد .. مات هناك إله كان يهبط من جمجمة السماء ) شعراء السعودية المعاصرون لأحمد زكي ص144 .
ويقول ( .؟. ) : ( أكل هذا جزء من قدَرٍ إلهي , أم هو عبثٌ شيطاني , أم هي حكمة لا ندريها , مختبئة في عباءة قدر عابث , أو عبث قادر ؟ لا أحد يدري , فالله والشيطان واحدٌ هنا , وكلاهما وجهان لعملة واحدة ) الكراديب ص137 , تعال الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً .
وإنني في هذا المقام أدعو حكام وعلماء المسلمين : أن يذبُّوا عن عرض نبيِّنا وسيِّدنا r , وأن يدفعوا المبطلين , ويُقيموا حدود ربِّ العالمين في المستهزئين فيمن ينتسب إلى الإسلام خاصة , وفي غيرهم عامة , وأن يُراغموا الكافرين ( فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة , فموافقته فيها من كمال العبودية , فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوِّه , فقد أخذ من الصدِّيقيَّة بسهم وافر , وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته يكون نصيبه من هذه المراغمة ) .(33/390)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{7} وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ{8} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ{9} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا{10} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } .
وليعلم المستهزئون وأمثالهم أنَّ الله عز وجل متكفلٌ بحفظ دينه وحامٍ لحمى رسالته ، ولن تضير نبي صلى الله عليه وسلم سخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين ، فقد كفاه الله ذلك كله ، كما قال سبحانه : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } , قال الشيخ العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيرها : ( وهذا وعدٌ من الله لرسول صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضرّه المستهزئون ، وأنْ يكفيهم الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة ، وقد فعل الله تعالى ، فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول ا صلى الله عليه وسلم إلاَّ أهلكه الله وقتله شر قتلةٍ ) الله أكبر ولله الحمد .
اللهم يا حي يا قيوم انصر دينك وسنة نبيك وعبادك الصالحين , اللهم عليك بمن استهزأ بنبيك r , اللهم عليك به , اللهم عليك به , اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام , وصلى الله وسلم على سيد ولد آدم خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين .
وكتبه العبد الفقير إلى الله
في غرة محرم 1427
عبد الرحمن بن سعد الشثري
0555775888
( أغلب هذه الرسالة مختصرة من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الصارم المسلول على شاتم الرسو صلى الله عليه وسلم ) وألَّف كتابه هذا عندما قام رجل نصراني يُقال له عسَّاف بسبِّ صلى الله عليه وسلم , فأفتى شيخ الإسلام بقتله , فضرب نائب الأمير شيخَ الإسلام بسبب ذلك وسُجن , وذهب النصراني فقتله ابن أخيه قرب مدينة رسول ا صلى الله عليه وسلم , وخرج شيخ الإسلام من السجن رحمه الله رحمة واسعة .
=============(33/391)
(33/392)
الاستهزاء بالدين وأهله
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ، وعلى آله وصحبهِ ، ومن سار على نهجه وهَدْيِه : أما بعدُ :
فإن الناظر في أحوال هذه الأمة - اليوم - يجد أموراً عجيبة مُنْكَرةً !! ذلك أنَّ الإنحراف في حياة هذه الأمة مُتذبْذِبٌ بين الارتفاع والإنخفاض ، بحسب بعدها أو قربها من الألتزام الجاد بهذا الدين العظيم .
وأمراض هذه الأمة كثيرة موجعة ! وما لم يشخص المرض فلن ينجح الطبيب في وصف العلاج الناجع ، ومن ثم تتفاقم الأمور حتى تصل إلى نتائج لا تحمد عقباها .
ومن الأمراض الخطيرة في حياة الأمة ، مرض (( الإستهزاء بالدين وأهله )) سواء جاءت جرثومة هذا المرض من خارج هذه الأمة أو من داخلها - وكلا الأمرين واقع - فالنتيجة واحدة في خطورته إذ يكفي فيه أنه مخرج من الملة بالكلية .
تأمل - أخي القارئ - حياة وأحوال المستهزئين والساخرين في واقعنا - اليوم - تجد عجباَ ؛ وتحس بألم وحسرة يعتصر قلبك الذي أشرق عليه نور الإيمان .
أنظر - مثلاً - إلى كلام ينشر ويقرأ لشعراء الحداثة اليوم ، حَرِيٌّ أن يسمى بـ (( الإسهال العقلي )) تجد فيه كفراً بواحاً من خلال سخريتهم بالله واستهزائهم به وبرسوله وبدينه ، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك علواً كبيراً .
ثم تأمل أحوال كثير من الأعلاميين - وقد أصبح الإعلام اليوم سلاحاً من أخطر الأسلحة - تجد صنوفاً من السخرية والإستهزاء والضحك على ثوابتنا وقيمنا الشرعية .
• فهذا كتاب يهزأ بما بينه الله لنا في كتابه العزيز حول خلق آدم - عليه السلام - فيسخر هذا الكاتب من كلام الله ، ويزعم أن أصل الإنسان قرد !!
• وثان : يرسم (( كاريكاتيراً )) يسخر فيه من رسول ا صلى الله عليه وسلم وزواجه بتسع نساء .
• وثالث : يضحكُ ويغمز من يَحْكُمُونَ بشرع الله أو يطالبون بتحكيم شرعه ، ويسميهم بالأصوليين - المتطرفين ، الجامدين - أصحاب القرون الظلامية الضبابية .. إلخ .
• ورابع : يسخر من الحجاب ويطالب بطرد المحجبات من الإمتحان في كلية الطب !!
• وخامس : يهزأ باللغة العربية ، ويصفها بالجمود والتحجر ، ثم يدعو للعامية أو اللاتينية بديلاً عن لغة القرآن ، ويسخر من الأدب الرفيع لهذه اللغة مطالباً بأدب الفراش والخنا (1) بديلاً من ذلك السمو والعفاف !! .
• وسادس : يسخر من إقامة الحدود الشرعية ، ويرى في إقامتها بشاعة وفظاعة . ثم يدعو للبديل ، وهو أن يتحول المجتمع إلى عصابات وقطاع طريق بإسم الحضارة وحرية الإنسان ! .
بل وصل الحال إلى أن بعض المحسوبين على الدعوة والثقافة الإسلامية يهزأ ويغمز ليلاً ونهاراً بالمتمسكين بِسُنَّةِ سيد المرسلين ، ويصفهم بأصحاب العقول المريضة والعَتَهِ والسَّفَه ، بل وسخر من معجزات رسول ا صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيحين ، مثل حادثة شق صدر صلى الله عليه وسلم وهو صغير في بني سعد ، واستخراج جبريل - عليه السلام - لعلقة الشيطان من قلبه ، وحشوه إيماناً وكل ذلك ثابت في الصحيح على أمر وهيئة لا يستطيع العقل البشري إدراكها لقصوره وضعفه ، فيقوم هذا الساخر بإنكار هذا قائلاً : أنا رجل عقلي لا أؤمن إلا بما يصدقه عقلي ، وهل الإيمان سائل حتى نصبه في قوارير !!! .
هذه أنماط ذكرتها هنا لترى - أخي القارئ - خطورة الموضوع الذي نحن بصدده ، فإن المستهزئ لم يقدر الله حق قدره ، ولم يشعر بفداحة الجرم الذي إرتكبه وأحسب - والله أعلم - أن الإٍستهزاء بالدين وأهله لم يبحث بحثاً مستقلاً شاملاً ، يجمع شتاته ، ويكشف للناس عواره ، خاصة وإنه من الأمور التي قد تقع من الإنسان بدون قصد ! وهنا مكمن الخطر .
فإنه إن وقع بدون قصد فجرمه كبير ، وخطره على الإيمان عظيم ، وإن حصل بقصد فجرمه أكبر وأفظع ، وفي كلا الحالين لن يعذر هذا الهازل : (( قُلْ أَبالله وآياته وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) سورة التوبة آية : 65 ، 66 .
لذا رأيت - مستعيناً بالله تعالى - أن أدلي بدلوي في بيان هذا الناقض من نواقض الإسلام ، عسى الله أن ينفع به ، وعسى هذه الأمة أن تستيقظ وتنتبه للخوارم والمزالق التي تفسد عليها أمر دينها ، وعسى أن تأخذ امتنا دينها الحق بجدية وصدق لا بسخرية واستهزاء وهزل !! فإن الأمة الهازلة لا مكان لها في واقع الحياة والناس .
وإن أمة تأخذ دينها سخرية وضحك وتهمز وتغمز الدين وأهله لهي أمة قد تودع منها (( وَحَاقَ بِهِمْ ما كاَنُوا بهِ يَسْتَهزءُونَ )) سورة هود آية 8
هذا وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وفصول ستة هي :
الفصل الأول : خطورة الإستهزاء .
الفصل الثاني : بواعث الإستهزاء .
الفصل الثالث : الإستهزاء عقبة من عقبات الدعوة إلى الله تعالى .
الفصل الرابع : صور من مظاهر الإستهزاء .
الفصل الخامس : عقوبة وجزاء المستهزئين .
الفصل السادس : موقف المسلم من الساخرين والمستهزئين .(33/393)
وختاماً : أشكر ربي وأحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، على مايسر وأعان وسدد ، ثم أشكر أخواني الفضلاء من أهل العلم وطلابه الذين ساعدوني بمشورة أو رأي أو فكرة أو كتاب .
أجزل الله لهم المثوبة ، ورزقنا جميعاً الإستقامة والجدية في ديننا ودنيانا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه :
محمد بن سعيد بن سالم القحطاني
قسم العقيدة بجامعة أم القرى
مكة المكرمة - حرسها الباري
الفصل الأول : خطورة الاستهزاء
الاستهزاء خُلق من أخلاق أعداء الله ، تخلق به الكفار والمشركون ، وتخلق به المنافقون الذين احترقت أحشاؤهم على دين الله وأهله .
ولذلك كشف الله - تعالى - هذا الخُلُقَ لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ووردت آيات كثيرة في كتاب الله تبين موقف الأنبياء والرسل من هذا الخلق الرديء وأصحابه ، بل صرحت هذه الآيات بكفر هؤلاء الهازلين المستهزئين .
وثابت من سيرة رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه أرحم الناس بالناس ، وأقبل الناس عذراً للناس ، ومع ذلك كله لم يقبل عذراً لمستهزئ ، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك ، فحين سخر به وبأصحابه من سخر في مسيره لمعركة تبوك - كما سيأتي تفصيل ذلك - وجاء الهازلون يقولون : إنما كنا نخوض ونلعب : لم يقب صلى الله عليه وسلم لهم عذراً ، بل أخذ يتلو عليهم الحكم الرباني الذي نزل من فوق سبع سماوات : (( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) سورة التوبة آية : 65 ، 66 .
ولكي ندرك خطورة وفداحة ما أرتكبوه : ننظر إلى ملابسات حالهم ، فنجد أنهم قد خرجوا في الغزو مع رسول ا صلى الله عليه وسلم وتركوا الأهل والأزواج والأولاد والأوطان ، وكان خروجهم في فصل الصيف ، وشدة حرارته معلومة ! وتعرضوا للجوع الشديد والعطش الأليم ، ومع هذ1 كله لم يشفع لهم حال من هذه الأحوال حين أستهزأوا برسول ا صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة الأجلاء .
أما علماء الأمة المحمدية فقد انعقد إجماعهم - رحمهم الله - في الماضي والحاضر على أن الإٍستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح ، يخرج من الملة بالكلية ، ولكي يتضح لك هذا الأمر جلياً : تأمل حال المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار تجد أنهم من أشد الناس هزءاً وسخرية بالله وآياته ورسوله والمؤمنين ، وذلك أمر مخرج لهم عن الدين بالكلية قال - تعالى - عنهم :
(( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون * الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين )) سورة البقرة آية : 13 - 16 .
ومن أجل خطورة الاستهزاء فقد أبرزه العلماء - رحمهم الله - في كتاب الردة من كتب الفقه الإسلامي ، ولا شك أن الردة أعظم كفراً من الكفر الأصلي كما هو معلوم عند أهل العلم .
يقول أبن قدامة المقدسي - رحمه الله - : من سب الله - تعالى - كفر سواء مازحاً أو جاداً ، وكذلك من أستهزأ بالله - تعالى - أو بآياته أو برسله أو كتبه (1) .
وقال النووي - رحمه الله - : والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين صريح (2) .
ونقل القرطبي - رحمه الله - عن القاضي ابن العربي - وهو يشرح موقف المستهزئين في غزوة تبوك - قوله : لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جاداً أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفر ، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو العلم والحق ، والهزل أخو الباطل والجهل (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر ، يكفر به صاحبه بعد إيمانه (4) .
أما الإمام المجدد ، الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فقد عقد باباً في كتابه القيم كتاب التوحيد عنونه بقوله : باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول أي فقد كفر (5) .
ولعل الإمام محمد بن عبد الوهاب أبرز علماء الأمة في جعل الإستهزاء ناقضاً صريحاً من نواقض الإسلام العشرة ذكر أن الناقض السادس هو الاستهزاء بشيء من دين الرسو صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه(6) .
هذا وممن قال بكفر المستهزئ بالدين ، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - (7) .
فقد اتفقت فتاويهم على أنه كافر خارج من الملة .(33/394)
ولما كان كتاب الله هو كتاب التربية الإسلامية الحقة ، فقد حذر الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين ونهاهم عن خلق السخرية والاستهزاء ، لكي يقوم المجتمع المسلم على الصدق والحق والاحترام والجدية ، بعيداً عن عيوب الجاهلية وأخلاقها ، يقول - سبحانه - : (( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب ، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )) . سورة الحجرات آية : 11 .
يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسيرها ( ينهى - تعالى - عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الكبر بطر الحق وغمط الناس . ويروى (( وغمط الناس )) ، المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام ) (8) .
ويقول الإستاذ سيد قطب - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : ( إن المجتمع الفاضل الذي يُقيمُهُ الإسلام بهدْي القرآن ، مجتمع له أدب رفيع ، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس ، وهي من كرامة المجموع ، ولمز أي فرد هو لمز للنفس ذاتها ، لأن الجماعة كلها وحدة ، كرامتها واحدة ، والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب : (( ياأيها الذين آمنوا )) وينهاهم أن يسخر قوم من قوم أي رجال من رجال ، فلعلهم خير منهم عند الله ، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله .
وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير ، والرجل القوي من الرجل الضعيف ، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخامل ، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم ، وذو العصبية من اليتيم ، وقد تسخر الجميلة من القبيحة ، والشابة من العجوز ، والمعتدلة من المشوهة ، والغنية من الفقيرة ، ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس ، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين .
ومن السخرية واللمز : التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ، ويحسون فيها سخرية وعيباً ، ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به ) (9) .
وخلاصة القول : إن الاستهزاء بالدين وأهله ناقض للإيمان ، سواء كان هذا الاستهزاء خفياً أم ظاهراً .
يقول ابن تيمية - رحمه الله - : ( الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده ، والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك ) (10) .
الفصل الثاني : بواعث الاستهزاء
حين يذكر الاستهزاء بالدين وأهله : يتبادر إلى الذهن سؤال بتعجب : لماذا هذا الاستهزاء ؟ ولماذا هذه السخرية ؟! .
ألسنا على الحق ؟ ألسنا من استجاب لداعي الله وآمن به ؟! .
فلماذا يسخر الناس بنا وبديننا ؟!! .
وللإجابة على ذلك أقول : إن للاستهزاء بواعث وعوامل انطوت على نفوس الهازلين الساخرين ، لعل من أهم هذه البواعث والأسباب ما يلي :
1) الكره والحقد من الملأ لهذا الدين العظيم : فإن الله - سبحانه وتعالى - جعل هذا الإسلام طريقاً وحيداً فريداً لصلاح الدنيا والآخرة (( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون )) سورة الأنعام آية : 153 . فهذا الدين ينشئ الحياة من جديد ، نشأة فريدة ، على نمط فريد عما عهده الناس .
إنه يقلب موازين الجاهلية ، لينشئ - بإذن الله - في هذه الحياة أمة متميزة في كل شئ ، متميزة في فكرها وشعورها ، وسلوكها ، وموازينها ، ومن ثم فإن هذا الأمر لن تقابله الجاهلية - في القديم أو الحديث - بسهولة وترحاب !! كلا بل ستعانده وتقاومه بكل ما أوتيت من قوة ، وبكل حقد وكراهية .
إنها تفعل ذلك ( وهي عالمة بما فيه من الحق والخير ، وبأنه هو الذي يقوِّم ما أعوج من شؤون الحياة ، وتكرهه لأنها حريصة على هذا العوج لا تريد تقويمه ، وتود أن تبقى الأمور على اعوجاجها ولا تستقيم . تكرهه لأنها هي الجاهلية .. وهو الإسلام ) (11) .
قال - تعالى - : (( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى )) سورة فصلت ، آية : 17 .
(( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ظلال مبين )) سورة الأعراف ، آية : 59 - 60 .
(( وإلى عاد أخاهم هوداً قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة )) سورة الأعراف ، آية : 65 - 66 .
(( ولوطاً إذا قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) سورة الأعراف ، آية : 80 - 82 .(33/395)
إن هذا الكره الذي تصبه الجاهلية على دين الله وعلى الملتزمين به نابع من : (( خشيتها على كيانها ومصالحها وشهواتها وانحرافاتها من النور الجديد ، فهي تحس في دخيلة نفسها مقدار ما انحرفت عن الحق ، وحكمت الهوى واستسلمت للشهوات ، وتحس مقدار ما تحرمها العقيدة الصحيحة حين تحكم الأرض من مصالح ومنافع وشهوات اختلستها اختلاساً في غيبة النور ... يستوي في ذلك الذين استكبروا والذين هم مستضعفون ، فلكل في الجاهلية مصالح ومنافع وشهوات يحرص عليها )(12) .
وحين أرسل اللهمحمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بهذا الدين حرر الناس من عبودية البشر وعُبّدوا لله الواحد الأحد ، ومن ثم أصبح الولاء لله وحده ، وليس للعشيرة أو القبيلة كما كان ولاء الجاهلية ، هذا الأمر قد أزعج الملأ الذين يريدون أن يكون الولاء لأشخاصهم وليس لله وحده .
ويأتي بعد الملأ طبقات متعددة من الأمة تكره هذا الدين وتستخدم سلاح السخرية والاستهزاء لمعارضة هذا الدين وأهله ، ومن هؤلاء كتاب وقصاصون وإذاعيون وفنانون ونساء فاجرات متحررات من كل فضيلة ، وأصحاب خمور ومخدرات وغيرهم وغيرهم . يفعلون ذلك لأن عملهم قائم على التجارة المحرمة التي إذا قام دين الله جفف ذلك المستنقع القذر الذي يعيشون في وحله ويتكاثرون في دنسه (13) . إن الحرص الشديد لأعداء الله على طمس وتشويه صورة الإسلام الناصعة أمر لا يجادل فيه إلا مكابر ، لذا لا غَرْوَ إذا استخدمت السخرية والهزء سلاحاً فتاكاً لتشويه هذه الصورة ونشر الضباب المعتم على وجهها المشرق ، ولكن الله مُتِمُّ نورِهِ ولو كره الكافرون .
2) ومن بواعث الاستهزاء :
النقمة على أهل الخير والصلاح : (( إنهم أناس يتطهرون )) سورة الأعراف ، آية : 82 . فمن المعلوم أن أهل الشر والفساد يزعجهم ويعكر صفو باطلهم وما هم عليه ذلك الطهر والعفاف الذي يتحلى به الأخيار ، لهذا يسعى أولئك المفسدون إلى تشويه سمعة أهل الخير ، ويسخرون منهم ويغمزونهم (( إنهم أناس يتطهرون )) فعلى منطق هؤلاء المفسدين لا بد من تحويل المجتمع كله إلى مجتمع رذيلة وسقوط ودنس ، أما أن يبقى في الأمة أصحاب طهر وعفة فهذا أمر لا يطيقه الأشرار (( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) . سورة البروج ، آية : 8 .
3) ومن بواعث الاستهزاء والسخرية : الفراغ وحب الضحك على الآخرين :
فإن الإنسان حين يفقد الهدف الأسمى الذي من أجله جاء لهذه الحياة ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، حين يفقد ذلك يحس - ولا شك - بفراغ قاتل في حياته ، لذا سرعان ما يتجه لدروب الشيطان التي تملأ عليه الفراغ ، ولو كان ذلك بالاستهزاء بالله وآياته ، ورسوله ، والمؤمنين ، وبعض النفوس المريضة لا تتلذذ إلا بالضحك على الناس والاستهزاء بهم ، والسخرية بخلقتهم وأفعالهم ، والافتراء عليهم ، وقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ، فقال في الحديث الصحيح : " وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله - تعالى - ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة " (14) .
وقد حذر رسول ا صلى الله عليه وسلم هذا الضاحك المضحك الهازل بقول صلى الله عليه وسلم : " ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم . ويل له ويل له " (15) . وفي المسند : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا " (16) .
أرأيت هذه النصوص العظيمة من الصادق المصدوق r إنها تصور واقع كثير من الهازلين المستهزئين المضحكين ، يختلقون الأكاذيب وأساليب الغمز واللمز بالمؤمنين والمؤمنات ليضحك أحدهم ويضحك الآخرين ، وكم ضاحك بملء فيه والله ساخط عليه ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
4) ومن بواعث الاستهزاء :
الكبر والنظر للنفس بالعجب والإكبار ، وللغير بالمهانة والاحتقار ، وقد ضرب الله على ذلك أمثلة في كتابه العزيز منها ما في سورة الكهف في قصة الرجلين حيث قال أحدهما للآخر : (( أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً )) سورة الكهف ، آية : 34 . وفي هذا الخلق المذموم يقول العلامة السفاريني : (( المستهزئ بغيره يرى فضل نفسه بعين الرضا عنها ، ويرى نقص غيره بعين الاحتقار ، إذ لو لم يحتقر غيره لما سخر منه ))(17) . ثم يقول : (( كل من افتخر على إخوانه واحتقر أحداً من أقرانه وإخوانه أو سخر أو استهزأ بأحد من المؤمنين ، فقد باء بالإثم والوزر المبين )) (18) . وخلق الكبر الممزوج بالاستهزاء بالغير من أخلاق فرعون قال الله - تعالى - عنه إنه قال عن نبي الله موسى - عليه السلام - : (( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين )) سورة الزخرف ، آيه 52 .
يقول العلامة ابن كثير : (( وهذا الذي قاله فرعون - لعنه الله - كذب واختلاق ، وإنما حمله هذا على الكفر والعناد ، وهو ينظر إلى موسى - عليه السلام - بعين كافرة شقية ، وقد كان موسى - عليه السلام - من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب . وقوله : ( مهين ) كذب ، بل هو المهين الحقير خلقة وخلقاً وديناً ، وموسى هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد )) (19) .(33/396)
(( وعند الجماهير الساذجة الغافلة لا بد أن يكون فرعون الذي له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته خيراً من موسى - عليه السلام - ومعه كلمة الحق ومقام النبوة ودعوة النجاة من العذاب الأليم )) (20) .
إن حب الظهور والرياء والسمعة على حساب الآخرين خلق من أخلاق ذوي السخرية والاستهزاء وأصحاب النفوس المريضة ، فهم كالنباتات السامة الضارة التي تتسلق على الأشجار الباسقة والثمرات الطيبة لتفسدها وتشوه صورتها .
ولهذا لا غرابة أن نجد أصحاب الكبر والإعجاب بالنفس يتخلقون بخلق السخرية وغمز ولمز المؤمنات لما انطوت عليه تلك النفوس الشريرة .
5) ومن بواعث الاستهزاء :
التقليد الأعمى لأعداء دين الله ، حدث هذا في الماضي ، فقال الله فيهم : (( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) سورة الذاريات ، آية : 52 - 53 .
( كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون ، وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين ) (21) .
ويحدث هذا في الحاضر ممن مسخت عقولهم وفتنوا بالحضارة الغربية ، ذلك أن انبهارهم بزيف وبريق هذه الحضارة وضحالة فكرهم ، وقلة ثقافتهم بدينهم ، جعلهم ينعقون بالسخرية والاستهزاء بدين الله وأحكامه وشرائعه وسنن نبي صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت أو سمعت يهودياً أو صليبياَ يهزأ بشرع الله ويقول : إن رجم الزاني فيه وحشية وقسوة وجدت له تابعاً وإمَّعَةً من أبناء المسلمين يردد بسخرية مقالة ذلك العدو الأصلي ، وإن أردت مزيد إيضاح فتأمل موقف هؤلاء المقلدة من المخترعات الغربية وغيرها ، تجدهم يمجدونها وينبهرون بها ، وإذا ذكرت السنن النبوية ومعجزات رسول ا صلى الله عليه وسلم والأمور الشرعية التي يعجز العقل البشري عن إدراكها ، سمعت منهم الغمز واللمز ، والاستهزاء (( أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) وقد قال ربنا عن هؤلاء المقلدة إنهم قالوا : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )) سورة الزخرف ، آية : 23 .
6) ومن بواعث الاستهزاء :
حب الدرهم والدينار وتحصيل المال بأي صورة كانت ولو أدى ذلك إلى الكفر بالله !! .
ونلحظ هذا الأمر في طائفة ( الممثلين ) في العصر الحاضر الذين يقدمون للناس أفلاماً ومسرحيات هزلية ، ويستجلبون الضحكات وكل ذلك ليرتزقوا من وراء هذا العمل الدنس ، ولهذا لا تعجب وأنت تقرأ في الصحافة عن الأرقام الضخمة التي تصرف لهؤلاء المهرجين والهازلين المشهورين بهذه المهنة . فقد أصبحت السخرية وإضحاك الآخرين فناً وبطولة ونجومية عند من لا يعقلون !!! والأدهى من ذلك أن بعض الذين يعلقون يعجبون بهذا السفه ويرددونه في مجالسهم ومنتدياتهم !! هذه أهم البواعث في نظري وقد يكون هناك أمور أخرى لا تخفى - إن شاء الله على فطنة القارئ الجاد .
الفصل الثالث : الاستهزاء عقبة من عقبات الدعوة إلى الله تعالى
يشكو كثير من الدعاة من عنت الاستهزاء والمستهزئين ، ولكنهم حين يتأملون سيرة الأنبياء والرسل - عليه الصلاة والسلام - وهم أشرف خلق الله - يجدونهم قد استهزئ بهم وسخر منهم ، فيكون في ذلك عزاء لهم مما يلاقونه من هؤلاء الساخرين ، قال - تعالى - : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً )) سورة الفرقان ، آية 31 . ويقول - سبحانه - : (( وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون )) . سورة الزخرف ، آية 6 - 7 ويقول - سبحانه - : (( ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون )) . سورة يس ، آية 30 .
هذا نبي الله نوح - عليه الصلاة والسلام - الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يقابل بالسخرية والاستهزاء ، فقومه يضحكون به ويسخرون منه حين رأوه يصنع السفينة ؛ قال الله - تعالى - : (( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم )) . سورة هود ، آية : 38 - 39 .
وقال - تعالى - عنهم إنهم قالوا : (( ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين )) (22) سورة المؤمنون ، آية 24 - 25 .
ونبي الله هود - عليه السلام - أرسله الله إلى عاد فسخروا منه وقالوا : (( أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )) سورة الأعراف ، آية : 70 . (( قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء )) سورة هود ، آية 53 - 54 .(33/397)
ونبي الله صالح - عليه السلام - أرسله الله إلى ثمود فأجابوه بهذا الجواب : (( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون * فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين )) سورة الأعراف ، آية : 75 - 77 .
وهذا نبي الله لوط - عليه السلام - أرسله الله إلى قومه فنهاهم عن فاحشة اللواط ، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء فأجابوه بـ (( وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) سورة الأعراف ، آية : 82 . وفي سورة النمل ، آية : 56 . جاء قوله - تعالى - : (( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) .
وهذا شعيب - عليه السلام - يقابله قومه بالسخرية والإستهزاء فيصبر ويحتسب قال الله عنهم : (( قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )) سورة هود ، آية 87 .
يقولون هذا على سبيل الإستهزاء والتنقص والتهكم (23)
أما نبي الله موسى - عليه السلام - فقد قوبل بسخرية لاذعة واستهزاء مهين من بني إسرائيل قال - تعالى - : (( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )) سورة البقرة ، آية 67 .
قال ابن عطية - رحمه الله - في معنى قوله : (( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )) يحتمل معنيين : أحدهما الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله - تعالى - مستهزئاً .
والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم : (( أتتخذنا هزواً )) لمن يخبرهم عن الله - تعالى - (24) .
أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد لاقى من الاستهزاء والسخرية ما تتفطر له القلوب ، واج صلى الله عليه وسلم سخرية قبائل العرب المشركين في الفترة المكية ، وواجه سخرية واستهزاء المنافقين واليهود في الفترة المدنية - قال تعالى - : (( وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون )) سورة الأنبياء ، آية : 36 .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( فاستهزأوا بالرسو صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك ، ومازال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون ، إذا دعوهم إلى التوحيد ، لما في أنفسهم من عظيم الشرك وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك ، لما عنده من الشرك ) (25) .
ويقول - سبحانه - عنهم : (( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً )) سورة الفرقان ، آية : 41، 42 .
قال ابن اسحاق : ثم أن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول ا صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول ا صلى الله عليه وسلم سفائهم فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون .. مر بهم r طائفاً بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرف ذلك في وجه صلى الله عليه وسلم ثم مر بهم ثانية فغمزوه ، ثم الثالثة بمثلها فوقف ثم قال : أتسمعون يامعشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع (26) .
وقد وصف الله همزهم وغمزهم بل صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه - : (( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون )) سورة القلم ، آية 51 .
وهكذا الدعاة إلى شرعه وسنته ، يلاقون الاستهزاء والسخرية وتلك سنة باقية إلى يوم الدين .
ولهذا فإن عقبة الاستهزاء تصدم بعض الدعاة وآخر تفت في عضده وآخر تقهقره وتجنبه وآخ لا تزيده إلا صلابة في الحق وإصراراً على الاستمرار في منهج الإصلاح ومقاومة الباطل وهذا النمط الأخير هو الذي تحتاجه الأمة ، وهو زاد الدعوة إلى دين الله الحق لأن صاحبه ينظر إلى أقوال الأنبياء والرسل - كما مرت بك آنفاً - فيعلم ويستيقن أنه وارث لتركتهم وهم لم يخلفوا للناس إلا دعوة الخير والتوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتثاث الفساد من الأرض ، ولهذا لا يعبأ بهذا الاستهزاء ولو كدر خاطره فإنه من الأذى الذي لا بد منه في سبيل الدعوة ، ولهذا فقد ربح بيعه لا يقيل ولا يستقيل .
الفصل الرابع : صور من مظاهر الاستهزاء
تتنوع مظاهر الاستهزاء حسب ما يصدر من المستهزئ أو الساخر فقد تكون السخرية بالكلام ، وهذا النوع أكثر من أنواع الاستهزاء قديماً وحديثاً . وقد تكون السخرية بالإشارة غمزاً بالعين ، أو إخراج اللسان وقد تكون بحركة اليد .
ونظراً لكثرة صور الاستهزاء فقد قسمت هذا الفصل إلى المباحث التالية
المبحث الأول : صور الاستهزاء بالله - سبحانه وتعالى - .
المبحث الثاني : صور من الاستهزاء برسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه .(33/398)
المبحث الثالث : صور من الاستهزاء بشعائر الإسلام وسنن سيد الأنام .
المبحث الرابع : صور من الاستهزاء بالمؤمنين .
وإليك بيان ذلك :
المبحث الأول
صور من الاستهزاء بالله - سبحانه وتعالى -
إن من بدهيات الدين : أن الله - سبحانه وتعالى - واحد ، أحد ، فرد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، أول بلا إبتداء آخر بلا انتهاء ، هو القوي العزيز ، الجبار الكبير ، المتعال ، الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء ، له صفات الكمال والجلال : (( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )) سورة الشورى ، آية 11 .
غير أن الذين كفروا بالله لم يقدروا الله حق قدره ، فكان من أقبح كفرهم الاستهزاء بالله - سبحانه وتعالى - والسخرية به نعوذ بالله من ذلك - ومن صور الاستهزاء بالله مايلي :
1) مايقوله الماديون الملحدون ( لا إله ، والكون مادة ، والطبيعة تخبط خبط عشواء ولا حدّ لقدرتها على الخلق ) (27) .
ويمثل هذه الصورة كل شيوعي ماركسي مادي ، ولو نطق بالعربية الفصحى ! .
2) تربى على الفكر المادي الإلحادي شرذمة من الناطقين باللغة العربية ، وجاءوا بغثاء من القول سموه شعراً حراً أرادوا من خلاله التمرد على كل ثوابت هذه الأمة فسخروا بالله واستهزأوا به وتجرأوا جرأة لم يكد يسبق إليها ، وحين تقرأ كلامهم تجد كفراً بواحاً تقشعر منه الجلود ، وإليك أمثلة من كلام هؤلاء :
• يقول عبد العزيز المقالح الذي هو من روادهم - وبعض الببغاوات لدينا يصفه بنبي الحداثيين - : (( صار الله رماداً ، صمتاً رعباً في كف الجلادين . حقلاً ينبت سبحات وعمائم بين الرب الأغنية الثروة والرب القادم من هوليوود ، كان الله قديماً حباً ، وكان نهاراً في الليل أغنية تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض )) (28) .
3) ومن الاستهزاء بالله - تعالى - ما قاله الشيوعي الحداثي عبد الوهاب البياتي :
(( الله في مدينتي يبيعه اليهود ، الله في مدينتي مشرد طريد ، أراده الغزاة أن يكون لهم أجيراً شاعراً قواداً ، يخدع في قيثارة المذهب العباد لكنه أصيب بالجنون ، لأنه أراد أن يصون زنابق الحقول من جرادهم أراد أن يكون .. )) (29) .
هل سمعت كفراً واستهزاء وسخرية بالله كهذه السخرية ؟! تعالى الله عما يقول المجرمون علواً كبيراً ثم ما أسم هذا الزنديق ؟ عبد الوهاب !! .
4) أما شاعر المزبلة الفكرية نزار قباني فاسمعه يقول في قصيدة بعنوان أصهار الله :
وهل غلاء الفول والحمص والطرشي والجرجير شأن من شؤون الله ؟!! (30) .
(( ياإلهي … إن تكن رباً حقيقياً فدعنا عاشقينا )) (31) .
5) وشيوعي حداثي آخر اسمه محمود درويش يقول :
نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير (32) .
6) أما كبيرهم الذي علمهم السحر بدر شاكر السياب فهو القائل :
فنحن جميعاً أموات . أنا ومحمد والله وهذا قبرنا أنقاض مئذنة معفرة ، عليها يكتب اسم محمد والله (33) . ثم يقول : (( وإن الله باق في قرانا ما قتلناه ، ولا من جوعنا يوماً أكلناه )) (34) . تعالى الله وتقدس عن هذا الكفر والنقائص !!! .
هذا غيض من فيض مما ينعق به هؤلاء الملاحدة ثم بعد ذلك يمجدون ويحمدون ويرفع شأنهم ولكن لا عليك فإن ربك - سبحانه - يقول : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) سورة المائدة ، آية 51 .
المبحث الثاني
صور من الاستهزاء برسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه
إن الله - سبحانه وتعالى - قد عظَّم قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته ، ورد الأمر إليه فقال - سبحانه وتعالى - (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) سورة الحشر ، آيه 7 . وقال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )) سورة النساء ، آية 59 . ويقول تعالى : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )) سورة النساء ، آية 65 .
هذا النبي الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجوز غمزه ولا الاستهزاء به ، فمن فعل ذلك فقد كفر بالله وخرج من الملة ، وإليك طرف من صور الاستهزاء بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
1) في غزوة تبوك التي حل بالمسلمين فيها من النصب والتعب والجوع والعطش الشئ الكثير : استهزأ برسول ا صلى الله عليه وسلم من استهزأ ، فنزل الوحي من فوق سبع سماوات يعلن كفر هؤلاء المستهزئين : قال تعالى : (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين )) سورة التوبة ، الآيتان 65 ، 66 .(33/399)
ورد في سبب نزولها عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قرآءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عن اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يارسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب فقال : (( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون )) إلى قوله (( مجرمين )) . وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول ا صلى الله عليه وسلم (35) .
وقال قتادة : بينما رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين إذ قالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات له ذلك !! فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال نبي ا صلى الله عليه وسلم : (( احبسوا علىَّ الركب )) فأتاهم فقال : (( قلتم كذا وكذا )) ، فقالوا يارسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (36) .
قال ابن إسحاق : ( وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بني عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشن بن حميّر يشيرون إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين ، فقال مخشن بن حميّر : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر : (( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا )) فانطلق إليهم عمّار فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول ا صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت - ورسول ا صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته ، فجعل يقول - وهو آخذ بحقبها - : يارسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله - عز وجل - : (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب )) .
فقال مخشن بن حمير : يارسول الله ؛ قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يُقتل شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر ) (37) .
2) ومن صور الاستهزاء : ماحدث - أيضاً - في الطريق إلى تبوك حيث ضلت ناقة الرسو صلى الله عليه وسلم فقال زيد بن اللُّصيت - وكان منافقاً - : أليس يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : إن رجلاً يقول وذكر مقالته ، وإني والله لا أعلم إلا ماعلمني الله ، وقد دلني الله عليها ، هي في الوادي في شِعْب كذا وكذا ، وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فأتوه بها (38) .
3) ولقد تبجح المستهزءون برسول ا صلى الله عليه وسلم في عصرنا الحاضر بألفاظ كفرية ملحدة ، تقشعر منها الأبدان ، ومن ذلك شعراء الحداثة - إن كان يصح تسميتهم بشعراء - فقد وقعوا فريسة للأفكار الإباحية الكفرية التي استوردت من مذاهب أدبية غربية وشرقية كافرة .
إنهم من بني جلدتنا ويتسمون بأسمائنا ، وهم أخطر على ديننا من أعدائه الأصليين ، هذا شويعر اسمه محمد جبر الحربي يقول وبئس ما يقول :
أرضنا البيد غارقة
طوف الليل أرجاءها
وكساها بعسجده الهاشمي
فدانت لعاداته معبدا . (39)
ترى هل عرفت هذه الأرض غير محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم الهاشمي الذي أخرج الله به هذه الأمة من الجاهلية إلى الإسلام ، ثم يتجرأ هذا الوغد فيطلق على ديننا اسم الليل والظلام ؟!! .
4) ومن صور الاستهزاء برسول ا صلى الله عليه وسلم ما رسمه صلاح جاهين رسام الكاريكاتير المعروف حيث صور صورة هزلية في جريدة الأهرام رسم فيها رجلاً بدوياً يرمز به إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم يركب حماراً في وضع مقلوب ليكون رمزاً للرجعية ، وفي أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات وعنوان الرسم محمد أفندي جوز التسعة (40) . وهذا من أقبح الهجوم والاستهزاء والسخرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم
5) ومن السخرية بسنة الرسو صلى الله عليه وسلم ما هزأ به محمد الغزالي حيث أورد حديث : (( لن يفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة )) . يسخر من هذا الحديث ، ويذكر أن بلقيس وفكتوريا وأنديرا غاندي وجولدا مائير قد أفلحن بأممهم إلى آخر ما ذكر (41) مع أن الحديث مخرج في صحيح البخاري .
6) ومن السخرية برسول ا صلى الله عليه وسلم السخرية بالرجال الذين حملوا دينه ، ومن ذلك أن غِرّاً حداثياً كتب ساخراً يقول : حدثنا محبط بن محبط عن جاهل (42) !! .(33/400)
وزميل له يقول : حدثنا الشيخ إمام عن صالح عبد الحي عن سيد بن درويش عن أبيه عن جده (43) . وهذا منتهى الجرأة على حملة دين الله الذين هم رجال الإسناد ، تلك المفخرة العجيبة لهذه الأمة التي لم تستطع أمة في الأرض ، أن تنال مثل شرف علم الرواية وتمحيص رجال الإسناد للأقوال فكانت هذه المنقبة مأدبة سخرية عند دهاقنة العبث والإلحاد .
7) كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - دقيق الساقين ، وقد خرج في أحد الأيام يجتنى لرسول ا صلى الله عليه وسلم سواكاً من الآراك ، وكانت الرياح تكفؤُهُ بسبب دقة ساقيه فضحك القوم فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي في يده لهما أثقل في الميزان من أحد )) (44) .
8) وهذا كاتب ساخر يهزأ بأبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - فيقول : ( عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث يوم القيامة وحده ) (45) . وهكذا يُشَبه رمز من رموز العفن الفني وأصحاب السقوط الأخلاقي وسفِلةِ الناس بأصحاب رسول الله الأبرار الأطهار ؟! .
المبحث الثالث
صور من الاستهزاء بشعائر الإسلام وسنة سيد الأنام
قال الله تعالى : (( ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً )) سورة الكهف ، آية 56 . وقد ذكر العلماء أن الاستهزاء بآيات الله وشرعه من أشد أنواع التكذيب (46) . وقال تعالى : (( بل عجبت ويسخرون * وإذا ذُكِّروا لا يذكُرُون * وإذا رأوا آية يستسخرون )) سورة الصافات ، الآيات 12 ، 14 .
إن الحقيقة المرة التي نشاهدها اليوم هي أن الاستهزاء الفاضح والسخرية اللاذعة بدين الله وشريعته وسنة نبيه واضحة لكل ذي عينين وسأضرب أمثلة لهذه الصورة المشينة والتي تلتقي كلها على حرب دين الله وهدمه .
1) الاستهزاء ببعض مسائل عقيدة أهل السنة والجماعة كبعض الصفات الثابتة - لربنا - سبحانه وتعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى واليدين ، وغير ذلك مما هو في حكم المعلوم بالضرورة من معتقد أهل السنة والجماعة فإنك تجد كل مبتدع خرج على منهج أهل السنة يهزأ ويسخر بمن يثبت هذه الصفات على الوجه اللائق بالله ، والمؤولة يحملون وزر هذا الاستهزاء والسخرية فإنهم في مقام من يستدرك على الله وعلى رسوله ، وإلا فما معنى أن يرد حديث النزول وهو من الأحاديث المتواترة ، ثم تجد من يهزأ بذلك ويقيس صفات الخلق على صفات الخالق - تعالى - ربنا وتقدس عن ذلك علواً كبيراً !!! .
2) الاستهزاء بتحكيم الشريعة الإسلامية ووصمها بأنها شريعة الرجعيين والأصوليين ، وأن فيها وحشية ! إذ كيف تقطع يد السارق ويُرجم الزاني المحصن !!! .
وفي هذا يقول الداعية الموفق المسدد الشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمه الله - : هذا من أعظم طعن بجناب الله العظيم وإلحاد في أسمائه ، وتفضيل لخططهم وآرائهم على حكم الله ومراده ، ففي قولهم هذا إنكار لعلمه الواسع المحيط بكل شئ ، وتنديد بحكمته ورحمته ، فلم يجعلوا الله عليماً بما يصلح أحوال الناس في كل عصر ، ولا حكيماً يشرع لهم ما يصلح أحوالهم ، بل تمادى ورثة المنافقين في هذا الزمان فزعموا أن أحكام الله في شرعه قاسية لا تناسب الإنسانية !! وهذا يقتضي أن الله ليس رحيماً لأن شريعته مبنية على القسوة والخمول لا على الحكمة والرحمة ، فقد ارتكسوا في أبشع دركات النفاق غاية الإرتكاس . (47)
إن هذا الهلع والجزع من تحكيم الشريعة والذي يعقبه ويسبقه سخرية بهذه الشريعة خاصة من العلمانيين الذين لايريدون لهذه الأمة أي خير ، إن ذلك كله ليذكرنا مقولة قريش حيث أتاهم رسول ا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فقالوا : (( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا )) (48) . سورة القصص ، آية 57 .
ومنطق العلمانية اليوم التي تهاجم تحكيم شريعة الله هو بذاته منطق فرعون ، حيث قال لقومه محذراً من دين الله الحق الذي أتى به موسى - عليه السلام - قال فرعون : (( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد )) سورة غافر ، آية 26 .
هذا هو منطق المعادين لله ولدينه في كل عصر ومصر قال تعالى : (( أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) سورة الذاريات ، آية 53 .
3) ومما يؤكد هذا الفزع لدى أعداء الله نشرهم للصور التي تهزأ بالمتدينين المطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية ، ومن هذا ما نشرته ( روز اليوسف ) حيث أخرجت للناس رسماً كاريكاتيرياً تصور فيه شاباً متديناً له لحية طويلة جداً يؤذن في منارة مسجد ، فبدلاً من أن يقول : حي على الفلاح قال : حي على السلاح !!! .
ثم رسمته في وضع آخر وهناك يد خفية تدس في رأسه شريط ( كاسيت ) وفي فمه مسدس (49) !!!! .
وهكذا ترى هذه السخرية اللاذعة كلها حرب على شباب الصحوة الإسلامية المباركة التي تجتاح الكرة الأرضية اليوم ، ولله الحمد والمنة .(33/401)
ولهذا أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الشأن بما نصه : ( الاستهزاء بالإسلام أو بشيء منه كفر أكبر …… ومن يستهزئ بأهل الدين والمحافظين على الصلوات من أجل دينهم ومحافظتهم عليه ، يعتبر مستهزئاً بالدين ، فلا تجوز مجالسته ، ولا مصاحبته بل يجب الإنكار عليه ، والتحذير منه ، ومن صحبته ، وهكذا من يخوض في مسائل الدين بالسخرية والاستهزاء يعتبر كافراً ) (50) .
4) الاستهزاء بالصلاة قال تعالى : (( وإذا ناديتم إلى الصلاة أتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )) سورة المائدة ، آية 58 .
كم سمعنا من ساخر بالصلاة والمصلين ، فهذا سفيه مستهزئ يقول : أيها المصلون إذا ذهبتم للجنة فخذونا معكم !!! .
وهذا نفعي مستهزئ يستقدم عاملاً كافراً مفضلاً إياه على العامل المسلم ثم يتبجح بقوله : لو أتينا بمسلم لأشغلنا وقطع وقتنا وعملنا بالصلاة !! .
5) السخرية بحجاب المرأة المسلمة . وهذا من أكثر صور الاستهزاء المنتشرة اليوم حيث تشن حرب مسعورة محمومة على الحجاب والمحجبات ، يقود هذه الحرب الدنسة أصحاب الميل للشهوات ، والمتاجرون في سوق النخاسة بأعراض الناس . تقول أمينة السعيد - وما أخالها أمينة - عجبت لفتيات مثقفات يلبسن أكفان الموتى وهنَّ على قيد الحياة (51) .
ويقول العلماني الحداثي أحمد عبد المعطي حجازي : إن للسفور مساوئ لكنها أقل - قطعاً - من مساوئ الحجاب والنقاب ، وشبيه بمن يدعونا للعودة إلى الحجاب من يدعونا للعودة إلى ركوب النياق والحمير والبغال هذه هي عقلية عصور الإنحطاط . (52)
أما الحداثي محمد جبر الحربي ، والمشهور بدفاعه عن أم جميل زوجة أبي لهب فاستمع إليه وهو يقول : ( والنساء سواسية منذ تبت ، وحتى ظهور القناع تشترى لتباع ، وتباع ، وثانية تشترى لتباع ) . (53)
ولا يقل في الغمز والسخرية عن هذا أن أحدهم سمى الطالبات المحجبات (( المسرحية والحراج )) (( قوارير سوداء )) ووصف خروجهن بالحجاب بأنه (( مسرحية مدهشة )) ويصفهن بأنهن بضائع (54) ، وهكذا يتحرك العلمانيون عبر وسائل إعلامية مهمة لنفث سمومهم وللطعن في حجاب المرأة المسلمة ، لتخرج عن عفافها وشرفها ، وتكون لقمة سهلة لذئاب البشر المسعورة ، ومن ثم تتوارى الفضيلة والعفة وتنتشر الإباحية والزنا والسقوط في حَمَأةِ الرذيلة حتى يتحول هذا المجتمع المحافظ على دينه ، وقيمه ، وأخلاقه إلى المجتمع الغربي الذي يرزح تحت وطأة الإباحية والسّعار الجنسي ، وتدمير الأسرة ومحاربة الفضيلة والعفة .
6) ومن السخرية بأحكام الشرع ما ذكره محمد الغزالي ضمن سخرياته وهزلياته الكثيرة - حيث قال : ( إن أهل الحديث يجعلون دية المرأة على النصف من دية الرجل ، وهذه سَوْأةٌ فكرية وخُلُقِيَّةٌ رفضها الفقهاء المحققون ) . (55)
ولقد غاب عن ذهن هذا المستهزئ أن هذه المسألة من مسائل الإجماع بين الأمة كما حكاه الحافظ ابن المنذر وغيره من أهل العلم . (56)
7) السخرية باللحية وتكاد تكون هذه المسألة من أكثر المسائل استهزاء من الهازلين الحاقدين ، ومن أكثر المسائل التي ابتلي بالسخرية فيها جمع من شباب الصحوة الإسلامية ، ولطالما سمعنا هذه الكلمة الجائرة التي تقول : لو كان في اللحية خير ما نبتت في الفَرْج !!! .
سبحان الله : (( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك )) سورة الإنفطار ، آية 6 ، 8 .
أتهزأ باللحية أيها الساخر الضاحك وأنت تتجاهل أنها خلق الله وتصويرها لهذا الرجل بهذه الصورة المميزة ؟! .
أتهزأ باللحية أيها المستهزئ وهي سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم الواجبة وفي نتفها دية رجل كاملة ؟ إن اللحية علامة من علامات الرجولة المسلمة ، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا المشركين ، أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى ) (57) .
ولما سئل الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - عن الذي يقول : إن اللحية وساخة هل يعتبر مرتداً ؟ فأجاب بقوله : فيه تأمل إن كان يعلم أنه ثابت عن الرسول فهذا استهزاء بما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم فحري أن يحكم عليه ذلك (58) .
8) ومن صور الاستهزاء بأحكام الله - تعالى - مسألة السخرية من تعدد الزوجات ، وهذه آفة تسربت لهذه الأمة نتيجة احتكاكها بالإفرنج الذين يبيحون الدياثة ويحرمون التعدد !! أما الخليلات والعشاق فبالعشرات لكل من الزوجين ، ولهذا نجد أن مسألة تعدد الزوجات قد أصحبت عند كثير من المتفرنجين جريمة لا تغتفر ، أما الزنا والسفر إلى بلاد الإباحية والمجون بقصد الفساد والإنحلال فذاك تقدم ورقي وسياحة وبعد عن الكبت !! ومن السخرية بهذه المسألة أنه عرض فيلم يصور حالة رجل تزوج باثنتين فكانت النتيجة أنه ( أنهبل ) وخرج للبرية هائماً على وجهه ، ولم يعد إلى بيته !! . (*)
وقد مر بك غمز صلاح جاهين في مقولته الخبيثة ( محمد جوز التسعة )(33/402)
9) ومن صور الاستهزاء ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن بعض أهل البدع حيث يرى أحدهم أن استغاثته بالشيخ يعتقد فيه ويتبعه عند قبره أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عن السحر ، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد ، وكثير منهم يخربون المساجد ، ويعمرون المشاهد فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله ، وتعظيمهم للشرك ! وإذا سمع أحدهم بعض الأبيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند سماع الآيات ، بل يستثقلونها ويستهزءون بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله - تعالى - : (( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون )) (59)
10) وهناك أمثلة كثيرة من الاستهزاء بسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم في اللباس والأكل أو التيامن أو السواك أو غير ذلك مما يصعب حصره وعدّه ، فالله المستعان .
المبحث الرابع
الإستهزاء بالمؤمنين
لو أن أحداً يسلم من الأذى لشرفه ومكانته بين الناس لكان رسول ا صلى الله عليه وسلم أحق بذلك !! ولكن الإبتلاء يحصل للمؤمن والمؤمنة من أجل التمييز والتمحيص ، ومعلوم أن نقمة المستهزئين على المؤمنين هي بسبب إيمانهم . قال تعالى : (( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) . سورة البروج آية : 8 .
وقد فضح الله موقف المستهزئين بالمؤمنين في كتابه العزيز فقال سبحانه : (( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين أتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب )) سورة البقرة ، آية : 212 .
ولشناعة فعل المستهزئين سماهم الله في كتابه بالمجرمين فقال تعالى : (( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا أنقلبوا إلى أهلهم أنقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين )) سورة المطففين ، آية : 29 ، 33 .
إنه الغمز واللمز والضحك الذي يمارسه كل مجرم ضد كل موحد ، وهذا الأمر يشكو منه خاصة كثير من الشباب والشابات ممن منَّ الله عليهم بالهداية والإستقامة ، يشكون دائماً من السخرية وعن الإستهزاء ، فعليهم الصبر فإن العاقبة للمتقين وليتأملوا قول الله تعالى : (( والذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات * والذين لا يجدون إلى جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )) سورة التوبة ، آية : 79 .
قال أبن كثير - رحمه الله - ( وهذه - أيضاً - من صفات المنافقين ، ألا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مُرَاء !! وإن جاء بشئ يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ) (60) .
وإليك بعضاً من صور الإستهزاء بالمؤمنين مما شاع اليوم وذاع في صفوف الناس :
1) الإٍستهزاء برجال الحسبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر . أولئك الرجال الذين استشعروا أهمية خيرية هذه الأمة في قول الله - سبحانه وتعالى - (( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) سورة آل عمران ، آية : 110 . فقاموا بهذا العمل النبيل العظيم ، وذلك لأداء ما أفترض الله على هذه الأمة ، ولحفظ أمن وأمان المسلمين ، ومع هذا يسخر منهم السفهاء ، ويلصقون بهم التهم والزّيوف ، ومن هذا ماكتبه أحمد الجار الله حيث يقول :
باسم الدين يوقفون سيارتك ويطلبون منك أن تثبت أن زوجتك هي زوجتك !!! .
وبإسم الدين يستجوبون المرأة عن أسم آخر أبنائها وعن شكل غرفة نومها ، ولون حمامها وماركة ( الكلينكس ) الذي تستخدمه لإثبات أنها زوجتك !! ثم يلفظ أحمد الجار الله أنفاس حقده بقوله : واحد لحيته مثل التيس أوقفني وقال : لماذا تتحدث عن رجال الدّين (61) .
ولم يكتف بهذا بل قال عن رجال الهيئات : أنهم نفر غير مسؤول نصّبوا أنفسهم أوصياء على الناس يتدخلون في خصوصياتهم ، ويتابعونهم في تحركاتهم ! ثم قال : الأسلوب الغوغائي من أبتداع الشيوعية ! .
ونظراً لعمق العلاقة بين هذا الكاتب وبين رسام الكاريكاتير جرجس عياد !!
فقد وسط أحمد الجار الله مقاله برسم لجرجس يحكي حالة أمرأة مشنوقة !! (62) .
وهكذا يلتقي الحقد الصليبي النصراني مع الإتجاه العلماني الإباحي في مقال ورسم كاريكاتير ظناً من هؤلاء أنهم سيطفئون نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .
عجب من هذا الكُوَيْتب : مدح البعثية والبعثيين طوال سنوات حربهم مع إيران الشيعية حتى صورهم بصورة الفاتحين المظفرين ، وكتب عن دعاة العلمانية والإلحاد فمجدهم ورفع من شأنهم ، ثم عرّج على الفن فملأ جريدته بحكايات علب الليل وخمريات السكارى ولما رأى الدور العظيم الذي يقوم به رجال الحسبة في محاربة المنكرات والفواحش شرق بهم وأمتلأ قلبه حقداً عليهم فأستعان بأستاذه الصليبي جرجس وكتب ما كتب ، وما إخال فعله هذا إلا كما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى رأسه الوعل
وصدق القائل :
وما ضر الورود وما حوته إذا المزكوم لم يطعمم شذاها(33/403)
2) السخرية بالمجاهدين في سبيل الله : فقد آذت جريدة عكاظ المسلمين بنشرها رسماً خبيثاً ظهر من خلاله حقد دفين على المجاهدين الأفغان خاصة حيث أخرجت للناس رسمين : الأول فيه صورة لمجاهدين من أفغانستان يصبان فيه الماء على جذع شجرة نابتة ، وهذا يشير إلى بدايات الجهاد ، ثم في الرسم الثاني قد كبرت الشجرة وحان قطاف الثمرة ، فحدث أشتباك مسلح بين هذين المجاهدين وكل منهما ينتف شعر لحية الآخر ، وكل منهما يستعد برشاشه لقتل الآخر (63) !! وهكذا تصور عكاظ حياة المجاهدين بهذا الشكل المشين ، فبدلاً من أن تنشر الكلمة الهادفة لجمع الكلمة إذا بها تضحك السفهاء على المجاهدين ، ومما زاد الطين بلة في هذا أنها عنونت لهذا الرسم بعنوان : (( حكاية للأطفال ))
ترى : هل هي بهذا تريد غرس كراهية الجهاد في نفوس الناشئة ؟ وتقبيح صورة أهل الجهاد في نفوس الصغار ؟ ربما ؛ ووراء الأكمة ما وراءها !!! (*) .
3) السخرية بعلماء الأمة : وهذا الجرم لم يقتصر فعله على أعداء الدين ، بل وقع حتى أناس يحسبون على الدعوة والدعاة . فهذا محمد الغزالي يسخر بعلماء الحنابلة ، وهو يعلق على كلام رسول ا صلى الله عليه وسلم (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُصَلين العصر إلا في بني قريظة )) (64) فيقول : ( قلت : لو كان هؤلاء الحنابلة المتشددون حاضرين لقالوا لمن استعجل الصلاة : ياعدو الله ورسوله تعصى النبي وترفض عزيمته علينا ، إن هذا نفاق !! كيف نصلي في الطريق ، وقد أمرنا في الصلاة في بني قريظة (65) ؟! ) حقاً : إذا لم تستح فاصنع ماشئت ! إن هذا من اتهام الناس بالباطل ، والتقول على نياتهم ومكنونات صدورهم ، وكفى بهذا شراً وخسّة ووقاحة وكم من المهرجين والساخرين هزواً بالعلماء في أشكالهم أو أصواتهم أو فتاويهم فإذا لم ينكر هذا المنكر ويضرب بيد من حديد على هؤلاء الساخرين فأعلم أن الأمة قد تودع منها (*) .
الفصل الخامس : عقوبة وجزاء المستهزئين
يقول الله تعالى : (( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون )) سورة القلم ، آية : 35 - 36 . ويقول سبحانه : (( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين * كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز )) سورة المجادلة ، آية : 20 - 21 .
لقد تأملت - من خلال هذا البحث - الآيات العظيمة التي وردت في كتاب الله تعالى والتي ذكر فيها - سبحانه - عقوبة المستهزئين وعقاب الله الأليم المحيط بهم ، فوجدت أمراً عظيماً تتفطر منه الأكباد ، وتنخلع لهوله الأفئدة .
خزي في الدنيا ، وعذاب في الآخرة .
هلاك ودمار في العاجلة .
وعذاب مقيم في الآجلة .
قوم نوح - عليه السلام - سخروا منه كما تقدم بيان ذلك فأهلكهم الله بالغرق في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى قال تعالى : (( فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين )) سورة الأعراف ، آية : 64 .
وقوم هود - عليه السلام - سخروا منه وكذبوه ، فأنجاه الله وأهلكهم قال تعالى : (( فانجيناه والذين معه بحرمةٍ منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين )) سورة الأعراف ، آية : 72 . وقال تعالى (( لما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا امر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود )) سورة هود ، الآيات : 58 - 60 .
وصالح - عليه السلام - أرسل إلى ثمود فسخروا منه وكذبوه فأنجاه الله وأهلكهم قال - تعالى - : (( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين )) سورة الأعراف ، آية : 78 .
ولوط - عليه السلام - أرسل إلى قومه فسخروا منه وقالوا : (( إنهم أناس يتطهرون )) فكانت النجاة له ولمن آمن معه ، والهلاك والدمار للساخرين والمكذبين ، قال تعالى : (( فأنجيناه وأهله إلا إمرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين )) سورة الأعراف ، الآيتان : 83 - 84 . وقال سبحانه : (( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد )) سورة هود ، الآيتان : 82 - 83 .
وقوم شعيب سخروا منه وقالوا له : (( ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )) سورة هود ، آية 87 . فأهلكهم الله وأنجاه . قال سبحانه : (( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين )) سورة الأعراف ، آية : 91 ، 92 . وقال سبحانه : (( ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود )) سورة هود ، الآيتان : 94 ، 95 .(33/404)
وقوم موسى كذبوه وسخروا منه وأستهزأوا به فأنجاه الله ومن معه وأهلك عدوه قال تعالى : (( فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فأنفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين )) سورة الشعراء ، الآيات : 63 ، 66
وأعداء رسول ا صلى الله عليه وسلم استهزأوا به وسخروا منه وكذبوه وآذوه فكانت العاقبة للمتقين ، والخزي والعار والنار والهلاك للطغاة الهازلين المفسدين المكذبين .
قتلوا في الدنيا وعند ربك عذاب ونار شررها كالقصر يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هؤلاء المستهزئين برسول ا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين : ( والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة ، فقد ذكرها أهل السير والتفاسير ، وهم على ماقيل : نفر من رؤوس قريش مثل : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسودان ابن عبد المطلب ، وابن عبد يغوث ، والحارث بن قيس … وكسرى مزق كتاب رسول ا صلى الله عليه وسلم واستهزأ به فقتله الله بعد قليل ؛ ومزق ملكه كل ممزق ، ولم يبق للأكاسرة ملك ، وهذا والله أعلم تحقيق لقوله تعالى : (( إن شانئك هو الأبتر )) سورة الكوثر ، آية : 3 . فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره … ومن الكلام السائر : (( لحوم العلماء مسمومة )) فكيف بلحوم الأنبياء - عليهم السلام - ؟!! .
وفي الصحيح عن صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى : (( من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة )) فكيف بمن عادى الأنبياء ، ومن حارب الله - تعالى - حُرب . (66) .
الفصل السادس
موقف المسلم من الساخرين والمستهزئين
يشكو كثير من الناس وخاصة الدعاة من هذا الوباء ، الذي يعترضهم في طريق الدعوة ، الناس يسخرون منا ، هؤلاء يستهزئون بنا ، ماذا نفعل وكيف نتصرف ؟ وللجواب على ذلك أقول ، وبالله التوفيق .
1) الصبر على الأذى في سبيل الله أحد ثوابت الدعوة إلى الله ، فدعوة بدون صبر لا يرجى من ورائها ثمرة كيف وقد خاطب الله نبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( فاصبر إن العاقبة للمتقين )) سورة هود ، آية : 49 وأوحى الله إلى نبي صلى الله عليه وسلم نبأ ما قاله موسى - عليه السلام - لقومه : (( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف يعملون )) سورة الأعراف ، الآيتان : 128 ، 129 ولا بد أن يكون مع الصبر توكل صادق على الله وحده ، يقول سبحانه : (( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً )) سورة الأحزاب ، آية : 48 . فالتوكل عليه سبحانه والإعتماد عليه وحده ، والطمع فيما عنده وحده ، هو الركن الركين لسالك هذا الطريق الطويل ، وقديماً قيل : بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين .
2) أخذ العبرة ممن هم خير منا فقد مر بك خبر أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين سخر منهم أقوامهم ، هل أثنتهم هذه السخرية عن المبدأ الذي قاموا من أجله والدين الذي أرسلوا به ؟ كلا لقد كان قوم نوح يسخرون منه وهو يصنع السفينة ، ويؤذونه بالهمز واللمز والضحك والإٍستهزاء فما زاده في ذلك إلا مضياً في طريقه ، ويقيناً بوعد ربه له ، وقوم لوط كانو يسخرون منه ومن طهارته هو ومن آمن معه ، ويتندرون بذلك قائلين : (( إنهم أناس يتطهرون )) فما زاده ذلك إلا ثباتاً على الحق ويقيناً بأمر الله الذي قاله له ربه سبحانه : (( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب )) سورة هود ، آية : 81 . ورسول ا صلى الله عليه وسلم لما سخر به من سخر واشتد عليه أذى هؤلاء السفهاء خاطبه ربه تعالى بقوله : (( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون )) سورة الأنعام ، آية 10 ، ومثلها آية 41 من سورة الأنبياء ، وقال تعالى : (( ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب )) سورة الرعد ، آية : 32 .
3) المؤمنون عامة - والدعاة خاصة - هم أحرى الناس بقوله تعالى : (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )) سورة آل عمران ، آية : 139 - 142 .
فالمؤمن هو الأعلى قدراً وشرفاً ومنهجاً ومكانة ، وعند الصباح يحمد القوم السُّرى ، وعند الممات يحمد القوم التقى ، ويوم التغابن يخزي الله أهل الردى .(33/405)
4) عدم موالاة الهازلين الساخرين المستهزئين ، فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا بالبراءة من هؤلاء الأعداء . قال ربنا - سبحانه وتعالى - : (( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء وأتقوا الله إن كنتم مؤمنين )) . سورة المائدة ، آية : 57 .
وإن من أكبر الرزايا التي بليت بها هذه الأمة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، هم يعيبون ديننا ، وينتقصون نبينا صلى الله عليه وسلمويهزأون بنا ، والسذج من لا خلاق له منا يتخذهم أولياء ، وأصدقاء ، وهذا الأمر لا يستقيم في منهج الله الحق الذي قدمت فيه البراءة من الكفر وأهله على الإيمان بالله وحده فقال ربنا - سبحانه - : (( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى )) سورة البقرة ، آية 256 .
وفي عصرنا الحاضر ما ترك أهل الكتاب وسيلة من وسائل الإستهزاء بالله وبدينه وبعباده المؤمنين إلا سلكوها ، وهذا واضح في أقوالهم وإعلامهم وخططهم ، بل وحتى في منتجاتهم ، فحتى النعال يكتبون عليها اسم الله - تعالى الله وتقدس عن ذلك - وعلى الملابس الداخلية للرجال والنساء ، بل وصل بهم الحال إلى امتهان الآيات القرآنية ، ومع هذا تجد المغفلين من المسلمين ، يوالونهم ولو بطريق غير مباشر بالشراء من هذه المصانع ، وتلك الشركات التي تطعن في ديننا وتهزأ بربنا وتستبيح حرمة إسلامنا ، وإذا قام فينا غيور وذكر الأمة بهذا الواجب الإيماني هُمز وغُمز ووصُف بالتطرف والرجعية ، وعداوة الإنسانية والتعسفية والسوداوية ، وغير ذلك من قاموس الشتائم الذي يصبه من سماهم الله بالمجرمين على المؤمنين الموحدين ، فإلى الله المشتكى ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
5) الإعراض عنهم وعدم مجالستهم ، قال تعالى : (( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون * وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تُبسلَ نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع )) سورة الأنعام ، آية 68 - 60 .
وهدد الله من يجالس هؤلاء الهازلين الساخرين إذا لم يبتعد ويقم عنهم فسيكون منهم ويعذب بعذابهم قال - تعالى - : (( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً )) سورة النساء ، آية : 140 .
لقد كثر التساهل - مع الأسف - في هذه المسألة فرأينا من يتخذ الهازلين أولياء وجلساء وأصفياء وأخلاء ، بل يدافع عنهم ويذب عن أعراضهم ، وكأنه قد نسي قول الله تعالى : (( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً )) سورة النساء ، آية : 107 .
ويقول تعالى : (( ولا تكن للخائنين خصيماً )) سورة النساء ، آية : 105 .
إن على أهل الحق واليقين أن يربأوا بأنفسهم عن مجالسة الهازلين المستسخرين حتى يفوزوا برضاء رب العالمين ويحشروا تحت لواء سيد المرسلين .
6) الصدع بالحق اقتداء برسولنا r فإنه لما كثر عليه الإستهزاء والسخرية ، قال الله له : (( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين )) سورة الحجر ، الآيتان : 94 ، 95
أليس قريش هي القائلة لرسول ا صلى الله عليه وسلم : (( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين )) سورة الحجر ، الآيتان : 6 ، 7 .
أليس نظراتهم الملتهبة الناقمة الهازلة الساخرة كانت تلاحق رسول ا صلى الله عليه وسلم في كل مكان : (( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين )) سورة القلم ، الآيتان : 51 ، 52 .
كل ذلك حصل فما زاد نبي الله - صلوات الله وسلامه عليه - إلا مُضيّاً في طريق الحق ، والذين يتصدون للدعوة ثم تردهم كلمة ساخرة ، أو غمزة ساقطة ، ليسوا أهلاً لتحمل هذه الدعوة ، فإن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان وكفى ، وإنما هو حقيقة كبرى لها تكاليفها وأمانتها وأعباؤها وجهادها . فمن ردته السخرية أو ثنت عزمه وسائل الإستهزاء فيجب عليه التنحى عن الطريق ، وليترك الأمر لمن هم له أهل وكفء .
والعجب في هذا الباطل ودعاة الضلالة ، فإنهم مع كل عقبة تقابلهم في طريق باطلهم إلا أنك تجد لديهم من الثبات على مبدأهم وإصرارهم وعنادهم ما يذهلك وأنت ترى بعض ضعاف الإيمان تنازل عن أمور دينه بسبب همزة أو لمزة أو كلمة لاذعة ، أو سخرية مسرحية ماجنة . فإلى الله نشكو جلد الفاجر وعجز التقي .(33/406)
ولو تأملنا حال داعية من الدعاة إلى الله في العصور المتأخرة وهو الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وقرأنا في تاريخه كم صعوبة لاقاها ، وكم سخرية عانى منها ضحكوا به ، ونفروا الناس منه ، وافتروا عليه بأنه يكره الرسو صلى الله عليه وسلم ويبغض الصحابة ، ويفرق جمع الأمة ، وأتى بمذهب خامس ، ويكره الأولياء و ، و ، … إلى آخر الإفتراءات والأكاذيب فماذا كان موقفه من ذلك - رحمه الله - ؟
إن هذا الأذى ما زاده إلا شجاعة في الحق وصدعاً بالدعوة إلى التوحيد الخالص وإعلان البراءة من الشرك وأهله ، وكشف شبهات أهل الزيغ والضلال ، كل ذلك صدر منهم وهو واثق من نصر ربه وأنه من يتوكل على الله فهو حَسْبُهُ ، فماذا كانت النتيجة ؟ أين ذكر الشيخ محمد اليوم وأمس ، وغداً - إن شاء الله - وأين أولئك الأعداء أمثال : أبن عفالق والقباني والكوكباني ودحلان وابن جرجيس والنجفي والنبهاني والدجوي والعاملي ، وغيرهم وغيرهم من عشرات الذين جلبوا بخيلهم ورجلهم إرجافاً وخذلاناً لهذا الدعوة السلفية المباركة (67) لقد ذهب هؤلاء النكرات ونسوا في خضم أحداث التاريخ ، وبقى تاريخ هذا الإمام المجدد علماً يتلألأ في سماء هذه الدنيا كلها ينهل من علمه وتترجم كتبه ، ويهتدى على دعوته آلاف الناس في مشارق الأرض ومغاربها ، ويظهر الله الحق الذي جاء به هذا الشيخ الإمام ويزهق الله ذلك الباطل الذي جاء به الخصوم : (( فأما الزبد فيذهب جُفَاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) سورة الرعد ، آية : 17 .
أجل ! نسي الناس سخريات وكيد وسفاهة أولئك الأعداء ، وبقي هذا الخير العظيم ينفع الناس . ولا يكاد بيت من بيوت المسلمين اليوم يخلو - ولو من كتاب واحد - لذلك الإمام العظيم - رحمه الله - وغفر له وأجزل مثوبته ورفع درجته ، إنه ربي على كل شيء قدير .
وبعد :
فهذا جهد المقل ، وبضاعتي المزجاة وضعتها بين يديك - أيها القارئ الكريم - ليكون في هذا لفت نظرك وغيرك إلى خطورة هذا الأمر الذي كثر الإبتلاء به ، والذي كثر التساهل فيه ، والذي قد يقع من الإنسان ولو بدون قصد .
راجياً من الله حسن المقصد وتنبيه الأمة إلى خطورة ما يهدم دينها ويفسد عقيدتها . وجدير بنا أن نأخذ ديننا بجدية تامة ، وأن نبتعد عن السفاسف والهزء والسخرية ، وأن نربي أنفسنا وأجيالنا على الجدية وعلو الهمة ، فإن ذلك من معالي الأمور ، وصدق القائل :
وإذَا كَانت النّفُوسُ كِبَاراً 0000 تعبتْ في مُرَادِهَا الأجسامُ
فما وجدت - حفظك الله - من خلل أو زلل فقدمها لأخيك كات هذه السطور هدية ونصحاً ، ولك منه الانصياع للحق والدعاء بظاهر الغيب ، وما وجدت من صواب وخير فادعوا لكاتبه ، ونبه إخوانك وذويك إلى خطورة الإستهزاء وحفظ الألسنة والأعين عن هذا العيب المشين والله يتولانا جميعاً بحفظه ومنّه وكرمه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ضحى يوم الجمعة 20/11/1412هـ
مكة المكرمة - حرسها الباري من كل مكروه
----------------------------
(1) الفحش
(1) المغني : كتاب المرتد (12/298 ، 299 ) تحقيق الدكتور التركي والحلو ، ط 1 سنة 1410هـ دار هجر .
(2) روضة الطالبين / كتاب الردة 10/64 ، نشر المكتب الإسلامي سنة 1396هـ .
(3) الجامع لأحكام القرآن 8/397 ، تحقيق : أطفيش سنة 1380هـ .
(4) مجموع الفتاوي 7/273 ، جمع ابن قاسم ، الطبعة الأولى سنة 1381هـ وأنظر أيضاً جـ 15/48 .
(5) كتاب التوحيد مع شرحه فتح المجيد ص 520 تحقيق : الأرناؤوط سنة 1402هـ دار البيان .
(6) انظر : الجامع الفريد ص 283 .
(7) انظر فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم 1/174 ، 12/195 ، وفتاوى الشيخ ابن باز ، 3/165 ، والمجموع الثمين من فتاوى الشيخ بن عثيمين 1/62 .
(8) تفسير القرآن العظيم 7/356 ، تحقيق البنا وآخرين ، أما الحديث فقد أخرجه أبو داود في السنن كتاب اللباس 4/352 ح 4092 وهو في صحيح مسلم كتاب الإيمان ح 91 ، وأحمد في المسند 1/385 ، والترمذي في أبواب البر ، ح 1999 .
(9) في ظلال القرآن 6/3344 بتصرف .
(10) الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 370 ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد .
(11) جاهلية القرن العشرين للأستاذ محمد قطب ص 322 دار الشروق .
(12) المصدر السابق ص 325 ، وأنظر : أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان ص 368 .
(13) انظر : المصدر السابق 330 - 337 وأصول الدعوة لعبد الكريم زيدان ص 371 .
(14) مسند أحمد 3/469 ، وابن ماجه ح 3969 وانظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 888 وصحيح الجامع 1615 .
(15) مسند أحمد 5/5 ، والترمذي في الإستئذان 2/206 ح 2705 ، وأبو داود في الأدب 5/265 .
(16) المسند 2/402 .
(17) غذاء الألباب 1/131 .
(18) المصدر نفسه 1/134
(19) تفسير القرآن العظيم 7/218 .
(20) الظلال 5/3193 .
(21) الظلال 6/3386
(22) انظر : تفصيل قصته - عليه السلام - في قصص الأنبياء لأبن كثير 1/74 ، نشر مصطفى عبدالواحد
(23) أنظر : قصص الأنبياء لأبن كثير 1/279 .
(24) المحرر الوجيز 1/341
(25) دقائق التفسير 3/332 جمع الدكتور محمد الجليند .(33/407)
(26) السيرة لأبن هشام 1/308 - 309 ، بقليل من تصرف .
(27) انظر في هذا : كتاب مذاهب معاصرة للأستاذ محمد قطب فإنه فريد في بابه .
(28) المجلة العربية عدد شعبان 1405 هـ نقلاً عن كتاب الحداثة في ميزان الإسلام للشيخ عوض القرني ص 86 .
(29) ديوانه كلمات لا تموت ص 526 نقلاً عن كتاب الحداثة للقرني ص 93 .
(30) مجلة الناقد العدد 13 سنة 1989 م .
(31) الأعمال الشعرية الكاملة 2/65 طبعة 1983 م بيروت .
(32) ديوانه ص 24 الناشر دار العودة - بيروت .
(33) ديوانه ص 395 دار العودة - بيروت .
(34) ديوانه ص 399 .
(35) تفسير الطبري 10/173 ، وتفسير ابن كثير 4/111 وأسباب النزول للواحدي ص 250 .
(36) تفسير الطبري 10/172 ، وتفسير ابن كثير 4/112 وأسباب النزول للواحدي ص 250 .
(37) السيرة النبوية لابن هشام 4/168 وتفسير ابن كثير 4/112 .
(38) السيرة لأبن هشام 4/166 وزاد المعاد 3/533 قال محققه : ورجال سنده ثقات .
(39) مجلة اليمامة عدد 887 ، وجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 15/8/1407هـ نقلاً عن الحداثة للقرني ص 69 .
(40) واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب ص 358 .
(41) السنة النبوية من ص 50 -51 .
(42) الحداثة للقرني ص 138 ، نقلاً عن عكاظ عدد 7601 .
(43) المصدر السابق ص 71 نقلاً عن مجلة الشرق عدد 362 .
(44) فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/843 ، وقال محققه : إسناده حسن ، والمسند 1/421 .
(45) مجلة المصور عدد 3507 .
(46) تفسير ابن كثير 5/168 .
(47) صفوة الآثار والمفاهيم 2/22 ط 1 ، 1401 هـ دار الارقم .
(48) انظر تفسيرها في الظلال 5/2704 دار الشروق .
(49) روز اليوسف عدد 3322 .
(50) مجلة الدعوة عدد 978 .
(51) الولاء والبراء ص 404 .
(52) جريدة الأهرام بتاريخ 12/10/1412 هـ . 15/4/1992 م .
(53) اليمامة عدد 887 نقلاً عن الحداثة في ميزان الإسلام ص 70 .
(54) مجلة اليمامة عدد رقم 1082 .
(55) السنة النبوية ص 19 .
(56) انظر : الإجماع لابن المنذر ص 147 .
(57) صحيح البخاري كتاب اللباس باب اعفاء اللحى 10/351 ح 5893 ، ومسلم في الطهارة 259 ، أحفوا الشوارب : أحفوا ما طال على الشفتين .
(58) فتاوى سماحته 12/195 .
(*) إشارة إلى المسلسل الكويتي ( خرج ولم يعد ) انتاج سنة 1402 هـ والذي عرض على شاشة تلفزيوننا المحلي وجميع محطات الخليج أكثر من مرة .
(59) مجموع الفتاوى 15/48 - 50 .
(60) تفسير القرآن العظيم 4/125 .
(61) جريدة السياسة بتاريخ الخميس 28/11/1991 م .
(62) جريدة السياسة بتاريخ 12/12/1991 م .
(63) جريدة عكاظ العدد 9405 في 26/10/1412 هـ
(*) يقال ذلك عن الهُزْء بكل من أخبر عن نفسه ، ساقطاً ما لا يريده إظهاره .
(64) الغزالي يروي بالمعنى . أما أصل الحديث فهو في صحيح مسلم برقم 1770 .
(65) جريدة الشعب المصرية بتاريخ 6/8/1991 م .
(*) وذلك مما يفعله بعض الساقطين ومن يسمون فكاهيين سواء كانوا هنا أو في البلاد العربية ، وبعض ما ينشر من مقالات في الصحف وبعض مواقع الإنترنت .
(66) الصارم المسلول 164 ، 165 ، أما الحديث فهو في صحيح البخاري كتاب الرقاق باب التواضع 11/341 ح 6502 .
(67) هناك كتاب قيم جداً يحمل عنوان (( دعاوى المناؤئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) عرض ونقد للشيخ عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف يجدر بطلاب العلم قراءته والإستفادة منه فإنه فريد في بابه
=============(33/408)
(33/409)
الإسلامية في الأدب
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
? الإسلامية (في الأدب) هي انطلاق الأديب في العملية الإبداعية من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده، وتبين إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها الأديب انفعالاً مستمراً، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وتصوراته ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان، في إطار من الوضوح الذي يبلور حقيقة علاقة الإنسان بالأديان(*)، وعلاقته بسائر المخلوقات فرادى وجماعات، وبشكل لا يتصادم مع حقائق الإسلام، ولا يخالفها في أي جزئية من جزئياتها ودقائقها.
? معيار الإسلامية:
- ينطوي التعريف المتقدم، على مجموعة معايير متكاملة، يؤدي توافرها إلى صيرورة العمل الأدبي متسماً بالإسلامية، وبعض هذه المعايير موضوعي يتعلق بجوهر العمل وبعضها عضوي أو شكلي يتعلق بإطار التعبير عن العمل، بحيث يتفاعل كل منهما مع الغاية من العمل الأدبي الممثل للإسلامية، وأهم هذه المعايير: الالتزام والمصداقية والوضوح والإيجابية والقدرة والاستمرارية.
1- الالتزام :
ويعني وجوب تقيد الأديب بإشاعة الرؤية العقدية في تيار العمل الأدبي المتدفق خدمة للعقيدة والشريعة(*) والقيم الإسلامية والأخلاق (*) وكليات الإسلام ومقاصده، وأهدافه العامة وبشرط ألا يخالف الإحساس الفطري بحقائق الإسلام.
2- المصداقية:
وتعني قدرة الأديب على إعطاء المتلقي إحساساً صادقاً في كافة أعماله الأدبية بأنها قد صدرت عن تصور إسلامي، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وإشاعة الخير والمعروف، ونأي عن كل ما هو منكر وغير مألوف في الوجدان الإسلامي، فإذا كانت بعض أعمال الأديب فقط هي التي تتسم بالمصداقية الإسلامية، فإن ذلك لا يكفي لرفعه إلى مصاف أنصار الإسلامية.
3- الوضوح :
الإسلامية جوهر ومظهر، أو مضمون وشكل، لذا يجب أن يكون مضمون العمل وشكله معاً من الوضوح، في الدلالة على الإسلامية، بحيث يتسنى لأي متلقٍ، أن يصنف الأديب، بسهولة، ضمن أنصار الإسلامية، بمجرد إطلاعه على مجمل أعماله.
4- الإيجابية:
وتعني أنه لا يكفي في الأديب المنتمي إلى الإسلامية، أن يلتزم بالتصور العقدي الإسلامي، ولا يخالفه، بل يجب عليه فضلاً عن ذلك، أن يكون إيجابياً في توجهه، فيقف مع الإسلام، ويدافع عنه، ويتصدى لمناهضيه، فكراً وقولاً وعملاً وسلوكاً، فالإسلامية تستلزم اتخاذ الأديب موقفاً لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على دفاع صاحبه عن عقيدته في كل الظروف والأحوال.
5- القدرة :
وتعني قدرة الأديب على إفراغ العمل الأدبي في الإطار الشكلي الذي يخدم الموضوع، ويناسب المضمون، ويشد القارىء ويقنع المتلقي بوجه عام.
6- الاستمرارية:
وتعني وجوب قيام الأديب المنتمي للإسلامية بتعميق انتمائه باستمرار، فإن أصبح غير قادر على العطاء الإسلامي، فيجب ألا يصدر عنه ما يعارض صراحة أو ضمناً أعماله السابقة التي تتسم بالإسلامية، وقد يكون للاستمرارية معنى أخص، بالنسبة لمن كانوا غير ملتزمين من قبل ثم انتموا للإسلامية، إذ تعني الاستمرارية عدم عودتهم إلى مثل ما كانوا عليه قبل التزامهم، وقد نلمح هذا عند كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من الشعراء المخضرمين(*).
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? كعب بن زهير رضي الله عنه :
من الممكن توسيع دائرة الإسلامية في الأدب لتبدأ بكعب بن زهير، ذلك أن الإسلامية إطار عام، لا يمكن نسبته إلى شخص بعينه أو زمن بعينه في العالم الإسلامي، وعندما جاهد بعض علماء الإسلام في سبيل تكوين مدرسة للأدب الإسلامي فإنهم في الحقيقة، كانوا يريدون التعبير عن مضمون أعمق من مجرد الإطار الشخصي هو النزعة الإسلامية في الأدب أو في كلمة واحدة "الإسلامية Islamism" وهي نزعة يمكن أن نلمحها من لحظة إلقاء رسول(*) ا صلى الله عليه وسلم بردته على كعب بن زهير عندما أنشده قصيدته اللامية في مدح صلى الله عليه وسلم ، فسر بالتزامه ومصداقيته، وصحح له الشطرة التي تقول: "مهند من سيوف الهند مسلول" إلى "مهند من سيوف الله مسلول" فهذا شعر ذو هدف نبيل وغاية شريفة في مجال الدعوة بلا غلوٍ (*) ولا تجاوز، وهي نزعة حبذها الزمخشري في الكشاف بعبارات جلية.
? حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حسان بن ثابت شاعر الرسو صلى الله عليه وسلم ، وكان من الشعراء المخضرمين(*) الذين حضروا الجاهلية(*) والإسلام، وقد أسلم مع السابقين من الخزرجيين، ومنذ شرح الله صدره للإسلام وهو شاعر العقيدة الذي يسجل أحداث المسلمين، ويمجد غزوات الرسول، ويرد على شعراء المشركين بجزالة، قال النثر(*) والنظر في بيان عظمة الإسلام والدعوة إلى التأدب بآدابه والعمل بأحكامه ، وقد سفه قريشاً في أشعاره، ونوّه بالقرآن الكريم كمصدر أول للتشريع الإسلامي وأساساً لشريعة الحق ونبي الهدى، وبين بجلاء دور الأدب في بيان حقائق الإسلام، وقال أفضل أشعاره يوم قريظة وفي غزوة الأحزاب وفي رثائه لنبينا صلى الله عليه وسلم بين أن قيمة الإسلام تكمن في التوحيد.(33/410)
? عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
كان أحد شعراء الرسو صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين نافحوا عن الرسالة، ورغم أنه استشهد في السنة الثامنة من الهجرة(*)، وأن ما وصل إلينا من شعره كان قليلاً، إلا أن ما كتبه كان يجسد أهم قيم الإسلام كالشجاعة النابعة من أعماقه، والحب لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، والحرص على التمسك بالدين والدفاع عنه، وطاعة الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم ، ولذا فقد كان عبد الله بن رواحة - بحق - رائد شعر الجهاد(*) الإسلامي، تشهد على ذلك أشعاره. يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "من اللفتات النبوية الكريمة استمد عبد الله بن رواحة التوجه إلى الطريق الأمثل، الذي يجب أن يسلكه الشعر الإسلامي، والإطار الذي يحسن أن يبرز فيه: صدق في التعبير، وسلامة في المقصد، وعدم الفحش في ذكر المثالب، أو النيل من الأعراض، واعتدال في القول".
? عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ربما كان العقاد من أكثر الكتاب التزاماً بالإسلامية في الأدب، في مواجهة تيار التغريب الذي قاده طه حسين، ولذا فإن كلام العقاد له وزنه في هذا الصدد ومما قاله في عبقرية عمر:
كان عمر بن الخطاب أديباً مؤرخاً فقيهاً (ص 344) عظيم الشغف بالشعر والأمثال والطرف الأدبية، وكان يروي الشعر ويتمثل به، ولم يزل عمر الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته، لم ينكر من الشعر إلا ما ينكره المسؤول عن دين(*)، أو القاضي المتحرز الأمين، ولذا فقد نهى عن التشبيب بالمحصنات، ونهى عن الهجاء، وأعجبته الأشعار التي تنطوي على معان سامية، دعى إليها الإسلام، وكان يرى أن للشعر غاية تعليمية تربوية فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري قائلاً: مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب.. وقال لابنه يا بني.. احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك.. فإن من لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقاً ولم يقترف أدباً.
وفي معايير الإسلامية قال: "ارووا من الشعر أعفه ومن الحديث أحسنه.. فمحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهي عن مساويها".
ومما يؤكد تصور الإسلامية في الأدب عنده رضي الله عنه، أنه عزل النعمان بن عدي عندما تجاوز في شعره غايات الإسلام ومقاصده، بالرغم من أنه كان أحد ولاته، ولم يقبل اعتذاره وتعلله بأنه مجرد شاعر ولم يصنع شيئاً مما رواه في إحدى قصائده المبنية على الغزل الفاحش، كما سجن الحطيئة عندما هجا الزبرقان بن بدر، فلم يكن لمثل عمر أن يفعل غير ذلك فالإسلامية التزام إجباري إن صح التعبير، وإذا كانت الإسلامية التزام فإنها تستلزم المسؤولية.
? عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
يعتبر عمر بن عبد العزيز من أبرز مؤسسي الإسلامية على الإطلاق لأنه لم يكتف بالحديث عن وجوب الالتزام والتقيد التام بالإسلام عند مباشرة المعالجة الأدبية، بل قدم أسلوباً عمليًّا لذلك، في موقف كان يمكن أن يتقبل فيه الناتج الأدبي المنطوي على مدحه ولكنه قدم درساً تطبيقياً في الحيلولة دون تخطي الأدب غاية الإسلامية فقد منع الشعراء أن يمدحوه، فلما ألح عليه كثير بن عبد الرحمن في إنشاده، وضع معيار الحقيقة كأساس لقبول سماع الإبداع الشعري، فقد قال لكثير : نعم. ولا تقل إلا حقاً.
ومما يؤكد عدم تساهل عمر بن عبد العزيز في التزام الأدب بالأخلاق(*) والأهداف السامية قصته المشهورة مع الشعراء عندما تولى الخلافة(*) وقيل له إنهم بالباب يريدون المثول بين يديه. وعندما توسط أحد جلسائه للشعراء وأخبره أن الرسو صلى الله عليه وسلم ، قد سمع الشعر وأجاز الشعراء سأل من بالباب من الشعراء، وعندما أخبر بأسمائهم رفضهم واحداً تلو الآخر مع تبيان أسباب الرفض باستشهاد من أشعارهم ولم يدخل إلا جريراً حيث وجده أقل المجموعة فحشاً.
? ابن قتيبة وآخرون:
فضل ابن قتيبة الشعر الذي ينطوي على فائدة في المعنى، سواء تعلق هذا المعنى بالقيم الدينية أو الخلقية أو الحكم. ومثله كذلك مهلهل بن يموت بن المزرع وابن وكيع التنيئسي والثعالبي وعمرو بن عبيد، ومسكوية وابن شرف القيرواني وابن حزم الذي نهى عن الغزل وغالى في وضع القيود على الأدب لتحقيق الإسلامية حسبما تصورها، رغم أنه خرج على ذلك أحياناً كثيرة في طوق الحمامة. ولا شك أن الشعر مجرد فن من فنون الأدب ولكن ضوابطه الإسلامية ومعاييرها بشأنه تصلح لكل فروع الأدب.
? علي أحمد باكثير:
يوصف بأنه من طلائع الإسلامية في الأدب في مجال الشعر والقصة والمسرحية، وكان لنشأته وبنائه الفكري واتساع أفقه وتنوع مصادره الثقافية أكبر الأثر في تكوين شخصيته وقلمه، ولذا كتب المسرحية الحديثة عن فهم ووعي وعن دراسة وتعمق في معرفة أصول الصنعة المسرحية.(33/411)
ولقد كان الموجه الرئيسي لباكثير في فنه الأدبي هو عقيدته الإسلامية وقيمها وتصوراتها الصائبة للحياة. يقول د. نجيب الكيلاني عن مسرحيته حبل الغسيل إنها كانت صرخة شجاعة أدانت فساد المنهج(*) وعفن الإدارة وانحراف المؤسسات الشعبية حينما استبد الشيوعيون بمقاليد الأمور في مصر في النصف الأول من عقد الستينات، حيث صنعوا من الشعارات واجهة للبلاد بينما هم يستغلونه وينفذون مخططاً موحى به إليهم من سادتهم خارج البلاد وفي ذلك إدانة للفكر الماركسي وتجربته المشينة بمصر.
? مصطفى صادق الرافعي :
كانت الإسلامية في أدبه تياراً متدفقاً، فقرظ محمود سامي البارودي شعره الملتزم، وأثنى عليه مصطفى لطفي المنفلوطي، وحيَّاه الشيخ محمد عبده قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل" وقد كان. ففي كافة مؤلفاته وأشعاره ودراساته ونثره، جعل الإسلام غايته وخدمة عقيدة التوحيد مقصده وبغيته. وقد وقف أمام مؤامرات الإنجليز ضد الإسلام ومؤامرات الصهيونية في فلسطين ومؤامرات الذين أرادوا إحياء العامية والقضاء على اللغة العربية، وأبرز قضايا الإسلامية عند الرافعي هي قضية إعجاز القرآن الكريم، وقضية البلاغة النبوية وقضية المقالات(*) الإسلامية.
? أحمد شوقي:
كانت الإسلامية واضحة في بعض أشعار أحمد شوقي، ولم يكن يلتزم في هذه الأشعار بالمقاصد الإسلامية فقط، بل إنه خاض بعض معارك الدفاع عن المبادىء الإسلامية وقضاياه، فقد بيَّن أن الحرب في الإسلام لم تكن حرب عدوان وإنما كانت حرب جهاد(*) ودفاع، وبيَّن أن الإسراء كان بالروح والجسد معاً، وربط بين المفاهيم الدينية وبين قضايا النضال واليقظة والتحرر ودافع عن الفضائل الإسلامية والحرية(*) والنظام والشورى، ويمكن القول كذلك أن حافظ إبراهيم رغم ثقافته الأزهرية المتواضعة وأحمد محرم شاعر العروبة والإسلام كانا يستظلان كذلك بظل الإسلامية في أدائهما الملتزم.
? محمد إقبال:
وفكرة الإسلامية عند الشاعر محمد إقبال 1873م تستلزم توافر ثلاث مراحل: الأولى: الوقوف على المقاصد الشرعية التي بيَّنها الدين(*) الإسلامي فهي حقائق أبدية لا تتغير، والثانية الجهاد(*) الديني في سبيل تحقيقها كل في مجاله، وعلى الأديب أن يعتصم في سبيل ذلك بالصبر وهذا يستلزم الانقياد التام لأمر الله تعالى عن عقيدة ثابتة وإيمان راسخ، ومحاربة نوازع النفس. وثالثها: انطلاق الذوات الإسلامية كلها لتحقيق أهداف الأمة الإسلامية.
? الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي:
في 2 ربيع الأول 1405هـ (24/11/1984م) أعلن الشيخ الأديب والمفكر الداعية أبو الحسن علي الحسني الندوي في لقاء ضم الكثير من مفكري وأدباء العالم الإسلامي عن ولادة رابطة الأدب الإسلامي، التي أعطت الأدب الإسلامي كياناً متميزاً عن بقية المذاهب الأدبية الأخرى، على أنه يجب ملاحظة أن مفهوم الإسلامية سبق الإعلان عن الرابطة بسنين طويلة، فإنا نجد الدعوة للأدب الإسلامي في كتابات الداعية والأديب سيد قطب حينما كان يشرف على باب الأدب في الجريدة التي كان يرأس تحريرها في مصر عام 1952م. ونجدها أيضاً في كتابات أخيه محمد قطب عام 1961م وخاصة في كتابه منهج الفن الإسلامي، ونجدها أيضاً عند الدكتور نجيب الكيلاني سنة 1963م في كتابه: الإسلامية والمذاهب الأدبية، ونجدها أيضاً عند الدكتور عماد الدين خليل عام 1392هـ (1972م) في كتابه: النقد الإسلامي المعاصر وكتابه: محاولات جديدة في النقد الإسلامي الذي أصدره عام 1401هـ (1982م) وفي كتابه: فن الأدب الإسلامي المعاصر دراسة وتطبيق وفي كتاباته الأدبية التي سبقت نشر هذا الكتاب ومنذ عام 1961م في مجلة: حاضرة الإسلام الدمشقية.
ولذا فإن الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي رئيس جامعة ندوة العلماء في الهند ورئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية يعتبر أحدث دعاة الإسلامية والمؤسسين لها، وإنه وإن كانت الرابطة لم تتشح باسم الإسلامية متخذة اسم الأدب الإسلامي، إلا أن الأمر مجرد اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاحات.
? الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا:
- رحمه الله - نائب رئيس الرابطة للبلاد العربية، وكان أستاذاً للأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويعتبر من أوائل من نظر للإسلامية ودافع عن الأدب الإسلامي.
? الدكتور عبد القدوس أبو صالح:
أستاذ الأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب البلاد العربية.
? الشيخ محمد الرابع الندوي:
نائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب الهند.
? الأستاذ محمد حسن بريغش:
أمين سر الرابطة للبلاد العربية وعضو مجلس الإفتاء في الرابطة.
? الدكتور عدنان رضا النحوي :
الشاعر والأديب السعودي وعضو مجلس أمناء رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
? الأستاذ محمد قطب:
المفكر والداعية المعروف، والأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز وعضو الشرف في الرابطة، فقد تابع جهود شقيقه سيد قطب - رحمه الله - في الإسلامية في الأدب.
? الدكتور عبد الباسط بدر:
الأستاذ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأمين سر مجلس أمناء الرابطة.(33/412)
? الدكتور حسن الأمراني:
(مغربي): عضو رابطة الأدب الإسلامي ورئيس تحرير مجلة المشكاة التي تعني بالأدب الإسلامي.
? الدكتور محمد مصطفى هدارة:
(مصري) عضو الرابطة والأستاذ في جامعة الإسكندرية.. وهو أول من أظهر حقيقة مذهب(*) الحداثة الفكري والأدبي وأهدافه الهدامة.
? الدكتور عبد الرحمن العشماوي:
وهو يعتبر أبرز الأصوات الشابة الملتزمة بالإسلام والمدافعة عن القضايا الإسلامية والتصور الإيماني.
الأفكار والمعتقدات:
? جعل التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة، أهم أركان العمل الأدبي أيًّا كان نوعه.
الالتزام بالتصور الإسلامي، لا يعني التوجيه القسري على غرار ما يفرضه أصحاب التفسير المادي للتاريخ(*) وإنما هو أخذ النفس البشرية بالتصور الإسلامي للحياة في سائر فنون الأدب، وبذا تتميز الإسلامية عن فكرة الالتزام عند كل من الواقعية والاشتراكية(*) والوجودية، فالالتزام عند الأولى هو الالتزام بقضايا الجماهير حسب المفهوم الماركسي المنهار، والالتزام عند الثانية - في النثر فقط دون الشعر - بقضايا الحرية حسب المفهوم الوجودي فحسب.
? التعبير المؤثر، له أهمية في مجال الأدب ولا يستغني عنه بحجة سلامة المضمون، وبذلك يتميز الأدب عن الكلام العادي، فذلك مما يحقق غاية الإسلامية.
وغاية الإسلامية هي وجود أدب هادف، فالأديب المسلم لا يجعل الأدب غاية لذاته كما يدعو أصحاب مذهب: (الفن للفن) وإنما يجعله وسيلة إلى غاية، وهذه الغاية تتمثل في ترسيخ الإيمان بالله عز وجل ، وتأصيل القيم الفاضلة في النفوس.
? حرية التفكير والتعبير من متطلبات الإبداع(*) والصدق الأدبي وهي وسيلة لإثراء الأدب كماً وكيفاً.
? وقد وضع الإسلام حدوداً للحرية(*) في كل مجالاتها، ومنها مجال الأدب إذ إنه لا يعترف بحرية القول التي منحت للأدباء وغيرهم إذ رأى فيها خطراً يهدد سلامة المجتمع وأمنه العقدي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
? الأدب طريق مهم من طرق بناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح وأداة من أدوات الدعوة إلى الله والدفاع عن الشخصية الإسلامية.
? الإسلامية حقيقة قائمة قديماً وحديثاً وهي تبدأ من القرآن الكريم والحديث النبوي، ومعركة شعراء الرسول(*) r مع كفار قريش، وتمتد إلى عصرنا الحاضر لتسهم في الدعوة إلى الله ومحاربة أعداء الإسلام والمنحرفين عنه.
? الإسلامية هي أدب الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها، وخصائصها هي الخصائص الفنية المشتركة بين آداب الشعوب الإسلامية كلها.
? ترفض الإسلامية أي محاولة لقطع الصلة بين الأدب القديم والأدب الحديث بدعوى التطور أو الحداثة أو المعاصرة وترى أن الأدب الحديث مرتبط بجذوره القديمة.
? ترفض الإسلامية المذاهب(*) الأدبية التي تخالف التصور الإسلامي والأدب العربي المزور، والنقد الأدبي المبني على المجاملة المشبوهة أو الحقد الشخصي، كما ترفض اللغة التي يشوبها الغموض وتكثر فيها المصطلحات الدخيلة والرموز المشبوهة وتدعو إلى نقد واضح بناء.
? تستفيد الإسلامية من الأجناس الأدبية جميعها شعراً ونثراً ولا ترفض أي شكل من أشكال التعبير، وتعني بالمضمون الذي يحدد طبيعة الشكل الملائم للأداء.
? والإسلامية في الأدب تأبى الانحراف عن القيود الواردة في تعريف الإسلامية، فهي كما يقول أحد الباحثين تأبى مثلاً "تأليه الإنسان (كلاسيكياً)، وإغراقه الذاتي الأناني (رومنسياً)، وتمجيد لحظات الضعف البشري (واقعيًّا، وتصوير الانحراف الفكري أو النفسي أو الأخلاقي (وجوديًّا)" فليس ثمة عبث وليس ثمة حرية أخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى (سارتر) وليس ثمة تناقضات نفسية لا نهاية لها تنتهي دائماً بالضياع كما يرى (ديستوفيسكي).
? والإسلامية إطار واقعي للعمل الأدبي، فهي ليست مجالاً لتحقيق الخيال الجامح أو التعبير عن شطحات منبتة الصلة بالواقع، وواقع الإسلامية أنها فكرة غائية عقدية، وغايتها ليست تحقيق مصلحة ذاتية أو شخصية كإطار للبراجماتية وإنما تحقيق مصلحة العقيدة وكل من يتمسك بهذه العقيدة، فالإسلامية إطار للحقيقة لا الزيف والاستقامة لا الانحراف، ذلك أنها تدور مع وجود المسلم، وللوجود الإنساني غاية إسلامية كبرى هي الكدح والعمل والعبادة }أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{ [المؤمنون: 115] }وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى{ [النجم:39] وهذه الواقعية توجد في القرآن الكريم ذاته، فأحد معجزاته أنه قدم أمثلة عليا للأداء الفني المتجانس في القصة وغيرها وما قصة يوسف عليه السلام عنا ببعيد.(33/413)
? والإسلامية ليست قيداً على الإبداع(*) وإنما هي إطار موضوعي وشكلي لتحصين العمل الأدبي من الإسفاف الذي قد يقضي على الأديب، أما التحرر المطلق من كل القيم الذي ينهي وجود الأديب، أو الخروج عن منطق الأدب ذاته، فهذا أمر يفرغ العمل الأدبي من مضمونه، فمنطق الإسلامية، ينبثق من حضارة إسلامية، تتيح للأديب فرصة التعبير عن كل ما يجول بخاطره، فيطرح المضمون الذي يريد في الشكل الذي يريد طالما كان في إطار التصور الإسلامي.
? وترتيباً على ما تقدم فإن الإسلامية تختلف عن سائر المضمونات الدينية البعيدة عن العقيدة الإسلامية سواء كانت دينية سماوية أو دينية وضعية، ولذا فإن الانفتاح على الأعمال الأدبية يجب أن يتم من خلال وجدان إسلامي راق وحسّ إنساني مرهف، للتخفيف من هموم الإنسان ومعاناته لا دفعه في أتون الصراع اللانهائي بين العبث واللامعقول، والعدمية والوجودية، وغيرها من المذاهب التي لا تروي الظمأ الديني لدى المتلقي ولا تسمو بأحاسيسه ومشاعره، بل تلغي له الزمن في العمل الأدبي، وتفكك له الأحداث، وتلغي له الشخصيات، وتمس جوهر العمل، فمسخ العمل أو تشويهه ليس من طبيعة الإسلامية.
بل إن هذا العمل لا يمكن أن يرتطم بطبائع الأمور ولا النظرة الإسلامية للكون والحياة والوجود، ومن أجل هذا فإنه وإن كان لا يجوز دمج الإسلامية في غيرها من المذاهب إلا أن الإسلامية لا تأبى التعايش مع أي نتاج أدبي عالمي، طالما لم تهدم الحواجز بين الأمرين، فخصوصية الإسلامية أنها وليدة الزمن والمكان، وأنها نسيج لقاء العقيدة بالإنسان، ولذا فإنها عالمية الأثر، كونية الرؤية، شمولية النزعة، توفق بين المنظور الواقعي والغيب اللامرئي، وتوائم بين المادي والروحي، وتجانس بين الثابت والمتغير، ولا يوجد فيها أي تنافٍ لوجود المحدود مع المطلق، ومعالجة الجزئي مع الكلي، طالما أن الهدف الأساسي للإسلامية هو صنع عالم سعيد لبني البشر، يعينهم على تجاوز متاعبهم، ويزيل المتاريس التي تقف أمام انطلاق عقيدتهم. ومن أمثلة هذه المتاريس النتاج الأدبي المتأثر بالنصرانية والذي نجده عند لويس شيخو، وسلامة موسى، وغالي شكري، ولويس عوض، وإيليا حاوي، وخليل حاوي، وسعيد عقل، وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم، وقد تأثر بهم بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
- والإسلامية كبنيان أدبي عقدي، تجد في الإسلام مجالاً رحباً، يقدم الأدباء من خلاله فكرهم البناء، وسلوكهم الهادف، وتصورهم الصائب، وقضايا الإنسان التي تحتاج إلى معالجة. والإسلامية تجعل كل هذه الأمور ذات بنيان متجانس السمات، غير متنافر الأهداف والغايات، ولا حجر في أن تكون الإسلامية فكرة عقدية، فليس المطلوب منا أن نذوب في غيرنا أو أن نكون انعكاساً لحقائق أو أوهام تزرع في غير تربتنا، وحسبنا أن نعود إلى ماضينا لندرك عظمة توجيه الرسول(*) r الشعراء إلى الدفاع عن المجتمع المسلم والجهاد بالكلمة، ولنعي أن البنية الخلقية الإسلامية.. أحدثت انقلاباً عميقاً في النفوس، ولذا عاشت الإسلامية وأمكن استخلاصها من بطون الكتب، وكانت توجيهات الخلفاء الراشدين للشعراء بالالتزام بالبنية الأخلاقية الإسلامية، وفي العصر العباسي علت دعوة أبي العتاهية إلى الزهد، وهكذا.
أماكن الانتشار:
أصبح للإسلامية أنصار في جميع أنحاء العالم.. ولها مكتبات في الهند وفي البلاد العربية وعقدت رابطة الأدب الإسلامية العالمية عدة مؤتمرات في الهند وتركيا ومصر، واشترك فيها عدد كبير من أدباء العالم الإسلامي.
ويتضح مما سبق :
أن الإسلامية ذات مدلول شامل في الزمان والمكان، فهي قديمة قدم الدعوة الإسلامية، وممتدة مع الإسلام عبر الأزمان. وهي لا تختص باللسان العربي المسلم دون سواه، بل تتعلق بكل مسلم أياً كان مكان ولادته أو نشأته. والإسلامية ليست حبيسة صفحات الكتاب المتفرغين للأدب والمعنيين به، وإنما توجد في ثنايا كتابة تعرض لأي مسألة، حتى وإن كانت من مسائل العلم في شتى فروعه. ومن هذا المنطلق فإن المدرسة الأدبية الإسلامية الهندية أو الباكستانية أو الأندونيسية أو التشادية أو السنغالية أو غيرها تعتبر تجسيداً للإسلامية في الأدب، كما تعتبر الكتابات العلمية ذات الأسس الجمالية والبنيانات الفنية من هذا القبيل أيضاً، فآداب الشعوب الإسلامية غير العربية هي رافد من روافد الإسلامية مادام أنها في إطار التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة ولا تعرض ما يرفض الإسلام أو يتعارض مع منهجه الفكري.
-------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا. ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1405هـ/1985م.
- منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، دار الشروق، بيروت، القاهرة.
- في الأدب الإسلامي المعاصر، محمد حسن بريغش، مكتبة المنار، الأردن الزرقاء.
- الأدب في خدمة الحياة والعقيدة، عبد الله حمد العويشق، ط. كلية اللغة العربية بالرياض، 1389هـ/1390هـ.(33/414)
- نظرات في الأدب، لأبي الحسن الندوي، دار القلم، دمشق 1408هـ/1988م.
- الأدب الإسلامي وصلته بالحياة، محمد الرابع الندوي، مؤسسة الرسالة، ط1 1405هـ/1985م.
- أدب الصحوة الإسلامية، واضح الندوي، مؤسسة الرسالة ط1، 1405هـ/1985م.
- تعريف برابطة الأدب الإسلامي، إصدار الرابطة عام 1409هـ/ 1989م.
- مجلة المشكاة. العدد 13 السنة الرابعة 1410هـ/1990م.
- النقد الأدبي أصوله ومفاهيمه، سيد قطب، دار الشروق، بيروت.
- الإسلامية والمذاهب الأدبية، د. نجيب الكيلاني/ مؤسسة الرسالة ط2 (1401هـ).
==============(33/415)
(33/416)
أسلمة المعرفة المبادئ العامة وخطة العمل
تأليف
د. إسماعيل راجي الفاروقي
الأستاذ بجامعة تمبل ، بنسلفانيا ، الولايات المتحدة الأمريكية
ترجمة
عبد الوارث سعيد
جامعة الكويت
دار البحوث العلمية بالكويت
1983
تمهيد
يسعد أمناء "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" أن يقدموا للعلماء المسلمين في أنحاء العالم هذه الهدية العزيزة . إنها دراسة حول " أسلمة المعرفة"، ويعتقدون أنها أنسب هدية يمكن أن تقدم في هذا العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري ... إنها ثمرة بحثين حول الموضوع أعدهما رئيس هيئة الأمناء ومدير المعهد بالإضافة إلى ما تزود به عن طريق أكثر من خمسة عشر من علماء الإسلام العالميين ممن شاركوا في حلقة البحث التي عقدت في "إسلام أباد" و "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، في مدينة "إسلام أباد" من شهر ربيع الأول 1405 هـ يناير 1982م.
إن الأهمية الكبيرة لهذه الدراسة، التي تلي هذا التمهيد ، تنبع من حقيقة مفادها أن تقدير المرء لواقعه واستفادته من ماضيه وقيامه بالتخطيط ليوجه مسار التغيير نحو الأهداف المرجوة إنما هي الأسس المطلقة لضمان البقاء والازدهار. وإن الحكم الإلهي: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ......)(الرعد: من الآية12) لهو السنة المطلقة للتاريخ.
إن هذه الدراسة لَتُعلن بقوة أن "الأمة" تعانى من انحراف خطير يتهددها، وتحاول أن تقدم للأمة علاجاً أكيداً يعيد إليها العافية ، كما تستحثها إلى الأمام نحو الدور المقدر لها ، أن تحمل مسؤولية قيادة العالم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: الآية143) .
وهذه الاعتبارات تعطى لهذه الدراسة الحق في أن تنال من المفكر المسلم أقصى ما يستطيع من الاهتمام الجاد، وتثير فيه إمكاناته الروحية فيبحث عن الغاية العظمى ويسهم في تحقيقها في المستقبل.
لقد شهد النصف الأخير من القرن الرابع عشر موجة هائلة من الوعي الإسلامي عمت العالم كله ، فضلاً عن عديد من الخطوات المهمة اتخذتها أجزاء من هذه الأمة على طريق التحرر الذاتي. ورغم هذه الخطوات إلى الأمام، فإن هذا القرن نفسه قد شهد انتكاسة شديدة تمثلت في اندفاع عام عند المسلمين لتقليد الحضارات الأخرى. هذا الاندفاع لم يحقق هدفه في أي مجال كان ، بل إنه نجح في تجريد الطبقة العليا من المجتمع الإسلامي من إسلامها وأن يوهن من عزيمة الباقين ... لقد غشيت الرؤية الإسلامية برؤية أجنبية وفدت إلينا مع الغزاة المستعمرين. ولما رحل المستعمر بقيت هذه الرؤية الأجنبية، بل أصبحت أشد خطراً. وبدا المسلمون لعدة أجيال غير قادرين على التخلص منها... إنك لتراها واضحة في كل مكان: في المؤسسات المستوردة ، وفي بانتشار اللغتين الإنجليزية والفرنسية بينهم، وفي تصميم مكاتبهم وبيوتهم ومدنهم ، وفي برامجهم الترفيهية ...في المناهج الاقتصادية والسياسية التي يتبعونها، وفيما يعتنقون من أفكار عن الحقيقة والطبيعة والإنسان والمجتمع.... وكان العامل الأول في انتشار هذا التصور الأجنبي هو النظام التعليمي، فقد شعبوه إلى نظامين: نعتوا أحدهما "بالحديث" والآخر "بالإسلامي"... هذا التشعيب يعتبر صورة مصغرة لانحطاط المسلمين. وما لم يتم علاج هذا الأمر والتخلص منه ، فسيظل يدمر جهد كل مسلم يبذله لإعادة بناء "الأمة" ولتمكينها من أداء "الأمانة" التي ائتمنها الله تعالى عليها.(33/417)
لقد حاول كثيرون من كبار الشخصيات الإسلامية في الماضي أن يصلحوا نظام التعليم الإسلامي وذلك بأن يضيفوا إلى مناهجه الدراسية الموضوعات الأساسية في النظام الأجنبي. ويعتبر السيد أحمد خان والشيخ محمد عبده أبطال هذه المحاولة، أما جمال عبد الناصر فقد وصل إلى ذروة هذه الاستراتيجية عام 1961 حين حول الأزهر - أعظم حصن للتعليم الإسلامي - إلى جامعة "حديثة"... لقد استقرت جهود هؤلاء، وجهود الملايين من أمثالهم ، على فرضية أن تلك الموضوعات التي تدعى "بالحديثة" لا ضرر فيها وأنها يمكن أن تمد المسلمين بالقوة، وقليلاً ما أدركوا أن هذه الدراسات الأجنبية من "إنسانيات" و "علوم اجتماعية"، وحتى "العلوم الطبيعية" كذلك، ما هي إلا واجهات لنظرة متكاملة للحقيقة وللحياة وللعالم وللتاريخ - نظرة غريبة بنفس الدرجة عن نظرة الإسلام. وقليلا ما عرفوا عن العلاقة الدقيقة والضرورية التي تربط مناهج البحث في تلك الدراسات كما تربط نظرياتها في الحقيقة والمعرفة بنظام القيم لهذا العالم الأجنبي ، ومن هنا كان عقم إصلاحاتهم... فمن ناحية ظلت الدراسات الإسلامية الآسنة على حالها لم تمس ؛ ومن ناحية أخرى لم يؤد العلم الجديد الذي أضيف إلى إنتاج أي مهارة متميزة كتلك التي ينتجها في موطنه الأصلي... الذي حدث هو العكس ، إذ جعل المسلمين عالة تتبع البحث الأجنبي والقيادة الأجنبية ، لقد نجح - تحت تأثير مزاعمه الطنانة بالموضوعية العلمية - أن يقنعهم بأن فيه الحق الذي يعلو-بل يناهض- مقررات الإسلام التي وسمها أنصار التقدم المتحمسون بالمحافظة والتأخر.
لقد آن الأوان لكي يتبرأ علماء الإسلام من أمثال هذه الطرائق السطحية والضارة في الإصلاح التعليمي. إن إصلاح التعليم المرجو منهم هو صبغ المعرفة الحديثة ذاتها بالصبغة الإسلامية. وهي مهمة تشبه في خصائصها - وإن كانت أرحب مدى - ما اضطلع به أسلافنا ثقافياً وحضارياً. فالدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية والطبيعية يجب - كمقررات دراسية - أن تُتصور وتُبنى من جديد وأن تقام على أسس إسلامية جديدة وتناط بها أغراض جديدة تتفق مع الإسلام. يجب أن يصاغ كل علم صياغة جديدة بحيث يجسد مبادئ الإسلام في منهجيته و استراتيجية، وفي معطياته ومشاكله، وفي أغراضه وطموحاته. يجب أن يعاد تشكيل كل علم كي يصبح ملائما للإسلام عبر محور أساسي هو "التوحيد" بأبعاده الثلاثة:
البعد الأول: هو وحدة المعرفة التي يجب بمقتضاها أن تسعى كل العلوم إلى طلب معرفة الحقيقة بمنهج عقلي موضوعي نقدي، وهذا سوف يريحنا وإلى الأبد من الزعم الذي يقسم العلم إلى "عقلي" و "نقلى" بما يوحى بأن الثاني غير عقلي؛ أو يقسمه إلى دراسات "علمية ومطلقة" وأخرى "اعتقادية نسبية".
والبعد الثاني: هو وحدة الحياة والتي بمقتضاها يجب أن تأخذ كل العلوم في اعتبارها الطبيعة "الهادفة" للخلق وتعمل على خدمتها، وهذا سيقضى وإلى الأبد على الزعم القائل بأن بعض العلوم عظيم القيمة وبعضها محايد أو عديم القيمة.
أما البعد الثالث: فهو وحدة التاريخ التي يجب بمقتضاها أن تعترف كل العلوم بأن النشاط الإنساني كله ذو طابع اجتماعي أو مرتبط "بالأمة" ، وأن تعمل على خدمة أهداف الأمة في التاريخ. وهذا سوف يقضى على تقسيم العلوم إلى "فردية" و "اجتماعية" مبرزا - وعلى الفور - جميع العلوم [على أنها] إنسانية الطابع وذات ارتباط بالأمة.(33/418)
ومما لا ريب فيه أن الإسلام ملائم لكل جوانب التفكير والحياة والوجود. وهذا التلاؤم يجب أن يظهر بوضوح تام في كل علم. فالكتب الدراسية المستخدمة في كل علم يجب أن تُكتب من جديد بحيث تضع هذا في موقعه كجزء تكاملي من الرؤية الإسلامية للحقيقة، بل ويجب أن يتلقى المدرسون المسلمون تدريباً على كيفية استخدام الكتب الدراسية الجديدة ، وأن يعاد تشكيل جامعات المسلمين وكلياتهم ومدارسهم بحيث تستأنف قيادتها الرائدة في تاريخ العالم... لقد كانت "المدرسة الإسلامية" التي استمدت حياتها من رؤية الإسلام هذه هي التي أوجدت لنفسها أوقافا هي التي أعطتها شخصيتها القانونية المشتركة واستقلالها؛ مما جعلها نموذجا تحتذيه جامعات باريس وأكسفورد وكولون في القرن العشرين... كذلك فإن هذه الرؤية الإسلامية هي التي جعلت "المدرسة الإسلامية" رائدة في كل مجال من مجالات البحث الإنساني، وكانت هي القالب الذي تصاغ فيه الشخصية الإنسانية وخصائصها ، وهي المخطط لكل إنجازات الأمة في الثقافة والحضارة. وكانت هذه "المدرسة" تراعى برنامج الإسلام الذي يبدأ يومه بصلاة الفجر وينتهي بصلاة العشاء. وكان نشاطها التعليمي عملية معايشة يتعايش فيها الطالب والمعلم بصفة دائمة ويعملون معا وليس أمامها إلا هدف واحد - هو تطبيق سنن الله في الخليقة... كان منهجها التربوي يقوم على شخصية الشيخ المفعمة بالتقوى والتلميذ الذي عليه أن يحاكى شيخه. وكان افتتاحها بإلباس الشيخ تلميذه "العمامة" (وهي أصل القبعة والرداء اللذين يلبسان في حفل التخرج في الوقت الحاضر) وذلك رمزا إلى الثقة الكاملة التي يجب أن يتكلم بها التلميذ بإذن شيخه ونيابة عنه. كانت مستويات التعليم في أعلى درجة وذلك نظرا للخطورة البالغة لوضع كرامة الشيخ وسمعته في يدي الطالب. كان الوصول إلى هذا "الإحسان" [أو الإتقان] ممكنا لأنه قام على أساس الرؤية الإسلامية، ولأن العزيمة والتفاني في طلب الحقيقة كانا ممحضين لله وحده.
ومع هذا، وعلى الرغم من كل هذا، فقد وجد المسلمون أنفسهم في مطلع القرن الخامس عشر الهجري محاصرين بطوفان من الطلاب، وليس في أيديهم مخططات لنظام تعليمي ينمو نمواً طبيعياً، [يواجَهون] بانفجار في المعرفة على كل الجبهات مع انعدام المخططات التي تمكن الأساتذة والمؤسسات التعليمية من مواجهته بنجاح... والنتيجة أن العالم الإسلامي استمر يرسل إلى الغرب أعدادا متزايدة من شبابه ليتعلموا ويتدربوا ، ولكنه ظل مع ذلك يعانى فقده لهم نتيجة "هجرة الأدمغة". وزيادة في المأساة ، كان مطلع القرن الخامس عشر الهجري صدمة للضمير الإسلامي إذ تزامنت معه الحرب الدائرة بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران ، وغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وغزو إسرائيل للبنان وضم مرتفعات الجولان ومخططات ضم فلسطين كاملة وحروب الصحراء الغربية المستمرة واستمرار احتلال وضم كشمير وبنجلادش ، واضطهاد الشعب المسلم في الهند (وهم يشكلون أكبر أقلية عرفها التاريخ). والأمَرُّ من هذا، أن العاملين لإنهاض المسلمين أصبحوا على مستوى العالم هدفاً للاتهام والاضطهاد والتشويه. وأصبح مستقبل الإسلام نفسه في خطر.
كل هذه الظواهر لفَّت "الأمة" في ظلمة وكآبة ... وليس ثمة موقف عصيب إلى درجة المأساة أكثر من أن يصبح مفكرو "الأمة" وكل همهم أن يركزوا فكرهم في تشخيص دائها والبحث عن علاج له... إن صرخة الجهاد "الله أكبر" لم تكن يوما مطلباً ملحاً في التاريخ الإسلامي على المستوى الفكري أكثر منها اليوم.
عسى أن ينهض مفكرو "الأمة" ويرتفعوا إلى مستوى التحدي ! أسأل الله تعالى أن يحفهم دائما بهدايته ، وأن يوفقهم إلى أن يحققوا في هذا المجال ما يرضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلموجميع المؤمنين.
ذو الحجة 1402 هـ/ 1982 م
إسماعيل راجي الفاروقي
مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي
وينيكوت ، بنسلفانيا
الولايات المتحدة الأمريكية
الفصل الأول
المشكلة
أولا : اعتلال الأمة(33/419)
تقف الأمة الإسلامية اليوم في مؤخرة ركب الأمم ... ولم يشهد هذا القرن أمة تعرضت لمثل ما تعرضت له الأمة الإسلامية من هزيمة وإذلال. لقد هزم المسلمين وقتلوا وسلبت منهم أوطانهم وثرواتهم، بل وأرواحهم وآمالهم... لقد خُدعوا فاستُعمروا واستُغلوا؛ وفُتنوا في عقيدتهم وأُدخلوا بالقوة أو بالرشوة في أديان أخرى... وقام أعداؤهم من الخارج مستعينين بعملائهم في الداخل فحولوهم إلى علمانيين أو عبيد للغرب وجردوهم من إسلامهم. كل هذا حدث في كل دولة وكل ركن في العالم الإسلامي ، ورغم أن المسلمين كانوا ضحايا الظلم والعدوان في كل ناحية ، فقد ساهمت كل الأمم في تشويه صورتهم وتلطيخ سمعتهم ، إن صفحتهم هي أشد الصفحات سوادا في عالم اليوم... وقد دأبت وسائل الإعلام في أيامنا هذه على تصوير "المسلم" على أنه عدواني ، مخرب ، مخادع ، مستغل ، قاس ، متوحش ، متمرد ، إرهابي ، همجي ، متعصب ، متحجر الفكر ، متخلف ، سقيم الرأي... وقد أصبح لذلك محل الكراهية والاحتقار من غير المسلمين جميعهم سواء أكانوا متقدمين أم متخلفين، رأسماليين أم ماركسيين ، شرقيين أم غربيين، متحضرين أم همجيين... ولا يعرفون عن العالم الإسلامي إلا ما فيه من صراعات وانقسامات واضطرابات وتناقضات وحروب تهدد السلام العالمي، وإلا ما فيه من ثراء فاحش وفقر مدقع ، ومجاعات وأمراض وبائية ، إن "العالم الإسلامي" في نظر الناس اليوم هو "الرجل المريض" [المنتظَر موته] ، ويريد الأعداء أن يجعلوا العالم يقتنع بأن "دين الإسلام" يقف وراء كل هذه الشرور... والأمر الذي يجعل هذه الهزيمة وهذا الإذلال والتشويه أمورا لا تطاق أبداً أن تعداد هذه الأمة يفوق المليار ، وأنها تملك أوسع رقعة من الأرض المتصلة وأغناها ، وأن إمكانياتها من الموارد البشرية والمادية و الاستراتيجية أعظم من غيرها ، وأن عقيدتها "الإسلام" دين متكامل وصالح ، وإيجابي وواقعي.
ثانيا: الأعراض الرئيسية للمرض
1. على الصعيد السياسي:
"الأمة" منقسمة على نفسها... لقد نجحت القوى الاستعمارية في تفتيت "الأمة" إلى نحو خمسين وحدة سياسية أو أكثر ، وجعلت كلا منها عدوا للأخرى. وقد أقيمت الحدود بين الدول الإسلامية بحيث تخلق خلافات دائمة بين كل دولة والدول المجاورة لها.
والأعداء في مؤامراتهم يستغلون باستمرار مناطق الخلاف هذه لإثارة أسباب التنافر والعداوة... أما داخلياً، فإن كل دولة إسلامية منقسمة بدورها على نفسها ، لا وئام بين عناصر شعبها ، وتجد من بينها مجموعة معينة وضع السادة المستعمرون السلطات في يدها... وليس هناك دولة أعطيت الوقت أو السلام أو الموارد اللازمة لتحقيق التكامل بين أبناء شعبها وتكوّن منهم وحدة واحدة ؛ ولم يسمح لأي دولتين أن تتحدا لتكونا معا وحدة أكبر... ولكي يصبح الوضع أكثر سوءاً استقدم العدو عناصر أجنبية إلى العالم الإسلامي كي يضمن وجود صراع مستمر بينهم وبين أهل البلد ؛ أو عمل على إدخال بعض أهل البلد في المسيحية الغربية التي تجعلهم بالضرورة أجانب بالنسبة إلى مواطنيهم المسلمين ؛ أو دس بين غير المسلمين من المواطنين فكرة الشعور بشخصية متميزة مما يضعهم في مواجهة مع المسلمين . وأخيرا، خلق العدو كيانات "أجنبية" داخل جسم الأمة وجعل منها دولاً معادية بهدف توجيه طاقات المسلمين بعيداً عن البناء واستنزافها في حروب لا طائل وراءها ، أو لتكون قاعدة يستخدمها الاستعمار إذا ما قرر أن يحتل تلك البلاد ثانية من أجل مصالح القوى الاستعمارية الاقتصادية و الاستراتيجية... وليس من بين الدول الإسلامية دولة تشعر بالأمن الداخلي ولا بالأمن الخارجي . إن كل حكومات الدول الإسلامية تنفق الجزء الأكبر من مواردها وطاقاتها لتأمين قوتها في الداخل وسلامتها من الخارج ، ولكن دون فائدة.
قامت الإدارة الاستعمارية بتحطيم كافة المؤسسات السياسية في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي كله باستثناء عدد قليل من الأقطار وجد العدو أن حكامها على استعداد للتعاون معه... وحين حان أوان انسحاب الإدارات الاستعمارية عهدت بالسلطة إلى "الصفوة" من أهل البلد ممن كان قد سبق تعبيدهم وصبغهم بالصبغة الغربية. أما القوة الحقيقية فقد بقيت في أيدي العسكريين وحدهم ، فعَدَوْا على السلطة واغتصبوها في أول فرصة سنحت ... إن المسلمين - في أغلب الحالات - يحكمهم العسكر وذلك لخلو مجتمعاتهم من التشكيلات السياسية القادرة على إدارة جهاز الحكم ، أو على تحريك الجماهير ودفعها إلى المقاومة أو على قيادتها للقيام بعمل سياسي بناء ، أو حتى على العمل في تعاون وذلك أضعف الإيمان.
2- على الصعيد الاقتصادي:(33/420)
الأمة غير نامية بل ومتخلفة... أغلبيتها الساحقة في كل مكان أميون. إنتاجها من السلع والخدمات أقل كثيرا من الاحتياجات التي تُشبع دائما عن طريق البضائع الجاهزة المستوردة من القوى الاستعمارية. وحتى في مجال المتطلبات الأساسية للحياة من أطعمة وملابس وطاقة وآلات لا نجد دولة إسلامية تستطيع الاعتماد على نفسها... ومن الممكن أن تواجه أي من هذه الدول مجاعة إذا ما قررت القوى الاستعمارية لأي سبب أن توقف هذه التجارة الظالمة معها... في كل مكان تعمل المصالح الاستعمارية على خلق رغبات ومطالب استهلاكية لمنتجات الاستعماريين، بينما احتياجات المسلمين إلى آلات إنتاجية لا يلقى إليها أحد بالاً... وفي ميدان المنافسة مع المنتجات المحلية للمسلمين ينجح الاستعماريون في طردها من السوق، وإذا ساعد الاستعماريون في تنمية صناعة ما في بلاد المسلمين فإنهم يجعلونها معتمدة على ما لديهم من مواد خام أو مصنعة لا تتوفر إلا عندهم، فبذلك تصبح خاضعة لهم تعمل تحت رحمتهم ، وتخدم أغراضهم الاستعمارية ، وفي معظم الأحوال لا يخطط للصناعات الجديدة في بلاد المسلمين لتواجه الاحتياجات الأساسية ، وإنما لتواجه المتطلبات الكمالية التي خلقتها وسائل الدعاية الاستعمارية المكثفة... إن الاكتفاء الذاتي للمسلمين في مجال الزراعة هو العدو الأول للاستعماريين، إذ هو الأساس الذي لا غنى عنه ليتمكنوا من مقاومة أي مخطط استعماري في الوقت الراهن وفي المستقبل. في كل مكان تجد الفلاحين المسلمين يُقتلعون من قراهم نتيجة الوعود الزائفة بحياة أفضل في المدن ، وإغراء الوظائف المؤقتة في مشاريع لا أمان لها كالبناء وصناعات السلع الاستهلاكية ، ونتيجة لاستغلال ملاك الأراضي وجامعي الضرائب فإنهم يهاجرون إلى العواصم ليعيشوا في مدن من الأكواخ تعتمد أساساً على الأطعمة المستوردة ، وهم مستعدون للسير وراء أي مهرج يقودهم.
إن كنوز البترول التي شاء الله أن يمنحها لبعض الأقطار الإسلامية لم تصبح النعمة التي كانت ترتجى... هذه الثروة التي وُجدت غالباً في البلاد قليلة السكان قد دفعت الحكومات إلى انتهاج سياسة عنصرية ، وإلى تبديد الثروات في تطوير بلادهم تطويراً "تجميلياً" زائفا. والحق أن هذه الثروات طائلة إلى حد أن مثل هذه الاهتمامات لا يمكن أن تستنفذها، ومن هنا فإنها توجه نحو استثمار "سهل ومضمون" في أسواق المال غير الإسلامية ، وهناك تساعد أعداء الإسلام ليصبحوا أكثر قوة، وذلك لأن عدم الاستقرار السياسي في كل بلاد العالم الإسلامي يجعل من أي تخطيط أو استثمار طويل الأمد مخاطرة كبيرة لا يقدم عليها أي مستثمر حريص... وعلى هذا، فإن مناطق العالم الإسلامي التي تتمتع بإمكانات تؤهل لتطور مهم في الزراعة أو في الصناعة تبقى محرومة من رؤوس الأموال الممولة .. إن رؤوس الأموال التي يمكن أن تطور هذه الإمكانيات إلى رخاء حقيقي لصالح "الأمة" كلها إنما توجه إلى مواقع أخرى.
3- على الصعيد الثقافي والديني:
إن انحطاط المسلمين الذي دام قرونا قد أدى إلى انتشار الأمية والجهل والخرافة بينهم ... وهذه الشرور قد أدت بالمسلم العادي إلى أن "ينعم" بعقيدة قائمة على التقليد الأعمى ، وأن يتجه نحو الحَرْفية والشكلية القانونية، أو أن يعبِّد روحه لشيخه... وهذا بدوره قد ربى فيه استعدادا غير قليل للانهزامية... فحين فرض العالم الحديث نفسه عليه أصيب بالذعر نتيجة لضعفه العسكري والسياسي والاقتصادي ، فسارع لذلك إلى ضرب من الإصلاح الجزئي ظنا منه أن ذلك سيعينه سريعاً على أن يستعيد الأساس الذي ضاع منه ، فاتجه - دون وعى منه - إلى تقليد الغرب ، أغراه بذلك نموذج التجربة الغربية الناجح وناصِحُوه من الغربيين أو المستغربين... وفي المناطق الخاضعة للإدارة الاستعمارية فُرضت عملية "التغريب" فرضا ، وعُززت بكل ما تحت أيدي الحكام من وسائل متاحة... وسواء أكان ذلك عن حسن نية أو عن سوء نية ، فقد كان الزعماء المسلمون من دعاة التغريب لا يعلمون أن تلك البرامج ستؤدى - عاجلا أو آجلا - إلى تعريض الدين الإسلامي وثقافة شعوبهم للخطر... إن الروابط بين مظاهر الإنتاج والقوة الغربيين من ناحية ، والأفكار الغربية عن الله والإنسان ، وعن الحياة والطبيعة والعالم، وعن الزمان والتاريخ من ناحية أخرى،-- هذه الروابط كانت من الدقة بحيث لم يلحظوها أو يعقلوها في غمرة تعجلهم... والنتيجة أن قام نظام تعليمي عَلماني يلقن القيم والمناهج الغربية، وسرعان ما بدأ هذا النظام يصب في نهر المجتمع أجيالا من الخرجين الجاهلين بتراثهم الإسلامي، وقد صاحب هذا الجهل شك من حراس التراث ، أعنى "العلماء"، الذين كانوا حسني النية على الرغم من التراثية الجامدة أو الحَرفية أو الشكلية القانونية أو الصوفية التي نزعوا إليها... وهكذا بدأت الفجوة تتسع بين صفوف "الأمة" لتقسيمها ما بين دعاة للعَلمانية والتغريب في جانب ومناهضين للعلمانية من جانب آخر... وقد عنيت القوى الاستعمارية بالوضع بحيث أصبحت الفئة الأولى هي صانعة القرار في المتجمع.(33/421)
وأصبح كل شيء إسلامي هدفاً للهجوم ... سواء على أيدي الاستعماريين مباشرة أو على أيدي أدواتهم من أهل البلاد ... ولم ينج من هذا الهجوم حتى النص القرآني ، أو صدق الرسول صلى الله عليه وسلموسنته ، أو كمال "الشريعة" ، أو أمجاد إنجازات المسلمين في ميادين الثقافة والحضارة... كان الهدف هو غرس الشك في ثقة المسلم بنفسه وبأمته وبعقيدته وسلفه الصالح وذلك لتدمير وعيه الإسلامي وإفساد شخصيته الإسلامية وجعله نتيجة لذلك أكثر خضوعاً تعوزه القدرة الروحية اللازمة للمقاومة. وعوضاً عن ذلك ملأ الاستعماريون وأدواتهم حياة المسلم اليومية بما يصبغه بصبغة الثقافة الغربية... فالصحف والكتب والمجلات والإذاعة المسموعة والسينما والمسرح والمواد المسجلة ولوحات الإعلانات واللافتات الضوئية ، كلها تمطره يومياً بوابل من تلك المؤامرات. لقد صارت الحكومات الإسلامية تفتخر بما لديها من شوارع واسعة في عواصمها مرصعة بالعمارات ذات الشقق أو المكاتب الفخمة على الطراز الغربي ، وذلك دون أن يشعروا بالخجل من الفساد السياسي والانحطاط الخلقي الذي ملأ مدنهم وقراهم... صارت العلية من المستغربين يترددون على الصالات العامة ليشاهدوا ويستمعوا إلى فيلم أو "أوبرا" أو حفلة موسيقية أو "دراما"، على حين يقرأ عنها أبناؤهم وبناتهم في المدارس والكليات العَلمانية أو التبشيرية دون أن يدركوا تناقض كل هذا مع كل ما يفكرون فيه أو يؤدونه... فأولئك الذين أكملوا "تغريب" أنفسهم من بينهم وقفوا في غرابة ضد بيئتهم وأرضيتهم الإسلامية ... أما الثقافة الإسلامية المتكاملة ووحدة النهج الإسلامي للحياة فقد تحطمت في ذواتهم، وفي فكرهم وفي عملهم، وفي بيوتهم وعائلاتهم... وبكل وقاحة أُدخلت المؤسسات والتقاليد الاجتماعية الغربية... فبدلا من أن تسمو النساء المسلمات بأنفسهم إلى ذرى الفضيلة والفعالية في المجتمع كما أراد لهن الإسلام ، إذ بهن يتهالكن على مظاهر الانحطاط الغربي : العرى المتزايد والتبرج ، والاستهلاك الاقتصادي بهدف التحلل الفردي، أو لانكباب الأناني على الملذات ، والتهرب من الواجبات التي تفرضها مطالب الحياة المتزايدة.
لا أثر في عواصمنا لفن المعمار ولا لفن تخطيط المدن الإسلاميين... مراكزنا الحضرية التي تتورم بسرعة تكرر كل الأخطاء والنقائص التي وقعت فيها المدينة الغربية وهي تتعرض لتجربة الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمان، وكأننا أصبحنا عاجزين تماما عن الاستفادة من أخطاء الآخرين... بيوتنا وما فيها من أثاث وتنسيق إنما هي مزيج غريب من كل الأساليب مما يعكس اضطراب أفكارنا عن هويتنا وخصائصنا.
وباختصار، لقد نزل المسلم بنفسه إلى درك الهمجية وذلك على الرغم من ادعائه غير ذلك إلى حد صبغ نفسه بصبغة "الغرب"... لقد أصبحت حياته خليطاً من أساليب شتى و مبتوتة الصلة بماضيه... لقد جعل من نفسه شيئاً لا هو بالإسلامي ولا هو بالغربي ، جعلها "مسخاً ثقافياً" للعصور الحديثة.
ثالثا : مكمن الداء
ليس هناك أدنى ريب في أن مركز الداء ومنبعه في هذه الأمة إنما هو النظام التعليمي السائد... إنه التربة الخصبة لتربية العلل... في المدارس والكليات تولد وتؤيَّد عملية تغريب النفس عن الإسلام: عن تراثه وأسلوبه... إن النظام التعليمي هو المعمل الذي فيه يُعجن ويشكَّل الشباب المسلم ، وهناك يصاغ وعيهم في قالب هو صورة ممسوخة للغرب ، وتفصم الرابطة بين المسلم وماضيه وتوضع في وضع حرج رغبته الطبيعية في التطلع لمعرفة تراث أسلافه... ونتيجة للشكوك التي بثها هذا النظام في أعماق وعيه تصاب بالتبلد رغبته في أن يقف مع أسلافه على أرض مشتركة لينطلق منها نحو بعث لإسلام جديد وملائم للعصر.
1- الوضع الراهن للتعليم في العالم الإسلامي:(33/422)
التعليم في العالم الإسلامي في أسوأ حالاته على الرغم من التوسع الهائل الذي تم حتى الآن، أما فيما يتعلق "بأسلمة التعليم" فلم تكن المدارس والكليات والجامعات - التقليدية منها والعلمانية - بأشد جرأة مما هي عليه اليوم في الدعوة إلى مبادئها اللاإسلامية ، كما أن الأغلبية الساحقة من الشباب المسلم لم تكن في يوم من الأيام أكثر افتنانا بهذه المبادئ منها اليوم... ولما كان النظام التعليمي العَلماني قد نشأ في ظل الإدارات الاستعمارية فقد احتل مساحة هائلة من المساحة وأُبعد عنها النظام الإسلامي... ظل التعليم الإسلامي في جملته قائماً على الجهد الذاتي الفردي محروماً من الاستفادة من الاعتمادات المالية الحكومية... وحيثما توفرت تلك الاعتمادات فإن متطلبات "العلمنة" كانت تفرض نفسها باسم الحداثة والتقدم... كان هذا يؤدى إلى تقسيم المنهج الدراسي إلى شعبتين متقابلتين بل متعارضتين - تدعى إحداهما "إسلامية" والأخرى "حديثة" (كذا!) ، معتبرين الأزهر هو النموذج التقليدي... فأما الشعبة الإسلامية فتبقى على حالها دون تغيير بدعوى المحافظة ومن أجل مصالح مكتسبة ، من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن العلمانية تخطط لإبعاد التعليم الإسلامي عن الاحتكاك بالواقع وبالتطورات الحديثة وذلك حتى لا يشكل خريجوه عناصر منافسة لخريجي المعاهد العًلمانية... كل هذا خطط له دهاقنة الاستعمار بعد درس وتمحيص... أما الدَّفعة الكبرى للنظام العَلماني فقد جاءت بعد الاستقلال إذ تبنته الدولة طريقاً لها ومنهجاً وصبت فيه الاعتمادات المالية الحكومية ، بل وأغرقت من هذا المنهج العَلماني بدعوى القومية والوطنية... إن سيادة قوى "التغريب" و "العلمانية" وما ينتج عن ذلك من إبعاد المدرسين والطلاب عن الإسلام ، كل ذلك لا يزال يعمل عمله في الكليات والجامعات بكل قوة ولم يقم أحد بأي عمل يكبح جماح هذا الانحراف... والحق أن الوضع الآن أسوأ مما كان عليه أيام الاستعمار، زمانئذ كانت هناك روح المقاومة والبحث عن التحرير وعن حل إسلامي تفعل فعلها في كل النفوس تقريباً. أما الآن فقد سادت روح الاستخفاف والبلادة وانعدمت الثقة في كل القيادات ، ومردُّ ذلك في الجملة إلى الوعود الزائفة المتكررة التي لا يعقبها سوى الخيبة ، وإلى النماذج السيئة التي يراها الناس في أولئك القادة المفلسين أخلاقياً... وليس هناك حكومة إسلامية ولا إدارة جامعية ولا مؤسسة خاصة تفعل أي شيء لعلاج أخلاقيات الشباب المنهارة ، أو لإنقاذهم من هذا التعليم الذي لا يزال يعمل على سلخهم من إسلامهم . إن برامج الإنشاءات الضخمة في الدول الغنية ، وما يستتبع ذلك من توسع في أعداد الطلاب والكليات والإمكانيات المساعدة ، إنما توجه كلها لخدمة قضية العلمانية... وما أقل ما يوجه من تلك الاعتمادات لإحداث "تطور" حقيقي ، أعنى تحسين الصبغة الإسلامية للتعليم وتوجيه الطلاب والهيئة التدريسية توجيهاً إسلامياً... في كل مكان نجد أن نموذج التعليم الغربي هو ما يتسابق إليه الجميع في سرعة مذهلة.
2- انعدام الرؤية:(33/423)
إن المحصلة النهائية لذلك ليست النموذج الغربي المنشود ، وإنما صورة مهزوزة منه ، مهما تكن الدعاوى الكثيرة التي تزعم غير ذلك. إن النموذج الغربي في التربية - شأنه شأن النموذج الإسلامي- يقوم أساسا على رؤية محددة ولكنها مباينة للرؤية الإسلامية ..ويقوم على عزيمة تنفث فيه الحياة ليحقق هذه الرؤية... إن المباني والمكاتب والمكتبات والمختبرات وفصول الدراسة والقاعات الكبيرة التي تعج بالطلاب ليست سوى أدوات مادية لا قيمة لها بدون رؤية واضحة، ومن طبيعة الرؤية أنها لا يمكن أن تقلَّد أو تستنسخ ، وإن كانت مظاهرها الخارجية والعَرَضية فقط يمكن أن تقتبس . ولهذا فإن المسلمين في خلال هذين القرنين من التربية العَلمانية لم ينتجوا شيئاً يوازى في الإبداع أو الامتياز ما في الغرب - لم ينتجوا مدرسة أو كلية أو جامعة أو جيلاً من العلماء المتميزين... والنتيجة الحتمية لغياب هذه الرؤية هي هذه المشكلة المستعصية على الحل - مشكلة انخفاض المستوى في مؤسسات العالم الإسلامي... إن البحث الأصيل عن المعرفة لا وجود له دون "روح" تبعث فيه الحياة ، وهذه الروح هي بالذات ما لا يمكن اقتباسه ، وذلك لأنها تتولد من الرؤية الواضحة للنفس وللعالم وللحقيقة ، أي من الدين... وهذا هو ما يفتقده نظام التعليم في العالم الإسلامي اليوم... إن القيادات التعليمية عندنا ليس لديها بالطبيعة رؤية الرجل الغربي ، كما أنها باختيارها - أي بسبب الجهل والخمول والسلبية - لا تمتلك الرؤية الإسلامية... إنها قيادات مادية المنزع ، ليس لديها ثقافة أو قضية تشغلها... لقد أصبحت القومية هي مصدر الإلهام للجامعات الغربية طيلة القرنين الماضيين ، وذلك لأن "الرومانسية" قد استبدلت "الأمة" بإله المسيحية الذي مات [بزعمهم] ، وجعلت من الأمة "الحقيقة المطلقة" والأصيلة... أما بالنسبة للمسلم فليس هناك "حقيقة مطلقة" سوى الله ؛ ومن ثم فإن الولاء المطلق للأمة أو للدولة عنده ليس أمرا مستحيلا فقط وإنما هو كفر... ومهما تكن الرابطة التي تربط المسلم بتراثه وماضيه ، فمن غير الممكن بالنسبة له أن يكون "قوميا" بنفس المعنى الذي لدى الأوروبي الذي تخلص من مسيحيته.
أنظر إلى المثل الأعلى للمدرس في الجامعات في العالم الإسلامي، أعنى الأستاذ الحاصل على الدكتوراه من إحدى الجامعات الغربية... لقد تعلم في الغرب وتخرج بمعدل متوسط أو دون المتوسط، ولما لم تكن دوافعه دينية ، بمعنى أنه لم يطلب العلم ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، بل لأهداف مادية أنانية (أو قومية على أحسن تقدير) فإنه لم يحرص على نيل كل المتاح من العلوم في الغرب ، ولم يستطع أن يتفوق على أساتذته الغربيين في مجالاتهم ، كما لم يتمثل ما تعلمه ولا حاول بالطبع إعادة تقييمه في إطار الرؤية الإسلامية للمعرفة وللحقيقة على غرار ما فعل أسلافه الذين تعلموا علوم الأمم القديمة من يونان وفرس وهنود وصبغوها بالصبغة الإسلامية... وبدلاً من أن يفعل ذلك ، اكتفي هذا الأستاذ بالنجاح ونيل الدرجة ثم العودة إلى بلده ليحصل على منصب يهيئ له الثروة والرفعة... ويكفيه ما قرأه من كتب أثناء الدراسة إذ لم يعد لديه الآن وقت أو طاقة أو دافع ليمد من آفاق معرفته إلى أبعد مما حصل... بل إن ظروف عمله ومعيشته لتزيد في إلهائه عن التطلع إلى مثل تلك الآفاق العليا... أما طَلَبته فمن الطبيعي أن يتخرجوا على يديه وهم أقل منه كفاءة وأضعف دفاعاً... حتى المثَل الأعلى الغربي صار في نظرهم أبعد وأضأل... وهكذا تهبط المستويات ويصبح التعليم الغربي في بلاد المسلمين صورة مهزوزة لحقيقته في الغرب.
إن المواد والمناهج التي تدرس في البلاد الإسلامية حالياً إنما هي نسخ مما عند الغربيين لكن مع افتقارها للرؤية التي تمدها بالحياة في بيئتها الأصلية... وهي بهذه الصورة تصبح من عوامل الضعف ، هذه المواد والمناهج التي لا روح فيها تظل - بشكل لا شعوري - تؤثر في الطالب تأثيراً سيئاً معادياً للإسلام من حيث إنها تقف كبدائل للمواد والمناهج الإسلامية وكعوامل للتقدم والتحديث. إنها تجعل من الخريج في جامعات العالم الإسلامي نموذجاً للشباب المغرور الذي يظن نفسه العلم مع أنه في الحقيقة لا يعرف إلا قليلاً.(33/424)
وهكذا تصبح إمكانية تفوق الطالب المسلم في علوم الغرب أمراً بعيد المنال، ذلك لأن مثل هذا التفوق يتطلب من الدارس تصوراً شاملاً لمجموع المعارف في مجال الدراسة، كما يتطلب منه أن يكون مدفوعاً بفكرة تحركه ليستوعب هذه المعارف ثم يتجاوزها ويزيد عليها. هذا الاستيعاب الشامل والتفوق ثمرة للدوافع والفكرة المحركة، والأخيران لا يتولدان إلا من الالتزام بقضية. أما بدون قضية فلا يمكن أن ينهض الدارس ليستوعب مجموع المعارف في مجال دراسته. وإذا لم يستوعبها فكيف يمكنه أن يتجاوزها ويتفوق عليها؟! وليس للمسلم من قضية يلتزم بها سوى الإسلام. وإذا لم توجد هذه القضية فمحال أن يصل المدرسون الذين تعلموا في الغرب إلى استيعاب شامل للمعرفة... وإذا فقدوا - كمدرسين في الجامعات - هذه المتطلبات الضرورية للتفوق فهل يمكن أن يمنحوها لطلابهم؟ إنهم عادة يقنعون باستنساخ ما حصلوه من معارف جزئية أو بترجمتها ، وهذا يؤدى بهم وبطلابهم إلى ضعف في مستوى الأداء على أحسن الاحتمالات.
إن المأساة الكبرى للتعليم في العالم الإسلامي تتمثل يقيناً في أن الأساتذة في جامعات العالم الإسلامي لا تسيطر عليهم الرؤية الإسلامية ولا تحفزهم قضية الإسلام... إن الطلاب في كل بلاد العالم الإسلامي يدخلون الجامعات وكل ما تسلحوا به - فيما يتصل بالرؤية الإسلامية - معلومات ضئيلة عن الإسلام تلقوها في بيوتهم أو في المدرسة الابتدائية أو الثانوية... وواضح أن هذا لا يكوِّن "رؤية" ولا يوجِد "قضية"... ومن هنا، فإن الطالب المستجد يدخل وهو كالصفحة البيضاء من حيث "المبادئ"... إنه قد يحمل بعض العواطف ، لكنه بالتأكيد خلو من "الأفكار والمبادئ" الواضحة... فهذه العواطف - إن وجدت - لن تلبث أن تنهار حين تواجَه بما يقدمه له "العلم" في مجال التخصص على أنه "مبادئ" و "حقائق" وأحكام "موضوعية" في حين أنه ليس لدى هذا الطالب شيء يدفع به عن نفسه من نحو تصور إسلامي واضح يمكنه من المواجهة على هذا المستوى "الفكري". إن هذا الطالب إذا تخرج ولم يتأصل لديه الإلحاد أو العلمانية أو الشيوعية فإن الإسلام سيكون في نظره قد انحسر إلى مجرد رباط عاطفي شخصي بينه وبين أسرته أو الناس من حوله... أما الإسلام النابض بالحياة الغنى بأفضل المبادئ التي تلائم وتحل كل مشكلة فإنه لا يدرى عنه شيئاً... وعلى مستوى "الفكرة والمبدأ" نجد الطالب في جامعات العالم الإسلامي يواجِهُ الأفكار والمبادئ الأجنبية التي تقدم إليه في الكتب أو في قاعات الدرس بوسائل دفاع لا تجدي فتيلاً ، إنه يكون أشبه بجندي يواجه بالسيف والرمح جندياً آخر مدججاً بالدبابة والمدفع ... وليس هناك مكان في العالم الإسلامي يدرّس فيه التصور الإسلامي لمجموع الطلاب كما يدرس التصور الغربي لطلاب المدارس الثانوية في الغرب، أعنى بنفس ذلك المستوى من التناسق والشمولية والجدية والالتزام الفائقين بالنسبة لجميع الطلاب... فليس هناك جامعة في العالم الإسلامي تجعل مثل هذا التصور الإسلامي جزءاً من البرنامج الدراسي الأساسي وتفرضه على جميع الطلاب.
الفصل الثاني
الواجب المطلوب
إن أعظم مهمة تواجه "الأمة" في القرن الخامس عشر الهجري هي حل مشكلة التعليم ، وليس هناك أمل في بعث حقيقي للأمة مالم يتم تجديد النظام التعليمي وإصلاح أخطائه ، والحق أن ما نحتاج إليه إنما هو إعادة تشكيل النظام من جديد . إن هذه الثنائية في التعليم [في العالم] الإسلامي وتقسيمه إلى نظامين "إسلامي" و "علماني" يجب أن تزال ويقضى عليها إلى الأبد . يجب أن يدمج النظامان ويتكاملا في نظام واحد وأن يشبّع بروح الإسلام ليصبح جزءا وظيفيا لا يتجزأ من برنامجه "الفكري" . يجب ألا يسمح لهذا النظام الجديد أن يكون تقليدا للغرب ولا أن يترك حرا يختط لنفسه أي طريق كان . كذلك يجب ألا يُتهاون معه بحيث يصبح أداة لخدمة الاحتياجات الاقتصادية أو العملية للطلاب من أجل معارف مهنية ، أو تقدم شخصي ، أو منفعة مادية . يجب أن تناط بالنظام التعليمي رسالة ، ولا يمكن لهذه الرسالة إلا أن تكون "نقل الرؤية الإسلامية" ، وتربية الإرادة لتحقيقها في الزمان والمكان,
إن القيام بمثل هذه المهمة لاشك أمر صعب ومكلف ، لكن "الأمة" في مجموعها تنفق على التعليم نسبة من مجمل ناتجها القومي وميزانيتها السنوية أقل بكثير مما تنفقه الأمم الأخرى في العالم اليوم، وحتى في الدول الغنية التي ترصد ميزانيات غنية للتعليم فإن معظم ما ينفق يكون على المباني والإداريات وليس على البحوث والأنشطة التعليمية بكل ما في الكلمة من معنى . إن على "الأمة" أن تنفق على التعليم أكثر بكثير مما تفعل اليوم، وذلك لتجتذب أفضل العقول ولتعينهم على أن يحافظوا على النعمة والمنزلة التي أنعم الله تعالى عليهم بها إذ جعلهم "أهل العلم" أو "طلابه".
أولا : توحيد نظامي التعليم(33/425)
ينبغي أن يوحد النظام التعليمي الإسلامي، المكون من المدارس الابتدائية والثانوية والكليات والجامعات مع النظام العلماني في المدارس العامة والجامعات. هذا التوحيد يجب أن يصطفي للنظام الجديد الموحد ما يتمتع به كل من النظامين من مزايا ، أعني: مصادر التمويل الحكومية والالتزام بالرؤية الإسلامية. كما يجب أن يكون هذا التوحيد فرصة للتخلص من نقائصهما وهي : عدم ملاءمة الكتب الدراسية القديمة ونقص كفاءة المدرسين في النظام التقليدي ، والتشبه بالغرب العلماني في مناهجه ومثله في النظام العلماني.
هذه المزايا يمكن أن تتوفر للنظام الجديد إذا ما وافقت الحكومات المعنية على أن تخصص له الاعتمادات اللازمة دون أن تمارس عليه سيطرة خانقة . لابد من اتخاذ الخطوات اللازمة لجعل هذا النظام التعليمي الجديد مؤمّنا- إن لم يكن مستقلاً تماماً- من الناحية المالية، وذلك بالحث على إيجاد أوقاف ينفق على النظام أو بعض جوانبه من ريعها . وتلك هي "الأوقاف" التي تعرفها الشريعة وتحميها من أجل صالح الأمة . لقد كان لأوقاف كل "مدرسة" الفضل في ضمان استقلالها في الماضي وتمكين أساتذتها وطلابها من أن يطلبوا العلم ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، وهذا هو الشرط الضروري لوجود أي بحث ناجح عن الحقيقة. كما كانت مؤسسة الوقف هي التي أعطت "المدرسة" شخصيتها الثانوية المتميزة لأول مرة في التاريخ. تلك "المدارس" التي قامت على أساس "الوقف" هي التي كانت النموذج الذي أنشئت على مثاله الجامعات الأولى في الغرب حين أسست منذ ثمانية قرون.
ولكن نتيجة للانفجار المعرفي وللزيادة في عدد الطلاب أيضا فقد أصبحت النفقات اللازمة للتعليم في الوقت الحاضر كبيرة جدا بحيث لا تستطيع الأوقاف وحدها أن تواجهها. ومن هنا يكون من الضروري تخصيص نسبة سنوية من الميزانية العامة. ولكن على الدولة أن يكون لديها القدر الكافي من الحكمة لتتفاوض مع رجال التعليم حول مقدار المعونة الحكومية وأن تأتمنهم على استخدامها على أفضل وجه ممكن. وإذا كانت الجامعات الحكومية في الغرب تفعل هذا، فمن اللغو أن يزعم أحد أن المسلمين الملتزمين بتعاليم القرآن غير قادرين على فعل الشيء نفسه. إن الأمة التي لا تحترم المتعلمين من أبنائها وبناتها ولا تبذل من نفسها لتنقل إليهم تراث أسلافهم الروحي والثقافي ولا تمكّن شبابها من أن يضيفوا إلى تقاليدهم ويثروها، مثل هذه الأمة لا خير فيها ولا مستقبل لها. إنه الدليل على الطغيان ألا تأمن الدولة رجال التعليم فيها على القيام بوظائفهم دون رقابة بوليسية على المؤسسات التعليمية. كما أن من أدلة التدهور أن يضطر المتخصصون في التعليم إلى أن يتلقوا من الحكام السياسيين تعليمات عن ماذا يدرّسون وكيف يديرون شؤونهم الأكاديمية.
ثانيا : غرس الرؤية الإسلامية
ينتظر من هذا الاتحاد بين النظامين أن يؤدي إلى شيء أبعد من مجرد توفير الوسائل للنظام الإسلامي وتحقيق الاستقلالية للنظام العلماني... إن من المنتظر منه أن يزود "العلماني" بالمعرفة الإسلامية و "الإسلامي" بالمعرفة الحديثة. بالنسبة للتعليم الابتدائي والثانوي يجب وضع حد لجريمة ترك الشباب المسلم تحت أيدي المبشرين ورجال التعليم غير المسلمين. من حق كل شاب مسلم أن يتلقى تعليماً دينياً كاملاً عن الإسلام: نظامه الأخلاقي وتشريعاته وتاريخه وثقافته. إن الأمة كلها، أو أي جزء منها، وكذلك القادة فيها مسؤولون قانوناً ومعرضون للعقاب أمام الله إذا هم أخفقوا في توفير هذا التعليم الأساسي عن الإسلام لكل شاب مسلم.(33/426)